مصباح المنهاج - كتاب التجارة

اشارة

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

الطبعة الاولي

1427ه - 2006م

ص: 1

المجلد 1

اشارة

مصباح المنهاج

ص: 2

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

ص: 3

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

الطبعة الاولي

1427ه - 2006م

ص: 4

الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

وفيه مقدمة وفصول

مقدمة:

التجارة (1) في الجملة

---------------

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين.

(1) الذي يظهر من كلمات جملة من اللغويين أن التجارة عبارة عن البيع والشراء بقصد الاسترباح. وبذلك صارت من وجوه التكسب عرفاً، وشاع استعمالها وإرادة الحرفة منها. لظهور أن التكسب يبتني علي محاولة الكسب، وهو لا يكون في البيع والشراء إلا بلحاظ الربح. كما أن الحرفة تبتني علي التكسب أيضاً.

لكن المراد منها هنا مطلق البيع والشراء، كما يظهر من الأحكام المذكورة لها في كلمات الفقهاء. وهو المفهوم من إطلاقات الأدلة، إما لأن ذلك هو معني التجارة لغة، وما سبق من اللغويين ناشئ من الانصراف لقصد الاسترباح بسبب شيوع استعمالها وإرادة الحرفة منها، أو لقضاء المناسبات الارتكازية بإلغاء خصوصية قصد الاسترباح في موضوع الإطلاقات المذكورة. وهو المناسب لكون موضوع أكثر الأدلة عنوان البيع والشراء اللذين لا إشكال في عمومهما لغير صورة قصد الاسترباح.

ص: 5

بل قد استظهر في الجواهر أن مرادهم بها هنا مطلق المعاملات المعاوضية بنحو تشمل الإجارة والجعالة ونحوهما، لمعروفية ذلك منها، كما يناسبه ما في مجمع البحرين من قوله: "التجارة بالكسر هي انتقال شيء مملوك من شخص إلي آخر بعوض مقدّر علي جهة التراضي" .ولأنهم تعرضوا في مقدمة التجارة لحكم التكسب بالواجبات والمحرمات، مع وضوح أنها من سنخ الأعمال التي تكون موضوعاً للإجارة والجعالة ونحوهما.

لكنه في غاية المنع، لوضوح اختصاص التجارة لغة وعرفاً بالبيع والشراء. ولذا كان التاجر مقابلاً عرفاً للصانع والعامل الأجيرين. والمادة في التاجر وإن أريد منها الحرفة، دون مطلق الحدث الذي هو المراد في المقام، إلا أن سعة الحرفة وضيقها تابعان لسعة مفهوم الأمر الذي يحترف وضيقه. والظاهر جري الفقهاء علي المعني اللغوي، لاحتياج خروجهم عنه إلي عناية وكلفة لا قرينة عليهما. بل هو لا يناسب تعرضهم لبقية المعاملات في كتب مستقلة عن كتاب التجارة، لا في ضمنه.

وأما ما سبق من مجمع البحرين فلا يبعد انصرافه للمعاوضة علي الأعيان الخارجية، لأنها هي المملوكة قبل المعاوضة، دون المنافع والأعمال وسائر الذميات، لأنها لا تملك إلا بالمعاوضة علي أن التسامح في تعاريف اللغويين غير عزيز.

ومن هنا كان الظاهر أن تعرضهم لحكم التكسب بالواجبات والمحرمات ليس لدخوله في التجارة، بل هو مبني علي الاستطراد، لاهتمامهم بضبط المكاسب المحرمة.

وكيف كان فحيث كان مبني التجارة علي تبديل حال المال في الملكية ونحوها فالمرجع بدواً مع الشك في نفوذها استصحاب الحال السابق، كما هو الحال في جميع المعاملات. وهو المراد بأصالة عدم ترتب الأثر التي شاع ذكرها في كلماتهم.

ومن هنا كان المناسب التعرض في المقام لما يخرج به عن الأصل المذكور من الأدلة والعمومات المقتضية للنفوذ، ليكون هو المرجع مع الشك. وهو علي قسمين:

ص: 6

القسم الأول: ما يعم التجارة وغيرها. وهو أمور:

الأول: قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)(1). حيث لا يراد بالوفاء بالعقد إلا الجري علي مضمونه، فالأمر به لازم عرفاً لنفوذ العقد وترتب أثره شرعاً.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوي: أن الأمر بالوفاء بالعقد إنما يكون بعد الفراغ عن نفوذه، فلا يدل علي نفوذه، بل لابد من الرجوع فيه لأدلة أخر.

لاندفاعها بأن ذلك وإن كان مسلماً، إلا أن الأمر بالوفاء بالعقد لما كان لازماً عرفاً لنفوذه كان الدليل علي أحدهما دليلاً علي الآخر.

ومثلها دعوي إجمال المراد بالعقود، لاحتمال إرادة العهود التي أخذها الله تعالي علي العباد بالإيمان والطاعة، أو عقود الجاهلية التي كانوا يعقدونها علي النصرة والمؤازرة، أو ميثاق أهل الكتاب بالعمل بما في كتبهم من تصديق النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)، كما ذكر ذلك كله في التبيان ومجمع البيان.

لاندفاعها بظهوره في العموم لجميع العقود بنحو يشمل ما نحن فيه وبعض ما سبق أو جميعه. ولا موجب لاحتمال التخصيص بالبعض إلا احتمال كون اللام للعهد الذهني، لقيام القرينة الحالية علي تعيين المراد. وهو مدفوع بالأصل، الراجع لأصالة عدم القرينة المعول عليها عند أهل اللسان. ولذا كان الأصل في اللام الجنس، وكان البناء علي العموم لتمام أفراد مدخولها.

علي أن بعض هذه المعاني أو جميعها بعيد في نفسه، لاحتياج صدق العقد علي الأول إلي تكلف وعناية، وخطاب المؤمنين في الآية لا يناسب الأخريين. إلا أن يراد بالثاني ما أوقعه النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) مع أهل الجاهلية من العقود المذكورة.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الآية الشريفة في العموم لما نحن فيه. ومن ثم اشتهر الرجوع لها والاستدلال بها بينهم.

********

(1) سورة المائدة آية: 1.

ص: 7

ومنه يظهر وهن ما في كلام بعضهم من حملها علي خصوص العقود المتعارفة - كالبيع والإجارة - دون العقود المستحدثة. إذ فيه - مع عدم الضابط لذلك -: أن التعارف لا يخصص العموم. ولاسيما إذا كان ارتكازياً، كما في المقام.

نعم في صحيح عبدالله بن سنان المروي في تفسير القمي عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قوله: أوفوا بالعقود، يعني بالعهود"(1). ورواه العياشي مرسلاً(2). وعموم العهد للمعاملات المالية لا يخلو عن إشكال، حيث قد ينصرف العهد للتعهد بالعمل، كالنصرة ونحوها، دون مثل المعاوضة المالية.

لكن يظهر من مجمع البيان أن العهد أعم مطلقاً من العقد، لاختصاص العقد بما يكون بين طرفين، وعموم العهد ما يكون من طرف وحد، مع اتحادهما موضوعاً ومتعلقاً. ومن ثم لا مجال للخروج بالصحيح عن ظهور الآية الكريمة في العموم. ولاسيما مع قرب احتمال وروده لمجرد التطبيق، لا للحصر. أو كون المراد بالعهود هي العهود المبنية علي التعهد من الطرفين، فتطابق العقود.

الثاني: عموم الشروط الذي تضمنته النصوص المستفيضة، كصحيح عبدالله ابن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: المسلمون عند شروطهم، إلا كل شرط خالف كتاب الله عز وجل، فلا يجوز"(3) ، وغيره، بناءً علي ما أصّر عليه شيخنا الأعظم (قدس سره) من عموم الشرط للإلزام والالتزام الابتدائيين، وعدم اختصاصه بالالتزام في ضمن الالتزام. وهو المناسب لإطلاق بعض اللغويين، وللاستعمال في جملة من النصوص.

كقوله (عليه السلام) فيمن اشترط علي المكاتب أن له ميراثه: "شرط الله قبل شرطك" (4) وقوله (عليه السلام) فيمن اشترط لامرأته إن هو تزوج عليها أو هجرها أو تسرّي عليها فهي

********

(1) تفسير القمي ج: 1 ص: 160.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 25 من أبواب كتاب النذر والعهد حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الخيار حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 22 من أبواب موانع الإرث حديث: 1، 2.

ص: 8

طالق: "فقضي في ذلك أن شرط الله قبل شرطكم"(1) ، مع وضوح أن المراد بشرط الله تعالي حكمه، وكذا إطلاقه علي نذر عدم التزويج علي المرأة وعدم طلاقها(2) وعلي خيار الحيوان(3).

ويناسب ذلك أنه يعدّي للمشروط له وعليه باللام و (علي)، فيقال: شرط له وشرط عليه، ولو كان قوام الشرطية الإناطة بالتزام آخر لكان المناسب أن يقال: شرطه أو شرط فيه، ولم يكن من شؤون الطرفين، ليعدّي لهما. وعلي ذلك يشمل كل عقد، لما في العقد من الإلزام والالتزام.

لكنه يشكل بأنه خلاف المتبادر من الشرط، بل الظاهر عدم صحة إطلاقه إلا بلحاظ نحو إناطة ونسبة بين المشروط والمشروط فيه، وأنه مأخوذ من الشرط التكويني، الذي يناط به وجود الشيء، ويكون من أجزاء علته. وهو وإن كان بذلك المعني جامداً، إلا أنه قد يشتق من الجامد علي خلاف القياس في مثل: (بال) من البول، (وأمني) من المني، كل ذلك لبعد الاشتراك اللفظي جداً ولاسيما بعد فهم الإناطة من الشرط فيما نحن وابتنائه عليها ارتكازاً.

ولعل إطلاق بعض اللغويين مبني علي طريقتهم في بيان المعني من الاكتفاء بالإشارة الإجمالية إليه والتسامح في بيانه. ومن ثم لا مجال للتعويل عليه، ولاسيما مع تقيده في كلام غير واحد، حيث ذكروا أنه الالتزام في ضمن الالتزام.

وأما الاستعمالات المشار إليها فقد تبتني علي المشاكلة في التعبير، أو علي ملاحظة نحو من الإناطة، كإناطة كمال الإيمان بتنفيذ أحكام الله تعالي والوقوف عندها، أو علي التوسع والمجاز بمناسبة أخري. كما أن كونه من شؤون المشروط له وعليه بنحو يعدّي لهما لا ينافي كونه من شؤون ما يناط به أيضاً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 38 من أبواب المهور حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 20 من أبواب المهور حديث: 4.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3، 4، 5 من أبواب الخيار.

ص: 9

نعم إذا ابتني العقد علي التزام كل من المتعاقدين للآخر بشيء - كما في البيع والإجارة والمزارعة ونحوها - صدق الشرط علي كل منهما بلحاظ ابتنائه علي التزام الآخر. فالتزام البايع والمستأجر والمزارع مثلاً بتمليك المثمن والأجر وبذل الأرض، يبتني علي التزام المشتري والأجير والعامل بتمليك الثمن وبالعمل الذي تقتضيه الإجارة أو المزارعة. فلا يكون العقد بتمامه شرطاً واحداً، بل كل طرف من أطراف متعلقه شرط، ولا يختص الشرط بما يلتزم به زائداً علي المضمون العقدي، كاشتراط الخياطة في ضمن عقد البيع.

أما لو لم يتضمن العقد إلا التزاماً واحداً من أحد الطرفين للآخر - كما في الهبة - فلا يصدق الشرط عليه. وكذا لا يصدق الشرط علي الإيقاع والوعد الابتدائي غير المشروطين، لعدم تحقق الإناطة فيها.

ومن ثم يشكل استفادة عموم نفوذ العقود من عموم نفوذ الشروط، فإن ما ذكرنا إن لم يكن هو الظاهر من إطلاق الشرط فلا أقل من كونه المتيقن منه. نعم لا بأس بالاستدلال به لنفوذ خصوص العقود المشار إليها آنفاً.

هذا ولا إشكال ظاهراً في قصور عموم نفوذ الشروط عن الشرط الابتدائي، وهو الذي لا يلتزم به في ضمن العقد، لخروجه عن عموم نفوذ الشرط تخصصاً أو تخصيصاً. وهو غير مهم في محل الكلام، إذ الكلام في نفوذ العقد، لا في عدم نفوذ غيره.

الثالث: إطلاقات الصلح، كقوله تعالي: (وَالصُّلحُ خَيرٌ)(1) ، وصحيح حفص عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: الصلح جائز بين الناس [المسلمين]"(2). بدعوي: أن الصلح كل ما يقع عن تراض واتفاق بين أكثر من واحد، فيصدق علي العقد الذي يبتني علي الاتفاق بين المتعاقدين.

********

(1) سورة النساء آية: 128.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب الصلح حديث: 1.

ص: 10

توضيح ذلك: أنه ذكر غير واحد أن الصلح يتضمن إنشاء التسالم علي أمرٍ، فإن كل عقد من العقود المعهودة - كالبيع والإجارة ونحوهما - وإن كان مبنياً علي التسالم والتراضي بين الأطراف وناشئاً عنهما، إلا أنه لا يتضمن إنشاء التسالم علي المضمون الاعتباري من بيع أو إجارة أو غيرهما، بل إنشاء المضمون الاعتباري رأساً، فلا تكون صلحاً، بل ليس الصلح إلا ما تضمن إنشاء التسالم علي متعلقه. ومن ثم كان الصلح مبايناً لسائر العقود وإن كان قد يفيد فائدتها. فلا تنهض عموماته دليلاً علي نفوذها.

لكن ما ذكروه خال عن الدليل، إذ لم يتضح الوجه في أخذ إنشاء التسالم في قوام مفهوم الصلح، بعد أن كان الصلح بمفهومه العرفي أمراً حقيقياً خارجياً، كالاتفاق والرضا ونحوهما، حيث يتعين حمله في أدلة النفوذ علي المعني المذكور، وليس هو كالبيع والزواج من المفاهيم الاعتبارية الإنشائية التي ليس لها ما بإزاء في الخارج وراء الاعتبار والإنشاء ومن ثم يتعين حمل أدلتها علي إنشاء مضامينها واعتبارها.

وإذا تعين حمل أدلة الصلح علي المعني الحقيقي العرفي يكون المراد بنفوذه وجوازه في الأدلة ترتب متعلقه، وهو الأمر الذي يكون موضوعاً للمصالحة ويتم التصالح والتسالم عليه. وحيث لا يختص عندهم بما يرفع به التخاصم والتشاجر، أو يدفع به الفساد، فالمتعين حمله في أدلة النفوذ علي مطلق التراضي والاتفاق.

وبذلك تكون أدلة نفوذه شاملة لجميع العقود، لابتنائها بأجمعها علي الاتفاق والتراضي، من دون فرق بين العقود ذات المضامين الإنشائية المعروفة - كالبيع والإجارة - والعقود المتضمنة لإنشاء التسالم والتصالح، وغيرها. وقد مال إلي هذا شيخنا الأستاذ (قدس سره). وإن لم يبسط الكلام في وجهه.

هذا ولكن الشأن في تمامية عموم مفهوم الصلح بهذه السعة، فإنه وإن لم يختص بإنشاء التسالم، لما سبق، إلا أنه لا مجال لحمله علي مطلق التراضي والاتفاق بعد اختصاصه لغة وعرفاً بما يرفع به الفساد للتقابل بينهما، ومنه سمّي السلم صلحاً. بل هو مردد بين وجهين.

ص: 11

الأول: أن يختص بما إذا أوجب رفع النزاع والخصومة عند اشتباه الحقوق، كما هو مقتضي تعريفه في كلام بعضهم بأنه عقد شرع لقطع التجاذب والتنازع. وقد يناسبه مرسل الفقيه: "قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): البينة علي من المدعي، واليمين علي المدعي عليه. والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً"(1). لقرب سوقه لبيان فصل الخصومة بالصلح كما تفصل بالحكم نتيجة البينة واليمين.

الثاني: أن يعم جميع موارد دفع الفساد وحلّ المشاكل ولو مع عدم الخصومة، كما في مورد اشتباه الحقوق، أو استلزام بقاء الحق بحاله بعض المحاذير، كتوقع خراب ذات البين، أو التقصير في أداء الحق، أو نحو ذلك، فيكون الصلح سبباً لدفع ذلك. وهو الأنسب بإطلاق معناه اللغوي والعرفي.

كما يناسبه أيضاً ما في جملة من النصوص تشريع الصلح بين الزوجين إذا أراد الزوج الطلاق بأن تصالحه الزوجة علي أن تتنازل عن حقوقها في مقابل عدم طلاقها(2). وظاهرها بل صريح بعضها أن ذلك هو المراد بقوله تعالي: (وَإِن امرَأَةٌ خَافَت مِن بَعلِهَا نُشُوزًا أَو إِعرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَن يُصلِحَا بَينَهُمَا صُلحًا وَالصُّلحُ خَيرٌ)(3) ، مع وضوح حق كل من الزوجين وعدم التنازع بينهما، ولا يكون في الصلح المذكور إلا إصلاح أمر الزوجين في قبال فساد الحال.

وأما التعميم لما زاد علي ذلك بحيث يعم كل اتفاق علي شيء ولو لم يكن به دفع لفساد وحلّ لمشكلة، فلا مجال له بعد عدم مناسبته لمفهوم الصلح لغة ولا عرفاً.

نعم قد يناسبه ما تضمن جواز الصلح عن الحق ببعضه، كمعتبر علي بن أبي حمزة:" قلت لأبي الحسن (عليه السلام): رجل يهودي أو نصراني كانت له عندي أربع آلاف درهم مات [فمات]. ألي أن أصالح ورثته ولا أعلمهم كم كان ؟ قال: لا يجوز حتي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب الصلح حديث: 2.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 11 من أبواب القسم والنشوز والشقاق.

(3) سورة النساء آية: 128.

ص: 12

تعلمهم "(1) وغيره، حيث لم يؤخذ فيه دفع الفساد.

لكن مجرد إطلاق الصلح علي ذلك ونفوذه لا يستلزم دخوله في إطلاقات الصلح، ليكشف عن عمومها، فإن الاستعمال أعمّ من الحقيقة، والنفوذ قد يكون لعموم نفوذ العقود، لا لعموم نفوذ الصلح. ومن ثم يتعين الاقتصار علي المتيقن من العمومات المذكورة، وهو ما سبق.

اللهم إلا أن يقال: قصور عمومات الصلح لفظاً عن صورة عدم دفع الفساد بالعقد لا يمنع من الاستدلال بها في الصورة المذكورة بلحاظ العلم بعدم خصوصية دفع الفساد في تشريع المعاملة، حيث لا يحتمل تشريع الشارع الأقدس العقود الباطلة من أجل الإصلاح ودفع الفساد، فما هو الجائز من العقود في الصلح جائز في غيره، وما هو الممنوع في غيره ممنوع فيه، كما يناسبه الاستثناء في النبوي المتقدم، وما هو المعلوم من طريقة الأصحاب من تحكيم عموم أدلة المنع من بعض المعاملات - كالربا

علي عمومات الصلح، وعدم احتمالهم خصوصية الصلح في تسويغها.

وبالجملة: خصوصية الصلح لا ترجع إلي تنويع المعاملة، ليحتمل دخلها في صحة المعاملة، بل هي من سنخ الحالة والداعي لإيقاع المعاملة، المعلوم عدم دخلهما في الصحة، وذلك كاف في استفادة العموم من الأدلة.

الرابع: أن نفوذ العقد مقتضي الارتكازيات التي فطر الله الناس عليها، وهو مقتضي سيرة العقلاء المبنية علي الارتكازيات المذكورة، ومثل هذه السيرة حجة ما لم يثبت الردع عنها، من دون حاجة إلي ثبوت الإمضاء لها، علي ما أوضحناه في الأصول. ومن هنا يتعين البناء علي ذلك حتي لو فرض قصور الأدلة المتقدمة عن إثبات العموم المذكور.

بل الإنصاف أن الارتكاز المذكور يصلح أن يكون قرينة علي ورود الأدلة النقلية المتقدمة والآتية وغيرها مورد الإمضاء له والجري علي مقتضاه، بحيث ل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 5 من أبواب كتاب الصلح حديث: 2.

ص: 13

تنهض عموماتها وإطلاقاتها بالنفوذ في مورد لا ينفذ فيه العقد ارتكازاً. فلاحظ.

القسم الثاني: ما يختص بالبيع والتجارة وهو أيضاً أمور:

الأول: قوله تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُم)(1). لظهور أن الترخيص في أكل المال بسبب التجارة راجع عرفاً إلي نفوذها وترتب الأثر عليها وتملك المال بسببها، نظير ما تقدم في آية الوفاء بالعقد.

نعم لابد فيها من الرضا. والكلام في تحديده موكول للكلام في فروع نفوذ العقد، كحكم عقد المكره والفضولي وغيرهما.

الثاني: قوله تعالي: (الَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِن المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البَيعُ مِثلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...)(2). فإن حلية البيع إن كانت وضعية كانت نصاً في المطلوب، وإن كانت تكليفية كانت ظاهرة في نفوذ البيع تبعاً بمقتضي إطلاقها المقامي. لظهور أن الإقدام علي البيع إنما يكون من أجل نفوذه وترتب أثره، فلو لم ينفذ لزم التنبيه علي ذلك واستدراكه. ولاسيما بعد ورودها في سياق النهي عن أكل الربا المبتني علي ترتيب الأثر علي نفوذه. وكيف كان فإطلاق الآية ينهض دليلاً علي عموم نفوذ البيع.

اللهم إلا أن يقال: سياق الآية الشريفة لا يناسب ورودها لبيان حلية البيع وحرمة الربا وتشريعهما، ليكون مقتضي إطلاقهما عموم الحلية والحرمة المذكورتين، بل ورودها لاستنكار تشبيه البيع بالربا استهواناً بتحريم الربا ورداً له، بعد الفراغ عن حرمة الربا وحلية البيع، فلا يكون لها إطلاق في ذلك، بل لا تدل إلا علي حلية البيع وحرمة الربا في الجملة، ولو بلحاظ الأفراد الشايعة منهما.

********

(1) سورة النساء آية: 29.

(2) سورة البقرة آية: 275.

ص: 14

من المستحبات الأكيدة (1) في نفسها. وقد تستحب لغيرها (2)، وقد تجب كذلك (3) إذا كانت مقدمة لواجب أو مستحب.

---------------

الثالث: النصوص الكثيرة المتضمنة للحث علي التجارة والنهي عن تركها(1). فإنها وإن لم تكن واردة لبيان صحة التجارة ونفوذها، إلا أن ذلك يستفاد عرفاً من إطلاقاتها المقامية، لما هو المعلوم من أن الغرض من التجارة هو ترتب أثرها والاسترزاق منها، فعدم بيان الشارع الأقدس للنافذ منها ظاهر في إمضائها وترتب أثرها.

وربما يستفاد النفوذ من أدلة أخر قد تظهر بالسبر والتأمل لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد وفاء ما سبق بالمطلوب. ولعله لذا كان ظاهر الأصحاب (رضي الله عنهم) المفروغية عن نفوذ البيع والتجارة واحتياج المنع من بعض أقسامهما للدليل. ومنه سبحانه وتعالي نستمد العون والتوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) للنصوص المستفيضة المتضمنة للحث عليها. بل يظهر من بعضها كراهة تركها، كصحيح حماد عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: ترك التجارة ينقص العقل"(2) ، وغيره. فراجع الباب الأول والثاني من أبواب مقدمة التجارة من الوسائل.

نعم لا يبعد كون موضوع الكراهة تركها بالتعطل عن الكسب والعمل، دون تركها مع الاشتغال بكسب آخر، كما قد يناسبه التعليل المتقدم، ومثل صحيح الفضيل: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): أني قد كففت عن التجارة وأمسكت عنها. قال: ولم ذلك ؟ أعجز بك ؟ كذلك تذهب أموالكم، لا تكفوا عن التجارة، والتمسوا من فضل الله عز وجل"(3). فلاحظ النصوص في البابين المذكورين.

(2) كالتجارة للإنفاق في وجوه البر والخير.

(3) كالتجارة للنفقات الواجبة. إذا لم يكن واجداً للمال، ولم يكن وجدانه قيداً، في موضوع وجوب الإنفاق.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1، 2 من أبواب كتاب الصلح وغيرهما.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب مقدمات التجارة حديث: 1، 8.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب مقدمات التجارة حديث: 1، 8.

ص: 15

وقد تكره لنفسها (1) أو لغيرهما (2). وقد تحرم كذلك (3) والمحرم منها أصناف. وهنا مسائل.

(مسألة 1): تحرم ولا تصح (4)

---------------

(1) كما يأتي في المسألة الأربعين إن شاء الله تعالي التعرض لجملة من موارده.

(2) كالتجارة للإنفاق المكروه.

(3) يعني: لنفسها ولغيرها. أما حرمتها لغيرها فهي إذا كانت مقدمة للإنفاق المحرم، أو ترتب عليها محذور محرم، كالخطر علي النفس. وهي لا توجب بطلان المعاملة، لعدم الملازمة بينهما.

أما الحرمة لنفسها فهي التي يأتي التعرض لها في المسائل الآتية، وهي راجعة لبطلان المعاملة، لظهور أدلتها في ذلك. علي ما يتضح إن شاء الله تعالي. نعم لا يبعد البناء علي الحرمة التكليفية والوضعية معاً في مثل المعاملة الربوية.

(4) النهي عن الشيء وتحريمه ظاهران بدواً في الحرمة التكليفية المستتبعة لاستحقاق العقاب علي المخالفة، إلا أنهما بالإضافة إلي ما يتصف بالصحة والفساد بلحاظ ترتب أثره المرغوب فيه كالعبادات والمعاملات ينصرفان للحرمة الوضعية الراجعة إلي بطلان العمل وعدم ترتب الأثر المطلوب منه.

نعم الحرمة المذكورة تستتبع الحرمة التكليفية إذا ابتني الإتيان بالعمل علي البناء علي ترتيب أثره رداً لحكم الشارع الأقدس بالفساد. كما أنه لو جري المكلف في عمله علي ما يناسب ترتب أثر المعاملة خارجاً فقد يلزم الحرام، كأكل مال الغير والاستمتاع بالأجنبية وترك الحج وغير ذلك مما يترتب علي نفوذ المعاملة.

بل قد يظهر من بعض أدلة المعاملات المحرمة تأكد حرمة أكل المال بسببها، بحيث يزيد عقابه علي عقاب أكل مال الغير. ولعل منه أكل مال الربا وجميع السحت، كالرشا في الأحكام وأجر الزانية وغيرهما.

ص: 16

التجارة بالأعيان النجسة (1)، كالخمر وباقي المسكرات والميتة والدم وغيرهما.

---------------

هذا وأما حمل النهي فيما يتصف بالصحة والفساد علي الحرمة التكليفية المحضة فهو يحتاج إلي عناية خاصة، لو تمت دخل المنهي عنه في مسألة ملازمة النهي للفساد التي كان التحقيق فيها ثبوت الملازمة في الجملة في العبادات دون المعاملات علي ما ذكرناه في الأصول.

(1) بلا خلاف معتد به كما في الجواهر. بل ادعي عليه جماعة الإجماع عموماً، أو في خصوص بعض النجاسات كالكلب - في الجملة - والخنزير والميتة والدم والخمر والفقاع والسرجين النجس.

وقد استدل عليه بوجوه كثيرة يضيق الصدر عن عرضها واستقصاء الكلام فيها وتضييع الوقت بذلك بعد ظهور ضعفها واستيفاء الكلام في ذلك من غير واحد.

نعم قد يحسن التعرض لوجهين، ربما كانا هما أو أحدهما المنشأ لفتوي سيدنا المصنف (قدس سره) بالحرمة في المقام.

الأول: النصوص الواردة في العذرة والميتة والدم والخمر والخنزير والكلب الذي لا يصيد مما يأتي التعرض له، بضميمة عدم القول بالفصل - كما في الجواهر - أو إلغاء خصوصية مواردها عرفاً وفهم عدم الخصوصية لها، وأن موضوع المنع هو النجاسة العينية التي هي مشتركة بين الكل.

لكن عدم القول بالفصل لا ينهض حجة ما لم يرجع إلي الإجماع علي الملازمة وعدم الفصل بين النجاسات، الذي هو عبارة عن الإجماع المركب. ولا طريق لإحرازه بعد عدم تنبيههم له، بل غاية ما يدعي هو الإجماع البسيط علي المنع الذي يأتي الكلام فيه. كما لا مجال لفهم عدم الخصوصية، لعدم كون القدر المشترك - وهو النجاسة - عرفياً، بحيث ينسبق له الذهن من النصوص الواردة في الموارد المتفرقة المذكورة.

ص: 17

ولاسيما بعد الإطباق علي حرمة بيع الخمر حتي بناءً علي طهارته، وعلي جواز بيع العبد الكافر مع أن المشهور نجاسته، وعلي جواز بيع بعض أقسام الكلب، وكذا الميتة عند اشتباهها بالمذكي، حيث يأتي جواز بيعها علي المستحل لها. مضافاً إلي معارضة النهي عن بيع العذرة بالترخيص فيه بنحو قد يقتضي تقديم الثاني إلي غير ذلك مما يمنع من استفادة العموم المذكور من تلك النصوص.

الثاني: الإجماع المشار إليه ففي التذكرة في فصل العوضين من كتاب البيع:" يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية... ولو باع نجس العين - كالخمر والميتة والخنزير - لم يصح إجماعاً ".معتضداً ذلك بدعوي الإجماع من غير واحد علي الحرمة في جملة من النجاسات، كالكلب - في الجملة - والخنزير والميتة والدم والخمر والفقاع والسرجين النجس، وبتصريح جماعة كثيرة من القدماء والمتأخرين بالحكم، بنحو يظهر منهم أو من كثير منهم المفروغية عن ذلك.

وفيه: أنه لا مجال للتعويل علي دعوي الإجماع المذكورة بعد كون المسألة ذات نصوص وردت في خصوص بعض النجاسات، حيث يحتمل ابتناء الفتوي بالعموم أو دعوي الإجماع عليه من بعضهم علي فهمهم منها أن موضوع الحكم هو نجس العين بالوجه الذي عرفت الإشكال فيه، من دون أن يكون إجماعاً تعبدياً.

ولاسيما وأنه يظهر من بعض كلماتهم ابتناء حرمة البيع علي حرمة جميع وجوه الانتفاع بالنجس، أو خصوص الانتفاع الظاهر منه. ففي الغنية بعد أن اشترط في المعقود عليه في البيع أن يكون منتفعاً به منفعة مباحة قال:" وقيدنا بكونها مباحة تحفظاً من المنافع المحرمة. ويدخل في ذلك كل نجس لا يمكن تطهيره إلا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلم... وهو إجماع الطائفة".

وعن شرح الإرشاد للفخر والتنقيح في بيان حرمة بيع الأعيان النجسة:" إنما يحرم بيعها، لأنها محرمة الانتفاع، وكل محرم الانتفاع لا يصح بيعه. أما الصغري فإجماعية ".وقال شيخنا الأعظم (قدس سره):" وكيف فالمتتبع يقطع بأن اشتراط قابلية

ص: 18

الطهارة إنما هو فيما يتوقف الانتفاع المعتد به علي طهارته "...إلي غير ذلك من كلماتهم. حيث لا مجال مع ذلك لاستفادة قيام الإجماع علي حرمة بيع النجس تعبداً مع قطع النظر عن حرمة الانتفاع به.

مضافاً إلي أن قدماء الأصحاب (رضوان الله تعالي عليهم) لا تعرف فتاواهم إلا من طريق إثبات النصوص ورواياتها، فإذا لم يكن العموم ظاهراً من النصوص كيف يمكن نسبته لهم ؟! خصوصاً بعد عدم وضوح شيوع المنافع المحللة للأعيان النجسة في العصور السابقة، بنحو يقتضي الاهتمام بها وتعمد جمعها وحفظها من أجل بيعها، ليمكن الإطلاع علي تحريم بيعها من سيرة متوارثة متصلة بعصور المعصومين (عليهم السلام) أو مفروغية كذلك.

فإن مثل التسميد بالعذرة وإن كان أمراً شايعاً، إلا أنه لم يعلم كونه بنحو يقتضي الاهتمام بجمعها ثم بيعها، بل من القريب جداً ضيق عامة الناس بها، واهتمامهم بالتخلص منها، وإن كانت مورداً لانتفاع الزرّاع ونحوهم. حتي قد يبذلون المال للعاملين في الكنف أو لمن يخرجها من المدن من أجل أن يلقوها في مزارعهم.

وبالجملة: لا طريق لإحراز الإجماع التعبدي علي عدم جواز بيع الأعيان النجسة بعد قصور النصوص - التي اقتصر قدماء الأصحاب علي روايتها - عنه، وعدم وضوح سيرة عليه أو مفروغية عنه متصلتين بعصور المعصومين عليهم الصلاة والسلام.

ومن هنا يتعين التعرض للموارد الخاصة التي هي مورد النصوص، أو قيل بحرمة بيعها والنظر في أدلتها. وهي أمور:

الأول: الخنزير، فإن المعروف بين الأصحاب (رضي الله عنهم) عدم جواز بيعه، كما يظهر مما تقدم عن التذكرة، وفي المبسوط الإجماع علي تحريم بيعه وإجارته واقتنائه والانتفاع به. وعن المنتهي إجماع المسلمين علي ذلك.

ويشهد به النصوص. ففي صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):" في

ص: 19

2 رجل كانت له علي رجل دراهم، فباع خمراً أو خنازير وهو ينظر فقضاه. فقال: لا بأس به. أما للمقتضي فحلال، وأما للبايع فحرام"(1) ، ونحوه صحيح داود بن سرحان(2). وفي خبر معاوية بن سعيد عن الرضا (عليه السلام): "سألته عن نصراني أسلم وعنده خمر وخنازير وعليه دين، هل يبيع خمره وخنازيره ويقضي دينه ؟ قال: لا"(3) ، ونحوها غيرها.

ومن هنا كان الحكم من الوضوح بحيث لا ينبغي أطالة الكلام فيه، وإنما ينبغي الكلام في أمرين.

أحدهما: أنه قد تضمن الصحيحان المتقدمان جواز أخذ الغير للثمن من البايع وإن حرم علي البايع. ومثلهما في ذلك صحيح زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام):" في الرجل يكون لي عليه الدراهم، فيبيع بها خمراً وخنزيراً ثم يقضي منها؟ قال: لا بأس، أو قال: خذها"(4) ، وغيره.

وصرح غير واحد باختصاص ذلك بما إذا كان البايع كافراً أو ذمياً، وفي الجواهر: "بلا خلاف معتد به أجده في شيء من ذلك" .وعليه حملوا النصوص المتقدمة، تنزيلاً لها علي ما هو المعلوم من إقرار الذمي علي ما عنده بمقتضي الذمة، كما جرت عليه السيرة القطعية، وتضمنته النصوص أيضاً، كموثق منصور: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): لي علي رجل ذمي دراهم، فيبيع الخمر والخنزير وأنا حاضر، فيحل لي أخذها؟ فقال: إنما لك عليه دراهم، فقضاك دراهمك"(5) ، وغيره. أما إذا كان مسلماً فمن المعلوم بطلان المعاملة منه، وأن أثمانها سحت، فكيف تحل لاخذها منه ؟!.

لكنه يشكل بأن المراد بإقرار الذمي علي ما عنده إن كان هو صحة المعاملة في حقه وحلية الثمن له شرعاً. فهو في غاية المنع، لوضوح أن الذمة لا تقتضي تبدل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 60 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 28 من أبواب الدين والقرض حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 57 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 60 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 60 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 1.

ص: 20

أحكام الذمي في نفسه. بل هو لا يناسب قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم المتقدم:" أما للمقتضي فحلال، وأما للذمي فحرام".

وإن كان المراد به مجرد عدم منعه مما يستحله من المحرمات، فهو لا ينافي بطلان المعاملة في حقه وحرمة الثمن له، وبقاءه علي ملك المشتري، كما هو الحال لو كان البايع للخمر والخنزير مسلماً.

وبذلك يظهر أن ما تضمنته النصوص المتقدمة من حلية الثمن لمن يأخذه من البايع واقعاً حتي مع علمه بالحال لا يبتني علي قضية إقرار الذمي علي ما عنده. بل لا ينبغي الإشكال في ذلك بلحاظ ما هو المعلوم من عموم ذلك لما إذا كان البايع حربياً أو معاهداً، من دون أن تكون له ذمة تقتضي إقراره علي ما عنده وحينئذٍ لا بد أن يبتني التحليل المذكور علي محض التعبد من أجل التسهيل في حق الآخذ للثمن من البايع. وبذلك يمكن عمومه لما إذ كان البايع مسلماً، ويتعين البناء عليه بعد عموم نصوص المقام له، المستفاد من ترك الاستفصال فيها.

ودعوي: أن المعهود من بيع ذلك في بلاد الإسلام بيع الكافر له دون المسلم، فينصرف إطلاق النصوص عن المسلم.

مدفوعة بأن الانصراف المذكور بدوي لا يعتد به، لما تكرر منّا من أن التعارف لا ينهض بتقييد الإطلاق. ولاسيما مع قرب شيوع بيع المسلمين الخمر، لشيوع شربه بينهم، خصوصاً أهل النفوذ والسلطان الذين لا يبالون بالتجاهر به، وبما يستتبعه من صنع وبيع وشراء وغيرها.

بل ربما كانوا يزاولون بيع الخنزير أيضاً، فإن عدم أكل المسلمين له لا يمنع من صيدهم له واتجارهم به علي الكفار، بعد ضعف الوازع الديني عند كثير من الناس، وتسامح السلطة في تطبيق الأحكام الشرعية. وإلا فيصعب جداً حمل إطلاق هذه النصوص الكثيرة علي خصوص الذمي أو الكافر من دون إشعار فيها بذلك.

ومثلها دعوي: سقوط هذه النصوص عن الحجية لهجر الأصحاب لها، لم

ص: 21

سبق من الجواهر. مدفوعة بعدم كفاية ذلك في سقوطها عن الحجية بعد ظهور حال الكليني والشيخ في التهذيب في إقرار مضمونها، وهو المحتمل في غير واحد من قدماء الأصحاب ممن تعرف فتاواهم من النصوص التي يروونها، وبعد إطلاق الشيخ في النهاية الفتوي بذلك، حيث قال في كتاب الديون:" ومن شاهد مديناً له قد باع ما لا يحل تملكه للمسلمين من خمر أو خنزير أو غير ذلك، وأخذ ثمنه، جاز له أن يأخذ منه، فيكون حلالاً له، ويكون ذنب ذلك علي من باع".

وبعد قرب عدم ابتناء تقييد من قيد بالكافر علي الإعراض عن هذه النصوص وهجرها، بل علي الاجتهاد منهم في مفادها وتنزيلها علي الكافر، لما تقدم مما عرفت ضعفه. بل كيف يمكن البناء علي هجرها مع ظهور عملهم بها في الجملة ولو في حق الكافر. ولا مجال للتفكيك في الهجر والعمل - اللذين يكونان معياراً في حجية الخبر وعدمها - بالإضافة إلي أبعاض مضمون الخبر الواحد.

غاية الأمر أن يدعي تخصيص عمومها - مع حجيته في نفسه - بالإجماع. لكن الظاهر أنه لا مجال لذلك في المقام، لعدم وضوح حصول إجماع تعبدي ينهض بالحجية، وبتخصيص العموم السابق. ولاسيما بملاحظة ما سبق في تقريب عدم هجر النصوص بنحو تسقط عن الحجية. ولعله لذا استشكل في تقييدها بالكافر في محكي الكفاية، ومال إلي العموم في محكي الحدائق.

ثم إنه بعد أن كان الحكم علي خلاف القاعدة فاللازم الاقتصار فيه علي مورد النصوص، وهو بيع الخمر والخنزير، وعدم التعدي لجميع موارد البيع الباطل والمكاسب المحرمة، كما هو مقتضي إطلاق ما سبق من النهاية، لعدم الشاهد علي العموم من النصوص وعدم الإشارة إليه فيها.

وأما دعوي فهم عدم الخصوصية منها عرفاً، وأن المعيار التسهيل بإمضاء المعاملة المحرمة في حق غير موقعها. فهي وإن كانت قريبة، إلا أنها ليست من الوضوح بحد يسهل معه الخروج عن مقتضي القاعدة.

ص: 22

نعم قوله (عليه السلام) في موثق منصور المتقدم:" إنما لك عليه دراهم فقضاك دراهمك ".وارد مورد التعليل لجواز أخذ الدراهم، ولا ينهض بالتعليل إلا بعد المفروغية عن عدم مانعية حرمة المال في حقه من حلّ المال لغيره، وارتكازية التعليل تقضي بعدم خصوصية مورده، وهو بيع الخمر والخنزير. ومن ثم كان التعميم قريباً جداً.

غاية الأمر أن يقتصر في التعدي عن مورد النصوص علي ما إذا كان التحريم للمعاملة بنفسها مع قطع النظر عن حق الغير، دون ما إذا كان تحريم المعاملة لمنافاتها لحق الغير، كبيع السرقة والخيانة ونحوهما، لعدم وضوح إلغاء خصوصية ذلك ارتكازاً. فلاحظ.

ثانيهما: قال في النهاية في باب بيع الغرر:" والمجوسي إذا باع ما لا يجوز للمسلم بيعه - من الخمر والخنزير وغير ذلك - ثم أسلم كان له المطالبة بالثمن، وكان حلالاً له. وإذا أسلم وفي ملكه شيء من ذلك لم يجز له بيعه علي حال. فإن كان عليه دين جاز أن يتولي بيع ذلك غيره ممن ليس بمسلم ويقضي بذلك دينه...".

أما الأول - وهو جواز قبضه بعد أن أسلم ثمن البيع الذي أوقعه قبل إسلامه

فالظاهر عدم الإشكال فيه، لبنائهم عملاً علي أن الإسلام لا يمنع من ترتيب آثار صحة المعاملات الحاصلة قبله مما هو صحيح عند الكفار.

مضافاً إلي صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):" سألته عن رجلين نصرانيين باع أحدهما خنزيراً أو خمراً إلي أجل مسمي، فأسلما قبل أن يقبض الثمن، هل يحل له ثمنه بعد الإسلام ؟ قال: إنما له الثمن، فلا بأس أن يأخذه"(1) ، وما يأتي في حديث يونس.

وأما الثاني - وهو وفاء دينه من ثمن الخمر والخنزير اللذين كانا عنده قبل الإسلام - فكأنه اعتمد فيه علي حديث إسماعيل بن مرار - الذي تقدم عند الكلام في تحديد أقل الحيض قبول حديثه - عن يونس: "في مجوسي باع خمراً أو خنازير إلي أجل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 61 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 23

مسمي، ثم أسلم قبل أن يحل المال. قال: له دراهمه. وقال: إن أسلم رجل وله خمر وخنازير، ثم مات وهي في ملكه، وعليه دين. قال: يبيع ديانه أو ولي له غير مسلم خمره وخنازيره، ويقضي دينه. وليس له أن يبعه وهو حي، ولا يمسكه"(1).

لكنه يشكل: أولاً: بأن يونس لم يسند الحديث للإمام، بل ظاهر إسماعيل أنه فتوي من يونس نفسه، فاللازم البناء علي ظاهره. ولاسيما مع قرب كون يونس ممن يرجع إليه في الأحكام. ودعوي: أن ذلك خلاف ظاهر حال الكليني والشيخ، لإثباتها الحديث في الكافي والتهذيب المعدين لروايات الأئمة (عليهم السلام). ولاسيما بعد ظهور اعتماد الشيخ عليه في الفتوي المذكورة. مدفوعة بإمكان غفلتهما عن ذلك. بل ربما يثبت الكليني كلاماً يصرح به بأنه ليونس، فلا مجال للخروج عن ظاهر كلام إسماعيل.

نعم يتجه ذلك في المضمرات، حيث يصرح الراوي بأنه قد سأل غيره من دون أن يصرح بأنه الإمام، فإن ظهور الحال حينئذٍ صالح لحمله علي الإمام، لعدم ظهور كلامي معارض له. ولاسيما إذا كان السائل من ذوي المقام الرفيع، بحيث ليس من شأنه أن يستفتي غير الإمام.

وثانياً: بأن الحديث إنما تضمن بيع الخمر والخنزير من قبل الكافر، وهو في ذلك غير وكيل عن المسلم المدين، لفرض وفاته، فلا ينتسب البيع للمسلم ليكون محرماً عليه. غايته أنه يبتني علي قيامه مقامه. لكونه دائناً له أو ولياً عنه، وهو أمر يراه حلالاً في دينه وإن كان محرماً في ديننا. وحينئذٍ إذا حصل البيع منه كان وفاء دين الميت بالثمن من فروع المسألة السابقة التي سبق عدم الإشكال فيها إذا كان المتولي للبيع كافراً.

ومنه يظهر الحال في الفرع المتقدم من النهاية الذي يظهر منه فرض حياة المدين المسلم. فإنه إن كان المراد به صورة ما إذا كان الكافر المتولي للبيع وكيلاً عن المدين المسلم، بحيث ينسب البيع له. فمقتضي القاعدة حرمة البيع وعدم تملك المدين الثمن،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 57 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 24

ليحل له وفاء دينه به. والحديث المتقدم لا ينهض بتحليل المال وتحقق الوفاء، لما سبق من الإشكال فيه. بل مقتضي قوله فيه:" وليس له أن يبيعه وهو حي "هو التحريم، لأن مقتضي إطلاقه العموم لما إذا باعه بتوسط وكيله.

وإن كان المراد به صورة ما إذا لم يكن وكيلاً عن المدين، بل كان متبرعاً بالبيع بدلاً عنه، لأنه يري جوازه، فالحديث المتقدم يقتضي جواز ذلك، كما أنه مقتضي ما تقدم في المسألة السابقة.

اللهم إلا أن يقال: المتبرع بالبيع وإن كان يري صحة المعاملة ذاتاً، إلا أنه لا يري صحتها ونفوذها فعلاً إلا بإجازة المالك، والمفروض أن المالك مسلم لا يصح منه الإجازة. وبذلك لا يدخل في المسألة السابقة. كما لا ينهض به الحديث المتقدم، لأنه وارد في فرض موت المالك المسلم، حيث يري الولي والدائن أن من حقهما البيع من أجل وفاء الدين من دون حاجة إلي إجازة أحد.

نعم لو استقل المتبرع ببيع الخمر والخنزير، بعد تملكه لهما لإعراض المسلم عنهما، دخل في المسألة السابقة. لكن لا يبعد خروجه عن مفروض كلام الشيخ المتقدم.

الثاني: الكلب. ولا إشكال في عدم جواز بيعه في الجملة، وفي الجواهر:" بلا خلاف، بل الإجماع بقسميه عليه ".وفي الخلاف وظاهر التذكرة وعن المنتهي والتحرير الإجماع عليه. والنصوص به مستفيضة، كمعتبر أبي بصير:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن ثمن كلب الصيد. قال: لا بأس بثمنه، والآخر لا يحل ثمنه"(1). وفي كثير منها أنه من السحت، كموثق محمد بن مسلم وعبد الرحمن بن أبي عبدالله أو صحيحهما عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت"(2) ، وموثق السكوني عنه (عليه السلام):" قال السحت ثمن الميتة وثمن الكلب وثمن الخمر..."(3) ، وغيرهما مما يأتي بعضه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

ص: 25

هذا والمعروف جواز بيع بعض أنواع الكلب. خلافاً لما عن العماني من إطلاق المنع منه. وهو محجوج باستفاضة نقل الإجماع والنصوص علي الجواز في الجملة.

إذا عرفت هذا فالظاهر جواز بيع كلب الصيد، كما صرح به الأصحاب، وفي الجواهر: "بلا خلاف معتد به، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكي منهما مستفيض أو متواتر" .ويشهد به النصوص المستفيضة، كحديث أبي بصير ومحمد بن مسلم وعبد الرحمن المتقدمين ومعتبر أبي بصير الآخر عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث: "أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال: ثمن الخمر ومهر البغي وثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت"(1) ، وغيرها.

ومقتضي إطلاق النص والفتوي العموم لغير السلوقي من الكلاب المعلمة، خلافاً لما في المقنعة وموضع من النهاية، فاقتصر علي الكلب السلوقي للصيد. وكأنه لانصراف الإطلاق له، لغلبة الصيد به.

لكنها لا تنهض بتقييد الإطلاق، كما ذكرناه غير مرة، خصوصاً في مثل المقام مما كان العنوان المأخوذ فيه مناسباً للحكم - لوضوح أن الصيد لما كان من المنافع المهمة كان مناسباً لتحليل البيع - حيث يناسب ذلك تبعية الحكم للعنوان من دون فرق بين خصوصيات الذات الأخري. ولاسيما ما تضمن من النصوص قصر الحكم بعدم حلّ البيع علي الذي لا يصيد أو الذي لا يصطاد، لقوة ظهوره في دخل الفعل في الحكم، وليس هو ككلب الصيد قد يراد الإشارة به للنوع المعهود، وإن كان مخالفاً للظاهر أيضاً.

وأشكل من ذلك ما في المراسم من الاقتصار علي الكلب السلوقي بنحو يظهر منه إرادة النوع الخاص وإن لم يكن معلماً. إذ فيه: أنه لا يناسب النصوص المتقدمة الظاهرة في إرادة خصوص المعلم الذي يصيد.

ومثله ما عن الإسكافي من تحريم بيع الأسود البهيم، فإن مقتضي إطلاقه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 7.

ص: 26

العموم لما إذا كان كلب صيد معلم. إلا أن يبتني علي ما حكي عنه من تحريم صيده، لموثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الكلب الأسود البهيم لا تأكل صيده، لأن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) أمر بقتله"(1) ، بدعوي: انصراف كلب الصيد للكلب الذي يشرع صيده، لأن المناسبات الارتكازية قاضية بابتناء حلّ البيع علي مراعاة فائدة الصيد والاهتمام بها، فمع إلغائها في بعض الكلاب، لعدم ترتب فائدتها شرعاً يتعين قصور حل البيع عنه. ولاسيما مع التعليل في دليل إلغائها بما يناسب إهمال المالية، وهو أمر النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) بقتل الكلب المذكور. ومن ثم كان ما ذكره متيناً.

إلا أن يقال بجواز الصيد بالكلب المذكور، مع حمل الموثق علي الكراهة، كما هو المعروف. حيث يتجه حينئذٍ العمل بإطلاق حل بيع كلب الصيد، لعدم منافاة الكراهة له. والكلام في ذلك موكول إلي محله من مبحث الصيد.

هذا وقد ألحق ابن الجنيد والشيخ في بعض كلماته وجماعة ممن تأخر عنه بكلب الصيد في حلّ البيع كلب الماشية والزرع، أو كلب الماشية والحائط، أو الكلاب الثلاثة. بل ربما يعمم الجواز لكل كلب حارس وإن كان حارساً للدور والخيام ونحوها.

وقد يستدل علي ذلك: تارة: بما أرسله في المبسوط، فإنه بعد أن ذكر جواز بيع الكلب المعلم للصيد قال: "وروي أن كلب الماشية والحائط كذلك"(2). وأخري: بأن تقدير الدية له شرعاً يدل علي مقابلته بالمال. وثالثة: بأن المقتضي لحلّ بيع كلب الصيد - وهو المنفعة المحللة - موجود في هذه الكلاب، فتكون مثله في الحلّ. ورابعة: بأنه يجوز أجارتها، فيجوز بيعها، لعدم الفارق.

والكل كما تري. لاندفاع الأول بأن ضعف الحديث - بلحاظ إرساله - مانع من التعويل عليه. ودعوي: انجباره بعمل الأصحاب، لشهرة القول بجواز بيع هذه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 10 من أبواب الصيد حديث: 2.

(2) المبسوط فصل ما يصح بيعه وما لا يصح ج: 2 ص: 166 الطبعة الثانية، ووسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9.

ص: 27

الكلاب، خصوصاً بين المتأخرين. ممنوعة، لعدم وضوح اعتمادهم عليه، بل لعلهم اعتمدوا علي بعض الوجوه الأخري المتقدمة أو غيرها. ولاسيما مع ظهور اضطرابهم في حكم هذه الكلاب. ومن هنا لا مجال للبناء علي حجية المرسل المذكور.

خصوصاً مع مخالفته للنصوص الكثيرة الحاصرة لحلّ البيع بكلب الصيد، فإن الاقتصار فيها علي الصيد مع شيوع الانتفاع بالكلب في الحراسة - حتي كان الصيد والحراسة المنفعتين الظاهرتين للكلب - كالصريح في عدم الاعتداد بالانتفاع المذكور في حلّ البيع. بل لعلّ قوله (عليه السلام) في معتبر أبي بصير المتقدم:" والآخر لا يحل ثمنه "مسوق لبيان ذلك.

ومنه يظهر وهن ما قد يدعي من أن ذكر كلب الصيد في النصوص لمجرد التمثيل، وأن المراد الإشارة إلي ما ينتفع به منفعة محللة. إذ فيه: أن إلغاء خصوصية الصيد مع تأكيد النصوص علي ذكره وإهمال غيره بعيد جداً.

كما يندفع الثاني بأن ثبوت الدية لا يستلزم جواز البيع، بل لا يستلزم ثبوت المالية شرعاً، وإنما يدل علي احترام الكلاب المذكورة، وهو أعم من جواز البيع.

وأما الثالث فهو راجع للقياس المعلوم عدم حجيته، خصوصاً في مقابل النص. علي أن مقتضاه عموم الحلّ لكل ذي منفعة محللة من الكلاب، سواءً كانت معروفة سابقاً أم مستحدثة كالاستخدام، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك، بل هو مما تأباه كلماتهم.

ومثله ما قد يدعي من أن ثبوت المنفعة المحللة لهذه الكلاب يقتضي جواز بيعها بلا حاجة للقياس. لاندفاعه بأن اقتضاءه لذلك إنما هو بلحاظ عموم نفوذ البيع، الذي يلزم رفع اليد عنه بالنصوص المتقدمة المانعة.

ويندفع الرابع بأن جواز إجارتها - لملكية منفعتها تبعاً لملكيتها - لا ينافي المنع من بيعها للنصوص المتقدمة.

وبعبارة أخري: لا ريب في أن مقتضي القاعدة الأولية جواز بيع هذه الكلاب،

ص: 28

لوجود المنفعة المحللة لها، إلا أن النصوص المتقدمة وافية بالخروج عن القاعدة المذكورة. ولا مجال للخروج عن هذه النصوص بالوجوه المتقدمة أو غيرها، وإن أتعب صاحب الجواهر نفسه في محاولة لذلك بما لا يرجع إلي محصل ظاهر يمكن الركون إليه في مقام الاستدلال علي الحكم الشرعي.

بل يصعب جداً حمل إطلاقات المنع عن بيع الكلب علي ما عدا الكلاب الأربعة التي هي ذات المنافع الظاهرة في عصر صدور النصوص، إذ هو حمل الفرد النادر الذي لا تناسبه طبيعة البيع، لأن البيع طبعاً إنما يكون من أجل منفعة معتد بها. ومن ثم كان اللازم الاقتصار في الجواز علي كلب الصيد الذي هو مورد النصوص المستفيضة، والذي هو غير شايع في الكلاب، فيسهل استثناؤه من عموم المنع. فلاحظ.

الثالث: الميتة. ولا يجوز بيعها بلا خلاف أجده فيه، كما في الجواهر، وعن غير واحد دعوي الإجماع عليه. بل في رهن الخلاف ما يظهر منه الإجماع علي عدم ملكيتها. وإن كان هو غير ظاهر، كما يأتي في تتمة هذه المسألة.

وكيف كان فيدل عدم جواز بيعها - مضافاً إلي الإجماع المذكور - النصوص الكثيرة. منها: ما تضمن أن ثمنها سحت، كموثق السكوني المتقدم في الكلب، وما ورد في وصية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لعلي (عليه السلام) -(1) ، ومرسل الفقيه(2).

ومنها: ما تضمن النهي عن بيعها. مثل ما عن مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام):" قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم تقطع من إلياتها وهي أحياء، أيصلح له أن ينتفع بما يقطع ؟ قال: نعم يذيبها، ويسرج بها، ولا يأكلها ولا يبيعها"(3) ، ونحوه خبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) -(4) ، وصحيحه عنه (عليه السلام): "سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها، أيصلح له بيع جلودها ودباغه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9، 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9، 8.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

(4) راجع قرب الإسناد ص: 115 وقد أشار إليه في الوسائل في ذيل حديث البزنطي.

ص: 29

ويلبسها؟ قال: لا. ولو لبسها فلا يصلي فيها"(1) ، وغيرها.

مضافاً إلي النصوص الآتية في الميتة المختلطة بالمذكي المشعرة أو الظاهرة بعدم جواز بيع الميتة ممن لا يستحلها.

بل بناءً علي عدم جواز الانتفاع بالميتة أو بمطلق النجس يتعين عدم جواز بيعها، لما يأتي في المسألة الثالثة إن شاء الله تعالي. لكن الظاهر ضعف المبني المذكور، كما يأتي في المسألة الخامسة إن شاء الله تعالي.

هذا وقد يشكل عدم نهوض الإجماع المتقدم بالاستدلال. لاحتمال ابتنائه علي الإجماع المتقدم علي عموم حرمة بيع النجس، أو علي البناء علي حرمة الانتفاع به، أو بخصوص الميتة، أو علي عدم تملك نجس العين أو الميتة، كما يناسبه ما تقدم من الخلاف. وقد عرفت المنع من الأول، ويأتي في المسألة الخامسة المنع من الثاني، وأشرنا قريباً إلي ضعف الثالث. ويأتي التعرض لوجهه في تتمة هذه المسألة إن شاء الله تعالي. فالعمدة النصوص المتقدمة الوافية بإثبات الحكم دلالة وسنداً.

نعم في خبر أبي القاسم الصيقل وولده:" كتبوا إلي الرجل: جعلنا الله فداك، إنا قوم نعمل السيوف ليست لنا معيشة ولا تجارة غيرها، ونحن مضطرون إليها، وإنما علاجنا جلود الميتة والبغال والحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحل لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسّها بأيدنا وثيابنا ونحن نصلي في ثيابنا؟... فكتب: اجعل ثوباً للصلاة "(2) فإن الاقتصار في الجواب علي تخصيص الصلاة بثوب ظاهر في إقرار ما تضمنه السؤال من البيع والشراء وغيرها.

لكنه - مع الإشكال في سنده، لعدم النص علي وثاقة أبي القاسم الصيقل ولا ولده - قد يستشكل في الاستدلال به بأنه يدل علي جواز كون الميتة من شؤون المبيع - لكونها غلافاً لغمده أو لمقبضه - فهي جزء من المبيع غير معتد به، أو تابع له بنحو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 34 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

ص: 30

الشرط، ولا يدل علي جواز بيعها مستقلاً.

وقد دفع بعض مشايخنا (قدس سره) ذلك بأنه مبني علي رجوع الضمائر في قوله:" عملها وشراؤها... "إلي السيوف، وهو خلاف الظاهر، بل الظاهر رجوعها إلي الجلود، إذ لا وجه لأن يشتري السياف سيوفاً من غيره، ولا للسؤال عن حكم مسها وعملها. كما أن من البعيد جداً، بل المستحيل عادة الحصول علي الكميات التي تكفيهم من الجلود من دون شراء. مع أنه لا مجال للبناء علي أن الغلاف هو التابع دائماً، إذ ربما تكون قيمته أكثر من قيمة السيف، فيكون السيف هو التابع.

وفيه: أن التمهيد للسؤال بقوله:" إنا قوم نعمل السيوف "موجب لقوة ظهور كون مرجع الضمائر المذكورة هو السيوف، لا الجلود المذكورة بعد ذلك تبعاً. وقوله:" إنا قوم نعمل السيوف... "لا يراد به أنهم سيافون يصنعون السيوف بتصيير الحديد سيوفاً، بل يعملون في السيوف حتي يجعلوها صالحة للاستعمال ومهيأة له بشحذها وجعل المقبض والغمد لها، كما يناسبه بقية فقرات السؤال، وأنهم صياقلة، والصيقل هو الذي يشحذ السيوف ويجلوها ويصقلها، لا الذي يصنعها من الحديد.

وحينئذٍ لا مانع من كونهم يشترون السيوف من أجل أن يعملوا فيها حتي يجعلوها مهيأة للاستعمال وصالحة له، كما يتجه منهم حينئذٍ السؤال عن شراؤها. وكذا السؤال عن مسها، حيث يراد به حينئذٍ مسها مع مصاحبتها للميتة أو ملاقاتها لها، كما تقتضيه طبيعة العمل المذكور.

ودعوي: أنه لا منشأ للإشكال في شراء السيوف ليسأل عنه. مدفوعة بأن المستفاد من مساق السؤال أن السؤال في الحقيقة إنما هو عن الصلاة في ثياب العمل، والتفصيل المذكور في السؤال ليس لكون الخصوصيات المذكورة فيه مورداً للإشكال، بل لمجرد التمهيد لما هو مورد الغرض الحقيقي، كما يصدر كثيراً من العوام في عرض مشاكلهم، أو لكون السؤال منقولاً بالمعني. ويناسب أحد الأمرين الاقتصار في الجواب علي حكم الصلاة، وما في رواية القاسم الصيقل:" كتبت إلي الرضا (عليه السلام) إني

ص: 31

أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي، فأصلي فيها. فكتب: اتخذ ثوباً لصلاتك..."(1) ، حيث يقرب جداً اتحاد المكاتبة في الروايتين.

وأما ما ذكره من أن من المستحيل عادة الحصول علي الكميات التي تكفيهم من الجلود من دون شراء. ففيه: أن ذلك لا يكفي في صرف السؤال إلي شرائها ورفع اليد عن ظهوره في شراء نفس السيوف. وحينئذٍ ربما كانوا يحلون المشكلة لو توجهوا لها بالمصالحة عن حق الاختصاص الذي يأتي الكلام فيه في المسألة الثانية. علي أن السؤال لم يتضمن أن جميع الجلود التي يعملون بها من جلود الميتة.

كما أن ما ذكره من أن الغلاف قد لا يكون هو التابع، لأن قيمته قد تكون أكثر من قيمة السيف، لا يتم إلا إذا كان المراد بالغلاف فيه هو الغمد. وحينئذٍ يندفع بأن الغمد - مع غلبة تبعيته للسيف - ليس بتمامه من جلد الميتة، بل جلد الميتة غلافه لا غير، وهو ملحوظ دائماً بنحو التبعية.

وبالجملة: لا موجب للخروج عما يقتضيه مساق الكلام من رجوع الضمائر للسيوف، بحيث يوجب ظهوره في رجوعها للجلود، ولا أقل من إجمال السؤال من هذه الجهة. ومن ثم لا مجال للخروج به - لو كان حجة في نفسه - عن النصوص المانعة الكثيرة الظاهرة الدلالة المعول عليها عند الأصحاب. ولاسيما مع اعتبار أسانيد بعضها.

بقي في المقام أمران:

أحدهما: إذا اختلط المذكي بالميتة فمقتضي القاعدة جواز بيع المذكي دون الميتة. وحينئذ إن بيع المذكي وحده ودفعت الميتة معه تبعاً، صح البيع. وإن بيعا معاً صح البيع في المذكي دون الميتة، وتبعض الثمن تبعاً لتبعض الصفقة. غاية الأمر أن يثبت خيار تبعض الصفقة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 49 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 32

ومجرد وجوب الاجتناب عن المذكي، لمنجزية العلم الإجمالي، أو لأصالة عدم التذكية في كل منهما. لا يمنع من صحة بيعه بعد عدم المانع من بيعه واقعاً، لأن وجوب الاجتناب المذكور ظاهري عقلي لا يخرجه عن المالية، ولا عن كونه ذا منفعة محللة واقعاً.

ودعوي: أن جهالة المبيع تمنع من البيع في المقام. ممنوعة، لعدم مانعية مثل هذه الجهالة علي ما يتضح في محله إن شاء الله تعالي.

هذا ولكن قد تضمن بعض النصوص جواز بيعهما معاً ممن يستحل الميتة، كصحيح الحلبي: "سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: إذا اختلط المذكي والميتة باعه ممن يستحل الميتة، وأكل ثمنه"(1) ، وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام):" أنه سئل عن رجل كان له غنم وبقر، وكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل الميتة، ثم إن الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع به ؟ قال يبيعه ممن يستحل الميتة، ويأكل ثمنه، فإنه لا بأس به"(2). وقريب منه صحيح علي بن جعفر(3). وبذلك أفتي في النهاية والوسيلة ومحكي الجامع والمختلف والكفاية. وعن مجمع البرهان شهرة العمل بالأخبار المذكورة.

لكن في السرائر: "والأولي اطراح هذه الرواية وترك العمل بها، لأنها مخالفة لأصول مذهبنا..." .وعن المختلف الجواب عن ذلك بأنه ليس بيعاً حقيقة، بل هو استنقاذ مال الكافر من يده برضاه.

ويشكل بأن الكافر قد يكون محترم المال. بل المستحل قد لا يكون كافراً كالمخالف الذي يري ذكاة جلد الميتة بالدبغ أو يخالفنا في بعض شروط التذكية. فالأولي توجيه أخذ المال منه بقاعدة الإلزام. وكيف كان فليس ذلك عملاً بالنصوص، بل هو خروج عن ظهورها في البيع الحقيقي.

ومثله ما في الشرايع والقواعد وعن التحرير من جواز البيع إذا قصد بيع المذكي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

(3) البحار ج: 1 ص: 252، وأشار إليه في الوسائل في ذيل الحديث المتقدم.

ص: 33

خاصة، وما ذكره شيخنا الأعظم من جوازه إذا قصد بيع ما لا تحله الحياة، كالشعر والصوف. والي ذلك يرجع قوله في مفتاح الكرامة: "فالخبران لمكان اعتبارهما وعمل جماعة بهما لابد من تأويلهما".

علي أن ذلك قد يشكل باستلزام الوجوه المذكورة تسليط المستحل علي الميتة مع قصده أكلها، وهو مشكل جداً لو لم يعمل بظاهر النصوص، نظير تقديم الميتة هدية له وهو في مقام أكلها الذي يصعب البناء علي جوازه. فتأمل.

والتحقيق أنه لا مجال لطرح النصوص المذكورة ولا تأويلها بعد عدم كون القاعدة المانعة من بيع الميتة عقلية، بل هي قاعدة سمعية تقبل التخصيص، فيتعين تخصيصها بالأخبار المذكورة بعد وضوح مضمونها، واعتبار أسانيدها، وظهور عمل الأصحاب بها، ولا موجب لتأويلها بالوجوه المتقدمة أو غيرها.

نعم قد ينافي ذلك حديثان:

الأول: معتبر الجعفريات عن علي (عليه السلام): "أنه سئل عن شاة مسلوخة وأخري مذبوحة عمَي علي الراعي أو علي صاحبها، فلا يدري الذكية من الميتة. قال: ترم بهما جميعاً إلي الكلاب"(1). وهو ظاهر في سقوطهما عن الانتفاع رأساً بحيث لا مجال للحفاظ علي ماليتهما.

لكن يمكن الجمع بينه وبين النصوص السابقة بحمله علي صورة عدم تيسر البيع ممن يستحل الميتة، لما هو المعلوم من أن وجود المشتري بالنحو المذكور يحتاج إلي كلفة وعناية، فيرجع إلي تعذر أكل المسلم له، الذي تقدم أنه مقتضي العلم الإجمالي. ولو تعذر الجمع المذكور عرفاً، لعدم كفاية ذلك في القرينة عليه، تعين حمله علي استحباب تجنبه وعدم الانتفاع به حتي بالبيع علي المستحل.

الثاني: معتبر شعيب عن أبي عبدالله (عليه السلام):" في رجل دخل قرية فأصاب بها لحماً لم يدر أذكي هو أم ميت ؟ فقال: فاطرحه علي النار، فكلّ ما انقبض فهو ذكي، وكلّ م

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 7 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 34

انبسط فهو ميت"(1). وقد عمل به في الغنية والوسيلة، وهو ظاهر الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب.

وهو صريح في إمكان التمييز، فيعارض نصوص البيع ممن يستحل الميتة الظاهرة في كون ذلك هو الطريق الوحيد للاستفادة من اللحم بعد تعذر استعماله بسب اختلاطه وتعذر تمييزه.

وقد ذكر بعضهم أنهما مختلفان مورداً، فمورد نصوص البيع من المستحل الميت المختلط بالمذكي، الذي هو مورد العلم الإجمالي، ومورد معتبر شعيب اللحم المشتبه الحال من دون أن يكون طرفاً للعلم الإجمالي، فيعمل بكل منهما في مورده.

ويشكل بإلغاء خصوصية مورد شعيب عرفاً، لأن الانقباض إذا كان أمارة علي التذكية يخرج بها عن أصالة عدم التذكية فهو أمارة عليها مطلقاً ولو في مورد العلم الإجمالي، كما هو الحال في سائر الأمارات في مورد الشبهة البدوية، كالبينة. ولاسيما في هذه الأمارة التي ينسبق من دليلها أنها من اللوازم الواقعية. علي أن مورد معتبر شعيب وإن كان هو الشبهة البدوية، إلا أن لسان الجواب فيه يناسب العموم، كما يظهر بأدني تأمل فيه.

ومنه يظهر معارضته أيضاً لمعتبر الجعفريات المتقدم. كما لا إشكال في معارضته لجميع ما تضمن عدم ترتيب أثر التذكية علي اللحم في جميع موارد الشك في التذكية من دون أمارة عليها(2).

مضافاً إلي أن مضمونه لا يخلو عن غرابة، لوضوح أن أكثر شروط التذكية تعبدية، كالتسمية والاستقبال وإسلام المذكي وقطع الأوداج الأربعة مع عدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 37 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1. إلا أن الموجود فيه إسماعيل بن شعيب، والموجود في الكافي والتهذيب: إسماعيل بن عمر عن شعيب.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 5، 14، 18، 19، 20، 22 من أبواب الصيد، وباب: 13 من أبواب الذبح.

ص: 35

استعصاء الحيوان، ومن البعيد دخلها في انقباض اللحم، بل يكاد يقطع بعدمه.

ومن ثم كان من المشكل الذي يرد عمله إلي أهله، أو يقتصر فيه علي مورده، وهو اللحم المطروح في القرية الذي لا يعلم حاله، أو يحمل الميت فيه علي الميت حتف أنفه لا مطلق غير المذكي.

وكيف كان فلا مجال للخروج به عما يظهر من نصوص البيع من المستحل والنصوص الكثيرة الأخري المشار إليها آنفاً من تعذر تمييز المذكي من غيره بوجه شرعي.

ثانيهما: ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه يجوز المعاوضة علي الميتة من غير ذي النفس السائلة - كميتة السمك - إذا كان لها منفعة محللة معتد بها. قال: "وصرح بما ذكرنا جماعة. والظاهر أنه لا خلاف فيه" .وكأنه لأن حرمة بيع الميتة عندهم من صغريات حرمة بيع نجس العين، فلا يشمل ميتة ما لا نفس له، لطهارتها.

لكن سبق المنع من ذلك، فيتعين ابتناء ما ذكره (قدس سره) علي قصور أدلة حرمة بيع الميتة عن ميتة غير ذي النفس، كما هو المعلوم في أكثر تلك الأدلة، علي ما يظهر بملاحظتها.

نعم قد يشكل فيما تضمن أن ثمن الميتة سحت، ومنه موثق السكوني المتقدم، حيث يخفي وجه الانصراف فيه بعد فرض كونه تعبدياً غير مبني علي حرمة بيع النجس، ولذا يقتصر فيه علي مورده ولا يتعدي منه لسائر النجاسات. وكذا صحيح الحلبي الأول المتقدم في الميت المختلط بالمذكي، الذي سبق ظهوره أو إشعاره بعدم جواز بيع الميتة. فلاحظ.

الرابع: الخمر بل كل مسكر، فإنه لا يجوز التكسب به بالإجماع المدعي في كلام غير واحد، بل لعله من ضروريات الدين. والنصوص به مستفيضة.

منها: ما تضمن أن ثمنه سحت، كموثق السكوني المتقدم عند الكلام في حرمة بيع الكلب، وصحيح عمار بن مروان عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيه:" والسحت أنواع

ص: 36

كثيرة، منها أجور الفواجر، وثمن الخمر والنبيذ والمسكر..."(1) ، وغيرهما كثير.

ومنها: ما تقدم عند الكلام في تحريم بيع الخنزير.

ومنها: ما تضمن تحريم بيعها أو ثمنها أو لعن بايعها أو نحو ذلك، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام) وفيه:" إن الذي حرم شربها حرم ثمنها..."(2) ، وموثق زيد بن علي عن آبائه (عليهم السلام): "قال: لعن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) الخمر وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها..."(3)... إلي غير ذلك مما يوجب وضوح الحكم، ويغني عن إطالة الكلام فيه.

وتقدم في بعض النصوص التعميم لغير الخمر من المسكر ومقتضي إطلاقه العموم لما لا يعد للشرب، كالكحول المستعمل للتعقيم وغيره في عصورنا.

ودعوي: انصرافه لما يعد للشرب، نظير النهي عن غرسها وعصرها وسقيها. غير ظاهرة. والقياس علي الأمور المذكورة في غير محله.

أولاً: لاختصاص هذه الأمور بالخمر.

وثانياً: لأن المنصرف من تحريم هذه الأمور كونه مقدمياً بلحاظ ترتب الحرام عليها، ولا مجال لذلك في البيع، خصوصاً بعد كون تحريمه وضعياً.

بقي في المقام أمران:

الأول: أن مقتضي حرمة البيع والثمن بطلان البيع وبقاء الثمن علي ملك المشتري، فيجب إرجاعه له مع معرفته، ويجري عليه حكم مجهول المالك بدون ذلك.

لكن في صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام):" في رجل ترك غلاماً له في كرم له يبيعه عنباً أو عصيراً، فانطلق الغلام فعصر خمراً ثم باعه. قال: لا يصلح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 55 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 55 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3.

ص: 37

ثمنه... ثم قال أبو عبدالله (عليه السلام):

إن أفضل خصال هذه التي باعها الغلام أن يتصدق بثمنها" (1) وفي موثق أبي أيوب أو صحيحه عنه (عليه السلام): إن أحب الأشياء إلي أن يتصدق بثمنه "(2) ومقتضاهما جواز التصدق بالثمن مطلقاً ولو مع معرفة البايع وعدم وجوب إرجاعه إليه حينئذٍ.

إلا أنه لا يظهر من الأصحاب (رضي الله عنهم) البناء علي ذلك، لعدم تنبيههم له، بل عن مرآة العقول أن المقطوع به من كلامهم وجوب الردّ مع معرفة المالك. وكأنه لاستحكام القاعدة التي أشرنا إليها.

إلا أن الخروج عنها بالحديثين غير عزيز بعد اعتبار سندهما، واحتمال ابتنائهما علي نحو من العقوبة للمشتري وإلزامه بما فعل، فإنه قد أخذ الخمر وانتفع بها، فإذا رجع إليه ثمنها كان الرابح محضاً. فإن ذلك وإن لم ينهض دليلاً علي الحكم، إلا أن ابتناء الحديثين عليه قريب جداً.

ودعوي: سقوطهما عن الحجية بهجر الأصحاب. غير ظاهرة، لعدم توجه الأصحاب لهذا الحكم ولا للفروع المترتبة علي بطلان المعاملة، ليتضح منهم رفضه و الإعراض عن الحديثين. غاية الأمر أنهم لم ينبهوا إلي مخالفته لمقتضي القاعدة، وهو أعم من الإعراض المسقط للحديثين عن الحجية. ولاسيما بعد ظهور الكليني في الاعتماد علي الحديثين. كما يحتمل ذلك في جميع القدماء الذين تعرف فتاواهم من طريق روايتهم للنصوص.

ومثلها دعوي: حملهما علي صورة الجهل بالمشتري وتعذر الرجوع إليه. فإنها خالية عن الشاهد، ولا تناسب إطلاق الحديثين. فلاحظ.

الثاني: تقدم في مسألة بيع الخنزير أن في بعض النصوص ما يقتضي جواز أخذ الثمن من البايع وإن كان حراماً عليه. وهو جار في بيع الخمر، لاشتراكه مع بيع الخنزير في النصوص المذكورة. فراجع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 55 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 55 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

ص: 38

الخامس: الدم. ولا يجوز بيعه بلا خلاف، وعن نهاية الأحكام الإجماع عليه، وفي الجواهر:" بلا خلاف معتد به أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه ".ويقتضيه - مضافاً إلي ذلك، وإلي التنصيص عليه في حديث تحف العقول(1) والرضوي (2)- مرفوع الواسطي قال:" مرّ أمير المؤمنين (عليه السلام) بالقصابين، فنهاهم عن بيع سبعة أشياء من الشاة، نهاهم عن بيع الدم والغدد وآذان الفؤاد..."(3).

لكن الإجماع لم يثبت بنحو ينهض بالحجية، ومن القريب ابتناؤه علي الإجماع المتقدم في نجس العين، أو نحو ذلك مما تقدم عند الكلام في الإجماع علي حرمة بيع الميتة. وحديث تحف العقول ضعيف بالإرسال.

نعم في الوسائل: "ورواه المرتضي في رسالة المحكم والمتشابه كما مر في الخمس غيره" .ولعله منشأ ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من حكايته عن غير واحد عن الرسالة المذكورة.

لكن الموجود في الوسائل عن الرسالة المذكورة في أبواب الخمس والأنفال بإسناد أشار إليه أحاديث أخر ليس منها الحديث المذكور، بل ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه ليس في هذه الرسالة من حديث تحف العقول عين ولا أثر، ولم يذكر حتي بمضمونه فيها.

علي أن الحديث المذكور مضطرب المتن مشتمل علي ما لا يقول به الأصحاب. وربما يستفاد منه - علي اضطرابه - أن المعيار في حرمة البيع للدم وغيره حرمة المنفعة الظاهرة منه، فيكون أجنبياً عما نحن فيه من حرمة بيعه تعبداً مطلقاً.

ومثله في ذلك الرضوي. مضافاً إلي الإشكال فيه بضعف السند، بل لم يتضح كونه رواية عن المعصوم، علي ما ذكره غير واحد، وأشرنا إليه في غير موضع من هذا الشرح.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 2 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 3 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

ص: 39

وأما مرفوع الواسطي فهو ضعيف لا ينهض بالاستدلال. مضافاً إلي ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره من انصرافه للبيع للأكل، لأنها المنفعة الظاهرة من الدم المعروفة في الجاهلية، حتي حرم الدم من أجل ذلك في القرآن المجيد، كما يناسبه سياقها في المرفوع في عداد مستثنيات الذبيحة المعلوم عدم حرمة بيعها إلا إذا كانت المنفعة الظاهرة لها الأكل.

اللهم إلا أن يقال: من البعيد جداً تعارف أكله في عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد تأكيد تحريمه في الكتاب المجيد، وبعد تحسن الوضع الاقتصادي في عصور الإسلام الأولي، بل من القريب جداً النهي عن بيعه تعبداً ولو لغير الأكل، كإطعام الكلاب والتسميد.

نعم يقصر عن بيعه للتزريق الذي تعارف في عصورنا، لعدم معهوديته في تلك العصور، وعدم كون الصالح منه لذلك مورد ابتلاء القصابين.

فالعمدة في وهن الحديث ما ذكرناه أولاً من ضعفه. ودعوي: انجباره بعمل الأصحاب. غير ظاهرة، إذ لم يورده من أهل الحديث إلا الكليني (قدس سره) في جملة نصوص محرمات الذبيحة، ولا يظهر منه تعويله عليه في حرمة البيع. وأما أهل الفتوي فالمعروف بينهم عموم حرمة بيع الأعيان النجسة ودخول الدم في ذلك، ولا طريق لإحراز تعويلهم علي الحديث المذكور.

هذا وقد قرب شيخنا الأعظم (قدس سره) قصور الحرمة عن بيع الدم الطاهر إذا كانت له منفعة محللة مقصودة كالصبغ. وهو متجه بناءً علي ابتناء أدلة حرمة بيع الدم علي عموم حرمة بيع النجس، وأنه من صغرياته. لكن سبق المنع من العموم المذكور، وأنه يتعين الاقتصار علي موارد النصوص لو نهضت بالحجية، وحيث كانت مطلقة فلابد في الاقتصار علي النجس من دليل، وهو مفقود. فيتعين البناء علي عدم الفرق بين الطاهر والنجس في حرمة البيع أو جوازه.

السادس: العذرة. ولا يجوز بيعها علي المشهور، بل عن غير واحد نقل الإجماع

ص: 40

عليه، أو علي حرمة بيع مطلق السرجين النجس، وفي الجواهر: "بلا خلاف معتد به أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه" .ويقتضيه - مضافاً إلي ذلك - خبر يعقوب ابن شعيب عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: ثمن العذرة من السحت"(1) ، ومرسل دعائم الإسلام عنه (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام):" إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) نهي عن بيع الأحرار... وعن بيع العذرة. وقال: هي ميتة"(2).

لكن الإجماع يجري فيه ما سبق في الإجماع علي بيع حرمة بيع الميتة. والخبران - مع ضعفهما - معارضان بمعتبر محمد بن مضارب عنه (عليه السلام): "لا بأس ببيع العذرة"(3).

هذا وقد جمع الشيخ (قدس سره) بين خبر يعقوب ومعتبر محمد بن مضارب بحمل الأول علي عذرة الإنسان والثاني علي عذرة غيره، كما في الاستبصار، أو علي خصوص فضلة البهائم التي يحل أكلها، كما في التهذيب، وربما رجع الأول للثاني، كما يناسبه ما في المبسوط والخلاف من المنع من بيع السرجين النجس.

وكيف كان فالجمع المذكور تبرعي لا شاهد عليه. بل لو أريد حمل معتبر محمد بن مضارب علي خصوص فضلة البهائم التي يحل أكلها، فهو مخالف للظاهر جداً، لعدم معهودية إطلاق العذرة علي ذلك بل يطلق عليه السرجين أو الروث أو نحوهما.

وقد استشهد الشيخ علي الجمع المذكور بموثق سماعة:" سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر. فقال: إني رجل أبيع العذرة فما تقول ؟ قال: حرام بيعها وثمنها. وقال:

لا بأس ببيع العذرة" (4) قال في التهذيب: "فلولا أن المراد بقوله: حرام بيعها وثمنها ما ذكرناه لكان قوله بعد ذلك: ولا بأس ببيع العذرة مناقضاً له، وذلك منفي عن أقوالهم (عليهم السلام)، ونحوه في الاستبصار.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 40 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 40 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 40 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 2.

ص: 41

لكنه كما تري، فإن الموثق المذكور إن كان حديثاً واحداً فكما لا يمكن التناقض فيه لا يمكن التناقض بين خبر يعقوب ومعتبر محمد، لاستحالة تناقض أحكامهم (عليهم السلام)، إلا أن ذلك لا يقتضي الجمع بالوجه المذكور، بل غاية ما يلزم وجود مبرر لهذا التدافع من دون أن ينهض بتعيينه وشرحه.

علي أن من القريب أنه حديثان في مناسبتين، كما يناسبه توسط قوله:" وقال "علي ما أشرنا إليه غير مرة من هذا الشرح، تبعاً لما نبّه له شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن طريقة أصحاب الكتب إثبات أحاديث الأئمة (عليهم السلام) التي يسمعونها تدريجاً، ويفصلون بينها بمثل: (قال).

ويؤكد ذلك في المقام أمران:

أحدهما: إضافة البيع للاسم الظاهر، ولو كان في سياق جواب السؤال الأول لكان المناسب إضافته للضمير.

ثانيهما: أن من البعيد جداً اكتفاء السائل بجواب متضارب متدافع من دون طلب استيضاح الحال.

وحينئذٍ يجري علي التنافي بين هذين الحديثين ما يجري علي التنافي بين خبر شعيب ومعتبر محمد، من دون أن يصلحا لبيان مبرر التدافع، ووجه الجمع بينهما.

بل الإنصاف أن الموثق لا يناسب الجمع المتقدم من الشيخ (قدس سره)، لظهور حال سماعة في وحدة المراد بالعذرة في الكلامين، وإلا كان المناسب منه جداً التنبيه لاختلاف المراد ورفع الإشكال من هذه الجهة. بل كأن قوله:" وأنا حاضر "لتأكيد التدافع بين الكلامين، ودفع توهم أن صدر الحديث لم يسمعه بنفسه، بل نقله غيره له، وأخطأ في نقله وصحفه.

ومثل ذلك في الضعف ما عن المجلسي من حمل خبر المنع علي بلاد لا ينتفع فيها بالعذرة وخبر الجواز علي بلاد ينتفع بها فيها. إذ فيه - مع أنه جمع تبرعي - أن البلاد التي لا ينتفع فيها بالعذرة ليس من شأنها أن تباع فيها، ليسأل عن ذلك ويمنع منه.

ص: 42

وكذا ما عن المامقاني (قدس سره) من حمل رواية الجواز علي الاستفهام الاستنكاري. فإنه تحكم لا شاهد له، بل مخالف للظاهر جداً. كما أن ما سبق من ظهور موثق سماعة في التدافع بين الكلامين لا يناسب هذين الوجهين أيضاً.

هذا وربما جمع بين الطائفتين بحمل نصوص المنع علي الكراهة، كما عن السبزواري احتماله. وقد استبعده شيخنا الأعظم (قدس سره). ولعله لما في الجواهر من أن لفظ السحت والحرام كالصريح في خلاف الكراهة.

لكنه ليس بحدّ يمنع من الجمع العرفي بذلك بقرينة ما هو نص في الجواز، كما جري عليه الأصحاب في موارد كثيرة، في أمثال التعابير المذكورة، حملاً لها علي المبالغة الشايعة في استعمالات البلغاء.

نعم ظهور موثق سماعة في استحكام التعارض قد لا يناسب ذلك، لظهوره في عدم ظهور الحمل المذكور له ولا للسائل في مقام الحاجة للبيان، بحيث أوجب تحيره وتأكيده علي التعارض. ولو كان الجمع المذكور عرفياً ولو في خصوص المقام لم يحسن منه ذلك، بل كان المناسب منه التنبيه له. فتأمل جيداً.

هذا ولو فرض استحكام التعارض في المقام فقد يدعي تقديم دليل الجواز لمخالفته للعامة.

لكن عن المامقاني أن مجرد كون المنع مذهب أكثر العامة لا ينفع مع كون فتوي أبي حنيفة المعاصر للإمام الصادق (عليه السلام) الذي صدرت عنه الروايات هو الجواز. ولعله اعتمد في ذلك علي ما في التذكرة من نسبة جواز بيع السرجين النجس لأبي حنيفة، خلافاً لبقية فقهاء العامة.

إلا أنه يشكل بأن ذلك لا يناسب ما في كتاب الفقه علي المذاهب الأربعة من نسبة حرمة بيع العذرة لأبي حنيفة وجميع رؤساء المذاهب الأربعة. علي أن حصر المذاهب في هذه الأربعة أمر متأخر. ومجرد معاصرة رؤساء بعضها لعصر صدور الروايات لا يستلزم شيوعه بين العامة في ذلك العصر، ليتعين كونه، معياراً في الترجيح.

ص: 43

وحينئذٍ إن تم إجماع العامة علي تحريم بيع العذرة أو شهرة القول بينهم بذلك - كما هو غير بعيد - كان الترجيح لرواية الجواز، وإلا تعين سقوط المرجح المذكور، والعمل علي عموم نفوذ العقود والتجارة عن تراض، لكونه مرجحاً أو مرجعاً بعد تساقط النصوص بالمعارضة. بل قد يدعي أن الترجيح به مقدم علي الترجيح بمخالفة العامة، لما هو الظاهر من تأخر الترجيح بمخالفتهم عن الترجيح بموافقة الكتاب.

نعم ذلك كله إنما يتجه مع بلوغ جميع النصوص المتعارضة مرتبة الحجية. ويظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) المنع منه، وسقوط ما دل علي الجواز عن الحجية. وكأنه لمخالفة المشهور له، بل الإجماع المدعي من غير واحد، بناءً علي ما هو الظاهر من وهن الخبر بهجر الأصحاب.

لكنه يشكل بعدم وضوح الهجر المسقط عن الحجية في المقام بعد ظهور حال الشيخ وغيره من أهل الفتوي في الاهتمام بالجمع الدلالي بين روايتي الجواز والمنع. ولعل اهتمامهم بتأويل رواية الجواز والخروج عن ظاهرها دون رواية المنع لتركز عموم حرمة بيع النجس في نفوسهم، لا لاطلاعهم علي خلل فيها مسقط لها عن الحجية. بل كيف يمكن دعوي ذلك أو التعويل عليها بعد ظهور حال الكليني في الاعتماد علي رواية ابن مضارب، لاقتصاره عليها في الباب المناسب ؟!.

وما عن المجلسي في مرآة العقول من ضعف سندها، في غير محله بعد كون محمد بن مضارب من رجال كامل الزيارات، وممن قد روي عنه صفوان بن يحيي ويونس اللذين قيل عنهما أنهما لا يرويان إلا عن ثقة. علي أنه يكفي موثق سماعة بناءً علي ما سبق من كونه روايتين.

بل ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه يتعين سقوط خبر يعقوب المتضمن للمنع بضعف السند، لأن في طريقه محمد بن سكن أو مسكين المجهول. وإن كان الظاهر أنه في غير محله بعد ظهور عمل المشهور به، بناءً علي التحقيق من انجبار ضعف السند بذلك. فتأمل.

ص: 44

وبالجملة: لا يبعد اعتبار كلتا الطائفتين في نفسها، إلا أنه مع ذلك يتعين البناء علي جواز البيع، إما عملاً بنصوصه، لأنها نصّ في الجواز وحمل خبر المنع علي الكراهة، أو لترجحها بمخالفة العامة أو بموافقة عمومات النفوذ، وإما لكون العمومات المذكورة هي المرجع بعد سقوط كلتا الطائفتين بالمعارضة.

ثم إنه بناءً علي جواز بيع العذرة فلا إشكال في جواز بيع غيرها من فضلة غير مأكول اللحم، لعدم المخرج عن مقتضي عموم النفوذ فيها، بل قد يستفاد من أدلة جواز بيع العذرة بإلغاء خصوصيتها عرفاً.

وأما بناءً علي المنع من بيع العذرة فالمنع من بيع فضلة غير مأكول اللحم يبتني علي عموم العذرة لها، أو استفادته من أدلة المنع من بيعها بفهم عدم الخصوصية، أو بعدم الفصل، لما قيل من عدم الفرق بين الأرواث النجسة في التحريم، أو من الإجماع المدعي علي عدم جواز بيع السرجين النجس، أو مطلق نجس العين. ولعل أقربها الثاني، وإن لم يخل عن إشكال.

السابع: المني. والكلام تارة: في بيعه بعد إراقته خارج الرحم، حيث يتعارف في عصورنا حفظه للتلقيح به صناعياً. وأخري: في بيعه بعد إراقته في الرحم. وثالثة: في بيعه بنحو بيع الكلي قبل إراقته في الرحم. ورابعة: في إجارة الفحل لتلقيح الأنثي بمائه.

أما الأول فالظاهر ابتناؤه علي الكلام في عموم حرمة بيع الأعيان النجسة. وحيث سبق عدم ثبوت العموم المذكور فلا مانع من بيعه.

نعم قبل ظهور الانتفاع به في عصورنا قد يمنع من بيعه، لعدم الانتفاع به منفعة معتداً بها عرفاً، كما قد يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره). ويظهر الكلام في ذلك مما يأتي في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالي من الكلام في اعتبار وجود المنفعة المعتد بها في صحة البيع.

وأما الثاني فالكلام فيه مبني علي أن الولد نماء الذكر، حيث يرجع ذلك إلي أن الولد يتبع مني الذكر، كالزرع التابع للبذر، فإذا بقي علي ملك صاحب الحيوان كان

ص: 45

الولد له، إذ حينئذٍ يتجه الكلام في صحة بيعه ليصير الولد للمشتري.

ومقتضي العمومات المتقدمة صحة البيع. ودعوي: أن نجاسته تمنع من صحة بيعه. ممنوعة، كما تكرر غير مرة. مضافاً إلي الإشكال في نجاسته إذا خرج من الباطن إلي الباطن.

ومثلها دعوي عدم القدرة علي تسليمه. لاندفاعها بأنه يتحقق تسليمه باستلام الأنثي التي أريق المني فيها. واعتبار القدرة علي تسليمه منفصلاً عنها يحتاج إلي دليل.

نعم قد يستشكل فيه بأن المني بعد دفقه وإراقته في الأنثي يعتبر تالفاً عرفاً، ولا وجود له يعتد به، ليكون طرفاً في البيع، وليس هو كالبذر يبقي مدة من الزمن له وجود عرفي معتد به صالح للمعاوضة. وأما ما يتحقق به اللقاح فهو جزء منه صغير جداً لا يعتد به عرفاً، وإنما يعتد بأثره الذي يتحول إليه، وهو الولد.

وبالجملة: ليس للمني بعد إراقته قبل التحول للولد وجود عرفي صالح لأن يكون موضوعاً للبيع.

وأما بعد التحول للولد فلا إشكال في أن للولد وجود عرفي صالح للبيع والمعاوضة. إلا أنه يخرج عن محل الكلام من بيع المني، ويكون بيعاً للجنين الذي لا مانع منه، إلا ما ورد من النهي عن بيع الملاقيح(1) ، بناءً علي تفسيرها بذلك، كما قد يظهر من بعض كلمات اللغويين. وهو غير صالح للمنع لو تم التفسير المذكور، لعدم روايته من طرقنا.

هذا كله مع أن المبني المذكور في غير محله، لما هو المعلوم من سيرة العقلاء والمتشرعة الارتكازية من أن الولد تابع للأنثي ونمائها، وليس المني إلا كالشرط في الاستنماء، كالماء للزرع. وحينئذٍ لا أثر لبيعه وملكيته بعد إراقته في رحم الأنثي، حيث يكون الولد لمالك الأنثي علي كل حال، ملك المني أو لم يملكه. وغاية ما يمكن حينئذٍ ضمان قيمة المني أو قيمة الانتفاع بالفحل علي من استغله بغير إذن صاحبه، أو بإذنه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2.

ص: 46

بشرط العوض.

وأما الثالث - الذي لا يبعد كونه المراد ببيع عسيب الفحل - فمقتضي العمومات المتقدمة جوازه. ومجرد كون الولد نماء للأنثي لا ينافي مالية المني والاهتمام بتحصيله بلحاظ الانتفاع به لكونه شرطاً في الاستنماء، نظير الماء للزرع، فكما يصح شراء الماء لسقي الزرع قبل سقيه يصح شراء المني لتلقيح الأنثي به.

لكن في التذكرة: "مسألة: يحرم بيع عسيب الفحل، وهو نطفته، لأنه غير متقوم، ولا معلوم، ولا مقدور عليه. ولا نعلم فيه خلافاً. لأن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) نهي عنه".

ويندفع بالمنع من عدم تقومه، فإن أهمية منفعته تستلزم تنافس الناس فيه الذي هو المعيار في ماليته وتقومه. علي أن اعتبار التقوم والمالية في المبيع محل كلام يأتي في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالي.

وأما عدم العلم به، فأن أريد به عدم العلم بوجوده فهو ممنوع، لأمكان العلم به من حال الحيوان. بل لا إشكال فيه لو أريد به ما لا ينتسب لحيوان خاص، بل للكلي. وإن أريد به عدم العلم بمقداره بكيل ولا وزن. فهو لا يقدح في صحة البيع في مثل ذلك مما ليس من شأنه التقدير بالكيل والوزن، لاختلاف الأشياء في كيفية التقدير، ويكفي التقدير في المقام بإراقة المني الحاصل باتصال الحيوانيين مرة أو مرتين أو أكثر.

وأما عدم القدرة عليه فهو ممنوع، لعين ما تقدم عند الكلام في عدم العلم بوجوده. كما أن عدم الخلاف لا يبلغ حدّ الإجماع الحجة.

فلم يبق في المقام إلا النهي عنه فقد ورد النهي عن ثمن - اللقاح بماء الفحل - وعن عسيب الفحل أو الدابة - المفسر بذلك أيضاً - في غير واحد من النصوص من طرقنا(1) ، ومنها معتبر الجعفريات عن علي (عليه السلام): "قال: من السحت ثمن الميتة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 13، 14، وباب: 12 منها حديث: 3. ومستدرك الوسائل ج: 13 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1. وباب: 10 منها حديث: 1، 2.

ص: 47

وثمن اللقاح... وعسيب الفحل، ولا بأس أن يهدي له العلف"(1). وكذا من طرق العامة(2).

لكن لم يتضح كون موضوع النهي هو بيع المني قبل إراقته الذي هو محل الكلام، أو إجارة الفحل للتلقيح الذي ذكرناه في الوجه الرابع، بل لعل الإطلاق ينصرف للثاني، الذي لا يبعد تعارفه، وبه فسر في بعض كلماتهم.

نعم لا يبعد فهم حكم أحدهما من الآخر تبعاً، لغفلة العرف عن التفريق بينهما، فلو اختلفا حكماً كان المناسب عند النهي عن أحدهما التنبيه لِحلّ الآخر، ليعمل الناس به لسدّ حاجتهم. بل مقتضي الاقتصار في معتبر الجعفريات علي التنبيه للترخيص في إهداء العلف عموم النهي لكل معاوضة ملزمة في ذلك.

وكيف كان ففي صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قلت له: أجر التيوس. قال:

إن كانت العرب لتعاير به. ولا بأس"(3) ، وفي معتبر حنان بن سدير: "دخلنا علي أبي عبدالله (عليه السلام) ومعنا فرقد الحجام... قال:

جعلني الله فداك إن لي تيساً أكريه فما تقول في كسبه ؟ فقال: كل كسبه، فإنه لك حلال، والناس يكرهونه. قال حنان: قلت: لأي شيء يكرهونه وهو حلال ؟ قال: لتعيير الناس بعضهم بعضاً" (4) .

ولأجلهما يتعين تنزيل النصوص السابقة علي التقية أو الكراهة بالعنوان الأولي، أو للعنوان الثانوي، تنزيهاً للمؤمنين عما يترفع عنه أهل المروءات، ويكون منشأ لتعييرهم والتهريج عليهم، الذي هو يختلف باختلاف الأعراف والأزمنة.

ومورد هذين الحديثين وإن كان هو الكراء - الذي هو الوجه الرابع - دون بيع المني، إلا أنه سبق عدم الفرق بينهما. ولا أقل من إجمال نصوص النهي المانع من

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) مسند أحمد ج: 2 ص: 415، سنن الدارقطني ج: 3 ص: 42.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 1.

ص: 48

ولا فرق بين أن يكون لها منفعة محللة مقصودة - كالتسميد بالعذرة - أو لا (1). كما لا فرق في الحرمة بين بيعها وشرائها، وجعلها أجرة في الإجارة، وعوضاً عن العمل في الجعالة، ومهراً في النكاح، وعوضاً في الطلاق الخلعي، وغير ذلك من الموارد التي يعتبر فيها المال (2)، لأنها ليست أموالاً شرعاً،

---------------

الاستدلال بها علي حرمة البيع.

ومن ذلك يظهر الحال في الوجه الرابع، حيث صرح بجوازه في الحديثين المتقدمين.

هذا تمام الكلام في الأعيان النجسة التي يحرم بيعها. وقد ظهر مما سبق أنه لا مخرج في غير ما تقدم عن العمومات المقتضية لصحة البيع.

(1) لإطلاق دليل المنع أو عمومه لو تم. بل سبق أنه لا مجال لحمل النهي في بعض الموارد علي خصوص صورة عدم وجود المنفعة المحللة. فراجع ما سبق في حرمة بيع الدم، وحرمة بيع العذرة لو تم.

نعم قد يجعل الفرق المذكور في الجملة معياراً فيما لم يثبت حرمة بيعه تعبداً، علي ما يأتي الكلام فيه في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالي.

(2) الظاهر مفروغيتهم عن ذلك، كما يظهر بملاحظة كلماتهم في بعض الفروع كالمهر والرهن وغيرها. والوجه فيه: أن النهي المتقدم وإن كان مختصاً أو منصرفاً للبيع أو للثمن الذي هو من شؤون البيع، إلا أن المناسبات الارتكازية قاضية بابتنائه علي عدم احترام هذه الأمور شرعاً، والردع عن ترتيب أحكام المال عليها.

ويؤيد ذلك أو يدل عليه موثق طلحة بن زيد عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سألته عن رجلين من أهل الذمة أو من أهل الحرب تزوج كل واحد منهم امرأة، ومهرها خمراً وخنازير، ثم أسلما. قال: ذلك النكاح جائز حلال لا يحرم من قبل الخمر والخنازير. وقال: إذا أسلما حرم عليهما أن يدفعا إليه [إليهما] شيئاً من ذلك، يعطياهم

ص: 49

وإن كانت أموالاً عرفاً (1).

---------------

صداقهما"(1) ، وفي صحيح عبيد بن زرارة عنه (عليه السلام) الوارد في نظير ذلك: "قال: ينظر كم قيمة الخنازير وكم قيمة الخمر ويرسل به إليها، ثم يدخل عليها..."(2). وربما يستفاد من نصوص أخر. وإن كان الأمر أظهر من أن يحتاج لذلك.

(1) ظاهره أن المالية من الأمور الاعتبارية التابعة للجعل والاعتبار ممن بيده ذلك، فتختلف باختلاف من بيده الاعتبار من عرف أو شرع، وأن الشيء قد يكون مالاً عرفاً فيردع الشارع عن ماليته، فلا يكون مالاً شرعاً.

لكنه لا يخلو عن إشكال، بل الظاهر تبعية المالية خارجاً لتنافس عموم الناس - ولو في بعض الأصقاع - في الشيء واهتمامهم بتحصيله، فمعه يكون الشيء مالاً، ولا يمكن سلخ المالية عنه شرعاً، بل ولا عرفاً. وبدونه لا يكون الشيء مالاً، ولا يمكن جعل المالية له شرعاً.

وقد يناسب ذلك ما سبق في حديثي طلحة وعبيد من فرض القيمة للخمر والخنزير، وما ورد من ضمان قاتل الكلب والخنزير(3) ، لأن القيمة والضمان من شؤون المالية.

ودعوي: أن المنظور في قيمة الخمر والخنزير هو الجري علي ما عند غير المتدينين. مدفوعة بأن المالية وإن كانت مسببة عن تنافس غير المتدينين، إلا أنها ليست تابعة لاعتبارهم، بل هي ثابتة بوجه مطلق. ولذا كان ظاهر النصوص إقرار المالية بفرض القيمة والضمان، لا الردع عنها، بحيث يكون ثبوت البدل تعبدياً، لا بعنوان القيمة والضمان.

كما أن الحكم الشرعي قد يكون سبباً في تنافس عموم الناس في الشيء، فيكون مالاً حتي في حق من لا يعترف بالدين منهم، كاستحباب السجود علي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 3 من أبواب المهور حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 3 من أبواب المهور حديث: 1، 2.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 19 باب: 19 من أبواب ديات النفس، وباب: 26 من أبواب موجبات الضمان.

ص: 50

نعم، يستثني من ذلك العصير العنبي إذا غلا قبل ذهاب ثلثيه (1)

---------------

تربة الحسين (عليه السلام)، واتخاذ السبحة منها. وقد يكون سبباً لعدم تنافسهم فيه، فيسقط عن المالية، كتحريم ما يذبح بوجه غير شرعي، حيث قد يوجب عدم تنافس عامة الناس فيه في المجتمع المتدين، بنحو يسقطه عن المالية حتي في حق من لا يعترف بالدين منهم.

ومن هنا لا مجال لدعوي إسقاط مالية هذه الأمور شرعاً، بل غاية الأمر هو الردع عن احترامها وترتيب أحكام المال عليها، فلا يجتزأ بها في مورد يحتاج فيه له.

(1) لما كان الكلام في ذلك مبنياً علي نجاسته وعلي عموم بيع الأعيان النجسة فلابد من فرض الفرق بينه وبين بقية النجاسات. وربما يذكر في وجهه أن المتيقن من دليل حرمة البيع الأعيان النجسة، والعصير المذكور من سنخ المتنجس بسبب الغليان، ويمكن تطهيره بذهاب الثلثين.

وفيه: أن المراد بالأعيان النجسة في عرف الفقهاء والمتشرعة ما تنجس بنفسها، في مقابل المتنجس، وهو الذي تكون نجاسته بملاقاة النجس أو المتنجس ومكتسبة منه. وإلا فلو كان المراد بالأعيان المتنجسة ما تنجس بالذات لا بالعرض لزم خروج الميتة، لظهور استناد نجاستها للموت، الذي هو طارئ علي الجسد. وكذا الخمر، لأن التخمير حالة طارئة علي المايع لا يوجب تبدل ذاته عرفاً، ولذا ذكرنا في محله أن طهارة الخمر بالتخليل تستند للأدلة الخاصة، ولولاها كان مقتضي الاستصحاب النجاسة، لأن التخليل لا يوجب تبدل الذات بالنحو المانع من جريان الاستصحاب.

ومنه يظهر أنه لا مجال لتوهم أن المنع من بيع الأعيان النجسة إنما هو لسقوطها عن المالية بسبب النجاسة، وذلك لا يشمل مثل العصير الذي يطهر بذهاب الثلثين. لاندفاعه بأن ذلك يجري في الخمر، بلحاظ طهارتها بانقلابها خلاً، الذي ذكرنا عدم تبدل الموضوع به.

ص: 51

وبالجملة: لا يتضح الفرق بين العصير والخمر في الحكم المذكور بعد عروض النجاسة لكل منهما وإمكان زوالها عنهما من دون تبدل في الموضوع. ولاسيما بناءً علي أن نجاسة العصير بالغليان لصيرورته مسكراً، أو لتطبيق عنوان الخمر عليه في النص. فراجع ما سبق منّا عند الكلام في حكم العصير العنبي من فروع نجاسة الخمر.

نعم لو كان المنع من بيع النجس مستنداً للإجماع، أمكن دعوي خروج العصير عن المتيقن من معقده، ولاسيما بلحاظ عدم ظهور تصريح منهم بحرمة بيعه إلا من بعض المتأخرين، كصاحب مفتاح الكرامة.

هذا وقد يستدل علي حرمة بيعه بالخصوص مع قطع النظر عن عموم حرمة بيع النجس ببعض النصوص.

الأول: صحيح محمد بن الهيثم عن رجل عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سألته عن العصير يطبخ بالنار حتي يغلي من ساعته أيشربه صاحبه. فقال: إذا تغير عن حاله وغلا فلا خير فيه حتي يذهب ثلثاه ويبقي ثلثه"(1) ، بناءً علي ما هو الظاهر من إرادة تغير حاله بغليانه حين الطبخ بالنار، ليكون مما نحن فيه، لا تغير حاله وغليانه من قبل نفسه بعد طبخه علي النار وتنحيته عنها. ووجه الاستدلال به حينئذٍ أن قوله (عليه السلام): "فلا خير فيه" ظاهر في حرمة بيعه، لأن البيع نحو من الخير. وفيه - مع ضعفه بالإرسال -:

أن نفي الخير فيه ظاهر في حرمة شربه الذي هو مورد السؤال، ولا يعم البيع.

الثاني: حديث أبي بصير: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمراً. قال: إذا بعته قبل أن يكون خمراً وهو حلال فلا بأس"(2).

بدعوي: أنه ظاهر بمقتضي المفهوم في حرمة بيعه بعد حرمته ولو بالغليان. وفيه: أن موضوعه العصير قبل طبخه بالنار، لأن المفروض في السؤال أن الذي يشتريه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 52

إما أن يطبخه أو يجعله خمراً. وحينئذٍ فمقتضي المفهوم فيه التفصيل بين صيرورته خمراً وعدمها، فيحلّ بيعه في الثاني ويحرم في الأول. أما المطبوخ بالنار فهو خارج عن موضوع الشرطية، ويقصر عنه المفهوم والمنطوق معاً. وأما ذكر الغليان في السؤال فمن القريب جداً أن يراد به الغليان من قبل نفسه الملازم للخمرية. ولو احتمل بعيداً عمومه للغليان بالنار، ليشعر باعتقاد السائل حرمة البيع بعده، كفي الجواب في الردع عن ذلك، لجعله المعيار في الحرمة صيرورته خمراً لا غير.

هذا وقد استشكل فيه بعض مشايخنا (قدس سره): تارة: بضعف السند. وأخري: بأنه يتعين حمله علي العصير التمري، إما لأن أبا بصير كوفي، ولم يكن العنب في الكوفة من الكثرة بحيث يباع عصيراً، وإما لظهور الجواب في حله حتي بعد الغليان ما لم يصير خمراً، وذلك لا يتم في العنبي.

لكن يندفع الأول بأنه لا منشأ لاحتمال ضعف سنده إلا بلحاظ اشتماله علي القاسم بن محمد الذي لا نص علي توثيقه، وعلي علي بن أبي حمزة، الظاهر أنه البطائني الكذاب من رؤوس الواقفة. إلا أن الظاهر أن القاسم بن محمد هو الجوهري، وهو من رجال كامل الزيارات، وممن روي عنه ابن أبي عمير وصفوان، وذلك كافٍ في وثاقته، كما ذكرناه في غير مرة.

كما أن علي بن حمزة كان ثقة في أول أمره، كما صرح بذلك الشيخ في العدة، ويناسبه وكالته عن الإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام)، ووقوعه في أسانيد كتاب كامل الزيارات ورواية ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي - الذين لا يروون إلا عن ثقة - عنه، وإنما انقلب بعد ذلك في فتنة الوقف، وقد صرح الشيخ في العدة بأن الأصحاب قد عملوا بما رواه قبل انقلابه، والظاهر أن رواياته المودعة في كتب الأصحاب كلها قبل انقلابه، لما هو المعلوم من مباينة الأصحاب لرؤساء الواقفة ممن ورد فيهم أعظم الطعون من الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم.

اللهم إلا أن يقال: إنما يتجه ذلك فيما إذا كان الراوي عنه من أصحابنا الإمامية

ص: 53

الاثني عشرية، أما حيث كان الراوي عنه محمد بن القاسم الجوهري الواقفي أيضاً، فلا بُعد في أن يروي عنه حال وقفه وبعد انحرافه.

لكن لا يبعد ظهور ما ذكره الشيخ من تجنب الأصحاب لروايات علي بن أبي حمزة بعد انحرافه فيما يعم روايات الواقفة عنه. وذلك يناسب أن يكون تداولهم لمثل هذه الرواية لاطلاعهم علي عدم صدورها عنه إلا حال استقامته. فتأمل جيداً.

كما يندفع الثاني - بعد تسليم أن السؤال عن البيع في الكوفة - بأن الكوفة كانت من أعظم البلاد الزراعية وكثرة العنب فيها قريبة جداً. ولاسيما مع قرب انصراف العصير لعصير العنب، كما ذكرناه في مباحث النجاسات. ولا أقل من جهة تعارف بيعه كما يظهر من النصوص، ولا يعهد بيع عصير التمر، لما في عصره من الكلفة.

وأما ظهور الحديث في حلّ العصير بعد الغليان قبل أن يصير خمراً، ليكون ذلك قرينة علي حمله علي عصير التمر. فهو ممنوع، لما سبق منّا من كون المراد من الغليان هو الغليان من قبل نفسه، الملازم للخمرية.

الثالث: خبر أبي كهمس: "سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) عن العصير، فقال: لي كرم وأنا أعصره كل سنة وأجعله في الدنان وأبيعه قبل أن يغلي. قال: لا بأس به، وإن غلا فلا يحل بيعه، ثم قال:

هو ذا نحن نبيع تمرنا ممن نعلم أنه يصنعه خمراً"(1).

وفيه - مضافاً إلي الإشكال في سنده، لعدم ثبوت وثاقة أبي كهمس -: أنه ظاهر في غليان العصير من قبل نفسه كما هو المنصرف من نسبة الغليان له، وهو الذي يكون من ترك العصير في الدنان، فإن الدن - كما قيل - هو الراقود العظيم الذي لا يثبت حتي يحفر له، ومثل ذلك لا يوضع في النار. وقد عرفت قرب كون غليان العصير من قبل نفسه ملازماً لإسكاره، كما يناسبه الاستشهاد منه (عليه السلام) بأنهم يبيعون تمرهم ممن يصنعه خمراً.

هذا وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من حمل النصوص الثلاثة علي البيع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

ص: 54

بناء علي نجاسته (1)، وكلب الصيد (2) والعبد الكافر (3) وإن كان مرتداً عن فطرة (4)، فإن هذه الأمور تجوز التجارة بها، فضلاً عن غيرها من أنواع

---------------

من دون إعلام بالحال، نظير بيع الدهن النجس من دون إعلام بالحال، وأنها ليست في مقام تحريم البيع ذاتاً نظير بيع الخمر. فهو مخالف لظاهر النصوص جداً، كما يظهر بالتأمل فيها وفيما ذكرنا. والمتعين ما سبق.

(1) أما بناءً علي طهارته فهو خارج عن محل الكلام، ولا منشأ لتوهم حرمة بيعه. إلا أن يتم الاستدلال بالنصوص السابقة، وقد عرفت المنع منه.

(2) سبق منّا بيان وجهه.

(3) بإجماع المسلمين، كما في الجواهر. والظاهر المفروغية من ذلك. ولا ينافيه إطلاقهم عدم جواز التكسب بالأعيان النجسة، لانصرافه لغير الإنسان بسبب المفروغية المذكورة. بل صرح في المبسوط بخروج الإنسان عن ذلك، ويناسبه كثير من عباراتهم، ومن الفروع التي ذكروها مما أشار إليه في الجواهر.

ويظهر من الجواهر خروجه موضوعاً عن العموم المذكور، لأن المراد بالنجس ما لا يقبل التطهير، والكافر يقبل التطهير بالإسلام. لكن عرفت الإشكال في ذلك مما تقدم في العصير العنبي.

فالعمدة في وجهه - بعد عدم ثبوت عموم لفظي مانع من بيع النجس، ومعلومية قصور الإجماع المدعي بسبب المفروغية المذكورة - النصوص الكثيرة الواردة في شراء العبيد والإماء من أهل الذمة ومن أهل الحرب ومن أهل الشرك، ذكرها في الوسائل في الأبواب الثلاث الأولي من أبواب بيع الحيوان، وفي الباب التاسع والستين من أبواب نكاح العبيد والإماء وغيرها. هذا كله بناءً علي ثبوت حرمة بيع النجس، أما بناءً علي عدم ثبوته فالأمر أظهر.

(4) خلافاً لما في الدروس وظاهر محكي التحرير. واستشكل فيه في القواعد

ص: 55

المعاوضة. وفي إلحاق كلب الماشية والزرع بكلب الصيد إشكال، المنع أظهر (1).

(مسألة 2): الأعيان النجسة التي لا يجوز بيعها ولا المعاوضة عليها لا يبعد ثبوت حق الاختصاص لصاحبها فيها (2).

---------------

والتذكرة ومحكي الإيضاح. ولعله لعدم قابليته للتطهير، للبناء علي عدم قبول توبته وعدم ترتب الأثر عليها. أو لسقوطه عن المالية بسبب وجوب قتله.

لكن لم يتضح دخل قابلية التطهير في حلّ البيع، لما سبق من أن جواز بيع الكافر ليس لقابليته للتظهير. علي أن التحقيق قابليته للتطهير بالإسلام وأنه يقبل منه وإن لم يسقط القتل عنه، كما سبق عند الكلام في مطهرية الإسلام من مباحث النجاسات.

كما أن وجوب قتله لا يسقطه عن المالية لو بقي مورداً للانتفاع الذي هو منشأ التنافس فيه، كما لو فرض عدم تيسر تنفيذه، لعدم ثبوته عند الحاكم، أو لفقد القدرة علي التنفيذ، كما في زماننا. مضافاً إلي الإشكال في اعتبار المالية في البيع، كما يأتي في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالي.

(1) تقدم وجهه عند الكلام في حرمة بيع الكلب.

(2) كما في التذكرة واستظهره شيخنا الأعظم (قدس سره). بل لعله في الجملة من المسلمات تبعاً للمرتكزات العقلائية والمتشرعية.

هذا وقد سبق منّا قريباً أن ما دل علي حرمة بيع الأعيان النجسة مطلقاً أو في الجملة لا يقتضي خروجها عن المالية، بل غاية ما يستفاد منه عدم احترام هذه الأموال، بحيث تقابل بالمال، ويجتزأ بها في الموارد التي يحتاج فيها للمال.

وذلك لا ينافي قابليتها للملك، إذ لا منشأ لتوهم فقدها لذلك. بل لا إشكال في قابليتها للملك عرفاً، ولا دليل علي خروج الشارع الأقدس عما عليه العرف في المقام.

ص: 56

وحينئذٍ لا ينبغي الإشكال في بقائها علي ملك مالكها لو كانت مملوكة له بالأصل، كميتة الحيوان المملوك، والعصير الذي يتخمر في ملك صاحبه. إذ لا أقل من استصحاب ملكيته له، بناءً علي ما هو التحقيق من جريانه في أمثال المقام. وكذا الحال في حدوث الملكية لها بحيازة ونحوها، كالخنزير الذي يصاد، والكلب الذي يؤخذ ويؤهل، وما يكون نماء لهما. لعموم ما دلّ علي سببية السبب المملك لها.

وكذا انتقال ملكيتها من صاحبها لغيره بأحد أسباب الانتقال القهرية - كالميراث - والاختيارية كالهبة - التي إليها ترجع الحيازة بعد الإعراض - لعموم سببية السبب المفروض. من دون أن ينافيه ما دل علي حرمة بيعه ومقابلته بالمال والاعتداد به في مورد الحاجة للمال، لقصوره عن مثل ذلك.

وحينئذٍ يتعين احترام ملكية المالك المستفاد من دليل السلطنة علي المال، وعدم جواز التصرف فيه بغير إذن صاحبه، عملاً بعموم دليله، بعد قصور دليل المنع من بيعه عن الردع عن ذلك، لأن المتيقن منه عدم مقابلتها بالمال وعدم الاجتزاء بها في مورد يحتاج للمال، لا عدم احترام ملكية مالكها.

أما بناءً علي ما سبق من سيدنا المصنف (قدس سره) من رجوع عدم جواز بيع هذه الأمور إلي خروجها عن المالية شرعاً فقد يظهر منهم عدم ملكيتها تبعاً لذلك، أو عدم احترام هذه الملكية، ومن ثم يحتاج للكلام في ثبوت حق الاختصاص فيها.

لكن لا مجال للبناء علي عدم ملكيتها بعد عدم التلازم بين المالية والمالكية، حيث لا إشكال في بقاء ملكية المال لو خرج عن المالية، وفي حدوثها فيما ليس مالاً تبعاً للأسباب المعهودة. فمن كان له ماء له مالية بسبب عزة وجود الماء لا يخرج عن ملكه لو صار علي النهر مثلاً، وكذا الحال إذا فسدت الثمار وأخلقت الثياب المملوكة ونحو ذلك.

وكذا لا إشكال في حصول الملكية بعد العدم بأسبابها المعهودة من حيازة أو ميراث أو غيرها لما ليس له مالية، كالماء علي النهر والحشرات والأحجار غير المرغوب

ص: 57

فيها وغيرها.

كما أنه بعد تسليم تحقق الملكية لها يتعين احترام هذه الملكية، لعموم أدلتها المشار إليها آنفاً، والآتي بعضها.

ودعوي: اختصاصها بما له مالية، لأخذ عنوان المال فيها، كقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

"الناس مسلطون علي أموالهم" (1) ، وقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):" فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه"(2) ، وقوله (عليه السلام): "فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه..."(3).

ممنوعة، إما لكون المراد بالمال فيها كل ما يملك، كما فسر بذلك في بعض كلمات اللغويين، أو لإلغاء خصوصية المال عرفاً في موضوع الأحكام المذكورة في تلك الأدلة، لأنها بصدد بيان احترام الملكية والمالك، كما هو المناسب للمرتكزات العقلائية والمتشرعية علي عموم احترام الملكية لما لا مالية له. ولذا لا ريب عندهم في عدم جواز منازعة المالك فيه ومغالبته عليه وسلبه منه.

ولذا لا يظن بأحد البناء علي أن من غصب خمراً من شخص فصيره خلاً يملكه. ويناسب ما ذكرنا من ضمان كلب الغنم والحائط(4). فإن الضمان مناسب لاحترام المال بحيث لا يجوز التعدي عليه ولا إتلافه علي صاحبه، وإلا فمن البعيد جداً جواز إتلافه مع ضمانه.

ومن هنا لا موضوع للكلام في حق الاختصاص. بل هو إنما يتجه فيما لا يملك، كحق التحجير الثابت في الأرض عند الشروع في مقدمات الإحياء قبل أن يتم الإحياء، وحق السبق في الأماكن المشتركة كالمسجد والسوق ونحوهما.

نعم لو فرض ملازمة عدم المالية لعدم الملكية اتجه البناء علي ثبوت حق

********

(1) بحار الأنوار ج: 2 ص: 272.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 1 من أبواب قصاص النفس حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 2 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 6.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 19 باب: 19 من أبواب ديات النفس.

ص: 58

فلو صار خله خمراً، أو دابته ميتة، أو اصطاد كلباً غير كلب الصيد، فلا يجوز أخذ شيء من ذلك قهراً عليه. وكذا الحكم في بقية الموارد. وتجوز المعاوضة علي الحق المذكور (1)، فيبذل له مال في مقابله، ويحل ذلك المال له.

---------------

الاختصاص، تبعاً للمرتكزات العقلائية والمتشرعية المشار إليها آنفاً، حيث لا مجال لغض النظر عنها بعد وضوحها. إلا أن الأمر لا يصل لذلك.

(1) إذ بعد فرض ثبوت الحق تكون صحة المعاوضة عليه مقتضي عمومات نفوذ العقود المتقدمة. لكن استشكل في ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره). وكأنه لأن المستفاد من أدلة تحريم البيع ونحوه إسقاط حرمة هذه الأموال بحيث تكون سبباً في تحصيل المال ولو من غير طريق المعاوضة، وإلا كان المناسب التنبيه لجواز ذلك، لوفائه بسدّ الحاجة للمعاوضة، مع غفلة العرف عنه.

إلا أن ذلك يندفع بعدم وضوح غفلة العرف عنه، فإن ارتكاز حرمة الحق المذكور - كما سبق - يناسب التشبث به عند ظهور ترتب النفع علي الأمور المذكورة وعدم التنازل عنه إلا في مقابل شيء مرغوب فيه. واستفادة حرمة ذلك من دليل حرمة البيع أو المعاوضة تحتاج إلي تكلف لا شاهد عليه.

ولعله إلي هذا يرجع ما حكاه شيخنا الأعظم (قدس سره) عن بعض الأساطين - والظاهر أنه كاشف الغطاء - بعد إثبات حق الاختصاص المذكور من أن دفع الشيء من المال لافتكاكه يشك في دخوله تحت الاكتساب المحظور، فيبقي علي أصالة الجواز.

هذا وأما بناءً علي ما سبق منّا من عدم ثبوت حق الاختصاص في الأمور المذكورة، وأنها مملوكة لمن يتم له سبب ملكيتها، فلابد من دفع المال بإزاء رفع اليد عنها، ليحوزها دافع المال ويتملكها، فليس المال عوضاً عن العين، ولا هبة عوضاً عن هبتها أو معوضة بهبتها، بل هو في مقابل رفع اليد عنها والترخيص في تملكها أو

ص: 59

6 (مسألة 3): الميتة الطاهرة - كميتة السمك والجراد - يجوز بيعها والمعاوضة عليها (1) إذا كانت لها منفعة محللة معتد بها عند العرف، بحيث يصح عندهم بذل المال بأزائها (2).

(مسألة 4): يجوز بيع مالا تحله الحياة من أجزاء الميتة (3) إذا كانت له منفعة محللة معتد بها (4) كما تقدم.

---------------

الانتفاع بها.

نعم يصعب البناء علي جواز ذلك فيما إذا ابتني دفع المال علي الانتفاع بهذه الأعيان بالوجه المحرم، كالخمر للشرب والميتة للأكل، حيث يبعد جداً فتح الشارع الباب لذلك، بحيث يحل المال به. بل يصعب البناء علي جواز التسليط عليها مجاناً للانتفاع بالوجه المذكور. فلاحظ.

(1) تقدم الكلام في ذلك عند الكلام في حرمة بيع الميتة، وتقدم الإشكال في ذلك بعموم بعض النصوص المانعة لها. فراجع.

(2) إما إذا انحصرت منفعتها الظاهرة بالحرام فلا يجوز بيعها لذلك، لا من جهة كونها ميتة. ويأتي تمام الكلام في ذلك في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالي.

(3) لاستثنائها من الميتة بالنصوص وتسالم الأصحاب. وفي جملة من النصوص الحكم عليها بأنها ذكية أو ليست بميتة. وذلك حاكم علي عموم ما تضمن حرمة بيع الميتة. بل قد يقال بقصوره عنها تخصصاً، لانصرافه لما تحله الحياة، لأنه هو الذي يموت، كما ذكرنا ذلك عند الكلام في وجه البناء علي طهارته من هذا الشرح. فراجع.

(4) كأنه لتوقف صيرورتها مالاً علي ذلك، لما أشرنا إليه آنفاً من تبعية مالية الشيء لتنافس عموم الناس فيه واهتمامهم بتحصيله، وذلك لا يكون غالباً إلا لاشتماله علي منفعة معتد بها عندهم، تقتضي اهتمامهم بتحصيله لأجلها. وأما إذا لم

ص: 60

6 يكن له منفعة، أو كان له منفعة لا يعتد بها عموم الناس، فهم لا يتنافسون فيه ولا يبذلون بأزائه المال، ليكون له مالية ويصدق عليه أنه مال.

نعم قد يكون الشيء مالاً ومورداً لتنافس العقلاء من دون أن يكون مورداً للانتفاع كالأشياء الأثرية والطوابع البريدية المستعملة ونحوها مما تعارف في عصورنا الاهتمام باقتنائها. وربما لا يكون نظر سيدنا المصنف (قدس سره) لمثل ذلك. لعدم تعارفه في مستثنيات الميتة، أو يكون مراده من المنفعة ما يعمّ ذلك.

وكيف كان فالمهم بنظره (قدس سره) أن يكون المبيع مالاً، لما يأتي منه (قدس سره) في أول الكلام في شروط العوضين، من التصريح باعتبار المالية فيهما، كما جري علي ذلك غير واحد، بنحو يظهر من بعضهم المفروغية عنه. وقال شيخنا الأعظم (قدس سره): "إن ما تحقق أنه ليس بمال عرفاً فلا إشكال ولا خلاف في عدم جواز وقوعه أحد العوضين".

فلا يصح عندهم بيع ما ليس مالاً ولا جعله ثمناً، سواء كان عدم ماليته لقلته كحبة الحنطة والزبيبة، أم لعدم واجديته لجهة تقتضي التنافس فيه والاهتمام نوعاً بتحصيله، كالحشرات والقشور وغيرهما.

وقد يظهر من بعض كلماتهم أن الوجه في ذلك عدم ملكية ما لا مالية له، ومن الظاهر أن المعاوضة فرع الملكية. لكنه في غاية المنع، كما نبه له غير واحد. كيف ولا إشكال في حرمة غصبه والتصرف فيه بغير إذن من يحصل له سبب ملكه. بل وضوح ذلك قرينة علي أن مرادهم من عدم ملكيته عدم ماليته. وحينئذٍ يتعين النظر في وجه اعتبار المالية في البيع.

إذا عرفت هذا فقد يستدل علي ذلك: تارة: بأن البيع مبادلة مال بمال، كما عرف بذلك في كلام بعض اللغويين. وأخري: بأنه من المعاوضات التي لا تكون إلا في الأموال، لأن المال هو الذي يكون بنظر العرف مورداً للنفع والنقص والتدارك التي تتقوم بها نسبة المعاوضة.

لكن الأول في غاية المنع، فلا يتوقف صدق البيع عرفاً علي المال بالمعني

ص: 61

المذكور، بل يكفي فيه كل ما يكون مورداً للمعاوضة من أجل الاهتمام بتحصيله ولو بلحاظ الأغراض الشخصية والقناعات الفردية، وإن لم يكن مورداً للاهتمام والتنافس النوعي الذي عليه تتوقف المالية.

ولا مجال للخروج عن ذلك بالتعريف المتقدم عن بعض اللغويين مع ما هو المعلوم من عدم ابتناء تعاريف اللغويين علي تحديد المفاهيم أو المصاديق بدقة بنحو تكون جامعة مانعة. ولاسيما مع ما أشرنا إليه في أواخر المسألة الثانية من عدم وضوح كون مرادهم بالمال ما له مالية بالمعني المتقدم.

وكذا الحال في الثاني. إذ لا دليل علي أخذ المالية بالمعني المذكور في المعاوضة، إذ النفع والنقص والتدارك كما تكون بلحاظ المالية تكون بلحاظ الأغراض الشخصية. ولاسيما وأن المعاوضة لم تؤخذ بمعناها الاسمي في البيع ولا في غيره من المعاملات المعاوضية، وإنما استفيدت من الباء الداخلة علي العوض، ولا إشكال في عدم أخذ المال بالمعني المذكور في مدلولها لتكون قيداً في مدخولها.

وبالجملة: لا مجال للبناء علي أخذ المالية في العوضين في مفهوم البيع أو مطلق المعاوضة، بحيث تخرج المعاملة علي ما ليس مالاً عنهما موضوعاً.

علي أنه لو فرض عدم صدق البيع ولا المعاوضة علي المعاملة المذكورة أمكن تصحيحها علي أنها معاملة خاصة تتضمن المبادلة بين أمرين لا مالية لهما أو أحدهما له مالية دون الأخر. ويكفي في صحتها حينئذٍ عمومات النفوذ المتقدمة.

لكن ظاهر جماعة، بل صريح بعضهم المنع من المعاملة المذكورة، بيعاً كانت أو غيره، وفي الجواهر: "بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه" .وكيف كان فقد يظهر منهم الاستدلال عليه بوجهين:

الأول: أنها معاملة سفهية، لأن بذل المال بإزاء ما ليس مالاً تضييع له، فيكون سفهياً بنظر العقلاء.

الثاني: أنه أكل للمال بالباطل، الذي صرح الكتاب المجيد بالمنع عنه.

ص: 62

6 وهما - كما تري - لا ينهضان بالمنع من بيع أو مبادلة ما لا مالية له بما لا مالية له، وإنما يختصان بما إذا كان أحد الطرفين مالاً دون الآخر.

علي أن الأول يندفع: تارة: بأنه يكفي في عدم السفه وجود الغرض الشخصي بتحصيل الشيء، وكما لا يكون بذل المال مجاناً بلحاظ بعض الأغراض الشخصية غير الراجعة للمال سفهياً، كذلك لا يكون دفعه في مقابل ما ليس مالاً من أجل تعلق الغرض الشخصي بتحصيله سفهياً.

وأخري: بأن مجرد كون المعاملة سفهية لا يبطلها ما لم يرجع إلي كون الشخص الموقع لها سفيهاً، بأن يكون قاصراً عن أن يدرك ما يحفظ ماله من التلف والفساد والنقص، أما إذا كان تام الإدراك، إلا أنه أقدم علي معاملة سفهية لا مصحح لها بنظر العقلاء، فإنها لا تبطل.

وأما الثاني فهو مبني علي أن المراد من أكل المال بالباطل المنهي عنه شرعاً هو أكله في مقابل ما ليس مالاً، وهو غير ظاهر. إذ النهي عن ذلك قد ورد في آيتين: الأولي: قوله تعالي: (وَلاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ وَتُدلُوا بِهَا إِلَي الحُكَّامِ لِتَأكُلُوا فَرِيقًا مِن أَموَالِ النَّاسِ بِالإِثمِ وَأَنتُم تَعلَمُونَ)(1). الثانية: قوله تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُم)(2).

والأولي ظاهرة بقرينة الذيل في أن المراد بالباطل هو الأمر المستنكر المستخبث المذموم عليه المقابل للحق. والباء فيها إما للعوض، فتدل علي حرمة أكل المال بإزاء الأمور المستنكرة كالحكم بالجور وإيذاء الناس وإفساد المجتمع. وإما سببية فتدل علي حرمة أكل المال بالأسباب الممقوتة التي يستنكر القيام بها لتحصيل المال، وهو أعم من الأول، لشموله لمثل القمار والسرقة وغيرهما من المستنكرات الشرعية أو العرفية وإن لم تبتن علي المعاوضة.

********

(1) سورة البقرة آية: 188.

(2) سورة النساء آية: 29.

ص: 63

ولعل الثاني هو الأظهر، لأن المنصرف من الباء هي السببية، وتحتاج العوضية إلي قرينة وعناية. ويناسبه ما في غير واحد من النصوص من تفسير الآية الشريفة بالقمار(1) ، وتطبيق الباطل علي الشطرنج(2).

وأما حمل الباطل علي ما لا مالية له. فهو غير ظاهر المأخذ، وإنما هو عرفاً وفي كلمات اللغويين مقابل الحق، كما يشهد به المقابلة بينهما في كثير من الآيات والنصوص(3). ويناسبه النصوص المشار إليها آنفاً، وما تضمن تطبيقه علي سماع الغناء(4) وتطبيقه في الآية الشريفة علي الرشوة وسوقها في مساق الذم والتبكيت بما هو مستنكر ارتكازاً، مع أن المعني المذكور لا منشأ لاستنكاره ارتكازاً، ولو فرض تحريمه كان تعبدياً محضاً.

ومثله في ذلك قوله تعالي: (فَبِظُلمٍ مِن الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمنَا عَلَيهِم طَيِّبَاتٍ أُحِلَّت لَهُم وَبِصَدِّهِم عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا * وَأَخذِهِم الرِّبَا وَقَد نُهُوا عَنهُ وَأَكلِهِم أَموَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَأَعتَدنَا لِلكَافِرِينَ مِنهُم عَذَابًا أَلِيمًا)(5) ، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِن الأَحبَارِ وَالرُّهبَانِ لَيَأكُلُونَ أَموَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ...)(6).

نعم فسر الباطل في كلمات بعض اللغويين بما ذهب خسراً وضياعاً، وهو حينئذٍ من صفات المال، لا أمر آخر سبب لأكله أو عوض عنه، كما هو مقتضي الباء في الآية الشريفة. ومثله ما عن الإمام الرضا (عليه السلام)، حيث قال في بيان علة تحريم الربا: "لأن الإنسان إذا أشتري الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهماً، وثمن الآخر

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99، 102 من أبواب ما يكتسب به.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9.

(5) سورة النساء آية: 160، 161.

(6) سورة التوبة آية: 34.

ص: 64

باطلاً..." (1) فإن الباطل فيه بمعني العدم، لا معني الأمر الذي لا مالية له.

ودعوي: أن الآية الشريفة وإن لم تختص بما نحن فيه، إلا أنها بالمعني المتقدم شاملة له بعمومها، لأن دفع المال في مقابل ما ليس مالاً من الأسباب المستنكرة عند العقلاء. مدفوعة بأنه إن أريد باستنكارهم له استخباثهم له وذمهم عليه ومقتهم لمن يمارسه فهو ممنوع، ولذا سبق أن تحريمه لو فرض تعبدي. وإن أريد باستنكارهم له تجنبهم له بما أنهم مهتمون بالحفاظ علي المال، فهو خارج عن مفاد الآية.

وقد ظهر مما سبق الحال في الآية الثانية، فإنها وإن لم ترد في مقام الذم والتبكيت، إلا أنها تشارك الأولي في بقية الجهات التي تقتضي حملها علي المعني المتقدم، خصوصاً مع بُعد اختلاف المراد من الآيتين الشريفتين بَعد وحدة لسانهما وعدم التنبيه في النصوص المفسرة لها بالقمار علي اختلاف معناهما.

ودعوي: أن استثناء التجارة منها موجب لعموم المنع للمعاوضة علي ما لا مالية له، لخروجه عن التجارة، لابتنائها علي الاسترباح. ممنوعة: أولاً: لما تقدم من عدم وضوح أخذ قصد الاسترباح في التجارة. بل لا إشكال في عموم الجواز لمطلق البيع ولو لإلغاء خصوصية قصد الاسترباح، فيعم ما نحن فيه.

وثانياً: لعدم كون الحصر حقيقياً، بل هو إضافي، إذ لا إشكال في حلّ أكل المال بوجوه آخر غير التجارة، كالهدية والصدقة والإجارة وغيرها مما لا يصدق عليه التجارة قطعاً، وإن أوهمته بعض كلماتهم، ولو دخلت دخل ما نحن فيه أيضاً.

نعم في مجمع البيان عن الحسن أنهم كانوا بعد نزول الآية يتحرجون عن الأكل في بيوت الآخرين حتي نسخت الآية بقوله تعالي: (لَيسَ عَلَي الأَعمَي حَرَجٌ وَلاَ عَلَي الأَعرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَي المَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَي أَنفُسِكُم أَن تَأكُلُوا مِن بُيُوتِكُم أَو بُيُوتِ آبَائِكُم...)(2). ومقتضاه فهمهم الحصر الحقيقي من الآية الشريفة. لكنه من الغرابة بمكان. علي أن ما تضمنه من نسخ الآية كاف في منع الاستدلال بها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب بيع الربا حديث: 11.

(2) سورة النور آية: 61.

ص: 65

وبالجملة: لا مجال للبناء علي استفادة اعتبار المالية في العوضين من النهي عن أكل المال بالباطل في الآيتين الشريفتين، كما لم يتضح وجه اعتبارها من غيرهما وبذلك يتعين البناء علي عدم اعتبارها وجواز المعاوضة علي ما لا مالية له بمثله أو بما له مالية. بل لا مانع من كونها بيعاً.

وأما الإجماع الذي تقدمت دعواه من الجواهر فلم يتضح بنحو معتد به، لقرب ابتناء دعواه علي أحد الوجهين المتقدمين، بلحاظ التسالم في الجملة علي كبراهما مع تخيل تحقق الصغري. وإلا فمن البعيد قيام الإجماع علي الحرمة تعبداً في مثل هذه المسألة التي لم ترد بها نصوص، وليست شايعة الابتلاء، كي يبعد خفاء الحكم فيها بحيث يخطئ من صرح بالحرمة فيها.

هذا كله إذا أريد من اعتبار كون الشيء ذا منفعة معتد بها في مقابل ما لا منفعة له، كما هو المناسب لحال مستثنيات الميتة. أما إذا كان في مقابل كون منفعته المعتد بها محرمة فقد يوجه بأنه إذا كانت منفعة الشيء المعتد بها محرمة فهو وإن كان ذا مالية عرفاً بلحاظ المنفعة المذكورة، إلا أن الشارع قد أسقط ماليته بتحريمه المنفعة المذكورة، فيكون كما لو لم يكن له مالية، لعدم المنفعة المصححة لبذل المال بأزائه.

ويظهر الإشكال في ذلك مما سبق في أواخر المسألة الأولي من أن مالية الشيء تابعة لتنافس عموم الناس فيه، وليست هي أمراً تابعاً للشارع، ومما سبق في هذه المسألة من أن عدم كون الشيء مالاً لا يمنع من بيعه. ومثله الاستدلال بعموم حرمة التسبيب للحرام، وبعموم حرمة الإعانة علي الإثم. لما يأتي في أواخر المسألة السابعة من عدم ثبوت الأول، وفي أوائل المسألة الثامنة من عدم ثبوت الثاني.

ولعل الأولي أن يقال: إن تحريم المنفعة المعتد بها للشيء يصلح عرفاً للردع عن احترامه ومقابلته بالمال، لأن المنفعة المذكورة لما كانت هي المنشأ لمالية الشيء، بنحو يرجع لاحترامه ومقابلته بالمال عرفاً، فتحريمها شرعاً ملازم عرفاً لردع الشارع عن احترامه وعن مقابلته للمال.

ص: 66

وبعبارة أخري: تحريم المنفعة المعتد بها للشيء وإن لم يكن رافعاً لماليته مع بقاء تنافس عموم الناس فيه، إلا أن المستفاد منه عرفاً الردع عن ترتيب آثار المالية عليه، ومنها احترامه وبذل المال بأزائه.

ويعتضد ذلك بالتعليل في نصوص جواز بيع العنب والعصير ممن يتخذهما خمراً بأنه إنما باعه حلالاً في الإبّان الذي يحل شربه وأكله فلا بأس ببيعه(1). لظهوره في أنه لو باعه في حال حرمة شربه وأكله لحرم بيعه، ومقتضي ارتكازية التعليل إلغاء خصوصية الأكل والشرب والتعدي لجميع موارد تحريم المنفعة المعتد بها، بحيث يصح عرفاً نسبة التحريم للعين.

ولو غض النظر عن ذلك كفي في المنع عن بيعه وبذل المال بأزائه عموم النهي عن أكل المال بالباطل بالمعني الذي تقدم حمل الآيتين الشريفتين عليه، لأن المعاوضة علي الحرام أو علي ما يطلب منه الحرام لانحصار منفعته الظاهرة به من المستنكرات ارتكازاً وأكل المال بسببها أكل له بالباطل عرفاً.

بخلاف ما لو كان له مع المنفعة المحرمة منفعة معتد بها محللة أو جهة أخري لا حرمة فيها تقتضي التنافس فيه والاهتمام باقتنائه نظير اقتناء الأشياء الأثرية، فإن الردع عن منفعته المحرمة لا يقتضي الردع عن احترامه بلحاظ المنفعة المحللة أو الجهة الأخري المفروضتين، فتصح المعاوضة عليه وبذل المال بأزائه من أجل ذلك.

وبذلك يظهر أن وجود المنفعة المحللة أو نحوها إنما يعتبر في بيع ما له منفعة محرمة معتد بها، لئلا يتمحض التنافس عليه عرفاً في الحرام، بخلاف ما لم يكن له منفعة محرمة، فإنه لا يعتبر حينئذٍ في بيعه وجود المنفعة المحللة له، بناءً علي ما سبق من عدم اعتبار المالية في المبيع. ويأتي ما يتعلق بالمقام في المسألة الثامنة إن

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 67

(مسألة 5): يجوز الانتفاع بالأعيان النجسة في غير الجهة المحرمة (1).

---------------

شاء الله تعالي.

(1) كما هو ظاهر أو صريح جملة من عبارات الأصحاب، كالشيخ والعلامة والشهيدين وغيرهم، وعن كاشف الغطاء الجزم به. لكن قيل إن المشهور هو حرمة الانتفاع إلا ما استثني، بل ربما ادعي الإجماع علي ذلك، كما يظهر مما عن فخر الدين في شرح الإرشاد والفاضل المقداد، حيث استدلا علي عدم جواز بيع الأعيان النجسة بأنها محرمة الانتفاع، وكل ما كان كذلك لا يجوز بيعه. قالا: "أما الصغري فإجماعية".

واستدل عليه - مضافاً إلي ذلك - بوجوه:

الأول: إطلاق النهي في قوله تعالي: (وَالرُّجزَ فَاهجُر)(1) ، كما يستفاد أيضاً من قوله سبحانه: (إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلاَمُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ)(2) ، لأن تفريع الأمر بالاجتناب علي كونه رجساً ظاهر في سوقه مساق التعليل، وفي عموم الأمر باجتناب الرجس. وحينئذٍ فمقتضي إطلاق النهي عن الشيء تحريم جميع الانتفاعات به.

ويندفع بأن الرجس والرجز ليس بمعني النجس بالمعني الذي هو محل الكلام، بل بمعني الخبيث، ولذا أطلق في الآية المتقدمة وغيرها علي الميسر والأنصاب والأزلام والأوثان والخبث الباطني والمنافقين وغيرها، وإطلاق النهي عنه ينصرف لما يناسب خبثه مما يتعلق به كالشرب للخمر، واللعب بالميسر والعبادة للأوثان والمولاة للمنافقين وغيرها.

كما قد يناسبه قوله تعالي في الآية السابقة: (مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ) حيث لا يبعد عدم كونه قيداً للرجس وارداً مورد التقسيم، بل وصفاً له لبيان حاله، وأنه مما يدعو

********

(1) سورة المدثر آية: 5.

(2) سورة المائدة آية: 90.

ص: 68

له الشيطان، أو خبراً ثانياً لبيان حال هذه الأمور، وأنها مما يدعو لها الشيطان. وعلي كلا الوجهين فالشيطان يدعو لكل رجس بالوجه المناسب لرجسيته، لا بكل ما يتعلق به.

ومثله الاستدلال بإطلاق تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير في مثل قوله تعالي: (حُرِّمَت عَلَيكُم المَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحمُ الخِنزِيرِ...)(1) ، بدعوي: أن مقتضي حذف المتعلق حرمة كل شيء يتعلق بها. فإنه يندفع بأنه محمول علي خصوص الجهة المناسبة، كالأكل والشرب، دون جميع الانتفاعات.

الثاني: قوله (عليه السلام) في رواية تحف العقول: "وكل شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذا كله حلال بيعه وشراؤه وإمساكه واستعماله وهبته وعاريته. وأما وجوه الحرام من البيع والشراء فكل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد، نظير البيع بالربا، أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير، أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحوش والطير أو جلودها، أو الخمر أو شيء من وجوه النجس. فهذا كله حرام ومحرم، لأن ذلك كله منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلب فيه، فجميع تقلبه في ذلك حرام"(2).

ويندفع بأن رواية تحف العقول لا تنهض بالاستدلال، كما تقدم في مسألة حرمة بيع الدم. ولاسيما مع ظهور اضطرابها في المقام، للتدافع بين الفقرتين المذكورتين في صدرها لبيان المعيار في حلّ البيع وحرمته، لظهور الأولي في أن المعيار في حلّ البيع حلّ الانتفاع في جهة من الجهات، وظهور الثانية في أن المعيار تحريم البيع حرمة الانتفاع في جهة من الجهات، والتداخل بينهما ظاهر. كما أن ظهور الفقرة الثانية في ذلك لا يناسب تفريع قوله:" لأن ذلك كله منهي... "عليها، لظهوره في أن المحرم

********

(1) سورة المائدة آية: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 69

جميع وجوه الانتفاع، لا بعضها.

إلا أن يجمع بين الفقرتين الأوليين بالحمل علي ما إذا كان المحلل أو المحرم هو الانتفاع الظاهر من الشيء، بحيث يكون هو المقصود منه عرفاً، ويحمل قوله:" لأن ذلك كله منهي... "علي فرض كون تلك الانتفاعات المفروض تحريمها هي الانتفاعات الظاهرة في تلك الأشياء بنحو التوزيع، ليناسب ما قبله، لا علي الحكم بحرمة جميع الانتفاعات مطلقاً. وحينئذٍ يقصر عن الاستدلال لما نحن فيه من حرمة جميع الانتفاعات مطلقاً. فلاحظ.

الثالث: النصوص الواردة في الميتة كقوله (عليه السلام) في صحيح الكاهلي قي قطع إليات الغنم:" إن في كتاب علي (عليه السلام): أن ما قطع منها ميت لا ينتفع به"(1) ، ومعتبر علي بن المغيرة: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشيء؟ فقال: لا. قلت: بلغنا أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) مرّ بشاة ميتة، فقال: ما كان علي أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا باهابها [بجلدها]..."(2) ، وموثق سماعة:" سألته عن جلود السباع. فقال: إذا رميت وسميت فانتفع بجلده، وأما الميتة فلا"(3) ، وموثقه الآخر: "سألته عن أكل الجبن وتقليد السيف وفيه الكيمخت والغرا، فقال: لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة"(4) ، ورواية الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السلام):" كتبت إليه أساله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها إن ذكي. فكتب: لا ينتفع من الميتة باهاب ولا عصب..."(5) ، بدعوي عدم الفصل بين النجاسات.

وفيه: أولاً: أنه لا يظهر الوجه في الدعوي المذكورة. ولاسيما مع ما يأتي من بعض كلماتهم الظاهرة في خصوصية الميتة بحرمة الانتفاع، ومع ما هو المعلوم من جواز بعض الانتفاعات ببعض النجاسات، كما دلت عليه بعض النصوص، علي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 30 من أبواب الذبائح حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 61 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 34 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4، 5.

(4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 34 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4، 5.

(5) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 7.

ص: 70

ما يأتي.

وثانياً: أن الظاهر أو المتيقن من هذه النصوص حرمة الانتفاع بالميتة علي نحو الانتفاع بالمذكي، لا حرمة جميع وجوه الانتفاع بها، كما يناسبه سوق عدم الانتفاع خبراً ثانياً أو وصفاً في صحيح الكاهلي بنحو التأكيد لا التأسيس، والسؤال عن قضية الشاة التي روي الانتفاع بجلدها في معتبر علي بن المغيرة، والسؤال عن جلود الميتة في رواية الجرجاني، فإن الظاهر منهما التعريض بما ذهب إليه العامة من طهارة جلد الميتة بالدبغ، بنحو يعامل معاملة المذكي، لا جواز الانتفاع به مع نجاسته، كما لا يبعد انصراف موثقي سماعة لذلك، بسبب المقابلة فيهما بين الميت والمذكي.

ولا أقل من لزوم حملها علي ذلك بقرينة النصوص الصريحة أو الظاهرة في جواز الانتفاع بالميتة، كروايتي الصقيل ومعتبر البزنطي وخبر علي بن جعفر المتقدمة عند الكلام في حرمة بيع الميتة.

وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) المتقدم هناك أيضاً: "سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها، أيصلح له بيع جلودها ودبغها ويلبسها؟ قال: لا. وإن لبسها فلا يصلي فيها"(1). فإن الظاهر منه جواز اللبس في غير الصلاة بعد الردع عن اللبس علي أنه مذكي يصلي فيه بسبب الدبغ.

ومعتبر الحسن بن علي:" سألت أبا الحسن (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك إن أهل الجبل تثقل عندهم إليات الغنم فيقطعونها. قال: هي حرام. قلت: فنصطبح بها؟ قال: أما علمت أنه يصيب اليد والثوب، وهو حرام "(2) فإن التنبيه للمحذور المذكور ظاهر في عدم حرمة الاصطباح ذاتاً. ولابد من حمل قوله:" وهو حرام "علي النجاسة، أو الحرمة بالعرض بلحاظ حرمة المساورة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 34 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 30 من أبواب الذبائح حديث: 2.

ص: 71

كما أنه يستفاد جواز الانتفاع ببقية النجاسات مما تضمن جواز الخرز بشعر الخنزير والعمل به(1) ، والاستقاء بحبل منه(2) ، وبالدلو من جلده(3) ، والتسميد بالعذرة(4) ، وما هو المعلوم من النص والفتوي والسيرة من جواز تخليل الخمر(5) ، والانتفاع بالكلب في الصيد والحراسة وبالعبد الكافر بناءً علي نجاسته.

علي أنه لا إشارة في شيء من ذلك لعموم حرمة الانتفاع بالنجس تعبداً والاستثناء منه، حيث لا يناسب ذلك ثبوت العموم المذكورة جداً، ويناسب كون الجهة الداعية للسؤال هو أداء الاستعمال للمساورة المحرمة أو الاستعمال المحرم، كاللبس حال الصلاة، كما يناسبه التنبيه لذلك في جملة من تلك النصوص.

ودعوي: ضعف النصوص المتقدمة في نفسها، أو سقوطها بالهجر، بلحاظ الشهرة والإجماع المدعي ممن تقدم. موهونة جداً، لاعتبار جملة منها. ومطابقتها للفتوي والسيرة، ولتصريح غير واحد من الأصحاب. كالشيخ في المبسوط وجماعة ممن تأخر عنهم، كما ذكر جملة من كلماتهم شيخنا الأعظم (قدس سره). بل قد يترجح من أجل جميع ما سبق تأويل كلام مدعي الإجماع بما لا ينافيه، مثل تحريم الانتفاعات المعتد بها أو نحو ذلك. وإن كانت بعض كلماتهم تأباه.

هذا وبملاحظة ما سبق يعلم بعدم عموم حرمة استعمال النجس. ولا مجال معه للتعويل علي دعوي الإجماع المتقدمة. وحملها - من أجل ما تقدم - علي أن مقتضي الأصل الحرمة ما لم يثبت المخرج عنه، ليس عملاً بها، بل هو تأويل لها، وليس هو بأولي من تأويلها بوجوه أخر أو طرحها بعد عدم إمكان العمل بظاهرها.

مضافاً إلي أنه كيف يوثق بأن العموم بالنحو المذكور هو مذهب قدماء الأصحاب ممن لا تعلم آراؤهم من طريق فتاواهم بل من طريق رواياتهم وسيرة المتشرعة المتصلة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 65 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 3، 16.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 3، 16.

(4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 29 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة.

ص: 72

مثل التسميد بالعذرات (1) والإشعال والطلي (2) بدهن الميتة النجسة،

---------------

بعصورهم، بعد أن كان مقتضي الروايات والسيرة حرمة بعض الانتفاعات وحلّ بعضها، فإنه كما يمكن مع ذلك ذهابهم إلي أن الأصل هو التحريم ما لم يثبت الحلّ، يمكن ذهابهم إلي أن الأصل هو الحلّ ما لم يثبت التحريم. ونسبة الأول لهم من قِبَل مدعي الإجماع تحتاج إلي دليل بعد كونه مخالفاً للأصل، وهو مفقود. ومن الغريب بعد ذلك كله ما يظهر من الجواهر من الإصرار علي عموم حرمة الانتفاع بالنجس. فراجع.

هذا وقد يدعي حرمة الانتفاع بالميتة بالخصوص، وفي الجواهر:" بلا خلاف معتد به أجده فيه "وقد ذكر في السرائر في التعقيب علي معتبر البزنطي المتقدم أنه لا يلتفت إليه، لأنه من نوادر الأخبار، والأدلة بخلافه، فإن الإجماع منعقد علي تحريم الميتة والتصرف فيها بكل حال، إلا أكلها للمضطر غير الباغي والعادي. وقد صرح جماعة كثيرة بحرمة الاستصباح به حتي تحت السماء، بل ربما ادعي الإجماع عليه.

لكن لا مجال للخروج بذلك عما تقدم. ولاسيما مع قرب ابتناء دعوي الإجماع علي عموم حرمة الانتفاع بالنجس الذي عرفت حاله، وعدم الوثوق بإطلاع مدعيه علي مذهب قدماء الأصحاب ممن لا تعرف آراؤهم إلا من طريق رواياتهم بعد ما سبق من الروايات الظاهرة والصريحة في جواز الانتفاع بالميتة. ولعله لذا حكي عن الاردبيلي والخراساني والمجلسي الميل إلي الجواز، أو القول به. فلاحظ.

(1) كما هو المصرح به في خبر وهب عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام):" أنه كان لا يري بأساً أن يطرح في المزارع العذرة"(1). نعم ضعف سنده مانع من التعويل عليه في الخروج عن مقتضي القاعدة لو كان هو التحريم. إلا أن يعتضد بالسيرة. والأمر سهل بعد ما سبق من أن مقتضي القاعدة الجواز.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 29 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

ص: 73

والصبغ بالدم وغير ذلك.

(مسألة 6): يجوز بيع الأرواث الطاهرة (1).

---------------

(2) لا يبعد أن يراد به مثل طلي السفن والجلود، كما تضمنه خبر جابر المروي مسنداً من طرق العامة عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم): "إن الله ورسوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. قيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلي بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس. فقال: لا هو حرام. ثم قال (صلي الله عليه وآله وسلّم): قاتل الله اليهود إن الله تعالي لما حرم عليهم شحومها، حملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنها"(1). ونسبه في التاج للخمسة البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي. وقرينة السياق فيه تشهد بحمل التحريم فيه علي تحريم البيع من أجل الانتفاع بالطلي، لا تحريم نفس الطلي. والأمر سهل بعد ضعفه في نفسه وعدم نهوضه بالاستدلال.

(1) قال في الجواهر:" لم يظهر لنا خلاف في جواز بيعها، بل سيرة المسلمين في الأعصار والأمصار من غير نكير علي ذلك ".وقال شيخنا الأعظم (قدس سره):" وعن الخلاف نفي الخلاف فيه، وحكي أيضاً عن المرتضي (رحمه الله) الإجماع عليه".

لكن في المقنعة:" وبيع العذرة والأبوال كلها حرام، إلا أبوال الإبل خاصة "،ونحوه في المراسم. وقد يستفاد من تعميم الأبوال فيهما للطاهرة - بقرينة استثناء أبوال الإبل - تعميم العذرة للأرواث الطاهرة، فيكون ذلك منهما خلافاً في المقام. وإن كان هو غير خال عن الإشكال بعد قصور العذرة عرفاً عن شمولها.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في حلّ بيع الأرواث الطاهرة لعمومات النفوذ. ولا منشأ لاحتمال التحريم عدا ما قد يقال من ملازمته لتحريم الأكل بضميمة ما دل علي أن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه، أو استفادته من إطلاق تحريم الخبائث، لشموله لمثل بيعها.

********

(1) صحيح البخاري ج: 2 ص: 26، وصحيح مسلم ج: 1 ص: 229.

ص: 74

لكن يشكل الأول بأن ما تضمن ملازمة تحريم الأكل لتحريم البيع ليس هو إلا النبوي، المروي مرسلاً في بعض كتبنا، ومسنداً في جملة من كتب العامة: "إن الله إذا حرم علي قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه"(1). ولو غض النظر عن ضعفه فلا مجال للبناء علي عمومه، إذ لا ريب في جواز بيع كثير مما يحرم أكله، كالإنسان والكثير من الحيوانات والطين. فلابد من حمله علي ما إذا كان الأكل هو المنفعة الظاهرة للشيء، كما يناسبه مورده، وهو تحريم الشحوم علي اليهود.

ومثله ما روي أيضاً مرسلاً في بعض كتبنا ومسنداً في بعض كتب العامة:" إن الله إذا حرم علي قوم شيئاً حرم عليهم ثمنه"(2) ، حيث يتعين حمله علي ذلك، أو علي مطلق ما تكون منفعته الظاهرة محرمة، بحيث ليس له معها منفعة محللة معتد بها. علي أن الحديث المذكور وإن عبر عنه شيخنا الأعظم (قدس سره) بالنبوي المشهور، إلا أنه من القريب كونه محرفاً عن الأول، لأنه هو المشهور في روايات العامة، ولم يذكر الثاني إلا أحمد فيما حكي عن بعض المواضع من مسنده.

نعم قد يستفاد مضمونه مما تقدم في روايتهم عن جابر من قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم): "قاتل الله اليهود، إن الله تعالي لما حرم عليهم شحومها حملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنها" ،حيث يستفاد منه عموم حرمة أكل ثمن المحرمات. إلا أن المتيقن منه تحريم الأكل فيما تختص منفعته المعتد بها بالأكل.

وأما الثاني فيشكل: أولاً: بعدم ثبوت الإطلاق المذكور، حيث لم يرد تحريم الخبائث إلا في قوله تعالي: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوبًا عِندَهُم فِي التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ وَيَنهَاهُم عَن المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُم الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِم الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلاَلَ الَّتِي كَانَت عَلَيهِم)(3) ، وليس

********

(1) سنن البيهقي ج: 2 ص: 103، ومسند أحمد ج: 1 ص: 247، 293، والمستدرك ج: 2 ص: 427، وسنن أبي داود ج: 2 ص: 103.

(2) مسند أحمد ج: 1 ص: 322.

(3) سورة الأعراف آية: 157.

ص: 75

إذا كان لها منفعة معتد بها (1). كما هي كذلك اليوم (2). وكذلك الأبوال الطاهرة (3).

---------------

هو وارداً لبيان تحريم الخبائث، بل للحكاية عن حال النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وبيان صفته، فلا إطلاق له يقتضي تحريم كل شيء يتعلق بالخبائث، بل يمكن اختصاص التحريم منه (صلي الله عليه وآله وسلّم) بالأكل مثلاً.

نعم قد يستفاد العموم المذكور من قوله تعالي: (يَسأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُم قُل أُحِلَّ لَكُم الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمتُم مِن الجَوَارِحِ...)(1) ، لوروده مورد الحصر. اللهم إلا أن يقال: سياق الآية الشريفة ظاهر في السؤال عما يحل أكله لا عما يحلّ بنحو الإطلاق، فغاية ما يستفاد منها حلّ أكل الطيبات وحرمة أكل الخبائث، ولا إطلاق لها يشمل غير الأكل مما يتعلق بالطيبات والخبائث لينفع في ما نحن فيه.

مع أنه لو كان وارداً لبيان حلّ الطيبات بنحو الإطلاق، فمقتضي الحصر فيه كون ماعدا الطيبات لا يحل علي الإطلاق، لا أنه يحرم بنحو الإطلاق، بأن يحرم كل شيء يتعلق به.

وثانياً: بأن الإطلاق المذكور ينصرف إلي تحريم ما يناسب الخبث في كل خبيث، نظير ما تقدم في أوائل المسألة الخامسة عند التعرض لإطلاق الأمر باجتناب الرجس وهجر الرجز، والمناسب في المقام لخبث الأرواث الطاهرة - لو تم - هو أكلها لا بيعها، كما لعله ظاهر. ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من حلّ البيع المستفاد من عمومات النفوذ.

(1) هذا مبني علي ما تقدم منه (قدس سره) في المسألة الرابعة، وتقدم الكلام فيه.

(2) لشيوع الحاجة لها في التسميد والوقود.

(3) كما هو ظاهر المبسوط واللمعة وصريح السرائر و الشرايع والمختلف وجامع المقاصد والروضة وعن المنتهي والتحرير وغيرها. خلافاً لما سبق من المقنعة

********

(1) سورة المائدة آية: 4.

ص: 76

والمراسم من منع بيع بول ما عدا الإبل، وبه صرح في التذكرة والقواعد ومحكي الإرشاد، وقد يستظهر من نهاية الشيخ (قدس سره). وربما استدل عليه بالاستخباث، لمانعيته من البيع بنفسه، أو بتوسط اقتضائه حرمة شربها.

لكن سبق أن الاستخباث - لو تم - لا يقتضي حرمة البيع. كما أن حرمة الشرب - لو تمت من جهة الاستخباث أو غيره - لا تمنع من البيع أيضاً بعد عدم كون الشرب هو المنفعة الظاهرة للأبوال المذكورة، ولذا لا يتعارف جمعها لذلك. ومن ثم يتعين جواز البيع إذا كان لها منفعة محللة معتد بها، بناءً علي ما يظهر منهم من اشتراط جواز البيع بذلك. بل مطلقاً بناءً علي ما سبق منّا في المسألة الرابعة من عدم اشتراطه به.

هذا ويظهر مما سبق منهم خصوصية بول الإبل بالجواز، حيث أجاز بيعه كثير ممن منع من بيع غيره من الأبوال الطاهرة. قال في الجواهر في بيان وجه ذلك: "مدعياً الفرق بينهما بعدم كونه من الخبائث، لأن العرب لا تستخبثه، بل تتداوي به وتشربه عند إعواز الماء وقلته، وهم الفصل بين الطيبات والخبائث، دون سائر الناس، لأنهم المخاطبون بالقرآن والسائلون في قوله: (يَسأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُم قُل أُحِلَّ لَكُم الطَّيِّبَاتُ). ولأنهم أناس لا تغلب عليهم العيافة من التنعم الحاصل في غيرهم" .وظاهر هذا الكلام حمل الطيبات علي ما تقبله النفس في مقابل الخبائث التي تعافها النفس.

لكنه يشكل: أولاً: بأن التقابل بين الطيب والخبيث ليس من تقابل العدم والملكة، بل من تقابل الضدين، فالطيب ما يشتمل علي جهة تقتضي حسنه والرغبة فيه، والخبيث ما فيه جهة تقتضي فساده والنفرة منه، وعلي ذلك ليس كل ما تقبله النفس طيب. وحينئذٍ يتعين حمل الآية علي عدم الحصر، إذ لا إشكال في عدم اختصاص الحلّ بالطيب بالمعني المتقدم، ولازم ذلك عدم ورود الآية لبيان حرمة الخبيث، ليكون مقتضي إطلاقها المقامي التحويل في تشخيص الطيب من الخبيث علي العرف، فضلاً علي خصوص العرب.

ص: 77

وثانياً: أن جعل المعيار في الطيب والخبث علي قبول النفس للشيء وعيافتها له بعيد عن معناهما العرفي، بل الظاهر أن الطيب والخبث منتزعان من خصوصية في الشيء تقتضي بنظر العقلاء ومرتكزاتهم استحسانه والمدح لمرتكبه، أو التنفير منه والذم لمرتكبه. ولاسيما وأن كثيراً من المحرمات - كلحوم جملة من الحيوانات - لا تعافها النفس، وكثيراً ما تعاف النفس الشيء لطعمه أو تفسخه من دون أن يحرم.

وثالثاً: أن مقتضي الإطلاق المقامي للخطاب إيكال تشخيص الطيب والخبيث للعرف العام، ومع اختلافهم يتعين إيكاله لكل مكلف بشخصه، أما إيكاله لخصوص العرب فيحتاج إلي عناية لا قرينة عليها. ولاسيما وأنهم أيضاً يختلفون باختلاف العادات والأحوال. أما مع العلم بعدم اختلاف المكلفين في الحكم تبعاً لاختلافهم في التشخيص فليس حمل الخطاب علي إيكال التشخيص لخصوص فئة معينة بأولي من حمله علي العهد بقرينة خفيت علينا، المستلزم لإجمال الخطاب في حقنا.

هذا وربما يناسب السياق في الآية الشريفة المتقدمة حمل الطيبات علي الحيوانات المذكاة، لأن التذكية جهة من جهات الطيب عرفاً، ويكون العطف في قوله: (وما علمتم من الجوارح) لبيان أن الحيوان المصيد ملحق بالمذكي، فهو من أفراده الخفية التي تحتاج إلي بيان. فلاحظ.

هذا كله مضافاً إلي أمور:

الأول: ما أشار إليه في الجواهر من عدم خصوصية بول الإبل في ذلك، بل يشاركه فيه بقية أبوال ما يؤكل لحمه، خصوصاً الأنعام الثلاثة، حيث لا فرق بينها في عيافة النفس أو عدمها، كما لا يبعد عدم الفرق بينها في استعمالهم لها عند إعواز الماء.

الثاني: أنه لو فرض كون مقتضي إطلاق الآية حلّ شرب بول الإبل، إلا أنه لابد من الخروج عنه بموثق عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام): "سئل عن بول البقر يشربه الرجل ؟ قال: إن كان محتاجاً إليه يتداوي به يشربه. كذلك أبوال الإبل والغنم"(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 59 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 1.

ص: 78

(مسألة 7): الأعيان المتنجسة (1) - كالدبس والعسل والدهن والسكنجبين وغيرها - إذا لاقت النجاسة يجوز بيعها والمعاوضة عليها (2)

---------------

فإن مقتضي مفهوم الشرط فيه عدم جواز شربه من دون حاجة للتداوي.

وأما ما في خبر الجعفري:" سمعت أبا الحسن موسي (عليه السلام) يقول: أبوال الإبل خير من ألبانها، ويجعل الله الشفاء في ألبانها"(1). فلا ينافي ذلك، إذ يمكن حمل الخيرية فيه علي الخيرية من حيثية التداوي، لا بلحاظ حلية الشرب مطلقاً.

الثالث: ما سبق من جواز الشرب لا يستلزم جواز البيع، لعدم كون شرب الأبوال المذكورة من منافعها المقصودة منها، فلو تم اعتبار المنفعة المحللة المعتد بها في صحة البيع لم يصلح جواز شربها لتحليل بيعها. ولعله لذا حكي عن العلامة في النهاية وابن سعيد في النزهة تحريم بيعها.

نعم بناءً علي ما سبق من جواز البيع فيما إذا لم تختص المنفعة المقصودة من الشيء بالمنفعة المحرمة هو جواز بيع بول الإبل وغيرها حتي بناءً علي حرمة شربها اختياراً، لما ذكرناه أخيراً من عدم كون الشرب هو المنفعة المقصودة منها. فلاحظ.

(1) الظاهر - بقرينة الأمثلة التي ذكرها (قدس سره) - أن مراده بها المائعات غير القابلة للتطهير، وهي مورد الكلام الآتي. أما ما يقبل التطهير من الجوامد التي يتنجس ظاهرها فقط أو المائعات التي تتنجس كلها إلا أنها تقبل التطهير - كما قد يدعي في مثل العجين - فالظاهر خروجها عن موضوع كلامهم، حيث لا إشكال في جواز الانتفاع بها بعد التطهير، ومن أجل ذلك لا إشكال عندهم ظاهراً في جواز بيعها. نعم ربما يعمها بعض أدلة المنع، كما يظهر مما يأتي إن شاء الله تعالي.

(2) أما جواز الانتفاع بها في غير ما ثبت حرمته - كالأكل و الشرب - فهو الذي قواه شيخنا الأعظم (قدس سره)، ونسبه لأكثر المتأخرين. لكن صرح في مفتاح الكرامة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 59 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 3.

ص: 79

والجواهر بحرمة الانتفاع بها إلا ما دلّ الدليل علي جوازه، كالاستصباح بالدهن المتنجس، كما يأتي. وقد نسبا ذلك لجماعة من الأصحاب أو لإجماعهم. وإن كانت النسبة مورداً للإشكال لاضطراب عبارات كثير منهم.

وكيف كان فقد يستدل عليه بأمرين:

الأول: إطلاق ما تضمن الأمر باجتناب الرجس وهجر الرجز وحديث تحف العقول. ويندفع بما سبق من عدم نهوضها بإطلاق حرمة الاستعمال في الأعيان النجسة، فضلاً عن المتنجسات.

الثاني: ما دلّ علي إلقاء المرق الذي توجد فيه فارة(1) ، وإلقاء ما حول الفارة من السمن الجامد(2) ، وإهراق الإنائين اللذين تصيب أحدهما نجاسة(3) ، بل كل ماء قليل تصيبه النجاسة(4) ، ونحو ذلك، بدعوي: أنه لو حلّ الانتفاع به بمثل إطعام الأطفال والحيوانات وسقيها أو سقي المزراع لم يكن وجه للأمر بإلقائها وإتلافها.

وفيه: أن المفهوم من ذلك عرفاً عدم الانتفاع بها بالوجه المعدة له بسبب نجاستها، لعدم الاعتداد بالمنافع الأخري، ولأن مشاكل النجاسة وسريانها بالملاقاة توجب الزهد في تلك المنافع. وإلا فمن البعيد جداً جواز الانتفاع بالدهن الذائب في الاستصباح وغيره - كما تضمنته النصوص الآتية - وعدم جوازه بالدهن الجامد القليل الذي يكون حول الفارة. ولا أقل من لزوم الحمل ذلك بقرينة ما تضمن جواز الانتفاع بالأعيان النجسة مما تقدم التعرض له في المسألة الخامسة. بل هو مقتضي السيرة، المطابقة لمرتكزات المتشرعة، لغفلتهم عن المنع جداً.

وأما بيع المتنجس فقد صرح جماعة بحرمة بيع ما لا يقبل التطهير من المايعات، بل مطلقاً مقتصرين في الاستثناء علي بيع الدهن للاستصباح. وربما زاد بعضهم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 5 من أبواب الماء المضاف حديث: 3.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 2، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 2، 4.

ص: 80

الجوامد التي يمكن تطهير ظاهرها، كالذهب والقير.

والوجه في استثناء الدهن المتنجس النصوص كموثق معاوية بن وهب وغيره عن أبي عبدالله (عليه السلام): "في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك ؟ فقال: بعه. وبينه لمن اشتراه ليستصبح به"(1) ، وموثق أبي بصير:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الفارة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه. فقال: إن كان جامداً فتطرحها وما حولها، ويؤكل ما بقي، وإن كان ذائباً فأسرج به، وأعلمهم إذا بعتهم"(2) ، وفي معتبر إسماعيل بن عبد الخالق عنه (عليه السلام): "أما الزيت فلا تبعه إلا لمن تبين له، فيبتاع للسراج، وأما الأكل فلا"(3) ، وفي معتبر الجعفريات عن علي (عليه السلام):" أنه سئل عن الزيت يقع فيه شيء له دم فيموت. قال: الزيت خاصة يبيعه لمن يعمل صابوناً"(4). وقريب منه ما رواه الراوندي(5).

نعم في معتبر الجعفريات الآخر عنه (عليه السلام): "وإن كان شيئاً مات في الأدام، وفيه الدم في العَسل أو في الزيت أو في السمن، فكان جامداً، جنبت ما فوقه وما تحته، ثم يؤكل بقيته. وإن كان ذائباً فلا يؤكل ويستسرج به، ولا يباع"(6). وخبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):" سألته عن حب دهن ماتت فيه فارة. قال: لا تدهن به، ولا تبعه من مسلم "(7) لكن لابد من حملهما بقرينة ما قبلهما علي بيعها لتؤكل من دون تنبيه لنجاستها كبيع الأشياء الطاهرة.

وأما استثناء الجوامد التي يمكن تطهير ظاهرها فقد يستدل عليه بإمكان الانتفاع بها بتطهير ظاهرها. لكنه كما تري! لوضوح أن الانتفاع ليس بظاهرها فقط، بل بها بتمامها، كالطلي بالقير والتحلي بالذهب. وحينئذٍ إذا فرض حرمة الانتفاع بالنجس أو حرمة بيعه تعين حرمة بيع هذه الأمور فقط، أو مع حرمة الانتفاع بها،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 3، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 3، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 3، 5.

(4) مستدرك الوسائل باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 7.

(5) مستدرك الوسائل باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 7.

(6) مستدرك الوسائل باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(7) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

ص: 81

إن كان لها منفعة محللة معتد بها عند العرف (1)، فلو لم يكن لها منفعة كذلك لا يجوز بيعها ولا المعاوضة عليها. والظاهر بقاؤها علي الملكية لمالكها (2). ويجب إعلام المشتري بنجاستها (3).

---------------

لبقاء باطنها علي النجاسة.

هذا وملاحظة كلمات الصحاب هنا تشهد بكونها في غاية الاضطراب. وبما سبق يتضح أن العموم المذكور لا أصل له، وأن المعيار في حرمة البيع كون المنافع الظاهرة المعتد بها محرمة. فلاحظ.

(1) يظهر مما سبق أن ذلك إنما يعتبر فيما له منفعة محرمة معتد بها. أما ما لا منفعة له محرمة ولا محللة معتد بها فلا بأس ببيعه والمعاوضة عليه.

(2) سبق منه (قدس سره) في المسألة الثانية أن الأعيان النجسة يثبت فيها حق الاختصاص دون الملكية. وكأنه يبتني علي ما ذكره في المسألة الأولي من خروجها عن المالية شرعاً. ومن الظاهر أنه لا منشأ لاستفادة خروجها عن المالية إلا حرمة بيعها والمعاوضة عليها وترتيب آثار المال عليها، وذلك كله جار في المتنجس في فرض عدم جواز بيعه. ومن ثم يكون الفرق بينه وبين النجس في الملكية وعدمها محتاجاً للدليل.

اللهم إلا أن يدعي أن المتيقن من الإجماع علي عدم الملكية هو النجس دون المتنجس. لكنه غير ظاهر المنشأ بالنظر إلي كلماتهم وأدلتهم. نعم ذكرنا آنفاً أن حرمة البيع ونحوه للشيء لا يستلزم خروجه عن المالية. كما أن خروج الشيء عن المالية لا تقتضي خروجه عن الملكية. ولا فرق في ذلك بين النجس والمتنجس وغيرهما.

(3) كما صرح به غير واحد، بل لا ينبغي الإشكال فيه بعد اشتمال النصوص المتقدمة عليه. نعم النصوص المتقدمة مختصة بالسمن والزيت. إلا أنه لا ينبغي التأمل في التعدي منهما لكل ما يؤكل ويشرب، لإلغاء خصوصيتهما عرفاً.

وربما يتعدي لكل محرم، كاللبس في الصلاة والمساورة التي قد تنتهي للحرام

ص: 82

ونحوهما. لوجوه:

الأول: أن قوله (عليه السلام): "بعه وبينه لمن اشتراه ليستصبح به" ظاهر في أن الغرض من البيان صيرورة الاستصباح غاية للبيع، ومن الظاهر عدم خصوصية الاستصباح في ذلك، بل يعم كل منفعة محللة، فيدل الحديث علي أنه لابد من انتهاء البيع للمنافع المحللة، دون المحرمة.

لكنه يشكل بما هو المعلوم من أنه لا اهتمام للشارع الأقدس بحصول المنافع المحللة، ولذا لا يجب تحقيقها، وليس جعل الاستصباح غاية إلا بالعرض، والمراد حقيقة تجنب الأكل والشرب أو مطلق الحرام، وحيث كان المتيقن الأولين تعين الاقتصار عليهما.

ويناسب ذلك موثق عبدالله بن بكير: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل أعار رجلاً ثوباً فصلي فيه وهو لا يصلي فيه. قال: لا يعلمه. قلت: فإن أعلمه ؟ قال: يعيد" (1) بناءً علي أن المراد عدم إعلامه حين إعارته، ليناسب ما دل علي صحة صلاة الجاهل بالنجاسة. أما لو حمل علي عدم إعلامه بعد صلاته فيه، فيخرج عما نحن فيه. نعم لا إشكال في أن الثاني هو الأظهر. غايته حمل الأمر بالإعادة علي الاستحباب جمعاً مع ما دل علي صحة صلاة الجاهل بالنجاسة. فالعمدة ما سبق من كون المتيقن من النصوص خصوص الأكل والشرب.

الثاني: حرمة التسبب للحرام. وفيه: أنه لم يثبت عموم حرمة التسبيب للحرام، خصوصاً مع جهل المباشر به. وإنما ثبت في خصوص بعض الموارد، كالإفتاء بخلاف الواقع، وإعانة الظالمين، وسقي الخمر، وغير ذلك من الموارد الخاصة التي دلت عليها الأدلة. وربما كان التحريم في بعضها بملاك آخر غير التسبيب.

نعم يحرم التشجيع علي المعصية في ظرف تنجز التكليف، لأنه يستفاد بالأولوية العرفية مما دل علي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولما فيه من الانتهاك

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 47 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 83

لحرمة الشارع الأقدس.

الثالث: عموم حرمة الإعانة علي الإثم. وفيه: أن العموم المذكور غير ثابت أيضاً، كما يأتي توضيحه في المسألة الثامنة إن شاء الله تعالي.

هذا وقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن وجوب الإعلام لا يختص بالبيع ونحوه من موارد التسبيب، بل يعم غيرها بدعوي: أن مقتضي ارتكازية التعليل حمله علي أن الغرض من الإعلام تجنب أكل النجس من دون خصوصية للبايع والمشتري. وعلي ذلك يجب تنبيه من يقدم علي أكل النجس أو شربه جهلاً وإعلامه بالحال حتي من الأجنبي.

لكنه غير ظاهر، فإن ارتكازية التعليل قد تقتضي التعدي عن البيع لمثل الهبة والإباحة وتقديم الطعام ونحوهما من موارد التسبيب، من دون أن تنهض بإلغاء خصوصية التسبيب رأساً، بحيث يجب علي كل أحد إعلام من يقدم علي أكل النجس أو شربه جهلاً، فإنه لا شاهد علي ذلك بعد كون خصوصية التسبيب مناسبة لوجوب الإعلام ارتكازاً.

بل لا يمكن البناء علي ما ذكره (قدس سره)، ضرورة أن مورد التعليل هو إعلام المشتري، وليس هو مقدماً بالفعل علي أكل النجس، وإنما هو معرض لذلك، فلو بني علي التعدي عن مورد التعليل وإلغاء خصوصية التسبيب لزم البناء علي وجوب إعلام كل من هو معرض لأكل النجس أو شربه لولا الإعلام، كعائلة المشتري وضيوفه لو احتمل تساهله أو نسيانه تجنيبهم الطعام المذكور. وكذا الحال في غير المشتري، فإذا تنجس طعام الشخص أو شرابه وهو جاهل بذلك وجب إعلامه وإعلام عائلته، وإعلام ضيوفه وكل من يدخل داره، وإذا وجد طعام نجس ملقي في الطريق قابل لأن يأكله المارة يجب إتلافه أو تغييبه عنهم أو التصدي لكل من يمرّ وإعلامه بحاله... إلي غير ذلك مما لا يظن بأحد البناء عليه.

ودعوي: أنه لا تسبيب من البايع لأكل النجس مع عدم الإعلام، حيث

ص: 84

يكفي في جواز الإقدام علي أكل السمن ونحوه قاعدة الطهارة بلا حاجة إلي يد البايع وظهور حاله.

مدفوعة بأن مجرد وجود المبرر للإقدام مع قطع النظر عن ظهور حال البايع لا ينافي كون ظهور حال البايع منشأ لتغرير المشتري، بحيث يصدق في حقه التسبيب في الجملة، بنحو لا تمنع ارتكازية التعليل من دخله في الأمر بالإعلام.

والحاصل: أن المتيقن من مفاد النصوص المتقدمة وجوب الإعلام بالنجاسة من قبل البايع ونحوه ممن يبذل الطعام أو الشراب فيما من شأنه أن يؤكل أو يشرب، ولا مجال لتعميمه لغير ذلك.

نعم لا يبعد البناء علي وجوب الإعلام في كل مورد يكون فيه عدم الإعلام غشاً من البايع، لخفاء العيب والاهتمام نوعاً بعدم حصوله في المبيع، بحيث يوجب نقص قيمة المبيع لو ظهر كنجاسة الملابس والأفرشة الجديدة، حيث يعدّ عدم التنبيه في مثل ذلك ممن يدفع الشيء غشاً عرفاً، فيحرم، لعموم حرمة غش المسلم الذي تضافرت به النصوص(1).

وأظهر من ذلك ما إذا كانت النجاسة موجبة لخروج المبيع عما يطلب منه نوعاً، كالنجاسة في المأكول والمشروب والثياب المخصصة للصلاة أو للإحرام أو للتكفين، وكذا مثل كون الثوب المخصص للصلاة أو الإحرام أو التكفين حريراً، فإن حصول الغش بذلك أظهر. ومجرد صحة العمل من الجاهل أو معذوريته فيه لا يخرجه عن الغش، إذ لا ريب في نقص العمل معه.

بل يكفي في صدق الغش بذل المال بالمقدار المناسب لتخيل عدم نجاسة المبيع، فإنه نحو من الضرر لا يقدم عليه المشتري لولا الجهل المفروض. ولعل الأمر بالإعلام في نصوص المقام مبني علي ذلك. وإن لم يكن مناسباً للتعليل بالاستصباح،

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 85

بل المناسب له تجنب الحرام، كما سبق آنفاً.

نعم إذا لم يهتم نوعاً بتجنب الأمر المجهول في المبيع، بحيث لا يوجب نقص قيمته لو علم به، خرج عن كونه عيباً ولم يصدق الغش بعدم بيانه، كنجاسة الملابس والفرش المستعملة ونحو ذلك مما يعدّ عدمه كمالاً في المبيع من دون أن يعدّ وجوده نقصاً فيه.

ثم إن ذلك لا يختص بالبيع، لعموم حرمة الغش لغيره، علي ما يأتي توضيحه في ذيل المسألة السادسة والعشرين إن شاء الله تعالي.

هذا ومقتضي قوله (عليه السلام) في خبر علي بن جعفر: "ولا تبعه من مسلم" بعد حمله علي البيع من غير إعلام هو جواز بيعه من الكافر من دون إعلام. لكن قد يشكل التعويل عليه مع ضعفه في نفسه.

اللهم إلا أن يفهم من النصوص ابتناء وجوب الإعلام علي حرمة الغش، حيث لا يبعد قصوره عن الكافر، إما لقصور العموم عنه، أو لعدم صدق الغش في حقه بعد عدم مانعية النجاسة عنده من الأكل.

نعم قد يتحقق الغش بلحاظ نقص قيمة المبيع بسبب النجاسة، فيحرم بناءً علي عموم حرمة الغش في حق غير المؤمن والمسلم، علي ما يأتي الكلام فيه أيضاً في ذيل المسألة السادسة والعشرين إن شاء الله تعالي.

بقي شيء. وهو أن الظاهر كون وجوب الإعلام بالنجاسة في المقام نفسياً، لا شرطياً راجعاً إلي توقف صحة البيع عليه. لأن المنصرف من الأمر بالشيء في المعاملات وإن كان هو شرطيته فيها، إلا أن المناسبات الارتكازية في المقام تقتضي حمله علي الوجوب النفسي الذي هو مقتضي الأصل الأولي في الأمر، لما هو المرتكز من أن الإعلام إنما يجب رفعاً للغش، أو لتجنب المشتري الوقوع في الحرام، كما يناسبه جعل الاستصباح غاية للإعلام في موثق معاوية بن وهب بالتقريب المتقدم، وكلاهما يناسب الوجوب النفسي لا الشرطي.

ص: 86

ولذا لا يظن بأحد التوقف في التعدي من البيع لكل وجوه دفع الطعام والشراب المتنجس بنحو يوهم طهارتهما كالهبة وتقديمهما للغير عند دعوته للطعام والشراب، ونحو ذلك مما لا يحتمل شرطية الإعلام فيه.

نعم قوله (عليه السلام) في معتبر إسماعيل: "فلا تبعه إلا لمن تبين له، فيبتاع للسراج" ظاهر في لزوم الإعلام قبل البيع، لتكون الغاية من الشراء الإسراج. إلا أن ذلك لا يقتضي شرطية الإعلام في البيع، بحيث لا يصح بدونه. بل غايته وجوبه تكليفاً قبله، الذي هو المناسب لكون المورد من صغريات الغش، الذي لا يتجنب إلا بالإعلام قبل إيقاع المعاملة، أما الإعلام بعد ذلك فهو تدارك للغش الحاصل، وتجنب للاستمرار فيه، لا تجنب له من أول الأمر.

علي أنه لا يبعد حمله علي الوجه المتعارف في الإعلام بحال المبيع الذي تختلف به الرغبات، خصوصاً بملاحظة قوله (عليه السلام) في موثق معاوية: "بينه لمن اشتراه" الظاهر في البيان بعد الشراء، إذ لا يبعد الجمع بينهما بإلغاء خصوصية وقت البيان شرعاً، وأن المهم إعلام المشتري، ليكون علي بصيرة من أمره.

ودعوي: أن مقتضي قوله (عليه السلام): "فيبتاع للسراج" اعتبار كون الغاية من البيع السراج أو غير الحرام، فيكون الإعلام شرطاً في صحة البيع بالعرض، بلحاظ توقف شرط البيع عليه.

مدفوعة بقرب كون التعبير المذكور وارداً مورد المتعارف من ترتب القصد المذكور علي الإعلام، أو من أجل رفع الغش، ليكون الإقدام بلحاظ خصوص بعض المنافع، لا لبيان شرطيته في صحة البيع، وإلا فمن البعيد توقف صحة البيع علي القصد المذكور، بحيث لا يصح لو قصد المشتري المعصية. كيف ويأتي في المسألة الخامسة عشرة إن شاء الله تعالي جواز بيع العنب ممن يصنعه خمراً. ولاسيما بملاحظة ما سبق في موثق معاوية. ومن ثم لا مخرج عما تقتضيه المناسبات الارتكازية من كون

ص: 87

(مسألة 8): تحرم ولا تصح التجارة بما يكون آلة للحرام (1)،

---------------

وجوب الإعلام تكليفياً لا غير. فلاحظ.

(1) بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. كذا في الجواهر. والوجه فيه: أنه أكل للمال بالباطل، كما يظهر مما تقدم في المسألة الرابعة في تقريب مفاد الآيتين الشريفتين، مؤيداً بما يستفاد من رواية تحف العقول(1).

هذا وقد يستدل علي ذلك أيضاً بأن في بيع الأمور المذكورة إعانة علي الإثم. لكنه يندفع بأن الحرام بمقتضي قوله تعالي: (وَتَعَاوَنُوا عَلَي البِرِّ وَالتَّقوَي وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَي الإِثمِ وَالعُدوَانِ)(2) هو التعاون علي الحرام الذي هو عبارة عن الاشتراك فيه، لا الإعانة التي عبارة عن فعل ما يسهل فعل الحرام علي من يقوم به من دون اشتراك فيه، كما نبه له بعض مشايخنا (قدس سره) وسبقه إليه المحقق الإيرواني في حاشيته علي المكاسب.

ولذا كان عموم الآية ارتكازاً آبياً عن التخصيص، مع أنه لا إشكال في جواز الإعانة علي الحرام في كثير من الموارد. فقد ورد في جملة من النصوص جواز بيع العنب ممن يصنعه خمراً وبيع الخشب ممن يصنعه برابط، وأطلقوا جواز بيع ما ينتفع به في الحلال والحرام ولم يخصوه بما إذا لم يعلم بترتب الحرام عليه من المشتري أو غيره، إلي غير ذلك.

وبعبارة أخري: مفاد الآية الشريفة عدم جواز الاشتراك في فعل الحرام، فيكون النهي فيها إرشادياً، لا تعبدياً كما هو الحال في حرمة الإعانة علي الإثم لو قيل بها.

وأما الاستدلال علي عموم حرمة الإعانة علي الإثم بالإجماع، لتكرر الاستدلال بالكبري المذكورة في كلماتهم، بنحو قد يظهر في المفروغية عنها عندهم.

فيندفع بعدم وضوح كونه إجماعاً تعبدياً صالحاً للاستدلال بعد قرب ابتنائه علي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) سورة المائدة آية: 2.

ص: 88

بحيث يكون المقصود منه غالباً الحرام (1)، كالمزامير (2)

---------------

اختلاط الإعانة عليهم بالتعاون. وبعد ما عرفت من جواز الإعانة في بعض الموارد، حيث لا مجال مع ذلك لدعوي الإجماع علي عموم حرمتها، إذ لا معني للإجماع علي العموم مع ثبوت التخصيص، وإنما يمكن ذلك في العموم اللفظي، نظير ما تقدم في حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة.

والحاصل أنه لا مجال للبناء علي عموم حرمة الإعانة علي الإثم، بحيث يكون هو المرجع ما لم يثبت الجواز. غاية الأمر أنه ثبت حرمتها في خصوص بعض الموارد، كالإعانة علي قتل المسلم، وإعانة الظالمين، وغير ذلك مما يقتصر فيه علي مورده من دون أن يتحصل عموم يرجع إليه في المقام.

ومثله الاستدلال في المقام بحرمة التسبيب للحرام، حيث يظهر ضعفه مما سبق في وجوب الإعلام بنجاسة الدهن. وكذا الاستدلال بأن تحريم المنفعة الظاهرة راجع إلي إلغاء مالية الشيء شرعاً. لظهور ضعفه مما تقدم في أواخر المسألة الرابعة. فالعمدة ما عرفت. مضافاً إلي ما يأتي في الأمثلة الآتية في كلامه (قدس سره). فلاحظها.

(1) المدار في الحرمة عدم الاعتداد بالمنافع المحللة، بحيث لا تنسب للشيء عرفاً. ولعل مراده (قدس سره) ذلك.

(2) فقد نصوا بالخصوص علي حرمة بيع آلات اللهو، وفي المستند دعوي الإجماع المحقق عليه. ويقتضيه ما تقدم. مضافاً إلي جملة من النصوص من النهي عن بيع الجارية المغنية، وأن ثمنها سحت، كصحيح إبراهيم بن أبي البلاد: "قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام):" جعلت فداك إن رجلاً من مواليك عنده جوار مغنيات قيمتهن أربعة عشر ألف دينار وقد جعل لك ثلثها. فقال: لا حاجة لي فيها، إن ثمن الكلب والمغنية سحت"(1) ، وخبر محمد عن أبي عبدالله (عليه السلام): "سأله رجل عن بيع الجواري المغنيات. فقال: شراؤهن وبيعهن حرام، وتعليمهن كفر واستماعهن

********

(1) ، (2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 7.

ص: 89

والأصنام والصلبان (1)

---------------

نفاق"(2) ، وغيرهما. فإن حرمة بيع الجارية المغنية مع حلية جملة من منافعها المعتد بها - كالافتراش والخدمة - يقتضي حرمة بيع بقية آلات اللهو المتمحضة عرفاً للمنفعة المحرمة بالأولوية العرفية.

نعم في خبر عبدالله بن الحسن الدنيوري:" قلت لأبي الحسن... جعلت فداك فأشتري المغنية أو الجارية تحسن أن تغني أريد بها الرزق لا سوي ذلك. قال: اشتر وبع"(1). لكنه - مع ضعفه - لا ينهض بالخروج عن تلك النصوص الكثيرة. فلابد من طرحه أو حمله علي ما إذا لم يكن الغناء هو الصفة الظاهرة لها، بحيث يكون هو المنظور في البيع. ولعله يأتي ما ينفع في ذلك في المسألة التاسعة إن شاء الله تعالي.

(1) قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "بلا خلاف ظاهر، بل الظاهر الإجماع عليه" .ويقتضيه - مضافاً إلي ما سبق والي مرتكزات المتشرعة - مرسلة أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): "وأما الميسر فالنرد والشطرنج وكل قمار ميسر. وأما الأنصاب فالأوثان التي كانوا يعبدونها [كانت تعبدها] المشركون. وأما الأزلام فالأقداح [فالقداح] التي كانت تستقسم بها مشركوا العرب [المشركون من العرب] في الجاهلية. كل هذا بيعه وشراه [وشراؤه] والانتفاع بشيء من هذا حرام من الله محرم، وهو رجس من عمل الشيطان"(2). وكذا ما تضمن بيع الخشب ممن يصنعه صلباناً أو صنماً(3) ، الذي يأتي في المسألة الخامسة عشرة إن شاء الله تعالي، حيث يدل بالأولوية العرفية علي حرمة بيع الصليب والصنم.

هذا وقد يستدل عليه بإطلاقات الأوامر باجتناب الرجز والرجس والأوثان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) تفسير القمي ج: 1 ص: 181 طبعة النجف الأشرف، ورواه عنه في الوسائل ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 41 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

ص: 90

والطبول (1) وآلات القمار (2)، كالشطرنج ونحوه.

---------------

كقوله تعالي: (وَالرُّجزَ فَاهجُر)(1) ، وقوله سبحانه: (إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلاَمُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ)(2) ، فإن تفريع اجتنابها علي كونها رجساً ظاهر في الأمر باجتناب كل رجس. وقوله عز وجل: (فَاجتَنِبُوا الرِّجسَ مِن الأَوثَانِ)(3) ، وتقريب الاستدلال بالإطلاقات المذكورة: أن حذف متعلق الاجتناب يقتضي عمومه لكل أمر متعلق بها حتي البيع.

لكن يظهر ضعفه مما تقدم في المسألة الخامسة من انصراف النهي للجهة المناسبة لرجسيته، وهي في المقام أداء مراسيم العبادة بها.

(1) تحريم بيعها يبتني علي كونها من آلات اللهو من دون أن تكون لها منفعة معتد بها غيره. وهو غير ظاهر، لشيوع الانتفاع بها سابقاً في الإعلام و التنبيه للأوقات والحوادث المهمة، كما يشيع استعمالها في زماننا للتهييج وإلفات الأنظار في بعض المناسبات الدينية الحسينية وغيرها. والأمر سهل بعد كون الخلاف صغروياً.

(2) قال شيخنا الأعظم (قدس سره):" بلا خلاف ظاهر "،وفي المستند نفي الخلاف فيه، بل دعوي الإجماع المحقق عليه. ويقتضيه - مضافاً إلي ما تقدم في أصل المسألة، ومرسل أبي الجارود المتقدم في الاستدلال لحرمة بيع هياكل العبادة المبتدعة - صحيح أبي بصير - المروي عن مستطرفات السرائر - عن أبي عبدالله (عليه السلام): قال:

بيع الشطرنج حرام، وأكل ثمنه سحت، واتخاذها كفر..."(4) ، وما في حديث المناهي:" ونهي عن بيع النرد"(5).

وفي صحيح معمر بن خلاد عن أبي الحسن (عليه السلام): "قال: النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة. وكل ما قومر عليه فهو ميسر"(6). وقد يستفاد من

********

(1) سورة المدثر آية: 5.

(2) سورة المائدة آية: 90.

(3) سورة الحج آية: 30.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 103 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 6، 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 103 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 6، 1.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 103 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 6، 1.

ص: 91

والظاهر أن منها صندوق حبس الصوت (1).

---------------

إطلاق التنزيل فيه اشتراكها في حرمة البيع، بل قد يستفاد منه التعدي لجميع أنواع القمار. فتأمل.

نعم لا مجال للاستدلال بإطلاق الأمر باجتناب الرجز والرجس، والميسر، لأنه ظاهر في حرمة اللعب بها لا غير، نظير ما تقدم في الأصنام، والصلبان.

(1) كأنه لاشتهار استعماله في عصره (قدس سره) من أجل استماع الاسطوانات المغذاة بالأغاني التي يحرم استماعها وعدم استعماله في سائر الانتفاعات التي يصلح لها.

لكن في كفاية ذلك في دخوله في العنوان المحرم إشكال، لأنه لا يعد عرفاً لخصوص الحرام، بل الأعم منه ومن الحلال، وإنما يشيع استعماله خارجاً في خصوص ذلك لرغبة عموم الناس عن الانتفاع به في الجهات المحللة، ولو في خصوص بلادنا بسبب عدم تهيؤ الاسطوانات المناسبة لذلك، أو عدم وجود من ينتفع بها، ومثل ذلك لا يوجب سقوط هيئته عن الاحترام، بحيث لا يصح بيعه ولو بلحاظ منفعته المحللة لو تيسر لبعض الأشخاص استغلالها، أو أراد ذلك، لعدم كون أكل المال بإزائه حينئذٍ أكلاً للمال بالباطل. بل يصعب جداً البناء علي عدم احترام هيئته مع ذلك، بحيث يجب إتلافها أو لا تكون مضمونة أو نحو ذلك مما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي في المسألة التاسعة.

نعم لا إشكال في صدق موضوع التحريم علي الاسطوانات المغذاة بالأغاني إذا لم تصلح لأن تمحي منها وتغذي بغيرها، بخلافه ما إذا صلحت لذلك، أو لم تكن مغذاة أصلاً، حيث تكون بحكم الصندوق الذي عرفت الإشكال في دخوله في موضوع التحريم.

كما أنه قد يحرم تكليفاً لبعض العناوين الثانوية، كما إذا كان في التصدي لبيعه ترويج للحرام، أو تشجيع له بأن كان للتصدي لبيعه أو شرائه - خصوصاً من بعض

ص: 92

أما الراديو فليس منها (1)، فيجوز بيعه، كما يجوز أن يستمع منه الأخبار وقراءة القرءان والتعزية ونحوها مما يباح استماعه (2). أما التلفزيون فالمستعمل منه في بلادنا معدود من آلات اللهو المثيرة للشهوات الشيطانية،

---------------

الأشخاص - أثر معتد به في شيوع استعماله في الحرام والجرأة علي ذلك وانتهاك حرمة الشرع الشريف. بل قد يوجب ذلك بطلان البيع، لحرمة تسليم المبيع حينئذٍ المنافية لنفوذ البيع عرفاً. لكن ذلك خارج عن محل الكلام من حرمة بيع الشيء لمجرد انحصار منفعته المعتد بها في الحرام.

(1) لتيسر الانتفاع به في البرامج المحللة وشيوعه وإن فرض كونه أقل من الانتفاع به في البرامج المحرمة، لعدم كون المعيار الغلبة، كما سبق.

نعم سبق في بلادنا أن كان استعماله في الجهات المحللة نادراً، لعدم رغبة المتدينين في اقتنائه واستعماله في الجهات المحللة وإن كان ميسوراً، وإنما يشيع فيمن يقتنيه التسامح والاستعمال في الجهات المحرمة. ولعله لذا سبق منه (قدس سره) المنع من بيعه في الطبعات القديمة من المنهاج.

لكن ذلك لا يكفي في الحرمة، بعد صلوحه للوجهين وإمكان الانتفاع به فيهما، بل فعلية ذلك ممن يقتنيه من المتسامحين. وهو بذلك أظهر من صندوق حبس الصوت الذي قد يكون استعماله في المنافع المحللة غير ميسور. ومع ذلك سبق عدم صدق عنوان الحرام عليه حينئذٍ. نعم قد يشاركه في العنوان الثانوي الذي سبق التعرض له. وهو خارج عن محل الكلام.

(2) لعدم المنشأ لحرمة الانتفاع به الانتفاع المحلل بالذات، بل لا منشأ لذلك في جميع آلات الحرام وفي صندوق حبس الصوت لو كان منها. إلا أن يدخل في العنوان الثانوي الذي سبق التعرض له في حكم الصندوق المذكور، كما قد يكون في بعض الأزمنة

ص: 93

فلا يجوز بيعه، لحرمة منافعه غالباً (1). وأما استعماله والنظر فيه فلا بأس به (2) إذا كان لا يثير شهوة (3)، بل كان فيه فائدة علمية أو ترويح النفس.

---------------

في حق بعض الأشخاص ممن يقتدي بهم، أو يحتج بعض الناس بهم من دون تبصر.

(1) فهو نظير الراديو في العصور السابقة التي كان (قدس سره) قد أفتي بحرمته فيها. لكن سبق أن الغلبة بالنحو المذكور ليست معياراً في الحرمة في المقام. بل لابد من كون الشيء مما تنحصر منفعته بالحرام عرفاً، وهو غير حاصل في التلفزيون في عصره (قدس سره)، فضلاً عن عصورنا، فلا مجال لحرمة بيعه، إلا إذا صادف انطباق العنوان الثانوي المتقدم عليه.

(2) لعين ما تقدم في الراديو. ومجرد حكايته لصورة النساء المتبرجات ليس محذوراً، لأن المحرم هو النظر لهن لا لصورتهن. مع أن حرمة النظر لهن ترتفع بتعمدهن التكشف وكونهن ممن إذا نهين لا ينتهين. ولو فرض حرمة النظر لصورتهن فلا وجه لحرمة بقية منافعه.

(3) لإباء المرتكزات المتشرعية عن جواز النظر المسبب للشهوة، بنحو يصعب البناء علي جوازه جداً. وهذا هو العمدة.

وعن بعض مشايخنا (قدس سره) الاستدلال لحرمة ذلك ونحوه من وجوه التلذذ الجنسي الغريزي بقوله تعالي: (قُل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُّوا مِن أَبصَارِهِم... وَقُل لِلمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِنَّ)(1) بحمل غض النظر في الآيتين الكريمتين علي الإعراض النفسي، نظير قول أهل الاستدلال: ولو غض النظر عن ذلك.

لكنه يندفع بمخالفة المعني المذكور الظاهر في الآيتين الشريفتين جداً، لابتنائه علي نحو من التوسع، وعدم مألوفية مثل هذا الاستعمال في العصور السابقة. ولاسيما وأن المألوف من هذه الاستعمالات في عرف أهل الاستدلال تعدية فعل الغض للنظر

********

(1) سورة النور آية: 29-30.

ص: 94

وإذا اتفق أن صارت فوائده المحللة المذكورة كثيرة الوقوع فلا بأس ببيعه، ويكون كالراديو. وأما آلة تسجيل الصوت فلا بأس ببيعها (1) واستعمالها.

(مسألة 9): كما يحرم بيع الآلات المذكورة يحرم عملها (2)،

---------------

بنفسه، لا للبصر، ولا بتوسط (من) كما في الآيتين الشريفتين وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في حمل الآيتين علي المعني الحقيقي وكونهما أجنبيتين عما نحن فيه.

(1) لشيوع الانتفاع بها في الوجه الحلال. ولا مجال لورود الشبهة السابقة فيها لو تمت في نفسها.

(2) كما عن المقنعة والمنتهي، مدعياً في الثاني الإجماع عليه. وهو ظاهر إذا كان مقدمة لاستعمال العامل لها، بالوجه المحرم، لحرمة مقدمة الحرام غيرياً. ولا أقل من كونها شروعاً في التمرد علي المولي وانتهاك حرمته.

وأما إذا كان مقدمة لاستعمال غيره لها، لكون الغرض بيعها أو هبتها أو إعارتها أو بذلها لمن يريد استعمالها بالوجه المحرم فقد يستدل علي حرمته بكونه إعانة علي الإثم. لكن يظهر مما سبق في المسألة الثامنة ضعفه.

ومثله الاستدلال بأن فيه تشجيعاً علي الحرام وترويجاً له. لعدم أطراده، لتوقف التشجيع علي كون فعل المشجع سبباً في حثّ الفاعل علي الحرام، وتوقف الترويج علي كونه سبباً في زيادة وقوع الحرام والتسامح فيه بوجه معتد به، وذلك غير لازم لصنع الآلات المذكورة، حيث قد تكون شايعة بسبب كثرة المتصدين لصنعها، فلا يكون لصنع بعض الأشخاص لها بعد ذلك أثر في التشجيع علي الحرام، أو زيادته بوجه معتد به.

نعم لا ينبغي التأمل في حرمة صنع الصلبان والأصنام، حيث يستفاد ذلك من دليل حرمة بيع الخشب لصنعها بالأولوية العرفية، نظير ما تقدم في بيعها.

وكذا صنع الشطرنج، لقوله (عليه السلام) في صحيح أبي بصير المتقدم عند الكلام

ص: 95

9 في بيعها: "بيع الشطرنج حرام وأكل ثمنه سحت واتخاذها كفر، واللعب بها شرك، والسلام علي اللاهي بها معصية وكبيرة موبقة... والناظر إليها كالناظر في فرج أمه واللاهي بها والناظر إليها في حال ما يلهي بها والسلام علي اللاهي بها في حالته تلك في الإثم سواء..."(1). حيث يفهم عرفاً حرمة صنعها من التنفير بالنحو المذكور. ولا أقل من كونه عرفاً أشد من النظر إليها. كما أنه قد يتعدي منه لجميع آلات القمار، ولو بضميمة صحيح معمر بن خلاد المتقدم. فراجع.

أما بقية آلات الحرام فينحصر الوجه في حرمة صنعها بالمرتكزات المتشرعية، لما في صنعها وتهيئتها ليؤدي بها الحرام من انتهاك لحرمة الشارع الأقدس بفعل ما يقصد منه معصيته ويعدّ لذلك.

وقد يدل عليه أو يشعر به صحيح الحلبي:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن بيع عصير العنب ممن يجعله حراماً. فقال: لا بأس به، تبيعه حلالاً ليجعله حراماً فأبعده الله وأسحقه"(2) ، وفي معتبر يزيد بن خليفة عنه (عليه السلام): "قال: فإنه يشريه مني عصيراً فيجعله خمراً في قربتي. قال: بعته حلالاً فيجعله حراماً فأبعده الله"(3). فإن جعل موضوع الإبعاد تصييره حراماً قد يظهر في حرمة صنع كل حرام، لا خصوص الخمر، والمناسبة الارتكازية قاضية بعدم الفرق بين حرمة الشرب وحرمة غيره مما يطلب من الشيء، بحيث يعدّ له، حتي تنتسب الحرمة للشيء المصنوع بسبب ذلك. فلاحظ.

وأما إذا ابتني صنعها علي عدم تعريضها للاستعمال بالوجه المحرم، بل لدواع أخر - كالتدرب من أجل إتقان الصنعة، كعلم وفن مجرد لا يراد به الوصول للحرام، أو من أجل عرض نمط حياة شخص خاص أو مجتمع خاص أو نحو ذلك - فلا دليل علي حرمته، لقصور الوجه السابق الذي عرفت قضاء المرتكزات به عن هذه الصورة، لأن انتهاك حرمة الشارع الأقدس بصنعها إنما تكون بلحاظ كونها آلة يعصي بها، ل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 103 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 10.

ص: 96

وأخذ الأجرة عليها (1). بل يجب إعدامها (2)

---------------

بدون ذلك.

كما لا يبعد انصراف النصوص الخاصة التي استفيد منها حرمة صناعة بعضها - كالأصنام والصلبان والشطرنج - إلي تعرض ما يصنع لأن يستعمل فيما وضع له من الوجه المحرم المعهود، فهي محرمة الصنع بما أنها آلة للحرام، لا بذاتها.

نعم إذا لزم من صنعها ترويج الحرام والتشجيع عليه وإعزازه تعين تحريم صنعها، كما لو أريد عرضها في المعارض العامة للدعاية أو لتمجيد من كان يستعملها أو نحو ذلك، حيث لا إشكال - تبعاً للمرتكزات المتشرعية - في حرمة ذلك. بل هو نحو من الاستعمال لها بالوجه المحرم، وإن لم يكن استعمالاً لها فيما وضعت له من وجوه الحرام. فتأمل.

(1) بلا إشكال ظاهر. إذ بناءً علي حرمة عملها - كما تقدم - يكون أكل مقابل الحرام، وهو أكل له بالباطل، كما يظهر مما تقدم في آخر المسألة. بل حتي بناءً علي عدم حرمة عملها، لأن انحصار الفائدة من العمل بالحرام كافٍ في صدق أكل المال بالباطل في مقابله، نظير أكل المال في مقابل الأعيان المحرمة وإن لم يحرم صنعها.

نعم إذا لم يكن عملها مبنياً علي تعرضها لأن يترتب عليها الحرام - كما أشرنا آنفاً - لم يبعد جواز أخذ الأجرة عليها، لعدم صدق أكل المال بالباطل حينئذٍ، بل هو كسائر الأعمال المحللة. فلاحظ.

(2) كما يظهر من غير واحد، قال كاشف الغطاء (قدس سره) في شرحه علي القواعد:" فإنه لا يجوز عمله، ولا استعماله، ولا الانتفاع به، ولا إبقاؤه، ولا الاكتساب به بجميع وجوهه. من غير فرق بين قصد الجهة المحللة وغيرها، ولا بين قصد المادة وقصد الصورة لظاهر الإجماع والأخبار".

لكن الإجماع غير ظاهر، لعدم تحرير المسألة في كلام جماعة، ولقرب ابتناء

ص: 97

9 ذكر بعضهم لذلك علي بعض الوجوه الاجتهادية التي لا تبلغ مرتبة الحجية، لا علي المفروغية عن الحرمة تعبداً، بنحو يعلم منه رأي الإمام (عليه السلام).

وأما النصوص فلم أعثر عاجلاً علي ما يدل علي ذلك صريحاً عدا ما ورد مستفيضاً من تكسير أمير المؤمنين (عليه السلام) للأصنام التي علي ظهر الكعبة الشريفة بأمر النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم). وهو قضية في واقعة قد تبتني علي الإعلان عن إزهاق الباطل - الذي كانت الأصنام شعاراً له - وظهور التوحيد، نظير تكسير النبي إبراهيم (عليه السلام) للأصنام تنبيهاً علي عجزها وعدم أهليتها للعبادة. وكذا محو الصور التي في المسجد الحرام عام الفتح، مع عدم بنائهم علي وجوب إتلاف الصور.

وأما الاستدلال عليه - كما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره - بأن فيه حسماً لمادة الفساد. فهو موقوف علي عموم وجوب حسم مادة الفساد، وهو غير ظاهر، كيف ؟ ولازمه وجوب إتلاف ما يعلم بل يحتمل ترتب الحرام عليه وإن كان صالحاً لغيره، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك.

ومثله دعوي: أن حرمة صنعها وإيجادها يستلزم عرفاً حرمة إبقائها، لعدم خصوصية الإحداث في الجهة الموجبة للتحريم، وهي انتهاك حرمة الشارع الأقدس. وليست هي كحرمة التصوير قائمة - تبعاً لظاهر أدلتها - بنفس العمل من دون أن تستلزم مبغوضية وجود الصورة.

لاندفاعها بأن انتهاك حرمة الشارع الأقدس بصنعها إنما هو بلحاظ إفضائه إلي ترتب الحرام عليها، وذلك إنما يقتضي حرمة تعريضها لترتب الحرام بعد وجودها، لا مبغوضية وجودها من دون ذلك.

ومن هنا كان الظاهر اختصاص وجوب الإتلاف بما إذا كان الشيء شعاراً للباطل بحيث يكون بقاؤه سبباً لترويجه وتقويته وعزته، حيث لا إشكال بمقتضي المرتكزات المتشرعية في وجوب منع ذلك مع الإمكان، كما سبق.

أما في غير ذلك فلا دليل علي وجوب الإتلاف. غاية الأمر حرمة تعريضه

ص: 98

ولو بتغيير هيئتها (1). ويجوز بيع مادتها - من الخشب والنحاس والحديد - بعد تغيير هيئتها (2)، بل قبله (3)، لكن لا يجوز دفعها إلي المشتري إلا مع

---------------

لتستعمل بالوجه المحرم، كما ذكرنا، لعين ما سبق في وجه حرمة صنعها، لأن موضوعه - كما سبق - صنعها مقدمة لتعريضها للاستعمال المحرم، وحرمته إنما تكون لمقدمية الصنع للتعريض المذكور المستلزم حرمة التعريض نفسه. ولذا لا يظن بأحد البناء علي جواز إعادتها أو بذلها لمن يستعملها في الحرام.

نعم لو توقف المنع من تعريضه لأن يترتب عليه الحرام علي إتلافه، لعدم المقدرة علي المنع المذكور مع وجوده لم يبعد وجوب الإتلاف تجنباً للتعريض المذكور. فتأمل.

وبذلك يظهر عدم وجوب الإتلاف في حق الأجنبي الذي لم يصنعها ولم يكن له دخل في تعريضها لأن يترتب عليها الحرام. إلا أن يترتب عليه حكم ثانوي، كالنهي عن المنكر، والجهاد ضد الكفر والضلال، ونحو ذلك مما لا يطرد في جميع ما يترتب عليه الحرام.

هذا وظاهر كلام سيدنا المصنف (قدس سره) أن وجوب الإتلاف لتجنب التعرض للحرام، لا مطلقاً ولو مع المنع من ترتب الحرام عليها، كما يناسبه ما يأتي منه من جواز بيعها وتسليمها للمشتري قبل تغيير صورتها مع الوثوق بمنع المشتري من ترتب الحرام عليها.

(1) لكفاية ذلك في المطلوب، وهو منع ترتب الحرام عليها.

(2) بلا إشكال. لعدم كونه بيعاً للآلة التي يترتب عليها بل للمادة. ومجرد كونها سابقاً بالهيئة الخاصة لا يوجب سقوطها عن المالية، ولا غير ذلك مما قد يساق مانعاً من البيع.

(3) سبق من كاشف الغطاء (قدس سره) أن ظاهر الإجماع والأخبار عموم المنع

ص: 99

لصورتي قصد المادة وقصد الصورة. وهو الذي أستظهره في مفتاح الكرامة.

لكن لا مجال للاستدلال بالإجماع بعد ما سبق، وبعد ما عن موضع من التذكرة من جواز بيعها إذا كان لمكسورها قيمة وباعها صحيحة لتكسر وكان المشتري ممن يوثق بديانته. ووافق عليه في الرياض ومحكي الكفاية والحدائق.

وكيف كان فبيع آلات الحرام: تارة: يبتني علي النظر لموادها من دون نظر لهيئاتها بحيث لو كانت الهيئة علي خلاف ما كان يتوقع حين البيع، أو غيرت قبل التسليم، لم يخرج عن مقتضي المعاملة، نظير بيع الصنم من الخشب بما أنه خشب يراد حرقه أو نشره، وبيع صليب الذهب بما هو ذهب يراد صياغته خلخالاً ونحو ذلك.

وأخري: يبتني علي النظر للهيئة محضاً من دون نظر للمادة، لعدم المالية لمكسورها كالصنم والصليب والمزمار من الزجاج، أو مع النظر للمادة، لكون المكسور ذا قيمة كالأمور المذكورة المتخذة من الذهب أو الأحجار الكريمة التي لها مالية مع تغيير الهيئة.

والصورة الثانية علي وجهين:

الأول: أن يبتني احترام الهيئة علي تعرض المبيع للانتفاع به بالوجه المحرم الذي يُعدّ له بهيئته الخاصة.

الثاني: أن يبتني احترام الهيئة علي أمر آخر، كشراء هذه الأمور بما أنها من الآثار القديمة التي يهتم هذه الأيام باقتنائها، أو بما أن كسرها يوجب نقصان قيمتها، كما في الأحجار الكريمة التي يكون كبرها موجباً لزيادة قيمتها، فالحجر الواحد الذي يزن قيراطين أغلي من حجرين يزن كل واحد منهما قيراطاً، أو لغرض شخصي غير محرم، ككون هيئة الصليب تناسب حاجته في البناء وغير ذلك. فالصور ثلاث.

والمتيقن من دليل المنع من البيع هو الصورة الثانية التي يكون فيها البيع مبنياً علي احترام الهيئة من أجل تعرض المبيع لترتب الحرام المقصود منه نوعاً عليه، حيث لا ريب في كون أكل الثمن في مقابله أكلاً له بالباطل، وفي صدق بيع الشطرنج ونحوه

ص: 100

عليه.

ودعوي: أنه مع فرض مالية المادة بحيث يكون للمكسور قيمة يتعين صحة البيع فيما يقابل المادة، وبطلانه في خصوص ما يقابل الهيئة من الثمن. مدفوعة بالمنع من انحلال المعاملة المذكورة بل ليس في المقام إلا معاملة واحدة تقوم بالمادة ذات الهيئة بنحو تكون الهيئة مقومة للموضوع ومأخوذة فيه. ومجرد كون المادة ذات قيمة لا يوجب مقابلتها بالمال بنفسها في قبال الهيئة، بحيث تنحل المعاملة إلي معاملتين تصح أحداهما وتبطل الأخري.

وأما الصورتان الأخريان، فالظاهر قصور وجه المنع عنهما، حيث لا إشكال في عدم صدق أكل المال بالباطل بعد عدم النظر للهيئة التي يؤدي بها الحرام في الأولي وكون النظر لها في الثالثة من أجل أمر غير الحرام.

كما أن النصوص الخاصة تنصرف عن هاتين الصورتين. فإن المنصرف من النهي عن بيع الشطرنج بيعه بما هو آلة يؤدي بها الحرام المعهود، حسماً لمادة الفساد، ولا يتناول الصورتين المذكورتين اللتين تشتركان في عدم الاهتمام بحفظ الصورة في طريق أداء الحرام.

وقد يناسب ذلك ما ورد من حرمة بيع الجارية المغنية(1) ، حيث يصعب البناء علي بيعها مطلقاً ولو بلحاظ بقية منافعها المهمة من دون نظر لمنفعة الغناء، إذ لا إشكال في عدم خروجها عن كونها مالاً يمكن الانتفاع به في وجوه الحلال من الاستمتاع والاستخدام ونحوهما، فكيف يمكن البناء علي حرمة بيعها بلحاظ المنافع المذكورة ؟! فلابد من تنزيل النهي عن بيعها علي البيع المنظور فيه صفة الغناء مقدمة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 101

الوثوق بأن المشتري يغيرها أو يمنعها من أن يترتب عليها الفساد (1)، أما مع عدم الوثوق بذلك فالظاهر جواز البيع (2)، وإن أثم بترك التغيير (3) مع انحصار الفائدة في الحرام، أما إذا كانت لها فائدة ولو قليلة لم يجب تغييرها (4).

(مسألة 10): تحرم (5) ولا تصح المعاملة بالدراهم الخارجة عن السكة (6)

---------------

للانتفاع بها فيه بحيث يقتضي حفظ الصفة وزيادة الثمن من أجلها، نظير ما ذكرناه في المقام. فلاحظ.

(1) حيث لا دليل علي حرمة دفعها للمشتري حينئذٍ بعد ما سبق من عدم وجوب إتلافها ولو بتغيير صورتها مع الأمن من ترتب الحرام عليها.

(2) يعني: المبني علي ملاحظة المادة لا غير، والذي سبق انصراف أدلة المنع عنه.

(3) لما سبق عند الكلام في عدم وجوب إعدام صورها من قضاء المناسبات الارتكازية بحرمة تعريضها لتستعمل بالوجه المحرم، ولذا لا يظن بأحد جواز إعارتها أو بذلها لمن يتوقع منه استعمالها في الحرام.

(4) يعني: فيجوز دفعها للمشتري وإن احتمل استعماله لها بالوجه المحرم. لكن هذا إنما يتم فيما إذا كانت الفائدة المذكورة من فوائدها المنسوبة لها عرفاً، بلحاظ كونها مطلوبة منها نوعاً، حيث تخرج حينئذٍ عن كونها من آلات الحرام، وتكون مما يصلح للوجهين، فيصح صنعها حينئذٍ وبيعها بلحاظ هيئاتها.

أما إذا لم تكن الفوائد القليلة كذلك، بل كانت فوائد شخصية، فوجودها لا يكفي في جواز تسليم الآلات المذكورة وبذلها مع كونها من آلات الحرام المعدة له والمختصة به عرفاً، لكونها عنواناً للجريمة حينئذٍ فبذلها كصنعها مع تعرضها للحرام مظهر لانتهاك حرمة المولي. فلاحظ.

(5) يعني تكليفاً، لما يأتي في المسألة السادسة والعشرين من حرمة الغش

ص: 102

المعمولة لأجل غش الناس (1)، فلا يجوز جعلها عوضاً أو معوضاً عنه في المعاملة (2) مع جهل من تدفع إليه. أما مع علمه ففيه إشكال، والأظهر الجواز (3).

---------------

عموماً.

(6) كما صرح به غير واحد، والوجه فيه: أن عنوان الدرهم متقوم بكونه مسكوكاً للمعاملة من قبل من له ذلك، فمع عدم كونه كذلك يخرج عن كونه درهماً وإن كان له مالية، فإذا كان موضوع المعاملة ثمناً أو مثمناً هو الدرهم لزم تخلف الموضوع فتبطل، كما لو باعه الشيء علي أنه بقرة فبان حماراً. وكذا الحال في الدينار. وليس عنوان الدرهم والدينار صفة كمالية في الموضوع - كبياض الثوب وصفاء الزجاج - ليلزم بتخلفه مع الجهل الخيار من دون أن تبطل المعاملة لحفظ موضوعها وسلامة ركنها.

نعم إذا لم يكن عنوان الدرهم أو الدينار ركناً في المعاملة، بل جهة كمالية في الموضوع لم تبطل المعاملة بل يثبت الخيار لا غير، كالليرات الذهبية اليوم حيث لا تباع بما أنها دنانير يتعامل بها، بل بما أنها ذهب مسكوك للزينة أو الادخار أو نحوهما، وكونها ليرات أصلية جهة كمال لا تتقوم بها المعاملة، فمع ظهور عدم كونها أصلية - حيث شاع هذه الأيام سك الذهب بصورتها - لا تبطل المعاملة، لعدم تخلف ركنها. وإنما تبطل المعاملة إذا لم تكن من الذهب، لكون الذهب مقوماً لموضوع المعاملة وركناً فيها حينئذٍ.

(1) لا حاجة للتقييد، فإن المعيار فيما سبق علي الغش في البيع بها وإن لم تكن معمولة للغش لتعارف استعمالها لأمر آخر غير التعامل، كالتزيين.

(2) يعني مع كون موضوع المعاملة شخصياً. أما لو كان كلياً ودفعت بدلاً عنه ووفاء به فلا مجال لبطلان المعاملة ولا لحرمتها. غاية الأمر عدم براءة الذمة بدفعها بدلاً عن الكلي المستحق بالمعاملة، بل يجب تبديلها. والظاهر خروجه عن موضوع

ص: 103

كلامه (قدس سره).

(3) لعدم الغش فلا تحرم تكليفاً، ولأنه بعد العلم بالحال لا تكون الدرهمية والسك للمعاملة مقومة للموضوع، لتبطل المعاملة بتخلفها.

نعم في معتبر المفضل بن عمر: "كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فألقي بين يديه دراهم، فألقي إلي درهماً منها. فقال: ايش هذا؟ فقلت: ستوق. فقال: وما الستوق ؟ فقال: طبقتين فضة وطبقة من نحاس وطبقة من فضة. فقال: اكسرها، فإنه لا يحل بيع هذا ولا إنفاقه" (1) وفي خبر موسي بن بكر: "كنا عند أبي الحسن (عليه السلام) وإذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر إلي دينار فأخذه بيده ثم قطعه بنصفين. ثم قال لي: ألقه في البالوعة حتي لا يباع شيء فيه غش"(2). ويظهر منهما خصوصاً الأول وجوب إتلافه وحرمة التعامل به مطلقاً ولو مع الإعلام.

لكن في معتبر علي بن رئاب: قال: لا أعلمه إلا عن محمد بن مسلم:" قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): الرجل يعمل الدراهم يحمل عليها النحاس أو غيره، ثم يبعها. قال: إذا بيّن ذلك [الناس] فلا بأس"(3) ، وفي صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): اشتري الشيء بالدراهم فأعطي الناقص الحبة أو الحبتين. قال: لا حتي تبينه..."(4). وهما صريحان في جواز البيع مع الإعلام المانع من صدق الغش.

وربما تحمل الروايتان الأوليان لاجلهما علي صورة عدم الإعلام التي يتحقق معها الغش. لكنه بعيد، لعدم تضمنها حرمة التعامل بالدراهم المذكورة ابتداء، ليحمل علي صورة عدم الإعلام، وإنما تضمنا إتلاف النقد منعاً للتعامل به، وهو لا يناسب جواز التعامل به مع الإعلام.

ومن ثم فقد يحمل الخبران الأولان علي استحباب الكسر أو الإتلاف منعاً للتعامل بهما، مع كراهة التعامل حذراً من تعامل من يأخذهما بهما بوجه الغش. كم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب الصرف حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب الصرف حديث: 2، 7.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب الصرف حديث: 2، 7.

ص: 104

بل الظاهر جواز دفع الظالم بها من دون إعلامه بأنها مغشوشة (1). وفي وجوب كسرها إشكال، وإلا ظهر عدمه (2).

(مسألة 11): يجوز بيع السباع (3)، كالهر والأسد والذئب إذا كانت

---------------

يمكن حمل الثاني منهما علي ما إذا انحصر الانتفاع بالنقد بوجه الغش، لعدم المالية له في نفسه، فلا يقبل به مع العلم بحاله، نظير النقود الورقية المزورة. فإنه هو المناسب لمورد الخبر المذكور، حيث لا وجه لإلقائه في البالوعة لو كان له مالية في نفسه لولا الغش.

ولا يبعد حينئذٍ حرمة بيعه والتعامل به مطلقاً حتي مع الإعلام، حيث لا يطلب إلا للحرام، فيكون أكل المال في مقابله أكلاً بالباطل، نظير آلات الحرام. ومن ثم لا يتوقف البناء علي حرمته علي حجية الحديث، ليشكل بضعف سنده.

نعم مع الوثوق بعدم ترتب الحرام عليه يجوز التعامل به مع الإعلام، نظير ما تقدم في آلات الحرام. وكذا إذا تعارف دفع الظالم به، بحيث كان من جهات الانتفاع به المعتد بها، لخروجه بذلك عن كونه مما يختص الانتفاع به في الحرام، بناءً علي ما يأتي من جواز ذلك.

(1) لأن دفعه بها لا يرجع إلي أكل المال في مقابلها، ليكون من أكل المال بالباطل ويدخل في الأدلة المتقدمة. كما لا دليل علي حرمة غشه تكليفاً في مثل ذلك بعد أن لم يكن مستحقاً لأخذ المال. لابتناء حرمة الغش علي حرمة الطرف المغشوش، بحيث يستحق مالا غش فيه، ولا تشمل الظالم غير المستحق لما يأخذه، كما لعله ظاهر. غاية الأمر أنه إذا أخذ الدراهم المذكورة فقد يدفعها للغير عن جهل بحالها أو عن عمد، ولا دليل علي وجوب منع ذلك، بحيث يحرم دفع المال له احتياطاً له، لما سبق في المسألة التاسعة من عدم عموم وجوب حسم مادة الفساد.

(2) كما يناسبه ما تضمن جواز التعامل بها مما تقدم وبه يخرج عن الأمر بكسرها في معتبر المفضل المتقدم. ولو فرض استحكام التعارض بينهما كفي أصل البراءة من

ص: 105

وجوب الكسر.

(3) اختلفت كلماتهم في المقام، فمنهم من منع بيعها مطلقاً، ومنهم من اقتصر علي استثناء الفهود خاصة، ومنهم من أطلق استثناء الجوارح، ومنهم من جعل المدار في الحل والحرمة علي الانتفاع بها وعدمه. ولعله عليه يبتني كلام الأولين، لدعوي أن المنافع الثابتة لها غير معتد بها مطلقاً، أو مع استثناء الفهود أو جميع الجوارح كالبزاة والصقور، لصلوحها للصيد، الذي هو من المنافع المعتد بها. كما ربما يبتني عليه ما ذكره بعضهم من جواز بيعها مطلقاً، للانتفاع بها ولو بمثل جلدها وريشها. ولعل المتيقن منهم عدم جواز البيع مع عدم المنفعة المعهودة في الحيوان من أكل، أو استغلال بمثل الحمل أو حرث الأرض أو نحوهما.

وكأن ذلك يبتني أولاً: علي توقف المالية علي وجود المنفعة بالنحو المذكور.

وثانياً: علي اعتبار المالية في المبيع أو العوضين. وقد سبق في المسألة الرابعة المنع من الأول، وأن مالية الشيء منوطة بتنافس العقلاء عليه، وهو لا يتوقف علي الانتفاع بالنحو المذكور، فقد يتنافس العقلاء علي الشيء لمحض تعارف اقتنائه، كالطوابع البريدية المستعملة والأشياء الأثرية. ومنه في الحيوانات ما تعارف في عصورنا من جمعها في معارض عامة تعرف بحدائق الحيوانات من أجل عرضها للمشاهدين، أو خاصة في بيوت المترفين للترفيه بالنظر إليها. كما قد يتنافس فيها من أجل اقتنائها للإطلاع علي خواصها والتعرف علي طبائعها، أو إجراء التجارب عليها إلي غير ذلك مما ليس من سنخ الانتفاع المعهود بالحيوان الذي هو مورد كلامهم.

وأما الثاني فقد سبق في المسألة المذكورة الاستدلال عليه بأن المالية في العوضين مقومة لمفهوم البيع، وبأن المعاملة علي ما لا مالية له سفهية، وبأن أكل المال في مقابله أكل للمال بالباطل. كما سبق منع الوجوه المذكورة بما يغني عن الإعادة. فراجع.

علي أنه قد تضمنت جملة من النصوص جواز بيع السباع وجلودها، كقوله (عليه السلام)

-

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3.

ص: 106

لها منفعة معتد بها (1). وكذا يجوز بيع الحشرات (2) والمسوخات (3) إذا كانت كذلك، كالعلق الذي يمص الدم ودود القز ونحل العسل والفيل.

---------------

في معتبر محمد بن مسلم وعبد الرحمن:" ولا بأس بثمن الهر"(1) ، وصحيح العيص: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الفهود وسباع الطير هل يلتمس التجارة فيها؟ قال: نعم" (1)، وصحيح علي بن جعفر عن أخيه: "سألته عن جلود السباع وبيعها وركوبها أيصلح ذلك ؟ قال:

لا بأس ما لم يسجد عليها" (2) . وفي معتبر أبي مخلد السراج عن أبي عبدالله (عليه السلام):" فقال: أحدهما: إني رجل سراج أبيع جلود النمر فقال: مدبوغة هي ؟ قال: نعم. قال: ليس به بأس"(3).

نعم عُدّ في معتبر الجعفريات من السحت ثمن جلود السباع(4) ، ونحوه مرسل دعائم الإسلام(5). مؤيداً بما في خبر تحف العقول قال: "وأما وجوه الحرام من البيع والشراء فكل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد، نظير البيع بالربا، أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحوش والطير أو جلودها..."(6). لكن لابد من الخروج عنها بما تقدم، ولو بحملها علي الكراهة جمعاً.

(1) مما تقدم يظهر عدم الحاجة لهذا الشرط. نعم لابد من عدم كون المنفعة الظاهرة لها هي المنفعة المحرمة، كما يظهر مما تقدم في المسألة الرابعة.

(2) خلافاً لما صرح به جماعة كثيرة. ويظهر الحال فيها مما سبق في السباع. إل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 38 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(4) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 53 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(5) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 31 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 107

أما إذا لم تكن لها منفعة كذلك فلا يجوز بيعها ولا يصح (1).

(مسألة 12): المراد بالمنفعة المحللة المجوزة للبيع (2) الفائدة المحللة المحتاج إليها حاجة كثيرة غالباً الباعثة علي تنافس العقلاء علي اقتناء العين، سواءً أكانت الحاجة إليها في حال الاختيار أم في حال الاضطرار، كالأدوية والعقاقير المحتاج إليها للتداوي مع كثرة المرض الموجب لذلك.

---------------

أنه ليس فيها نصوص خاصة.

(3) الكلام فيها وفي جميع ما يحرم أكله هو الكلام في السباع. مضافاً إلي خصوص ما ورد في بيع عظام الفيل والانتفاع بها، كمعتبر عبد الحميد:" سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن عظام الفيل يحل بيعه أو شراؤه، الذي يجعل منه الأمشاط؟ فقال: لا بأس. قد كان لي منه مشط أو أمشاط"(1) ، وغيره.

نعم عدّ في معتبر الجعفريات المتقدم(2) من السحت ثمن القرد، وفي خبر مسمع عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) نهي عن القرد أن يشتري وأن يباع"(3). ولا يبعد البناء علي ما تضمنه، لعدم وضوح ما يخرج عنه ويلزم بحمله علي الكراهة. ومجرد اشتمال معتبر الجعفريات علي مثل ثمن جلود السباع مما يتعين حمله علي الكراهة لا يكفي في ذلك. كما لعله ظاهر.

(1) الظاهر أن العطف تفسيري، وأن المراد بعدم الجواز الحرمة الوضعية لا التكليفية، إذ لا منشأ للحرمة التكليفية. بل مما سبق يظهر عدم الوجه للحرمة الوضعية أيضاً.

(2) لما كان اعتبار المنفعة المحللة عندهم من أجل صيرورة الشيء مالاً، وكانت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

ص: 108

(مسألة 13): المشهور المنع عن بيع أواني الذهب والفضة للتزيين أ و لمجرد الاقتناء. والأقوي الجواز (1).

(مسألة 14): يحرم ولا يصح بيع المصحف الشريف علي الكافر (2)

--

المالية بتنافس العقلاء بحيث يبذلون في مقابله المال، فجعل المعيار علي التنافس أولي، لأنه أيسر إدراكاً من تحديد مقدار المنفعة.

بل سبق أن التنافس والمالية لا يتوقفان علي كون الشيء ذا منفعة وفائدة، بل يكفي تحقق الغرض النوعي باقتنائه ولو من أجل تعارف ذلك. نعم لا يكفي في المالية اهتمام شخص أو أشخاص قليلين باقتنائه لأغراض شخصية لا تقتضي تنافس عموم العقلاء فيه.

(1) تقدم الكلام في ذلك منه (قدس سره) ومنّا مفصلاً في خاتمة كتاب الطهارة. وعمدة الوجه في ذلك: أن بيعها إنما يحرم مع انحصار الفائدة فيها في الحرام، وذلك إنما يتم بالبناء علي حرمة التزيين بها واقتنائها، ولا دليل علي ذلك، لظهور النصوص في حرمة استعمالها بالوجه الذي تعد له الآنية، والتزيين ليس من ذلك، فضلاً عن مطلق الاقتناء.

ومن ثم يتعين البناء علي حليتهما، وحلية صنع الآنية وبيعها من أجلهما، لعدم انحصار الفائدة فيها في الحرام إذا تعارف الاهتمام باقتنائها أو التزيين بها. فراجع.

(2) كما في التذكرة والقواعد والدروس وظاهر الشرايع والمسالك وعن غيرها، ويأتي من المبسوط في المشرك. وربما ينسب لكل من أطلق المنع من بيع المصحف الشريف. لكنه يشكل بأن الظاهر ممن أطلق المنع من بيع المصحف الشريف حرمة خصوص البيع بعنوانه، دون أصل تملكه، بل لا ريب في جواز تملك المسلم له بصنعه في ملكه، أو بنقله لملكه من غيره بوجه آخر غير البيع من هدية أو غيرها. أما من منع بيعه علي الكافر فظاهرهم - تبعاً لاستدلالهم - المنع من تملكه له من دون

ص: 109

خصوصية للبيع.

وكيف كان فقد يستدل لهم بوجوه:

الأول: فحوي ما دلّ علي عدم تملك الكافر للمسلم، لأن المصحف أشد حرمة من المسلم.

ويشكل - بعد تسليم عدم تملك الكافر المسلم - بأن تملك الإنسان الذي هو حرّ بطبعه يبتني علي إذلاله وتوهينه، بخلاف تملك الجمادات التي منها المصحف الشريف، فإنها لا تبتني علي ذلك، لأنها من شأنها التبعية للإنسان، بل اهتمام الإنسان بتملكها وتحصيلها موجب لنحوٍ من العزةّ لها والاحترام.

الثاني: النبوي: "الإسلام يعلو ولا يعلي عليه"(1). وفيه - مع ضعف النبوي المذكور، لعدم ثبوت روايته مسنداً من طرقنا -: أن ملك الكافر المصحف لا ينافي علوّ الإسلام، بل قد يناسبه، بلحاظ ابتناء تملكه غالباً علي الاهتمام به واحترامه، وظهور حجة الإسلام عليه به.

الثالث: أن تملكه له مستلزم لتنجسه، للعلم العادي بمسه له برطوبة. وفيه - بعد تسليم نجاسة الكافر -: أنه لا يظن بذلك، فضلاً عن أن يعلم به. نعم لا ريب في أنه كثيراً ما يكون معرضاً لذلك، وهو حاصل في بيعه علي المسلم أيضاً، خصوصاً إذا لم يكن متحرزاً عن النجاسات.

الرابع: أن المصحف الشريف يتعرض عنده للهتك والتوهين، لأنه ليس من شأنه تجنب ذلك معه بعد عدم اعتقاده بحرمته. ويندفع بعدم اطراد ذلك.

مضافاً إلي الإشكال في الوجهين الأخيرين تارة: بأن مجرد ترتب الحرام علي المعاملة لا يستلزم عدم مشروعيتها تكليفاً ولا وضعاً، ولذا يأتي في جواز بيع العنب ممن يصنعه خمراً. وأخري: بأن ذلك إنما يقتضي عدم تمكينه من المصحف الشريف مع احتمال ترتب الحرام عليه، لا عدم تملكه له.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 1 من أبواب موانع الإرث من كتاب الميراث حديث: 11.

ص: 110

ودعوي: أن محل كلامهم هو البيع الذي يبتني علي التسليم، لا مطلق البيع من دون تسليم. ممنوعة، كما يظهر مما في المبسوط والشرايع. قال في الأول في أواخر كتاب الجهاد:" والمشرك ممنوع من شراء المصاحف إعزازاً للقرآن، فإن اشتري لم يصح البيع. وفي الناس من قال: يملكه ويلزم الفسخ. والأول أصح ".وقال في الثاني:" إذا اشتري الكافر مصحفاً لم يصح. وقيل: يصح ويرفع يده. والأول أنسب بإعظام الكتاب العزيز" ،لظهورها في المنع من البيع ولو من دون تسليط عليه.

نعم قد يظهر من كلامهما المفروغية عن عدم جواز تسليط الكافر علي المصحف الشريف، وأن الخلاف إنما هو في صحة بيعه وعدمه. وحينئذٍ قد يدعي أن عدم جواز تسليطه عليه مناف عرفاً لصحة البيع، وإن لم ينافه عقلاً، لأن أظهر آثار البيع عرفاً السلطنة.

لكنه غير ظاهر، فإن مجرد تعرضهما (قدس سره) للقولين المذكورين من دون تعيين القائل لا يستلزم المفروغية عن عدم جواز التسليط بين الكل، بحيث ترجع للإجماع الصالح للاستدلال، وتنهض بإثبات عدم جواز تسليط الكافر علي المصحف الشريف، وتكون دليلاً عليه، لينتقل منه للازمه لو تم، وهو بطلان البيع.

بل يصعب جداً البناء علي خروج المصحف الشريف عن ملك الكافر لو كتبه بنفسه أو كتب له في قرطاس يملكه، وإذا أمكن ملكه له في مثل ذلك أمكن تملكه له بمثل الشراء، واحتاج المنع إلي دليل خاص، وهو مفقود.

ومن ثم يتعين جواز بيع المصحف علي الكافر وتملكه له، وتسليطه عليه. لأصالة البراءة، ولنفوذ البيع والتمليك، بمقتضي عمومات النفوذ.

ويناسب ذلك في الجملة ما في المبسوط، حيث عدّ - في فصل حكم ما يغنم وما لا يغنم - من جملة الغنائم المصاحف وكتب علوم الشريعة، مع أنها لو لم تكن مملوكة لهم لم تكن من الغنائم، بل تكون من المباحات الأصلية أو من مجهول المالك. فلاحظ.

ص: 111

وكذا تمكينه منه (1). بل الأحوط وجوباً حرمة بيعه علي المسلم (2).

---------------

ثم إن في المقام فروعاً كثيرة في تعميم الحكم لأبعاض المصحف، وما يشتمل علي القرآن من الصحف والكتب، وإلحاق كتب الحديث والفقه ونحوها - مما يختص بالمسلمين، بل مطلق المقدسات - به. ولا مجال لإطالة الكلام فيها بعد عدم ثبوت حرمة بيع المصحف علي الكافر، وعدم وضوح دليله، وبعد ما هو المعلوم من لزوم الرجوع مع الدليل اللفظي لإطلاقه، ومع عدم الإطلاق فيه أو كون الدليل لبياً يتعين الاقتصار علي المتيقن في الشبهة الحكمية، فضلاً عن الموضوعية.

(1) كما هو مقتضي بعض الوجوه السابقة أو جميعها. وإن عرفت ضعفها. بل يصعب جداً البناء علي عدم جواز تمكينه من المصحف الشريف بمثل العارية مع الوثوق بعدم تعديه وهتكه لحرمته، خصوصاً إذا كان غرضه التدبر فيه والاستفادة منه، ولاسيما إذا كان ذلك أبلغ في قيام الحجة عليه عند التخاصم أو احتمل كونه سبباً في هدايته للإسلام. لإباء المرتكزات للمنع جداً.

(2) قال في النهاية: "ولا بأس بشراء المصاحف وبيعها والتكسب بها، غير أنه لا يجوز بيع المكتوب، بل ينبغي له أن يبيع الجلد والورق" .وقريب منه في التذكرة والقواعد والدروس. ولعله إليه يرجع ما عن غيرهم من إطلاق حرمة بيع المصحف، كما قد يرجع إليه ما في السرائر من تحريم بيع المصاحف إذا كان ذلك في المكتوب. وفي مفتاح الكرامة: "للكتاب والأخبار الكثيرة" ،وسبقه لنظير ذلك في جامع المقاصد.

وكأن مرادهما بالكتاب ما تضمن من الآيات الشريفة الذم لمن يشترون بآيات الله أو بالكتاب ثمناً قليلاً. لكن الظاهر أنه أجنبي عما نحن فيه، بل المراد به كتمان ما تضمنه الكتاب من علامات النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وتصديقه وسائر المعارف الحقة، أو الإعراض عنه، أو تحريفه وتفسيره علي غير وجهه، من أجل الأطماع المادية والمكاسب الدنيوية.

وأما الأخبار فهي علي طوائف:

ص: 112

الأولي: ما تضمن النهي عن بيع الورق الذي فيه القرآن مكتوب، وهو رواية سماعة بن مهران: "سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: لا تبيعوا المصاحف، فإن بيعها حرام. قلت: فما تقول في شرائها؟ قال: اشتر منه الدفتين والحديد والغلاف. وإياك أن تشتري منه الورق وفيه القرآن مكتوب، فيكون عليك حراماً وعلي من باعه حراماً"(1).

والتعبير عنها في كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) بالموثقة غريب بعد اشتمال سندها علي أبي عبدالله الرازي عن أبي الحسن علي بن أبي حمزة - كما في المطبوع حديثاً من التهذيب - وهما ضعيفان، أو علي أبي عبدالله الزراري عن الحسن بن علي بن أبي حمزة - كما في المطبوع حديثاً من الوسائل - والأول مجهول، بل الظاهر أنه تصحيف، والثاني ضعيف.

الثانية: ما تضمن النهي عن بيع المصحف، أو كتاب الله، والترخيص في بيع الورق والدفتين وغيرها، كموثق سماعة عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سألته عن بيع المصاحف وشرائها. فقال: لا تشتر كتاب الله، ولكن اشتر الحديد والورق والدفتين. وقل: اشتري منك هذا بكذا وبكذا"(2) ، وموثق عبدالله بن سليمان: "سألته عن شراء المصاحف فقال: إذا أردت أن تشتري فقل: اشتري منك ورقه وأديمه وعمل يدك بكذا وكذا"(3) ، ونحوهما غيرهما.

الثالثة: ما أطلق فيه جواز شراء المصحف، كصحيح أبي بصير:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن بيع المصاحف وشرائها، فقال: إنما كان يوضع عند القامة والمنبر. قال: كان بين الحائط والمنبر قيد شاة ورجل وهو منحرف فكان الرجل يأتي فيكتب البقرة، ويجيء آخر فيكتب السورة. كذلك كانوا، ثم إنهم اشتروا بعد ذلك. فقلت: فما تري في ذلك ؟ فقال: أشتريه أحب إلي من أن أبيعه"(4). ونحوه موثق روح بن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 31 من أبواب ما يكتسب به حديث: 11، 2، 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 31 من أبواب ما يكتسب به حديث: 11، 2، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 31 من أبواب ما يكتسب به حديث: 11، 2، 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 31 من أبواب ما يكتسب به حديث: 8، 4.

ص: 113

عبد الرحيم(1) ، وخبر عنبسة الوراق: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) فقلت: أنا رجل أبيع المصاحف، فإن نهيتني لم أبعها. فقال: ألست تشتري ورقاً وتكتب فيه ؟ قلت: بلي وأعالجها. قال: لا بأس بها"(2).

أما الطائفة الأولي فهي - مع ضعفها - لا تناسب نصوص الطائفة الثانية الكثيرة العدد المشتملة علي ما هو معتبر السند، وقد أفتي الأصحاب بمضمونها، فقد سبق من الشيخ (قدس سره) وغيره التصريح بجواز بيع الورق. بل لعله لا قائل بعدم جواز بيع الورق، لأنه وإن كان هو الظاهر بدواً من النهي عن بيع المصحف، إلا أن تصريح من عرفت بذلك مع تصريحهم بجواز بيع الورق يمنع من الوثوق بمقتضي الإطلاق المذكور في كلام غيرهم لو حصل. فلابد من طرح الطائفة الأولي أو حملها علي الكراهة.

وأما حمل الطائفة الثانية علي شراء الورق قبل أن يكتب به علي أن يكتب به كي لا تنافي الطائفة الأولي. فهو تكلف تأباه النصوص المذكورة لورودها لبيان ما يؤدي نتيجة بيع المصحف الشخصي ذو الورق والدفتين والحديد المتشخصة، لا لبيان طريق تحصيل المصحف، وإلا فتحصيله بطريق الاستئجار أيسر وأبعد عن التكلف.

ومجرد التنصيص في غير واحد منها علي دخول عمل اليد في المبيع لا يقتضي ذلك. لعدم ظهوره في إرادة العمل غير الحاصل، لينصرف إلي الشرط أو الإجارة، بل العمل الحاصل، فيتعين حمل شرائه علي شرائه بلحاظ أثره.

وأما الطائفة الثانية فهي ظاهرة في لزوم تجنب بيع المصحف بعنوانه تأدباً، بل يكون البيع للورق الذي كتب فيه المصحف بما هو ورق خاص ذو أثر خاص، كما هو المناسب لما تضمنه غير واحد من هذه النصوص من دخول عمل اليد في المبيع، كما سبق. فهو حكم صوري تأدبي لا يفرق عن بيع المصحف عملاً ولا أثراً. بل هو بيع للمصحف لا بعنوان كونه مصحفاً، بل بعنوان كونه ورقاً معمولاً بالوجه الخاص.

ولذا يجب علي البايع المحافظة علي الخط، ولا يحل له محوه أو التلاعب به،

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 31 من أبواب ما يكتسب به حديث: 8، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 31 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

ص: 114

وليس هو كبيع الصليب بما هو ذهب أو خشب قد لا يبتني علي حفظ هيئته، علي ما تقدم توضيحه في المسألة التاسعة. كما أنه لو كان الخط معيباً أو ناقصاً كان للمشتري الخيار، لأن المصحف وإن لم يؤخذ عنواناً للمبيع، إلا أنه مورد الغرض الحقيقي الذي تبتني عليه المعاملة لباً، فهو كالشرط الضمني يتعين ثبوت الخيار بتخلفه. وبالجملة: البيع بحقيقته بيع للمصحف إن لم يكن بصورته كذلك تأدباً.

بل لا يبعد البناء علي ذلك حتي بناءً علي عدم جواز بيع الورق، الذي هو مقتضي الطائفة الأولي، لأن الورق بخصوصيته المقصودة بالأصل مشروط في المعاملة ضمناً وتبعاً لبيع الحديد والدفتين، فيكون النقص في تلك الخصوصية موجباً لثبوت خيار تخلف الشرط، ولا فرق بينه وبين بيع المصحف، إلا في كون المصحف بعنوانه مملوكاً فيه تبعاً بمقتضي الشرط الضمني، وفي بيع المصحف مقوماً للمبيع.

وأما الطائفة الثالثة فهي ظاهرة في جواز بيع المصحف بعنوانه من دون حاجة لتكلف ما سبق في الطائفتين الأوليين. وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن ظهورها في ذلك إنما هو بلحاظ السكوت عن كيفية البيع في مقام البيان، فلا تعارض ما تقدم من الأخبار المتضمنة لبيان كيفية البيع.

ففيه: أنه لا مثير للسؤال عن بيع المصحف الشريف إلا شبهة احترامه وكونه أجل من أن يباع التي عليها تبتني النصوص المتقدمة، فعدم التنبيه في هذه الطائفة علي التكلف الذي تضمنته تلك النصوص والذي يبتني علي التهرب من بيع المصحف موجب لقوة ظهورها في جواز البيع بالنحو المتعارف المسؤول عنه، بحيث تكون كالصريحة في ذلك، ولا يمكن حملها علي البيع بالوجه الذي تضمنته النصوص المذكورة جمعاً معها، فإن الجمع بذلك ليس عرفياً، بل هو ردّ لها عرفاً. ولاسيما مع ظهور الصحيح والموثق من الطائفة الثالثة في الفرق بين البيع والشراء، وأن الأول أولي بالترك، مع أنه لا منشأ لذلك إذا ابتنت المعاملة علي التكلف المذكور الذي تضمنته النصوص الأُول، لعدم الفرق معه بين البيع والشراء.

ص: 115

ومن ثم يتعين الجمع بين النصوص بحمل نصوص المنع علي الكراهة، فما لا كراهة فيه هو بيع غير الورق من الجلد والدفتين، بحيث يكون الورق تابعاً للمبيع لا جزءاً منه. مع البناء علي كراهة بيع وشراء الورق المكتوب، ولو لا بعنوان كونه مصحفاً، عملاً بالطائفة الأولي. وأشد منه كراهة بيع وشراء المصحف بعنوان كونه مصحفاً، عملاً بالطائفة الثانية، مع كون البيع أشد كراهة من الشراء، كما هو مقتضي التصريح في بعض نصوص الطائفة الثالثة بأن الشراء أحب من البيع.

إن قلت: لا مجال للتعويل علي خبر عنبسة من الطائفة الثالثة لجواز بيع المصحف بعنوان كونه مصحفاً. وأما الصحيح والموثق فهما إنما يدلان علي جواز الشراء، ولا يدلان علي جواز البيع، لأن كون الشراء أحب منه لا يدل علي جوازه، إذ لا يراد به التفضيل الحقيقي، وإلا كان مقتضاه استحباب البيع وأفضلية الشراء منه، بل المراد منه مجرد كون الشراء أهون، وهو أعم من جواز البيع، فلا مخرج عن ظهور النصوص الأُول في حرمته.

قلت: التعبير المذكور ظاهر في جواز الأمرين. ولاسيما مع كون السؤال عن البيع والشراء معاً المناسب لبيان حكمهما معاً، وحيث لا إشكال في عدم نهوض الجواب المذكور ببيان حرمة البيع تعين كونه مسوقاً لبيان جوازه. خصوصاً وأن شدة الارتباط بين البيع والشراء - حيث لا فرق بينهما إلا في نحو انتساب الفعل الواحد للطرفين - لا يناسب عرفاً حلية أحدهما وحرمة الآخر، بل هو غير معهود في غير المقام. فلا مخرج عما ذكرنا.

هذا وقد أيد في الجواهر الجواز بضرورة الدين علي جواز بيع الكتب المتضمنة للآيات وإن كثرت، مع أن مدرك المنع لو صح لكان عاماً، إذ لا خصوصية له في المصحف. ولاسيما مع ما في غير واحد من نصوصه من النهي عن بيع كلام الله تعالي أو الكتاب أو الورق وفيه القرآن مكتوب.

لكنه يشكل بالفرق في منافاة البيع لاحترام القرآن بين كون المكتوب متمحض

ص: 116

فيه، بحيث يكون القرآن عنواناً له، وكونه في ضمنه تابعاً له، حيث يكون المبيع عرفاً في الثاني كتاباً غير القرآن. ورواية سماعة المتقدمة في الطائفة الأولي منصرفة للأول، ولو بضميمة الضرورة المذكورة. ولا أقل من عدم وضوح شمول إطلاقها للثاني.

وأظهر منها نصوص الطائفة الثانية، لأن موضوع النهي فيها شراء كتاب الله تعالي وبيع المصاحف وشرائها، وبيع الكتب المتضمنة للآيات ليس بيعاً لكتاب الله تعالي وللمصحف بعنوانه، بل هو بيع له ضمناً في كتاب معنون بعنوان آخر.

نعم لا ينبغي التأمل في شمول نصوص المقام لأبعاض المصحف الشريف، لعموم الجهة الارتكازية المشار إليها لذلك، كما يناسبه ما في صحيح أبي بصير وموثق روح من التعرض لكتابة البعض عند السؤال عن حكم بيع المصحف وشرائه. فلاحظ.

ومثله ما قد يدعي من لزوم رفع اليد عن نصوص الطائفة الثالثة أو تأويلها بعد فتوي من سبق بالمنع، عملاً بنصوص الطائفتين الأوليين. إذ فيه: أن عملهم لم يبلغ مرتبة الإجماع أو الشهرة الموجبة للإعراض عن نصوص الطائفة الثالثة - لتسقط عن الحجية - بعد كونهم أفراداً قليلين - وإن عظموا - في كتب قليلة مع عدم تعرض بعضهم في بقية كتبه لذلك وعدم تعرض غيرهم - وفيهم الأعاظم - للحكم مع شيوع الابتلاء به.

قال في مفتاح الكرامة: "بل قد يقال: إن كل من لم يذكر تحريم بيعه فهو مخالف، لأنهم يذكرون شرط البيع والمبيع والمتعاقدين، ويشترطون إسلام المشتري في المصحف والعبد المسلم، وقضية كلامهم في ذلك المقام جواز شراء المصحف وبيعه - علي أي وجه كان - لمسلم. فتأمل" .ومن ثم لا مجال لتوهم سقوط نصوص الطائفة الثالثة عن الحجية. كما لا مخرج عما سبق من مقتضي الجمع العرفي بينها وبين نصوص الطائفتين الأوليين.

بقي في المقام أمران:

الأول: المتيقن من الجهة الارتكازية المشار إليها في نصوص المنع لو تمت هو

ص: 117

الحرمة التكليفية، لوضوح مناسبة انتهاك حرمة القرآن الشريف لها. ومن ثم ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) عدم دلالتها علي فساد البيع، بناءً علي ما هو المشهور المنصور من عدم اقتضاء النهي في المعاملة الفساد.

لكن قد يقال: النهي وإن لم يستلزم الفساد حتي فيما إذا كان منشأ النهي قيام المفسدة بالأثر، لإمكان تبدل الحال بعصيان المكلف بالنهي وفعله للمنهي عنه، كما لو نهي المولي عن إعطاء الأمان للعدو بلحاظ ثبوت المفسدة في الإبقاء عليهم، حيث يمكن أن يكون عصيان بعض المكلفين وإعطائه للأمان، موجباً لتبدل الحال وتجدد المصلحة في الإبقاء عليهم مراعاة للأمان المذكور، تجنباً لخديعتهم، إلا أنه لا مجال له في المقام، بلحاظ أن عدم مناسبة البيع لحرمة المصحف الشريف، كما تقتضي تحريم البيع علي المكلف تقتضي عدم إمضائه بعد تحريمه، لأن إمضاءه راجع إلي جعل البيع المذكور شرعاً، ومن المعلوم أن الشارع الأقدس لا يجعل ما لا يناسب حرمة المصحف، ولا يختص ذلك بالمكلفين.

اللهم إلا أن يقال: ذلك إنما يمنع من جعل الشارع لبيع المصحف ابتداء، أما بعد عصيان المكلف وتحقق البيع منه فمصلحة تنفيذ العقد قد تزاحم مفسدة هتك المصحف، وتلزم الشارع بإمضاء البيع وإن لزم منه الهتك، فلا مخرج عن عمومات النفوذ. فتأمل.

نعم قد يقال: الجهة الارتكازية المشار إليها في نصوص المنع. كما تناسب الحرمة التكليفية كذلك تناسب الحرمة الوضعية، فإن حرمة المصحف كما تناسب تحريم توهينه بالبيع تكليفاً تناسب عدم إمضاء البيع شرعاً، لما سبق من اشتراك البيع من المكلف والإمضاء من الشارع في عدم المناسبة لاحترامه، غايته أنه يحتمل مزاحمة مصلحة تنفيذ العقد في الثاني.

وحينئذٍ لا قرينة علي حمل النهي في النصوص علي الحرمة التكليفية، بل هو صالح في نفسه للوجهين. وحيث كان المنصرف من الأوامر والنواهي الواردة في

ص: 118

فإذا أريد المعاوضة عليه فلتجعل المعاوضة علي الغلاف ونحوه (1). والأحوط منه أن تكون المعاوضة بنحو الهبة المشروطة بعوض (2). وأم

---------------

الماهيات ذات الآثار المطلوبة هو الإرشاد لصحتها وفسادها، لأن ذلك هو الغرض منها، وهو المنصرف من مقام السؤال والجواب، تعين حمل النهي في المقام علي ذلك، فتحمل علي الحرمة الوضعية الراجعة للفساد، فالفساد مستفاد منها ابتداء، لا بتوسط دلالتها علي الحرمة التكليفية، ليتشبث بمنع الملازمة. فلاحظ.

الثاني: قال المحقق الإيرواني في حاشيته علي المكاسب: "مورد الأخبار المانعة هو البيع، ويمكن جعلها كناية عن مطلق النواقل الاختيارية. بل إشارة إلي عدم قبوله للنقل ولو بالأسباب غير الاختيارية كالإرث".

لكنه كما تري لا منشأ له بعد اختصاص النصوص بالبيع والشراء، واحتمال خصوصيتها في المنع، بلحاظ ابتنائهما علي تعويض المصحف الشريف بالمال ومقابلته به، بخلاف بقية النواقل، حتي الهبة المعوضة، فإنها أشبه بالشكر علي الصنيعة والإحسان، ولا تبتني علي التقابل بين المالين الموهوبين.

بل الطائفة الثانية من النصوص صريحة في جواز بيع الورق الذي فيه القرآن لا بعنوان كونه قرآناً، مع أنه يؤدي إلي نقل القرآن لباً كما أن من المعلوم من الارتكازيات والسيرة جواز هبة المصحف. ومن النصوص والفتاوي كون المصحف من جملة الحبوة.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في بطلان ما ذكره (قدس سره) سواء رجع إلي عدم ملكية المصحف أم بقائه علي ملك مالكه الأول وعدم انتقاله. نعم قد يتجه ذلك في الجملة في الكافر، وإن سبق المنع منه.

(1) ظاهره التوقف في بيع الورق، مع عدم ما يوجب المنع عنه إلا الطائفة الأولي التي تنفرد بخبر سماعة الضعيف السند من دون ظهور عامل به، مع أنه مخالف لبقية النصوص علي كثرتها له.

ص: 119

الكتب المشتملة علي الآيات والأدعية وأسماء الله تعالي فالظاهر جواز بيعها علي الكافر (1)، فضلاً عن المسلم (2). وكذا كتب الأخبار عن المعصومين (عليهم السلام) - (3). كما يجوز تمكينه منها (4).

(مسألة 15): يحرم ولا يصح بيع العنب أو التمر خمراً أو الخشب مثلاً ليعمل صنماً أو آلة لهوٍ أو نحو ذلك (5)،

---------------

(2) لم يتضح وجه الاحتياط بذلك بعد عدم وجود ما يمنع من الأول وعدم ظهور قائل بالمنع منه.

(1) لخروجها عن المتيقن من دليل المنع لو تم، لإمكان خصوصية ما يتمحض في كونه قرآناً في لزوم الاحترام، لأنه أولي بالاحترام ارتكازاً. وقد سبق ما ينفع في المقام.

(2) لإمكان خصوصية ما يتمحض في كونه قرءاناً في الاحترام المانع من البيع، كما تقدم آنفاً.

(3) كما يظهر مما سبق.

(4) لعين ما سبق.

(5) قال في الشرايع في بيان ما يحرم التكسب به: "الثاني: ما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو - مثل العود والزهر - وهياكل العبادة المبتدعة - كالصليب والصنم - وآلات القمار - كالنرد والشطرنج - وما يفضي إلي المساعدة علي محرم، كبيع السلاح لأعداء الدين وإجارة المساكن والسفن للمحرمات، وكبيع العنب ليعمل خمراً وبيع الخشب ليعمل صنماً. ويكره بيع ذلك لمن يعملها" .وقريب من ذلك في القواعد والتذكرة وعن غيرها.

لكن الظاهر الفرق بين مثل بيع آلات اللهو وبيع العنب ليعمل خمراً، فإن القصد للحرام في الأول نوعي بلحاظ مناسبته لخاصية المبيع، وفي الثاني شخصي

ص: 120

يختص بالمتبايعين. والأول يوجب سقوط حرمة المبيع شرعاً، بحيث يكون أكل المال في مقابله أكلاً للمال بالباطل. أما الثاني فهو لا يوجب سقوط حرمة المبيع بعد صلوحه لأن ينتفع به في الجهة المحللة، كالأكل وغيره.

وأما دعوي: أن البيع حينئذِ يكون إعانة علي الإثم فيظهر وهنها مما تقدم في أوائل المسألة الثامنة، فراجع. غاية الأمر عدم مشروعية القصد المذكور، وهو إنما يقتضي عدم نفوذه حتي لو كان بنحو الشرط، لعدم نفوذ الشرط المحلل للحرام، من دون أن يقتضي بطلان البيع، بناءً علي ما هو الظاهر من عدم مبطلية الشرط الباطل للمعاملة.

وأما إجارة الأعيان بقصد المنافع المحرمة فحيث لم يكن موضوع الإجارة المقابل بالمال هو العين الصالحة للأمرين، بل المنفعة التي هي من الأمور الكلية القابلة للتقييد، فالقصد المذكور: تارة: يرجع إلي كون موضوع الإجارة خصوص المنفعة المحرمة. وأخري: يرجع إلي كون موضوعها مطلق منفعة العين، وكون ترتب المنفعة من سنخ الداعي أو الشرط الخارج عن المعاملة.

ولا إشكال في بطلان الإجارة في الأول. لأن أكل المال في مقابل الحرام أكل له بالباطل. ولأن حرمة المنفعة تنافي ملكيتها للأجير ارتكازاً، فلا يمكن معها صحة الإجارة التي هي من المعاوضات المبتنية علي التمليك.

أما الثاني فلا مجال معه لبطلان الإجارة ذاتاً بعد إطلاق المنفعة وعدم اختصاصها بالمحرمة. نعم لا يشرع القصد للحرام، ويبطل اشتراطه من دون أن يبطل الإجارة، نظير ما سبق. هذا كله مقتضي القاعدة.

وأما النصوص فقد ورد في بعضها النهي عن بيع الخشب ممن يتخذه صلباناً، ففي صحيح ابن أذينة: "كتبت إلي أبي عبدالله (عليه السلام) أساله عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه برابط. فقال: لا بأس به. وعن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه صلباناً.

-

ص: 121

قال: لا"(1) ، ومعتبر عمرو بن حريث:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن التوت أبيعه يصنع [ليصنع] للصليب والصنم. قال: لا"(2).

كما ورد في نصوص كثيرة جواز بيع التمر والعنب والعصير ممن يصنعها خمراً، كصحيح محمد الحلبي: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن بيع عصير العنب ممن يجعله حراماً. فقال: لا بأس به، تبيعه حلالاً ليجعله حراماً، فأبعده الله وأسحقه"(3) ، وصحيح عمر بن أذينة:" كتبت إلي أبي عبدالله (عليه السلام) أسأله عن رجل له كرم أيبيع العنب والتمر ممن يعلم أنه يجعله خمراً أو سَكَراً؟ فقال: إنما باعه حلالاً في الابان الذي يحل شربه أو أكله، فلا بأس ببيعه"(4) ، وصحيح رفاعة: "سئل أبو عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر عن بيع العصير ممن يخمره. قال: حلال. ألسنا نبيع تمرنا ممن يجعله شراباً خبيثاً"(5) ، ونحوها غيرها. كما تقدم في صحيح ابن أذينة جواز بيع الخشب ممن يصنعه برابط.

ويظهر منهم العمل بهذه النصوص المرخصة بعد حملها علي صورة عدم القصد لفعل الحرام، كما لعله عليه يبتني ما تقدم في آخر كلام الشرايع ونحوه.

لكنه لا يناسب ما سبق في النصوص الأول المانعة. فإن حملها علي صورة القصد لفعل الحرام - مع بعده في نفسه من الإطلاق، ولاسيما مع عدم الداعي للمسلم في القصد المذكور، كما نبه لذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره - لا يناسب التفصيل بين بيع الخشب ليعمل برابط وبيعه ليعمل صلباناً في صحيح ابن أذينة.

ومثله ما حاوله غير واحد من الجمع بين الطائفتين بحمل النصوص المرخصة علي خصوص بعض الصور، كعدم العلم باستعمال المشتري للمبيع في الحرام وإن علم أن عمله ذلك، أو العلم باستعماله له في الحرام من دون أن يعلم أن قصده ذلك حين البيع، أو علي حمل التخمير علي التخمير المحلل، وهو الذي يكون مقدمة للتخليل، أو خصوص البيع لأهل الذمة الذين لهم أن يخمروا... إلي غير ذلك مما يبعد أو يمتنع حمل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 41 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 41 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 8.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 8.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 8.

ص: 122

النصوص المذكورة عليه. ولا أقل من كونها جموعاً تبرعية لا مجال للتعويل عليها.

ولعله لذا استشكل في الرياض في التعويل علي نصوص الترخيص. قال:" لكن في مقاومة هذه النصوص - وإن كثرت واشتهرت وظهرت دلالتها، بل وربما كان في المطلب صريحاً بعضها - لما مر من الأصول والنصوص المعتضدة بالعقول إشكال. والمسألة لذلك محل إعضال ".وكأن مراده بالأصول عموم النهي عن التكسب بما فيه وجه من وجوه الفساد المستفاد من رواية تحف العقول وغيرها وعموم حرمة الإعانة علي الإثم.

لكن يظهر اندفاع ذلك كله مما سبق في المسألة الخامسة والثامنة من عدم الدليل الكافي علي العمومين المذكورين، بل عدم إمكان البناء عليهما، كما لم يتضح الوجه في اعتضادها بالعقول.

بل لو بني علي استحكام التعارض بين الطائفتين تعين ترجيح الطائفة الثانية، لموافقتها لعمومات النفوذ، ولأنها أشهر رواية. مع اعتضادها بعمل المشهور.

نعم قد يظهر من المشهور عدم استحكام التعارض بينهما، وأن المتعين الجمع بينهما بحمل النصوص الناهية علي الكراهة، كما هو المعول عليه في نظائر المقام من موارد اجتماع النهي مع الترخيص. مؤيداً بما في صحيح الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام):" أنه سئل عن بيع العصير ممن يصنعه خمراً. فقال: بعه ممن يطبخه أو يصنعه خلاً أحب إلي. ولا أري بالأول بأساً"(1). وعليه يبتني ذهابهم للكراهة مع عدم قصد البايع لترتب الحرام.

اللهم إلا أن يقال البناء علي الكراهة المصححة لإطلاق النهي في النصوص الأول لا يناسب ما تقدم - في صحيح رفاعة وغيره من نصوص الترخيص - من أنهم (عليهم السلام) يبيعون تمرهم ممن يصنعه خمراً، بنحو يناسب تهوين الأمر في ذلك. وما في صحيح الحلبي من البيع من غير من يصنعه خمراً أحب إنما يدل علي أولوية البيع عليه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9.

ص: 123

من البيع علي من يصنعه خمراً، وهو أعم من الكراهة. مع أن البناء علي الكراهة لا يناسب ما في صحيح ابن أذينة من التفصيل بين بيع الخشب ممن يصنعه برابط وبيعه ممن يصنعه صلباناً، لعموم الكراهة عندهم للجميع. فلاحظ.

والذي ينبغي أن يقال: نصوص الترخيص وإن وردت في خصوص بيع العنب ممن يصنعه خمراً وبيع الخشب ممن يتخذه برابط، إلا أن التعليل في النصوص بأنه إنما باعه حلالاً ونحوه ظاهر في عموم الحل لجميع ما يباع حال كونه حلالاً، وعدم منع ترتب الحرام عليه من قبل المشتري من جواز بيعه وصحته. وبذلك يكون ما في صحيح ابن أذينة ومعتبر عمرو بن حريث من منع بيع الخشب ممن يتخذه صلباناً أو صنماً أخص، فيتعين تخصيص العموم به، وبه يتم الجمع بين النصوص.

ولا ملزم بالخروج عن ذلك إلا دعوي عدم الفصل بين الصلبان وغيرها، أو دعوي هجر الحديثين، لعدم ظهور فتوي أحد بمضمونهما. لكنهما غير ظاهرتين بعد ظهور الكليني والشيخ في التهذيب في العمل بمضمون الخبرين من التفصيل، لإيداعهما له في الباب المناسب، من دون أن يظهر منهما ردّ لهما.

نعم صرح الشيخ في النهاية بجواز بيع الخشب ممن يتخذه صنماً أو صليباً أو شيء من الملاهي بنحو يظهر منه البناء علي مقتضي العموم المستفاد من التعليل المتقدم، كما يظهر ممن بعده ذلك. إلا أنه لا يكفي في البناء علي عدم الفصل أو الهجر المسقط للحديثين عن الحجية. ولاسيما بعد ظهور اضطراب المشهور في مبني المسألة، حيث جعلوا المعيار في المنع علي كون الشيء مما يقصد منه الحرام، كما سبق، وسبق الإشكال فيه.

ومن هنا فالبناء علي خصوصية الصلبان والأصنام في حرمة البيع، عملاً بالحديثين المتقدمين، المناسبين لقوة احتمال خصوصيتهما في الحرمة، لأهمية حرمة صنع رموز الأديان الباطلة، قريب جداً. كما أن من القريب التعدي لجميع رموز الأديان الباطلة، التي من شأنها أن تعبد أو تقدّس، لأنها الجهة الارتكازية التي يقرب ابتناء

ص: 124

النهي عن البيع في النصوص عليها.

بقي شيء. وهو أن بعض نصوص الترخيص قد تضمنت عدم بيع العصير ممن يصنعه خمراً إلا نقداً، كصحيح البزنطي: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن بيع العصير فيصير خمراً قبل أن يقبض الثمن. فقال: لو باع ثمرته ممن يعلم أنه يجعله حراماً لم يكن بذلك بأس، فأما إذا كان عصيراً فلا يباع إلا بالنقد"(1) ، ومعتبر يزيد بن خليفة:" كره أبو عبدالله (عليه السلام) بيع العصير بتأخير"(2). وفي معتبره الآخر عنه (عليه السلام): "سأله رجل... قال: فإنه يشتريه مني عصيراً فيجعله خمراً في قربتي. قال: بعته حلالاً، فيجعله حراماً فأبعده الله. ثم سكت هنيهة. ثم قال: لا تذرن ثمنه عليه حتي يصير خمراً، فتكون تأخذ ثمن الخمر"(3).

ومن القريب حمل الأولين علي الأخير، وأن المنهي عنه هو تأخير قبض الثمن حتي يصير العصير خمراً، سواءً كان البيع نقداً أو نسيئة. كما لا بأس ببيع النسيئة إذا كان قبض الثمن قبل صيرورة العصير خمراً، لصلوح الحديث الأخير لشرح الأولين وبيان علة الحكم فيهما. كما أن مقتضي عموم التعليل فيه وإطلاق ما قبله العموم للبيع من كل من يتركه حتي يصير خمراً، وإن لم يعلم ذلك منه عند البيع، بل وإن لم يكن عازماً علي ذلك حينه.

هذا ولكن عدم التنبيه لذلك في بقية نصوص بيع العصير ممن يجعله خمراً مع شدة الحاجة لبيانه مناسب جداً لعدم كون النهي تحريمياً. كما قد يناسبه عدم مبادرة الإمام في معتبر يزيد الثاني للتنبيه لذلك، وإنما بينه بعد أن سكت هنيئة، وظهور ابتناء التعليل علي التوسع والتسامح، لما هو المعلوم من أن ثمن الخمر الحرام هو ثمنه وهو خمر، لا ثمن ما يؤول إلي الخمر، فتطبيق ثمن الخمر في المقام مجازي يناسب الكراهة. بل من البعيد جداً الحرمة بعد صحة المعاملة حين وقوعها واستحقاق الثمن بها.

ويؤيد ذلك أو يعضده حديث محمد بن إسماعيل:" سأل الرضا (عليه السلام) رجل وأن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3، 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3، 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3، 10.

ص: 125

سواءً كان تواطؤهما علي ذلك في ضمن العقد أم في خارجه (1). وكذا تحرم ولا تصح إجارة المساكن ليباع فيها الخمر أو يحرز فيها أو يعمل فيها شيء من المحرمات. وكذا تحرم ولا تصح إجارة السفن والدواب أو غيرها لحمل الخمر (2).

---------------

أسمع عن العصير يبيعه من المجوس واليهود والنصاري والمسلمين قبل أن يختمر ويقبض ثمنه أو ينسأه. قال: لا بأس إذا بعته حلالاً فهو أعلم"(1). فإنه وإن لم يصرح فيه بالبيع ممن يعلم أنه يصنعه خمراً، إلا أنه أظهر أفراد الإطلاق فيه، فالتعرض فيه لإنساء الثمن من دون تنبيه من الإمام (عليه السلام) إلي لزوم قبض ثمنه قبل أن يصير خلاً، مع كونه محتملاً في ظاهر الجواب، شاهد بعدم كون التعليل المذكور للتحريم. ولعله لذا لم أعثر علي من نبه لتحريم الثمن إذا قبض بعد صيرورة العصير خمراً. بل صرح في الوسائل بالكراهة. فلاحظ.

(1) بل يظهر مما سبق منهم العموم لقصد البايع وحده أو قصدهما معاً من دون تواطؤ. وإن سبق المنع عن أصل الحكم، فضلاً عن عمومه لغير الشرط في ضمن العقد، الذي قد يدعي مبطليّة الباطل منه للعقد. نعم لا ريب في عموم القبح الفاعلي - الذي قد يراد بالحرمة التكليفية في المقام - لجميع الصور، لكن يختص بالقاعدة وحده، دون الغافل.

(2) تقدم من الشرايع وغيرها العموم لجميع المحرمات. والظاهر أن المراد بها ما تنحصر منفعته بالحرام، كالخمر والخنزير والدفوف وغيرها. وكأنه للمفروغية عن حرمة نقلها أو حفظها أو نحو ذلك مما يقع مورداً للإجارة.

لكن لم يتضح الوجه في حرمة ذلك. ومجرد كونه إعانة علي الإثم لا يكفي في تحريمه، كما سبق. نعم قد يتجه ذلك في الخمر لموثق زيد بن علي عن آبائه (عليهم السلام): "قال:

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 38 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

ص: 126

لعن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) الخمر وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه" (1) ونحوه غيره، حيث تدل علي حرمة حملها، كما قد يستفاد منها العموم لجميع ما يتعلق بها في طريق شربها، كحفظها لصاحبها وتعليبها ونحوهما. وأما غير الخمر فلا يتضح الدليل علي الحرمة فيه.

هذا ولو فرض حرمة العمل المستأجر عليه فقد سبق منهم التفصيل بين القصد للحرام حين الإجارة وعدمه. وعن الخلاف والغنية الإجماع علي عدم صحة إجارة المسكن ليحرز فيه الخمر والدكان ليباع فيه. وفي النهاية إطلاق المنع من إجارة الدور والمساكن إذا عمل فيها شيء من المحظورات والمحرمات، أما إجارة السفن والحمولات فإنما تحرم إذا علم أنه يحمل فيها أو عليها شيء من المحرمات.

كما أنه سبق منّا أن مقتضي القاعدة التفصيل بين ما إذا كان موضوع الإجارة العمل المحرم وما إذا كان موضوعها مطلق المنفعة، فتبطل في الأول، وتصح في الثاني حتي إذا كان العمل المحرم هو المقصود. غايته عدم مشروعية القصد المذكور وعدم نفوذ اشتراطه من دون أن تبطل الإجارة، بناءً علي ما هو الظاهر من عدم مبطلية الشرط الفاسد للمعاملة.

وأما النصوص ففي خبر جابر: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يؤجر بيته فيباع فيه الخمر. قال: حرام أجره"(2). وهو - مع ضعف سنده - ظاهر في عموم المنفعة المستأجر عليها، وعموم مانعية بيع الخمر حتي مع عدم القصد إليه حين الإجارة. وليس بناؤهم علي ذلك. علي أنه معارض بصحيح ابن أذينة:" كتبت إلي أبي عبدالله (عليه السلام) أسأله عن الرجل يؤجر سفينته ودابته ممن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنازير قال: لا بأس"(3).

هذا وقد يجمع بينهما: تارة: بحمل الأول علي الإجارة بقصد ترتب الحرام،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 34 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 39 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 39 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

ص: 127

والثاني علي صورة عدم القصد له، كما يناسبه ما سبق من الشرايع وغيرها.

وأخري: بحمل الأول علي من يعلم أنه يباع فيه الخمر والثاني علي من لا يعلم، كما ذكره الشيخ في التهذيبين، ويناسبه ما سبق منه في النهاية. لكن كليهما - كما تري - جمع تبرعي لا شاهد له ولا تعويل عليه.

بل الأول بعيد عن ظاهر خبر جابر، لظهور أن تنبيه السائل لبيع الخمر إنما هو من أجل التنبيه للجهة المناسبة لاحتمال التحريم الموجبة للسؤال، ومن الظاهر أن قصد بيع الخمر أشد مناسبة للتحريم وأولي بالتنبيه عليه في السؤال من حصول البيع، فعدم التنبيه له يناسب عدمه جداً. ولاسيما مع عدم الداعي للمسلم في القصد للحرام.

كما يشكل الثاني بأن صحيح ابن أذينة أقرب للحمل علي العلم من خبر جابر، لأن فرض حمل الخمر والخنازير قد أخذ قيداً في المستأجر في صحيح ابن أذينة، أما في خبر جابر فقد أخذ مجرد ترتب بيع الخمر علي الإجارة. فلاحظ.

ومثلهما ما في التهذيبين من احتمال العمل بكل منهما في مورده، فيحرم إجارة البيت لبيع الخمر لحرمة بيعها، ولا تحرم الإجارة لمن يحمل الخمر، لأن حملها ليس بحرام، إذ يجوز حملها لتجعل خلاً.

إذ فيه: أن حملها لتجعل خلاً بعيد عن ظاهر صحيح ابن أذينة، لاحتياج ذلك إلي عناية وتنبيه، والمنصرف منه هو حملها بما هي محرمة مقدمة لبيعها أو شربها. ولا أقل من مخالفته للإطلاق وخلوه عن القرينة. ولاسيما مع اشتماله علي حمل الخنازير التي يبعد حملها لغرض سائغ.

ومن ثم لا مخرج عن مقتضي القاعدة المعتضد بصحيح أذينة من حلية الإجارة إذا كان موضوعها مطلق المنفعة. وعدم بطلانها بالقصد للحرام لو حصل. نعم مع

ص: 128

والثمن والأجرة في ذلك محرمان (1). وأما بيع العنب ممن يعلم أنه يعمله خمراً أو إجارة المسكن ممن يعلم أنه يحرز فيه الخمر أو يعمل شيئاً من المحرمات من دون تواطئهما علي ذلك في عقد البيع أو الإجارة أو قبله فقيل: إنه حرام (2). وهو أحوط، والأظهر الجواز علي كراهية (3).

(مسألة 16): يحرم تصوير ذوات الأرواح من الإنسان والحيوان إذا كانت مجسمة (4).

---------------

اختصاص موضوع الإجارة بالمنفعة المحرمة يتعين بطلانها، كما سبق.

(1) كما هو مقتضي بطلان المعاملة الذي سبق منه (قدس سره)، وسبق الكلام فيه.

(2) فقد تقدم من النهاية إطلاق المنع من إجارة الدور والمساكن إذا عمل فيها شيء من المحظورات والمحرمات، والمنع من إجارة السفن والحمولات، إذا علم بحمل الخمر عليها. كما يناسبه ما سبق من التهذبين من احتمال حمل خبر جابر علي صورة العلم بترتب الحرام. وفي المسالك والروضة وعن ظاهر المختلف وحواشي الشهيد المنع مع العلم بترتب الحرام، وفي الأولين إلحاق الظن بالعلم في ذلك، وقد سبق من الرياض التوقف في جواز بيع الخشب والعنب ممن يعملهما في الحرام من دون قصد لذلك. وكأنه لعموم حرمة الإعانة علي الإثم، لعدم توقف صدقها علي القصد. ولإطلاق بعض النصوص المتقدمة. ويظهر ضعفهما مما سبق.

(3) كما سبق أنه قد يظهر من المشهور، للجمع بذلك بين نصوص المنع والترخيص. وقد سبق منّا أن الأظهر الجمع بينها بالتفصيل بين ما يترتب عليه صنع رموز الأديان الباطلة التي من شأنها أن تعبد أو تقدّس، فيحرم بيعه، وما يترتب عليه غيره من المحرمات، فلا يحرم بيعه.

(4) وهو المتيقن من كلامهم، وفي الجواهر: "فلا خلاف في حرمة عملها، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المنقول منه مستفيض" .والنصوص به مستفيضة، كصحيح

ص: 129

ويحرم أخذ الأجرة عليه (1).

---------------

محمد بن مسلم: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن تماثيل الشجر والشمس والقمر، فقال: لا يأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان"(1) ، ومعتبر محمد بن مروان عنه (عليه السلام):" سمعته يقول: ثلاثة يعذبون يوم القيامة: من صوّر صورة من الحيوان، يعذب حتي ينفخ فيها، وليس بنافخ فيها، والمكذب في منامه، يعذب حتي يعقد بين شعيرتين، وليس بعاقد بينهما، والمستمع إلي حديث قوم وهم له كارهون، يصب في أذنه الآنُك، وهو الأُسرُبّ"(2) ، وحديث أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أتاني جبرئيل فقال: يا محمد إن ربك ينهي عن التماثيل"(3). ومرسل ابن أبي عمير عنه (عليه السلام):" قال: من مثل تمثالاً كلف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح"(4) ، وغيرها.

(1) لأن حرمة العمل تقتضي كون أكل المال في مقابله أكلاً له بالباطل، كما تقدم نظير ذلك في المسألة التاسعة. مضافاً إلي أن حرمة العمل لا تجتمع مع نفوذ الإجارة المقتضية لتملك العمل علي الأجير، فيتعين بطلان الإجارة، كما أشرنا إليه في أوائل المسألة السابقة.

نعم بطلان الإجارة لا يستلزم هدر حرمة العمل، بحيث لا يقابل بالمال، بل يمكن استحقاق الأجر عليه بنحو الجعالة، أو استحقاق أجرة المثل، كما يلتزم به في كثير من موارد بطلان الإجارة.

فالعمدة في المنع من ذلك الوجه الأول، المؤيد بما دلّ علي حرمة مهر الزانية، وأجر الكاهن(5) وكسب المغنية(6). وإن كان الأمر فيه أظهر من أن يحتاج لذلك.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 17.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 94 من أبواب ما يكتسب به حديث: 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 11، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 11، 2.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به.

(6) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 130

والأحوط ذلك غير المجسمة، وإن كان الأظهر الجواز (1).

---------------

نعم الظاهر اختصاص ذلك بما إذا كان العامل عالماً بحرمة عمله، أما مع جهله بالحرمة - للجهل بالحكم الشرعي، أو بالموضوع - فالظاهر استحقاق الأجر، لاحترام العمل والجهد في نفسه، وتحريمه إنما يُسقط حرمته إذا كان العامل متمرداً في عمله منتهكاً لحرمة الشارع الأقدس أما إذا لم يكن كذلك فلا وجه لسقوط حرمته وهدر جهده.

ويناسب ذلك ما تضمن استحقاق المهر بوطء الشبهة. وما هو المعلوم من أن من غصب عيناً واستغلها في الحرام يضمن أجرة منفعتها، مع أنه لو استأجرها للحرام لم يستحق المؤجر عليه شيئاً. مضافاً إلي المرتكزات العرفية بل المتشرعية.

نعم لا إشكال في بطلان الإجارة، لما سبق من منافاة الحرمة لنفوذها، فلا مجال لاستحقاق الأجرة، بل يتعين استحقاق أجرة المثل للعمل. أما مع جعل الأجرة بنحو الجعالة فيتعين استحقاقها دون أجرة المثل، لعدم الموجب لبطلان الجعالة مع فرض معذورية العامل، ولا وجه للانتقال لأجرة المثل. فلاحظ.

(1) كما هو مقتضي التقييد بالمجسمة في المقنعة والمراسم والشرايع والقواعد والدروس وغيرها. وفي الرياض: "وفاقاً للأكثر، بل كافة من تأخر، كما في التنقيح" .وقد يستدل عليه بأمور وقع الكلام فيها نقضاً وإبراماً من غير واحد:

الأول: أن المتيقن من التماثيل والصور هي المجسمة، بل هو مقتضي إطلاق نسبة التمثال والصورة للشيء، لأنهما لا يتمان إلا بتصويره بتمام أبعاده المستلزم للتجسيم.

وفيه: أن وجود المتيقن لا يكفي في رفع اليد عن الإطلاق ما لم يرجع لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية المانع من انعقاد ظهور الكلام في الإطلاق، لا منشأ لدعواه في المقام. والصورة والتمثال التامين وإن كانا يختصان بالمجسم حقيقة، إلا أن الصورة والتمثال بإطلاقهما لا يختصان به عرفاً. بل لا إشكال في صدقهما علي غيره، كما يشهد به النصوص الكثيرة المتضمنة لإطلاقهما علي ما تزوق به البيوت، ويجعل في الثياب

ص: 131

والستور والبسط والطنافس والوسائد وغير ذلك.

نعم المنصرف في زماننا من التماثيل هو المجسم، ومن الصورة غير المجسم. وقد يظهر ذلك من مثل خبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن مسجد يكون فيه تصاوير وتماثيل يصلي فيه ؟ فقال: تكسر رؤوس التماثيل وتلطخ رؤوس التصاوير"(1).

لكن الظاهر أن التفريق المذكور حادث، لعدم مناسبته للنصوص المشار إليها آنفاً. ولعل الجمع بين التمثال والصورة في الخبر هو القرينة علي الفرق بينهما، في التجسيم، نظير ما قيل في الفقير والمسكين، ولا مجال للبناء علي الاختصاص مع أفراد كل منهما بعد ملاحظة ما أشرنا إليه من النصوص.

مضافاً إلي أن ذلك لا ينفع، حيث تكفي النصوص المتضمنة للتصوير في البناء علي حرمة تصوير غير المجسم.

الثاني: مقابلة النقش بالصورة في خبر المناهي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال:" نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عن التصاوير، وقال: من صور صورة كلفه الله يوم القيامة أن ينفخ فيها، وليس بنافخ... ونهي أن ينقش شيء من الحيوان علي الخاتم"(2).

وفيه: أن مجرد اختلاف التعبير لا يشهد بالمقابلة والتباين. ولاسيما وأنه لم يتضح نقله (عليه السلام) لكلام واحد، بل لعله قد نقل فقرات متقطعة من كلام النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في مناسبات مختلفة.

الثالث: أن ما تضمنته النصوص السابقة وغيرها من تكليف المصور يوم القيامة نفخ الروح في الصورة يناسب الاختصاص بالمجسمة، لأن غيرها من سنخ العرض غير القابل لأن تقوم به الروح.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 32 من أبواب مكان المصلي حديث: 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 94 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

ص: 132

وفيه: أن ذلك لا يستلزم الاختصاص، لإمكان كون المراد بنفخ الروح في الصورة هو نفخها في الموضع الذي تقوم به، وذلك ممكن في الصورة غير المجسمة. بل يمكن إرادة النفخ في مادة النقش من الأصباغ ونحوها. ولعله علي ذلك تبتني معجزتا الإمامين الكاظم والرضا (عليهما السلام) في أكل الصورة لمن آذاهما في مجلس الرشيد ومجلس المأمون(1). علي أن التكليف المذكور تعجيزي قد يراد به بيان أن من له التصوير هو القادر علي نفخ الروح، وذلك لا يقتضي إمكان الأمر المكلف به خارجاً.

الرابع: أن اشتمال النصوص الواردة في مكان المصلي والمساكن علي تغيير الرؤوس وكسرها وقطعها(2) يناسب الاختصاص بالمجسمة.

وفيه أن الذي قد يناسب خصوص المجسمة هو نصوص الكسر لا غير، كخبر علي بن جعفر المتقدم وغيره، وفي مقابله بعض النصوص قد أشتمل علي ما يناسب خصوص غير المجسمة، كذيل خبر علي بن جعفر المذكور، وموثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): بعثني رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) إلي المدينة فقال: لا تدع صورة إلا محوتها ولا قبراً إلا سويته ولا كلباً إلا قتلته"(3).

الخامس: أن ما دل علي جواز استعمال ما فيه الصور والتماثيل من الفراش والستور وغيرها يقتضي جواز صنعها، وحيث كانت مختصة بغير المجسمة تعين الخروج بها عن إطلاقات المنع لو تمت.

وفيه: أن ذلك لا ينهض بالتقييد، لأن جواز استعمال ما فيه الصورة لا ينافي حرمة عمل الصورة وصنعها فيه، كما يظهر مما يأتي إن شاء الله تعالي. ومن ثم لا مخرج عن الإطلاقات المتقدمة التي ذكرنا شمولها لغير المجسمة.

ويعضد ذلك صحيح محمد بن مسلم المتقدم، لظهور أن المعهود من تصوير

********

(1) بحار الأنوار ج: 48 ص: 42، وج: 49 ص: 184.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 32 من أبواب مكان المصلي، وباب: 4 من أبواب المساكن.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 8.

ص: 133

أما تصوير غير ذوات الأرواح - كالشجر وغيره - فلا بأس به (1)، ويجوز

---------------

الشمس والقمر - خصوصاً في الصدر الأول - هو تصويرها من غير تجسم، ومعه لا مجال لحمل تصوير الحيوان المنهي عنه فيه علي خصوص غير المجسم.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن التماثيل جمع تمثال، وهو الصورة الخارجية، لا التصوير، فهو من الأعيان لا الأعمال، والسؤال عن الأعيان ينصرف إلي السؤال عما يتعلق بها من الأفعال كالبيع والاقتناء والتزيين، لا إلي السؤال عن عملها، فالصحيح أجنبي عن محل الكلام.

فيندفع بأن حمل السؤال عن الأعيان الخارجية علي السؤال عما يتعلق بها من الأعمال دون عملها إنما هو مع تعذر حمله علي السؤال عن عملها - لوضوح حكمه، أو للعجز عنه، أو لقرائن أخر - دون مثل المقام مما يمكن السؤال فيه عن عملها، وإيجادها لكونه مورداً لاحتمال التحليل والتحريم، ولذا كان ذلك هو الظاهر من حديث المناهي ومعتبر أبي بصير المتقدمين وغيرهما. ويناسبه ما في حديث المناهي المتقدم من إطلاق النهي عن التصاوير وتعقيبه ببيان عقوبة التصوير.

كيف! وإلا لزم إجمال النصوص المذكورة لتردد المتعلق فيها بين أمور كثيرة، كالاقتناء، والاستقبال حين الصلاة وغيره، ولبس الثياب المشتملة عليها، وسكني المكان المشتمل عليها، ولا جامع عرفي بينها ليحمل عليه. ومن ثم يتعين حمل الصحيح علي تصويرها وعملها والاستدلال به في المقام، كما ذكرنا.

وكيف كان فالمتعين البناء علي عموم الحرمة لغير المجسمة، كما مال إليه شيخنا الأعظم (قدس سره). ويناسبه عطف الصور علي التماثيل المجسمة في النهاية، وإطلاق حرمة التماثيل فيما عن أبي الصلاح، بل هو صريح السرائر ومحكي كلام ابن البراج.

(1) وقد يظهر من الجواهر المفروغية عنه، حيث حمل عليه إطلاق الصور المجسمة في الشرايع، وقال:" ولعل ترك التقييد بذلك لظهور لفظ الصور في ذلك".

ص: 134

ويناسبه ما عن المطرزي من اختصاص التمثال بصورة أولي الأرواح.

لكنه في غاية الإشكال، لعدم مناسبته للاشتقاق، ولا للتفصيل في صحيح محمد بن مسلم المتقدم. ومثله في ذلك موثق أبي العباس عن أبي عبدالله (عليه السلام):" في قول الله عز وجل: (يَعمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ). فقال: والله ما هي تماثيل الرجال والنساء. ولكنها الشجر وشبهه"(1) ، ونحو معتبره الآخر(2). ولعله عينه.

نعم لا يبعد انصراف إطلاق التماثيل والصور في النصوص لذلك، بسبب المفروغية عن اختصاص مورد الأحكام بصور الحيوان، كما يظهر من إطلاق الصور والتماثيل في الأسئلة والجواب بما يناسب الاختصاص بالحيوان، مثل قطع الرأس أو كسره أو تغييره أو تلطيخه أو كونه ذا عين أو عينين(3). وكذا ما تضمن أن عقوبة التصوير والتمثيل هو الأمر بنفخ الروح فيه، حيث يقرب أن يراد به أكمال الصورة بذلك(4).

ومنه يظهر قرب الانصراف للحيوان في كلام من أطلق تحريم عمل الصور أو التماثيل، كما في المقنعة والنهاية والمراسم والشرايع والقواعد والدروس وعن غيرها، لقرب ابتناء كلامهم علي مفاد النصوص.

ومن ذلك يظهر الإشكال في استفادة العموم من إطلاق بعض النصوص لو خلت عن القرائن وبلغت مرتبة الحجية، كحديث أبي بصير المتقدم.

علي أنه يكفي في الخروج عن الإطلاق - لو تم - صحيح محمد بن مسلم المتقدم، بناءً علي ما سبق من نهوضه بالاستدلال. ومثله صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 94 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 6.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 45 من أبواب لباس المصلي، وباب: 32 من أبواب مكان المصلي. وباب: 4 من أبواب أحكام المساكن.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن، وج: 12 باب: 94 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 135

أخذ الأجرة عليه. كما لا بأس بالتصوير الفتوغرافي (1) المتعارف في عصرنا.

---------------

"لا بأس بتماثيل الشجر"(1) ، ويؤيدهما أو يعضدهما حديثا أبي العباس المتقدمين، لقرب صدورهما لدفع توهم منافاة أمر سليمان (عليه السلام) بصنع التماثيل لتحريمه، فيدل علي عدم تحريم تماثيل الشجر وشبهه. بل هو الظاهر أيضاً من تقييد الصورة بالحيوان في معتبر محمد بن مروان المتقدم وغيره، فإن القيد وإن لم يكن له مفهوم وضعاً، إلا أنه كثيراً ما يكون ظاهراً فيه، والظاهر أن منه المقام. ومن هنا ينبغي التوقف في جواز تصوير غير الحيوان.

(1) كما يظهر من جماعة كثيرة في العصور المتأخرة ممن ظهر في عهدهم التصوير المذكور، لتعرضهم لأخذه، وشيوعه بين المتشرعة المعاصرين لهم من دون نكير منهم. ولا يتيسر لنا عاجلاً الإطلاع علي وجه ذلك عندهم.

نعم ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن المستفاد من نصوص النهي عن التصوير والتمثيل هو النهي عن إيجاد الصورة من دون فرق بين أن تكون باليد أو بالطبع أو بالصياغة أو بالنسج، سواءً كان دفعياً، كما إذا كان بالطباعة أم تدريجياً. وذلك لا يتم في الصورة الفتوغرافية، لعدم كونه إيجاداً للصورة، وإنما هو أخذ للظل وإبقاء له بواسطة الدواء، نظير وضع شيء من الأدوية علي الجدران والأجسام الصقيلة ليثبت فيها الظل والصور المرتسمة، حيث لا مجال للبناء علي حرمته، والإحرم الوقوف أمام المرآة، إذ لا يفرق في حرمة التصوير بين طول مدة بقاء الصورة وقصرها.

لكنه يشكل بعدم الريب في صدق الصورة في المقام. ولا مجال لقياسها بالانعكاس في المرآة ونحوها، للفرق بينهما عرفاً، ولو لأجل الانطباع والثبات فيما نحن فيه وعدم الانطباع في المرآة، كما في الظل الذي لا ريب أيضاً في صدق الصورة فيه. وإن كانت ناقصة، لعدم وضوح معالم الأمر المصور.

ولذا لا يظن به ولا بغيره التشكيك في ترتب أحكام الصورة عليها غير حرمة الصنع، ككراهة وضعها في البيوت، واستقبالها حال الصلاة، والصلاة في الثوب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 94 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 136

المشتمل عليها، مع أنها لا تترتب علي الظل والانعكاس في المرآة ونحوهما.

ولعل الأولي في توجيه جواز ذلك أن الأدلة لم تتضمن تحريم إيجاد الصورة أو التمثال، وإنما هي بين ما تضمن النهي عن التصوير والتمثيل، كمعتبر محمد بن مروان ومرسل ابن أبي عمير، وما تضمن النهي عن الصورة والتمثال أو ثبوت البأس فيها، كمعتبر أبي بصير وصحيح محمد بن مسلم وغيرها.

والأول قاصر عن محل الكلام، لأن التصوير لا يصدق من الشخص بمجرد إيجاد الصورة، بل هو عملية فنية تبتني علي نقش الصورة وتنظيم أبعادها وهندستها، كما هو الحال في سائر عمليات النقش، فالنقاش ليس هو موجد النقش ولو من طريق تصويره أو طبعه، بل ناقشه. ونظيره في ذلك الكاتب، فإنه لا يصدق بمجرد إيجاده للكتابة، ولو بطريق الطبع والاستنساخ المعهود في زماننا أو غيرهما، بل لابد فيه من رسمه للحروف الكتابية بنحو تستند إليه أبعادها.

وأما الثاني فهو كما يمكن أن يحمل علي النهي عن مجرد إيجاد الصورة والتمثال يمكن أن يحمل علي النهي عن تصوير الصورة وتمثيل التمثال فيرجع للأول، والمتيقن الثاني، بل هو الظاهر، لأن النهي عن الأعيان إنما ينصرف إلي مجرد إيجادها - مع إمكانه

إذا أخذت بأسمائها الجامدة، أما إذا أخذت بعناوينها الاشتقاقية فالنهي ينصرف إلي ما يناسب عناوينها من الأفعال، كالتمثيل في المثال، والتصوير في الصورة، والكتابة في المكتوب.

وهو المناسب لما سبق من حديث المناهي من إطلاق النهي عن التصاوير وتعقيبه ببيان عقوبة التصوير، حيث يظهر أن المراد بالإطلاق المذكور هو النهي عن خصوص التصوير لا عن مطلق إيجاد الصورة.

وبذلك يظهر أن إطلاق التصوير والمصور في المقام مجازي تسامحي يبتني علي التوسع، إما في إطلاق التصوير علي إيجاد الصورة الذي هو أعم من المعني الحقيقي، وإما في إطلاقه علي حفظها بالتعرض لطبعها وتثبيتها، الذي هو مباين للمعني الحقيقي

ص: 137

ومثله تصوير بعض الصورة (1)، كالرأس والرجل ونحوهما مما لا يعد تصويراً للصورة الناقصة. أما إذا كان كذلك، مثل تصوير شخص مقطوع

---------------

وإن تشابها في الأثر.

كما ظهر قصور نصوص المقام عن تكثير الصور بالطبع أو الاستنساخ ونحوهما، وعن عرضها بالأجهزة التلفزيونية ونحوها، وعن صبّ التماثيل في القوالب، وعن جمعها وتركيبها بمثل جمع وتنظيم المكعبات التي تطبع فيها الصورة. بل يشكل حتي صدق إيجاد الصورة علي الأخير.

نعم قد يصدق التصوير علي صنع القالب والصفائح التي تطبع بها الصور. وإن كان التعميم لجميع أفراد ذلك موقوفاً علي الإطلاع علي كيفية صنعها. فلاحظ.

(1) لعدم صدق صورة الحيوان عليه التي هو موضوع النصوص. ويؤيده ما تضمنته بعض النصوص المتقدمة لها الإشارة من ارتفاع كراهة الصلاة في مكان فيه الصورة مع كسر الرأس أو تلطيخه.

ودعوي: أن تحريم التصوير بنحو الانحلال، وأن المحرم هو فعل كل جزء منها، نظير حرمة غصب مال المؤمن. ممنوعة جداً لمخالفتها للظاهر وخلوها عن الشاهد.

وأشكل منها دعوي: أن المحرم هو الأعم من الكل والجزء، بحيث لا يزيد الحرام بفعل الكل، فإنه يحتاج إلي عناية خاصة، بل لعله لا نظير له. ومنه يظهر حال ما عن المحقق الايرواني حيث قال: "إن من المحتمل قريباً حرمة كل جزء جزء، أو حرمة ما يعم الجزء والكل، فنقش كل جزء حرام مستقل إذا لم ينضم إليه نقش بقية الأجزاء، وإلا كان الكل مصداقاً واحداً للحرام".

نعم لا يبعد كون موضوع النهي هو قيام صرف الوجود بالصورة بنحو يعم الواحد والأكثر، فكما لا يجوز انفراد شخص واحد بالصورة لا يجوز اشتراك أكثر من

ص: 138

واحد فيها، سواءً كان اشتراكهم بنحو يمتزج ما يفعله كل منهم مع ما يفعله الآخر، كما لو صوّر أحدهم الهيكل، والآخر تقاطيع الجسد وألوانه، أم يتميز عنه، كما لو استقل كل منهم بعضو من الجسد، لإطلاق النصوص، ولاسيما ما أشتمل منها علي (من) الموصولة الصادقة علي الواحد والأكثر. فهو نظير حرمة قتل النفس.

ولعله إلي هذا يرجع ما عن المحقق الايرواني، حيث قال بعد ما سبق: "ويحتمل أن يكون كل فاعلاً للحرام، كما إذا اجتمع جماعة علي قتل واحد، فإن الهيئة تحصل بفعل الجميع، فلولا نقش السابق للأجزاء السابقة لم تتحصل الهيئة بفعل اللاحق".

ودعوي: أن مع الاشتراك بنحو يستقل كل منهم بجزء من الصورة، يكون التصوير مستنداً للأخير، لحصول الهيئة المحرمة به، ولا يكون من السابق إلا فعل مقدمة الحرام والإعانة عليه، وليس ذلك بمحرم علي عمومه، وإن حرم في خصوص بعض الموارد كالإعانة علي قتل المسلم، كما سبق في المسألة الثامنة.

مدفوعة بأن الذي يستند للأخير هو إكمال الصورة لا تمام الصورة، بل تستند الصورة بتمامها للجميع، ويكون المقام من صغريات التعاون علي الإثم، الذي سبق في المسألة الثامنة عموم حرمته.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أنه مع صنع الأجزاء بنحو التفريق إنما يصدق التصوير علي جمع الأجزاء وتركيبها.

إذ فيه: أن جمع أجزاء الصورة ليس تصويراً، بل يشكل كونه إيجاداً للصورة، كما أشرنا إليه عند الكلام في حكم التصوير الفتوغرافي، وإنما يستند إيجاد الصورة للمجموع من فعل الأجزاء وتركيبها. وأما تصويرها فهو يستند لفعل الأجزاء لا غير، لكن بشرط تركيبها. فالتركيب خارج عن التصوير عرفاً شرط في صدق الصورة علي المجموع، مع كون التصوير بفعل الأجزاء لا غير.

ومن ثم قد يقال بحرمة تصوير الأجزاء مع العلم بحصول تركيبها ولو من غير الفاعل. وإن كان الأمر محتاجاً لمزيد من التأمل. لكن لا تأمل في عدم صدق

ص: 139

الرأس أو مقطوع الرجل ففيه إشكال (1). أما لو كان تصويراً له علي هيئة خاصة - مثل تصويره جالساً أو واضعاً يده إلي خلفه أو نحو ذلك مما يعدّ تصويراً تاماً - فالظاهر هو الحرمة (2) إذا كانت مجسمة (3). ويجوز علي كراهية اقتناء الصور (4).

---------------

التصوير بالتركيب.

وبما ذكرنا يظهر أن فعل بعض الأجزاء يحرم إذا استتبع إكمال الصورة ولو من الغير. غاية الأمر أنه مع العلم بذلك لا يعذر الفاعل للبعض، ومع الجهل به يكون معذوراً. كما أنه مع قصد الفاعل لذلك أو اعتقاده من دون أن يتحقق يكون متجرياً.

(1) مقتضي ما ذكره (قدس سره) في مبحث الصحيح والأعم من أن المسمي هو الأعم من التام والناقص البناء علي الحرمة في المقام، للإطلاق. لكن ذكرنا في محله عدم تمامية المبني المذكور.

نعم الظاهر عدم توقف صدق الحيوان بجنسه أو بأنواعه علي تمامية جسده، فكما يصدق علي تام البدن أنه حيوان، أو نوع خاص منه، يصدق علي ناقصة وعلي ما يزيد منه عن الوضع الطبيعي، كالإنسان ذي الست أصابع، ولا ينقص عنه ولا يزيد عليه بذلك. وحينئذٍ يتعين البناء علي الحرمة للإطلاق.

غاية الأمر أنه لا يبعد تقوّم الحيوان بالرأس والجسد معاً، بحيث يتوقف صدقه عليهما معاً، فمع الاقتصار علي الرأس أو الجسد لا يصدق تصوير الحيوان الناقص، بل يقصر الإطلاق وتتعين الحلية، بناءً علي ما سبق من جواز تصوير البعض. ومثله ما إذا كانت الصورة ناقصة عرفاً لا صورة لحيوان ناقص، كما هو محل الكلام. فلاحظ.

(2) لإطلاق الأدلة. ولاسيما وأن المتعارف - خصوصاً في الصور غير المجسمة

خفاء بعض أجزاء البدن.

(3) بل مطلقاً، كما يظهر مما سبق.

ص: 140

(4) فعن مجمع البرهان أن المستفاد من الأخبار الصحيحة وأقوال الأصحاب عدم حرمة بقاء الصور غير المجسمة مع تقريب حرمة بقاء الصور المجسمة. وفي الجواهر عدم العثور علي قائل بالحرمة في بقاء المجسمة غيره.

نعم قد يستفاد حرمة الإبقاء حتي في غير المجسمة مما في النهاية، حيث يقال في بيان المحرمات التي لا يجوز التكسب بها: "وعمل الأصنام والصلبان والتماثيل المجسمة والصور والشطرنج والنرد وسائر أنواع القمار حتي لعب الصبيان بالجوز. فالتجارة فيها والتصرف والتكسب بها حرام محظور" .فإن عطف الصور علي التماثيل المجسمة موجب لظهورها في غير المجسمة، كما أن الحكم بحرمة التصرف فيها يناسب حرمة الإبقاء.

وكيف كان فقد يستفاد حرمة الإبقاء حتي في غير المجسمة: تارة: من إطلاقات النهي عن حرمة عمل التصاوير، بدعوي: أن المستفاد من تحريم عمل الشيء مبغوضية وجوده حدوثاً واستدامة.

وأخري: من مثل صحيح محمد بن مسلم المتقدم المتضمن النهي عن التماثيل بدعوي: أن مقتضي إطلاق النهي عن الشيء حرمة وجود المنهي عنه.

وثالثة: مما تضمن النهي عن اللعب بالتماثيل، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي (عليه السلام): "أنه سأل أباه عن التماثيل فقال: لا يصلح أن يلعب بها"(1) ، ونحوه خبره الآخر(2) ، ومرفوع المثني(3) ، ونحوه.

ورابعة: مما تضمن النهي عن تزويق البيوت وتصويرها، وجعل الصور فيها، كموثق أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أتاني جبريل قال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام، وينهي عن تزويق البيوت. قال أبو بصير: فقلت: وما تزويق البيوت ؟ فقال تصاوير التماثيل"(4) ، وخبر جراح المدائني: عنه (عليه السلام): "قال:

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 94 من أبواب ما يكتسب به حديث: 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 8، 1، 9.

(4) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 8، 1، 9.

ص: 141

تبنوا علي القبور ولا تصوروا سقوف البيوت، فإن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) كره ذلك"(1).

ومثله ما تضمن كراهة الصور في البيوت، كموثق يحيي بن أبي العلاء عنه (عليه السلام):" إنه كره الصور في البيوت"(2) ، وخبر حاتم بن إسماعيل عنه (عليه السلام) عن أبيه: "إن علياً كان يكره الصورة في البيوت"(3). ولاسيما بضميمة صحيح أبي بصير عنه (عليه السلام):" إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يكره أن يستبدل وسقاً من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر، لأن تمر المدينة أدونهما. ولم يكن علي (عليه السلام) يكره الحلال"(4).

ومثله صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: لا بأس بأن تكون التماثيل في البيوت إذا غيرت رؤوسها منها وترك ما سوي ذلك"(5) ، لأن مقتضي مفهومه ثبوت البأس مع عدم التغيير.

وخامسة: من موثق السكوني المتقدم عند الكلام في عموم الصور لغير المجسمة، ونحوه خبر ابن القداح عنه (عليه السلام):" قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): بعثني رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) في هدم القبور وكسر الصور"(6).

لكن الجميع لا يخلو عن إشكال أو منع. لاندفاع الأول بمنع الاستفادة المذكورة، لإمكان خصوصية الإيجاد في المبغوضية، بلحاظ كونه تشبهاً بالخالق عز وجل، كما يناسبه ما سبق في النصوص من تكليف المصور بنفخ الروح فيما صوره، وما في مرسل القطب الراوندي: "ومن صور التصاوير فقد ضاد الله"(7). ولاسيما مع ما سبق من أن النهي ليس عن مطلق الإيجاد، بل عن خصوص التصوير والتمثيل.

ومثله الثاني، لأن المتيقن منه حرمة الإيجاد الذي يكون بالتصوير، لأنه هو فعل المكلف عرفاً، دون الإبقاء. ولاسيما بلحاظ ما تضمن النهي عن التمثيل والتصوير،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 8، 1، 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 13، 14.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 13، 14.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الربا حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 4 من أبواب أحكام المساكن حديث: 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 7.

(7) مستدرك الوسائل ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 5.

ص: 142

حيث يصلح لبيان الإطلاق وشرح المراد منه.

كما يندفع الثالث بأنه لا ظهور لنفي الصلوح في النهي التحريمي. مع أن النهي عن اللعب بالصورة لا يستلزم حرمة اقتنائها وإبقائها. ولاسيما مع عدم معهودية اللعب بالصور إلا عند المقامرة، فلعله إشارة إلي النهي عن ذلك. كما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره).

إلا أن يراد بها مثل عبث الأطفال بها، كما يأتي في صحيح علي بن جعفر، الظاهر في جواز العبث بها، فيكون شاهداً علي حمل هذه النصوص علي الكراهة.

ويندفع الرابع بأن موضوع النهي لما لم يكن هو إيجاد الصورة والتمثال بوجه مطلق، بل خصوصية زائدة علي ذلك، وهي كونها في البيوت أو نحوه، فهو لا يقتضي النهي عن أصل الوجود بنحو يقتضي عدم الإبقاء والاقتناء، نظير ما لو قيل: لا تبق كلباً أو كافراً في الدار، حيث لا يدل علي وجوب قتل الكلب أو الكافر. بل قد يشعر بعدم النهي عن أصل الوجود، وأن المنهي عنه هو الخصوصية المذكورة لا غير.

علي أن حديثي أبي بصير وجراح المداني المتضمنين للنهي عن التزويق والتصوير واردان في الإحداث لا في الإبقاء. وما تضمن كراهة الصور في البيوت مطلقاً، أو إذا لم تغير، لا ظهور له في التحريم، بل في الأعم منه ومن الكراهة. وما تضمن أن علياً (عليه السلام) لا يكره الحلال لابد إما من تنزيله علي كراهة خاصة مسوقة للتحريم، كما يناسبه مورده، ولا يعلم كون الكراهة هنا مثلها، أو علي الحلال بالمعني الأخص، وهو المقابل للأحكام الأربعة، وإلا فلا إشكال في كراهته (عليه السلام) للمكروه بالمعني الأخص.

وأما الخامس فهو قضيته في واقعة، والمتيقن كون الأمر المذكور خاصاً بأمير المؤمنين (عليه السلام) لا تشريعاً عاماً، فإنه (صلوات الله عليه) كان مبعوثاً من قبل النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وقائماً مقامه في تنفيذ ما يطلب في تلك الواقعة، ففعله (عليه السلام) كفعله (صلي الله عليه وآله وسلّم) لا إطلاق له ولا ظهور له في الإلزام تشريعاً، كما يناسبه سياقه بهدم القبور وقتل الكلاب في الحديثين المتقدمين. ومجرد إلزامه (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) بفعل تلك الأمور لا يدل

ص: 143

علي لزومه شرعاً بعنوانه الأولي، نظير ما لو ألزمه بالإنفاق علي جار له (صلي الله عليه وآله وسلّم) أو عتق عبد من عبيده.

هذا مضافاً إلي النصوص الظاهرة أو الصريحة في جواز الإبقاء والاقتناء، كصحيح عبدالله بن المغيرة:" سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: قال قائل لأبي جعفر (عليه السلام): يجلس الرجل علي بساط فيه تماثيل ؟ فقال: الأعاجم تعظمه، وإنا لنمتهنه"(1) ، وموثق أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام): "سألته عن الوسادة والبساط يكون فيه التماثيل. فقال: لا بأس به يكون في البيت. قلت التماثيل. فقال: كل شيء يوطأ فلا بأس به"(2).

وصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال له رجل: أصلحك الله ما هذه التماثيل التي أراها في بيوتكم ؟ فقال: هذا للنساء أو بيوت النساء"(3). فإنه حيث لا يحتمل الفرق في الحكم بين النساء والرجال يتعين حمله علي كراهة وجود التماثيل في البيوت، وأن النساء إنما يقمن بذلك لعدم تنزههن عن المكروه.

وصحيح محمد بن مسلم: "قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أصلي والتماثيل قدامي وأنا أنظر إليها؟ قال: لا. اطرح عليها ثوباً، ولا بأس بها إذا كانت عن يمينك أو شمالك أو خلفك أو تحت رجلك أو فوق رأسك. وإن كانت في القبلة فألق عليها ثوباُ وصل"(4) ، ومرسل ابن أبي عمير عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سألته عن التماثيل تكون في البساط لها عينان [تقع عينك عليه] وأنت تصلي. فقال: إن كان لها عين واحدة فلا بأس، وإن كان لها عينان فلا"(5).

وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن البيت فيه صورة سمكة أو طير أو شبهه يعبث به أهل البيت، هل تصح الصلاة فيه ؟ فقال: لا حتي يقطع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 4 من أبواب أحكام المساكن حديث: 1، 2، 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 4 من أبواب أحكام المساكن حديث: 1، 2، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 4 من أبواب أحكام المساكن حديث: 1، 2، 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 32 من أبواب مكان المصلي حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 45 من أبواب لباس المصلي حديث: 7.

ص: 144

وبيعها (1) وإن كانت مجسمة وذوات أرواح.

(مسألة 17): الغناء حرام (2).

---------------

رأسه منه ويفسد، وإن كان قد صلي فليس عليه إعادة"(1). لظهوره في جواز وجود الصورة المذكورة في البيت وجواز العبث بها، وأن المحذور في الصلاة في البيت حينئذٍ. ومثلها النصوص الكثيرة الواردة في الدراهم التي فيها التماثيل(2)... إلي غير ذلك من النصوص الواردة في لباس المصلي ومكانه الظاهرة في المفروغية عن جواز اقتناء الصور وإن كان ذلك مكروهاً لنفسه أو من أجل الصلاة.

ومقتضي إطلاقها عدم الفرق بين المجسمة وغيرها. بل لعل صحيح علي بن جعفر ظاهر في المجسمة، لأن العبث إنما يكون بها. وكذا خبره المتقدم المتضمن كسر رؤوس التماثيل ونحوه غيره. ولا وجه مع ذلك لما سبق عن الأردبيلي. علي أنه خال عن الشاهد. فلاحظ.

(1) للأصل، وعمومات النفوذ. خلافاً لظاهر ما تقدم من النهاية ونحوه في المقنعة والمراسم وعن السرائر. ولا وجه له بعد ما سبق من جواز اقتنائها. نعم لا يصح البيع إذا ابتني علي الحث علي صنعها بالوجه الحرام، كما لو كان البيع بنحو بيع الكلي ولم يتيسر تحصيل المبيع إلا بالصنع، لأن حرمة الصنع تنافي نفوذ البيع، نظير ما تقدم في الإجارة علي عمل التصوير.

(2) بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، بل يمكن دعوي كونه ضرورياً في المذهب. كذا في الجواهر. ويقتضيه النصوص المستفيضة، بل المتواترة، كصحيح هشام عن أبي عبد الله (عليه السلام): "في قوله تعالي: (فَاجتَنِبُوا الرِّجسَ مِن الأَوثَانِ وَاجتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ) قال: الرجس من الأوثان الشطرنج، وقول الزور الغناء"(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 32 من أبواب مكان المصلي حديث: 12.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 45 من أبواب مكان المصلي.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به حديث: 26.

ص: 145

وصحيح الريان بن الصلت:" قلت للرضا (عليه السلام): أن العباسي أخبرني انك رخصت في سماع الغناء. فقال: كذب الزنديق ما هكذا كان، إنما سألني عن سماع الغناء، فأعلمته أن رجلاً أتي أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)، فسأله عن سماع الغناء، فقال: أخبرني إذا جمع الله تعالي بين الحق والباطل مع أيهما يكون الغناء؟ فقال: الرجل مع الباطل. فقال له أبو جعفر (عليه السلام): حسبك، فقد حكمت علي نفسك. فهكذا كان قولي"(1).

فإن الباطل وإن أمكن أن ينطبق علي المكروه، بل كل ما لا فائدة فيه، إلا أن مقابلته هنا بالحق، وظهور حال السائل في طلب الرخصة ولو مع الكراهة، وشدة إنكار الإمام (عليه السلام) ترخيصه في السماع، يناسب إرادة الحرمة هنا جداً. فتأمل. علي إنه يكفي النصوص الأخر الكثيرة. بل تقدم في المسألة الثامنة والعشرين من مسائل التقليد أنه من الكبائر. فراجع.

وعن الكاشاني عدم حرمة الغناء في نفسه، بل بلحاظ ما يقارنه كثيراً من المحرمات، كضرب الأوتار، والزمر، ودخول الرجال علي النساء، وتكلمهن بالباطل، ونحو ذلك. وقد يظهر ذلك من محكي كلام الخراساني في الكفاية.

وقد يستدل لهما بما تضمن تطبيق قول الزور عليه، وما تضمن تطبيق الباطل عليه كالصحيحين المتقدمين، وغيرهما من النصوص الكثيرة. بدعوي: أن مقتضاهما أن منشأ الحرمة كون المضمون الذي يتغني به زوراً وباطلاً.

مضافاً إلي مرسل الصدوق: "سأل رجل علي بن الحسين (عليه السلام) عن شراء جارية لها صوت. فقال: ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة. يعني: بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء. فأما الغناء فمحظور"(2). بناءً علي أن التفسير عن الصدوق.

********

(1) قرب الإسناد ص: 148. وأشار إليه في الوسائل ج: 2 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به حديث: 14.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 146

وخبر علي بن جعفر:" سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر والأضحي والفرح ؟ قال: لا بأس به ما لم يعص به"(1). وصحيح أبي بصير: "قال أبو عبدالله (عليه السلام): أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرجال"(2) ، ومعتبره الآخر:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن كسب المغنيات. فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام، والتي تدعي إلي الأعراس ليس به بأس"(3).

لكن تطبيق قول الزور عليه لا يقتضي تقييد النهي عنه بما إذا كان المضمون المتغني به زوراً، بل هو خلاف إطلاق التطبيق. ويتعين حمله علي كونه تطبيقاً تعبدياً أو تفسيراً بالباطن. علي أن الزور ليس هو الكذب لغة، بل هو الميل، وإنما أطلق علي الكذب لميله عن الحق، وحينئذٍ يمكن إطلاقه علي الغناء حتي لو كان المضمون المتغني به صادقاً بلحاظ كون الهيئة الغنائية اللهوية موجبة للميل بالكلام عن الحق للباطل والحرام.

وكذا الحال في تطبيق الباطل عليه، حيث لا قرينة علي كونها بلحاظ بطلان المضمون وكونه كذباً بنحو يرجع للتقييد بذلك، بل ظاهره صيرورة الكلام بسبب الهيئة الغنائية باطلاً مع قطع النظر عن مضمونه.

ويؤكد ذلك ما في موثق عبد الأعلي: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الغناء، وقلت: أنهم يزعمون أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) رخص في أن يقال: جئناكم جئناكم حيونا نحييكم. فقال: كذبوا. إن الله عز وجل يقول: (وَمَا خَلَقنَا السَّمَاءَ وَالأَرضَ وَمَا بَينَهُمَا لاَعِبِينَ * لَو أَرَدنَا أَن نَتَّخِذَ لَهوًا لاَتَّخَذنَاهُ مِن لَدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَل نَقذِفُ بِالحَقِّ عَلَي البَاطِلِ فَيَدمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُم الوَيلُ مِمَّا تَصِفُونَ)..."(4).

وأما مرسل الصدوق فمن القريب حمله علي بيان حسن صوتها، كما هو المفهوم منه عرفاً. وإرادة خصوص الغناء من الصوت إنما يشيع بين أهل الغناء، ولا قرينة علي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 3، 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 3، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 3، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به حديث: 15.

ص: 147

جري المرسل عليه. علي أنه ضعيف في نفسه بالإرسال.

كما أن حديث علي بن جعفر وإن روي كما سبق بطريق لا يخلو عن ضعف، إلا أنه روي صحيحاً في كتاب علي بن جعفر هكذا:" ما لم يزمر به ".وهو حينئذٍ لا يخلو عن إجمال، فإن الزمر هو النفخ بالمزمار بنحو موسيقي يناسب الإيقاع الغنائي. ولو أريد ذلك لكان المناسب أن يقال: ما لم يزمر أو ما لم يزمر معه. أما الزمر به فلا يمكن أن يراد علي حقيقته، لوضوح أن المزمار لا يغني به، بل يزمر به مع الغناء. ومن ثم يكون مجملاً أو يحمل علي ترجيع الصوت بالغناء بوجه موسيقي بالنحو المشابه لترجيع النفخ بالمزمار، وهو أمر مقوم للغناء عرفاً، فلابد من حمل الغناء المسؤول عنه علي مطلق الإنشاد الذي يمكن أن يقع بالوجهين.

علي أن السؤال مشعر بالمفروغية عن حرمة الغناء في نفسه، وأن السؤال عنه لخصوصية كونه في العيدين والفرح. وحينئذٍ لا يبعد حمل الفرح علي خصوص الزفاف، حيث لا يبعد شيوع إطلاقه عليه عرفاً. وإلا فلا منشأ لتوهم خصوصية الفرح في التحليل، ولاسيما مع غلبة كون مورد الغناء عند أهله الفرح، فحمل تحريمه علي غيره بعيد عرفاً، فيبعد السؤال عنه. وغاية ما يدلّ عليه الحديث حينئذٍ استثناء العيدين والزفاف من الحرمة، وهو أمر آخر ليس محلاً للكلام.

وأما صحيح أبي بصير فهو وإن كان ظاهراً في أن منشأ حلّ أجر المغنية التي تزف العرائس عدم دخول الرجال عليها، حيث يظهر من ذلك أن الحرمة منوطة بدخول الرجال الذي هو أمر خارج عن الغناء، إلا أن من الظاهر أن الحرمة لأمر خارج لا تختص بدخول الرجال، بل يوجد غيره كثير من المحرمات الشايعة حال الغناء، كاستعمال الملاهي وكون الغناء بذيئاً أو مثيراً للشهوة بوجه محرم. كما أن المغنية التي تزف العرائس قد يدخل عليها الرجال. ومن ثم لا يخلو مضمونه عن غرابة. ومن القريب جداً اتحاده مع معتبر أبي بصير المتقدم، وليس الاختلاف بينهما إلا من جهة النقل بالمعني.

ص: 148

وحينئذٍ فمن الظاهر أن التفصيل في المعتبر المذكور بين التي تدعي للأعراس والتي يدخل عليها الرجال ليس مستوعباً، والتقابل بينهما ليس تاماً، لما ذكرنا من أن التي تدعي للأعراس قد يدخل عليها الرجال، ولأن المغنية قد تغني في غير الأعراس من دون أن يدخل عليها الرجال. ومن ثم لا مجال لأن يستفاد منه انحصار المحرم بمن يدخل عليها الرجال، إذ هو ليس بأولي منه أن يستفاد منها انحصار المحلل بالتي تدعي للأعراس.

علي أن هذه النصوص مهما بلغت من القوة لا تنهض برفع اليد عن النصوص الكثيرة الظاهرة في حرمة الغناء بعنوانه مع قطع النظر عما يقارنه من المحرمات، فإن حملها بأجمعها علي حرمته عرضاً بلحاظ ما يقارنه مما تأباه جداً. ولاسيما مع شيوع خلوّ الغناء عن المقارنات المذكورة. بل هو كالمقطوع به من موثق عبد الأعلي المتقدم، فإن السؤال فيه عن القول المذكور لا غير.

ومثله دعوي: أن المحرم وإن كان هو الغناء بعنوانه إلا أنه يختص بما إذا كان المضمون المتغني به باطلاً، لا من جهة حرمة إنشاد الشعر ذي المضمون الباطل، لعدم حرمته إذا لم يكن مبنياً علي تبني مضمونه، وإنما يحرم إذا كان بنحو الغناء، لخصوصية في الغناء.

لخلو الدعوي المذكورة عن الشاهد. أما النصوص الخاصة المتقدمة فظاهر، لعدم الإشارة فيها لذلك. وأما ما تضمن تطبيق قول الزور والباطل عليه، فلما سبق. مضافاً إلي موثق عبد الأعلي المتقدم، وخبر عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام):" أقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق والكبائر، فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية لا يجوز تراقيهم..."(1). لظهوره - كغيره (2)- في حرمة التغني بالقرآن. فتأمل. بل نسبة اللحون

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 24 من أبواب قراءة القرآن حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به حديث: 27.

ص: 149

إذا وقع علي وجه اللهو والباطل (1)،

---------------

فيه لأهل الفسق والكبائر ظاهر في حرمة اللحن المذكور في نفسه مع قطع النظر عن مضمونه.

وكذا ما تضمن حرمة استماعه، لظهوره بل صراحة بعضه - كما يأتي - في حرمة الاستماع بنفسه وإن لم يقترن بالباطل، مع وضوح أن حرمة الاستماع اللهوي تستلزم حرمة الإنشاد اللهوي عرفاً. فلاحظ.

(1) أما بناءً علي اختصاص الغناء مفهوماً بذلك فظاهر. وأما بناءً علي عمومه لغيره فلقرب انصرافه له، لما هو المرتكز من مناسبة الغناء لذلك، وكونه المقصود منه نوعاً، وبه يكون منشأ للاستنكار عرفاً، حيث يقرب كون النهي جارياً علي مقتضي الارتكاز المذكور، كما تقدم عند الكلام في كون الغناء من الكبائر في المسألة الثامنة والعشرين من مسائل التقليد.

وقد قال سيدنا المصنف (قدس سره) هناك: "علي ما يتعارف عند أهل الفسوق" .وقد أشرنا هناك إلي أنه لا منشأ لاعتبار ذلك في موضوع الحرمة. ومن ثم لا يبعد عدم كون المراد بذلك التقييد، بحيث يكون اللحن الغنائي الذي لا يتعارف عند أهل الفسوق سائغاً، كما قد يتوهم، بل الإشارة للنوع الخاص، وهو ما يقصد به التلهي من الصوت المرجع به، بلحاظ أن ذلك هو الذي يتداوله أهل الفسوق.

وعلي ذلك فموضوع الحرمة مطلق الصوت المرجع به من أجل التلذذ اللهوي، بالخروج به عن مقام الجد والواقع الحاضر إلي نحو من العبث المبني علي التوجه لباطن النفس وتنبيه غرائزها وهزّ مشاعرها بالإيقاع الغنائي، إشباعاً لرغبتها الكامنة في المزيد من الابتهاج أو التفجع أو الفخر أو الغرام أو غير ذلك حسب اختلاف الأغراض. في مقابل ما إذا لم يكن الغرض اللهو والباطل، بل أمر آخر كالاتعاظ، والتحزن علي الحق - كما هو الحال في عزاء سيد الشهداء - أو الابتهاج بالحق - كما في مواليد المعصومين (عليهم السلام) - أو نحو ذلك. فلاحظ.

ص: 150

وكذا استماعه (1).

---------------

(1) بلا إشكال ظاهر. ويقتضيه صريحاً صحيح مسعدة بن زياد فيمن أطال الجلوس لاستماع الغناء، حيث قال (عليه السلام): "قم فأغتسل وصلّ ما بدا لك، فانك كنت مقيماً علي أمر عظيم. ما كان أسوأ حالك لو متّ علي ذلك ؟! احمد الله، وسله التوبة من كل ما يكره"(1). ومعتبر عنبسة عنه (عليه السلام):" قال: استماع اللهو والغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع"(2). وما في خبري إبراهيم والطاطري(3) من أن الاستماع للجواري المغنيات نفاق. وفي خبر الحسن بن هارون: "سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: الغناء مجلس لا ينظر الله إلي أهله، وهو مما قال الله عز وجل: (وَمِن النَّاسِ مَن يَشتَرِي لَهوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ)"(4). ومن الظاهر أن المجلس إنما يكون بالمستمعين.

مضافاً إلي قرب استفادته من إطلاق الأمر باجتناب الغناء، لأن الغناء لما كان مطلوباً للتلهي من المغني والسامع، فالأمر باجتنابه ينصرف للنهي عنه في حقهما معاً. ولاسيما ما تضمن منه تفسير قوله تعالي: (وَمِن النَّاسِ مَن يَشتَرِي لَهوَ الحَدِيثِ)(5) بالغناء(6) ، لوضوح أن صدق المشتري علي السامع أظهر من صدقه علي المغني. ومنه يظهر قرب كونه من الكبائر، كما تقدم في محله.

نعم لا يبعد اختصاص حرمة الاستماع بما إذا ابتني علي التلذذ اللهوي ومحاولة الانفعال به والتجاوب معه، دون ما إذا لم يكن كذلك، كالاستماع من أجل التعرف علي مادته والتبصر بها، أو الوقوف علي بعض الأمور المقارنة له من دون انفعال به، لانصراف عن النهي ذلك بسبب ابتناء الغناء المحرم علي ما إذا وقع علي نحو اللهو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب الاغسال المسنونة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 101 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 7.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به حديث: 16.

(5) سورة لقمان آية: 6.

(6) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 151

والمراد منه ترجيع الصوت علي نحو خاص وإن لم يكن مطرباً (1). ولا فرق في حرمته بين وقوعه في قراءة ودعاء ورثاء وغيرها (2). ويستثني منه الحداء (3)،

---------------

والباطل. وقد تقدم هناك ما ينفع في المقام.

وأظهر من ذلك السماع العابر من دون استماع. لقصور الأدلة المتقدمة عنه رأساً.

ومنه يظهر أنه مع الاضطرار للسماع لا يجوز الاستماع بوجه لهوي، بل لابد من الاقتصار علي السماع أو الاستماع بوجه غير لهوي.

(1) تقدم تحديد الغناء عند الكلام في كونه من الكبائر، وقد تقدم آنفاً عند الكلام في اعتبار وقوعه علي وجه اللهو والباطل ما يتعلق بالمقام.

(2) للإطلاق. كما يظهر مما تقدم قريباً أنه لا مجال لتخصيصه بما إذا كان المضمون الذي يتغني به باطلاً.

(3) فقد صرح بجوازه في كتاب الشهادات من الشرايع والدروس ومحكي القواعد والكفاية ولا يظهر من الأولين كونه استثناء من حرمة الغناء، بل لا يبعد ابتناؤه علي التباين بينهما، كما يناسبه عدم استثنائه من إطلاق تحريم الغناء في مبحث المكاسب من الثلاث الأول. وهو غير بعيد في نفسه. ولا أقل من خروجه عن المتيقن من الغناء، لإجماله من هذه الجهة، ومقتضي الأصل جوازه حينئذٍ.

هذا ولو فرض دخوله في الغناء كفي في جوازه موثق السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

زاد المسافر الحداء والشعر ما كان منه ليس فيه جفاء [خفاء]" (1) ، ونحوه معتبر الاشعثيات(2). وفي صحيح معمر بن خلاد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام):" قال: بينما الحسين (عليه السلام) يسير في جوف الليل وهو متوجه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 37 من أبواب آداب السفر للحج وغيره حديث: 1.

(2) كتاب الاشعثيات ص: 158.

ص: 152

وغناء النساء في الأعراس (1) إذا لم يضم إليه محرم آخر،

---------------

إلي العراق، وإذا برجل يرتجز وهو يقول:

وشمري قبل طلوع الفجر حتي تحلي بكريم القدرأبانه الله لخير أمر

يا ناقتي لا تذعري من زجر بخير ركبان وخير سفربماِجد الجَدّ رحيب الصدر

فقال الحسين (عليه السلام):

إذا ما نوي حقاً وجاهد مسلماً... "(1) سأمضي وما بالموت عار علي الفتي

فإنه وإن تضمن الارتجاز، إلا أن الأبيات تناسب الحداء وهو المصرح به في بعض كتب التاريخ. كما أنه ظاهر في كون الحادي من ركب الحسين (صلوات الله عليه) أو ممن يقصده، وفي تقريره (عليه السلام) له علي ذلك.

(1) كما في النافع والدروس. ويقتضيه ما في النهاية والقواعد وظاهر الكليني في الكافي وعن غيرها من إباحة الأجرة عليه، لما هو الظاهر من استلزام إباحة الأجرة إباحة العمل المستأجر عليه، واختاره في الجواهر، وقال:" بل نسبه بعض مشايخنا للشهرة".

والوجه فيه النصوص كحديثي أبي بصير المتقدمين. ومعتبره الثالث عنه (عليه السلام):" المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها"(2).

وعن السرائر والإيضاح التحريم، وهو ظاهر كل من أطلق حرمة الغناء ولم يستثن، كما في الشرايع وعن المقنعة والمراسم وغيرها. قال في مفتاح الكرامة: "قد نقول إن تحريم الغناء كتحريم الزني، أخباره متواترة، وأدلته متكاثرة عّبر عنه بقول الزور ولهو الحديث في القرآن، ونطقت الروايات بأنه الباعث علي الفجور والفسوق،

********

(1) كامل الزيارات ص: 95 باب: 29.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 153

فكان تحريمه عقلياً لا يقبل تقييداً ولا تخصيصاً، والأخبار الواردة في ذلك محمولة علي التقية" .وقد جري علي ما ذكره شيخه كاشف الغطاء (قدس سره) في شرحه للقواعد، بل يكاد لا يخرج عن ألفاظه.

لكنه كما تري، فإن العموم قابل للتخصيص. ومجرد كثرة نصوص العموم وقلة نصوص التخصيص لا يمنع منه بعد اعتبار سند المخصص، وظهور عدم إعراض الأصحاب عنه، بل عمل جماعة به. ومع ذلك لا وجه لحمل النصوص المذكورة علي التقية.

وأما التعبير عنه بقول الزور ولهو الحديث فهو لا يجعل تحريمه عقلياً غير قابل للتخصيص. ولاسيما بعد كون تفسير التعبير المذكور بالغناء تعبدياً مبتنياً علي التفسير بالباطن. كما أن ما تضمنته الروايات من أنه الباعث علي الفسوق والفجور لا يراد به ترتب ذلك عليه فعلاً، بل كونه معدّاً له، بحيث من شأنه أن يترتب عليه نوعاً، فلا ينافي تحليله بوجه خاص لا يوجبه في علم الشارع الأقدس دائماً أو نوعاً، أو مشتمل علي مزاحم يقتضي رفع اليد عن فعلية تحريمه.

ومثله الإشكال بأن النصوص إنما تضمنت حلية أجر المغنية حينئذٍ، وهي أعم من أجرها علي الغناء، بل لعله أجر لعمل آخر لها. ولو سلم أن المراد الأجر علي غنائها فحليته لا تستلزم حلية نفس الغناء. لاندفاعه بقوة ظهور النصوص في كون المراد أجر الغناء، بل هي كالصريحة في ذلك. ولاسيما مع اشتمال بعضها علي التفصيل بين دخول الرجال عليها وعدمه. كما أن وضوح التلازم بين حلية الأجر وحلية العمل المستأجر عليه توجب ظهورها، أو صراحته في حلية الغناء. ومن هنا لا مخرج عن القول بالحلية.

نعم لابد من الاقتصار علي غناء النساء للنساء، دون غنائهن للرجال، لاستفادته عرفاً من تحريم أجر المغنية التي يدخل عليها الرجال، كما تضمنته بعض النصوص المتقدمة. ودون غناء الرجال للرجال أو للنساء، للعمومات بعد قصور

ص: 154

من الضرب بالطبل (1)،

---------------

نصوص الترخيص عنه.

كما لابد من الاقتصار علي خصوص مجلس الزفاف وما يتعلق به، دون بقية ما يتعلق بالزواج من المجالس - مما تعارف في عصورنا - أو لم يتعلق به. لخروجه عن نصوص الاستثناء المتقدمة. والتعدي عنه بفهم عدم الخصوصية غير ظاهر الوجه بعد كون الاستثناء تعبدياً.

هذا وقد تقدم في حديثي علي بن جعفر الترخيص في الغناء في الفرح والعيدين. ولا يبعد حمل الفرح علي خصوص العرس، كما تقدم. وأما العيدان فلا يظهر القول باستثنائهما من إطلاق التحريم، ومن ثم يسقط الحديثان عن الحجية بالهجر.

(1) وغيره من الملاهي، كاستعمال المزامير وغيرها. فقد قيد بذلك في كلام غير واحد. نعم لم يذكره في النهاية والمنافع. ولعله لوضوح حرمته.

ثم إن المراد بالملاهي ما يحرم في نفسه منها، وقد أطلق غير واحد حرمتها. وتقتضيها جملة من النصوص، مثل ما في معتبر الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا (عليه السلام) فيما كتبه في بيان شرايع الدين عند التعرض للكبائر من قوله (عليه السلام): "والاشتغال بالملاهي"(1) ، وموثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أنهاكم عن الزفن والمزمار وعن الكوبات والكبرات"(2) ، وغيرهما.

لكن استثني جماعة الختان والزفاف، فأجازوا فيهما الدفّ مطلقاً - كما في الشرايع وعن المبسوط والخلاف - أو إذا كان من غير صنج، كما في الدروس.

ومقتضاه جواز استعمال المغنية في الأعراس له. بل في مفتاح الكرامة: "فالدف الذي لا صنج فيه ولا جلاجل يجوز لعبها به عند جماعة".

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 46 من أبواب جهاد النفس حديث: 33.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 100 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

ص: 155

ويشهد لهم في الجملة حديث الاشعثيات عن أبي الحسن موسي (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): فرق ما بين السفاح والنكاح ضرب الدف" (1) والظاهر اعتبار سنده. علي ما يأتي في المسألة الأخيرة من المكاسب المحرمة إن شاء الله تعالي.

ودعوي: ظهوره في بيان حال ما عليه الناس في الخارج، لا بيان قضية شرعية، ليستفاد منه حلية ضرب الدف في النكاح. ممنوعة، بل الأصل في بيانات الشارع أنها واردة في مقام التشريع. مع أن ذلك لو تم فظاهره إمضاء السيرة المذكورة. ولاسيما مع نقل ذلك من قبل الأئمة (عليهم السلام) بعد ظهور تسامح المسلمين في استعمال الملاهي، فلو كان ذلك محرماً كان المناسب التنبيه علي ذلك دفعاً لما يوهمه الحديث الشريف.

ويؤيد ذلك ما روي من طرق العامة من قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم): "فصل ما بين الحرام والحلال بالضرب بالدف عند النكاح"(2) ، وقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):" أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال"(3).

ومثلها دعوي: أن كتاب الاشعثيات كما أشتمل علي الحديث المذكور أشتمل علي حديث آخر بنفس السند روي نظيره العامة أيضاً: "إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) مرّ علي قوم من الزنج وهم يضربون بطبول لهم ويغنون، فلما نظروا إلي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) سكنوا، فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): خذوا بني ارفدة ما كنتم فيه، ليعلم اليهود أن ديننا في فسحة" (4) وحيث كان الحديث مخالفاً لما عليه الأصحاب (رضوان الله تعالي عليهم) فتوي ورواية يتعين طرحه وطرح الحديث الأول لأنهما من سنخ واحد.

لاندفاعها بأن طرح الحديث المذكور لما ذكر لا يستلزم طرح الحديث المستدل به بعد عدم المعارض له من النصوص، وظهور فتوي جماعة من الأعيان بمضمونه.

********

(1) كتاب الاشعثيات ص: 158.

(2) سنن البيهقي ج: 7 ص: 289، 290.

(3) سنن البيهقي ج: 7 ص: 289، 290.

(4) كتاب الاشعثيات ص: 157.

ص: 156

والتكلم بالباطل (1)، ودخول الرجال علي النساء (2)، وسماع أصواتهن علي نحو يوجب تهيج الشهوة (3)، وإلا حرم ذلك (4).

---------------

نعم هو مختص بالزواج، ولا مجال للتعدي عنه للختان بعد كون مقتضي إطلاقات النهي عن استعمال الملاهي المنع عنه فيه.

كما لا يبعد الاقتصار علي ما خلا عن الصنج، والجلاجل، لأنه زيادة في الملاهي، خارجة عن الدف، ولا شاهد علي الترخيص فيها. غاية الأمر التعدي عن الدف لما يشبهه، كالطبل والصفيحة المعدنية ونحوهما.

(1) إن أريد بالباطل الكذب فالتكلم به إنما يحرم إذا ابتني علي تبني مضمونه، حيث يكون المتكلم به كاذباً حينئذٍ. أما إذا لم يتبن مضمونه - كما هو الحال في منشد الشعر، لحسن أسلوبه أو ابتكار معاينه أو نحوهما - فلا دليل علي حرمة إنشاده بعد أن لم يكن كاذباً به.

وإن أريد به الكلام الذي لا فائدة فيه فلا دليل علي حرمته. ومن هنا يتعين الاقتصار في تحريم الكلام علي ما إذا كانت المغنية كاذبة به، لكذبه في نفسه وتبنيها لمضمونه، أو يترتب عليه محذور شرعي كمدح أو ذم من يحرم مدحه أو ذمه، والتشجيع علي المعصية ونحو ذلك.

(2) دخول الرجال علي النساء ليس محرماً بنفسه، إلا أن يلزم منه الإطلاع علي ما يحرم نظرهم إليه منهن.

(3) إنما يحرم ذلك علي المرأة إذا ابتني الكلام منها علي إسماع الرجال بالنحو المذكور. أما إذا لم يكن كذلك، بل كان الرجل متعمداً للاستماع بالنحو الموجب لتهييج شهوته من دون أن تكون بصدد إسماعه فلا دليل علي حرمة الكلام عليها، بل تنحصر الحرمة بالرجل المستمع.

(4) فقد صرح بحرمته حينئذٍ مع الثلاثة الأول أكثر من تعرض لاستثناء غناء

ص: 157

(مسألة 18): معونة الظالمين في ظلمهم، بل في كل محرم حرام (1).

---------------

المغنية في الأعراس، واقتصر في النهاية والمنافع علي الثاني والثالث. ومن الظاهر أن اقتران الحرام بالحلال لا يوجب حرمة الحلال، بل لكل حكمه.

اللهم إلا أن يقال: اللعب بالملاهي وإن كان أمراً مبايناً للغناء، إلا أنه لا يتحقق الغرض منه إلا مع التنسيق بينهما بحيث يكونان بإيقاع متجانس، فيكون الغناء بنفسه محققاً للغرض من اللعب بالملاهي، فيحرم لذلك.

كما أن التكلم بالباطل في فرض حرمته، يستلزم حرمة الغناء للاتحاد بينهما، لأن الغناء ليس هو الهيئة الخاصة، بل الكلام ذو الهيئة الخاصة. فالغناء حينئذٍ وإن لم يحرم بما أنه غناء، إلا أنه يحرم بما أنه تكلم بالباطل.

وأما دخول الرجال علي النساء فحديثا أبي بصير الأولان ظاهران في حرمة الغناء علي المغنية معه. بل لا يبعد التعدي منه لما إذا كان الغناء عالياً بحيث يسمعه الرجال خارج المجلس. فلاحظ.

(1) أما حرمة معونة الظالمين في الجملة فالظاهر عدم الإشكال فيها بين الأصحاب. والنصوص بها مستفيضة، كصحيح أبي حمزة عن علي بن الحسين (عليه السلام): "قال: إياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين"(1) ، وصحيح أبي بصير:" سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أعمالهم فقال لي: يا أبا محمد لا ولا مدة قلم. إن أحدهم [أحدكم] لا يصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينه مثله، أو حتي يصيبوا من دينه مثله. الوهم من ابن أبي عمير"(2) ، وصحيح يونس بن يعقوب: "قال: لي أبو عبدالله (عليه السلام): لا تعنهم علي بناء مسجد"(3) ، وموثق السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام):" قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): إذا كان يوم القيامة نادي مناد: أين الظلمة، وأعوان الظلمة، ومن لاق لهم دواة، أو ربط كيساً، أو مدّ لهم مدة قلم، فاحشروهم معهم"(4) ، ونحوه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 42 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 42 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 8، 11.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 42 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 8، 11.

(4) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 42 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 8، 11.

ص: 158

ما عن نوادر الراوندي(1) وغيرها من النصوص الكثيرة. بل تقدم في المسألة الثامنة والعشرين من مباحث التقليد إنها من الكبائر.

هذا وقد يستدل علي ذلك بقوله تعالي: (وَلاَ تَركَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُم النَّارُ)(2) ، إما لأن الركون إليهم هو الدخول معهم في الظلم، أو لأنه هو الميل لهم، فتدل علي تحريم إعانتهم بالأولوية، كما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره).

لكنه يشكل بأن المعني الأول - مع كونه خلاف المتيقن أو الظاهر من الركون

إنما يقتضي حرمة المشاركة في الظلم، لا حرمة الإعانة عليه - بفعل المقدمات أو التمكين منها - التي هي محل الكلام.

وأما الثاني - فهو وإن كان قريباً في نفسه، ويناسبه ما في بعض النصوص من تطبيق الآية الشريفة علي من يحب بقاء الظالم (3)- إلا أن حرمته لا تقتضي حرمة الإعانة بتنقيح المناط، فضلاً عن الأولية، لأن الميل المذكور ينافي الإنكار القلبي الواجب بالإضافة للظلم بل لجميع المحرمات، بخلاف الإعانة، فإنها قد تكون لمجرد المنافع المادية من دون أن تنافي الإنكار القلبي المذكور. ولذا صرح (قدس سره) بعدم الدليل علي عموم حرمة الإعانة علي الحرام، مع أنه لا إشكال في حرمة الميل للعاصي. كما تقدم جواز مثل بيع العنب ممن يصنعه خمراً مع وضوح حرمة الميل لصانعه، بل يجب الإنكار القلبي لعمله.

ومثله الاستدلال لحرمتها بحكم العقل. إذ فيه: أن حكم العقل بقبحه بملاك قبح التعدي والظلم الذي هو علة تامة في القبح ممنوع جداً لاختصاص الظلم والتعدي بالمباشر دون المعين. وبملاك التنزه عن تمكين الظالم من الظلم وإن كان مسلماً في الجملة، إلا أنه ليس علة تامة في القبح، بل هو كالتنزه عن الإعانة علي الإثم

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 7.

(2) سورة هود آية: 113.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 44 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 159

قد يزاحم بما يمنع من الإلزام به، فلا طريق لإحراز حكم الشارع بالحرمة معه فالعمدة في حرمتها النصوص. فلاحظ.

هذا ومما سبق منّا في المسألة الثامنة يظهر عدم ثبوت عموم حرمة الإعانة علي الحرام، فضلاً عن حرمة إعانة فاعل الحرام ولو في غير الحرام، وأن الثابت إنما هو عموم حرمة التعاون علي الحرام الذي هو بمعني الاشتراك فيه. وعليه فالحرمة في المقام تبتني علي خصوصية في الظلم تقضي بحرمة الإعانة فيه.

وحينئذٍ يقع الكلام في وجهين:

الأول: في عموم حرمة المعونة لكل ظالم أو اختصاصها بخصوص سلاطين الجور وحكوماته. لا ريب في اختصاص كثير من النصوص بالثاني، كصحيح أبي بصير ويونس المتقدمين، لانصراف الضمير لخصوص الجماعة المعهودة ونحوهما غيرهما. وأظهر منهما ما صرح فيه بالسلطان بعنوانه العام، أو بذكر أشخاص أو جماعة خاصين.

بل لا يبعد انصراف الظلمة له في مثل موثق السكوني المتقدم كما يناسبه ذيله. بل قد يدعي ذلك في عنوان الظالمين في مثل صحيح أبي حمزة المتقدم. ولا أقل من كونه المتيقن منه، لقرب تحقق العهد الذهني لهم.

نعم ظاهر بعض النصوص العموم، كصحيح عبدالله بن سنان: "سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: من أعان ظالماً علي مظلوم لم يزل الله عليه ساخطاً حتي ينزع من معونته"(1) ، ومعتبر طلحة ابن زيد عنه (عليه السلام):" قال: العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم"(2) ، ومرسل ورام بن أبي فراس: "قال (عليه السلام): من مشي إلي ظالم ليعينه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج عن الإسلام"(3) ، وغيرها.

بل قد يدعي استفادته مما تضمن حرمة إعانة السلطان بفهم عدم الخصوصية،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 80 من أبواب جهاد النفس حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 42 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 16.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 42 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 16.

ص: 160

لقضاء المناسبات الارتكازية بكون الحرمة بلحاظ الظلم والتعدي علي الناس، كما قد يشير إليه ذكره بعنوان كونه ظالماً. فتأمل جيداً.

الثاني: في تحديد الإعانة المحرمة. فقد أطلق في النهاية تحريم معونة الظالمين ونحوه في النافع. واقتصر علي الإعانة في الظلم في التذكرة والقواعد والدروس واللمعة ومحكي السرائر والتحرير وغيرها. وفي الجواهر أنه عنوان الأكثر. وربما يرجع إليه كلام من أطلق تحريم معونة الظالمين، لما يأتي من انصرافه للإعانة في ظلمه.

وفي المراسم تحريم الإعانة فيما هو منهي عنه شرعاً. وربما أرجع إليه ما في الشرايع من التعبير بالمعونة بما يحرم وقريب منه في المقنعة. لكن ظاهرهما التحريم فيما إذا كان الفعل الذي تتحقق به الإعانة محرماً، كإعانة الظالم علي المظلوم بضربه أو حبسه، لبيان عدم سقوط حرمة الحرام في حق أعوان الظلمة بأمر الظالم لهم به، دفعاً لتوهم تحمل الظالم التبعة بأمره بذلك وسقوط التبعة عن المباشر، لأنه تابع له غير مستقل في اتخاذ القرار، للتنبيه علي أنه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق. ولا نظر فيه لما إذا كانت الإعانة علي الظلم أو الحرام بفعل غير محرم في نفسه، كإعطاء السوط للظالم ليضرب به ظلماً، فضلاً عما إذا كانت الإعانة في غير الظلم والحرام، وكان الفعل الذي تتحقق به الإعانة حلالاً في نفسه.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل فيما ذكره في المقنعة والشرايع من حرمة إعانتهم بالحرام، حيث لا موجب لاحتمال سقوط حرمته بوقوعه علي وجه الإعانة لهم وبتبع طلبه منهم. إلا أن يكون موجباً للاضطرار الرافع للتكليف، وهو خارج عن محل الكلام.

نعم لا مجال لحمل نصوص النهي عن إعانة الظالمين علي خصوص ذلك، لورودها في مقام النهي عن الإعانة والتنفير منها، لا مجرد بيان عدم كونها عذراً مبرراً لفعل ما هو الحرام في نفسه. حيث لابد مع ذلك من حمل النصوص علي حرمة العمل من حيثية كونه إعانة للظالم وإن لم يكن محرماً في نفسه لولا ذلك.

ص: 161

هذا ولا ينبغي التأمل في أن إضافة الإعانة أو الأعوان للظالم والظلمة في النصوص والفتوي تنصرف إلي إعانتهم في ظلمهم، دون غيره، كما هو الحال في سائر موارد أخذ عنوان خاص في المعان، فإن الإعانة معه تنصرف للإعانة في منشأ انتزاع ذلك العنوان، مثل من أعان مصلحاً، أو مفسداً، أو ساعياً بالخير، أو خياطاً، أو بنّاءً، أو قصاراً، أو حافر قبر إلي غير ذلك. إلا أن يكون منشأ انتزاع العنوان غير قابل لأن يكون مورداً للإعانة، كالأب والجار والصديق، حيث يتعين معه العموم.

ومن هنا لا مجال للتعدي لكل محرم، بناءً علي ما سبق من عدم ثبوت عموم حرمة الإعانة علي الحرام. وخصوصية الظالم في تحريم إعانته علي الحرام لا شاهد لها. نعم لو كان الفعل المعان به محرماً في نفسه مع قطع النظر عن كونه إعانة، فلا إشكال في حرمته كما سبق.

ثم إنه يظهر من غير واحد أن مقتضي ذلك جواز إعانة سلطان الجور فيما لا يكون ظالماً علي أحد، كشق الطرق في الأراضي المباحة، وتعبيدها، ونصب الجسور، وشق الأنهر، وإنشاء الأبنية التابعة للدولة، والمعامل وبناء المساجد وغيرها. إلا أن يعدّ الشخص من أعوانهم، علي ما يأتي الكلام فيه.

لكن ذلك إنما يتم إذا كان الأمر المعان فيه من شؤونه الشخصية التي لا دخل لها بدولته، كبناء داره ومداواة مرضاه وجلب الطعام لعياله. أما إذا كان الأمر المعان فيه من شؤون الدولة الجائرة، فالظاهر حرمته وإن لم يعدّ الفاعل من أعوانه المنسوبين لدولته، فإنه إعانة للظالم في ظلمه، لأن أقامة الدولة الحاكمة علي الناس ظلم لهم وللشارع الأقدس الذي هو أحق بالسلطان، ففعل ما يكون من شؤونها إعانة علي ذلك الظلم، وإن لم يكن فيه ظلم لشخص خاص.

ويناسب ذلك خبر علي بن أبي حمزة قال:" كان لي صديق من كتاب بني أمية، فقال لي: استأذن لي علي أبي عبدالله (عليه السلام) فاستأذنت له [عليه] فأذن له، فلما أن دخل سلم وجلس، ثم قال: جعلت فداك إني كنت في ديوان هؤلاء القوم، فأصبت من

ص: 162

دنياهم مالاً كثيراً، وأغمضت في مطالبه. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا. ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم..."(1).

بل يشهد له جملة من النصوص:

منها: صحيح أبي بصير المتقدم، فإنه وإن تضمن السؤال عن أعمالهم، حيث قد يحمل علي العمل لهم بالدخول في حوزتهم والانتساب لهم، إلا أن الجواب صريح في العموم، كما يناسبه أيضاً عموم التعليل.

ومنها: موثق السكوني وما عن نوادر الراوندي المتقدمين، فإن عطف: "ومن لاق لهم..." إما لكون ما تضمنه من أفراد الأعوان الخفية، أو لكونه بحكمها.

ومنها: صحيح يونس بن يعقوب المتقدم. وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن في بناء المسجد لهم نحواً من تعظيم شوكتهم، فيكون كمسجد الضرار، وتخرج الرواية عما نحن فيه. فيندفع بأن ظاهر مسجد الضرار الذي تضمنه قوله تعالي: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسجِدًا ضِرَارًا وَكُفرًا...)(2) هو المسجد المتخذ للإضرار بالمؤمنين وتفريقهم. ولا يكفي فيه أن يكون موجباً لتعظيم شوكة السلطان الجائر.

علي أنه لو فرض عمومه له، أو مشاركته له حكماً، فمن الظاهر أنه ليس كل مسجد ينشؤونه يكون بناؤه تعظيماً لشوكتهم. غاية الأمر أنه من شؤون دولتهم وحكمهم الجائر، فإذا كان هذا كافياً في صدق الضرار جري في غير المسجد، لما هو المعلوم من أن حرمة الضرار لا تختص ببناء المسجد، بل لعل غيره أولي بها.

ومنها: معتبر بن أبي يعفور - بناءً علي اعتبار بشير في طريقه، لرواية ابن أبي عمير عنه -: "كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) إذ دخل [فدخل] عليه رجل من أصحابنا، فقال له: جعلت فداك [أصلحك الله] إنه ربما أصاب الرجل منّا الضيق أو الشدة،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 47 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) سورة التوبة آية: 107.

ص: 163

فيدعي إلي البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسناة يصلحها، فما تقول في ذلك ؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام): ما أحب أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاءً وأن لي ما بين لأبيتها. لا ولا مدة بقلم، إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتي يحكم الله بين العباد"(1).

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن قوله (عليه السلام):" ما أحب "ظاهر في الكراهة. فيشكل بأن ذلك قد يتم مع الاقتصار علي قول:" ما أحب "،ولا مجال له بلحاظ التتمة التي ذكرها (عليه السلام) وهي قوله (عليه السلام):" وأن لي ما بين لأبيتها "،حيث لا يساق الكلام حينئذٍ لمجرد نفي الحب، بل لبيان أن نفي الحب لا يزول وإن كان في مقابله المغنم المذكور لقوة مرجوحيته، وحينئذٍ فهو يجتمع مع الحرمة، ويتعين حمله عليها بقرينة الإصرار علي المنع مع فرض السائل الضيق والشدة بقوله (عليه السلام):" لا ولا مدة بقلم "وتطبيق كبري:" إن أعوان الظلمة في سرادق من نار... ".وما ذكره (قدس سره) من أن ذكره الكبري المذكورة ليس من أجل التطبيق، بل للتنبيه للمحاذير المتوقعة من القرب من السلطان والتحذير منها، خلاف الظاهر جداً.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من ظهور السؤال في كون الضيق والشدة سبباً في التجاء الشخص للظالمين، بحيث يتدرج حتي يكون من أعوانهم المنسوبين لهم المحسوبين عليهم، ويكون رزقه عليهم، ولذا طبق عليه الإمام كبري الأعوان.

وكأنه لأن الأعوان جمع العون، وليس هو اسم فاعل من الإعانة، بل صفة مشبهة تتضمن الثبوت والاستمرار، وذلك لا يكون إلا بإعداد الشخص نفسه لذلك بانتسابه لهم.

لكنه يندفع بعدم مناسبته لتفريع الدعوة للعمل علي إصابة الضيق والشدة، فإنه كالصريح في كون العمل اتفاقياً من دون أن يبتني علي سبق صيرورة الشخص من أعوانهم المنسوبين لهم. ولاسيما مع قوله (عليه السلام):" ما أحب أني عقدت "إلي قوله:

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 47 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

ص: 164

" ولا مدة بقلم ".وحينئذٍ يتعين كون تطبيق الكبري المذكورة بلحاظ عموم حكم الأعوان فيها لصورة العمل الاتفاقي ولو لعموم ملاكها له.

ومنها: حديث عذافر عن أبيه:" قال أبو عبدالله (عليه السلام): يا عذافر نبئت أنك تعامل أبا أيوب والربيع، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة ؟ قال: فوجم أبي، فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) لما رأي ما أصابه: أي عذافر إنما خوفتك بما خوفي الله عز وجل به. قال محمد: فقدم أبي فما زال مغموماً مكروباً حتي مات"(1).

وليس في سنده إلا سهل بن زياد الذي هو معتبر الحديث علي التحقيق، كما ذكرناه في مبحث عدم مطهرية الماء المضاف من الحدث من مباحث المياه، وعذافر الذي لم ينص أحد علي توثيقه. لكن متن الحديث شاهد بصدقه فيه.

وأما دلالته فقد استشكل فيها شيخنا الأعظم (قدس سره) باحتمال أن يكون معاملة عذافر مع أبي أيوب والربيع علي وجه يكون معدوداً في أعوانهم وعمالهم، بل هو الذي قربه بعض مشايخنا (قدس سره)، لظهور قوله (عليه السلام): "نبئت أنك تعامل" في استمرار تعامله مع الرجلين، بحيث يعدّ من أعوانهم.

لكنه يشكل بأن كون الشخص من أعوانهم بالمعني المتقدم إنما يتم بتعيينه عندهم للعمل معهم، بحيث يكون من موظفيهم، ولا يظهر من الحديث ذلك، بل مجرد تكرر تعامله معهم، وهو لا يكفي في كونه من أعوانهم المنسوبين لهم. فلابد أن يكون تطبيق الأعوان عليه بلحاظ مجرد إعانته لهم وإن لم يكن منسوباً لهم، نظير ما سبق في حديث ابن أبي يعفور. وهناك بعض النصوص الأخر قد تصلح للتأييد وإن لم تنهض بالاستدلال لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد وفاء ما سبق به.

ولعله لذا حكي عن السيد الطباطبائي (قدس سره): أنه إن انعقد الإجماع علي التفصيل، وإلا فالمتجه التحريم مطلقاً، لاستفاضة النصوص في المنع عن إعانتهم في المباح بطريق الخصوص، مع اعتبار سندها موافقتها الاعتبار... إلي آخر ما ذكره.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 42 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 165

لكن الإجماع لم يثبت بنحو معتد به في رفع اليد عن مفاد النصوص بعد اختلاف كلماتهم في تحديد الإعانة المحرمة وانصراف بعضها - كما سبق - إلي بيان عدم تسويغ أمر السلطان لارتكاب الحرام. وظهور حال مثل الكليني في عموم التحريم، تبعاً للأخبار التي يظهر منه التعويل عليها.

ومثله ما ذكره غير واحد من دعوي منافاة العموم للسيرة. لعدم وضوح ثبوت السيرة من المتدينين، بل من القريب ابتناؤها علي ضيق الحال، أو حبّ الجاه والمال، والتغافل عن تعاليم الأئمة (عليهم السلام). ولذا لم تنفع تعاليمهم وإنكارهم من دخول الشيعة في أعمال الظالمين. حتي مع القضاء، مع عدم الإشكال في حرمة ذلك، وقد ظهر من الأئمة (عليهم السلام) إنكار ذلك عليهم وأنه خروج عما ينبغي لهم وعما عليه سلفهم الصالح.

ففي صحيح الوليد بن صبيح: "دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فاستقبلني زرارة خارجاً من عنده، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): يا وليد أما تعجب من زرارة ؟ سألني عن أعمال هؤلاء، أي شيء كان يريد؟ أيريد أن أقول له: لا، فيروي ذاك [ذلك] علي [عني]. ثم قال: يا وليد متي كانت الشيعة تسأل عن أعمالهم، إنما كانت الشيعة تقول: يؤكل من طعامهم ؟ ويشرب من شرابهم ؟ ويستظل بظلهم ؟، متي كانت الشيعة تسأل عن [مثل] هذا"(1).

وفي خبر يحيي بن إبراهيم بن مهاجر:" قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): فلان يقرئك السلام وفلان وفلان. قال (عليه السلام): وعليهم السلام. قلت: يسألونك الدعاء. قال: وما لهم ؟ قلت: حبسهم أبو جعفر. فقال: وما لهم وما له ؟ فقلت: استعملهم فحبسهم. فقال: وما لهم وما له ؟ ألم أنههم ؟ ألم أنههم ؟! ألم أنههم ؟! هم النار، هم النار، هم النار... "(2) ونحوهما غيرهما. ومع ذلك كيف يمكن التعويل علي السيرة في محل الكلام، فضلاً عن الخروج بها عن النصوص المتقدمة ؟!.

وأشكل من ذلك ما في بعض كلماتهم من مخالفة عموم التحريم لما ورد من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 45 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 45 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3.

ص: 166

أما معونتهم في غير المحرمات من المباحات والطاعات فلا بأس بها. إلا أن يعد ذلك من أعوانهم والمنسوبين إليهم، فتحرم (1).

---------------

الحث علي حسن معاشرة المخالفين. قال في مفتاح الكرامة:" وإلا لكان باعثاً علي أذيتنا. وكيف يتم ذلك مع حثّ أئمتنا لنا علي مجاملتهم، بل لم تقم لنا سوق، واشتد الأمر علينا ".وقريب منه في الجواهر.

إذ فيه: - مع أنه يجري في العمل لهم بنحو يكون من أتباعهم - أنه لا يوجب أذيتنا إذا لم يبتن علي الإعلان والمجاهرة والاستنكار. والحثّ علي المجاملة وحسن المعاشرة إنما ورد مع عامة المخالفين دون ولاة الأمور، بل قد ورد مستفيضاً الردع المؤكد عن مواصلتهم والقرب من أبوابهم. ومجرد عدم قيام سوق لنا لا دخل له بذلك. غاية الأمر أن يسوغ البيع لهم وغيره تقية لو اقتضي الأمر ذلك بسبب الاختلاط، وهو أمر آخر غير جواز إعانتهم اختياراً فيما لا يكون ظلماً.

بل لا يبعد جواز البيع لهم والشراء منهم، كما قد يستفاد ذلك مما ورد في جواز بيع السلاح من أعداء الدين(1) ، وشراء ما يأخذه السلطان باسم المقاسمة والخراج والزكاة(2) ، ويكون الكلام في الإعانة بغير ذلك من الأعمال ولو بأجرة، حيث لا موجب للخروج فيه عن مقتضي الإطلاق والنصوص المتقدمة بعد ما سبق.

(1) كما في الجواهر ومكاسب شيخنا الأعظم (قدس سره)، وذكره غير واحد ممن تأخر عنهما. للنصوص المتضمنة للأعوان، بالتقريب المتقدم في أواخر الكلام في معتبر ابن أبي يعفور.

اللهم إلا أن يقال: حيث تقدم أن إضافة العون والإعانة والأعوان للظالم ينصرف إلي الإعانة له في ظلمه، فإن تم ما سبق منّا من أن الإعانة في شؤون الدولة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب ما يكتسب به.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 52، 53 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 167

الظالمة إعانة للظالم في ظلمه تعين البناء علي عموم حرمة الإعانة في شؤون الدولة للإعانة الاتفاقية من الشخص وإن لم يكن منسوباً لهم ولا محسوباً عليهم. وإن لم يتم لم ينهض دليل تحريم كون الشخص من الأعوان بعموم الحرمة لما إذا كان الأمر المعان فيه مباحاً في نفسه.

فالأولي الاستدلال له بما تضمن حرمة عملهم، كصحيح الوليد بن صبيح المتقدم، لأن المتيقن منه العمل لهم بنحو يكون منسوباً و تابعاً لهم، وكذا صحيح أبي بصير، وإن سبق أن الجواب فيه صريح في العموم للعمل الاتفاقي. وموثق حميد:" قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إني وليت عملاً فهل لي من ذلك مخرج ؟ فقال: ما أكثر من طلب المخرج من ذلك فعسر عليه. قلت: فما تري ؟ قال: أري أن تتقي الله عز وجل ولا تعد [تعود] "(1) وغيرها.

وحمل العمل علي خصوص الولاية المتمحضة في السلطة والإدارة، دون العمل الخارجي، كالكتابة والتعليم والسياقة وغيرها. لا شاهد له، بل لا يبعد عموم الولاية لمطلق العمل. فتأمل.

مضافاً إلي بعض النصوص التي لا تخلو من ضعف، كخبر ابن بنت الوليد بن صبيح الكاهلي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: من سود اسمه في ديوان ولد سابع حشره الله يوم القيامة خنزيراً"(2) ، وغيره.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في الحرمة حينئذٍ وإن لم نقل بحرمة مطلق الإعانة. لكن المحرم حينئذٍ هو انتساب الشخص للسلطان وصيرورته من أعوانه، لا العمل المقارن له إذا لم يكن محرماً في نفسه.

بقي في المقام الكلام فيما يستثني من حرمة العمل. وهو أمور:

الأول: العمل مع السلطان لنفع المؤمنين وإقامة العدل، فعن فقه الراوندي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 45 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 41 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9.

ص: 168

الإجماع علي ذلك، ونفي في الجواهر الخلاف فيه إلا من السيد الطباطبائي وكاشف الغطاء (قدس سرهما). وقد يستدل عليه بوجوه:

أولها: ما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن الولاية إن كانت محرمة بلحاظ ترتب المظالم عليها، فالمفروض عدم ترتبها في محل الكلام. وإن كان محرمة في نفسها فهي مزاحمة بما يترتب عليها في محل الكلام من القيام بالمصالح ودفع المفاسد، وحيث كان الظاهر أهمية ذلك تعين سقوط حرمة الولاية.

وفيه: أن ظاهر الأدلة المتقدمة حرمة الولاية في نفسها لا بلحاظ ترتب المظالم عليها فقط، وحينئذٍ لا تسقط بالمزاحمة إلا إذا كانت الجهة المزاحمة إلزامية، كحفظ النفوس ودفع المفاسد العظيمة، دون مطلق ترتب المصالح ودفع المفاسد مما قد لا يكون لازماً في نفسه، بل مستحباً، لوضوح أن الاستحباب لا ينهض بمزاحمة الحرمة، بحيث يسقطها.

ثانيها: قوله تعالي حكاية عن النبي يوسف (عليه السلام): (قَالَ اجعَلنِي عَلَي خَزَائِنِ الأَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)(1) ، بناءً علي استصحاب أحكام الشرايع السابقة.

وفيه: أن ذلك قضية في واقعة مجملة الوجه، إذ لعل ليوسف الولاية الشرعية، فهو يطالب بتمكينه من وظيفته وإن كان بصورة نصبه ولياً من قِبَل الجائر. علي أن جريان الاستصحاب المذكور لا يخلو عن إشكال أو منع علي ما ذكرناه في الأصول. ولو فرض جريانه في نفسه لم ينهض بالخروج عن إطلاقات النهي، حيث يتعين البناء معها علي ارتفاع حكم الشرايع السابقة المخالف لها.

ثالثها: النصوص: منها: ما عن مسائل الرجال عن أبي الحسن علي بن محمد (عليهما السلام) أن محمد بن علي بن عيسي كتب إليه يسأله عن العمل لبني العباس وأخذ ما يتمكن من أموالهم هل فيه رخصة ؟ فكتب:" ما كان المدخل فيه بالجبر والقهر فالله قابل العذر، وما خلا ذلك فمكروه. ولا محالة قليله خير من كثيره. وما يكفر به م

********

(1) سورة يوسف آية: 55.

ص: 169

يلزمه فيه من يرزقه يسبب وعلي يديه ما يسرك فينا وفي موالينا. قال: فكتبت إليه في جواب ذلك أعلمه أن مذهبي في الدخول في أمرهم وجود السبيل إلي إدخال المكروه علي عدوه، وانبساط اليد في التشفي منهم بشيء وأتقرب به إليهم. فأجاب: من فعل ذلك فليس مدخله في العمل حراماً، بل أجراً وثواباً"(1). ودلالته تامة، إلا أن سنده لا يخلو عن غموض وجهالة.

ومنها: صحيح علي بن يقطين: "قال لي أبو الحسن موسي بن جعفر (عليه السلام): إن لله تبارك وتعالي مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه"(2). ودعوي: أنه غير وارد للحث علي الدخول معهم، ليتم له إطلاق في المدعي. وغاية ما فيه مدحهم بعد فرض دخولهم، وحينئذٍ قد يكون وارداً في فرض مشروعية دخولهم بإذن خاص من الإمام الذي هو ولي الأمر.

مدفوعة بأن ذلك قد يتم لو كان مشيراً إلي قضايا خاصة مع سلاطين خاصين، أما حيث كان ظاهراً في عموم الحكم المذكور لجميع السلاطين، وفي جميع الأزمنة، فاحتمال توقف مفاده علي فرض الإذن الخاص بعيد جداً.

ومثلها دعوي: أن كونه مع السلطان لا يتوقف علي كونه معيناً له أو من أتباعه المنسوبين له والداخلين في جهاز الحكم، بل قد يكون من ذوي النفوذ عنده بصداقة أو رشوة أو نحوهما.

إذ فيها: أن ظاهر إضافة المعية للسلطان ثبوتها له من حيثية السلطنة، لا لشخصه مع قطع النظر عنها، وذلك لا يكون إلا بدخوله في جهاز الحكم. نعم لا إطلاق للصحيح في المطلوب، بل هو دال علي الجواز في الجملة.

ومنها: صحيح زيد الشحام:" سمعت الصادق جعفر بن محمد يقول: من تولي أمراً من أمور الناس، فعدل وفتح بابه ورفع ستره، ونظر في أمور الناس، كان حقاً علي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 45 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9، 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 45 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9، 1.

ص: 170

الله عز وجل أن يؤمن روعته يوم القيامة ويدخله الجنة"(1).

ودعوي: أنه حيث لم يرد في مقام الحث علي الولاية، بل علي العدل فيها بعد فرض تحققها، فلا يدل علي جواز الولاية من قبَل الجائر، بل لابد في جواز الولاية له من دليل آخر. مدفوعة بأن ذلك لا يناسب زمن صدور الصحيح، حيث كان الأمر منحصراً بالولاية من قبَل الجائر. وحمله علي بيان قضية فرضية غير متحققة الموضوع لا يناسب وروده في مقام الحث علي العدل في الولاية.

ومنها: ما ذكره النجاشي في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع. قال: "وحكي بعض أصحابنا عن ابن الوليد: قال: وفي رواية محمد بن إسماعيل بن بزيع: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إن لله تعالي بأبواب الظالمين مَن نوّر الله له البرهان، ومكن له في البلاد، ليدفع بهم عن أوليائه ويصلح أمور المسلمين. إليهم ملجأ المؤمن من الضر، وإليهم يفزع ذو الحاجة من شيعتنا، وبهم يؤمن الله روعة المؤمن في دار الظلمة، أولئك المؤمنون حقاً، أولئك أمناء الله في أرضه، أولئك نور في رغبتهم [رعيتهم] يوم القيامة، ويزهر نورهم لأهل السماوات كما تزهر الكواكب الدرية لأهل الأرض، أولئك من نورهم يوم القيامة تضيء منهم القيامة، خلقوا والله للجنة، وخلقت الجنة لهم، فهنيئاً لهم. ما علي أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله ؟ قال: قلت: بماذا جعلني الله فداك ؟ قال: يكون معهم فيسرّ بإدخال السرور علي المؤمنين من شيعتنا. فكن منهم يا محمد"(2). ودلالته واضحة، إلا أن سنده موهون بالإرسال.

ومنها: نصوص أخر كثيرة تامة الدلالة مروية عن كتاب الروضة للشيخ المفيد والمجموع الرائق للسيد هبة الله(3) لا يبعد أخذهما لها من كتب معروفة معتمدة. ولا أقل من عضدها للنصوص المتقدمة، بنحو يستغني بذلك عن النظر في السند. فلتراجع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 45 من أبواب ما يكتسب به حديث: 7.

(2) رجال النجاشي ص: 255.

(3) راجع مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 39 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 171

وهناك نصوص أخر قد يستدل بها في المقام: منها: مرسل الصدوق:" وقال الصادق (عليه السلام): كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان"(1). وهو - مع إرساله - قاصر عن إثبات الجواز، لأن فرض الكفارة للعمل فرع حرمته في نفسه.

ومنها: خبر زياد بن أبي سلمة: "دخلت علي أبي الحسن موسي (عليه السلام) فقال لي: يا زياد إنك لتعمل عمل السلطان ؟ قال: قلت: أجل. قال لي: ولِمَ؟ قلت: أنا رجل لي مروة وعلي عيال، وليس وراء ظهري شيء. فقال لي: يا زياد لئن اسقط من حالق فأنقطع قطعة أحب إلي من أن أتولي لهم عملاً أو أطأ بساط رجل منهم إلا لماذا؟ قلت: لا أدري جعلت فداك. قال: إلا لتفريج كربة عن مؤمن، أو فكّ أسره، أو قضاء دينه. يا زياد إن أهون ما يصنع الله عز وجل بمن تولي لهم عملاً أن يضرب عليه سرادق من نار إلي أن يفرغ الله من حساب الخلائق [الخلق]. يا زياد فإن وليت شيئاً من أعمالهم فأحسن إلي إخوانك، فواحدة بواحدة. والله من وراء ذلك..."(2).

ولا خدش في سنده إلا جهالة زياد التي قد تهون، لبعد كذبه فيما حكاه عن الإمام (عليه السلام) من تقريعه. وأما دلالته فلا تخلو عن إشكال، إذ الاستدلال إن كان بلحاظ ذيله أشكل بظهوره في كون الإحسان للإخوان من سنخ الكفارة التي هي فرع حرمة العمل بذاته، كما هو المناسب لقوله:" إن أهون ما يصنع...".

وإن كان بلحاظ الاستثناء في صدره فلم يتضح كون المستثني منه الولاية لهم، بل لعله خصوص وطء بساطهم الذي هو كناية عن القرب منهم بصورة مؤقتة طارئة، كما يناسبه أن الاستثناء ظاهر في إرادة قضاء حوائج شخصية طارئة وذلك بشفاعة أو نحوها، لا التهيؤ والإعداد لقضاء الحوائج بنحو الاستمرار، الذي يكون مع تولي العمل من قبلهم.

نعم روي نظير الحديث المذكور في مستدرك الوسائل عن المجموع الرائق بحذف قوله:" أو أطأ بساط... "فيكون الاستثناء من العمل لا غير، ولا إشكال في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 46 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 46 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 9.

ص: 172

دلالته حينئذٍ علي المطلوب. إلا أنه لا ينهض بالاستدلال بعد اليقين باتحاد الحديثين وتعارضهما بثبوت الزيادة المذكورة، خصوصاً مع مناسبة الاستثناء لها.

ومنها: خبر علي بن يقطين: "أنه كتب إلي أبي الحسن موسي (عليه السلام): إن قلبي يضيق مما أنا عليه من عمل السلطان - وكان وزيراً لهارون - فإن أذنت جعلني الله فداك هربت منه. فرجع الجواب: لا آذن لك بالخروج من عملهم، واتق الله، أو كما قال"(1).

لكنه - مع الخدش في سنده - وارد في قصة خاصة، قد تكون مبنية علي إذن خاص من الإمام (عليه السلام) لعلي بن يقطين بالدخول في العمل، ولذا لم يأذن له في الخروج منه، مع أنه لم يقل أحد بوجوب العمل لهم في مورد الكلام وحرمة الخروج منه.

وبعبارة أخري: لا إشكال في جواز العمل لهم بإذن خاص من الأئمة (عليهم السلام) الذين لهم الولاية الحقيقية، كما لا إشكال في تولي بعض أعيان الشيعة لذلك، كسلمان الفارسي وعلي بن يقطين ومحمد بن إسماعيل بن بزيع وغيرهم، وإنما الكلام في جواز الولاية - شرعاً أو بترخيص الأئمة (عليهم السلام) - بنحو العموم لكل من يريد بولايته خدمة المؤمنين وإقامة العدل، والخبر لا ينهض بذلك.

وهناك نصوص أخر مذكورة في الوسائل ومستدركها وفي كتب أهل الاستدلال لا تنهض بالمطلوب، ولا مجال لإطالة الكلام فيها، بعد وفاء ما سبق بالمطلوب.

نعم ربما استشكل في ذلك بما في خبر الحسن بن الحسين الأنباري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام):" كتبت إليه أربع عشرة سنة أستأذنه في عمل السلطان. فلما كان في آخر كتاب كتبته إليه أذكر أني أخاف علي خيط عنقي... فكتب إليّ أبو الحسن (عليه السلام): فهمت كتابك [كتبك] وما ذكرت من الخوف علي نفسك، فإن كنت تعلم أنك إذا وليت عملت في عملك بما أمر به رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم)، ثم تصير أعوانك وكتابك أهل ملتك، وإذا صار إليك شيء واسيت به فقراء المؤمنين حتي تكون واحداً منهم كان ذ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 46 من أبواب ما يكتسب به حديث: 16.

ص: 173

بذا، وإلا فلا"(1).

بتقريب: أنه لو كان قصد العدل وخدمة المؤمنين مسوغاً للولاية لكان المناسب أن يذكره الإمام (عليه السلام) من أول الأمر ولا يؤخره بعد أربع عشرة سنة من المكاتبة والإصرار، ليجعله شرطاً في جواز الولاية للضرورة والخوف من الخطر. وبالجملة: مقتضي الخبر عدم كون قصد العدل وخدمة المؤمنين مسوغاً مستقلاً للولاية، بل شرطاً منضماً لخوف الضرر والخطر المسوغ له.

لكنه يندفع: - مع ضعف الخبر في نفسه - بأنه لم يظهر من السائل التهيؤ للعدل الذي هو صعب في نفسه، لينبهه الإمام (عليه السلام) إلي مسوغيته من أول الأمر، بل ظاهر حاله إرادة الدخول في العمل علي الوضع المتعارف المشتمل علي الجور تبعاً لوضع الدولة العام، وإنما اشترط العدل بعد الإصرار الطويل، لأنه أمر لابد منه علي صعوبته، وهو لا ينافي الاكتفاء به في أول الأمر لو أقدم عليه طالب العمل. علي أن مضمون الخبر لا يخلو عن إشكال، لأن الخطر الذي تضمنه السؤال لا يناسب القيود المذكورة في الجواب. ولذا لا مجال للخروج به عن النصوص الكثيرة الصريحة في الجواز.

ومثله دعوي: أن الولاية من المحرمات الذاتية نظير الظلم، فلا مجال لتخصيص عموم حرمتها بطروء بعض العناوين الطارئة. فإنها ممنوعة جداً، لعدم كون الولاية بنفسها ظلماً، بل غاية الأمر أن فيها إعانة للظالم، ولا مانع من تسويغ ذلك بطروء بعض العناوين.

مضافاً إلي إن الظلم بمعني التصرف في مال الغير أو نفسه ليس علة تامة للقبح، بل هو مقتض له يمكن مزاحمته بطروء بعض العناوين، وبمعني العدوان يرتفع بترخيص الشارع الأقدس في التصرف، لأنه المالك المطلق.

ثم إن العدل في هذا الزمان قد يتيسر فيما لا يتعلق بالنفوس والأموال، كالتعليم والطب العلاجي. ويصعب تحققه في زماننا فيما يتعلق بالنفوس والأموال،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 48 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 174

لأن القوانين وضعية مضبوطة غير دينية، ولا منفرطة، أما في العصور السابقة، فربما يمكن العدل في حق الشيعة، حيث كانت صلاحيات الولاة والعمال واسعة يمكن لصاحبها الالتفاف علي القوانين العامة الظالمة، خصوصاً مع قلة الشيعة في المجتمع.

وأما العامة فحيث يرون شرعية الدولة ولزوم طاعة السلطان، فيجوز إجراء أحكامها عليهم إلزاماً لهم، كما يشير إلي ذلك ما عن المجموع الرائق عن صفوان بن مهران: "كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) إذ دخل عليه رجل من الشيعة، فشكا إليه الحاجة، فقال: ما يمنعك من التعرض للسلطان فتدخل في بعض أعماله ؟ فقال: إنكم حرمتموه علينا. فقال: خبرني عن [حق] السلطان لنا أو لهم ؟ قال: بل لكم. قال: أهم الداخلون علينا أم نحن الداخلون عليهم ؟ قال: بل هم الداخلون عليكم ؟ قال: فإنما هم قوم اضطروكم فدخلتم في بعض حقكم. فقال: إن لهم سيرة وأحكاماً. فقال (عليه السلام): أليس قد أجري لهم الناس علي ذلك ؟ قال: بلي. قال: أجروهم عليهم في ديوانهم، وإياكم وظلم مؤمن"(1).

نعم يشكل الخبر - مضافاً إلي إرساله - بأنه غير ظاهر في جواز الدخول في عمل السلطان لخدمة المؤمنين، بل في جواز الدخول في عمل السلطان مطلقاً، بل الحث عليه، غايته أنه لا يجوز ظلم المؤمن، فينافي ما سبق من النصوص الكثيرة.

ومثله في ذلك خبر إسحاق بن عمار:" سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) عن الدخول في عمل السلطان. فقال: هم الداخلون عليكم أم أنتم الداخلون عليهم ؟ قال: لا بل هم الداخلون علينا. قال: لا بأس بذلك(2). فلو تمّا لم يبعد حملهما علي إذن خاص للسائل. فلاحظ.

الثاني: من مستثنيات حرمة العمل للسلطان خوف الضرر، لإكراه السلطان علي ذلك أو لدفع شره أو نحو ذلك. لعموم دفع الاضطرار والإكراه والتقية ونحوهما.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 39 من أبواب ما يكتسب به حديث: 25.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 41 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

ص: 175

وربما استدل له أيضاً بما ورد في قبول الإمام الرضا (عليه السلام) ولاية العهد من المأمون، فإنه (عليه السلام) وإن كان صاحب المنصب الحق، إلا أن تعليله في غير واحد من النصوص بالإكراه ظاهر في مسوغية الإكراه لعمل السلطان.

ويعتضد ذلك بقوله (عليه السلام) في مكاتبة محمد بن علي بن عيسي المتقدمة: "ما كان الدخول فيه بالجبر والقهر فالله قابل العذر" ،وبموثق مسعدة بن صدقة: "سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) عن قوم من الشيعة يدخلون في أعمال السلطان يعملون لهم ويجبونهم ويوالوهم. قال: ليس هم من الشيعة، ولكنهم من أولئك، ثم قرأ أبو عبدالله (عليه السلام) هذه الآية: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسرَائِيلَ... تَرَي كَثِيرًا مِنهُم يَتَوَلَّونَ الَّذِينَ كَفَرُوا...). فنهي الله عز وجل أن يوالي المؤمن الكافر إلا عند التقية"(1). مضافاً إلي ما سبق في خبر الحسن بن الحسين الأنباري، وإن سبق الإشكال فيما تضمنه من الشرط. والأمر سهل بعد وفاء العمومات بذلك.

ثم إنه لا ريب في أن الاضطرار والإكراه والتقية كما تسوغ الولاية المحرمة في نفسها تسوغ في الجملة ما لا ينفك عنها من المحرمات، لأنها كالولاية مورد للإكراه والاضطرار والتقية.

كما لا ريب في أنها لا تسوغ إراقة الدماء المحترمة، لصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: إنما جعل التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقية"(2) ، ونحوه ما في موثق أبي حمزة(3). مضافاً إلي ما يأتي من قصور العمومات.

وإنما الإشكال في غير الدم من وجوه ظلم الناس فقد يدعي جوازه لوجهين:

أحدهما: العمومات المتقدمة. ودعوي: أن ورودها مورد الامتنان علي الأمة موجب لقصورها عن الترخيص في الإضرار بالغير. مدفوعة بأن ذلك إنما يمنع من الترخيص في الإضرار بالغير لدفع الضرر المتوجه للنفس، كما لو توجه السيل لدار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 45 من أبواب ما يكتسب به حديث: 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 31 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبها حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 31 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبها حديث: 1، 2.

ص: 176

المكلف وأمكنه دفعه بتوجيهه لدار جاره، أو أكرهه السلطان علي دفع مال وأمكنه دفعه ببذل مال غيره.

أما إذا كان الضرر متوجهاً للغير، لتحقق مقتضيه بالإضافة إليه، فلا يجب عليه تحمله دفعاً عن من توجه إليه، فلو توجه السيل علي دار جاره لم يجب عليه دفعه عنه بتوجيهه علي داره، ولو أكرهه السلطان علي دفع مال شخص لم يجب عليه دفعه عنه ببذل مال بدله. لعدم الدليل علي وجوب دفع الضرر عن الغير، فضلاً عن تحمله عنه. هذا حاصل ما يستفاد من شيخنا الأعظم (قدس سره) في المقام.

لكنه إنما يتم فيما إذا لم يتوقف تأثير المقتضي لوقوع الضرر علي الغير علي فعل المكلف، كما في مثال السيل، وكما لو أراد السلطان أخذ مال الغير بنفسه وكان المكلف قادراً علي دفع ذلك عنه ببذل بدله من ماله، حيث لا يستند الإضرار بالغير للمكلف حينئذٍ، فيتجه ما سبق من عدم وجوب دفع الضرر عن الغير.

أما إذا كان المقتضي قاصراً عن تأثير وقوع الضرر علي الغير إلا بضميمة فعل المكلف، كما في إكراه السلطان للمكلف علي جباية مال الغير - الذي هو محل الكلام

فلا مجال للبناء علي جوازه، لاستناد الإضرار بالغير للمكلَّف المكرَه، فيحرم، ولا يسوغه الإكراه، لقصور دليل رفعه عن ذلك، بسبب وروده مورد الامتنان.

وبعبارة أخري: عدم وجوب تحمل الضرر عن الغير وإن كان مسلماً، إلا أن تنفيذ أمر السلطان حينئذِ لا يتمحض في عدم تحمل ضرر الغير، بل يكون بمباشرة الإضرار به، وهو محرم في نفسه، ولا يسوغه الإكراه.

ودعوي: أن المباشر ضعيف لا ينسب إليه الفعل ليحرم عليه، بل ينسب للسبب، وهو السلطان. ممنوعة جداً بعد كون المباشر تام القدرة والاختيار.

نعم قد يقال: إن قرينة الامتنان إنما تقتضي قصور دليل رفع الإكراه والاضطرار عن مورد الإضرار بالغير فيما إذا كان عدم إعمال الدليل المذكور في حق المكره وامتناعه عن تنفيذ أمر السلطان مستلزماً لعدم وقوع الضرر علي الغير، كما إذا انحصر تنفيذ أمر

ص: 177

السلطان بالمكلف المكرَه.

بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، كما لو كان السلطان مصرّاً علي إيقاع الضرر بالغير ولو من غير طريق المكرَه من أعوانه وكان ذلك متيسراً له، بحيث لا يجدي امتناع المكرَه في منع وقوع الضرر علي الغير، بل لا أثر لامتناعه إلا وقوع الضرر عليه أيضاً، لعصيانه للسلطان. فإن إعمال عموم دليل رفع الإكراه والاضطرار في حق المكرَه لدفع ضرر المكرِه عن نفسه لا ينافي الامتنان في حق المضرور بعد وقوع الضرر عليه علي كل حال.

غاية الأمر أنه يتعين البناء علي ضمانه للضرر المذكور مع مباشرته للإضرار به، لاستناده إليه وإن كان معذوراً بسبب الإكراه والاضطرار، لأن العذر لا ينافي الضمان، كما لو اضطر لسدّ رمقه بطعام الغير من غير إذنه. نعم لا مجال لذلك إذا بلغ الأمر الدم، لما سبق. فتأمل.

ثانيهما: ما سبق من تحديد التقية، بما إذا لم تبلغ الدم في صحيح محمد بن مسلم وموثق أبي حمزة، فإن إناطة حرمة التقية بما إذا بلغ الدم ظاهر في جوازها مع عدم بلوغه ولو لزم الإضرار بالغير بغير الدم، كالمال والعرض.

ودعوي: منافاة ذلك للامتنان في حق عموم الأمة. مدفوعة بأن تشريع ما ينافي الامتنان في حق عموم الأمة ليس محالاً إذا اقتضاه ظاهر الأدلة. غاية الأمر أن الدليل إذا كان وارداً مورد الامتنان ينصرف عما ينافي الامتنان، وذلك إنما يتجه في إطلاقات تشريع التقية ورفع الإضرار والإكراه ونحوها مما كان امتنانياً، دون دليل تحديد التقية، لعدم ورودها في مقام الامتنان، بل في مقام تحديد الموضوع بعد الفراغ عن تشريع حكمه، فيتعين العمل بظاهره.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من ظهور المضمون المذكور في عدم مشروعية التقية في كل مورد يلزم منها إتلاف ما شرعت لحفظه من دون خصوصية للدم. فهو مخالف للظاهر جداً، لأن للدم خصوصية ارتكازية في الأهمية، فلا مجال لإلغائه

ص: 178

والتعدي لكل ما شرعت التقية من أجله، كالعِرض والمال.

نعم في ظهور الشرطية هنا في المفهوم إشكال، لأنها مسبوقة بالتعليل بأن التقية إنما حصلت ليحقن بها الدم ومفرعة علي ذلك، وهو إنما يصلح تعليلاً للمنطوق وهو عدم مشروعية التقية عند بلوغ الأمر للدم، لا للمفهوم وهو عموم مشروعية التقية فيما عدا ذلك، وذلك مانع من ظهورها في المفهوم.

ولاسيما وأن التعليل لا يخلو عن إجمال، لما هو المعلوم من أن التقية لم تشرع لحفظ الدم فقط، بل لحفظ المال والعرض أيضاً، حيث لا يبعد من أجل ذلك سوقها لمجرد بيان عدم مشروعية التقية في الدم لأن حفظه من جملة أغراض تشريعها من دون نظر لغيره.

علي أن مفهومها لو تم ليس قضية كلية، بل مهملة في قوة الجزئية، لأن المفهوم لما كان نقيض المنطوق فالمنطوق في المقام سالبة كلية ونقيضها موجبة جزئية، فمفاد المفهوم في المقام ثبوت التقية في غير الدم في الجملة، ولو في خصوص ما إذا لم يلزم الإضرار بالغير، أو لزم ذلك لكن كان الملزم بالتقية الخوف علي النفس أو كان الضرر واقعاً علي الغير علي كل حال، بحيث لا يجدي امتناع المكلف في منعه.

ومن ثم لا مجال للتعويل علي هذا الوجه في البناء علي جواز الإضرار بالغير فيما إذا كان الامتناع عنه مستلزماً لعدم وقوعه، لعدم القدرة علي إيقاعه من غير طريق المكرَه. بل المتعين البناء علي حرمة ذلك بعد قصور إطلاقات رفع الإكراه والاضطرار والتقية عنه، كما سبق.

نعم إذا كان الضرر واقعاً علي الغير علي كل حال اتجه جواز القيام به في حق المكره إذا لم يبلغ الدم، لما سبق عند الكلام في الوجه الأول من الاستدلال.

الثالث: الحاجة المادية الملحّة. ففي موثق عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام): "سئل عن أعمال السلطان يخرج فيه الرجل. قال: لا، إلا أن لا يقدر علي شيء يأكل ولا يشرب، ولا يقدر علي حيلة، فإن فعل فصار في يده شيء فليبعث بخمسه إلي

ص: 179

(مسألة 19): اللعب بآلات القمار - كالشطرنج والدوملة والطاولي وغيرها مما أعدّ لذلك - حرام (1)

---------------

أهل البيت"(1).

لكنه لا يناسب ما هو المعلوم من حثّ الشارع الأقدس علي حسن الظن بالله تعالي في أمر الرزق، فمن البعيد جداً تحليل الدخول في عمل السلطان مع عظيم حرمته من أجله.

كما لا يناسب ما تقدم في معتبر ابن أبي يعفور وخبر زياد بن أبي سلمة، وما عن كتاب الروضة للشيخ المفيد عن صفوان، قال: "دخل علي مولاي رجل، فقال (عليه السلام) له: أتتقلد لهم عملهم ؟ فقال: بلي مولاي. قال: ولِمَ ذلك ؟ قال: إني رجل عليّ عيلة وليس لي مال. فالتفت إلي أصحابه، ثم قال: من أحب أن ينظر إلي رجل يقدر أنه إذا عصي الله رزقه وإذا أعطاه حرمه، فلينظر إلي هذا"(2).

ولعله لذا لا يظهر من الأصحاب التعويل علي الموثق، حيث لم يشيروا في فتاواهم لمضمونه هنا ولا في كتاب الخمس، وإنما احتمل الاستدلال به لوجوب الخمس في المال المختلط بالحرام. وهو تشبث خارج عن مفاده، لتكثير الأدلة في تلك المسألة.

ومن ثم يشكل التعويل علي الموثق في الخروج عن عموم حرمة العمل للسلطان. وربما يحمل علي إذن خاص منه (عليه السلام) لشخص خاص، من دون أن يكون ذلك مسوغاً عاماً مستثني من عموم الحرمة. وإن كان ذلك خلاف ظاهره. فلاحظ.

(1) إجماعاً ادعاه غير واحد، وفي الجواهر:" بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. والنصوص مستفيضة به أو متواترة فيه".

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 48 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 38 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 180

مع الرهن (1). ويحرم أخذ الرهن أيضاً (2)، ولا يملكه الغالب (3)،

---------------

ويقتضيه - مضافاً إلي ذلك - قوله تعالي: (يَسأَلُونَكَ عَن الخَمرِ وَالمَيسِرِ قُل فِيهِمَا إِثمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثمُهُمَا أَكبَرُ مِن نَفعِهِمَا)(1) ، وقوله تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلاَمُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُوقِعَ بَينَكُم العَدَاوَةَ وَالبَغضَاءَ فِي الخَمرِ وَالمَيسِرِ وَيَصُدَّكُم عَن ذِكرِ الله وَعَن الصَّلاَةِ فَهَل أَنتُم مُنتَهُونَ)(2).

والميسر القمار - كما في مجمع البيان وتفسير القرطين، ويستفاد من بعض كلمات اللغويين. ويقتضيه غير واحد من النصوص، ويأتي بعضها - أو قسم منه، كما يستفاد من بعض آخر من كلماتهم. وربما يكون في أصل اللغة خصوص قسم منه، ثم اتسع معناه بعد ذلك، أو استفيد من تحريمه إلغاء خصوصيته وحرمة كل قمار. والأمر سهل.

(1) وهو متيقن من الآية والنصوص والإجماع.

(2) لما يأتي من عدم ملكيته. بل لو أخذ بعنوان مع الالتفات لذلك الاستحقاق كان حراماً تشريعاً أيضاً.

(3) بلا إشكال ظاهر. ويستدل له بوجوه:

الأول: أن المنصرف من النهي عن القمار والميسر عدم ترتب الأثر عليهما، لأن النهي التكليفي عن المعاملة وإن لم يستلزم الفساد - كما حقق في الأصول - إلا أن الاهتمام بأثر المعاملة - ومنه استحقاق الرهن في المقام - يستلزم استفادة عدم ترتبه تبعاً، بحيث يحتاج ترتب الأثر مع النهي إلي الاستدراك والتنبيه. ويأتي في أول الكلام في المسألة السابعة والعشرين ما ينفع في المقام.

********

(1) سورة البقرة آية: 219.

(2) سورة المائدة آية: 90، 91.

ص: 181

ولا يبعد تحريم اللعب بها إذا لم يكن رهن (1)، أما اللعب بغيرها مع الرهن - كالمراهنة علي حمل الحجر الثقيل أو المصارعة أو علي الطفرة أو نحو ذلك

---------------

الثاني: أن أكل المال بسبب القمار من أكل المال بالباطل عرفاً. بل به فسر في بعض النصوص، كالصحيح عن زياد بن عيسي - الذي لا يبعد كونه أبا عبيدة الحذاء الثقة -:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قوله [قول الله] عز وجل: (وَلاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ) فقال: كانت قريش يقامر الرجل بأهله وماله، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك"(1). وعن نوادر أحمد بن محمد بن عيسي عن أبيه: "قال أبو عبدالله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وَلاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ) قال: ذلك القمار"(2) ، ونحوهما مراسيل العياشي(3). ومن الظاهر أن مقتضي النهي عن أكل المال بالباطل عدم تملك المال به.

الثالث: ما تضمن عدم شرعية الرهن في غير السبق والرماية(4) فإنه ظاهر أو صريح في عدم تملك الرهن.

الرابع: بعض النصوص الخاصة، كصحيح إسحاق بن عمار:" قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): الصبيان يلعبون بالجوز والبيض ويقامرون. قال: لا تأكل منه، فإنه حرام"(5) ، وموثق السكوني عنه (عليه السلام): قال: كان ينهي عن الجوز يجيء به الصبيان من القمار أن يؤكل. وقال: هو سحت "(6) وغيرها.

(1) بلا ريب، كما في جامع المقاصد ومفتاح الكرامة، وحكاه في الثاني عن كتاب الشهادات من القواعد، وبه صرح في الدروس في الشطرنج والنرد.

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 14.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 8، 9 وذيله.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب السبق والرماية.

(5) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب السبق والرماية حديث: 7، 6.

(6) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب السبق والرماية حديث: 7، 6.

ص: 182

ويقتضيه فيهما إطلاق النصوص الكثيرة الناهية عنهما وعن اللعب بهما. كصحيح زيد الشحام:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فَاجتَنِبُوا الرِّجسَ مِن الأَوثَانِ وَاجتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ). قال: الرجس من الأوثان الشطرنج، وقول الزور الغناء"(1). وقريب منه مرسل ابن أبي عمير(2).

ومعتبر مسعدة عنه (عليه السلام): "سئل عن الشطرنج فقال: دعوا المجوسية لأهلها، لعنها الله"(3). والحسن عن أبي الربيع الشامي عنه (عليه السلام):" سئل عن الشطرنج والنرد فقال: لا تقربوهما..."(4). وموثق السكوني عنه (عليه السلام): "قال: نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عن اللعب بالشطرنج والنرد"(5).

وما في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي عن أبي بصير عنه (عليه السلام) قال: بيع الشطرنج حرام، وأكل ثمنه سحت، واتخاذها كفر، واللعب بها شرك، والسلام علي اللاهي بها معصية وكبيرة موبقة، والخائض فيها يده كالخائض يده في لحم الخنزير، لا صلاة له حتي يغسل يده كما يغسلها من لحم الخنزير، والناظر إليها كالناظر في فرج أمه، واللاهي بها والناظر إليها في حال ما يلهي بها والسلام علي الملاهي بها في حالته تلك سواء. ومن جلس علي اللعب بها فقد تبوأ معقده من النار، وكان عيشه ذلك حسرة عليه في القيامة..." (6) وغيرها. فإن مقتضي إطلاق ذلك كله عموم الحرمة للعب بهما من دون رهن.

ودعوي: انصرافه للعب بها مع الرهن، للغلبة. ممنوعة، لمنع الغلبة بالنحو المانع من الإطلاق، خصوصاً بين المترفين، لشيوع كون غرضهم من اللعب بها التلهي والمغالبة، من دون أهمية للاكتساب والرهن، بل هو لو وقع أمر ثانوي، فلو كان هو المانع من جواز اللعب بها كان المناسب التنبيه علي ذلك، وعدم إطلاق النهي عنهم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3، 7، 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3، 7، 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3، 7، 10.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3، 7، 10.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 103 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

ص: 183

وعن قربهما واللعب واللهو بهما. بل هو لا يناسب تعميم النهي لوجوه التقلب في حديث مستطرفات السرائر جداً.

ومن ثم لا ينبغي التأمل فيما سبق من الدروس من عموم النهي عن الشطرنج والنرد لصورة عدم الرهن.

ويجري ذلك في الأربعة عشر. لصحيح معمر بن خلاد عن أبي الحسن (عليه السلام): "قال: النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة. وكل ما قومر عليه فهو ميسر"(1). فإن مقتضي عموم التنزيل عموم الحرمة بضميمة ما سبق.

ودعوي: أن الذيل شاهد بأن التنزيل من حيثية حرمة الرهن، بناءً علي ما يأتي من أن القمار ظاهر في الرهن أو أنه المتيقن منه.

مدفوعة بعدم المنافاة بين تعميم الميسر لكل قمار وعموم الحرمة للعب من دون رهن الذي هو مقتضي إطلاق التنزيل، فلا ينهض التعميم المذكور بتقييد الإطلاق المزبور، ويتعين العمل عليه.

بل من القريب التعدي لكل أنواع القمار، لأنه الجهة العرفية الجامعة بين الأمور الثلاثة، المناسبة للحرمة ارتكازاً، والجمود علي خصوصية الأمور الثلاثة بعيد جداً. ويناسب ذلك ما في معتبر عبد المالك القمي قال:" كنت أنا وأخي إدريس عند أبي عبدالله (عليه السلام) فقال إدريس: جعلنا فداك ما الميسر؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام): هي الشطرنج. قال: قلت: إنهم يقولون: إنها النرد. قال: والنرد أيضاً "(2) فإن مقتضاه أن الجواب الأول لم يكن للتطابق المفهومي بين الميسر والشطرنج، بل لأن الشطرنج من أفراد الميسر، مع كون حقيقة الميسر ومفهومه معني في الشطرنج والنرد معاً، والظاهر أن ذلك المعني هو اللعب القماري، لأنه هو الجامع العرفي بين الشطرنج والنرد.

بل حيث كان الميسر المعروف عند العرب حين نزول الآية لعبة قمارية خاصة مبانية للشطرنج والنرد معاً فمن المعلوم أن تفسيره في النصوص بهما أو بأحدهما ل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 104 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 104 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 5.

ص: 184

يبتني علي الردع عن المعني العرفي، إذ لا ريب في حرمة المعني العرفي المذكور، بل علي تعميمه لهما مفهوماً أو ملاكاً بلحاظ جهة جامعة تكون هي موضوعاً للنهي أو لملاكه، وليست تلك الجهة عرفاً وارتكازاً إلا القمارية. ومن ثم كانت هي المنسبقة من الأدلة المتضمنة للتفسير المذكور.

وحينئذٍ يستفاد من التفسير المذكور عموم تحريم اللعب بآلات القمار لصورة عدم الرهن بضميمة إطلاق التفسير في نصوصه وإطلاق النهي عن الميسر في الآية الشريفة، حيث لم يؤخذ في أحدهما خصوص صورة الرهن.

وقد يناسب ذلك تعليل النهي عن الميسر في الآية الشريفة بأنه من أدوات الشيطان لإيقاع العداوة والبغضاء وللصدّ عن ذكر الله تعالي وعن الصلاة، لوضوح أن الصدّ عنهما يكون بمجرد اللعب، كما أن العداوة والبغضاء يكونان بمجرد المغالبة. وما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من اختصاصهما بصورة الرهن غير ظاهر.

ويؤيد ذلك ما في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالي: (إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلاَمُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ)(1). قال (عليه السلام):" ...وأما الميسر فالنرد والشطرنج، وكل قمار ميسر. وأما الأنصاب فالأوثان التي كانوا يعبدونها المشركون. وأما الأزلام فالأقداح التي كانت تستقسم بها مشركوا العرب في الجاهلية. كل هذا بيعه وشراه [وشراؤه] والانتفاع بشيء من هذا حرام من الله محرم، وهو رجس من عمل الشيطان..."(2).

فإن المراد بالقمار هنا آلاته، لأنها هي التي تقع موضوعاً للبيع والشراء، فإطلاق النهي عن الانتفاع به شامل للعب من غير رهن، كما لعله ظاهر، ولاسيما مع شيوع ذلك. كما أن تحريم بيعه شاهد بحرمة الانتفاع الظاهرة منه، وهو مطلق اللعب ولو من غير رهن.

********

(1) سورة المائدة آية: 90.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12.

ص: 185

فلا إشكال في حرمة أخذ الرهن (1). وفي حرمة نفس المراهنة والمغالبة

---------------

كما يؤيده أيضاً ما عن مجالس ابن الشيخ الطوسي بسنده عن علي (عليه السلام): "قال: كلما ألهي عن ذكر الله فهو من الميسر" (1) فإنه وإن لم يمكن الالتزام بالعموم المذكور، حيث يلزم لأجله الحمل علي التوسع في تطبيق الميسر لبيان الكراهة، أو علي الإلهاء بنحو خاص لا يكون إلا في المحرمات، إلا أنه ظاهر في أن ملاك النهي عن الميسر اللهو، وهو لا يتوقف علي الرهن.

هذا وقد يستدل بإطلاق النهي عن القمار في بعض النصوص، مثل صحيح معمر ابن خلاد المتقدم ومعتبر الوشا عن أبي الحسن (عليه السلام): "سمعته يقول: الميسر هو القمار"(2) ، وصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام):" قال: لا تصلح المقامرة ولا النهبة"(3) ، وغيرها.

بتقريب أن القمار هو اللعب بالآلات المعهودة ولو بدون رهن، قال في الجواهر: "عن ظاهر الصحاح والمصباح المنير، وكذلك التكملة والذيل: أنه قد يطلق علي اللعب بها مطلقاً مع الرهن ودونه".

لكن لم يتضح كون الإطلاق المذكور حقيقياً، بل المرتكز ابتناء المقامرة علي الرهن، كما تشير إليه جملة من عبارات اللغويين، ولذا يعد القمار من المكاسب المبنية علي المخاطرة، وذلك لا يكون إلا بلحاظ الرهن، كما أنه يعدي للمال بالباء، فيقال: قامر بماله، ولو كان متمحضاً في المغالبة باللعب لم يتجه ذلك، لخروج المال عنه، بل هو تابع للمراهنة التي قد تقارنه، فاللازم أن يقال مثلاُ: قامر مراهناً بماله. ومن ثم لا مجال للاستدلال المذكور. والعمدة ما سبق. فلاحظ.

(1) والظاهر الإجماع علي ذلك، كما يظهر بملاحظة كلماتهم، حيث لم يتعرضوا إلا للكلام في الحرمة التكليفية، مع ظهور المفروغية عن الفساد وعدم تملك الرهن،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 100 من أبواب ما يكتسب به حديث: 15.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 5.

ص: 186

إشكال (1). والأحوط الترك.

---------------

بل عن السيد الطباطبائي (قدس سره) في مصابيحه التصريح بعدم الخلاف في الأمرين. ويقتضيه ما تضمن عدم شرعية الرهن في غير السبق والرماية من النصوص المعتبرة السند وغيرها(1) المعول عليها عند الأصحاب.

(1) فقد أصر علي الحرمة غير واحد منهم شيخنا الأعظم (قدس سره)، مدعياً ظهور كلمات الأصحاب فيها، بل عدم الخلاف فيها، كما تقدم من السيد الطباطبائي في مصابيحه، وأنكرها صاحب الجواهر (قدس سره).

أقول: لا إشكال في الحرمة التشريعية إذا جيء بالعمل من أجل تنفيذ المراهنة واستحقاق الرهن شرعاً، وفي تحقق التمرد إذا جيء به من أجل تنفيذها واستحقاق الرهن عرفاً لأخذه وإن لم يستحق شرعاً، لما فيه من الاستهوان بالحكم الشرعي. وإنما الإشكال في الحرمة الذاتية نظير حرمة القمار، وقد يستدل عليها ببعض النصوص.

منها: ما تضمن الردع عن الرهان، كخبر العلاء بن سيابة عن أبي عبدالله (عليه السلام): "سمعته يقول: لا بأس بشهادة الذي يلعب بالحمام، ولا بأس بشهادة المراهن عليه، فإن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قد أجري الخيل وسابق، وكان يقول: إن الملائكة تحضر الرهان في الخف والحافر والريش، وما سوي ذلك فهو قمار حرام"(2) ، ومرسل الصدوق:" قال الصادق (عليه السلام): إن الملائكة لتنفر عند الرهان وتلعن صاحبه ما خلا الحافر والخف والريش والنصل"(3) ، وخبر زيد النرسي: "سمعته يقول: إياكم ومجالسة اللعان. فأن الملائكة لتنفر عند اللعان، وكذلك تنفر عند الرهان، وإياكم والرهان، إلا رهان الخف والحافر والريش، فإنه تحضره الملائكة"(4).

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2، 3 من أبواب كتاب السبق والرماية.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2، 3 من أبواب كتاب السبق والرماية حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب كتاب السبق والرماية حديث: 6.

(4) بحار الأنوار ج: 103 ص: 192.

ص: 187

ومنها: ما تضمن تطبيق القمار أو الميسر عليه، كقوله (عليه السلام) في صحيح معمر بن خلاد المتقدم:" وكل ما قومر عليه فهو ميسر"(1) ، ومرسل ياسر عن الرضا (عليه السلام): "سألته عن الميسر. قال: التفل من كل شيء. قال: الخبز والتفل [الثقل] ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم وغيره"(2) ، وخبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال:... قيل: يا رسول الله ما الميسر؟ فقال: كلما تقومر به حتي الكعاب والجوز..."(3). فإنه حيث تقدم أن القمار والميسر، محرمان تكليفاً ولو من دون رهن فمقتضي تطبيقهما في المقام ثبوت الحرمة التكليفية.

لكن حيث عرفت ثبوت الحرمة التشريعية فمن الصعب إحراز أن مراد الأصحاب في المقام هو الحرمة الذاتية، لعدم وضوح اهتمامهم ببيان الفارق بينهما. ولا أقل من عدم بلوغ ذلك حداً ينهض بالاستدلال.

وأما النصوص فالطائفة الأولي قد تضمنت الردع عن الرهان، لا عن العمل المترتب عليه الذي هو محل الكلام، ولعل الردع عن الرهان بلحاظ عدم مشروعيته في نفسه فالالتزام به تشريع محرم.

نعم قد يظهر من مساق بعضها النظر لنفس العمل، إلا أن مبغوضيته قد تكون بلحاظ كونه جرياً علي مقتضي الرهان من أجل استحقاق الرهن وأخذه، الذي عرفت عدم الإشكال في حرمته تشريعاً، أو كونه استهواناً بالحكم الشرعي.

وأما الطائفة الثانية فالصحيح والمرسل قد تضمنا تطبيق الميسر علي المال الذي يراهن عليه، ومرجع حرمته إلي ما هو المعلوم من عدم نفوذ الرهن، وهو خارج عن محل الكلام من حرمة نفس العمل. علي أن الصحيح قد فرض فيه القمار، وهو أخص من الرهن، كما يأتي إن شاء الله تعالي.

وأما خبر جابر فهو - مع ضعفه - قد تضمن تطبيق الميسر علي آلات القمار، ل

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 104 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12، 4.

ص: 188

علي كل عمل يراهن عليه الذي هو محل الكلام. غاية الأمر أنه تضمن عموم القمار للكعاب والجوز، وهو أمر آخر يظهر حاله مما يأتي في تحديد القمار.

هذا وقد يدعي أن ما سبق من حرمة اللعبة القمارية تكليفاً يقتضي الحرمة في المقام، لأن القمار هو الرهن، ففي لسان العرب: "قامر الرجلَ مقامرة وقماراً راهنه وهو التقامر" ،وفي القاموس: "قامره مقامرة وقماراً فقمره - كنصره - وتقمره: راهنه فغلبه، وهو التقامر" .وعن أقرب الموارد: "قمر الرجل قمراً راهنه ولعب القمار" .ويناسبه ما سبق في خبر العلاء بن سيابة ومرسل ياسر الخادم. ومن ثم جزم بعض مشايخنا (قدس سره) بذلك.

لكن في كفاية هذا في إثبات أن كل مراهنة قمار إشكال، بل منع، لما هو المعلوم من تسامح اللغويين في التعريف، وشيوع التعاريف اللفظية في كلماتهم. ولاسيما مع ما ذكروه من مناسبة القمار للخداع، أو أخذه منه.

ففي لسان العرب: "تقمر الأسد خرج يطلب الصيد في القمراء... قمروا الطير عشوها في الليل بالنار ليصيدوها... وكأن القمار مأخوذ من الخداع" وفي أساس البلاغة: "تقمره خدعه. ومنه القمار، لأنه خداع. تقول: قامرته فقمرته أقمره... غلبته".

حيث لا يناسب ذلك مطابقته للمراهنة، كيف ؟! والمراهنة من الرهن بمعني الحبس، ومنه رهن الدين. وقوله تعالي: (كُلُّ امرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)(1) ، وقوله تعالي: (كُلُّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَت رَهِينَةٌ)(2) وقولهم: المرء مرهون بعمله. حيث يتعين مع ذلك مباينة المراهنة مفهوماً للقمار، وإن كانت من شؤونه في الجملة.

وأما ما سبق في خبر العلاء فلابد من حمله علي المجاز تنزيلاً لمشاركته له في الحكم. والإلزام كون السبق والرماية من أفراد القمار الحقيقية، ولا يظن منهم

********

(1) سورة الطور آية: 21.

(2) سورة المدثر آية: 38.

ص: 189

البناء علي ذلك. وكذا مرسل ياسر الخادم، حيث لم يعهد تفسير الميسر بالمال الذي يراهن عليه.

ولعله لذا قال في مجمع البحرين: "وتقامروا: لعبوا بالقمار. واللعب بالآلات المعدة له علي اختلاف أنواعها، نحو الشطرنج والنرد وغير ذلك. وأصل القمار الرهن علي اللعب بالشيء من هذه الأشياء. وربما أطلق علي اللعب بالخاتم والجوز" .حيث يظهر من ذلك اختصاصه بنوع خاص من الرهن، وهو الرهن علي اللعب بآلات خاصة، وإن إطلاقه علي اللعب بالخاتم والجوز غير شايع، وقريب من ذلك في المسالك.

نعم لا يخلو في نفسه عن إشكال يأتي الكلام فيه عند تعرض سيدنا المصنف (قدس سره) لتحديد القمار. ومن ثم لا مجال للاستدلال علي الحرمة بهذا الوجه. فلاحظ.

هذا وفي صحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: قضي أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل أكل وأصحاب له شاة، فقال: إن أكلتموها فهي لكم، وإن لم تأكلوها فعليكم كذا وكذا، فقضي فيه أن ذلك باطل، لا شيء في المؤاكلة من الطعام ما قل منه وما كثر، ومنع غرامته فيه"(1). وقد يستدل به علي الجواز في المقام بدعوي: أن اقتصار الإمام (عليه السلام) علي بيان فساد المعاملة وبطلانها وعدم ردعه عن فعلهم ظاهر في عدم حرمته.

لكن في كفاية ذلك في استفادة الحل إشكال، إذ لعل عدم الردع لتمحض موقف الإمام (عليه السلام) في القضاء وبيان الحقوق من دون نظر لبقية الجهات. وهناك جهات من الكلام في الصحيح يضيق المقام عن إطالة الكلام فيها.

هذا وقد رتب في الجواهر علي إباحة المراهنة تكليفاً جواز أخذ الرهان بعنوان الوفاء بالوعد الذي هو نذر لا كفارة له، ومع طيب النفس من الباذل، لا بعنوان

-

********

(1) الكافي ج: 7 ص: 428 باب النوادر من كتاب القضاء والأحكام حديث: 11. والتهذيب باب من الزيادات في القضايا والأحكام ج: 6 ص: 290 حديث: 10.

ص: 190

وأما إذا لم يكن رهن فالأظهر الجواز (1). والأحوط الترك.

---------------

الاستحقاق بسبب الرهان المفروض فساده. أما لو كانت المراهنة محرمة تكليفاً فقد يشكل أخذ المال حتي بالعنوان المذكور، بناءً علي حرمة كل ما ترتب علي المحرم ولو كان جزاءً أو وعداً أو نحوهما.

لكن لم يتضح الوجه في حرمة أخذ المال مع الحرمة لا بعنوان الاستحقاق، بل وفاء بالوعد غير اللازم أو جزاء عليه.

(1) ففي القواعد بعد أن منع من الرهان في غير ما هو عدة للقتال قال:" وفي تحريم هذه مع الخلو عن العوض نظر ".ومال إلي الجواز في جامع المقاصد والمسالك، وصرح به غير واحد ممن تأخر عنهما. وعن جماعة المنع، وفي الرياض أنه الأشهر، وفي جامع المقاصد أنه ظاهر المذهب، بل ظاهر غير موضع من التذكرة الإجماع عليه.

وقد بناه في المسالك علي أن قولهم (عليهم السلام) في مثل صحيح حفص:" لا سبق إلا في الخف... "(1) إن كان بفتح الباء كان دالاً علي عدم مشروعية الرهان في غير الأمور المذكورة، لأن السَبقَ بالفتح هو ما تراهن عليه المتسابقون، ولا نظر للحديث حينئذٍ للاستباق من دون رهان. وإن كان بسكون الباء كان دالاً علي حرمة المسابقة ولو من دون رهان، لأن نفي المصدر مع تعذر حمله علي الحقيقة ظاهر في تحريمه. وقد ذكر أن الفتح هو الأشهر. ومن ثم مال لإباحة الاستباق من دون رهان، عملاً بالأصل. وعلي ذلك جري بعض من تأخر عنه.

لكن من الظاهر أن السبق بالسكون مصدر (سَبَق) لا مصدر (سابق)، وحيث لا إشكال في إباحة نفس السبق، فلا تتوجه نسخة السكون إلا بأن يراد بها الردع عن جعله موضوعاً للمغالبة، فتنفع في المطلوب. إلا أنه ليس بأولي من أن يراد بها الردع عن جعله موضوعاً للرهن، فتدل علي عدم مشروعية الرهن، كنسخة الفتح، من دون

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 191

نظر للاستباق من دون رهان.

مضافاً إلي أن حمل الحديث علي النهي عن المسابقة ولو من غير رهان لا يناسب مفروغية الأصحاب عن ظهوره في مشروعية الرهان في المستثنيات، لظهور أن النهي عن المسابقة ولو من غير رهان إنما يدل علي جواز المسابقة في المستثنيات في الجملة، لا علي مشروعية الرهان فيها، فمفروغيتهم المذكورة تشهد بكون موضوعه الرهان، لا أصل الاستباق، ومن ثم لا ينهض بتحريم الاستباق من دون رهان في غير المستثنيات.

هذا وقد أستدل في الرياض علي حرمة المغالبة من غير عوض بوجوه:

الأول: الإجماع المشار إليه آنفاً. وفيه: أنه لا مجال للتعويل عليه في المقام، بل لا مجال لدعواه بعد عدم تعرض غير واحد للمسألة، وبعد إشعار تقييد الشيخ في الخلاف موضوع النهي بالرهان بجواز المسابقة من غير رهن. ولاسيما مع عدم تعويل مدعيه - وهو العلامة (قدس سره) - عليه، حيث تنظر في التحريم في القواعد، كما سبق. ولاسيما مع احتمال ابتناء كلامهم علي استفادة الحكم من الرواية المتقدمة للبناء علي نسخة السكون التي عرفت حالها.

الثاني: ما دل علي حرمة اللهو واللعب. ويندفع: أولاً: بأنه لا أثر للمغالبة في اللهو واللعب وجوداً ولا عدماً، بل إن كان الأمر الذي يكون موضوعاً لها لهواً أو لعباً، لعدم كونه مورداً بنفسه لغرض عقلائي، صدقا عليه ولو من دون مغالبة، وإن لم يكن لهواً ولا لعباً، لكونه مورداً لغرض عقلائي - كالرياضيات الفكرية والبدنية والنفسية - لم يصدقا عليه ولو مع المغالبة. وعلي كلا الحالين لا أثر للمغالبة والتسابق فيهما.

وثانياً: بأنه لم يثبت عموم حرمة اللهو واللعب، وقد ساق شيخنا الأعظم (قدس سره) في المسألة العشرين مما يحرم التكسب به وجوهاً للاستدلال علي العموم المذكور لا مجال لإطالة الكلام فيها، لوهنها. ولاسيما بلحاظ السيرة والشهرة بما لا يناسب العموم

ص: 192

المذكور، كما أعترف به شيخنا الأعظم (قدس سره)، حيث يمتنع عادة مخالفتهما للواقع في مثل هذا الأمر الشايع الابتلاء. ومن ثم ذكر (قدس سره) أن القول بعموم الحرمة شاذ.

بل من القريب جداً - بلحاظ المرتكزات المتشرعية القطعية - ابتناء القول بالعموم علي الغفلة عن لوازمه، وأن القائل به لا يلتزم عملاً. فإنه بلحاظ ذلك كله يتعين تأويل ما قد يوهم العموم المذكور.

الثالث: ما تضمن من النصوص المتقدمة تنفر الملائكة عند الرهان في غير الثلاثة ولعنها صاحبه، وأنه قمار محرم، لدعوي: عدم توقف صدق الرهان والقمار علي العوض.

وفيه: منع الدعوي المذكورة، بل هي - في الجملة - في غاية الغرابة، فإن تقوم الرهان بالعوض من الوضوح بحدّ يغني عن الاستدلال.

وأما القمار فالظاهر تقومه في الجملة بالعوض لا بمجرد المغالبة، ولذا يعد عرفاً من المكاسب، وهو المناسب لما تضمن حرمة أكل المال به. فلاحظ ما سبق في أدلة حرمة أكل العوض، وفي تحديد معني القمار لغة. ويأتي تمام الكلام في ذلك عند تعرض سيدنا المصنف (قدس سره) لتحديد القمار إن شاء الله تعالي.

وأما ما سبق من حرمة اللعب بالشطرنج والنرد وجميع آلات القمار ولو مع عدم الرهن واستفادتها من تطبيق القمار والميسر عليهما، فهو لا يبتني علي عموم القمار لصورة عدم الرهن حقيقة، بل علي التوسع في التطبيق، ولو بلحاظ كون أصل الألعاب المذكورة قمارية، أو لعموم ملاك الحرمة لذلك. والمتيقن من ذلك الشطرنج والنرد أو مطلق الألعاب القمارية بالتقريب المتقدم، ولا مجال للتعدي لكل مغالبة، لعدم القرينة علي ذلك، بل قد لا يمكن البناء عليه بلحاظ المرتكزات، والسيرة، حتي استدل في الجواهر علي الجواز بالسيرة القطعية من الأعوام والعلماء.

وإن كان في نهوضها بالاستدلال إشكال، حيث قد لا يحرز اتصالها بعصر المعصومين (عليهم السلام)، ليكشف عدم ردعهم عن رضاهم بها. والعمدة الأصل المؤيد

ص: 193

بالمرتكزات.

وكيف كان فلا يتم شيء مما استدل به في الرياض. وأغرب من ذلك جعله شاهداً علي أن السبق في النص المتقدم بالسكون. لظهور عدم الملازمة بين عموم حرمة المغالبة وتمامية الأدلة المتقدمة عليه - لو سلم بهما - وورود النص المذكور بالسكون.

هذا وفي الجواهر أن المسابقة والمغالبة من دون عوض إن تمحضت في الاستباق خارجاً فهي سائغة لما سبق، وإن ابتنت علي عقد المسابقة فهي محرمة غير صحيحة، لعدم مشروعية العقد المذكور للأصل، والنهي عن السبق في غير المستثنيات.

وكأن مراده بابتنائها علي عقد المسابقة هو التعاقد بين الشخصين علي الاستباق، بحيث يكون كل منهما ملتزماً به لصاحبه. وكأن الفرق بينه وبين التمحض في الاستباق نظير ما ذكروه من الفرق في المسابقة المشروعة بين أن تكون عقداً مفتقراً للإيجاب والقبول وأن تكون جعالة، وأنها علي الأول تكون لازمة كالإجارة، وعلي الثاني تكون جعالة لا تلزم حتي بالشروع فيها.

لكن لم يتضح الوجه في عدم مشروعية العقد المذكور بعد عموم نفوذ العقد الحاكم علي الأصل المقتضي ترتب الأثر عليه. وأما النهي عن السبق في النصوص فقد سبق أنه وارد لبيان عدم مشروعية الرهن والعوض، فلا ينهض ببيان عدم مشروعية عقد المسابقة من دونه.

نعم ذكر (قدس سره) أنه علي السكون يكون المراد بيان عدم مشروعية عقد السبق في غير الأمور المذكورة، لأن السبق اسم للتعاقد علي التسابق ولو من دون رهن. لكن نسخة السكون غير ثابتة. ولو ثبتت فلم نعثر في اللغة علي تفسير السبق - بالسكون - علي التعاقد المذكور. وقد سبق عند الكلام في معني الحديث ما ينفع في المقام.

ص: 194

وكذا إذا كانت المغالبة برهن يرجع إلي جهة مباحة (1)، لا إلي الغالب (2).

---------------

(1) أما إذا كان لجهة محرمة فحرمتها تمنع من شرعية تمليكها أو تخصيص المال لها، لما فيه من ترويجها، وذلك مانع من شرعية العقد بغض النظر عما يأتي.

(2) حيث قد يدعي قصور دليل المنع عنه، لأن السبَق - بالفتح - وإن كان لغة هو ما يتراهن عليه المتسابقون، إلا أن مادة السبق فيه تناسب فرض كونه للسابق، إذ من البعيد كون منشأ أخذ المادة سببية السبق لاستحقاق الرهن ولو لغير السابق، إذ هو ليس بأولي من أخذ مادة اللحوق والتأخر فيه.

نعم إذا ابتني إعطاء الرهن للجهة الثالثة علي صلة الغالب، لأنها منسوبة له محسوبة عليه بحيث يهتم بها، وتكون صلتها صلة وتكريماً له صدق عليه السبق بالمعني المتقدم عرفاً، ودخل في دليل المنع. أما إذا لم يبتن علي ذلك فلا يشمله دليل المنع.

اللهم إلا أن يقال: الجهة الثالثة لما لم تكن طرفاً في المسابقة فلا مجال لأن تستحق السبق. وتوضيح ذلك أن المسابقة تارة: تكون بنحو العقد الملزم بالاستباق. وأخري: تكون بنحو الجعالة للسابق.

أما العقد فهو يبتني علي الإلزام والالتزام بين المتعاقدين، ولا دخل للأجنبي فيه، ليستحق الرهن. وأما الجعالة فلأنها إنما تقتضي استحقاق القائم بالعمل - وهو السبق في المقام - للجعل، دون الجهة الثالثة الأجنبية.

ومن هنا لابد من رجوع جعل الرهن للجهة الثالثة إلي استحقاق السابق دفع الرهن للجهة الثالثة، بحيث لو لم يدفع لها كان له المطالبة بدفعه لها، لاستحقاقه لذلك. ومرجع ذلك إلي كون الرهن للسابق. غايته أنه لا يستحق عين المال، بل يستحق دفعه للجهة الثالثة. ومن هنا لا منشأ لقصور دليل المنع عنه.

علي أنه لو تمّ قصور الدليل المذكور عنه فالمناسبات الارتكازية تقضي بإلغاء خصوصية السبَق في دليل المنع، وأن موضوع المنع هو الرهن وإن لم يكن سبقاً. بل

ص: 195

والمراد بالقمار ما تتوقف الغلبة فيه علي إعمال الفكر وقوته (1).

---------------

المنع من جعل الرهن للسابق قد يناسب المنع من جعله لغيره بالأولوية العرفية. ويؤيد العموم حديث العلاء بن سيابة المتقدم، لأن موضوعه الرهان، لا السبَق، ليجري فيه الكلام السابق.

(1) الظاهر أن ذلك ليس معياراً في صدق القمار، لانتقاضه طرداً بمثل المغالبة علي حلّ المسائل العلمية، حيث لا يصدق عليه القمار ولو مع الرهن، وعكسياً بمثل النرد الذي قيل إنه يبتني علي الحظ والصدفة من دون إعمال فكر، مع أنه قمار قطعاً.

وقد سبق عند الكلام في عدم مطابقة القمار للرهان من المسالك ومجمع البحرين أن القمار هو الرهن علي اللعب بالآلات المعدة للقمار. وهو بظاهره دوري، لأن فرض كون الآلة آلة قمار في رتبة متأخرة عن تحديد القمار، فلا تكون دخيلة في مفهومه.

ومن ثم ذهب شيخنا الأعظم (قدس سره) إلي أنه مطلق المغالبة، وسبقه إلي ذلك في الرياض، وذهب بعض مشايخنا (قدس سره) إلي أنه مطلق المراهنة. لكن سبق منا المنع منهما معاً.

نعم لا يبعد كون مراد صاحبي مجمع البحرين والمسالك الإشارة بالعنوان المذكور إلي نوع خاص من الآلات يجمعها معني يدركه العرف ويطلقون عليه القمار، من دون أن يكون عنوان القمار مأخوذاً فيها ليلزم الدور. فالإشكال إنما هو في تحديد الجامع المذكور.

والظاهر عدم صدقه علي المراهنة علي تعيين ماله واقع محفوظ لا دخل للمتراهنين به كالمراهنة علي طلوع الهلال أو نزول المطر أو سبق أحد المتسابقين في بعض الأعمال، كما يشيع الرهان علي ذلك في عصورنا، لأن القمار من سنخ الأعمال والألعاب المبتنية علي المراهنة والمغالبة، لا محض المراهنة، ليصدق في المقام.

كما لا يصدق علي المغالبة في الأعمال التي من شأنها أن تطلب لنفسها مع قطع النظر عن المغالبة والمراهنة فيها بل لفوائدها المادية أو المعنوية، وإن كان قد يراهن عليه

ص: 196

(مسألة 20): عمل السحر حرام (1).

---------------

للتشجيع، أو للتكسب، كالمغالبة في المسائل العلمية، وفي بعض الأعمال، كالسباحة والفروسية والعدو والكتابة والصمت والصبر ونحو ذلك، لأن القمار عرفاً من سنخ الباطل الذي لا فائدة فيه، فلا يصدق فيما يكون مورداً للأغراض العقلائية.

بل يشكل صدقه حتي علي ما يكون مطلوباً للتسلي والتلهي لا لأجل كسب المال به، ككثير من اللعب المتعارفة في عصورنا والتي لا يقصد نوعاً منها الاكتساب، لما هو المرتكز من أن القمار من سنخ المكاسب.

ومن ثم يقرب انحصار القمار بالعمل الذي من شأنه أن يؤتي به من أجل المغالبة للاكتساب به من طريق الرهان عليه، من دون أن يكون مطلوباً لنفسه من أجل الفوائد المترتبة عليه، أو من أجل التلهي والتسلي من دون نظر للاكتساب به.

ولا أقل من كون ذلك هو المتيقن من الأدلة، فإنه حيث ظهر مما سبق حرمة الرهان مطلقاً وإن لم يكن العمل قماراً، فالأثر إنما يظهر في المغالبة من دون رهان، وقد سبق أن دليل الحرمة فيها ينحصر بما تضمن النهي عن الشطرنج والنرد والأربعة عشر، وأن التعدي عنها إنما هو لفهم عدم الخصوصية لها، وأن موضوع النهي هو الجامع العرفي بينها، والمتيقن منه ما ذكرنا، ولا دليل علي ما زاد عليه.

ودعوي: عدم ثبوت كون اختراع النرد والشطرنج لاكتساب المال، بل لعله للتسلي أو التمرن علي معالجة المشاكل العسكرية. مدفوعة بأن ذلك لا ينافي كونهما حين صدور النصوص اللعب القمارية التي من شأنها أن يكتسب بها المال، بحيث يستفاد من النهي عنهما التعدي لكل لعبة قمارية. فلاحظ.

(1) بلا خلاف ولا إشكال، وقد تكرر في كلماتهم نقل إجماعنا وإجماع المسلمين عليه، بل كونه من ضرويات الدين. ويقتضيه - مضافاً إلي ما تشعر به أو تدل عليه آية هاروت وماروت وغيرها من كونه من المحرمات الشديدة، بنحو لا يناسب اختصاص حرمته بشريعة خاصة - النصوص الكثيرة المتضمنة للنهي عنه

ص: 197

ولثبوت الحدّ به(1) ، كموثق السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): ساحر المسلمين يقتل، وساحر الكفار لا يقتل. قيل: يا رسول الله: لِمَ لا يقتل ساحر الكفار؟ قال: لأن الشرك أعظم من السحر، لأن السحر والشرك مقرونان"(2) ، وغيره.

هذا وربما قيل بجواز حلّ السحر بالسحر، في شرح القواعد لكاشف الغطاء أن عليه كثيراً من أصحابنا. وقد يستدل علي ذلك بصحيح إبراهيم بن هاشم عن شيخ من أصحابنا الكوفيين قال:" دخل عيسي بن شقفي علي أبي عبدالله (عليه السلام) وكان ساحراً يأتيه الناس ويأخذ علي ذلك الأجر، فقال له: جعلت فداك أنا رجل كانت صنعتي السحر، وكنت آخذ عليه الأجر وكان معاشي، وقد حججت منه، ومنّ الله عليّ بلقائك، وقد تبت إلي الله عز وجل، فهل في شيء من ذلك مخرج ؟ فقال له أبو عبدالله (عليه السلام): حلّ ولا تعقد"(3).

ولعله إليه يرجع مرسل الصدوق في العلل، قال: "وروي أن توبة الساحر أن يحلّ ولا يعقد"(4). وبما تضمنه بعض النصوص من أن الملكين إنما علما الناس السحر من أجل أن يبطلوا به السحر(5).

لكن جميع النصوص المستدل بها ضعيفة في نفسها. مضافاً إلي ما قد يستشكل به في الأولين من إمكان حملهما علي الحل بغير السحر. وإن كان بعيداً، كما ذكره غير واحد. ويأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالي.

وفي نصوص الملكين بأن التحقيق عدم قضاء الأصل بجريان أحكام الشرايع السابقة في شريعتنا، فضلاً عن الخروج به عن عموم المنع المستفاد من إطلاق أدلة التحريم.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب ما يكتسب به. وج: 18 باب: 1، 2 من أبواب بقية الحدود والتعزيرات.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 1، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 1، 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 1، 3.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5.

ص: 198

نعم قد تشعر النصوص المذكورة بتوجيه فعل الملكين لدفع شبهة فعل الحرام عنهما، وذلك يناسب المفروغية عن عدم اختلاف أحكام الشريعتين في المسألة. إلا أن في بلوغ ذلك حدّ الظهور البالغ مرتبة الدليلية إشكال أو منع.

هذا وقد استدل بعض مشايخنا (قدس سره) بالآية المتضمنة لتعليم هاروت وماروت السحر، بتقريب أن السحر لو لم يكن جائز الاستعمال حتي في مقام دفع الضرر لم يجز تعليمه، فجواز تعليمه يدل علي جواز العمل به في الجملة. والقدر المتيقن منه صورة دفع ضرر الساحر.

لكنه يندفع بعدم الملازمة بين حرمة العمل بالسحر وحرمة تعليمه، فلا مانع من جواز تعليمه مع حرمة العمل به، ولو لمصلحة يعلمها الله تعالي في فتنة الناس وامتحانهم بتمكينهم من الحرام. مع أن جواز العمل به في الشرايع السابقة لحلّ السحر لا يستلزم جوازه في شريعتنا. حيث سبق أن الأصل لا يقتضي جريان أحكامها في شريعتنا. ولو اقتضاه لم ينهض برفع اليد عن عموم المنع.

ولعله لذا صرح في التذكرة والقواعد والدروس وعن غيرها بعدم جواز ذلك.

نعم قد يمنع من عموم إطلاقات أدلة حرمة السحر لحلّ السحر به. وقد يقرب بما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) من انصرافها إلي غير ما قصد به غرض راجح شرعاً.

لكنه - كما تري - في غاية المنع، ضرورة أنه كثيراً ما تترتب علي السحر آثار راجحة شرعاً، كانسجام الزوجين وائتلافهما، والتحبب للناس، ولا يظن بأحد البناء علي جواز السحر من أجلها.

فالعمدة في وجه قصور الإطلاقات المذكورة: أن حلّ السحر ليس من السحر، بل هما متباينان متقابلان، نظير مقابلة فسخ العقد للعقد، والشفاء للمرض، والإطلاق للحبس. ولا يراد من قولهم حلّ السحر بالسحر حلّه به حقيقة، بل حلّه

ص: 199

بآلات السحر والأعمال المسانخة لأعماله. ومن الظاهر أن إطلاقات النهي عن السحر إنما تقتضي حرمة السحر ذي الآثار المعهودة، لا حرمة استعمال السنخ الخاص من الآلات والأعمال ولو من دون أن تؤثر سحراً، ليشمل استعمالها في إبطاله وحلّه.

وبعبارة أخري: السحر متقوم بالأثر الخارج عن الوضع الطبيعي لا بالآلة، وإنما هي مقدمة له، فلا يكون النهي عنه شاملاً لاستعمال الآلة في غير الأثر المذكور، بل في إبطاله والرجوع للوضع الطبيعي.

فالمقام نظير ما لو ورد النهي عن إمراض الإنسان أو عن إعابة الجهاز، فإنه لا يشمل مداواة الإنسان من المرض بما يسانخ أسباب المرض، أو إصلاح الجهاز المعيب بما يسانخ آلات الإعابة. ومن هنا لا مخرج عن مقتضي الأصل من جواز ذلك.

بل المناسبات الارتكازية تقتضي رجحانه، لأن مبغوضية حدوث الأثر بالطرق السحرية تناسب رجحان إزالته وإبطال تأثيرها جداً. وهو المناسب لما سبق في مرسل الصدوق. كما أنه الظاهر من حديث عيسي المتقدم، لأن مقتضي الجواب كون الحَل هو المخرج مما حصل من إثم السحر والكفارة.

نعم قد ينافيه قوله:" ولا تعقد ".لظهور أن العقد مباين للحلّ، وليس قيداً فيه ولا من شؤونه، ليتجه التنبيه له عند بيان مخرجية الحلّ. كما لا منشأ لتوهم كونه مخرجاً مستقلاً، ليحتاج عنه عند بيان المخرج. ومن ثم قد يحمل قوله (عليه السلام):" حُلّ ولا تعقد "علي بيان ما يسوغ له في المستقبل، لا علي بيان المخرج عن إثم السحر الذي وقع السؤال عنه.

اللهم إلا أن يجمع بين سياق السؤال عن المخرج وعدم العقد به بحمل قوله (عليه السلام):" حل "علي بيان المخرج، وحمل ما بعده علي الاستئناف، بلحاظ أن العالم بالسحر إذا لم يهجر علمه بالمرة وبقي يستعمله في الحلّ كما أمره الإمام (عليه السلام) فقد يتعرض لاستعماله في عقد السحر، فاحتيج للتنبيه والردع عن العقد. أو يحمل المخرج في كلام السائل علي المخرج المصحح للاستمرار في العمل، لا المخرج من إثم العمل

ص: 200

السابق والكفارة له، فيرجع الجواب حينئذٍ إلي أن الاستمرار إنما يسوغ بالتزام الحلّ من دون عقد. فلاحظ.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في جواز حلّ السحر بالأعمال المسانخة لعمل السحر بعد قصور الإطلاقات عن المنع منه مؤيداً بالنصوص المتقدمة.

نعم إذا كانت تلك الأعمال أمراً محرماً في نفسه كتوهين ما كرم الله تعالي وتعظيم ما وهن وغير ذلك من المحرمات تعين حرمة الحل لحرمة سببه.

وكذا إذا لم يكن أثر العمل حلّ السحر وإبطال أثره، بل تدارك أثره وضرره بسحر مثله، كما لو حببت إحدي الزوجتين نفسها للزوج بالسحر، فأعرض عن الأخري لتعلقه بالأولي، فأرادت الأخري أن تحبب نفسها له بسحر آخر، لتتدارك ضرر السحر الأول من دون أن يبطل وينحل، فإنه يتعين الحرمة عملاً بإطلاق الأدلة، لصدق السحر علي الثاني بلا إشكال.

اللهم إلا أن يقال: مقتضي قاعدة نفي الضرر جواز السحر حينئذٍ. لكن مقتضي ذلك جواز السحر لدفع الضرر مطلقاً وإن لم يكن مسبباً عن سحر سابق، وهو أمر آخر غير جواز السحر لتدارك ضرر السحر من دون حلّ له.

علي أنه لا يخلو في نفسه عن إشكال، إذ هو لا يناسب تشديد الشارع الأقدس في أمر السحر حتي كان حده القتل وحرّم تعلمه - كما سيأتي - إذ لو جاز استعماله لدفع الضرر فهو أمر شايع ظاهراً. وحينئذٍ يكون المناسب التنبيه لذلك واستثناؤه من الإطلاقات.

بل في موثق السكوني عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): "قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) لامرأة سألته إن لي زوجاً وبه عليّ غلظة، وإني صنعت شيئاً لأعطفه عليّ. فقال لها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أف لك كدرت البحار وكدرت الطين ولعنتك الملائكة الأخيار وملائكة السماوات والأرض..."(1) ، ومن الظاهر أن مورده إن لم يبلغ الضرر المعتد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 144 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه حديث: 1.

ص: 201

وكذا تعليمه (1)، وتعلمه (2)،

---------------

به فلا أقل من كونه من موارد احتماله، فإطلاق الإنكار من دون تنبيه إلي استثناء صورة ما إذا بلغ الحال الضرر المعتد به كالصريح في استثنائه من الحرمة. فلاحظ. والله سبحانه وتعالي العالم.

(1) كما في التذكرة والقواعد والمسالك وعن مجمع البرهان أن تحريم السحر وتعلمه وتعليمه وأخذ الأجرة عليه إجماعي بين المسلمين.

ويقتضيه ما يأتي من حرمة تعلمه، للملازمة بينهما في الحرمة عرفاً. وليس هو كالإعانة بالمقدمات البعيدة لا ملزم بمشاركتها للمعان عليه في الحرمة. ولاسيما مع ما هو المرتكز من أن المحرم بالأصل هو عمل السحر، وأن تحريم التعلم من أجل التعجيز عنه منعاً لوقوعه خارجاً، سداً لباب الفساد، فإن ذلك يقتضي تحريم التعليم والتعلم معاً.

(2) كما في الشرايع والتذكرة والقواعد والمسالك وغيرها، وهو داخل في معقد الإجماع المتقدم عن مجمع البرهان. ويقتضيه موثق إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه:" أن علياً (عليه السلام) كان يقول: من تعلم شيئاً من السحر كان آخر عهده بربه. وحدّه القتل، إلا أن يتوب..."(1). وقريب منه خبر أبي البختري عنه(2).

هذا وفي الجواهر: "أما تعلمه لأنه من العلوم، أو لأنه قد يحتاج إلي عمله ولو عند الاضطرار، فالظاهر جوازه، وفاقاً للأستاذ في شرحه. بل عن تفسير الرازي أنه اتفق المحققون علي ذلك. للأصل. ولأن العلم في حدّ ذاته شريف... ونقل قصة الملكين المعلمَين في القرآن لأهل هذه الملة شاهد علي حلّ التعليم. وعدم قصدهما الإعانة يدفع إشكال حرمتها منهما، أو أنهما لم يَعلَما العمل ممن عَلَّماه، أو أن ذلك لهم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 3 من أبواب بقية الحدود والتعزيرات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب ما يكتسب به حديث: 7.

ص: 202

بالخصوص جائز، لكون نزولهما فتنة وابتلاء. وما في بعض الروايات السابقة من تحريم التعلم محمول علي إرادة التعلم الذي يتبعه العمل، كما يومي إليه ما فيه من كون حدّه القتل".

لكن الأصل محكوم بإطلاق النص المانع من تعلم السحر. ومجرد شرف العلم في نفسه لا يمنع من تحريمه شرعاً لمصلحة تقتضي بذلك، كسدّ باب الفساد. وأما ما نقل من قصة الملكين فهو لا يصلح شاهداً علي حِلّ التعلم لنا بعد اختلاف الشريعتين ولاسيما مع إطلاق النص بحرمة التعلم، نظير ما سبق.

غاية الأمر أن التشديد في أمر السحر والتعبير عنه في الآية الشريفة بالكفر، وقوله تعالي في آية أخري: (إِنَّ اللهَ لاَ يُصلِحُ عَمَلَ المُفسِدِينَ)(1) يناسب عموم حرمته لجميع الشرايع، كما ذكرناه آنفاً، ولا يجري ذلك في حلّ تعلمه.

ومن هنا يتعين البناء علي اختصاص جواز التعليم والتعلم بتلك الشريعة، أو بالملكين لأنهما فتنة، مع حرمته في شريعتنا سداً لباب الفساد. وهو أولي من حمل التعليم من الملكين علي خصوص صورة عدم ترتب العمل بالسحر علي تعلمه، أو عدم العلم بذلك، وحمل المنع من التعلم في النص المتقدم علي كون النهي عنه عرضاً من أجل حرمة العمل بالسحر.

ومثل ذلك دعوي: أن النص المتقدم المتضمن حلّ السحر بالسحر يقتضي جواز تعلم السحر من أجل الحلّ. لاندفاعها بأن النص المذكور - بغض النظر عما سبق من عدم نهوضه بالاستدلال - إنما تضمن الترخيص أو الأمر بالحلّ بعد فرض حصول التعلم ولو عصياناً، ولا إطلاق له يقتضي جواز التعلم من أجل الحلّ.

وأما ما سبق في ذيل كلام صاحب الجواهر من حمل المنع من التعلم في النص المتقدم علي إرادة التعلم الذي يتبعه العمل، بقرينة ما تضمنته من أن حدّه القتل. فهو لا يخلو عن غموض.

********

(1) سورة يونس آية: 81.

ص: 203

إذا لو أراد بذلك أن موضوع الحدّ هو التعلم بنفسه إذا كان يترتب عليه العمل بالسحر، فلا يظن بأحد البناء علي ذلك. ولو بني عليه أمكن البناء علي أن موضوعه التعلم مطلقاً ولو لم يترتب عليه العمل، عملاً بإطلاق النص.

ولو أراد بذلك أن موضوع الحدّ هو العمل بالسحر المترتب علي التعلم كان راجعاً إلي حمل النص علي ما يشبه الاستخدام من حمل ضمير (حدّه) علي السحر أو الذي يسحر، لا علي من تعلم السحر. وحينئذٍ لا ملزم بتقييد التعلم المنهي عنه بخصوص ما يترتب عليه العمل بالسحر.

وبعبارة أخري: لما كان الظاهر المفروغية عن عدم ثبوت الحدّ بالتعلم بل بالعمل. فلابد من تنزيل النص علي ذلك من دون أن ينهض للقرينة علي كون التعلم المحرم خصوص ما يترتب عليه العمل.

اللهم إلا أن يقال: موضوع الحدّ في النصوص هو الساحر، وهو عرفاً صفة مشبهة تقتضي الثبوت كالعالم والمجتهد، وليس كسائر أسماء الفاعلين دالاً علي مجرد حدوث المادة، كالضارب والقاتل. ليمكن حمله علي من يصدر منه السحر. وحينئذٍ لا يكون انطباقه علي من يتعلم السحر إلا بلحاظ تهيئه للقيام به ومزاولته وإن لم يصدر منه فعلاً. ومن ثم يصلح بيان استحقاق الحد - وهو القتل - في الموثق علي تعلم السحر قرينة علي كون المراد تعلمه المبتني علي التهيؤ لمزاولته. ولاسيما وأنه هو الذي يمكن التوبة عنه بالإعراض عن ذلك، أما مطلق التعلم فلا يمكن التوبة عنه، لعدم قابليته للارتفاع ولا للاستمرار. ومن ثم يقصر الإطلاق عن تعلمه من دون أن يبتني علي مزاولته. ولا أقل من خروجه عن المتيقن من الإطلاق، لإجمال الإطلاق من هذه الجهة.

لكن هذا إنما ينفع إذا أمكن البناء علي استحقاق الحدّ بمجرد تعلم السحر المبتني علي مزاولته ولو لم يزاوله. أما إذا اشترطنا في استحقاق الحدّ مزاولته للسحر، فلابد من ابتناء الموثق علي الاستخدام، وحينئذٍ لا مخرج عن إطلاق صدره المتضمن

ص: 204

والتكسب به (1). والمراد منه ما يوجب الوقوع في الوهم (2)

---------------

حرمة التعلم. وأما استثناء التوبة فإن كان من ثبوت الحدّ لم ينفع فيما نحن فيه. وإن كان من قوله (عليه السلام): "كان آخر عهده بربه" تعين حمل التوبة فيه علي الندم. وبالجملة: يصعب الخروج عن الإطلاق القاضي بحرمة التعلم. فلاحظ.

ومن ذلك يظهر حال ما في الدروس من جواز تعلمه ليتوقي به أو لئلا يغتر به. فإنه إنما يتجه علي إطلاقه إذا لم يتم إطلاق النص بحيث يقصر عن التعلم لا للعمل. وإلا فهو خروج عن الإطلاق المذكور، ولا مجال للبناء عليه إلا أن يبلغ أثر السحر حدّ الضرر أو الحرج المعتد به وينحصر دفعه بالتعلم، فيجوز، لقاعدة نفي الحرج والضرر. ولا يأتي ما سبق من الإشكال في جواز السحر لدفع الضرر. للفرق ارتكازاً بين السحر نفسه وتعلمه، فعدم جواز السحر لدفع الضرر لا ينافي جواز تعلمه لذلك.

وكذا الحال في تعلمه للقيام ببعض الواجبات، كرفع الشبه الحاصلة من تضليل أهل البدع أو الكفر بسبب السحر، وذلك بإبطال سحرهم، أو كشف حقيقة أمرهم فيما إذا انحصر الأمر بالتعلم، حيث يكون التعلم حينئذٍ مورداً للمزاحمة بين حرمته في نفسه - لو تمّ إطلاق حرمة التعلم - ووجوبه مقدمياً. أما إذا لم يتم إطلاق حرمة التعلم فالأمر أظهر.

(1) كما صرح به غير واحد، وهو داخل في معقد الإجماع المتقدم عن مجمع البرهان. لأن حرمة العمل تقتضي حرمة الأجر عليه، وأن يكون أكل المال في مقابله أكلاً له بالباطل، كما تقدم غير مرة.

(2) مفهوم السحر لا يخلو عن إجمال، ولا يسعنا تحديده، والمرجع فيه أهله. واللازم الاقتصار في مورد الإجمال علي المتيقن.

نعم الظاهر عدم اختصاصه بما يوجب الوقوع في الوهم، وأنه قد يؤثر آثاراً حقيقية، كعجز الزوج عن وطء زوجته، والتباغض بين المتحابين، والعكس، من دون أن يرجع إلي التمويه والوهم.

ص: 205

بالغلبة علي البصر أو السمع أو غيرهما (1). وفي كون تسخير الجن (2) أو الملائكة (3) أو الإنسان (4) من السحر إشكال. والأظهر تحريم ما كان مضراً (5)

---------------

كما لا مجال لما قد يظهر من الشهيدين في الدروس والمسالك من أخذ الإضرار في مفهوم السحر، إذ الظاهر أنه متقوم بنحو خاص من التأثير مستند إلي سنخ خاص من الأسباب، من دون خصوصية لنوع الأثر، فمثل التحاب بين المتباغضين قد يكون سحراً وإن لم يكن مضراً بهما ولا بغيرهما.

(1) يعني من الحواس. والظاهر أن المراد به ما يوجب تغيراً فيها يحصل بسببه الإيهام، أما إذا كان الإيهام ناشئاً من خفة الحركة أو اضطراب الأصوات أو نحوهما من دون أن يؤثر علي قابلية الحواس فليس هو من السحر أو هو خارج عن المتيقن منه. نعم قد يكون من الشعبذة أو نحوها.

(2) فقد عدّ في الدروس من السحر تسخير الجن والملائكة واستنزال الشياطين في كشف الغائب. والظاهر أن مجرد استخدام المسخَّر بحيث يستجيب للمسخِّر بمجرد الطلب بعد السيطرة عليه ليس من السحر. نعم قد يكون السحر سبباً في أصل السيطرة عليه، إما بأن يقهره قبل الاستخدام ويجعله مرتهناً بأمره مستجيباً له برضاه، أو يقهره حين الاستخدام، فيسير مقهوراً بأمره.

(3) من البعيد جداً السيطرة علي الملائكة بالطرق الشيطانية. نعم يحتمل استجابتهم لبعض ذوي المقام الديني الرفيع بأمر من الله تعالي. ولا إشكال في خروجه عن السحر.

(4) وكذا الحيوان، حيث قد يسيطر عليه بعض الناس ببعض الوسائل السحرية أو غيرها.

(5) يكفي في الحرمة القهر علي الاستجابة علي خلاف قاعدة السلطنة. نعم إذا كانت السيطرة بنحو تقتضي استجابة المسخَّر عند الطلب برضاه فلا محذور فيها.

ص: 206

بالغير (1) دون غيره (2).

(مسألة 21): القيافة حرام (3).

---------------

(1) يعني: ممن له حرمة، وهو المسلم، دون الكافر.

(2) إذ بعد عدم وضوح دخوله في السحر وعدم تحقق الإضرار المحرم به لا دليل علي حرمته، فيكون المرجع فيه أصل البراءة.

(3) وعن الحدائق نسبته للأصحاب، وعن الكفاية: "لا أعرف خلافاً" وعن المنتهي الإجماع عليه، وهو ظاهر التذكرة ومحكي التنقيح. قال في الجواهر: "وكأنه لا خلاف في تحريمها، نحو الكهانة. بل لعلها فرد منها، فتندرج تحت ما دلّ علي حرمتها".

لكنه كما تري، لابتناء الكهانة علي إخبار الجن والشياطين، وابتناء القيافة علي مراعاة علامات بدنية تقتضي الإلحاق، وبينهما كمال التباين. كما يناسب ذلك ما في معتبر أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: من تكهن أو تكهن له فقد برئ من دين محمد (صلي الله عليه وآله وسلّم). قال: قلت: فالقيافة [فالقافة]؟ قال: ما أحب أن تأتيهم. وقيل: ما يقولون شيئاً إلا كان قريباً مما يقولون. فقال: القيافة فضلة من النبوة ذهبت في الناس حين بعث النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)"(1).

نعم ظاهر الخبر عدم التعويل علي القافة، بناءً علي أن المراد بقوله (عليه السلام):" ذهبت في الناس... "ضاعت عليهم واضمحلت، كما يناسبه ما هو المعلوم من انفراد النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته بفيوضات النبوة، ومن أنهم قبل بعثته (صلي الله عليه وآله وسلّم) كانوا أظهر منهم بعدها، وما تضمنه الخبر من كراهته (عليه السلام) إتيانهم. فكأنه (عليه السلام) أراد توجيه إصابتهم في كثير من الموارد بأن لحديثهم أصلاً من الصدق، إلا أنه لا ينبغي التعويل عليهم بعد اختلاط الأمر عليهم بسبب بعثته (صلي الله عليه وآله وسلّم).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 26 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 207

ويستدل علي ذلك أيضاً بصحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: لا تأخذ بقول عراف ولا قائف ولا لص..."(1) ، وما في معتبر الجعفريات من عدّ أجر القائف من السحت(2).

مضافاً إلي ما ذكره في الجواهر من منافاة القيافة لما هو كالضروري من الشرع من عدم الالتفات إلي هذه العلامات وهذه المقادير، وأن المدار في الإلحاق بالنسب الإقرار أو الولادة علي الفراش أو نحوهما مما جاء من الشرع. إذ لو كان من شأن القيافة أن توجب العلم لتعين الرجوع إليها ولو مع التوثق من دين القائف ومعرفته وضبطه لأصولها. فاقتصار الشارع الأقدس علي الضوابط المعهودة مستلزم لعدم إقراره للقائف في دعوي العلم، المستلزم لحرمة دعواه منه وإخباره جازماً اعتماداً عليه.

لكن عن الحدائق التشكيك في ذلك، لما رواه في الكافي بسنده عن علي بن جعفر في مراجعة إخوة الإمام الرضا (عليه السلام) وأعمامه له في أمر الإمام الجواد (عليه السلام)، قال:" قال له إخوته ونحن أيضاً: ما كان فينا إمام قط حائل اللون. فقال لهم الرضا (عليه السلام): هو ابني. قالوا: فإن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قد قضي بالقافة، فبيننا وبينك القافة. قال: ابعثوا أنتم إليهم، فأما أنا فلا، ولا تعلموهم لما دعوتموهم، ولتكونوا في بيوتكم. فلما جاؤوا أقعدونا في البستان، واصطف عمومته وإخوته وأخواته، وأخذوا الرضا (عليه السلام) وألبسوه جبة صوف وقلنسوة منها، ووضعوا علي عنقه مسحاة، وقالوا له: ادخل البستان كأنك تعمل فيه، ثم جاؤوا بأبي جعفر (عليه السلام)، فقالوا: الحقوا هذا الغلام بأبيه. قالوا: ليس له ههنا أب، ولكن هذا عمّ أبيه، وهذا عم أبيه، وهذا عمّه، وهذه عمّته. وإن يكن له ههنا أبٌ فهو صاحب البستان، فإن قدميه وقدميه واحدة، فلما رجع أبو الحسن (عليه السلام) قالوا: هذا أبوه..."(3). وكأنه لإقرار الإمام الرضا (عليه السلام) ما ذكروه من قضاء رسول

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 14 من أبواب آداب السفر حديث: 2.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 23 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(3) الكافي ج: 1 ص: 321 باب الإشارة والنص علي أبي جعفر الثاني (عليه السلام) من كتاب الحجة حديث: 14.

ص: 208

الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) بالقافة، ورضاه بالإرسال إليهم للحكم في الواقعة.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من مخالفته لضرورة المذهب، لاشتماله علي عرض أخوات الإمام (عليه السلام) علي القافة. فهو لا يخلو عن إشكال، فإن عرضهن ليس محرماً إلا من جهة استتباعه النظر المحرم، ومن القريب عدم تجاوز ما كشف من أبدانهن الوجه والكفين والقدمين. ولاسيما مع عدم وضوح إقرار الإمام الرضا (عليه السلام) لكيفية تعاملهم مع القافة بعد أن كانوا هم المرسلين عليهم في بيوتهم.

وأما الإشكال فيه بضعف السند، بلحاظ جهالة زكريا بن يحيي الذي روي حديث علي بن جعفر. فقد يهون، لأن ثناء الكليني علي روايات كتابه ووصفها بالصحة، وثناء الأصحاب علي الكليني في معرفة الأخبار، وإيداع الكليني للحديث في باب النص علي إمامة الإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام)، كل ذلك يناسب الركون للحديث وإلي رواته، خصوصاً علي مسلك صاحب الحدائق، بل في مفتاح الكرامة: "وضعفه غير ضائر، لأن عليه حقيقة ومسحة" .فتأمل.

فالعمدة في وهن الاستدلال بالحديث أن محنة الإمام الرضا (عليه السلام) مع أهله في مثل هذا الأمر الحساس، وعدم إذعانهم بولادة الجواد (عليه السلام) منه مع إصراره علي ذلك، تمنع من كشف سكوته (عليه السلام) عن تكذيبهم في قضاء رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) بحكم القافة عن إقراره بذلك. إذ لعله (عليه السلام) علم بعدم قبولهم منه، وتوقع منهم حمله علي التهرب من حكم القافة خوفاً من حكمهم ضده، وإلا فلا ريب في عدم قضاء رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) بقول القافة بلا حاجة إلي إنكاره (عليه السلام) عليهم. ولا أقل من دلالة صحيح محمد بن قيس علي ذلك.

كما أن إقراره (عليه السلام) للإرسال عليهم قد لا يكون لمشروعية الرجوع إليهم، بل لتأكيد الحجة علي خصومه وإلزامهم بما التزموا به من ذلك، لعلمه (عليه السلام) بأن حكم القافة سوف يكون مؤيداً لدعواه.

بل جعل شيخنا الأعظم (قدس سره) الحديث شاهداً علي إنكار قضاء النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)

ص: 209

وهي إلحاق الناس بعضهم ببعض (1) استناداً إلي علامات خاصة (2)، علي

---------------

بقولهم. وكأنه لامتناعه من الإرسال إليهم بنفسه، وإيكاله ذلك لإخوته وأعمامه. وإن كان الإنصاف أنه لا يشهد بذلك، لاحتمال كون إيكال ذلك إليهم لتأكيد حجته (عليه السلام)، لأن حكم القافة له مع غفلتهم عن تشخيصه (عليه السلام) أظهر لحجته من حكمهم له مع التفاتهم له وتركيزهم عليه. فالعمدة في عدم التعويل علي القافة وحرمة الرجوع لهم ما سبق.

(1) كما عن إيضاح النافع والميسية، وفي المسالك والروضة أنها إلحاق بعض الناس ببعض ونحوه. وفي مختار الصحاح والقاموس ومحكي الصحاح والمصباح المنير أنها تتبع الآثار، وعممها للأمرين في الدروس وجامع المقاصد ولسان العرب ومجمع البحرين ومحكي النهاية الأثيرية. وربما يبتنيان علي جامع واحد يدركه القافة.

وخبر علي بن جعفر المتقدم يختص بالأول. ولا يبعد العموم للثاني ولو بلحاظ الوجه الأخير المتقدم من الجواهر، لما هو المعلوم من عدم التعويل شرعاً علي قول القافة في الثاني أيضاً لو كان مورداً للأثر. فلاحظ.

(2) الظاهر اختصاصها بالعلامات التي كانوا يعولون عليها في الجاهلية وصدر الإسلام، كتشابه الأطراف ونحوها من أجزاء البدن وهيئاتها التركيبية، دون الخواص المكتشفة حديثاً، كتحليل الدم. فإنها ليست من القيافة عرفاً فتقصر عنها الأدلة المتقدمة.

واللازم الرجوع فيها لمقتضي القاعدة من عدم التعويل عليها مع عدم حصول العلم منها. لعدم الدليل علي حجيتها شرعاً، ليصح ترتيب الأثر عليها علي خلاف الموازين الشرعية المعهودة من الفراش وأصالة عدم تحقق النسب ونحوهما. أما مع حصول العلم منها فالمتعين العمل عليها. لحجية العلم الذاتية غير القابلة للردع.

ودعوي: أن حصول العلم منها علي خلاف الموازين الشرعية لا يناسب جعل تلك الموازين شرعاً. مدفوعة بأن الموازين المذكورة لما كانت ظاهرية فهي تقصر عن

ص: 210

خلاف الموازين الشرعية في الإلحاق (1).

---------------

صورة حصول العلم علي خلافها. ولا مجال لقياس ذلك بالقيافة التي كانت معروفة في عصور التشريع، وكان الرجوع إليها شايعاً، فإن إهمالها شرعاً - مع ذلك - والاقتصار علي نصب الطرق المعهودة ظاهر، بل صريح في الردع عنها وتخطئتها، بنحو يكشف عن عدم صلوحها لإفادة العلم. أما الطرق المغفول عنها فلا يصح نصب الطرق الظاهرية لتخطئتها، بل هي تقصر عن صورة حصول العلم منها.

نعم لا ينبغي التسرع في الجزم بصدقها، بل لابد من مزيد التثبت في ذلك، لتعرض النظريات العلمية الحديثة للخطأ بسبب ابتنائها علي الاستقراء الناقص، كما ثبت الخطأ في كثير منها وهجرت لذلك.

(1) من الظاهر عدم أخذ ذلك في مفهوم القيافة، فهي كما تكون مع مخالفة مقتضي الموازين الشرعية تكون موافقة مقتضاها. ولا يبعد أن يكون مراده (قدس سره) اختصاص المحرم منها بذلك، فيرجع لما في الدروس من اختصاص حرمة القيافة بما إذا ترتب عليها الحرام. وزاد في جامع المقاصد والمسالك والروضة ومحكي الميسية ما إذا جزم بمقتضاها. قال في المسالك: "إنما يحرم إذا جزم به أو رتب عليه محرماً".

ولا ينبغي التأمل في الحرمة فيما إذا ابتنت علي مخالفة الميزان الشرعي، كإلحاق الشخص بمن لا يلحق به شرعاً، ونفيه عمن يلحق به شرعاً، مع ترتيب الأثر علي ذلك، لأنه المتيقن من الأدلة المتقدمة.

وأما مجرد الجزم بمضمونها من دون ترتيب اثر عليها أو مع مطابقة مضمونها للميزان الشرعي فقد استظهر بعض مشايخنا (قدس سره) عدم الشبهة في جوازه، وأن الأدلة ناظرة لحرمة ترتيب الأثر عليها علي خلاف الميزان الشرعي لا غير، بل بنحو قد يظهر منه حمل كلماتهم عليه.

لكنه كما تري لا يناسب حكمهم بحرمة القيافة، لوضوح أن القيافة هي عبارة عن حكم القافي بالإلحاق بمقتضي علمه الحاصل له، وأما ترتيب الأثر فكثيراً م

ص: 211

لا يكون من وظيفته بل من وظيفة الذي يرجع إليه ويعتمد عليه. كما أن الأدلة لا تناسب ذلك.

أما معتبر أبي بصير فلأن الحكم فيه بضياع القيافة علي الناس يقتضي تخطئتهم في دعوي العلم منها وردعهم عن توهم ذلك، فدعواهم حصول العلم منها لصاحبها ولمن يرجع إليه ردّ لذلك وتجاهل له.

وكذا الحال في صحيح محمد بن قيس لأن النهي عن الأخذ بقول الشخص وإن كان أعم من حرمة القول عليه، لإمكان ابتنائه علي عدم حجية قوله وإن كان صادقاً فيه واقعاً، كالفاسق، إلا أن إطلاق النهي عن الأخذ بقول مدعي العلم من دون استثناء صورة إحراز صدقه ظاهر في تكذيبه في دعوي العلم، ولازم ذلك حرمة الإخبار بنحو الجزم عليه، لأن في الإخبار المذكور رداً لدليل النهي وتكذيباً لمفاده.

وأظهر من ذلك ما في معتبر الجعفريات من جعل أجر القافي من السحت، لوضوح أن الأجر إنما يكون في مقابل إخباره بنحو الجزم بما يدعي العلم فيه، فالحكم بحرمة الأجر يقتضي حرمة إخباره بذلك، وهو لا يكون إلا لعدم أهليته لدعوي العلم.

وكذا ما سبق من المفروغية من عدم الالتفات إلي القيافة، وأن المرجع في النسب ونحوه الطرق الشرعية المعهودة دونها. لوضوح أنها لو كانت صالحة لأن توجب العلم لتعين الرجوع إليها في حق من يعلم منها كالقائف نفسه ومن يثق بمعرفته وصدقه. فالتسالم علي عدم الرجوع إليها والخروج بها عن الطرق الشرعية الظاهرية راجع إلي التسالم علي عدم صلوحها لأن تكشف عن الواقع وتوجب العلم، وتصحح لصاحبها الجزم بمؤداها. ومرجع ذلك إلي تحريم الجزم بمفادها والإخبار به نتيجة ذلك.

بل ما ذكره (قدس سره) من جواز تحصيل العلم بها لا يناسب ما ذكره من حرمة التعويل عليها، لوضوح أنه مع حصول العلم منها يتعين التعويل عليه، لحجيته الذاتية، وارتفاع موضوع الطرق الظاهرية معه. كما هو ظاهر.

ص: 212

(مسألة 22): الشعبذة حرام (1)،

---------------

وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد ملاحظة كلمات الأصحاب و النصوص وتسالم المتشرعة في حرمة الجزم اعتماداً علي القيافة.

نعم لا بأس بتعليمها وتعلمها وبيان مقتضاها من دون جزم به. لعدم نهوض الأدلة المتقدمة بتحريمه. فإن ما تضمنه معتبر أبي بصير من ضياع القيافة ببعثة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لا يمنع من حصول الظن منها بلحاظ مقتضياتها الأولية، ولاسيما مع ما تضمنه من مقاربة أقوالهم للواقع.

وأما قوله (عليه السلام): "ما أحب أن تأتيهم" ،فهو غير ظاهر في التحريم، والمتيقن مرجوحية إتيانهم ولو من أجل أنه قد يوجب تشجيعهم وترويجهم، أو لأن سماع حديثهم قد يجر لتصديقهم.

وأظهر من ذلك صحيح محمد بن قيس. وأما معتبر الجعفريات فلانصراف ما تضمنته من تحريم أجرهم إلي الأجر المدفوع لهم علي عملهم المبتني بطبعه علي دعوي العلم، كسائر ذوي العلوم، ولا يشمل ما هو يبتني علي مجرد التقريب والظن.

ومن ثم لا يبعد قصور إطلاق الأصحاب حرمة القيافة عن ذلك. فما في مفتاح الكرامة من أن الأحوط تركها مطلقاً، وقوفاً علي إطلاق الفتاوي والإجماع ومعتبر أبي بصير، في غير محله.

(1) كما في السرائر والشرايع والنافع والتذكرة والدروس واللمعة وعن التحرير والإرشاد وسائر من تأخر. وقد يرجع إليه ما في النهاية من حرمة التكسب بها.

قال في مفتاح الكرامة بعد حكاية تحريمها عمن سبق: "وعن المنتهي أنه لا خلاف فيه. فلا وجه للتأمل فيه بعد الإجماع المنقول، بل المعلوم، إذ لم نجد مخالفاً" .وكأنه إلي ذلك يرجع ما في الجواهر من دعوي الإجماع المحكي والمحصل علي

ص: 213

حرمتها.

لكنه كما تري، لعدم كفاية ذلك في نقل الإجماع، ولا في تحصيله، فضلاً عن حجيته، لأن مجرد عدم تصريح الآخرين بالخلاف لا يكشف عن بنائهم علي الحرمة. ولاسيما وأن عدم ذكرهم لها في المكاسب المحرمة قد يناسب بناءهم علي حليتها.

علي أنه ربما ابتني حكم بعض من سبق بتحريمها علي فرض تضليل صاحبها للآخرين وإيهامهم قدرته علي الخوارق من أجل كسب مالهم أو ولائهم أو نحو ذلك مما يجعلها من الغش والتضليل المحرمين. كما قد يناسب ذلك قوله في السرائر: "والشعبذة والحيل المحرمة" ،حيث لا يبعد كون مفروض كلامه ما إذا كانت من الحيل المحرمة التي يتوصل بها للحرام.

وربما يكون ذلك هو مبني التكسب بها الذي سبق من النهاية تحريمه، من دون أن يرجع كلامهم إلي حرمتها تعبداً مع قطع النظر عن ترتب المحرم عليها، كما لو علم أمرها وكان الغرض منها مجرد بيان القدرة علي الإيهام، والتندر بذلك، أو التسلي به، وكسب المال من أجل ذلك، من دون أن يبتني علي التضليل والتحايل المحرمين.

هذا وقد استدل علي الحرمة أيضاً تارة: بأنها من اللهو الباطل. بل في شرح القواعد لكاشف الغطاء أن الانشغال بها من أعظم اللهو، وأن فيها من القبح ما يزيد علي قبح الملاهي. وأخري: بأنها من أقسام السحر، كما تضمنه قوله (عليه السلام) في رواية الاحتجاج في بيان أقسام السحر: "ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاريق وخفة"(1). وهو المناسب لبعض تعاريف السحر التي اشتملت عليها كلمات اللغويين، كتعريفه بأنه صرف الشيء عن وجهه، أو بما لطف مأخذه ودق، أو بالخدع، أو بإخراج الباطل في صورة الحق.

لكن يندفع الأول تارة: بعدم إطراد كون الشعبذة من اللهو والباطل، بل قد يكون الغرض منها عقلائياً ولو كان هو تنبيه من يستغفل لحقيقتها، وأنها تبتني علي

********

(1) الاحتجاج ج: 2 ص: 81 مطبعة النعمان في النجف الأشرف عام 1386.

ص: 214

وهي إراءة غير الواقع واقعاً بسبب الحركة السريعة الخارجة عن العادة (1).

---------------

التمويه والتحايل. وأخري: بأن عموم حرمة اللهو والباطل غير ثابت، كما يظهر مما سبق عند الكلام في المغالبة من دون رهن من المسألة التاسعة عشرة.

وأما ما سبق من كاشف الغطاء من أنها أشد قبحاً من الملاهي. فهو غير ظاهر. نعم قد يظهر من كلامه أنه ناظر إلي ما إذا كان الغرض منها إضلال الناس والتمويه عليهم، بنحو تدخل في الغش، حيث تحرم حينئذٍ لذلك، لا لنفسها، ولا لكونها من اللهو والباطل.

كما يندفع الثاني تارة: بضعف الرواية بالإرسال. وما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من انجبارها بالإجماع المحكي. ممنوع بعد ما سبق من وهن دعوي الإجماع. مضافاً إلي عدم ظهور اعتمادهم علي الرواية المذكورة، الذي هو المعيار في الانجبار. وأخري: بأن استيعاب الرواية شاهد باشتمالها علي ما يعلم بخروجه عن السحر، كالنميمة، وذلك مما قد يوجب إجمالها.

وربما تحمل الفقرة المذكورة علي بيان الطرق التي يسلكها السحرة والوسائل التي يستخدمونها وإن لم تكن سحراً، أو علي بيان ما يحسبه الناس سحراً وإن لم يكن منه حقيقة. وعلي كل حال لا مجال لإثبات حرمة الشعبذة بذلك.

وكذا الحال في التعاريف المتقدمة للسحر، لما هو المعلوم من أنها تعاريف لفظية لا تنهض ببيان حقيقة السحر الذي هو موضوع التحريم.

ومن ثم لا مجال للبناء علي حرمة الشعبذة بنفسها ما لم يترتب عليها محذور محرم، كإضلال الناس وغشهم بالنحو الذي أشرنا إليه آنفاً.

(1) كما يظهر من كثير من كلمات اللغويين والفقهاء في شرحها. لكن لا يبعد كونها عرفاً أعم من ذلك، وأنها كل ما يوهم القدرة علي الخوارق من طريق التحايل. والأمر غير مهم بعد عدم ثبوت حرمتها شرعاً بعنوانها، ليهتم بتحديده.

ص: 215

(مسألة 23): الكهانة حرام (1)، وهي الأخبار عن المغيبات بزعم أنه

---------------

(1) بالإجماع والأخبار، كما عن شرح القواعد لكاشف الغطاء. وقال في مفتاح الكرامة: "وفي إيضاح النافع: تعليمها وتعلمها واستعمالها حرام في شرع الإسلام. وظاهره أنه إجماعي بين المسلمين، وظاهر مجمع البرهان أنه لا خلاف في تحريم الأجرة وفي الكفاية: لا أعرف خلافاً بينهم في تحريم الكهانة. وفي الرياض: أن الدليل عليه الإجماع المصرح به في كلام جماعة من الأصحاب. والموجود في كتبهم ما ذكرنا".

وكيف كان فيقتضيه النصوص المستفيضة، كمعتبر أبي بصير المتقدم عند الكلام في القيافة، والنصوص المتضمنة أن أجر الكاهن سحت(1) ، كموثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: السحت ثمن الميتة وثمن الكلب وثمن الخمر ومهر البغي والرشوة في الحكم وأجر الكاهن" (2) وغيره، ومعتبر الهيثم: "لأبي عبدالله (عليه السلام): إن عندنا بالجزيرة رجلاً ربما أخبر من يأتيه عن الشيء يسرق أو شبه ذلك، فنسأله. فقال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): من مشي إلي ساحر أو كاهن أو كذاب يصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل الله من كتاب"(3) ، وخبر نصر بن قابوس:" سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: المنجم ملعون، والكاهن ملعون، والساحر ملعون..."(4) ، وخبر أبي خالد الكابلي: "سمعت علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: الذنوب التي تغير النعم البغي علي الناس... والذنوب التي تظلم الهواء السحر والكهانة..." (5) وفي كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: "إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدي به في بر أو بحر، فإنها تدعو إلي الكهانة، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار" (6) وغيرها علي اختلاف

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به. ومستدرك الوسائل ج: 13 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 26 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب ما يكتسب به حديث: 7.

(5) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 14 من أبواب آداب السفر حديث: 6، 8.

(6) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 14 من أبواب آداب السفر حديث: 6، 8.

ص: 216

يخبره به بعض الجان (1). أما إذا كان اعتماداً علي بعض الإمارات الخفية فالظاهر إنه لا بأس به (2).

---------------

مضامينها.

وبملاحظتها يظهر أنه كما تحرم الكهانة بمعني الإخبار بالمغيبات يحرم طلب ذلك من الكاهن والتصديق به والتعويل عليه، كما هو ظاهر. وأما تعليمها وتعلمها - مع قطع النظر عن العمل بها بالتعويل عليها - فحرمتهما لا تخلو عن إشكال. إلا أن يثبت أنها من السحر، حيث تقدم الكلام في حرمة تعليمه وتعلمه.

(1) فعن ابن الأثير في النهاية: "الكاهن من يتعاطي الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان. وقد كان في العرب كهنة، فمنهم من كان يزعم أن له تابعاً من الجن يلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها علي مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله. وهذا يخصونه باسم العراف" .ويظهر من غير واحد من اللغويين الجري علي ذلك، وفي القواعد: "والكاهن هو الذي له رئي من الجن يأتيه بالأخبار" ،وفي مفتاح الكرامة أن الأكثر ذكروا ذلك وعن التنقيح أنه المشهور. وعلي ذلك فما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) هو المتيقن من معني الكهانة.

لكن في مفردات الراغب: "الكاهن هو الذي يخبر بالأخبار الماضية الخفية، والعراف الذي يخبر بالأخبار المستقبلة علي نحو ذلك" .والمهم تحديد موضوع الحرمة. وهو ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي.

(2) لخروجه عن المتيقن من معني الكهانة. لكن قد يدعي أن ظاهر معتبر الهيثم المتقدم تحريم ذلك. قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "وظاهر هذه الصحيحة أن الإخبار عن الغائبات علي سبيل الجزم محرم مطلقاً، سواءً كان بالكهانة أو بغيرها، لأنه (عليه السلام) جعل المخبر بالشيء الغائب بين الساحر والكاهن والكذاب، وجعل الكل حراماً".

ص: 217

وما ذكره لا يخلو عن غموض وإشكال، لأن الحديث لم يتضمن الحصر المذكور، بل مجرد النهي عن إتيان هؤلاء، وهو أعم من الحصر فيهم.

فالأولي في تقريب دلالة الحديث علي الحرمة: أن الجمود علي حاق هذا التركيب مستلزم للغوية ذكر الكذاب، لوضوح أنه مع العلم بكون الشخص كذاباً لا يقصد، ولا يسأل، ولا يصدّق، ومع الجهل بذلك لا يحرز موضوع الحرمة ليعمل عليها.

ومن ثم كان الظاهر أن ذكر الكذاب لبيان أن كل من يتصدي للإخبار عن الأمور الغيبية، ويدعي العلم بها، كذاب لا ينبغي الرجوع إليه، بل الرجوع إليه مناف للإيمان. فهو (صلي الله عليه وآله وسلّم) بعد أن ذكر الساحر والكاهن أراد بيان الضابط العام، وهو أن كل من يتصدي للإخبار عن الأمور الغيبية كاذب يحرم الرجوع إليه وتصديقه.

ولولا ذلك لم ينهض الجواب ببيان حكم مورد السؤال، لأن السؤال لم يتضمن أن الشخص المذكور من أحد الأصناف الثلاثة، وإنما تضمن تصديه للإخبار عن المجهول، فلولا ورود الجواب لبيان الكبري المذكورة لم ينهض ببيان حكمه.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من ورود الجواب لبيان الضابط في التحريم، وحصر المحرم بالأقسام الثلاثة، وإيكال التشخيص للسائل، فإن كان مورد السؤال منها كان محرماً، وإلا لم يحرم.

ففيه: أولاً: أنه لا إشعار في الجواب بالحصر لينهض ببيان الضابط، بل ليس فيه إلا حرمة إتيان هؤلاء وتصديقهم. وثانياً: أن السائل إنما سأل عن قصد الشخص المذكور وسؤاله، للشك في حسن الاعتماد عليه وتصديقه، والشك في صدقه وكذبه، وبيان عدم جواز سؤال الكاذب وتصديقه لا يصلح لبيان الضابط الذي يعرف منه حكم مورد السؤال. بل سبق أنه يلغو بيان حرمة سؤال الكاذب وتصديقه، لخلوه عن الفائدة.

ومثله ما ذكره (قدس سره) من أن الحديث بقرينة السؤال ظاهر في الإخبار عن الأمور الماضية من السرقة والضالة ونحوها، ولا إشكال في جواز الإخبار عن الأمور الماضية

ص: 218

إذا كان المخبر جازماً بوقعها، وإنما الإشكال في الإخبار عن الحوادث المستقبلية.

لاندفاعه بأن الحديث ظاهر في تحريم الإخبار الغيبي مطلقاً من دون فرق بين الأمور الماضية والمستقبلة، وخصوصية السؤال لا تقتضي تقييد الجواب. والأمر الذي لا إشكال في جوازه هو الإخبار المبتني علي الطرق الطبيعية غير الغيبية، سواءً كان عن الأمور الماضية، كما في موارد البينة، أم المستقبلية كالإخبار بطلوع الشمس غداً نتيجة العلم بنظام سيرها.

ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا من ظهور الحديث في أن كل من يتصدي لبيان الأمور الغيبية كاذب لا يجوز قصده ولا تصديقه.

ويؤيد ذلك ما في صحيح محمد بن قيس المتقدم في المسألة الواحدة والعشرين من النهي عن الأخذ بقول العراف، وما في حديث المناهي: "أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) نهي عن إتيان العراف، وقال من أتاه وصدقه فقد برئ مما أنزل محمد (صلي الله عليه وآله وسلّم)" (1) وما في خبر عبدالله بن عوف من تشديد أمير المؤمنين (عليه السلام) من الإنكار علي معرفة الأمور بالحساب(2)... إلي غير ذلك مما يظهر منه الردع عن الإخبار بالمغيبات وعن دعوي العلم بها.

مضافاً إلي ما هو المرتكز عند المسلمين عموماً من عدم أهلية أحد للإطلاع علي الغيب والإخبار به إلا من أطلعه الله عليه، حتي كان أمير المؤمنين (عليه السلام) وغيره ممن يتصدي لذلك يؤكدون أن إخباراتهم الغيبية تبتني علي تعليم من النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) الذي أطلعه الله تعالي علي غيبه أو ممن أخذ منه (صلي الله عليه وآله وسلّم). ومن ثم لا ينبغي التوقف في عموم الحرمة وعدم الاختصاص بالكهانة، ليهتم بتحديد مفهومها. ويأتي إن شاء الله تعالي عند الكلام في حرمة التنجيم ما ينفع في المقام.

بقي في المقام أمور:

الأول: أن النصوص المتضمنة حرمة التصديق للمخبر بالغيب - كمعتبر الهيثم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 26 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 14 من أبواب آداب السفر حديث: 4.

ص: 219

وحديث المناهي المتقدمين - تقتضي بالملازمة العرفية حرمة الإخبار، لأن المنصرف منها عدم أهلية المخبر للعلم بما يخبر به، وذلك كما يقتضي حرمة تصديقه في خبره يقتضي حرمة اعتقاده في نفسه أنه يعلم الواقع، ليسوغ له الإخبار عنه.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن حرمة تصديقهم لعدم حجية خبرهم لا يقتضي حرمة إخبارهم مع اعتقادهم بما يخبرون به، كما في خبر الفاسق. ففيه: أن مجرد عدم حجية الخبر إنما يقتضي عدم جواز التعويل عليه عملاً مع الشك في مضمونه من دون أن يمنع من تصديقه بمعني حصول العلم بصدقه - ولو لقضاء التجارب السابقة بذلك - ثم العمل عليه مع حصول العلم منه. فالنهي عن التصديق بالمعني المذكور لابد أن يبتني علي أن ليس أهلاً لأن يصدق، لأنه ليس من شأنه العلم بما يخبر عنه، وهو راجع إلي تكذيبه في دعوي العلم بما يخبر عنه وردعه عن الإخبار به وتحريمه عليه.

الثاني: أن النصوص تختص بالخبر الجازم. أما مجرد بيان تحقق المقتضي للعلم بالشيء من دون جزم بمفاده - لاحتمال الخطأ فيه أو في بعض مقدماته، أو لاحتمال تعرض الواقع للمحو والإثبات - فلا تنهض النصوص بتحريمه. لابتناء الكهانة علي دعوي العلم والإخبار بنحو الجزم. وكذا الحال في حديث الهيثم، لأن ذلك هو المتيقن من التعميم بلحاظ ذكر الساحر والكاهن، لأنه المسانخ لهما.

كما لا تنهض النصوص بتحريم قصده وطلب البيان منه لمجرد معرفة، بل ولو مع حصول الظن منه من دون تصديق له. لخروج ذلك عن طبيعة الرجوع إليه عرفاً، ولاسيما مع اختصاص حديث الهيثم بتصديقه المفروض عدمه في محل الكلام.

نعم قد يشكل الأمر لو ابتني حديثه علي الإخبار الجازم، فإن طلب ذلك منه وإن لم يبتن علي تصديقه، إلا أنه يبتني علي حثه علي الحرام وتشجيعه عليه. وأولي بالإشكال ما إذا لزم من قصده وسؤاله ترويجه وتشجيع الغير علي قصده والتصديق به.

ص: 220

(مسألة 24): النجش حرام (1). وهو أن يزيد الرجل في ثمن السلعة

---------------

الثالث: الظاهر أن موضوع حديث الهيثم الإخبار بالغيب، لدعوي الإطلاع عليه من طريق الجن أو الإحساس المباشر لتجرد النفس وترويضها، أو التوسم المبتني علي ملاحظة مثل أسارير الوجه وغير ذلك مما يصدّ عرفاً إخباراً بالغيب، كما يتعاطاه الكهنة والعرافون ونحوهم ممن لم يأخذ عن الأنبياء والأوصياء.

ومن ذلك ما شاع في عصورنا مما يسمي بالطشة، وقراءة الكف، والفنجان، والتنويم المغناطيسي، وتحضير الأرواح وغيرها. فإن الجميع من الإخبار بالغيب عرفاً، فيكون مشمولاً للحديث.

فاللازم الحذر من الجزم بمضمونها من المخبر والسامع بسبب صدقها بالتجربة في بعض الموارد. لحرمة ذلك بعد ما عرفت. علي أنه قد ثبت كذبها في كثير من الموارد أيضاً مما يكشف عن تعرضها للخطأ، إما لابتنائها علي التعرض له، أو لعدم ضبط أصولها ممن يدعي المعرفة بها، أو لتعرض الوقائع التي تطرقها للمحو والإثبات.

نعم إذا ابتني المخبر علي ملاحظة الآثار المادية الخفية ونحوها مما يبتني علي التجربة التامة أو الناقصة، أو دقة النظر والملاحظة، فالظاهر خروجه عرفاً عن علم الغيب. ومنه ما شاع في عصورنا من إخبار المحققين في الجرائم والمحللين ونحوهم ممن يبتني خبرهم علي الدراسات والتجارب الحديثة. وحينئذٍ لا مانع من الجزم بها مع حصول العلم للمخبر أو السامع، ولو لحسن ظنه به. وإن كان التثبت والتروي لازماً في ذلك وغيره، حيث قد يتعرض المخبر للخطأ، ولو بسبب إعمال الحدس والاجتهاد.

(1) كما في المبسوط والسرائر والتذكرة والمختلف والقواعد والدروس وظاهر الغنية وعن وغيرها. وعن المهذب البارع: لا أعرف فيه خلافاً بين الأصحاب، وفي جامع المقاصد وعن محكي المنتهي الإجماع عليه. لكن في النافع ومحكي الإرشاد

ص: 221

والتنقيح الكراهة، وقد يستظهر من الشرايع.

وكيف كان فيدل علي الحرمة حديث عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): الواشمة والمتوشمة والناجش والمنجوش ملعونون علي لسان محمد (صلي الله عليه وآله وسلّم)"(1) ، وما عن معاني الأخبار بسنده عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم):" أنه قال: لا تناجشوا ولا تدابروا"(2) ، وبعض المراسيل الأخر(3).

وقد ذكر غير واحد أن ضعف الأولين منجبر بالشهرة والإجماع المنقول. ومنع من ذلك بعض مشايخنا (قدس سره) جرياً علي مبناه من عدم انجبار ضعف السند بذلك.

لكن الظاهر كفاية ذلك في الانجبار في المقام بعد كون الأول من روايات أصحابنا، حيث روي في الكافي بالطرق المتداولة بين الأصحاب، بنحو يقرب جداً اعتمادهم عليه في الحكم المذكور مع إطلاعهم علي سنده، ومثل ذلك كاف في الانجبار علي التحقيق.

علي أن الظاهر اعتبار سنده، إذ ليس فيه من وقع الكلام فيه إلا محمد بن سنان، والظاهر اعتبار حديثه، كما أطلنا الكلام في ذلك في مسألة تحديد مساحة الكرّ من مباحث المياه من هذا الشرح.

هذا ولو غض النظر عن ذلك فلا ريب في حرمة النجش لو أوجب غش الغير، إما لكون الزيادة بأكثر من ثمن المثل، أو لكونها موجبة لتخيل رغبة الناس في السلعة وأن لها سوقاً رائجاً، أو لنحو ذلك، لما هو المعلوم ويأتي إن شاء الله تعالي من حرمة الغش.

ثم إنه قد استدل علي تحريم النجش في كلام غير واحد بأنه إضرار بالسامع. لكنه - مع عدم اطراده - لا يخلو عن إشكال، لأن المتيقن من حرمة الإضرار فعل ما يوجب الضرر بالغير بالمباشرة، وليس هو حاصلاً في المقام، لأن الإضرار إنما يحصل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 49 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 49 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، 4.

(3) راجع مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 37 من أبواب آداب التجارة.

ص: 222

وهو لا يريد شراءها، بل لأن يسمعه غيره فيزيد لزيادته (1).

---------------

بفعل الغير بنفسه بإقدامه علي المعاملة، لا بالنجش، وإنما يكون النجش سبباً في إقدامه عليها باختياره.

(1) كما فسره بذلك في المبسوط والخلاف والغنية والتذكرة والدروس والسرائر ومحكي معاني الأخبار تعقيباً علي الحديث المتقدم، وهو ظاهر الشرايع والنافع والمختلف والقواعد. ويظهر مما في المختلف من نسبة الخلاف في صحة البيع معه لابن الجنيد، ونسبة القول بالخيار معه لابن البراج، جريهما علي المعني المذكور. ولعله المعروف بين فقهائنا، حيث لم يشر لغيره في مفتاح الكرامة. بل يظهر مما في الخلاف والتذكرة من التعرض لأقوال العامة في حكمه جري فقهائهم علي المعني المذكور أيضاً، كما يناسبه الاقتصار عليه في كتاب الفقه علي المذاهب الأربعة.

وأما اللغويون فقد اقتصر منهم علي المعني المذكور في مختار الصحاح ولسان العرب وحكاه عن أبي عبيدة، كما حكي عن الصحاح والمصباح المنير. بل لا يبعد رجوع ما في أساس البلاغة له، حيث قال: "وهو أن تستام السلعة بأكثر من ثمنها".

لكن عن ابن شميل أنه مدح سلعة الغير ليبيعها أو ذمها لئلا تنفق عنه. وعممه لهما في مجمع البحرين، قال: "هو أن يمدح السلعة في البيع لينفقها ويروجها، أو يزيد في قيمتها وهو لا يريد شراءها ليقع غيره فيها" ،ونحوه عن إبراهيم الحربي. وقد يرجع إليه ما في القاموس حيث قال: "النجش أن تواطئ رجلاً إذا أراد بيعاً أن تمدحه، أو أن يريد الإنسان أن يبيع بياعة فتساومه فيها [بها] بثمن كثير، لينظر إليك ناظر فيقع فيها" .وإن كان ظاهره الترديد بين المعنيين، الذي هو كالصريح مما عن تاج العروس.

وكيف كان فمن البعيد جداً اختصاص النجش الذي هو مورد النصوص بالمعني الثاني مع عدم ذكر الفقهاء منا ومن العامة له، ومعروفية المعني الأول بينهم، لأنهم أخبر بمفاد النصوص، فإن اهتمامهم بمفادها العملي يستلزم تلقيهم مفادها طبقة عن طبقة متصلة بعصور قائليها (صلوات الله عليهم).

ص: 223

سواء أكان ذلك عن مواطأة مع البايع أم لا (1).

---------------

ومن ثم يدور الأمر بين اختصاص النجش الذي هو مورد النصوص بالمعني الأول المعروف بين الفقهاء والأشهر بين اللغويين وعمومه للمعنيين معاً. وبذلك يكون المعني الأول هو القدر المتيقن من مفاد النصوص، ولا مجال للاستدلال بها علي حرمة الثاني. وكأنه إلي هذا نظر شيخنا الأعظم (قدس سره) حين استدل علي حرمته بالمعني الأول بالنصوص، وذكر أن حرمته بالمعني الثاني تحتاج إلي دليل.

بل قيد المعني الأول في المبسوط والسرائر وكتاب الفقه علي المذاهب الأربعة ومحكي المصباح المنير بما إذا كانت الزيادة أكثر من قيمة السلعة، وهو المناسب لما تقدم من أساس البلاغة والقاموس وتاج العروس. ومن ثم يشكل عموم النجش لغيره وإن أطلق الباقون، للزوم الاقتصار في تحديد موضوع النصوص علي المتيقن.

نعم لما كان دليل الحرمة لا يختص بالنصوص المتقدمة، بل تقدم الاستدلال أيضاً بلزوم الغش من النجش، فمن الظاهر أن الغش قد يلزم من المعني الأول علي إطلاقه، ولا يختص بالمتيقن المذكور. بل هو قد يلزم من المعني الثاني أيضاً. وحينئذٍ يتعين البناء علي عموم الحرمة لجميع موارد الغش، وجميع موارد المتيقن من معني النجش الذي تقدم التعرض له. فلاحظ.

(1) أما عموم النجش مفهوماً للوجهين فهو مقتضي إطلاق أكثر كلمات الفقهاء، بل مقتضي تعرضهم للخلاف في ثبوت الخيار مع المواطأة وبدونها المفروغية عن العموم. ومن ثم يشكل استفادة الاختصاص بالمواطأة ممن قيده بها، كالعلامة (قدس سره) في التذكرة والمختلف، لأنه تعرض للخلاف المذكور أيضاً من دون تنبيه علي أن عدم المواطأة يخرجه عن النجش موضوعاً، فإن ذلك قد يكون قرينة علي رجوع القيد للتحريم في حق البايع.

أما اللغويون فلم أعثر عاجلاً علي من أخذ منهم المواطأة مع البايع في مفهوم النجش، إلا ما سبق من القاموس ومحكي تاج العروس من أخذه في المعني الآخر،

ص: 224

حيث قد يكون قرينة علي أخذه في المعني الذي هو محل الكلام أيضاً. لكن لا مجال للتعويل علي ذلك في تقييد المعني بعد إطلاق الآخرين، ولاسيما مع قرب كون التقييد المذكور حتي في المعني الآخر غالبياً.

هذا وقد يستفاد التقييد بالمواطأة من لعن المنجوش في معتبر ابن سنان، والتعبير بالتناجش في الخبر الثاني، بناءً علي ظهور هيئة التفاعل في القيام بطرفين. لكن اسم المفعول لا يتوقف علي المواطأة. غاية الأمر أن اللعن لا يستحقه الجاهل، وهو إنما يقتضي تقييد اللعن بالعلم الذي هو أعم مورداً من المواطأة، لا أخذ العلم، فضلاً عن المواطأة، في مفهوم النجش.

وأما هيئة التفاعل فهي إنما تقتضي القيام بطرفين في الموادّ التي يكون لها فاعلان يعطف الثاني منهما علي الأول بالواو، كما في التعاون والتعادي والتقاتل والتسابق، دون ما يعدي للفاعل والمفعول مثل التناول، ومنه المقام، لما سبق في معتبر ابن سنان من التعبير بالمنجوش الذي هو اسم مفعول.

علي أنه لو تم أخذ المواطأة في مفهوم النجش إلا أن المناسبات الارتكازية قاضية بأن منشأ الحرمة هو التغرير بالمشتري من دون دخل للمواطأة مع البايع في ذلك. ومرجع ذلك إلي فهم العموم من النصوص حتي لو كانت المواطأة دخيلة في مفهوم النجش.

مضافاً إلي أنه لو فرض قصور النصوص كفي في البناء علي العموم ما سبق من عدم اختصاص الدليل في المقام بها، بل يستدل أيضاً علي الحرمة بلزوم الغش، إذ لا ريب في عدم دخل المواطأة في لزوم الغش، فتحرم الزيادة حينئذٍ مع عدم المواطأة وإن لم تكن نجشاً، بلحاظ لزوم الغش منها.

هذا والظاهر ثبوت الخيار مع الغبن، وعدمه بدونه، كما في التذكرة. ويظهر الوجه فيه مما يأتي في المسألة السادسة والعشرين عند الكلام في حكم الغش إن شاء الله تعالي.

ص: 225

(مسألة 25): التنجيم حرام (1). وهو الإخبار علي الحوادث - مثل

الرخص والغلاء والحرّ والبرد ونحوها - استناداً إلي الحركة الفلكية والطوارئ الطارئة علي الكواكب من الاتصال بينها أو الانفصال أو الاقتران أو نحو ذلك، باعتقاد تأثيرها في الحادث علي وجه ينافي الاعتقاد بالدين (2).

---------------

(1) لا ريب في حرمته في الجملة، وإنما الإشكال في تحديد الحرام منه. ومن ثم يحسن التعرض للأدلة عند الكلام في تحديده.

(2) وذلك بالاعتقاد بتأثيرها في الحوادث استقلالاً، أو علي نحو الشركة مع الله سبحانه وتعالي، كما قد ينسب إلي بعض الفلاسفة. أما مجرد اعتقاد تأثيرها في الحوادث بتقدير منه تعالي باختيار منها أو بدون اختيار فهو لا ينافي الدين. وأظهر من ذلك الاعتقاد بتجردها في كونها علامات علي الحوادث التي قدرها الله تعالي من دون دخل لها فيها أصلاً.

ثم إنه لا ريب في حرمة الوجه الأول، لرجوعه إلي إنكار الله تعالي أو الاعتقاد بوجود الشريك له. بل نفس الاعتقاد بذلك كفر صريح من دون حاجة للنظر في النجوم، والتعرف علي الحوادث منها، والإخبار بذلك.

ومن ثم لا مجال لحمل كثير من النصوص الواردة في النجوم علي ذلك، لظهورها في كون موضوع الحرمة هو النظر في النجوم أو الحكم علي طبقه أو التصديق بذلك أو نحو ذلك من دون نظر للاعتقاد المذكور. ولاسيما مع وضوح حرمة الاعتقاد المذكور بنحو لا يناسب كونه مورداً للسؤال والجواب في تلك النصوص.

هذا ومقتضي ما تقدم عند الكلام في الكهانة من تقريب دلالة معتبر الهيثم علي حرمة الإخبار الجزمي بالغيب هو تحريم الخبر الجزمي عن الغائبات من طريق النجوم، وحرمة تصديقه. ويؤيده خبر عبدالله بن عوف وما عن نهج البلاغة المتقدمان هناك، والنبوي المرسل: "من صدق كاهناً أو منجماً فهو كافر بما أنزل علي

ص: 226

محمد (صلي الله عليه وآله وسلّم)"(1) ، وقول أبي عبدالله (عليه السلام) في خبر المفضل بن عمر الوارد في بيان الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم (عليه السلام):" ثم أعلمه عز وجل أن الحكم بالنجوم خطأ"(2) ، وغيرها.

كما يمكن الاستدلال عليه بمعتبر عبد الملك بن أعين: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إني ابتليت بهذا العلم فأريد الحاجة فإذا نظرت إلي الطالع ورأيت الطالع الشر جلست ولم أذهب فيها، وإذا رأيت طالع الخير ذهبت في الحاجة. فقال لي: تقضي ؟ قلت: نعم. قال: أحرق كتبك"(3). فإن الأمر بإحراق الكتب لو كان ابتدائياً لأمكن حمله علي الإرشاد للتخلص من المعاناة التي أشار إليها السائل، إلا أنه حيث كان متفرعاً علي القضاء فالظاهر كونه إرشادياً من أجل التخلص من النظر في الكتب المذكورة، لعدم إناطة السائل المعاناة بالقضاء، بل هي حاصلة له فعلاً بالفرض.

ولا فرق في ذلك بين قراءة (تقضي) بالبناء للفاعل، كما هو الموجود في الفقيه والوسائل، ويراد به حينئذٍ الحكم والجزم بمؤدي العلم، وقراءته بالبناء للمفعول، كما قد يدعي أنه الأنسب بالمعاناة التي أشار إليها السائل، إذ لو كان جازماً بمؤدي الطالع وصدقه لم يكن للمعاناة وجه، بل يلزمه الأنس بذلك، لأن العلم بنتائج العمل قبل الإقدام عليه خير محض. وعلي ذلك يكون المراد قضاء الحاجة عند الخروج إليها بعد ظهور طالع الخير.

والوجه في عدم الفرق بين القراءتين: أنه علي الوجه الأول لا يكون الأمر بإحراق الكتب مع القضاء بمؤدي الطالع والجزم به إلا للفرار عن القضاء المذكور برفع موضوعه، فيدلّ علي حرمة القضاء وكونه محذوراً يجب التخلص منه. كما أن علي الوجه الثاني لا يكون الأمر بإحراق الكتب إلا من أجل أن قضاء الحاجة تبعاً لطالع الخير يوجب استحكام العقيدة بالنجوم، بنحو قد يؤدي للجزم بمفادها، فيدلّ أيضاً علي أن الجزم المذكور محذور يجب التخلص منه. فتأمل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب ما يكتسب به حديث: 11، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب ما يكتسب به حديث: 11، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 14 من أبواب آداب السفر إلي الحج وغيره حديث: 1.

ص: 227

مضافاً إلي أمرين:

الأول: النصوص الكثيرة التي يظهر منها ضياع علم النجوم علي الناس وعدم وصولهم له، كخبر عبد الرحمن بن سيابة:" قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إن الناس يقولون: إن النجوم لا يحل النظر فيها، وهي تعجبني، فإن كانت تضر بديني فلا حاجة لي في شيء يضر بديني. فوالله أني لأشتهيها وأشتهي النظر فيها. فقال: ليس كما يقولون، لا تضر بدينك. ثم قال: إنكم تنظرون في شيء منها كثيره لا يدرك، وقليله لا ينتفع به..."(1) ، وقوله (عليه السلام) في خبر هشام الخفاف: "إن أصل الحساب حق، ولكن لا يعلمه إلا من يعلم مواليد الخلق كلهم"(2).

وصحيح جميل بن صالح عمن أخبره عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سئل عن النجوم. فقال: ما يعلمها إلا أهل بيت من العرب وأهل بيت من الهند"(3) ، وقوله (عليه السلام) في الرد علي دعوي أن النجوم أصح من الرؤيا: "كان ذلك صحيحاً قبل أن ترد الشمس علي يوشع بن نون وعلي أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما رد الله الشمس عليهما ضل فيها علماء النجوم، فمنهم مصيب ومنهم مخط" (4) وغيرها. فإن ضياع العلم علي الناس يلزمه خطأ مدعي العلم بالغيب من طريقه، وحرمة تصديقه في إخباره.

الثاني: ما هو المعلوم من الدين من تعرض الحوادث للمحو والإثبات بالدعاء والصدقة وصلة الرحم وقطيعته والتوكل علي الله تعالي وغيرها، بنحو يمنع من القطع بالحوادث المستقبلية نتيجة الأوضاع الفلكية ونحوها إلا لمن أطلعه الله تعالي علي غيبه. فإن مقتضي ذلك عدم القطع علي الحوادث المستقبلة، بل غاية ما يمكن الإطلاع عليه هو المقتضيات الأولية مع التعرض للمحو والإثبات.

ومن هنا لا ينبغي الإشكال في حرمة الإخبار الجازم بالحوادث المستقبلة من طريق علم النجوم، وحرمة تصديق المخبر في ذلك لو تعمده. وقد تقدم في ذيل الكلام في حرمة الكهانة ما ينفع في المقام. فراجع.

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2، 4، 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2، 4، 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2، 4، 9.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2، 4، 9.

ص: 228

(مسألة 26): الغش حرام (1). قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): "من غش أخاه المسلم نزع الله بركة رزقه وسَد عليه معيشته ووكله إلي نفسه"(1). ويكون الغش بإخفاء الأدني في الأعلي (2)،

---------------

وبذلك يظهر قرب الجمع بين ما في جملة من النصوص من النهي عن النظر في علم النجوم وجملة أخري من الترخيص في ذلك، بحمل الأولي علي النظر المبتني علي الجزم بالنتائج، أو علي الكراهة حذراً من الوصول لذلك، والثانية علي صورة الأمن من ذلك، وابتناء النظر علي مجرد الإطلاع علي مقتضيات العلم المذكور، أو علي الظن من دون جزم بالنتائج، كما يناسبه ما تقدم في معتبر عبد الملك من ترتب الأمر بإحراق الكتب علي القضاء بما يؤدي إليه النظر أو قضاء الحاجة تبعاً له، وما تقدم في خبر عبد الرحمن بن سيابة من الجمع بين الترخيص في النظر في النجوم والتنبيه لعدم الفائدة فيها، لعدم الإحاطة التامة بها. فلاحظ.

(1) كما نفي الخلاف فيه غير واحد، وفي الجواهر:" بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. كما أن النصوص مستفيضة أو متواترة فيه ".وسوف يأتي التعرض لكثير من النصوص. ومن ثم لا ينبغي التأمل في الحكم.

ومنه يظهر ضعف ما ذكره المحقق الايرواني (قدس سره) من إنكار حرمة الغش بنفسه تكليفاً، وأن المحرم هو ما قد يصاحبه من الكذب، وأكل أموال الناس من دون رضاً منهم. فإنه خروج عن ظاهر النصوص والفتاوي من دون وجه.

(2) قال في لسان العرب:" الغش نقيض النصح، وهو مأخوذ من الغَشَش المشرب الكدر ".والذي يظهر من موارد استعمال مادة الغش أن الغش يقابل الصفاء، وهو يكون في الماديات بمجرد المزج والخلط من دون نظر للتلبيس، ومنه ما ورد في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 11، إلا أن فيه:" أفسد عليه معيشته ".

ص: 229

كمزج الجيد بالرديء (1). وبإخفاء غير المراد بالمراد، كمزج الماء باللبن، وبإظهار الصفقة الجيدة مع أنها مفقودة واقعاً، مثل رشّ الماء علي بعض الخضروات، ليتوهم أنها جديدة. وبإظهار الشيء علي خلاف جنسه، مثل طلي الحديد بماء الفضة أو الذهب، ليتوهم أنه فضة أو ذهب. وقد يكون بترك الإعلام مع ظهور العيب وعدم خفائه (2)، كما إذا اعتمد المشتري علي البايع

---------------

الصلاة في الخز يغش بوبر الأرنب(1). وفي بيع الدنانير المغشوشة(2). وأما في مثل النية والنصيحة فهو يكون بخروجها عن الصفاء والخلوص والنصح.

والظاهر أن ذلك هو المنظور في المقام بلحاظ أن الغاش يخدع المغشوش، ويلبّس عليه ويوهمه الأمر علي خلاف واقعه وهو خلاف النصح له وصفاء النية والمودة معه، سواءً كان ذلك بالمزج بما يخفي، كشوب اللبن بالماء، أم بغيره، كإخفاء العيب، ومدح السلعة كذباً أو إظهارها علي خلاف حالها، أو غير ذلك.

وعلي ذلك يلزم أولاً: علم المسبب بالحال. وثانياً: جهل الطرف الثاني به. وثالثاً: استناد خطئه وتورطه للمسبب. فلا يصدق مع جهل المسبب بالحال، ولا مع علم الطرف الثاني به، ولا مع استناد اشتباهه لغفلته عرفاً.

(1) يعني مزجاً يوجب خفاء الرديء والتباس الأمر. أما إذا لم يوجب ذلك فلا يصدق الغش بالمعني الذي هو محل الكلام، كما تضمنه صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام):" أنه سئل عن الطعام الجيد يخلط بعضه ببعض، وبعضه أجود من بعض. قال: إذا رئيا جميعاً فلا بأس، ما لم يغطّ الجيد الرديء"(3).

(2) أما مع خفاء العيب فالأمر أظهر. ولا يحتاج حينئذٍ إلي اعتماد المشتري

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 9 من أبواب لباس المصلي حديث: 2، وباب: 10 منها حديث: 15.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1.

ص: 230

في عدم إعلامه بالعيب (1)، فاعتقد أنه صحيح ولم ينظر في المبيع، ليظهر له عيبه، فإن عدم إعلام البايع بالعيب مع اعتماد المشتري عليه غش المشتري (2).

---------------

علي البايع، لأن أصالة السلامة من العيب ترجع إلي ظهور حال المبيع في السلامة، فتعريض المبيع مع ذلك للبيع من دون تنبيه لعيبه يكون عرفاً غشاً للبايع وسبباً في اشتباهه.

ولذا ورد النهي عن كتمان العيب، ففي موثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

من باع واشتري فليحفظ خمس خصال، وإلا فلا يشترين ولا يبيعن: الربا، والحلف، وكتمان العيب، والحمد [والمدح] إذا باع، والذم إذا اشتري" ونحوه المرسل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) .

(1) بأن ظهر منه التعويل عليه والاستغناء به عن النظر للمبيع واستكشاف حاله.

(2) ظاهره توقف الغش مع ظهور العيب وعدم بيان البايع له علي اعتماد المشتري علي البايع، أما مع عدم اعتماده عليه فلا غش لو أقدم المشتري علي الشراء غفلة عن العيب. وبذلك صرح به شيخنا الأعظم (قدس سره). قال تعقيباً علي نصوص الغش: "فلا يدل الروايات علي وجوب الإعلام إذا كان العيب من شأنه التفطن له، فقصر المشتري وسامح في الملاحظة" .وما ذكره (قدس سره) قريب جداً. إذ لا يكون البايع حينئذٍ ملبساً علي المشتري، ولا موهماً له خلاف الواقع، وقد سبق منّا توقف الغش علي استناد اشتباه المغشوش للغاش.

وأما ما تضمن النهي عن كتمان العيب، فهو ظاهر أو منصرف للعيب الخفي الذي يحتاج ظهوره للبيان، ولا يشمل العيب الظاهر في نفسه.

كما أن ما سبق في صحيح محمد بن مسلم من اعتبار رؤية الجيد والرديء جميعاً ظاهر في اعتبار كونهما معاً مكشوفين معرضين للرؤية، لا رؤيتهما فعلاً، ولذا أنيط المنع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب آداب التجارة حديث 2، وذيله.

ص: 231

بتغطية الجيد للرديء، التي يتعذر معها رؤية الرديء عادة.

وكذا الحال في صحيح الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام): "سألته عن الرجل يكون عنده لونان من طعام واحد، سعرها بشيء [شيء. كافي. شتي. فقيه، تهذيب] وأحدهما أجود من الآخر، فيخلطهما جميعاً ثم يبيعهما بسعر واحد. فقال: لا يصلح أن يغش به المسلمين حتي يبينه"(1). فإن النهي فيه عن الغش ملزم بحمل البيان علي البيان الذي يتوقف عليه منع الغش، لا ما يعم المقام.

علي أنه لو بني علي وجوب الإعلام في مثل ذلك لوجب التنبيه لكل صفة في المبيع يعتقدها المشتري علي خلاف الواقع من دون أن يكون البايع ملبساً عليه فيها، كما لو اعتقد أن السلعة لها سوق نافق أو ذات فوائد خاصة أو غير ذلك، لظهور أن الغش لا يختص بالعيوب، فلو كان يعم - موضوعاً أو حكماً - خطأ المشتري من دون تلبيس وإيهام من البايع، لزم عمومه لذلك.

بل يلزم العموم في مثل ذلك لغير البيع، كالنكاح وغيره، بناءً علي ما يأتي من عموم حرمة الغش، كما لو تخيل الخاطب صفة كمالية أو جمالية في المرأة أو في أهلها فأقدم علي خطبتها من أجلها، أو تخيل مستأجر الدار صفة كمالية فيها أو في جيرانها فأقدم علي استئجارها كذلك، أو اندفع شخص لمخالطة شخص أو صداقته فتحمل متاعب ذلك لتخيل صفة فيه لا واقع لها وغير ذلك، فإن لازم العموم المذكور وجوب التنبيه للخطأ في جميع ذلك، كما يحرم التلبيس والإيهام فيه.

بل ربما يكون مقتضي ذلك وجوب البيان ورفع التوهم حتي علي الأجنبي، لما هو المعلوم من عموم حرمة الغش له، فيحرم مدح السلعة التي يراد بيعها والمرأة المعرضة للزواج والرجل المعرض للعشرة بنحو يوقع الغير في المحذور، فلو كان الغش يتحقق من الشخص بمجرد ترك الغافل علي غفلته وعدم تنبيهه لخطئه وإن لم يعتمد الغافل عليه لزم حرمة ذلك علي الأجنبي.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب أحكام العيوب حديث: 2.

ص: 232

هذا ومن الظاهر أنه لا مجال للبناء علي ذلك، بل لا يظن بأحد البناء عليه. فلا معدل عما سبق من المدار علي التلبيس والإيهام، لتوقف الغش المحرم عليه، وعدم الدليل علي حرمة ما عداه.

بقي في المقام أمور:

الأول: ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) في مجلس درسه الشريف في حديث عابر اختصاص حرمة الغش بالبيع والنكاح، وحكاه عن بعض من سبقه من معاصريه. وهو الذي ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) في مسألة حرمة تدليس الماشطة، مدعياً اختصاص النصوص المتضمنة للحرمة بهما.

وكأنه (قدس سره) نظر إلي بعض النصوص الواردة في الغش، كموثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: نهي النبي [رسول الله] (صلي الله عليه وآله وسلّم) أن يشاب اللبن بالماء للبيع"(1) ، ومعتبر الحسين بن زيد الهاشمي عنه (عليه السلام) في حديث النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) مع زينب العطارة: "قال: إذا بعتي فأحسني ولا تغشي، فإنه اتقي وأبقي للمال" (2) وغيرهما مما ورد في البيع، وكذا النصوص الواردة في تدليس الخصي نفسه في النكاح، المتضمنة أنه يوجع ظهره، كموثق سماعة عنه (عليه السلام): "إن خصياً دلس نفسه لامرأة. قال: يفرق بينهما وتأخذ منه صداقها، ويوجع ظهره، كما دلس نفسه"(3) ، وغيره.

لكن مقتضي إطلاق جملة منها العموم، كصحيح هشام بن سالم عنه (عليه السلام):" قال: ليس منا من غشنا"(4) ، وقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) في حديث المناهي(5) ، وحديث عيون الأخبار بأسانيده عن الإمام الرضا (عليه السلام)(6) ، وخبر المجالس(7):" ليس منا من غش مسلماً "وغيرهما.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 13 من أبواب العيوب والتدليس حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 10، 12.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 10، 12.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 10، 12.

(7) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 137 من أبواب أحكام العشرة حديث: 1.

ص: 233

وكذا ما في غير واحد من النصوص - علي ضعف في أسانديها - من النهي عن الخديعة وأنها في النار(1) ، فإن الخديعة والغش متطابقان مفهوماً أو مصداقاً أو متقاربان. وربما يستفاد أيضاً مما تضمن أن من حقوق المؤمن علي المؤمن أن لا يغشه ولا يخدعه(2)... إلي غير ذلك. ولا تنهض النصوص الأول بتقييد الإطلاق المذكور، لعدم ظهورها في الحصر.

ولاسيما وأن من القريب أن يكون النهي فيها عن الغش في البيع والنكاح لأنه من مصاديق مطلق الغش الحرام، لأنه الأنسب بالمرتكزات، بل هو مقتضي إطلاق مثل صحيح هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) لرجل يبيع التمر: يا فلان أما عملت أنه ليس من المسلمين من غشهم"(3).

بل هو كالصريح من صحيح هشام بن الحكم: "كنت أبيع السابري في الظلال فمرّ بي أبوا الحسن موسي (عليه السلام) راكباً، فقال لي: يا هشام إن البيع في الظلال غش، والغش لا يحل"(4) ، وقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) في حديث طويل مروي عن عقاب الأعمال:" ومن غش مسلماً في بيع أو شراء فليس منا، ويحشر مع اليهود يوم القيامة، لأن من غش الناس فليس بمسلم"(5).

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في نهوض الإطلاقات بإثبات عموم حرمة الغش وعدم اختصاصه بالبيع والشراء والنكاح، من دون مخرج عنها ينهض بالتقييد.

وقد أعترف بعض مشايخنا (قدس سره) بذلك في مسألة حرمة الغش، قال في مصباح الفقاهة: "إن ظاهر المطلقات المتقدمة هو حرمة الغش علي وجه الإطلاق، سواءً أكان في المعاملة أم في غيرها. إلا أنه لابد من صرفها إلي خصوص المعاملات في الجملة، بداهة أنه لا بأس بتزيين الدور والألبسة والأمتعة لإراءة أنها جديدة، مع

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 8 باب: 137 من أبواب أحكام العشرة.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 8 باب: 122 من أبواب أحكام العشرة.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 3، 11.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 3، 11.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 3، 11.

ص: 234

أنها عتيقة، وكذلك لا بأس بإطعام الطعام المغشوش وسقي اللبن الممزوج للضيف وغيره، وبذل الأموال المغشوشة للفقراء. بل يمكن دعوي عدم صدق الغش في هذه الموارد أو بعضها".

وببالي أن سيدنا المصنف (قدس سره) في مجلس درسه الشريف كان يستشهد علي عدم حرمة الغش بنحو ذلك، مثل جواز التجمل في اللباس والتستر بالمعصية ونحوهما، بل استحباب ذلك في الجملة.

لكن الاستشهاد علي منع عموم حرمة الغش بعدم التحريم في الأمثلة المتقدمة ونحوها موقوف علي كونها من الغش، أما مع خروجها عنه موضوعاً - كما أشير إليه في آخر الكلام السابق - فهو لا ينافي العموم لإطلاق النصوص المتقدمة، كما هو ظاهر.

والظاهر الثاني، لعدم وضوح كون الغش المحرم مطلق إظهار خلاف الواقع، بل المتيقن منه خصوص ما يترتب عليه وقوع الغير فيما لا يقدم عليه تجنباً لمحذور ديني أو دنيوي. إما لأخذ ذلك في مفهوم الغش لغة، كما هو غير بعيد، ويناسبه ما في كلام بعض أهل اللغة من أنه ضد النصح. وإما لأنه المنصرف من دليل تحريمه، بلحاظ منافاته للأمانة التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن، أو لمقتضي الأخوة والمودة المفروضة بين المؤمنين، المقتضية لعدم تغرير بعضهم لبعض وإضراره به. ولذا عدّ عدم الغش من حقوق المؤمن، ومن الظاهر أن مجرد إظهار خلاف الواقع من دون أن يضر بالغير ويوقعه في خلاف ما يريد لا ينافي شيئاً من ذلك.

نعم لو ترتب علي الأمثلة المتقدمة وقوع الغير فيما لا يقدم عليه لو عرف حاله صدق الغش عليها وتعين البناء علي الحرمة فيها، كما لو كان الضيف لا يقدم علي شرب اللبن الممزوج بالماء لو علم به لمحذور مقتنع به، أو كان الفقير لا يقبل النقد المغشوش لمحذور يراه لا لمجرد نقص قيمته. وكذا الحال في بقية الأمثلة. ومن هنا لا مجال للخروج عن إطلاق أو عموم أدلة النهي عن الغش المتقدمة.

ص: 235

الثاني: لا يخفي أن جملة من النصوص المتقدمة مختصة بالمسلم، بل المؤمن، ولا تشمل ما إذا كان المغشوش غير المؤمن. إلا أن بعض النصوص مطلق من هذه الجهة، كموثق السكوني ومعتبر الحسين بن زيد وصحيح هشام بن الحكم المتقدمة وغيرها.

ومن الظاهر أنه لا تنافي بدواً بين الطائفتين، لعدم ظهور الطائفة الأولي في الحصر، ليكون مقتضي الجمع العرفي حمل إطلاق الطائفة الثانية عليها. ولازم ذلك البناء علي عموم حرمة الغش للكافر، فضلاً عن المسلم غير المؤمن.

إلا أن ظهور الطائفة الأولي في ابتناء التحريم علي مراعاة حق المؤمن ومقتضي أخوته يوجب ظهورها في الحصر، لعدم ثبوت الحق لغيره المستلزم لمنافاتها للطائفة الثانية، وتحكيمها عليها بمقتضي الجمع العرفي، فيختص التحريم بالمسلم، بل المؤمن، لأنه هو مورد الحق، دون غير المؤمن. وبذلك يتعين الخروج عن إطلاق المسلم في جملة من النصوص.

ولاسيما مع قرب الجمع بينهما بحمل المسلم علي المسلم التام الإسلام، كما يناسبه ذكر عنوان الإسلام في كثير من النصوص موضوعاً للحقوق المذكورة للمؤمن. واختصاص ما تضمن عنوان المسلم من نصوص المقام بالنصوص الواردة عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) قبل تفرق فرق المسلمين وظهور خروج من خرج منهم عن أصول الإيمان. وقد تقدم منّا في مسألة تغسيل المخالف ما ينفع في المقام.

اللهم إلا أن يقال: النصوص الأول المتضمنة للنهي عن الغش بملاك مراعاة حق المؤمن إنما تنافي النصوص المطلقة الشاملة لغير المؤمن بل لغير المسلم لو كانت ظاهرة في انحصار ملاك النهي عن الغش بمراعاة حق المؤمن، بحيث لا ملاك له سواه، إلا أنه لا ينبغي الإشكال في عدم ظهورها في ذلك، بل مجرد النهي عن غشه رعاية لحقه، والنهي المذكور لا ينافي عموم النهي عن الغش بملاك آخر شامل للمؤمن وغيره، ولو بلحاظ منافاته للخلق الكريم الذي يريده الله تعالي للإنسان.

ولذا تضمنت نصوص حقوق المؤمن أن لا يخونه ولا يظلمه، مع وضوح عدم

ص: 236

انحصار حرمة الأمرين بالمؤمن بل تحرم خيانة كل أحد في عهده وأمانته، كما يحرم ظلمه. ومن هنا لا تنهض النصوص المذكورة بتقييد إطلاق النهي بنحو يشمل غير المؤمن، بل المسلم.

نعم يقرب انصراف النهي عما إذا كان المغشوش معتدياً، ويراد بغشه تجنب عدوانه والتخلص منه، لسقوط حرمته ارتكازاً بعدوانه. ويناسبه أو يدل عليه ما تضمن جواز الكذب بل اليمين لدفع الظلم. بل لعل الأمر أظهر من ذلك.

هذا كله بالنظر للغش بذاته. أما بلحاظ العناوين الثانوية فلا ينبغي التأمل في حرمته لو أوجب توهين المؤمنين وسوء سمعتهم، فضلاً عما إذا أوجب الإضرار بهم بتحرز الناس منهم، أو تجنبهم معاملتهم، أو اعتزالهم لهم، أو تشنيعهم عليهم، أو نحو ذلك. لأهمية المحاذير المذكورة شرعاً بحيث يعلم بحرمة ما يؤدي إليها. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

الثالث: قال شيخنا الأعظم (قدس سره) تعقيباً علي نصوص تحريم الغش: "ويمكن أن يمنع صدق الأخبار المذكورة إلا علي ما إذا قصد التلبيس، وأما ما هو ملتبس في نفسه، فلا يجب عليه الإعلام. نعم يحرم عليه إظهار ما يدل علي سلامته من ذلك. فالعبرة في الحرمة بقصد تلبيس الأمر علي المشتري".

والظاهر رجوع ما ذكره إلي أنه لابد من كون الغش والتلبيس داعياً للعمل الموجب له، ولا يكفي ترتبه من دون أن يكون داعياً، ككون الشيء معيباً في نفسه، كالثمرة التالفة في شجرتها، أو بفعل غير الشخص، أو بفعل الشخص نفسه غفلة، أو لداع آخر، كنضح الماء علي البقل من أجل حفظه من التلف إذا كان موهماً لكونه جديداً. فيرجع لما في الرياض، حيث قال: "ثم لو غش لكن لا بقصده، بل بقصد إصلاح المال لم يحرم. للأصل. واختصاص ما مر من النص بحكم التبادر بصورة القصد. وللصحيح...".

هذا ولا يخفي أن الغش لا يتحقق بفعل ما يوجب الإيهام والتلبيس، كشوب

ص: 237

اللبن بالماء، ومزج الجيد بالرديء وستر الرديء بالجيد، بل بإيقاع الغير في المحذور الذي لا يقدم عليه لولا الإيهام والتلبيس، كأن يعرض للبيع اللبن المشوب بالماء والطعام الممزوج بالرديء، أو الذي ستر الرديء بالجيد منه، وأن يقدم الخصي علي الزواج موهماً أنه غير خصي، وأن تعرض الثيب نفسها للزواج مع إيهام كونها بكراً ونحو ذلك. ولذا تختص حرمة كتمان العيب بمن يعرض المبيع للبيع يبيعه دون غيره ممن يعلم بالعيب ولا دخل له بالمبيع، بخلاف مدح السلعة علي خلاف واقعها، فإنه يحرم من كل أحد، لأنه بنفسه سبب في حمل المشتري علي شرائها سواء كان من البايع أم من غيره.

وحينئذٍ لا أثر في تحقق الغش للقصد حين فعل ما يوجب الإيهام والتلبيس كخلط الجيد بالرديء.

وأما حين إيقاع الغير في المحذور بالبيع أو النكاح أو غيرها فالقصد للغش إن كان بمعني كونه داعياً لإيقاع المعاملة فهو غالباً لا يتحقق، بل يكون الداعي غالباً هو الانتفاع المترتب علي المعاملة، ككسب المال، وتحصيل الزوج أو الزوجة، ولا يكون الغش داعياً إلا قليلاً أو نادراً كما إذا كان الذي يراد غشه عدواً يراد بالتعامل معه غشه وإيذاؤه من دون نظر لفائدة المعاملة، ومن الظاهر أنه لا مجال لحمل أدلة تحريم الغش علي خصوص هذه الصورة.

وإن كان القصد للغش بمعني إقدام طرف المعاملة عليها مع العلم بالتباس الأمر علي الطرف الآخر فهو متحقق حتي لو كان حصول سبب الالتباس غير مقصود له أو لم يكن بفعله. ومن ثم يتعين البناء علي عموم حرمة الغش لذلك.

مضافاً إلي أن ذلك مقتضي النصوص الخاصة، مثل ما تضمن النهي عن كتمان العيب(1). لوضوح أن العيب في الغالب يحصل قهراً علي صاحب المتاع، ولا يقع باختياره بداعي التلبيس علي المشتري. ومثله ما سبق من تدليس الخصي نفسه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، وذيله.

ص: 238

وصحيح محمد بن مسلم المتقدم عن أحدهما (عليهما السلام): "أنه سئل عن الطعام يخلط بعضه ببعض وبعضه أجود من بعض. قال: إذا رؤيا جميعاً فلا بأس ما لم يغط الجيد الرديء"(1). لشمول إطلاقه لما إذا غطي الجيد الرديء صدفة أو لغرض آخر غير التلبيس، وصحيح الحلبي المتقدم أيضاً عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سألته عن الرجل يكون عنده لونان من طعام واحد سعرهما بشيء [شيء. كافي. شتي. فقيه. تهذيب]، وأحدهما أجود من الآخر، فيخلطهما جميعاً ثم يبيعهما بسعر واحد. فقال: لا يصلح أن يغش المسلمين حتي يبينه"(2). فإن إطلاقه شامل لما إذا لم يكن الخلط بداعي التلبيس، بل مع البناء علي الإعلام.

وكذا ما سبق في صحيح هشام بن الحكم، فإن البيع في الظلال قد لا يكون بداعي الغش - خصوصاً من مثل هشام - بل من أجل الفرار من الحرّ، أو لعدم وجود المكان الملائم للبيع في غيره. بل تنبيه الإمام (عليه السلام) لتحقق الغش بذلك ظاهر في عدم التفات هشام له، فضلاً عن كونه داعياً له... إلي غير ذلك.

وأما الصحيح الذي استدل به في الرياض فهو صحيح الحلبي: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يشتري طعاماً فيكون أحسن له وأنفق له أن يبله من غير أن يلتمس زيادته. فقال: إن كان بيعاً لا يصلحه إلا ذلك ولا ينفقه غيره من غير أن يلتمس فيه زيادة فلا بأس، وإن كان إنما يغش المسلمين فلا يصلح"(3).

لكنه كما تري ظاهر في التفصيل بين أنواع الطعام المبيع، وأنه إن كان من النوع الذي يكون صلاحه ببله، ولا يبل من أجل زيادته غشاً له فلا بأس ببله، وإن كان من النوع الذي يكون بله غشاً له ومظهراً له علي خلاف حقيقته فبلّه محرم. وأين هذا من التفصيل بين كون الغش داعياً وغيره الذي هو محل الكلام ؟! ومن ثم لا مجال للخروج به عما ذكرنا.

وكأن ما ذكراه (قدس سرهما) ناشئ من ارتكاز أن الغش من الأمور القصدية

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1، 2، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1، 2، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1، 2، 3.

ص: 239

الممقوتة، كالرياء والنفاق. أو أن تحريمه يبتني علي ذلك، بحيث ينصرف دليله إليه وإن كان مفهومه أعم، كما قد يظهر مما تقدم من الرياض. لكن الظاهر أنه متقوم بالقصد بمعني الإقدام علي تغرير الغير وخدعه عن التفات. وهو قبيح وممقوت قطعاً، وليس متقوماً بالقصد بمعني كون ذلك داعياً. كما أنه بعد عمومه فتحريمه لا يبتني علي ذلك ولا ينصرف دليله إليه، بل هو لا يناسب ما تقدم. نعم قصده بالمعني المذكور أشد مقتاً وقبحاً.

الرابع: ذكرنا آنفاً أن الغش لا يتحقق بفعل ما يوجب الإيهام والتلبيس، كشوب اللبن بالماء ومزج الجيد بالرديء، بل بإيقاع الغير في المحذور الذي لا يقدم عليه لولا الإيهام والتلبيس، كعرض اللبن المشوب بالماء والطعام الممزوج بالرديء للبيع. ويترتب علي ذلك أن الغاش هو الموقع في المحذور كالبايع في المثال، لا الذي يفعل ما يوجب الإيهام والتلبيس.

نعم إذا كان الموقع في المحذور جاهلاً بالحال لم يكن غاشاً قطعاً. وحينئذٍ قد ينسب الغش لمن هو أسبق منه، كفاعل ما يوجب التلبيس والإيهام مع التفاته للحال وإغفاله لمن بعده. كما يناسبه ما ورد في عيوب المرأة المسوغة للفسخ من أن لها المهر مع الدخول، ويرجع به علي الولي، لأنه دلسها، فإن لم يكن يعرف دخيلة أمرها فلا شيء عليه بل يؤخذ المهر منها(1) ، وغيره.

وكيف كان فلا مجال للبناء علي حرمة فعل ما يوجب الإيهام والتلبيس إذا ترتب عليه الغش من الغير. نعم بناءً علي عموم حرمة الإعانة علي الإثم يتعين البناء علي الحرمة. لكن سبق في المسألة الثامنة عدم ثبوت العموم المذكور.

هذا ولكن ذكر الأصحاب (رضي الله عنهم) حرمة تدليس الماشطة للمرأة من أجل أن تتزوج، أو الجارية من أجل أن تباع، وفي الجواهر:" بلا خلاف أجده، كما عن بعضهم الاعتراف به، بل عن آخر الإجماع عليه وهو الحجة".

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 2 من أبواب العيوب والتدليس حديث: 2.

ص: 240

إلا أنه لا مجال للتعويل علي الإجماع بعد عدم ظهور كونه إجماعاً تعبدياً. ولاسيما مع قرب استنادهم للنصوص الناهية عن وصل شعر المرأة بشعر غيرها بعد حملها علي الغش، كما يظهر من بعض كلماتهم، حيث يتعين حينئذٍ النظر في تلك النصوص سنداً ودلالة، والعمل ما يتحصل منها.

إذا عرفت هذا فاعلم: النصوص المذكورة وإن لم تخل عندهم عن خدش في السند، إلا أن تعددها يوجب الوثوق بمضمونها إجمالاً. علي أن بعضها لا يخلو عن اعتبار، كمرسل بن أبي عمير عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: دخلت ماشطة علي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) فقال لها: هل تركت عملك أو أقمت عليه ؟ فقالت: يا رسول الله أنا أعمله، إلا أن تنهاني عنه فانتهي عنه. فقال: افعلي، فإذا مشطت فلا تجلي [تحكي] الوجه بالخرق، فإنه يذهب بماء الوجه، ولا تصلي الشعر بالشعر"(1). ويؤيده معتبر علي: "سألته عن امرأة مسلمة تمشط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك، وقد دخلها ضيق. قال: لا بأس، ولكن لا تصل الشعر بالشعر"(2) ، وخبر عبدالله بن الحسن:" سألته عن القرامل. قال: ما القرامل ؟ قلت: صوف تجعله النساء في رؤوسهن. قال: إذا كان صوفاً فلا بأس. وإن كان شعراً فلا خير فيه من الواصلة والموصولة"(3) ، وغيرهما.

وقد يظهر من بعضهم حمل النهي المذكور علي تحقق الغش بذلك. لأن وصل الشعر بالشعر يوهم كونه شعر المرأة نفسها بخلاف وصله بالصوف حيث رخصت النصوص فيه.

لكن لا إشعار في النصوص بفرض الغش بذلك، بل مقتضي إطلاقها العموم لصورة عدمه للعلم بالحال، أو لعدم وجود شخص يراد غشه، بل المراد بذلك التزيين للناس أو الزوج أو المولي. ولاسيما وأن تمشيط العروس إنما يكون بعد عقد النكاح عليها، فلا يكون منشأ لغش الزوج.

نعم يظهر من الأصحاب البناء علي كراهة الوصل المذكور مع عدم الغش به

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 19 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 4، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 19 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 4، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 19 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 4، 5.

ص: 241

وعدم حرمته.

وربما استدل له بمعتبر سعد الإسكاف: "سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن القرامل التي تضعها النساء في رؤوسهن يصلنه بشعورهن. فقال: لا بأس علي المرأة بما تزينت به لزوجها. قال: فقلت: بلغنا أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) لعن الواصلة والموصولة. فقال: ليس هناك، إنما لعن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) الواصلة التي تزني في شبابها، فلما كبرت قادت النساء إلي الرجال، فتلك الواصلة والموصولة"(1).

لكن مقتضي الجمع العرفي بينه وبين نصوص النهي عن وصل الشعر هو تقييده بها، لا جعله شاهداً علي حملها علي الكراهة. نعم لو تمّ حمل نصوص النهي علي صورة الغش تعين جعل إطلاقه شاهداً علي جواز وصل الشعر بالشعر. إلا أنه سبق المنع من ذلك. مع أنه عليه لا يبقي دليل علي كراهة وصل الشعر بالشعر.

اللهم إلا أن يقال: عدم اقتصار الإمام (عليه السلام) علي بيان مورد السؤال، وهو وصل القرامل، وبيان عموم جواز الزينة، موجب لقوة شمول العموم، لوصل الشعر بالشعر، الذي هو من أفراد الوصل، إذ لو كان محرماً لكان المناسب جداً استثناؤه من العموم، منعاً لتخيل جوازه كالقرامل. بل هو أولي من التنبيه عليه في خبر عبدالله بن الحسن المتقدم. ولاسيما مع التنبيه علي خطأ تفسير النبوي بوصل شيء بالشعر، الذي أظهر أفراده وصل الشعر بالشعر.

ومن ثم لا يبعد كون معتبر سعد صالحاً للقرينية علي حمل النهي في تلك النصوص عن وصل الشعر بالشعر علي الكراهة. ولا أقل من التوقف والتردد بين الجمع بذلك والجمع بتخصيص النهي المذكور للعموم الذي تضمنه المعتبر المذكور الراجع لإجمال الأدلة حكماً، والرجوع لأصالة البراءة من حرمة وصل الشعر بالشعر.

علي أن ظهور مفروغية الأصحاب عن عدم الحرمة في مثل هذه المسألة العملية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 19 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3.

ص: 242

(مسألة 27): الغش وإن حرم لا تفسد المعاملة به (1).

---------------

كافٍ في المقام، فإنه إن لم ينهض بالقرينية علي حمل النهي علي الكراهة فلا أقل من كونه موجباً للريب عرفاً في مطابقة ظهور النهي في الحرمة للواقع بنحو يسقط عن الحجية، ويكون المرجع بعد ذلك أصل البراءة. فلاحظ. والحمد لله رب العالمين.

(1) لأن حرمة المعاملة تكليفاً لا تقتضي بطلانها، كما حقق في الأصول. خصوصاً إذا لم يكن النهي عنها بعنوانها، بل بعنوان خارج عنها، كالغش.

وأما ما سبق منا في القمار من استفادة عدم ترتب الأثر تبعاً من النهي التكليفي عن المعاملة. فهو إنما يتجه فيما إذا كان موضوع النهي هو المعاملة بعنوانها، كالقمار، دون مثل المقام مما كان الموضوع عنواناً عاماً ينطبق علي المعاملة وغيرها مما ليس له أثر اعتباري. أو كان خصوصية في المعاملة زائدة عليها، كالبيع وقت النداء.

ومثله ما تكرر في كلماتهم من أن النهي في المعاملات ونحوها من الماهيات ذات الأجزاء والشرائط ينصرف إلي بيان عدم تماميتها وعدم ترتب الأثر عليها. لاندفاعه بأن مرجع ذلك إلي حمل النهي علي الإرشاد لفساد المعاملة من دون أن يكون نهياً تكليفاً، والمفروض في المقام - تبعاً لظاهر النصوص - أن النهي تكليفي، وأنه متعلق بعنوان يعم المعاملة وغيرها مما لا يكون من الماهيات ذات الأجزاء والشرائط التي يراد منها ترتيب أثرها ولا يتصف بالصحة والفساد.

علي أنه قد يقال: إن الغش لا يكون بنفس البيع، بل بتعريض السلعة للبيع، بنحو يتوهم معه سلامتها، الذي هو نظير مدح السلعة علي خلاف واقعها، وليس البيع إلا الغاية من الإيهام، التي يناط بها صدق الغش عليه، لما سبق من أن إيهام خلاف الواقع لا يكون غشاً إلا إذا أوجب وقوع الغير في المحذور.

فالبيع وإن توقف عليه صدق الغش، إلا أن الغش لا يصدق علي البيع نفسه، بل ما يدفع له ويحمل عليه مما يوهم كون المبيع علي خلاف واقعه، كعرضه للبيع مع

ص: 243

الإيهام المذكور، وكمدحه كذباً من البايع أو غيره. وعليه ينزل ما سبق في صحيح هشام بن الحكم من أن البيع في الظلال غش. وبناءً علي ذلك فالمنهي عنه لا ينطبق علي البيع، ليتوهم اقتضاؤه للفساد.

ودعوي: أن المقصود بالمعاملة هو الأمر المتخيل بسبب الغش - كاللبن المحض والطعام الجيد ونحوهما - دون الواقع المغشوش، ومع تخلف المقصود بالمعاملة يتعين بطلانها.

مدفوعة بأن موضوع المعاملة هو الأمر الخارجي الذي وقعت عليه، وهو محفوظ لم يتخلف. وأما تخيله علي الوجه الخاص الذي اقتضاه الغش فهو غالباً من سنخ الاعتقاد المقارن غير المقوم لموضوع المعاملة، فلا يكون تخلفه موجباً لبطلانها، نظير اعتقاد السلامة مع وجود العيب الذي كان صريح النصوص صحة البيع معه.

غاية الأمر أنه قد يكون داعياً لإيقاع المعاملة أو وصفاً قد ابتنيت عليه، كشراء العبد علي أنه كاتب، وكلاهما لا يكون تخلفه موجباً لبطلانها، بل غاية الأمر ثبوت الخيار فيها، كما سيأتي إن شاء الله تعالي.

هذا وفي معتبر المفضل بن عمر عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الدرهم المغشوش قال (عليه السلام): "اكسرها، فإنه لا يحل بيع هذا ولا شراؤه"(1) ، وفي خبر موسي بن بكر عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه كسر الدينار المغشوش، ثم قال:" ألقه في البالوعة حتي لا يباع شيء فيه غش"(2). ومقتضاهما النهي عن التعامل بالمغشوش وضعاً الراجع لبطلان المعاملة، أو تكليفاً، فيستفاد منه بطلان المعاملة تبعاً، كما سبق.

لكن مقتضي الحديثين النهي عن التعامل بما فيه غش وخلط من غير الجنس ولو مع عدم الغش به للعلم بحاله، وهو أجنبي عما نحن فيه. علي أنه لا مجال للالتزام

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب الصرف حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

ص: 244

لكن يثبت الخيار للمغشوش (1). إلا في بيع المطلي بماء الذهب أو الفضة،

---------------

بذلك علي إطلاقه. غاية الأمر أن يخص بمورده وهو النقود المغشوشة. وإن كان الظاهر عدم ثبوت ذلك فيها أيضا علي ما تقدم في المسألة العاشرة. فراجع.

(1) كما تضمنه في الجملة صحيح ميسر عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قلت له: رجل اشتري زقّ زيت فوجد فيه دردياً. قال: فقال: إن كان يعلم أن ذلك يكون في الزيت لم يرده، وإن لم يكن يعلم أن ذلك يكون في الزيت رده علي صاحبه"(1) ، وحديث أبي صادق:" دخل أمير المؤمنين (عليه السلام) سوق التمارين فإذا امرأة قائمة تبكي وهي تخاصم رجلاً تماراً. فقال لها: ما لك ؟ فقالت: يا أمير المؤمنين اشتريت من هذا تمراً بدرهم وخرج أسفله ردياً ليس مثل الذي رأيت. قال: فقال: ردّ عليها، فأبي، حتي قالها ثلاثاً، فأبي، فعلاه بالدرة حتي ردّ عليها. وكان يكره أن يجلل التمر"(2).

لكن لا يخفي أنهما لم يتضمنا عنوان الغش، بل المستفاد منهما ثبوت الخيار مع ظهور حال المبيع علي خلاف ما يتوقعه المشتري مطلقاً وإن لم يكن الأمر مبنياً علي الغش والتدليس، وإنما حصل الذي حصل صدفة، أو لأنه مقتضي طبيعة السلعة، كما هو ظاهر الأول.

إلا أن يقال: المناسبات الارتكازية تقضي بأن حكم الأصحاب بثبوت الخيار مع الغش يبتني علي الإرفاق بالمشتري، لا علي عقوبة البايع، وذلك يقتضي إلغاء خصوصية الغش في كلامهم، وعموم الخيار لجميع موارد ظهور المبيع علي خلاف ما يتوقعه المشتري وإن لم يكن مبنياً علي الغش، كما هو المستفاد من الحديثين، فمفاد الحديثين مطابق لحكمهم بثبوت الخيار من هذه الجهة، لا أعم منه. وعلي كل حال فهما صالحان للاستدلال في المقام.

نعم لا ينهض الحديثان بإثبات سببية الغش أو ظهور المبيع علي خلاف م

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1، 2.

ص: 245

يتوقعه المشتري للخيار علي الإطلاق، بحيث يكون الخيار المذكور خياراً مستقلاً في قبال الخيارات المعهودة، لعدم التعرض فيهما لملاك الخيار في موردهما. كما لا مجال لإثبات ذلك من طريق آخر، كارتكاز معاملي أو غيره، لعدم وضوح شيء من ذلك. ومجرد الحكم في الحديثين بثبوت الخيار في موردهما لا يقتضيه، لقرب كونه من صغريات خيار تخلف الوصف المذكور في محله.

فإن الظاهر أن المعيار فيه الوصف الذي يبتني عليه العقد، إما لأخذه في العقد صريحاً، كبيع العبد علي أنه كاتب والثوب علي أنه جديد، أو لاستفادة أخذه من القرائن المحيطة بالعقد، سواءً كانت ارتكازية عامة - كوصف السلامة - أم خاصة لظهور الحال المستفاد من خصوصية السوق أو البايع أو العين أو غير ذلك.

ومن الظاهر شراء زقّ الزيت الذي تضمنه صحيح ميسر ظاهر بدواً في فرض صلاحه بتمامه وعدم كون بعضه دردياً - وهو الكدر الراسب في أسفله - ولا يخرج عن الظهور المذكور إلا بالقرينة، وهي علم المشتري بوجود ذلك في الزيت. وكذلك شراء التمر الذي يجلله الجيد ظاهر في فرض كونه بتمامه جيداً، فظهور المبيع علي خلاف ذلك موجب لخيار تخلف الوصف.

أما لو لم يكن الغش بنحو يوجب ابتناء العقد علي الوصف المفقود فلا طريق لإثبات الخيار. كما لو خدع البايع المشتري بتوقع خاصية في السلعة مرغوب فيها توقعاً اجتهادياً من دون تعهد بها، بحيث يبتني البيع عليها.

وأظهر من ذلك ما إذا كان الغاش أجنبياً عن المعاملة، حيث لا إشكال حينئذ في عدم ابتناء البيع علي الوصف الذي يتحقق به الغش بعد أن كان الغاش غير البايع. من دون فرق بين المواطأة مع البايع وعدمها، لأن المواطأة بينهما لا دخل لها بتحديد خصوصيات البيع الواقع بين البايع والمشتري. ومنه ما سبق من الغش الحاصل بالنجش.

نعم إذا صادف حصول سبب آخر للخيار - كخيار الحيوان في الأيام الثلاثة - فل

ص: 246

فإنه يبطل فيه البيع، ويحرم الثمن علي البايع. وكذا أمثاله مما كان الغش فيه موجباً لاختلاف الجنس (1).

---------------

إشكال في ثبوته به، عملاً بعموم دليله. كما لا إشكال في سقوطه مع حصول المسقط له - كإسقاط الخيار الخاص - عملاً بعموم دليل المسقط المذكور، من دون خصوصية للمقام تمنع من سقوط الخيار فيه بحصول ذلك المسقط.

(1) وتوضيح ذلك: أن العنوان المأخوذ في المبيع الخارجي: تارة: يكون مقوماً لموضوع البيع عرفاً. وأخري: يكون وصفاً زائداً علي الموضوع مرغوباً فيه، بحيث يبتني عليه البيع. وثالثة: يكون وصفاً مقارناً لا دخل له في البيع، لم يذكر لكونه مرغوباً فيه، بل لمجرد اعتقاد وجوده واتصافه به.

والظاهر أنه لا أثر لتخلف الثالث علي البيع أصلاً، بل هو كسائر الاعتقادات المقارنة الخاطئة، كالاعتقاد بطلوع الشمس ونزول المطر.

كما أن تخلف الثاني لا يقتضي بطلان البيع بعد سلامة موضوعه، بل غاية ما يقتضيه هو خيار تخلف الوصف الذي سبق الكلام فيه آنفاً.

أما تخلف الأول فهو يوجب بطلان البيع، لأن البيع وإن تعلق بالأمر الخارجي إلا أن العنوان المأخوذ فيه إذا كان مقوماً للمبيع عرفاً فتخلفه موجب لتخلف المبيع عرفاً وإن كان محفوظاً صورة، فإذا رأي رجل عند آخر تمثال فرس أو بقرة أو حماراً وتخيله فرساً حقيقياً، فقال: بعني هذا الفرس، فباعه إياه علي ذلك فلا مجال للبناء علي صحة البيع المذكور بلحاظ حفظ موضوعه، وهو الأمر المشار إليه، بل يتعين البناء علي بطلانه، لكون عنوان الفرس مقوماً للمبيع عرفاً، فَتخلفه راجع إلي عدم تحقق المبيع ووقوع البيع بلا موضوع فيبطل.

بل يتعين البطلان حتي لو لم يؤخذ العنوان في المبيع، بل صادف اعتقادهما له علي خلاف واقعه، لأن تعيين موضوع البيع تابع للقصد، فمع قصد موضوع لا واقع

ص: 247

له لم يسلم البيع بعد كون المقصود مقوماً للمبيع عرفاً.

بل يكفي في بطلان البيع قصد أحدهما له علي خلاف واقعه إذا كان ما قصده مقوماً للمبيع عرفاً، لاعتبار اتفاق المتعاقدين علي العقد الواحد بجميع أركانه.

نعم الظاهر عدم اطراد تقوم الموضوع بالجنس، بل يختلف باختلاف البيوع: فتارة: يكون المقوم للموضوع هو العنوان المنتزع من الجنس، كالمثال المتقدم، وكما لو أراد الشخص أن يشتري ذهباً أو فضة ليصوغهما، أو صوفاً ليغزله، أو حنطة ليطحنها، أو عنباً أو تمراً أو نحو ذلك.

وأخري: يكون المقوم للموضوع هو العنوان المنتزع من الهيئة والصورة، ويكون الجنس أمراً زائداً عليه مرغوباً فيه أو مجرد مقارن له، كما لو اشتري ساعة عقاربها من ذهب، أو عباءة من صوف، أو قميصاً من قطن، أو خبزاً من حنطة، أو عصير عنب معلب، أو نحو ذلك. فإن الظاهر عدم تقوم الموضوع في جميع ذلك بالجنس، بل ليس الجنس إلا وصفاً يبتني عليه البيع، أو مقارناً له لا غير، والمقوم للبيع هو العنوان المنتزع من الهيئة.

ومن ثم يبطل البيع لو انكشف أن المبيع قياس درجة حرارة عقاربه ذهب أو فضة بدل الساعة، أو طاقة صوف بدل العباءة، أو منديلاً من قطن بدل القميص، أو دقيق حنطة بدلاً من الخبز، أو عنباً معلباً بدل العصير. ولا يبطل البيع لو ظهر أن المبيع ساعة عقاربها نحاس بدل الذهب، أو عباءة أو قميصاً من المواد المشابهة للصوف أو القطن، أو خبزاً من ذرة أو مخلوط بها بدلاً من الحنطة، أو عصيراً يشبه عصير العنب أو نحو ذلك.

هذا وربما يكون كل من العنوان المنتزع من الجنس والعنوان المنتزع من الهيئة والصورة مقوماً للبيع، حيث يكون تخلفه موجباً لبطلانه. ولا ضابط لجميع ذلك، بل يختلف باختلاف الخصوصيات والظروف المحيطة بالبيع. والمرجع في تشخيص ذلك هو العرف بعد الإطلاع عليها. وربما يلتبس الأمر في بعض الموارد، فيتعين التوقف.

ص: 248

بقي شيء. وهو أنه حيث سبق بطلان البيع مع عدم سلامة العنوان المقوم للمبيع، فلو فرض عدم سلامته في بعض المبيع يتعين تبعض الصفقة، لبطلان البيع فيه وفي ما يقابله من الثمن وصحته في الباقي. غاية الأمر أنه يثبت خيار تبعض الصفقة لكل من البايع والمشتري، كما صرح بذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره.

لكن في موثق السكوني عن جعفر عن أبيه: "أن علياً (عليه السلام) قضي في رجل اشتري من رجل عكة فيها سمن احتكرها حكرة، فوجد فيها ربّاً، فخاصمه إلي علي (عليه السلام). فقال له علي (عليه السلام): لك بكيل الرب سمناً. فقال له الرجل: إنما بعته منك حكرة(1). فقال له علي (عليه السلام): إنما اشتري منك سمناً، ولم يشتر منك ربّاً"(2). ومقتضاه صحة البيع بتمام الثمن ووجوب إتمام ما نقص من المبيع من جنسه. وهو مخالف للقاعدة بعد كون المبيع خارجياً، كما يظهر من الموثق.

وربما يحمل: تارة: علي كون المبيع كلياً، وهو عكة من سمن، حيث يتعين تسليم عكة تامة ولو بتتميم العكة الناقصة. وأخري: علي بيان حلّ عرفي من أجل تصحيح أخذ تمام الثمن. ولاسيما مع صعوبة تشخيص نسبة مقدار الرب لمجموع العكة ليمكن استرجاع ما يناسبها من الثمن، حيث يظهر من الموثق كون بيع العكة جزافاً.

لكن الأول بعيد جداً عن لسان الموثق. ولعل الأقرب الثاني. وإلا فالخروج بالموثق عن مقتضي القاعدة صعب جداً. ولاسيما بعد وروده في قصة خاصة لا إطلاق لها. ومع عدم الإشارة في صحيح ميسر المتقدم لذلك مع مشابهته له مورداً والأمر محتاج لمزيد من التأمل. ويأتي ما يتعلق بالمقام في المسألة الثالثة من الفصل الثالث في شروط العوضين إن شاء الله تعالي.

********

(1) قال في لسان العرب:" وفي الحديث: من احتكر طعاماً فهو كذا. أي اشتراه وحبسه ليقل فيغلو. والحكُر والحكُرة الاسم منه. ومنه الحديث: أنه نهي عن الحكرة. ومنه حديث: عثمان: أنه كان يشتري حكرة. أي جملة. وقيل: جزافاً. وأصل الحكرة الجمع والإمساك ".

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب أحكام العيوب حديث: 3.

ص: 249

(مسألة 28): لا تصح الإجارة علي العبادات التي لا تشرع إلا أن يفعلها الأجير عن نفسه مجاناً (1)، واجبة كانت أو مستحبة، عينية كانت أو كفائية،

---------------

ثم إن ما ذكرنا من تبعض الصفقة إنما يتم فيما إذا كان لمخالف الجنس المبيع وجود متميز في مقابل الجنس المبيع، كالربّ في مورد الموثق، وعدل الشعير في ضمن أعدال الحنطة والدرهم في ضمن الدنانير، أما إذا كان منبثاً في المبيع، بحيث لا يتميز عنه عرفاً، كخليط النحاس في الذهب والفضة، والماء المشوب في اللبن والتراب المخلوط في الحنطة ودقيق الشعير الممزوج في دقيقها فهو عرفاً من سنخ العيب في المبيع يثبت به الخيار في البيع جملة، ولا يوجب بطلان البيع فيما يقابله، ليثبت خيار تبعض الصفقة.

(1) لا يخفي أن الفرض المذكور مستلزم لعدم صحة الإجارة، لأن موضوع الإجارة لما كان هو العبادة التي يتقرب بها بلحاظ مشروعيتها، ففرض عدم مشروعيتها إلا مع المجانية مستلزم لتعذر العمل المستأجر عليه، المستلزم لبطلان الإجارة. فالكبري التي ذكرها (قدس سره) أشبه بالقضية بشرط المحمول التي لا ينبغي التعرض لها، بل لصغرياتها، كما يظهر منه (قدس سره) الاهتمام بذلك في بقية كلامه.

أما المذكور في كلام الأصحاب (رضي الله عنهم) فهو حرمة الإجارة علي الواجبات وإن لم تكن عبادات، بل حرمة التكسب بها الشامل لمثل الجعالة.

قال في الشرايع في بيان ما يحرم التكسب به: "الخامس: ما يجب علي الإنسان فعله، كتغسيل الموتي وتكفينهم ودفنهم" .وفي الجواهر: "بلا خلاف معتد به أجده فيه... وفي المحكي عن مجمع البرهان: كأن دليله الإجماع".

وقال شيخنا الأعظم (قدس سره): "والظاهر أن نسبته إلي الشهرة في المسالك في مقابل قول السيد المخالف في وجوب تجهيز الميت علي غير الولي، لا في حرمة أخذ الأجرة علي تقدير الوجوب عليه. وفي جامع المقاصد الإجماع علي عدم جواز أخذ الأجرة علي

ص: 250

تعليم صيغة النكاح أو إلقائها علي المتعاقدين. انتهي. وكأنه لمثل هذا ونحوه ذكر في الرياض أن علي هذا الحكم الإجماع في كلام جماعة...".

هذا وقد قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "واعلم أن موضوع هذه المسألة ما إذا كان الواجب علي العامل منفعة تعود إلي من يبذل بإزائه المال، كما لو كان كفائياً وأراد سقوطه منه، أو عينياً علي العامل ورجع نفعه منه إلي باذل المال، كالقضاء للمدعي إذا وجب عيناً.

وبعبارة أخري: مورد الكلام ما لو فرض مستحباً لجاز الاستئجار عليه، لأن الكلام في كون مجرد الوجوب علي الشخص مانعاً من أخذ الأجرة عليه، فمثل فعل الشخص صلاة الظهر عن نفسه لا يجوز أخذ الأجرة عليه، لا لوجوبها، بل لعدم وصول عوض المال إلي باذله، فإن النافلة أيضاً كذلك...".

لكن ما ذكره من لزوم حصول نفع العمل المستأجر عليه للباذل غير ظاهر الوجه، بل الإجارة إنما تقتضي تملك المستأجر للعمل، فإن اعتبر كون باذل الأجرة هو المستأجر كان الباذل هو المالك للعمل وإن لم يعد نفعه له، وإن لم يعتبر ذلك - كما هو غير بعيد - لم يعتبر ملكية للباذل للعمل، فضلاً عن انتفاعه به.

بل لا مانع من انحصار منفعته بالأجير، كما لو استؤجر علي خياطة الثوب من أجل انتفاعه به بنفسه بإتقان مهنة الخياطة، أو الانتفاع بالثوب المخيط، وكما لو استؤجر في المقام علي أداء صلاة الظهر عن نفسه من أجل براءة ذمته وأمنه من عقاب تارك الصلاة.

ودعوي: أن بذل الشخص للمال في مقابل العمل من دون أن يعود نفعه إليه سفهي لا تصح معه المعاملة. مدفوعة بأنه يكفي في رفع السفه تعلق الغرض العقلائي بالمعاملة ولو مثل نفع الأجير بها. مع أن كون المعاملة سفهية لا يوجب بطلانها، كما تقدم التعرض لذلك في أوائل المسألة الرابعة.

ومن ثم لا يتم ما ذكره (قدس سره). ويتعين النظر في وجه كبري حرمة بطلان الإجارة

ص: 251

علي الواجبات. وقد استدل عليها بوجوه:

الأول: الإجماع المدعي الذي تقدم التعرض له من شيخنا الأعظم (قدس سره).

وفيه: أنه لا مجال للتعويل عليه بعد عدم التعرض للكبري المذكورة في النصوص، ليمكن معرفة رأي أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ورواة أحاديثهم من روايتها وتدوينها في كتبهم، وإنما ذكر في كتب المتأخرين عنهم ممن جري علي تدوين الفتاوي، حيث يحتمل اعتمادهم في الكلية المذكورة علي النهي في بعض النصوص عن أخذ الأجرة علي بعض الواجبات، كتعليم القرآن، أو علي بعض الوجوه الاعتبارية. ولاسيما مع شدة اضطراب كلماتهم في الصغريات والتفاصيل، كما ذكر جملة منها شيخنا الأعظم (قدس سره).

الثاني: أن المنافاة بين صفة الوجوب والتملك ذاتية، لما ذكره كاشف الغطاء (قدس سره) من أن المملوك والمستحق لا يملك ولا يستحق ثانياً.

وفيه: أولاً: أنه يختص بالتكسب بالإجارة الموجبة لتملك العمل علي الأجير، دون التكسب بالجعالة الموجبة لضمان أجر العمل علي الجاعل من دون أن يملكه علي من يقوم به.

وثانياً: أن التكليف بالشيء شرعاً لا يوجب استحقاقه لله تعالي علي نحو استحقاق العمل المستأجر عليه، بل استحقاق العمل المستأجر عليه وملكية المستأجر له من سنخ الوضع للمباين للتكليف سنخاً، فلا محذور في اجتماعهما في شيء واحد، وليس هو كاجتماع الملكيتين الممتنع عرفاً.

نعم إذا كان التكليف شرعاً مترتباً علي استحقاق الفعل وملكيته وضعاً امتنع التكسب بالإجارة عليه، كما لو استؤجر علي عمل فوجب عليه أداؤه شرعاً، فإنه لا تصح الإجارة علي أدائه، لأن أداءه عين فعله المفروض كونه مملوكاً للمستأجر، فلا يملك بالإجارة ثانياً. بل لا يمكن التكسب به حتي بنحو الجعالة، لأن الجعل من سنخ العوض للعمل، فلا يستحقه العامل بعد أن لم يكن مالكاً للعمل، بل مالكه

ص: 252

المستأجر الأول.

لكن ذلك لا يجري في غير ملكية العمل من موارد الحق الثابت للغير، فلو كان الشخص قد استولي علي عين مملوكة لغيره غصباً، فإن مالكها وإن كان يستحق عليه تسليمها، بحيث له المطالبة بذلك، كما يطالب بالعمل المستأجر عليه وبالشرط الذي أخذه في عقد لازم، إلا أنه لا يملك التسليم المذكور بل يملك العين فقط، ولذا يمكن استحقاقه الفعل بسبب آخر كالشرط، فيتأكد الاستحقاق المذكور، بخلاف الملكية، فإنها تستند للسبب الأول ولا يمكن تأكدها بتعدد السبب. وحينئذٍ فتمليكه لشخص ثالث بالأجرة لا يستلزم اجتماع ملكيتين علي مملوك واحد.

وأظهر من ذلك ما إذا أوجب الفعل تكليفاً من دون استحقاق، كما إذا حلف أن يعطي زيداً ثوباً، فإن الثوب لا يكون مملوكاً لزيد، ولا يستحق أخذه وإن وجب إعطاءه له شرعاً، تبعاً لوجوب الوفاء باليمين، ولذا ليس له المطالبة به، ولا يكون حبسه اعتداء عليه، بل يكون متمحضاً في مخالفة التكليف الشرعي. وكذا الحال في جميع موارد التكليف الشرعي المحض. ومن ثم لا يلزم من تمليك العمل المكلف به للغير بالإجارة اجتماع مالكيتين علي مملوك واحد.

الثالث: ما ذكره هو (قدس سره) أيضاً في شرحه المذكور من أن المستأجر مسلط علي العمل المستأجر عليه، علي نحو سلطنة المالك علي ملكه، فله وجوده وعدمه، وله الإبراء والإقالة والتأجيل، وذلك ممتنع في الواجب، لأنه لابد من حصوله في وقته.

وفيه - مع اختصاصه أيضاً بالتكسب بالإجارة، دون مثل الجعالة -: أن قدرة المستأجر علي العمل المستأجر عليه إنما هي بمعني سلطنته علي المطالبة به وعدمها، وهي ممكنة في الواجب، وليست هي بمعني سلطنته علي إلزام الأجير بالقيام بالعمل وبتركه، لتمتنع في الواجب، لعدم سلطنة أحد علي الإلزام بتركه، إذ لا ريب في عدم سلطنة المستأجر علي إلزام الأجير بترك العمل.

كما أن قدرته علي الإبراء والإقالة إنما تقتضي إسقاط حقه من حيثية الإجارة

ص: 253

بحيث ترتفع ملكيته للعمل، وهو ممكن في الواجب أيضاً وإن لم يسقط من حيثية التكليف من قِبَل الشارع الأقدس.

وأما التأجيل فإنما يكون مسلطاً عليه إذا رضي الأجير ولم يرتفع به موضوع العمل المستأجر عليه، وإلا امتنع التأجيل إلا أن يرجع للإبراء، كما إذا استأجره علي أن يخدم زيداً عند نزوله ضيفاً عنده، فنزل زيد ضيفاً عنده وأذن للأجير في عدم المبادرة لخدمته حتي يسافر.

وفي المقام حيث كان موضوع الإجارة هو العمل المشروع في وقته فالتأجيل فيه إن أخرجه عن كونه مشروعاً لعدم مشروعية قضائه ارتفع به موضوع العمل المستأجر عليه، ويرجع للإبراء الذي تقدم إمكانه في الواجب، وأنه يسقط به حق المستأجر في العمل، وإن لم يسقط التكليف به شرعاً. وإن لم يخرجه التأجيل عن كونه مشروعاً، لمشروعية قضائه فقد ذكرنا أنه ليس له تأجيله إلا برضا المستأجر، وليس له الرضا في المقام بعد فرض وجوب المبادرة للعمل.

الرابع: ما ذكره أيضاً من أنه لابد في صحة الإجارة من قدرة الأجير علي تسليم العمل المستأجر عليه. وكأنه لأن القدرة عليه لا تكون إلا بالقدرة علي فعله وتركه، وذلك لا يتم في الواجب، للزوم حصوله علي كل حال.

وفيه - مع أنه كسابقيه مختص بالتكسب بالإجارة دون مثل الجعالة -: أنه إن أريد بالقدرة علي التسليم القدرة الخارجية فهي حاصلة في المقام، ولولاها لامتنع الوجوب شرعاً. وإن أريد بها التخيير عقلاً بين الفعل والترك الذي يرتفع بالوجوب فاعتباره في الإجارة أول الكلام، وهو عين الدعوي.

ودعوي: أنه مع الوجوب يكون الفعل امتثالاً له راجعاً لله تعالي، لا مسلماً للمستأجر.

مدفوعة بأن رجوعه لله تعالي بلحاظ امتثال أمره به، وتسليمه للمستأجر بلحاظ كونه محققاً لموضوع الإجارة، وهما مختلفان سنخاً، والتنافي بينهما أول الكلام،

ص: 254

ولا ينهض الوجه المتقدم بإثباته.

الخامس: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن العمل إنما يعوض صاحبه بالمال إذا كان مالكاً له، بأن لا يكون مسلوب الاختيار بإيجاب أو تحريم شرعي، لأنه إذا كان واجباً عليه فلا يقدر علي تركه، وإذا كان محرماً فلا يقدر علي فعله، ويعتبر في صحة المعاملة علي العمل كون فعله وتركه تحت سلطنته واختياره.

وفيه: أنه إن أريد بملكيته للعمل الاعتبارية فالحر لا يملك عمل نفسه، وإنما هو مسلط علي تمليكه. نعم لابد في ذلك من عدم كونه مملوكاً عليه، لامتناع اجتماع الملكيتين علي أمر واحد. لكن سبق في جواب الوجه الأول أن وجوب العمل عليه لا يرجع إلي كونه مملوكاً عليه.

وإن أريد بملكيته له سلطنته وقدرته عليه، فالقدرة الخارجية لا ترتفع بالوجوب، واعتبار ما زاد عليها مما يرتفع بالوجوب عين الدعوي، ولا ينهض بإثباته الوجه المذكور. وقد تقدم في دفع الوجه الثالث والرابع ما ينفع في المقام.

السادس: ما ذكره هو أيضاً (قدس سره) من أنه يعتبر في العمل المستأجر عليه أن يقع للمستأجر، ومع فرض عدم قبول العمل للنيابة لا يقع للمستأجر.

وفيه: أنه إن أريد بوقوعه للمستأجر أن يكون امتثالاً للأمر المتوجه إليه، فلا دليل علي اعتباره في الإجارة، بل لا إشكال في عدم اعتباره، ولذا يصح الاستئجار علي الأعمال التي ليست مورداً للامتثال، كالخياطة والنساجة. وإن أريد به أنه يكون مملوكاً للمستأجر فلا دليل علي امتناعه في ما لا يقبل النيابة، غايته أنه يلزم امتثال الأجير بعمل مملوك للمستأجر، ولم يتضح من هذا الوجه امتناع ذلك.

نعم إذا قام الدليل علي اعتبار المجانية في المكلف به فلا إشكال في بطلان الإجارة، كما سبق، وهو خارج عن محل الكلام.

السابع: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن أخذ الأجرة علي الواجب أكل للمال بالباطل، قال (قدس سره): "لأن عمله هذا لا يكون محترماً، لأن استيفاءه منه لا يتوقف

ص: 255

علي طيب نفسه، لأنه يقهر عليه مع عدم طيب النفس والامتناع".

لكن المراد بسقوط حرمة العمل إن كان سقوطه عن المالية. فهو ممنوع، لإناطة المالية بتنافس العقلاء، ولا يمنع منه الوجوب شرعاً مع إمكان المعصية، وإنما يمنع منه وجوب الوجود خارجاً، بحيث لا يمكن التخلف. علي أنه سبق في المسألة الثالثة المنع من اعتبار المالية في المعاوضة.

وإن كان المراد بسقوط حرمة العمل عدم احترامه وإن كان مالاً، فهو مال مهدور نظير آلات اللهو والأصنام والصلبان ونحوها مما لا حرمة لها، حيث يجوز، بل قد يجب إتلافها ولو بتغيير هيئتها من دون ضمان.

ففيه: أن القهر عليه مع عدم طيب نفسه إنما هو بمعني إلزام الشارع به تكليفاً أو بمعني جواز قهر الغير له عليه لو امتنع منه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلا الأمرين لا يقتضي سقوط حرمته بالمعني المذكور.

نعم ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في تقريب كونه من أكل المال بالباطل يبتني علي كون المراد به أكله في مقابل ما لا مالية له أو ما لا حرمة له، وقد سبق في أواخر المسألة الرابعة المنع من ذلك، وتقريب كون المراد به أكله بالأسباب والوجوه المستنكرة. وحينئذٍ فالظاهر صدقه في المقام، لأن وجوب الشيء شرعاً يوجب ارتكازاً استنكار أكل المال في مقابله، كما يشهد به أدني تأمل في المرتكزات.

بل لا يختص الأمر بالوجوب الشرعي، وإنما يعم كل تكليف يلزم امتثاله، فإن لزوم الفعل علي الإنسان يوجب ارتكازاً استنكاراً أكل المال في مقابله، بحيث يكون المال مأكولاً بالباطل.

غايته أن لزوم امتثال التكليف يختلف باختلاف الأعراف والأنظار، فكل آمر يري لنفسه الحق في الأمر والإلزام يستنكر أكل المال في مقابل ما يلزم به شارعاً كان أو سلطاناً أو غيرهما. كما أن كل شخص يري لزوم امتثال أمر أي شخص يري استنكار أكل المال في مقابل ما يأمر به ذلك الشخص، والاختلاف في ذلك لا يكون

ص: 256

إلا للاختلاف في لزوم امتثال الأمر، فالشارع الأقدس حيث لا يري لزوم امتثال أمر السلطان الجائر لا يستنكر التكسب بما يأمر به. كما أن العرف، إذا لم يدرك لزوم امتثال الأمر الشرعي لا يستنكر التكسب بما يأمر به.

ولذا لا يظن بأحد التوقف في حرمة أكل المال في مقابل تسليم الأعيان المملوكة لأصحابها، أو في مقابل وفاء الديون التي انشغلت بها الذمم، مع أنه سبق في جواب الوجه الأول أن المملوك للغير هو الأعيان الخارجية أو الذمية بنفسها، وليس تسليمها إلا واجباً تكليفاً، لمنافاته لسلطنتهم عليها.

وكذا الحال في بقية الواجبات التوصلية كالإنفاق علي من يجب الإنفاق عليه، وتجنب عقوق الوالدين وقطيعة الرحم، ورد السلام، والوفاء باليمين والعهد حتي لو تعلق بالغير كما لو حلف أو عاهد الله تعالي أن يعطي زيداً ديناراً، حيث لا مجال لدعوي استحقاق زيد علي الحالف أو المعاهد شيئاً، فضلاً عن ملكيته له. كما لا مجال لدعوي ملكية الله تعالي العمل فيهما، وإن قيل بذلك في النذر. ومع ذلك لا مجال لأخذ المال في مقابل ذلك. وأظهر من ذلك الواجبات التعبدية كالصلاة والصيام والحج وغيرها.

وأما ما يظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره من أن امتناع التكسب بالواجبات المذكورة إنما هو لثبوت عدم مشروعيتها إلا إذا أتي بها المكلف بها عن نفسه مجاناً.

فيندفع بأنه لا منشأ لثبوت عدم مشروعيتها حينئذٍ بعد إطلاق أدلتها، إلا ما ذكرنا من استنكار التكسب بها ارتكازاً بعد وجوبها، الموجب لكون أكل المال في مقابلها أكلاً له بالباطل. ولذا لا يتوقف المتشرعة بمرتكزاتهم من منع التكسب بالواجبات التعبدية وغيرها علي ثبوت عدم مشروعية التكسب بها من دليل خاص.

إن قلت: لو كان المنع من التكسب بالواجبات لوجوبها لاختص المنع بها، ولم يجر في المستحبات، كالنوافل الرواتب، مع أنه لا إشكال في عدم جواز التكسب بها أيضاً. وما ذلك إلا لكون منشأ المنع من التكسب أمراً آخر غير الوجوب،

ص: 257

وهو عدم مشروعية الفعل إلا إذا وقع مجاناً، حيث يمكن أن يحرز ذلك الواجب والمستحب معاً.

قلت: كما يمنع الوجوب ارتكازاً من التكسب بالواجب، كذلك يمنع قصد الامتثال بالفعل من التكسب به، من دون فرق بين كون الآمر هو الشارع وغيره، فكل مأمور بشيء من قبل الشارع أو السلطان أو الأب أو غيرهم لا يستطيع الإتيان به امتثالاً للأمر - بحيث يكون فعله محسوباً علي الآمر، ومتقرباً به إليه - إذا كان قد أتي به متكسباً به بإجارة أو جعالة أو غيرهما، بحيث يكون العمل لباذل المال، وفي مقابل ماله.

إن قلت: إن كان المنع بسبب منافاة قصد أخذ الأجرة للتقرب المعتبر في العبادة فمن المعلوم أن قصد الدواعي غير القربية إنما ينافي التقرب المعتبر في العبادة إذا لم يكن الداعي القربي صالحاً للداعوية استقلالاً، أما مع صلوحه للداعوية استقلالاً فانضمام غيره من القصود لا يمنع من مقربيته بالنحو المعتبر فيها.

مضافاً إلي أن التكسب بالعمل إنما يتوقف علي قصد أخذ الأجرة عليه، إذا كان موضوع التكسب هو العمل الكلي - كما في الجعالة وبعض أقسام الإجارة - حيث لا ينطبق علي فعل المكلف الخارجي الذي يكون مورداً للتقرب إلا إذا جاء به بقصد تحقيق العمل الكلي المذكور المستلزم لنية استحقاق الأجرة به. بخلاف ما إذا كان موضوع الإجارة هو عمل المكلف الخارجي، كما لو استأجره علي أن تكون له منفعته يوم الجمعة، فإن المستأجر عليه ينطبق علي فعل المكلف حينئذٍ قهراً عليه ولو لم ينو به الوفاء بالإجارة واستحقاق الأجرة.

قلت: مانعية التكسب من قصد الامتثال والتقرب ليست بلحاظ مانعية قصد الأجرة من التقرب، ليجري ما سبق، فإن ذلك لا يختص بالأجرة التي هي محل الكلام، بل يجري في كل نفع يترتب علي العمل ويصلح أن يكون داعياً له، كما لو علم المتقرب بأن شخصاً ما سوف يدفع له جائزة علي عمله تشجيعاً له من دون أن تكون

ص: 258

أجرة له أوعوضاً عنه.

وإنما تبتني مانعية التكسب بالعمل من التقرب به علي أن موضوع الامتثال والتقرب هو العمل الذي يؤتي به لأجل الآمر الذي يتقرب به بامتثال أمره، وهذا المعني لا يتحقق ارتكازاً في العمل المقابل بالمال الذي يكون مملوكاً لباذل المال بمثل الإجارة، أو ماتياً به له في قبال ماله في مثل الجعالة، لإباء المرتكزات العرفية من التقرب والامتثال بالعمل الذي يقع لغير المتقرب له الذي يراد امتثال أمره.

فكما يمكن للمكلف التقرب بعمل غيره إذا وقع له بإجارة أو تبرع فيما يقبل النيابة كذلك ليس له التقرب بعمل نفسه إذا لم يقع له، بل وقع لغيره بإجارة أو جعالة.

وأدني تأمل في المرتكزات العرفية يوجب وضوح ذلك. ولذا لا يتوقف العرف ولا المتشرعة في امتناع التكسب بالعبادات الواجبة أو المستحبة من دون حاجة إلي ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من قيام الدليل الخاص علي عدم مشروعية العبادة إلا إذا وقعت مجاناً. وإلا فلا منشأ للبناء علي ذلك غير الارتكاز المذكور، علي ما أشرنا إليه آنفاً.

وبالجملة: في المقام كبريان: الأولي: التكسب بالواجب. الثانية: امتناع التقرب بما يتكسب به، بحيث يقع العمل المتقرب به لباذل المال في مقابل ماله. ومحل الكلام فعلاً الأول، والثاني يذكر تبعاً. وينفرد الأول في الواجبات التوصلية، والثاني في المستحبات التعبدية، ويجتمعان في العبادات الواجبة، فيتأكد فيها المنع من التكسب بها.

وربما ترجع الكبريان إلي أمر واحد. وهو أن أمر المكلف بالعمل إلزامياً كان أو استحبابياً يقتضي إتيانه بنحو يقع امتثالاً منه للأمر، لا بمعني قصد ذلك منه، ليختص بالأمر التعبدي، بل بمعني مجرد القيام بمقتضي الأمر وموافقته، وذلك يقتضي عدم وقوع العمل منه للغير، لأن ما يقع من عمل الإنسان لغيره - بإجارة أو جعالة أو تبرع

ص: 259

لا يقع امتثالاً منه، بل يمكن أن يقع امتثالاً لأمر ذلك الغير إذا كان مما يقبل النيابة.

وحينئذٍ إذا كان الخطاب إلزامياً لازم الامتثال فهو يستلزم امتناع أخذ الأجرة علي العمل وإن كان توصلياً، لأن لزوم امتثاله بصرف الوجود يمنع من وقوع صرف الوجود للغير بإجارة أو جعالة أو تبرع، وإذا لم يقع للغير كان أكل المال في مقابله أكلاً له بالباطل، لعدم وقوع العمل المقابل بالمال لباذل المال، وعدم تحقق مضمون المعاملة.

أما إذا لم يكن الخطاب إلزامياً فهو في نفسه لا يمنع من مقابلة العمل بالمال بعد عدم لزوم ما يقتضيه من الامتثال. وحينئذٍ إن كان العمل توصلياً لا يتوقف مشروعيته علي قصد امتثال أمره، صح التكسب به ولم يكن أكل المال في مقابله أكلاً له بالباطل.

ولو فرض قصد الامتثال به كان القصد المذكور منافياً للتكسب به، لما سبق من امتناع امتثال المكلف بعمله إذا وقع لغيره بإجارة، أو جعالة، أو تبرع.

وحينئذٍ إن كان التكسب بالعمل موقوفاً علي قصد إيقاعه للغير حين وقوعه، كما في مورد الجعالة، وفي الإجارة إذا كان موضوعها العمل الكلي، تعين التنافي بين القصدين، فإن كان أحدهما أصلياً دون الآخر كان الآخر لاغياً، وإن كانا معاً أصليين تعين ترتب عدم الأثر عليهما معاً.

وإن لم يكن التكسب بالعمل موقوفاً علي قصد إيقاعه للغير حين وقوعه، كما إذا كان موضوع الإجارة هو عمل المكلف الخارجي، بأن استؤجر علي أن تكون منفعته يوم الجمعة مثلاً للمؤجر، تعين تحقق التكسب بالعمل، ولغا قصد الامتثال ولم يترتب عليه الأثر.

أما إذا كان تعبدياً لا يشرع إلا مع قصد التقرب فالمتعين امتناع التكسب به، لأن التكسب ليس بصورة العمل، بل بالعمل المشروع، وعدم وقوع العمل مشروعاً إلا بقصد التقرب مستلزم لامتناع التكسب به بعد ما سبق من امتناع تقرب المكلف

ص: 260

بعمل نفسه وامتثاله به إذا وقع لغيره.

ومنه يظهر امتناع التكسب بالتوصلي أيضاً إذا أخذ في موضوع التكسب تقرب صاحب العمل به، بحيث يكون التقرب وقصد الامتثال من الفاعل شرطاً في العمل المقابل بالمال، لأن الشرط المذكور ينافي التكسب بالعمل ووقوعه لباذل المال.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل بعد الرجوع للمرتكزات في امتناع التكسب بالواجب، وبما يؤتي به بداعي امتثال الأمر واجباً كان أو مستحباً، من دون حاجة إلي ثبوت كون العمل مما لا يشرع فيه التكسب من دليل آخر. بل لا طريق لثبوت ذلك في العمل غير وجوبه أو كونه عبادياً، كما ذكرنا. فإن تمّ توجيهه بما سبق، وإرجاع الكبريين المذكورتين معاً إليه فهو، وإلا كفت المرتكزات في الدليل عليهما، بنحو يري العرف صدق أكل المال بالباطل علي التكسب فيها معاً. فلاحظ. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

بقي في المقام أمور:

الأمر الأول:

أن هذا الوجه يختص بالعمل الذي يقع من الأجير ونحوه امتثالاً لأمره الإلزامي والذي يقصد به امتثال أمره وإن لم يكن إلزامياً، سواءً كان الأمر عينياً أم كفائياً.

أما إذا كان امتثالاً لأمر غيره فيما يقبل النيابة فلا محذور من التكسب بالعمل بعد كون المتمثل بالعمل غير الأجير، وهو باذل المال أو من تبرع عنه الباذل. وذلك في العيني ظاهر.

أما في الكفائي فكذلك بناءً علي رجوعه إلي تكليف كل واحد بصدور الفعل منه مع سقوط التكليف عن الكل بفعل أحدهم، حيث لابد فيه من الامتثال من أحدهم، وهو لا يكون مع وقوع فعله مملوكاً للغير إلا مع إمكان النيابة، إذ لا يكون الممتثل حينئذٍ هو الفاعل المباشر، بل باذل المال في مقابله أو من تبرع عنه.

لكن ذكرنا في الأصول أن الأمر الكفائي لا يرجع إلي ذلك، بل إلي أمر الكل

ص: 261

بالماهية بنحو يكتفي بصرف الوجود. ولذا يجب علي العاجز عن الفعل بالمباشرة السعي لحصوله من غيره، مع أنه لو كان مكلفاً بفعل نفسه لم يكن لإلزامه بذلك وجه بعد سقوط التكليف عنه بالعجز، فوجوب ذلك عليه كاشف عن أن المكلف به مطلق الفعل ولو من غيره المفروض قدرته عليه بتهيئة مقدماته.

وحينئذٍ قد يشكل الأمر في الواجب الكفائي، بدعوي: أن وجوب صرف الوجود علي الكل يمنع الكل من أخذ الأجر عليه وتكسبه به. وأما انتسابه مع أخذ الأجر عليه لغير المباشر بحيث يكون هو المتمثل به دون المباشر. فهو لا يخرجه عن صرف الوجود الواجب علي المباشر، فالمباشر لا يأخذ الأجرة علي ما هو الواجب علي باذل الأجرة أو من تبرع عنه فقط، بل علي ما هو الواجب عليه أيضاً، فيكون أكله للمال في مقابله أكلاً له بالباطل.

لكنه يندفع بأن الواجب علي المباشر وإن كان هو صرف الوجود، إلا أن إيقاع صرف الوجود عن الغير أمر زائد علي الوجوب، فلا مانع من أخذ الأجرة عليه. نظير ما إذا استؤجر المكلف علي أن يصلي الفريضة في مكان خاص، أو بنحو خاص.

بل قد يتجه أخذ الأجرة علي الواجب الكفائي حتي إذا لم يحرز كونه قابلاً للاستنابة لأن كثيراً من الواجبات الكفائية لا يعتبر صدورها من ممتثل، حيث يكفي صدورها من غير المكلفين - كالأطفال والمجانين - ولو بالاشتراك معهم. بل حتي الحيوانات، كما لو توقف تطهير المسجد مثلاً علي فتح بابه ليدخل له ماء المطر منها، أو رفع الظلال عنه ليصيبه المطر أو الشمس وأمكن تهيئة ذلك للحيوان ليستقل به من دون أن يستند الفعل للمكلفين.

وحينئذٍ ففعل الأجير وإن لم يقع امتثالاً له، لأنه مملوك للأجير، ولا امتثالاً للأجير، لعدم إحراز قابليته للاستنابة، إلا أنه يجزي عن الواجب. ويجوز أخذ الأجرة عليه، لأنه فرد خاص من صرف الوجود لا يجب علي الأجير إيقاعه.

ومن ذلك يظهر أن جواز أخذ الأجرة علي الواجب الكفائي إنما يتوقف علي

ص: 262

ثبوت قابلية الواجب للنيابة فيما إذا كان اللازم فيه إيقاعه من ممتثل، كصلاة الميت، فإنه إذا لم تشرع النيابة فيه لا يجوز أخذ الأجرة عليه، حيث لا يكون المباشر له ممتثلاً لكون عمله مملوكاً لدافع الأجرة، ولا يكون دافع الأجرة به ممتثلاً لعدم قابليته للنيابة.

لكنه يحتاج إلي عناية يصعب إثباتها في كثير من الواجبات الكفائية. ولعله لذا خص بعضهم امتناع التكسب بالواجب العيني دون الكفائي. وإن كانت كلماتهم في المسألة ومبانيها في غاية الغموض والاضطراب. والله سبحانه وتعالي ولي التوفيق والتسديد.

الأمر الثاني:

قد اشتهر في كلامهم النقض علي المنع من التكسب بالواجبات بأن لازمه حرمة أخذ الأجرة علي الصناعات الواجبة كفاية، مع وضوح جواز أخذ الأجرة عليها.

ولا مجال للجواب عن ذلك بخروجها بالإجماع والسيرة، فإنهما وإن نهضا بإثبات جواز أخذ الأجرة علي الصناعات، بنحو لا مجال معه لاحتمال المنع تشبثاً بشيء من الوجوه المتقدمة، بل تكون كالشبهة في مقابل البديهة، إلا أنهما إنما ينفعان في دفع النقض المتقدم لو كان امتناع أخذ الأجرة علي الواجبات مستفاداً من الإجماع أو من عموم لفظي، حيث يرجع الإجماع والسيرة المذكوران إلي قصور الإجماع المدعي علي المنع عن الواجبات المذكورة، كما يصلحان لتخصيص العموم اللفظي المذكور لو كان.

أما حيث كان المنع لوجه عقلي راجع إلي منافاة الوجوب للتكسب فالإجماع والسيرة لو تما يكشفان عن خلل في ذلك الوجه يمنع من التمسك به في غير موردهما. إلا أن يدعي قصور وجه المنع عن موردهما موضوعاً، فلا يكشفان عن خلل فيه، وهو ما ينبغي البحث عنه هنا. وقد يذكر في تقريب ذلك وجوه:

الوجه الأول: ما عن المحقق الثاني (قدس سره) من اختصاص جواز الأخذ بصورة قيام من به الكفاية، فلا يكون واجباً حينئذٍ.

ص: 263

وفيه: أولاً: أن قيام من به الكفاية لا يرفع وجوبه الكفائي، لأن الوجوب المذكور مستمر باستمرار الحاجة. وقيام العدد الكافي به في الزمان الأول لا ينافي تكليف الباقين به معهم في الزمان الثاني، حيث لا مرجح للأولين بعد اشتراك الكل في صلوحهم لسدّ الحاجة.

وثانياً: أنه لا ينبغي التأمل في أن مقتضي الفتوي والعمل جواز أخذ الأجرة حتي للأولين الذين تمت بهم الكفاية، بل حتي مع الوجوب العيني، لانحصار مقدار سدّ الحاجة بفرد أو جماعة مخصوصين، كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره).

الوجه الثاني: أن المنع عن أخذ الأجرة علي الصناعات الواجبة لإقامة النظام موجب لاختلال النظام، لأن تحديد مقدار الحاجة إنما يكون عن طريق الأجر، حيث يبذل الناس الأجر بإزاء ما يحتاجون إليه، دون ما يستغنون عنه. كما أنه لولاه لما تعلم الناس الصناعات ولا أتقنوها. ولاسيما مع صعوبة كثير منها، ولو لكونه خسيساً مبتذلاً.

وفيه: أن ذلك وإن نهض بإثبات مشروعية أخذ الأجرة علي الصناعات، بل لزوم مشروعية ذلك، إلا أنه لا ينهض بدفع محذور جواز أخذ الأجرة علي الواجبات، بنحو يخرج الصناعات عن كبري امتناع أخذ الأجرة عليها موضوعاً، بل غاية الأمر التنافي بين المحذورين العقليين في الصناعات، بنحو يكشف عن خلل في أحدهما أو كليهما، ويبقي السؤال عما يرفع التنافي المذكور.

اللهم إلا أن يرجع هذا الوجه إلي أن الواجب لحفظ النظام هو التكسب بالعمل، لا مطلق بذله، فيخرج عن كبري المنع المتقدمة، لأن موضوعها التكسب بالعمل الواجب، لا التكسب الواجب.

لكنه يشكل بأن الوجه المذكور لا يقتضي الإلزام بالتكسب، بل عدم المنع منه، لما هو الظاهر من أن النظام كما يحفظ ببذل العمل علي نحو التكسب يحفظ ببذله مجاناً، فهو يتوقف علي مجرد بذل العمل، وحينئذٍ يعود الإشكال في جواز التكسب به.

الوجه الثالث: ما يظهر من كاشف الغطاء (قدس سره) في شرحه علي القواعد من أن

ص: 264

وجوب الصناعات المذكورة مشروط ببذل العوض بإجارة أو جعالة أو نحوهما، فهي قبل بذل العوض ليس واجبة، لتدخل في كبري المنع من أخذ الأجرة علي الواجب.

ويشكل بعدم وضوح الوجه في هذا التقييد، إذ بعد وجوب حفظ النظام مطلقاً، والاكتفاء في حفظ النظام بمطلق العمل مجاناً أو بعوض، فما هو الوجه في تقييد وجوب العمل ببذل العوض ؟! كيف ولازم ذلك عدم وجوب التهيؤ للعمل بتعلمه وإتقانه، والاستعداد لبذله قبل بذل العوض له، لعدم وجوب تهيئة مقدمات الواجب بعد عدم فعلية وجوبه، لعدم وجود شرطه، ولا مجال للبناء علي ذلك.

علي أن الإشكال لا يختص بالصناعات، بل يجري نظيره في موارد وجوب العمل لضرورة، كحفظ النفس أو نحوه، حيث لا إشكال في وجوب ما يدفع الضرورة - كالتطبيب - مع امتناع من له العمل من بذل العوض، أو عجزه عن البذل، لإغماء ونحوه، ومع ذلك له العمل بنية الرجوع بالعوض. ومرجعه التكسب بما هو واجب فعلاً. وما يدفع به الإشكال في ذلك يدفع به الإشكال في الصناعات الواجبة لحفظ النظام من دون حاجة للتشبث بدعوي: أن وجوبها مشروط ببذل العوض.

الوجه الرابع: أن ملاك الوجوب في الصناعات المذكورة لما كان هو حفظ النظام ولم يكن حفظ النظام موقوفاً علي المجانية تعين جواز أخذ الأجرة علي العمل، لوفائه مع أخذ الأجرة بالملاك المقتضي للوجوب، ولا وجه للتقييد بالمجانية بعد عموم الملاك.

وفيه: أنه لما كان المفروض مانعية الوجوب من أخذ الأجرة فلا أثر لعموم ملاك الوجوب في جواز أخذ الأجرة. وإلا فكما يحرز عموم ملاك الواجب في الصناعات المذكورة لصورة أخذ الأجرة، بلحاظ عدم توقف حفظ النظام علي المجانية، كذلك يمكن إحراز عموم الملاك في سائر الواجبات لصورة أخذ الأجرة من إطلاق أدلة الواجبات بعد فرض عدم قيام الدليل من الخارج علي تقييدها بالمجانية.

الوجه الخامس: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن النظام يتوقف علي بذل العمل، لا علي نفس العمل. وحينئذٍ لا مانع من أخذ الأجرة علي العمل نفسه بعد

ص: 265

عدم وجوبه.

لكن المراد ببذل العمل إن كان هو الحضور النفسي له، فلا أثر له في حفظ النظام، بل يكفي في حفظه تحقق العمل ولو كرها، بل وإن كان من الآلات الصامتة. وإن كان المراد به المعني المصدري المقابل للمعني الاسم المصدري الذي هو نتيجة العمل - كما قد يظهر من كلامه علي غموض فيه - فالتفريق بينهما - بكون الواجب الأول والمقابل بالمال الثاني - غير ظاهر الوجه. ولاسيما وأن الفرق بينهما أشبه بالفرق الاعتباري، حيث يصعب تفريق العرف بينهما، بحيث يكون الواجب بنظره أحدهما والمقابل بالمال الثاني. وخصوصاً مع ما سبق في جواب الوجه الرابع من عدم انحصار الإشكال بالصناعات، بل يجري فيما يجب للضرورة، كحفظ النفس، مع عدم الإشكال ظاهراً في أن الواجب فيه هو المقابل بالمال.

وهناك بعض الوجوه الأُخري مذكورة في كلماتهم قد لا يحسن صرف الوقت في التعرض لها بعد ظهور ضعفها، ولاسيما بملاحظة ما سبق.

فالعمدة في المقام: أن الإشكال المذكور يهون بناءً علي ما سبق من قصور وجه المنع من أخذ الأجرة عن الواجب الكفائي إذا لم يؤخذ فيه كون العمل منسوباً للمكلف، بحيث يكون هو المتمثل به. لوضوح أنه لا يعتبر في حفظ النظام بالصناعات صدورها بالنحو المذكور، بل يكفي صدورها بأي وجه اتفق، بل حتي من الآلات الصامتة، كما سبق، حيث لا مانع حينئذٍ من كون العمل مملوكاً لغير الفاعل المباشر بحيث لا يكون هو المتمثل به، غايته أنه مكلف بحصول العمل في الجملة كما يكلف بذلك غيره ممن يستطيع السعي له بوجه ما.

ولو غض النظر عن ذلك أمكن دعوي قابلية امتثال التكليف المذكور للنيابة، بحيث يكون العمل مملوكاً لغير المباشر، لأن ملاكه لا يقتضي المنع من النيابة بعد تحقق حفظ النظام بالصناعات المذكورة معها.

فهو نظير وجوب تطهير المسجد الذي يتحقق بفعل الشخص عن نفسه وعن

ص: 266

غيره، حيث لا مجال مع ذلك للبناء علي عدم جواز التكسب به لو أراد غير المباشر أن يقوم به بتوسط المباشر، بأن يستأجره علي تطهيره، فيأتي له به ويكون امتثالاً عنه. وليس هو كأمر الصلاة مثلاً الذي يظهر من أدلته اعتبار كون المصلي مصلياً لنفسه ممتثلاً الأمر المتوجه إليه، لا ممتثلاً لأمر غيره.

وبذلك يظهر أن ما وجب للضرورة، كحفظ النفس لا مانع من التكسب به أيضاً وإن انحصر بشخص واحد، لأن انحصاره به لا يقتضي تكليفه به عينياً بنحو يكون العمل له ويكون هو المتمثل به، بل يقتضي تكليفه به عيناً في الجملة، بمعني التكليف بمباشرته، إما عنه أو عن غيره، مع تكليف الكل كفائياً بالسعي لحصوله من طريق المباشر، ولو بأن يملكوه عليه، فيأتي به عنهم.

ولعل ذلك هو منشأ المرتكزات القاضية - كما سبق - بالمنع من التكسب بالواجب الذي يبتني علي كون المباشر متمثلاً به، وبالعمل العبادي الذي يكون المباشر متمثلاً به أيضاً وإن كان مستحباً، من دون أن تمنع تلك المرتكزات من التكسب بالصناعات ونحوها مما وجب لحفظ النظام أو غيره من الضرورات ولو مع الانحصار، حتي سبق جواز التكسب بها بالإجماع والسيرة، اللذين لا مجال لحصولهما لو كانت المرتكزات آبية عن التكسب به، كما لعله ظاهر.

الأمر الثالث:

اشرنا آنفاً إلي إمكان التكسب بالواجب والعبادة في موارد مشروعية النيابة. والمناسب التعرض تبعاً لذلك إلي حقيقة النيابة وأحكامها. وذلك بالكلام في جهات ثلاث.

الجهة الأولي: لا ينبغي للتأمل في أن ظاهر أمر المكلف بشيء لزوم مباشرته له بنفسه، وعدم الاجتزاء بفعل غيره بدلاً عنه. إلا أنه كثيراً ما يقتضي ملاك الأمر عموم المأمور به لفعل الغير بدلاً عن المأمور، بحيث يقع العمل له وفي حسابه امتثالاً للأمر المتوجه له، إما لملكية المأمور لعمل الغير بإجارة ونحوها، أو لكونه في مقابل ما يبذله من المال في مثل الجعالة، أو لوقوعه له تبرعاً من المباشر، حيث يتعين حينئذٍ الاجتزاء

ص: 267

بفعل الغير بدلاً عن المأمور في امتثال أمره وسقوطه وتفريغ ذمته من المأمور به.

بل لا إشكال فيه في الجملة في مثل الأمر بأداء الأمانة وقضاء الدين والإنفاق علي من تجب نفقته وإعانة المؤمنين وبناء المسجد وغيرها. كما دلت عليه الأدلة الخاصة في مثل الصلاة والصيام والحج وغيرها من وجوه البر.

ولا وجه مع ذلك لتوهم رجوع النيابة إلي إهداء ثواب العمل للغير بعد وقوعه للمباشر وامتثاله لأمره به وحصول ثوابه له بدواً. بل لا ريب في عدم ابتنائها علي ذلك، بل علي امتثال أمر المنوب عنه بفعل النائب في الأمثلة المتقدمة.

إن قلت: إنما يمكن امتثال الأمر بفعل الغير إذا كان يستند للمأمور بذلك الأمر بتسبيبه له بالأمر به أو التوكيل فيه أو الإجارة عليه، أما إذا لم يستند إليه فلا معني لامتثال أمره به بعد كونه أجنبياً عنه، كما في النيابة التبرعية، أو بالإجارة أو الأمر غير الصادرين عن المأمور، كما في الإجارة عن الميت أو نحوه ممن لا يستند إليه فعل المباشر ولو بالتسبيب. ولاسيما مع أن الأمر قد يسقط بتعذر الفعل في حق المأمور أو بموته أو نحو ذلك.

قلت: لا يراد بامتثال أمر المكلف بفعل الغير إلا قيام الغير بفعل المأمور به وأدائه عن المكلف، بحيث يكون فراغ ذمة المكلف معه بملاك تحقق المأمور به وأدائه، لا بملاك ارتفاع موضوع الأمر أو شرطه. ومن الظاهر تحقق ذلك في جميع موارد النيابة، ومنها مثلاً التبرع بوفاء دين الغير حياً كان أو ميتاً من دون تسبيب منه، فإنه ليس كسقوطه عن ذمته بالإبراء، أو سقوط وجوب أدائه بخروج الدائن الذمي عن الذمة.

كما يكفي في إمكان النيابة عن الغير، بحيث يكون الفعل له ثبوت ملاك الأمر في حقه وإن لم يتوجه له الأمر أصلاً ولم تنشغل ذمته بالمأمور به لعجزه عن القيام به أو موته، وعلي ذلك تتجه النيابة عن الأموات في وجوه البر الحادثة بعد موتهم، وعن الأحياء فيما لا يطيقونه.

ص: 268

فإن النيابة في الجميع علي نهج واحد، ومرجعها إلي أداء العمل عن الغير بعد فرض مشروعيته منه وثبوت ملاكه في حقه. ويكون ثبوت الثواب للمنوب عنه بملاك الجزاء له علي العمل المذكور، كالثواب المترتب علي عمله بالمباشرة، وليس كالتفضل من المولي بالثواب ابتداء، أو بعد إهداء الثواب من الغير له علي عمل قد عمله ذلك الغير لنفسه واستحق ثوابه.

الجهة الثانية: ربما يستشكل في النيابة في العبادات المعتبر فيها التقرب من المتمثل، بدعوي: أن التقرب المعنوي كالتقرب الخارجي لا يقبل النيابة، فيمتنع قصد النائب تقرب المنوب عنه أو التقرب بأمره، كما يمتنع تقرب المنوب عنه بفعل النائب.

ومن ثم ذهب بعض مشايخنا (قدس سره) - وربما يستفاد من غيره - إلي أن النائب هو المتقرب بالعمل، بلحاظ أن الأمر ألاستحبابي متوجه إلي جميع الناس بالنيابة في العبادة عن الميت - بل الحي في بعض الموارد - وقد يجب بالإجارة. ولا شبهة في أن الأمر المذكور بالنيابة - استحبابياً كان أو وجوبياً - عبادي يعتبر في امتثاله الإخلاص والتقرب. فالنائب عن الغير في الإتيان بعبادته يتقرب بالأمر بالنيابة المتوجه له، لا بالأمر بالعبادة المتوجه للمنوب عنه.

لكن ذلك في غاية الإشكال: أولاً: لأن الأمر بالنيابة ليس عبادياً، بل هو توصلي، ولذا يترتب الأثر علي النيابة مع غفلة النائب عن استحباب النيابة، وعدم قصده التقرب بها، بل كان قصده منها نفع المنوب عنه حبّاً له، أو وفاء بالالتزام بالنيابة بمثل الإجارة، التي لا إشكال في أن وجوب الوفاء بها توصلي، كوجوب الوفاء بالدين.

غاية الأمر أن هذا الأمر التوصلي يمكن التقرب به، كما في سائر الأوامر التوصلية. إلا أنه لا إشكال في عدم توقف صحة النيابة في العبادة علي التقرب به، فإن كثيراً من الناس إنما يهمهم من النيابة نفع من ينوبون عنه، أو التخلص من تبعة الالتزام بالنيابة عنه بإجارة أو نحوها، من دون علم أو اهتمام باستحباب النيابة. كيف وكثير

ص: 269

من الناس لا يعلمون باستحباب النيابة في العبادات وترتب الثواب عليها للنائب.

بل لا إشكال في إمكان مشروعية النيابة في العبادة من دون أن تكون مستحبة، ليمكن التقرب بأمرها. ولعل منه ما في صحيح وهب بن عبد ربه: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): أيحج الرجل عن الناصب. فقال: لا. قلت: فإن كان أبي. قال: إن كان أباك فنعم [فحج عنه]"(1) ، حيث يصعب إثبات استحباب الحج عن الأب الناصب ولاسيما مع إطلاق النهي في بعض النصوص عن النيابة في الحج عن الناصب(2) ، ولا يظهر من الصحيح أكثر من مشروعيتها.

وثانياً: لأن فراغ ذمة المنوب عنه بفعل النائب إنما هو من أجل إتيانه بما انشغلت به ذمته، بل سبق تقوم مفهوم النيابة بقيام النائب بما هو مشروع في حق المنوب عنه، ولو بلحاظ ثبوت الملاك في حقه، والمفروض أن الثابت في حق المنوب عنه هو العبادة التي يشترط فيها التقرب بامتثال أمرها أو موافقة ملاك محبوبيتها، فإذا لم يقصد النائب ذلك لم يتحقق شرط العبادة، فلا مجال لصحتها وفراغ ذمة المنوب عنه بها. والتزام فراغ ذمته بها تعبداً وإن لم تكن واجدة للشرط، بل كانت مباينة لما انشغلت به الذمة، مما تأباه المرتكزات جداً، بل هو لا يناسب مفهوم النيابة ووظيفة النائب عرفاً.

ومن ثم لا يتم ما ذكره (قدس سره). ولابد من البناء علي مقربية عمل النائب للمنوب عنه بلحاظ قصده امتثال أمره وتحقيق ما انشغلت به ذمته.

وبذلك يظهر وهن ما سبق من دعوي امتناع مقربية عمل النائب للمنوب عنه، قياساً علي القرب المكاني. فإن أدلة النيابة في العبادات قاضية بإمكانه، وكما يرجع للشارع الأقدس في أصل اعتبار التقرب في العبادة يرجع له في كيفية التقرب وخصوصياته سعة وضيقاً.

ولاسيما مع ثبوت ذلك عرفاً في الجملة، حيث يشيع عند العرف إرسال الشخص ممثلاً عنه في بعض مظاهر التكريم للآخرين المبنية علي التقرب منهم،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 20 من أبواب النيابة في الحج حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 20 من أبواب النيابة في الحج حديث: 1، 2.

ص: 270

كالتسليم والزيارة ونحوهما، بحيث يقصد الممثل القيام مقام من يمثله في ذلك والأداء عنه.

بل قد يتبرع شخص عن آخر من دون طلب منه في التسليم علي من يحبه أو الزيارة له أو نحوهما من مظاهر التكريم، بحيث يعد عرفاً مؤدياً عنه ويجزيه في الجملة. ولا مجال مع ذلك للخروج عن ظاهر أدلة النيابة.

الجهة الثالثة: ربما يستشكل في التكسب بالنيابة بالعبادة - بنحو الإجارة أو الجعالة أو نحوهما - فيما إذا لم ينهض الداعي القربي بالداعوية استقلالاً، لضعفه في نفس النائب، بحيث لولا ترتب الأجر لم يأت بالعمل العبادي، كما هو الغالب من حال المتكسبين في المقام وسائر موارد التكسب. لما هو المعلوم من أنه يعتبر في العبادة كون الداعي القربي من القوة في نفس العامل بحيث يصلح للداعوية استقلالاً.

وقد يدفع الإشكال المذكور بوجوه:

أولها: أن الإشكال إنما يتوجه فيما إذا كان الداعي القربي في عرض الداعي غير القربي، كالوضوء بقصد القربة والتنظيف. أما إذا كان في طوله فلا محذور من عدم استقلاليته في الداعوية، كما في الإتيان بالعبادات بداعي آثارها وفوائدها الدنيوية - كسعة الرزق والشفاء من المرض وغيرهما - والأخروية - كالأمن من العقاب والفوز بجزيل الثواب - حيث لا إشكال في صحة العبادة حينئذٍ وإن لم يصلح الداعي القربي بنفسه للداعوية لولا الفوائد المذكورة المترتبة عليه.

ونظيره ما نحن فيه، لأن استحقاق الأجر إنما يتم مع الإتيان بالعبادة علي الوجه الصحيح وبالداعي القربي، فيكون الإتيان بها بداعي الأجرة داعياً للإتيان بها بالداعي القربي، ويكون الداعي القربي مقصوداً في طول داعي استحقاق الأجرة، لا في عرضه.

وفيه: أن داعي الداعي هو الداعي الحقيقي، وما يقع في طوله من الدواعي فإنٍ فيه لا أثر له معه إلا إذا كان بنحو يستقل بالداعوية. فإذا أمر الأب ابنه بتنفيذ أوامر

ص: 271

جاره والاستجابة لطلبه، فإذا استجاب لجاره بداعي أمر أبيه لم تكن استجابته لجاره مقربة له من الجار، بل للأب لا غير، ولا تكون مقربة للجار إلا إذا كانت بداعي الاستجابة للجار، بحيث يكون الداعي المذكور صالحاً للاستقلال بالداعوية مع قطع النظر عن أمر الأب.

وعلي ذلك فقصد التقرب في طول استحقاق الأجر لا يكفي في التقرب المعتبر في العبادة ما لم يكن من القوة في نفس العامل بحيث يصلح للاستقلال بالداعوية.

ولا مجال لقياس قصد استحقاق الأجرة المترتب علي العبادة بقصد آثارها وفوائدها الدينية والدنيوية. للفرق عرفاً وارتكازاً بين الفوائد التي هي من سنخ الجزاء من المتقرب إليه نتيجة قبوله للعمل وشكره عليه وحصول القرب منه بسببه، والفوائد الأخري التي لا دخل للمتقرب إليه بها، كاستحقاق الأجر في المقام، فإن الأولي لما كانت مقتضي طبيعة التقرب بالعمل لم يكن قصدها في طول قصده مانعاً منه، بخلاف الثانية التي هي مترتبة بملاك آخر لا يبتني علي الجزاء من المتقرب إليه علي العمل المتقرب به.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن تحصيل الجعل وإن كان داعياً للامتثال، ولكن الداعي للإتيان بالعبادة علي وجهها الصحيح هو أمر الشارع الأقدس والخوف الإلهي، إذ لولا ذلك لأمكن للعامل أن يأتي بالعمل خالياً عن بعض الشروط التي لا يطلع عليها باذل الأجر، بحيث يخيل إليه أنه جاء به علي الوجه المطلوب.

لاندفاعه أولاً: بأن الخوف من الله تعالي من أخذ المال بلا حق إنما يقتضي الامتناع من أخذه مع عدم صحة العبادة، ولا يقتضي تصحيحها وحصول التقرب بها من أجل استحقاق المال بعد أن لم يكن أمرها صالحاً - في مفروض الكلام - للاستقلال بالداعوية، فإن التقرب المعتبر في العبادة هو التقرب بأمرها وبلحاظ ملاك محبوبيتها، لا التقرب من جهة أجنبية عنها، كالخوف من أكل المال بلا حق.

وثانياً: بأن كثيراً من الأُجَراء إنما يحافظون علي شروط صحة العمل في أداء م

ص: 272

التزموا به من دون نظر لحرمة الأجرة بلا حق.

ثانيها: ما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن موضوع التقرب مباين لموضوع التكسب المقابل بالمال، فالتقرب بنفس العمل الخارجي الذي يؤديه النائب، والتكسب إنما يكون بجعل العامل نفسه نائباً عن المكلف في أداء ذلك العمل، وهو أمر نفسي مباين لنفس العمل المتقرب به.

وقد استشكل فيه السيد الطباطبائي (قدس سره) وغيره بأن ذلك خلاف الواقع في الخارج، كيف وإلا لزم استحقاق الأجرة بمجرد جعل الأخير نفسه نائباً وإن لم يتحقق منه العمل.

لكنه كما تري، فإن النيابة أمر إضافي قائم بالنائب والمنوب عنه والمنوب فيه، وهو العمل، فمع عدم تحقق العمل لا تتحقق النيابة فيه، لعدم الموضوع. وليست هي كالوكالة، التي يراد بها كون الوكيل بمنزلة الموكل في السلطنة علي الأمر الموكل فيه بدلاً عنه وإن لم يتحقق ذلك الأمر بعد.

ولو فرض صدق النيابة علي هذا المعني فليس هو مراد شيخنا الأعظم (قدس سره)، بل مراده ما ذكرنا، فإنه أمر نفسي مباين للعمل الخارجي مقارن له، حاول (قدس سره) دفع المحذور به بلحاظ تباين موضوعي التقرب والتكسب.

فلعل الأولي دفع ما ذكره (قدس سره) أولاً: بما ذكره غير واحد من أن الظاهر من حال المعاملات الواقعة علي العبادة كون موضوع العوض والأجرة هو العمل بنفسه، لا النيابة. وهو الظاهر أيضاً من النصوص الكثيرة الواردة في الاستئجار للحج، كموثق عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام): "سألته عن الرجل يأخذ الدراهم يحج بها عن رجل هل يجوز أن ينفق منها في غير الحج ؟ قال: إذا ضمن الحجة فالدراهم له يصنع بها ما أحب. وعليه حجة"(1) ، وغيره. وقد اعترف (قدس سره) في ذيل الكلام في الاستئجار المستحب بأن ذلك هو ظاهر نصوص الاستئجار علي الحج. فراجع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 10 من أبواب النيابة في الحج حديث: 3.

ص: 273

وثانياً: بأنه لو تم كون المقابل بالمال هو الأمر النفسي، دون العمل الخارجي فمن المعلوم أنه لولا ما يترتب علي الأمر النفسي المذكور من الأجر والعوض لم يأت النائب بالعمل الخارجي الذي هو مورد التقرب، فالداعي القربي غير مستقل بالداعوية، ومعه لا يتم التقرب، ولا تصح العبادة.

وبعبارة أخري: لا أثر للتباين بين موضوعي التقرب والتكسب مع التلازم بينهما، بل إن كان الداعي القربي مستقلاً بالداعوية صحت العبادة وإن اتحد موضوع التكسب مع موضوع التقرب، وإن لم يكن مستقلاً بها - كما هو الغالب - لم ينفع تباين الأمرين في تحقق التقرب المعتبر في المقام.

ثالثها وهو العمدة: أن التقرب المعتبر في العمل إنما هو بقصد الإتيان به امتثالاً للأمر به وموافقة لملاك المحبوبية المستكشف بالأمر المذكور، وذلك حاصل في المقام، وهو إنما يقتضي مقربية العمل للمأمور به الذي يقع الامتثال له، وهو المنوب عنه، دون النائب. وأخذ النائب الأجرة إنما يمنع من تقربه بالعمل، والمفروض عدم اعتبار تقربه به، لفرض عدم كونه مأموراً به، ليتقرب بامتثاله، وعدم كون أمر النيابة تعبدياً بحيث لا يترتب الأثر علي النيابة إلا بقصد التقرب به.

وبعبارة أخري: وقوع العمل بداعي الأجرة، إنما يمنع من مقربية العمل للمباشر الآخذ لها، وهو النائب في المقام، لا من مقربية من يقع له العمل ويكون امتثالاً لأمره ومقرباً له، وهو المنوب عنه.

فهو نظير عمل النائب بداعي حبّ المنوب عنه الذي تقدم عدم الإشكال في صحة النيابة والعمل معه، مع وضوح أن حبّ المنوب عنه كأخذ الأجرة من الدواعي غير القربية للمولي، والتي قد تكون هي الدافع للنائب نحو العمل.

ويبدو أن شيخنا الأعظم (قدس سره) عند الكلام في الاستئجار علي الواجب قد حام حول هذا الوجه علي طول في عبارته وغموض فيها. وبه صرح سيدنا المصنف (قدس سره) بوضوح في أوائل مبحث صلاة الاستئجار من مستمسكه علي اختصار كلامه.

ص: 274

فلو استأجر شخصاً علي فعل الفرائض اليومية أو نوافلها أو صوم شهر رمضان أو حج الإسلام (1) أو تغسيل الأموات أو تكفينهم (2) أو الصلاة عليهم أو غير ذلك من العبادات الواجبة أو المستحبة، لم تصح الإجارة إذا كان المقصود أن يفعلها الأجير عن نفسه (3). نعم لو استأجره علي أن ينوب

---------------

فلاحظهما. وهناك بعض الوجوه الأخري مذكورة في كلماتهم لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد وفاء ما ذكرنا بدفع الإشكال.

علي أنه بعد ورود النصوص بالاستئجار للحج، وظهور عمل الأصحاب (رضوان الله تعالي عليهم) بها فلا مجال للتوقف في جواز الاستئجار علي العبادات للوجه المتقدم أو غيره، بل هو كالشبهة في مقابل البديهية، إن أتضح وجه دفعه فذاك، وإلا فلا مجال للخروج به عن النصوص المذكورة، للعلم بخطئه معها وإن لم يتضح لنا وجه خطئه.

(1) بل مطلق الحج، حيث لا يحتمل جواز الإجارة علي الحج المستحب علي أن يفعله المباشر عن نفسه، نظير النوافل الرواتب، وقد سبق منّا أن فعله عن نفسه بحيث يكون هو الممتثل يمنع من أخذ الأجرة عليه.

(2) لا يخفي أن موضوع الكبري المتقدمة في كلامه العبادات، والتكفين ليس منها. نعم إذا فرض العلم بعدم مشروعيته من المكلف إلا مع وقوعه عن نفسه مجاناً تعين امتناع أخذ الأجرة عليه، لأن فرض اعتبار المجانية مستلزم لامتناع التكسب، ولذا سبق أن الكبري المتقدمة منه (قدس سره) غنية عن الاستدلال، لأنها أشبه بالقضية بشرط المحمول، ولا يفرق فيها بين العبادات والتوصليات.

(3) كأنه للمفروغية عن أن فعلها لنفسه لا يشرع إلا مع المجانية، فيدخل في الكبري التي سبقت منه (قدس سره). وحينئذٍ يبقي الكلام في وجه المفروغية. نعم يظهر مما سبق منّا في وجه حرمة أخذ الأجرة علي الواجبات أن فرض فعلها عن نفسه - بحيث

ص: 275

عن غيره في عبادة - من صلاة أو غيرها إذا كان مما تشرع فيه النيابة - جاز (1). وكذا لو استأجره علي الواجب غير العبادي - وصف الدواء للمريض أو

---------------

يكون هو الممتثل بها - مستلزم لامتناع أخذ الأجرة عليها، لكونه أكلاً للمال بالباطل.

هذا ومما سبق في أول المسألة من المحقق في الشرايع وغيره يظهر بناؤهم علي حرمة أخذ الأجرة علي أحكام الميت مطلقاً، ومن البعيد جداً حمل كلامهم علي خصوص صورة إتيان الأجير بها عن نفسه، لاحتياجه إلي عناية، بعد اقتضاء الاستئجار وقوع العمل للمستأجر، المناسب لنيابة الأجير عنه فيه. ومن ثم استدل في الجواهر علي حرمة التكسب بها بظهور الأدلة في ابتناء الأمر بها علي الإتيان بها مجاناً، وعدم مشروعية النيابة فيها.

لكن لم يتضح منشأ ظهور الأدلة في ابتنائها علي المجانية. نعم مما سبق يتضح أنه لا مجال لامتثال المباشر بعمله مع أخذ الأجرة عليه، لأن العمل حينئذٍ يكون لباذل المال وفي حسابه عوضاً عنه، ويمتنع امتثاله بما يقع لغيره. إلا أن اعتبار كون المباشر هو الممتثل في هذه الأمور أول الكلام بعد كون التكليف كفائياً ومقتضي إطلاقه الاجتزاء بصرف الوجود ولو من غير الممتثل.

غاية الأمر أن الغسل والصلاة لما كانا عباديين فلابد من الإتيان بهما بقصد الامتثال وموافقة ملاك المحبوبية. إلا أن ذلك لا يقتضي وقوعهما امتثالاً من المباشر إذ يمكن الاجتزاء بوقوعهما منه امتثالاً عن غيره، كباذل المال في المقام. إلا أنه متوقف علي ثبوت مشروعية النيابة فيهما. وهو خلاف الأصل. بل مقتضي الإجماع الذي سبقت دعواه في أول المسألة عدم مشروعيتها. وإن سبق منّا وهن الاستدلال به. فلاحظ.

(1) إذ مع فرض مشروعية النيابة فعدم جواز أخذ الأجرة، بحيث تكون النيابة مجانية يحتاج إلي دليل، خصوصاً مع ثبوت جواز الاستئجار علي الحج النيابي، كما سبق.

ص: 276

العلاج له أو نحو ذلك - فإنه يصح (1). وكذا لو استأجره لفعل الواجبات التي يتوقف عليها النظام (2)، كتعليم علوم الزراعة والصناعة والطب.

---------------

(1) مما سبق منّا يتضح عدم الفرق بين الواجب العبادي والتوصلي، فمع ظهور دليل الواجب في لزوم كون المباشر هو الممتثل به لا يصح الاستئجار ولا التكسب بهما معاً. ومع عدم ظهوره في ذلك - إما لعدم لزوم صدوره من ممتثل، أو للاكتفاء بامتثاله من غير المباشر، لقبوله للنيابة - يتعين جواز الاستئجار عليه والتكسب به.

كما أنه بناءً علي ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) فالمعيار في جواز التكسب وعدمه في القسمين عدم ظهور الدليل في المجانية وظهوره فيها. وعلي ذلك لا مجال لإطلاق الجواز في التوصلي. بل هو لا يناسب ما سبق منه (قدس سره) من عدم جواز أخذ الأجرة علي التكفين وما يأتي منه من عدم جواز الاستئجار لتعليم الحلال والحرام، إذ هما معاً توصليان.

وحينئذٍ فالوجه في جواز أخذ الأجرة علي وصف الدواء للمريض وعلاجه في مورد وجوبه - لتوقف حياة المريض عليه مع احترامه - هو أن وجوب حفظ حياة محترم الدم لا يختص بالطبيب، بنحو يلزم صدوره منه، بحيث يكون هو المتمثل به، بل المكلف بذلك الكل، فيمكن امتثاله من غير الطبيب ببذل المال في سبيل ذلك، بحيث يقع العمل له امتثالاً منه، لا من الطبيب، ويكون الطبيب من سنخ النائب عنه. وقد تقدم منّا في آخر الكلام في الصناعات تمام الكلام في ذلك.

أما بناءً علي ما جري عليه سيدنا المصنف (قدس سره) فيكفي في جواز التكسب بذلك عدم ثبوت ابتناء التكليف المذكور علي لزوم صدور العمل من الطبيب عن نفسه مجاناً، بل ثبت عدم ابتنائه علي ذلك بعد قيام سيرة المتشرعة المعتضدة بالمرتكزات علي التكسب به.

(2) يظهر الكلام فيها مما تقدم في وصف الدواء للمريض وعلاجه.

ص: 277

ولو استأجره لتعليم الحلال والحرام في ما هو محل الابتلاء فالأظهر البطلان وحرمة الأجرة (1). وفي عموم الحكم لما لا يكون محلاً للابتلاء إشكال.

---------------

(1) يظهر من الجواهر أن الوجه فيه وجوب تعليم الأحكام علي العالم بها المستفاد من قوله تعالي: (فَلَولاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَومَهُم إِذَا رَجَعُوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرُونَ)(1) ، بتقريب: أن جعل التفقه والإنذار غاية للنفر الواجب ظاهر في وجوبهما، علي تفصيل مذكور عند الاستدلال بالآية الشريفة لحجية خبر الواحد ولوجوب التقليد علي العامي.

ومن النصوص الكثيرة الدالة علي وجوب بذل العلم، كموثق طلحة بن زيد عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: قرأت في كتاب علي (عليه السلام): إن الله لم يأخذ علي الجهال عهداً بطلب العلم حتي أخذ علي العلماء عهداً ببذل العلم للجهال، لأن العلم كان قبل الجهل"(2).

لكن من الظاهر أن الاستدلال المذكور إنما يتجه بناءً علي حرمة التكسب بالواجب مطلقاً. أما بناءً علي عدم حرمة التكسب بالواجب إلا مع ظهور أدلته في لزوم قيام المكلف به مجاناً - كما يظهر من صاحب الجواهر وسيدنا المصنف وبعض مشايخنا (قدس الله أسرارهم) - فلابد من إثبات ظهور الأدلة المذكورة في اعتبار المجانية.

ومن ثم ادعي بعض مشايخنا (قدس سره) أن ذلك هو الظاهر من آية النفر. لكن لم يتضح منشأ ظهورها في ذلك، حيث لم تتضمن إلا كون التفقه والإنذار هما الغاية من الأمر بالنفر، وذلك إنما يقتضي ظهورها في وجوبهما من دون نظر للمجانية.

نعم سبق منّا أنه إذا استفيد من الأدلة لزوم حصول الواجب من المكلف

********

(1) سورة التوبة آية: 122.

(2) الكافي ج: 1 ص: 41.

ص: 278

والأظهر الجواز والصحة (1).

(مسألة 29): يحرم النوح بالباطل. يعني: الكذب. ولا بأس بالنوح بالحق (2).

---------------

بحيث يكون هو الممتثل له تعين حرمة أخذ الأجرة وذلك هو ظاهر الأدلة المتقدمة، لقوة ظهورها في أن وظيفة الفقيه والعالم تعليم أحكام الدين وبذل العلم فيها. ويؤيد ذلك خبر يوسف بن جابر:" قال أبو جعفر (عليه السلام) لعن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) من نظر إلي فرج امرأة لا تحل له، ورجلاً خان أخاه في امرأته، ورجلاً احتاج الناس إليه لتفقهه [لفقهه] فسألهم الرشوة"(1). فإن مقتضي إطلاقه العموم لبيان الأحكام الشرعية وعدم اختصاصه بالقضاء، فهو ينهض بإثبات المطلوب، لولا ضعف سنده.

(1) لانصراف أدلة وجوب تعلم الأحكام وتعليمها إلي ما هو محل الابتلاء، لأن الوجوب المذكور طريقي من أجل العمل علي الأحكام، والخروج عن عهدتها. وهو المناسب لتعقيب الإنذار بالحذر في آية النفر، لوضوح أن الحذر إنما يكون فيما هو محل الابتلاء، وكذا ما في موثق طلحة بن زيد من كون أخذ العهد علي الجهال بالتعلم متأخراً عن أخذ العهد علي العلماء بالتعليم، لوضوح أن الجهال إنما يجب عليهم التعلم فيما هو محل ابتلائهم لا غير. وأظهر من ذلك خبر يوسف بن جابر.

(2) التفصيل المذكور هو المعروف بين الأصحاب، والظاهر أو المصرح به في كلام جماعة كثيرة من القدماء والمتأخرين، بل عن المنتهي: "النياحة بالباطل محرمة إجماعاً، أما بالحق فجائزة إجماعاً" .نعم أطلق في المبسوط والوسيلة التحريم، بل في المبسوط في آخر أحكام الجنائز: "وأما اللطم والخدش وجز الشعر والنوح فإنه كله باطل محرم إجماعاً".

وقد يستدل له بالنصوص الناهية عنها، كحديث عمرو بن أبي المقدام: "سمعت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 8 من أبواب آداب القاضي حديث: 5.

ص: 279

أبا الحسن وأبا جعفر (عليه السلام) يقول في قول الله عز وجل: (وَلاَ يَعصِينَكَ فِي مَعرُوفٍ) قال: إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال لفاطمة (عليها السلام): إذا أنا مت فلا تخمشي عليّ وجهها [وجها. ظ]

ولا ترخي علي شعراً، ولا تنادي بالويل، ولا تقيمن علي نائحة. قال: ثم قال: هذا المعروف الذي قال الله عز وجل في كتابه: (وَلاَ يَعصِينَكَ فِي مَعرُوفٍ)"(1) ، وخبر الحسين بن زيد عن الصادق (عليه السلام) في حديث المناهي:" نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عن الرنة عند المصيبة، ونهي عن النياحة والاستماع إليها"(2) ، وخبر الحسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليهم السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أربعة لا تزال في أمتي إلي يوم القيامة: الفخر بالأحساب... والنياحة. وإن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم وعليها سربال من قَطِران ودرع من حرب [جرب]"(3).

ومثلها في ذلك صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر (عليه السلام):" سألته عن النوح علي الميت أيصلح ؟ قال: يكره "(4) وغيره مما تضمن كراهة النياحة أو كراهة كسبها، بناءً علي ظهور الكراهة في الحرمة.

لكن يعارضها في ذلك نصوص كثيرة، كصحيح يونس بن يعقوب عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تند بني عشر سنين بمني أيام مني"(5) ، وصحيح أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: مات الوليد بن المغيرة، فقالت أم سلمة للنبي (صلي الله عليه وآله وسلّم): إن آل المغيرة قد أقاموا مناحة فاذهب إليهم ؟ فأذِن لها، فلبست ثيابها وتهيأت... فندبت ابن عمها بين يدي رسول (صلي الله عليه وآله وسلّم)... فما عاب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) ذلك، ولا قال شيئاً"(6) ، ومعتبر الحسين بن زيد قال:" ماتت ابنة لأبي عبدالله (عليه السلام) فناح عليها سنة، ثم مات له ولد آخر فناح عليه سنة... فقيل لأبي عبدالله (عليه السلام): أيناح في دارك ؟! فقال: إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال لما مات حمزة: لكن حمزة لا بواكي له"(7).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 83 من أبواب الدفن حديث: 5، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 83 من أبواب الدفن حديث: 5، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12، 13، 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12، 13، 1، 2.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12، 13، 1، 2.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12، 13، 1، 2.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 70 من أبواب الدفن حديث: 6.

ص: 280

وموثق حنان بن سدير قال: "كانت امرأة معنا في الحي، ولها جارية نائحة، فجاءت إلي أبي فقالت: يا عم إنك تعلم أن معيشتي من الله ثم من هذه الجارية، فأحب أن تسأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن ذلك، فإن كان حلالاً، وإلا بعتها وأكلت ثمنها حتي يأتي الله بالفرج، فقال لها أبي: والله إني لأعظم أبا عبدالله (عليه السلام) أن أسأله هذه المسألة. قال: فلما قدمنا عليه أخبرته أنا بذلك، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): تشارط؟ قلت: والله ما أدري تشارط أم لا. فقال: قل لها لا تشارط، وتقبل ما أعطيت"(1).

وصحيح أبي بصير:" قال أبو عبدالله (عليه السلام): لا بأس بأجر النائحة التي تنوح علي الميت"(2) ، وغيرها. وهي أصح سنداً، وأظهر عملاً بين الطائفة، فلا مجال لطرحها من أجل النصوص السابقة.

وقد يجمع بين الطائفتين بحمل الأولي علي الكراهة. لكنه لا يناسب صحيح أبي حمزة فإن إذنه (صلي الله عليه وآله وسلّم) بحضور المناحة و المشاركة فيها وإن أمكن أن يكون لجهات ثانوية تزاحم الكراهة، كصلة الأرحام وتألفيهم وتجنب تنفيرهم بمقاطعة مناحتهم، إلا أن قوله (عليه السلام): "فما عاب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) ذلك ولا قال شيئاً" وارد مورد التنبيه علي عدم محذور في النياحة من حيث هي يقتضي الإعابة والإنكار.

وكذا الحال في معتبر الحسين بن زيد، فإن إقامته (عليه السلام) للمناحة بالوجه المذكور في بيته وإن أمكن أن يكون لضغط العرف الاجتماعي بحيث يكون تركه توهيناً للميت، كما أن قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم): "لكن حمزة لا بواكي له" قد يكون بلحاظ أن في البكاء علي حمزة إعزازاً للنبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وللدين بالنحو المزاحم للكراهة الأولية أو بنحو يستثني منها، إلا أن الإنكار علي الإمام (عليه السلام) في إقامته النياحة في داره لما كان بلحاظ توهم الكراهة بالعنوان الأولي فرده (عليه السلام) علي ذلك بحديث النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في قضية حمزة (عليه السلام) ظاهر في عدم الكراهة بالنحو المذكور، وفي نهوض الحديث المذكور بنفيها.

نعم لا بأس بالبناء علي استحباب الترك تصبراً. وربما يحمل عليه من الطائفة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب حديث: 3، 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب حديث: 3، 7.

ص: 281

الأولي حديث عمرو بن أبي المقدام وغيره. وإن كان كثيراً منها يأباه لقوة ظهوره أو صراحته في الحرمة. لكن يهون أمرها، لضعف سند أكثرها، وقرب حمل الجميع علي التقية، لموافقتها لكثير من العامة، ولما هو المعروف من سيرة بعض أوائلهم وشدة إنكاره لذلك. ولا يبعد أن يكون ذلك هو المنشأ لما أشير إليه في نصوص الطائفة الثانية من استنكار النياحة ورده.

ثم إن نصوص الطائفة الثانية الدالة علي جواز النياحة وإن كانت مطلقة، إلا أنه قد يستدل للتفصيل الذي سبق من المشهور بمرسل الصدوق: "قال (عليه السلام): لا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقاً"(1) ، وخبر خديجة بنت عمر بن علي بن الحسين (عليهما السلام)، قالت في حديث:" سمعت عمي محمد بن علي (عليه السلام) يقول: إنما تحتاج المرأة إلي النوح لتسيل دمعتها، ولا ينبغي لها أن تقول هجراً، فإذا جاء الليل فلا تؤذي الملائكة بالنوح"(2).

لكنهما لا ينهضان بالاستدلال لضعفهما. ولأن الهجر هو القول القبيح أو الفحش، من دون خصوصية للكذب. ومن القريب أن يراد به هنا التجاوز إما في مدح الميت، أو في الخروج عن مقتضي الصبر والتسليم لله تعالي والرضا بقضائه.

فالعمدة في المقام: أن النصوص المذكورة إنما تدل علي جواز النياحة من حيث هي، ولا تنافي حرمتها لو اشتملت علي محرم، كالكذب، أو مدح من لا يستحق المدح، أو توهين الحق، أو ترويج الباطل، أو قول ما ينافي التسليم لله تعالي، أو غير ذلك مما هو محرم في نفسه وإن لم يكن كذباً. بل مقتضي إطلاق أدلة حرمة تلك الأمور حرمتها حينئذٍ، بل هو المقطوع به، وإن لم تحرم من حيثية النياحة. ومن ذلك يظهر أن اللازم التفصيل بالوجه المذكور، وعدم الاقتصار في الحرمة علي الكذب.

بقي شيء، وهو أن الظاهر عدم الإشكال في جواز التكسب بالنياحة مع حليتها، كعدم الإشكال في حرمته مع حرمتها. عملاً بعموم صحة العقود وأصالة

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب به حديث 9، 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب به حديث 9، 6.

ص: 282

(مسألة 30): يحرم هجاء المؤمن (1).

---------------

احترام العمل مع حليته، ولخصوص صحيح أبي بصير المتقدم. ولأجله يتعين حمل موثق سماعة: "سألته عن كسب النائحة والمغنية فكرهه" (1) علي الكراهة المصطلحة، أو علي التقية بلحاظ ما سبق.

كما أن ما تضمنه موثق حنان بن سدير المتقدم من النهي عن المشارطة لم أعثر عاجلاً علي من عمل بظاهره من حرمة المشارطة، بل عن التذكرة وغيرها كراهة كسب النائحة معها، وعن التحرير تأكد الكراهة حينئذٍ. وهو المناسب لصحيح أبي بصير، لأن حمل إطلاق جواز التكسب علي صورة عدم المشارطة يحتاج إلي عناية، لأن طبيعة التكسب تقتضي المشارطة وتعيين الأجر. فتأمل.

(1) بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. وهو الحجة. كذا في الجواهر. لكن لا مجال للتعويل علي الإجماع المذكور بعد قرب ابتنائه علي دخول الهجاء في كبريات مأخوذة من الكتاب المجيد والسنة الشريفة والمرتكزات الراجعة لحرمة عرض المؤمن، كتحريم إيذائه وسبه وغيبته وبهته وإهانته والطعن عليه وإذاعة ما يشينه ويهدم مروءته ويسقطه في أعين الناس، وإحصاء عثراته وعورته ليعيره بها ونحو ذلك. وحينئذٍ لا يكون للهجاء خصوصية في الحرمة.

كما لا يكون محرماً مطلقاً، بل في خصوص ما إذا كان من صغريات إحدي الكبريات المتقدمة، دون غير ذلك، كما في هجاء الإخوان بعضهم لبعض في مقام المطايبة والمفاكهة أو نحو ذلك مما لا ينافي حرمة المؤمن، وليس فيه محذور شرعي آخر.

وكذا لو سقطت حرمته إما بأن يكون الهجاء وسيلة لإنكار المنكر عليه بشروطه. وإما بأن يكون الشخص متجاهراً بالفسق. كما يستفاد من معتبر هارون بن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب به حديث: 8

ص: 283

ويجوز هجاء المخالف (1). وكذا الفاسق المبتدع، لئلا يؤخذ ببدعته (2).

(مسألة 31): يحرم الفحش من القول (3) - وهو ما يستقبح التصريح به - إذا كان الكلام مع الناس غير الزوجة،

---------------

الجهم عن الصادق (عليه السلام): "قال: إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة"(1). فإن مقتضي نفي الحرمة ارتفاع جميع الأحكام المتفرعة علي الحرمة، ومنها الكبريات المذكورة، لا خصوص الغيبة.

نعم إذا اشتمل الهجاء علي محرم آخر غير متفرع علي حرمة المقول فيه، كالكذب والنيل ممن ينتسب له ونحو ذلك فلا يكفي في حله سقوط حرمة الشخص المذكور.

إلا أن تسقط حرمة المحرم المذكور، كالبهتان في حق أهل البدع والريب. لصحيح داود بن سرحان عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): إذا رأيتم أهل الريب والبدع بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم، كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام [ويحذرهم الناس] ولا يتعلمون من بدعهم. يكتب الله لكم الحسنات ويرفع لكم به الدرجات"(2).

(1) لعدم ثبوت الحرمة له التي سبق أنها المعيار في حرمة الهجاء. بل ما تظافرت به النصوص من لعنهم وسبهم يقتضي جواز ذلك بالأولوية العرفية أو بفهم عدم الخصوصية. وقد تقدم في مبحث الغيبة من مباحث التقليد ما ينفع في المقام، إذ بناءً علي ما قربناه هناك من تقوّم مفهوم الغيبة بالإعابة تكون مقاربة للهجاء مفهوماً وملاكاً.

(2) كما يظهر مما تقدم. ويظهر منه أيضاً الجواز في حق المتجاهر، وفي مورد النهي عن المنكر.

(3) كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره). فقد ذكر في المسألة الثامنة والعشرين أنه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 154 من أبواب أحكام العشرة حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 39 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما حديث: 1.

ص: 284

يحرم الهجر، ثم قال: "وهو الفحش من القول وما استقبح التصريح به".

وقد استدل عليه هو (قدس سره) وغيره بالنصوص المتضمنة للنهي عن البذاء والفحش، وكون الإنسان ممن لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه، وكونه ممن يكره مجالسته ويخاف لسانه، وهي نصوص كثيرة.

كصحيح عيص بن القاسم عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال:

إن أبغض خلق الله عبد اتقي الناس لسانه" (1) ، وصحيح عبدالله بن سنان:" قال أبو عبدالله (عليه السلام)

:من خاف الناس لسانه فهو في النار" (2) .

وصحيح أبي بصير عنه (عليه السلام) في حديث: "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

إن من أشر عباد الله من تكره مجالسته لفحشه" (3) وصحيح أبي عبيدة عنه (عليه السلام): "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار"(4) ، وخبر سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

إن الله حرم الجنة علي كل فاحش بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل له..." (5) ، وغيرها من النصوص الكثيرة.

ثم إن ظاهر شيخنا الأعظم وسيدنا المصنف (قدس سرهما) أن موضوع التحريم هو ما يستقبح التصريح به مما يتعلق بالجنس من أعضاء وأفعال.

لكنه لا يناسب النصوص المذكورة، فإن البذاء هو الفحش، والفحش كل قبيح من القول والفعل، والتعدي في الجواب، كما صرح بجميع ذلك اللغويون، ويناسبه الاستعمالات الكثيرة.

وكذا الحال في الجفاء، وعدم الحياء، وكون الإنسان ممن يتقي لسانه وتكره مجالسته. لظهور عمومها لكل قبيح، وعدم اختصاصها بخصوص ما يستقبح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 70 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه حديث: 6، 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 70 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه حديث: 6، 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 71 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه حديث: 8.

(4) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 72 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه حديث: 5، 2.

(5) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 72 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه حديث: 5، 2.

ص: 285

أما معها فلا بأس به (1).

---------------

التصريح به مما يتعلق بالجنس، بل تعم حتي خشونة القول المناسبة للجفاء والغلظة.

كما أن النصوص المذكورة لا تنهض بحرمة الكلام الدال علي ذلك مطلقاً، بل علي ما يبتني علي الكثرة والاستمرار بحيث يكون خلقاً ثابتاً في الإنسان، ليكون بسببه ممن يتقي لسانه، وتكره مجالسته، وممن لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه، ونحو ذلك مما تضمنته النصوص. وهو المناسب أيضاً للتعبير بالفحاش الذي هو من أمثلة المبالغة، والبذاء الذي هو من سنخ الخلق، والبذيء الذي هو صفة مشبهة دالة علي الثبوت.

بل يصعب جداً البناء علي حرمة الخشونة في القول مطلقاً إذا لم تستلزم التعدي علي من يحرم التعدي عليه. لعدم مناسبته للسيرة والمرتكزات، بل المرتكز كون تركه من سنخ الكمال والخلق السامي والحياء ونحو ذلك من دون أن يبلغ مرتبة الوجوب. كيف وقد ورد عن المعصومين (صلوات الله عليهم) وكثير من أعيان المؤمنين جبه من يستحق بالكلام الغليظ والرد الخشن، بل السب والشتم في كثير من الموارد.

غاية الأمر أن ذلك ليس خلقاً لهم يعرفون به كما عرف عن غيرهم، وإنما ورد في مناسبات خاصة، واقتضته الحاجة، من دون أن تنافي الحياء منهم، ولا حسن الخلق وطيب المعشر وليونة الجانب التي عرفوا بها.

وأما البناء علي الحرمة إلا مع الحاجة فلا مجال له بعد عدم الإشارة لذلك في النصوص، لينظر في معيار الحاجة شرعاً أو عرفاً، وعدم سهولة التقيد بها في مثل ذلك مما يصعب ضبطه، بخلاف ما لو كان المدار في الحرمة علي كون ذلك خلقاً ثابتاً في الإنسان، فإنه أمر قابل للإدراك، ويمكن التجنب عنه بالمراقبة والرياضة والتمرن والاعتبار، كما لعله ظاهر.

(1) يعني: فيما يقبح التصريح به مما يتعلق بالجنس. لعدم منافاته معها لحسن المعاشرة والمخالطة، وعدم حسن الحياء معها في ذلك. ومثلها في ذلك السرية، كما هو

ص: 286

(مسألة 32): تحرم الرشوة (1)

---------------

ظاهر. بل الظاهر جريان ذلك في غيرهما في مقام المطايبات بين الإخوان من دون أن يبلغ حدّ التخلع والبذاء.

كما أن الظاهر أن الكلام الواحد يختلف طرحه باختلاف المناسبات، فيكون: تارة: بذيئاً تخلعياً منافياً للحياء. وأخري: كلاماً طبيعياً لا ينافيه. هذا وأما بناءً علي ما ذكرنا في تحديده فلا يفرق بين الزوجة وغيرها في غير ما يتعلق بالجنس منه.

(1) حرمة الرشوة في الجملة من القطعيات المدعي عليها الإجماع منّا ومن المسلمين عامة. وقد استدل عليها - مضافاً إلي ذلك - بالكتاب المجيد والسنة الشريفة.

أما الكتاب المجيد فبقوله تعالي: (وَلاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ وَتُدلُوا بِهَا إِلَي الحُكَّامِ لِتَأكُلُوا فَرِيقًا مِن أَموَالِ النَّاسِ بِالإِثمِ وَأَنتُم تَعلَمُونَ)(1). حيث قد يستدل به بحمل المال الذي يدلي به للحكام علي الرشوة التي تكون سبباً للحكم بالجور وأكل فريق من أموال الناس حراماً.

لكن الذي يظهر من غير واحد من المفسرين أن المال الذي يدلي به للحكام هو المال الذي يدعي بلا حق ويرفع أمره لهم ليحكموا فيه بالجور لغير أهله، فهو عين المال الذي أريد بقوله تعالي: (لِتَأكُلُوا فَرِيقًا مِن أَموَالِ النَّاسِ...). وهو وإن كان لا يناسب ظهور التعبير المذكور في التباين بينهما، إلا أنه يناسبه ما في معتبر أبي بصير: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): قول الله عز وجل في كتابه: (وَلاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ وَتُدلُوا بِهَا إِلَي الحُكَّامِ)، فقال: يا أبا بصير إن الله عز وجل قد علم أن في الأمة حكاماً يجورون. أما إنه لم يعن حكام أهل العدل، ولكنه عني حكام أهل الجور. يا أبا محمد إنه لو كان لك علي رجل حق فدعوته إلي حكام أهل العدل، فأبي عليك إلا أن

********

(1) سورة البقرة: آية 188.

ص: 287

يرافعك إلي حكام أهل الجور ليقضوا له لكان ممن حاكم إلي الطاغوت..." (1) لظهوره في ورود الآية للردع عن التحاكم لحكام أهل الجور، لا عن الرشوة للحكام. وأظهر منه في ذلك ما رواه في مجمع البيان عنه (عليه السلام) أنه قال: "علم الله أنه سيكون في هذه الأمة حكام يحكمون بخلاف الحق، فنهي المؤمنين أن يتحاكموا إليهم وهم يعلمون أنهم لا يحكمون بالحق"(2).

بل قد يناسب ذلك أن مقتضي تركيب الآية الشريفة كون المدلي إلي الأحكام هو الآكل له بالباطل، مع أنه لو كان المراد بالإدلاء بالمال دفعه للحاكم رشوة لكان المناسب أن يقول: ولا تعطوا أموالكم بالباطل وتدلوا بها إلي الأحكام. ومن ثم كان من القريب أن الآية الشريفة أجنبية عما نحن فيه. ولا أقل من إجمالها من هذه الجهة، فلا تنهض بالاستدلال في المقام.

فالعمدة في المقام السنة الشريفة، حيث تضمنت نصوص كثيرة النهي عن الرشوة، وفي كثير منها عدها من السحت، كموثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: السحت ثمن الميتة، وثمن الكلب، وثمن الخمر، ومهر البغي، والرشوة في الحكم، وأجر الكاهن "(3) وغيره.

بل في صحيح عمار بن مروان:" سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الغلول. فقال: كل شيء غلّ من الإمام فهو سحت، وأكل مال اليتيم وشبهه سحت. والسحت أنواع كثيرة، منها أجور الفواجر، وثمن الخمر والنبيذ والمسكر، والربا بعد البينة. فأما الرشا في الحكم فإن ذلك كفر بالله العظيم جل اسمه وبرسوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) "(4) ونحوه غيره.

هذا مضافاً إلي أن الرشوة في موضوع كلام سيدنا المصنف (قدس سره): إن كانت علي الحكم بالباطل فهي من الأجرة علي الحرام التي هي محرمة بلا كلام، وإن كانت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 1 من أبواب صفات القاضي حديث: 3.

(2) مجمع البيان ج: 1 ص: 282.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 1.

ص: 288

علي الحكم بالحق فهي من الأجرة علي ما هو واجب علي المباشر - وهو الحاكم - عيناً، بحيث يجب أن يكون هو المتمثل به، وقد سبق أن التحقيق حرمة التكسب في ذلك. وأظهر من ذلك ما لو كان أجيراً علي القضاء من قبل جهة شرعية بناءً علي جواز الاسئتجار عليه، حيث يكون الحكم بالحق مملوكاً لتلك الجهة فلا يملك ثانياً.

نعم هذا الوجه إنما يقتضي عدم مشروعية الرشوة إذا كانت مدفوعة عوضاً عن الحكم لصالح الدافع وأجراً له، دون ما إذا كانت هبة مجانية مشروطة بترتب الحكم المذكور، ضرورة أنه لا مانع من اشتراط الواجب - كالحكم بالحق في المقام - في الهبة، من دون أن يوجب بطلانها، بل ذلك يؤكد وجوبه. بل لا ضرر في اشتراط الحرام - كالحكم بالباطل - بناءً علي التحقيق من أن الشرط الفاسد في العقد لا يبطله، غاية الأمر أنه لا يجب الوفاء به.

وأظهر من ذلك ما إذا كان ترتب الحكم لصالح دافع المال من سنخ الداعي لدفع المال من دون أن يكون مقابلاً بالمال ولا شرطاً في دفعه، حيث لا موجب لتوهم عدم مشروعية دفع المال حينئذٍ بحسب القاعدة، وإن صدق عليه الرشوة إما مطلقاً، أو بشرط ترتب المطلوب عليه. بلحاظ أن الرشوة في اللغة هي الوصلة للحاجة بالمصانعة أو ما يقرب من ذلك، فلا تصدق إلا مع ترتب المطلوب عليها، اللهم إلا أن يستشكل في صدق الرشوة عليها عرفاً، بل هي عندهم من الهدية المقابلة للرشوة، فتقصر عنها النصوص المتقدمة.

كما أن الوجه المذكور إنما يقتضي - في مورد تماميته - حرمة الرشوة وضعاً، بمعني عدم تملك الآخذ لها، من دون أن يقتضي حرمتها تكليفاً. غايته أنها تحرم علي الحكم بالباطل تكليفاً بملاك آخر، وهو حرمة التشجيع علي الحرام والحمل عليه، ولا يجري ذلك لو كان الغرض منها الحكم بالحق. وهذا بخلاف النصوص فأنها ظاهرة في الحرمة التكليفية والوضعية معاً.

وبالجملة: الوجه المذكور وإن كان تاماً في نفسه، إلا أنه لا ينهض بتمام المدعي

ص: 289

علي القضاء (1).

---------------

الذي تضمنته النصوص، بل يقصر عن النصوص مفاداً ومورداً.

(1) يعني: علي الحكم لصالح دافع المال، لا علي أصل القضاء والنظر في الخصومة، فإن المال المدفوع عليه لا يعد رشوة عرفاً، بل أجراً أو جعلاً علي القضاء.

هذا والرشوة علي القضاء والحكم هي مورد كلام كثير من الأصحاب. بل يظهر من بعض كلماتهم كون ذلك مراد من أطلق منهم. وكيف كان فلا إشكال في حرمة الرشوة في القضاء، لأنها مورد النصوص المتقدمة وغيرها.

وأما الرشوة في غيره من الجهات المتعلقة بالدولة فهي تارة: تدفع للموظف علي عمل متعلق بوظيفته ومن شؤونها. وأخري: تدفع للشخص علي عمل غير متعلق بوظيفته، وليس من شأنه القيام به مع قطع النظر عن دفع المال له من أجله.

أما في الصورة الثانية فلا إشكال في جوازها إذا كانت علي عمل محلل: أولاً: لعدم وضوح صدق الرشوة عليها عرفاً، فإن الرشوة وإن كانت لغة هي الوصلة للحاجة بالمصانعة أو ما يقرب من ذلك، إلا أن معناها عرفاً ليس هو ذلك علي إطلاقه، إذ لا إشكال في عدم صدقها عندهم علي مثل الجعالة والأجرة علي الأعمال المرغوبة.

نعم قد تستعمل في ذلك، كما في صحيح محمد بن مسلم:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يرشو الرجل علي أن يتحول من منزله فيسكنه. قال: لا بأس به"(1). وما سبق في خبر يوسف بن جابر المتقدم في أواخر المسألة الثامنة والعشرين. إلا أن الاستعمال المذكور قد يكون بلحاظ المعني اللغوي لمادة الرشوة، أو توسعاً ومجازاً بلحاظ المعني العرفي، ولا يستلزم عموم معني الرشوة عرفاً لها حقيقة، لما هو المعلوم من أن الاستعمال أعم من الحقيقة.

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 85 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 290

وثانياً: لأن موضوع النهي في النصوص المتقدمة وغيرها هو الرشوة في الحكم، ولم نعثر - بعد ما تيسر لنا من الفحص - علي إطلاق ينهض بإثبات عموم النهي عن الرشوة. عدا ما ذكره في البحار عن كتاب الإمامة والتبصرة بسنده المطابق لسند الجعفريات عن الإمام الكاظم (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): "قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): الراشي والمرتشي والماشي بينهما ملعون"(1). وروي مثله أو قريب منه مرسلاً في جملة من كتبنا وكتب العامة، ومسنداً من طرقهم. والسند المذكور وإن كان الظاهر اعتباره، إلا أن توثيق كتاب الإمامة والتبصرة عند المجلسي لا يخلو عن إشكال، كما يظهر بملاحظة ما ذكره عند الكلام في توثيق مصادر كتاب البحار من مقدمته.

علي أن من القريب عدم صدوره لبيان إطلاق حرمة الرشوة، بل لبيان عدم اختصاص الحرمة بالمرتشي الآكل للرشوة، بل تعم الراشي، والماشي بينهما، بعد الفراغ عن حرمة الرشوة، فلا ينافي اختصاصها بالرشوة في الحكم. ولاسيما مع التصريح بالقيد المذكور في بعض طرق الحديث عند العامة، ففي كتاب التاج:" عن أبي هريرة: لعن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) الراشي والمرتشي في الحكم"(2).

مضافاً إلي أنه لو فرض ورود الإطلاق المذكور فظهور عدم إرادته بهذه السعة يمنع من انعقاد ظهوره في العموم، ويجعله بحكم المجمل الذي يلزم الاقتصار فيه علي المتيقن، وهو في المقام الرشوة في الحكم.

وأما في الصورة الثانية، وهي رشوة الموظف فيما يتعلق بوظيفته فمن القريب صدق الرشوة عليها، لقرب تقوم الرشوة عرفاً بذلك، كما يناسبه استعمالها في موارد القضاء، وما في خبر الأصبغ عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "قال: أيما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حوائجه، وإن أخذ هدية كان غلولاً، وإن أخذ الرشوة فهو مشرك"(3) ، ومعتبر حكيم بن حكم الصيرفي:" سمعت أب

********

(1) بحار الأنوار ج: 104 ص: 274.

(2) التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول (صلي الله عليه وآله وسلّم) ج: 3 ص: 56.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 10.

ص: 291

عبدالله (عليه السلام) وسأله حفص الأعور فقال: إن السلطان يشترون منّا القرب والأدواة، فيوكلون الوكيل حتي يستوفيه منّا، فنرشوه حتي لا يظلمنا. فقال: لا بأس ما تصلح به مالك. ثم سكت ساعة، ثم قال: أرأيت إذا أنت رشوته يأخذ أقل من الشرط؟ قال: نعم. قال: فسدت رشوتك"(1). وقد يبتني عليه ما سبق في خبر يوسف بن جابر المتقدم في أواخر المسألة الثامنة والعشرين، بلحاظ أن بذل الفقه واستعماله مقتضي وظيفة الفقيه.

وأما احتمال اختصاصها بالقضاء فبعيد جداً، بل هو لا يناسب التقييد بالحكم في نصوص القضاء السابقة، لقوة ظهور القيد المذكور في كونه احترازياً زائداً علي الرشوة مفهوماً، لا تأكيدياً مقوماً لمفهومها.

نعم سبق عدم الدليل علي عموم النهي عن الرشوة، ليمكن الاستدلال به علي الحرمة في المقام، بل النصوص مختصة بالرشوة في الحكم عدا خبر الأصبغ المتقدم الذي لا ينهض بالاستدلال، لضعف سنده. ولا مجال للتعدي من القضاء لما نحن فيه بعد عدم القرينة علي ذلك. ولاسيما مع أهمية منصب القضاء، المناسب لشدة اهتمام الشارع الأقدس بأداء الأمانة فيه علي الوجه الأكمل.

ومن هنا فقد استدل عليه شيخنا الأعظم (قدس سره) بوجهين:

الأول: فحوي ما تضمن النهي عن هدايا الولاة والعمال، كخبر الأصبغ المتقدم، وخبر جابر عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: "هدية الأمراء غلول"(2). ومثله مرسل المبسوط(3) وفي مرسله الآخر:" هدية العمال سحت"(4). وما روي مرسلاً فيه ومسنداً من طرق العامة من خطبة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) باستنكار ذلك والوعيد عليه(5) ، ونحوها. فإنه حيث ل

********

(1) تهذيب الأحكام ج: 7 ص: 235. ورواه بتغيير في وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب أحكام العقود حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 8 من أبواب آداب القاضي حديث: 6.

(3) المبسوط ج: 8 ص: 151.

(4) المبسوط ج: 8 ص: 151.

(5) المبسوط ج: 8 ص: 151. والتاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول (صلي الله عليه وآله وسلّم) ج: 3 ص: 54.

ص: 292

إشكال في جواز الهدية للعامل في الجملة فالمناسبات الارتكازية تقضي بحملها علي الهدية التي يراد منها حمل العامل علي التصرف لصالح المهدي، وذلك يقتضي النهي عن الرشوة المبتنية علي ذلك بالأولية العرفية.

وقد استشكل فيه بعض مشايخنا (قدس سره) بضعف سند النصوص المذكورة. وهو في محله لولا تأيدها بما في نهج البلاغة(1) بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) من شدة إنكار أمير المؤمنين (عليه السلام) علي من أهدي له، وموافقتها للاعتبار، لما هو المعلوم من تعرض العمال لذلك، ومن البعيد رضا الشارع الأقدس به مع ما يؤدي إليه بالآخرة من فساد إداري مريع، إذ من البعيد جداً اكتفاء الشارع الأقدس بتحريم انحراف الوالي والعامل من دون أن يسد الطريق لذلك بتحريم الهدايا المذكورة. وإن كان في بلوغها بذلك حداً تنهض معه بالاستدلال إشكال.

الثاني: أنه من أكل المال بالباطل. وقد يستشكل فيه بأنه لا مجال لذلك مع حلية العمل الذي يرشي عليه في نفسه، وصلوحه لأن يقابل بالمال. وفيه: أن انطباق عنوان الرشوة عليه كاف في صدق أكل المال بالباطل عليه عرفاً، لأن الرشوة من المستنكرات العرفية، بل بعد فرض كون إنجاز العمل مقتضي الوظيفة يكون واجباً، فيكون أخذ المال عليه أكلاً للمال بالباطل، كما تقدم في المسألة الثامنة والعشرين.

إلا أن يبني علي عدم نفوذ التوظيف، فيخرج المال عن كونه رشوة حينئذٍ. ومن هنا يحسن توضيح الكلام في ذلك فنقول: الوالي والعامل وأعوانهما تارة: يكونون في جهاز حكم نافذ التعيين والتوظيف بالأصل أو بالإمضاء الشرعي. وأخري: يكونون في جهاز غير نافذ التعيين والتوظيف.

ففي الصورة الأولي لا إشكال في حرمة الرشوة، سواءً كانت من أجل التسامح في أداء الوظيفة والخروج عن مقتضاها، أم من أجل الحفاظ علي أداء الوظيفة، تجنباً لظلم الولي والعامل.

********

(1) نهج البلاغة ص: 426 طبعة ثانية دار الأندلس، وأمالي الصدوق طبعة النجف الأشرف ص: 557.

ص: 293

أما في الأول فلتحريم العمل الذي يقابل بالرشوة، فيكون أكل المال في مقابله أكلاً له في مقابل الحرام.

وأما في الثاني فلوجوب العمل المقابل بالرشوة علي العامل والموظف بنحو يجب عليه قيامه به بنفسه بعد فرض شرعية التوظيف، وقد سبق عدم جواز أخذ الأجرة مع ذلك، وأنه من أكل المال بالباطل. بل إذا كان العامل والموظف معيناً بأجر من قبل الهيئة الحاكمة يكون عمله مملوكاً عليه للجهة التي تمثلها تلك الهيئة، فلا يمكن أن يملك ثانياً للراشي، ويكون أخذ المال حينئذٍ بلا حق قطعاً.

ويتأكد ذلك بلحاظ اشتراط الهيئة الحاكمة صريحاً أو ضمناً عدم الرشوة، حيث يوجب ذلك كون أخذ الرشوة منافياً لحق صاحب الشرط في شرطه المفروض نفوذه.

نعم هذا الوجه إنما يقتضي حرمة الرشوة وضعاً، بمعني ترتب الأثر عليها، وعدم ملكية الآخذ لها، ولا يقتضي حرمتها تكليفاً علي الدافع والآخذ مع قطع النظر عن ذلك.

غاية الأمر أنه يحرم دفعها من أجل حمل العامل علي الحيف والظلم في أداء وظيفته، لما فيه من التشجيع علي الحرام والحمل عليه. وقد يحمل عليه ما سبق في ذيل معتبر حكيم بن حكم الصيرفي. بخلاف دفعها من أجل حمله علي أداء الوظيفة تجنباً لظلمه، حيث لا موجب لحرمته.

نعم إذا فرض اشتراط عدمها عليه - ضمناً أو صريحاً - يكون دفعها له حملاً له علي مخالفة الشرط التي هي حرام أيضاً. إلا أن تسقط حرمتها بقاعدة نفي الضرر. كما فيما إذا انحصر دفع الظلم بذلك. وربما يحمل عليه ما سبق في معتبر حكيم بن حكم الصيرفي.

ومنه يظهر الحال في الرشوة في حق كل موظف تشرع وظيفته وتنفذ وإن كانت وظيفته غير حكومية، كالموظفين في الشركات الأهلية، وعند الأفراد من حجاب

ص: 294

وكتاب وغيرهم ممن تجري أمور موظِّفيهم علي أيديهم، حيث يمكن تعلق مصالح الآخرين بهم، بنحو يبذلون المال من أجل جريهم علي مقتضي وظيفتهم بأمانة، أو التفافهم عليها وانحرافهم عن مقتضاها.

فإنه مع فرض احترام الجهة التي يتوظفون فيها يجري علي رشوتهم ما سبق. أما مع عدم احترامها وجواز الخروج عليها فيلحقها حكم الصورة الثانية.

أما في الصورة الثانية فحيث لا يكون الاستعمال والتوظيف ملزماً له شرعاً بالعمل علي ما يقتضيه، بل قد لا يكون مسوغاً له بالعمل علي ذلك، لعدم مشروعيته أو لكونه ظلماً، فلا يكون دفع المال له فيما يتعلق بعمله رشوة - بالمعني المتقدم - شرعاً، وإن صدق عليه الرشوة عرفاً، غفلة عن عدم شرعية الاستعمال والتوظيف.

ومن ثم لا يشمله دليل حرمة الرشوة لو فرض ثبوت حرمتها في غير القضاء، إذ لا اعتبار بالصدق العرفي إذا ابتني علي الغفلة والخطأ علي خلاف المعيار الشرعي. بل لابد من النظر في حكمه بلحاظ القواعد العامة، نظير ما سبق منا في الصورة الأولي بناءً علي عدم ثبوت عموم حرمة الرشوة لغير القضاء.

وحينئذٍ فمن الظاهر حرمة ما يدفع له من المال بنحو يعدّ رشوة عرفاً في مقابل عمل محرم عليه، سواءً كان محرماً تعبدياً، كالترخيص في بيع الخمر، أم تعدياً علي الناس وانتهاكاً لحرمتهم في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وسواءً كان بالمحافظة علي مقتضي وظيفته وحرفية تطبيقها، أم بالخروج عن مقتضاها والالتفاف عليه.

وكذا إذا كان في مقابل امتناعه من فعل محرم عليه، كما لو أراد أن يرخص في بيع الخمر، فدفع له المال ليمتنع من ذلك، أو أراد ظلم شخص بمثل القبض عليه وسجنه أو ضربه أو تغريمه، فاستدفع شره بدفع شيء من المال له، لرجوع ذلك إلي كون المال مدفوعاً له في مقابل أمر واجب عليه، وهو ترك ذلك المحرم، بحيث يتعين عليه القيام به بنفسه، وقد تقدم حرمة أخذ المال في مقابل ذلك، وأنه من أكل المال بالباطل.

نعم ذلك إنما يقتضي حرمة الرشوة وضعاً، بمعني عدم استحقاقها، وحرمة

ص: 295

أخذها تكليفاً تبعاً لذلك. كما لا إشكال في حرمة دفعها تكليفاً في الصورة الأولي، لحرمة الحمل علي الحرام والتشجيع عليه. بخلاف دفعها في الصورة الثانية، حيث لا وجه لحرمته، بل يتعين رجحانه، لظهور رجحان منع الحرام ودفع الفساد.

بقي الكلام في موردين:

الأول: أخذ الرشوة لعمل يرفع به ظلم لا دخل له في حصوله، كأخذ الموظف الرشوة لإنجاز معاملة تسريح المواطن من التجنيد أو الترخيص في السفر أو في الاستيراد أو نحوهما، فإن التجنيد والمنع من السفر والاستيراد ظلم لا دخل للموظف المذكور به، وإنجاز المعاملات المذكورة سبب في رفع الظلم المذكور. وقد يدعي جواز ذلك وحلّ الرشوة له، لعدم وجوب رفع الظلم عليه، فلا مانع من أخذه الجعل عليه، كما يجوز أخذه لغير الموظف ممن يسعي لإقناع الموظفين وتسهيل إنجاز هذه المعاملات.

لكنه إنما يتجه إذا كان إنجاز أمثال هذه المعاملات بوجه غير قانوني وخارجاً عن مقتضي وظيفته. أما إذا كان إنجازها قانونياً فهو واجب عليه، لأن الظلم لما كان بسبب القانون فأمده تابع لما يقتضيه القانون، فمع فرض انتهاء الأمد قانوناً يكون تولي الشخص وظيفة إنجاز المعاملات المذكورة ثم امتناعه من إنجازها مستلزماً لاستناد بقاء الظلم له، فيجب عليه رفع الظلم بإنجاز المعاملات، ويحرم عليه أخذ المال بإزاء ذلك، لحرمة أخذ المال في مقابل ما يجب عليه، وهو رفع الظلم في المقام. وكذا الحال في غير الظلم من المحرمات التي يستند حدوثها للقانون وينتهي أمدها قانوناً، ويتوقف رفعها علي إنجاز الموظف معاملة رفعها.

الثاني: أخذ الرشوة في مقابل عمل يترتب عليه نفع أو خير غير واجب علي الموظف مع قطع النظر عن الوظيفة، كالتطبيب والتعليم وفتح الطرق وعمران المساجد والمستشفيات ومساعدة الفقراء ونحو ذلك من المصالح العامة أو الخاصة. ومقتضي القاعدة جواز الرشوة في ذلك، إذ بعد فرض عدم وجوب ذلك في نفسه علي

ص: 296

الموظف، وعدم كون التوظيف ملزماً له بمقتضاه، لا منشأ لتحريم أخذ المال في مقابل العمل المذكور بعد احترامه في نفسه.

بل ينبغي البناء علي جواز أخذ الرشوة من أجل منع إنجاز هذه المنافع، كما لو أرادت الدولة مثلاً إنشاء مرفق عام لم تبلغ الحاجة إليه حداً يقتضي وجوبه كفائياً، فسعي بعض ذوي المصالح الخاصة لمنعه ودفع الرشوة للموظف من أجل عرقلة إنجازه، إذ بعد فرض عدم وجوبه لا يكون منعه محرماً، ليحرم المال المدفوع في مقابل ذلك.

نعم سبق أنه يحرم التوظيف ومعاونة الظالم - في فرض عدم الإكراه - إلا إذا كان الغرض منه نفع المؤمنين، وذلك إنما يكون في المقام بالعمل بمقتضي الوظيفة علي الوجه الأكمل، والتقاعس عن ذلك راجع إلي الامتناع من نفع المؤمنين.

لكن ذلك إنما يقتضي وجوب العمل بمقتضي الوظيفة عقلاً منعاً لتحريم التوظيف والتعاون، من دون أن يكون واجباً شرعاً، ليمتنع أخذ المال عليه أو علي تركه. فتأمل جيداً.

وأظهر من ذلك ما إذا كان مكرهاً علي التوظيف، حيث لا منشأ لتوهم وجوب القيام بمقتضي الوظيفة عليه حينئذٍ حتي في المورد الأول، وهو ما إذا كان القيام بمقتضي الوظيفة موجباً لإنهاء الظلم الواقع من قبل غيره.

هذا كله إذا ابتنت الرشوة علي مقابلة المال بالعمل بحيث يكون عوضاً عنه، حيث يدخل في أخذ الأجرة علي الواجب أو الحرام أو المباح، فيجري فيه ما سبق. أما إذا كانت بنحو الهبة المشروطة، أو كان العمل داعياً محضاً - بناءً علي صدق الرشوة حينئذٍ - فالمتعين ملكية المال في جميع الصور المتقدمة، عملاً بالقواعد بعد عدم ثبوت عموم النهي عن الرشوة، واختصاصه بالقضاء. إلا أن يتمّ ما سبق من احتمال استفادة العموم لغير القضاء مما ورد في هدايا العمال. فلاحظ.

هذا ما تيسر لنا ذكره في المقام، ولابد من مزيد التأمل والتدبر. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

ص: 297

بالحق أو الباطل (1). وأما الرشوة علي استنقاذ الحق فجائزة (2).

---------------

(1) كما يظهر مما ذكرناه في وجه حرمة الرشوة بحسب القاعدة. كما أنه مقتضي إطلاق النصوص، لصدق الرشوة عرفاً في الصورتين معاً. بل الظاهر عمومها لغة لهما، كما هو مقتضي تعريفهم لها بأنها الوصلة إلي الحاجة بالمصانعة أو ما يعطيها الشخص للحاكم أو غيره ليحكم له أو يحمله علي ما يريد ونحو ذلك.

ويناسبه الاستعمالات المتقدمة في النصوص، وما صرحوا به من أنها مأخوذة من الرشا وهو الجعل الذي يجعل في الدلو لأخذ الماء من البئر أو من رشي الفرخ إذا مد عنقه لأمه لتزقه. ولا ينافيه ما في مجمع البحرين من أنه قل ما تستعمل إلا فيما يتوصل به إلي إبطال حق أو تمشية باطل، فإن قلة الاستعمال فيه لا تنافي العموم.

نعم عن النهاية لابن الأثير: "الرشوة الوصلة إلي الحاجة بالمصانعة، فالراشي الذي يعطي ما يعينه. فأما ما يعطي توصلاً إلي أخذ حق أو دفع ظلم فغير داخل فيه" .وفي المنجد وعن أقرب الموارد أنها ما يعطي لإبطال حق أو إحقاق باطل.

لكن لا مجال للخروج بها عن ما سبق. ولا يبعد كون نظر ابن الأثير إلي قصور حكمها - وهو الحرمة - عن الصورة المذكورة، واختلاط الأمر علي من بعده. أو إلي أن أصل الحاجة إليها إنما كان لإبطال الحق أو إحقاق الباطل، لاستغناء صاحب الحق عنها بحقه، وإنما احتاج إليها بعد أن شاعت الاستعانة بها لإحقاق الحق وإبطال الباطل، فاضطر إليها. وكيف كان فيكفي في المقام عموم معناها عرفاً معتضداً بالقاعدة. هذا في القضاء، وأما في غيره فقد سبق الكلام في الصورتين معاً.

(2) قال في الجواهر: "لو توقف تحصيل الحق علي بذله لقضاة حكام الجور جاز للراشي وحرم علي المرتشي، كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافاً، لقصور أدلة الحرمة عن تناول الفرض... ضرورة أن للإنسان التوصل إلي حقه بذلك ونحوه مما هو محرم عليه في الاختيار. بل ذلك كالإكراه علي الرشا الذي لا بأس به علي الراشي معه عقلاً ونقلاً".

ص: 298

وظاهره - كسيدنا المصنف (قدس سره) - حرمة الرشوة علي الراشي. ومن الظاهر أن النصوص المتقدمة منصرفة للمرتشي، لأنه الذي تكون الرشوة في حقه سحتاً. وأما ما تضمن أنها الكفر بالله تعالي فمقتضي سياقه أنها من أشد السحت، وليس هو حكماً مستقلاً، ليتوهم عمومه للراشي أو اختصاصه به.

نعم يشهد للحرمة في حق الراشي النبوي المتقدم - المتضمن لعن الراشي والمرتشي والماشي بينهما - لو تم سنده. بل هو مقتضي القاعدة، لأن حرمة الأخذ تقتضي حرمة الإعطاء، لما فيه من السعي للحرام والمشاركة فيه، حيث لا يتحقق الأخذ إلا بالإعطاء.

وحينئذٍ يتعين الاقتصار في الجواز في حق الراشي علي صورة انحصار حفظ الحق ورفع الظلم بها، كما هو ظاهر الجواهر، عملاً بقاعدة نفي الضرر والحرج ونحوهما.

اللهم إلا أن يقال: الإعطاء مباين للأخذ مفهوماً وخارجاً، فالمعطي لا يشارك الآخذ في الحرام، غاية الأمر أن يكون معيناً له، وقد سبق في المسألة الثامنة المنع من عموم حرمة الإعانة علي الحرام. بل لا يمكن البناء علي ذلك في أمثال المقام من موارد تحمل ظلم الغير، لما هو المعلوم من السيرة الارتكازية من جواز دفع المال لمن يطلبه ظلماً وإن أمكن التخلص منه ببعض الوسائل غير الحرجية. بل ورد استحباب اختيار الغرم في الدعوي علي اليمين صادقاً(1). ومن هنا لا يبعد انصراف النبوي المتقدم للرشوة من أجل الجور، فإن ذلك أنسب بالمرتكزات المذكورة. وإن كان الأمر قد يسهل فيه بلحاظ ما سبق من عدم الإطلاق فيه.

وكيف كان فالظاهر جواز الرشوة للراشي من أجل استنقاذ حقه وإن لم ينحصر استنقاذ الحق بذلك، كما هو مقتضي إطلاق سيدنا المصنف (قدس سره). عملاً بإطلاق معتبر حكيم بن حكم الصيرفي المتقدم.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 2، 3 من أبواب كتاب اليمين.

ص: 299

وإن حرم علي الظالم أخذها (1).

---------------

نعم قد تحرم لعنوان ثانوي، كالتشجيع علي الحرام، أو فيما إذا كان الامتناع منها سداً لباب الفساد، أو نهياً عن المنكر أو نحو ذلك مما لا ينافي جوازها ذاتاً. فلاحظ.

(1) لإطلاق أدلتها أو عمومها.

بقي في المقام شيء، وهو أن من الظاهر صدق الرشوة لغة علي المعاملة المحاباتية مع الحاكم من أجل حمله علي الحكم لصالح موقعها، كما لو باعه ما قيمته عشرة بخمسة. بل تصدق علي المعاملة غير المحاباتية لو تعلق بها غرض الحاكم، كما لو كان يرغب في شراء شيء من الشخص وهو يأبي بيعه له حتي إذا احتاج إلي حكمه لصالحه باعه منه ليحمله عليه. كما تصدق علي غير البيع، كالإجارة والعارية وغيرهما لو تعلق بها غرض الحاكم.

كل ذلك لتوصل الخصم به للحكم لصالحه، الذي هو المعيار في صدق الرشوة لغة. بل لا يبعد صدق الرشوة عليها عرفاً، لعدم العناية في إطلاق الرشوة منهم علي جميع ذلك ارتكازاً.

نعم الظاهر اختصاص النصوص المتقدمة بالمال، لمناسبته لما تضمنته من إطلاق السحت عليها، لأن السحت هو المال الحرام، لا كل حرام. كما أن القاعدة المتقدمة تقصر عنه، لأنها إنما تقتضي عدم مقابلة المال بالواجب أو الحرام، بل يكون أخذه في مقابلهما أكلاً له بالباطل، ولا تقتضي بطلان المعاملة التي يكون الغرض منها الواجب أو الحرام أو المشروط فيها أحدهما.

ومن ثم لا مجال للتعدي لغير المال - كالمعاملات المتقدمة - في الحرمة الوضعية الراجعة لعدم تملك الرشوة حتي لو تم صدق الرشوة عليه عرفاً فضلاً عما لو لم تصدق عليه.

وما في الجواهر من أن المتجه بطلان المعاملات المذكورة إذا صدق عليها رشوة،

ص: 300

(مسألة 33): يحرم حفظ كتب الضلال (1)

---------------

لإطلاق النهي عنها. في غير محله بعد ما ذكرنا من قصور النصوص عنها.

وأشكل منه ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من قوة بطلان المعاملات المذكورة وإن لم يصدق عليها أنها رشوة، لأنها ملحقة بالرشوة حكماً.

إذ فيه: إنه لا وجه لإلحاقها بالرشوة حكماً بعد خروجها عنها موضوعاً.

ولاسيما بعد ثبوت الفرق فيما يشبه ذلك، حيث تبطل الإجارة علي الحرام، ولا تبطل المعاملة المشروط فيها الحرام، بل يبطل الشرط لا غير، فلا يجب الوفاء به من دون أن يستلزم بطلان المعاملة.

نعم يقرب جداً إلغاء خصوصية المال في الحرمة التكليفية، لأن المناسبات الارتكازية قاضية بأن ملاكها تنزيه منصب القضاء حفاظاً علي أمانة الحاكم وحياديته وسداً لباب الانحراف في القضاء، وذلك يناسب عموم الحرمة لكل انتفاع وإن لم يكن مالاً.

والتفكيك في العموم والخصوص بين الحرمتين غير عزيز، فإن إيقاع المعاملة المشترط فيها الحرام حرام تكليفاً، لما فيه من التشجيع علي الحرام والحمل عليه، المنافيين لوجوب النهي عن المنكر، من دون أن يقتضي حرمتها وبطلانها، كما سبق.

ولعل التباس ذلك علي صاحب الجواهر وشيخنا الأعظم (قدس سرهما) هو الذي أوجب حكمهما بعموم الحرمة الوضعية تبعاً للحرمة التكليفية.

نعم إذا صدق الإكراه في المقام تعين بطلان المعاملة، كما إذا هدده بالحكم جوراً عليه إذا لم يوقع المعاملة، فأوقعها. ولا يكفي فيه مجرد الامتناع عن الحكم بالحق إذا لم يوقعها، فضلاً عن الامتناع عن الحكم بالباطل له. فإنه لا يصدق الإكراه بذلك.

(1) كما صرح به جماعة كثيرة من الأصحاب، ونفي في التذكرة ومحكي المنتهي الخلاف فيه. ويظهر من كلامهم حرمته في نفسه مع قطع النظر عن ترتب الفساد

ص: 301

عليه، حيث لم يستثنوا من ذلك إلا حفظها للنقض أو الحجة علي أهلها الذي هو من سنخ المانع من الحرمة.

وقد يستدل عليه بوجوه:

الأول: الإجماع المشار إليه. لكنه - لو تم - إنما يقتضي حرمة الحفظ في الجملة ولو من جهة ترتب الفساد والضلال عليه، ولا ينهض بإثبات الحرمة مطلقاً ولو بدون ذلك، بعد كونه دليلاً لبياً.

ومجرد إطلاق الحكم في كلام كثير منهم لا يكفي فيه بعد عدم النص في المسألة، ليكون ظاهرهم الإشارة إلي مضمونه وإطلاقهم تبعاً لإطلاقه، وبعد قرب ابتناء الحكم في كلامهم علي ارتكاز حرمة مقدمة الحرام وترويجه وتشييد أركانه، ونحو ذلك مما يختص بصورة ترتب الفساد عليه.

ولاسيما وأن البناء علي هذا الإطلاق صعب جداً بل قد لا يناسب سيرة العلماء بعد ما هو المعلوم من شيوع الابتلاء بالكتب المشتملة علي الضلال ولو بلحاظ اشتمال بعضها عليه. وقيام سيرة العلماء علي اقتنائها للانتفاع بها والرجوع إليها في موضوعاتها المختلفة من دون تهيؤ للنقض أو الاحتجاج.

وأما الالتزام باختصاص موضوع الحرمة بما تمحض في الضلال، كما حكاه في الجواهر عن بعض مشايخه. فهو لا يناسب عموم الحكم ارتكازاً لغيره، ولا ذكرهم في كتب الضلال التوراة والإنجيل الرائجين، لعدم ثبوت تمحضهما في الضلال.

ومثله ما حكاه عن شرح الإرشاد من اختصاص موضوع الحرمة بما سيق للاستدلال علي الضلال، دون ما تضمنه من دون استدلال. لعين ما تقدم.

كما أن البناء علي وجوب إتلاف خصوص موضوع الضلال من الكتاب إذا كان مشتملاً علي غيره - كما في جامع المقاصد والمسالك - مخالف للمعلوم من سيرتهم. ومن ثم يشكل الجمود علي إطلاق معقد الإجماع، ويتعين الاقتصار فيه علي المتيقن، كما سبق.

ص: 302

الثاني: ما ذكره في الجواهر، قال: "بل الظاهر أن حرمة الحفظ لوجوب إتلافها باعتبار دخولها تحت الوضع للحرام، وتحت ما من شأنه ترتب الفساد عليه، بل هي أولي حينئذٍ بالحرمة من هياكل العبادة المبتدعة".

ويشكل بأنه لم يتضح كفاية ذلك في البناء علي تحريم الإبقاء والحفظ ووجوب الإتلاف، لعدم الدليل علي ذلك، كما يظهر مما تقدم في المسألة التاسعة.

وأما ما ذكره من أنها أولي بالحرمة من هياكل العبادة المبتدعة كالأصنام والصلبان. فكأنه لأن هياكل العبادة يتحقق بها الباطل من دون أن تدعو له، وكتب الضلال تدعو للباطل وتحث عليه.

لكنه يشكل أولاً: بأنه يختص بما تضمن من الكتب الاستدلال علي الباطل وتقويته، مع أنه صرح بأن موضوع الكلام أعم من ذلك.

وثانياً: بأنه لم يثبت وجوب إتلاف هياكل العبادة إذا لم يترتب عليها الفساد، كما يظهر مما سبق في المسألة التاسعة.

وثالثاً: بأنه إذا ثبت وجوب إتلاف هياكل العبادة المبتدعة تعبداً وإن لم يترتب عليها الفساد فلا مجال للتعدي لكتب الضلال بمقتضي الأولوية، لابتناء الأولوية المدعاة علي كون منشأ وجوب الإتلاف الحذر من ترتب الباطل، الذي هو عبارة أخري عما ذكرنا من ترتب الفساد، فمع فرض عموم الوجوب لصورة عدم ترتبه لا طريق لمعرفة وجه الحكم، ليمكن التعدي عن مورده بالأولوية المذكورة.

الثالث: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من حكم العقل بوجوب قطع مادة الفساد. لكنه في غاية المنع. ولذا ليس بناؤهم علي ذلك فيما لا يختص بالفساد بل يشترك بينه وبين الصلاح، مع أن ترتب الصلاح علي الشيء لا يمنع من صدق قطع مادة الفساد بإتلافه. علي أن الملازمة بين حكم العقل والشرع ممنوعة، كما ذكرناه في الأصول.

ومن ثم كان الظاهر أن وجوب النهي عن المنكر حكم شرعي تعبدي يرجع

ص: 303

مع احتمال ترتب الضلال (1) لنفسه أو لغيره. فلو أمن من ذلك، أو كانت

---------------

في عمومه وخصوصه وإطلاقه وتقييده لأدلته الشرعية، وليس مستفاداً من حكم العقل. ولذا لا إشكال في ارتفاعه بمثل الحرج من روافع التكليف الشرعية. ولا مجال لذلك في المستقلات العقلية بناءً علي الملازمة، لعدم ارتفاع حكم العقل إلا بالعجز المانع من التكليف.

الرابع: ما ذكره (قدس سره) أيضاً من الذم المستفاد من قوله تعالي: (وَمِن النَّاسِ مَن يَشتَرِي لَهوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ)(1) ، وبقوله تعالي: (وَاجتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ)(2). وكأنه لحمل الآية الأولي علي النهي عن اكتساب ما يوجب الضلال، والثانية علي إطلاق اجتناب قول الزور بنحو يمنع حتي من اكتسابه وحفظ ما يتضمنه.

وفيه: أن ظاهر الآية الأولي ذم فعل ما يوجب الإضلال فعلاً. وظاهر اجتناب قول الزور في الآية الثانية هو تركه بنفسه، ولا يشمل حفظ الكتاب الذي يتضمنه. ولاسيما بملاحظة تفسير الآيتين الشريفتين بالغناء في النصوص(3) ، فالآيتان أجنبيتان عما نحن فيه، لورودهما لبيان حرمة ممارسة الأمرين بنفسهما، والمدعي في المقام حرمة حفظ الكتب بلحاظ اشتمالها علي الضلال من دون نظر إلي الوقوع فيه.

ومن ثم كان الظاهر اختصاص حرمة حفظ كتب الضلال، بما إذا احتمل ترتب الفساد عليها، كما يأتي من سيدنا المصنف (قدس سره)، ويأتي الكلام في وجهه إن شاء الله تعالي.

(1) وقد استدل علي ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) بمعتبر عبد الملك بن أعين: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إني قد ابتليت بهذا العلم، فأريد الحاجة، فإذا نظرت إلي الطالع ورأيت الطالع الشر جلست ولم أذهب فيها، وإذا رأيت طالع الخير ذهبت

********

(1) سورة لقمان آية: 6.

(2) سورة الحج آية: 30.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 304

هناك مصلحة أهم، جاز (1). وكذا يحرم بيعها (2)،

---------------

في الحاجة. فقال لي: تقضي ؟ قلت: نعم. قال: احرق كتبك"(1). قال (قدس سره): "بناء أن الأمر للوجوب، دون الإرشاد للخلاص من الابتلاء بالحكم بالنجوم. ومقتضي ترك الاستفصال في هذه الرواية أنه إذا لم يترتب علي إبقاء كتب الضلال مفسدة لم يحرم".

وفيه: أولاً: أنه تقدم عند الكلام في حرمة التنجيم أن الحديث محمول علي الإرشاد لتجنب النظر في الكتب المذكورة في فرض ثبوت ترتب المحذور - وهو الحكم بالنجوم - عند النظر فيها. والظاهر اكتفاؤهم في المقام باحتمال ترتب الضلال.

وثانياً: أن الحديث أجنبي عن محل الكلام، لعدم وضوح كون الكتب المذكورة كتب ضلال. ومجرد بطلان علم النجوم لا يقتضي ذلك. اللهم إلا أن يتعدي من مورده لما نحن فيه بفهم عدم الخصوصية، بل بالأولوية العرفية. ومن ثم كان المتعين في الجواب هو الأول. فالأولي الاستدلال علي المدعي بأنه مقتضي القاعدة. أما مع خوف الضلال علي نفسه فلأن أهمية محذور الضلال تقضي بوجوب الأمن منه. وأما مع خوفه علي الغير فلأن محذور ضلال الناس من الأهمية بحيث يعلم باهتمام الشارع الأقدس بمنعه وسدّ بابه، وذلك بمنع الكتاب من أن يطلع عليه أو بإتلافه أو نحو ذلك. فتأمل.

(1) أما مع خوف الضلال علي نفسه فالظاهر عدم وجود مصلحة أهم. نعم يمكن ذلك مع خوف الضلال علي الغير، لإمكان أن يترتب علي حفظ الكتاب نقضه، ويترتب علي النقض تحصين جماعة من ضرره أكثر ممن يحتمل ضلالهم به بسبب حفظه. ولو أمكن الجمع بين النقض والفرار عن محذور ضلال الغير به بعدم تمكين من يخشي ضلاله من الإطلاع عليه كان متعيناً.

(2) لعين ما سبق. بل إذا انحصر أثر الكتاب في ضلال الناس به تعين بطلان بيعه، لكونه من أكل المال بالباطل، نظير ما تنحصر فائدته في الحرام.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 14 من أبواب آداب السفر إلي الحج وغيره حديث: 1.

ص: 305

ونشرها (1). ومنها الكتب الرائجة من التوراة والإنجيل وغيرها. هذا مع احتمال التضليل بها (2).

(مسألة 34): يحرم تزيين الرجل بالذهب (3) وإن لم يلبسه.

---------------

(1) لعين ما سبق. وكذا يحرم البيع والنشر لو كان في ذلك ترويج للباطل وتقوية ودعاية له وإن لم يترتب عليهما الإضلال. ومنه يظهر الحال في طبع الكتب المذكورة.

(2) وكذا مع احتمال ترويج الكفر أو الضلال وتقويتهما وحصول الدعاية لهما بسبب ذلك.

(3) قال في الشرايع في كتاب الشهادات: "يحرم التختم بالذهب والتحلي به للرجال" ،وفي الجواهر: "بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه" .ويظهر منهما أن موضوع كلامهما مطلق التزين ولو بغير اللباس، بناءً علي أن الحلي مطلق ما يتزين به ولو بغير اللباس، كما يناسبه إضافته لما لا يلبس كالسيف، حيث لا يراد بتحليته إلا تزينه.

وكيف كان فلا إشكال في أن التزيين الذي ذكره سيدنا لمصنف (قدس سره) أعم من اللبس من وجه، فيجتمعان في الملبوس الذي هو زينة، كالخاتم والسوار والرداء. وينفرد التزيين عن اللباس في مثل أزرار الثوب، والأوسمة المحمولة، ونحوها. كما ينفرد اللبس عن التزين فيما إذا كان الملبوس مستوراً، كلبس السوار مع طول أكمام الثوب، ولبس الخاتم تحت القفازين.

ولا إشكال في حرمة التزين بلبس الذهب، وهو المتيقن من كلام الأصحاب، والإجماع المتقدم من الجواهر، والنصوص. كصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن الرجل هل يصلح أن يتختم بالذهب ؟ قال: لا"(1) ، وموثق عمار عن أبي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب لباس المصلي حديث: 10.

ص: 306

عبدالله (عليه السلام) في حديث قال:" لا يلبس الرجل الذهب ولا يصلي فيه، لأنه من لباس أهل الجنة"(1) ، وموثق روح بن عبد الرحيم عنه (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام): لا تتختم بالذهب، فإنه زينتك في الآخرة"(2) ، وموثق حنان بن سدير عنه (عليه السلام):" سمعته يقول: قال النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لعلي (عليه السلام): إياك أن تتختم بالذهب، فإنه حليتك في الجنة، وإياك أن تلبس القسي"(3) ، وغيرها.

ودعوي: أن النصوص المذكورة وإن كانت ظاهرة في الحرمة، إلا أنه لابد من رفع اليد عن ظهورها المذكور بصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): "قال: قال علي (عليه السلام): نهاني رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) - ولا أقول نهاكم - عن التختم بالذهب وعن ثياب القسي"(4). لظهور اختصاص النهي بأمير المؤمنين (عليه السلام) في كونه تنزيهياً، ولا يناسب كونه تحريمياً.

مدفوعة: أولاً: بأن اختصاص النهي بأمير المؤمنين (عليه السلام) لا يستلزم كونه تنزيهاً، إذ كما يمكن اختصاص النهي التنزيهي به (عليه السلام) يمكن اختصاص النهي التحريمي به.

وثانياً: بأن الصحيح لم يتضمن اختصاص النهي به، بل مجرد إخبار أمير المؤمنين (عليه السلام) بنهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) له وعدم إخباره (عليه السلام) بنهيه (صلي الله عليه وآله وسلّم) لهم، وهو لا ينافي عموم النهي لهم في الواقع، كما هو صريح بعض النصوص الأول، وظاهر بعضها، وهو ما تضمن نهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام)، لأن ذكر الإمام (عليه السلام) النهي له (عليه السلام) من دون تنبيه لاختصاصه به ظاهر في عمومه لغيره، وأن الغرض من بيانه الحث علي العمل بمقتضاه، لا مجرد نقل حدث تاريخي.

ومن ثم لابد من البناء علي عموم النهي، وكونه تحريمياً، عملاً بظاهره، كما هو المتسالم عليه عندنا، بل ادعي اتفاق المسلمين عليه.

وإنما الإشكال في عموم الحرمة للصورتين الأخريين، وهما التزين بالذهب من دون لبس، ولبسه من دون تزين.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب لباس المصلي حديث: 4، 1، 11، 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب لباس المصلي حديث: 4، 1، 11، 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب لباس المصلي حديث: 4، 1، 11، 7.

(4) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب لباس المصلي حديث: 4، 1، 11، 7.

ص: 307

ومقتضي إطلاق حرمة اللبس في كلام بعضهم حرمة الثانية، وهو مقتضي إطلاق معقد الإجماع المدعي من الجواهر في مبحث لباس المصلي، حيث قال:" لا يجوز لبس الذهب للرجل إجماعاً ".كما أن مقتضي إطلاق حرمة التحلي المتقدم من الشرايع حرمة الأولي، وهو مقتضي إطلاق معقد الإجماع المتقدم من الجواهر. وصريح سيدنا المصنف (قدس سره) حرمتهما معاً.

وقد استشكل بعض مشايخنا (قدس سره) في حرمة الأولي، وهي التزين من دون لبس، لدعوي اختصاص النصوص باللبس.

لكن تعليل النهي عن التختم بالذهب في موثقي روح وحنان بأنه زينة أهل الجنة راجع إلي التنافي في حق الرجل بين كون الذهب زينة له في الدنيا وكونه زينة له في الآخرة، وذلك راجع إلي حرمة تزين الرجل به في الدنيا. ولاسيما وأن التختم غالباً يجمع بين اللبس والتزيين، فالتعدي منه بقرينة التعليل لكل زينة أولي من التعدي لكل ملبوس، بل هو المتعين، ومقتضي ذلك أن حرمة اللباس بلحاظ كونه زينة، فلا يحرم إذا لم يكن زينة، عكس ما ذكره (قدس سره).

نعم قد يقال: كما تضمنت النصوص المذكورة التعليل بأنه زينة في الآخرة، كذلك تضمن موثق عمار التعليل بأنه لباس أهل الجنة، ومقتضاه أن موضوع التنافي في حق الرجل بين الدنيا والآخرة هو اللباس لا مطلق الزينة، وبعد تنافي التعليلين يتعين تساقطهما والرجوع لموثق عمار المتضمن إطلاق النهي عن لبس الذهب.

لكن المناسبات الارتكازية قاضية بكون موضوع التنافي المذكور هو الزينة، وحمل اللباس في موثق عمار علي خصوص ما يكون زينة منه، تحكيماً للنصوص الأخر عليه، لأن خصوصية الذهب إنما يهتم بها عرفاً من أجل كونه زينة، ومن ثم يكون تنزيل اللباس في موثق عمار علي ما يكون زينة أقرب عرفاً من تنزيل الزينة في بقية النصوص علي خصوص الملبوس.

ودعوي: أنه لا تنافي بين التعليلين، بل يتعين العمل بكلتا الطائفتين والبناء

ص: 308

ولو تزين بلبسه تأكد التحريم (1).

(مسألة 35): يحرم الكذب (2)

---------------

علي حرمة كل من اللباس والزينة. وعليه يبتني إطلاق من سبق، وصريح كلام سيدنا المصنف (قدس سره).

مدفوعة: بأن تنزيل أحد التعليلين علي الآخر أقرب عرفاً من إبقاء كل منهما علي إطلاقه، لأن التعليل بالزينة قد ورد في الخاتم الذي هو ملبوس أيضاً، فالاقتصار في التعليل فيه علي الزينة ظاهر في أنها تمام العلة له، فينافي التعليل باللباس، ويتعين الجمع بينهما بما ذكرنا. فتأمل جيداً.

هذا وإذا حرم تزين الرجل بالذهب حرم تزيينه به، لأنه فعل لنفس الحرام في حقه، فهو نظير التعاون علي الإثم، وليس من الإعانة علي الإثم، ليتوجه ما سبق في المسألة الثامنة من المنع عن حرمتها.

نعم لو فرض عدم الإثم في حقه - لجهله بالموضوع أو بالحكم جهلاً يعذر فيه

فتحريم التزيين لا يخلو عن إشكال لأن التزين إذا لم يكن إثماً في حق المتزين لم يكن التعاون عليه تعاوناً علي الإثم في حق المتعاون.

اللهم إلا أن يقال: الجهل بكون الشيء محرماً لا يخرجه عن كونه إثماً. غايته أنه يكون عذراً رافعاً للعقاب في حق الجاهل دون المتعاون العالم. أو يقال: المستفاد مما تضمن عدم تزين الرجل بالذهب في الدنيا حرمة حصول ذلك له ولو بفعل غيره. فلاحظ.

(1) بناءً علي حرمة كل من التزين واللبس. لكن عرفت الإشكال في ذلك.

(2) بلا ريب ولا إشكال، وقال شيخنا الأعظم (قدس سره):" بضرورة العقول والأديان ".وكأن المراد بضرورة العقول حكم العقل بقبحه، حيث يقتضي حرمته شرعاً بناءً علي الملازمة.

ص: 309

ويظهر من بعض مشايخنا (قدس سره) إنكار حكم العقل بقبحه في نفسه، وأنه إنما يقبح عقلاً من ترتب مفسدة عليه. لكنه كما تري، فإن حسن الصدق وقبح الكذب من الوجدانيات الضرورية.

نعم الظاهر عدم ملازمة الحكم المذكور للحرمة شرعاً، لإمكان مزاحمته بجهة تمنع من الحكم بحرمته، وإلي ذلك يرجع ما ذكرناه في الأصول وأشرنا إليه في المسألة السابقة من إنكار ملازمة حكم العقل لحكم الشرع.

فالعمدة في الدليل علي حرمته الأدلة التعبدية من الكتاب والسنة والإجماع. ولا إشكال في نهوضها بحرمته في الجملة. والمهم إقامة الدليل علي حرمته مطلقاً، ليرجع إليه في موارد الشك. والظاهر وفاء الكتاب والسنة بذلك.

أما الكتاب فقد يستدل منه بقوله تعالي: (وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكذِبُونَ)(1) فإن جعل سبب العذاب الكذب دون تقييد له بكذب خاص في حرمة الكذب بنفسه مطلقاً مع قطع النظر عن خصوصية موضوعه.

وأظهر من ذلك قوله تعالي: (وَاجتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ)(2) فإن الزور وإن لم يختص بالكذب، كما سبق عند الكلام في حرمة الغناء، بل هو مطلق الميل، إلا أن الكذب من أظهر أفراد قول الزور. وأما تفسير قول الزور في النصوص الكثيرة(3) بالغناء فالظاهر أنه راجع إلي تطبيقه عليه وكونه من أفراده، من دون أن يختص به، لشيوع ذلك في النصوص الواردة في تفسير القرآن، ويحتاج التخصيص إلي عناية. ويؤكد ذلك في المقام صحيح حماد بن عثمان عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سألته عن قول الزور. قال: منه قول الرجل الذي يغني: أحسنت"(4).

********

(1) سورة البقرة آية: 10.

(2) سورة الحج آية: 30.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به حديث: 21.

ص: 310

وهو الإخبار بما ليس بواقع (1).

---------------

وأما السنة فيقتضيه منها النصوص التي سبق في مباحث التقليد الاستدلال بها، لكونه من الكبائر، فقد عُدّ من الكبائر فيما كتبه الإمام الرضا (عليه السلام) للمأمون من حديث شرايع الدين(1) ، وموثق محمد بن مسلم أو صحيحه عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: إن الله عز وجل جعل الشر أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب. والكذب شر من الشراب"(2). فإنه حيث كان الشراب من الكبائر، فيكون الكذب أشد منه يستلزم كونه من الكبائر وهناك نصوص أخر لتأييد الحكم وأن كان قد يشكل الاستدلال بها، لضعف سندها. وتمام الكلام هناك.

(1) كما هو المتبادر منه عرفاً، المناسب لما في لسان العرب من أنه ضد الصدق. وربما قيد بما إذا علم بمخالفة الخبر للواقع. بل ربما ادعي أنه الإخبار علي خلاف المعلوم للمخبر وإن صادف الواقع.

لكن لا يبعد انصراف الكذب لذلك بسب ارتكاز أن الكذب من الصفات الذميمة، والذم إنما يكون مع تعمد الإخبار بخلاف الواقع، ولا يكون مع الخطأ، مع كون المعني الحقيقي للكذب هو الإخبار بخلاف الواقع مطلقاً ولو مع الخطأ.

كما قد يناسب ذلك مثل قوله تعالي: (وَكَذَّبَ بِهِ قَومُكَ وَهُوَ الحَقُّ)(3) ، وقوله سبحانه: (فَقَد كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَمَّا جَاءَهُم)(4). لظهورها في أن مجرد كون الشيء حقاً مستلزم لكون إنكاره تكذيباً من دون أن يتوقف علي أمر آخر، وهو اعتقاد أن مدعيه قد تعمد الكذب.

وكذا مثل قوله عز اسمه: (ذَلِكَ وَعدٌ غَيرُ مَكذُوبٍ)(5) وقوله عز وجل:

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 46 من أبواب جهاد النفس حديث: 33.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 138 من أبواب أحكام العشرة حديث: 3.

(3) سورة الأنعام آية: 66، 5.

(4) سورة الأنعام آية: 66، 5.

(5) سورة هود آية: 65.

ص: 311

ولا فرق في الحرمة بين ما يكون في مقام الجد وما يكون في مقام الهزل (1).

---------------

(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا الله وَرَسُولَهُ) (1) لظهوره في أنه يكفي في كذب الوعد عدم تحقيق الأمر الموعود به وإن كان الواعد معتقداً تحققه حين الوعد به.

وكذلك ما تضمن تقييد الكذب بالعمد، مثل ما في وصية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: "يا علي من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"(2) ، وما في وصيته (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأبي ذر:" قلت: يا رسول الله فما توبة الرجل الذي يكذب متعمداً؟ قال: الاستغفار وصلوات الخمس تغسل ذلك"(3)... إلي غير ذلك. والأمر سهل.

وكيف كان فلا إشكال في حرمة الإخبار من غير علم وإن كان مضمون الخبر متحققاً في الواقع، بل هو من الضروريات، كما يقتضيه ما دل علي وجوب كون الأمر المشهود به معلوماً، كقوله تعالي: (أَشَهِدُوا خَلقَهُم سَتُكتَبُ شَهَادَتُهُم وَيُسأَلُونَ)(4) ، وموثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): لا تشهد بشهادة لا تذكرها، فإنه من شاء كتب كتاباً ونقش خاتماً"(5) ، وغيرهما. وهو كما يمكن أن يبتني علي أخذ العلم في جواز الإخبار واقعاً يمكن أن يبتني في وجوب الاحتياط ظاهراً في الإخبار، وإن كان جوازه منوطاً واقعاً بصدق الخبر.

(1) لإطلاق الأدلة المتقدمة. وخصوص معتبر الأصبغ بن نباتة:" قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يجد عبد طعم الإيمان حتي يترك الكذب هزله وجده"(6) ، ومرسل سيف بن عميرة عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول لولده: اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جد وهزل، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ علي الكبير. أما علمتم أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال: مايزال العبد يصدق حتي يكتبه

-

********

(1) سورة التوبة آية: 90.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 139 من أبواب أحكام العشرة حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 140 من أبواب أحكام العشرة حديث: 4.

(4) سورة الزخرف آية: 19.

(5) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 8 من أبواب الشهادات حديث: 4.

(6) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 140 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، 1.

ص: 312

نعم إذا تكلم بصورة الخبر هزلاً بلا قصد الحكاية والإخبار فلا بأس به (1).

---------------

الله صديقاً، ومايزال العبد يكذب حتي يكتبه الله كذاباً"(1) ، وخبر الحارث عنه (عليه السلام):" قال: لا يصلح من الكذب جد ولا هزل، ولا يعد أحدكم صبيه ثم لا يفي له. إن الكذب يهدي إلي الفجور، والفجور يهدي إلي النار..."(2) ، وفي وصية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأبي ذر (رضي الله عنهم): "ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم. ويل له ويل له ويل له. يا أبا ذر من صمت نجي، فعليك بالصمت، ولا تخرجن من فيك كذبة أبداً..."(3).

اللهم إلا أن يقال: معتبر الأصبغ لا يخلو عن قصور في الدلالة، فإن توقف وجدان طعم الإيمان علي ترك الكذب بجميع أفراده أعم من وجوبه، لأن وجدان طعم الإيمان أمر زائد علي الإيمان لا دليل علي وجوبه.

ومرسل سيف - مع ضعفه - ظاهر في الإرشاد إلي ترك الكذب مطلقاً من أجل حصول ملكة تجنب الكذب، لتنفع في تجنب الكذب في الكبير من دون نظر إلي حرمته شرعاً.

وكذلك خبر الحارث، فإن قوله:" لا يصلح "وإن كان ظاهراً بدواً في الحرمة، إلا أنه يشكل ذلك بلحاظ ذكر خلف الوعد للصغير، حيث لا يبعد من أجله حمله علي الإرشاد لتحصيل ملكة تجنب الكذب من أجل سدّ باب الفجور.

نعم ما في وصية أبي ذر لا قصور في دلالته، إلا أن ضعف سنده مانع من الاستدلال. فالعمدة في المقام ما ذكرناه أولاً من إطلاق الأدلة.

(1) لخروجه عن الكذب موضوعاً بعد فرض عدم قصد الإخبار فيه. لكن احتمل شيخنا الأعظم (قدس سره) الحرمة من جهة النصوص المتقدمة، لغلبة كون الكذب المضحك في مقام الهزل من هذا القسم، فيبعد حمل النصوص المذكورة علي خصوص القسم الأول، الذي هو الكذب الحقيقي.

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 140 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 140 من أبواب أحكام العشرة حديث: 1، 3، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 140 من أبواب أحكام العشرة حديث: 1، 3، 4.

ص: 313

ومثله التورية (1)، بأن يقصد من الكلام معني له واقع، ولكنه خلاف

---------------

وهو مبني علي المفروغية عن كون موضوع النصوص ما يتحقق به الهزل من نوعي الكذب، حيث تصلح الغلبة حينئذٍ للقرينة علي كون المراد بالكذب في تلك النصوص ما يعم الكذب الصوري. وهو غير ظاهر، بل ظاهر النصوص النهي عن الكذب الصادر في مقام الهزل، وحينئذٍ لا تنهض الغلبة المذكورة بالقرينية علي كون المراد بالكذب فيها ما يعم الكذب الصوري، بل لا مخرج عن ظهور الكلام في إرادة خصوص الكذب الحقيقي.

علي أنه سبق الإشكال في الاستدلال بالنصوص المذكورة علي حرمة الكذب الحقيقي، فكيف بالكذب الصوري. ومن ثم يتعين البناء علي الجواز في ذلك.

هذا ولا يفرق في الجواز بين قيام القرينة علي إرادة الهزل وعدمه، بحيث يفهم منه الجدّ من دون أن يكون مقصوداً. غاية الأمر أن يكون الثاني من سنخ التورية التي يأتي الكلام فيها.

(1) كما هو ظاهر غير واحد. لعدم صدق الكذب عليها بعد عدم قصد الإخبار معها بخلاف الواقع أو بما لا يعلم أنه الواقع.

ولكن عن المحقق القمي (قدس سره) أن المعتبر فيه اتصاف الخبر بالصدق والكذب هو ما يفهم من ظاهر الكلام، لا ما هو المراد منه، فلو قال: رأيت حماراً وأراد منه البليد من دون نصب قرينة فهو متصف بالكذب وإن لم يكن المراد مخالفاً للواقع.

وهو كما تري، مخالف لمعني الكذب لغة وعرفاً. نعم لا ريب في بناءً العرف علي كذب الخبر بمخالفة ظاهره للواقع. إلا أن ذلك ناشئ من بنائهم علي حجية الظهور في تعيين مراد المتكلم، فهو راجع إلي بنائهم علي تحقق الكذب بذلك ظاهراً، لا علي تحققه واقعاً، من أن الكذب ثبوتاً عندهم هو مخالفة ظاهر الكلام للواقع، كما ذكره (قدس سره).

ص: 314

الظاهر (1). كما أنه يجوز الكذب لدفع الضرر عن نفسه (2).

---------------

ومثله ما في مفتاح الكرامة والجواهر من دخول التورية والهزل من دون قرينة في الكذب حقيقة أو مشاركتهما له في الحكم.

لظهور المنع من الأول، كما سبق. ولعدم الدليل علي الثاني. بل يمكن الاستدلال علي بطلانهما معاً بالسيرة والمرتكزات، المؤيدة بما ذكره جمع من الأصحاب من وجوب التورية لمن يقدر عليها مع الاضطرار للحلف كاذباً، وبما في بعض النصوص، مثل ما في الاحتجاج في توجيه عدم كذب إبراهيم ويوسف (صلي الله علي نبينا وآله وعليهما وسلم) بالتورية(1) ، وما تضمن صدور التورية من الأئمة (صلوات الله عليهم)(2).

(1) وكذا لو لم يكن المعني المقصود مخالفاً للظاهر، إلا أن المخاطب لم يفهمه وفهم غيره، لأنس ذهنه به أو لغير ذلك. هذا إذا كان قصد المتكلم تفهيم المعني الذي فهمه المخاطب. أما إذا كان قصده تفهيم المعني الذي قصده هو في مقام الاستعمال، وهو المطابق للواقع، إلا أن المخاطب فهم المعني الآخر خطأ، أو لقرينة لم يلتفت لها المتكلم، فهو خارج عن التورية.

ولا إشكال في جوازه، لعدم قصد المتكلم إيهام السامع. كما لا يجب عليه تصحيح خطأ السامع، لعدم الدليل علي ذلك.

(2) بلا إشكال ظاهر. لقاعدة نفي الضرر. ولما يأتي من عموم جواز الكذب للإصلاح، لأن من أظهر أفراده دفع الضرر عن المؤمن. ولخصوص ما ورد في جواز الحلف تقية ولدفع الضرر عن نفسه وماله.

ففي صحيح إسماعيل بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في حديث:" سألته عن الرجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك فحلف. قال: لا جناح عليه. وعن رجل يخاف علي ماله من السلطان، فيحلفه لينجو به منه. قال: لا جناح عليه.

********

(1) الاحتجاج ج: 2 ص: 105.

(2) الكافي ج: 8 ص: 100، 253، 292.

ص: 315

أو عن المؤمن (1). بل يجوز الحلف كاذباً حينئذٍ (2). ويجوز الكذب أيضاً للإصلاح بين المؤمنين (3).

---------------

وسألته: هل يحلف الرجل علي مال أخيه كما يحلف علي ماله ؟ قال: نعم"(1).

وفي معتبر الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلي المأمون: "ولا حنث علي من حلف تقية يدفع بها ظلماً عن نفسه" (2) وصحيح الحلبي: "أنه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يحلف لصاحب العشور يحرز [يجوز] بذلك ماله ؟ قال: نعم" (3) وغيرها. وإذا ساغ الحلف كاذباً ساغ الكذب في نفسه مع قطع النظر عن اليمين بالأولوية.

(1) كما تقدم في صحيح إسماعيل. وفي موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أحلف بالله كاذباً ونج أخاك من القتل"(4) ، ونحوهما غيرهما.

(2) كما تضمنته النصوص المتقدمة وغيرها.

(3) بلا إشكال ظاهر وادعي إجماع الفريقين عليه. وقد استدل عليه بعض مشايخنا (قدس سره) بأن مقتضي قوله تعالي: (فَأَصلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُم)(5) جواز الإصلاح مطلقاً ولو بالكذب، وبينه وبين عموم حرمة الكذب عموم من وجه، فيتعارضان في مورد الاجتماع، وهو الكذب للإصلاح، وبعد تساقطهما يكون المرجع فيه أصل البراءة، أو عموم: المصلح ليس بكذاب(6) ، فإنه ينفي الكذب عن الصلح بلسان الحكومة.

لكن عموم المصلح ليس بكذاب - لو تم - لما كان أخص من عموم حرمة الكذب، بل هو حاكم عليه - كما اعترف به - فهو مقدم عليه بلا حاجة إلي التعارض

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من أبواب كتاب الأيمان حديث: 1، 10، 8، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من أبواب كتاب الأيمان حديث: 1، 10، 8، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من أبواب كتاب الأيمان حديث: 1، 10، 8، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من أبواب كتاب الأيمان حديث: 1، 10، 8، 4.

(5) سورة الحجرات آية: 10.

(6) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 3، 9.

ص: 316

بينه وبين إطلاق الآية الشريفة.

وأما أصل البراءة فالرجوع إليه موقوف علي ما ذكره من سقوط عموم حرمة الكذب بمعارضته بعموم الآية الشريفة. لكنه ممنوع، بل الظاهر أن المورد من موارد التزاحم، لعدم الاتحاد بين عنواني الكذب والإصلاح عرفاً، لأن عنوان الإصلاح منتزع من ترتب الصلح علي العمل، وحيث كان منشأ انتزاع العنوان هو مورد الغرض في الحقيقة فالجائز والمستحب هو الصلح، وليس هو متحداً مع الكذب خارجاً، بل مسبباً عنه، فيكون المورد من صغريات التزاحم، كما أوضحنا ذلك في مبحثي اجتماع الأمر والنهي والتزاحم من الأصول.

وحيث كان الكذب محرماً والصلح جائزاً أو مستحباً فالمتعين تقديم حرمة الكذب، لأن الحكم غير الإلزامي لا يقوي علي مزاحمة الحكم الإلزامي. ولذا لا إشكال في عدم جواز الإصلاح بغير الكذب من المحرمات، كالنميمة، وعقد مجلس يشرب فيه الخمر، أو يفطر فيه في نهار شهر رمضان، وغيرها.

نعم لو فرض وجوب الصلح في مورد كان صالحاً لمزاحمة تحريم الكذب، وتعين النظر في الترجيح أو التخيير بينهما، ومن المعلوم عدم اختصاص كلامهم بذلك.

فالعمدة في المقام - بعد ظهور مفروغية الأصحاب - النصوص مثل ما في وصية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام):" يا علي ثلاث يحسن فيهن الكذب: المكيدة في الحرب، وعدتك زوجتك، والإصلاح بين الناس"(1) ، ونحوه خبر المحاربي وخبر عيسي بن حسان: "سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً، إلا كذباً في ثلاثة: رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه، أو رجل أصلح بين اثنين يلقي هذا بغير ما يلقي به هذا يريد الإصلاح ما بينهما، أو رجل وعد أهله شيئاً وهو يريد أن لا يتم لهم"(2) ، ومرسل الواسطي عنه (عليه السلام):" قال: الكلام ثلاثة: صدق وكذب وإصلاح بين الناس..."(3). وهذه النصوص وإن كانت ضعيفة السند، إلا أن تعاضدها بحيث

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، 5، 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، 5، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، 5، 6.

ص: 317

يوثق بصدور بعضها، وتكون حجة بمجموعها، قريب جداً.

هذا مضافاً إلي دخوله في إطلاق الكذب في الصلاح أو في الإصلاح، الذي تضمن جوازه غير واحد من النصوص، منها ما هو معتبر في نفسه، كصحيح معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: المصلح ليس بكذاب"(1) ، وخبره الآخر في حديث:" أنه قال له: أبلغ أصحابي كذا، وأبلغهم كذا وكذا. قال: قلت: فأني لا أحفظ هذا، فأقول ما حفظت و [ما] لم أحفظ [قلت] أحسن ما يحضرني ؟ قال: نعم المصلح ليس بكذاب"(2).

وحديث الحسن الصيقل: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إنا قد روينا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول يوسف (عليه السلام): (أَيَّتُهَا العِيرُ إِنَّكُم لَسَارِقُونَ) فقال: والله ما سرقوا وما كذب. وقال إبراهيم: (بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَاسأَلُوهُم إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) فقال: والله ما فعلوه وما كذب. فقال أبو عبدالله (عليه السلام) ما عندكم فيها يا صقيل ؟ قلت: ما عندنا فيها إلا التسليم. قال: فقال: إن الله أحب اثنين، وأبغض اثنين. أحب الخطر فيما بين الصفين، وأحب الكذب في الإصلاح، وأبغض الخطر في الطرقات، وأبغض الكذب في غير الإصلاح. إن إبراهيم (عليه السلام) إنما قال: (بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا) إرادة الإصلاح، ودلالة علي أنهم لا يفعلون، وقال يوسف إرادة الإصلاح"(3).

وخبر عطاء عنه (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): لا كذب علي مصلح، ثم تلا: (أيّتُها العيرُ إنكُم لَسارِقُون) ثم قال: والله ما سرقوا وما كذب، ثم تلا: (بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَاسأَلُوهُم إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) ثم قال: والله ما فعلوه وما كذب"(4) ، وفي صدر حديث وصية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) المتقدم قال: "يا علي إن الله أحب الكذب في الصلاح وأبغض الصدق في الفساد"(5).

ومن ثم لا ينبغي الإشكال في جواز الكذب للإصلاح بين الناس بعد أن كان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 9، 4، 7، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 9، 4، 7، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 9، 4، 7، 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 9، 4، 7، 1.

ص: 318

والأحوط فيهما الاقتصار علي صورة عدم إمكان التورية (1).

---------------

هو مورد جملة من النصوص المتقدمة والمتيقن من جملة منها.

بل مقتضي إطلاق الإصلاح والصلاح في النصوص الأخيرة جوازه لكل صلاح شرعي - كما يظهر من مفتاح الكرامة والجواهر - وإن لم يكن من إصلاح ذات البين، كتنبيه الجاهلين، وموعظة الغافلين، وتجنب المشاكل ونحو ذلك. ولاسيما بملاحظة موارد أخبار معاوية بن عمار والحسن وعطاء.

ودعوي: أن ذلك ينافي الحصر المستفاد من أخبار إصلاح ذات البين المتقدمة. ولاسيما خبر عيسي بن حسان. مدفوعة بأن الأخبار المذكورة لما لم تكن معتبرة السند فهي تشارك أخبار معاوية والحسن وعطاء في ابتناء حجيتها علي التعاضد.

وحينئذٍ لا ريب في أن ظهور الأخبار الأخيرة أقوي من الحصر المذكور في الأخبار الأول، ومقتضي الجمع بين الطائفتين تنزيل الحصر المذكور علي إلغاء خصوصية إصلاح ذات البين، وأن ذكره طرفاً في الحصر بلحاظ كونه من أفراد مطلق الإصلاح.

أما لو بني علي عدم بلوغ الأخبار المذكورة بالتعاضد مرتبة الحجية وإن التعويل علي صحيح معاوية بن عمار فمقتضي إطلاقه العموم لغير إصلاح ذات البين من أفراد الصلاح والإصلاح.

وبذلك يظهر أن إصلاح ذات البين إنما يسوّغ الكذب حيث يكون راجحاً وينطبق عليه الصلاح والإصلاح، أما لو كان مرجوحاً لترتب مفسدة عليه فهو لا يسوّغ الكذب. بل لا يبعد كون ذلك هو المنصرف من نصوص إصلاح ذات البين مع قطع النظر عن الجمع المذكور. لما هو الظاهر من أن تسويغ الشارع الكذب لإصلاح ذات البين من أجل اهتمام الشارع الأقدس بإصلاح ذات البين ورجحانه بنظره، وذلك يناسب اختصاصه بما إذا لم تترتب عليه مفسدة تجعله مرجوحاً شرعاً.

(1) قال في جامع المقاصد: "ولو اقتضت المصلحة الكذب وجبت التورية".

ص: 319

ونسبه شيخنا الأعظم (قدس سره) لظاهر المشهور مستشهداً له بجملة من كلمات الأصحاب. لكن الكلمات التي ذكرها إنما تضمنت اعتبار التورية في الحلف كاذباً، لا في نفس الكذب.

وكيف كان فلا إشكال في عدم وجوب اختيار التورية بناءً علي أنها محرمة كالكذب، إذ لا منشأ ظاهراً لترجيح أحد المحرمين علي الآخر. ولعله لذا استشكل في مفتاح الكرامة فيما سبق من جامع المقاصد، قال: "لأن ظواهر الأدلة علي خلاف ذلك" ،وفي الجواهر: "ولا تجب التورية حينئذٍ ولو تمكن منها. للأصل وغيره".

وأما بناءً علي جواز التورية فالوجه في وجوب اختيارها قصور أدلة الترخيص في الكذب عن صورة القدرة عليها. أما مثل قاعدة نفي الضرر - التي سبق الاستدلال بها لجواز الكذب لدفع الضرر عن النفس والمال - فظاهر. لعدم لزوم الضرر من حرمة الكذب مع القدرة علي التورية، لإمكان اندفاع الضرر بها. وأما النصوص الخاصة الواردة في المقام فلقرب انصراف إطلاقها لذلك. لورودها مورد الاضطرار، كما يناسبه ذكر الخوف والتقية في بعض نصوص الحلف لحفظ النفس والمال.

إن قلت: ليس المورد من موارد الاضطرار، لعدم وجوب إصلاح ذات البين، وعدم وجوب حفظ المال، خصوصاً القليل منه الذي هو مورد نصوص جواز الحلف للعشار، لما هو الظاهر من كثرة موارد قلة المال الذي يأخذه.

نعم لا إشكال في وجوب حفظ النفس، إلا أن النصوص لا تختص به، بل بعضها قد تضمنه مع حفظ المال في سياق واحد، كمرسل يونس عن أحدهما (عليه السلام): "في رجل حلف تقية. فقال: إن خفت علي مالك ودمك فاحلف ترده بيمينك، فإن لم ترَ أن ذلك يرد شيئاً فلا تحلف لهم"(1) ، وحيث لا ضرورة لحفظ المال لم تصلح قرينة الضرورة للتقييد حتي في حفظ النفس.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 12 من أبواب الأيمان حديث: 3.

ص: 320

قلت: ليس المراد بالاضطرار الاضطرار المطلق، بل الاضطرار الإضافي، الراجع إلي توقف الأمر المرغوب فيه علي الشيء، إذ الظاهر أن تسويغ الكذب لحفظ المال أو النفس أو إصلاح ذات البين، إنما هو من أجل توقف المسوغات المذكورة، المرغوب فيها شرعاً أو عرفاً، عليه، فهو مضطر إليه من أجل الوصول إليها، وإن لم يكن مضطراً إليه في نفسه، لعدم الاضطرار إليها.

ودعوي: أن عدم التنبيه في النصوص المذكورة للتورية مع كونها مغفولاً عنها موجب لظهورها بمقتضي إطلاقها المقامي في عدم وجوب اختيارها.

مدفوعة بأن وجوبها مع القدرة عليها ليس مغفولاً عنه بلحاظ قرينة الاضطرار المذكورة، بل هو مقتضي المرتكزات، فلا يكون عدم التنبيه عليه في النصوص موجباً لظهورها في عدمه بمقتضي الإطلاق اللفظي ولا المقامي.

نعم القدرة المعتبرة في وجوبها ارتكازاً هي القدرة الفعلية حين الحاجة للإخبار الكاذب، وهي موقوفة علي التفات الشخص للتورية وسيطرته عليها، إذ مع غفلته عنها أو عدم سيطرته عليها يكون مضطراً للكذب حقيقة، فيسوغ له. وعدم التنبيه للتورية حينئذٍ في النصوص يكون سبباً لبقاء العجز عنها، وتحقق الاضطرار للكذب. الذي هو موضوع لتسويغه، ولا موجب لرفع الموضوع المذكور. ولاسيما إذا كان موجباً لارتفاع ملاك حرمة الكذب، حيث لا يلزم من عدم التنبيه فوت ملاك الحرمة.

هذا ولكن الإنصاف أن انصراف الإطلاق لصورة الاضطرار للكذب والعجز عن التورية إنما يتجه في نصوص الحلف لدفع الضرر أو المال، لما سبق من ذكر الخوف والتقية فيها. وهي إنما تقتضي توقف جواز الحلف علي ذلك، لا توقف جواز الكذب عليه، لعدم تعرضها للكذب، وإنما استفيد منها تبعاً بالأولوية، كما سبق.

أما نصوص الكذب للإصلاح فلا مجال لذلك فيها، لعدم القرينة فيها عليه، بل نفي الكذب عن الصلح في مثل صحيح معاوية قد يناسب خروجه موضوع

ص: 321

وأما الكذب في الوعد - بأن يخلف في وعده - فالظاهر جوازه (1)،

---------------

وملاكاً عن حرمة الكذب، لا بملاك الاضطرار المبني علي تحقق موضوع التكليف مع سقوطه بسبب العذر.

وكذا الحال فيما تضمن حسن الكذب للإصلاح أو إصلاح ذات البين، وأنه محبوب لله تعالي، فإنه وإن أمكن حمله علي كونه حسناً ومحبوباً بالعنوان الثانوي بسبب الضرورة والمزاحمة بجهة الحسن في الأمر المترتب عليه، إلا أنه يحتاج إلي عناية، بل ظاهره كونه حسناً ومحبوباً بنفسه في هذا الحال وبعنوانه الأولي.

ولا أقل من كون ذلك مقتضي الإطلاق من دون موجب للانصراف. ولاسيما مع سياقه في بعض النصوص مع الكذب علي الأهل الذي يصعب جداً البناء علي عدم جوازه إلا مع تعذر التورية.

هذا وحيث سبق وفاء النصوص المذكورة بجواز الكذب لدفع الضرر عن النفس والمال والأخ تعين عدم وجوب التورية في ذلك، عملاً بإطلاق هذه النصوص. غاية الأمر أنه لا يجوز الحلف كاذباً إلا مع تعذر التورية، لأن الحلف أمر زائد علي الكذب، ولا دليل علي جوازه إلا النصوص الواردة فيه، وقد سبق انصراف إطلاقها بقرينة الاضطرار إلي صورة تعذر التورية.

ولعل ذلك هو الوجه في تنبيه الأصحاب (رضي الله عنهم) علي لزوم التورية في الحلف مع القدرة عليها، وعدم تنبيههم لذلك في أصل الكذب مع قطع النظر عن الحلف.

(1) الكلام في الوعد: تارة: في حقيقته. وأخري: في حكمه حين صدوره وثالثة: في حكم الوفاء به بعد صدوره.

المقام الأول: في حقيقة الوعد.

والمستفاد من كلمات غير واحد من اللغويين أنه عبارة عن التعهد بالشيء والالتزام بإنجازه، بحيث يكون مسؤولاً به بمقتضي التزامه، نظير الالتزام في العقد

ص: 322

والنذر واليمين. وهو المناسب لكثير من الاستعمالات الشرعية والعرفية. ولاسيما ما تضمن منها ذكر الوفاء به، لأن الوفاء بالشيء فرع صيرورته في العهدة.

نعم الظاهر شيوع استعماله في مطلق الإخبار بالأمر المستقبل وإن لم يكن من أفعال الواعد التي من شأنه أن يلتزم بها، كما في قوله تعالي: (وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِن المُرسَلِينَ)(1) ، وقوله سبحانه: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَن أُخرَجَ وَقَد خَلَت القُرُونُ مِن قَبلِي)(2) ، وقوله عز وجل: (الشَّيطَانُ يَعِدُكُم الفَقرَ وَيَأمُرُكُم بِالفَحشَاءِ)(3) ، وغير ذلك مما تضمن نسبة الوعد لغير الله تعالي مع كون الموعود به من أفعاله سبحانه. ولعله يبتني علي التوسع بلحاظ المعني الأول.

ولذا لا يبعد اختصاص الاستعمالات المذكورة بصورة إصرار المخبر علي وقوع الأمر الذي يخبره به وتبنيه لذلك، وعدم الاكتفاء بمجرد الإخبار بالأمر المستقبل من دون ذلك، حيث يقرب تشبيه الإصرار والتبني المقارن له بالتزام الإنسان بالشيء علي نفسه وتعهده بفعله الذي هو قوام المعني الأول، مع كون المعني الحقيقي الأصلي للوعد هو الأول، كما يناسبه ما يأتي في المقام الثالث من نصوص الوفاء بالوعد، وغيرها من الاستعمالات الكثيرة المبتنية علي أن الوعد موضوع للوفاء.

وكيف كان فالوعد بالمعني الأول يتقوم بالتزام الواعد بالأمر الموعود به علي نفسه، بحيث يكون مقتضي التزامه المذكور تحقيق الأمر الموعود به. ولذا لا يتعلق إلا بما يكون مقدوراً له، وراجعاً بالآخرة إليه. سواء كان إبراز الالتزام المذكور بطريق الإخبار عن الأمر المستقبل، كما لو قال: أزورك غداً، أم بطريق التعهد والالتزام بالأمر المستقبل ابتداء، كما لو قال: لك عليّ أن أزورك غداً.

********

(1) سورة الأعراف آية: 77.

(2) سورة الاحقاف آية: 17.

(3) سورة البقرة آية: 268.

ص: 323

أما بالمعني الثاني فهو يتقوم بالإخبار بالأمر المستقبل بنحو التبني، كتبني الخبير لمقتضي خبرته، سواء ابتني علي الالتزام بالأمر الذي يخبر به علي نفسه، بحيث يكون مسؤولاً بتحقيقه بمقتضي التزامه، كما في المعني الأول، أم لم يبتن علي ذلك، إما لعدم كونه فعلاً له، ولا تحت قدرته وسلطانه، كإخبار الأنبياء (صلوات الله عليهم) بالبعث والنشور، وإخبار المنجم بحوادث الكون، أو لعدم كونه في مقام الالتزام به علي نفسه وإن كان مقدوراً له، كما لو أخبر المنجم بأنه سوف يتزوج أو يمرض أو يسافر، قاصداً بيان مقتضي حكم النجوم ومتبنياً للحكم المذكور، لقناعته به، من دون أن يلتزم به علي نفسه، ليكون مسؤولاً به بمقتضي التزامه، وإن كان مسؤولاً به بمقتضي تبنيه لعلمه المدعي له. لكنها مسؤولية لا تقتضي السعي للتنفيذ.

وبذلك يظهر أن المعنيين وإن كانا متباينين مفهوماً ومصداقاً، لتقوم الأول بالالتزام بالشيء، والثاني بالإخبار عنه بنحو التبني، إلا أن بين مورديهما عموماً من وجه، فيجتمعان في إخبار الشخص عن فعله المستقبل ملتزماً به علي نفسه، كما لو قال: أزورك غداً، وينفرد الأول في التزامه بفعله في المستقبل من دون إخبار عنه، كما لو قال: لك عليّ أن أزورك غداً، وينفرد الثاني في إخبار الشخص عن الأمر المستقبل من دون التزام به علي نفسه، كإخبار الأنبياء (صلوات الله عليهم) بالبعث والنشور، وإخبار المنجم بمقتضي حكم النجوم.

المقام الثاني: في حكم الوعد حين صدوره.

أما المعني الثاني فحيث كان متقوماً بالإخبار عن المستقبل - كما سبق - فالمتعين جريان حكم الخبر عليه، فإن كان مطابقاً للواقع بأن يتحقق الأمر الذي أخبر عنه في وقته كان صدقاً وحلالاً. غاية الأمر أنه لابد في جواز الإخبار من إحراز تحققه، كما سبق. وإن لم يكن مطابقاً للواقع كان حراماً.

وأما المعني الأول فحيث كان متقوماً بالتزام الواعد بالأمر الموعود به علي نفسه، فهو من سنخ الإنشاء الذي لا يتصف بالصدق والكذب. نعم إذا أبرز بصورة

ص: 324

الخبر جري علي الخبر المذكور حكم سائر الإخبار من الاتصاف بالصدق والكذب، والحلية والحرمة، فلابد من قصد الوفاء في حليته.

ودعوي: أن صدور الخبر من المتكلم لما كان بداعي بيان التزامه بالأمر الموعود به علي نفسه، فهو من سنخ الإنشاء الذي لا يتصف بالصدق والكذب.

مدفوعة بأن صدور الخبر بداعي بيان الالتزام المذكور لا ينافي صدوره أيضاً لبيان تحقق الأمر الموعود به في الخارج، كما هو مفاد الهيئة التركيبية للكلام، وبذلك يصدق عليه الخبر، ويتصف بالصدق والكذب.

وأما إذا أبرز بصورة الإنشاء كما لو قال: لك علي أن أزورك غداً فلا يكون موضوعاً للصدق والكذب، ولا يحرم من هذه الجهة ولو مع عدم قصد الوفاء.

لكن في مفتاح الكرامة. بعد أن ذكر حرمة الكذب قال:" وقد يجري حكمه في الإنشاء المنبئ عن الخبر، كوعد غير العازم "وقريب منه في الجواهر. وسبقهما إليه كاشف الغطاء في شرح القواعد.

وهو غير ظاهر بعد خروجه عن الكذب موضوعاً. ومجرد صدوره بداعي بيان وقوع الأمر الموعود به في المستبقل لا يقتضي ذلك، إذ لا دليل علي عموم حرمة بيان خلاف الواقع. نعم لو رجع إلي الكناية عن الإخبار بالواقع، بحيث يصدق عليه الخبر كان موضوعاً للصدق والكذب. فلاحظ.

المقام الثالث: في حكم الوفاء بالوعد بعد صدوره.

والظاهر أنه لا مجال للوفاء إلا في الوعد بالمعني الأول المبني علي التزام الواعد علي نفسه بما وعد به وجعله في عهدته، لأن الوفاء فرع المسؤولية بالشيء، نظير انشغال الذمة به. ومنه يظهر أن جميع ما ورد في الوفاء بالوعد من النصوص وكلمات الأصحاب منزل علي هذا المعني.

وأما الثاني المتقوم بالإخبار بالأمر المستقبل فلا يكون موضوعاً للوفاء. غاية الأمر أنه حيث كان خبراً موضوعاً للصدق والكذب أمكن أن يكون موضوع

ص: 325

للتصديق والتكذيب، بمعني جعله صادقاً بفعل ما تضمنه، أو كاذباً بعدم فعله.

والظاهر أنه لا مجال لدعوي وجوب تصديق الخبر، لعدم الدليل عليه. ووجوب الصدق في الخبر وتحريم الكذب فيه، إنما هما بمعني وجوب كون الخبر حين وقوعه صادقاً وتحريم صدور الخبر الكاذب، لا بمعني أنه بعد وقوع الخبر يجب تصديقه بتحقيق مضمونه، ويحرم تكذيبه بعدم تحقيقه. لما هو المعلوم من أن الصدق والكذب من صفات الخبر، وتحقيقهما إنما يكون بفعل موضوعهما وهو الخبر المتصف بأحدهما، فهما صفتان منتزعتان للخبر المطابق للواقع أو غير المطابق له.

وأما تصديق الخبر بتحقيق مضمونه في الخارج، وتكذيبه بعدم تحقيقه فهما أمران خارجان عن الخبر متأخران عنه، ولا دليل علي وجوب الأول وحرمة الثاني. ولذا لا ريب في عدم وجوب السعي لتصديق الخبر لو كان متعلقاً بفعل الغير، كما لو اعتقد أن زيداً سيسافر غداً فأخبر عن ذلك ثم ظهر خطؤه في خبره أو عدول زيد عن السفر، حيث لا يحتمل وجوب إقناع زيد بالسفر علي المخبر لو قدر علي ذلك، تجنباً لكذب خبره.

إن قلت: الصدق والكذب صفتان منتزعتان من نحو إضافة بين الخبر والواقع المحكي به، فإن تطابقا حصل الصدق، وإن اختلفا حصل الكذب، وحيث كانت الإضافة متقومة بطرفيها، فكما يستند وجود الصدق والكذب للخبر يستندان للواقع المحكي به، فكما يحرم تحقيق الخبر المخالف للواقع يحرم جعل الواقع بعد ذلك مخالفاً للخبر.

قلت: الصدق والكذب وإن كانا موقوفين علي موافقة الخبر للواقع أو مخالفته، إلا أنهما عرفاً من صفات الخبر الموافق والمخالف له، ويتحققان بتحققه، لا من الإضافات القائمة بالخبر والواقع المتحققة بتحققهما معاً. ولذا ينتزع الصدق أو الكذب للخبر بمجرد صدوره علي أحد الوجهين، فيكون الخبر فعلاً صادقاً أو كاذباً بلا حاجة إلي انتظار تحقق الواقع المحكي به ليتم طرفا الإضافة المدعاة وتتحقق بتحققهما. ومرجع

ص: 326

ذلك إلي وجوب كون الخبر صادقاً وحرمة الكذب فيه حين صدوره، لا إلي وجوب تصديق الخبر بعد تحققه بتحقيق مضمونه وحرمة تكذيبه بعدمه.

إن قلت: الكذب وإن كان من صفات الخبر حين تحققه، إلا أن اتصاف الخبر به لما كان منوطاً بمخالفته للواقع المحكي به وجب بحكم العقل تصديقه وتجنب تكذيبه، وذلك بتحقيق مضمونه، ليخرج الخبر بذلك عن كونه محرماً ومنشأ لاستحقاق العقاب.

قلت: أما بناءً علي أن المحرم واقعاً هو تعمد الكذب وبيان خلاف ما يعتقد ولو مع مطابقة الخبر للواقع، فلا أثر لتصديق الخبر بعد ذلك، لعدم انقلاب الخبر عما وقع عليه بذلك.

وأما بناءً علي أن المحرم الواقعي هو الإخبار بخلاف الواقع وإن كان معذوراً لو أخطأ في اعتقاد خلاف الواقع، فإن كان حين الإخبار عن الأمر المستقبل معتقداً تحقق ما أخبر به وعازماً علي تحقيقه لو كان فعلاً له، فلا أثر لتحقيقه في وقته وعدمه بالإضافة للعقاب، لأن عدم تحقيقه في وقته وإن كشف عن كون الإخبار كذباً محرماً واقعاً، إلا أنه لا عقاب عليه بعد كونه معذوراً فيه بسبب اعتقاده السابق. وكذا إذا كان حين الإخبار عن الأمر المستقبل معتقداً عدم تحقق ما أخبر به، إذ حيث كان قد قصد الكذب المحرم فهو يستحق العقاب بإقدامه علي المعصية علي كل حال. غاية الأمر أنه إن حقق ما أخبر به بعد ذلك يستحق العقاب بملاك التجري، وإن لم يحققه يستحقه بملاك المعصية الحقيقة.

نعم، بناءً علي عدم استحقاق العقاب بالتجري يتجه البناء علي لزوم تصديق الخبر مع القدرة علي ذلك عقلاً، تجنباً لاستحقاق العقاب بالمعصية. لكن المبني المذكور في غير محله، كما حققناه في مباحث القطع من الأصول.

ومما سبق يظهر أن الوعد بالمعني الثاني لا يجب الوفاء به من هذه الجهة حتي لو كان الوعد بطريق الخبر، فلا يجب الوفاء تصديقاً للخبر المذكور. وإنما الكلام في

ص: 327

حكم الوفاء به من حيثية الالتزام بالأمر الموعود به وإن كان إبراز الالتزام بذلك من غير طريق الخبر.

والمعروف بين الأصحاب عدم وجوب الوفاء به. بل لم يظهر لنا عاجلاً من صرح بوجوبه. نعم ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن السيرة وإن قامت علي عدم وجوب الوفاء بالوعد، إلا أن رفع اليد عن ظهور النصوص وحملها علي الاستحباب يحتاج إلي الجرأة، والأوفق بالاحتياط هو الوفاء بالوعد. لكنه أفتي بالآخرة بعدم الوجوب.

وكيف كان فهناك جملة من النصوص قد يدعي ظهورها في وجوب الوفاء، كصحيح شعيب العقرقوفي عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفِ إذا وعد"(1) ، وصحيح هشام بن سالم:" سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له، فمن أخلف فبخلف الله بدأ، ولمقته تعرض. وذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفعَلُونَ * كَبُرَ مَقتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفعَلُونَ)"(2) ، وصحيح علي بن عقبة عنه (عليه السلام): "قال: المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه"(3) ، وصحيح عبدالله بن سنان عنه (عليه السلام):" قال: ثلاث من كن فيه أوجبت له أربعاً علي الناس: من إذا حدثهم لم يكذبهم، وإذا وعدهم لم يخلفهم، وإذا خالطهم لم يظلمهم، وجب أن يظهروا في الناس عدالته، وتظهر فيهم مروته، وأن تحرم عليهم غيبته، وأن تجب عليهم أخوته"(4) ، وموثق سماعة عنه (عليه السلام): "قال: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، كان ممن حرمت غيبته، وكملت مروته، وظهر عدله، ووجبت أخوته" ،ونحوه ما رواه الصدوق في العيون والخصال عن الرضا (عليه السلام) بأسانيد(5) ، ومعتبر الأصبغ بن نباتة: "سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 109 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 109 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 122 من أبواب أحكام العشرة حديث: 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 41 من أبواب الشهادات حديث: 16.

(5) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 152 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، وذيله.

ص: 328

سألت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عن صفة المؤمن فقال: عشرون خصلة في المؤمن، فإن لم تكن فيه لم يكمل إيمانه. إن من أخلاق المؤمنين الحاضرون الصلاة... الذين إن حدثوا لم يكذبوا، وإن وعدوا لم يخلفوا..."(1).

وصحيح أبي حمزة عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال في حديث:" والمنافق ينهي ولا ينتهي... إن حدثك كذبك، وإن وعدك أخلفك، وإن ائتمنته خانك، وإن خالفته اغتابك"(2). وخبر يزيد الصائغ: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): رجل علي هذا الأمر إن حدث كذب، وإن وعد أخلف، وإن ائتمن خان، ما منزلته ؟. قال (عليه السلام): هي أدني المنازل من الكفر، وليس بكافر"(3) ، وخبر عبدالله بن سنان عنه (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): ثلاث من كن فيه كان منافقاً وإن صام وصلي وزعم أنه مسلم: من إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف. إن الله عز وجل قال في كتابه: (إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ) وقال: (أَنَّ لَعنَةَ اللهِ عَلَيهِ إِن كَانَ مِن الكَاذِبِينَ) وفي قوله: (وَاذكُر فِي الكِتَابِ إِسمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا)"(4) ، وخبر الحارث المتقدم عند الكلام في الكذب في الهزل المتضمن النهي عن خلف الوعد للصبي. وهناك نصوص أخر تقارب هذه المضامين.

لكن خبر الحارث - مع ضعفه في نفسه - قد سبق قرب حمله علي الإرشاد لتحصيل ملكة تجنب الكذب، كما يناسبه تخصيص الوعد بالصبي، حيث لا يظهر وجهه إلا بلحاظ أن خلف الوعد معه قد يكون سبباً لتعوده علي الكذب، لتأثره بفعل المربي. بل لا يمكن البناء علي وجوب الوفاء بالوعد مع الطفل.

وأما صحيح أبي حمزة فهو إنما تضمن أن المنافق يتخلق بالأخلاق المذكورة جميعاً، بحيث تكون خلقاً لازماً له، وذلك لا يستلزم حرمة مقارفة أحد تلك الأمور

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 4 من أبواب جهاد النفس حديث: 15.

(2) أمالي الصدوق المجلس: 74 حديث: 10، وذكره في الوسائل بطريق غير معتبر ج: 11 باب: 49 من أبواب جهاد النفس حديث: 11، 12.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 49 من أبواب جهاد النفس حديث: 6، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 49 من أبواب جهاد النفس حديث: 6، 4.

ص: 329

من دون أن تكون خلقاً ثابتاً. وبذلك يظهر حال خبري يزيد الصائغ وعبدالله بن سنان. مضافاً إلي ضعفهما في أنفسهما.

وأما معتبر الأصبغ فلا ظهور له في الوجوب، لأن المراد بأخلاق المؤمنين هي الأخلاق الكاملة المناسبة للإيمان الأكمل، لا الواجبة التي يتوقف عليها أصل الإيمان، كما يشهد به اشتماله علي كثير من الصفات غير اللازمة، مثل أنهم يمسحون رأس اليتيم، وأنهم رهبان الليل أسد بالنهار وغيرها. علي أن كون الشيء من أخلاق المؤمن لا يستلزم وجوبه.

وأما صحيح عبدالله بن سنان وموثق سماعة وما يجري مجراهما فلا منشأ لدعوي ظهورهما في الوجوب إلا جواز الغيبة مع عدم الوفاء بالوعد، وهو مستلزم لكونه محرماً، فيدخل في غيبة الفاسق أو المتجاهر بالفسق علي ما تقدم الكلام فيه في مباحث التقليد. لكنها كما تضمنت إناطة حرمة الغيبة تضمنت إناطة وجوب الأخوة وكمال المروة، فلعلها مسوقة لإناطة المجموع بالمجموع، لا بنحو الانحلال، بل هو المتيقن من تركيب الكلام، فلا يتم وجه الاستدلال.

وأما صحيح علي بن عقبة فهو ظاهر في بيان حقوق الأخ التي كثير منها ليست من الواجبات. وقد يظهر ذلك أيضاً من صحيح هشام بن سالم، بلحاظ أخذ الأخ في موضوعه. وإن كان ذلك غير مناسب للاستشهاد بالآية الشريفة الظاهرة في الحرمة مطلقاً.

ومن ثم كان الظاهر تمامية دلالة الصحيح المذكور، وكذا صحيح شعيب العقرقوفي. وما في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر: "وإياك والمن علي رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فَتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يستوجب المقت عند الله وعند الناس. قال الله سبحانه: (كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفعَلُونَ)"(1). ويؤيده

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 8 باب: 92 من أبواب أحكام العشرة حديث: 6. واللفظ له، نهج البلاغة ج: 3 ص: 109.

ص: 330

بعض المراسيل، كخبر داود بن سليمان عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام):" قال: سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) يقول: عدة المؤمن نذر لا كفارة له"(1).

ويعضد ذلك كله الآية الشريفة التي استشهد بها في بعض النصوص السابقة. فإنها وإن تضمنت الإنكار علي القول من دون فعل، فيناسب إرادة الكذب، لا علي عدم الفعل مع القول، ليناسب خلف الوعد، إلا أن تخصيص متعلق القول بفعل القائل يناسب الحمل علي الثاني، لوضوح أن الكذب حرام في كل شيء من دون خصوصية لفعل القائل.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من حملها علي أمر الشخص بالمعروف من دون أن يفعله ونهيه عن المنكر مع فعله له. نظير قوله تعالي: (أَتَأمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم)(2).

ففيه: أن حمل القول علي الأمر والنهي يحتاج إلي قرينة. علي أن ما سبق من النصوص وافٍ بتفسير الآية الشريفة بخلف الوعد، ويبقي ظهورها في الحرمة هو المحكم. ومن ثم كان الظاهر وفاء الأدلة بوجوب الوفاء بالوعد وتحريم خلفه.

لكن لابد من الخروج عن ذلك كله بظهور مفروغية الأصحاب. عن عدم وجوب الوفاء إلا في العقد والشرط والجعالة واليمين ونحوها، معتضدة بالسيرة القطعية علي ذلك، مع ما هو المعلوم من عموم الابتلاء بالوعد في جميع العصور، حيث يكشف ذلك عن عدم الوجوب، ويلزم لأجله حمل الأدلة المذكورة علي كراهة خلف الوعد، لعدم إباء لسانها عنه، وإن كان هو خلاف الظاهر بدواً.

وربما تستفاد المفروغية المذكورة من بعض النصوص الواردة في العقود، مثل ما ورد في مساومة الشخص علي متاع ليس عنده، علي أن يشتريه من صاحبه ثم يبيعه منه، كصحيح معاوية بن عمار: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): يجيئني الرجل يطلب [مني]

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 8 باب: 92 من أبواب أحكام العشرة حديث: 4.

(2) سورة البقرة آية: 44.

ص: 331

علي كراهة شديدة (1).

نعم لو كان حال الوعد بانياً علي الخلف فالظاهر حرمته (2) إلا إذ

---------------

بيع الحرير، وليس عندي منه شيء، فيقاولني عليه وأقاوله في الربح والأجل حتي نجتمع علي شيء، ثم أذهب وأشتري له الحرير فأدعوه إليه. فقال: أرأيت إن وجد بيعاً هو أحب إليه مما عندك أيستطيع أن ينصرف إليه ويدعك ؟ أو وجدت أنت ذلك أتستطيع أن تنصرف إليه وتدعه ؟ قلت: نعم. قال: فلا بأس"(1) ، ونحوه غيره.

وكذا ما تضمن بطلان بعض الشروط بين الزوجين، مثل ما ورد من أن ضرسياً كانت تحته بنت حمران، فجعل لها أن لا يتزوج عليها ولا يتسري أبداً في حياتها ولا بعد موتها علي أن جعلت له هي أن لا تتزوج بعده أبداً، فذكر ذلك للإمام الصادق، فأبطله، وقال:" اذهب فتزوج وتسر، فإن ذلك ليس بشيء، وليس عليك ولا عليها، وليس ذلك الذي صنعتما بشيء"(2). لظهوره في المفروغية عن أن عدم نفوذ الاتفاق المذكور بينهما يقتضي جواز مخالفته، وعدم لزومه من حيثية الوعد من كل منهما للآخر.

ومثله ما تضمن عدم لزوم اليمين بغير الله تعالي لظهوره في المفروغية عن جواز مخالفة اليمين بغيره تعالي، وعدم وجوبه من حيثية الوعد... إلي غير ذلك مما قد يظهر بالتتبع، وإن كان الأمر أظهر من أن يحتاج لذلك. ولعله لذا لم تتضمن النصوص الكلام في فروع ذلك وشروطه، كما ورد في العقود والشروط والأيمان وغيرها.

(1) كما يظهر من النصوص السابقة. نعم يختص ذلك بوعد الغير بما ينفعه، دون ما يضره - الذي يختص باسم الوعيد - كما يظهر من التعبير بالدين في صحيح هشام بن سالم وغيره، بل هو أظهر من أن يحتاج إلي بيان، بملاحظة المرتكزات والمفروغية.

(2) لكونه كذباً حينئذٍ. لكن يظهر مما سبق أن المحرم حينئذٍ هو الوعد نفسه، لا عدم تنفيذه بعد حصوله. كما أن ذلك مختص بما إذا كان إبراز الالتزام بطريق الإخبار

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب أحكام العقود حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 20 من أبواب المهور حديث: 2.

ص: 332

كان قد وعد أهله بشيء وهو لا يريد أن يفعله (1).

(مسألة 36): تحرم الولاية من قبل السلطان الجائر (2)، إلا مع

---------------

بفعل الشيء، أما إذا كان بمجرد التصريح بالتزامه بفعله فلا كذب ولا حرمة.

(1) لما تقدم في خبري المحاربي وعيسي بن حسان وما في وصية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام).

نعم قد يستشكل فيها بضعف السند. ولذا احتاط بعض مشايخنا (قدس سره) في المقام. إلا أن تتم حجيتها بالتعاضد، أو بظهور عمل الأصحاب.

وكيف كان، فالمتيقن من ذلك الزوجة، لعدم إطلاق الأهل إلا في خبر عيسي بن حسان. وهو ضعيف لم يتضح انجباره بعمل الأصحاب في الإطلاق. نعم لو كان صدور الوعد منه من أجل الإصلاح، بحيث صدق عليه أنه كذب للإصلاح، فلا إشكال في العموم لجميع الأهل كغيرهم.

(2) بلا خلاف في الجملة، وإن وقع الكلام في حرمتها مطلقاً، أو إذا استلزمت محرماً، أو لم يؤمن الوقوع بسببها في المحرم، كما يظهر من الشرايع. وإن كان الثاني راجعاً إلي حلية الولاية نفسها، وإنما تحرم بالعرض إذا ترتب عليها المحرم.

هذا وقد يستدل علي حرمتها بوجوه:

الأول: ما عن السيد الطباطبائي (قدس سره) في مصابيحه من أنها تتضمن التشريع فيما يتعلق بالمناصب الشرعية. لكن ذلك راجع إلي حرمة التشريع المصاحب للولاية، لا إلي حرمة الولاية نفسها. مع أن بينه وبين الولاية عموماً موردياً من وجه، إذ قد لا يعتقد المتولي حصول الولاية له شرعاً بتوليه الجائر، كما قد يعتقد غيره حصول الولاية بسببها.

الثاني: أنها تستلزم التصرف فيما ولي عليه من دون حق، لعدم الولاية عليه بتولية الجائر بعد عدم ثبوت الولاية العامة له. وهو - كسابقه - لا يقتضي حرمة الولاية

ص: 333

القيام بمصالح المؤمنين (1)، وعدم ارتكاب ما يخالف الشرع المبين (2). ويجوز أيضاً مع الإكراه من الجائر (3)، بأن يأمره بالولاية ويتوعده علي

---------------

علي نفسها، بل حرمة العمل المترتب عليها.

مع أنه قد لا يحرم العمل المذكور في نفسه، كالولاية علي القضاء إذا كان المتولي له أهلاً له واجداً لشرائطه. وكالولاية علي بعض المناصب المستحدثة التي لا تقتضي حجر الناس عن سلطنتهم، كالتدريس والتطبيب ونحوهما، مما ليس من شأنه التصرف في نفس الغير أو ماله بدون رضاه. وكذا إدارة المصالح العامة غير المملوكة للأفراد، كالكهرباء والماء والاتصالات الهاتفية ونحوها.

الثالث: أنها من أظهر أفراد إعانة الظالم، التي سبق حرمتها في المسألة الثامنة عشرة. ولاسيما بلحاظ أنها تبتني علي كون المتولي المنصوب من المنسوبين للظالم التابعين له، الذي هو أظهر من غيره في الحرمة عندهم. كما يظهر مما سبق. وهذا هو العمدة في المقام.

(1) كما تقدم منّا في المسألة الثامنة عشرة، وتقدم الوجه فيه.

(2) حيث لا يحتمل ارتفاع حرمة ذلك في حق المتولي. ولا أقل من كونه مخالفاً لإطلاق دليل حرمته.

نعم إذا كان النفع المذكور واجباً، وكان أهم من محذور المخالفة اللازمة من الولاية، تعين ارتفاع حرمة المحذور المذكور بالمزاحمة، كما لو توقف علي الولاية إنقاذ نفس المؤمن مثلاً، وكان المحذور اللازم التصرف في ملك الغير أو نحوه مما هو دون حفظ نفس المؤمن في الأهمية.

(3) كما تقدم منا في المسألة الثامنة عشرة، وتقدم الوجه فيه وبعض الفروع المتعلقة به. فراجع.

ص: 334

تركها (1) بما يوجب الضرر بدنياً أو مالياً (2) عليه أو علي من يتعلق به، بحيث يكون الإضرار بذلك الشخص إضراراً بالمكره عرفاً، كالإضرار بأبيه أو أخيه أو ولده أو نحوهم ممن يهمه أمرهم (3).

---------------

(1) الظاهر أنه يكفي الخوف بوجه معتد به من ترتب المحذور علي تقدير المخالفة، وإن لم يتوعده بذلك، لصدق الإكراه حينئذٍ بنفس الأمر.

(2) الظاهر صدق الإضرار بتخوف الضرر علي العِرض، كما لو خاف من هتكه له وفضيحته إياه، لأن الضرر المذكور قد يزيد أهمية علي الضرر المالي، بل قد يهون دونه تلف النفس.

(3) كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره). لصدق الإكراه في جميع ذلك. فإن الإكراه - كما قيل - هو حمل الإنسان علي ما يكره، وليس المراد بالحمل الحمل الخارجي، لأن ذلك إنما يكون بالإلجاء الرافع للاختيار، بل الحمل التنزيلي الراجع إلي دفعه إلي ما يكره بتخويفه بما يصعب عليه تحمله علي تقدير عدم فعله لما يكرهه، بحيث يكون الدفع بتوسط الخوف المذكور. ويأتي تمام الكلام في ذلك.

هذا وقد قرب بعض مشايخنا (قدس سره) صدق إكراه الشخص بالتخويف بفعل كل ما يكرهه وإن لم يتعلق به ولا يرجع إليه. قال مقرر درسه مصباح الفقاهة: "الكراهة في اللغة هي ضد الحب، والإكراه هو حمل الرجل علي ما يكرهه، وهذا المعني يتحقق بحمل الشخص علي كل ما يكرهه، بحيث يترتب علي تركه ضرر عليه، أو علي عشيرته، أو علي الأجانب من المؤمنين. وإذا انتفي التوعد بما يكرهه انتفي الإكراه. وعليه فلا نعرف وجهاً صحيحاً لما ذكره المصنف من تخصيص الإكراه ببعض ما ذكرناه. نعم يختلف موضوع الكراهة باختلاف الأشخاص والحالات، فإن بعض الأشخاص يكره مخالفة أي حكم من الأحكام الإلهية في جميع الحالات، وبعضهم يكره ذلك في الجهر دون الخفاء، وبعضهم يكره مخالفة التكاليف المحرمة دون

ص: 335

والواجبات، وبعضهم بالعكس...".

لكنه يشكل بأن تفسير الإكراه بما سبق منا ومنه إنما يقتضي الاكتفاء في صدق الإكراه بكراهة الأمر المحمول عليه، كالولاية في المقام بلحاظ حرمتها، لا بكراهة الأمر الذي يترتب علي تقدير المخالفة، بل لابد فيه من كونه بمرتبة من الأهمية، بحيث يصدق بسبب الخوف منه الحمل، وهو مختص بما ذكرنا عرفاً، ولا يعم كل مكروه.

ولذا لا ريب في عدم صدق الإكراه فيما لو هدد المكرِه بفعله لبعض المعاصي، كشرب الخمر، حتي في حق من يكره صدور ذلك منه من المتدينين. إلا أن يضيق بصدور تلك المعصية منه، لتعلقها به بوجه ما، بحيث يصعب عليه تحمل ذلك، كما لو كان يتقزز من مشاهدة الفعل المذكور أو كان موجباً لتشويه سمعته، لكون الشخص المكرِه ذا علاقة به، بحيث يكون سلوكه محرجاً له.

وكأن ما ذكره (قدس سره) ناشئ من اختلاط منشأ الاشتقاق في مادة الإكراه عليه، وتخيل أن اشتقاق الإكراه بلحاظ كراهة الأمر الذي يخشي من ترتبه علي تقدير عدم فعل ما يطلب منه، مع أنه في الحقيقة بلحاظ كراهة نفس الأمر المطلوب منه المحمول عليه. غايته أنه لابد من صدق الحمل، وهو لا يصدق إلا بما ذكرنا.

هذا بناءً علي ما سبق منا وذكره في صدر كلامه من أن الإكراه هو حمل الإنسان علي ما يكرهه، وهو الذي صرح به غير واحد من اللغويين. لكن التأمل في معني الإكراه يقضي بكون الكره قائماً بنفس الاندفاع نحو الشيء بحيث يكون اندفاعاً عن كراهة وضيق، فهو كالقسر، وإن اختلف معه في ارتفاع الاختيار مع القسر، وبقائه مع الإكراه.

ولعلّه إلي ذلك يرجع ما في مجمع البحرين، حيث قال: "أكرهته علي الأمر إكراهاً: حملته عليه كرهاً" ،ونحوه ما في مختصر المصباح. وعلي ذلك يكون اعتبار كون الأمر المخوف شاقاً يصعب تحمله أظهر. وكأن بعض مشايخنا (قدس سره) قد استوضح بعد ذلك ما سبق، فأقرّ عبارة سيدنا المصنف (قدس سره) في مقام الفتوي.

ص: 336

نعم الظاهر جواز الولاية وغيرها من المحرمات لدفع الضرر عن المؤمن وإن لم يكن ممن يحسب عليه ويكون إضراره إضراراً به، لا لصدق الإكراه، بل لما يستفاد من بعض أدلة التقية من مشروعيتها لدفع الضرر عن المؤمنين.

ففي موثق معمر بن يحيي: "قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن معي بضايع للناس، ونحن نمر بها علي هؤلاء العشار، فيحلفونا عليها، فنحلف لهم. فقال: وددت أني أقدر أن أجيز أموال المسلمين كلها وأحلف عليها. كل ما خاف المؤمن علي نفسه فيه ضرورة، فله فيه التقية"(1). فإن موضوع الكبري في ذيله وإن كان هو خوف المؤمن الضرورة علي نفسه، إلا أنه يتعين بقرينة المورد حمله علي الجنس، وهو مطلق المؤمن.

وفي موثق إسماعيل:" قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أمر بالعشار ومعي المال، فإن حلفت تركوني، وأن لم أحلف فتشوني وظلموني. فقال: أحلف لهم. قلت: أن حلفوني بالطلاق ؟ قال: فأحلف لهم. قلت: فإن المال لا يكون لي. قال: تتقي مال أخيك"(2). لظهوره في عموم عنوان التقية لذلك.

ويؤيده ما في مرسل الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: في حديث طويل: "ولئن تبرأ منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقي علي نفسك روحها التي بها قوامها، ومالها الذي به قيامها، وجاهك الذي به تمسكها، وتصون من عرف بذلك أولياءنا وإخواننا، فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك، وتنقطع به عن عمل في الدين، وصلاح إخوانك المؤمنين. وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها، فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك، معرض لنعمتك ونعمتهم للزوال، مذل لهم في أيدي أعداء دين الله، وقد أمرك بإعزازهم..."(3).

هذا وقد تقدم في المسألة الثامنة عشرة أنه كما تحل بالإكراه الولاية يحل ما قد يترتب عليها من المحرمات، ما لم يترتب عليها إراقة الدماء، بل مطلق الإضرار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 12 من أبواب كتاب الإيمان حديث: 16، 17.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 12 من أبواب كتاب الإيمان حديث: 16، 17.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 29 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يناسبهما حديث: 11.

ص: 337

(مسألة 37): ما يأخذه السلطان المدعي للخلافة العامة من الضرائب المجعولة علي الأراضي والأشجار والنخيل (1)،

---------------

بالمؤمنين. فراجع.

(1) الظاهر أن مراده (قدس سره) بذلك الضرائب الشرعية بالذات، وهي الضرائب المجعولة علي الأراضي العامرة المفتوحة عنوة، والتي هي ملك للمسلمين ويجب إبقاؤها واستثمارها لهم بأخذ الخراج عليها ممن يستغلها، دون الضرائب غير الشرعية بالذات، كالضرائب المجعولة علي الأراضي المملوكة الخاصة، سواءً كانت مملوكة من قبل الفتح كالأراضي العامرة التي أسلم أهلها أو صولحوا علي أن تبقي لهم، أم مملوكة بالإحياء بعد الفتح، كالأراضي الميتة حين الفتح، فإنه يجوز لكل أحد تملكها بالإحياء من دون أن يتعلق بها حق المسلمين، ليشرع أخذ الخراج عليها.

والوجه في التقييد المذكور: أن موضوع النصوص والفتاوي هو مال الخرج والمقاسمة والزكاة، المفروض كونها مستحقة بالأصل علي مستغل الأرض، وإنما الإشكال فيها من وجهة قصور ولاية الجائر علي أخذها، الذي يمكن ارتفاعه بإمضاء الأئمة (عليهم السلام) لتصرفه، لأن لهم الولاية بالأصل.

ولا يشمل الضرائب غير المستحقة بالأصل، والتي يكون أخذها من المستغل - الذي هو المالك - ظلماً له مع قطع النظر عن قصور ولاية الجائر، لعدم استحقاقها عليه، فإنهم (عليهم السلام) وإن كان لهم أن يجيزوا أخذها بمقتضي ولايتهم العامة الراجعة إلي كونهم (عليهم السلام) أولي بالناس من أنفسهم، إلا أنه لم يثبت إعمال ولايتهم المذكورة فيها بعد اختصاص النصوص والفتاوي بالخراج والمقاسمة.

ومن هنا يتعين البناء علي حرمة أخذها من الجائر حينئذٍ، إلا بإذن المالك. ولو فرض أخذها من غير إذنه تعين إرجاعها له، عملاً بالقاعدة. نظير ما يأتي في جوائز السلطان إذا علم بغصبيتها.

ص: 338

يجوز شراؤه وأخذه منه مجاناً (1).

---------------

(1) بلا خلاف معتد به، كما في الجواهر، وذكره شيخنا الأعظم (قدس سره). بل في جامع المقاصد أن عليه إجماع فقهاء الإمامية، وفي المسالك:" وأطبق عليه علمائنا لا نعلم فيه خلافاً "،وعن مصابيح العلامة الطباطبائي أن عليه إجماع علمائنا، وعن المفاتيح أنه لا خلاف فيه، وعن التنقيح وتعليق الإرشاد الإجماع علي جوز الشراء، وفي الرياض:" والأصل في المسألة بعد عدم الخلاف في الطائفة والإجماع المستفيض حكاية في كلام جماعة... "،وقال في الجواهر:" بل لعله المسألة من الضروريات التي لا يحتاج في إثباتها إلي الاستدلال بالروايات. ولعل وقوع ذلك من المحقق الكركي وغيره ممن تأخر عنه لغفلة بعض من عاصره عن ذلك... وكم من مسألة ضرورية صارت نظرية بسبق الشبهة إلي بعض الأوهام".

قال شيخنا الأعظم (قدس سره):" وقد تأيدت دعوي هؤلاء بالشهرة المحققة بين الشيخ ومن تأخر عنه ".بل يمكن استيضاح المفروغية عنه ممن سبق الشيخ، كالمفيد، والصدوق والكليني ونحوهما ممن يظهر منهم الفتوي بالنصوص التي يثبتونها في كتبهم، بنحو يكشف عن المفروغية عن الحكم بين الأصحاب من عصور الأئمة (عليهم السلام).

ومثل هذه المفروغية توجب اليقين في مثل هذا الحكم المخالف للقاعدة، لما هو المعلوم من مذهب الإمامية من عدم ولاية الجائر، فمفروغيتهم عن جواز أخذ المال من السلطان تكشف عن أخذهم الحكم المذكور من الأئمة (صلوات الله عليهم). وكفي بذلك دليلاً في المقام. نعم هو دليل لبي لا إطلاق له، لينفع في مورد الشك.

هذا وقد استدل عليه في كلام غير واحد - مضافاً إلي الإجماع المذكور - بلزوم الحرج في الاجتناب عن هذه الأموال، والضرر علي المؤمنين واختلال النظام في حقهم. بل في الجواهر أنه شبه التكليف بما لا يطاق. وكأنه بلحاظ كثرة الابتلاء بهذه الأموال.

ص: 339

لكن المراد بذلك إن كان هو الاستدلال بقاعدة نفي الحرج والضرر والإضرار ونحوها، فمن الظاهر أن القواعد المذكورة إنما تقتضي نفي الأحكام التكليفية في موارد لزوم الضرر والحرج الشخصيين، لا تشريع أحكام يندفع بها الضرر والحرج، كثبوت الولاية للجائر علي الأموال المذكورة أو نفوذ تصرفه فيها، بنحو يقتضي جواز التصرف في الأموال المذكورة حتي في غير موارد لزوم الضرر أو الحرج.

علي أن قاعدتي نفي الضرر ونفي الحرج لما كانتا امتنانيتين فهما لا تجريان في مورد يلزم من جريانهما التعدي علي الآخرين، لمنافاة ذلك للامتنان.

وإن كان المراد بذلك أن كثرة الابتلاء بالأموال المذكورة وصعوبة اجتنابها كاشف عن حَلّ الشارع لمشكلتها، وإمضاء تصرف الجائر فيها، لما هو المعلوم من سليقة الشارع الأقدس من الرأفة بالمؤمنين في دولة الجور، وحلّ مشاكلهم بما يناسب الوضع القائم، نظير تحليل الأئمة (عليهم السلام) لشيعتهم الأنفال، والخمس المتعلق بالأموال التي يبتلون بها، ونحو ذلك.

أشكل بأن ذلك استبعاد لا يبلغ مرتبة الحجية. ولاسيما مع عدم وضوح كثرة الابتلاء بهذه الأموال مع العلم بأصحابها بنحو يتعذر استرضاؤهم. والابتلاء بها مع الجهل بهم لا ينفع، لإمكان حلّ مشكلتها حينئذٍ بإجراء حكم مجهول المالك فيها، حيث تنحل به كثير من المشاكل.

وبالجملة: هذا الوجه لا ينهض بالاستدلال علي جواز أخذ الأموال المذكورة من الجائر، بحيث يكشف عن نفوذ تصرفه، خصوصاً المجاني، الذي هو غالباً تعد علي بيت المال، لمنافاته لمصلحة عموم المسلمين الذين يملكون المال، ويجب صرفه في مصالحهم.

فالعمدة في المقام - بعد الإجماع - النصوص: منها: ما تضمن جواز شراء الأموال المذكورة، كصحيح أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام): "سألته عن الرجل منا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة، وهو يعلم أنهم يأخذون منهم

ص: 340

أكثر من الحق الذي يجب عليهم. قال: فقال: ما الإبل والغنم إلا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك. لا بأس به حتي تعرف الحرام بعينه. قيل له: فما تري في مصدق يجيئنا فيأخذ منا صدقات أغنامنا، فنقول: بعناها فيبيعناها، فما تقول في شرائها منه ؟. فقال: إن كان قد أخذها وعزلها فلا بأس. قيل له: فما تري في الحنطة والشعير، يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا ويأخذ حظه فيعزله بكيل. فما تري في شراء ذلك الطعام منه ؟ فقال: إن كان قد قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه من غير كيل"(1). وهي دالة علي المدعي بفقراتها الثلاث.

بل ظاهر الفقرة الأولي المفروغية عن أصل جواز شراء ما يأخذه السلطان، وأن الموجب للسؤال هو العلم بتجاوزهم أكثر من الحق. وذلك قد يكون قرينة علي أن منشأ السؤال في الفقرة الثانية هو احتمال عدم جواز الشراء من القاسم قبل وصول الصدقة للسلطان، أو عدم جواز شراء الإنسان زكاته حيث تضمنت بعض النصوص النهي عن تملك الإنسان لما يتصدق به بغير الميراث(2). وإن كان في دلالته علي المنع في الزكاة إشكال. كما قد يكون قرينة علي أن منشأ السؤال في الفقرة الثالثة هو احتمال عدم جواز الشراء من دون كيل جديد، أو الشراء من القاسم قبل وصول الصدقة للسلطان.

لكن عن الأردبيلي في مجمع الفائدة أن الفقرة الأولي وإن كانت ظاهره في جواز شراء الزكاة، إلا أنه لا ينبغي الحمل علي ذلك، لمنافاته العقل والنقل، فلابد من حمل قوله (عليه السلام):" لا بأس به حتي تعرف الحرام بعينه "علي بيان ضابط الحرمة بنحو ينطبق علي المورد، لأنه معلوم الحرمة بسبب حرمة تصرف الجائر. وقد يكون التهرب من التصريح في المورد للتقية. ولاسيما مع العلم بعدم إرادة الظاهر، إذ لا إشكال في عدم حِلّ ما يأخذه الجائر.

وهو كما تري، فإن غاية ما يدعي في المقام هو حكم العقل بقبح التصرف في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 52 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 12 من أبواب كتاب الوقف والصدقات حديث: 1، 5.

ص: 341

مال الغير، وعموم حرمة التصرف به شرعاً، ولا ريب في أن القبح المذكور اقتضائي قابل للارتفاع بترخيص الشارع، كما يكون دليل الترخيص المذكور مخصصاً لعموم النقل المتضمن لحرمة التصرف في ملك الغير.

علي أن المستفاد من مجموع الأدلة في المقام كون أخذ الجائر للمال بعنوان كونه حقاً شرعياً - من زكاة أو خراج أو نحوهما - موجباً لتعين الحق به، وخروجه عن ملك صاحبه، فيخرج عن موضوع حكم العقل والعموم المتقدمين. غاية الأمر أن ذلك مخالف للأصل بعد عدم ولاية الجائر. فليكن الصحيح ونحوه دليلاً علي إمضاء تصرف الجائر مخرجاً عن الأصل المذكور، وهو لا يخالف العقل ولا النقل.

وأما ما ذكره (قدس سره) من العلم بعدم إرادة الظاهر، لعدم الإشكال في حرمة ما يأخذه الجائر. فيدفعه أن المراد بحل المال في ظاهر الحديث - بقرينة السؤال - هو عدم زيادته عن الحق الثابت علي من أخذ منه، لا أنه يحل للجائر أخذه لكونه مسلطاً عليه شرعاً، ليعلم بعدم إرادته بعد ما هو المعلوم من عدم ولايته.

ومثله ما عنه أيضاً - وسبقه إليه الفاضل القطيفي فيما حكي عنه - من احتمال كون المراد من القاسم في الفقرة الثالثة صاحب الأرض أو وكيله في المزارعة، دون المنصوب من قبل السلطان لأخذ الخراج، أو لأخذ الزكاة، ليكون مما نحن فيه.

لاندفاعه بعدم معهودية إطلاق القاسم علي المزارع أو وكيله، بل الظاهر أن المراد به القاسم من قبل السلطان. ولاسيما بملاحظة سياق الفقرتين السابقتين الواردتين في عمال السلطان.

علي أنه لو تم ما ذكره في الفقرة الأولي والثالثة فالفقرة الثانية تبقي دليلاً في المقام، حيث لا مجال فيها للتأويل بالوجهين المذكورين فيهما. وينحصر الوجه في ردّها بدعوي منافاتها للعقل والنقل التي عرفت وهنها.

وبالجملة: لا إشكال في تمامية دلالة الصحيح علي جواز الشراء في المقام.

نعم الفقرتان الأوليان منه مختصتان بالزكاة، وقد يكونان قرينة علي اختصاص

ص: 342

الفقرة الثالثة بها. إلا أن يستفاد العموم منه بفهم عدم الخصوصية أو بعدم الفصل. فلاحظ.

ومنها: موثق إسحاق بن عمار:" سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم. قال: يشتري منه ما لم يعلم أنه ظلم فيه أحداً"(1). لتصريحه بجواز شراء ما لا يعلم بكونه مأخوذاً ظلماً.

وأما ما عن الفاضل القطيفي من إمكان حمله علي شراء الأملاك الشخصية للعامل، وحينئذٍ يكون مقتضي الاستثناء حرمة شراء ما عنده من الأموال العامة، لأنها ظلم بمقتضي القاعدة من عدم سلطنة العامل علي أخذ المال.

فيدفعه: أولاً: أن ذكر العامل في السؤال موجب لانصراف الشراء منه للشراء مما هو عامل فيه، لا من ملكه الشخصي، وإلا فلا موجب لتخصيص العامل في السؤال بل يعم لكل من يظلم الناس.

وثانياً: أن ظلم العامل في المال ينسبق عرفاً إلي ظلمه في عمله بتجاوزه مقدار الحق، لا إلي مطلق الظلم الحقيقي ولو بسبب الظلم في التصدي للمنصب. ولاسيما بملاحظة ما سبق في صحيح أبي عبيدة.

ومنه يظهر وجه الاستدلال بصحيح معاوية بن وهب: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): اشتري من العامل الشيء وأنا أعلم أنه يظلم. فقال: اشتر منه"(2) ، ونحوه معتبر أبان(3) ، وقد يستفاد من غيرهما. غاية الأمر أنه لابد من قصر ذلك علي ما إذا لم يعلم بكون الشيء الذي يشتري منه ظلماً بعينه، عملاً بالقاعدة وبصحيح أبي عبيدة وموثق إسحاق المتقدمين.

هذا وقد يستدل بصحيح أبي بصير:" سألت أحدهما عليهما السلام عن شراء الخيانة والسرقة. قال: لا، إلا أن يكون قد اختلط معه غيره. فأما السرقة بعينها فلا.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 53 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 53 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 53 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 3.

ص: 343

إلا أن يكون من متاع السلطان فلا بأس بذلك"(1) ، وموثق سماعة: "سألته عن شراء الخيانة والسرقة. قال: إذا عرفت أنه كذلك فلا، إلا أن يكون شيئاً اشترتيه من العامل"(2) ، ونحوهما مرسل محمد بن عيسي(3). حيث يتعين حملها علي السرقة والخيانة بلحاظ إشغال المنصب والعمل بمقتضاه من غير حق، دون الخيانة والسرقة لنفس المال وأخذه من مالكه من دون أن يكون مستحقاً عليه، جمعاً بينها وبين صحيح أبي عبيدة وموثق إسحاق المتقدمين، فينفع في إثبات المدعي.

وكذا الحال في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج:" قال لي أبو الحسن موسي (عليه السلام): مالك لا تدخل مع علي في شراء الطعام ؟ إني أظنك ضيقاً. قال: قلت: نعم، فإن شئت وسعت علي. قال: اشتره "(4) واحتمال كون الطعام فيه غير طعام الخراج والمقاسمة والزكاة. بعيد جداً، لأن ذلك هو الطعام الشايع الذي هو مورد الابتلاء من طعام السلطان.

وحمله علي طعام غير السلطان أبعد، إذ لا منشأ للتوقف والاستئذان في غيره. ولاسيما مع ظهور فهم الشيخ له ذلك، حيث ساق الحديث في مساق عمل السلطان والتعامل معه، إذ من القريب احتفاف الحديث بما يصلح قرينة علي الحمل المذكور، ولو كان هو شيوع ذلك في العصور السابقة.

نعم لا ظهور له في عموم الإذن لكل أحد، بل لخصوص عبد الرحمن. بل توقف عبد الرحمن في الشراء من دون إذن خاص من الإمام الكاظم (عليه السلام) لا يناسب ظهور المفروغية عن جواز الشراء في صحيح أبي عبيدة من عهد الإمام الباقر (عليه السلام)، وظهور جملة من النصوص في الجواز من عهد الصادقين (عليهما السلام).

اللهم إلا أن يكون ظهور المفاهيم الشيعية والتأكيد عليها من قبل الأئمة المتأخرين (صلوات الله عليهم)، وبلورتها نتيجة توسع الوجود الشيعي وامتيازه

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 4، 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 4، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 52 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 52 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6، 1.

ص: 344

بفقهه وتعاليمه، أوجب حدوث الشبهة لخاصتهم كالراوي، فأراد الإمام (عليه السلام) بذلك رفع الشبهة وتنبيهه للجواز. نعم لا ريب في عدم نهوضه بالاستدلال علي العموم.

وأشكل من ذلك الاستدلال بصحيح جميل بن صالح:" أرادوا بيع تمر عين أبي بن زياد، فأردت أن اشتريه، فقلت: حتي استأذن أبا عبدالله (عليه السلام)، فأمرت مصادفاً فسأله، فقال له: قل له فليشره، فإنه إن لم يشتره اشتراه غيره"(1). لأن المتيقن منه الأذن الشخصي، ولعله لكون العين ملكاً شخصياً للإمام قد غصب منه، كما قد يناسبه مرسل يونس أو غيره عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قلت له: جعلت فداك بلغني أنك كنت تفعل في غلة عين زياد شيئاً، وأحب أن أسمعه منك..."(2). بل هو الذي صرح به الطبري(3) وأبو الفرج الاصفهاني(4) عند التعرض لمقتل محمد بن عبدالله بن الحسن.

هذا والنصوص المتقدمة - كما تري - مختصة بالشراء. وربما يتعدي عنه لكل معاوضة، لفهم عدم الخصوصية. نعم لا مجال للتعدي للأخذ المجاني. ولاسيما مع ما أشرنا إليه آنفاً من التعدي به غالباً علي بيت المال وعلي المسلمين الذين يملكونه.

لكن ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أن وصف المال المأخوذ في صحيح أبي عبيدة بالحلية يقتضي عموم الترخيص لجميع أنحاء الانتقال.

وهو كما تري.. أولاً: أن مراده (قدس سره) بالحلية إن كان هو حلية المال في حق السلطان، بحيث يكون كأمواله التي له أن يتصرف فيها كيف يشاء، فلا إشكال في عدم ثبوت الحلية في حقه، بل هو معتد في الاستيلاء علي المال، فضلاً عن التصرف فيه. ولو ثبتت في حقه - كما في الولي الشرعي - لكانت مقصورة علي التصرفات الملائمة لمصلحة عموم المسلمين، دون التصرفات المجحفة بهم، كما هو حال كثير من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 53 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1. ورواه في الكافي ج: 5 ص: 229 إلا أن فيه:" عين أبي زياد [عين ابن زياد] "،وفي التهذيب ج: 6 ص: 375 إلا أن فيه:" عين أبي زياد ".

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 18 من أبواب زكاة الغلات ح: 2.

(3) تاريخ الأمم والملوك ج: 6 ص: 205، 225 مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة: 1358 ه -- 1939 م.

(4) مقاتل الطالبين ص: 184 طبعة النجف الثانية سنة 1385 ه - 1965 م.

ص: 345

تصرفات حكام الجور، ومنها دفعهم المال مجاناً.

وإن كان مراده بالحلية حلية المال في حق السائل مع قطع النظر عن شرائه، فالظاهر عدم ثبوت الحلية في حقه بالنحو المذكور، ولذا ليس له سرقة المال من السلطان، ولا أخذ أكثر مما اشتراه.

وثانياً: لأن الصحيح لم يتضمن وصف المال بالحلية. بل ظاهر قوله (عليه السلام):" لا بأس حتي تعرف الحرام بعينه "جواز شراء ما لم يعلم حرمته، والمراد من حرمته حرمته من حيثية كونه مغصوباً ومأخوذاً ممن ليس عليه حق، ومقتضي ذلك جواز شراء ما يؤخذ ممن عليه الحق استيفاء لحقه، ولا ظهور له في جواز غير الشراء إلا بفهم عدم الخصوصية الذي سبق قصوره عن الأخذ المجاني. ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا من قصور النصوص المذكورة عن الأخذ المجاني.

اللهم إلا يقال: مقتضي إطلاق النصوص هو العموم للشراء المحاباتي، بل لعل ذلك هو الغالب في شراء الناس من السلطان، ولا مجال لحمل إطلاقها علي صورة عدم المحاباة. وذلك يناسب إلغاء خصوصية الشراء والتعدي للأخذ المجاني، لعدم الفرق بينهما في كون التصرف إجحافاً ببيت المال وتعدياً علي المسلمين. لكن في كفاية ذلك في التعدي للأخذ وفهم عدم خصوصية الشراء من النصوص إشكال. ولاسيما وأن المحاباة لو تمت فهي بمرتبة خاصة تستلزم نزول قيمة ما يؤخذ من السلطان نوعاً. فلاحظ.

ومنها: معتبر أبي بكر الحضرمي:" دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) وعنده إسماعيل ابنه، فقال: ما يمنع ابن أبي السمال [السماك. الشمال. خ ل] أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس، ويعطيهم ما يعطي الناس. ثم قال لي: لمَ تركت عطاءك ؟ قال: مخافة علي ديني. قال: ما منع ابن أبي السمال [السماك. الشمال. خ ل] أن يبعث إليك بعطائك ؟ أما علم أن لك في بيت المال نصيباً؟"(1). لظهوره في جواز أخذ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 51 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

ص: 346

شباب الشيعة من بيت المال في مقابل ما يقومون به من عمل، وأخذ الراوي منه بعنوان العطاء.

وأما ما عن الأردبيلي من أن ما في بيت المال قد يكون من أموال تنطبق علي الآخذ بوصية أو نذر، ولا يتعين كونه من الأموال العامة. فهو كما تري، ضرورة أن المعلوم من حال بيت المال هو اجتماع الأموال العامة فيه، وهي التي تدفع عطاء، أو في مقابل عمل للسلطان. ومتي كان بيت المال من الأموال الخاصة مثل النذور والوصايا؟! فضلاً عن أن يدفع منها العطاء وما يكون في مقابل العمل للسلطان.

ومنها: نصوص تقبل الأرض من السلطان واستغلال أرض الخراج، كصحيح الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "لا بأس بأن يتقبل الرجل الأرض وأهلها من السلطان"(1) ، وصحيح داود بن سرحان عنه (عليه السلام):" في الرجل تكون له الأرض عليها خراج معلوم، وربما زاد وربما نقص، فيدفعها إلي رجل علي أن يكفيه خراجها ويعطيه مائتي درهم في السنة. قال: لا بأس"(2) ، وغيرهما. حيث تدل هذه النصوص علي نفوذ التعامل مع السلطان علي الأرض، وفراغ الذمة من خراج الأرض بدفعه للسلطان، لعدم التنبيه فيها إلي لزوم دفع خراج آخر للإمام أو غيره.

ومنها: نصوص تقبل الخراج والجزية، كصحيح إسماعيل بن الفضل عنه (عليه السلام): "سألته عن الرجل يتقبل خراج الرجال وجزية رؤوسهم وخراج النخل والشجر والآجام والمصائد والسمك والطير، وهو لا يدري لعل هذا لا يكون أبداً أو يكون، أيشتريه ؟ أو في أي زمان يشتريه يتقبل منه ؟ فقال: إذا علمت أن من ذلك شيئاً واحداًَ قد أدرك فاشتره وتقبل به"(3). وقريب منه موثقه المروي عن الكافي والتهذيب(4). ومثله ما في صحيح الحلبي المتقدم من تقبل أهل أرض الخراج. إذ الظاهر أن تقبلهم إنما يكون بتقبل جزيتهم لأنهم غالباً ذميون.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة حديث: 3، 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة حديث: 3، 1.

(3) الفقيه ج: 3 ص: 141 باب: البيوع حديث: 62.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 4.

ص: 347

حيث تدل هذه النصوص علي جواز التعامل مع السلطان علي مال الخراج والجزية بدفع شيء للسلطان في مقابل أخذ الجزية والخراج من أربابه، وذلك مستلزم لنفوذ تصرف السلطان بحيث يستحق المتقبل منه بسببه أخذ الخراج والجزية ممن يستحقان عليه.

ومنها: النصوص الكثيرة المتضمنة لحل جوائز السلطان، كصحيح محمد بن عيسي عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: لا بأس بجوائز السلطان"(1) ، وحديث محمد بن مسلم وزرارة: "سمعناه يقول: جوائز العمال ليس بها بأس"(2) ، وصحيح أبي ولاد:" قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): ما تري في رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلا من أعمالهم، وأنا أمر به فأنزل عليه، فيضيفني ويحسن إلي، وربما أمر لي بالدراهم والكسوة، وقد ضاق صدري من ذلك. فقال لي: كل، وخذ منه، فلك المهنأ [الحظ] وعليه الوزر"(3) ، وصحيح أبي المغرا: "سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا عنده. فقال: أصلحك الله أمر بالعامل فيجزني بالدراهم آخذها؟ قال: نعم. قلت: وأحج بها؟ قال: نعم [وحج بها. فقيه]" (4) وغيرها.

ودعوي: أن الحل في النصوص قد يكون ظاهرياً، لاحتمال ملكية المجيز لما يدفعه، لاكتسابه له بوجه محلل ولو باقتراضه، لحجية يده علي الملكية مع الاحتمال المذكور.

مدفوعة بأن الظاهر من حال السائل أن السؤال بلحاظ الحرمة الواقعية بسبب عدوانه علي ما تحت يده من الأموال العامة، فينصرف الجواب إلي بيان عدم الحرمة من هذه الجهة واقعاً لا ظاهراً بلحاظ احتمال الملكية. بل هو المتعين بلحاظ قوله (عليه السلام) في صحيح أبي ولاد: "فلك المهنأ [الحظ] وعليه الوزر" ،لظهور أن الوزر واقعي بلحاظ عدوانه علي المال وعدم سلطنته عليه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 51 من أبواب ما يكتسب به حديث: 16، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 51 من أبواب ما يكتسب به حديث: 16، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1، 2.

ص: 348

بلا فرق بين الخراج - وهو ضريبة النقد - والمقاسمة، وهي ضريبة السهم من النصف والعشر ونحوهما (1).

---------------

ولا أقل من كون ذلك مقتضي إطلاق النصوص المذكورة، لأن حملها علي الحلية الظاهرية مستلزم لتقييدها بصورة احتمال ملكية المجيز للجائزة. ولاسيما مع شيوع صورة فقد الاحتمال المذكور، خصوصاً في الجوائز العظام، حيث يبعد جداً التقييد المذكور حينئذٍ.

هذا ومقتضي هذه النصوص جواز الأخذ المجاني من السلطان والعمال. وبه يتم ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) - ويقتضيه إطلاق الأصحاب - من العموم.

لكن استشكل في ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) بأن نصوص جوائز السلطان قد وردت في أشخاص خاصين، وربما كانوا ذوي حصص في بيت المال، ولا مجال معه للبناء علي جواز أخذها لمن لا حق له فيه.

وهو كما تري، فإن بعض تلك النصوص تام الإطلاق، كصحيح محمد بن عيسي وحديث محمد بن مسلم وزرارة. بل حتي مثل صحيح أبي ولاد وأبي المغرا، لأنهما لم يتضمنا الترخيص في جائزة خاصة بنحو القضية الخارجية، ليحتمل كون المخاطب مستحقاً في بيت المال بقدرها أو أكثر منها، بل بنحو الإطلاق والقضية الحقيقة، ومقتضي الإطلاق المذكور حلّ الجائزة وإن لم يكن المخاطب مستحقاً لشيء، أو كانت أكثر مما يستحقه.

ولاسيما مع تعقيب ذلك في صحيح أبي ولاد بأن لك المهنأ وعليه الوزر. إذ لو كان المفروض عدم تعدي الجائزة عن مقدار الحق لكان المناسب التعليل بأنك قد أخذت حقك، كما تقدم في معتبر أبي بكر الحضرمي. ومن ثم لا ينبغي التأمل في جواز الأخذ المجاني وإن لم يكن الآخذ مستحقاً لما أخذ، أو لم يحرز استحقاقه له.

(1) يعني من نفس الغلة. لإطلاق نصوص جوائز السلطان، لما هو المعلوم من

ص: 349

وكذا المأخوذ بعنوان الزكاة (1). والظاهر براءة ذمة المالك بالدفع إليه (2).

---------------

عدم تقيد السلطان بشيء. مضافاً إلي نصوص تقبل الأرض والخراج، حيث تدل علي نفوذ تصرف السلطان في الخراج وفيما يقابل حق المسلمين في الأرض. ونفوذ تصرفه كيف وقع. ولو فرض اختصاص بعض النصوص أمكن تعميم مفادها بفهم عدم الخصوصية عرفاً.

(1) لصراحة صحيح أبي عبيدة في ذلك. وهو مقتضي إطلاق نصوص جوائز السلطان. لما هو المعلوم من سيرة سلاطين الجور من أنهم يجيرون من الزكاة كما يجزون من غيرها.

لكن في المسالك أن للزكاة مصارف خاصة، فلا يجوز أخذها إلا مع صرفها في تلك المصارف. وفيه: أولاً: أن ظاهر النصوص وصيرورتها ملكاً للأخذ، فإن بني علي تحكيمها في الزكاة تعين البناء علي ملكيتها، كما لو أخذت من النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أو الإمام (عليه السلام). وإن بني علي عدم تحكيمها تعين عدم جواز أخذ الزكاة من السلطان حتي مع صرفها في مصارفها، لعدم الولاية علي ذلك. إلا أن تستفاد عليها الولاية عليها من طريق آخر غير النصوص.

وثانياً: أن ذلك يجري في الخراج أيضاً، لأن له مصارف خاصة أيضاً. ولعله لذا قال في المسالك: "ويحتمل الجواز مطلقاً، نظراً إلي إطلاق النص والفتوي. ويجيء مثله في المقاسمة والخراج، لأن مصرفهما بيت المال، وله أرباب مخصوصة عندهم أيضاً".

وكان علي سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره أن يذكروا الجزية، التي هي مورد بعض النصوص المتقدمة، وتدخل في نصوص جوائز السلطان.

(2) كما نفي الخلاف فيه في الجواهر في الخراج والمقاسمة. ويظهر من المسالك في كلامه الآتي في الزكاة المفروغية عنه. لكن قد يظهر الخلاف فيه من شيخنا الأعظم (قدس سره)، حيث قال: "فما يأخذه الجائر باق علي ملك المأخوذ منه، ومع ذلك يجوز قبضه

ص: 350

عن الجائر" .فإن بقاءه علي ملك صاحبه لا يناسب براءة ذمته من الحق الثابت عليه، والذي أخذ السلطان المال وفاء عنه.

إلا أن يدعي أن المال وإن بقي علي ملك المأخوذ منه، إلا أن الشارع أسقط عنه الحق تخفيفاً بسبب أخذ السلطان المال منه، لا لكون المال المأخوذ وفاء عن الحق.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في براءة ذمته من الخراج والمقاسمة بسبب أخذ المال، لما هو المعلوم من قيام السيرة علي عدم دفع الخراج والمقاسمة مرة أخري. ولعدم التنبيه علي ذلك في نصوص تقبل الأرض مع كونه مغفولاً عنه. بل مقتضي ما ورد في تقبل الخراج والجزية انتقالها للمتقبل، لأن ذلك هو مقتضي القبالة التي يظهر من النص إمضاؤها.

وكذا الحال في ذيل صحيح أبي عبيدة المتضمن جواز شراء ما يعزله القاسم بكيل، بناءً علي أن المراد بالقاسم من يأخذ مال المقاسمة علي أرض الخراج فإن شراءه يناسب تعينه لما عين له وخروجه عن ملك صاحبه. وأما احتمال كون الشراء صورياً، وحقيقته استنقاذ المالك لماله. فهو مخالف للظاهر جداً. ولاسيما مع التقييد فيه بما إذا عزله بكيل، لوضوح أن الاستنقاذ ليس مشروطاً بشيء.

أما لو كان المراد بالقاسم عامل الزكاة إذا قسم حصة الزكاة وعزلها، فهو وإن كان خارجاً عن موضوع الكلام، إلا أنه يمكن استفادة ما نحن فيه بفهم عدم الخصوصية أو بعدم الفصل.

ومن ذلك يظهر إمكان الاستدلال بنصوص الشراء من العامل وشراء الطعام، بناءً علي كونها مما نحن فيه، لأن الطعام الذي عند السلطان ليس إلا من الخراج أو الزكاة.

كما يظهر ضعف ما سبق من شيخنا الأعظم (قدس سره) من بقاء المال في ملك المأخوذ منه، فإنه لا يناسب نصوص تقبل الخراج والجزية وما تضمن الترخيص في الشراء.

ولأجل ذلك يتعين الإجزاء في الزكاة أيضاً، لصراحة صحيح أبي عبيدة في جواز

ص: 351

شراء صاحب الصدقة لصدقة أغنامه بعد عزلها، ومقتضي صحة شرائها خروجها عن ملك المأخوذ منه وتعينها فيما عينت له. ولا مجال لحمل الشراء علي الاستنقاذ، ولاسيما بعد اشتراطه صحته بعزل الزكاة، كما يظهر مما سبق.

هذا مضافاً إلي النصوص الكثيرة الصريحة في الإجزاء، كصحيح عيص بن القاسم عن أبي عبدالله (عليه السلام): "في الزكاة. قال: ما أخذ منكم بنو أمية فاحتسبوا به، ولا تعطوهم شيئاً ما استطعتم، فإن المال لا يبقي علي هذا أن يزكيه مرتين"(1) ، وصحيح سليمان بن خالد:" سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: إن أصحاب أبي أتوه فسألوه عما يأخذه السلطان، فرقّ لهم، وإنه ليعلم أن الزكاة لا تحل إلا لأهلها، فأمرهم أن يحتسبوا به، فجال فكري والله لهم، فقلت [له]: يا أبه إنهم إن سمعوا إذاً لم يزك أحد. فقال: يا بني حق أحبّ الله أن يظهره"(2) ، وصحيح الحلبي: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن صدقة المال يأخذه [يأخذها] السلطان فقال: لا آمرك أن تعيد"(3) ، وغيرها.

نعم في صحيح أبي أسامة:" قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إن هؤلاء المصدقين يأتونا ويأخذون منا الصدقة، فنعطيهم إياها أتجزي عنا؟ فقال: لا، إنما هؤلاء قوم غصبوكم، أو قال: ظلموكم أموالكم، وإنما الصدقة لأهلها"(4).

وقد حمله الشيخ (قدس سره) وغيره علي الاستحباب. وهو في محله لو كان الحكم بالإجزاء أو عدمه شرعياً، كما هو الظاهر في سائر المقامات، إذ حيث كان الحكم المذكور واحداً يتعين الجمع العرفي بين النصوص المختلفة فيه.

لكن ظاهر صحيح سليمان بن خالد المتقدم كون الحكم المذكور حكماً شخصياً للإمام (عليه السلام) بلحاظ ولايته العامة، كما هو مقتضي قوله (عليه السلام): "فرق لهم وهو يعلم..." .وحينئذٍ يمكن عدول الإمام عنه لتبدل المصلحة باختلاف الأزمنة. ومقتضي ذلك العمل علي المتأخر، وحيث لا يتيسر تعيينه في المقام، لورود جملة من نصوص الإجزاء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 20 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 20 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 4، 5، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 20 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 4، 5، 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 20 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 4، 5، 6.

ص: 352

عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً، يتعين التوقف، والرجوع للقاعدة القاضية بعدم الإجزاء.

اللهم إلا أن يقال: الفقرة المذكورة في صحيح سليمان بن خالد وإن كانت ظاهرة في كون الحكم بالإجزاء شخصياً، إلا أن قوله (عليه السلام) في ذيله: "يا بني حق أحب الله أن يظهره" ظاهر في كون الحكم المذكور شرعياً ثابتاً في الواقع قد أظهر الله تعالي علي لسانه (عليه السلام).

مع أن تعليل التخفيف والإجزاء في صحيح عيص بن القاسم بأن المال لا يبقي علي هذا يزكيه مرتين يناسب بقاءه في جميع الأزمنة وحمل صحيح أبي أسامة علي الاستحباب، فإنه أولي من حمله علي ارتفاع التخفيف مع بقاء ملاكه. خصوصاً مع أن مقتضي تعليل عدم الإجزاء في صحيح أبي أسامة العموم للخراج والمقاسمة، وليس بناؤهم علي عدم الإجزاء فيهما، كما سبق. حيث يناسب ذلك حمل الحكم علي الاستحباب بلحاظ العنوان الأولي. ومن ثم لا معدل عما ذكره الشيخ (قدس سره) من حمل الصحيح علي الاستحباب.

هذا ولكن احتمل في جامع المقاصد عدم الإجزاء في الزكاة، بل قواه في المسالك. قال: "وهل تبرأ ذمة المالك من إخراج الزكاة مرة أخري ؟ يحتمله، كما في الخراج والمقاسمة، مع أن حق الأرض واجب لمستحق مخصوص... وعدمه، لأن الجائر ليس نائب المستحقين، فيتعذر النية، ولا يصح الإخراج بدونها... والأقوي عدم الاجتزاء بذلك".

وهو كما تري، فإن تعذر النية لا ينافي الإجزاء، ضرورة إمكان الاجتزاء بفاقد الشرط عن الواجب تخفيفاً. مع أنه لا يعتبر النية حين تسليم الزكاة للمستحق، بل يكفي النية حين عزلها، وهو حاصل في المقام عند تسليمها للجائر. وكيف كان فلا مجال لرد النصوص المتقدمة بذلك، بل هو يبتني إما علي الغفلة عن تلك النصوص، أو الاجتهاد في مقابلها.

ص: 353

هذا وفي صحيح محمد بن مسلم: "سألته عن الرجل يتكاري الأرض من السلطان بالثلث أو النصف هل عليه في حصته زكاة ؟ قال: لا..."(1) ، وفي صحيح رفاعة بن موسي عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سألته عن الرجل يرث الأرض أو يشتريها، فيؤدي خراجها إلي السلطان هل عليه فيها عشر؟ قال: لا"(2) ، وفي خبر أبي كهمس عنه (عليه السلام): "قال: من أخذ منه السلطان الخراج فلا زكاة عليه"(3) ، وفي خبر سهل بن اليسع:" أنه حيث أنشأ سهل آباد وسأل أبا الحسن موسي (عليه السلام) عما يخرج منها ما عليه ؟ فقال: إن كان السلطان يأخذ خراجه فليس عليك شيء، وإن لم يأخذ السلطان منها شيئاً فعليك إخراج عشر ما يكون فيها"(4). وربما يستفاد ذلك من غيرها. ومقتضي هذه النصوص إجزاء الخراج عن الزكاة.

وهو لا يخلو عن غرابة، لأن الخراج ليس من سنخ الزكاة، ليتناسب مع كونه مجزياً عنها. بل هو حق آخر ثابت معها، وذلك يناسب وجوب إخراجهما معاً وعدم إجزاء أحدهما عن الآخر.

نعم في مرسل ابن بكير عن أحدهما (عليه السلام): "قال في زكاة الأرض إذا قبلها النبي أو الإمام بالنصف أو الثلث أو الربع فزكاتها عليه. وليس علي المتقبل زكاة. إلا أن يشترط صاحب الأرض أن الزكاة علي المتقبل، فإن اشترط فإن الزكاة عليهم. وليس علي أهل الأرض اليوم زكاة، إلا من كان في يده شيء مما أقطعه الرسول صلي الله عليه وآله وسلم"(5). ومقتضاه أن سقوط الزكاة في الأرض الخراجية ليس لإجزاء الخراج عنها. كما يظهر من بعض النصوص السابقة، ليتأتي ما سبق في وجه غرابته، بل لأن الزكاة يتحملها صاحب الأرض.

فالعمدة في الإشكال في هذه النصوص أنها معارضة بالنصوص المتضمنة ثبوت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 7 من أبواب زكاة الغلات حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 10 من أبواب زكاة الغلات حديث: 2، 3، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 10 من أبواب زكاة الغلات حديث: 2، 3، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 10 من أبواب زكاة الغلات حديث: 2، 3، 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 7 من أبواب زكاة الغلات حديث: 4.

ص: 354

الزكاة في حصة المزارع، كصحيح أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):" أنهما قالا له: هذه الأرض التي يزارع أهلها ما تري فيها؟. فقال: كل أرض دفعها إليك السلطان فما حرثته فيها فعليك مما أخرج الله منها الذي قاطعك عليه، وليس علي جميع ما أخرج الله منها العشر، إنما العشر فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك"(1) ، ونحوه صحيح البزنطي(2) ، وخبر صفوان والبزنطي(3).

وقد جمع الشيخ (قدس سره) بين الطائفتين بحمل الأولي علي نفي الزكاة في تمام حاصل الأرض حتي ما أخذه السلطان، مع ثبوتها في حصة الزارع التي تبقي له بعد أخذ السلطان حصته. لكن هذا إن أمكن عرفاً في خبر أبي كهمس فهو لا يمكن بالباقي، خصوصاً صحيح محمد بن مسلم، كما هو ظاهر. ومن ثم يكون مقتضي الجمع العرفي بينهما حمل الطائفة الثانية علي الاستحباب.

لكن ذلك موقوف علي حجية الطائفة الأولي في نفسها. ولا مجال له بعد ظهور تسالم الأصحاب علي عدم سقوط الزكاة بدفع الخراج، فقد ادعي في الخلاف والمعتبر والتذكرة ومحكي المنتهي الإجماع علي وجوب الزكاة في حصة المزارع بعد دفع حصة السلطان، معتضداً بما في الجواهر ناسباً له إلي غير واحد من عدم وجدان الخلاف في ذلك، وما في مفتاح الكرامة من أن المسألة إجماعية، وما في الرياض من أن ظاهر الأصحاب الإطباق علي ردّ هذه الأخبار. ولم ينقل القول بسقوط الزكاة مع الخراج إلا عن أبي حنيفة.

قال في الحدائق بعد أن أطال الكلام حول هذه النصوص: "وكيف كان فحيث كانت الأخبار المتقدمة مما أعرض عن العمل به كافة الأصحاب قديماً وحديثاً، مع معارضتها بالأخبار المتقدمة في المقام السابع، وكونها علي خلاف الاحتياط، فلابد من تأويلها، أو طرحها وإرجاعها إلي قائلها. والأظهر هو حملها علي التقية، فإنه مذهب أبي حنيفة...".

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 7 من أبواب زكاة الغلات حديث: 1، 3، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 7 من أبواب زكاة الغلات حديث: 1، 3، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 7 من أبواب زكاة الغلات حديث: 1، 3، 2.

ص: 355

بل الظاهر أنه لو لم تأخذه الحكومة وحولت شخصاً علي المالك في أخذه منه جاز للمحول أخذه (1).

---------------

فإن أوجب ذلك اليقين بورودها للتقية فهو، وإلا فلا أقل من كونها مورداً للريب بنحو تسقط عن الاستدلال، ويرد علمها إليهم (صلوات الله عليهم)، من دون أن تمنع من العمل بالنصوص الأخيرة المعتبرة سنداً، الواضحة دلالة، المطابقة للاعتبار، المعول عليها بين الأصحاب (رضوان الله عليهم). والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

(1) كما في الدروس والمسالك وعن التنقيح، بل قد يظهر من المسالك أن المراد من أخذ الجائر لها في كلامهم ما يعم ذلك. ولعله لذا نفي الخلاف فيه في الجواهر ومحكي الحدائق، وادعي الإجماع عليه في جامع المقاصد، وفي الرياض أنه الذي ذكره الأصحاب من غير خلاف يظهر.

لكن في مفتاح الكرامة أنه الذي فهمه الأكثر. وكأنه لما نسبه للمحكي عن شرح النافع للسيد عميد الدين من قوله: "إنما يحل ذلك بعد قبض السلطان أو نائبه. ولهذا قال المصنف بأخذه".

وكيف كان فيقتضيه نصوص تقبل الجزية والخراج المتقدمة، كصحيح إسماعيل ابن الفضل، لصراحتها في جواز التعامل مع السلطان علي الخراج قبل قبضه له، بحيث يستحق المتقبل بسبب القبالة أخذه ممن هو عليه.

وأما بقية النصوص فلا يخلو التمسك بها عن إشكال. أما نصوص الشراء فهي مختصة أو منصرفة إلي شراء الشيء الشخصي الذي هو من عند السلطان والعمال وفي قبضتهم، ولاسيما مع عدم ورودها في مقام بيان نفوذ تصرف السلطان والعامل، ليتم لها ظهور في الإطلاق، بل في مقام البيان من جهة أخري، كعدم مانعية ظلم العامل من الشراء منه. وكذا معتبر أبي بكر الحضرمي، كما هو ظاهر.

ص: 356

وأما نصوص تقبل أرض الخراج فهي إنما تدل علي نفوذ تصرف السلطان في الخراج قبل قبضه بتعين مقداره، لا بتمليكه بنحو يجوز لمن ملكه من السلطان أن يأخذه ممن عليه الخراج قبل قبض السلطان له الذي هو محل الكلام.

وأما نصوص حلّ جوائز السلطان والعامل، فلقرب انصرافها إلي خصوص ما يدفعه مما هو عنده - كما هو مورد غير واحد منها - دون ما لم يقبضه. ولاسيما وأن مقتضي نفوذ التحويل وجوب الدفع علي المحول عليه، ونصوص حلّ الجوائز واردة لبيان جواز الأخذ لا غير.

ومن ذلك يظهر الإشكال في نفوذ التحويل المجاني. لاختصاص نصوص تقبل الخراج والجزية بشراء حصة السلطان منه وتحويله بها علي من هي عليه. وإلغاء خصوصية ذلك بنحو يفهم منه العموم للتحويل المجاني لا يخلو عن إشكال. بل إلحاق المحول المجاني بالمتقبل في جواز الأخذ ليس بأولي من إلحاقه بعمال السلطان في عدم جوازه.

هذا وقد تقدم في صحيح أبي عبيدة اشتراط جواز شراء أغنام الصدقة من المصدق بأخذه لها وعزلها، ومقتضي مفهوم الشرطية المذكورة عدم جواز الشراء قبل ذلك، فينافي ما سبق.

وقد أجاب عن ذلك بعض مشايخنا (قدس سره) بوجهين:

الأول: أن اعتبار الأخذ في الصحيح إنما هو من أجل أن يصير العامل صاحب يد علي الصدقة ويحرز سلطنته عليها، لينفذ تصرفه فيها. أما بدونه فلا طريق لإحراز سلطنته علي البيع، ولا يكفي احتمال إذن السلطان في البيع.

ولا مجال للتمسك بقاعدة الصحة في البيع الصادر منه، إما لاختصاص قاعدة الصحة بما إذا شك في تحقق شرائط صحة العقد، دون شرائط العوضين - كما ذكره (قدس سره)

أو لما هو الظاهر من قصورها عن صورة الشك في سلطنة العاقد.

وفيه: أنه لا شاهد علي ما ذكره من كون الشرطية من أجل إحراز سلطنة العامل

ص: 357

علي البيع، بل مقتضي الإطلاق كون الأخذ والعزل شرطاً واقعاً لجواز البيع حتي مع إحراز سلطنة العامل عليه، لإذن السلطان له فيه.

الثاني: أن الصدقات لا تتعين بأمر الجائر بعزلها ودفعها له، فإذا اشتراها المالك قبل أخذ الجائر لها تعين بطلان البيع، لأنه اشتري مال نفسه.

وهو لا يخلو عن غموض، فإن الصدقات كغيرها من الحقوق العامة الثابتة في أموال الناس وذممهم - كالخراج والمقاسمة وغيرهما - لا تتعين بأمر الجائر بعزلها، ولا بأخذه لها، بل ولا بأخذ العامل المنصوب من قبل الإمام الحق، وإنما تتعين باتفاق المالك مع من ينفذ تصرفه في الحق - كالجائر وغيره - علي تعيينها في عين خاصة. بل الزكاة أهون من غيرها، لأنه يكفي في تعينها عزل المالك وحده له.

لكن المراد بشرائها قبل أخذ الجائز لها ليس هو شراءها علي نحو شراء العين الشخصية، ليشكل بعد تعينها قبل الأخذ والعزل، بل شراؤها بنحو شراء الكلي، نظير تقبل الخراج، وهو لا يحتاج إلي الأخذ والعزل.

ومن ثم يشكل الخروج عن ظاهر الشرطية في الصحيح. نعم هو مختص بالزكاة، كما أن نصوص القبالة مختصة بالخراج والجزية، فيتعين العمل بكل منهما في مورده.

ودعوي: عدم الفصل بين الخراج والزكاة. غير ظاهرة بنحو تنهض بإثبات حكم شرعي والخروج عن ظاهر أدلته. ولاسيما مع ما سبق في صحيح العيص من النهي عن إعطاء الزكاة للجائر مع الإمكان، ولم يرد مثل ذلك في الخراج والمقاسمة. مضافاً إلي قرب كون مساق كلامهم عدم الفصل بينهما من حيثية السلطنة ونفوذ معاملة سلطان الجور بعد الفراغ عن مشروعية المعاملة ذاتاً.

ولعل خصوصية الزكاة في المقام من أجل عدم جواز بيعها ذاتاً بنحو بيع الكلي حتي من قبل العادل، للفرق بينها وبين الخراج في نحو ثبوتها في العين أو في الذمة. واحتمال ذلك كاف في امتناع التمسك بعدم الفصل في المقام.

ص: 358

وبرئت ذمة المحول عليه (1).

---------------

إن قلت: صحيح أبي عبيدة كما تضمن اشتراط بيع الصدقة بأخذ العامل لها تضمن أيضاً اشتراط بيع الطعام في المقاسمة التي هي من سنخ الخراج بالأخذ والقبض أيضاً كما هو مفاد الفقرة الثالثة.

قلت: مجرد التعبير في الفقرة الثالثة بالقاسم لا يصلح دليلاً علي ورودها في المقاسمة التي هي من سنخ الخراج. بل ربما يكون المراد به عامل الزكاة المتعلقة بالحنطة والشعير، كما هو الأنسب بالسياق. علي أنها لم تتضمن شرطية مجرد الأخذ والقبض في جواز البيع، بل شرطية الأخذ والقبض بكيل في جواز البيع من غير كيل، وهو أجنبي عما نحن فيه.

(1) يعني بالدفع. فإن مقتضي نصوص القبالة كون ما يأخذه المتقبل بعد القبالة خراجاً عن الأرض وإذا كان خراجاً كان مبرئاً لذمة دافعه، إذ ليس علي الأرض إلا خراج واحد. بل الظاهر عموم ذلك لغير مورد القبالة من موارد تحويل السلطان من دون استحقاق عليه، لأنه حينئذٍ كوكيل السلطان وعماله الذين لا إشكال في براءة الذمة بالدفع إليهم وإن حرم عليهم الأخذ.

بقي في المقام شيء. وهو أن المتيقن مما سبق ما إذا كان السلطان مسلماً مخالفاً ولو لأنه مورد الابتلاء في عصر صدور النصوص المتقدمة. أما إذا كان السلطان مؤمناً فقد يمنع من عموم الحكم له.

لدعوي: قصور النصوص عنه، لأنها إنما وردت بنحو القضية الخارجية، فتختص بموردها، وهو المخالف، وليست واردة بنحو القضية الحقيقية، لتعم غير موردها. وإلغاء خصوصية موردها عرفاً من حيثية أشخاص السلاطين لا يستلزم إلغاءه من حيثية كونهم مخالفين.

وفيه: أن ظاهر النصوص بيان الحكم بنحو القضية الحقيقية، كما هو الأصل

ص: 359

في جميع القضايا الشرعية. غاية الأمر أن النصوص قد تكون واردة في مقام البيان من بعض الجهات، فلا يكون لها إطلاق من غير تلك الجهة، لكن الظاهر ثبوت الإطلاق في بعض النصوص للسلطان من هذه الجهة، كقوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي المتقدم في قبالة الأرض: "لا بأس بأن يتقبل الأرض وأهلها من السلطان"(1) ، وقوله (عليه السلام) في صحيح أبي بصير ومحمد بن مسلم المتقدم عند الكلام في إجزاء الخراج عن الزكاة:" كل أرض دفعها إليك السلطان فما حرثته فيها فعليك مما اخرج الله منها الذي قاطعك عليه"(2).

نعم قد يدعي انصرافها للمخالف لأحد وجوه:

الأول: الغلبة. ويظهر ضعفه مما تكرر منا من عدم صلوح الغلبة بنفسها لتقييد الإطلاق، وأن الانصراف بسببها بدوي لا يعتد به.

الثاني: ابتناء الحكم في النصوص علي إمضاء معتقد السلطان في أهلية التصدي للمنصب وما يستتبعه من الولاية علي الأموال العامة، وذلك لا يتم مع كونه مؤمناً، لاعتقاده حينئذٍ بكونه ظالماً في أخذ الأموال المذكورة.

وفيه - مع عدم وضوح ابتناء الحكم في النصوص علي ذلك -: أن المراد باعتقاد الأهلية إن كان هو الاعتقاد الحقيقي المجرد فهو غير حاصل في كثير من سلاطين المخالفين، لمعرفتهم بالحق وأهلهم، وإنما خرجوا عن معتقدهم عملاً حباً للسلطنة والمنصب.

وإن كان هو ابتناء سلطنتهم علي فرض أهليتهم للمنصب وما يستتبعه. فهو حاصل في المؤمن أيضاً، إذ هو لا يتصدي للمنصب إلا بدعوي استحقاقه لذلك، إما تغافلاً عن مقتضي مذهبه، كما تغافل المتسلطون من الصدر الأول عن مقتضي التشريع الحق. وإما للبناء علي أنه المتعين لأخذ المال بعد غيبة الإمام الحق (عجل الله تعالي فرجه الشريف).

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 18 من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 7 من أبواب زكاة الغلات حديث: 1.

ص: 360

وفي جريان الحكم المذكور في ما يأخذه السلطان المسلم المؤالف أو المخالف الذي لا يدعي الخلافة العامة (1) أو الكافر إشكال (2).

---------------

الثالث: ابتناء الحكم في النصوص علي أمضاء شبهة الاستحقاق من حيثية الاختلاف في المذهب لا مطلقاً. وفيه: أنه لا شاهد في النصوص علي ذلك. وما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن ذلك هو منظور الأصحاب. لو تم لا يصلح قرينة علي مفاد النصوص، ولا ينهض بالخروج عن مفادها.

ومن هنا يتعين البناء علي عموم الحكم للمؤمن. خصوصاً إذا ابتني أخذه للأموال العامة علي دعوي ولايته العامة نيابة عن الإمام (عليه السلام). بل لا يبعد خروج ذلك عن مورد كلام المصنف (قدس سره) وغيره ممن استشكل في عموم الحكم للمؤمن.

هذا ولا يبعد جريان ذلك في الكافر أيضاً إذا ابتني أخذه للأموال العامة علي سلطنته علي المسلمين وولايته عليهم وإدارته لأمورهم ونظره لصلاحهم مع إغفال مانعية الكفر من الولاية، أو ادعاء عدم مانعيته، لمثل أن الكافر العادل خير من المسلم الجائر أو نحوه مما قد يتسني للسلاطين إعلانه، ولو بالاستعانة بعلماء السوء. حيث لا موجب لخروجه عن الإطلاق. بل لا ينبغي الإشكال في ذلك لو لم يكن معلنا كفره، بل كان متستراً به عن العامة وإن علم به الخاصة، حيث لا يبعد تحقق ذلك في عصور الأئمة (عليهم السلام). ولعله خارج عن محل كلام من منع من العموم للكافر.

(1) الظاهر إلحاق دعوي الولاية العامة نيابة عن الإمام (عليه السلام) بدعوي الخلافة، عملاً بالإطلاق. بل لو قيل بثبوت الولاية المذكورة فالأمر أظهر، حيث يكون نفوذ التصرف مقتضي تلك الولاية بلا حاجة للأدلة المتقدمة.

(2) لقرب انصراف السلطان في النصوص المتقدمة وغيرها للمعهود من السلاطين الذين يبتني حكمهم علي سلطنتهم علي عموم المسلمين ولزوم حكمهم عليهم، حيث يكون لهم بمقتضي ذلك أن يأخذوا الأموال التي يملكها عموم

ص: 361

(مسألة 38): إذا دفع إنسان إلي آخر مالاً ليصرفه في طائفة من الناس، وكان المدفوع إليه منهم، فإن فهم من الدافع الإذن في الأخذ من ذلك المال جاز له أن يأخذ منه مثل أحدهم أو أكثر علي حسب الإذن (1)، وإن لم يفهم الإذن لم يجز له الأخذ منه أصلاً (2).

---------------

المسلمين وينفقونها في مصلحتهم، دون غيرهم ممن يبتني حكمه علي الاختصاص بمنطقة خاصة، فإن الأموال المذكورة لا تختص بأهل تلك المنطقة، فلا يكون أخذها من شؤون سلطنته المزعومة، بل تعدياً وغصباً.

وأظهر من ذلك ما إذا أخذ الأموال لا بعناوينها الشرعية المعهودة من خراج أو زكاة أو غيرها، بل بعناوين أخري اقتضتها القوانين الوضعية المجعولة. لخروجها حينئذٍ عن موضوع الإمضاء المستفاد من النصوص المتقدمة والسيرة.

نعم إذا لم يكن الاختصاص بمنطقة خاصة مبني لكيان السلطنة القائم، بل ناشئاً من العجز عن تعميم السلطنة فالظاهر دخوله في إطلاق نصوص الإمضاء. ولاسيما بلحاظ حصول ذلك في عصور الأئمة (عليهم السلام) حيث قصرت سلطنة العباسيين عن الأندلس. غاية الأمر أنه لابد من أخذ المال بالعناوين الشرعية من زكاة أو خراج أو غيرهما، لما سبق.

(1) بلا إشكال ظاهر. لنفوذ التصرف المذكور بسبب الإذن المفروض.

(2) كما في أواخر كتاب الوكالة من المبسوط، وفي كتاب الزكاة من السرائر، ومكاسب النافع والقواعد والتذكرة وجامع المقاصد وعن التحرير وغيره.

عملاً بمقتضي القاعدة من عدم نفوذ التصرف في مال الدافع وجميع ما له الولاية عليه إلا بإذنه.

ولصحيح عبد الرحمن بن الحجاج: "سألته عن رجل أعطاه رجل مالاً ليقسمه في محاويج أو في مساكين وهو محتاج، أيأخذ منه لنفسه ولا يعلمه ؟ قال: لا يأخذ منه

ص: 362

شيئاً حتي يأذن له صاحبه"(1).

لكن صرح بجواز الأخذ بقدر ما يعطي غيره في كتاب الزكاة من المبسوط والنهاية، وفي مكاسب السرائر والشرايع والمسالك وعن غيرها. ومال إليه في الدروس ونسبه للأكثر وعن الحدائق نسبته للمشهور.

لصحيح الحسين بن عثمان عن أبي إبراهيم (عليه السلام):" في رجل أعطي ما لا يفرقه فيمن يحل له، أله أن يأخذ منه شيئاً لنفسه وإن لم يسم له ؟ قال: يأخذ منه لنفسه مثل ما يعطي غيره"(2) ، وموثق سعيد بن يسار أو صحيحه: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): الرجل يعطي الزكاة فيقسمها في أصحابه. أيأخذ منها شيئاً؟ قال: نعم"(3) ، وصحيح عبد الرحمن بن الحجاج:" سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يعطي الرجل الدراهم ويضعها في مواضعها وهو ممن تحل له الصدقة. قال: لا بأس أن يأخذ لنفسه كما يعطي غيره. قال: ولا يجوز له أن يأخذ إذا أمره أن يضعها في مواضع مسماة إلا بإذنه"(4).

وذكر الشيخ في الاستبصار أنه يمكن حمل صحيح عبد الرحمن الأول إما علي الكراهة، أو علي ما إذا عين له محاويج ومساكين خاصين، أو علي أخذ أكثر مما يدفعه لغيره.

لكن الأخير بعيداً جداً بعد قوله (عليه السلام): "لا يأخذ منه شيئاً" .كما يبعد الأول أن المنسبق من الجواب الإشارة إلي حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه. وهو لا يناسب الكراهة، ومن هنا كان الأقرب الثاني، فإن النكرة كثيراً ما تستعمل في المعين المجهول دون المطلق.

ودعوي: أنه مع تعين الأشخاص المدفوع إليهم يبعد اشتباه الحكم علي مثل عبد الرحمن. مدفوعة بعدم استبعاد اشتباه الحكم عليه وتخيله جواز الأخذ لتحقق

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 84 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 40 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 2، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 40 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 2، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 40 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 3.

ص: 363

الملاك فيه، كما يناسبه التنبيه لعدم جواز الأخذ حينئذٍ في صحيحه الآخر، إذ لولا إمكان الاشتباه فيه لم يحتج للتنبيه عليه. وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في أن مقتضي الجمع العرفي تحكيم نصوص الجواز، وتنزيل صحيح عبد الرحمن الأول علي ما لا ينافيها.

هذا وقد فصل بعض مشايخنا (قدس سره) بين ما إذا كان للمال المدفوع مصرف خاص شرعاً - كالزكاة والخمس وغيرهما - وما إذا لم يكن كذلك، بل كان تعين المصرف اقتراحاً من صاحب المال. فحكم بجواز الأخذ للمدفوع له في الأول دون الثاني.

وكأن الوجه فيه اختصاص نصوص الجواز بالأول، لورود موثق سعيد في الزكاة وقوله في صحيح الحسين بن عثمان: "يفرقه فيمن يحل له" وفي صحيح عبد الرحمن: "ويضعها في مواضعها" .لظهورهما في كون المال مختصاً بطائفة خاصة ومواضع مخصوصة لا يحل لغيره.

ويكون الوجه في عدم الجواز في الثاني صحيح عبد الرحمن المانع إما لاختصاصه به، لظهور قوله: "حتي يأذن له صاحبه" في كون المال مملوكاً للدافع، وليس من سنخ الحقوق ذات المصارف الخاصة، أو للبناء علي عمومه في نفسه وتقييده بنصوص الجواز.

وإن بني علي عدم نهوضه بالاستدلال، لاحتمال كون المراد به ما إذا عين الدافع محاويج ومساكين خاصين، لما سبق من كثرة استعمال النكرة في المعين المجهول دون المطلق، كان الوجه في عدم الجواز في الثاني القاعدة المتقدمة.

لكن قد يبعد ذلك غفلة الأصحاب هذه المدة الطويلة عن التفصيل المذكور، فإن فهمهم وإن لم يكن حجة في نفسه، إلا أنه قد يكشف في المقام عن فهمهم إلغاء خصوصية موارد نصوص الجواز والمنع عرفاً، بنحو تأبي التفصيل المذكور، كما هو غير بعيد، لعدم الفرق في وجوب متابعة دافع المال في كيفية الصرف بين القسمين. وإن كان في كفاية هذا المقدار في ردّ هذا التفصيل إشكال.

ثم إنه لو بني علي جواز الأخذ مطلقاً أو في خصوص المال الذي له مصرف

ص: 364

شرعي، عملاً بنصوص الجواز المتقدمة، فاللازم الاقتصار فيه علي ما إذا لم تقم قرينة علي عدم ترخيص المدفوع له في الأخذ. لانصراف نصوص الجواز عن ذلك، وكون المتيقن منه ما إذا كان الدفع بنحو يوجب التحير والشك. ولاسيما مع التصريح في صحيح عبد الرحمن الثاني بعدم جواز الأخذ مع تعيين الدافع مواضع مسماة للمال، لأن المرتكز ابتناء ذلك علي لزوم متابعة دافع المال فيما عين، وهو يجري في محل الكلام، لأن الأخذ مع قيام القرينة علي عدم الإذن فيه خروج عن ما عينه.

نعم ليس من ذلك ما إذا كان الدافع يعتقد عدم دخول المدفوع له في العنوان الذي عينه، فإن ذلك بمجرده لا يكفي قرينة عرفاً علي عدم الإذن له بشخصه في فرض كون متصفاً به واقعاً.

وكذا إذا كان يعتقد دخوله فيه. ودعوي: أنه لو أراده حينئذٍ لخصه بشيء، فعدم تخصيصه به قرينة علي عدم رضاه بأخذه منه. مدفوعة بأن عدم تخصيصه بشيء مع علمه بدخوله في العنوان المذكور لا يدل علي عدم رضاه بأخذه، إذ قد يكون ذلك تجنباً لإحراجه، أو لإيكاله اختيار التعيين للمدفوع له لحسن ظنه باختياره.

بقي شيء. وهو أن المذكور في كلام غير واحد ممن صرح بالجوار اعتبار مساواة ما يأخذه لما يعطيه لغيره، وفي المسالك: "هكذا شرطه كل من سوغ له الأخذ" ،وعن الأردبيلي (قدس سره) نسبة عدم جواز أخذ الزيادة إلي ظاهر المجوزين. والعمدة فيه صحيحا الحسن بن عثمان وعبد الرحمن بن الحجاج.

ودعوي: أن مقتضاهما وجوب التساوي في التوزيع شرعاً، وهو مما لا يمكن البناء عليه، خصوصاً فيما إذا كان العنوان غير محصور، حيث يتعين البناء علي المصرفية التي لا تمنع من التفاضل. فلابد من تأويل الصحيحين وتنزيلهما علي ما لا ينافي ذلك.

مدفوعة بأنه إذ لا نظر في هذه النصوص لكيفية صرف المال المدفوع شرعاً، بل لكيفية صرفه من حيثية كونه مورداً لولاية دافعه ومباشر صرفه وموضوعاً لسلطنته،

ص: 365

(مسألة 39): جوائز الظالم حلال (1)،

---------------

كما لعله ظاهر.

نعم المنصرف من الصحيحين ما إذا كان البناء علي التوزيع بالتساوي، إما لأمر الدافع بذلك أو لجري المدفوع له عليه. أما مع عدم البناء علي ذلك فالصحيحان قاصران عنه. والمرجع حينئذٍ إطلاق حديث ابن يسار.

اللهم إلا أن يقال: لا يراد بالأمر بالمساواة فيهما وجوبها، بل عدم الزيادة علي ما يعطيه لغيره، وذلك ممكن مع التفاضل بينهم. فلاحظ.

(1) بلا خلاف، كما في الرياض وعن الحدائق، وفي مفتاح الكرامة أنه اتفقت عليه كلمة الأصحاب، وعن المفاتيح دعوي الإجماع عليه.

ويقتضيه النصوص الكثيرة التي تقدم بعضها عند الاستدلال لجواز أخذ الأموال العامة من السلطان في المسألة السابعة والثلاثين.

هذا وربما يدعي أنه يشترط في حلّ مال الجائر العلم بوجود مال حلال له. لمكاتبة الحميري للناحية المقدسة، وفيها: "وعن الرجل من وكلاء الوقف يكون مستحلاً لما في يده لا يرع عن أخذ ماله، ربما نزلت في قرية وهو فيها، أو أدخل منزله وقد حضر طعامه، فيدعوني إليه، فإن لم آكل من طعامه عاداني عليه، وقال: فلان لا يستحل أن يأكل من طعامنا، فهل يجوز لي أن آكل من طعامه وأتصدق بصدقة، وكم مقدار الصدقة ؟ وإن أهدي هذه الهدية إلي رجل آخر، فاحضر فيدعوني أن أنال منها وأنا أعلم أن الوكيل لا يرع عن أخذ ما في يده فهل عليّ شيء إن أنا نلت منها؟. الجواب: إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه وأقبل بره، وإلا فلا"(1).

لظهورها في أنه يعتبر في جواز التصرف في مال من يبتلي بالحرام ولا يتورع عنه أن يكون له مال حلال، ولا يكفي احتمال حلية المال من دون ذلك. وذلك حاصل

********

(1) كتاب الغيبة ص: 822-235، الوسائل ج: 12 باب: 51 من أبواب ما يكتسب به حديث: 15.

ص: 366

غالباً في السلطان وعماله، لتعديهم علي الناس وغصبهم أموالهم. نعم لو فرض عدم العلم بحصول ذلك منهم لكان خارجاً عن موضوع المكاتبة.

وقد استشكل بعض مشايخنا (قدس سره) في الاستدلال بها بأنها مرسلة. وكأنه لأن الشيخ (قدس سره) وإن رواها في كتاب الغيبة عن جماعة فيهم غير واحد من الثقات عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن داود القمي الذي هو من الأعيان، إلا أن ابن داود يرويها عن الحسين بن روح من دون ذكر سنده إليه.

ويندفع بأن ابن داود لم يثبتها علي أنها رواية منقولة عن الحسين بن روح، بل قال:" وجدت بخط أحمد بن إبراهيم النوبختي وإملاء أبي القاسم الحسين بن نوح [روح] رضي الله عنه"(1) ، وحيث يحتمل، بل يقرب استناده في ذلك لمقدمات تقرب من الحس، فاللازم تصديقه فيه وخروجه عن الإرسال.

وأظهر من ذلك ما ذكره الشيخ (قدس سره) تعقيباً علي الطريق المذكور، حيث قال: "وقال ابن نوح: أول من حدثنا بهذا التوقيع أبو الحسين محمد بن علي بن تمام، وذكر أنه كتبه من ظهر الدرج الذي عند أبي الحسن بن داود، فلما قدم أبو الحسن بن داود قرأته عليه. وذكر أن هذا الدرج بعينه كتب به أهل قم إلي الشيخ أبي القاسم، وفيه مسائل، فأجابهم علي ظهره بخط أحمد بن إبراهيم النوبختي، وحصل الدرج عند أبي الحسن بن داود"(2). فإن من القريب جداً استناده في إخباره جزماً بأن الدرج المذكور بعينه الدرج الذي كتبه أهل قم، وأنه قد حصل عنده، إلي المفروغية أو نحوها مما يلحق بالحس، بنحو يخرج الخبر عن الإرسال.

ولاسيما مع أن ابن داود معاصر للحسين بن روح أو مقارب لعصره، لأنه في طبقة الصدوق المعاصر له، وأنه هو الذي قال عنه النجاشي (قدس سره):" شيخ هذه الطائفة وعالمها وشيخ القميين في وقته وفقيههم. حكي أبو عبدالله الحسين بن عبيد الله أنه لم

********

(1) كتاب الغيبة ص: 228. ص: 31 في ذكر طرق الشيخ في كتاب الغيبة.

(2) كتاب الغيبة ص: 229.

ص: 367

وإن علم إجمالاً أن في ماله حرام (1).

---------------

يرَ أحداً أحفظ منه ولا أفقه ولا أعرف بالحديث".

فالعمدة في الإشكال في المكاتبة ظهور إعراض الأصحاب عنها، وقيام السيرة علي خلافها، إذ ليس بناءً المسلمين علي التوقف عن أموال من يبتلي بالحرام إلا بعد العلم بوجود مال حلال له. ولاسيما مع عدم الإشارة للقيد المذكور في نصوص جوائز السلطان والعمال علي كثرتها، مع ما هو المعلوم من كثرة ابتلائهم بالحرام وتسامحهم فيه، لا من أجل تعديهم علي المنصب، لما هو المعلوم من ابتناء جواز التعامل مع السلطان علي إمضاء تصرفه في حق المؤمنين، بل من أجل تعديهم في المنصب وغصبهم لأموال الناس زائداً علي ما يقتضيه المنصب.

مضافاً إلي أن نماء الوقف غالباً لا يكون عين الطعام الذي يقدم للضيوف، بل ثمناً له، وحرمة الثمن لا تقتضي حرمة المثمن غالباً، لكون الشراء بالكلي في الذمة، لا بعين الثمن الحرام.

ومن هنا يتعين طرح المكاتبة، أو حملها علي الكراهة - كما احتمله في الجواهر - أو علي صورة العلم بحرمة الطعام، كما احتمله أيضاً في الجواهر وجزم به في الوسائل، ويكون اشتراطه (عليه السلام) وجود مال آخر للشخص المذكور من أجل حصول احتمال كون الطعام منه لا من الحرام، كما قد يناسبه قول السائل:" فهل يجوز لي أن آكل من طعامه وأتصدق... "،بلحاظ أن السؤال لو كان عن الجواز ظاهراً من أجل احتمال الحل تحكيماً لليد فلا موضوع للصدقة، وإنما يحتاج إليها في فرض كون الطعام المأكول من نفس مال الوقف الحرام، لتكون الصدقة عوضاً عنه. وكيف كان فلا مجال للخروج بالمكاتبة عن إطلاق نصوص المقام.

(1) المراد بذلك الحرام الذي يستولي عليه علي خلاف مقتضي ولايته المدعاة. أما ما يستولي عليه بمقتضي ولايته المدعاة فهو لازم للظالم، وخارج عن مراد الأصحاب في هذه المسألة، ولا يمنع من أخذ المال منه، لما سبق في المسألة السابعة والثلاثين.

ص: 368

هذا وجواز أخذ الجائزة حينئذٍ قد صرح به غير واحد. ولعله داخل في المتيقن من معقد الإجماع المتقدم، لغلبة تحقق العلم المذكور في سلاطين الجور، ولاقتصار الأصحاب علي استثناء ما إذا علم حرمته الجائزة بعينها.

وكيف كان فقد استدل عليه في المسالك بالنص. والمحتمل فيد بدواً طائفتان:

الأولي: نصوص حلّ جوائز السلطان المشار إليها آنفاً. لظهور قوله (عليه السلام) في صحيح أبي ولاد المتقدم:" فلك المهنا [الحظ] وعليه الوزر "في انقلاب الحكم في حق آخذ الجائزة، وصيرورة المال حلالاً له واقعاً، وإن كان حراماً في حق العامل الذي يدفع الجائزة، ومع انقلاب الحكم في حقه لا أثر للعلم الإجمالي.

لكن مقتضاه حينئذٍ حلّ الجائزة حتي مع العلم بحرمة الجائزة بعينها. مع أن كلمات الأصحاب صريحة في الحرمة حينئذٍ، ونفي غير واحد الإشكال فيها، كما نفي في مفتاح الكرامة والجواهر الخلاف فيها. وهو المناسب لما تقدم في المسألة السادسة والثلاثين من النصوص المتضمنة حرمة الشراء من العامل إذا عرف الحرام بعينه.

وأما احتمال انقلاب الحكم في الجائزة المجانية دون الشراء فهو بعيد جداً، بل الأولي العكس، لحفظ مالية المغصوب مع الشراء.

فلابد من حمل ذلك علي الحرمة من حيثية كسب العامل، لكونه في مقابل العمل للسلطان الذي هو محرم في نفسه، ولكونه من الأموال العامة التي يحرم علي السلطان وعماله التصرف فيها، كما هو المناسب لقوله في السؤال:" ليس له مكسب إلا من عملهم ".وحينئذٍ لا ينهض بانقلاب الحكم من حيثية الحرام المعلوم بالإجمال المفروض في المقام، كما لو علم بوجود المغصوب من الأموال الخاصة تحت يده.

نعم قد يقال: لا مجال لحمل جميع نصوص الجوائز علي صورة عدم العلم باشتمال أموال المجيز علي الحرام، لأن ذلك إن أمكن في بعض العمال فهو لا يمكن في كثير منهم، كما لا يمكن في السلطان نفسه، لما هو المعلوم من حال سلاطين الجور من تعديهم علي الرعية وأخذهم منهم بلا حق، أو أكثر من الحق الذي عليهم بمقتضي

ص: 369

سلطنتهم لو فرض شرعيتها. فهي وإن كانت مسوقة لبيان انقلاب الحكم واقعاً بلحاظ حرمة عمل السلطان والأموال العامة في حقه، إلا أنه يستفاد منها تبعاً عدم مانعية العلم الإجمالي المذكور من التصرف في الجائزة.

اللهم إلا أن يقال: إن أريد بذلك استفادة الحلية الواقعية بالإضافة للمعلوم بالإجمال وانقلاب حكمه من النصوص المذكورة تبعاً. فلا يظن منهم البناء علي ذلك، حيث لا إشكال ظاهراً في حرمة الجائزة واقعاً لو كانت في الواقع من المحرم المعلوم بالإجمال، وعدم ارتفاع حرمته الواقعية بدفع السلطان له وإجازته به.

وإن أريد بذلك استفادة الحلية الظاهرية خروجاً عن مقتضي العلم الإجمالي. فلابد من توجيهه بما يناسب القاعدة. ويأتي الكلام في ذلك.

الثانية: نصوص جواز الشراء من العمال، حيث تقدم التصريح في بعضها بجواز الشراء ما لم يعلم بالحرام بعينه.

لكنه مبني علي إلغاء خصوصية الشراء والتعدي للجائزة. وهو لا يخلو عن إشكال، لإمكان إمضاء الشارع الأقدس شراء المغصوب دون هبته، لحفظ ماليته في الشراء دون الهبة. مضافاً إلي ما سبق من تعذر حملها علي حلية المعلوم بالإجمال واقعاً، ولاسيما مع ظهورها في الحلية الظاهرية بقرينة جعل العلم بالحرمة غاية للحلّ. وحملها علي الحلية الظاهرية علي خلاف مقتضي العلم الإجمالي يحتاج للتوجيه.

هذا وقد يظهر من مفتاح الكرامة الاستدلال علي حلية الجائزة حينئذٍ بأنها مقتضي قاعدة الصحة في تصرف الجائر في المال وهبته.

لكن المراد بها إن كان هو حمل فعل المسلم علي الصحة في مقابل تعمد المعصية فهو - مع اختصاصه بالمؤمن - لا مجال له في المقام بعد العلم بكونه ظالماً معتدياً إما في دفع ما دفع أو إبقاء ما أبقاه تحت يده. مع أنه لا ينفع في نفوذ تصرفه بنحو يسوغ الأخذ منه والبناء علي ملكية المأخوذ.

وإن كان هو صحة دفعه الجائزة وهبته لها وترتب الأثر علي ذلك لواجديته

ص: 370

للشرائط. فلا مجال له، لما ذكرناه في محله - وأشرنا إليه آنفاً - من توقف جريان قاعدة الصحة في التصرف علي إحراز سلطنة المتصرف، ولا تجري مع الشك في سلطنته، ولا يحرز سلطنة الظالم علي التصرف فيما ما تحت يده إلا اليد، التي هي في المقام، مقرونة بالعلم الإجمالي بأنها عدوانية في بعض ما تحت يده.

فالعمدة في المقام: عدم منجزية العلم الإجمالي المذكور، لخروج بعض أطرافه عن الابتلاء، وهو ما بقي تحت يده، إما لتعذر التصرف فيه، أو لحرمته بعدم إذنه فيه، وذلك يكفي في سقوط منجزية العلم الإجمالي، علي ما تحقق في محله من مباحث العلم الإجمالي من الأصول.

من دون فرق في ذلك بين السلطان الجائر وغيره ممن يبتلي بالحرام، ويعلم إجمالاً باشتمال ما تحت يده عليه، سواءً كان معذوراً بجهل أو نحوه، أم لا، كالسراق ومن يزاول المعاملات المحرمة من بيع المحرمات - كالخمر والميتة - والإجارة علي الأعمال المحرمة كالملاهي. فإن العلم الإجمالي المذكور لا يمنع من التعامل معهم وقبول هبتهم ونحوهما، لما سبق.

نعم لو فرض عدم سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بما سبق تعين الاجتناب، كما لو وهب الظالم أو غيره أمرين يعلم إجمالاً بحرمة أحدهما وغصبيته، أو رخص في المبيت بإحدي الدارين المعلوم غصبية إحداهما، أو في أخذ أحد الكيسين المعلوم غصبية أحدهما. من دون فرق في ذلك بين السلطان الجائر وعماله وغيرهم.

لكن قد يدعي خصوصية السلطان وعماله في الحلّ حتي مع العلم الإجمالي المنجز لوجهين:

الأول: موثق سماعة:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل أصاب مالاً من عمل بني أمية، وهو يتصدق منه ويصل منه قرابته، ويحج ليغفر له ما اكتسب، ويقول: إن الحسنات يذهبن السيئات. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): إن الخطيئة لا تكفر الخطيئة، وإن الحسنة تحط الخطيئة، ثم قال: إن كان خلط الحرام حلالاً فاختلطا جميعاً، فلم يعرف

ص: 371

وكذا كل ما كان في يده يجوز أخذه منه (1) بإذنه (2)،

---------------

الحرام من الحلال فلا بأس"(1).

ويشكل بأن مقتضي الموثق حلية المال في حق العامل نفسه واقعاً، ولا يظن منهم البناء علي ذلك. علي أنه مختص بما اكتسبه من العمل، الذي يحرم تبعاً لحرمة العمل وعدم ولاية الجائر، ولا يشمل المال المأخوذ ظلماً خارجاً عن مقتضي العمل الذي هو محل الكلام.

كما لا يبعد ظهوره في سبق العمل وطلب التوبة والمخرج منه، وحينئذٍ يمكن البناء علي حلّ المال بالتوبة بشرط الاختلاط، نظير ما ورد في الربا(2) ، وتمام الكلام في محله. والمهم أنه لا ينفع في ما نحن فيه.

الثاني: التقييد في بعض نصوص الشراء المتقدمة بالعلم بحرمة المال بعينه، وهو ظاهر في الحلية الظاهرية في ظرف عدم العلم.

لكنه كالتقييد بذلك في جملة من نصوص قاعدة الحلّ غير المختصة بالجائر لابد من تنزيله علي صورة عدم منجزية العلم الإجمالي، لوجود المانع منها مما ذكرناه سابقاً أو غيره. ولا مجال له مع منجزيته، كيف ولازمه جواز المخالفة القطعية إجمالاً، ولا إشكال في امتناع ذلك، كما حقق في محله من الأصول.

(1) لحجية يده علي تملكه، أو ثبوت الولاية له عليه في فرض عدم منجزية العلم الإجمالي.

(2) أما بدون إذنه فلا يجوز إذا احتمل كون المال ملكاً له أو تحت ولايته شرعاً، لأن مقتضي يده عليه كون السلطنة عليه تابعة له وموقوفة علي إذنه.

وأما إذا كان المال من الأموال العامة فلأنه وإن لم تكن له الولاية عليه شرعاً،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الربا.

ص: 372

إلا أن يعلم (1) أنه غصب (2).

---------------

إلا أن مقتضي احترام المال الاقتصار في جواز التصرف فيه علي المتيقن، وهو صورة إذن الجائر، لما سبق في المسألة السابعة والثلاثين من جواز أخذ الأموال المذكورة بإذنه.

نعم بناءً علي ثبوت ولاية الحاكم الشرعي علي المال المذكور - إما لعموم ولايته، أو من باب ولاية الحسبة - يتعين جواز أخذه بإذنه وإن لم يأذن الجائر. والكلام في ذلك موكول إلي مقام آخر.

(1) ولو إجمالاً بوجه منجز، كما يظهر من ما سبق.

(2) يعني ممن هو محترم المال. ولا إشكال حينئذٍ في حرمة أخذه في الجملة. لمنافاته لسلطنة صاحب المال علي ماله، فيكون تعدياً عليه. ولما تضمن حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه وطيب نفسه، كالتوقيع المروي بطريق معتبر: "وأما ما سألت عنه من أمر الضياع التي لناحيتنا: هل يجوز القيام بعمارتها وأداء الخراج منها وصرف ما يفضل من دخلها إلي الناحية احتساباً للأجر وتقريباً إليكم، فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه فكيف يحل ذلك في مالنا؟!..."(1) ، وصحيح زيد الشحام عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث:" ان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال: من كانت عنده أمانة فليؤدها إلي من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه"(2). ونحوه موثق سماعة(3) وغيره.

نعم قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "وإن أخذه بنية الردّ كان حسناً، وكان في يده أمانة شرعية" .ومقتضاه استحباب الأخذ حينئذٍ، لاستحباب الإحسان.

لكن إن كان المراد بذلك أنه ناوٍ للإحسان وقاصد له فهو مسلم في الجملة. إلا أن ذلك وحده لا يقتضي الخروج عن عموم حرمة المال، ولا يجعل المال أمانة شرعية،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 3 من أبواب الأنفال حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 1 من أبواب القصاص في النفس حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب مكان المصلي حديث: 1.

ص: 373

ليخرج به عن عموم الضمان، كما هو ظاهر. ويناسبه ما سبق في التوقيع الشريف، فإن مفروض السؤال فيه نية الإحسان.

وإن كان المراد بذلك أنه محسن حقيقة فهو غاية المنع، إذ الإحسان إنما يكون بالرد الذي قد يترتب علي الأخذ ويكون متأخراً عنه. علي أن عموم حسن الإحسان لا ينهض بتخصيص عموم حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه بعد كون الإحسان عنوناً ثانوياً للفعل، حيث يكون المورد من صغريات التزاحم الذي يتعين معه ترجيح الحكم الإلزامي علي غيره، وهو الحرمة في المقام، نظير ما تقدم عند الكلام في جواز الكذب للإصلاح. كما يناسبه أيضاً ما تقدم في التوقيع الشريف. بل لو فرض عدم رضا صاحب المال بالتوسط في إرجاع ماله إليه، لغرض ما، خرج عن الإحسان موضوعاً.

هذا وما ذكره من أنه مع الإحسان يكون المال في يده أمانة شرعية هو المناسب لما في التذكرة. قال في أول الفصل الثاني من الوديعة: "يشترط في المستودع والمودع التكليف... فلو أودع الصبي أو المجنون غيره شيئاً لم يجز له قبوله منهما... ولو خاف هلاكه فأخذه منهما لهما، نظراً في مصلحتهما علي وجه الحسبة صوناً له، فالأقرب عدم الضمان، لأنه محسن إليهما، وقد قال الله تعالي: (مَا عَلَي المُحسِنِينَ مِن سَبِيلٍ)". وقريب منه ما في جامع المقاصد.

لكن سياق الآية الشريفة شاهد بأنها أجنبية عما ذكره، وظاهرة في نفي الحرج والمؤاخذة علي من أدي مقدوره وإن كان دون الواجب. قال تعالي: (لَيسَ عَلَي الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَي المَرضَي وَلاَ عَلَي الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَي المُحسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ... إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَي الَّذِينَ يَستَأذِنُونَكَ وَهُم أَغنِيَاءُ...)(1).

بل ذكر في الجواهر في المسألة المذكورة أن نفي السبيل علي المحسن إنما هو

********

(1) سورة التوبة آية: 91، 93.

ص: 374

بالنسبة إلي ما فعله من الإحسان، فليس له الاعتراض عليه في ذلك. وإن كان هو خلاف ظاهر الآية الشريفة، وظاهرها ما ذكرنا.

وكيف كان فقد قرب في الجواهر أن الحسبة والإحسان يجوزان الإقدام علي أخذ ملك الغير، ولا يرفعان الضمان الذي هو من سنخ الحكم الوضعي، وليس من سنخ العقوبة.

لكنه قد يشكل بأنه لا إطلاق لضمان اليد، فإن النبوي المشهور: "علي اليد ما أخذت حتي تؤديه" لم يرو من طرقنا، وإنما هو عامي رواه الحسن البصري عن سمرة بن جندب عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)(1). نعم روي في عوالي اللآلي مرسلاً. والظاهر أنه مأخوذ منهم.

ولم يتضح اعتماد قدماء الأصحاب عليه بعد عدم ذكره في كتب الحديث عندهم. غاية الأمر أنه ذكر في بعض كتب الفقه التي تتعرض لأخبار العامة مجاراة لهم عند التعرض لأقوالهم وأدلتهم، أو لموافقتها للمرتكزات الشرعية أو العقلائية أو غيرها من الأدلة وتأييدها لها. ولو فرض استدلال بعضهم به فلعله غفلة عن حاله بسبب مطابقته للمرتكزات أو نحوها. وإلا فمن البعيد جداً إطلاع الأصحاب علي قرائن لوجب الوثوق بالصدور مع مثل هذا السند المثبت في كتب العامة. ويأتي بعض الكلام في الحديث في المسألة الثالثة عشرة من فصل شروط العقد.

ولو فرض نهوض الحديث بالاستدلال فمن القريب اختصاصه بالأخذ بغير حق، لا لما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من اعتبار التعدي في مفهوم الأخذ، إذ لا إشكال في عمومه عرفاً لصورة الأخذ بحق، بل لانصراف الحديث تبعاً للمرتكزات العقلائية للمأخوذ بغير حق.

وإلا فمن البعيد جداً عمومه، مع وضوح عدم الضمان في الأمانات - كالوديعة والعارية ومال المضاربة - ومثل العين المستأجرة والمرهونة وغيرهما، مما يؤخذ بحق

********

(1) سنن البيهقي ج: 6 ص: 90 من أبواب كتاب العارية، وكنز العمال ج: 5 ص: 257.

ص: 375

وإن لم ينو المالك تسليمه عند إجراء العقد، ومثل ما يؤخذ من دون إذن المالك مع إحراز رضاه وطيب نفسه لو علم بأخذه، وما يقع في اليد تبعاً لليد المستأمنة، كودائع الميت في حق ورثته ونحوهم ممن يستولي علي ما تحت يده خلفاً له وغير ذلك. إذ الالتزام بالتخصيص في جميع ذلك من العموم المذكور صعب جداً، والتزام قصور عموم الضمان عنه من أول الأمر أقرب عرفاً. ولذا كان ظاهر المشهور المفروغية عن عدم الضمان في جميع ذلك مما يعد عندهم أمانة مالكية أو شرعية.

ومن ثم كان الظاهر عدم الضمان في فرض جواز أخذ مال الغير شرعاً من باب الحسبة أو غيرها حتي لو لم يتم الاستدلال بآية نفي السبيل المتقدمة علي عدم الضمان، كما سبق.

فالعمدة في وجه الضمان ما سبق من عدم كفاية الإحسان المدعي في جواز أخذ المال، ليتجه من أجله عدم الضمان.

نعم سبق منا في المسألة الثالثة من فصل واجبات حال التخلي ومحرماته جواز التصرف في ملك الغير مع إحراز رضا المالك التقديري وطيب نفسه، بحيث لو التفت لأَذِن في التصرف، وهو المعبر عنه في بعض كلماتهم بإذن الفحوي. لأن مقتضي الجمع بين النصوص السابقة الاكتفاء به والسيرة. بل الظاهر عدم الإشكال بينهم في عدم ضمان الأعيان والمنافع معه بضمان الإتلاف، فضلاً عن ضمان اليد.

وحينئذٍ إذا أحرز رضا المالك بأخذ المال بنية إرجاعه إليه أو مطلقاً جاز له أخذه، ولا ضمان عليه لو كان إحرازه مطابقاً للواقع. ولعل ما سبق من شيخنا الأعظم (قدس سره) من حسن الأخذ بنية الرد ناشئ من غلبة إحراز رضا المالك بذلك، فيكون إحساناً في حقه.

بل ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه يكون حينئذٍ أمانة مالكية. وإن كان ذلك في غاية المنع، لعدم قصد المالك الاستئمان بعد غفلته عن الحال. ومجرد طيب نفسه التقديري إنما يقتضي حلّ الأخذ والتصرف، وهو أعم من الاستئمان.

ص: 376

غاية الأمر أن يكون أمانة شرعية إذا لم يحرز رضا المالك بالتصرف فيه واستهلاكه. فلا يكون مضموناً بضمان اليد، لا من جهة قصد الرد الذي هو المنشأ للإحسان المدعي في المقام، لما سبق من عدم كفاية الإحسان في رفع الضمان، بل لأن جواز الأخذ بسبب طيب نفس المالك التقديري يوجب قصور أدلة الضمان، كما ذكرنا.

أما إذا لم يطابق إحرازه الواقع، وصادف رضا المالك بأخذه فالمتعين حرمة أخذه واقعاً، لعدم المسوغ له، وكونه مضموناً بضمان اليد، بعد ما سبق من عدم كفاية قصد الإحسان في رفع الضمان.

وأظهر من ذلك ما إذا أحرز قبل الأخذ عدم رضا المالك به، لنهيه عنه صريحاً، أو للعلم بعدم رضاه به لو استؤذن فيه. لعدم صدق الإحسان حينئذٍ، فلا مجال لقصده. ولو فرض قصده لاعتقاد صلاح المالك بأخذه وإن لم يرض به، فهو لا يصلح مسوغاً للأخذ مع عدم رضا المالك به، كما يظهر مما سبق.

أما لو شك في رضا المالك فمقتضي استصحاب عدم رضاه وعدم طيب نفسه حرمة الأخذ. لكن استوضح بعض مشايخنا (قدس سره) جواز الأخذ بنية الرد، لكونه عدلاً وإحساناً. ويظهر ضعفه مما سبق، إذ كيف يكون عدلاً وإحساناً بعد كون مقتضي الاستصحاب كونه تعدياً علي المالك بالتصرف في ماله بغير إذنه وبدون طيب نفسه، الذي تقدم في التوقيع الشريف وبقية النصوص حرمته ؟!.

وأما ما ذكره من اختصاص التوقيع بالتصرف بالمال الذي هو عبارة عن تقليبه والتقلب فيه، ولا يصدق علي مجرد الأخذ بنية الرد. ولو فرض صدقه عليه لغة فهو منصرف عنه عرفاً. كما أن ما دلّ من النصوص المتقدمة علي حرمة المال من دون طيب نفس المالك مختص بمنافع المال التي تعود للمتصرف من الأكل والشرب والبيع والهبة ونحوها، ولا يشمل الأخذ بنية الرد، لأنه من المنافع العائدة للمالك دون المتصرف.

فهو في غاية المنع، فإن أخذ المال والاستيلاء عليه من أوضح أنحاء التصرف

ص: 377

الذي تضمنه التوقيع الشريف. ومجرد كونه بنية الرد للمالك والإحسان إليه لا يخرجه عن كونه تصرفاً فيه، ولذا كان مورد التوقيع هو التصرف بنية الإحسان للمالك.

كما أن نصوص حرمة المال من دون طيب نفس المالك تقتضي حرمة كل تصرف مناف لسلطنة المالك علي المال، وهو يشمل أخذ المال، بل هو أشد من حبس المال الذي هو مورد تلك النصوص، حيث تضمنت الردع عن حبس الأمانة. ومجرد كونه بنية الإحسان للمالك لا يوجب قصور النصوص عنه بعد أن كان من حق المالك المنع منه.

وإن شئت قلت: إن كان منشأ قصور النصوص عن الأخذ بنية الرد للمالك هو عدم كون الأخذ بنفسه تصرفاً معتداً به. فهو في غاية المنع، بل هو أشد من الحبس الذي تضمنت نصوص حرمة المال المنع منه. وإن كان هو عود نفعه للمالك دون الآخذ. فهو ممنوع أيضاً لما تقدم، كما أنه لا يناسب التوقيع الشريف الذي مورده ذلك. بل السؤال فيه شاهد بعدم وضوح جواز التصرف لصالح المالك مع الشك في رضاه، ولذا احتاج للسؤال عنه.

علي أن لازم الثاني قصور النصوص عن الأخذ بنية الرد مع العلم بعدم رضا المالك، ولازم الأول قصورها عنه وعن الأخذ لا بنية الرد أيضاً، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك. بل صرح هو (قدس سره) بكونهما من التصرف في مال الغير بغير إذنه. فلاحظ كلامه.

والحاصل: أنه لا ينبغي التوقف في عدم جواز أخذ المال من دون إحراز رضا المالك ولو مع نية الرد، وفي أن الأخذ معه موجب للضمان، لأنه بلا حق.

نعم لو صادف رضا المالك واقعاً كان حلالاً واقعاً، غير موجب للضمان، عكس ما تقدم في صورة إحراز رضا المالك خطأ.

ومن ثم قد يشكل البناء علي جواز الأخذ فيما يكثر الابتلاء به في هذه العصور من أموال الحكومات القائمة في بلاد الإسلام من دون أن تبتني علي دعوي الولاية العامة إذا كان المال المأخوذ مسبوقاً بملك مسلم، حيث تقدم في المسألة السابعة

ص: 378

والثلاثين الإشكال في إمضاء تصرفها وترتيب آثار الملكية علي ما تحت يدها، خصوصاً إذا لم تأخذ الأموال من الرعية بالعناوين الشرعية - من الزكاة والخراج ونحوهما - بل بعناوين أخر، تبعاً للقوانين الوضعية، حيث لم يثبت إمضاء تصرفها شرعاً والحكم بملكيتها لما تأخذه.

بل يتعين البناء علي بقائه علي ملكية المأخوذ منه، ومع الجهل به يكون المال مجهول المالك، وحيث كان المالك محترم المال ولو ظاهراً، لأنه في بلاد الإسلام، فيشكل أخذه بناءً علي ما سبق آنفاً من عدم جواز أخذ المال المغصوب من دون إحراز رضا صاحبه.

نعم قد يهون الأمر مع العلم بأن صاحب المال من المخالفين. لأن الظاهر من حال المخالفين البناء علي ملكية الدول المذكورة وإمضاء معاملاتها، فيجوز للمؤمنين ترتيب آثار ذلك فيما تأخذه هذه الدول من أموالهم، لقاعدة الإلزام، خروجاً عن عموم عاصمية الإسلام. أما مع الشك فاستصحاب عدم تدين صاحب المال بمذهب المخالفين يحرز عدم خروجه عن عموم عاصمية الإسلام.

وأظهر من ذلك ما إذا علم بسبق يد المؤمن علي المال، حيث يكون مقتضاها ملكيته للمال وعدم جواز التصرف فيه بغير إذنه. إلا أن يحرز رضا المالك بأخذ المال وطيب نفسه بذلك لو التفت له فيجوز أخذه حينئذٍ، كما سبق.

نعم لا يكفي إحراز رضاه من أجل غفلته عن كونه مالكاً، وتخيله ملكية الدولة، فلا يضره التصرف فيه. فإن الرضا حينئذٍ لا يحل للغير التصرف، لابتنائه علي الخطأ في تشخيص الحال، نظير المقبوض بالعقد الفاسد.

بل لابد من إحراز رضاه لو التفت لكونه مالكاً إما حباً في التسهيل علي الناس بعد قصور يده عن الانتفاع بالمال بسبب أخذ الدولة له، خصوصاً إذا لم يرَ نفسه مغبوناً، لأنه قد دفع المال للدولة بطيب نفسه من أجل أمر محبوب له، لا إكراهاً.

وإما لأنه بعد تعذر رجوع المال له وانتفاعه به في مصالحه الدنيوية يرضي

ص: 379

بأخذه وإجراء حكم مجهول المالك عليه بالتصدق به عنه، لما فيه من الفائدة الأخروية له بالتصدق به وبتسهيل أمور الناس.

لكن إحراز الرضا بأحد الوجهين المذكورين صعب جداً مع الجهل بالمالك، لاختلاف الناس في الأذواق والسلايق، وسهولة الجانب ووعورته، وفي استيعاب الأمور ووزنها بميزانها، فكيف يمكن مع ذلك القطع برضا المالك التقديري وحلّ المشكلة بذلك ؟!.

نعم كثرة الابتلاء بالأموال المذكورة تستلزم اضطراب أمر المؤمنين بتجنبها، بل اختلال نظامهم، بالنحو الذي يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به، كما يناسبه إمضاء معاملة سلاطين الجور، وتحليل الخمس والأنفال للشيعة، وجواز إلزامهم المخالفين بأحكامهم، وغير ذلك مما يشهد اهتمام الشارع الأقدس بالتخفيف علي المؤمنين ونظم أمرهم عند عدم ظهور دولة الحق.

وذلك موجب للعلم بجواز أخذ الأموال المذكورة إما مع إمضاء معاملة الدولة، أو مع إجراء حكم مجهول المالك علي المال، رعاية للمالك في إيصال نفع معاملة ماله له بالتصدق به عنه، وحلّ مشاكل المؤمنين به. واللازم مع الدوران بين الأمرين البناء علي الثاني، اقتصاراً في الخروج عن القاعدة علي ما هو المتيقن عملاً، وهو جواز أخذ المال لا غير.

وإن كان اللازم مع ذلك الاحتياط بعدم الخروج عن مقتضي القوانين الوضعية فيما إذا استلزم الخروج عنها الإضرار بالمؤمنين، لقوة احتمال إمضاء مقتضي القوانين المذكورة في هذا الحال رفقاً بالمؤمنين، ورعاية لهم. وإن كان الأمر بعد لا يخلو عن إشكال. والله سبحانه وتعالي العالم بحقيقة الحال.

نعم لو تم جواز أخذ الأموال المذكورة من أجل نظم أمر المؤمنين ففي سقوط الضمان معه إشكال، لأن المتيقن مما سبق في سقوط الضمان مع جواز الأخذ ما إذا ابتني جوازه علي إذن المالك ورضاه، أو علي حكم الشارع بالجواز تعبداً، دون ما إذ

ص: 380

فلو أخذ منه حينئذٍ وجب رده إلي مالكه إن عرف بعينه (1)،

---------------

كان من أجل الإرفاق بالآخذ، كما لو خاف علي نفسه الهلاك من البرد، فجاز له أخذ غطاء الغير والتدثر به من غير إذنه. فإن عدم الضمان حينئذٍ لا يخلو عن إشكال، لقضاء المرتكزات بالضمان، كإطلاق حديث "علي اليد..." بناءً علي نهوضه بالاستدلال.

هذا وقد يستفاد جواز الأخذ شرعاً في المقام من النصوص الواردة في مجهول المالك التي يأتي التعرض لها إن شاء الله تعالي، حيث لا يبعد ظهورها في المفروغية عن جواز أخذ المال والاستيلاء عليه من أجل حفظه وإجراء وظيفة مجهول المالك فيه. كما يجوز تمكين الغير منه بالنحو غير المنافي لإجراء الوظيفة المذكورة، إذ لا إشكال في أن من يأخذه لا يمتنع من تمكين متعلقيه من أولاده وخدمه منه، فإن ذلك يناسب جواز التصرف في مجهول المالك. ويؤيده نصوص اللقطة.

وعلي ذلك فالتفصيل المتقدم بين إحراز رضا المالك وعدمه مختص بما يعلم مالكه بعينه أو بوجه محصور، ولا يجري في مجهول المالك، ليتوجه الإشكال في أموال الدولة المذكورة.

(1) بلا إشكال ظاهر، فإن حبس المال عن ملكه مناف لسلطنته عليه، ولحرمة صاحب المال، كما تضمنه صحيح زيد الشحام وغيره من النصوص المشار إليها آنفاً.

إنما الكلام في أن الواجب هو إيصاله للمالك وتسليمه له أو يكفي تمكين المالك منه، بإعلامه به، وعدم حبسه عنه.

قد يدعي الأول لقوله تعالي: (إِنَّ الله يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَي أَهلِهَا)(1) وللأمر بالأداء في صحيح زيد الشحام وموثق سماعة وغيرهما مما سبقت الإشارة إليه.

لكنه لا يناسب تعليل الأمر بالأداء في الأحاديث المذكورة بحرمة مال المسلم وعدم حله إلا بطيب نفسه، لأن حرمة المال ارتكازاً إنما تقتضي حرمة التعدي عليه

********

(1) سورة النساء آية: 6.

ص: 381

فإن جهل وتردد بين جماعة محصورة (1) فإن أمكن استرضاؤهم

---------------

وحبسه علي خلاف مقتضي سلطنة صاحبه عليه، لا وجوب أدائه إليه زائداَ علي ذلك، ولذا لو طلب المودع من الودعي حمل الأمانة إليه وإيصالها له ولم يكتف بتمكينه منها ذمه العقلاء، كما نبّه له بعض مشايخنا (قدس سره). فمن القريب جداً حمل الأمر بالأداء في الأدلة المتقدمة علي الكناية عن عدم حبس المال للمالك ووجوب تمكينه منه.

إلا أن يحتف العقد الموجب للأمانة بقرينة عامة أو خاصة تقتضي إرجاع العين للمالك، كما هو غير بعيد في العارية والعين المستأجرة والمرهونة ونحوها مما يؤخذ لصالح الآخذ، حيث لا يبعد ابتناء العقد فيها ارتكازاً علي لزوم إرجاع العين للمالك عند انتهاء المدة أو حصول الفسخ، وعدم الاكتفاء بتمكينه منها، إلا بقرينة مخرجة عن ذلك.

هذا كله في الوجوب التكليفي. وأما ارتفاع الضمان لو كانت اليد مضمنة فالظاهر كونه مشروطاً بالأداء وتسليم العين، تبعاً للمرتكزات العقلائية، وهو مقتضي الجمود علي النبوي المتقدم لو كان ينهض بالاستدلال.

نعم لو امتنع المالك من قبض ماله لم يبعد الاكتفاء بإيصاله له والتخلية بينه وبينه. إلا أن يكون الضامن قد نقله عن محله فلا يبعد حينئذٍ وجوب إرجاعه إليه لو طلب المالك ذلك، لكون ذلك مضموناً عرفاً. فلاحظ.

كما أنه لو رجع امتناعه عن قبض المال إلي الإذن للغاصب في حفظه انقلب أمانة في يده وسقط الضمان. نعم للغاصب الامتناع من ذلك والتخلية بينه وبينه، كما سبق.

(1) تقرر في محله من مباحث العلم الإجمالي بالتكليف أن المعيار في عدم الانحصار بلوغ كثرة الأطراف حداً يوجب خروج بعض الأطراف عن الابتلاء، لسقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بذلك حتي مع انحصار الأطراف.

ولا مجال لذلك في المقام، لأن وظيفة مجهول المالك حكم تعبدي يبتني علي

ص: 382

وجب (1)، وإلا رجع في تعين مالكه إلي القرعة (2).

---------------

قصور سلطنة المالك، فيمكن جعله شرعاً حتي مع معرفة المالك تفصيلاً، فضلاً عن اشتباهه بوجه محصور، وليس الوجه في خروج الشبهة المحصورة إلا قصور أدلة الوظيفة المذكورة عنها. وحينئذٍ يكون تحديدها تابعاً للنظر في تلك الأدلة، وهو مما يأتي عند الكلام في الشبهة غير المحصورة إن شاء الله تعالي.

(1) عملاً بمقتضي العلم الإجمالي بوجوب إيصال المال إلي أحدهم والخروج عن مقتضي الأمانة أو الضمان معهم. ومقتضي إطلاقه وجوب الاسترضاء لو توقف علي بذل العين لأحدهم والبدل - من المثل أو القيمة - للباقي.

لكن في الجواهر: "وإن جهله بعينه وكان بين محصورين تخلص منهم بصلح ونحوه" .وقد يظهر منه عدم وجوب بذل ما زاد علي العين. والظاهر أنه مراد سيدنا المصنف (قدس سره)، لأن مشروعية القرعة عنده في تعين المالك يناسب عدم تكليفه بالبدل. ويأتي إن شاء الله تعالي تمام الكلام في ذلك.

(2) لما ذكره (قدس سره) في المسألة الثالثة والأربعين من فصل ما يحرم بالمصاهرة من كتاب النكاح من المستمسك من عموم: ان القرعة لكل أمر مشكل. ووافقه في ذلك بعض مشايخنا (قدس سره) في المسألة الخامسة والأربعين من فصل القسمة من مباني تكملة المنهاج. وسبقهما في الرجوع للقرعة في جامع المقاصد وكشف اللثام والجواهر. وإن لم أعثر عاجلاً علي من قوي الرجوع إليها عملاً بالعموم المذكور قبل صاحب الجواهر، مع تصريحه في بعض المواضع بعدم العثور علي موافق في البناء علي القرعة.

نعم صرح في القواعد وفي كشف اللثام بالرجوع إليها في بعض فروع الشك في مقدار المهر. كما احتمل الرجوع إليها في غير واحد من الفروع في التذكرة والقواعد.

وكيف كان فالمراد بالمشكل إن كان هو المجهول فقد ورد بذلك معتبر محمد بن حكيم: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن شيء، فقال: كل مجهول ففيه القرعة. قلت له: إن

ص: 383

القرعة تخطئ وتصيب. قال: كلما حكم الله به فليس بمخطئ"(1).

وهو وإن كان شاملاً لما نحن فيه، إلا أن عمومه لكل مجهول موجب لكثرة تخصيصه. لوجوب الخروج عنه في جميع موارد الأصول الشرعية، لأنها أخص منه، وفي الشبهات الحكمية من موارد الأصول العقلية، لتسالمهم علي عدم الرجوع للقرعة في الشبهات الحكمية، وفي كثير من موارد الاشتباه الأخر، كالحكم بالتنصيف في موارد التداعي، وتنازع الزوجين في متاع البيت، وفي درهم الودعي، وفما لو أقر الرجل لأحد رجلين بمال ولم يعينه، وفي ميراث الخنثي المشكل، ونظيره الحكم بتوزيع الدية علي أهل الحي والقرية عند اشتباه القاتل فيهم. وكالحكم بوجه آخر في ميراث الغرقي والمهدوم عليهم، وفي اشتباه القبلة، وبالاحتياط في موارد العلم الإجمالي بالتكليف، علي ما هو المعروف من مذهب الأصحاب ووردت به النصوص في بعض الموارد... إلي غير ذلك مما دلت الأدلة علي عدم الرجوع فيه للقرعة.

وذلك يمنع من التعويل عليه، حيث يكشف عن احتفافه بما يمنع من ظهوره في العموم ويجعله بحكم المجمل. ولذا لم يكن بناء الأصحاب علي الرجوع للعموم المذكور، ولا للقرعة إلا بدليل خاص. وإن ذكر الرجوع إليها احتمالاً أو جزماً في كلمات بعض المتأخرين في بعض موارد التحير وعدم ورود المخرج الشرعي.

وأشكل من ذلك الاستدلال بصحيح سيابة وإبراهيم بن عمر عن أبي عبدالله (عليه السلام):" في رجل قال: أول مملوك أملكه فهو حر، فورث ثلاثة. قال: يقرع بينهم، فمن أصابه القرعة اعتق. قال: والقرعة سنة"(2). بدعوي: أن تعليل الإرجاع للقرعة في مورد الصحيح بأن القرعة سنة يقتضي عموم الرجوع للقرعة في سائر الموارد.

إذ فيه: أنه لا يظهر من الصحيح سوق ذلك مساق التعليل، بل مجرد بيان أن القرعة سنة ولها أصل في التشريع بنحو القضية المهملة. علي أنه لو فرض سوق الفقرة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 11، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 11، 2.

ص: 384

المذكورة للتعليل فلا مجال لاستفادة العموم منها، لأن مقتضي حذف التعليق عمومها لكل مورد، فتكون أعم من معتبر محمد بن حكيم الذي سبق أن كثرة التخصيص فيه تجعله بحكم المجمل.

وإن كان المراد بالمشكل ما يلزم العمل فيه بالوظيفة الشرعية أو العقلية بعض المشاكل كلزوم الضرر من الاحتياط في المقام وغيره. ولعله إليه يرجع ما في آخر مبحث الاستصحاب من حقائق الأصول من أن الظاهر من المشكل ما يصعب حله. فالعموم المذكور وإن لم يكن بتلك السعة التي يلزم معها كثرة التخصيص. إلا أنه لا شاهد لعموم الرجوع للقرعة في ذلك إلا ما عن دعائم الإسلام: "عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبدالله (عليهم السلام) أنهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل"(1) ، وما في جامع المقاصد:" وقد ورد عنهم (عليهم السلام): في كل أمر مشكل القرعة"(2).

لكنه - مع إرساله - يقرب أن يكون منقولاً بالمعني المتحصل لحاكيه من مجموع نصوص القرعة، حيث لم نعثر علي المضمون المذكور فيما بأيدنا من النصوص الواردة عنهم (عليهم السلام).

علي أن من القريب كون المراد بالإشكال في النص المذكور هو الجهل، فإن إشكال الأمر لغة هو التباسه، وإرادة لزوم بعض المشاكل منه لم نعثر عاجلاً علي أصل له في اللغة، وإنما ورد في الاستعمالات المتأخرة.

هذا وقد قال سيدنا المصنف (قدس سره) في المسألة المذكورة بعد التعرض لإطلاق دليل القرعة: "نعم ليس بناء الأصحاب علي العمل به في موارد الاحتياط، كالشبهة المحصورة. لكن ذلك إذا لم يلزم منه محذور، والمفروض لزومه. وقد ورد في بعض نصوص القرعة ما تضمن مشروعيتها فيمن نزا علي شاة في قطيع غنم وقد اشتبهت بغيرها. والمقام نظيره في لزوم الضرر من الاحتياط".

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 1.

(2) جامع المقاصد ج: 12 ص: 470-471.

ص: 385

فإن كان مراده بذلك الاستدلال بالنص المذكور، وهو صحيح محمد بن عيسي عن الرجل (عليه السلام): "أنه سئل عن رجل نظر إلي راعٍ نزا علي شاة. قال: إن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسمها نصفين أبداً حتي يقع السهم بها، فتذبح وتحرق، وقد نجت سائرها"(1).

فمن الظاهر أن هذا النص خاص بمورده، ولا ينهض ببيان قاعدة كلية تنفع في غيره، كما لا ينهض بتفسير عموم معتبر محمد بن حكيم بما يناسب القاعدة المذكورة. ولاسيما مع تفريق النصوص في حلّ المشكلة بين الموارد المتشابهة، فقد حكمت في الخنثي المشكل بالتنصيف - كما سبق - وفي الممسوح بالقرعة، كما حكمت في اشتباه الشاة الموطوءة بالقرعة ولم تحكم بها في اشتباه القاتل، بل بالتوزيع، كما سبق.

كما أن بعض نصوص القرعة لم تحكم بها بلحاظ جميع الأحكام، بل مع الاحتياط والتحفظ في الجملة، ففي معتبر الحسين بن المختار عن أبي عبدالله (عليه السلام) في بيت سقط علي قوم فبقي منهم صبيان، أحدهما حرّ، والآخر مملوك لصاحبه، ولم يعرف الحر من العبد، قال (عليه السلام) في جملة حديث:" يقرع بينهما، فمن أصابته القرعة فهو الحرّ، ويعتق هذا فيجعل مولي هذا"(2) ، ونحوه مرسل حريز أو صحيحه(3). فإن عتق الآخر احتياط لاحتمال الحرية، لعدم نهوض القرعة بنفيه نفياً قاطعاً... إلي غير ذلك.

فإن ذلك يناسب كون الرجوع للقرعة في الموارد المختلفة تعبدياً لخصوصية فيها، لا لعموم مرجعية القرعة، ومع ذلك كيف يمكن إلغاء خصوصية مورد صحيح محمد بن عيسي وفهم القاعدة العامة منه ؟!.

وإن كان مراده (قدس سره) بذلك أن العموم المذكور لما لم يمكن العمل به علي ما هو عليه، لعدم بناء الأصحاب علي ذلك، يتعين الاقتصار في العمل به علي مورد رجوع الأصحاب إليه، وهو مورد لزوم محذور من الاحتياط، كالضرر في مورد كلامه.

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 30 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 7، 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 7، 9.

ص: 386

فهو يناسب ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في أواخر مبحث الاستصحاب عند التعرض للقرعة، حيث قال: "مضافاً إلي وهن دليلها بكثرة تخصيصه، حتي صار العمل به في مورد محتاجاً إلي الجبر بعمل المعظم، كما قيل" .وربما يظهر من بعضهم ذلك في بعض العمومات الأخر، كعموم قاعدة الميسور، وأنه يقتصر في العمل به علي مورد عمل الأصحاب.

لكنه غير ظاهر. إذ مع ضعف سند العموم يكون عمل الأصحاب به في غالب الموارد جابراً للسند، ومع انجبار السند به يتعين حجية العموم وعدم الخروج عنه إلا بدليل. ومع تمامية سند العموم يكون هجر الأصحاب له في أكثر موارده كاشفاً عن خلل فيه من حيثية الظهور أو الجهة، ولا مجال مع ذلك لحجيته في بقية الموارد إلا بقرينة كاشفة عن اختصاصه بها، بحيث تكون مفسرة للعموم المذكور وشارحة له، ولا مجال لتحصيلها في المقام بعد ما سبق.

هذا وقد يستدل للعموم بصحيح أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: بعث رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) علياً (عليه السلام) إلي اليمن، فقال له حين قدم: حدثني بأعجب ما ورد عليك. فقال: يا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) أتاني قوم قد تبايعوا جارية، فوطأها جميعهم في طهر واحد، فولدت غلاماً، فاحتجوا فيه كلهم يدعيه، فأسهمت بينهم، فجعلته للذي خرج سهمه وضمنته نصيبهم. فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): ليس من قوم تقارعوا ثم فوضوا أمرهم إلي الله إلا خرج سهم المحق"(1).

بدعوي: أن ذكر التفويض إلي الله تعالي فيه ظاهر في أن الرجوع للقرعة في ظرف الاحتياج إلي حكمه، لعدم حكم له في الواقعة، فيقصر عن جميع موارد الطرق والأصول الشرعية، وحينئذٍ لا يلزم كثرة التخصيص فيه بالنحو المسقط له عن الحجية، لكون أدلة الطرق والأصول المذكورة حينئذٍ واردة علي دليل القرعة من دون أن تكون مخصصة له.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 6.

ص: 387

كما أن كلام النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وإن لم يكن ظاهراً في نفسه في الإلزام بالرجوع إلي القرعة، إلا أن وروده مورد الإمضاء لما فعله أمير المؤمنين (عليه السلام) من الرجوع للقرعة في الواقعة، الظاهر استقلاله (عليه السلام) بذلك وعدم استئذانه من المتنازعين فيه، يوجب ظهور كلام النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في إلزام الخصوم بها ولو لقيام الحاكم مقامهم من دون أن يحتاج لاستئذانهم. كما ذكرنا ذلك كله في أواخر الكلام في وجوب الموافقة القطعية من كتابنا (المحكم في الأصول).

لكنه لو تم إنما يقتضي جواز رجوع الحاكم للقرعة عند تنازع أطراف الشبهة في المقام ورجوعهم له. ولا ينهض بإثبات عموم الرجوع للقرعة مع امتناعهم عن التصالح ونحوه من دون تنازع بينهم، بحيث يرجع لها من بيده المال من دون رضا منهم.

علي أن تقريب دلالته علي المطلوب بالوجه المتقدم يشكل: أولاً: بأن ظاهر الصحيح أن تفويض المتنازعين أمرهم لله تعالي سبب في تسديد القرعة ومطابقة حكمها للحق. ولعله لبيان أنها لو وقعت بدونه، بل لمجرد حلّ النزاع، لم يؤمن عليها من الخطأ. من دون أن يشعر بفرض عدم الحكم لله تعالي في الواقعة.

فهو نظير ما في صحيح منصور بن حازم:" سأل بعض أصحابنا أبا عبدالله (عليه السلام) عن مسألة فقال: هذه تخرج في القرعة: ثم قال: فأي قضية أعدل من القرعة إذا فوضوا أمرهم إلي الله عز وجل. أليس الله يقول: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدحَضِينَ)"(1).

وثانياً: لا يظهر من الصحيح ورود كلام النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لإمضاء ما فعله أمير المؤمنين (صلوات الله تعالي عليه)، إذ لا أشعار فيه باحتياج ما فعله للإمضاء. وكيف يحتاج له وهو مرسل من قبله (صلي الله عليه وآله وسلّم)، وقد ورد أنه دعا له أن يهدي قلبه، ويثبت لسانه وأنه (صلوات الله عليه) لم يشك في قضاء بعد ذلك(1) ، أو بعد أن علمه بعض آداب القضاء(2). بل كل ما في الأمر أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) عقّب علي فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) ببيان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 17.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 17.

ص: 388

فائدة القرعة وشرط تسديدها.

وهو لا يقتضي وجوب رجوع المتنازعين إليها، ولا علي عموم سلطنة الحاكم علي حلّ نزاعهم بها، فضلاً عن سلطنة آخذ المال في مثل المقام علي الرجوع إليها من دون تنازع منهم.

ومن هنا لا مجال للبناء علي عموم الرجوع للقرعة بنحو ينفع في غير الموارد المنصوص عليها بالخصوص وما يلحق بها عرفاً. وذلك هو الظاهر من حال الأصحاب، خصوصاً القدماء منهم، كما يظهر مما سبق. وعلي ذلك لا مجال للرجوع إليها في المقام، بل يتعين الرجوع فيه لما تقتضيه القواعد أو الأدلة الخاصة.

وحينئذٍ إن تنازع أطراف الشبهة في المال المأخوذ كل يدعيه لنفسه ولم يصطلحوا، لم يحل دفعه لهم بالتشريك أو لأحدهم إلا بعد ترافعهم للحاكم الشرعي، ويتبع حكمه، فإن حكم به لأحدهم تعين العمل علي ذلك.

وكذا إذا حكم بتقسيمه بين الأطراف، لأن من بيده المال وإن كان يعلم إجمالاً بعدم استحقاق بعضهم لما يأخذه، إلا أنه لا يكون مفرطاً بدفع المال له بعد حكم الشارع به، ليكون ضامناً بذلك.

نعم إذا كان المال مضموناً بضمان اليد فقد يقال بعدم براءة ذمة من بيده المال بدفع بعضه لغير صاحبه، بل يتعين دفع بدله من المثل أو القيمة لجميع أطراف الشبهة. لكن لا علي أن يدفعه لكل منهم علي نحو الإطلاق، لعدم وجوب ذلك عليه، بل معلقاً علي استحقاقه له، فمن اعتقد أنه مستحق له جاز له أخذه، ومن لا يعتقد ذلك يحرم عليه أخذه. ويتعين لهم الصلح إن اشتركوا في الجهل.

ودعوي: أن الاحتياط المذكور موجب للضرر في حق من بيده المال، فيتعين عدم وجوب الاحتياط بالنحو المذكور في حقه، وجواز اقتصاره علي توزيع المال

-

(1) الإرشاد ج: 1 ص: 194-195. إعلام الوري ج: 1 ص: 258. ويوجد في كثير من مصادر الجمهور. (2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 4 من أبواب آداب القاضي حديث: 6.

ص: 389

تنفيذاً للحكم.

مدفوعة بأن قاعدة نفي الضرر لما كانت امتنانية فهي لا تجري هنا، لأنه يلزم من جريانها في حقه الضرر في حق صاحب المال الواقعي، فلا مخرج عن مقتضي القاعدة من لزوم الاحتياط مع العلم الإجمالي.

لكن لا يبعد وفاء دليل التبعيض بحكم الحاكم برفع الضمان، كما يفي برفع وجوب أداء الأمانة. ولو فرض عدم وفائه بذلك، فلا مجال للبناء علي الاحتياط بدفع البدل للكل، لأن الواجب مع الضمان هو دفع البدل بعنوان كونه بدلاً عما في الذمة، ودفعه بالعنوان المذكور لأكثر من واحد ممتنع. وأما تمليك مقداره لكل منهم مردداً بين كونه هبة له ووفاء لدينه فهو أمر آخر زائد علي الامتثال لا ملزم به، كما تقدم منا نظيره ذلك في فروع المال المختلط بالحرام من كتاب الخمس. فراجع.

وإن لم يتنازع أطراف الشبهة، بل اقتصر كل منهم علي التمسك بحقه المعلوم أو المحتمل له من دون أن يرضي بالصلح. فإن كان المال أمانة شرعية أو مالكية بيد الآخذ فمقتضي القاعدة أنه يجوز له، بل يجب عليه الامتناع عن تسليمه لأي واحد من الأطراف، للعلم الإجمالي بالعدوان علي المال بتسليمه لبعضهم. ولا يحرم عليه حبسه عن مالكه الواقعي بعد أن لم يكن معتدياً بذلك بسبب جهله به.

لكن في موثق السكوني عن الصادق عن أبيه (عليهما السلام): "في رجل استودع رجلاً دينارين، فاستودعه آخر ديناراً فضاع دينار منها. قال: يعطي صاحب الدينارين ديناراً، ويقسم الآخر بينهما نصفين"(1). ومن القريب جداً التعدي عن مورده، والبناء علي عموم وجوب التوزيع علي الأمين لو ترددت الأمانة التي عنده بين محصورين.

وإن لم يكن المال أمانة بيد الآخذ بل كان معتدياً في ذلك وضامناً له جاز له الامتناع عن تسليمه لأي منهم ولا يجب، لدوران الأمر في تسليم كل منهم بين الوجوب والحرمة الذي هو مجري أصل التخيير. ولا حلّ للمشكلة حينئذٍ إلا الصلح،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 12 من أبواب كتاب الصلح حديث: 1.

ص: 390

وإن تردد بين جماعة غير محصورة تصدق به عن مالكه (1).

---------------

ولا يجب عليه الجمع بين دفع العين لبعضهم والبدل للآخر حتي لو رضوا بذلك، لأن دفع البدل أمر خارج عن امتثال التكليف المعلوم بالإجمال لا دليل علي وجوبه. كما لا يجب دفع البدل للكل لو تلفت العين، لأن مقتضي الضمان هو دفع البدل بعنوان كونه بدلاً ووفاء، ودفعه بالعنوان المذكور لأكثر من واحد ممتنع، نظير ما تقدم.

(1) إجماعاً، كما في شرح القواعد لكاشف الغطاء (قدس سره)، وقال في الجواهر:" كما في غيرها من أقسام مجهول المالك، الذي حكمه ذلك نصاً وفتوي ".ويمكن الاستدلال علي العموم المذكور بجملة من النصوص.

منها: صحيح أبي علي بن راشد:" سألت أبا الحسن (عليه السلام) قلت: جعلت فداك اشتريت أرضاً إلي جنب ضيعتي بألفي درهم، فلما وفرت المال خبرت أن الأرض وقف. فقال: لا يجوز شراء الوقوف [الوقف. يب]، ولا تدخل الغلة في ملكك. ادفعها إلي من أوقفت عليه. قلت: لا أعرف لها رباً. قال: تصدق بغلتها"(1).

ودعوي: أن وقفية الأرض لا تمنع من ملكية الغلة، لتبعية الزرع في الملكية للبذر، لا للأرض. غاية الأمر أن تنشغل ذمة الزارع بأجرة الأرض. مدفوعة بأن حكم الإمام (عليه السلام) بدفع الغلة للموقوف عليهم ملزم بحمل الغلة علي ما يكون تابعاً للوقف وحقاً للموقوف عليهم، إما لكون الأرض الوقف مغروسة بأصول موقوفة مثلها ذات ثمرة، أو لابتناء ذلك علي الترخيص في زرع الأرض بحصة من الثمرة بنحو المزارعة المقتضية لاستحقاق أرباب الوقف حصة من الغلة، أو غير ذلك. ولا مجال للتوقف في الاستدلال بالصحيح من أجل ذلك.

ومنها: صحيح يونس بن عبد الرحمن المروي في التهذيب: "سئل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) وأنا حاضر... قال: جعلت فداك، رفيق كان لنا بمكة فرحل منها إلي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 6 من أبواب أحكام الوقوف والصدقات حديث: 1.

ص: 391

منزله، ورحلنا إلي منازلنا. فلما أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا، فأي شيء نصنع به ؟ قال: فقال: تحملونه حتي تحملوه إلي الكوفة. قال: لسنا نعرفه، ولا نعرف بلده، ولا نعرف كيف نصنع. قال: إذا كان كذا فبعه وتصدق بثمنه. قال له: علي من جعلت فداك ؟. قال: علي أهل الولاية"(1).

وقريب منه في الكافي عن يونس، إلا أنه قال:" سألت عبداً صالحاً "،وقال في أخره:" فقال: بعه وأعط ثمنه أصحابك. قال: فقلت: جعلت فداك، أهل الولاية ؟ فقال: نعم"(2).

فإن كانتا روايتين كانت الأولي محكمة علي الثانية تحكيم المقيد علي المطلق. وإن كانت رواية واحدة، والاختلاف بينهما من جهة النقل بالمعني، لم يبعد كون الأولي شاهدة بانصراف إطلاق الإعطاء في الثانية للصدقة، فإنه أقرب عرفاً من حمل التعبير في الأولي بالصدقة علي الخطأ. ولا أقل من كون ذلك مقتضي الجمع بين الصحيح وبقية نصوص المقام بعد إلغاء خصوصية مواردها.

ومنها: معتبر علي الصايغ: "سألته عن تراب الصواغين، وإنا نبيعه. قال: أما تستطيع أن تستحله من صاحبه ؟ قال: قلت: لا، إذا أخبرته أتهمني. قال: بعه. قلت: بأي شيء نبيعه ؟ قال: بطعام. قلت: فأي شيء أصنع به ؟ قال: تصدق به. إما لك وإما لأهله. قلت: إن كان ذا قرابة محتاجاً أصله ؟ قال: نعم" .كذا رواه في التهذيب(3). ورواه في الوسائل عنه، إلا أن فيه نسختين: إحداهما كما سبق، والثانية: "إما لك أو لأهلك" (4) والظاهر أنها تصحيف، لعدم وضوح معناها، ولعدم وجودها في التهذيب، ولا في خبره الآخر(5) عن أبي عبدالله (عليه السلام)، المقارب له في المضمون. إلا أنه لم يتضمن السؤال عن الاستحلال من صاحب المال.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب اللقطة حديث: 2.، التهذيب ج: 6 ص: 395.

(2) الكافي ج: 5 ص: 307.

(3) التهذيب ج: 6 ص: 383.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الصرف حديث: 2، 1

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الصرف حديث: 2،

ص: 392

وقد تضمنا معاً الأمر بالصدقة بثمن تراب الصاغة المشتمل علي أجزاء من الذهب والفضة وغيرهما مما هو مجهول المالك. ولا يمنع من الاستدلال بالمعتبر إضماره بعد إيداع أصحاب الحديث له في كتب أخبار الأئمة المتضمنة لفتواهم. ولاسيما مع اعتضاده بحديثه الآخر المشار إليه.

لكن استشكل في الجواهر في الاستدلال بالمعتبر بأن ظاهره جواز الصدقة مع تعذر استحلال المالك لخوف التهمة، مع أن خوف التهمة لا يبيح التصرف في مال الغير.

ويندفع بما هو المعلوم في تراب الصاغة من الجهل بأصحاب المال وعدم انحصارهم، لتجمع التراب تدريجاً في مدة طويلة يكثر فيها العملاء، فلابد من حمل الاستحلال من صاحب المال في المعتبر علي الاستحلال من كل عميل قبل العمل له مما قد يسقط في التراب من ذهبه أو فضته للذين يعمل فيهما الصايغ، ومن الظاهر أن الاستحلال المذكور موجب لتهمة الصائغ بأنه قد يتسامح بسبب ذلك في المال ويفرط به. كما أنه غير واجب، لعدم العلم حين التعامل مع الشخص بسقوط شيء من ماله واختلاطه بالتراب.

وأما الجمود علي التعبير فيه باستحلال صاحبه، الظاهر في معرفة صاحبه وإرادة استحلاله حين بيع التراب. فهو - مع عدم مناسبته لواقع الحال في تراب الصاغة - لا يناسب السؤال فيه عن إمكان الاستحلال، بل ولا للسؤال عن حكم التراب، للمفروغية عن لزوم دفع التراب للشخص المذكور حينئذٍ بعد كونه صاحب المال، لعدم الموجب لخروج المال عن ملكه، ولا لسقوط حرمة ماله.

وظاهر الوسائل حمل الحديثين علي استحباب التصدق. وكأنه لظهور قوله (عليه السلام) فيهما: "إما لك وإما لأهله" في التنبيه لاحتمال كونه للصائغ، فيجوز التعويل عليه من أجل كونه صاحب يد، وإن كانت الصدقة أحوط، لأنها مشروعة علي كل حال.

وبعبارة أخري: لما كان الحكم بالتصدق معللاً بالاحتياط، كان ظاهره الإرشاد إلي حسن الاحتياط، وحيث لا يجب الاحتياط في نفسه بسبب اليد، فلا ينهض الخبران

ص: 393

بإثبات وجوبه، ولا بإثبات وجوب التصدق.

نعم يظهر من بعضهم حمل قوله (عليه السلام): "إما لك وإما لأهله" علي معني أن المال بعد أن كان مملوكاً للغير فثواب الصدقة يكون بالآخرة إما لك وإما لأهله، لأنه إن ظهر صاحبه ورضي بالتصدق ثبت ثواب الصدقة له، وإن لم يرض بالتصدق ضمنت له المال وصار ثواب الصدقة لك.

ولعله لظهور قوله (عليه السلام) في المعتبر: "أما تستطيع أن تستحله من صاحبه ؟" وقوله (عليه السلام) فيهما معاً: "إما لك وإما لأهله" في المفروغية عن وجود صاحب للمال غير الصائغ. وعليه يتعين حمل الحديث علي وجوب التصدق، لعدم القرينة علي الاستحباب.

لكن سبق لزوم حمل الاستحلال من صاحبه علي الاستحلال من العميل حين التعامل معه مما يحتمل سقوطه من ذهبه أو فضته في التراب. كما أن حمل قوله (عليه السلام): "إما لك وإما لأهله" علي الترديد في ثواب الصدقة بعيد جداً، بل يقوي ظهوره في الترديد لنفس الصدقة. ولاسيما وأن ما يكون في تراب الصاغة من الذهب والفضة ليس من شأنه أن يعرف صاحبه، ليمكن صيرورة ثواب الصدقة للصايغ بسبب ضمانه المال بعد عدم قبول صاحب المال بالصدقة. فلابد من كون الترديد بلحاظ جهالة صاحب المال وتردده بين الصائغ نفسه وعملائه، وكون الأمر بالتصدق للاحتياط.

غاية الأمر أنه يشكل البناء علي استحباب الاحتياط المذكور، لعدم وضوح حجية اليد في المقام بعد عدم استقلال اليد علي ما في التراب من الذهب والفضة، وإنما هو تابع لما يبتلي به الصائغ من ماله ومال غيره. نظير ما لو كان عند الإنسان كيسين أحدهما له والآخر لغيره ثم سقط درهم منهما وتردد بينهما، حيث يشكل الحكم بكونه له من أجل اليد.

علي أن من القريب جداً علم الصائغ باشتمال ترابه علي ما سقط من ذهب عملائه وفضتهم، إذ من البعيد جداً أن يحتمل مع كثرة عملائه بطول المدة عدم

ص: 394

سقوط شيء منهم وكون كل ما سقط من ماله. ومن ثم يقرب حمل الترديد في قوله (عليه السلام): "إما لك وإما لأهلك" علي التقسيم.

ومثله ما في بعض كلماتهم من توجيه الاستحباب بظهور حال أصحاب المال في الإعراض عنه، لقلته وصعوبة تحصيله، فيجوز تملكه للصايغ، وإنما يستحب التصدق والاستحلال الذي تضمنه المعتبر احتياطاً لاحتمال عدم مطابقة ظهور الحال للواقع وعدم تحقق الإعراض، فإن الاحتمال المذكور وإن كان لا يعتني به مع الظهور المذكور، إلا أنه لا ينافي حسن الاحتياط.

لاندفاعه بأن ظهور الحال إنما يعول عليه إذا استند لفعل من المالك ظاهر في الإعراض عن المال والرضا بتملكه. أما إذا كان لمجرد استبعاد اهتمامه بالمال مع قلته وصعوبة تحصيله - كما هو المدعي في المقام - فهو لا يخرج عن الظن الذي لا تعويل عليه في الخروج عن مقتضي الأصل. ولاسيما مع جهله بوجوده، حيث لا يعلم العميل بسقوط شيء من ذهبه في التراب. ومن ثم كان الخروج عن ظهور الحديثين في وجوب التصدق في غاية الإشكال.

علي أن استحباب التصدق احتياطاً لاحتمال كون المال مملوكاً للعملاء المجهولين وغير المحصورين وعدم إعراضهم عنه مستلزم لوجوب التصدق في فرض العلم بكونه مملوكاً للمجهول من دون إحراز لإعراضه عنه الذي هو محل الكلام. ومن ثم لا يمنع من الاستدلال بالمعتبر للمدعي، وتأييده بالحديث الآخر لو لم يبلغ مرتبة الحجية.

ومنها: صحيح إسحاق بن عمار: "سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن رجل نزل في بعض بيوت مكة فوجد فيها نحواً من سبعين درهماً مدفونة، فلم تزل معه ولم يذكرها حتي قدم الكوفة، كيف يصنع ؟ قال: يسأل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها. قلت: فإن لم يعرفوها؟ قال: يتصدق بها"(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب كتاب اللقطة حديث: 3.

ص: 395

ودعوي: أن المعروف نصاً وفتوي أن المال المدفون لواجده، فلابد من حمل الصحيح علي الاستحباب. مدفوعة بأن ذلك إنما ورد في الموجود في الخربة التي جلا عنها أهلها، دون الدار العامرة التي هي مورد الصحيح، فإنه يكون لأهل الدار، فإذا لم يعرفوه تعين كونه مجهول المالك.

ولاسيما في دور مكة التي ينزل فيها المسافرون، حيث يعلم حينئذٍ أن المال لمسافرين آخرين قد نزلوا فيها قبل ذلك في نفس الموسم أو في المواسم السابقة، ودفنوه في البيت حفاظاً عليه ثم نسوه أو غلبوا علي أمرهم فتركوه. والغالب حينئذٍ تعذر الفحص عنهم، خصوصاً بعد أن كان واجد الدراهم قد نسيها حتي رجع إلي الكوفة، حيث لا يتسني له سؤال أهل الدار إلا إذا رجع إلي مكة في الموسم الثاني أو نحوه، فإذا أنكروها لم يتيسر الوصول لأصحابها، لبعد العهد بهم ورجوعهم إلي بلادهم، بنحو يتحقق اليأس عن الوصول إليهم بالفحص، فلم يبق علي واجدها إلا التصدق بها. ومن ثم كان الظاهر تمامية الاستدلال بالصحيح علي المطلوب. هذه عمدة النصوص المستدل بها في المقام.

وربما يستدل بنصوص أخر:

منها: مرسلة السرائر قال في مسألة جوائز السلطان: "وروي أصحابنا أنه يتصدق به عنه، ويكون ضامناً إذا لم يرضوا بما فعل" .قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "ثم الحكم بالصدقة فيما نحن فيه - أعني جواز السلطان - هو المشهور. ونسبه في السرائر إلي رواية أصحابنا. فهي مرسلة مجبورة بالشهرة المحققة... هذا والعمدة ما أرسله في السرائر مؤيداً...".

ولعل الوجه في كونه عمدة الدليل وبقية ما ذكره - بما في ذلك بعض ما سبق

مؤيداً أن المرسلة واردة في جوائز السلطان التي هي محل الكلام، وغيرها وارد في موارد أخري.

لكن فيه: أولاً: أنه يبعد وجود رواية في خصوص جوائز السلطان رواه

ص: 396

أصحابنا، قد اطلع عليها ابن إدريس ولم تدون في كتب الحديث والفتوي المعروفة. ومن القريب جداً كون مراده الروايات الكثيرة الواردة في موارد مجهول المالك المختلفة بعد إلغاء خصوصية مواردها. فاللازم النظر في تلك الروايات.

وثانياً: أنه لو كان مراده رواية خاصة بجوائز السلطان فلا مجال لدعوي انجبارها بالشهرة، حيث لا طريق لإثبات اعتماد المشهور عليها بعد عدم تعرضهم لها، وإنما ذكروا الروايات التي أشرنا إليها، ويظهر منهم الاعتماد عليها، لا علي المرسلة.

ومنها: خبر علي بن أبي حمزة: "كان لي صديق من كتاب بني أمية. فقال لي: استأذن لي علي أبي عبدالله (عليه السلام) فاستأذنت له [عليه] فأذن له. فلما أن دخل سلم وجلس، ثم قال: جعلت فداك، إني كنت في ديوان هؤلاء القوم، فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً، وأغمضت في مطالبه. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء، ويقاتل عنهم، ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم. فقال الفتي: جعلت فداك فهل لي مخرج منه ؟ قال: إن قلت لك تفعل ؟ قال: أفعل. قال له: فاخرج من جميع ما كسبت [اكتسبت] في ديوانهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدقت به، وأنا أضمن لك علي الله الجنة..."(1).

لكنه - مع الإشكال في سنده، ولو لاشتماله علي إبراهيم بن إسحاق الأحمر الذي لم تثبت وثاقته -: أولاً: وارد في واقعة خاصة مشتملة علي خصوصيات لا مجال لإلغائها عرفاً، لعدم كون المفروض فيه أن تمام المال الذي عند العامل من الحرام والظلم الشخصي للناس، بل لعل كثيراً منه من الأموال العامة التي هي خارجة عن محل الكلام.

وثانياً: أن السؤال فيه ليس عن خصوص الخروج عن تبعة المال الحرام، لأن ذلك وإن كان هو مفتتح السؤال، إلا أن تعرض الإمام (عليه السلام) بعد ذلك لحرمة العمل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 47 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 397

معهم، ومشاركة العامل معهم في جريمتهم، دعا السائل لطلب المخرج من جميع ذلك. فلعل التصدق بما لم يعرف صاحبه كفارة لحرمة العمل معهم، من دون أن يكون هو حكم المال في نفسه. بل مقتضي كونه شرط ضمان الجنة له أنه كفارة لجميع ذنوبه بما في ذلك ما أكله وأنفقه في المدة الطويلة من المال الحرام. فلعله من سنخ الحسنات المكفرة للسيئات، ولو بأن يكون صدقة عن نفسه لا عن أصحاب المال المجهولين، كما هو المدعي في المقام.

فهو في ذلك نظير موثق سماعة المتقدم في أوائل المسألة:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل أصاب مالاً من عمل بني أمية، وهو يتصدق منه، ويصل منه قرابته، ويحج، ليغفر له ما اكتسب، ويقول: إن الحسنات يذهبن السيئات. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): إن الخطيئة لا تكفر الخطيئة، وإن الحسنة تحط الخطيئة. ثم قال: إن كان خلط الحرام حلالاً، فاختلطا جميعاً، فلم يعرف الحرام من الحلال، فلا بأس"(1). ومن ثم لا مجال للاستدلال بالخبر في المقام. بل ولا التأييد.

ومنها: صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام): "في رجل ترك غلاماً له في كرم له يبيعه عنباً أو عصيراً، فانطلق الغلام فعصر خمراً ثم باعه. قال: لا يصلح ثمنه... ثم قال أبو عبدالله (عليه السلام): إن أفضل خصال هذه التي باعها الغلام أن يتصدق بثمنها"(2). وفي موثق أبي أيوب عنه (عليه السلام) في نظير ذلك:" إن أحب الأشياء إلي أن يتصدق بثمنه"(3).

لكنهما - مع قوة ظهورهما في الاستحباب - غير ظاهرين في مجهول المالك، إذ لم يفرض فيهما الجهل بالمشتري ولا تعذر معرفته والوصول إليه. ولعل منشأ السؤال فيهما عن الثمن بعد معروفية حرمة بيع الخمر ليس هو التحير في أمر الثمن، لتعذر إرجاعه لصاحبه وصيرورته مجهول المالك أو ما بحكمه، بل احتمال حلّ الثمن في حق

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 55 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 55 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

ص: 398

صاحب الكرم، لعدم تعمده بيع الخمر، وعدم إذنه بذلك، حيث قد يحتمل حينئذٍ حلّ الثمن له في مقابل ما تلف عليه من ماله.

إن قلت: بعد معلومية حرمة بيع الخمر وبطلانه، وبقاء الثمن علي ملك المشتري، فالمتعين إرجاع الثمن لصاحبه مع إمكانه، وحمل الحكم بالتصدق به علي تعذر إرجاعه له، للجهل به أو تعذر الوصول إليه.

قلت: أولاً: بطلان بيع الخمر وبقاء الثمن علي ملك المشتري لا يستلزم وجوب إرجاعه إليه، بل يجوز تملك الثمن إذا كان المشتري يري في دينه ملكية البايع له، كالذمي، لقاعدة الإلزام المعول عليها في سائر الموارد.

كما يمكن حكم الشارع الأقدس بعدم وجوب إرجاعه له وإن كان لا يري ذلك في دينه، عقوبة له علي انتهاكه الحرمة بشراء الخمر، ولئلا يجتمع له التمتع بالحرام الذي اشتراه وبثمنه من دون خسارة.

وثانياً: أن تحريم البيع وكون الثمن سحتاً - كما ورد في الخمر - وإن كانا ظاهرين في بطلان البيع وبقاء المال علي ملك المشتري، إلا أنه يمكن حملهما علي حرمة البيع تكليفاً مع صحته وصيرورة الثمن للبايع مع كونه خبيثاً يحرم أكله، بل الواجب أو الأفضل له التخلص منه بالتصدق به.

وحمل الحكم بالتصدق في المقام علي أحد هذه الوجوه ليس بأبعد من حمله علي فرض تعذر إرجاع الثمن للبايع - للجهل به أو تعذر الوصول إليه - بعد عدم الإشارة إليه في الحديثين. ولاسيما مع ما أشرنا إليه من قوة ظهورهما في استحباب التصدق.

ومن هنا لا مجال للخروج عن إطلاق الحديثين من جواز التصدق بالثمن ولو مع معرفة البايع، فيخرجان عن محل الكلام.

ومنها: صحيح هشام بن سالم: "سأل حفص الأعور أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر، فقال: كان لأبي أجير، وكان له عنده شيء، فهلك الأجير، فلم يدع وارثاً ولا قرابة، وقد ضقت بذلك كيف أصنع ؟. قال: رأيك المساكين، رأيك المساكين. فقلت:

ص: 399

إني ضقت بذلك ذرعاً. قال: هو كسبيل مالك، فإن جاء طالب أعطيته"(1). لظهور قوله (عليه السلام):" رأيك المساكين... "في إرادة التصدق عليهم.

لكنه - لو تم - لا ظهور له في وجوب التصدق، بل غايته الجواز، ولاسيما مع قوله (عليه السلام) بعد ذلك:" هو كسبيل مالك ".بل لا يخلو الحديث عن اضطراب، حيث لا يتضح الوجه في ضيق السائل لو كان المراد الترخيص في التصدق، لوضوح حلّ المشكلة به، فهو سبب للفرج لا للضيق.

ومثله في ذلك موثقه:" سأل حفص الأعور أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا عنده جالس. قال: إنه كان لأبي أجير كان يقوم في رحاه، وله عندنا دراهم، وليس له وارث. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): تدفع إلي المساكين، ثم قال: رأيك فيها. ثم أعاد عليه المسألة، فقال له مثل ذلك، فأعاد عليه المسألة ثالثة. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): تطلب له وارثاً، فإن وجدت له وارثاً، وإلا فهو كسبيل مالك. ثم قال: ما عسي أن تصنع بها؟ ثم قال: توصي بها، فإن جاء لها طالب، وإلا فهي كسبيل مالك"(2). بل لعله عين الصحيح، والاختلاف بينهما بسبب النقل بالمعني. وكيف كان فهو يشاركه في عدم الظهور في وجوب التصدق، وفي الاضطراب، إذ لا منشأ لتكرار السؤال بعد حلّ الإمام (عليه السلام) المشكلة بالتصدق.

نعم لا اضطراب في صحيحه الآخر: "سأل الأعور أبا إبراهيم (عليه السلام) وأنا جالس، فقال: إنه كان عند أبي أجير يعمل عنده بالأجرة، ففقدناه، وبقي من أجره شيء، ولا يعرف له وارث. قال: فاطلبوه. قال: قد طلبناه فلم نجده. قال: فقال: مساكين، وحرك يده. قال: فأعاد عليه. قال: اطلب واجهد، فإن قدرت عليه، وإلا فهو كسبيل مالك حتي يجيء له طالب، فإن حدث بك حدث فأوص به إن جاء له طالب أن يدفع إليه"(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 6 من أبواب ميراث الخنثي وما يشبهه حديث: 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة حديث: 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 6 من أبواب ميراث الخنثي وأشباهه حديث: 1، 11.

ص: 400

لكنه - كما تري - لا يتضمن الصدقة علي المساكين. ويكاد الإنسان يقطع بأن هذا الصحيح هو الأصل، وأن اختلاف الحديثين الأولين عنه بسبب النقل بالمعني، لولا مخالفته لهما في السائل والمسؤول.

هذا مضافاً إلي الإشكال في الصحيح الأول والموثق بأن المفروض فيهما عدم الوارث لصاحب المال - ولو بضميمة الأصل - فيكون المال للإمام (عليه السلام)، ويكون أمره في الموثق بطلب الوارث للاستظهار، كما يكون الأمر بالصدقة أو حفظ المال حكماً شخصياً له (عليه السلام) في المال بعد كونه له ظاهراً. وعلي كل حال لا مجال للاستدلال بهما في المقام.

ومنها: مرسلة الصدوق، فإنه بعد أن ذكر صحيح معاوية بن وهب الآتي قال:" وقد روي في خبر آخر: إن لم تجد له وارثاً وعرف الله عز وجل منك الجهد فتصدق بها"(1).

لكنه - مع إرساله - لم يتعرض فيه للسؤال. نعم ظاهره كون مورده هو مورد حديث معاوية، وهو المفقود الذي لا يدري أنه حي أو ميت، فيشبه ما نحن فيه. إلا أن من القريب كون ذلك اجتهاداً من الصدوق (قدس سره)، لعدم ورود المضمون المذكور إلا في معتبر العباس بن عامر أو المثني بن عبد السلام: "سألته عن رجل أوصي له بوصية، فمات قبل أن يقبضها، ولم يترك عقباً. قال: اطلب له وارثاً أو مولي فادفعها إليه. قلت: فإن لم أعلم له ولياً؟ قال: اجهد علي أن تقدر له علي ولي، فإن لم تجد، وعلم الله منك الجدّ، فتصدق بها"(2). وحينئذٍ يجري فيه ما سبق في صحيح هشام وموثقه من قرب كون مقتضي الأصل في موردهما عدم الوارث وصيروة المال للإمام (عليه السلام).

ومثلها في ذلك صحيح يونس عن نصر بن حبيب صاحب الخان:" كتبت إلي عبد صالح (عليه السلام): لقد وقعت عندي مائتا درهم وأربعة دراهم، وأنا صاحب فندق، ومات صاحبها، ولم أعرف له ورثة، فرأيك في إعلامي حالها وما أصنع بها، فقد ضقت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 6 من أبواب ميراث الخنثي وأشباهه حديث: 1، 11.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 30 من أبواب كتاب الوصية حديث: 2.

ص: 401

بها ذرعاً. فكتب: اعمل فيها وأخرجها صدقة قليلاً قليلاً حتي يخرج"(1).

بل الترخيص في العمل بها والتدرج في التصدق بقدرها قليلاً قليلاً يناسب ملكية الإمام (عليه السلام) لها واقعاً أو ظاهراً. نعم يمكن أن يرخص (عليه السلام) في العمل بالمجهول المالك، لعموم ولايته. إلا أنه لا يعهد منهم (عليهم السلام) إعمال هذه الولاية.

ولا أقل من أن احتمال ابتناء الأمر بالتصدق في هذه النصوص علي الحكم بملكية الإمام (عليه السلام) للمال لكونه وارث من لا وارث له يمنع من الاستدلال بها في المقام.

اللهم إلا أن يقال: الذي يظهر من مساق هذه النصوص كون المنظور للسائل هو الجهل بالمالك والتحير بسبب ذلك، من دون نظر إلي أن المال للإمام (عليه السلام) لأصالة عدم الوارث، لظهور أن ذلك يقتضي تسليم المال للإمام (عليه السلام) رأساً وعدم الضيق بتحمل تبعة حفظ المال وانتظار العثور علي الوارث.

ولا يظهر من الإمام (عليه السلام) ردع السائل عن ذلك، بل مجاراته فيه، كما يناسبه الأمر بطلب الوارث وانتظار من يطلب المال. وذلك يوجب انصراف النصوص لبيان حكم المال من حيثية كونه مجهول المالك، وإغفال الأصل المذكور، إما لعدم كون الإمام (عليه السلام) في مقام الجري عليه، أو لفرض العلم بوجود الوارث إجمالاً وإن لم يعرف ويعثر عليه.

ومن ثم يقوي الاستدلال بهذه النصوص، لولا ما سبق من اضطراب متن صحيح هشام وموثقه. ولا أقل من كونها مؤيدة للحكم ومشعرة بأن موردها لو كان من مجهول المالك لكان حكمه الصدقة.

نعم قد يعارضها في ذلك ما في صحيح يونس عن الهيثم: "كتبت إلي عبد صالح (عليه السلام): إني أتقبل الفنادق فينزل عندي الرجل، فيموت فجأة، ولا أعرفه ولا أعرف بلاده ولا ورثته، فيبقي المال عندي كيف أصنع به ؟، ولمن ذلك المال ؟ قال: اتركه علي حاله" (2) حيث تضمن الأمر بترك المال ولم يرخص في التصدق به، فضل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 6 من أبواب ميراث الخنثي وأشباهه حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 6 من أبواب ميراث الخنثي وأشباهه حديث: 4.

ص: 402

عن الأمر بذلك. ومثله ما تقدم في صحيح هشام بن سالم الثاني.

وحينئذٍ إن كان الحكم في هذه النصوص شخصياً للإمام (عليه السلام) بعد الحكم بكون المال له فلا تعارض بين هذه النصوص، لإمكان اختلاف حكمه الشخصي باختلاف الموارد. أما إذا كان الحكم فيها شرعياً مبنياً علي كون المال مجهول المالك فاللازم التعارض بينها وتساقطها وعدم نهوضها بالاستدلال، ولا التأييد.

اللهم إلا أن يجمع بينها بحمل نصوص ما تضمن التصدق علي الترخيص في التصدق مع اليأس من العثور علي المالك من أجل التخلص من مشكلة حفظ المال، وما تضمن إبقاء المال علي استحباب الانتظار بأمل العثور علي المالك ولو بوجه غير محتسب الذي هو لا ينافي اليأس عرفاً. وإن كان الأمر بعد لا يخلو عن إشكال.

ومنها: خبر حفص بن غياث: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعاً، واللص مسلم هل يرد عليه ؟ فقال: لا يرده، فإن أمكنه أن يرده علي أصحابه فعل، وإلا كان في يده بمنزلة اللقطة يصيبها فيعرفها حولاً، فإن أصاب صاحبها ردها عليه، وإلا تصدق بها، فإن جاء طالبها بعد ذلك خيره بين الأجر والغرم، فإن اختار الأجر فله، وإن اختار الغرم غرم له، وكان الأجر له"(1).

وضعف سنده - باشتماله علي القاسم بن محمد الأصفهاني غير الثابت التوثيق

قد يهون، لانجباره بعمل الأكثر، كما في الجواهر. إلا أنه تضمن إجراء حكم اللقطة عليه بالتعريف به سنة، وعليه جري الأصحاب في وديعة اللص. وهو غير المدعي في مجهول المالك.

لكن يظهر من الجواهر حمله علي حكم مجهول المالك وأن مورده منه. قال في رد بعض الأقوال الأخر في وديعة اللص:" إلا أن الجميع كما تري، خصوصاً بعد م

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 18 من أبواب كتاب اللقطة حديث: 1.

ص: 403

سمعت من الخبر المعمول به بين الأصحاب الموافق للمعلوم من حكم مجهول المالك، الذي ما نحن فيه فرد منه. ولا ينافي التعريف سنة الذي هو حكم اللقطة، لا مجهول المالك الذي حدّ التعريف به اليأس، لا السنة. لإمكان حمل الخبر المزبور علي إرادة حصول اليأس بذلك غالباً. أو علي إرادة بيان أن الفرض مثل اللقطة التي عرفت حولاً في أصل التصدق بها والضمان، بقرينة قوله: "وإلا" المراد منه عدم أمكان ردهّ علي صاحبه حتي بالتعريف، لحصول اليأس منه".

وهو كما تري، فإن حمل التحديد بالحول في الخبر علي إرادة حصول اليأس بذلك غالباً، مخالف لظاهره جداً. ولاسيما بعد كون التحديد المذكور من تتمة تنزيل المورد منزلة اللقطة، التي يعتبر الحول فيها بخصوصيته.

وأضعف من ذلك ما ذكره أخيراً من حمل قوله:" وإلا كان في يده بمنزلة اللقطة "علي معني وإن لم يمكن رده علي أصحابه حتي بعد التعريف، وأن المراد تنزيله منزلة اللقطة المعرف بها في التصدق، لا في التعريف. إذ هو مبني علي تكلف مخالف لظاهر التنزيل جداً، حيث لا فائدة في ذكر اللقطة حينئذٍ بل المناسب حينئذٍ أن يقول: فإن أمكنه أن يرده علي أصحابه فعل، وإلا تصدق به، فإن جاء طالبه... بل التفكيك في أحكام اللقطة المذكورة في الخبر - بجعل بعضها داخلاً في الموضوع المنزل عليه، وبعضها خارجاً عنه بلحاظه يكون التنزيل - مبني علي تكلف لا يناسبه سوقها في مساق واحد. ومن ثم يقوي جداً كون التنزيل بلحاظ جميع أحكام اللقطة بما في ذلك التعريف في الحول.

وعلي ذلك يلزم حمل قوله:" فإن أمكنه أن يرده علي أصحابه... "علي أنه إن أمكنه أن يرده علي أصحابه لمعرفته بهم فعل، وإن لم يمكن رده عليهم للجهل بهم كان في يده بمنزلة اللقطة...

وهو الذي فهمه من أفتي بمضمون الخبر من الأصحاب. قال في النهاية:" وإذا كان المودع ظالماً، وما أودعه يكون مغصوباً لم يجز للمودع رده عليه... وعليه أن

ص: 404

يردها إلي أربابها إن عرفهم، فإن لم يعرفهم عرفها حولاً كما يعرف اللقطة، فإن جاء صاحبها، وإلا تصدق بها عنه "ونحوه في الشرايع والقواعد وغيرهما. ومن هنا لا مجال للاستدلال بالخبر في المقام.

ومثله الاستدلال بجميع نصوص اللقطة للمطلوب، حيث جعلها شيخنا الأعظم (قدس سره) في جملة النصوص المؤيدة لمرسلة السرائر المتضمنة وجوب التصدق في المقام. وقد سبق أن جعله (قدس سره) تلك النصوص مؤيدة للمرسلة بلحاظ ورودها في موارد أخر غير جوائز السلطان. وذلك يناسب مفروغيته عن الاستدلال بها لوجوب التصدق في مواردها.

لكنه كما تري فإن بعض نصوص اللقطة وإن تضمن التصدق بها، إلا أن بعضها الآخر قد تضمن جواز تملكها، ولذا كان المعروف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) الجمع بين تلك النصوص بالتخيير في اللقطة بين الأمرين. مضافاً إلي ما تضمنته نصوصها أيضاً من لزوم مضي السنة. وكل ذلك لا يناسب المدعي في حكم مجهول المالك، كما لا يناسب النصوص التي تقدم الاستدلال بها له، فكيف يمكن جعل نصوص اللقطة من مؤيداته ؟!.

هذه جميع النصوص التي استدل أو يستدل بها في المقام. وقد ظهر مما تقدم انحصار الدليل بالنصوص الأول التي سبق منا الاستدلال بها. وإن كانت قد تؤيد بالنصوص المتقدمة الواردة فيمن مات ولم يعرف له وارث.

والنصوص المذكورة وإن وردت في موارد خاصة مختلفة، من دون أن يرد شيء منها في جوائز السلطان، ولا في عموم المال المجهول مالكه، إلا أن إلغاء خصوصية مواردها واستفادة عموم التصدق بالمال المجهول مالكه منها قريب جداً، لأن ذلك هو الجهة الارتكازية الجامعة بين الموارد المذكورة.

ولاسيما مع قوله (عليه السلام) في معتبر علي الصائغ المتقدم:" تصدق به إما لك وإما لأهله "ونحوه في حديث آخر، لظهورهما في المفروغية عن رجحان الصدقة علي كل

ص: 405

التقديرين، وذلك يناسب المفروغية عن رجحان الصدقة بمال الغير مع الجهل به.

ويعضد ذلك ظهور حال الأصحاب في فهم العموم المذكور من هذه النصوص وإلغاء خصوصية مواردها، حيث يناسب ذلك ارتكازية الجهة المناسبة للعموم عرفاً.

إن قلت: كما تضمنت هذه النصوص إطلاق الحكم بالصدقة في مواردها كذلك تضمنت نصوص اللقطة بعد الجمع بينها التخيير بين الصدقة والتملك بعد التعريف سنة. وليس التعدي عن موارد هذه النصوص بالبناء علي عموم وجوب التصدق بمجهول المالك بعد اليأس عن الوصول لصاحبه إلا في اللقطة بأولي من التعدي عن موارد نصوص اللقطة بالبناء علي عموم وظيفتها لجميع أفراد مجهول المالك إلا في موارد هذه النصوص، كما هو المناسب لما تقدم في خبر حفص بن غياث من إلحاق موارده باللقطة.

نعم لو كان لنصوص وظيفة مجهول المالك عموم يشمل جميع أفراده تعين العمل عليه والاقتصار في الخروج عنه علي موارد نصوص اللقطة وما ألحق بها، لأنها أخص منه. أما حيث لم يكن لها عموم في نفسها، وفهم العموم منها بضميمة إلغاء خصوصية مواردها، فليست هي بأولي من نصوص اللقطة في ذلك.

قلت: لا مجال لإلغاء خصوصية اللقطة بعد التصريح بعنوانها في جملة من النصوص مع إمكان اختصاص العنوان المذكور بأحكامها عرفاً. بخلاف نصوص مجهول المالك، فإنها قد وردت في موارد خاصة مختلفة يصعب البناء علي دخل خصوصياتها في حكمها، ولا جامع عرفي بينها إلا اليأس من الوصول لمالكها بسبب الجهل به، حيث يكون ذلك منشأ لفهم العرف عموم حكمها للجامع المذكور. ولاسيما بملاحظة ما سبق من اعتضاد العموم المذكور بفهم الأصحاب، وبما تضمنه حديثا علي الصائغ.

علي أنه لو فرض التردد بين الوجهين، وعدم المعين لما ذكرنا، فحيث اتفقت

ص: 406

نصوص المقام ونصوص اللقطة علي مشروعية الصدقة، فاللازم الاقتصار عليها في غير اللقطة من مجهول المالك، لأصالة عدم نفوذ التملك، وعدم جواز تصرف من بيده المال بالمال واستغلاله لصالحه.

إن قلت: بناءً علي ذلك يتعين الانتظار في التصدق بمجهول المالك - في غير موارد النصوص المتقدمة - إلي مضي الحول، إذ بعد احتمال الاقتصار علي موارد النصوص المتقدمة وتحكيم نصوص اللقطة في بقية موارد مجهول المالك فمقتضي الأصل عدم جواز التصدق وعدم نفوذه قبل مضي الحول.

قلت: الذي تضمنته نصوص اللقطة هو اعتبار الحول من أجل التعريف بالمال، ولا موضوع للتعريف عرفاً مع اليأس من العثور علي المالك. وحينئذٍ فمع اليأس من الوصول للمالك يتعين عدم وجوب الفحص وعدم انتظار الحول حتي في اللقطة، ومع عدم اليأس من الوصول للمالك يتعين الانتظار حتي بعد الحول في غير اللقطة من مجهول المالك، بعد عدم وضوح التعدي عن مورد نصوص اللقطة.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد النظر في نصوص المقام ونصوص اللقطة في مشروعية التصدق بالمال. كما أنه يتعين في غير اللقطة من مجهول المالك عدم مشروعية التملك، إما لاستفادة عموم وجوب التصدق بمجهول المالك من نصوص المقام، وإما لأن مقتضي الأصل عدم مشروعية التملك في غير اللقطة.

وبذلك يظهر تأيد الحكم المدعي في المقام بنصوص اللقطة بضميمة الأصل المذكور. وإن لم تنهض بالاستدلال ولا التأييد استقلالاً، كما سبق.

نعم قد ينافي الحكم المذكور صحيح معاوية بن وهب عن أبي عبدالله (عليه السلام):" في رجل كان له علي رجل حق، ففقده ولا يدري أين يطلبه، ولا يدري أحي هو أم ميت، ولا يعرف له وارثاً ولا نسباً ولا ولداً. قال: اطلب. قال: فإن ذلك قد طال، فأتصدق به ؟ قال: اطلبه"(1). فإن مورده مجهول المالك أو ما يتعذر الوصول لمالكه، لأن المفروض فيه احتمال حياة الرجل التي هي مقتضي الاستصحاب، ولم يفرض

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 6 من أبواب ميراث الخنثي وما أشبهه حديث: 2.

ص: 407

فيه موته، ليحتمل كون المال ميراث من لا وارث له، ومع ذلك لم يفسح فيه المجال للصدقة، بل ألزم بالانتظار. وكذا صحيح هشام بن سالم عن أبي إبراهيم (عليه السلام) المتقدم.

لكنه لا ينهض في قبال ما سبق. ولاسيما مع إمكان حمله علي عدم اليأس من العثور علي المالك، لأن طول المدة لا يستلزم اليأس من العثور عليه. أو علي كون الحق ذمياً، كما هو الظاهر من التعبير في الصحيح بأن له حق ومثله في ذلك صحيح هشام بن سالم، حيث لا يبعد ظهور قوله: "وبقي من أجره شيء" في كونه ذمياً. ويأتي إن شاء الله تعالي عدم مشروعية الصدقة في الذمي.

هذا وربما يدعي في المقام وجوه أخر:

الأول: ما في السرائر من وجوب حفظ المال المجهول لمالكه، ولو بوصية من بيده به حين وفاته. لأن ذلك هو مقتضي القاعدة الأولية المعتضدة بالنصوص المتقدمة، كصحيح معاوية بن وهب وغيره.

ويظهر ضعفه مما سبق من عدم نهوض النصوص المذكورة بذلك ولزوم الخروج عن القاعدة بنصوص التصدق المتقدمة. مؤيداً باستبعاد تكليف من بيده المال بحفظه، لصعوبة ذلك جداً، ولتعرض المال بذلك للخطر، وعدم انتفاع مالكه به حينئذٍ أصلاً.

الثاني: أن المال المجهول المالك للإمام (عليه السلام)، لحديث داود بن أبي يزيد عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رجل: إني قد أصبت مالاً، وإني قد خفت فيه علي نفسي. ولو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلصت منه. قال: فقال له أبو عبدالله (عليه السلام): والله لو أصبته كنت تدفعه إليه ؟ قال: إي والله. قال: فأنا والله، ما له صاحب غيري. قال: فاستحلفه أن يدفعه إلي من يأمره. قال: فحلف. فقال: فاذهب فاقسمه في إخوانك، ولك الأمن مما خفت منه. قال: فقسمته بين أخواني "(1) ومعتبر محمد بن القاسم بن الفضيل عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب كتاب اللقطة حديث: 1.

ص: 408

أبي الحسن (عليه السلام):" في رجل كان في يده مال لرجل ميت لا يعرف له وارثاً، كيف يصنع بالمال ؟ قال: ما أعرفك لمن هو. يعني نفسه"(1).

لكن الأول - مع عدم خلو سنده عن الإشكال لاشتراك موسي بن عمر - ظاهر السؤال فيه الجهل بمالك المال الخاص بعنوانه الأولي، لا بعنوان كونه مجهول المالك، وحينئذٍ يكون ظاهر الجواب فيه ملكية الإمام (عليه السلام) للمال المذكور بذاته لا بعنوان كونه مجهول المالك، فيكون وارداً في قضية خاصة مجهولة الخصوصيات، وربما يكون المال ملكاً للإمام (عليه السلام) لكونه ميراث من لا وارث له، أو لكونه غنيمة حرب من غير إذن الإمام، أو غير ذلك.

ودعوي: أن ذلك بعيد في نفسه، حيث لم يشر السائل لعنوان المال الذي يكون به ملكاً للإمام بنفسه، ومن البعيد جداً ابتناء جواب الإمام (عليه السلام) علي علمه بعنوان المال بالطرق الغيبية الخاصة به، بل الظاهر ابتناء جوابه (عليه السلام) علي كونه (عليه السلام) هو المالك للمال بعنوانه المتحصل من السؤال، وهو كونه مجهول المالك، لأن ذلك يكفي في حلّ مشكلة السائل ورفع حيرته.

مدفوعة بأن ذلك راجع إلي حمل كلام الإمام (عليه السلام) علي خلاف ظاهره البدوي الذي يقتضيه سياق الكلام لمجرد استبعاد إرادة الظاهر المذكور، وذلك وحده لا يكفي في الظهور الحجة. وليس هو بأولي من حمل جواب الإمام (عليه السلام) علي إرادة بيان أنه (عليه السلام) المرجع في تعيين مصرف المال وحلّ المشكلة، إما لكونه ولياً عليه، أو لكونه العالم بحكمه، فلا ينافي النصوص المتقدمة المتضمنة الأمر بالتصدق بالمال.

وأما الثاني فمن القريب ابتناء الحكم فيه بأنه للإمام علي كون مقتضي الأصل عدم الوارث لصاحب المال، فيكون المال ميراث من لا وارث له، لا علي فرض كونه ذا وارث مجهول، ليكون مجهول المالك. ولاسيما مع ظهور الجواب في أن الحكم بأن المال المذكور له (عليه السلام) من الواضحات التي لا تخفي علي السائل، حيث لا يظهر منش

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 6 من أبواب ميراث الخنثي وما أشباهه حديث: 12.

ص: 409

لوضوح ملكية الإمام (عليه السلام) للمال المجهول مالكه، بخلاف ملكيته لميراث من لا وارث له، التي تظافرت النصوص بها(1).

ولاسيما وأنه يصعب جداً خروج المال عن ملك مالكه الواقعي بمجرد الجهل به أو اليأس من الوصول إليه، حيث يبعد جداً كون العثور علي المالك موجباً لرجوع ماله لملكه بعد خروجه عنه. وأبعد منه الالتزام بعدم رجوعه له، حيث لا إشكال ظاهراً في لزوم إرجاعه إليه. وهذا بخلاف الالتزام بخروجه عن ملكه بالتصدق كأمواله التي يتصدق بها هو، الراجع لقصور سلطنته علي المال ونفوذ تصرف غيره فيه الذي هو شايع في الغائب ومن لا يمكن الوصول إليه.

علي أنه لو تمت دلالة الخبرين علي ملكية الإمام لمجهول المالك فمقتضي الجمع بينهما وبين نصوص الصدقة المتقدمة كون التصدق بالمال هو الوجه المأذون فيه من قِبَل الإمام (عليه السلام) المالك للمال أو الولي عليه، فهو نظير ما ورد من دفع ميراث من لا وارث له لأهل بلده، ومن كون الحيازة مملكة للأرض الغامرة التي هي من الأنفال المملوكة للإمام ونحو ذلك، ولا يكون حينئذٍ كسهمه (عليه السلام) من الخمس الذي يصرف في جميع المصارف المناسبة لمنصبه، ليكون لهذه النصوص أثر عملي.

الثالث: أن مجهول المالك يجوز تملكه لآخذه مع وجوب تخميسه عليه. لصحيح علي بن مهزيار الوارد في بيان الغنائم والفوائد التي يجب فيها الخميس، حيث قال (عليه السلام) فيه: "فالغنائم والفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها المرء والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن، ومثل عدو يصطلم فيؤخذ ماله، ومثل مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب، وما صار إلي موالي من أموال الخرمية الفسقة..."(2).

قال في مصباح الفقاهة:" وقد استظهر هذا الرأي من الرواية المذكورة المحقق

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس حديث: 5.

ص: 410

الهمداني. بل ذكر المحقق الإيرواني أن هذه الصحيحة صريحة في جواز تملك مجهول المالك".

وقد استشكل بعض مشايخنا (قدس سره) في الاستدلال به للمدعي بوجهين:

الأول: أنه ليس صريحاً في جواز تملك المال بعد إخراج خمسه، وإنما هو مطلق من هذه الجهة، وحينئذٍ يقيد بنصوص التصدق، ويكون مقتضي الجمع بينه وبينها إخراج خمسه ثم التصدق به.

وهو كما تري أولاً: لأن وجوب الخمس في المال متفرع علي كونه غنيمة وفائدة مملوكة، وهو لا يناسب نصوص التصدق التي هي صريحة أو كالصريحة في بقاء المال علي ملك مالكه إلي حين التصدق به. بل كيف يكون المال غنيمة وفائدة إذا وجب إخراج خمسه والتصدق ببقيته.

وثانياً: لأن نصوص التصدق صريحة أو كالصريحة في وجوب التصدق بتمام المال. ومن ثم يتعذر الجمع بين الطائفتين عرفاً بما ذكره (قدس سره).

الثاني: أنه لا يدل علي جواز تملك مجهول المالك، كما هو المدعي، بل علي وجوب الخمس فيما جاز تملكه من مجهول المالك من دون تعين له.

وقد يقرب ما ذكره (قدس سره) بأن الصحيح غير وارد لبيان المال الذي يجوز تملكه، ليكون مقتضي إطلاقه جواز تملك كل مال لا يعرف له صاحب، بل لشرح الغنيمة والفائدة التي يجب الخمس فيها بعد الفراغ عن جواز اغتنامها وتملكها. ولذا لا يتوهم ظهوره في جواز تملك مال كل عدو يصطلم، بل يحمل علي خصوص العدو غير محترم المال.

هذا مضافاً إلي أنه لو حمل علي جواز تملك كل مال مجهول مالكه لكان معارضاً لنصوص المقام ونصوص اللقطة الواردة بمجموعها في الشايع من أفراد مجهول المالك، والتي هي كالصريحة في عدم وجوب تخميس المال، بل يتعين التصدق به بتمامه، أو يخير بين ذلك وبين تملكه.

وحيث كانت النصوص المذكورة كثيرة عدداً مشهورة بين الأصحاب رواية

ص: 411

وعملاً فلا مجال للخروج عنها بالصحيح. ومن ثم يتعين سقوطه عن الحجية، أو حمله علي ما ذكرناه من عدم الإطلاق له في جواز تملك مجهول المالك، وإنما يدل علي وجوب الخمس في المال بعد الفراغ عن جواز تملكه. وليحمل حينئذٍ علي اللقطة بعد التعريف والتملك وما يوجد في جوف السمكة أو الدابة، والمدفون في الخربة التي جلا أهلها، ونحو ذلك مما دل الدليل علي جواز تملكه.

ولاسيما مع قرب حمل قوله (عليه السلام) في الصحيح:" ولا يعرف له صاحب "علي الجهل بوجود مالك للمال، لاحتمال كونه مباحاً أصلياً، مثل يوجد في جوف السمكة، أو احتمال بعد العهد بصاحبه بحيث مات ومات عقبه حتي يصدق عرفاً أن المال لا صاحب له. لا الجهل بصاحب المال بعد الفراغ عن وجوده الذي هو محل الكلام في المقام. وبالجملة: لا مجال للخروج بالصحيح عن النصوص المتقدمة المتضمنة للتصدق بالمال.

ومنه يظهر أنه لا مجال للبناء في مجهول المالك علي التخير بين التصدق به بتمامه وتملكه مع دفع الخمس منه جمعاً بين نصوص التصدق والصحيح المذكور. لظهور أن الجمع المذكور - مع كونه تبرعاً خالياً عن الشاهد - لا يناسب بعض نصوص التصدق المتقدمة، مثل قوله (عليه السلام) في صحيح أبي علي بن راشد:" ولا تدخل الغلة في ملكك".

بل الاقتصار في نصوص التصدق عليه وعدم التعرض فيها لإخراج الخمس الذي هو الأنفع لمن بيده المال والأحب له كالصريح في لزوم التصدق وعدم الاكتفاء بإخراج الخمس. ولاسيما في حديثي تراب الصاغة الذي يحتمل كونه أو بعضه للصائغ نفسه، حيث يكون الاكتفاء بإخراج الخمس أقرب للجمع بين الحقوق المحتملة.

الرابع: وجوب دفع المال للحاكم، لأنه ولي الغائب. وفيه: أنه لم يتضح عموم ولايته علي الغائب بحيث يكون بمنزلة وكيله المفوض في كون دفع ماله إليه بمنزلة دفعه للمالك. بل هو لا يناسب النصوص المتقدمة الدالة علي التصدق، ولاسيما بناءً علي الضمان معه لو ظهر المالك، ولا النصوص الدالة علي وجوب الحفظ، ول

ص: 412

نصوص اللقطة وغير ذلك مما ورد في مجهول المالك، حيث كان الأولي بها التنبيه علي الدفع للحاكم، كما لعله ظاهر.

غاية الأمر ثبوت ولايته حسبة في موارد الحاجة للتصرف بالمال وثبوت مشروعيته وعدم ثبوت الولي عليه، لأنه المتيقن بعد احتمال ولايته شرعاً وتوقف جواز التصرف ونفوذه علي مراجعته، وذلك لا يقتضي وجوب الدفع له بحيث تبرأ ذمة واجد المال منه بذلك. ولاسيما بعد الأمر بالتصدق به في النصوص المتقدمة. نعم قد يدعي وجوب استئذانه في التصدق وهو أمر آخر يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي.

هذه الأقوال المعتد بها في المقام. وربما كان هناك أقوال أو احتمالات أخر يظهر حالها مما سبق، لا مجال لإطالة الكلام فيها. ومن الله سبحانه نستمد التوفيق والتسديد.

بقي في المقام أمور:

الأول: الظاهر عدم الفرق في وجوب التصدق بين الجهل بالمالك ومعرفته مع اليأس من الوصول إليه. لأن أكثر النصوص المتقدمة وإن وردت في صورة الجهل بالمالك، إلا أن صحيح يونس المتقدم قد ورد في صورة معرفة المالك مع اليأس من الوصول إليه، لأن مورده الرفيق في مكة، وذلك يناسب معرفته لو صادف الوصول إليه. وقوله فيه:" لسنا نعرفه ولا نعرف بلده "يراد به عدم معرفته معرفة تكون سبباً للوصول إليه، وذلك بمعرفة نسبه أو موقعه الاجتماعي أو نحوهما، لا عدم معرفته لو فرض الالتقاء به والوصول إليه، فإن ذلك بعيد جداً لا يناسب الرفاقة المفروضة في السؤال.

مضافاً إلي قرب فهم العموم من النصوص الأخر، لإلغاء خصوصية الجهل بصاحب المال عرفاً، وفهم أن المدار علي تعذر إيصال المال للمالك. ولا يبعد بناء الأصحاب علي ذلك.

نعم إذا كانت معرفة المالك مستلزمة لإمكان معرفة وارثه فالظاهر قصور النصوص عنه حتي صحيح يونس، لإمكان الوصول إلي مالك المال بالانتظار،

ص: 413

ويلحقه حينئذٍ حكم مال المفقود من التربص به مدة، ثم دفعه للوارث علي ما يذكر في محله. والظاهر مفروغية الأصحاب عن ذلك.

الثاني: المتيقن من وجوب التصدق ما إذا كان المال المجهول مالكه خارجياً شخصياً، لأنه مورد النصوص المتقدمة.

وأما إذا كان ذمياً - كالقرض وعوض المتلفات والمنافع المستوفاة - فيظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) عموم الحكم له، بل المفروغية عن ذلك. وعليه جري من تأخر عنه حتي شاع في عصورنا وما قاربها أن من الوجوه الشرعية ردّ المظالم التي هي عبارة عن الصدقات المدفوعة لبراءة الذمة مما تنشغل به من حقوق للمجهولين الذين لا يمكن التعرف عليهم ولا الوصول إليهم.

وقد صرح شيخنا الأعظم (قدس سره) بورود الأخبار بالتصدق بالدين المجهول المالك. لكن لم أعثر علي شيء من الأخبار المذكورة عدا مرسلة الصدوق المتقدمة في الاستدلال علي وجوب التصدق في المقام، بناءً علي كون موردها هو مورد صحيح معاوية بن وهب الوارد فيمن له علي رجل حق ففقده، لظهور التعبير فيه في الدين كما سبق.

وقد سبق المنع من الاستدلال بالمرسلة لضعفها، ولقرب كونها مقتطعة من معتبر العباس بن عامر أو المثني بن عبد السلام المتقدم الوارد فيمن أوصي له بوصية فمات قبل أن يقبضها، ولم يعلم أن له ولي، ومن الظاهر أن المال الموصي به ليس ذمياً، بل معيناً، أو كلياً ثابتاً في التركة، يتشخص بتشخيص الوصي.

نعم قد يستدل بنصوص المقام لدعوي إلغاء خصوصية مواردها، وفهم العموم منها، بلحاظ أن المستفاد منها كون الأمر بالتصدق لأنه أقرب طرق إيصال نفع المال للمالك، ولا يفرق في ذلك بين المال الشخصي الخارجي والكلي الذمي.

لكنها تندفع بقرب كون تشريع التصدق للإرفاق بمن عنده المال، لصعوبة حفظ المال، خصوصاً إذا طالت المدة وحصل اليأس من الوصول للمالك عرفاً. بل لو

ص: 414

علم بعدم الوصول له فلا موضوع لحفظ المال، ولابد من حل مشكلته بالتصدق أو بغيره أما إذا كان ذمياً فلا يلزم المحذور المذكور.

مضافاً إلي الإشكال في الذمي بعدم تعينه إلا باتفاق الدائن والمدين علي تعيينه، ولا دليل علي استقلال المدين بتعيينه مع تعذر الوصول للدائن، ليمكن التصدق به عنه.

ودعوي: أنه يلزم الرجوع للحاكم الشرعي، فيقوم مقام المدين في ذلك، لولاية الحاكم علي الغائب. ممنوعة، لما سبق من عدم ثبوت عموم ولاية الحاكم علي الغائب. وولايته حسبة إنما تنفع في موارد العلم بوجوب التصدق وعدم ثبوت الولي عليه، والمفروض في المقام الشك في وجوب التصدق. لاختصاص دليله بالمال الخارجي.

هذا وقد ذكر الشيخ (قدس سره) وجماعة أن من كان عليه دين لغائب لا يقدر عليه وجب عليه عزل دينه - مطلقاً أو إذا حضرته الوفاة - ثم يوصي به. وقد يدعي الإجماع علي ذلك.

فإن كان مرادهم به براءة ذمة المدين بذلك، لتعين الدين في المال المعزول، ويكون أمانة في يده أو يد من يوصي إليه به لا يضمن إلا بالتفريط، أشكل بأنه خروج عن مقتضي استصحاب بقاء الدين في الذمة من دون دليل بعد ما سبق من عدم الدليل علي استقلال المدين بعزل الدين، وأنه لو فرض استقلاله بالولاية علي ذلك فلا دليل علي وجوبه.

ودعوي: أن ذلك أحري بحفظ الحق لصاحبه، لتعرض أمواله للتلف، خصوصاً بعد وفاته، حيث تتوجه الأطماع للتركة ممن لا يهمهم حفظ الحق لصاحبه.

مدفوعة: أولاً: بأن ذلك يختلف باختلاف الموارد، إذ قد يكون حفظ المال المعزول بعد تعيين الدين به أصعب من حفظ مجموع مال المدين أو حفظ الحق في تركته، ولا ضابط لذلك. وثانياً: بأن مجرد كون ذلك أحري بحفظ الحق لصاحبه لا يقتضي وجوبه ما لم يكن تركه تفريطاً في أداء الدين عرفاً.

ص: 415

وإن كان مرادهم وجوب العزل من أجل التحفظ علي الحق من الضياع، بإفلاس المدين في حياته، أو تعرض تركته للضياع بسبب تعلق أطماع من لا يهمه أداء الدين لصاحبه منها، من دون أن يتعين الدين في المال المعزول، ولا تبرأ منه ذمة المدين، وعلي ذلك فالعزل لمجرد تيسر وفاء الدين بذلك المال مع بقائه علي ملك المدين إلي أن يتحقق الوفاء به.

ففيه: أولاً: أنه لا دليل علي وجوب ذلك بعد عدم تحقق الوفاء به. وثانياً: أن المال المعزول إذا لم يتعين الدين به ولم يخرج عن ملك المدين فلا أثر للعزل في حفظ الدين، لأن المال المذكور يبقي كسائر أموال المدين مورداً لتزاحم الحقوق الواردة عليه وعلي ماله، ولا معين له في وفاء الدين المذكور، بحيث يترجح هذا الدين علي غيره من المصارف، بل ليس الدين المذكور إلا كسائر الديون غير المطالب بها فعلاً.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال فيما في الشرايع والقواعد من الجمع بين الحكم بعزل الدين الذي لا يقدر علي صاحبه والتردد في وجوب التصدق به بعد اليأس من العثور علي صاحبه.

إذ العزل إن كان موجباً لتعيين الدين في المال المعزول، تعين وجوب التصدق بذلك المال، كسائر أفراد المال الخارجي المجهول صاحبه بعد اليأس من الوصول له. وإن لم يكن موجباً لتعيين الدين في المال المعزول تعين عدم وجوب التصدق، إذ لا يحتمل وجوب التصدق علي المدين مع بقاء الدين في ذمته.

اللهم إلا أن يرجع التردد منهما في وجوب التصدق به للتردد في تعين الدين في المال المعزول بمجرد العزل أو بعد اليأس من الوصول للمالك. إذ لو رجع التردد منهما لاحتمال وجوب تفريغ الذمة من الدين بالصدقة من دون أن يتعين الدين في المال المعزول، فالمناسب منهما حينئذٍ الاكتفاء في الخروج عن الاحتمال المذكور بالتصدق مطلقاً ولو بغير المال المعزول، ولم يبق وجه لوجوب العزل.

وكيف كان فلا مجال للتعدي عن مورد نصوص المقام، وهو المال الخارجي،

ص: 416

وفهم العموم منها للذمي بعد ما سبق.

مضافاً إلي أمرين:

أحدهما: ما يظهر من بعض النصوص من عدم وجوب التصدق: منها: موثق زرارة أو صحيحه: "سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يكون عليه الدين لا يقدر علي صاحبه، ولا علي ولي له، ولا يدري بأي أرض هو. قال: لا جناح عليه بعد أن يعلم الله منه أن نيته الأداء"(1).

ويؤيده أو يعضده ما تقدم في صحيح معاوية بن وهب من الاقتصار علي الأمر بالطلب فيمن له علي رجل حق ففقده، وعدم تشريع التصدق حتي مع طول المدة، لما سبق من ظهور الحق فيه في الذمي، فإنه وإن سبق أن طول المدة لا يستلزم اليأس من العثور علي صاحب الحق، إلا أنه يكفي عمومه له مورداً، بل كونه أظهر موارده.

ومثله في ذلك صحيح هشام بن سالم عن أبي إبراهيم المتقدم، حيث لا يبعد ظهور قوله فيه:" وبقي من أجره شيء "في الذمي، ولو كان قد قبض الأجر وتعين لكان الأنسب التعبير بأنه قد بقي له دراهم مثلاً. ولا أقل من عمومه للذمي، فينفع في المقام.

ومنها: خبر علي بن أبي حمزة المتقدم الوارد في عامل بني أمية الذي تاب واستأذن له علي الإمام الصادق (عليه السلام)، حيث اقتصر (عليه السلام) فيه علي حكم المال الموجود من دون تنبيه للتخلص من تبعة المال الذي أنفقه أو تلف عنده في المدة الطويلة في حق من لا يعرفه، وأنه يجب عليه التصدق بقدره عنه من المال الموجود عنده، أو الذي يحصله بعد ذلك من وجوه الحلال.

ومنها: موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

من ظلم أحداً وفاته، فليستغفر الله له، فإنه كفارة له" (2) . لظهور أن كثيراً من أنحاء الظلم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 22 من أبواب الدين والقرض حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 78 من أبواب جهاد النفس حديث: 5.

ص: 417

أو أكثره يستتبع الضمان المالي، إما لكون الظلامة مالية، أو لكونها بدنية مضمونة بالمال، فالاقتصار علي الاستغفار كالصريح في عدم وجوب غيره من البدل المالي بأن يتصدق به أو غيره.

ثانيهما: أن انشغال الذمم للمجهول ومن لا يقدر الوصول له شايع في جميع العصور بما في ذلك عصور المعصومين (صلوات الله عليهم)، كما في السراق وولاة الجور والمرابين وسائر من يمارس المعاملات المحرمة والباطلة، ويتعرض للتعدي علي أموال الناس عمداً أو جهلاً، وكثيراً ما يتوب العامد من عمله، أو ينكشف الحال للجاهل، ومن الطبيعي أن يطلب المخرج، وهو ظاهر في حق من يعرفه ويقدر علي الوصول إليه، حيث لا إشكال في وجوب ردّ الحق له، عملاً بمقتضي القاعدة، وبه تظافرت النصوص(1).

أما في حق من لا يعرفه أو لا يقدر علي الوصول إليه فمن القريب جداً بناء الناس - بمقتضي طبعهم الأولي - علي أن تعذر الوصول إليه وإيصال الحق له كاف في المعذرية من جهته، ويحتاج معرفة التكليف بالبدل - من التصدق أو غيره - للتنبيه من قبل الشارع الأقدس، فلو كان ثابتاً لكثر التنبيه عليه في النصوص، وكثر السؤال عن ذلك وعن فروعه، كما نجده الآن حين أفتي الفقهاء بذلك وجروا عليه. فسكوت النصوص عن ذلك يناسب قيام السيرة علي عدمه، ويشرف بالإنسان علي القطع بذلك.

ومن هنا يقوي البناء علي عدم وجوب التصدق في المقام، والاكتفاء بالعزم علي نية الوفاء لو قدر علي صاحب الحق، لما تقدم في حديث زرارة، وبالاستغفار لصاحب المال، لموثق السكوني، لكن مع تعمد ظلمه بأخذ المال، ليكون ذنباً يحتاج للكفارة. بل قد يقال بوجوبه مطلقاً، عملاً بإطلاق الموثق، بحمل الكفارة فيه علي تكفير الظلم وسقوط تبعته، ولو كانت أمراً غير العقاب الذي ينحصر سببه بالذنب. فلاحظ.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 11 باب: 78 من أبواب فعل المعروف، وج: 12 باب: 47، 76 من أبواب ما يكتسب به، وباب: 3 من أبواب عقد البيع وشروطه وغيرها.

ص: 418

إن قلت: إن بني علي عدم وجوب التصدق في المقام علي من عليه الحق - من أجل ما سبق - فلا مجال للبناء علي براءة ذمته من المال بغير الأداء. وحينئذٍ له المطالبة بتفريغ ذمته منه، لأن بقاء انشغال ذمته به ضرر عليه، فيتعين استقلاله بعزله، أو الرجوع في ذلك للحاكم الشرعي، لولايته عليه ولو حسبة، بنحو يكون المتيقن من نفوذ العزل ما إذا كان بإذنه.

قلت: الضرر المذكور - لو تم - لا يكفي في مشروعية العزل مع عدم القدرة علي المالك، لمنافاته للامتنان في حقه بعد عدم سقوط حرمته بامتناعه. ولاسيما مع ما تقدم في صحيحي معاوية بن وهب وهشام بن سالم من الاقتصار علي الأمر بطلب صاحب الحق وعدم تشريع التصدق وإن طالت المدة.

إن قلت: لو تم ذلك في حق من عليه الحق فلا مجال له في حق وارثه، لما هو المعلوم من ثبوت ديون الميت في تركته، وعدم جواز تصرف الوارث في التركة قبل وفاء الدين، ومنع الوارث من التركة ضرر عليه، بل يقطع بعدم رضا الشارع الأقدس به، فيتعين عزل الدين ثم التصرف في التركة، كما لا يبعد بناؤهم عليه في الدين المعلوم المالك إذا لم يتيسر المبادرة لوفائه، كغيبة الدائن أو نحو ذلك، ومع عزل الدين وتعينه في المعزول يتعين جريان حكم المال الخارجي المجهول المالك عليه، وهو التصدق به.

قلت: الظاهر عدم مانعية الدين المذكور من تصرف الوارث في التركة، كما هو مقتضي قوله (عليه السلام) في صحيح هشام بن سالم المتقدم: "فإن قدرت عليه، وإلا فهو كسبيل مالك حتي يجيء له طالب، فإن حدث بك حدث فأوص به إن جاء له طالب أن يدفع إليه" .لظهوره في كونه بحكم ماله مطلقاً ولو بعد وفاته ما لم يجيء له طالب.

بل هو المستفاد تبعاً من جميع ما يظهر منه عدم تكليف المدين بالوفاء، كحديث زرارة وموثق السكوني وخبر علي بن أبي حمزة المتقدمة، لما هو المعلوم من تبعية الوارث للمدين، فمع عدم تكليف المدين بالوفاء يغفل عن تكليف وارثه به، فسكوت هذه النصوص وغيرها عن التنبيه لذلك، وعن وجوب الوصية بالدين من أجله، يوجب

ص: 419

ظهوره تبعاً في عدمه. وأظهر من ذلك السيرة التي أشرنا إليها، حيث لا إشكال في عمومها للمدين ووارثه. فلاحظ والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

هذا وقد صرح كاشف الغطاء في شرحه علي القواعد في مسألة جوائز الظالم بأن ما يأخذه الظالم غصباً مضمون عليه ويقاص به من ماله، إلا أنه إذا تلف لا يلحقه حكم الدين في التقديم علي الوصايا والمواريث. قال: "ويؤخذ من الظالم قهراً مع الإمكان إن بقيت في يده، وعوضها مع التلف، ويقاص بها من أمواله مع حياته... إلا أن ما في يده من المظالم تالفاً لا يلحقه حكم الديون في التقديم علي الوصايا والمواريث، لعدم انصراف الدين إليه وإن كان منه، وبقاء عموم الوصية والمواريث علي حاله. وللسيرة المأخوذة يداً بيد من مبدأ الإسلام إلي يومنا هذا...".

وفي الجواهر أنه لم يجد له موافقاً في ذلك. علي أنه في غاية المنع، كما ذكره في الجواهر شيخنا الأعظم (قدس سره). لمنع الانصراف. بل لا معني للتفريق فيه بين أحكام الدين، فتجوز المقاصة به ويجب عليه وفاؤه في حياته، ولا يترتب عليه الأثر في تركته بعد وفاته. كما لا معني للتفريق فيه بين الجائر وغيره. ولعدم ثبوت السيرة بين المتدينين بنحو تكشف عن رأي المعصوم الحجة.

وإنما تختص السيرة بما ذكرنا من فرض عدم معرفة صاحب الحق وتعذر الوصول إليه من دون فرق بين حياة المدين وموته، ولا بين الظالم وغيره. كما أن الذي يدعم السيرة ما ذكرناه من الأدلة، دون الانصراف.

نعم كثيراً ما لا يكون الظالم ضامنا لما يأخذه، لعدم وضع يده عليه، بل يستعين بأتباعه، فيكونون هم المباشرين للظلم بأخذ المال وإتلافه، والضمان حينئذٍ عليهم، لا عليه. إلا أن يريد (قدس سره) بالظالم ما يعمّ الأتباع. فلا يظهر الأثر لذلك في مدعاه.

الثالث: هل يستقل من بيده المال المجهول المالك بالتصدق به، أو لابد له من استئذان الحاكم الشرعي فيه ؟ مقتضي إطلاق النصوص المتقدمة وفتاوي الأصحاب في المقام وغيره من موارد مجهول المالك الأول.

ص: 420

لكن قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "ويمكن أن يقال: إن أخبار التصدق واردة في مقام إذن الإمام (عليه السلام) بالصدقة. أو محمولة علي بيان المصرف، فإنك إذا تأملت كثيراً من التصرفات الموقوفة علي إذن الحاكم وجدتها واردة في النصوص علي طريق الحكم العام، كإقامة البينة والإحلاف والمقاصة. وكيف كان فالأحوط - خصوصاً بملاحظة ما دلّ علي أن مجهول المالك مال الإمام (عليه السلام) - مراجعة الحاكم في الدفع إليه أو استئذانه.

ويتأكد ذلك في الدين المجهول المالك، إذ الكلي لا يتشخص للغريم إلا بقبض الحاكم الذي هو وليه، وإن كان ظاهر الأخبار الواردة فيه ثبوت الولاية للمديون".

وفيه: أن حمل أخبار التصدق علي بيان إذن الإمام (عليه السلام) بالصدقة مخالف لظاهرها جداً، لظهور حال السائل في السؤال عن حكم المال شرعاً، لا في الاستئذان في التصدق به بعد الفراغ عن وجوبه شرعاً وعن لزوم استئذان الإمام فيه، ومقتضي مطابقة الجواب للسؤال حمل الأمر بالتصدق علي أنه الحكم الشرعي، لا الحكم الشخصي الراجع للإذن فيه. بل هو كالصريح من قوله (عليه السلام) في حديث تراب الصاغة: "إما لك وإما لأهله" لوضوح عدم احتياج تصدق الإنسان بماله للإذن. وحينئذٍ يكون مقتضي إطلاقه عدم اعتبار إذن الإمام فيه، فضلاً عن الحاكم الشرعي.

ومثله في الإشكال حمل الأخبار المذكورة علي بيان المصرف الشرعي من دون نظر لمن يتولي صرفه فيه وشروط صرفه، كي لا يكون له إطلاق يقتضي قيام من عنده المال به من دون حاجة للاستئذان. إذ هو مخالف لظاهر خطاب من عنده المال بالتصدق الظاهر في توليه له بنفسه من دون حاجة للاستئذان.

ومثله في ذلك المقاصة. ولذا كان الظاهر عدم الحاجة للاستئذان فيها، عملاً بإطلاق أدلتها الظاهرة في قيام صاحب الحق بها بمجرد ثبوت الحق له وإن لم يستأذن.

وكذا الحال في إقامة البينة والعمل بها، فإن مقتضي إطلاق أدلة حجيتها عموم

ص: 421

حجيتها لكل أحد ولو في غير مورد القضاء وفصل الخصومة. بل يكفي في حجيتها قيامها بنفسها ولو لم يقمها صاحب الحق.

نعم فصل الخصومة بها مختص بالحاكم، لأنه من شؤون القضاء المختص به. وكذا الإحلاف، بل لا أثر له إلا فصل الخصومة التي هي وظيفة القاضي. وأما الحجة في مورده فهي اليد والأصل ونحوهما مما يكون موافقه هو المنكر، وهو حجة في نفسه في حق كل أحد من دون حاجة لليمين. ومن ثم يتعين حمل أدلة الإحلاف علي بيان وظيفة القاضي دون غيره.

وبعبارة أخري: حمل الإطلاق علي ما ذكره يحتاج إلي قرينة خاصة كما في الإحلاف، ومع عدمها يتعين البناء علي مقتضي الإطلاق، كما في المقام.

وأما ما تضمن أن مجهول المالك ملك الإمام (عليه السلام) فهو - لو تم - يقتضي بدواً وجوب استئذان الإمام في صرفه، ومع تعذر الرجوع له يتعين الاحتياط بالرجوع للحاكم، لاحتمال قيامه مقامه في ذلك، كما هو الحال في سهم الإمام (عليه السلام). لكن سبق قصوره سنداً ودلالة.

مع أن مقتضي الجمع بينه وبين نصوص التصدق أن المال وإن كان له (عليه السلام)، إلا أنه قد عين صرفه بالتصدق، كما سبق نظير ملكه (عليه السلام) للأرض الموات مع ترخيصه في تملكها بالحيازة، وحينئذٍ فمقتضي إطلاق نصوص التصدق ولاية من بيده المال عليه من دون حاجة إلي مراجعة الإمام (عليه السلام) فضلاً عن الحاكم الشرعي، وليس هو كسهمه (عليه السلام) لم يخاطب شخص خاص بمصرف خاص له، ليكون مقتضي إطلاق الخطاب تولي ذلك الشخص له، بل لابد من الاحتياط بمراجعة الحاكم.

ودعوي: أنه حيث لا يمكن البناء علي ملكية الإمام لمجهول المالك لنصوص التصدق ولعدم بناء الأصحاب عليه، يتعين حمل الحديث علي أنه ليس ملكاً له (عليه السلام)، بل يجب الرجوع إليه فيه، واستئذانه في التصدق به، وحينئذٍ فمع تعذر استئذانه - كما في زماننا - يتعين استئذان الحاكم، لاحتمال قيامه مقامه.

ص: 422

مدفوعة بأن الجمع بينه وبين نصوص التصدق بذلك ليس عرفياً، بل الأقرب الجمع بما ذكرنا. وأما عدم بناء الأصحاب علي ملكيته (عليه السلام) للمال فهو إن رجع إلي الإعراض عن الحديث أسقطه عن الحجية لو كان حجة في نفسه، وإلا لم يصلح للتصرف في دلالته وحمله علي خلاف ظاهره.

وأما الدين المجهول المالك فقد عرفت عدم وجوب التصدق به وخروجه عن محل الكلام. مع أنه لو تم وجوب التصدق به للأخبار الخاصة التي ادعاها فلا ملزم بالاحتياط فيه باستئذان الحاكم بعد ما اعترف (قدس سره) به من ظهور تلك الأخبار في ثبوت الولاية للمديون.

وكذا الحال لو بني علي استفادته من إطلاق نصوص التصدق المتقدمة، لما سبق من ظهورها في ولاية المخاطب بالتصدق عليه. ومن ثم لا مجال للبناء علي وجوب استئذان الحاكم في الدين - لو تم وجوب التصدق به - فضلاً عن المال الخارجي. بل يتعين استقلال من بيده المال بذلك، كما عرفت أنه ظاهر الأصحاب.

نعم ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) جواز الدفع للحاكم، لكونه أعرف بمواقع التصدق، ولولايته علي مستحقي الصدقة.

لكن الأول - مع عدم اطراده - إنما يقتضي توكيله في التصدق - الذي عرفت أنه وظيفة من بيده المال - أو الاسترشاد برأيه، ولا يقتضي الاكتفاء بدفع المال له. ولازم ذلك عدم براءة ذمة من بيده المال إلا بوقوع التصدق من الحاكم، أو ممن بيده المال مع الاسترشاد برأيه.

والثاني لا دليل عليه، كما سبق في نظيره، وهو ولايته علي الغائب. مع أنه لو تمّ فلا ينفع في المقام، لظهور الأدلة في لزوم التصدق علي أشخاص الفقراء، لا التصدق علي النوع مع التخيير في دفعه بعد ذلك لأشخاصهم. بل لم يثبت مشروعية مثل هذا التصدق.

وأما دفع مثل الزكاة للإمام أو للحاكم الشرعي بناءً علي نيابته عنه في ذلك.

ص: 423

فليس هو من التصدق علي النوع بالدفع إلي وليه. بل لولاية الإمام علي المال الزكوي بعد تعينه بالعزل، بل حتي قبل تعينه، فله المطالبة به، جعله طرفاً لعقد معاوضي، ونحو ذلك.

وكون الزكاة من الصدقات ليس من أجل التصدق بها، بل لكونها بنفسها صدقة، نظير نماء الوقف. ولا مجال لمثل ذلك في المقام بعد ظهور الأدلة في وجوب التصدق بالمال، وما هو المعلوم من بقاء المال علي ملك صاحبه إلي حين التصدق به.

ومن ذلك يظهر أن دفع المال للحاكم لا يكفي في براء ذمة من بيده المال منه، بل لابد من رجوع الدفع إليه إلي توكيله في التصدق، مع عدم تحقق الامتثال والخروج عن العهدة إلا بتحقق التصدق منه، كما هو الحال في سائر موارد التوكيل في أداء الواجب والقيام به.

نعم لا يبعد جواز الدفع للحاكم وغيره، لا بعنوان التوكيل، بل من أجل أن يقوم هو بالوظيفة المطلوبة في المال استقلالاً. فإن الظاهر عدم اختصاص التكليف بالوظيفة من الفحص عن المالك ثم التصدق بمن وقع المال بيده أولاً، ليتعين قيامه به مباشرة أو توكيلاً، بل يعمّ كل من وقع المال بيده، كما هو المناسب للمرتكزات المتشرعية.

ويقتضيه إطلاق صحيح يونس المتقدم في رفيق كان لنا بمكة فرحل منها إلي منزله وأصبنا بعض متاعه معنا في الطريق، لظهوره في أن متاع الرجل المفقود كان مع جماعة أحدهم السائل، ومع ذلك لم ينبه الإمام (عليه السلام) إلي لزوم وقوع التصدق ممن وقع المال بيده أولاً أو بإذنه وكالة عنه.

وبذلك يظهر جواز قيام كل من يصير المال بيده بإجراء حكم مجهول المالك عليه أصالة، سواءً كان هو أول من وقع بيده المال أم غيره، إما لدفعه المال له، أو لتفريطه في القيام بالوظيفة، أو لخروجه عن يد الأول بضياع أو نحوه، أو غير ذلك.

نعم لا تبرأ ذمة كل واحد ممن وقع المال بيده إلا بوقوع التصدق من أحدهم،

ص: 424

نظير الواجب الكفائي. إلا أن تكون يد أحدهم غير مضمنة للمال، كما إذا كان مستأمناً من صاحب المال، أو ممن استولي عليه ولم يكن في مقام التفريط به والخروج عن مقتضي الوظيفة فيه. فلاحظ.

كما أنه يشكل جواز مزاحمة من بيده المال بأخذه منه قهراً عليه إذا كان هو في مقام أداء الوظيفة فيه. لعدم وضوح الدليل علي جواز ذلك بعد كونه مخالفاً لعموم حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه. فلاحظ.

الرابع: هل يضمن من بيده المال لو ظهر المالك فلم يرض بالصدقة ؟ وجهان قرب شيخنا الأعظم (قدس سره) الضمان، وقد يظهر من الجواهر في مسألة جوائز السلطان المفروغية عنه، كما قد يظهر من السرائر الإجماع عليه، حيث نسبه لرواية أصحابنا، وإن كان هو لا يناسب إهماله في كلام غير واحد، كالشيخ في النهاية، والمحقق في الشرايع، والعلامة في القواعد.

وكيف كان فهو مقتضي عموم ضمان اليد، بل حتي ضمان الإتلاف لو كان التصدق بنحو يمنع المالك من الوصول للمال، حيث يرجع إلي إتلاف المال عليه. من دون فرق في ذلك بين كون يد من بيده المال أمانية وكونها عدوانية، لأن اليد الأمانية وإن لم تقتض الضمان، إلا أنها لا تمنع من ضمان الإتلاف الحاصل بالتصدق المذكور.

لكن مقتضي نصوص التصدق عدم الضمان، لأن الإذن فيه شرعاً لا يناسب الضمان معه عرفاً، ولاسيما وأن قاعدة الضمان بالإتلاف لم تستفد من إطلاق دليل شرعي، وإنما استفيدت من الحكم بالضمان في موارد متفرقة يجمعها عرفاً الإتلاف، والمتيقن من الإتلاف حينئذٍ هو الإتلاف غير المأذون فيه شرعاً.

بل حتي ضمان اليد من القريب ارتفاعه بالتصدق، لظهور أدلة التصدق في كونه مخرجاً عن تبعة المال، فسكوت النصوص عن التنبيه للضمان مباشرة أو عند ظهور المالك يوجب ظهورها - ولو بإطلاقها المقامي - في عدم الضمان.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أنه ليس هنا أمر مطلق بالتصدق ساكت

ص: 425

عن ذكر الضمان، كي يستظهر منه عدمه، فهو غريب. إلا أن يبتني ذلك منه علي أن الدليل في المسألة مرسلة السرائر دون بقية النصوص، بل هي مؤيدة لا غير، كما سبق منه، وسبق منّا الإشكال فيه.

إن قلت: المناسبات الارتكازية قاضية بأن التصدق هو حكم المال الذي يتعذر الوصول لصاحبه، وليس اليأس من الوصول لصاحب المال أو القطع بعدم الوصول له إلا من سنخ الطريق المحرز لذلك من دون أن يكون مأخوذاً في موضوعه واقعاً.

ولذا لو تحقق اليأس أو القطع بعدم الوصول للمالك ثم ظهر المالك قبل التصدق لا ينقلب حكم المال واقعاً من مشروعية التصدق به إلي وجوب تسليمه للمالك، بل ينكشف الخطأ في اعتقاد مشروعية التصدق به، وبقاء وجوب تسليمه للمالك الثابت من أول الأمر.

كما أنه لو بادر من بيده المال للتصدق بالمال غفلة أو تسامحاً قبل استكمال الفحص عن المالك واليأس من العثور عليه، ثم لم يعثر علي المالك حتي تحقق اليأس منه أو قطع بعدمه، انكشف وقوع التصدق في محله.

وحينئذٍ إذا حصل اليأس لمن بيده المال أو القطع بعدم العثور علي المالك، فتصدق بالمال، ثم عثر علي المالك علي خلاف ما كان يتوقع، فهو وإن كان معذوراً في التصدق، إلا أنه ينكشف وقوعه في غير محله، وأنه غير مأذون به شرعاً في الواقع، ويتعين كونه مورداً لضمان الإتلاف، كسائر موارد تصرف الفضولي.

نظير ما لو اعتقد الوكيل الإذن من الموكل في التصدق بالمال، فتصدق به، ثم انكشف عدم الإذن فيه، أو اعتقد الولي أن المال للمولي عليه فأنفقه في صلاحه ثم انكشف أنه أمانة لغيره غير مأذون في التصرف به.

قلت: ما ذكر وإن كان قريباً جداً، إلا أن البناء علي أن ظهور المالك كاشف عن عدم الإذن واقعاً في التصدق وعن عدم كونه مشروعاً ولا نافذاً مستلزم للبناء علي ضمان من بيده المال المتصدق به في طول ضمان الفقير المتصدق عليه وكل من يقع

ص: 426

المال بيده من بعده، كما هو الحال في سائر موارد تعاقب الأيدي، حيث يضمن الكل، ويستقر الضمان علي المتأخر علي تفصيل وكلام يأتي في محله إن شاء الله تعالي في فروع بيع الفضولي.

والظاهر أنه لا يمكن البناء علي ذلك بل قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "لم يقل أحد برجوع المالك علي الفقير مع بقاء العين" ،فكيف يمكن البناء علي ذلك مع تلفها؟!.

ومن هنا لا بد من البناء علي صحة التصدق واقعاً بإقدام من بيده المال عليه، إما لكونه مشروعاً واقعاً بمجرد حصول اليأس من المالك، أو لتنفيذ الشارع له حين وقوعه وإن لم يكن مشروعاً واقعاً في فرض القدرة بعد ذلك علي المالك، نظير حكمه بصحة الصلاة في النجس جهلاً وإن لم تطابق المأمور به الواقعي، وحينئذٍ لا يكون تسليم المال للفقير سبباً لضمان الإتلاف بعد صيرورته بالتصدق مالكاً له شرعاً.

غاية الأمر أن يحتمل حكم الشارع الأقدس بالضمان والانتقال للبدل، إما بمجرد التصدق، أو بظهور المالك. وكلاهما مخالف للأصل، بل مخالف لظهور دليل التصدق في كونه موجباً للتخلص من تبعة المال، كما سبق، فبعد فرض صحته واقعاً يتعين عدم الضمان به.

وبذلك يظهر ضعف ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من الاستدلال باستصحاب الضمان في مورد كون اليد غير أمانية. حيث يتعين الخروج عنه بالنصوص المذكورة.

وأشكل منه ما ذكره (قدس سره) من الاستدلال به للضمان حتي في اليد غير الضمانية بضميمة عدم الفصل، لتقديمه علي البراءة عند المعارضة.

لاندفاعه - بعد تسليم جريان الاستصحاب وغض النظر عن النصوص -:

أولاً: بأن مجرد عدم الفصل لا ينهض حجة ما لم يبلغ حدّ الإجماع علي الملازمة بين الموردين، وهو غير حاصل في المقام.

وثانياً: بأن الملازمة بين الموردين لا تكفي في الاستدلال بالاستصحاب في غير مورده إلا من باب الأصل المثبت الذي لا يعول عليه علي المشهور المنصور عنده

ص: 427

وعندنا. ولذا كان التفكيك بين المتلازمات شايعاً في جريان الاستصحاب وغيره من الأصول. إلا أن ترجع الملازمة إلي التلازم بين الموردين واقعاً وظاهراً، حيث يتعين حينئذٍ قصور أحد الأصلين في أحد الموردين، وخروجه عن عموم دليله تخصيصاً. ومن البعيد جداً البناء في المقام علي الملازمة بالنحو المذكور.

وثالثاً: بأن الاستصحاب إنما يحكم علي البراءة مع اتحادهما مورداً، ولا وجه لتحكيمه عليها مع اختلافهما مورداً، كما في المقام، لعدم المرجح. بل حيث سبق رجوع الملازمة بالوجه المتقدم إلي قصور أحد الأصلين في أحد الموردين، وخروجه عن عموم دليله تخصيصاً، يتعين سقوط كل من الاستصحاب والبراءة الشرعية في المقام، والرجوع في الموردين للبراءة العقلية القاضية بعدم الضمان. بل هو مقتضي البراءة الشرعية أيضاً في مورد اليد غير الأمانية بعد فرض سقوط استصحاب الضمان فيه. وبالجملة: لا مجال لاستصحاب الضمان في مورد اليد العدوانية، فضلاً عن مورد اليد الأمانية.

ومثله ما ذكره (قدس سره) من الاستدلال بمرسلة السرائر التي سبق منه انجبارها بالشهرة لما سبق منّا من عدم نهوضها بالاستدلال، لقرب رجوعها للروايات التي ذكرها الأصحاب، وعدم وضوح انجبارها بالشهرة لو كانت رواية مستقلة غيرها.

والظاهر أن منشأ احتمال الضمان في المقام هو النصوص الواردة في اللقطة وما ألحق بها، وهو وديعة اللص التي هي مورد خبر حفص بن غياث، فإن اللقطة وإن كانت تختلف عما نحن فيه موضوعاً وحكماً، إلا أنه قد يتعدي في الحكم بالضمان فيها لسائر أفراد مجهول المالك، ويفهم أن الحكم المذكور إنما ثبت فيها للاهتمام بحرمة المالك، وأن التصدق أو التملك إنما هو لحلّ المشكلة مادام الوصول له متعذراً.

لكن الإنصاف أن ذلك لا يخرج عن الظن والتخرص، ولا يبلغ مرتبة الاستدلال، ولاسيما مع ما ورد في النصوص الكثيرة من النهي عن الالتقاط، حيث يناسب ذلك خصوصية اللقطة في التثقيل علي الملتقط والحكم عليه بالضمان، ويصعب

ص: 428

معه الجزم بالعموم لكل أفراد مجهول المالك، خصوصاً ما كان وقوعه تحت اليد غفلة أو قهراً، ولعله لذا قوي في الجواهر عدم الضمان في المقام.

وإن كان الاحتياط بالضمان حسناً علي كل حال. ولاسيما مع العدوان ممن بيده المال، كما في السارق والأمين المتهاون في إرجاع الأمانة لصاحبها حتي تعذر الوصول إليه ونحوهما.

بل قد يلزم الاحتياط حينئذٍ، إذ من البعيد جداً رضا الشارع الأقدس بخسارة المالك من دون ضمان له ممن بيده المال مع تفريطه وتعديه وتضييعه المال علي المالك.

علي أنه قد يقال: حيث لا عموم في أدلة التصدق بمجهول المالك، وإنما ورد في موارد متفرقة، وقد استفيد منها العموم بضميمة إلغاء خصوصية تلك الموارد، فالمتيقن التعدي لغير موارد التفريط، لاختصاص النصوص المتقدمة بغيرها. وأما في موارد التفريط فالمتيقن مشروعية التصدق مع تعذر الوصول للمالك واقعاً، حيث لا موضوع معه لحفظ المال للمالك، ولا يحتمل جواز تصرف من بيده المال فيه وأخذه له، بحيث يكون أحسن حالاً من غير المفرط، فلم يبق إلا التصدق. ولا أقل من استفادة تشريعه من نصوص المقام بتنقيح المناط، ولو بضميمة ظهور مفروغية الأصحاب. وذلك يقتضي الاقتصار في إثبات مشروعيته وصحته علي المتيقن، وهو تعذر الوصول للمالك واقعاً، ولا مجال للبناء علي مشروعيته وصحته بمجرد اليأس، فمع ظهور المالك ينكشف عدم مشروعيته. ولا طريق لإثبات صحته بعد ما سبق من قصور النصوص المتقدمة عنه. ومن هنا يتعين البناء علي ضمان من بيده المال، بل حتي الفقير ومن بعده ممن يقع المال تحت يده، كما يظهر مما سبق.

ولو فرض القطع بعدم ضمان الفقير - ولو لمفروغية الأصحاب - فلا مجال للبناء علي عدم ضمان من بيده المال بعد كون مقتضي القاعدة ضمانه من دون مخرج عنها. وإن كان الأمر بعد لا يخلو عن إشكال. والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.

هذا وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) في تقريب عدم الضمان مطلقاً من أن

ص: 429

التصدق بمجهول المالك لو كان موجباً للضمان وانشغال الذمة بالبدل لزم التصدق بالبدل، لكونه مجهول المالك أيضاً، وهكذا فيلزم التسلسل، وهو مقطوع البطلان.

فيندفع - مضافاً إلي ما سبق من عدم وجوب التصدق بمجهول المالك إذا كان ذمياً - بأن ذلك إنما يكشف عن عدم وجوب التصدق بالبدل في المقام، لا عن عدم ثبوت البدل في الذمة. فالعمدة في المقام ما سبق. فلاحظ.

هذا ولو تم الوجه للضمان - مطلقاً أو في بعض الحالات - ففي الجواهر: "ولو أراد السلامة من ذلك سلمه إلي الحاكم الذي هو ولي الغائب، والإيصال إليه بمنزلة الوصول للمالك" .ويظهر ضعفه مما سبق من عدم ثبوت ولاية الحاكم، وإنما يجوز الدفع للحاكم بتوكيل من بيده المال بالتصدق بدلاً عنه. وحينئذٍ لا يرتفع الضمان عمن بيده المال، لعدم إيصاله المال للمالك ولا لمن يقوم مقامه.

الخامس: قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "ثم إن مستحق هذه الصدقة هو الفقير، لأنه المتبادر من إطلاق الأمر بالتصدق" .وبه صرح أيضاً في النهاية والسرائر والروضة في حكم تراب الصاغة، وإليه يرجع ما في المسالك وعن حواشي الشهيد في المسألة المذكورة من أن مصرفها مصرف الصدقات الواجبة، ونسبه في الرياض في تلك المسألة للأصحاب، وظاهر الجواهر في فروع المال المختلط بالحرام المفروغية عنه.

وكيف كان فربما يقال: إن مقتضي إطلاق الأمر بالتصدق في نصوص المقام هو جواز التصدق علي الغني، لعدم أخذ الفقر في مفهوم الصدقة، كما هو مقتضي إطلاق تعريفهم للصدقة بأنها العطية لوجه الله تعالي، في مقابل الهدية والهبة، حيث لا يؤخذ فيهما التقرب، ومن الظاهر إمكان التقرب بالعطية للغني ولو من حيثية كونه إحساناً للمؤمن. ومن ثم جزم شيخنا الأستاذ (قدس سره) بعموم مفهوم الصدقة، بنحو تشمل الصدقة علي الغني.

لكنه يشكل بأنه لا مجال للبناء علي عموم التعريف المذكور، بحيث تكون كل عطية عن تقرب صدقة، إذ لا إشكال في إمكان التقرب بالهدية والهبة من دون أن

ص: 430

يكونا صدقة، كما في التقرب بإهداء ثلث الهدي، وبالهدية والهبة للرحم وللمؤمن ونحو ذلك من موارد انطباق جهة قربية علي الهبة والهدية. ومن هنا لابد من رجوع التعريف إلي اعتبار التقرب في الصدقة دون الهدية والهبة، من دون نظر إلي إطلاق الصدقة من بقية الجهات، ليكشف عن عدم أخذ الفقر فيها.

ومثله الاستشهاد للعموم المذكور: تارة: بما في غير واحد من النصوص منها صحيح معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): كل معروف صدقة" (1) بل في خبر الحارث عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم): "قال: كل معروف صدقة إلي غني أو فقير، فتصدقوا ولو بشق التمرة..."(2). وأخري: بأنه لا إشكال في جواز الوقف علي الغني، مع أنه من الصدقات.

لاندفاع الأول بأن الظاهر عدم ورود النصوص المذكورة لشرح مفهوم الصدقة الحقيقي، لما هو المعلوم من أن المعروف يشمل مثل حسن الخلق والإعانة علي قضاء الحوائج ونحوهما مما لا يكون من سنخ العطية التي هي مقومة عرفاً لمفهوم الصدقة التي هي محل الكلام، بل لابد من حمله علي التنزيل بلحاظ ثواب الصدقة أو أثرها الوضعي، كدفع البلاء وسعة الرزق وغيرهما.

واندفاع الثاني بأن محل الكلام هو التصدق بالإعطاء، وليس الوقف منها، بل هو عقد أو إيقاع يكون المال به صدقة بنفسه وإن لم يدفع، نظير الزكاة التي هي صدقة وإن لم تدفع.

ومنه يظهر الإشكال فيما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الاستدلال علي عدم جواز التصدق علي الغني بقوله تعالي: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ...)(3) بتقريب أنه قد بين مصرف الصدقات ولم يجعل الغني منها، فيخرج الغني عن حدود

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 41 من أبواب الصدقة حديث: 2. ومثله حديث: 1. وما في ج: 11 باب: 1 من أبواب فضل المعروف حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 7 من أبواب الصدقة حديث: 5.

(3) سورة التوبة آية: 60.

ص: 431

أخبار التصدق موضوعاً.

إذ فيه: أنه ليس وارداً لبيان من يتصدق عليه الذي هو موضوع نصوص المقام، بل لبيان مصرف الصدقات التي هي الأموال المعنونة بالصدقة قبل دفعها، فلا يكون صرفها في مصارفها تصدقاً، بل إنفاقاً لها في الوجه المعين لها شرعاً. بل تمام الآية شاهد بأن المراد بالصدقات فيها خصوص الزكاة، لأنها هي المنفردة بمجموع المصارف المذكورة فيها.

ومثله ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) في وجه لزوم الاقتصار علي الفقير - مع البناء منه علي عموم التصدق لغيره، كما سبق - من عدم رضا المالك بالصدقة علي الغني.

إذ فيه - مع عدم اطراده -: أن رضا المالك إنما يعتبر لو كان المتصدق وكيلاً عنه، وليس هو كذلك في المقام، بل هو مأذون من قبل الشارع الأقدس، نظير الولي القهري، وحينئذٍ يتعين له الرجوع إلي إطلاق دليل الإذن المفروض وعدم الخروج عنه إلا بدليل شرعي.

فالعمدة في المقام عدم وضوح عموم إطلاق التصدق للتصدق علي غير الفقير. بل هو مختص أو منصرف لخصوص الفقير، تبعاً للمرتكزات المتشرعية القاضية باختصاصها به، وأنها نحو من المواساة والإعانة المأخوذة فيها الحاجة والعون، ولذا كانت مناسبة لنحو من الامتهان الذي يأنف منه الغني، بل كثير من الفقراء، بل أخذ الغني لها تجاوز فاحش بنظر المتشرعة.

ويدل علي ذلك ما في جملة من النصوص من عدم حلّ الصدقة للغني، كصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):" سمعته يقول: إن الصدقة لا تحل لمحترف، ولا لذي مرة سوي، فتنزهوا عنها"(1) ، وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي، ولا لمحترف ولا لقوي. قلنا: ما معني هذا؟ قال: لا يحل له أن يأخذها وهو يقدر أن يكف نفسه عنها" (2) وغيرهما. حيث يستفاد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 8 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 2، 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 8 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 2، 8.

ص: 432

من مجموعها اعتبار الفقر في آخذ الصدقة. وحمله علي خصوص الزكاة بلا شاهد.

ويؤيد ذلك أو يعضده أمور:

الأول: ما في بعض النصوص(3) من أنه لا صدقة وذو رحم محتاج، ولاسيما ما عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في وصيته لأمير المؤمنين (عليه السلام): "يا علي صلة الرحم تزيد في العمر، يا علي لا صدقة وذو رحم محتاج"(4) ، لظهور ذلك في أن وجهه ترجيح الرحم علي غيره، فتقييد الرحم بالحاجة يناسب اعتبار الفقر في المتصدق عليه.

الثاني: ما دلّ علي تحريم السؤال من غير حاجة(5). إذ من البعيد جداً التحريم لولا المفروغية عن عدم استحقاق الصدقة لغير المحتاج، بحيث يكون السؤال مستلزماً لإظهار الحاجة والتدليس فيها، فإن السؤال وإن كان بنفسه مرجوحاً حتي للفقير، كما تضمنته النصوص الكثيرة(6) ، إلا أنه لا يظن بأحد الالتزام بحرمة السؤال للغني لو أعلن عن عدم الحاجة، وأنه يطلب الصدقة والمال استكثاراً.

اللهم إلا أن يحمل النهي المذكور ما يعم الكراهة بقرينة ما في بعض نصوصه من الاكتفاء في النهي بأن يكون عنده قوت ثلاثة أيام(1).

الثالث: ما دلّ علي استحباب الصدقة مع احتمال استحقاق السائل، كصحيح أبي حمزة في حديث:" أنه سمع علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول لمولاة له: لا يعبر علي بابي سائل إلا أطعمتموه، فإن اليوم يوم الجمعة. قلت له: ليس كل من يسأل مستحقاً. فقال: يا ثابت أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقاً فلا نطعمه ونرده، فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب وآله. أطعموهم..."(2) ، وموثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 20 من أبواب الصدقة حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 8 من أبواب الصدقة حديث: 4.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 6 باب: 31 من أبواب الصدقة.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 6 باب: 32 من أبواب الصدقة.

(5) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 32 من أبواب الصدقة حديث: 5.

(6) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 21 من أبواب الصدقة حديث: 9.

ص: 433

"قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): لا تقطعوا علي السائل مسألته، فلولا أن المساكين يكذبون ما أفلح من ردّهم"(3).

فإن أظهر موارد عدم الاستحقاق أو الكذب في الحديثين هو الفقر الذي كثيراً ما يدعيه السائل أو يقتضيه حاله، وذلك يناسب اختصاص استحقاق الصدقة بالفقير... إلي غير ذلك مما قد يظهر بسبر النصوص.

الرابع: ما في خبر اليسع بن حمزة:" كنت في مجلس أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أحدثه وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام إذ دخل عليه رجل طوال آدم، فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) رجل من محبيك ومحبي آبائك وأجدادك مصدري من الحج، وقد افتقدت نفقتي، وما معي ما أبلغ به مرحلة، فإن رأيت أن تنهضني إلي بلدي، ولله علي نعمة، فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك فلست بموضع صدقة..."(4).

ويناسبه أو يشهد به في خصوص المقام ما في ذيل معتبر علي بن ميمون الصائغ المتقدم: "قلت: إن كان ذا قرابة محتاجاً أصله ؟ قال: نعم"(1) ، ونحوه خبره الآخر(2). إذ لولا المفروغية عن عدم جواز التصدق علي غير المحتاج لم يكن وجه لتقييد السائل ذا القرابة بالحاجة. ومن ثم لا ينبغي التوقف في اعتبار الفقر في المقام.

ومنه يظهر اعتبار الفقر حتي في الصدقة الابتدائية المندوبة. وإن استحب التصدق علي مجهول الحال احتياطاً في الفرار عن محذور رد السائل لو كان محقاً، وتترتب بعض الآثار عليها، غاية الأمر أن يتحمل السائل محذور السؤال بلا حق.

ومن ثم فما ذكره في جامع المقاصد من أن مصرف الصدقة في المقام هو مصرف الصدقات المندوبة لا يشهد بخلافه في اعتبار الفقر في المقام، لاحتمال ذهابه إلي ما ذكرنا.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 22 من أبواب الصدقة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 39 من أبواب الصدقة حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب بيع الصرف حديث: 2، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب بيع الصرف حديث: 2، 1.

ص: 434

هذا وفي جواز إعطاء مجهول المالك للهاشمي وجهان يظهر الأول مما سبق من جامع المقاصد من أن مصرفها مصرف الصدقات المندوبة، والثاني مما سبق من المسالك وعن حواشي الشهيد من أن مصرفها مصرف الصدقات الواجبة.

وكيف كان فلا ريب في حلّ الصدقة المندوبة للهاشمي، وإنما الخلاف في أن ما يحرم عليه خصوص الزكاة، أو مطلق الصدقة الواجبة. والظاهر الأول لموثق إسماعيل بن الفضل الهاشمي:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصدقة التي حرمت علي بني هاشم ما هي ؟ فقال: هي الزكاة. قلت: فتحل صدقة بعضهم علي بعض ؟ قال: نعم"(3) ، وخبر زيد الشحام عنه (عليه السلام): "سألته عن الصدقة التي حرمت عليهم فقال: هي الزكاة المفروضة، ولم يحرم صدقة بعضنا علي بعض"(4).

نعم في صحيح جعفر بن إبراهيم الهاشمي عنه (عليه السلام):" قلت له: أتحل الصدقة لبني هاشم ؟ فقال: إنما [تلك] الصدقة الواجبة علي الناس لا تحل لنا، فأما غير ذلك فليس به بأس..."(1).

لكن الظاهر الجمع بينه وبين الحديثين الأولين بحمل الصدقة الواجبة فيه علي العهد والإشارة لخصوص الزكاة، فإنه أقرب عرفاً من إلغاء خصوصية الزكاة في الحديثين الأولين والتعميم لمطلق الصدقة الواجبة.

ولاسيما بلحاظ كون الزكاة من فرائض الإسلام العامة، كالصلاة، حيث يناسب ذلك إطلاق عموم وجوبها علي الناس، وإن كانت مشروطة بشروط خاصة، بخلاف بقية أنواع الصدقات الواجبة، كالكفارات والفدية، فإنها تجب في حالات خاصة لا تناسب إطلاق عموم وجوبها علي الناس.

ومع ما في جملة من النصوص(2) من تعليل تحريم الصدقة عليهم بأنها من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 32 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 5، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 32 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 5، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 31 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 29 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 2، وباب: 1 من أبواب قسمة الخمس حديث: 4، 7، 8، 10.

ص: 435

أوساخ الناس أو أوساخ ما في أيديهم، فإن ذلك يناسب اختصاصها بالزكاة الملحوظ بها الطهارة من القذر، كما يناسبه اسمها، وقوله تعالي: (خُذ مِن أَموَالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِم بِهَا)(1) أما بقية أنواع الصدقات الواجبة - كالكفارات ونحوها - وغيرها فلم يعهد فيها ذلك، وإنما هي فرض ومواساة وإحسان.

ولعل أظهر النصوص المذكورة في الاختصاص معتبر الريان بن الصلت عن الرضا (عليه السلام) في حديث طويل قال: "فلما جاءت قصة الصدقة نزه نفسه ورسوله ونزه أهل بيته، فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ...) الآية. ثم قال: فلما نزه نفسه عن الصدقة ونزه رسوله ونزه أهل بيته، لا بل حرم عليهم، لأن الصدقة محرمة علي محمد وآله، وهي أوساخ أيدي الناس لا تحل لهم..." (2) فإن الاستشهاد بآية الصدقات المختصة بالزكاة يناسب اختصاص الصدقة المحرمة عليهم بها.

ولو فرض التردد بين الوجهين في الجمع بين صحيح جعفر والحديثين الأولين تعين الرجوع في مورد الاشتباه - وهو الصدقة الواجبة غير الزكاة - لإطلاق الأمر بالتصدق القاضي بجواز الدفع لبني هاشم. ولا مجال للرجوع فيه لإطلاق تحريم الصدقة علي بني هاشم بعد ما سبق من التعليل في جملة من نصوصه بأنها أوساخ منزهون عنها. ولاسيما مع ما في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنه قال: لو حرمت علينا الصدقة لم يحل لنا أن نخرج إلي مكة، لأن كل ماء بين مكة والمدينة فهو صدقة" (3) فإنه بقرينة المفروغية عن حرمة الصدقة عليهم محمول علي أن تحريم الصدقة لا يراد منه العموم، وذلك راجع إلي إجماله ولزوم الاقتصار فيه علي المتيقن.

ثم إنه لو بني علي عموم تحريم الصدقة الواجبة عليهم وعدم اختصاصها بالزكاة جموداً علي مفاد صحيح جعفر المتقدم، فمن القريب اختصاصه بالصدقة

********

(1) سورة التوبة آية: 113.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 1 من أبواب قسمة الخمس حديث: 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 31 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 1.

ص: 436

الواجبة بالأصل دون الواجبة بالعرض، كالمنذورة والموصي بها ونحوهما. إما لما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من ظهور الصحيح في إرادة ما تعلق به الوجوب بعنوان كونه صدقة، دون ما إذا كانت الصدقة بعنوانها موضوعاً للأمر الندبي، وكان وجوبها بعنوان آخر طارئ، كالوفاء بالنذر وتنفيذ الوصية، وإما لأن المنصرف منه فرض كون وجوب الصدقة تابعاً لخصوصية نوعها، لا حالة تطرأ عليها.

نعم لو كان التعبير هكذا: إنما تلك الصدقة إذا وجبت، فقد يتجه العموم. قال سيدنا المصنف (قدس سره): "ولذا لا يظن بأحد الالتزام بأن الصدقة علي الهاشمي مستحبة، وأنه لا يجوز نذرها ولا الوصية بها".

بل لعل الأمر في الصدقة الموصي بها أظهر، لقرب انصراف الوجوب للوجوب علي صاحب المال، دون الوجوب علي غيره كالوصي، فإن الوجوب عليه لوجوب تنفيذ أمر الموصي - كالوكيل والأمين لو تعذر إيصال المال للمالك، وأمرهما المالك بالصدقة - مع كون التصدق في حق الموصي مستحباً.

ومنه يظهر الحال في المقام، فإن التصدق بمجهول المالك ليس لوجوبه علي المالك، بل لانحصار التخلص من مشكلة المال به. ولاسيما مع ما هو المرتكز - المصرح به في كلامهم والذي يقتضيه قوله في معتبر علي بن ميمون الصائغ: "إما لك وإما لأهله" (1)- من كون الصدقة به عن المالك، وقيام من بيده المال مقامه، لوضوح استحباب الصدقة به في حقه.

السادس: أن ظاهر النصوص المتقدمة لزوم تصدق من بيده المال بالمال علي غيره، وعدم الاجتزاء بأخذه لنفسه صدقة عن صاحبه إذا كان مستحقاً للصدقة. ولا مجال لقياسه علي ما تقدم في المسألة الثامنة والثلاثين من أن من دفع له مال ليفرقه في طائفة من الناس جاز له أن يأخذ منه لنفسه إذا كان داخلاً فيهم. لاختصاص ذلك بما إذا كان التعيين من قِبَل دافع المال، أما التعيين في المقام فهو من قبل الشارع الأقدس،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الصرف حديث: 2.

ص: 437

إن كان يائساً (1) عن معرفته (2)،

---------------

وجواز الخروج عن ظاهر الدفع في الأول لا يستلزم الخروج عنه في الثاني عقلاً، بل ولا عرفاً، ليفهم من دليله إلغاء خصوصية مورده.

ومن ثم يتعين الجمود علي ظاهر النصوص، كما هو ظاهر الأصحاب، وفي الدروس في حكم فضلات الصياغة وترابها: "ولا يجوز تملكها ولو كان الصايغ مستحقاً للصدقة".

وفي الجواهر: "أما لو دفعه إلي الحاكم فتصدق به عليه أمكن الجواز" .وهو يتجه بناءً علي جواز استقلال الحاكم في التصدق، كما يتجه في حق غير الحاكم لو وقع المال بيده، واستقل بإجراء وظيفة حكم مجهول المالك عليه.

أما مع وكالته عمن بيده المال فيشكل بأن المتصدق حينئذٍ هو من بيده المال، فلا يجوز الأخذ منه، كما لو باشر هو التصدق. وقد تقدم في آخر الأمر الثالث ما ينفع في المقام. فراجع. والله سبحانه وتعالي العالم. ومنه نستمد العون والتوفيق والتأييد والتسديد. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) كما ذكره غير واحد. وقد يظهر من بعضهم إرساله إرسال المسلمات، بل في مفتاح الكرامة في مسألة جوائز السلطان: "لا ريب في أنه إنما يتصدق بها بعد اليأس عن الوصول إليه أو إلي وارثه بعد موته، ولذا تركه الأكثر" ،وفي الجواهر في المسألة المذكورة بعد الحكم بوجوب التصدق بشرط اليأس: "كما في غيرها من أقسام مجهول المالك الذي حكمه ذلك نصاً وفتوي".

ويقتضيه ما يأتي من وجوب الفحص عنه مع عدم معرفته، والاكتفاء في الفحص بمقدار حصول اليأس، حيث يدلّ ذلك علي الاكتفاء باليأس في التصدق، وعدم مشروعيته بدونه.

(2) أو الوصول إليه، لما تقدم في الأمر الأول من إلحاق تعذر الوصول للمالك

ص: 438

وإلا وجب الفحص عنه (3) وإيصاله إليه.

---------------

بالجهل به. نعم إذا يئس من الوصول إليه ولم ييأس من الوصول لوارثه فالظاهر وجوب الانتظار وعدم مشروعية التصدق، لقصور الوجه المتقدم عنه.

(3) كما ذكره غير واحد. بل لا يبعد الإجماع عليه، كما يظهر مما سبق من المفروغية عن عدم التصدق إلا بعد اليأس وأن عدم تصريح بعضهم به للمفروغية عنه، تبعاً للمرتكزات القاضية بوجوب إيصال المال لمالكه وحرمة التصرف فيه بغير إذنه، المقتضي لوجوب الفحص عنه مقدمة لإيصاله إليه.

ودعوي: أن احتمال العجز عن الوصول إليه وإيصال المال له بالفحص مستلزم لاحتمال عدم وجوبه، وفي مثله تجري البراءة من وجوبه، فلا يجب الفحص مقدمة له.

مدفوعة: أولاً: بأن احتمال عدم وجوب إيصاله المال لمالكه في المقام حيث كان للشك في القدرة عليه فمقتضي الأصل الاحتياط في ذلك، وإنما تجري البراءة إذا كان الاحتمال عدم ثبوت التكليف راجعاً لاحتمال عدم تمامية موضوعه، كما إذا شك في إسلام صاحب المال من دون أصل يحرز إسلامه واحترام ماله.

وثانياً: بأن أصالة البراءة من وجوب إيصال المال لمالكه لو جرت فهي لا تحرز مشروعية التصدق بالمال مع احتمال إمكان إيصاله لصاحبه، بل مقتضي عموم عدم جواز التصرف في المال بغير إذن صاحبه عدم مشروعية التصدق به. فتأمل. ولا أقل من كونه مقتضي أصالة عدم ترتب الأثر.

نعم لو تم إطلاق دليل التصدق بمجهول المالك، بحيث يشمل حال ما قبل الفحص واحتمال العثور علي المالك به، رجع ذلك إلي عدم وجوب إيصال المال لمالكه تكليفاً، فلا يجب الفحص مقدمة له، والي مشروعية التصدق ونفوذه مع عدم اليأس من الوصول للمالك وبه يخرج عن عموم عدم جواز التصرف في المال بغير إذن صاحبه

ص: 439

وعن أصالة عدم ترتب الأثر.

ولعله إلي ذلك نظر شيخنا الأعظم (قدس سره) في قوله: "ويحتمل غير بعيد عدم وجوب الفحص. لإطلاق غير واحد من الأخبار".

لكنه يشكل: أولاً: بأن الإطلاق المذكور لو تم ينصرف إلي صورة تعذر إيصال المال لمالكه، لما هو المرتكز من أن التصدق بالمال ليس لسقوط حرمة المالك، ولا لقصور سلطنته، بل لتعذر إيصال المال إليه، فهو من سنخ البدل الاضطراري الذي لا يشرع إلا عند تعذر المبدل.

ومن ثم ذكروا أن إطلاق أدلة الابدال الاضطرارية وإن كان شاملاً لفظاً لحال تحقق موضوعاتها - من فقد الماء أو المرض أو العجز أو غيرها - رأساً، إلا أنه ينصرف بقرينة ورودها مورد الاضطرار إلي استمرار تحقق تلك الموضوعات في تمام الوقت، بحيث يتعذر تحصيل الواجب الأولي.

وثانياً: بأنه يظهر مما سبق من أدلة التصدق بمجهول المالك أنه لا عموم يقضي بالتصدق، لينظر في ثبوت إطلاق له بنحو يشمل حال عدم الفحص، وإنما ورد في موارد متفرقة استفيد منها العموم بضميمة إلغاء خصوصية مواردها، والنصوص الواردة في الموارد المذكورة بين ما هو ظاهر أو صريح في تقييد مشروعية التصدق بصورة اليأس من الوصول للمالك، و ما هو وارد في واقعة خاصة ظاهرة في اليأس من ذلك أو قابلة للحمل عليه.

فمن الأول صحيح يونس المتقدم في أدلة التصدق حيث يقول يونس فيه: "فقال: تحملونه حتي تحملوه إلي الكوفة. قال: لسنا نعرفه ولا نعرف بلده، ولا نعرف كيف نصنع ؟ قال: إذا كان كذا فبعه وتصدق بثمنه..."(1) ، فإن الظاهر أن الأمر بحمله إلي الكوفة إنما هو من أجل الفحص عن المالك وإيصال المال له، وأن قول السائل:" لا نعرفه ولا نعرفه بلده "لبيان تعذر الفحص عنه، فيكون مقتضي الشرطية في الجواب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب اللقطة حديث: 2.

ص: 440

توقف مشروعية التصدق علي اليأس من الوصول لصاحب المال.

ومثله في ذلك قوله (عليه السلام) في معتبر العباس بن عامر أو المثني بن عبد السلام:" اجهد أن تقدر له علي ولي، فإن لم تجد وعلم الله منك الجد فتصدق بها"(2) ، وقريب منه مرسلة الصدوق المتقدمة، بناءً علي ما تقدم من أنهما إن لم يصلحا للاستدلال في المقام فهما صالحان للتأييد.

ومن الثاني بقية نصوص المسألة، فإن الظاهر تعذر معرفة صاحب المال في مورد حديثي علي بن ميمون الصائغ الواردين في تراب الصاغة. كما أن صحيح إسحاق بن عمار - الوارد فيمن وجد في بعض بيوت مكة سبعين درهماً مدفونة - وارد في مورد اليأس من معرفة المالك، كما يظهر مما تقدم في وجه الاستدلال به.

وقريب منه خبر نصر بن حبيب صاحب الخان فيمن مات في الفندق ولم يعرف له ورثة، بناءً علي ما سبق من أنه إن لم يصلح للاستدلال صالح للتأييد. لما هو المعلوم أن المسافر الذي لا يعرف نسبه يصعب أو يتعذر الوصول لوارثه في تلك العصور التي لم يعرف فيها هوية ولا جواز سفر.

ولا يبعد ذلك في صحيح علي بن راشد الوارد في الوقف المجهول أربابه، لظهوره في انقطاع أرباب الوقف عنه حتي بيع، ففرض جهله بكون الأرض موقوفة قد ينصرف للجهل المبني علي ضياع الموقوف عليهم واليأس من الوصول إليهم.

علي أنه لو فرض عمومه - بمقتضي ترك الاستفصال - أو عموم غيره لصورة عدم اليأس وإمكان الفحص عن المالك تعين الخروج عنه بالقسم الأول الظاهر في لزوم الفحص عنه.

ويؤيد ذلك أو يعتضد بما تضمن الأمر بالطلب في الدين المجهول المالك، كصحيح معاوية بن وهب وصحيح هشام بن سالم عن أبي إبراهيم المتقدمين، وربما يستفاد من غيرهما. حيث يبعد جداً الفرق بين الذميات والأعيان في حرمة المالك

-

********

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 30 من كتاب الوصية حديث: 2.

ص: 441

(مسألة 40): يكره بيع الصرف (1)،

---------------

وأهمية الوصول إليه وإن أمكن الفرق بينها في وجوب التصدق، لما سبق.

ومن هنا لا مجال للبناء علي عدم وجوب الفحص، وجواز المبادرة للتصدق بالمال بمجرد الجهل بمالكه قبل اليأس من الوصول إليه.

هذا ولا ينبغي التأمل في الاكتفاء باليأس من الوصول للمالك، إما رأساً أو بعد الفحص عنه، لأنه المنسبق من النصوص المتقدمة، فإن ما ذكر فيها لا يستلزم العلم بعدم الوصول للمالك، حيث لا ضابط للمصادفات غير المحتسبة. فلا مجال لحمل النصوص علي صورة العلم بعدم الوصول إليه، وإن كان هو مقتضي القاعدة الأولية القاضية بالاحتياط في الفحص عن المالك مادام يحتمل الوصول إليه والقدرة علي إيصال المال له، وعدم مشروعية التصدق من دون إذنه حينئذٍ، بل يتعين حملها علي اليأس. وهو المناسب لمرتكزات المتشرعة وسيرتهم.

نعم يشكل البناء علي وجوب المبادرة للتصدق بمجرد حصول اليأس، لعدم ظهور الأمر به في الفور. ولاسيما مع ظهور بعضها في مجرد بيان الوظيفة في المال نتيجة التحير في أمره. وحينئذٍ لا يمنع من الاحتياط بحفظ المال لاحتمال العثور علي المالك بوجه غير محتسب. وهو المناسب للمرتكزات المتشرعية. ولاسيما بناءً علي الضمان للمالك لو ظهر، حيث يبعد جداً منع من بيده المال من الاحتياط المذكور حينئذٍ أملاً في التخلص من الضمان.

لكن لو خيف علي المال - أو بدله بعد بيعه - من الضياع والتلف تعين وجوب المبادرة للتصدق به فراراً عن محذور التفريط بالوظيفة اللازمة فيه. فلاحظ. والله سبحانه وتعالي العالم. والحمد لله رب العالمين.

(1) كما ذكره غير واحد، وفي الجواهر أنه لا يجد فيه خلافاً. لحديث إسحاق ابن عمار: "دخلت علي أبي عبد الله (عليه السلام) فخبرته أنه ولد لي غلام. قال: ألا سميته

ص: 442

محمداً؟ قلت: قد فعلت. قال: فلا تضرب محمداً، ولا تشتمه. جعله الله قرة عين لك في حياتك، وخلف صدق بعدك. قلت: جعلت فداك في أي الأعمال أضعه ؟ قال: إذا عدلته [عزلته] عن خمسة أشياء فضعه حيث شئت. لا تسلمه صيرفياً، فإن الصيرفي لا يسلم من الربا. ولا تسلمه بياع أكفان، فإن صاحب الأكفان يسره الوباء إذا كان. ولا تسلمه بياع طعام، فإنه لا يسلم من الاحتكار. ولا تسلمه جزاراً، فإن الجزار تسلب منه الرحمة. ولا تسلمه نخاساً، فإن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال:

شر الناس من باع الناس" (1) .

هذا ولا يظهر من مساق الحديث السؤال عن الحكم الشرعي. بل المتيقن منه الاسترشاد والاستنصاح. وحينئذٍ لا يدل علي كراهة الحرف المذكورة تعبداً. بل المتيقن مرجوحيتها بالعرض بلحاظ ما يترتب عليها. نعم الاستدلال فيه للنخاسة بحديث النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) قد يقتضي الكراهة الذاتية. وتمام الكلام في ذلك يأتي إن شاء الله تعالي.

وكيف كان فموضوع الحديث اتخاذ ذلك حرفة تبتني علي الاستمرار، فإن الصيرفي هو الذي حرفته الصيرفة لا مطلق من يقوم ببيع الصرف. وهو المناسب للتعليل أيضاً، ضرورة أن بيع الصرف كثيراً ما يسلم من الربا، بخلاف من يتخذ ذلك حرفة، لأن كثرة التعامل بالصرف كثيراً ما يوجب الابتلاء بالربا تسامحاً أو غفلة، فيحسن تجنبه احتياطاً لذلك.

ولعله لذا نبه للتفصيل في مفتاح الكرامة والجواهر. بل لعله مراد مثل سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره ممن أطلق. إذ يصعب جداً البناء علي العموم مع كثرة حاجة الناس في العصور السابقة لبيع الصرف وشيوعه بينهم بسب كون تعاملهم بالدنانير الذهبية والدراهم الفضية.

ثم إنه قد قرب في الجواهر عدم الكراهة مع الأمن من الربا بالتزام الصرف بغير المجانس أو بالوزن أو نحو ذلك، وحكاه عن بعض متأخري المتأخرين. لمعتبر سدير الصيرفي:" قلت لأبي جعفر (عليه السلام): حديث بلغني عن الحسن البصري، فإن كان حق

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 443

وبيع الأكفان (1)،

---------------

فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال: ما هو؟ قلت: بلغني أن الحسن كان يقول: لو غلا دماغه بحر الشمس ما استظل بحائط صيرفي، ولو تفرثت كبده عطشاً لم يستق [يستسق] من دار صيرفي ماءً، وهو عملي وتجارتي، وفيه نبت لحمي ودمي، ومنه حجتي وعمرتي. قال: فجلس، ثم قال: كذب الحسن. خذ سواء وأعط سواء، فإذا حضرت الصلاة فدع ما بيدك وانهض إلي الصلاة. أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة. يعني: صيارفة الكلام، ولم يعن صيارفة الدراهم"(1). كذا رواه الصدوق في الفقيه. ولا يبعد كون التفسير في الذيل منه، لا من أصل الحديث، لعدم ذكر الكليني له حينما ذكر الحديث بسنده عن سدير. بل هو لا يناسب سياق الحديث، ولا لسان الذيل.

لكن الحديث المذكور إنما ينهض بنفي الحرمة في مقابل موقف الحسن البصري الشديد من الصيرفة، وبلحاظ الشرط الذي ذكره الإمام (عليه السلام)، وهو أخذ السواء وإعطاء السواء، فإنه شرط للحل. ولا ينافي الكراهة بلحاظ احتمال الوقوع في الربا ولو من غير احتساب. وأما عدم تأخير الصلاة عن وقتها فهو من آداب مطلق التكسب من دون خصوصية للصرف. كما أن المتيقن ورود ما ذكره (عليه السلام) من أن أصحاب الكهف صيارفة لنفي توهم الحرمة تأكيداً لتكذيب الحسن، ولا ينافي الكراهة.

نعم لا يبعد انصراف حديث إسحاق بن عمار إلي الصيرفة بالنحو المتعارف المعهود في الأسواق المبني علي احتمال التعرض للربا ولو غفلة، وقصوره عن صورة إحكام الصيرفة بنحو يقطع معه بعدم التعرض للربا. ولا أقل من كونه المتيقن، ولو بضميمة التعليل. بل هو المتعين بناءً علي ما سبق من كون المتيقن ورود الحديث مورد الاسترشاد.

(1) كما ذكره غير واحد، وفي الجواهر أنه لا يجد فيه خلافاً. ويقتضيه حديث إسحاق المتقدم وموثق إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن [موسي بن جعفر] (عليهما السلام):

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 22 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 444

وبيع الطعام (1)،

---------------

"قال: جاء رجل إلي النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) فقال: يا رسول الله قد علمت ابني هذا الكتابة، ففي أي شيء أسلمه ؟ فقال: أسلمه لله أبوك، ولا تسلمه في خمس: لا تسلمه سباءً، ولا صائغاً، ولا قصاباً، ولا حناطاً، ولا نخاساً. فقال: يا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) ما السباء؟ قال: الذي يبيع الأكفان ويتمني موت أمتي، ولَلمولود من أمتي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس. وأما الصائغ فإنه يعالج زين غني أمتي. وأما القصاب فإنه يذبح حتي تذهب الرحمة من قلبه. وأما الحناط فإنه يحتكر الطعام علي أمتي، ولئن يلقي الله العبد سارقاً أحب إلي من أن يلقاه قد احتكر الطعام أربعين يوماً. وأما النخاس فإنه أتاني جبرئيل فقال: يا محمد إن شرار أمتك الذين يبيعون الناس..."(1).

ويجري فيه ما تقدم من اختصاصه بمن يتخذ ذلك حرفة، كما أشار إليه في مفتاح الكرامة والجواهر أيضاً. ومنه يظهر قصوره عمن يكون بيع الأكفان بعض شؤون حرفته، كباعة الأقمشة في عصورنا. ولا مجال للبناء علي عمومه له بلحاظ التعليل. للفرق بين من تنحصر حرفته ببيع الأكفان الذي يتوقف علي موت الناس ومن ذكرنا، حيث قد يكون شيوع الموت في الناس سبباً لكساد الجانب الأهم من حرفتهم. كما لعله ظاهر.

بل لا يبعد اختصاصه - بسبب التعليل - بمن يتعارف منه بيع كفن الشخص عند موته، كما لعله المعهود سابقاً، دون من يتعارف منه بيع الكفن من أجل اتخاذه قبل الموت، كما شاع في بلادنا هذه الأيام، فإن رواج حرفتهم لا يتوقف علي موت الناس، بل علي قيامهم بالسنة، وهي إعداد الإنسان كفنه في حياته.

(1) كما ذكره غير واحد، وفي الجواهر أنه لا يجد فيه خلافاً. ويقتضيه حديث إسحاق المتقدم وخبر أبي إسحاق عن علي (عليه السلام):" قال: من باع الطعام نزعت منه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

ص: 445

وبيع العبيد (2).

---------------

الرحمة "(1) وحتي موثق إبراهيم المتقدم، فإن موضوع النهي فيه وإن كان هو الحناط، وهو الذي يبيع الحنطة، إلا أن مقتضي عموم التعليل فيه عموم الكراهة لكل طعام.

وما تقدم من اختصاص الكراهة باتخاذ ذلك حرفة جارٍ هنا، كما صرح به من سبق ويقتضيه حديثا إسحاق وإبراهيم. وأما خبر أبي إسحاق فلا يبعد انصرافه لذلك أيضاً، لمناسبته للأثر المذكور فيه. فلاحظ.

(2) كما ذكره غير واحد، ونفي في الجواهر وجدان الخلاف فيه.

ويقتضيه حديث إسحاق وموثق إبراهيم المتقدمان. ومرسل علي بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال في حديث بياع الزيت:" لقد كان يحبني حباً لو كان نخاساً لغفر الله له "(2) وغيره(3). بل في بعضها عنهم عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال:" شرار الناس من باع الحيوان "(4) ولا يخلو عن غرابة.

هذا وفي موثق ابن فضال:" سمعت رجلاً يسأل أبا الحسن الرضا (عليه السلام) فقال: إني أعالج الرقيق فأبيعه، والناس يقولان [يقولون خ. ل]: لا ينبغي. فقال: الرضا (عليه السلام): وما بأسه ؟ كل شيء مما يباع إذا اتقي الله فيه العبد فلا بأس"(5).

وربما يجمع بينه وبين ما سبق بحمله: تارة: علي من لم يتخذ ذلك حرفة. وأخري: علي بيان أصل الجواز، كما أشار إلي ذلك في الجواهر. وكلاهما بعيد جداً. لمخالفة الأول لظاهر النص. بل هو لا يناسب إنكار الناس، حيث لا يحتمل كراهة بيع الإنسان رقيقه من شيوع ذلك وشدة الحاجة له. والثاني أيضاً لا يناسب إنكار الناس، حيث لا يمكن احتمال حرمة النخاسة مع شيوع الرق سابقاً، كما لا يناسب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6، 3.

(3) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 19 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

ص: 446

كما يكره أن يكون الإنسان جزاراً (1)،

---------------

عدم تنبيه الإمام (عليه السلام) للكراهة مع شدة لسان النصوص السابقة.

ولعل الأقرب الجمع بينهما بعدم كراهة النخاسة في نفسها، وإنما ورد النهي عنها لغلبة ابتلاء من يزاولها بالمحرمات، خصوصاً امتهان الرقيق وظلمهم والاستهوان بهم، لمناسبته لطبيعة المهنة، وظلم الضعيف أفحش للظلم. فإذا اتقي النخاس الله تعالي وحفظ حدوده في الرقيق فلا كراهة في حرفته بنفسها، ولا بأس بها.

بل الإنصاف أن النصوص الأول لا تنهض بكراهة نفس حرفة النخاسة، إذ لو كانت هي السبب لكون صاحبها شر الناس كانت محرمة، نظير قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم): "يا علي شر الناس من أكرمه الناس اتقاء فحشه وأذي شره، يا علي شر الناس من باع آخرته بدنياه، وشر منه من باع آخرته بدنيا غيره"(2). فلا بد من كون النهي بلحاظ أنها تؤول غالباً إلي المحرم كما ذكرنا.

(1) كما ذكره غير واحد، وفي الجواهر نفي وجدان الخلاف فيه. ويقتضيه حديث إسحاق وموثق إبراهيم المتقدمان وموثق طلحة بن زيد عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام):" قال: إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال: إني أعطيت خالتي غلاماً، ونهيتها أن تجعله قصاباً أو حجاماً أو صائغاً"(1).

هذا ومقتضي التعليل في الأولين كراهة نفس الحرفة من دون نظر للتكسب بها وهو مقتضي إطلاق الأخير، وحينئذٍ يشكل البناء علي كراهة التكسب بها، بأن يكون المال في مقابل نفس الذبح، فضلاً عن أن يكون المال المذكور حزازة.

ودعوي: أن معروفية كون الصنائع الثلاث المذكورة في الأخير من المكاسب يوجب انسباق إطلاق النهي عنها للنهي عن التكسب بها، بنحو يوجب حزازة المال المكتسب بها.

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 71 من أبواب جهاد النفس حديث: 11.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 447

أو حجاماً (1).

---------------

مدفوعة بأن المعهود من تكسب القصاب هو تكسبه ببيع لحم الحيوان المذبوح، لا تكسبه بذبحه، ولا يظن من أحد البناء علي كراهة التكسب ببيع اللحم، فلابد من حمله علي كراهة نفس العمل الذي هو مقدمة للتكسب المذكور، كما يظهر من الحديثين الأولين، ويكونان شارحين له.

(1) مقتضي السياق كراهة نفس الحرفة مع قطع النظر عن التكسب بها. إلا أن تتمة كلامه قد يظهر منه إطلاق كراهة التكسب. وكيف كان فلا يبعد البناء علي كراهة الحرفة بنفسها، عملاً بإطلاق موثق طلحة بن زيد المتقدم بعد ما سبق من عدم صلوح معروفية التكسب بالأمور المذكورة فيه برفع اليد عن ذلك.

نعم لا إشكال في كراهة التكسب بالحجامة في الجملة، وبه صرح جماعة كثيرة. وصرح غير واحد بتقييدها بما إذا شارط، بل في الجواهر: "قيل إنه المفهوم من كلام الأصحاب" .لكن أطلق في اللمعة. ولعله ناظر إلي كراهة نفس الصنعة مع قطع النظر عن التكسب بها.

وكيف كان فالنصوص علي طوائف:

الأولي: ما أطلق فيه النهي، كموثق سماعة قال: "قال: السحت أنواع كثيرة، منها كسب الحجام وأجر الزانية وثمن الخمر" (1) وقريب منه أو عينه موثقه الآخر(2) ونحوهما غيرهما. وصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): "إن رجلاً سأل رسول الله عن كسب الحجام. فقال له: ألك ناضح ؟ فقال: نعم. فقال. اعلفه إياه، ولا تأكله" (3) وقريب منه غيره(4).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

(2) تهذيب الأحكام ج: 6 ص: 352.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 3، 11، 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 3، 11، 6.

ص: 448

الثانية: ما أطلق فيه الحل، كصحيح معاوية بن عمار: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن كسب الحجام. قال: لا بأس به"(1) ، وقريب منه أو عينه صحيحه الآخر(2) ، وفي معتبر حنان:" دخلنا علي أبي عبد الله (عليه السلام) ومعنا فرقد الحجام، فقال له: جعلت فداك إني أعمل عملاً، وقد سألت عنه غير واحد ولا اثنين، فزعموا أنه عمل مكروه، وأنا أحب أن أسألك، فإن كان مكروهاً انتهيت عنه... قال: وما هو؟ قال: حجام. قال: كل من كسبك يا ابن أخي وتصدق وحج منه وتزوج، فإن نبي الله قد احتجم وأعطي الأجر، ولو كان حراماً ما أعطاه"(3) ، وقريب منه غيره(4).

الثالثة: ما تضمن التفصيل بين الشرط وعدمه، كخبر سماعة: "قال أبو عبد الله (عليه السلام): السحت أنواع كثيرة، منها كسب الحجام إذا شارط وأجر الزانية وثمن الخمر..."(5) ، وفي صحيح أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام):" سألته عن كسب الحجام. فقال: لا بأس به إذا لم يشارط"(6) ، وفي موثق زرارة: "سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن كسب الحجام. فقال: مكروه له أن يشارط، ولا بأس عليك أن تشارطه وتماكسه، وإنما يكره له، ولا بأس عليك"(7).

هذا ويظهر من المشهور الجمع بين النصوص بالتفصيل في الكراهة بين الشرط وعدمه. وكأنه للجمع بين إطلاق الكراهة المستفادة من الطائفة الأولي وإطلاق نفي البأس المستفاد من الطائفة الثانية. بالتفصيل بين الاشتراط وعدمه بقرينة الطائفة الثالثة.

لكنه ليس بأولي من إبقاء الطائفتين الأوليين علي إطلاقهما، والجمع بينهما بحمل النهي علي الكراهة مطلقاً، كما قد يظهر من سيدنا المصنف (قدس سره)، مع البناء علي شدة الكراهة بالاشتراط، عملاً بالطائفة الثالثة.

وقد يؤيد ذلك اختلاف لسان النصوص في بيان الكراهة، فمثل موثق سماعة ظاهر في شدتها، ومثل صحيح الحلبي ظاهر في خفتها. ولا أقل من عدم ظهوره في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 7، 2، 1، 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 7، 2، 1، 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 7، 2، 1، 9.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 7، 2، 1، 9.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 7، 2، 1، 9.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 7، 2، 1، 9.

(7) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 7، 2، 1، 9.

ص: 449

ولاسيما مع الشرط، بأن يشترط أجرة ويكره أيضاً التكسب بضراب الفحل (1)، بأن يؤاجره لذلك، أو بغير إجارة بقصد العوض (2). أما لو كان بقصد المجانية فلا بأس بما يعطي بعنوان الهدية (1).

(مسألة 41): لا يجوز بيع أوراق اليانصيب (2).

---------------

تلك الشدة، فيقيد اللسان الأول بها بالاشتراط في خبر سماعة المتقدم في الطائفة الثالثة.

هذا وفي الخلاف في كتاب الأطعمة:" كسب الحجام مكروه للحر مباح للعبد... دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ".لكن لا يظهر التفصيل المذكور بين الأصحاب، حتي منه (قدس سره) في التهذيبين والنهاية. كما لا يتضح الدليل عليه من الأخبار. بل في موثق رفاعة:" سألته عن كسب الحجام فقال: إن رجلاً من الأنصار كان له غلام حجام، فسأل رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) فقال: هل لك ناضح ؟ قال: نعم. فقال: اعلفه ولا تأكله"(1) ، وهو ظاهر في كراهة كسب الغلام، ولذا نهي عن أكله. فتأمل.

(1) لما ورد من النهي عن ثمن اللقاح وعن عسيب الفحل(2) الذي لابد من حمله علي الكراهة، لما تقدم في المسألة الأولي في حكم بيع الأعيان النجسة عند الكلام في حرمة بيع المني. فراجع.

(2) لصدق التكسب والأجر والثمن بذلك، فيدخل في موضوع نصوص النهي.

(1) لخروجه عن موضوع النهي، كما يظهر مما تقدم.

(2) كأنه لعدم المالية لها، حيث لا فائدة فيها بنفسها، وإنما يرغب في تحصيلها من أجل ترتب الجائزة عليها. من دون أن تكون بنفسها مالاً، وحينئذٍ يبطل البيع، لاعتبار المالية في العوضين.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5، 12 من أبواب ما يكتسب به وغيرها.

ص: 450

ويظهر ضعفه مما سبق في المسألة الثالثة من عدم اعتبار المالية في العوضين علي أن احتمال ترتب الجائزة عليها يجعلها مالاً، كما عن شيخنا الأستاذ (قدس سره)، حيث يوجب تنافس العقلاء فيها الذي هو المعيار في المالية. نظير مالية الشبكة بلحاظ احتمال حصول الصيد فيها، ومالية البذر غير الصالح للأكل بلحاظ احتمال صيرورته زرعاً بالزراعة وغير ذلك.

لكن بعض مشايخنا (قدس سره) - مع ذهابه إلي عدم اعتبار المالية في المبيع - قال في مستحدثات المسائل عند التعرض لبيع أوراق اليانصيب وبيان وجوه المعاملة المذكورة: "الأول: أن يكون شراء البطاقة بغرض احتمال إصابة القرعة باسمه والحصول علي الجائزة. فهذه المعاملة محرمة وباطلة بلا إشكال".

وقد يظهر منه مبطلية الداعي المذكور للمعاملة. ولا يظهر الوجه في ذلك، فإن احتمال ترتب النفع علي المعاملة وعدم اليقين به شايع في المعاملات، كشراء البذر لاحتمال صيرورته زرعاً وترتب النفع عليه بذلك.

وربما يمنع من صحة المعاملة لوجوه أخر:

الأول: أنها غررية، لعدم إحراز ترتب الجائزة عليها. وفيه: أن ذلك قد يتم إذا كان دفع المال في مقابل نفس الجائزة. أما حيث كان دفع المال في مقابل الورقة، فالورقة ذات مالية محدودة، وهي حاصلة للمشتري. والجائزة من سنخ الداعي الاحتمالي الذي لا يضر تخلفه، كداعي وقوع الصيد في الشبكة.

ودعوي: أن مالية الورقة لما لم تكن لأهميتها في نفسها، بل بلحاظ ترتب الجائزة عليها، فهي مجهولة، لا يحرز ترتبها. مدفوعة بأن احتمال ترتب الجائزة يوجب مالية الورقة بمرتبة ضعيفة، وهي بالمرتبة المذكورة لا تتخلف، بل تسلم للمشتري، نظير ما ذكرناه في الشبكة.

الثاني: أنها قمارية، لابتنائها علي الرهن والمغالبة. ويندفع بأنه لا يبعد اختصاص القمار يبتني علي المغالبة بين الأطراف من أجل كسب المال بعضهم من بعض، بحيث

ص: 451

يكون هناك غالب ومغلوب. أما في المقام فالاقتراع ليس من أجل تثبيت الخسارة علي شخص، لأن الشركة متعهدة بدفع الجائزة علي كل حال بمقتضي الشرط، والاقتراع إنما يقتضي تعيين من تدفع له الجائزة والمنتفع بها، من دون أن يتضمن خسارة الشركة ولا خسارة بقية أطراف الاقتراع، ولا يتضح صدق القمار بذلك.

الثالث: ما تضمن أنه لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل(1) ، فإن مقتضاه عدم استحقاق السبق - وهو المال المتسابق عليه - في غير الأمور المذكورة، ومن الظاهر أن السبق قد يكون من شخص ثالث غير المتسابقين، ومنه المقام.

وفيه: أنه لا تسابق في المقام بين الأطراف، فإن شراء الورقة بنفسه ليس تسابقاً، ولا يستحق شيء غير الدخول في الاقتراع الحاصل للكل، وأما الاقتراع فلا يقوم به الأطراف المعرضة للانتفاع، بل تقوم به الشركة وفاءً بتعهدها.

الرابع: أن مالية الورقة لما كانت من أجل تحصيل الجائزة، وكان احتمال تحصيلها ضعيفاً، فالإقدام علي بذل المال بإزائها يكون سفهياً.

ويندفع: أولاً: بأن البذل إنما يكون سفهياً إذا كان المال المبذول كثيراً، أما إذا كان قليلاً بنحو يناسب ضعف الاحتمال، فلا يكون بذله من أجل الاحتمال المذكور سفهياً.

ثانياً: بأن كون بذل المال سفهياً لا يقتضي بطلان المعاملة، كما سبق في المسألة الثالثة عند الكلام في اعتبار المالية في البيع.

ومن هنا لا يتضح الوجه في حرمة بيع الورقة وبطلانه في المقام.

نعم لو فرض عدم البذل بإزاء نفس الورقة، بل بإزاء الجائزة المحتملة، مع تمحض الورقة في كونها وثيقة علي المعاملة المذكورة من دون أن تكون طرفاً فيها، تعين بطلان البيع.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب السبق والرماية.

ص: 452

نعم يصح الصلح بينهم (1) بدفع مقدار من المال علي أن يملكه ورقة اليانصيب المشتملة علي الرقم الخاص علي نحو يكون من أحد الأفراد الذين تكون الجائزة مرددة بينهم (1). وإذا اجتمع عشرة أشخاص، فوهب كل واحد منهم عشرة دنانير لواحد منهم (2)، بشرط أن يجري القرعة في

---------------

أولاً: لعدم إحراز وجود العوض الذي هو المقوم للبيع، ولا يصح البيع مع ذلك إلا بضميمة أمر معلوم الحصول للمبيع، نظير بيع العبد الآبق مع الضميمة علي ما يتضح عند الكلام في اشتراط القدرة علي التسليم من فصل شروط العوضين من مباحث البيع إن شاء الله تعالي.

وثانياً: لأن مقتضي البيع لما كان هو المبادلة بين الثمن والمثمن فهو يقتضي ملكية المشتري للمثمن بنفس البيع كما يقتضي خروج الثمن عن ملكيته به. مع أن الجائزة في المقام لو حصلت فهي تملك بالاقتراع لا بالبيع.

وعلي ذلك يبتني ما يأتي من سيدنا المصنف (قدس سره). ولعله لذا قال بعض مشايخنا (قدس سره) في المنهاج: "لا يجوز بيع أوراق اليانصيب. فإذا كان الإعطاء بقصد البدلية عن الفائدة المحتملة فالمعاملة باطلة" .وهو غير ما سبق منه.

لكن الظاهر عدم ابتناء المعاملة في المقام علي ذلك، بل علي بيع نفس الورقة، وبذل المال بإزائها، فيجري فيه ما سبق.

(1) كأنه للفرق بين الصلح والبيع في عدم اعتبار المالية في موضوع الصلح. لكن سبق عدم ثبوت الفرق المذكور، وعدم ترتب الثمرة عليه في المقام.

(1) يعني: في الاقتراع.

(2) إما أن يفرض كون الموهوب له شخصاً غيرهم، أو يفرض كونه منهم علي أن يشترط عليه جعل عشرة منه مع التسعين عند الاقتراع، لتتم المائة.

ص: 453

المائة دينار المجتمعة عنده، وتعطي لمن تخرج القرعة باسمه منهم، صحّ (3). وأما إذا كان الإعطاء بقصد البدلية عن المائة المحتملة فالمعاملة باطلة (4)، وإذا كان اليانصيب علي النحو الأول فهو صحيح (5).

(مسألة 42): يجوز إعطاء الدم للمرضي المحتاجين إليه (6). كما يجوز أخذ العوض عن الإعطاء والتمكين منه (7). ولا يجوز أخذ العوض عن نفس الدم (1). وإذا وضع الدم في قارورة جاز أخذ العوض عن القارورة

---------------

(3) لعموم نفوذ العقود، المقتضي لصحة الهبة، وعموم نفوذ الشرط المقتضي لصحة الشرط المذكور، ولزوم العمل عليه.

(4) لعدم إحراز المبدل عنه، ولعدم ملكيته بالمبادلة، بل بالقرعة، مع أن مقتضي المبادلة ملكيته بها، كما تقدم في نظيره.

(5) لكن اليانصيب المعروف هذه الأيام لا يبتني علي ذلك، بل علي بيع ورقة اليانصيب، الذي سبق منه (قدس سره) المنع منه، وسبق منّا جوازه.

(6) كما يجوز لهم استعماله لما تقدم منّا ومنه من جواز الانتفاع بالأعيان النجسة في غير المنافع الثابت حرمتها. بل حتي لو قيل بحرمة الانتفاع بها فلابد من البناء علي جوازه في المقام من أجل الحاجة له.

(7) كأن المراد به إجارة الإنسان نفسه لأن يؤخذ منه الدم، بحيث يكون أخذ الدم والتمكين منه من سنخ المنفعة المقابلة بالمال، نظير إجارة المرأة للإرضاع والفحل للضراب، ليباين ما يأتي منه من الحكم بجواز المصالحة علي التمكين. والوجه في الجواز أن التمكين من ذلك نحو من المنفعة المحللة، فيجوز بذل المال بإزائها.

(1) كأنه لما سبق منه (قدس سره) في المسألة الأولي من حرمة بيع الأعيان النجسة. لكن تقدم منّا المنع من ذلك، كما تقدم دفع ما ربما يستدل به علي حرمة بيع الدم بالخصوص.

ص: 454

نفسها إن كانت ذات قيمة (2) ويكون الدم تابعاً لها، ولا يجوز أخذ العوض عن الدم. نعم تجوز المصالحة علي التمكين من الدم بعوض (3). فالعوض يكون في مقابل التمكين لا مقابل الدم.

ويحرم حلق اللحية (4)،

---------------

(2) بل مطلقاً، لما سبق من عدم اعتبار المالية في العوضين.

(3) لعموم نفوذ الصلح. وقد سبق منه (قدس سره) أن الأعيان النجسة وإن لم تكن مالاً شرعاً، إلا أنه يثبت حق الاختصاص فيها، فتجوز المعاوضة علي الحق المذكور، وذلك جارٍ هنا. بل لعل ما ذكره من الصلح راجع إليه.

(4) كما هو المعروف بين الأصحاب المدعي عليه الإجماع في كلام غير واحد. بل ربما ادعي إجماع المسلمين علي ذلك، كما يناسبه ما عن الحنفية والمالكية والحنابلة من الحرمة. نعم قد لا يناسبه ما عن الشافعية من التعبير بكراهة حلقها والمبالغة في قصها.

وكيف كان فقد يستدل علي الحرمة بقوله تعالي حكاية عن إبليس لعنه الله: (وَلآمُرَنَّهُم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنعَامِ وَلآمُرَنَّهُم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلقَ اللهِ)(1) ، لظهوره في حرمة تغيير خلق الله تعالي، لأنه إنما يأمرهم بما يخرجهم عن حظيرة الطاعة، ويكون سبباً في هلاكهم. ومن الظاهر أن حلق اللحية من تغيير خلق الله تعالي.

لكن قيام الضرورة علي جواز تغيير الخلق في الإنسان والحيوان والنبات والجماد وشيوع ذلك، بل رجحانه أو وجوبه في كثير عن الموارد، كحلق الرأس للرجل والشارب وتقليم الأظفار والختان وغير ذلك، يمنع من الجمود علي لفظ الآية. ولاسيما مع عطفه علي قوله: (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنعَامِ) الذي هو نحو من تغيير خلق الله. فلابد إما من حمله علي تغيير خاص، ويكون مجملاً غير صالح للاستدلال.

********

(1) سورة النساء آية: 118.

ص: 455

أو علي ما ذكره غير واحد من إرادة تغيير دين الله تعالي، كما يناسبه قوله تعالي: (فَأَقِم وَجهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا لاَ تَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ)(1)، وهو المروي عن الصادقين (عليهم السلام) -(2).

كما قد يستدل أيضاً علي الحرمة بجملة من النصوص:

منها: ما تضمن الأمر بإعفاء اللحية. كخبر علي بن غراب عن جعفر عن أبيه عن جده (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): حفوا الشوارب وأعفوا اللحي، ولا تشبهوا بالمجوس"(3) ، ومرسل الصدوق:" قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): حفوا الشوارب واعفوا اللحي، ولا تشبهوا باليهود"(4) ، وغيرهما.

وفيه - مع ضعف السند -: أن إعفاء اللحية لا يتحقق بمجرد عدم حلقها، بل بتركها حتي تطول، ولا إشكال في عدم وجوبه، بل لابد من حمله علي الاستحباب، وحينئذٍ لا مجال لاستفادة حرمة حلقها منه.

وأما النهي عن التشبه باليهود فلابد من حمله - بقرينة ما هو المعروف من تطويلهم للحية - علي الاستدراك من الإعفاء، فيرجع عن النهي عن الإفراط في إطالة اللحية حتي يتجاوز القبضة الذي ورد النهي عنه في غير واحد من النصوص(5) ، كما حكي عن الوافي.

وأما النهي عن التشبه بالمجوس فكأنه لأن من سيرتهم حلق اللحية وإطالة الشارب، كما ورد في بعض النصوص(6). وحينئذٍ إما أن يراد به أنهم خرجوا عما ينبغي، كما هو المناسب لما في مرسل الصدوق: "قال: رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) إن المجوس جزو

********

(1) سورة الروم آية: 30.

(2) تفسير العياشي ج: 1 ص: 276.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 67 من أبواب آداب الحمام حديث: 3، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 67 من أبواب آداب الحمام حديث: 3، 1.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 65 من أبواب آداب الحمام.

(6) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 67 من أبواب آداب الحمام حديث: 2. مستدرك الوسائل ج: 1 باب: 40 من أبواب آداب الحمام.

ص: 456

لحاهم ووفروا شواربهم. وإنا نحن نجز الشوارب ونعفي اللحي. وهي الفطرة"(1). فيرجع لتأكيد ما سبقه، من دون أن يقتضي حكماً آخر زائداً عليه، وقد عرفت أن ما سبقه محمول علي الاستحباب.

وإما أن يراد به النهي عن التشبه بهم بعنوانه، أو بعنوان كونه تشبهاً بالكفار، نظير ما ورد في موثق السكوني عن الصادق (عليه السلام):" قال: إنه أوحي الله إلي نبي من أنبيائه، قل للمؤمنين: لا تلبسوا لباس أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي، ولا تسلكوا مسالك أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي"(2) ، ونحوه أو عينه موثقه الآخر(3) ، وعلي ذلك فإنما يحرم الحلق حيث يكون شعاراً مختصاً بهم، بحيث يكون فاعله متشبهاً بهم عرفاً سالكاً مسالكهم. وهو أمر غير المدعي.

ومنها: خبر حبابة الوالبية: "رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرطة الخميس ومعه درة لها سبابتان يضرب بها بياعي الجري والمارماهي والزمار، ويقول لهم: يا بياعي مسوخ بني إسرائيل وجند بني مروان. فقام إليه فرات بن أحنف، فقال: يا أمير المؤمنين وما جند بني مروان ؟ قال: فقال له: أقوام حلقوا اللحي وفتلوا الشوارب، فمسخوا..."(4).

وجه الاستدلال به: أن المسخ لابد أن يكون لحرمة عملهم، وحيث لا يحرم فتل الشوارب، فلابد من كون المسخ من أجل حلق اللحي. نعم الاستدلال به يتوقف علي استصحاب أحكام الشرايع السابقة، وهو غير تام علي التحقيق.

إلا أن يستفاد ثبوت الحكم في هذه الشريعة من شدة الحرمة المناسبة للمسخ. أو من ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) لذلك في مقام التنفير. وكلاهما لا يخلو عن إشكال. فإن الشدة في الحرمة قد تكون مع اختصاصها بالشريعة السابقة، كحرمة العمل يوم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 67 من أبواب آداب الحمام حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 19 من أبواب لباس المصلي حديث: 8.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 64 من أبواب جهاد العدو حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 67 من أبواب آداب الحمام حديث: 4.

ص: 457

السبت، حيث أوجبت مخالفتها المسخ في بني إسرائيل. وذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) لذلك ليس من أجل التنفير عنه، بل من أجل بيان الممسوخين من بني إسرائيل علي صورة السمك الذي نهي عن بيعه.

اللهم إلا أن يقال: حيث كان حلق اللحية مفروغاً عن مرجوحيته في شريعتنا من مجموع النصوص والسيرة، فالتنبيه لشدة حرمته في الشريعة السابقة يناسب كون المرجوحية بنحو الحرمة في هذه الشريعة، وإلا كان المناسب الاستدراك والتنبيه لعدم الحرمة.

لكنه لا يخلو عن إشكال. علي أن ضعف سند الخبر، وعدم وضوح اعتماد الأصحاب عليه في البناء علي الحرمة، يمنع من الاستدلال به.

ومنها: صحيح البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام) المروي عن مستطرفات السرائر:" وسألته عن الرجل هل يصلح له أن يأخذ من لحيته ؟ قال: أما من عارضيه فلا بأس، وأما من مقدمها فلا "،ونحوه صحيح علي بن جعفر(1).

ويشكل بأن الأخذ من اللحية إنما يكون بإبقاء شيء منها، لا بحلقها. ولابد حينئذٍ من حمله علي كراهة تخفيفها من المقدم دون العارضين، من دون أن تدل علي حرمة حلقها.

ومنها: حديث الجعفريات عن الإمام الكاظم (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام):" قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): حلق اللحية من المثلة، ومن مثّل فعليه لعنة الله"(2).

وقد يستشكل فيه بوجوه:

الأول: أن اللعن لا يستلزم الحرمة، بل يجتمع مع الكراهة. ففي موثق إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن موسي (عليه السلام): "قال: لعن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) ثلاثة منهم النائم في بيت وحده"(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 63 من أبواب آداب الحمام حديث: 5 وذيله.

(2) مستدرك الوسائل ج: 1 باب: 40 من أبواب آداب الحمام حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 20 من أبواب أحكام المساكن حديث: 10.

ص: 458

ويندفع بأنه ظاهر في الحرمة، ولو بلحاظ وروده مورد الردع عن العمل، والأصل في الردع الحرمة ما لم يثبت الترخيص، نظير ما ذكرناه في وجه حمل النهي علي الحرمة في الأصول. علي أن تطبيق المثلة في المقام كافٍ في البناء علي الحرمة، لما هو المعلوم من حرمة المثلة.

الثاني: ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن المثلة هي التنكيل بالغير بقصد هتكه وإهانته، وعليه فالمراد بالحديث الردع عن حلق لحية الغير من أجل هتكه وإهانته، لا عن حلق الإنسان لحيته تجملاً أو حلق غيره لها برضاه كذلك.

ويندفع بأن ظاهر الحديث مبغوضية حلق اللحية في نفسه وبعنوانه، لا بعنوان كونه مثلة بالغير. وتطبيق المثلة عليه تعبدي مبني علي نحو من التوسع من أجل الردع عنه، نظير قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

"الشيب نور فلا تنتفوه "(1)حيث لا مجال لحمله علي خصوص ما إذا كان بهياً منيراً. وإلا فليس من وظيفة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) تطبيق الكبريات الخارجية إذا كانت واضحة الانطباق. نعم لو كان التعبير هكذا: لما كان حلق اللحية مثلة فعلي الحالق لعنة الله، كان لما ذكر وجه.

وأما حلق لحية الغير بقصد هتكه وإهانته فحرمته أهم من حرمة المثلة وأظهر من أن تحتاج إلي تطبيق عنوانها، لما فيها من انتهاك حرمة الله تعالي بانتهاك حرمة عبده المؤمن في بدنه وعرضه، ودونها حرمة سبه وشتمه واحتقاره، التي ورد فيها مضامين قاسية في الاستنكار والردع لا تناسب لسان الردع المذكور في الحديث المستدل به. بل هي أفظع أنواع الظلم الذي ورد فيه ما ورد مما لا يناسب اللسان المذكور ولا يشابهه.

علي أن ذلك ليس أمراً شايعاً، ليناسب إرادته من الإطلاق، بخلاف حلق الإنسان لحيته، الذي هو زي معروف يختاره بعض الناس، والذي أشارت إليه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 79 من أبواب آداب الحمام حديث: 4، مستدرك الوسائل ج: 1 باب: 50 من أبواب آداب الحمام حديث: 2.

ص: 459

النصوص المتقدمة وغيرها، حيث يقرب جداً إشارة الإطلاق إليه ردعاً عن سريان هذا الزي وشيوعه بين المؤمنين. ولاسيما وأن هذا هو الأنسب بالإطلاق، لابتناء علي ما ذكره (قدس سره) علي نحو من التقييد، لاختصاصه بفعل ذلك بالغير وبقصد الإهانة والتنكيل، ولا إشعار بهما في الحديث.

الثالث: أن الحديث قد تضمن حكاية عن واقع قائم آنذاك، حيث لم يكن حلق اللحية مألوفاً ولا مقبولاً اجتماعياً، وليس تطبيقاً شرعياً، أما إذا خرج عن ذلك وصار مقبول اجتماعياً فلا يترتب عليه حكم المثلة، لخروجه عنه.

وفيه: أنه إن أريد أن حلق اللحية غير مقبول اجتماعياً، بلحاظ كونه زياً لأهل الاختيال والترف والبطر، فهو غير بعيد، إلا أنه لا يقتضي تطبيق المثلة. وإن أريد أنه غير مقبول اجتماعياً، لأنه من المستبشعات، نظير قطع الآذان، فتطبيق المثلة عليه وإن كان مناسباً، إلا أنه في غاية المنع، لما سبق من كونه زياً معروفاً لفئة خاصة.

علي أن المثلة حيث كانت مبنية علي التنكيل لغة، فتطبيقها لا يكون حقيقياً، بل مبنياً علي نحو من التوسع، وكما يمكن التوسع بلحاظ الاستبشاع، كذلك يمكن التوسع بلحاظ الخروج به عن مقتضي الوضع الطبيعي والخلقة الأصلية. وحيث كان الأول يبتني علي نحو من التقييد، لاختصاصه بصورة تحقق الاستبشاع المدعي، فلا مجال للبناء عليه من دون قرينة، بل يتعين الثاني، عملاً بالإطلاق.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الحديث الشريف في إطلاق حرمة حلق اللحية بما هو في نفسه كزي خاص معروف، قد أشارت إليه النصوص السابقة وغيرها.

الرابع: ضعف الحديث سنداً. وحيث سبق أن الحديث من الجعفريات فأحاديث الجعفريات كلها أو جلها مروية عن محمد بن محمد بن الأشعث عن موسي بن إسماعيل بن الإمام موسي بن جعفر الكاظم (عليهما السلام) عن أبيه عن جده عن آبائه.

وقد سبق من بعض مشايخنا (قدس سره) الإشكال في سند الخبر لجهالة موسي بن إسماعيل. ثم حكم في المسألة المائة والسابعة والسبعين من كتاب القضاء من مباني

ص: 460

تكملة المنهاج بأن الطريق لا بأس به.

وكأنه بناءً علي مختاره سابقاً من وثاقة رجال السند في كتاب كامل الزيارات لكون موسي وأبيه منهم. وهو وإن عدل عن ذلك، إلا أن الظاهر أن عدوله في غير محله، علي ما أوضحناه في جواب سؤال وجّه إلينا حول ذلك(1).

********

(1) جاء في البيان المطبوع في وجه عدول المرحوم السيد الخوئي (قدس سره) عن موقفه من رجال كامل الزيارات. بعد نقل كلامه وتأكيد ظهوره في توثيق جميع رجال السند. ولكن بعد ملاحظة روايات الكتاب والتفتيش في أسانيدها ظهر اشتماله علي جملة وافرة من الروايات المرسلة والمرفوعة والمقطوعة والتي تنتهي إلي غير المعصوم (عليه السلام)، والتي وقع في أسانيدها من هو من غير أصحابنا كما أنه يشتمل علي الكثير من روايات أناس مهملين لا ذكر لهم في كتب الرجال أصلاً. بل وجماعة مشهورين بالضعف كالحسن بن علي بن عثمان ومحمد بن عبدالله بن مهران وأمية بن علي القيسي وغيرهم. ومعلوم أن هذا كله لا ينسجم مع ما أخبر به (قدس سره) في الديباجة لو كان مراده توثيق جميع من وقع في إسناد كتابه، ومن أنه لم يخرج فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم فصوناً لكلامه عن الأخبار بما لا واقع له لم يكن بد من حمل العبارة علي خلاف ظاهرها بإرادة مشايخه خاصة. لكن ملاحظة عبارته بتمامها تشهد بأنها آبية عن الحمل المذكور، كيف وأن الغرض من توثيق الرجال بيان اعتبار روايات الكتاب، ومن الظاهر أن اعتبار الرواية إنما يكون بوثاقة جميع رجال سندها لا خصوص الراوي الأول الذي يروي عنه ابن قولوية. بل قوله:" ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال، كالصريح في خلافه "وإلا كان يقول:" ولا أخرجت فيه حديثاً رواه الشذاذ "ومنه لابد من إبقاء كلامه علي ظاهره من هذه الجهة وحيث كان منزهاً عن الكذب فلابد من توجيه كلامه بما يناسب الكتاب المذكور وذلك بالنظر في نقاط الضعف التي أشير إليها واحدة واحدةً.

1 - اشتمال الكتاب علي الروايات المرسلة والمرفوعة والمقطوعة لا تنافي تعهده، فإن من القريب اطلاعه علي أن الشخص الذي أرسل من لا يرسل إلا عن ثقة، حيث لا يبعد مألوفية ذلك عند القدماء كما وصل ذلك إلينا من بعضهم صريحاً، أو علي الكتاب الذي اشتمل عليه الخبر المذكور منه من الكتب التي قامت القرائن الخارجية من صحة أخبارها

ص: 461

نعم استشكل (قدس سره) هناك بأن كتاب الجعفريات الذي بأيدينا لم يثبت صحة

_______________

********

(1) لعرضها علي الأئمة (عليهم السلام) أو علي خواص أصحابهم ممن يحسن التمييز ونحو ذلك مما قد يتيسر له ولأمثاله من قدماء الأصحاب وذوي المقام منهم الاطلاع عليه وإن خفي علينا الكثير من ذلك لبعد العهد وإثارة الشبه ونحو ذلك.

2 - انتهاء الروايات إلي غير المعصومين (عليهم السلام) إنما يكشف عن أن تعهده بالاقتصار علي رواياتهم مبني علي الغالب، لكونه المقصود بالأصل وكون المقصود من ذكر غيره للتأييد والاستظهار، علي أنه إنما التزم بذلك فيما إذا كان في الرواية عنهم ما يغني عن الرواية عن غيرهم. حيث قال:" ولم أخرج فيه حديثاً روي عن غيرهم إذا كان فيما روي عنهم من حديثهم (صلوات الله عليهم) كفاية عن حديث غيرهم ".وعلي كل حال فلا دخل لذلك بالمهم فيما نحن فيه من وثاقة رجال السند ومثله الحال في الرواية عن غير أصحابنا إذا كان المراد منهم من هو بعيد عن أصحابنا أما لو أريد به منهم من هو يختلط بهم كالسكوني، وأبي الجارود، وطلحة بن زيد، فهم ملحقون بأصحابنا في عرف أهل الحديث كما هو ظاهر.

3 - اشتمال الكتاب علي الكثير من روايات أناس مهملين لا ذكر لهم في كتب الرجال لا ينافي تعهده فإن كتب الرجال قد أهملت الكثير من الرواية. ولاسيما وأن بعض تلك الكتب قد ألفت لاستيعاب أهل الكتب من أصحابنا لا جميع الرواة منهم كما هو الحال في كتاب النجاشي وفهرست الشيخ. وبعضها اقتصر علي خصوص أصحاب الأئمة (عليهم السلام) من دون نظر لغيرهم من الرواة الذين وقعوا في طريق أسانيد الروايات من دون أن يكونوا من أصحابهم (عليهم السلام)، كما في كتاب الشيخ. وهو وإن ذكر فيه جملة من الرجال في باب من لم يروِ عنهم (عليهم السلام) إلا أنه مضطر في ذلك قطعاً وغير مستوف للرواة يقيناً. اشتمال الكتاب علي جماعة مشهورين بالضعف إن كان المراد به أنهم مشهورين عند غيره بنحو يمكن مخالفة ابن قولويه للمشهور في ذلك، فهو لا يعدو أن يكون اختلافاً بين أهل الجرح والتعديل الذي يقع كثيراً وليس تقديم قول غيره عليه بأولي من تقديم قوله. ولاسيما مع كون عمدة الجارحين متأخرين عنه كالشيخ والنجاشي. علي أنه يأتي ما يمكن به توجيه الاختلاف المذكور. وإن كان المراد أنهم مشهورون بالضعف عند الأصحاب عموماً بحيث لا يمكن خفاء ذلك علي ابن قولويه ومخالفته لهم فيه. فيهوّن الأمر إمكان جمع توثيقه لهم في كتابه مع تضعيفهم المذكور بما ذكرنا في توجيه حجية مراسيل ابن أبي

ص: 462

نسبته لمن ينسب إليه. وعمدة ما ذكره في وجهه أن النجاشي والشيخ (قدس سرهما)

_______________

********

(1) عمير (1) من أنه حيث كان الغرض من توثيق الرجال في كامل الزيارات وفيمن يروي عنه ابن أبي عمير ونحوه هو توثيق رواياتهم. فالظاهر أن المراد بذلك وثاقتهم حين أدائهم الرواية وأخذها عنهم، لأن ذلك كافٍ في حجية الرواية والاعتماد عليها، ولا ينافي ذلك أن يعرض ما يسقط روايته عن الحجية من ضعف في الذاكرة حتي صار يخلط ولا يضبط، أو من هزة وفتنة أخرجته عن مقام الوثاقة أي الكذب أو العلو أو الكفر أو غير ذلك. كما أن الظاهر أيضاً أن مراد الجارح هو حصول ما يمنع من الاعتماد علي رواية الرجل في الجملة ولو في بعض الأزمنة، كما هو المظنون أو المطمأن به في أكثر المجروحين ممن روي عنه الأصحاب في كتبهم واختلط بهم. وإلا فمن البعيد جداً رواياتهم عمن هو كاذب في جميع عمره يعرف عنه ذلك وهم يعاشرونه ويخالطونه ويحدثهم ويحدثونه، وحينئذٍ لا تنافي بين التوثيق المذكور والجرح الثابت علي الشخص لنضطر معه إلي تأويل كلام الموثقين بمثل هذه التوثيقات أو البناء علي خطئهم فيها. غاية الأمر أنه مع الجهل بتاريخ رواية الشخص الذي يجتمع فيه التوثيق المذكور مع الطعن لا يعتمد عليها لعدم العلم بصدورها في زمان الاستقامة، وعلي ذلك يتعين البناء علي وثاقة الرجال المذكورين في الكتاب المذكور، وكذا الذين روي عنهم مثل ابن أبي عمير ما لم يطعن فيهم من يقبل طعنه فلا تقبل حينئذٍ بقية رواياتهم ما لم يعلم صدورها حال الاستقامة والمظنون جريان ذلك في رجال جميع الكتب التي يظهر من أصحابها تصحيح رواياتها كالكافي والفقيه وإن كان في بلوغ ذلك مرتبة الحجية بعد عدم تصريح مؤلفيها بوثاقة رجالها إشكال لإمكان اعتمادهم في توثيق الرواية علي قرائن أخري من دون أن يثبت عندهم وثاقة راويها حين أدائها، وإن كان بعيداً في الجملة، وكيف كان إن لم يكن هذا الوجه هو الظاهر بدواً فلا أقل من لزوم الحمل عليه بعد ملاحظة واقع الكتاب، ومراعاة حال مؤلفه في الوثاقة والجلالة، ورفعة المقام وقدم الطبقة، وهو أولي بكثير من حمل كلامه علي توثيق خصوص مشايخه الذين يروي عنهم بلا واسطة. (منه عفي عنه)

ص: 463

قد نسبا لإسماعيل بن موسي بن جعفر (عليهما السلام) جملة من الكتب روياها عنه بطرق معتبرة، إلا أن الموجود في أيدينا قد اشتمل علي كتب لم يذكراها، وهي كتاب الجهاد، وكتاب التفسير، وكتاب النفقات، وكتاب الطب والمأكول، وكتاب غير مترجم. كما أنهما ذكرا كتاب الطلاق، ولم يوجد فيما بأيدينا.

قال بعد ذلك:" فمن المطمأن به أنهما متغايران. ولا أقل من أنه لم يثبت الاتحاد، حيث لا طريق لنا إلي إثبات ذلك، وأن الشيخ المجلسي وصاحب الوسائل (قدس سرهما) لم يرويا عن ذلك الكتاب شيئاً، ولم يصل الكتاب إليهما جزماً. بل الشيخ الطوسي نفسه لم يصل إليه الكتاب، ولذلك لم يرو عنه في كتابيه شيئاً ".وقد سبقه إلي بعض ذلك وغيره في الجواهر عند الكلام في جواز إقامة الحدود للحاكم الشرعي من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فراجع.

هذا ولا يخفي أن الجعفريات عبارة عن مجموعة من الكتب في أبواب الفقه وغيره، كل كتاب منها يتضمن مجموعة من الروايات رويت بالطريق المتقدم. ومن ثم فقد تنسب لإسماعيل - كما سبق عن النجاشي والشيخ (قدس سرهما) - باعتباره الراوي لها عن أبيه الإمام الكاظم (عليه السلام) عن أبيه الإمام الصادق جعفر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام).

ولعل تسميتها بالجعفريات لروايتها عن الإمام الصادق (عليه السلام). كما قد تنسب لمحمد بن الأشعث بلحاظ رجوع طرق الرواة للكتاب المذكور إليه، فهو سبب نشرها. ولذا قد تسمي بالأشعثيات. وحينئذٍ نقول:

أما النجاشي والشيخ (قدس سرهما) فهما ليسا في مقام ذكر جميع كتب إسماعيل، ولا جميع الكتب التي اشتمل عليها كتاب الجعفريات، وإنما ذكرا أن لإسماعيل كتباً منها ما ذكراه، وهذا لا ينافي وجود كتب أخري له قد أودعت في كتاب الجعفريات، أو أن بعض الكتب التي ذكراها لم يودع في كتاب الجعفريات. وحينئذٍ لا يدل ما ذكراه علي مباينة الكتاب الموجود بأيدينا للكتاب الأصلي.

ولاسيما مع احتمال التداخل في عرض الكتب وغيرها، وأن عدم ذكرهم

ص: 464

لبعض الكتب لدخوله فيما ذكراه، ككتاب النفقات الذي ذكر فيما بأيدينا بعد كتاب النكاح، ولعله كان بنظرهما تتمة لكتاب النكاح، كما عليه سيرة الفقهاء. كما أن كتاب الطلاق وإن لم يذكر فيما بأيدينا بعنوان كتاب، إلا أنه ذكر بعنوان باب في ضمن كتاب النفقات، وتبعه أبواب في أحكام الطلاق.

علي أنه لو فرض ظهور كلامهما في عدم وجود الكتب المذكورة فهو إنما يكشف عن كون تلك الكتب قد زيدت في الكتاب من المؤلف أو غيره، لا أن كتاب الجعفريات الذي بأيدينا مباين للكتاب الأصلي.

مضافاً إلي أن الصدوق (قدس سره) ذكر في المجلس الواحد والسبعين من أماليه بسنده عن موسي بن إسماعيل من دون توسط محمد بن الأشعث ثلاثة أحاديث موجودة في كتاب التفسير مما بأيدينا، وروي في المجلس الأربعين حديثاً رابعاً عنه موجود فيه أيضاً، حيث يناسب ذلك كون كتاب التفسير من جملة الكتب التي تنسب لإسماعيل أو لابنه موسي، ولعله هو الذي نسبه النجاشي لموسي وسماه كتاب جوامع التفسير، ونسبه الشيخ له وسماه جامع التفسير.

وكذا ما ذكره من عدم وصول الكتاب للمجلسي وصاحب الوسائل، إذ عدم وصول بعض الكتب لهما قد يكون بسبب صعوبة انتشار الكتب المخطوطة، وإن كان الكتاب في نفسه مشهوراً معروفاً.

بل ذكر المجلسي (قدس سره) عند التعرض لسند كتاب النوادر المأخوذ من كتاب الجعفريات أن كتاب الجعفريات قد روي بطرق متعددة غير الطريق الذي اعتمده صاحب النوادر(1). كما ذكر في موضع آخر عن كتاب النوادر المذكور أن كتاب الجعفريات الذي هو الأصل له قد روي بطرق متعددة، ثم قال: "فتلك القرائن يقوي العمل بأحاديثه"(2).

وأما عدم اطلاع الشيخ علي الكتاب وعدم روايته عنه في كتابيه، فهو غير ظاهر.

-

********

(1) بحار الأنوار ج: 1 ص: 54، 36.

(2) بحار الأنوار ج: 1 ص: 54، 36.

ص: 465

حيث قد روي الشيخ في أول باب فضل زيارة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) من كتاب الحج من التهذيب حديثاً مطابقاً لما في الكتاب الذي بأيدينا متناً وسنداً. كما رواه أيضاً ابن قولويه في الباب الثاني من كتابه كامل الزيارات. وروي الشيخ أيضاً في التهذيبين(1) حديثاً آخر مطابقاً لما في أيدينا متناً وسنداً.

هذا وبالرجوع إلي الفائدة الثانية من خاتمة كتاب مستدرك الوسائل يتضح أن الكتاب المذكور قد اشتهر بين الخاصة والعامة ورواه كثير من مشايخ الحديث، وذكره العلامة في إجازته لبني زهرة باسم الجعفريات، وذكر بعض أحاديثه، كما ذكر بعضها ابن طاووس في فلاح السائل. بل أثبت منه غير واحد روايات موجودة فيما هو الموجود بأيدينا منه.

منهم ابن طاووس (قدس سره) في الإقبال، والشهيد (قدس سره) في الذكري ونكت الإرشاد. وقد اختصره الشهيد (قدس سره) واختار منه مجموعة من الأحاديث، وذكر صاحب المستدرك أنها موجودة عنده، وتقدم أن نوادر فضل الله الراوندي مأخوذة منه.

كما أن الصدوق (قدس سره) روي في المجلس الثالث والخمسين حديثاً بسنده عن موسي من دون توسط محمد بن الأشعث موجود في كتاب الدعاء مما بأيدينا، وروي في المجلس الواحد والسبعين من دون توسط محمد أيضاً حديثين آخرين موجودين في كتاب الجهاد مما بأيدينا، وهي غير ما سبق منه فيما هو الموجود من كتاب التفسير.

وذلك كله موجب للوثوق بصحة نسبة الكتاب الذي بأيدينا ومطابقته للكتاب الأصلي. فلاحظ.

هذا مضافاً إلي تأيد الحكم المذكور بالإجماع المدعي، الذي يقرب كشفه عن رأي المعصومين (صلوات الله عليهم) بسبب كون المسألة مورداً للابتلاء من صدر الإسلام. بل قد تستفاد المفروغية عن الحرمة من اقتصار الأسئلة في النصوص عن كيفية وضع اللحية من الأخذ منها من دون سؤال عن أصل الحلق. وقد صرح سيدن

********

(1) تهذيب الأحكام ج: 6 ص: 266، والاستبصار ج: 3 ص: 24.

ص: 466

ويحرم أخذ الأجرة عليه (1). إلا إذا كان ترك الحلق يوجب سخرية ومهانة شديدة لا تتحمل عند العقلاء، فيجوز حينئذٍ (2).

---------------

المصنف (قدس سره) في حديث لنا معه بأن الإجماع دليل المسألة عنده، كما هو الظاهر من حال كثير من الأعلام.

ومن الله سبحانه نستمد التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) فإن حرمة العمل تقتضي حرمة الأجرة المأخوذة في مقابله، لكونه من أكل المال بالباطل، كما تقدم غير مرة.

(2) إما لخروجه عن المتيقن من دليل الحرمة عنده (قدس سره) وهو الإجماع، أو لقاعدة نفي الحرج. لكن لا مجال للأول بناءً علي ما سبق من نهوض حديث الجعفريات بإثبات الحرمة. كما لا مجال للثاني بناءً علي ما صرح به (قدس سره) في مجلس درسه الشريف من عدم نهوض الحرج برفع الحرمة.

نعم لا يظهر الوجه في ذلك، لعدم مناسبته لإطلاق دليل نفي الحرج، حيث يتعين البناء علي عمومه لها وعدم الخروج عنه إلا في الموارد التي يعلم بقصوره عنها، تبعاً للمرتكزات المتشرعية، بلحاظ أهمية الحكم التي يمكن فرضها في الأحكام الوجوبية والتحريمية معاً، وليس منها المقام، لعدم وضوح أهميته بنحو يمنع من تحكيم دليل الحرج عليه.

غاية الأمر أن الحرج لا يصلح لرفع الحكم إذا كان مسبباً عن ضعف شخصية المكلف الدينية، بأن لا يري دينه سبباً لعزته، بحيث ترتفع به معنوياته، ويسخر ممن يسخر منه، كما قال تعالي حكاية عن نوح (علي نبينا وآله وعليه السلام): (وَيَصنَعُ الفُلكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيهِ مَلأٌ مِن قَومِهِ سَخِرُوا مِنهُ قَالَ إِن تَسخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسخَرُ مِنكُم كَمَا تَسخَرُونَ)(1). لظهور أن ضعف الشخصية الدينية مبغوض شرعاً، بحيث يعلم

********

(1) سورة هود آية: 38.

ص: 467

بعدم اعتداد الشارع الأقدس بالحرج الناشئ منه، وعدم رفع أحكامه بسببه. بخلاف ما إذا لم يكن مسبباً عن ذلك، كما لو كان بحيث لا يستطيع الانتصار وإظهار الاعتزاز بدينه، خوفاً من الطرف المقابل، حيث يصلح الحرج حينئذٍ لرفع الحكم.

وكذا يجوز حلق اللحية عند خوف الضرر بلا إشكال. لقاعدة نفي الضرر. ولعله إنما لم يذكره لوضوحه.

انتهي الكلام في المكاسب المحرمة شرحاً لكتاب (منهاج الصالحين) ليلة الثلاثاء السابع والعشرين من شهر جمادي الثانية سنة ألف وأربعمائة وإحدي وعشرين لهجرة سيد المرسلين عليه وآله أفضل الصلوات وأزكي التحيات. في النجف الأشرف بيمن الحرم المشرف علي مشرفه الصلاة والسلام.

بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل سماحة آية الله (السيد محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته. والحمد لله في البدء والختام، وبه الاعتصام.

ص: 468

فهرست تفصيلي

(5)كتاب التجارة المراد من التجارة مطلق البيع والشراء5

(7)عمومات النفوذ في مطلق المعاملات7

(14)ما يختص بنفوذ البيع والتجارة14

(15)استحباب التجارة15

(16)تحرم التجارة بالأعيان النجسة في الجملة16

(19)يحرم بيع الخنزير19

(20)الكلام في جواز أخذ الغير الثمن من البائع20

(23)إذا أسلم الكافر قبل قبضه الثمن23

(27)يحرم بيع الكلب إلا كلب الصيد مع الكلاب في كلب الماشية والزرع27

(32)يحرم بيع الميتة إذا اختلط المذكي بالميتة32

(36)ميتة ذي النفسي السائلة36

(36)يحرم بيع الخمر36

(37)التصدق بالثمن ولو مع معرفة البائع37

(38)جواز اخذ الغير الثمن من البائع38

(39)يحرم بيع الدم39

(40)يحرم يع العذرة40

(45)يحرم بيع المني مع الكلام في صور بيعه45

(49)لا فرق في الحرمة بين البيع والشراء وغير ذلك مما يعتبر فيه المالية49

(51)بيع العصير العنبي إذا غلا51

(53)وثاقة علي بن أبي حمزة البطائني53

(56)ثبوت حق الاختصاص في الأعيان النجسة56

ص: 469

(59)يجوز المعاوضة علي حق الاختصاص59

(60)يجوز بيع الميتة الطاهرة60

(60)بيع ما لا تحله الحياة من أجزاء الميتة60

(60)الكلام في شرطية المالية في البيع60

(68)يجوز الانتفاع بالأعيان النجسة في غير الجهة المحرمة68

(74)بيع الارواث الطاهرة74

(76)بيع الأبوال الطاهرة76

(79)بيع الأعيان المتنجسة79

(82)وجوب إعلام المشتري بالنجاسة82

(86)وجوب الإعلام نفسي لا شرطي86

(88) بيع ما يكون آلة للحرام88

(89)يحرم بيع آلات اللهو89

(90)يحرم بيع الأصنام والصلبان90

(91)يحرم بيع آلات القمار91

(95)عمل ما يكون آلة للحرام95

(97)الكلام في وجوب إعدام آلات الحرام97

(102)التعامل بالعملة المغشوشة102

(105)يجوز بيع السباع والحشرات والمسوخات105

(109)بيع أواني الذهب والفضة109

(109)بيع المصحف علي الكافر109

(112) بيع المصحف علي المسلم112

(118) حرمة بيع المصحف تكليفية أو وضعية ؟118

(125)بيع العنب أو التمر ممن يصنعه خمراً125

(126)إجارة المساكن ونحوها لبيع الخمر ونحوه126

(129)يحرم تصوير ذوات الأرواح129

(134)يجوز تصوير غير ذوات الأرواح وان كانت نجسة134

(136)يجوز التصوير الفوتوغرافي136

(140)كراهة اقتناء الصور140

(145)حرمة الغناء145

ص: 470

(151)حرمة استماع الغناء151

(152)استثناء الحداء من حرمة الغناء152

(153)استثناء غناء النساء في الأعراس من حرمة الغناء153

(155)ضرب الدفوف في الأعراس155

(158)يحرم معونة الظالمين في ظلمهم158

(160)الكلام في عموم الحرمة لكل ظالم160

(161)تحديد الإعانة المحرمة161

(167)حرمة الانتساب إلي الظالم ولو من غير معونة167

(169)يجوز العمل مع السلطان لنفع المؤمنين169

(175)يجوز العمل مع السلطان لدفع الضرر والإكراه175

(176)إذا استلزم العمل للسلطان اضراراً بالمؤمنين176

(179)الكلام في جواز العمل للسطان عند الحاجة المادية الملحة179

(180)يحرم اللعب بآلات القمار180

(181)حرمة أخذ الرهن181

(182)يحرم اللعب بآلات القمار ولو من دون رهن182

(185)المراهنة في غير آلات القمار185

(191)المغالبة في غير آلات القمار191

(196)تحديد القمار196

(197)يحرم عمل السحر197

(202)تعلم السحر وتعليمه202

(205)تحديد مفهوم السحر205

(207)القيافة حرام207

(210)تحديد القيافة المحرّمة210

(213)الكلام في حرمة الشعبذة213

(216)حرمة الكهانة وتحديدها216

(220) كما يحرم تصديق المخبر كذلك يحرم إخباره عن اعتقاد وجزم220

(220) تختص الحرمة بالخبر الجازم220

(221) موضوع الحرمة هو الإخبار بالغيب221

(223) حرمة النجش223

(226) حرمة التنجيم مع تحديد المحرّم منه226

ص: 471

(229) حرمة الغش وتحديد موضوعه229

(233)عدم اختصاص حرمة الغش بالبيع والنكاح233

(236)لا يحرم غش غير المؤمن236

(237)عدم توقف الغش علي القصد237

(240)تحديد الغاش من غيره في صورة التعدد240

(243)الغش في المعاملة لا يوجب فسادها243

(245)الكلام في صور الغش التي يثبت بها الخيار أو يبطل بها البيع245

(249)لو فرض عدم سلامة بعض المبيع249

(250)الإجارة علي الواجبات250

(261)ما يقبل النيابة لا محذور في التكسب به261

(263)اخذ الأجرة علي الصناعات الواجبة كفاية263

(267)حقيقة النيابة وأحكامها267

(276)الاستئجار علي الواجب غير العبادي276

(277)الاستئجار علي تعليم الأحكام277

(279)النوح بالباطل279

(282)يجوز التكسب بالمحلل من النياحة282

(283)يحرم هجاء المؤمن283

(284)يحرم الفحش من القول284

(287)حرمة الرشوة وتحديد موضوعها287

(290)الكلام في الرشوة في غير القضاء290

(296)الكلام في أخذ الرشوة لدفع الظلم296

(296)الكلام في أخذ الرشوة لترتب النفع296

(298)الرشوة علي استنقاذ الحق298

(300)صدق الرشوة علي المعاملة المحابانية300

(301)حفظ كتب الضلال301

(306)يحرم التزين بلبس الذهب للرجل306

(309)يحرم الكذب309

(311)تحديد موضوع الكذب311

(315)جواز الكذب لدفع الضرر315

(316)يجوز الكذب للإصلاح بين المؤمنين316

ص: 472

(320)إذا أمكنت التورية وجب اختيارها320

(322)الكذب في الوعد322

(323)حقيقة الوعد323

(324)حكم الوعد حين صدوره324

(325)حكم الوفاء بالوعد بعد صدوره325

(333)تحرم الولاية من قبل السلطان الجائر333

(334) تجوز الولاية مع الإكراه مع الكلام في تحديد موضوعها334

(338) يجوز شراء ما يأخذ السلطان من الضرائب338

(350)ما يأخذه السلطان من الضرائب الشرعية تبرأ به ذمة الدافع350

(362)إذا دفع الإنسان إلي آخر مالاً ليصرفه في طائفة من الناس362

(366)جوائز الظالم حلال366

(373)إذا علم ان في أموال الظالم غصب373

(383)الكلام في عموم حجية القرعة لكل أمر مشكل383

(408)الكلام في وجوب التصدق في مجهول المالك408

(408)الكلام في أن المال المجهول المالك للإمام408

(410)الكلام في جواز تملك المجهول المالك لآخذة مع التخميس410

(413)لا فرق في وجوب التصدق بين الجهل بالمالك أو اليأس من الوصول إليه413

(414)إذا كان المال المجهول مالكه ذمياً414

(421)الكلام في وجوب أستأذان الحاكم الشرعي421

(425)لو ظهر المالك ولم يرض بالصدقة425

(430)الكلام في مستحق الصدقة430

(438)الكلام في جواز احتسابه صدقة علي نفسه438

(439)يجب الفحص عن المالك439

(443) مكروهات التجارة443

(443) الكلام في كراهة بيع الصرف443

(445) كراهة بيع الأكفان445

(446) بيع الطعام والعبيد446

(447) كراهة أن يكون الإنسان جزاراً447

(448) كراهة التكسب بالحجامة448

(451)يكره التكسب بضراب الفحل451

ص: 473

(451)بيع أوراق اليانصيب451

(455)يجوز إعطاء الدم إلي المرضي وأخذ العوض عليه455

(455)يحرم حلق اللحية455

(461)وثاقة رجال السند في كتاب كامل الزيارات461

(464)كتاب الجعفريات وصحة نسبته464

ص: 474

المجلد 2

اشارة

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

الطبعة الاولي

1427ه - 2006م

ص: 1

اشارة

مصباح المنهاج

ص: 2

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

ص: 3

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

الطبعة الاولي

1427ه - 2006م

ص: 4

الجزء الثاني

(5)

آداب التجارة

بسم الله الرحمن الرحيم

(مسألة 43): يستحب التفقه فيها (1)

---------------

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وآله الطاهرين. ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين.

(1) كما ذكره غير واحد. واستدل عليه بمعتبر الأصبغ بن نباتة: (سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول علي المنبر: يا معشر التجار الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر. والله للربا في هذه الأمة أخفي من دبيب النمل علي الصفا...)(1) ، وموثق طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من اتجر بغير علم ارتطم في الربا ثم ارتطم) (2) ، وغيرهما.

لكنها ظاهرة في وجوب التعلم وجوباً طريقياً بملاك التحفظ من الوقوع في الحرام، نظير ما يذكر في الأصول من وجوب الفحص عن الأدلة وتعلم الأحكام قبل الرجوع للأصول الترخيصية، وعدم جواز العمل بالعام قبل الفحص من المخصص ونحو ذلك. وهو المتعين لهذه النصوص، ولجميع الأدلة المذكورة هناك. ولاسيما وأن الأصل الأولي يقتضي بطلان المعاملة وعدم ترتب الأثر عليها بمجرد احتمال بطلانها ولو مع عدم العلم الإجمالي بذلك. وربما يرجع إلي ذلك ما عن الإيضاح من أن التعلم قد يجب.

-

********

(1) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

ص: 5

(6)

ليعرف صحيح البيع من فاسده، ويسلم من الربا. بل مع الشك في الصحة والفساد لا يجوز له ترتيب آثار الصحة (1) بل يتعين عليه الاحتياط.

---------------

هذا وفي الجواهر: (وعلي كل حال فالمراد بالتفقه المستحب إحراز المعرفة قبل الشروع مخافة عدم التنبه لكثير مما يعتبر فيه علي وجه يق) تضي فساده، فتندرج في أكل المال بالباطل، لا مطلقاً، ضرورة وجوبها بحكم الشرع في كل فعل وترك، فإن طلب العلم فريضة علي كل مسلم، نعم لا يعتبر في الشروع في أسباب المعاملة سبق العلم بالصحة والفساد... فله حينئذ إيقاع المعاملة مثلاً، ثم السؤال عن صحتها وفسادها ثم ترتيب الآثار علي ذلك).

وظاهره حمل نصوص المقام علي استحباب سبق التعلم علي إيقاع أسباب المعاملة في مقابل تأخيره عنها مع الإتيان به قبل ترتب الأثر، لا في مقابل عدم الإتيان به رأساً. لكنه مخالف لظاهر النصوص المذكورة، لظهور التعليل فيها بخوف الوقوع في الربا في أن المراد ترك التعلم رأساً، وذلك ملزم بحملها علي وجوب التعلم، ولا يبقي لاستحباب سبق التعلم وجه.

ولا يخلو كلامه عن تدافع لظهور صدره في أن استحباب سبق التعلم علي إيقاع المعاملة للحذر من فساد المعاملة الموجب لأكل المال بغير حق المناسب لكون سبق التعلم في مقابل تركه رأساً، وظاهر ذيله أن المستحب سبق التعلم في مقابل تأخيره عن الشروع فيها قبل ترتيب الأثر عليها، لا في مقابل تركه رأساً، والأول يقتضي الوجوب كما ذكرناه واعترف به في أثناء كلامه، والثاني مخالف لظاهر نصوص المقام، لظهور أن الوقوع في الربا مثلاً إنما يكون بترك التعلم رأساً، فلاحظ.

(1) لأصالة عدم ترتب الأثر، الذي هو الأصل الأولي في جميع المعاملات، كما لا يجوز ترتيب آثار الفساد عليها، لما دل علي وجوب الفحص، حيث يمنع من الرجوع للأصول قبله، بل يتعين الاحتياط، كما ذكره (قدس سره). وذلك إما بتجنب إيقاع المعاملة، أو التقايل فيها بعد إيقاعها، أو التصالح والتراضي بين المتعاملين مع قطع

ص: 6

(7)

ويستحب أن يساوي بين المبتاعين (1)، فلا فرق بين المماكس ونحوه بزيادة السعر في الأول أو بنقصه (2).

---------------

النظر عنها، أو غير ذلك، ولا يجوز ترتيب أثر الصحة أو البطلان إلا بعد الفحص عن حكم المعاملة.

(1) كما ذكره غير واحد. لخبر عامر بن جذاعة عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(أنه قال في رجل عنده بيع فسعره سعراً معلوماً، فمن سكت عنه ممن يشتري منه باعه بذلك السعر، ومن ماكسه وأبي أن يبتاع منه زاده. قال: لو كان يزيد الرجلين والثلاثة لم يكن بذلك بأس، فأما أن يفعله بمن أبي عليه وكايسه وبمنعه من لم يفعل فلا يعجبني إلا أن يبيعه بيعاً واحداً) (1) .

(2) كأن التعميم المذكور بلحاظ قوله (عليه السلام):

(فلا يعجبني إلا أن يبيعه بيعاً واحداً) فإن مقتضاه عدم التفاضل بين المبتاعين لا بزيادة المماكس ولا بنقصه، لكن الظاهر عدم الإطلاق له، وأن المتيقن منه التوحيد في البيع في مقابل زيادة المماكس، ولا يعم نقصه.

هذا وسياق الخبر يقضي بأن المراد من زيادة المماكس هو زيادة الثمن عليه، بأن يبيعه بسعر أعلي من سعر غير المماكس. لكن الظاهر إرادة زيادة المثمن عليه، كما نبه له في مرآة العقول، بأن يعطي المماكس بالثمن الواحد أكثر من ما يعطي غير المماكس، فيكون السعر في حقه أقل، أو يراد بالزيادة كون البيع أصلح وأحسن في حق المماكس. فإن المنصرف منه أن الزيادة المذكورة استجابة لامتناعه، لا عقوبة له علي الامتناع، ولأن ذلك هو المتعارف، ولظهور قوله (عليه السلام):

(ويمنعه من لم يفعل) في أن الأمر الممنوع منه خير للمشتري، ولقضاء المناسبات الإرتكازية بابتناء الحكم علي الإرفاق بغير المماكس، لترسله وغفلته، وهو يناسب ما ذكرنا.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 11 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 7

(8)

أما لو فرق بينهما لمرجحات شرعية كانت - كالعلم والتقوي وغيرهما - فالظاهر أنه لا بأس به (1). ويستحب أن يقيل النادم (2)، ويشهد

---------------

ومنه يظهر عدم كراهة زيادة السعر عند السوم علي من يعرف منه المماكسة تحفظاً من مماكسته، الذي قد يجر للبيع منه بالسعر الأكثر، لخروجه عن مقتضي النص.

(1) لخروجه عن موضوع النص. بل صرح فيه بعدم البأس بتفضيل الرجلين والثلاثة من دون التزام بالتفضيل لأجل المماكسة. ومنه يظهر عدم الكراهة في الترجيح لجهات أخر، كالصداقة والرحمية والحاجة إلي غير ذلك من المرجحات الشرعية وغيرها.

(2) كما ذكره غير واحد. ويقتضيه غير واحد من النصوص، كموثق سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: أربعة ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: من أقال نادماً، أو أغاث لهفان، أو أعتق نسمة، أو زوج عزباً) (1) ، وخبر هارون بن حمزة عنه (عليه السلام):

(أيما عبد أقال مسلماً في بيع أقاله الله عثرته يوم القيامة) (2) ، وغيرهما.

وفي الجواهر: (للأخبار التي لا فرق فيها بين البايع والمشتري وبين المؤمن والمسلم وغيرهما)، وما ذكره من عدم الفرق بين البايع والمشتري في محله. أما عدم الفرق بين المؤمن والمسلم وغيرهما فلا يخلو عن إشكال، لأنه وإن كان مقتضي إطلاق الموثق وغيره، إلا أن انصرافه للمسلم بل المؤمن قريب جداً، لقضاء المناسبات الإرتكازية بابتناء الحكم علي مراعاة مقتضي الولاية الخاصة بالمؤمنين ورعاية حقهم وحرمتهم. ومنه يظهر أنه مقتضي عموم استحباب قضاء حاجة المؤمن.

نعم، قد يستحب بعنوان ثانوي من باب رجحان حسن المخالطة والمعاشرة مع المخالفين، بل مطلق الناس. بل لا يبعد رجحانه في نفسه، لكونه من مكارم الأخلاق. فتأمل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب آداب التجارة حديث: 5، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب آداب التجارة حديث: 5، 2.

ص: 8

(9)

الشهادتين عند العقد (1)، ويكبر الله تعالي عنده (2)، ويأخذ الناقص ويعطي الراجح (3).

---------------

(1) لم أعثر عاجلاً علي ما تضمن ذلك من النصوص، وإنما المذكور فيها ذكر الشهادتين في ضمن دعاء يقوله الشخص عند الدخول للسوق أو عند جلوسه في موضعه منه(1). وفي خبر أبي عبيدة: (قال الصادق (عليه السلام):

من قال في السوق: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. كتب الله له ألف [ألف] حسنة) (2) . ولعل ذلك هو مراد بعض من ذكر الشهادتين، لا استحباب الإتيان بها عند العقد، كما في المتن.

(2) لم أعثر عاجلاً علي ما تضمن ذلك، وإنما ذكر التكبير للمشتري مرة في صحيح حريز(3) ، وثلاثاً في صحيح محمد بن مسلم(4) قبل دعاء خاص. وهو الذي ذكره في الشرايع، وقد يحمل عليه ما في القواعد من ذكر التكبير عند الشراء. لكنه ذكر الشهادتين أيضاً، ولم يتضح مستنده.

(3) كما في الشرايع وظاهر الوسائل، ويدل علي الثاني موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال:

مر أمير المؤمنين (عليه السلام) علي جارية قد اشترت لحماً من قصاب، وهي تقول: زدني. فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): زدها فإنه أعظم للبركة) (5) .

وقد يستدل عليه أيضاً بما في صحيح ابن أبي عمير عن غير واحد عنه (عليه السلام):

(قال: لا يكون الوفاء حتي يرجح) (6) ونحوه غيره. لكنه يدل علي وجوب ما يعلم معه بتحقق الوفاء خروجاً عن مقتضي الاشتغال اليقيني، ولا يدل علي وجوب ما زاد علي

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 18 من أبواب آداب التجارة، ومستدرك الوسائل باب: 15 من أبواب آداب التجارة.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 19 من أبواب آداب التجارة حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 20 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 20 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

(5) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

(6) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

ص: 9

(10)

(مسألة 44): يكره مدح البايع سلعته، وذم المشتري لها (1)، وكتمان العيب (2)

---------------

ذلك ولا علي استحبابه.

وفي مرسل عوالي اللآلي عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(أنه قال للوازن: زن وأرجح) (1) . وعن الرواشح أن ذلك صدر منه (صلي الله عليه وآله وسلّم) حينما دفع الفضة ليوزن منها ويؤخذ الثمن، وهو يدل علي استحباب الزيادة للمشتري إذا دفع الثمن للبايع. نعم هما مختصان بالموزون المعرض للزيادة والنقصان عرفاً، ولا عموم لغيره، كالمعدود ونحوه من ما ينضبط.

أما الأول - وهو أخذ الناقص - فلم يتضح الدليل عليه. وفي الجواهر: (للاحتياط في التجنب عن البخس... ولما عساه يفهم من قوله تعالي: (ويل للمطففين الذين... الخ) من حسن خلافه). وهو كما تري.

(1) كما ذكره غير واحد. لموثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

من باع واشتري فليحفظ خمس خصال، وإلا فلا يشترين ولا يبيعن: الربا، والحلف، وكتمان العيب، والحمد إذا باع، والذم إذا اشتري) (2) ، ومرفوع أحمد ابن محمد بن عيسي: (كان أبو إمامة صاحب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) يقول: سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) يقول:

أربع من كن فيه طاب مكسبه: إذا اشتري لم يعب، وإذا باع لم يحمد، ولا يدلس، وفي ما بين ذلك لا يحلف) (3) . هذا ولو كان الذم والمدح كذباً، أو مؤديين للغش كانا محرمين، فلا إشكال في حرمتها.

(2) كما ذكره غير واحد، لموثق السكوني المتقدم، وفي مرسل أحمد بن محمد ابن يحيي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في حديث:

(ولا تكتم عيباً يكون في تجارتك... ) (4) ، ويأتي تمام الكلام في ذلك.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 7 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، 3، 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، 3، 7.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، 3، 7.

ص: 10

(11)

إذا لم يؤد إلي غش (1)، وإلا حرم، كما تقدم، والحلف علي البيع (2)، والبيع في المكان المظلم الذي يستتر فيه العيب (3).

---------------

(1) بأن لم يبتن البيع علي سلامة المبيع، كما لو تبرأ البايع من العيوب أو ابتني البيع علي كون المبيع معرضاً للعيب، كبيع الأشياء المستعملة وكان العيب من شأنه الظهور بالفحص.

لكن في عموم الخبرين المتقدمين له إشكال، لأن المنصرف من الكتمان ما يكون الغرض منه ستر العيب، الذي يتحقق بالكتمان فيه الغش المحرم، فيرجع للتدليس الذي تضمنه مرفوع أحمد بن محمد بن عيسي المتقدم، والغش الذي تضمنته النصوص الكثيرة(1) ، وتقدم الكلام فيه في المسألة السادسة والعشرين من المقدمة في المكاسب المحرمة. ومن ثم يشكل البناء علي الكراهة مع عدم لزوم الغش، كما في الفرض المتقدم.

(2) كما ذكره غير واحد، ويقتضيه موثق السكوني ومرفوع أحمد بن محمد بن عيسي المتقدمان، وخبر درست عن أبي الحسن موسي (عليه السلام)

:(قال: ثلاثة لا ينظر الله إليهم، أحدهم اتخذ الله بضاعة لا يشتري إلا بيمين ولا يبيع إلا بيمين) (2) ، وغيرها مما ورد في المقام، كما يقتضيه عموم النهي عن اليمين حتي الصادق الذي تضمنته النصوص الكثيرة(3). أما اليمين الكاذب فهو من أعظم المحرمات.

(3) كما ذكره غير واحد. ويقتضيه صحيح هشام بن الحكم:

(كنت أبيع السابري في الظلال فمر بي أبو الحسن الأول راكباً فقال: يا هشام إن البيع في الظلال غش، والغش لا يحل) (4) . لكن ستر العيب غش محرم، وحمل الصحيح عليه ملزم

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب آداب التجارة حديث: 2.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 1، 2، 3 من أبواب كتاب اليمين.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 58 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 11

(12)

والربح علي المؤمن زائداً علي مقدار الحاجة (1)

بحمله علي الحرمة، كما هو مقتضي تطبيق كبري الغش فيه.

اللهم إلا أن يحمل التطبيق المذكور في الصحيح علي المبالغة، من أجل أن البيع في الظلال لا يستلزم ستر العيب، بنحو يصدق به الغش، بل غايته احتياج ظهوره إلي شيء من الفحص يتعارف وقوعه من المشتري، وإن أمكن خفاؤه علي المسترسل، ومثل ذلك لا يوجب صدق الغش عرفاً. ولاسيما وأنه لم يفرض في مورد كون المبيع معيباً، فلابد من كون التطبيق مبنياً علي المبالغة بلحاظ أنه مع البيع في الظلال لا يتضح حال البيع بجلاء من جميع الجهات غالباً، ومثل ذلك وإن لم يوجب الغش المحرم، إلا أنه مخالف للأولي، وللاستظهار في التعريف بالمبيع، فيحمل علي التوسع لبيان الكراهة.

ولابد حينئذ من حمل مراد الأصحاب علي ذلك، بقرينة حكمهم بالكراهة واستدلالهم عليها بالصحيح، وإلا فالجمود علي العنوان المذكور في كلامهم يقتضي الحرمة. ولعله لذا قال في مفتاح الكرامة: (ثم إنا لم نعثر علي قائل بالحرمة، وإن نقله صاحب الكفاية).

(1) كما صرح به غير واحد، بل نسب للأصحاب. ولعله المراد من ما في الشرايع من كراهة الربح علي المؤمن إلا مع الضرورة.

أما النصوص ففي خبر فرات بن الأحنف عن أبي عبد الله (عليه السلام)

:(قال: ربح المؤمن علي المؤمن ربا) (1) ، ونحوه أو عينه خبره الآخر(2).

وفي خبر سالم: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخبر الذي روي أن ربح المؤمن علي المؤمن ربا ما هو؟ فقال: ذلك إذا ظهر الحق وقام قائمنا أهل البيت، فأما اليوم فلا بأس بأن تبيع من الأخ المؤمن وتربح عليه)(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 5، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 5، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 5، 4.

ص: 12

(13)

وعلي الموعود بالإحسان (1)، والسوم ما بين طلوع الفجر وطلوع

---------------

وفي معتبر سليمان بن صالح وأبي شبل جميعاً عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: ربح المؤمن علي المؤمن ربا إلا أن يشتري بأكثر من مائة درهم، فاربح عليه قوت يومك، أو يشتريه للتجارة، فاربحوا عليهم وأرفقوا بهم) (1) .

وفي خبر ميسر: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام):

إن عامة من يأتيني إخواني، فحدّ لي من معاملتهم ما لا أجوزه إلي غيره، فقال لي: إن وليت أخاك فحسن، وإلا فبعه بيع البصير المداق) (2) . والمراد بقوله: (إن وليت...) بيعه برأس المال الذي هو بيع التولية في مقابل المرابحة والمواضعة. كما أن الظاهر أن المراد بقوله

:(فبعه بيع البصير المداق) هو البيع بالربح القليل الذي لا يرضي المشتري بأكثر منه إذا كان بصيراً ناقداً، بخلاف ما إذا كان مسترسلاً غافلاً، فهو من الإضافة للمفعول. واحتمال كونه من الإضافة للفاعل، ليدل علي الترخيص في البيع بالربح الكثير الذي يقدم عليه البايع إذا كان بصيراً ناقداً بعيد جداً، لا يناسب سياق الكلام.

وحينئذ فمقتضي الجمع بين الأولين أن الحكم بحرمة الربح علي المؤمن اقتضائي لا مجال لفعليته قبل ظهور الحق وقيام القائم (عجل الله فرجه). كما أن مقتضي الأخيرين استحباب عدم الربح عليه مطلقاً وبيعه تولية، كما تضمنه الرابع، بل كراهة الربح عليه إذا كان دون المائة درهم ولم يشتر للتجارة كما تضمنه الثالث، وكراهة الربح الكثير مطلقاً، كما يستفاد منهما معاً.

(1) كما ذكره غير واحد، بل نسب للأصحاب. لمرسل علي بن عبد الرحيم عن أبي عبد الله (عليه السلام): (سمعته يقول:

إذا قال الرجل للرجل: هلم أحسن بيعك يحرم عليه الربح) (3) . قال في مفتاح الكرامة: (ثم إن أقل الإحسان ترك الربح وبيع التولية، وخلف الوعد غير مستحسن). وهو كما تري، فإنه يكفي في الإحسان تقليل الربح،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 13

(14)

الشمس (1)، وأن يدخل السوق قبل غيره (2)

---------------

وبه ينفذ الوعد، فالنهي عن الربح رأساً تعبد لا يقتضيه الوعد. نعم لابد من البناء علي الكراهة بعد ضعف الخبر وعدم ظهور عامل بظاهره.

كما أنه لو ابتنت المعاملة علي الوعد المذكور، بحيث كان مضمونه بمنزلة الشرط الضمني، تعين العمل بمقتضي الوعد، بنحو يتحقق به الإحسان ولو بتقليل الربح مع ثبوت الخيار بالإخلال بذلك.

(1) كما صرح به غير واحد، بل نسب للأصحاب. لمرفوع علي بن أسباط:

(نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عن السوم ما بين طلوع الفجر إلي طلوع الشمس) (1) وحيث كان السوم هو بيان سعر السلعة، فمقتضاه خصوصية ذلك في الكراهة، دون بقية مقدمات التجارة، كالذهاب للسوق، وعرض السلعة، بل حتي البيع مع معرفة قيمة السلعة، أو إيكال تعيينه للبايع، كما يتعارف كثيراً.

اللهم إلا أن يحمل علي الكناية عن مطلق الاشتغال بشؤون التجارة كما هو غير بعيد، فيناسب ما ورد من استحباب الاشتغال في الوقت المذكور بتعقيب الصلاة، مثل قوله (عليه السلام) في حديث الأربعمائة:

(الجلوس في المسجد بعد طلوع الفجر إلي طلوع الشمس أسرع في طلب الرزق من الضرب في الأرض) (2) ، وصحيح ابن أبي يعفور: (أنه قال للصادق (عليه السلام):

جعلت فداك يقال: ما استنزل الرزق بشيء مثل التعقيب فيما بين طلوع الفجر إلي طلوع الشمس. فقال: أجل... ) (3) وغيرهما.

(2) كما ذكره غير واحد، لصحيح جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): (قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) لجبرئيل:

أي البقاع أحب إلي الله تعالي ؟ قال: المساجد، وأحب أهلها إلي الله تعالي أولهم دخولاً إليها وآخرهم خروجاً منها. قال: فأي البقاع أبغض إلي الله تعالي ؟ قال: الأسواق، وأبغض أهلها إليه أولهم دخولاً إليه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب آداب التجارة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 18 من أبواب التعقيب حديث: 10، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 18 من أبواب التعقيب حديث: 10، 6.

ص: 14

(15)

ومبايعة الأدنين (1)

---------------

وآخرهم خروجاً منها)(1).

لكنه - مع اختصاصه بأهل السوق - ظاهر في كراهة كون الإنسان أول داخل وآخر خارج، بحيث يكون عادة له، المناسب لشدة حرصه واهتمامه بكسب المال، الذي يستفاد النهي عنه من النصوص، ولاسيما مرسل ابن فضال عن أبي عبد الله (عليه السلام)

:(ليكن طلبك للمعيشة فوق كسب المضيع، ودون طلب الحريص الراضي لدنياه المطمئن إليها، ولكن أنزل نفسك من ذلك بمنزلة المنصف [النصف. خ ل] المتعفف... ) (2) .

وحينئذ لا ينهض بكراهة المبادرة لدخول السوق من دون ذلك، ولاسيما مع ما في خبر خالد بن نجيح: (

قال أبو عبد الله (عليه السلام):... عليكم بتقوي الله... وإذا صليتم فانصرفتم فبكروا في طلب الرزق، واطلبوا الحلال، فإن الله سيرزقكم ويعينكم عليه) (3) .

(1) كما في الشرايع والدروس، ولم أعثر علي نص به. نعم في خبر عيسي: (قال أبو عبد الله (عليه السلام):

إياك ومخالطة السفلة، فإن السفلة لا يؤول إلي خير) (4) ، وفي معتبر أبي بصير ومحمد بن مسلم عنه (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال

:(احذروا السفلة من لا يخاف الله عز وجل، وفيهم قتلة الأنبياء وفيهم أعداؤنا) (5) . لكن بينهما وبين المدعي عموم من وجه موردي.

وعن الصدوق: (جاءت الأخبار في معني السفلة علي وجوه منها: أن السفلة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 60 من أبواب آداب التجارة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب مقدمات التجارة حديث: 8.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب آداب التجارة حديث: 2.

(5) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 19 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 15

(16)

وذوي العاهات والنقص في أبدانهم (1) والمحارفين (2)، وطلب تنقيص

- هو الذي لا يبالي بما قال ولا ما قيل فيه. ومنها: أن السفلة من يضرب بالطنبور. ومنها: أن السفلة من لم يسره الإحسان ولم تسؤه الإساءة، والسفلة من ادعي الإمامة وليس لها بأهل)(1). وفي صحيح البزنطي المروي عن مستطرفات السرائر: (سئل أبو الحسن (عليه السلام) عن السفلة ؟ قال:

السفلة الذي يأكل في الأسواق) (2) ، وفي المرسل عن الرضا (عليه السلام):

(السفلة من كان له شيء يلهيه عن الله عز وجل) (3) . ولا يخفي أن البناء علي كراهة مبايعة هؤلاء كلهم صعب جداً.

(1) كما في النهاية والشرايع والدروس وغيرها. لخبر ميسر بن عبد العزيز: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تعامل ذا عاهة، فإنه أظلم شيء)(4) ، ونحوه خبراه الآخران(5) ، بل لعلهما عينه. لكن التعليل يقضي بتخصيص ذلك بالمعاملة المبنية علي المخالطة والاستمرار التي قد يتعرض صاحبها للظلم.

(2) كما في النهاية والدروس والجواهر. لصحيح الوليد بن صبيح: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): لا تشتر من محارف، فإن صفقته لا بركة فيها)(6) ، ونحوه في حديثه الآخر إلا أنه قال: (فإن خلطته لا بركة فيها)(7). والمحارف بفتح الراء من الحرفة بضم الحاء وكسرها: الحرمان وسوء الحظ.

نعم، في معتبر سعيد بن غزوان: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): المؤمن لا يكون محارفاً)(8). وكأنه يبتني علي أن توفيقه لنعمة الإيمان تكشف عن كونه مباركاً ذو حظ جيد، وأن ضيق رزقه ابتلاء لا يبتني علي سوء حظه، فيكون حاكماً علي الصحيح المتقدم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 19 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 4.

(3) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 19 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 22 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 22 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، 3.

(6) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 3، 5.

(7) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 3، 5.

(8) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 3، 5.

ص: 16

(17)

الثمن بعد العقد (1)

---------------

(1) كما ذكره جماعة. لصحيح زيد الشحام: (أتيت أبا جعفر محمد بن علي (عليه السلام)

بجارية أعرضها عليه، فجعل يساومني وأنا أساومه ثم بعته إياها، فضمن علي يدي. ف قلت: جعلت فداك إنما ساومتك لأنظر المساومة أتنبغي أو لا تنبغي. ف قلت: قد حططت عنك عشرة دنانير، فقال: هيهات، ألا كان هذا قبل الضمنة، أما بلغك قول أبي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): الوضيعة بعد الضمنة حرام)(1) ، وفي معتبر إبراهيم الكرخي: (اشتريت لأبي عبد الله (عليه السلام) جارية، فلما ذهبت أنقدهم قلت: أستحطهم ؟ قال: لا، إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) نهي عن الاستحطاط بعد الضمنة)(2). ومقتضي الأول المنع من قبول المشتري بتنقيص الثمن وإن لم يطلب ذلك.

وكيف كان فلابد من حملهما علي الكراهة لمعتبر المعلي بن خنيس: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشتري المتاع ثم يستوضع قال: لا بأس، وكلمت له رجلاً في ذلك)(3) ونحوه غيره(4).

لكن عن الكاشاني والبحراني البناء علي حرمة الاستحطاط وحمل نصوص الجواز علي الاستيهاب. ولعله لموثق يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قلت له: الرجل يستوهب من الرجل شيء بعد ما يشتري فيهب له أيصلح له ؟ قال: نعم)(5) ، وقريب منه خبر يوسف بن يعقوب(6).

ويشكل: أولاً: بأن جواز الاستيهاب الذي تضمنه الخبران لا ينافي جواز الاستيضاع أيضاً الذي تضمنته معتبر المعلي.

وثانياً: بأن الظاهر رجوع أحدهما للآخر، لوضوح أنه لا يراد باستيضاع الثمن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 44 من أبواب آداب العقد حديث: 6، 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 44 من أبواب آداب العقد حديث: 6، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 44 من أبواب آداب العقد حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 44 من أبواب آداب العقد حديث: 2، 5.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 44 من أبواب آداب العقد حديث: 4، 7.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 44 من أبواب آداب العقد حديث: 4، 7.

ص: 17

(18)

والزيادة وقت النداء (1)

---------------

جعله أقل مما وقع عليه، لامتناع ذلك في نفسه، لتبعية الثمن للعقد، وهو لا ينقلب عما وقع عليه، بل طلب اكتفاء البايع ببعض الثمن، وإبراء ذمة المشتري من الباقي إن كان ذمياً وهبته له إن كان معيناً خارجياً، وذلك هو المراد من الاستيهاب في الحديثين الأخيرين. وحمله علي خصوص استيهاب بعض الثمن مع تعينه خارجاً، إما لكون الثمن خارجياً، أو لكونه ذمياً قد تعين بالقبض، بعيد جداً لا يناسب إطلاق الخبرين، ومن ثم لا مخرج عما ذكره المشهور من حمل نصوص النهي علي الكراهة.

(1) كما ذكره غير واحد. لخبر الشعيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول:

إذا نادي المنادي فليس لك أن تزيد، وإنما يحرم الزيادة النداء، ويحلها السكوت) (1) ، وفي رواية الصدوق له: (وإنما تحرم الزيادة والنداء يسمع، ويحللها السكوت). وربما كان منشأ النهي أن الزيادة وقت النداء قد لا يسمعها المنادي، فيشتبه الحال، ويقع الخلاف.

هنا وفي السرائر بعد أن تعرض لما في النهاية من النهي عن الزيادة وقت النداء قال:

(لأن ذلك علي ظاهره غير مستقيم، لأن الزيادة حال النداء غير محرمة ولا مكروهة، فأما الزيادة المنهي عنها هو [هي] عند الانتهاء وسكون نفس كل واحد من البيعين علي البيع بعد استقراء [استقرار. ظ] الثمن والأخذ، والشروع في الإيجاب والقبول، فعند هذه الحال لا يجوز السوم علي سوم أخيه، لأن السوم في البيع هو الزيادة في الثمن بعد قطعه والرضا به بعد حال المزايدة وانتهائها وقبل الإيجاب والقبول... ) .

وكأنه نظر في ذلك إلي قصور أدلة النهي عن الدخول في سوم المؤمن عن بيع المزاد، وأغفل خبر الشعيري، إما لعدم إطلاعه عليه، أو لعدم تعويله عليه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 49 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 18

(19) (19)

لطلب الزيادة (1). أما الزيادة بعد سكوت المنادي فلا بأس بها (2). والتعرض للكيل أو الوزن أو العد أو المساحة إذا لم يحسنه حذراً من الخطأ (3) والدخول في سوم المؤمن (4).

---------------

(1) متعلق بقوله: (النداء).

(2) بلا إشكال، لما سبق في خبر الشعيري، ولابتناء المزايدة علي ذلك.

(3) كما ذكره غير واحد. وقد يستدل عليه بمرسل مثني الخياط عن أبي عبد الله (عليه السلام) ومرسل الصدوق عن ميسر بن حفص عنه (عليه السلام): (قلت له: رجل من نيته الوفاء، وهو إذا كال لم يحسن أن يكيل، قال: فما يقول الذين حوله ؟ قلت: يقولون: لا يوفي، قال: هذا [هو] ممن لا ينبغي أن يكيل)(1). لكنه ظاهر في نهيه عن الكيل مع عدم وفائه واقعاً، لا مع عدم إحسانه الكيل، وإن أمكن أن يوفي، كما هو محل الكلام، وحينئذ لابد من حمل النهي فيه علي الحرمة الواقعية، من دون أن ينفع في محل الكلام.

هذا وفي المسالك: (وحرمه بعض الأصحاب) وفي الجواهر:

(وهو كذلك مع تحقق التأدية المزبورة [يعني: الأداء إلي المحرم] إلا مع عدمها، والخوف من ذلك لا يقتضي الحرمة) .

ويشكل بأنه حيث كان الواجب هو الوفاء فلابد من إحرازه، لاستصحاب عدم الوفاء، الراجع إلي استصحاب عدم تسليم ما يستحق. ولأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني. ومن هنا يتعين البناء علي الحرمة الظاهرية مع الخوف، وعدم إحراز الوفاء. أما الحكم الواقعي فهو يدور مدار الواقع حِلاً وتحريماً. وعلي كل حال لا مجال للبناء علي الكراهة لا واقعاً ولا ظاهراً.

(4) كما ذكره جماعة كثيرة، وفي الجواهر وعن غاية المرام للصيمري أنه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 19

بل الأحوط تركه (1). والمراد به الزيادة في الثمن الذي بذله المشتري (2)،

---------------

المشهور. وحكم بالتحريم في المبسوط والنهاية والسرائر والوسيلة وجامع المقاصد ومحكي فقه الراوندي، وقد يظهر من إطلاق النهي في الغنية، كما يظهر من الدروس ومحكي التنقيح والميسية التوقف.

والأصل في ذلك خبر الحسين عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) في حديث المناهي قال: (ونهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) أن يدخل في سوم أخيه المؤمن)(1) ، وفي مرسل دعائم الإسلام عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم): (أنه نهي أن يساوم الرجل علي سوم أخيه)(2). وقد يدل عليه مرسل عوالي اللآلي عنه (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: (لا يبيع أحدكم علي بيع أخيه) و(3) بحمل البيع علي مقدماته.

ولا مجال للبناء علي التحريم بعد ضعف سند الأخبار، وظهور عدم بناء المشهور عليه. بل ربما كان مراد بعض من عبر بالتحريم الكراهة، لكثرة تسامح القدماء في ذلك. ولاسيما بعد ذكر بعضهم له في باب الآداب، كما في النهاية، وعدم ظهور اشتهار الحديث في مجاميع أحاديث الأئمة (عليهم السلام)، وإنما ذكره الصدوق في حديث المناهي الضعيف السند المشتمل علي كثير من الآداب، مع أن شيوع الابتلاء بذلك يناسب ورود نصوص كثيرة فيه، وفي التفاصيل والفروع المناسبة له لو كان الحكم مبنياً علي الإلزام.

(1) خروجاً عن شبهة الخلاف المتقدم، وإن عرفت ضعفه. ومن ثم كان الاحتياط منه (عليه السلام) استحبابياً، لأنه سبق منه الفتوي بالكراهة.

(2) هذا هو الدخول في السوم علي المشتري. لكن الظاهر عدم توقفه علي الزيادة، بل المعيار فيه علي الدخول في السوم في محاولة المنع من تمامية المعاملة لصاحب السوم الأول والعدول بها للثاني، ولو لكون الثاني أحب لصاحب المعاملة من دون أن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 49 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 37 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 4.

(3) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 37 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 4.

ص: 20

أو بذل مبيع له غير ما بذله البايع (1)، مع رجاء تمامية المعاملة بينهما (2)، فلو انصرف إحداهما عنها، أو علم بعدم تماميتها بينهما، فلا كراهة. وكذا لو كان البيع مبنياً علي المزايدة (3).

---------------

يزيد في الثمن، عملاً بالإطلاق.

(1) كما ذكره غير واحد، لصدق الدخول في السوم حينئذ. وهذا هو الدخول في السوم علي البايع.

(2) مقتضي الإطلاق كراهة الدخول في السوم ماداما مشغولين بالمساومة غير منصرفين عن المعاملة، حتي لو علم بعدم تماميتها، لعدم التوافق بينهما.

ودعوي: أن المنصرف كون منشأ الكراهة هو محاولة المنع من تمامية المعاملة لصاحب السوم الأول، فمع العلم بعدم تماميتها لا موضوع لها. مدفوعة: بأنه كما يمكن أن يكون المعيار ذلك، يمكن أن يكون المعيار هو مراعاة الطرف الأول، ولو لأن في الدخول عليه استهانة به، أو جرحاً لعواطفه. ومن ثم لا مخرج عن الإطلاق.

نعم، لو انصرفا عن المعاملة فلا إشكال في ارتفاع الكراهة، لأن موضوعها الدخول في سوم المؤمن، لا مطلق السوم بعد سومه. ومنه يظهر عموم عدم الكراهة مع انصرافهما عن المعاملة لما إذا احتمل أو علم بأن البايع سوف يرضي بالسعر الذي دفعه الأول إذا لم يدفع له غيره وتتم المعاملة بالآخرة للأول، لوضوح أن ذلك لا يجعل السوم الثاني سوماً علي السوم بعد فرض انصرافهما عن المعاملة.

(3) كما في المبسوط، وتقدم من السرائر عند الكلام في الزيادة وقت النداء، بل الظاهر عدم الإشكال فيه بينهم. لما هو المعلوم من شيوع البيع بالمزايدة وعدم احتمال كراهته، فضلاً عن حرمته. فإن السوم فيه عرفاً لا يختص بواحد، بل هو سوم مشترك بين كل من يدخل في المزايدة.

مضافاً إلي انصراف الإطلاق للسوم الذي يراد به إنهاء المعاملة، لا مجرد بيان

ص: 21

(22)

وأن يتوكل بعض أهل البلد لمن هو غريب عنها (1).

---------------

السعر الذي يرضي به أحد الطرفين. ولذا يقصر عرفاً عما إذا قال الشخص لصاحب البضاعة: أنا مستعد لأخذها بالثمن الفلاني، من دون أن يبتني علي محاولة إنهاء المعاملة بذلك، فلا يكره حينئذ لغيره دفع ثمن آخر حتي لو لم يوضع المبيع في المزايدة.

هذا وقد سبق من السرائر كراهة الزيادة بعد انقطاع المزايدة وتهيؤ الطرفين لإيقاع المعاملة، لصدق الدخول في السوم حينئذ. لكنه غير ظاهر بعد ما سبق في وجه الحكم.

وأما ما قد يظهر منه من أن الدخول في السوم إنما يصدق بعد قطع الثمن والرضا به. فهو ممنوع، لظهور كراهة الدخول في سوم المؤمن في غير المزايدة حتي لو لم يظهر من الطرف الآخر الرضا بالثمن المدفوع. والعمدة في وجه قصوره عن البيع بالمزايدة ما سبق، الذي لو تم يقتضي قصوره عنها حتي بعد انقطاع المزايدة وتهيؤ الطرفين لإيقاع المعاملة.

اللهم إلا أن يستفاد عموم الكراهة له حينئذ بتنقيح المناط، لدعوي أن المنشأ لها مراعاة الطرف الأول وتجنب الاستهوان به وجرح عواطفه، فإنه جار في المقام. فلاحظ.

(1) الأصحاب في المقام بين من عبّر بتوكل الحاضر للباد، ومن عبّر ببيع الحاضر للباد. والظاهر رجوع الأول للثاني، لأنه المذكور في النصوص. ففي خبر عروة بن عبد الله عن أبي جعفر (عليه السلام): (قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم)

:لا يتلقي أحدكم تجارة خارجاً من المصر، ولا يبيع حاضر لباد. والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض) (1) ، وفي خبر جابر: (قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من

********

(1) الكافي ج: 5 ص: 168 كتاب المعيشة باب التلقي حديث: 1، وروي صدره في الوسائل ج: 12 باب: 36 من أبواب آداب التجارة حديث: 5، وذيله في باب: 37 منها حديث: 1.

ص: 22

بعض) (1) . وهناك مراسيل لا يبعد رجوعها لما سبق(2).

وكيف كان فقد صرح جماعة بكراهة ذلك، بل هو المشهور، كما في الجواهر وعن غاية المرام. وصرح في المبسوط والخلاف والسرائر وجامع المقاصد بعدم الجواز، وهو المحكي عن ابن البراج والعلامة في المنتهي وقد يظهر ممن أطلق النهي عن ذلك. كما حكي عن بعضهم التوقف.

وكأنه لظاهر النهي في النصوص المتقدمة، بعد عدم القرينة علي حملها علي الاستحباب. لكن النصوص المذكورة حيث كانت ضعيفة السند لم تنهض بإثبات الحرمة.

ودعوي: أن تعددها يوجب تعاضدها بنحو يوثق بصدور بعضها. لا تخلو عن إشكال، لقرب رجوع المراسيل للمسندين المتقدمين اللذين لا يتضح تعاضدها. علي أن ذيلهما المتضمن الأمر بترك الناس أو المسلمين يرزق الله بعضهم من بعض يناسب الحمل علي الاستحباب ارتكازاً، لما هو المعلوم من عدم حرمة تنبيه الناس ورفع غفلتهم في كسبهم.

مضافاً إلي أن شيوع الابتلاء بالحكم المذكور لا يناسب خفاءه علي المشهور، ولا عدم ورود النصوص في فروعه، نظير ما تقدم في السوم. بل لا يبعد كون الحكم بعدم الجواز في كلام بعض القدماء يراد به ما يعم الكراهة - نظير ما سبق هناك أيضاً

خصوصاً الشيخ (قدس سره) الذي صرح في النهاية بعدم الحرمة.

هذا وموضوع النصوص - كما تري - بيع الحاضر للبادي، وهو البدوي. وألحق بعضهم بالبدوي القروي، دون أهل المدن، بل يظهر مما يأتي عن يونس تفسير البادي بأهل القري، وإن لم يظهر وجهه. وعممه في جامع المقاصد لكل غريب بنحو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، ومستدرك الوسائل ج: 13 باب: 31 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2، 3.

ص: 23

يعم أهل المدن، كما هو مقتضي إطلاق سيدنا المصنف (قدس سره). وكأنه لإلغاء خصوصية البادي بلحاظ ذيل الحديثين المتقدمين، أو عموم النهي في مرسل عوالي اللآلي عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال:

(ذروا الناس في غفلاتهم يعيش بعضهم من بعض) (1) .

لكنه يقتضي التعميم حتي لأهل البلد ممن لا يحسن معرفة السعر، بل يتقضي التعميم من جهات أخر. قال في الجواهر:

(ولإطلاق النهي عمم بعض الناس الحكم لمطلق الإرشاد في بيع أو شراء أو غيرهما، لا خصوص التوكيل، ولمطلق من كان عالماً بالسعر أو ذكياً حيث كان من أي محل كان، لا خصوص الحاضر، ولمطلق من كان جاهلاً أو غبياً، بلديين أو قرويين أو بدويين أو مختلفين، مع العلم بالحكم وجهله، وظهور السعر وخفائه، وعموم الحاجة إلي المتاع وعدمه، ورابطة الرحم أو الجوار أو غيرهما بين الوكيل والموكل وعدمها، وإسلام المبتاعين وعدمه، وكون المبيع من الفواكه وغيرها) . نعم التعميم من حيثية ظهور السعر وخفائه لا يناسب العموم المدعي، إلا أن يكون الظهور بحد لا يطلع عليه الموكل.

كما أن ما في ذيله من التعميم للفواكه وغيرها قد يكون تعريضاً بما روي عن يونس أنه قال: (تفسير قول النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم):

لا يبيعن حاضر لباد: إن الفواكه وجميع أصناف الغلات إذا حملت من القري إلي السوق فلا يجوز أن يبيع أهل السوق لهم من الناس، ينبغي أن يبيعه حاملوه من القري والسواد. فأما من يحمل من مدينة إلي مدينة فإنه يجوز ويجري مجري التجارة) (2) . لكن من القريب إلغاء خصوصية الفواكه والغلات في كلام يونس.

هذا والبناء علي عموم الكراهة في جميع ذلك صعب جداً، فضلاً عن الحرمة لو بني علي حمل النصوص عليها. والأولي الاقتصار علي مورد النصوص وعدم التعدي لغيره.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 30 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب آداب التجارة حديث: 2.

ص: 24

ثم إنه قد خص الحكم في المبسوط والسرائر بما إذا كان المتاع الذي عند البدو يحتاجه أهل الحضر، وفي فقده إضرار لهم. وهو غير ظاهر مع إطلاق النصوص، كما في الخلاف. بل ذيل الحديثين المتقدمين لا يناسب التخصيص المذكور.

ومثله ما عن بعضهم من اعتبار أن يظهر من ذلك المتاع سعة في البلد، فلو لم يظهر - إما لكبر البلد، أو لعموم وجود المتاع ورخص السعر - فلا تحريم ولا كراهة. إذ هو تقييد لإطلاق النصوص من دون شاهد.

وكذا ما عن المنتهي من اعتبار أن يكون البادي قد جلب السلعة للبيع، حيث لا وجه له مع إطلاق النصوص. إلا أن يريد ما إذا كان البادي بحال لا يبيع بنفسه إذا لم يتولاه الحاضر عنه، فإنه يتجه حينئذ، حيث لا يكون تولي الحاضر للبيع حينئذ مانعاً من رزق الناس بعضهم من بعض، إذ لو لم يتول البيع عنه لا يرزقون من جهته.

هذا وقد ذكر غير واحد اختصاص الحكم بما إذا عرض الحاضر علي البادي أن يتولي البيع عنه، أما لو انعكس الأمر وكان البادي هو الذي طلب من الحاضر أن يتولي البيع عنه فلا حرمة ولا كراهة. وربما يستدل عليه بعموم استحباب قضاء حاجة المؤمن وإجابة التماسه. ويشكل بأن ذلك لا يصلح لرفع الكراهة، فضلاً عن الحرمة لو قيل بها في المقام، غاية الأمر أن يصلح لمزاحمة الكراهة، فيقدم عليها لو كان أهم.

ولعل الأولي في وجهه ظهور النصوص في ابتناء الحكم علي رجحان إبقاء البادي علي غفلته، فيقصر عما إذا كان ملتفتاً لعدم إحسانه البيع، ومتحرياً الأنفع له بطلب تولي الحاضر للبيع. وبما ذكرنا وذكره الأصحاب في المقام يظهر كثرة فروع المسألة بنحو لا يناسب قلة النصوص فيها لو كان الحكم الحرمة، كما ذكرناه آنفاً.

بقي شيء وهو أنه قال في الوسيلة:

(وللسمسار أن يبيع متاع البدوي في الحضر، وليس له أن يبيع لباد في البدو) . وهو غريب حتي لو كان مراده من السمسار خصوص الحاضر، فإن إطلاق النصوص إما أن ينصرف إلي بيعه له في الحضر - كما هو الظاهر - أو يعمه مع البيع له في البدو، ولا مجال لدعوي اختصاصه بالثاني.

ص: 25

(26)

بل الأحوط استحباباً تركه. وتلقي الركبان الذين يجلبون السلعة (1).

---------------

(1) في المشهور بين الأصحاب، بل عن بعضهم ما يظهر منه الإجماع عليه، كذا في الجواهر. لكن في السرائر والدروس وعن غيرهما التحريم، وهو ظاهر التعبير بعدم الجواز في المبسوط والخلاف والاقتصار علي بيان النهي في الغنية.

والأصل في ذلك النصوص، كخبر عروة بن عبد الله المتقدم في المسألة السابقة، والصحيح عن منهال القصاب: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تلق، فإن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) نهي عن التلقي. قال: وما حدّ التلقي ؟ قال: ما دون غدوة أو روحة. قلت: وكم الغدوة والروحة ؟ قال:

أربعة فراسخ. قال ابن أبي عمير: وما فوق ذلك فليس بتلق) (1) . وفي الصحيح عن منهال أيضاً عنه (عليه السلام): (أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن تلقي الغنم فقال:

لا تلق، ولا تشتر ما تلقي، ولا تأكل من لحم ما تلقي)(2) ، ونحوها غيرها مما رواه منهال وغيره (3) .

وربما يوجه البناء علي الكراهة بقصور النصوص عن إثبات الحرمة، لضعف أسانيدها، أما خبر عروة فظاهر، وأما أخبار منهال فلعدم النص علي توثيقه. لكن الإنصاف حصول الوثوق من مجموع هذه الأخبار، فإن منهال وإن لم ينص علي توثيقه، إلا أنه قد روي عنه جماعة من الأعيان، كالحسن بن محبوب وعبد الله الكاهلي وجعفر بن بشير وعبد الرحمن بن الحجاج ويونس - الذي حكي عن الشيخ ذكره في من لا يروي إلا عن ثقة، وإن لم أعثر علي موضع ذلك من كلامه - وبظهور حال الصدوق في التعويل علي رواياته، لأن له طريقاً إليه في الفقيه الذي صرح بأنه لا يثبت فيه إلا ما هو حجة بينه وبين الله، بل حتي الكليني، لتصريحه في ديباجة الكافي بأنه قد أودع فيه الروايات الصحيحة، وكل واحد من هذه الأمور إن لم ينهض بإثبات وثاقته فمجموعها شيء معتد به في ذلك، ولاسيما مع تأييد أحاديثه هنا برواية

********

(1) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 36 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 3.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 36 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 3.

(3) راجع مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 29 من أبواب آداب التجارة.

ص: 26

جماعة لها عنه، وبتعقيب ابن أبي عمير علي الأول المناسب لاعتداده به، وبخبر عروة المتقدم وبعض الأخبار الأخر. فالتوقف في نصوص المقام من حيثية السند في غاية الإشكال.

نعم، قد يتجه البناء علي الكراهة، لنظير ما سبق في السوم وبيع الحاضر للبادي، من أن شيوع الابتلاء بالحكم لا يناسب خفاءه علي المشهور، وقرب حمل عدم الجواز في كلام الشيخ علي الكراهة، ولاسيما مع تصريحه بها في النهاية.

مضافاً إلي النهي عن الشراء والأكل من لحم ما تلقي في الحديث السابق في سياق النهي عن التلقي، مع عدم الإشكال ظاهراً في حمله علي الكراهة، لصحة البيع، كما يأتي، وإلي أن المناسبات الإرتكازية قاضية بأن مبني الحكم عدم استغلال غفلة الغافل، أو الاهتمام باجتماع البضاعة في السوق من أجل طمأنينة الناس حين يشعرون بكثرتها، وكلاهما من الجهات المستحسنة غير اللازمة. فالبناء علي الكراهة قريب جداً.

بقي في المقام أمور:

الأول: المعروف بينهم صحة البيع حتي بناء علي حرمة التلقي، وبه صرح في المبسوط والسرائر، وعن ظاهر المنتهي الإجماع عليه. وعن الإسكافي البطلان، وعن كاشف الغطاء أنه المتعين علي تقرير الحرمة، لأن النهي في أخبار المسألة تعلق بنفس المعاملة، لا بأمر خارج عنها، ولاسيما مع النهي عن الشراء والأكل مما يتلقي في الحديث المتقدم.

واستشكل فيه في الجواهر بأن النهي إنما تعلق بالتلقي، لا بنفس المعاملة، كما في مثل النهي عن بيع الخمر والميتة، وسبقه إلي ذلك في السرائر.

وفيه: أنه إن رجع إلي أن المنهي عنه هو التلقي دون البيع المترتب عليه، فهو بعيد جداً، بل هو لا يناسب ما في الحديث الثاني من النهي عن الشراء والأكل مما تلقي، لظهوره من مرجوحية الشراء، بحيث يوجب حزازة في الأمر المشتري. ولاسيم

ص: 27

(28)

وأن المنهي عنه هو التلقي الذي هو عبارة عن استقبال الركب من أجل الشراء منهم، لا استقبالهم الذي يترتب عليه الشراء منهم، ولذا فرقوا - كما يأتي - بين الخروج لأجل الشراء والخروج لا لأجله.

وحينئذ لو كان النهي مقصوراً علي التلقي دون الشراء لزم تحقق المعصية واقعاً بالخروج من أجل الشراء إذا لم يترتب الشراء، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك، وإن رجع إلي أن المنهي عنه هو الشراء لكن لا بعنوانه كما في شراء الخمر والميتة، بل بعنوان كونه شراء بعد التلقي، فهو وإن كان مسلماً، إلا أنه لا أثر له في الفرق من حيثية اقتضاء النهي الفساد، لأن المنهي عنه نفس المعاملة لا أمر خارج عنها.

فالعمدة في المقام أن النهي التكليفي عن المعاملة لا يقتضي الفساد. غاية الأمر ظهور النهي عن المعاملة ونحوها مما يطلب لأثره نوعاً في الإرشاد لفسادها، لا في تحريمها تكليفاً. لكن هذا الظهور قد يخرج عنه بقرينة، فيحمل علي النهي التكليفي الذي هو مقتضي الظهور الأولي للنهي، وهي في المقام أمور:

أحدها: ظهور المفروغية عن عدم حرمة البيع علي الركبان، حيث لا مجال لذلك لو كان المراد بالنهي الإرشاد للبطلان.

ثانيها: ما ذكره في المبسوط والسرائر من حكم النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) بثبوت الخيار للركب إذا دخلوا السوق، لأن الخيار فرع صحة المعاملة. نعم الحكم المذكور لم يرد إلا مرسلاً في كلماتهم، ويأتي في مرسل عوالي اللآلي، وهو لا ينهض حجة علي تفسير بقية نصوص المقام فليكن مؤيداً.

ثالثها: ظهور مفروغيتهم عن صحة المعاملة، وشذوذ الإسكافي في البناء علي البطلان، حيث يمتنع عادة خطؤهم في مثل ذلك مع شيوع الابتلاء بالمسألة.

هذا ولا يبعد أن تكون القرائن المذكورة مؤيدة لحمل النهي علي الكراهة، وعاضدة لما سبق من القرائن عليها.

الثاني: ذكر غير واحد أن حدّ التلقي الذي موضوع الحكم في المقام أربعة

ص: 28

فراسخ. وقد يوجه - كما عن المنتهي - بأنه إذا بلغ أربعة فراسخ صار سفراً شرعياً، والسفر للتجارة مستحب. ويشكل بأن ما دل علي استحباب السفر للتجارة(1) ، وجلب البضاعة للبلد(2) ، لا يختص بما يبلغ المسافة، وهو مخصص بما دل علي النهي عن التلقي.

والفرق بين التلقي وغيره ليس ببلوغ المسافة وعدمه، بل بحال البايع، فإذا كان قد حمل بضاعته متجهاً بها لبلد المتلقي صدق التلقي وإن تجاوز السفر المسافة، وإذا لم يحمل بضاعته، بل كان يبيعها في موضعه لم يصدق التلقي وإن كان السفر دون المسافة. ولذا لا إشكال ظاهراً في عدم كراهة السفر لما دون المسافة من أجل جلب البضاعة وشرائها ممن يبيعها في موضعه.

بل لا يبعد عدم صدق التلقي إذا خرج صاحب البضاعة ببضاعته لبلد خاص فخرج بعض أهل بلد آخر واشتري منه وهو طريقه للبلد الذي قصده.

فالعمدة في التفصيل المذكور اشتمال بعض نصوص المسألة علي ذلك، كالحديث الأول وغيره، حيث يدل علي عدم النهي عن الخروج أكثر من أربعة فراسخ لتلقي القاصد للبلد ببضاعته وشرائها منه.

الثالث: صرح غير واحد بأنه إذا خرج لا بقصد التلقي للتجارة، فصادفهم في الطريق فالشراء منهم خارج عن موضوع النصوص، لعدم صدق التلقي بذلك. وهو ظاهر بناء علي أن المنهي عنه هو التلقي، دون الشراء المترتب عليه، أما بناء علي أن المنهي عنه هو الشراء بعد التلقي - كما هو الظاهر، علي ما سبق في الأمر الأول - فقد يدعي عموم النهي للشراء حينئذ، لألغاء خصوصية قصد التلقي، خصوصاً بلحاظ قوله (عليه السلام) في ذيل حديث عروة المتقدم:

(والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض) .

لكن لا وجه لإلغاء خصوصية قصد التلقي بعد كون الحكم المذكور تعبدياً،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 29 من أبواب مقدمات التجارة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

ص: 29

ولذا فرق فيه بين ما دخل في الحدّ وما جاوزه. وأما ما في ذيل حديث عروة فالظاهر رجوعه للحكم الثاني، وهو بيع الحاضر للبادي، لأنه المناسب لإبقاء غفلة الغافل، أما الحكم الأول الذي هو محل الكلام فهو أجنبي عن ذلك، بل قد يرجع للردع عن استغلال غفلة الغفول. ويؤيده ورود المضمون المذكور في خبر جابر المتقدم المختص ببيع الحاضر للباد، وعدم ورده في نصوص المقام المختصة بالتلقي. ولا أقل من كون رجوعه للأخير هو المتيقن، لأنه الأقرب إليه.

الرابع: قد يدعي اختصاص الحكم بجهل الركبان بسعر البلد، فلو علموا أخرج عنه. وقد يستدل عليه بما في ذيل رواية عروة بن عبد الله من قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض) حيث يظهر منه فرض جهلهم ليرزق الناس منهم. ويظهر ضعفه مما سبق من عدم تعلق ذلك بهذا الحكم، بل بالحكم السابق. وكما يمكن أن يكون ملاك الحكم المذكور هو تجنب إغفالهم بالسعر، ليقصر عن صورة معرفتهم به، يمكن أن يكون ملاكه رجحان نزول البضاعة لسوق البلد ليراها الناس فتطمئن نفوسهم، فيعم صورة معرفة الباعة بالثمن.

نعم، في مرسل عوالي اللآلي عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(أنه نهي عن تلقي الركبان، وقال: من تلقاها فصاحبها بالخيار إذا دخل السوق) (1) . فإن كان الذيل من تتمة الصدر لا حديثاً آخر فهو يصلح قرينة علي أن ملاك النهي عن التلقي الإغفال، فيتجه قصوره عن صورة علمهم بالثمن، ولو لخروجها عن المتيقن منه.

الخامس: عمم غير واحد تلقي الركبان المكروه تلقيهم للبيع لهم، بل عممه في الجواهر للاستئجار عليهم وسائر أنواع التعامل، لما في ذيل خبر عروة بن عبد الله من قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض) ووافقه بعض مشايخنا (قدس سره) في ذلك، وزاد في الاستدلال عليه عدم انحصار التجارة بالبيع.

لكن تقدم في أول كتاب التجارة اختصاص التجارة بالبيع والشراء، كما تقدم

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 29 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

ص: 30

(31)

(مسألة 45): يحرم الاحتكار (1) علي الأحوط وجوباً.

---------------

قريباً أن ذيل خبر عروة لا يرجع للتلقي. بل لا يبعد اختصاص النهي بالشراء منهم دون البيع عليهم وإن كان تجارة، لأنه المتيقن من إطلاق التلقي في حديث منهال الأول وغيره، بعد العلم بعدم إرادة إطلاقه الشامل لتلقيهم من أجل تكريمهم أو الإطلاع عليهم، ولاختصاص الثاني وغيره بالشراء بقرينة النهي عن الأكل مما يتلقي، وما تضمنه مرسل العوالي من أن صاحب البضاعة بالخيار إذا دخل السوق.

نعم، أطلق النهي عن تلقي التجارة في خبر عروة بن عبد الله. لكن من القريب حمله علي الشراء، بأن لا يراد بالتجارة المصدر، بل الأمر الذي يتجر به، لأنه الذي يتلقي، فإن التلقي إنما يكون لأمر موجود، كما يناسبه رواية الصدوق له مرسلاً بلفظ (طعاماً) بدل (تجارة). ولاسيما مع أن ذلك هو المعهود من التلقي، كما لعله ظاهر.

نعم، لا يبعد العموم لمثل الصلح إذا تضمن أخذ البضاعة من الركبان، لظهور النصوص في أن المحذور أخذ البضاعة منهم بالمعاملة من دون خصوصية للشراء. فلاحظ.

السادس: لا إشكال في ثبوت الخيار للمتلقي البايع مع الغبن، كما صرح به في المبسوط وغيره، لعموم دليل خيار الغبن، مؤيداً بالمرسل المتقدم المحمول علي صورة الغبن لانصرافه له. ولاسيما بلحاظ تعليقه علي دخول السوق، الذي من شأنه الإطلاع بسببه علي السعر الحقيقي.

وربما ينسب للسرائر إطلاق ثبوت الخيار ولو بدون الغبن، لكن الظاهر انصراف إطلاقه عن ذلك. ولاسيما مع استدلاله بالمرسل المتقدم الذي سبق ظهوره في الاختصاص بالغبن.

(1) كما في السرائر وجامع المقاصد والمسالك وعن الصدوق وابن البراج وغيرها، وفي الشرايع واللمعة أنه مكروه، ونسب للمقنعة والنهاية والمبسوط وغيرها، ولا تخلو كلماتهم عن اضطراب والتباس.

ص: 31

والذي ينبغي أن يقال: لا ريب في حرمة الاحتكار المؤدي لتلف النفوس المحترمة، ولو من أجل أدائه لخلل النظام. من دون فرق في ذلك بين الطعام وغيره، كاللباس والوقود والدواء وغيرها، بل حتي الأعمال والمنافع، كالنقل بوسائطه، والتمريض علي اختلاف أنحائه وغيرهما. ومن دون تحديد بزمان طويل أو قصير، لوجوب حفظ النفوس المحترمة.

بل يحرم ظاهراً مع احتمال أدائه لذلك احتمالاً معتداً به، لوجوب الاحتياط في حفظها ارتكازاً. ولا خلاف في جميع ذلك ظاهراً.

وإنما الإشكال فيما إذا لم يبلغ ذلك. والنصوص في ذلك علي طوائف:

الأولي: ما أطلق فيه النهي عنه، كمعتبر ابن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون) (1) ، وموثق إسماعيل بن زياد السكوني عنه (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام): (قال:

لا يحتكر الطعام إلا خاطئ) (2) ، وفي عهد أمير المؤمنين (عليه

السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه): (فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) منع منه. وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البايع والمبتاع، فمن قارف حكره بعد نهيك إياه فنكل به وعاقب في غير إسراف) (3) ، وغيرها.

الثانية: ما يدل علي حرمته في الجملة، كموثق غياث بن إبراهيم عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام): (أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلي بطون الأسواق وحيث تنظر الأبصار إليها، فقيل لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): لو قومت عليهم. فغضب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) حتي عرف الغضب في وجهه، فقال

:أنا أقوم عليهم ؟! إنما السعر إلي الله يرفعه إذا شاء، ويخفضه إذا شاء) (4) ، فإنه وارد في قصة في واقعة لا إطلاق لها، ونحوه غيره.

الثالثة: ما تضمن تحديده بزمن، كموثق السكوني عنه (عليه السلام):

(قال: الحكرة

********

(1) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 12، 13.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 12، 13.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 12، 13.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 30 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 32

في الخصب أربعون يوماً، وفي الشدة والبلاء ثلاثة أيام، فما زاد علي الأربعين يوماً في الخصب فصاحبه ملعون، وما زاد علي ثلاثة أيام في العسرة فصاحبه ملعون) (1) ، وحديث أبي مريم عن أبي جعفر (عليه السلام): (قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أيما رجل اشتري طعاماً فكبسه أربعين صباحاً يريد به غلاء المسلمين ثم باعه فتصدق بثمنه لم يكن كفارة لما صنع)(2) ، وغيرهما.

الرابعة: ما تضمن التفصيل بين حاجة الناس للطعام وعدمها، كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (سئل عن الحكرة، فقال: إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر غيره فتحتكره، فإن كان في المصر طعام أو متاع [يباع] غيره فلا بأس أن تلتمس بسلعتك الفضل). وزاد في الكافي: (وسألته عن الزيت [الزبيب] فقال

:إذا كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه) (3) .

وصحيح أبي الفضل سالم الحناط: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): ما عملك ؟ قلت: حناط، وربما قدمت علي نفاق، وربما قدمت علي كساد، فحبست ؟ قال: فما يقول من قبلك فيه ؟ قلت: يقولون: محتكر، فقال: يبيعه أحد غيرك ؟ قلت: ما أبيع أنا من ألف جزء جزءاً. قال: لا بأس. إنما كان ذلك رجل من قريش يقال له: حكيم بن حزام، وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله، فمرّ عليه النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) فقال:

يا حكيم بن حزام إياك أن تحتكر) (4) .

ومعتبر حذيفة - بناء علي وثاقة محمد بن سنان، كما تعرضنا لذلك عند الكلام في مساحة الكر من المسألة السابعة عشرة من مباحث المياه - عنه (عليه السلام):

(قال: نفد الطعام علي عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم)، فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول الله قد نفد الطعام، ولم يبق منه شيء إلا عند فلان، فمره ببيعه، قال: فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: يا

********

(1) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 6.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 28 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 28 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

ص: 33

فلان إن المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفد إلا شيئاً عندك، فأخرجه وبعه كيف شئت، ولا تحبسه) (1) .

ولا ينبغي التأمل في ظهور هذه النصوص في الحرمة، بل هو كالصريح من موثق غياث بن إبراهيم المتضمن أمر النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) بإخراج طعام المحتكرين للأسواق، إذ لا معني للإجبار مع الكراهة.

وحمله علي أنه (صلي الله عليه وآله وسلّم) فعل ذلك بمقتضي ولايته العامة، لا من أجل حرمة الاحتكار شرعاً. مخالف لظاهر نقل الإمام (عليه السلام) للحادثة. ولاسيما بلحاظ ما تضمنه من الامتناع عن تسعير الطعام عليهم، معللاً بأن السعر إلي الله تعالي، لظهور أن له (صلي الله عليه وآله وسلّم) ذلك بمقتضي ولايته المذكورة.

ومثله ما في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) للأشتر، فإن أمره بالمنع من الاحتكار لا يناسب الكراهة، كما أن استدلاله (عليه السلام) بأن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) منع منه لا يناسب ابتناءه علي ولايته (عليه السلام)، بل يشهد بتحريمه شرعاً.

وأضعف من ذلك ما قد يدعي من أن إجبار المحتكر علي البيع لا يستلزم حرمة الاحتكار ووجوب البيع عليه، نظير ما ورد من إجبار الإمام للناس علي زيارة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) إذا تعطل مشهده(2) مع استحباب زيارته (صلي الله عليه وآله وسلّم) وعدم وجوبها. ولذا اختلفوا في المقام في حرمة الاحتكار وأجمعوا علي جواز الإجبار علي البيع.

إذ فيه: أنه وإن لم يكن مستلزماً له عقلاً إلا أنه مستلزم له عرفاً بنحو يصلح أن يكون دليلاً عليه. ولاسيما مع مفروغيتهم ظاهراً علي وجوب استجابته للإجبار، وعدم جواز الامتناع، حيث يناسب ذلك حرمة الاحتكار شرعاً عليه بعد أن لم يكن الإجبار حكماً ولايتياً، كما سبق. بل توجيه الإمام (عليه السلام) في عهده للأشتر المنع من الاحتكار بأن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) منع منه، ظاهر في كون منعه (عليه السلام) منه تنفيذاً لمنع النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) منه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 29 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 5 من أبواب وجوب الحج حديث: 2.

ص: 34

وفي تأخره رتبة عنه.

وأما التنظير للإجبار مع عدم الحرمة بما ورد من إجبار الإمام الناس علي زيارة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) عند تقاعسهم عنها، بحيث يلزم تعطيل مشهده (صلي الله عليه وآله وسلّم)، مع أن زيارته (صلي الله عليه وآله وسلّم) ليست واجبة عليهم بل مستحبة. فهو في غير محله، لعدم تمامية النظير، فإن استحباب زيارته (صلي الله عليه وآله وسلّم) عيناً لا ينافي وجوبها كفائياً، بحيث لا يلزم تعطيل مشهده الشريف، كما هو الحال في كثير من الواجبات الكفائية التي هي مستحبات عينية.

وأما الخلاف في حرمة الاحتكار مع الإجماع علي إجبار المحتكر. فهو لا يشهد بعدم ملازمة جواز الإجبار لحرمة الاحتكار، بل يكون الخلاف في حرمته في غير محله، ومن ثم يقرب تأويل الكراهة في كلام بعض القدماء بالحرمة. نعم لا مجال لذلك في كلام غيرهم، إلا أنهم محجوجون بالنصوص المذكورة. وبأن التزامهم بالكراهة لا يناسب إجماعهم علي جواز الإجبار لو تم.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في ظهور دليل الإجبار في الحرمة، لملازمته لها عرفاً، ولما يظهر من بعضها من كون الإجبار متأخراً رتبة عنها، وتنفيذاً لها، كما سبق.

وبالجملة: لا مجال للبناء علي الكراهة بعد ظهور النصوص المتقدمة وغيرها في الحرمة وبعد اعتبار أسانيد كثير منها، بل الظاهر من مجموع النصوص المفروغية عن الحرمة، كما هو المناسب في الجملة للمرتكزات المتشرعية، فإن الاحتكار عندهم من أعظم المستنكرات، وإنما الكلام في تحديد الاحتكار المحرم.

ولا ينبغي التأمل في أن مقتضي الجمع بين الطائفتين الأوليين والطائفة الرابعة هو التفصيل بين حاجة الناس وعدمها. لكن لا بمعني الضرورة التي يخشي منها علي النفوس - كما ذكرناه أولاً - فإن ذلك لا يلزم عادة ولا عرفاً من نفاد الطعام المفروض في هذه النصوص، إذ لا يراد به نفاده رأساً حتي في البيوت، بل نفاده في السوق، بحيث لا يوجد باذل له، ذلك هو الظاهر من مجموع النصوص، وهو الذي يمكن الإطلاع عليه عادة. كما أنه المناسب للتفصيل الآتي بين أجناس البيع. ومن الظاهر

ص: 35

وهو حبس السلعة والامتناع من بيعها لانتظار زيادة القيمة (1)، مع حاجة

---------------

أن فقد الطعام في السوق لا يستلزم المحذور المذكور، وهو تلف النفوس بل يستلزم حاجة عامة الناس عرفاً لتيسر الطعام وبذله وقلقهم من فقده، بحيث يقعون في ضيق وهلع من ذلك، فيكون هو المراد من النصوص.

نعم، ينصرف عما لو لم يستلزم ذلك ضيق نفوسهم وحاجتهم للشراء، لاكتفائهم بما يدخرونه في بيوتهم وتوقعهم ورود غيره عند نفاده، وطمأنينتهم بسبب ذلك، كما لعله ظاهر.

وأما الطائفة الثالثة فلا مجال لحملها علي التفصيل في أحد شقي التفصيل السابق، بأن يلتزم بأنه مع حاجة الناس يفرق في جواز الاحتكار وعدمه بتحديد الزمن المتقدم، ففي القحط يجوز التأخير ثلاثة أيام، وفي الخصب يجوز التأخير أربعين يوماً، كما هو ظاهر الوسيلة. لقوة ظهور الطائفة الثالثة في وجوب تعجيل البذل مع حاجة الناس. ولاسيما النصوص المتضمنة لأمر النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) بإخراج طعام المحتكرين، كموثق غياث وصحيح حذيفة بن منصور.

وكذا لا مجال للبناء علي أنه مع عدم حاجة الناس ووجود الباذل للطعام يحرم الحبس بعد الثلاثة أيام في القحط وبعد الأربعين يوماً في الخصب. لإباء نصوص الطائفة الثانية عنه، لقوة ظهورها في انحصار الاحتكار المحرم بصورة عدم الباذل. ولاسيما صحيحي الحلبي وأبي الفضل سالم الحناط. وما في النهاية من ذكر الحدين معاً لا يخلو عن تدافع.

فلابد من حملها علي كراهة حبس الطعام بعد المدة المذكورة مع وجود الباذل. وبذلك يتم الجمع بين نصوص المقام، ويكون المحصل منه: حرمة الحبس مع حاجة الناس مطلقاً، وجوازه مع عدمها مطلقاً، وإن كره بعد المدة المذكورة، وهي أربعون يوماً في الخصب، وثلاثة أيام في القحط.

(1) كما ذكره غير واحد من الفقهاء واللغويين. لكن في لسان العرب:

ص: 36

المسلمين إليها وعدم وجود الباذل لها (1). والظاهر اختصاص الحكم بالحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت لا غير (2).

---------------

(وأصل الحكرة الجمع والإمساك). والظاهر عدم الخروج به هنا عن المعني الذي ذكره، وما ذكر من القيود في كلامهم إما غالبي، أو قيد للحكم الشرعي. ومن ثم لا يبعد عدم خصوصية انتظار الغلاء في مفهوم الاحتكار، ولا في حكمه الشرعي، فلو كان الامتناع من البيع لغرض آخر غير انتظار غلاء السعر صدق الاحتكار. ولا أقل من عموم حكمه له لإلغاء خصوصية القيد المذكور بلحاظ المناسبات الإرتكازية في وجه الحكم.

نعم، إذا كان الغرض من حبس الإنسان للشيء الانتفاع به وسد حاجته فالظاهر قصور الحكم عنه، لعدم صدق الاحتكار عليه، أو لانصراف أدلته عنه، بلحاظ أن بيعه لسدّ حاجة الناس ليس بأولي من إبقائه لنفسه وسد حاجته به عرفاً. مضافاً إلي ما هو المعلوم من السيرة علي شراء مؤنة السنة وعدم بيعها عند حاجة الناس.

نعم، ورد أمر الصادق (عليه السلام) ببيع ما في بيته من الطعام عندما شح الطعام في المدينة وارتفع سعره، قال معتب: (فلما بعته قال:

اشتر مع الناس يوماً بيوم) (1) . وذلك منه (عليه السلام) لا يدل علي الوجوب. بل لا يظن بأحد البناء علي وجوب ذلك.

(1) يظهر الوجه فيه مما تقدم.

(2) قد اختلفت كلماتهم في تحديد موضوع الاحتكار، فقد اقتصر في المقنعة والمراسم علي الأطعمة. ويقتضيه إطلاق ما تضمن الطعام من النصوص السابقة. بل ربما كان هو المنصرف من نصوص الاحتكار. وعن أبي الصلاح الاقتصار علي الغلات. والظاهر أنها الغلات الأربع الزكوية: الحنطة والشعير والتمر والزبيب. ولم يتضح الوجه فيه، حيث لا يناسب نصوص الإطلاق المتقدمة، ولا نصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 32 من أبواب آداب التجارة حديث: 2.

ص: 37

وإن كان الأحوط استحباباً إلحاق الملح بها (1)، بل كل ما يحتاج إليه عامة

---------------

التقييد الآتية.

وزاد عليها في النهاية والسرائر والشرايع وغيرها السمن. ونسبه في السرائر لأصحابنا، وفي الجواهر أنه المشهور وعن جماعة الإجماع عليه. ويقتضيه موثق غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام)

:(قال: ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن) (1) ، وزاد في الفقيه: (والزيت)، وخبر أبي البختري عنه (عليه السلام):

(إن علياً كان ينهي عن الحكرة في الأمصار. فقال: ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن) (2) .

وفي الدروس والمسالك وعن المقنع وغيره زيادة الزيت. ويشهد له موثق غياث المتقدم علي رواية الصدوق له، وصحيح الحلبي - المتقدم في أول المسألة - علي رواية الكليني، وهو وإن كان في الوسائل مردداً بين الزيت والزبيب، إلا أنه في طبعة الكافي الحديثة بالزيت لا غير، وموثق السكوني عنه (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(الحكرة في ستة أشياء: في الحنطة والشعير والتمر والزيت والسمن والزبيب) (3) .

ومن الظاهر لزوم تحكيم نصوص التحديد علي نصوص الاحتكار السابقة، لأنها بلسان تحديد الموضوع. كما أن اللازم العمل في التحديد علي ما اشتمل علي الزيت، لأن ما لم يشتمل عليه إما ضعيف كخبر أبي البختري، أو مردد بين الواجد له والفاقد له كموثق إبراهيم، بخلاف ما اشتمل عليه فإنه فيه موثق السكوني المعتبر سنداً والمعلوم اشتماله عليه. مضافاً إلي قرب الجمع بين الطائفتين بحمل ماخلا عنه علي الاكتفاء عنه بالسمن، لأنهما من سنخ واحد عرفاً، فإنه أقرب من حمل ما اشتمل عليه علي الكراهة.

(1) كما في المبسوط والوسيلة والتذكرة والقواعد والدروس والمسالك واللمعة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 4، 7، 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 4، 7، 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 4، 7، 10.

ص: 38

المسلمين من الملابس والمساكن والمراكب وغيرها (1). ويجبر المحتكر علي البيع (2) في الاحتكار المحرم من دون أن يعين السعر (3). نعم إذا كان السعر مجحفاً بالعامة أجبر علي الأقل منه (4).

---------------

وعن غيرها. ولم نعثر علي نص به، كما اعترف به في الجواهر. بل مقتضي الحصر في النصوص السابقة عدمه. وربما علل بالحاجة إليه، وهو كما تري. نعم لا بأس بالبناء علي الكراهة فيه وفي ما بعده لأجل ذلك.

(1) إذا لم تبلغ الحاجة حدّ اختلال النظام، وإلا حرم، كما تقدم في أول المسألة.

(2) كما صرح به غير واحد، بل عن جماعة الإجماع عليه، كما في الجواهر. ويقتضيه صحيح حذيفة وموثق غياث بن إبراهيم وما في عهد الأشتر، وقد تقدمت. وقد سبق نسبة القول به حتي للقائل بكراهة الاحتكار، كما سبق الإشكال عليهم بذلك.

(3) في المشهور، كما في التذكرة والجواهر، بل نفي في المبسوط الخلاف في أنه لا يجوز التسعير للإمام. لكن في المقنعة: (وله أن يسعرها علي ما يراه من المصلحة)، وقريب منه في المراسم. وقد رده في السرائر بالإجماع والنصوص المتواترة. وهو كما تري، إذ لا مجال لدعوي الإجماع مع الخلاف من مثل المفيد. كما أن النصوص غير متواترة، بل ولا مستفيضة.

نعم، تقدم استنكاره في موثق غياث بن إبراهيم، المؤيد بمرسل الصدوق: (قيل للنبي (صلي الله عليه وآله وسلّم):

لو سعرت لنا سعراً، فإن الأسعار تزيد وتنقص، فقال (صلي الله عليه وآله وسلّم): ما كنت لألقي الله ببدعة لم يحدث إلي فيها شيئاً، فدعوا عباد الله يأكل بعضهم من بعض... ) (1) ، والمعتضد بقاعدة السلطنة. وكفي بذلك دليلاً في المقام.

(4) كما في اللمعة. وإليه يرجع ما في الوسيلة والمختلف والدروس من جواز

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 30 من أبواب آداب التجارة حديث: 2.

ص: 39

التسعير مع التشدد، وحكي ذلك عن الإيضاح والمقتصر والتنقيح. ويقتضيه ما تقدم في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، معتضداً بانتفاء فائدة الإجبار علي البيع بدونه. وبذلك يخرج عن عموم قاعدة السلطنة.

وأما موثق غياث فهو لا ينهض بالمنع منه في الفرض، لظهور قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(إنما السعر لله يرفعه إذا شاء... ) في إيكال السعر لله تعالي حسبما يحصل في السوق، فلا ينافي منع البايع من التحكم في السعر، بحيث يطلب أكثر من سعر السوق. نعم قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) في صحيح حذيفة: (وبعه كيف شئت) مساوق لقاعد السلطنة، فيكون مثلها مقيداً بغير صورة الإجحاف.

ثم إن دليل المسألة إن كان هو ما في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) للأشتر كفي مطلق الإجحاف عرفاً، وإن كان هو انتفاء فائدة الإجبار لزم الاقتصار علي ما إذا بلغ حداً لا يتأدي به الغرض من الإجبار، من سدّ حاجة الناس ورفع اضطرابهم وبلبلتهم.

ومن القريب جداً التعويل علي العهد المذكور، لأنه وإن ذكر في نهج البلاغة مرسلاً، إلا أنه معروف مشهور قد رواه الأصحاب بطرقهم، وفيها المعتبر، ومن البعيد جداً رواية الرضي (قدس سره) له بطوله علي خلاف ما هو المعروف بينهم المروي عندهم. فلاحظ.

هذا وفي المسالك والروضة وعن الميسية أنه لا يسعر عليه، بل يؤمر بالنزول عن السعر الذي يريده إذا كان مجحفاً. وكأنه للجمع بين العمل بالنهي عن التسعير وتحقق الغرض في منع الإجحاف.

لكن نصوص النهي عن التسعير ظاهرة في النهي عن التدخل في السعر أيضاً، وإيكال الأمر فيه لله تعالي أو للبايع. كما أن عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) للأشتر ظاهر في جواز التسعير بالسعر العدل غير المجحف بالبايع والمبتاع. نعم قد يكون ذلك هو المناسب للاقتصار في الخروج عن قاعدة السلطنة علي المتيقن. فتأمل.

ص: 40

(41) (41)

الفصل الأول: في شروط العقد

وفيه: مسائل..

(مسألة 1): معني البيع قريب من معني المبادلة (1).

---------------

(1) لكن يفترق عنها بأن المبادلة قد لا تبتني علي لحاظ أحد الطرفين بالأصل والآخر عوضاً، بل تكون مع التكافؤ بينهما والتعادل، أما البيع فهو يبتني علي المعاوضة ولحاظ أحد الطرفين أصلاً والآخر عوضاً، كما هو مفاد الباء، دون العكس.

وتوضيح ذلك: أنه لما كان فقد الشيء موجباً لنحو من النقص، فتدارك ذلك النقص وسده بشيء آخر هو المقوم للمعاوضة، فالمعوض هو المنقود الملحوظ بالأصل، والعوض هو الساد مسده الذي به تداركه، والمعوض في البيع هو المبيع، وهو الملحوظ بالأصل، والعوض هو الثمن الذي هو مدخول الباء، وهو الملحوظ بالتبع، لكونه تداركاً للنقص الحاصل بفقد المبيع.

وبذلك يظهر تميز العوض عن المعوض والمبيع عن الثمن مفهوماً وخارجاً، وأن الطرف الذي يتعدي البيع له بنفسه هو المبيع والمعوض، والطرف الذي يتعدي له بالباء هو الثمن والعوض من دون فرق بين إيقاع المعاوضة والبيع بالعقد اللفظي وإيقاعهما بغيره، لأن المدار علي قصد المعاوضة والبيع بما لها من المعني العرفي الذي تؤديه باء العوض.

ص: 41

هذا ويظهر من شيخنا الأستاذ (قدس سره) أن فرق العوض والمعوض والمبيع والثمن محض اصطلاح، فالعروض هو المبيع والمثمن والمعوض، والنقد هو الثمن والعوض. ولازمه عدم التمايز بينهما لو كان العوضان معاً من النقود الورقية - كالدينار والدولار أو فئات العملة الواحدة - أو الدراهم والدنانير القديمة، كما في بيع الصرف، أو كانا معاً من العروض، كما في المقايضة. لكنه خروج عن المفهوم العرفي للبيع، ولباء العوض التي يتضمنها عقده.

ومثله في الإشكال ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من صدق البيع مطلقاً في تبديل العرض بالنقد، فباذل العروض هو البايع، وباذل النقد هو المشتري. أما في تبديل النقد بالنقد أو العروض بالعروض فلابد في صدق البيع من كون نظر أحد المبتاعين حفظ مالية ماله في أي متاع كان من الربح، ونظر الآخر إلي رفع حاجته للمتاع وقضائها به، وأن الأول هو البايع والثاني هو المشتري. وفي غير ذلك لا يصدق البيع، وإن صدقت المبادلة بين المالين.

إذ فيه: أن دخل الغرض في صدق البيع غير ظاهر المنشأ. ولاسيما مع عدم تحديد الغرض من قبل أحد طرفي المعاملة في كثير من الحالات، بأن يكون متردداً بين الوجهين حين المعاملة، ومع اختلافه باختلاف أجزاء موضوع المبادلة في بعضها، فيأخذ المتاع مثلاً من أجل الانتفاع ببعضه وحفظ المالية ببعضه الآخر. بل كثيراً ما لا يظهر الغرض لغير صاحبه في بعض الحالات، فيلزم توقف الغير في صدق البيع أو عدم صدقه. بل دخل الغرض في صدق البيع بالإضافة إلي بعض أطراف المبادلة دون بعض لا يخلو عن غرابة.

ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا من امتياز البيع بابتنائه علي المعاوضة المبنية علي كون أحد الطرفين تداركاً لنقص فقد الآخر ساداً مسده، وأن الطريق في تمييز أحدهما عن الآخر ما سبق.

ويترتب علي ذلك أمران:

ص: 42

الأول: أنه لابد في المعاوضة مطلقاً من دخول العوض في ملك من خرج عنه المعوض، وفي خصوص البيع من دخول الثمن في ملك البايع عوضاً عن المبيع، كما هو المشهور، حفاظاً علي المعاوضة المبنية - كما سبق - علي تدارك العوض للنقص الحاصل لمن خرج منه المعوض والمثمن بفقدهما، حيث لا يتحقق ذلك بدخول العوض والثمن في ملك غيره.

خلافاً لما ذكره السيد الطباطبائي (قدس سره) في حاشيته علي مبحث المعاطاة من مكاسب شيخنا الأعظم (قدس سره)، فإنه بعد أن أشار للوجه المذكور قال:

(ويمكن الخدشة في الوجه العقلي بأن مقتضي إطلاق المعاوضة والمبادلة وإن كان دخول العوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض، إلا أنه قابل للتقييد بالخلاف، ولا يخرج بذلك عن حقيقة المعاوضة، لكفاية لحاظ كونه عوضاً عرفاً في صدقها، كما في المهر في النكاح، فإنه عوض البضع، ويمكن أن يكون علي غير الزوج، وكما في أداء دين الغير [و. ظ] يقال: خط ثوب زيد وأنا أعطيك درهماً، أو احمل زيداً وعلي عوضه، أو خذ هذا الدرهم عوض ركوب زيد، ونحو ذلك. فالمعتبر في حقيقة المعاوضة جعل الشيء في مقابل الشيء من حيث هما مع قطع النظر عن كون المالك هذا أو ذاك، وحينئذ فإذا أذن في بيع ماله لنفسه صح، كأن يقول: بع مالي لك، وكذا في الشراء، كأن يقول: اشتر بمالي لك، فتأمل) .

وفيه: أن المدار في المعاوضة وإن كان علي الصدق العرفي، إلا أنها لما كانت مبنية علي تدارك النقص الحاصل بفقد المعوض لزم فيها صيرورة العوض في محل المعوض، ودخوله في ملك من خرج منه.

وأما الأمثلة التي ذكرها فهي أجنبية عما نحن فيه، فإن المهر ليس عوضاً عن البضع، بل هو بالهدية أشبه. ولو فرض كونه عوضاً عنه فهو إنما يصلح شاهداً لإمكان دخول المعوض في ملك غير من خرج منه العوض، بمعني أنه لا يجب خروج العوض ممن يصير له المعوض، بل يمكن خروجه من غيره، وهو أمر آخر يأتي الكلام

ص: 43

فيه إن شاء الله تعالي. وعليه يبتني قوله: اشتر بمالي لك، كما لا يخفي. كما أن وفاء دين الغير ليس من سنخ المعاوضة. غاية الأمر أنه يتضمن دفع البدل من غير من صار له المبدل، وهو يشبه دفع العوض من غير من صار له المعوض الذي يأتي الكلام فيه، وليس منه.

وأما بقية الأمثلة فإن رجعت إلي الإجارة فمن الظاهر أن مالك المنفعة فيها هو المؤجر الباذل للثمن، دون المنتفع، وهو زيد في الأمثلة المذكورة. وإن رجعت إلي الجعالة - كما هو الظاهر منها بدواً - فهي عقد معاوضي يبتني علي تملك المنفعة في مقابل العوض، ليكون مما نحن فيه، بل مجرد ضمان الأجر للعامل، من دون أن تكون المنفعة مملوكة عليه. غاية الأمر أن يكون المنتفع بالمنفعة غير الباذل للأجر، وأين هو مما نحن فيه ؟!.

ومن ثم لا مجال للبناء علي ما ذكره (قدس سره) وعلي ذلك لا يصح مثل: بع مالي لك. إلا أن يرجع إلي الإذن في تملكه قبل البيع، أو تملك ثمنه بعده. ولعل الثاني هو الأظهر.

الثاني: أن إطلاق المعاوضة وإن اقتضي خروج العوض من ملك من يصير له المعوض بالمعاملة، بحيث يصير كل من العوض والمعوض في ملك مالك الآخر، إلا أن ذلك ليس مأخوذاً في حقيقتها، بل يمكن خروج العوض من ملك غير من يصير له المعوض، لأن كون العوض تداركاً للمعوض إنما يقتضي تملك صاحب المعوض له، وإن كان القائم بالتعويض شخصاً ثالثاً غير آخذ المعوض.

وعلي ذلك يمكن شراء الإنسان لنفسه بمال غيره، لا بأن يشتري في ذمته ثم يفي من مال غيره، فإن الوفاء خارج عن المعاوضة حينئذ مترتب عليها، بل بأن يشتري لنفسه في ذمة غيره أو بعين مال غيره. غاية الأمر أنه لابد من إذن ذلك الشخص أو إذن من يقوم مقامه، وهو أمر آخر.

لكن المنسوب للمشهور امتناع ذلك، نظير ما تقدم في الأمر السابق. وربم

ص: 44

يوجه - بعد الاعتراف بما ذكرنا في حقيقة المعاوضة - بأن عوضية المعوض للعوض ملحوظة أيضاً تبعاً لعوضية العوض للمعوض، فالمنشأ حقيقة معاوضتان متقابلتان إحداهما بالأصالة، وهي المعيار في دخول الباء، والثانية بالتبع.

وفيه: أن المعاوضة التبعية المدعاة إن كانت مستفادة من الباء، فهي في غاية المنع، إذ ليس مفاد الباء إلا كون مدخولها عوضاً، دون كونه معوضاً، وإن كانت مستفادة من دال آخر، كما قد توهمه بعض الكلمات، فليس هناك ما يدل علي المعاوضة غير الباء.

إلا أن يدعي ذلك في خصوص بعض العقود المعاوضية - كالبيع - بدعوي ابتنائها علي التعاوض من الطرفين وإن كانت الباء مسوقة لبيان العوضية لمدخولها فقط، وهي الملحوظة بالأصل. لكنه خال عن الشاهد، بل لا يستنكر العرف شراء الإنسان بمال غيره بالنحو الذي سبق في الأمر الأول، حيث يصلح ذلك شاهداً علي عدم ابتناء مفهوم البيع علي التعاوض من الطرفين.

نعم، لا إشكال في أن إطلاق المعاوضة من دون تعيين من عليه العوض ظاهر في أنه هو الذي يصير له المعوض، لأن من له الغنم فعليه الغرم أو لنحو ذلك. إلا أن ذلك ليس لازماً للمعاوضة، بل يمكن الخروج عنه بالتصريح بخلافه، كما هو الحال في سائر موارد الإطلاق.

وعليه لا مخرج عما ذكرنا من إمكان تحمل العوض من قبل شخص ثالث وخروجه من ملكه مباشرة، من دون أن يتوسط في البين دخوله في ملك من صار إليه المعوض. كما أنه يلزم العمل علي ذلك لو صرح به.

وحينئذ تكون أطراف العقد الذي يتوقف نفوذه علي إعمال سلطنتهم فيه ثلاثة: من خرج المعوض عن ملكه، ومن دخل في ملكه، والذي يتحمل العوض. وفي البيع مثلاً هو البايع والمشتري ودافع الثمن. ولا مانع من البناء علي ذلك، كما ربما يأتي منّا ما يناسبه. وإنما يقتصر فيه علي الطرفين: البايع والمشتري، إذا كان الثمن علي المشتري،

ص: 45

(46)

ولا يحصل إلا بالإيجاب والقبول (1).

---------------

الذي هو مقتضي الإطلاق.

(1) لأنه من العقود وليس إيقاعاً، والفرق بينهما ظاهر، فإن العقد هو التزام بين شخصين أو أكثر بمضمون واحد كل منهم للآخر علي نفسه، لمنافاته لسلطنته عليها. ومن هنا لابد فيه من أمور:

الأول: كون موضوع التزام كل منهم عين موضوع التزام الآخر، فلو اختلف الموضوع لم يكن المضمون عقداً، وإن كانا مترابطين، كما في الخلع الذي يتحقق ببذل الزوجة أولاً، ثم طلاق الزوج لها مترتباً علي البذل، فإنه يرجع إلي إيقاعين مترتبين، ولا يكون عقداً، لاختلاف موضوع التزام كل منهما عن موضوع التزام الآخر.

الثاني: أن يلتزم كل طرف لصاحبه علي نفسه بالمضمون المذكور، لابتناء المضمون المذكور علي كلفة كل منهما لصاحبه. فلو لم يكن كذلك لم يكن المضمون عقداً، كما في إمضاء الزوج نذر زوجته لو كان منافياً لحقه أو مطلقاً، علي الخلاف، فإن نفوذ النذر وإن كان موقوفاً علي إعمال سلطنتهما معاً لمنافاته لها، إلا أن كلا منهما لا يلتزم للآخر بشيء، بحيث يكون مسؤولاً به له، بل كل منهما يلتزم أو يرضي بالمضمون لوحده. ومن ثم لو خالف لا يكون للآخر مطالبته بالتنفيذ بما أنه صاحب حق يطالب بحقه، وإن كان له عذله من باب إنكار المنكر، بخلاف أطراف العقد، فإن لكل منهم مطالبة الآخر بالتنفيذ بما أنه صاحب حق يطالب بحقه.

وبذلك يظهر أن توقف نفوذ العقد علي رضا شخص ثالث لا دخل له بمضمونه في بعض الموارد لا يجعله طرفاً في العقد، كتوقف صحة عقد بنتي الأخ والأخت علي إذن العمة والخالة، لأن علقة النكاح بين الزوجين ترجع لالتزام كل منهما لصاحبه بثبوتها، من دون دخل للعمة والخالة في ذلك، ولا التزام منهما ولا لهما بشيء.

الثالث: ارتباط التزام كل طرف بالتزام الآخر، بحيث يكون مبتنياً عليه، فلو

ص: 46

التزم كل طرف بالمضمون لوحده لم يتحقق العقد. وإلي هذا يرجع ما ذكروه من أن ركني العقد الإيجاب والقبول، بلحاظ ارتباط القبول بالإيجاب وتفرعه عليه، وإلا فالمعتبر ما ذكرنا. ولذا يكفي في ترتب العقد توقيع الأطراف علي الورقة المتضمنة للمضمون العقدي، من دون أن يكون أحدهم موجباً والآخر قابلاً، كما يكفي الإيجاب من وكيل الطرفين أو وليهما إذا ابتني علي إعمال وكالته أو ولايته عنهما معاً.

أما الإيقاع فهو يبتني علي التزام شخص واحد بالمضمون، إما لتعلقه به وحده، كما في النذر والوصية بالثلث، أو لتعلقه به وبغيره مع استقلاله هو بالسلطنة عليه دون ذلك الغير، كما في الطلاق الذي جعله الشارع بيد الزوج وإن كان متعلقاً بالزوجين معاً، أو لتعلقه بالغير فقط من دون اعتبار رضا ذلك الغير، كما في نصب الأب القيم علي أطفاله من بعده. ومجرد توقفه علي إذن الغير في بعض الموارد لا يجعله عقداً إذا لم تتم شروط العقد المتقدمة، كما يظهر مما سبق.

وبذلك يظهر الوجه في كون البيع من العقود، لأنه حيث كان نحو نسبة قائمة بمالين لمالكين أو أكثر فهو ينافي سلطنة كل طرف علي ماله إن كان طرف المعاملة المتعلق به مالاً خارجياً، أو نفسه إن كان طرفها ذمياً، فلابد في نفوذه من إعمال كل طرف لسلطنته بالالتزام بمضمون البيع علي نفسه لصاحبه. وبذلك يتم العقد، كما سبق.

كما ظهر بذلك عدم خصوصية الإيجاب والقبول في المقام، وأن المعيار علي ارتباط التزام بعضهم ببعض، وإن كان الإيجاب من كل طرف، أو بالقبول من الكل، كما تقدم في مثل التوقيع من الكل علي الورقة المتضمنة للمضمون العقدي، أو بإيجاب واحد عن الكل كما في إيجاب وكيل الطرفين أو وليهما، كل ذلك لصدق العقد والبيع بذلك، وليس ذكر الإيجاب والقبول إلا لتعارف إنشاء البيع بهما.

هذا وقد تقدم في أول كتاب التجارة ذكر ما يستدل به علي نفوذها بخصوصها، وما يستدل به علي نفوذ عموم العقود ونحوه مما يعمها غيرها. فراجع.

ص: 47

(48)

ويقع كل لفظ دال علي المقصود، وإن لم يكن صريحاً فيه (1)،

---------------

(1) كما هو مقتضي إطلاق غير واحد، قال في الشرايع

:(العقد هو اللفظ الدال علي نقل الملك من مالك إلي آخر بعوض معلوم) ، وقال في القواعد:

(ولابد من الصيغة الدالة علي الرضا الباطني، وهي الإيجاب والقبول) ، وقال في الدروس:

(وهو الإيجاب والقبول من الكاملين، الدالان عل نقل المعين بعوض مقدر مع التراضي) .

بل هو مقتضي الإطلاق المقامي لكل من أهمل الحديث عن تحديد الصيغة التي يقع بها البيع، كما في المقنعة والنهاية وغيرهما. بل عن غير واحد التصريح بعدم اعتبار لفظ مخصوص في البيع، وعن آخرين التصريح بوقوع بعض العقود بالمجاز، كما أطال شيخنا الأعظم (قدس سره) في نقل ذلك عنهم، ولا يسعنا استقصاء كلماتهم.

ويقتضيه عموم وإطلاق أدلة النفوذ بعد تحقق البيع والتجارة والعقد وغيرها - من العناوين المأخوذة في أدلة النفوذ - عرفاً ولو مع عدم صراحة اللفظ المنشأ به العقد.

لكن جعل في التذكرة من شروط الصيغة التصريح، قال:

(فلا يقع بالكناية مع النية) ، واعتبر في جامع المقاصد دلالة اللفظ علي البيع بالوضع، وفي مفتاح الكرامة:

(وهو الذي طفحت به عباراتهم، حيث قالوا في أبواب متفرقة - كالسلم والنكاح وغيرها - إن العقود اللازمة لا تثبت بالمجازات، فيأخذون هذه القضية مسلمة في مطاوي الاحتجاج) ، ونحوه كلام غيره.

وربما استدل علي ذلك بالإجماع المستفاد من هذه الكلمات. لكن لا مجال للبناء عليه بعد ما سبق من إطلاقاتهم اللفظية والمقامية وتصريحاتهم. ولاسيما مع الإشكال في تحصيل الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم في مثل هذه المسائل التي لم ترد بها النصوص، ولم يتضح في موردها سيرة متصلة بعصور المعصومين (صلوات الله عليهم)، وإنما حررت متأخراً عند اهتمام أصحابنا (رضوان الله عليهم) بتبويب الفقه

ص: 48

وتنظيم مسائله، لقرب استناد المجمعين فيها لاجتهادات اتضحت لأوائلهم، وجري عليها من تأخر عنهم، لتخيل تحقق الإجماع باتفاق الأوائل المذكورين، حتي تحقق التسالم منهم نتيجة لذلك.

نعم، قد يمنع من الإنشاء بالمجاز، بل بكل ما يحتاج دلالته إلي القرينة - حتي المشترك - بلحاظ أن بساطة المضمون العقدي تقتضي وجوده دفعة واحدة في مقام الإنشاء، لا تدريجاً بتعدد الدال والمدلول، كما هو الحال فيما إذا استند لذي القرينة والقرينة معاً.

ويندفع: أولاً: بأن الذي يتحقق به إنشاء المضمون العقدي هو ذو القرينة، وليست القرينة إلا كاشفة عن بيان مدلول ذيها وما أريد به، من دون أن يكون لها دخل في الإنشاء، ليلزم تعدد ما به الإنشاء، المدعي منافاته لبساطة الأمر المنشأ.

وثانياً: بأن ذلك لا يتم مع كون القرينة حالية مقارنة لذي القرينة، أو مقالية سابقة عليه، بحيث يفهم المراد من ذي القرينة رأساً، كما يفهم منه لو كان حقيقة فيه، من دون حاجة لانتظار القرينة.

وثالثاً: بأن بساطة المعني العقدي لا تمنع من تعدد الإنشاء الذي يكون سبباً له وتركبه، لأن سببية الإنشاء للمضمون العقدي اعتبارية لا حقيقية، فلا مانع من أن يكون إنشاء المضامين المتعددة بالقرينة وذي القرينة سبباً لاعتبار العرف تحقق المضمون العقدي البسيط. كيف ولا إشكال في تركب الإيجاب العقدي من مجموعة ألفاظ تدل علي الخصوصيات الدخيلة في العقد كالثمن والمثمن وغيرها.

وربما يستدل بوجوه أخر أظهر وهناً من أن يحتاج إلي إطالة الكلام في ذكرها وردها.

هذا ويظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) التفصيل في المجاز بين أن تكون دلالته بضميمة قرينة دالة علي المضمون العقدي المراد بالوضع، وأن تكون بضميمة حال أو مقال خارج العقد، فيقع بالأول، لعدم الفرق بينه وبين الدلالة بالوضع من حيثية

ص: 49

الوضوح والصراحة، دون الثاني، لأن وقوع العقد به ينافي اتفاقهم علي عدم العبرة في العقود بغير الأقوال، حتي ذهبوا إلي عدم كفاية المعاطاة.

وهو كما تري، للإشكال في الأول بأن المعيار في الصراحة إن كان هو الوضع فهو غير متحقق فيه، لأن القرينة وإن كانت دالة وضعاً، إلا أن الإنشاء لا يكون بها، بل بذي القرينة المفروض كونه مجازاً، وإن كان هو الجلاء والبيان فهو لا ينحصر بما إذا كانت القرينة دالة بالوضع، بل قد يتحقق مع دلالتها بغير الوضع، بل مع عدم كون القرينة لفظية، كما هو ظاهر.

وفي الثاني بأن اتفاقهم علي اعتبار اللفظ لو تم، فالمتيقن منه اعتباره فيما يتحقق به إنشاء المضمون العقدي، وهو حاصل مع المجاز، حتي لو كانت القرينة حالية أو مقالية خارجة عن العقد، إذ لا دخل للقرينة في إنشاء المضمون العقدي، بل في الكشف عن المراد باللفظ الذي تحقق به إنشاؤه، كما سبق.

ومن هنا لا مخرج عما يقتضيه عموم وإطلاق أدلة النفوذ من الاكتفاء بكل لفظ يتضمن إنشاء المضمون العقدي، من دون فرق في نحو دلالته.

نعم، ظاهر سيدنا المصنف (قدس سره) في نهجه عدم صحة إنشاء العقد بالمجازات العرفية المستبشعة، لقصور العمومات عنه، قال:

(نعم المجازات البعيدة المستبشعة يشكل الرجوع في صحة الإنشاء بها إلي العمومات، لعدم كون إنشائها بها منشأ انتزاع العناوين في نظر العرف، ولا تعد عندهم آلة لإنشائها، ومثل ذلك مانع من الرجوع إلي العمومات بعد تنزيلها علي العناوين العرفية) .

لكن المدار في الصدق العرفي علي إبراز الالتزام بالمضمون العقدي، حيث يصدق معه عرفاً أن من يقوم بذلك قد باع أو آجر أو نحو ذلك من العقود، ومجرد استبشاع الإبراز بالوجه المذكور لا يمنع من صدق العناوين العقدية المذكورة، ومع صدقها يتجه عموم النفوذ لها، فيتعين البناء عليه.

اللهم إلا أن يدعي أن الإجماع علي اعتبار الإنشاء باللفظ - لو تم - يراد به اللفظ

ص: 50

(51)

مثل: بعت، وملكت، وبادلت (1)، في الإيجاب، و: قبلت، ورضيت، وتملكت، واشتريت (2)، في القبول. ولا يشترط فيه العربية (3).

---------------

المستعمل بالوجه المقبول عند أهل اللسان، دون المستعمل بالوجه المستبشع عندهم الخارج عن طريقتهم. فإن تم ذلك كان عدم النفوذ من جهة الإجماع المخرج عن عموم النفوذ، لا لقصور العموم عن المورد، كما يظهر منه (قدس سره).

لكن الشأن في تمامية أصل الإجماع المذكور، فضلاً عن حمله علي ذلك، كما يتضح مما يأتي في المسألة السادسة عند الكلام في المعاطاة إن شاء الله تعالي.

(1) يعني: إذا قصد بهما البيع أما لو قصد معناهما أشكل تحقق البيع بهما، لعدم وضوح مطابقته لهما.

(2) لتضمنها المطاوعة المناسبة لمعني القبول، بل سبق أن اعتبار القبول إنما هو من أجل ارتباط التزام أحد طرفي العقد بالتزام الآخر، فإذا تحقق ذلك بغير القبول كفي، كما لو أنشأ كل منهما البيع بمثل: تبادلنا كذا بكذا مع قصد البيع به، ومع ابتناء التزام كل منهما بالتزام الآخر. بل هو من الثاني قبول في واقعه وإن كان بصيغة الإيجاب. فلاحظ.

(3) كما قواه شيخنا الأعظم (قدس سره)، وهو صريح ما عن ابن حمزة من استحباب العقد بالعربية مع الجواز بغيرها، كما أنه مقتضي إطلاقاتهم اللفظية والمقامية التي تقدمت الإشارة إليها عند الكلام في اعتبار الصراحة. ويقتضيه عموم وإطلاق أدلة النفوذ التي تقدمت في أول كتاب التجارة.

لكن صرح باعتبار العربية في جامع المقاصد والروضة والجواهر، وحكي عن المقداد - في التنقيح وكنز العرفان - والسيد عميد الدين. ويناسبه ما في المبسوط من نفي الخلاف في عدم الاجتزاء في النكاح بغير العربية مع القدرة، ونسبه في التذكرة إلي علمائنا، إلا أن يكون ذكرهما له في النكاح وإهمالهما له في غيره ظاهراً في خصوصية

ص: 51

النكاح في ذلك.

وكيف كان فلا شاهد لاعتبار العربية إلا الأصل، المحكوم لعموم وإطلاق أدلة النفوذ. لكن قد يدعي اعتبار العربية في حق القادر، لقصور العموم والإطلاق المذكورين. ويقرب ذلك بوجوه:

الأول: عدم صدق العقد بغير العربية مع القدرة علي العربية. وهو كما تري مصادرة مخالفة للوجدان. ودخل التعذر في صدق العقد غريب.

ومثله ما قد يدعي من أن اختيار أهل اللغة لغة أخري عبث لا ينتزع معه عنوان العقد عرفاً. إذ هو - مع عدم مطابقته للمدعي - موهون جداً.

الثاني: قصور عمومات النفوذ عن غير العربي وانصرافها للعربي. قال في الجواهر:

(كغير المقام مما علق الشارع الحكم فيه علي الألفاظ المنصرفة إلي العربية، خصوصاً بعد أن كان المخاطِب والمخاطَب عربياً، وقد أرسل بلسان قومه. ولذا كان القرآن وغيره من الأدعية والأذكار الموظفة عربية، ولم يرد منهم (عليهم السلام) شيء منها بالفارسية في جميع الموظفات) .

ويشكل بأن التوظيف إن كان بلفظ مخصوص - كما في القرآن المجيد، والأذكار الواردة عن الشارع الأقدس - تعين الاقتصار عليه بأي لغة كان، عملاً بالتوظيف. وإن كان بعنوان مخصوص - كالذكر والدعاء - تعين العمل بإطلاقه، ولذا كان الظاهر أداء وظيفة القنوت بالذكر والدعاء غير العربي، لعدم التوقيت فيه بشيء معين.

وأظهر من ذلك ما إذا لم يكن موضوع التوظيف اللفظ، بل أمراً مسبباً ويكون اللفظ آلته وسببه، كما في المقام، حيث يتعين الرجوع في تشخيص سببه وآلته للعرف، وهو في المقام لا يعين العربية. ومجرد عدم ورود شيء من الأذكار المخصوصة بغير العربية - لو تم - لا يقتضي تعيين العربية في مورد الإطلاق.

وما ذكره من كون المخاطِب والمخاطَب عربياً غير ظاهر، بل المخاطَب له (صلي الله عليه وآله وسلّم) جميع البشر، تبعاً لعموم رسالته (صلي الله عليه وآله وسلّم). علي أن ذلك وحده لا يكفي في التقييد،

ص: 52

خصوصاً في مثل عمومات النفوذ الارتكازية. بل لو فرض قصور العمومات اللفظية للانصراف المدعي، كفي عموم دليل النفوذ الارتكازي، الذي سبق التعرض له في أول كتاب التجارة.

ومثله ما قد يدعي من انصراف عموم النفوذ للعربي، بسبب تعارفه في عصر صدور دليله. إذ فيه: أن الانصراف بسبب التعارف بدوي لا يعتد به، مع أنه ممنوع، لشيوع العقد بغير العربي عند غير العرب. والانصراف لخصوص المتعارف عندهم في غاية المنع. إلا أن يراد به انصرافهم أنفسهم له بسبب تعارفه عندهم. لكن لا ريب في عدم الأثر لمثل هذا الانصراف.

الثالث: أن عدم صحته بالعربي غير الماضي يستلزم عدم صحته بغير العربي بالأولوية، وفيه: أولاً: أنه لا أصل لاعتبار الماضوية في الصيغة، وإن صرح به جماعة، بل عن جماعة أنه المشهور، وفي التذكرة: (ويشترط... الإتيان بهما بلفظ الماضي. فلو قال: أبيعك، أو قال: أشتري، لم يقع إجماعاً، لانصرافه إلي الوعد).

إذ لم يتضح الدليل علي ذلك، خصوصاً بناء علي ما هو الظاهر من وضع هيآت الجمل للإخبار، وأن استعمالها في الإنشاء يبتني علي التوسع بالقرينة، لعدم الفرق بين الفعل الماضي وغيره في ذلك. وما في جامع المقاصد من أن الماضي صريح في إرادة نقل الملك، وأما المستقبل فهو شبيه بالوعد والأمر بعيد عن المراد جداً. غريب، إذ كما يكون المستقبل شبيهاً بالوعد كذلك يكون الماضي شبيهاً بالخبر، ولا ملزم بحمله علي الإنشاء إلا القرينة، التي يمكن قيامها علي حمل المستقبل علي الإنشاء أيضاً.

ومن ثم لا مخرج عن عموم النفوذ. ولاسيما مع ورود النصوص بإيقاع جملة من العقود والإيقاعات بالفعل المضارع والأمر والجملة الاسمية(1).

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 11، 12 من أبواب عقد البيع وشروطه، وج: 13 باب: 13، 14 من أبواب أحكام الوقوف والصدقات، وباب: 6 من أبواب كتاب السكني والحبيس، وج: 14 باب: 18 من أبواب المتعة، وج: 14 باب: 16 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه، وباب: 1، 2، 4، 9، 13، 16 من أبواب كتاب الظهار، وج: 16 باب: 10، 11، 28، 30 من أبواب كتاب العتق.

ص: 53

كما لا يقدح في اللحن (1)

---------------

وثانياً: أن الأولوية إنما تتم إذا كان ملاك المنع في المقيس أقوي منه في المقيس عليه، ولا مجال لذلك في المقام، لأن ملاك المنع في غير الماضي لو تم إما عدم الصراحة، أو التعبد المستفاد من الإجماع المدعي، ولا أولوية في المقام من حيثيتهما، كما لعله ظاهر. وربما استدل بوجوه أخر لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ظهور وهنها.

ومن هنا لا مخرج عن عموم أو إطلاق أدلة النفوذ. ولاسيما مع قرب قيام السيرة علي عدم الالتزام بالعربية لمن يحسن غيرها في غير العبادات المفروض فيها أذكار عربية خاصة، لما في ذلك من العناية التي لو كانت لبانت عادة. خصوصاً وأنه قد يحسنها أحد المتعاقدين دون الآخر، فإن ذلك قد يناسب السؤال عن الحكم حينئذٍ، مع أنه لم يرد ما يشير إلي ذلك.

هذا والمعروف بينهم اجتزاء العاجز بغير العربي. قال في الجواهر:

(لفحوي الاكتفاء بإشارة الأخرس، مؤيداً ذلك بعدم العثور فيه علي خلاف بين الأصحاب. بل في كشف اللثام: الذي قطع به الأصحاب أنه يجوز بغير العربية للعاجز عنها ولو بالتعلم بلا مشقة، ولا فوت غرض مقصود. بل الظاهر الاجتزاء به وإن تمكن من التوكيل، كما صرح به بعضهم، للفحوي المزبورة. فما عن بعضهم من اعتبار ذلك في الاجتزاء بها لا يخلو من نظر) .

وما يظهر من كلام كشف اللثام المذكور من لزوم التعلم إذا لم يكن فيه مشقة ولا فوت غرض مقصود، لا يناسب السيرة علي الظاهر، لما فيه من العناية، نظير ما تقدم.

(1) كما هو مقتضي إطلاق من سبق، المناسب لإطلاق وعموم أدلة النفوذ. لكن صرح في جامع المقاصد بقادحية اللحن، وهو ظاهر الجواهر. وهو متجه بناء علي الوجه الثاني من الوجوه التي تقدم الاستدلال بها لاعتبار العربية.

كما أنه بناء علي اعتبار الدلالة بالوضع يتجه عدم صحة العقد الملحون. إلا إذ

ص: 54

(55)

في المادة أو الهيئة (1). ولا يجوز فيه تقديم القبول علي الإيجاب (2).

---------------

اشتهر اللحن بنحو يستوجب وضع الملحون للمعني المقصود تعيناً في اللغة الدارجة بين العامة، فيصح حينئذ بناء علي عدم اعتبار العربية في العقد.

وعلي الأول يبتني اعتبار عدم اللحن علي القول باعتبار العربية، أما علي الثاني فيجري حتي بناءً علي عدم اعتبار العربية، لتحقق اللحن في غيرها من اللغات. وكيف كان فمما سبق يتضح ضعف الوجهين معاً.

(1) لعدم الفرق بينهما بالنظر لعموم أو إطلاق أدلة النفوذ. كما لا فرق أيضاً بالنظر له بين كون الملحون مهملاً وكونه موضوعاً لمعني غير المقصود مادام قد أريد به إنشاء العقد المقصود ولو بضميمة القرينة.

(2) وهو الأشهر، كما في المختلف. وكلماتهم في المقام في غاية الاضطراب، حيث يظهر بمراجعتها عدم تحديد الإيجاب والقبول فيها، والذي ينبغي أن يقال:

الكلام: تارة: يكون في إيقاع العقد بإنشاء مضمونه من كلا الطرفين، كما لو قال البايع: (بعت) وقال المشتري: (ابتعت).

وأخري: يكون في إيقاع العقد بإنشاء مضمونه من أحد الطرفين، مع إمضاء ذلك الإنشاء وتنفيذه من الطرف الآخر بمثل: (قبلت) و (رضيت).

وثالثة: بإيقاعه باستدعاء المضمون من أحد الطرفين بمثل: (بعني) أو (اشتر مني) مع إنشائه من الطرف الآخر بمثل: (بعت) أو (اشتريت).

أما الصورة الأولي: فالعقد فيها مركب من إيجابين. وربما سمي الثاني - أياً منهما كان - قبولاً بلحاظ كونه إقراراً للأول بعد ما سبق من ابتناء العقد علي الارتباط بين الطرفين في الالتزام. كما ربما يسمي ما يصدر من المشتري قبولاً وإن كان متقدماً، لتعارف كون المشتري هو القابل، فيبتني علي محض الاصطلاح، كما ذكره في المسالك في كتاب النكاح.

ص: 55

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في إمكان إيقاع العقد بالإنشاءين المذكورين، وقد يظهر منهم الاتفاق عليه. كما لا يعتبر الترتيب بينهما، علي ما صرح به غير واحد. لصدق العقد بذلك، فيكون مشمولاً لأدلة النفوذ.

إن قلت: ليس مفاد الصيغة فيهما واحداً، بل مفاد إنشاء البايع الفعل، ومفاد إنشاء المشتري الانفعال، والثاني متأخر رتبة عن الأول وإن تقارنا زماناً، فيتعين كون الثاني قبولاً، ولابد من تأخيره، لترتبه علي الأول طبعاً.

قلت: الترتب المذكور بين المضمونين ليس ناشئاً من ترتبهما طبعاً، بل من اختلاف نحو نسبة المضمون العقدي إلي كل من الطرفين مع وحدة المضمون المذكور، فهذا المضمون الواحد إن نسب إلي مالك المثمن الملحوظ بالأصل كان بيعاً، وإن نسب إلي مالك الثمن الملحوظ تبعاً كان شراءً وابتياعاً. وحينئذ فإنشاء كل منهما للمضمون المنتسب له نحواً من النسبة إنشاء لذلك المضمون الواحد المنافي لسلطنتهما معاً، فلا ينفذ إلا بإعمال كل منهما لسلطنته فيه المتحقق في المقام بصدور الإنشاءين معاً منهما.

وبعبارة أخري: ليس المنشأ في المقام وما هو موضوع الآثار إلا المعاوضة الخاصة، ولا يراد بإنشاء كل منهما إلا تحقيقها والالتزام بها من دون اختلاف في الواقع المنشأ. فالمقام كما لو قال كل منهما في مقام الإنشاء: التزمت ببيع المتاع الخاص بالثمن الخاص، أو قال: التزمت بشراء المتاع الخاص بالثمن الخاص، وكما لو كتب البيع بحدوده في ورقة، ووقع كل منهما عليها من أجل بيان التزامه بما فيها.

ويشهد بذلك أن ما يتحقق بالإيجابين المذكورين ارتكازاً هو عين ما يتحقق بالإيجاب من أحد الطرفين والقبول بمثل: (قبلت) من الآخر، مع أن القبول المذكور لا يتضمن إلا إقرار المضمون الواحد الذي اختص بإنشائه أحدهما، من دون أن يتضمن إنشاء الصورة الأخري المفروضة في المقام.

وأما ما اشتهر من توقف العقد علي الإيجاب والقبول فلابد من رجوعه إلي ما ذكرناه آنفاً من اعتبار ارتباط التزام كل منهما بالتزام الآخر المستلزم لكون صدور

ص: 56

الثاني مبنياً علي الأول وإمضاء لمضمونه، أو يحمل علي بيان الوجه الغالب في إعمال السلطنتين، مع كون المعتبر حقيقة هو إعمالهما معاً في مقابل الإيقاع الذي يكفي فيه إعمال سلطنة واحدة.

وأما الصورة الثانية: وهي مورد كلام سيدنا المصنف (قدس سره) فالعقد فيها مركب من إيجاب المضمون العقدي من أحد الطرفين وقبوله من الطرف الآخر، سواء كان الموجب هو المشتري أم البايع. وتسمية ما يصدر من البايع إيجاباً وإن كان بلفظ القبول، وما يصدر من المشتري قبولاً وإن تضمن إنشاء المضمون العقدي، يبتني علي الاصطلاح المشار إليه آنفاً، من دون أن يخرج الأمر في حقيقته عما ذكرنا.

ولا ينبغي التأمل في نفوذ العقد وتحقق البيع، سواءً كان الإيجاب من البايع بلفظ (بعت) ونحوه، أم من المشتري بلفظ (اشتريت) و (ابتعت) ونحوهما.

ودعوي: أنه في الثاني يلزم تحقق الشراء بدون البيع، وصدق عنوان المشتري بدون البايع، لعدم إنشاء الطرف الآخر للبيع، بل الرضا بالشراء لا غير. مدفوعة: بما ذكرناه آنفاً من أن المنشأ مضمون عقد البيع القائم بالبايع والمشتري معاً، والتعبير بالشراء والابتياع بلحاظ نسبته للمشتري، وقبول الطرف الآخر بجعله بايعاً قهراً وإن لم ينشئ البيع، كما يكون قبول المشتري لإنشاء البايع العقد بلفظ (بعت) موجباً لصيرورته مشترياً قهراً وإن لم ينشئ الشراء.

ويؤيد ذلك ما ورد من صحة إنشاء الزوج لعقد النكاح بلفظ (أتزوجك) لانصرافه إلي القبول من الزوجة بمثل: (رضيت)، بل هو المصرح به في رواية أبان بن تغلب: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال: تقول:

أتزوجك متعة علي كتاب الله وسنة نبيه... فإذا قالت: نعم قد رضيت، وهي امرأتك... ) (1) .

هذا والظاهر عدم جواز تقديم القبول في المقام، كما صرح به جماعة، وظاهر المسالك وعن الميسية ومجمع الفوائد نفي الخلاف فيه، لأن مفاد القبول المذكور تنفيذ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 18 من أبواب المتعة حديث: 1.

ص: 57

الإيجاب والالتزام به، وهو متفرع علي تحقق الإيجاب، ولا موضوع له قبله.

ودعوي: أن مفاد القبول في المقام لما كان هو الرضا بمضمون الإيجاب أمكن تقدمه عليه، لإمكان الرضا بالشيء قبل وقوعه.

مدفوعة: بأن مجرد الرضا بمضمون العقد لا يكفي في القبول الذي هو ركن العقد، لعدم إعمال سلطنة القابل بذلك، بعد كون المضمون منافياً لها، بل لا يتم إعمال سلطنته إلا بالالتزام بمضمون العقد وجعله في عهدته، إما بإنشائه استقلالاً، أو بإمضاء الإيجاب وتنفيذه المستفاد من مثل: (قبلت) و (رضيت) ونحوهما، إذا وقعت بعد الإيجاب. أما إذا وقعت قبل الإيجاب فهي تتمحض في بيان الرضا به الذي عرفت الاكتفاء به، ولا تتضمن إمضاءه وتنفيذه، إذ لا معني لإمضائه قبل وقوعه.

نعم، لو أريد بها إنشاء الالتزام بالمضمون ابتداء كان كالصورة الأولي. لكنه يحتاج إلي كلفة وعناية خارجة عن محل الكلام. كما إنه لو أريد بها الإذن للطرف الآخر في الاستقلال بالمعاملة نيابة عن القابل وأصالة عن نفسه، بحيث يقوم مقام الطرفين - كوليهما والوكيل عنهما - تعين كفاية الإيجاب في تحقيق العقد. لكن القبول المذكور لا يكون حينئذ ركناً للعقد، بل توكيلاً فيه. وهو أيضاً يحتاج إلي كلفة وعناية خارجة عن محل الكلام. وبالجملة: لا مخرج عما ذكرنا من عدم جواز تقديم القبول المتضمن إمضاء الإيجاب والالتزام بمضمونه - الذي هو محل الكلام - علي الإيجاب.

وأما الصورة الثالثة: فقد صرح غير واحد بوقوع العقد بها، وظاهر نكاح المبسوط الإجماع منا عليه في البيع، والإجماع عليه من المسلمين في النكاح. لكنه قوي في بيع المبسوط وفي الخلاف عدم وقوع البيع به. وهو الذي صرح به غير واحد، بل في جامع المقاصد:

(ظاهرهم أن هذا الحكم اتفاقي، وما قيل بجواز مثله في النكاح مستند إلي رواية ضعيفة) .

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في عدم تحقق الإيجاب ولا القبول بالاستدعاء، لعدم صلوحه بطبعه لبيان الالتزام بالمضمون وجعله، إلا بعناية وتكلف خارج عن

ص: 58

محل الكلام. ولو حصلا لم يكن قبولاً مقدماً، بل كان كالصورة الأولي، كما تقدم نظيره في الصورة الثانية.

ومنه يظهر الإشكال فيما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من أنه - بناء علي التحقيق من أن الأصل في البيع النفوذ واللزوم إلا في مورد الإجماع علي الخلاف - يتعين البناء في المقام علي صحة البيع ولزومه، لعدم الإجماع علي بطلانه بعد ما سبق من بعضهم صحته.

وجه الإشكال: أن الأصل إنما يقتضي نفوذ البيع وصحته، إذا تم العقد المتضمن له بإعمال كل من الطرفين سلطنته فيه، وهو غير حاصل في المقام بعد ما ذكرنا من عدم تحقق الإيجاب ولا القبول بالاستدعاء، وإنما الحاصل في المقام الإيجاب فقط بإعمال البايع سلطنته، ولا مجال للبناء علي عموم نفوذه بعد منافاته لسلطنة الآخر، وعدم صدق العقد.

هذا وقد استدل علي صحة النكاح بهذا الوجه بما تضمن تزويج النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) رجلاً بالوجه المذكور، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): (قال: جاءت امرأة إلي النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) فقالت: زوجني. فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): من لهذه ؟ فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، زوجنيها. فقال: ما تعطيها؟ فقالك ما لي شيء... فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أتحسن من القرآن شيئاً؟ قال: نعم. قال: قد زوجتكها علي ما تحسن من القرآن، فعلمها إياه)(1) ونحوه في ذلك ما رواه في عوالي اللآلي عن سهل الساعدي(2) ، وراه العامة بطريقهم عنه(3).

قال في الجواهر:

(وليس في الخبر في شيء من طرقه أنه أعاد القبول) ونحوه ما في المسالك. وربما عمم ذلك للبيع وبقية العقود، إما لفهم عدم الخصوصية بلحاظ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 2 من أبواب المهور حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل ج: 15 باب: 2 من أبواب المهور حديث: 2.

(3) سنن البيهقي ج: 7 ص: 242 باب النكاح علي تعليم القرآن.

ص: 59

ما هو المعلوم من أن المعيار في الجميع علي تحقق العقد بالاتفاق بين الطرفين، وإما للأولوية، لأهمية النكاح المناسب للتحفظ في سببه أكثر من غيره، فوقوعه مع ذلك بالوجه المذكور يناسب وقوع غيره به.

لكن لا مجال لتوهم كون قول الرجل: (زوجنيها) قبولاً حتي لو أمكن القبول بالاستدعاء، لعدم تحديد المهر بعد. مع أن الحديث إنما تضمن قضية في واقعة لا إطلاق لها ولا شرح لحدودها الشرعية.

وقد يحمل: تارة: علي أن يكون الرجل قد قَبِل النكاح بعد إيجاب النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) ولم يذكر في الحديث، لعدم الاهتمام فيه باستقصاء كل ما حصل، بل اقتصر فيه علي المراوضة في النكاح المذكور والإيجاب، لوفائهما ببيان خصوصياته.

وأخري: علي خصوصية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في ذلك بلحاظ ولايته العامة، فيكون إيجابه قائماً مقام الإيجاب والقبول من الزوجين، كما عن الشهيد الأول في شرح الإرشاد. ولو قيل بتوقف ذلك علي كونه (صلي الله عليه وآله وسلّم) في مقام إعمال ولايته المذكورة كفي احتمال ذلك في منع الاستدلال بالحديث علي المدعي.

وثالثة: علي كون طلب الرجل من النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) تزويجه بالمرأة راجعاً إلي توكيله له (صلي الله عليه وآله وسلّم) في ذلك كتوكيل المرأة له في ذلك، فيكون (صلي الله عليه وآله وسلّم) وكيلاً عن الطرفين، فيجزي إيجابه في تحقق العقد منهما.

بل ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن الاكتفاء بالإيجاب بعد طلب التزويج هو مقتضي القاعدة مع قطع النظر عن النصوص المذكورة، لا لأن طلب التزويج قبول متقدم، بل لأنه يرجع إلي توكيل المطلوب منه أو الإذن له في تزويجه، بحيث يقوم مقامه في إجراء العقد، فيكون المطلوب منه قائماً مقام الطرفين، ويجتزأ بإيجابه. وهو لو تم لا يختص بالنكاح، بل يجري في جميع العقود.

لكن الظاهر عدم تماميته، لأن طلب الرجل التزويج أو البيع أو غيرهما، كما يصح ممن يريد التوكيل في الأمر المطلوب له، كذلك يصح من الخاطب أو صاحب

ص: 60

نعم، يجوز إنشاء الإيجاب بمثل: (اشتريت) و (ابتعت) و (تملكت) وإنشاء القبول بمثل: (شريت) و (بعت) و (ملكت و 1).

---------------

السوم أو نحوهما ممن يريد إجراء العقد معه بتولي أحد طرفيه علي أن يكون هو الطرف الآخر الذي يتولي العقد ويباشره بنفسه.

وبعبارة أخري: طلب الشخص الأمور المذكورة من غيره كما يمكن أن يرجع إلي طلب قيامه بها عنه الذي هو مفاد التوكيل، كذلك يمكن أن يرجع إلي طلب قيامه بها معه، بحيث يجريان العقد معاً. وليس هو كطلب المرأة من شخص تزويجها من رجل، كما تضمنه الحديث، فإنه يتعين في إرادتها توكيله، إذ لو أرادت بذلك طلب أن يكون زوجاً لها لطلبت أن يتزوجها، لا أن يزوجها. ونظيره في البيع ما لو قال: اشتر لي، وفي الإجارة ما لو قال: استأجر لي، ونحو ذلك.

وبالجملة: طلب التزويج أو البيع أو غيرهما لا يتعين للتوكيل، ليكتفي معه بإيجاب المطلوب منه إذا كان هو الطرف الآخر أو وكيلاً عنه أو ولياً عليه، بل لابد فيه من القرينة، وبدونها لابد من ضم القبول للإيجاب بعد ما سبق من عدم كون الاستدعاء قبولاً.

نعم، بناءً علي الاكتفاء في إنشاء العقد بالفعل - كما في المعاطاة، وكما في التوقيع علي الورقة المتضمنة للعقد - يتعين إمكان الاجتزاء بالقبول الفعلي في المقام بالجري علي مقتضي العقد، كما لو أخذ المشتري المبيع بعد الإيجاب من البايع. لكن لا مجال له في النكاح الذي هو موضوع النصوص السابقة، إما لظهور مثل قوله (عليه السلام) في خبر أبان المتقدم: (فإذا قالت:

نعم، فقد رضيت) في اعتبار القبول اللفظي، أو للمفروغية عن اعتبار اللفظ في ركني العقد معاً في النكاح، والإجماع علي ذلك. ودعوي: أن المتيقن من ذلك اعتبار اللفظ في الجملة ولو في الإيجاب وحده. لا تناسب كلماتهم في المقام. فلاحظ.

(1) لما سبق. وسبق أن هذا ليس من تقديم القبول، إلا أن يراد من القبول

ص: 61

(62)

(مسألة 2): إذا قال: (بعني فرسك بهذا الدينار) فقال المخاطب: (بعتك فرسي بهذا الدينار) ففي صحته بلا أن ينضم إليه إنشاء القبول من الآمر إشكال (1). وإن كان الأظهر ذلك (2). وكذلك الحكم في الولي علي الطرفين والوكيل عنهما، فإنه لا يكتفي بالإيجاب (3).

(مسألة 3): يعتبر في تحقق العقد الموالاة بين الإيجاب والقبول (4).

---------------

ما يصدر من المشتري، فيرجع إلي محض الاصطلاح.

(1) لما سبق من عدم كون الاستدعاء إيجاباً، ولا قبولاً.

(2) كأنه لما سبق منه (قدس سره) من رجوع الاستدعاء للتوكيل أو الإذن في تولي العقد، ويجتزأ بإيجاب وكيل الزوج أو مأذونه عن قبول الزوج. لكن سبق من أن حمله علي ذلك يحتاج إلي قرينة.

(3) الظاهر زيادة (لا)، لعدم مناسبتها لسياق كلامه، ولا لما سبق منه (قدس سره) وتكرر في كلامه من أن مالك الطرفين ووليهما والوكيل عنهما يجتزئ بالإيجاب. فراجع ما ذكره (قدس سره) في مستمسكه في شروط عقد النكاح، وفي تزويج المولي عبده من أمته.

وهو الذي تقتضيه القاعدة، لأن القبول إنما يحتاج إليه من أجل إعمال سلطنة القابل في المضمون المنافي لها. فإذا كانت السلطنة علي تمام المضمون لشخص الموجب بالأصالة - كما في الولي والمالك - أو بالتبع - كما في الوكيل - تعين الاجتزاء بإيجابه في تحقق المضمون، عملاً بمقتضي سلطنته. ولا وجه لإتيانه بالقبول، جموداً علي ما قيل من توقف المضمون علي الإيجاب والقبول، كما أصرّ عليه غير واحد.

نعم، لو قصد بالإيجاب إعمال سلطنته علي أحد الطرفين دون الآخر اتجهت الحاجة للقبول من أجل إعمال السلطنة في حق الآخر.

(4) لا يخفي أن ما يأتي منه (قدس سره) في بيان الموالاة خارج عن محل كلامهم.

ص: 62

بل ليس هو من الموالاة عرفاً، فإن الموالاة بين الشيئين عرفاً عبارة عن التتابع وعدم الفصل الزمني المعتد به بينهما.

واعتبارها بالمعني المذكور هو الذي يظهر من الدروس، حيث قال:

(ولا يقدح تخلل آن أو تنفس أو سعال) . وبه صرح في كتاب الوقف منه، وفي محكي القواعد، كما صرح به في جامع المقاصد وغيره. وحكي عن العلامة في القواعد، وذكره في خلع المبسوط.

لكن الخلع ليس من العقود. وكلام العلامة في القواعد لا يخلو عن إجمال، حيث قال في كتاب النكاح:

(ويشترط التنجيز، فلو علقه لم يصح. واتحاد المجلس، فلو قالت: زوجت نفسي من فلان، وهو غائب، فبلغه فقبل، لم ينعقد. وكذا لو أخر القبول مع الحضور، بحيث لا يعد مطابقاً للإيجاب) . فإن عدم المطابقة للإيجاب في المقام لا يخلو عن إجمال، وقد يراد به ما يأتي من سيدنا المصنف (قدس سره) الذي هو خارج عن محل الكلام.

وكيف كان فقد يستدل علي اعتبار الموالاة بالمعني العرفي الذي سبق بوجوه:

الأول: ما يظهر من الجواهر من حمل إطلاق آية الوفاء بالعقود علي العقد المتعارف سابقاً. ويظهر ضعفه - لو تم التعارف - مما تكرر منا من عدم نهوض التعارف بتقييد الإطلاق، أو انصرافه بنحو معتد به.

الثاني: ما ذكره شيخنا الأعظم تعقيباً علي كلام الشهيد (قدس سره) قال (قدس سره): (حاصله: أن الأمر المتدرج شيئاً فشيئاً إذا كان له صورة اتصالية في العرف فلابد في ترتب الحكم المعلق عليه في الشرع من اعتبار صورته الاتصالية. فالعقد المركب من الإيجاب والقبول القائم بنفس المتعاقدين بمنزلة كلام واحد مرتبط بعضه ببعض، فيقدح الفصل المخل بهيئته الاتصالية. ولذا لا يصدق التعاقد إذا كان الفصل مفرطاً في الطول، كسنة أو أكثر...).

وقد يرد ذلك: تارة: بما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) نفسه من أن دليل النفوذ

ص: 63

في المقام لا ينحصر بعموم نفوذ العقد، بل يكفي فيه عموم حلّ البيع والتجارة عن تراض، ولا دليل علي اعتبار الموالاة في صدقهما.

وأخري: بما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن العقد ليس اسماً للفظ المركب من الإيجاب والقبول، بل للالتزام النفسي من الطرفين المظهر باللفظ أو غيره.

ويندفع الأول بأن البيع عرفاً من أفراد العقد - كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) - وكذا التجارة، فلابد من أن يعتبر فيهما جميع ما يعتبر في العقد.

كما يندفع الثاني: تارة: بأنه لم يتضح صدق العقد عرفاً علي نفس الالتزام من الطرفين، بل لا يبعد صدقه علي نفس إبراز الالتزامين المرتبطين. ولا أقل من الإجمال الملزم بالرجوع لأصالة عدم ترتب الأثر في الفاقد للموالاة.

وأخري: بأن الوجه المتقدم لاعتبار الموالاة كما يجري في إبراز الالتزامين يجري في نفس الالتزامين لو تم صدق العقد عليهما.

فالعمدة في رد الوجه المذكور: أن المراد بالصورة الاتصالية إن كانت هي المنتزعة من التتابع والتوالي بين الأجزاء، فثبوتها للعقد عين المدعي. وإن كانت هي المنتزعة من لحاظ الوحدة بين الأمور المتكثرة، فهي وإن كانت ثابتة في العقد وفي كل ما كان له عنوان واحد، كالوضوء والصلاة، إلا أن توقف ذلك علي وحدة العمل عرفاً، لتتابع أجزائه، ممنوع جداً، لأن لحاظ الوحدة بين الأمور المتكثرة اعتبار محض، وكما يمكن تحققه بين ما تعتبر فيه الموالاة يمكن تحققه فيما لا تعتبر فيه، كالغسل والحج والكفارة.

ولابد في اعتبار الموالاة فيه من دليل خاص، يكون هو المتبع في تعيين معيار الموالاة، فالموالاة المعتبرة في الوضوء غير الموالاة المعتبرة في الصلاة، وهما غير الموالاة المعتبرة بين أجزاء الكلمة الواحدة. وحينئذ لابد في إثبات الموالاة في العقد أو البيع أو التجارة من دليل خاص يتكفل به، وببيان معيارها.

وأما ما في جامع المقاصد من أن العقود اللازمة لابد فيها من وقوع القبول علي

ص: 64

الفور عادة، بحيث يعد جواباً للإيجاب. فكأنه أراد به تنظيره بالجواب المتعارف من العالم القادر علي الجواب، لما هو المعلوم من أن المسؤول إذا جهل الجواب فقد يتأخر فيه حتي يستوضحه. لكن التنظير المذكور عين المدعي، بل هو ممنوع، كما يأتي إن شاء الله تعالي.

ومثله ما سبق من شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن العقد بمنزلة كلام واحد مرتبط بعضه ببعض. حيث لا شاهد علي ذلك، بل هو ممنوع، نظير ما سبق.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن اعتبار كون هذه الأمور عقداً يقتضي أن يرتبط إنشاء أحدهما بإنشاء الآخر، بأن يصير بمنزلة كلام واحد، ففيه: الارتباط بين الإيجاب والقبول الذي يتوقف عليه صدق العقد إنما هو الارتباط بينهما قصداً، بحيث يكون إنشاء كل منهما مبنياً علي إنشاء الآخر، لا التوالي بينهما خارجاً، بحيث يكونان كالكلام الواحد.

الثالث: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أنه لما كان في العقود خلع ولبس أو إيجاد علقة فلابد أن يقارن الخلع واللبس، وأن يقارن إيجاد العلقة قبول، وإلا لزم وقوع العلقة والإضافة بلا محل ومضاف إليه. وكأنه يريد بالخلع واللبس اللذين تتضمنها العقود تبدل الحال المتعلق بالطرفين إلي حال آخر متعلق بهما، ففي البيع مثلاً لا يخرج البيع عن ملك البايع إلا علي أن يدخل في ملك المشتري، فإذا تأخر القبول من المشتري لزم خروجه من ملك البايع من دون أن يدخل في ملك غيره.

لكنه كما تري، فإن كلاً من الإيجاب والقبول وإن تضمن إنشاء المضمون العقدي والالتزام به، إلا أن المضمون المذكور لا يترتب شرعاً ولا عرفاً، إلا بكمال العقد من الطرفين، فإذا أنشأ البايع البيع مثلاً لم يترتب البيع ولم يخرج المبيع عن ملكه، ولا يدخل الثمن في ملكه شرعاً ولا عرفاً، إلا بعد القبول وتمامية العقد، لأن المبيع يخرج عن ملكه والثمن يدخل في ملكه بمجرد الإيجاب، ويتوقف دخول المبيع في ملك المشتري وخروج الثمن عن ملكه علي تحقق القبول منه، ليلزم من الفصل بينهم

ص: 65

فلو قال البايع: بعت. فلم يبادر المشتري حتي انصرف البايع عن البيع، لم يتحقق العقد، ولم يترتب عليه الأثر (1). أما إذا لم ينصرف، وكان ينتظر

---------------

مدة من الزمن حصول أحد المضمونين دون الآخر في تلك المدة، الذي جعله محذوراً في المقام، وإلا لزم امتناع الفصل بين الإيجاب والقبول حتي مدة قليلة، كما هو ظاهر.

ومن ثم لا دليل علي اعتبار الموالاة بين طرفي العقد. بل لا ينبغي التأمل في عدم اعتبارها بعد ملاحظة السيرة في مثل الهبة علي إرسال الموهوب للموهوب له من مسافة بعيدة أو قريبة، حيث يتخلل بين إيجاب الواهب للهبة وقبول الموهوب له بها مدة معتد بها قصيرة أو طويلة. وقد تحقق ذلك حتي في عهد النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام) بل ربما تحقق في حقهم، ومن المعلوم من حال السيرة المذكورة أن وظيفة الرسول تتمحض في إيصال العين الموهوبة من الواهب للموهوب له، من دون أن يكون الرسول وكيلاً عن الواهب في إيجاب عقد الهبة بدلاً عنه، ولا وكيلاً عن الموهوب له في القبول بدلاً عنه، فراراً عن محذور الفصل المعتد به بين الإيجاب والقبول.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الذي يتولي الإعطاء هو الواهب، وأن الرسول كالآلة، فهو بمنزلة من كان في المشرق، ويده طويلة تصل إلي المغرب. فهو غريب جداً، ضرورة أن الرسول قد يوصل الموهوب للموهوب له حال غفلة الواهب، لنوم أو غيره، فكيف يمكن تحقق الإنشاء منه حين الإعطاء للموهوب ؟!.

ولا فرق بين الهبة وغيرها بعد كونها من العقود، حيث يدل ذلك علي عدم توقف صدق العقد علي الموالاة، بل يكفي في وضوح ذلك الرجوع للمرتكزات العرفية في تحديد معني العقد. ومن ثم يتعين عدم اعتبار الموالاة في العقد إلا بدليل مخرج عن إطلاق النفوذ أو عمومه.

(1) بلا إشكال ظاهر، لتوقف صدق العقد علي ارتباط الالتزام القابل بالتزام الموجب، فمع عدول الموجب عن التزامه لا يتحقق الارتباط بينهما. بل الأمر أوضح

ص: 66

القبول حتي قبل، صح (1). كما أنه لا يعتبر وحدة المجلس (2)، فلو تراجعا بالتلفون، فأوقع الإيجاب أحدهما وقبل الآخر صح، أما المراجعة بالكتابة ففيها إشكال (3).

---------------

من ذلك.

(1) لتحقق الارتباط بين الإيجاب والقبول، وصدق العقد بذلك بعد ما سبق من عدم اعتبار الموالاة بين أجزاء العقد.

(2) كما سبق من العلامة (قدس سره). لكن من القريب كون مراده ما إذا استلزم الإخلال بالموالاة، فيجري فيه ما سبق، لأن ذلك هو المتعارف في عصره، وبه استدل في جامع المقاصد. ولعله لذا لم يذكره مثل شيخنا الأعظم (قدس سره) استغناءً بما سبق في الموالاة. ولا ينبغي التأمل في عدم اعتبار وحدة المجلس، خصوصاً إذا لم يخل تعدده بالموالاة، كما يمكن في مفروض كلام سيدنا المصنف (قدس سره)، حيث لا ريب في صدق العقد بدونها.

(3) لم يتضح وجه الإشكال بعد صدق العقد عرفاً. بل لعله عندهم أقوي من الكلام. ولاسيما مع شيوع وقوع المعاهدات بين الجماعات والدول بالكتابة، ومنه صلح الحديبية، وهدنة التحكيم، حيث لم يعرف ضمّ الإنشاء اللفظي لها في الوقائع المذكورة. ولو حدث ذلك لنقل وظهر، كما ظهرت ونقلت كثير من الخصوصيات التي صاحبت الكتب في تلك الوقائع.

نعم، بناءً علي اعتبار اللفظ في العقد مع القدرة يتجه البناء علي عدم وقوعه بالكتابة كما صرح به غير واحد. لكن يأتي من سيدنا المصنف (قدس سره) وقوع العقد بالمعاطاة، غاية الأمر أنه لا يلزم عنده، وهو أمر آخر. ولعله لذا استظهر بعض مشايخنا (قدس سره) وقوع العقد بالكتابة. كما أنه يتعين البناء علي لزومه، خصوصاً بناء علي ما يأتي في المعاطاة.

ص: 67

(68)

(مسألة 4): الظاهر اعتبار التطابق بين الإيجاب والقبول (1) في الثمن والمثمن وسائر التوابع (2) فلو قال: بعتك هذا الفرس بدرهم بشرط أن تخيط قميصي، فقال المشتري: اشتريت هذا الحمار بدرهم، أو هذا الفرس بدينار، أو بشرط أن أخيط عباءتك، أو بلا شرط شيء، أو بشرط أن تخيط ثوبي، أو اشتريت نصفه بنصف دينار (3)، أو نحو ذلك من أنحاء الاختلاف، لم يصح العقد. نعم لو قال: بعتك هذا الفرس بدينار، فقال: اشتريت كل نصف منه

---------------

(1) بلا إشكال ظاهر، لتوقف صدق العقد علي ذلك، كما تقدم في أوائل المسألة الأولي، وتقدم في أوائل المسألة الثالثة من العلامة (قدس سره) ما يناسبه، وإن لم يخل عن إجمال كما سبق. ولعل عدم شيوع ذكره في كلماتهم في المقام لوضوحه، ويظهر من بعض كلماتهم في بعض الفروع المفروغية عنه. ومن ثم كان الظاهر عدم الخلاف فيه، وما قد يظهر من تعبير سيدنا المصنف (قدس سره) من وجود الخلاف فيه أو الإشكال غريب.

(2) كالشروط وصفات المبيع ونحوها. ودعوي: عدم الحاجة للتطابق فيها، ولذا لا يبطل البيع بتخلفها، وإنما يبطل بتخلف الأركان لا غير. مدفوعة: بأن العقد لا يصدق إلا بتطابق الإيجاب والقبول فيها، كالأركان، للارتباطية بين جميع ما يتضمنه العقد في القصد والإنشاء. وأما عدم بطلان العقد بتخلفها حكم عقلائي متفرع علي تمامية العقد، ولا ينافي توقف تمامية العقد علي التطابق فيها.

(3) وكذا لو قال: اشتريت نصفه بنصف درهم، للاختلاف بينهما في الأمر الملتزم به، لالتزام الأول ببيع المجموع بما هو مجموع، والتزام الثاني ببيع النصف وحده. ومجرد دخول النصف في المجموع لا يقتضي التطابق فيه بعد قصد الأول ضمه للنصف الثاني، وقصد الثاني الاقتصار عليه. ولعل ذلك هو مراد سيدنا المصنف (قدس سره)، وذكر الدينار من سبق القلم.

ص: 68

(69)

بنصف دينار. صح، وكذا نحوه مما كان الاختلاف فيه بالإجمال والتفصيل (1).

(مسألة 5): إذا تعذر اللفظ لخرس ونحوه قامت الإشارة مقامه (2)

---------------

(1) لأن الاختلاف بالإجمال والتفصيل لا يرجع إلي الاختلاف في المضمون، بل للاختلاف في بيانه. لكن رجوع الاختلاف في المثال المذكور للاختلاف في الإجمال والتفصيل لا يخلو عن إشكال، لابتناء الإيجاب فيه علي مقابلة المجموع بالمجموع، وابتناء القبول علي جعل كل نصف من الثمن مقابل كل نصف من المبيع، وهما مختلفان قصداً.

ولا ينافي ذلك بناء العرف علي توزيع الثمن علي أجزاء المبيع في موارد تبعض الصفقة. فإن ذلك حكم عقلائي. ولذا يثبت معه الخيار، بلحاظ تخلف الارتباطية.

كما أن الحكم بالتوزيع بتخلف بعض الصفقة يثبت في غير مورد الإشاعة، كما لو باعه ناقة وجمل بألف وخمسمائة دينار، فظهرت الناقة مغصوبة، وكانت قيمتها ضعف قيمة الجمل، فإن الجمل يقابل بثلث الثمن وهو خمسمائة، مع أنه لو قال: بعتك الناقة والجمل بألف وخمسمائة، فقال: اشتريت الناقة بألف، والجمل بخمسمائة، بطل البيع بلا إشكال ظاهر، لعدم التطابق. ومن ثم يشكل الحال في المثال المذكور.

نعم، ينحصر الفرق بالإجمال والتفصيل فيما إذا تضمن أحداهما الجملة والآخر التفصيل من دون توزيع لأجزاء الثمن علي أجزاء المثمن، كما لو قال في المثال المذكور: اشتريت نصفي الفرس بدينار، وكما لو باعه بناية مكونة من دار ودكاكين بعشرة آلاف. فقال: بعتك هذه البناية بعشرة آلاف، فقال: اشتريت الدار والدكاكين بعشرة آلاف، أو باعه ثوباً بخمسة دراهم ونصف دينار في صرة، فقال: بعتك الثوب بما في هذه الصرة، فقال: اشتريته بهذه الخمسة دراهم والنصف الدينار، ونحو ذلك.

(2) وفي الجواهر أنه مما قطع به الأصحاب. وقال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(فمع

ص: 69

وإن تمكن من التوكيل (1)

---------------

عدم القدرة علي التوكيل لا إشكال ولا خلاف في عدم اعتبار اللفظ وقيام الإشارة مقامه) ويقتضيه ما يأتي.

(1) كما يظهر من إطلاق الأصحاب، فإن عدم تنبيههم للتوكيل مع شيوع القدرة عليه موجب لقوة ظهور إطلاقهم في عدم وجوبه. ويقتضيه إطلاق أدلة نفوذ العقود والتجارة وغيرهما، مما سبق. وأما ما دل علي اعتبار اللفظ فهو - لو تم - لا عموم له لصورة تعذره من موقع العقد.

هذا وقد استدل عليه شيخنا الأعظم (قدس سره) بفحوي ما دلّ علي عدم اعتبار اللفظ في إطلاق الأخرس(1) قال (قدس سره):

(فإن حمله علي صورة عجزه عن التوكيل حمل علي الفرد النادر) . والوجه في الأولوية ما هو المعلوم من شدة الأمر في الطلاق، حتي صرح في النصوص باعتبار لفظ خاص فيه(2).

بل قد يستفاد ذلك صريحاً من صحيح البزنطي: (سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الرجل تكون عنده المرأة ثم يصمت فلا يتكلم. قال: يكون أخرس ؟. قلت: نعم. فيعلم منه بغض لامرأته وكراهة لها، أيجوز أن يطلق عنه وليه ؟. قال: لا، ولكن يكتب ويشهد علي ذلك. قلت: لا يكتب ولا يسمع كيف يطلقها؟ قال: بالذي يعرف منه من فعاله مثل ما ذكرت من كراهته وبغضه لها)(3). فإن فرض وجود الولي له مع إهمال التنبيه لتوكيله كالصريح في عدم وجوبه.

نعم، المتيقن من الصحيح صورة تعذر الكتابة. لكن مقتضي إطلاق بقية النصوص الاكتفاء بالإشارة ولو مع إمكان الكتابة، كمعتبر أبي بصير: عن أبي عبد الله (عليه السلام)

:(قال: طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها ويضعها علي رأسها، ثم يعتزلها ) (4)

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 19 من أبواب مقدمات الطلاق وشروطه.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 15، 16 من أبواب مقدمات الطلاق وشروطه.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 15 باب: 19 من أبواب مقدمات الطلاق وشروطه حديث: 1، 5.

(4) ، وسائل الشيعة ج: 15 باب: 19 من أبواب مقدمات الطلاق وشروطه حديث: 1، 5.

ص: 70

وكذا الكتابة (1) مع العجز عن الإشارة. أما مع القدرة عليها، ففي تقديم الإشارة أو الكتابة وجهان (2)،

---------------

وغيره. ولا ينهض الصحيح بتقييد الإطلاق المذكور، لأنه لا يتضمن تقييد الاكتفاء بالإشارة بتعذر الكتابة. غاية الأمر تقديمها في الذكر، وهو قد يكون لمجرد كونها إحدي أدوات الإنشاء أو أظهرها من دون تعيين لها. ومن ثم كان مقتضي الجمع بين الحديثين عرفاً حمل كل منهما علي كفاية ما تضمنه، الراجع للتخيير بينهما.

هذا ويظهر منهم المفروغية عن عدم خصوصية الخرس، وأن المعيار تعذر النطق. ولم يتضح الوجه فيه، خصوصاً بعد صحيح البزنطي المتقدم، حيث قد يظهر منه خصوصية الخرس.

اللهم إلا أن يقال: إن كان تعذر النطق لقصور ثابت في الإنسان ولادي أو طارئ، فالظاهر صدق الخرس به عرفاً. وإن كان لطارئ موقت فيشكل بناؤهم علي عموم الحكم له.

وأظهر من ذلك ما إذا كان التعذر لأمر خارجي، كالخوف ونحوه. قال في الجواهر:

(ولم نجد من الأصحاب نصاً فيمن عجز لإكراه) .

وكيف كان فالتوقف إنما يتجه بناء علي أن مقتضي القاعدة اعتبار اللفظ في العقد. أما بناءً علي ما هو الظاهر من الاكتفاء في بكل ما يصلح لإبراز الالتزام العقدي، فالمتعين الاكتفاء بالإشارة مطلقاً فيمن لا يتعذر عليه اللفظ، فضلاً عمن يتعذر عليه مهما كان منشأ التعذر.

(1) بلا إشكال ظاهر لصحيح البزنطي المتقدم. ولأنه مقتضي القاعدة، كما سبق.

(2) من إطلاق صحيح الحلبي المقتضي لتعين الكتابة ولو مع القدرة علي الإشارة، وإطلاق بقية نصوص طلاق الأخرس، المقتضي تعين الإشارة مع القدرة عليها.

ص: 71

(72)

بل قولان (1). والأظهر الجواز بكل منهما (2)، بل يحتمل ذلك حتي مع التمكن من اللفظ (3).

(مسألة 6): الظاهر وقوع البيع بالمعاطاة (4)،

---------------

(1) فعن كاشف الغطاء تقديم الإشارة. قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (ولعله لأنها أصرح في الإنشاء من الكتابة). وهو غير ظاهر. ولاسيما بملاحظة صحيح البزنطي المتقدم ترجيح الكتابة. بل ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه ظاهر في ترجيح الكتابة، وظاهر الحلي في السرائر الجري علي ذلك في الطلاق.

(2) عملاً بمقتضي القاعدة. وهو الذي يقتضيه الجمع بين نصوص الطلاق، كما يظهر مما تقدم.

(3) بل هو المتعين، خصوصاً في الكتابة، لما تقدم في ذيل المسألة الثالثة.

(4) قد اضطربت كلمات الأصحاب (رضوان الله تعالي عليهم) في المعاطاة واشتد خلافهم. ونسب للمفيد أنها بيع لازم. قال في المقنعة:

(والبيع ينعقد عن تراض بين الاثنين فيما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعاً، وتراضيا بالبيع، وتقاضيا وافترقا بالأبدان) . فإن مقتضي إطلاق هذا الكلام عدم اعتبار اللفظ في حصول البيع، والاكتفاء فيه بكل ما يدل علي الرضا به، وفي لزومه بالافتراق بالأبدان.

لكن المعروف بين الأصحاب خلافه. حتي وصف بالشذوذ في ذلك. وحمل بعضهم كلامه هذا علي كونه بصدد بيان شروط البيع، من دون نظر لما يقع به البيع من اللفظ أو غيره، دفعاً له عن الشذوذ والخروج عما هو المعروف بينهم، من أنه لابد في البيع اللازم من العقد اللفظي.

فقد قال في الخلاف:

(إذا دفع قطعة إلي البقلي أو إلي الشارب، قال: اعطني بقلاً أو ماء، فأعطاه، فإنه لا يكون بيعاً، وكذا سائر المحقرات، وإنما يكون إباحة له يتصرف كل واحد منهما فيما أخذه تصرفاً مباحاً، من دون أن يكون ملكه. وفائدة

ص: 72

ذلك أن البقلي إذا أراد أن يسترجع البقل، أو أراد صاحب القطعة أن يسترجع قطعته، كان لهما ذلك، لأن الملك لم يحصل لهما. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة يكون بيعاً صحيحاً، وإن لم يوجد الإيجاب والقبول. قال ذلك في المحقرات، دون غيرها. دليلنا: أن العقد حكم شرعي، ولا دلالة في الشرع علي وجوده ههنا، فيجب أن لا يثبت. فأما الاستباحة بذلك فهو مجمع عليه، لا يختلف العلماء فيها) . وبذلك صرح في المبسوط أيضاً. وجري عليه جماعة ممن تأخر عنه، بل هو المعروف بينهم. وظاهرهم بل صريحهم أن المقصود بالمعاطاة وإن كان هو البيع، إلا أنه لا يقع، لعدم حصول العقد اللفظي، بل ينحصر الأمر بإباحة التصرف.

وحينئذٍ قد يستشكل أو يستغرب حصول الإباحة، مع عدم القصد إليها، وإنما المقصود هو البيع المفروض عدم وقوعه، بل المناسب حينئذٍ جريان حكم البيع الفاسد، كما حكي عن العلامة في نهاية الأحكام، فلا يترتب عليه شيء حتي الإباحة.

لكن المحقق الثاني (قدس سره) ذهب إلي وقوع البيع بالمعاطاة متزلزلاً غير لازم، فيجوز فسخه مادام العوضان قائمين، ونزل في جامع المقاصد ومحكي حاشية الإرشاد كلام الأصحاب عليه. قال في جامع المقاصد: (فإن المعروف بين الأصحاب أنها بيع، وإن لم تكن كالعقد في اللزوم، خلافاً لظاهر عبارة المفيد. ولا يقول أحد من الأصحاب إنها بيع فاسد سوي المصنف في النهاية... وما يوجد في عبارة جمع من متأخري الأصحاب من أنها تفيد إباحة، وتلزم بذهاب أحدي العينين، يريدون به عدم اللزوم في أول الأمر، وبالذهاب يتحقق اللزوم. لامتناع إرادة الإباحة المجردة عن أصل الملك، إذ المقصود للمتعاطين إنما هو الملك، فإذا لم يحصل كانت فاسدة، ولم يجز التصرف في العين، وكافة الأصحاب علي خلافه. وأيضاً فإن الإباحة المحضة لا تقتضي الملك أصلاً ورأساً، فكيف يتحقق ملك شخص بذهاب مال آخر في يده. وإنما الأفعال لما لم تكن دلالتها علي المراد في الصراحة كالأقوال، وإنما بالقرائن، منعوا من لزوم العقد بها، فيجوز التراد ما دام ممكناً، فمع تلف إحدي العينين يمتنع التراد، فيتحقق اللزوم،

ص: 73

لأن إحداهما في مقابل الأخري...).

هذا والإنصاف أن ما ذكره من المحذور لا يصلح لحمل كلمات الأصحاب علي إرادة حصول البيع والملك المتزلزل بالمعاطاة بعد قوة ظهور كلماتهم، بل صراحة جملة منها - مثل ما تقدم من الخلاف - في عدم حصول الملك بها.

ومثله ما في الجواهر من محاولة توجيه ما عليه الأصحاب (رضي الله عنهم) بأن موضوع كلامهم ليس هو المعاطاة التي يراد بها البيع، ليؤخذ عليهم أنه مع عدم ترتب البيع لا وجه لترتب الإباحة من دون ملك، بل هو المعاطاة التي يراد بها إباحة كل من العوضين في مقابل الآخر من دون تمليك.

قال (قدس سره) في مقام دفع احتمال حمل مراد الأصحاب علي صورة قصد البيع بالمعاطاة: (لا ريب في أن حمل كلام قدماء الأصحاب علي ما ذكرناه من أن مرادهم بيان قابلية الأفعال للإباحة لو قصداها، وأن ذلك مشروع، دون التمليك البيعي مثلاً خير من ذلك... لأن الواقع خلافه. وغرابة نفس الدعوي، وهي إثبات أمر غير ما قصده المتبايعان بلا داع ودليل، بل مقتضي الأدلة جميعها خلافه. فلابد من حمل مرادهم علي ما ذكرناه. لا أن مرادهم الإباحة فيما قصد به المتعاملان إنشاء البيع مثلاً، بل ليس هو إلا الفساد حينئذٍ... فما عساه يظهر من المتأخرين ومتأخريهم من أن محل النزاع فيما قصد به البيع مثلاً... كما تري، بل يمكن دعوي القطع بفساده بأدني تأمل. وأنه لا ينبغي أن ينسب إلي أصاغر الطلبة، فضلاً عن أعاظم الأصحاب وكبرائهم. بل لابد من القول بالفساد فيه لمن اشترط الصيغة في الصحة...).

إذ فيه: أنه - كسابقه - لا يناسب كلماتهم في المقام، ومنها ما سبق من الخلاف، كما لا يخفي. وغرابة الحكم المذكور لا تمنع من نسبته لهم بعد ظهور كلماتهم أو صراحتها فيه. ولاسيما بعد ظهور ما سبق من الخلاف في أن عدم حصول البيع لقصور أدلة أحكامه شرعاً، لا لعدم القصد له، وأن الحكم بالإباحة ليس جرياً علي القاعدة، بل للإجماع الذي هو - لو تم - دليل تعبدي، لا يخضع للحساب. فالإباحة في المقام ليست

ص: 74

مالكية، كي يستشكل بعدم ظهور حال المتعاطين فيها، بل هي شرعية مستفادة من الإجماع المدعي في المقام. وأشكل من ذلك ما ذكره من أن الواقع من المعاطاة علي خلاف ما ذكروه. فإنه غريب جداً.

إذا عرفت هذا فلا ينبغي التأمل في حكم العرف بحصول البيع والتجارة وسائر العقود بالمعاطاة، لصلوحها لإبراز الالتزام العقدي من الطرفين، فيكون مقتضي أدلة النفوذ واللزم حصول البيع ولزومه معها.

وبه يندفع ما سبق من الخلاف من أن العقد حكم شرعي، ولا دلالة في الشرع علي وجوده مع المعاطاة. فإن مراده بالعقد إن كان هو تعاقد الطرفين، فهو أمر عرفي لا شرعي، وهو حاصل، كما ذكرنا. وإن كان هو انعقاد المعاملة ونفوذها ولزومها شرعاً، فيكفي في الدليل عليه عمومات النفوذ واللزوم، بعد تحقق موضوعاتها بالمعاطاة، كما سبق.

ومن هنا لابد في البناء علي عدم حصول البيع شرعاً بالمعاطاة - كما هو المشهور

أو حصوله مع عدم لزمه - كما سبق من جامع المقاصد - من دليل مخرج عن عمومات النفوذ واللزوم. ولم يتضح لنا بعد ملاحظة كلماتهم - علي كثرتها واضطرابها - ما يصح دليلاً علي ذلك عدا دعوي الإجماع، إما علي عدم حصول البيع والملك وغيرهما من مضامين العقود بالمعاطاة، أو علي عدم لزوم ما يقع بها من بيع أو غيره.

لكن لا مجال لدعوي الإجماع علي عدم حصول الملك بالمعاطاة بنحو يوجب العلم برأي الأئمة (عليهم السلام) بذلك، ليكون حجة ينهض بالخروج عن أدلة النفوذ، بعد عدم كون ذلك منصوصاً ولو برواية ضعيفة، ليمكن استكشاف رأي الأصحاب منه متصلاً بعصور الأئمة (عليهم السلام)، بسبب روايتهم للنص المذكور، بنحو يظهر منهم الفتوي بمضمونه. كما أنه لا شاهد له من سيرة المتشرعة، ليمكن دعوي اتصالها بعصور المعصومين (عليهم السلام)، بنحو تكشف عن حكمهم (عليهم السلام).

بل كيف يمكن دعوي الإجماع علي ذلك بعد عدم معروفية القول به قبل

ص: 75

الشيخ، ولاسيما بعد عدم عثورنا عليه في نهايته، وبعد ما سبق من كلام المفيد، فإن عدم تعرضهم لذلك ولتحديد ما يتحقق به العقد ظاهر في اكتفائهم بما عليه العرف، ولاسيما مع أن الخروج عما عليه العرف في مثل هذه المسألة الشايعة الابتلاء يحتاج إلي تنبيه وتأكيد يناسب شيوعها، فكيف يهمله مثل المفيد ومن سبقه ؟!.

بل حتي الشيخ في الخلاف - الذي أكثر فيه من الاستدلال بإجماع الطائفة في موارد الخلاف مع العامة - لم يستدل في المقام بالإجماع، وإنما استدل بالأصل، كما سبق، وهو الذي يظهر ممن بعده. ولعله لقناعتهم بما ذكره، كما وقع نظيره في بعض الموارد، حتي نسبهم البعض لتقليده، ثم اشتبه ذلك بالإجماع، وجري عليه من تأخر.

وبالجملة: لا مجال لتحصيل الإجماع في المقام بالنحو الذي ينهض بالحجية، والخروج عن مقتضي القاعدة الذي تقدم.

وأشكل من ذلك ما قد يدعي من أن المتيقن من الإجماع عدم اللزوم، دون نفي البيع، لأن خلاف مثل المحقق الثاني، وحكمه بتحقق البيع من دون لزوم، مانع من القطع بقيام الإجماع علي عدم ترتب البيع، فاللازم البناء علي تحقق البيع بالمعاطاة، عملاً بمقتضي القاعدة، والاقتصار في الخروج عنها علي نفي اللزوم الذي اتفق عليه الكل. وربما يبتني عليه ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في المقام، كما يظهر منه في نهج الفقاهة.

إذ فيه: أن الإجماع الكاشف عن رأي الإمام (عليه السلام) هو إجماع قدماء الأصحاب المتصلين بعصور الأئمة (عليهم السلام)، ولا أهمية لمن بعدهم. فإن تم في المقام فمعقده عدم حصول البيع والملك، وإن لم يتم فلا طريق للبناء علي قيامه علي نفي لزوم البيع والملك مع حصولهما، لعدم مناسبته لكلماتهم المتقدم بعضها. وحمل المحقق الثاني (قدس سره) لكلماتهم علي ذلك، اجتهاد منه قد ثبت خطؤه فيه، ولا أقل من عدم ثبوت صحته، فلا يترتب عليه أثر، ولا يختلف بسببه المتيقن من الإجماع.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في نهجه من أن بناء الأصحاب علي جواز

ص: 76

التراد يكشف عن ثبوته عند الشارع الأقدس، وإن كان هو يجتمع مع فساد المعاطاة وصحتها علي نحو توجب الإباحة، أو علي نحو توجب الملك، فهو من قبيل الإجماع علي القدر المشترك بين الأقوال، إذ يمتنع هذا البناء مع كون الحكم الواقعي اللزوم.

فهو مندفع: بأن الإجماع إن تم فهو علي جواز التراد بسبب عدم الملك، كما يظهر مما سبق، فلا مجال للاستدلال به علي جواز التراد مع البناء علي صحة البيع وحصول الملك.

نعم، لو كان الدليل في المقام هو سيرة المتشرعة علي التراد أمكن الاستدلال بها علي جميع المباني المذكورة، لعدم تحديد مبني السيرة المذكورة عند القائمين بها، لأنها عمل مجمل، ولأن القائمين بها ليسوا من أهل المعرفة، فقد يلتبس عليهم مبناها ومنشؤها، وإن كانوا قد جروا عليها خلفاً عن سلف متصلاً بعصور المعصومين (صلوات الله عليهم)، بنحو يكشف عن مطابقتها للواقع.

إلا أنه لا مجال لدعواها في المقام. بل لا ينبغي التأمل في بناء المتشرعة - كالعرف

علي عدم جواز التراد، لتحقق البيع وسائر العقود بها، وارتكازية اللزوم في المعاملات المذكورة.

ومثله ما نسبه في المسالك إلي بعض مشايخه المعاصرين - وفي مفتاح الكرامة أنه السيد حسن بن السيد جعفر - من القول بانعقاد البيع بالمعاطاة إذا كانت القرينة الدالة علي الرضا بالبيع لفظاً. ويظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) انه فهم منه وقوعه لازماً حينئذٍ، ونسبه لجماعة من متأخري المحدثين. حيث قد يدعي بسببه أن المتيقن من الإجماع علي عدم وقوع البيع ما إذا لم يكن في البين لفظ أصلاً، لا متضمن لعقد البيع، ولا دال علي الرضا به.

إذ فيه: أنه يجري فيه نظير ما سبق في دفع ما ذكره المحقق الثاني، من أن إجماع القدماء لو تم فمعقده توقف البيع علي العقد اللفظي، وعدم حصوله بالمعاطاة مطلقاً. ولا أثر للأقوال الصادرة ممن تأخر عنهم في انعقاد الإجماع ولا تحديد مفاده.

ص: 77

ومن هنا لا مخرج عن مقتضي القاعدة من تحقق البيع بالمعاطاة، تبعاً لقصد المتبايعين منها، ولزومه، كسائر البيوع والعقود، عملاً بعموم النفوذ واللزوم. ويؤيد ذلك أو يعضده أمور:

الأول: جملة من النصوص الواردة في الموارد المتفرقة المشعرة أو الظاهرة في تحقق البيع أو لزومه من دون حاجة إلي العقد اللفظي.

منها: ما تضمن جواز تبديل النقد في الذمة بنقد آخر، كصحيح إسحاق بن عمار: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تكون للرجل عندي الدراهم الوضح، فيلقاني، فيقول لي: كيف سعر الوضح اليوم ؟ فأقول له: كذا. فيقول: أليس لي عندك كذا وكذا ألف درهم وضحاً؟ فأقول: بلي. فيقول لي: حولها دنانير بهذا السعر وأثبتها لي عندك، فما تري في هذا؟ فقال لي: إذا كنت استقصيت له السعر يومئذ فلا بأس بذلك...)(1). ونحوه غيره. لظهوره في الاكتفاء في التبديل - الذي هو بيع أو نحوه - بالتزام تحويلها وإثباتها بالنحو الذي أراده صاحبها.

ومنها: ما تضمن عدم جواز وطء الأب جارية ولده الصغار حتي يقومها علي نفسه. كصحيح أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(في الرجل يكون لبعض ولده جارية، وولده صغار، هل يصلح أن يطأها؟ فقال: يقومها قيمة عدل، ثم يأخذها، ويكون لولده عليه ثمنها) (2) ، لقوة ظهوره في صيرورتها له وحلها بمجرد التقويم والأخذ بالقيمة - الذي كالشراء بالمعاطاة - من دون حاجة إلي إيقاع العقد لفظاً.

ومنها: ما ورد في الإقالة، كخبر هذيل بن صدقة الطحان: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشتري المتاع أو الثوب، فينطلق به إلي منزله، ولم ينقد شيئاً، فيبدو له فيرده، هل ينبغي له ذلك. قال: لا، إلا أن تطيب نفس صاحبه)(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الصرف حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 40 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الخيار حديث: 5.

ص: 78

فإن السؤال حيث كان عن قضية خارجية فتعارف الشراء المعاطاتي لا يناسب إطلاق الحكم باللزوم لو لم يكن الشراء المعاطاتي ملزماً، ومن البعيد جداً الاتكال في الإطلاق علي المفروغية عن عدم تحقق الشراء بها شرعاً بعد تعارف مخالفة ذلك. وربما يظهر بالفحص نصوص أخر ظاهرة أو مشعرة بذلك.

الثاني: سيرة المتشرعة - تبعاً للمرتكزات العقلائية العامة - علي الاكتفاء بالمعاطاة في إيقاع البيع وغيره من العقود، وترتيب آثارها، ومنها اللزوم. بل من القريب أن يكون ما سبق من الشيخ (قدس سره) في الخلاف من دعوي الإجماع علي الإباحة ناشئاً من النظر للسيرة المذكورة، مع محاولة تحويرها، بما يناسب مختاره. وإلا فالإباحة مع عدم تحقق البيع حكم غريب مخالف للقاعدة يصعب جداً تحصيل الإجماع عليه بعد عدم النص في المسألة وعدم شيوع تحريره.

وحتي لو كان مراده بالإجماع المدعي إجماع مذهب المسلمين، فمن القريب جداً أن يكون منشأ إجماعهم علي هذا الحكم الغريب المخالف للقاعدة هو النظر للسيرة القائمة، التي لا يمكن خروج الفتوي عنها، لأنها حقيقة قائمة يصعب البناء علي خطئها. غاية الأمر أن تحوّر بما يناسب الأدلة والاجتهادات فيها.

ومن المعلوم أن هذه السيرة لما كانت تابعة للمرتكزات العقلائية فهي حاصلة من عصور المعصومين (صلوات الله عليهم) تبعاً لتلك المرتكزات، بل يكاد يقطع بجري المعصومين أنفسهم عليها، إذ لو كان بناؤهم وبناء أتباعهم - من غلمانهم ووكلائهم - علي الالتزام بالعقد اللفظي لظهر وبان.

ولاسيما وأن من الشايع وقوع الهبة والهدية بإرسال الشيء، الموهوب بيد رسول تنحصر وظيفته بإيصاله، من دون أن يكون وكيلاً عن الواهب في إيجاب عقد الهبة مع الموهوب له حين إيصاله له، ولا عن الموهوب له في قبول إيجاب الواهب لعقدها حين أخذه منه. ومن الظاهر حصول ذلك حتي للمعصومين (صلوات الله عليهم) في عصورهم الطويلة، مع بنائهم - كغيرهم - علي ترتيب آثار الملك علي المال حينئذٍ.

ص: 79

ومن الغريب جداً ما في المبسوط من عدم ترتب الملك حينئذٍ، بل لو مات الواهب مع بقاء الشيء الموهوب رجع ميراثاً لورثته، ولو مات الموهوب له حينئذٍ كان للواهب الرجوع به. كيف! ولازمه عدم جواز تصرف ورثة الموهوب له به، بل لابد لهم من مراجعة الواهب أو ورثته مع معرفتهم وإجراء حكم مجهول المالك عليه مع الجهل بهم.

ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من الطعن في الاستدلال بالسيرة في ذلك بأنها كسائر سيراتهم الناشئة عن المسامحة وقلة المبالاة في الدين مما لا يحصي في عباداتهم ومعاملاتهم وسياساتهم. لاندفاعه بظهور أن السيرة في المقام لا تختص بالمتسامحين في الدين، بل تعم المتدينين الملتزمين.

نعم، قد يقال: إن ذلك لو أمكن في بعض العصور التي لم يعلم بالفتوي السائدة فيها، فلا مجال له في العصور الطويلة التي شاعت فيها الفتوي بعدم حصول البيع والملك بالمعاطاة، حيث لم تردع هذه الفتوي - مع شيوعها - المتشرعة عن ترتيب أثر البيع والملك علي المعاطاة. فإن ذلك يشهد بتسامحهم في سيرتهم علي ذلك. وإذا علم بتسامحهم في سيرتهم في تلك العصور، وعدم جريها علي الميزان الشرعي، أمكن تسامحهم فيها في العصور الأخري التي لا يعلم بالفتوي السائدة فيها، فلا مجال للاستدلال بها واستكشاف الحكم الشرعي علي طبقها.

لكن الإنصاف أن ذلك ناشئ من ضعف الفتوي المذكورة عن مقام العمل، وعدم جري المفتين أنفسهم وخواصهم وأتباعهم من المتدينين عليها بنحو يوجب تبدل العمل، وذلك بالالتزام بالعقد اللفظي، أو بالتراد مع عدمه، وعدم التزامهم بآثار عدم ترتب الملك علي المعاطاة من حيثية الضمان والتصرف وعموم التراد وغير ذلك، مما أوجب أن لا يكون للفتوي المذكورة من الظهور ما يوجب تبدل عمل عموم الناس من المتدينين وغيرهم.

مضافاً إلي أن عدم تبدل سيرة المتدينين - تبعاً لشيوع الفتوي بعدم وقوع البيع

ص: 80

وغيره من العقود بالمعاطاة - شاهد بقوة السيرة وارتكازيتها، بنحو لو كان الحكم الشرعي مخالفاً لها لاحتيج لشدة النكير عليها من المتدينين بنحو ملفت للنظر حفظاً للحقيقة، ولو حصل ذلك لظهر وبان، وحيث لم يحصل ذلك كشف عن مطابقة السيرة لرأي المعصومين (عليهم السلام)، وأن الفتوي المذكورة ناشئة عن شبهة واهية، لا تناسب الواقع العملي.

الثالث: أن حصول البيع بالمعاطاة ولزومه لما كان ارتكازياً، وقد جرت عليه سيرة العقلاء والمتشرعة، وكان الابتلاء به شايعاً جداً، فلو كان الشارع مخالفاً له، وقد حكم بعدم حصول البيع، أو بعدم لزومه، لاحتيج لبيانه في النصوص بوجه مؤكد، ولكثر السؤال عن فروع ذلك، مثل سعة الإباحة وخصوصياتها، وحكم الضمان مع التلف، وتحديد الألفاظ التي يقع بها البيع وسائر العقود، وتحديد ملزمات المعاطاة ونحو ذلك مما هو كثيراً جداً. وحيث لا أثر لذلك في النصوص، كشف عن إمضاء الشارع للارتكاز المذكور، وعدم ردعه عنه، واكتفائه في تحقق البيع وغيره من العقود بالطرق العرفية بما في ذلك المعاطاة.

بقي في المقام الكلام في حديث خالد:

(قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا. قال: أليس إن شاء ترك وإن شاء أخذ؟. قلت: بلي. قال: لا بأس به، إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام) (1) .

قال الحر العاملي في هامش الوسائل:

(فيه دلالة علي عدم انعقاد البيع بغير صيغة، فلا يكون بيع المعاطاة معتبراً. فتدبر) . ونحوه ما في الرياض، وربما يوجد في كلام غير واحد.

وفيه: أنه وارد لبيان اختلاف صحة المعاملة باختلاف كيفية إيقاعها، وأن بيع السائل للثوب علي الرجل إن كان قبل شرائه من صاحبه، بحيث يكون الرجل ملزماً به لو اشتراه السائل، حرم البيع وبطل، لأنه من بيع الإنسان ما ليس له، وإن لم يكن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب أحكام العقود حديث: 4.

ص: 81

كذلك، بل لم يكن بينهما في أول الأمر إلا وعد غير لازم الوفاء، ثم لا يبيع السائل الثوب للرجل إلا بعد أن يشتريه من صاحبه، حل البيع وصح، لأنه من بيع الإنسان ما يملكه، ولا يمنع منه الوعد السابق بعد أن لم يكن شراء ملزماً.

فهو نظير صحيح سليمان بن خالد: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يزارع، فيزرع أرض آخر، فيشترط للبذر ثلثاً، وللبقر ثلثاً. قال:

لا ينبغي أن يسمي بذراً ولا بقراً، فإنما يحرم الكلام)(1).

وحديث أبي الربيع عنه (عليه السلام): (أنه سئل عن الرجل يزرع أرض رجل آخر، فيشترط عليه ثلثاً للبذر وثلثاً للبقر. فقال: لا ينبغي أن يسمي بذراً ولا بقراً، ولكن يقول لصاحب الأرض: أزرع في أرضك ولك منها كذا وكذا: نصف، أو ثلث، أو ما كان من شرط، ولا يسمي بذراً، ولا بقراً، فإنما يحرم الكلام)(2) وغيرهما.

وليس الحديث المذكور وارداً لبيان شرطية الكلام في حلّ المعاملة ونفوذها، لعدم مناسبته للمورد، ولا لقوله: (ويحرم الكلام)، لظهور أنه إذا كان هناك من يقول بأن الكلام شرط في نفوذ المعاملة، فليس هناك مورد ولا قائل بكون الكلام مانعاً من نفوذها.

نعم، قد يدعي: أن المراد بالحديث وإن كان هو بيان اختلاف حال المعاملة باختلاف كيفية إيقاعها، إلا أن التعبير عن إيقاع المعاملة بالكلام ظاهر في المفروغية عن انحصار إيقاع المعاملة به.

لكنه يندفع: بأن التعبير بذلك، كما يمكن أن يكون للمفروغية المذكورة يمكن أن يكون للكناية بالكلام عن مضمونه، وهو الأنسب بالسؤال، فلا مجال لدعوي ظهوره تبعاً في شرطية الكلام بعد عدم وروده لبيان ذلك.

ومن هنا لا مخرج عما سبق من القاعدة المقتضية لوقوع البيع وغيره من العقود بالمعاطاة ولزومه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 8 من أبواب المزارعة والمساقاة حديث: 6، 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 8 من أبواب المزارعة والمساقاة حديث: 6، 10.

ص: 82

بأن ينشئ البايع البيع بإعطائه المبيع إلي المشتري. وينشئ المشتري القبول بإعطاء الثمن إلي البايع (1). ولا فرق في صحتها بين المال الحقير والخطير (2). وقد تحصل بإعطاء البايع المبيع وأخذ المشتري بلا إعطاء له (3). كما لو كان الثمن كلياً في الذمة، أو بإعطاء المشتري الثمن وأخذ البايع له بلا إعطاء منه، كما لو كان المثمن كلياً في الذمة.

---------------

(1) لا يبعد اختصاص الإنشاء بالكلام وعدم تحققه بغيره، كالتعاطي والتوقيع علي الورقة المتضمنة للعقد وغيرها، وإنما يتحقق بهذه الأمور إبراز الالتزام بالمضمون العقدي والتعهد به وهو يكفي في صدق العقد عرفاً، الذي هو المهم في المقام.

وبعبارة أخري: وقوع العقد بالمعاطاة ونحوها، ليس لتحقق إنشاء المضمون العقدي بها، بل لتحقق إبراز الالتزام والتعهد به، الذي هو المعيار في صدق العقد، دون الإنشاء، وإنما يكتفي بالإنشاء لأنه من مظاهر إبراز الالتزام بالمضمون، لا لخصوصية فيه.

وقد أشار سيدنا المصنف (قدس سره) لما ذكرنا في مباحث الوضع من حقائقه، عند الكلام في حصول الوضع بالفعل واستعمال اللفظ في المعني استعمال اللفظ فيما وضع له. فراجع.

(2) أشار بذلك للتفصيل المتقدم من الخلاف عن أبي حنيفة. والوجه في عدم الفرق عموم صدق العقد والبيع في القسمين. نعم قد يكون الاهتمام بالمعاملة في الخطير يدعو لضبطها باللفظ خوف الخلاف. بل قد يهتم فيه بما زاد علي اللفظ، كالكتابة والأشهاد، لأنه آكد في الضبط الرافع للخلاف. لكن ذلك كله للتحفظ من الخلاف والشقاق، لا لتوقف صدق العقد والبيع وغيره من المعاملات علي اللفظ، كما لعله ظاهر.

(3) لا إشكال في صدق المعاطاة مع التعاطي من الطرفين. أما مع الإعطاء

ص: 83

من أحد الطرفين فقط - لكون العوض الذي يكون من الطرف الآخر كلياً في الذمة، أو جزئياً لا يراد تسليمه فعلاً، أو كان الطرف الآخر قد استلمه قبل إيقاع المعاملة - فقد يستشكل في صدق المعاطاة، بل نفي شيخنا الأعظم (قدس سره) الريب في عدم صدقها. وكأنه لدعوي ابتناء هيئة المفاعلة علي إشراك الطرفين في المادة، كما في المسالك.

لكن لا أصل لذلك، فإن هيئة المفاعلة لا تقتضي الإشراك، بعد كون الفاعل فيها واحداً وتعديها لمفعول، كما في طالعت الكتاب، وناولت زيداً الثوب، وجاريته في كلامه، وغير ذلك مما لا يحصي، وإنما يكون ذلك كثيراً في هيئة التفاعل، حيث كثيراً ما يكون الفاعل فيها متعدداً، كما في تقاتل وتشارك وتباهل وغيرها. بل صرح في لسان العرب ومختار الصحاح والقاموس وغيرها بأن المعاطاة بمعني المناولة، وهي تتحقق من طرف واحد.

وأما ما في مجمع البحرين: (وبيع المعاطاة هو إعطاء كل من المتبايعين ما يريده من المال عوضاً عما يأخذه من الآخر). فهو لا يناسب الاعتبار. ومن القريب أن يكون مراده بيان المعاطاة التي هي مورد كلام الفقهاء، فلا مخرج عما سبق.

نعم، لا أثر لذلك في محل الكلام، لعدم ورود عنوان المعاطاة في الأدلة الشرعية، كما نبّه له في الجواهر. بل ولا في كلام قدماء الأصحاب، مثل ما سبق من الخلاف. وحينئذٍ يتعين الرجوع في ذلك للقواعد.

فإن قيل بوقوع البيع وسائر العقود بها، عملاً بالعمومات، تعين العموم للإعطاء من طرف واحد، حيث يتحقق به الإيجاب من المعطي والقبول من الآخذ، لكفايتهما في إبراز الالتزام بمضمون المعاملة من الطرفين الذي هو المعيار في صدق العقد. وعلي ذلك لا يكون الإعطاء من الطرف الآخر دخيلاً في تحقق المعاملة، بل يقع جرياً علي مقتضاها، كالتسليم بعد العقد اللفظي للثمن والمثمن.

وإن قيل بعدم وقوع البيع ولا غيره من العقود بها، وإنما هي تقتضي الإباحة، فحيث لم تكن الإباحة مالكية، بل شرعية - كما سبق - وهي مخالفة للقاعدة، تعين

ص: 84

الاقتصار فيها علي المتيقن. وحينئذٍ قد يدعي أن المتيقن صورة التعاطي من الطرفين، لأنها مورد كلام غير واحد، كالشيخ - في كلامه المتقدم - وغيره.

لكن الشهيد في الدروس عمم المعاطاة للإعطاء من طرف واحد، وحكي عن جماعة من متأخري المتأخرين. وهو غير بعيد، إذ الظاهر إلغاء خصوصية التعاطي من الطرفين في كلام القدماء، لظهور كلماتهم في الإشارة لما عليه الناس في واقعهم العملي، ومن الظاهر عدم اختصاصه بالإعطاء من الطرفين. ولاسيما بملاحظة ظهور عموم كلامهم في المعاطاة للهبة التي لا إعطاء فيها إلا من طرف الواهب. ومن ثم قطع في الجواهر بالعموم، لعموم السيرة، التي هي الأصل في المسألة.

هذا وقد قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (وربما يدعي انعقاد المعاطاة بمجرد إيصال الثمن وأخذ المثمن من غير صدق إعطاء أصلاً، فضلاً عن التعاطي، كما تعارف أخذ الماء مع غيبة السقاء، ووضع فلس في المكان المعدّ له، إذا علم من حال السقاء الرضا بذلك).

لكن الظاهر عدم كفاية مجرد إحراز الرضا من السقاء ونحوه. بل لابد من إحراز إذن الطرف الآخر للغير في أن يتولي إيقاع المعاملة بنفسه، ويقوم مقام كلا الطرفين في ذلك، فيملك الماء في مقابل الثمن.

أما إحراز الرضا وحده من دون الإذن المذكور، فهو لا يكفي في إيقاع المعاملة، بل تكون فضولية، لعدم إعمال الطرف المذكور لسلطنته فيها. ولو أحرز الرضا بالتصرف في العين فهو رضا مالكي لا يقتضي إلا جواز التصرف الخارجي تكليفاً، دون جواز التصرف الاعتباري وضعاً بالبيع والشراء ونحوهما ونفوذه.

هذا وقد يرجع الرضا المذكور إلي الرضا بالاستيفاء بالضمان بقيمة المثل أو بالثمن الخاص، ويكون أثره جواز التصرف واستيفاء العين تكليفاً، لكن مع ضمان ما عين في مقابلها، لا مجاناً، لأن ذلك من أسباب الضمان العرفية. كما أنه لا يكون عقداً مملكاً للعين، فيجوز الرجوع فيه من الطرفين قبل استيفاء العين المبذولة وإتلافها. فلاحظ.

ص: 85

(مسألة 7): الظاهر أنه يعتبر في صحة البيع المعاطاتي جميع ما يعتبر في البيع العقدي (1)

---------------

(1) كما حكي عن المسالك. ولعله منصرف كلماتهم. وهو ظاهر بناءً علي المختار من كونها بيعاً لازماً، حيث يشملها حينئذٍ جميع ما دل علي اعتبار تلك الشروط في البيع.

وكذا بناءً علي كونها بيعاً غير لازم - كما اختاره سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره - فإن عدم لزومها لا يمنع من دخولها حينئذٍ في عموم أدلة اعتبار الشروط في البيع.

ودعوي: أن منصرف أدلة تلك الشروط البيع اللازم. ممنوعة، فإن اللزوم من أحكام البيع، وقصور عموم دليله عن بعض أفراد البيع لا يستلزم قصور أدلة بقية تلك الأحكام عنه، فهي في ذلك نظير البيع المشروط فيه الخيار. ومجرد كون الخيار فيه شرطياً، وفي المعاطاة حكمياً، غير فارق.

أما بناءً علي عدم وقوع البيع بها، وأنها إنما تقتضي الإباحة لا غير - كما هو المشهور - فربما يدعي قصور أدلة شروط البيع عنها، لخروجها عنه موضوعاً علي ما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره).

ودعوي: أن موضوع أدلة تلك الشروط هو البيع العرفي، فيشمل المعاطاة. مدفوعة: بأن أدلة تلك الشروط مسوقة لبيان توقف نفوذه شرعاً عليها، فمع فرض عدم نفوذه شرعاً لا معني لاشتراطها فيه.

بل حتي أدلة أحكام البيع وغيره من العقود غير أدلة شروط النفوذ تنصرف إلي البيع والعقد الصحيحين اللذين يترتب عليهما الأثر، وحيث كانت صحة البيع وغيره من العقود مورداً للاختلاف بين الشارع الأقدس والعرف تعين حمل ما يرد في لسان الشارع والمتشرعة من تلك الأحكام علي الصحيح الشرعي، دون العرفي.

غاية الأمر أن الصحيح الشرعي يحمل بمقتضي الإطلاق المقامي لأدلة

ص: 86

تلك الأحكام علي الصحيح العرفي. إلا أن يثبت الردع عنه - كما هو المفروض في المقام - فيتعين قصور الأدلة عن موارد الردع. ولذا يحمل مثل ما تضمن أن من اشتري أباه عتق عليه، ومن تزوج امرأة حرمت عليه أمها، علي الشراء والزواج الصحيحين شرعاً، دون الصحيحين عرفاً. كما هو ظاهر.

فالعمدة في المقام أن قصور أدلة شروط البيع عن المعاطاة بناء علي أنها لا تفيد الملك بل الإباحة لا تنفع في حصول الإباحة بالمعاطاة مع فقدها لشروط البيع، بعد أن كان ترتب الإباحة علي المعاطاة مخالفاً للقاعدة، لفرض عدم قصدها بها، بل المقصود بها البيع، فمع عدم ترتبه، لاعتبار اللفظ في العقد، يتعين البناء علي فساد المعاطاة وعدم ترتب الأثر عليها، ويجري علي المال المقبوض بها حكم المقبوض بالعقد الفاسد. وينحصر دليل ترتب الإباحة معها بالإجماع المدعي، والظاهر من معقده - لو تم - صورة تحقق جميع شروط البيع، لأن مورد الخلاف بين العامة والخاصة في المقام هو توقف تحقق البيع علي اللفظ وعدمه، وذلك يناسب كون محل الكلام البيع الواجد لجميع الشروط لولا اللفظ. ولا أقل من كون ذلك هو المتيقن من معقد الإجماع المذكور.

ومنه يظهر الإشكال فيما عن الشهيد في حواشيه علي القواعد من جواز الجهالة في الثمن والمثمن والأجل، وعدم وجوب التقابض في المجلس في معاطاة النقدين.

إذ فيه: أنه حيث كان محل كلامهم ما إذا قصد بها البيع، كما سبق، فإن وقع البيع بها لحقها أحكامه، وإن لم يقع بها لحقها أحكام البيع الفاسد، ومنها حرمة التصرف، ولا مخرج عن ذلك إلا الإجماع المدعي علي ثبوت الإباحة معها، والمتيقن منه صورة تحقق جميع شروط البيع، كما ذكرنا. نعم لو قصد بها الإباحة فلا إشكال. لكن سبق خروجه عن محل كلامهم.

ص: 87

(88)

من شرائط العقد (1) والعوضين (2) والمتعاقدين (3). كما أن الظاهر ثبوت الخيارات الآتية - إن شاء الله تعالي - (4) فيها (5)، ولو بعد ثبوت أحد الملزمات (6).

---------------

(1) كالتنجيز والموالاة - علي القول بها - والتقابض في المجلس في مثل بيع الصرف.

(2) كمعلومية العوضين، والتساوي في المقدار إذا كان من جنس واحد مكيل أو موزون.

(3) كالعقل والبلوغ والحرية. ويقتضيها - مضافاً علي ما سبق - أنها من شروط السلطنة علي المال، ومع فقدها لا سلطنة علي المال، لينفذ فيه التصرف ولو بالإباحة، ولذا لا يترتب الأثر علي الإذن المجرد عن المعاطاة مع فقد هذه الأمور.

اللهم إلا أن يقال: السلطنة إنما تعتبر في الإباحة المالكية، والإباحة في المعاطاة شرعية كما سبق، والإباحة الشرعية تابعة ثبوتاً لدليلها سعة وضيقاً، وقد تثبت من دون إعمال سلطنة المالك، كما في إباحة الأكل من ثمر البساتين لمن يمر بها. فالعمدة في المقام ما ذكرناه أولاً.

(4) كخيار المجلس والحيوان والعيب وغيرها.

(5) لإطلاق أدلة ثبوت تلك الخيارات في البيع بناء علي كونها بيعاً. وأما بناءً علي عدم كونها بيعاً، فلأن مقتضي القاعدة جواز التراد فيها، لعدم خروج كل من المالين بها عن ملك صاحبه، فله الرجوع فيه بمقتضي سلطنته عليه.

(6) أما بناءً علي مختاره (قدس سره) من وقوع البيع بها من دون أن يكون لازماً فلأن الملزمات المذكورة إنما تقتضي اللزوم من حيثية الخيار الثابت لخصوصية المعاطاة، ولا تقتضي اللزوم مطلقاً حتي من حيثية الخيار الخاص المفروض. وأما بناء علي حصول الإباحة بها من دون أن تكون بيعاً فلأن إطلاقات ثبوت الخيار في البيع وإن لم تنهض

ص: 88

إلا إذا كان الملزم مسقطاً للخيار (1)، كما إذا كان المبيع معيباً ولم يبق بيد المشتري بعينه، فإنه يسقط خيار البيع، ويثبت الأرش لا غير (2).

---------------

بإثباته فيها، إلا أن أدلة الملزمات المذكورة تقصر عن مورد الخيار، إذ لا دليل عليها إلا الإجماع، والمتيقن منه غير ذلك.

(1) يعني: الخيار الخاص، حيث يتعين إسقاطه له بمقتضي إطلاق دليله.

(2) أما بناءً علي كونها بيعاً فظاهر. لإطلاق ما دل علي ثبوت الأرش في العيب مع عدم بقاء المبيع بعينه، مع دون أن يكون لصاحبه الرد. وأما بناء علي عدم كونها بيعاً - كما سبق أنه المشهور - فلأن الإطلاق المذكور وإن لم ينهض بذلك، إلا أنه بعد فرض اللزوم بذلك - علي ما يأتي الكلام فيه عند الكلام في الملزمات - فقد يدعي أن ثبوت الأرش هو مقتضي الجمع بين الحقين بعد فرض عدم استحقاق الرجوع بالعين، لأن استحقاق البايع تمام الثمن، ضرر علي المشتري بعد كون المبيع معيباً، واستحقاق المشتري للفرق الحقيقي بين قيمتي الصحيح والمعيب قد يكون ضرراً علي البايع، لأنه قد يستوفي الثمن، فالمتعين استحقاق الأرش الذي هو الفرق بين الصحيح والمعيب بالنسبة للثمن.

لكن ذلك لا ينهض بالاستدلال: أولاً: لأن الجمع بين الحقين بذلك لما كان لتجنب الضرر فهو راجع للاستدلال بقاعدة نفي الضرر، ومن الظاهر أنها لا تنهض بتشريع أحكام يتدارك بها الضرر، مثل استحقاق الأرش في المقام.

وثانياً: لأن استحقاق البايع لتمام الثمن قد لا يكون ضرراً علي المشتري، كما لو لم يزد الثمن علي قيمة المعيب. كما أن استحقاق المشتري الفرق الحقيقي بين قيمتي الصحيح والمعيب قد لا يكون ضرراً علي البايع، لأنه قد لا يستوفي الثمن، بل قد يزيد الباقي من الثمن علي قيمة المعيب ومن ثم لا ينهض بهذا الوجه بالاستدلال.

وربما نستدل في المقام بالإجماع. لكن في تماميته بنحو ينهض بالاستدلال

ص: 89

(90)

(مسألة 8): البيع العقدي لازم من قبل الطرفين (1)، إلا مع وجود أحد أسباب الخيار الآتية. أما البيع المعاطاتي فهو وإن كان مفيداً للملك، إلا أنه جائز من الطرفين (2)،

---------------

إشكال، لعدم تعرض كثير منهم لذلك. وبناء المتشرعة عليه ارتكازاً - لو تم - قد يكون متفرعاً علي بناء العرف علي تحقق البيع بالمعاطاة، وغفلتهم عن خروج الفقهاء في فتاواهم عن ذلك. فلاحظ.

(1) بلا إشكال ظاهر. ويقتضيه أمور:

الأول: عموم الأمر بالوفاء بالعقد لظهور أنه لا يراد به الوفاء به آناماً، بل دائماً، ومن الظاهر أن الرجوع فيه ينافي الوفاء به.

الثاني: ابتناء العقد ارتكازاً علي اللزوم، حيث يكون الرجوع عنه خروجاً عن مقتضي العقد عرفاً، فيتعين العمل علي مقتضي الارتكاز المذكور ما لم يثبت الردع عنه، وهو غير ثابت، بل ثبت إمضاؤه. وقد تقدم في أوائل كتاب التجارة ما ينفع في ذلك.

الثالث: ما ورد في خصوص البيع، مثل نصوص خيار المجلس والحيوان، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): البيعان بالخيار حتي يتفرقا. وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام) (1) ومثل نصوص الإقالة(2) لظهورها في المفروغية عن لزوم البيع لولاها. بل هو صريح خبر هذيل بن صدقة المتقدم في مؤيدات وقوع البيع ولزومه بالمعاطاة.

الرابع: أنه مقتضي الأصل، لاستصحاب بقاء العوضين علي حالهما الذي حصل بالبيع، وعدم رجوعهما بالفسخ إلي ما كانا عليه سابقاً قبل البيع.

(2) كما سبق من جامع المقاصد، وقد يظهر من محكي التحرير. وكأنه للإجماع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب الخيار حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب آداب التجارة.

ص: 90

حتي مع شرط سقوط الخيار (1) أو إسقاطه بعد سقوطه (2). نعم يلزم بأحد أمور (3):

---------------

المدعي في المقام، والذي تقدم الكلام فيه في المسألة السادسة، وأنه غير ثابت، بل مقتضي القواعد لزوم البيع المعاطاتي، نظير ما تقدم في البيع الحاصل بالعقد اللفظي.

(1) لأن الشرط المذكور إنما يقتضي سقوط الخيار إذا كان الخيار حقاً للمشترط، لأن مقتضي كونه حقاً له سلطنته علي إسقاطه، أو اشتراط سقوطه. أما إذا كان حكماً شرعياً، لخصوصية في المعاملة، فلا سلطنة له عليه، ليسقطه أو يشترط سقوطه. بل يكون شرط سقوطه شرطاً مخالفاً للكتاب، فلا ينفذ. ومن الظاهر أن المدعي في المقام أن عدم لزوم البيع المعاطاتي حكم شرعي ثابت بالإجماع، لقصور فيه، وليس حقاً شرعياً مملوكاً للطرفين، كخيار المجلس.

اللهم إلا أن يقال: لما كان عدم اللزوم في المعاطاة بناء علي كونها بيعاً مخالفاً للقاعدة، فاللازم الاقتصار فيه علي المتيقن، وهو صورة عدم اشتراط سقوط الخيار، أما في صورة اشتراط ذلك فالمتعين الرجوع للقاعدة المقتضية للزوم. فسقوط الخيار مع الشرط ليس من أجل نفوذ سلطنة المشترط، بل من أجل قصور دليل الخيار. وبذلك يظهر أن الشرط المذكور لا يخالف حكم الكتاب، بل يرفع موضوعه.

لكن الإنصاف أن المعاطاة لما كانت عقداً فهي مبنية علي اللزوم، والقصد إليها قصد للزوم ضمناً، فلو كان الشرط مسقطاً للخيار فيها لكان القصد لذلك ضمناً كافياً في سقوطه، ففرض عدم اللزوم فيها مناسب لعدم تأثير الشرط. فتأمل.

(2) يظهر الحال فيه مما تقدم.

(3) لا يخفي أن مقتضي القاعدة في لزوم المعاطاة يختلف باختلاف المباني. فأما بناءً علي وقوع البيع بها، وحصول الملك، فمقتضي القاعدة لزومها في مورد الشك - عملاً بما تقدم من الدليل والأصل - والاقتصار في الخروج عنه علي مورد اليقين

ص: 91

بعدم اللزوم.

ولا مجال لاستصحاب عدم اللزوم المفروض ثبوته بدواً للمعاطاة: أولاً: لأن عدم اللزوم في بيع المعاطاة ليس حكماً فعلياً، بل هو حكم تعليقي راجع إلي انفساخ البيع بالرجوع، والتحقيق عدم جريان الاستصحاب التعليقي.

نعم، لو كان الخيار حقاً للطرفين أو لأحدهما كان حكماً فعلياً يجري فيه الاستصحاب. إلا أنه لا مجال له في المقام، لعدم الدليل علي ثبوت الحق المذكور هنا. غاية الأمر دعوي ثبوت جواز الرجوع في المعاطاة حكماً كجواز الرجوع في الهبة.

الثاني: لأن الاستصحاب المذكور لو كان يجري في نفسه فهو محكوم لإطلاق أدلة النفوذ واللزوم، بناء علي عدم جريان استصحاب حكم المخصص في مثل ذلك علي ما أوضحناه في مبحث الاستصحاب من الأصول.

وأما بناء علي عدم حصول البيع ولا الملك بالمعاطاة وبقاء كل من العوضين علي ملك صاحبه الأول فمقتضي القاعدة جواز الرجوع فيها، إذ احتمال اللزوم إن رجع لاحتمال اللزوم في الإباحة مع بقاء كل من المالين علي ملك صاحبه الأول، فهو مدفوع بعموم سلطنة المالك علي ملكه المقتضي لجواز استرجاعه، وحرمة وضع الغير يده عليه وحبسه عنه بغير إذنه.

وإن رجع لاحتمال انتقال كل من العوضين للطرف الآخر، وحصول التبادل بينهما في الملك. فمقتضي استصحاب بقاء كل من المالين علي ملك مالكه الأول عدم تحقق الانتقال المذكور. بل لا يبعد منافاته لقاعدة سلطنة المالك علي ملكه، لأن مقتضاها عدم خروجه عنه إلا برضاه وبإعمال سلطنته.

نعم، لو كان المدعي حصول البيع ونفوذه بحصول أحد الملزمات، بحيث يترتب البيع علي المعاطاة بشرط الملزم، اتجه البناء علي لزوم المعاطاة في مورد الشك، عملاً بعموم نفوذ البيع القاضي بنفوذ المعاطاة المقصود بها البيع، والمقتصر في الخروج عنه علي مورد اليقين، وهو صورة عدم حصول ما يحتمل لزوم المعاطاة به. وعليه

ص: 92

(93)

الأول: تلف العوضين (1)

---------------

جري سيدنا المصنف - في نهجه - وبعض مشايخنا (قدس سرهما).

لكنه بعيد عن مساق كلماتهم، في وجه عدم حصول البيع والملك بالمعاطاة، لظهورها أو صراحتها في أن عدم تحقق العقد والبيع بالمعاطاة إنما هو لتوقفهما علي الإنشاء اللفظي، وأن لزوم المعاطاة بالملزمات المذكورة لامتناع التراد، لا لكونها شرطاً في نفوذ العقد الحاصل بالمعاطاة. وإلا فلو صلحت المعاطاة لإيقاع العقد فلا منشأ لتوقف نفوذه علي حصول الملزمات.

وأما ما احتمله في المسالك من صيرورة المعاطاة بيعاً بعد التلف. فهو لا يتجه إلا إذا أريد به أنها تصير بحكم البيع في ترتب أحكامه، لا أن البيع الواقع بها ينفذ، فإن هذا لا يناسب كلماتهم واستدلالاتهم.

وبالجملة: ترتب الملك بحصول الملزمات - لو تم - لا بد أن يبتني علي كونها هي السبب المملك، دون المعاطاة، وحيث لا ريب في عدم صدق العقد علي الملزمات المذكورة في كلماتهم، تعين الاقتصار في حصول الملك بها علي المتيقن.

وأظهر من ذلك ما لو قلنا بكونها سبباً في لزوم الإباحة من دون ملك. إذ لا ريب في منافاة ذلك لقاعدة السلطنة في حق المالك. ومن هنا لا مخرج عما سبق من أن اللزوم مخالف للقاعدة، وأنه يتعين الاقتصار فيه علي المتيقن.

(1) كما صرح به غير واحد. وعن كاشف الغطاء نفي الريب والخلاف فيه. وهو المتيقن من الملزمات في كلامهم. والوجه فيه: أنه بعد تعذر التراد خارجاً بالتلف فلا أثر للجواز إلا استحقاق التراد مع ضمان كل من العوضين ببدله من المثل أو القيمة، ومن الظاهر أن ذلك مخالف للقاعدة.

أما بناءً علي حصول البيع والملك المتزلزل بالمعاطاة فلأن كلا منهما قد تلف عند صاحبه، وفي ملكه، فلا يكون مضموناً عليه، وضمانه عليه بالرجوع بالعقد بعد ذلك

ص: 93

أو أحدهما (1).

---------------

يحتاج إلي دليل بعد عدم اشتراط ذلك صريحاً ولا ضمناً في العقد، لما هو المعلوم من ابتناء العقد علي اللزوم وعدم الضمان. هذا مضافاً إلي ما سبق من أن مقتضي القاعدة بناء علي حصول البيع هو اللزوم بكل ما يحتمل لزوم البيع به.

وأما بناءً علي حصول الإباحة بالمعاطاة من دون ملك فلعدم الدليل علي الضمان مع فرض جواز وضع اليد علي العين وإباحة التصرف فيها حتي بالإتلاف، لأن المتيقن من دليل الضمان اليد العدوانية والإتلاف غير المأذون به شرعاً، وكلاهما غير حاصل في المقام.

(1) فقد تقدم من جامع المقاصد دعوي عدم جواز الرجوع، لامتناع التراد. وهو المذكور في كلام غير واحد. ويقتضيه بناء حصول البيع والملك المتزلزل بالمعاطاة ما سبق من أن مقتضي القاعدة حينئذٍ لزوم البيع بكل ما يحتمل كونه ملزماً له.

وأما بناءً علي حصول الإباحة بالمعاطاة من دون ملك فمقتضي القاعدة بقاء العين الأخري علي ملك مالكها الذي كان التلف عنده، وجواز رجوعه بها، عملاً بمقتضي سلطنته علي ملكه، وعدم ضمانه لما تلف عنده بعد كون يده عليه غير عدوانية، وجواز تصرفه فيه حتي بالإتلاف.

نعم، لا ريب في منافاة ذلك للسيرة، وإباء المرتكزات له جداً. لكن يقرب كون منشأ ذلك بناء العرف علي حصول البيع بالمعاطاة، ومع فرض الخروج عن ذلك لا يتضح قضاء المرتكزات باللزوم. كما لا مجال لعدوي الإجماع عليه بعد قلة من تعرض له، نظير ما تقدم في ذيل المسألة السابعة عند الكلام في استحقاق الأرش مع العيب.

ولو فرض العلم بالخروج عنه فليس البناء علي لزوم المعاطاة حينئذٍ بأولي من البناء علي جواز الرجوع بها مع ضمان التالف بالمثل أو القيمة بعد خلو كل منهما عن الدليل.

ص: 94

أو بعض أحدهما (1). الثاني: نقل العوضين (2)،

---------------

اللهم إلا أن يدعي الإجماع علي لزوم المعاطاة حينئذ. لكن يصعب إحرازه بعد عدم تعرض غير واحد ممن ذهب إلي عدم تحقق البيع بالمعاطاة للزوم بذلك، منهم الشيخ في كلامه المتقدم من الخلاف. وقد تقدم في ذيل المسألة السابعة عند الكلام في ثبوت الأرش بالعيب ما ينفع في المقام.

(1) الوجه فيه بناء علي حصول البيع والملك المتزلزل بالمعاطاة ما سبق من عمومات اللزوم. أما بناء علي الإباحة من دون ملك فقد يوجه بأن رجوع كل منهما بعينه من دون ضمان ضرر علي من نقصت عينه، ولا وجه للضمان بعد كون من نقصت العين عنده قد أخذ العين من دون عدوان، وجاز له التصرف فيها ولو بالإتلاف.

لكن قاعدة نفي الضرر لا تنهض بتشريع تبدل الملكيتين ولزوم ذلك. بل مقتضي القاعدة البناء علي جواز الرجوع من دون ضمان للنقص. ولو فرض العلم ببطلان ذلك فليس البناء علي اللزوم بأولي من البناء علي جواز الرجوع مع الضمان بعد خلو كل منهما عن الدليل. نظير ما تقدم من سابقه. ودعوي الإجماع هنا أبعد من دعواه فيما سبق.

(2) لا إشكال ظاهر في صحة نقل كل من العوضين ببيع وغيره من دون فرق بين القول بالملك والقول بالإباحة وأن المراد بالإباحة ما يعم ذلك. وعلي ذلك فمقتضي القاعدة عدم انفساخ النقل المذكور برجوع كل منهما في المعاطاة. وحينئذٍ يجري ما سبق في تلف كلا العوضين.

نعم، لو كان النقل الثاني بالمعاطاة أيضاً، فإن قلنا بالملك جري ما سبق أيضاً. أما لو قلنا بالإباحة، فقد يدعي جواز التراد في المعاطاة الأولي، وحينئذٍ يتعين التراد في المعاطاة الثانية، لا بمعني وجوبه علي موقعها، لعدم الدليل علي تكليفه بذلك، بل بمعني حصوله قهراً بالتراد في المعاطاة الأولي. لاستصحاب بقاء العين علي ملك مالكها الأول الذي هو طرف المعاطاة الأولي. بل هو مقتضي قاعدة سلطنته علي

ص: 95

أو أحدهما (1) أو بعض أحدهما (2) بناقل شرعي من بيع أو هبة أو نحوهما، لازماً كان أو جائزاً (3). ولو رجعت العين إلي المالك بفسخ أو غيره بقي

---------------

ماله، لأن خروجها عن ملكه من دون إذنه مناف لسطنته المذكورة. وحينئذٍ يكون رجوع العين له وارتفاع إباحتها الحاصلة بالمعاطاة الثانية مقتضي سلطنته عليها بعد بقائها علي ملكه.

وبعبارة أخري: خروج العين عن ملك صاحب المعاطاة الأولي أو عن سلطنته بإيقاع المعاطاة الثانية يحتاج إلي دليل. ولا يتضح قيام إجماع تعبدي علي لزوم المعاطاة الأولي، ليكون هو الدليل في المقام.

(1) أما علي الإباحة فيظهر الكلام فيه مما سبق. وأما علي الملك فاللزوم بذلك بالإضافة إلي العين المنقولة مقتضي القاعدة، نظير ما تقدم. وأما بالإضافة إلي العين الباقية فالكلام فيه نظير ما تقدم عند الكلام في تلف إحدي العينين.

هذا ولو كان الثمن كلياً، وقد دفع المشتري فرداً منه، ونقل البايع ذلك الفرد عن ملكه فقد يقصر عنه كلام سيدنا المصنف (قدس سره)، لأن النقل لم يقع علي عين الثمن، بل علي بدله. كما قد يشكل البناء علي اللزوم معه حتي بناء علي تحقق البيع والملك الجائز بالمعاطاة، لشيوع ذلك في المعاملات المعاطاتية بين الناس، فيبعد جداً حمل الإجماع المدعي في كلماتهم علي جواز التراد علي غير هذه الصورة. فلاحظ.

(2) لما تقدم من أن مقتضي القاعدة لزوم المعاطاة بكل ما يحتمل لزومه بها بناء علي وقوع البيع بها وإفادتها الملك. وأما بناءً علي الإباحة، فيجري ما سبق.

(3) لما عرفت من عمومات اللزوم بناء علي إفادة المعاطاة البيع. مضافاً إلي أن جواز الفسخ لأحد الطرفين في الجائز لا يقتضي تحققه بفسخ المعاطاة قهراً عليه، ولا وجوبه عليه تكليفاً، فهو كاللازم من هذه الجهة. ومن ذلك يظهر عدم الأثر للجواز حتي بناء علي إفادة المعاطاة الإباحة من دون ملك.

ص: 96

اللزوم بحاله (1).

---------------

(1) عملاً بدليل اللزوم. ولأصالة عدم ترتب الأثر علي فسخ عقد المعاطاة. هذا بناء علي وقوع البيع وحصول الملك بالمعاطاة.

أما بناءً علي حصول الإباحة بها من دون ملك، فقد يدعي أن العقد الناقل حيث كان موجباً لتبديل الملكية وخروج العين عن ملك مالكها الأول، فالمتعين عدم انقلاب الحال برجوع العين بعده عملاً بالأصل.

لكن ذلك إنما يتجه إذا كان رجوعها بعقد جديد، أما إذا كان بفسخ العقد الناقل فمقتضي فسخه رجوعها إلي ما كانت عليه قبل إيقاع العقد في ملك مالكها الأول، ومقتضي قاعدة السلطنة جواز مطالبته بها ورجوعه في المعاطاة السابقة علي إيقاع العقد الناقل.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره من أن العقد الناقل الحاصل بعد المعاطاة يستلزم خروج العين من ملك مالكها الأول ودخولها في الناقل آناماً قبل انتقالها بالعقد، لئلا يلزم دخول العوض في ملك غير من خرج عنه المعوض، الذي هو علي خلاف مقتضي المعاوضة، ومقتضي ذلك رجوعها بالفسخ إلي ملكه لا إلي المالك الأول.

ففيه: أولاً: أن ذلك يختص بالعقد المعاوضي دون غيره، كالهبة. بل يختص بما إذا كان المنقول معوضاً في العقد الناقل، دون ما إذا كان عوضاً، بناءً علي ما سبق منا في أول الكلام في البيع من إمكان خروج العوض من ملك غير من دخل في ملكه المعوض.

وثانياً: أن ذلك ليس بأولي من البناء علي بقائه علي ملكه وخروجه منه بالعقد المعاوضي ودخول العوض في ملكه، تحقيقاً لمقتضي المعاوضة. غاية الأمر أن يكون العوض مباحاً لطرف المعاطاة الآخر، كما كان المعوض مباحاً له بالمعاطاة. وأم

ص: 97

(98)

(الثالث): امتزاج العوضين أو أحدهما أو بعضه بعين أخري (1). (الرابع): تغير العين تغيراً مذهباً للصورة (2)، كطحن الحنطة، وتقطيع الثوب.

(مسألة 9): لو مات أحد المالكين لم يجز لوراثه الرجوع في البيع المعاطاتي (3).

---------------

بناء العرف والمتشرعة علي ملكيته له فهو متفرع علي بنائهم علي ملكيته للمعوض بالمعاطاة، لتحقق البيع بها، فمع فرض خطئهم في ذلك لا مجال لإحراز صوابهم في بنائهم علي ملكيته للعوض.

والإنصاف أن ذلك تكلف وتمحل من أجل الجمع بين ذهاب المشهور لعدم وقوع العقد بالمعاطاة وعدم ترتب الملك عليها، وبين عمل العرف والمتشرعة - تبعاً للمرتكزات - علي ترتيب آثار العقد والملك عليها. ولهم تكلفات وتمحلات أخر من أجل ذلك. لكن البناء علي خطأ المشهور فيما ذهبوا إليه أهون بكثير من ارتكاب ذلك. والله سبحانه وتعالي العالم. ومنه نستمد العون والتسديد.

(1) لما سبق من أن مقتضي القاعدة لزوم المعاطاة بكل ما يحتمل لزومه بها بناء علي ترتب البيع والملك علي المعاطاة. أما بناء علي ترتب الإباحة عليها من دون ملك فلزومها، وتبدل الملكية بالامتزاج مخالف لقاعدة السلطنة والاستصحاب، بل يتعين البناء علي كون الشريك هو المالك الأول.

(2) الكلام فيه كما في سابقه. نعم لو كان الرجوع مع تبدل الصورة موجباً للضرر علي أحدهما جري ما تقدم في صورة تلف بعض أحد العوضين.

(3) كما صرح به شيخنا الأعظم (قدس سره) لكون الجواز وعدم اللزوم فيها حكمياً كجواز عقد الهبة، وليس حقاً لكل منهما ليتورث. علي أنه لو كان حقاً فلا إطلاق لدليله يقتضي ثبوته له إلي حين موته، ليورث، بل المتيقن ثبوته إلي قبل موته بآن. كما لا إطلاق له من حيثية من له إعماله، بل المتيقن منه إعماله بنفسه، فلا موضوع له بعد

ص: 98

أما لو جنّ قام وليه مقامه في الرجوع (1).

---------------

موته ليورث. هذا كله بناء علي إفادة المعاطاة الملك.

أما بناءً علي إفادتها الإباحة من دون ملك فمقتضي الأصل بقاء كل من العينين علي ملك مالكه إلي حين موته، فينتقل إلي وراثه، وبقاء الآخر علي ملك الآخر، ومقتضي قاعدة السلطنة في حق الوارث والآخر جواز رجوع كل منهما بالعين مع بقائها. وهو الذي صرح به في المبسوط في الهبة، علي تقدم عند الاستدلال بالسيرة علي نفوذ العقد بالمعاطاة.

نعم، صرح سيدنا المصنف وبعض مشايخنا (قدس سرهما) بلزوم المعاطاة وعدم جواز الرجوع بها مع موت أحدهما، عملاً منهما بأصالة اللزوم بالوجه الذي تقدمت الإشارة إليه عند الكلام في مقتضي القاعدة. وزاد بعض مشايخنا الاستدلال بالسيرة في المقام، لعدم معهودية رجوع الوارث بالمعاطاة أو الرجوع عليه بها، بل لو أقدم أحد علي ذلك عد خارجاً عن سلك العقلاء.

لكن سبق المنع من تقرير أصالة اللزوم علي الإباحة. وأما السيرة فهي من فروع السيرة علي إيقاع العقود بالمعاطاة، والمفروض الخروج عنها، ولا خصوصية لحالة الموت في السيرة، لينظر فيها.

(1) كأنه لثبوت السلطنة علي الرجوع للمجنون بالذات، فيقوم وليه مقامه في ذلك. لكنه موقوف علي القطع بثبوت ذلك للمتعاطين حتي بعد الجنون، أما مع الشك فالمتعين عدم رجوع الولي، بناء علي إفادة المعاطاة البيع والملك، لأصالة اللزوم. بل حتي لو قيل بإفادتها الإباحة من دون ملك، بناء علي ما سبق منه (قدس سره) في تقرير أصالة اللزوم. ومن ثم صرح (قدس سره) بعدم جواز الرجوع في نهجه، كما صرح بذلك بعض مشايخنا (قدس سره) أيضاً. نعم يتعين البناء علي جواز الرجوع للولي علي القول بإفادة المعاطاة الإباحة من دون ملك بناء علي ما سبق منا من أن مقتضي القاعدة حينئذٍ عدم اللزوم.

ص: 99

(100)

(مسألة 10): الظاهر جريان المعاطاة في غير البيع من سائر المعاملات (1). بل الإيقاعات (2)، إلا في موارد خاصة، كالنكاح (3)،

---------------

(1) لاشتراكها مع البيع في حكم المعاطاة بلحاظ السيرة والعمومات وغيرها، وما يجري في البيع يجري فيها. وحيث سبق أن مقتضي عموم نفوذ العقد وقوعه ولزومه بالمعاطاة تعين البناء علي ذلك في غير البيع أيضاً. وهو مقتضي إطلاق أدلة تلك المعاملات اللفظية والمقامية، لقضائها بتحققها بكل ما تتحقق به عرفاً، ومنه المعاطاة.

نعم، لو تم الإجماع علي جواز الفسخ في المعاطاة البيعية، تعين البناء علي جوازه في تلك المعاملات مع وقوعها بالمعاطاة لظهور كلامهم في عموم ملاكه لها.

كما أنه لو تم الإجماع علي توقف العقود اللازمة أو مطلق العقود علي إنشائها لفظاً تعين البناء علي عدم وقوع المعاملات الأخري بالمعاطاة. غاية الأمر البناء علي حصول الإباحة بها. للسيرة أو الإجماع علي نحو ما سبق في البيع، لاشتراكها معه من هذه الجهة.

(2) لإطلاق أدلتها المقامية، لأنها وإن وردت لبيان أحكامها، إلا أن السكوت فيها عن كيفية تحققها ظاهر في إيكال ذلك للعرف، وهو يحكم بتحققها بالمعاطاة.

(3) لظهور كلماتهم في المفروغية عن لزوم العقد اللفظي، وعن الحدائق: (أجمع العلماء من الخاصة والعامة علي توقف النكاح علي الإيجاب والقبول اللفظيين)، وعن شيخنا الأعظم (قدس سره): (أجمع علماء المسلمين - كما صرح به غير واحد - علي اعتبار الصيغة في عقد النكاح، لا يباح بالإباحة ولا المعاطاة).

وهو مقتضي سيرة المتشرعة علي الالتزام به، المعتضدة بجملة من النصوص:

منها: النصوص المتضمنة أنها تستحل بكلمات الله تعالي، كصحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إذا دخلت بأهلك فخذ بناصيتها، واستقبل القبلة. وقل:

اللهم

ص: 100

بأمانتك أخذتها، وبكلماتك استحللتها) (1) ونحوه غيره.

ومنها: صحيح بريد: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالي عز وجل: (وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً) فقال: الميثاق هو الكلمة التي عقد بها النكاح. وأما قوله: (غليظاً) فهو ماء الرجل يفضيه إليها)(2). ونحوه مرسل العياشي عن يوسف العجلي(3).

ومنها: ما دلّ علي عدم نفوذ الشرط الذي يكون قبل النكاح، بل لابد من ذكره في النكاح. كصحيح زرارة قال:

(كان الناس بالبصرة يتزوجون سرّاً، فيشترط عليها أن لا آتيك إلا نهاراً، ولا آتيك إلا بالليل، ولا أقسم لك. قال زرارة: وكنت أخاف أن يكون هذا تزويجاً فاسداً، فسألت أبا جعفر عن ذلك. فقال: لا بأس به - يعني: التزويج - إلا أنه ينبغي أن يكون هذا الشرط بعد النكاح. ولو أنها قالت له بعد هذه الشروط قبل التزويج نعم. ثم قالت بعد ما تزوجها: إني لا أرضي إلا أن تقسم لي وتبيت عندي ولم يفعل كان آثماً) (4) . وموثق عبد الله بن بكير: (قال أبو عبد الله (عليه السلام):

ما كان من شرط قبل النكاح هدمه النكاح، وما كان بعد النكاح فهو جائز) (5) وغيرها.

لظهورها في المفروغية عن إيقاع النكاح بالعقد اللفظي، إذ لا يتميز في المعاطاة موقع الشرط من العقد، بل يقصد إليهما معاً بالفعل الدال علي الالتزام بالعقد مع الشرط جملة واحدة. مضافاً إلي أن الشرط السابق علي العقد مقصود ضمنا في العقد، فعدم نفوذه بذلك وتوقف نفوذه علي ذكره صريحاً فيه يناسب عدم نفوذ أصل النكاح بالقصد إليه في المعاطاة، وأنه لابد من إنشائه صريحاً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 55 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 1 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 4.

(3) مستدرك الوسائل ج: 14 باب: 1 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 39 من أبواب المهور حديث: 2.

(5) وسائل الشيعة ج: 14 باب 19 من أبواب المتعة حديث: 2.

ص: 101

(102)

والطلاق (1)،

---------------

ومثلها في ذلك رواية أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال له:

(فإني أستحي أن أذكر شرط الأيام. قال: هو أضر عليك. قلت: وكيف ؟ قال: لأنك إن لم تشترط كان تزويج مقام) (1) . لظهور أن عدم ذكر الأجل حياء لا ينافي القصد إليه ضمناً، فعدم ترتب الأثر علي القصد المذكور ظاهر في أن خصوصيات النكاح تابعة للفظ، وهو يناسب تبعية أصل النكاح له.

ومنها: قوله (عليه السلام) في رواية أبان المذكورة بعد بيان إيجاب عقد المعتة

:(فإذا قالت: نعم، فقد رضيت، وهي امرأتك وأنت أولي الناس بها) (2) . حيث قد يستفاد منه توقف الزوجية علي القبول اللفظي، وعدم الاكتفاء بغيره مما يدل علي الرضا. ومن ثم لا ينبغي الإشكال في اعتبار اللفظ في عقد النكاح خروجاً عما سبق في عموم العقود.

(1) بلا إشكال ظاهر، وظاهر الأصحاب المفروغية عنه، لتحريرهم الخلاف في صيغ الطلاق اللفظية لا غير ويقتضيه النصوص. كصحيح زرارة: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام):

رجل كتب بطلاق امرأته أو بعتق غلامه، ثم بداله فمحاه. قال: ليس ذلك بطلاق ولا عتاق حتي يتكلم به) (3) ، وصحيح محمد بن مسلم: (أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن رجل قال لامرأته: أنت علي حرام، أو بائنة، أو تبة، أو برية، أو خلية. قال هذا كله ليس بشيء. إنما الطلاق أن يقول لها في قبل العدة بعد ما تطهر من محيضها قبل أن يجامعها: أنت طالق، أو اعتدي، يريد بذلك الطلاق. ويشهد علي ذلك رجلين عدلين)(4) وغيرهما.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 20 من أبواب المتعة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 18 من أبواب عقد المتعة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 14 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 16 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه حديث: 3.

ص: 102

(103) (103) (103)

والعتق (1)، والتحليل (2)، والنذر (3)،

---------------

(1) بلا إشكال ظاهر. وظاهر الأصحاب المفروغية عنه لتحريرهم الخلاف في صيغه اللفظية لا غير. ويقتضيه صحيح زرارة المتقدم وغيره.

(2) ففي الجواهر: (أما الصيغة فلا خلاف في اعتبارها فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. فلا يكفي التراضي). وهو لو تم الدليل في المقام. وإلا فلا شاهد له من النصوص، بل إطلاق بعضها شاهد بعدمه، كصحيح زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(في الرجل يحلّ جاريته لأخيه فقال: لا بأس) (1) .

نعم، لا يكفي الرضا التقديري، لأنه وإن كان محللاً للتصرف من حيثية حرمة مال الغير، إلا أن ذلك لا يكفي في حلية الفروج بعد الحصر في حليتها بالزواج وملك اليمين. ومن ثم كان حلّ الفرج بالتحليل محتاجاً للدليل الخاص، وهو يقتضي اعتبار التحليل، لا مجرد طيب النفس الفعلي، فضلاً عن التقديري.

(3) بلا إشكال ظاهر. والظاهر مفروغيتهم عنه كما يشهد به تحريرهم الخلاف في صيغه. ويقتضيه - بعد عدم وضوح صدق النذر من غير لفظ والأصل عدم ترتب الأثر بدونه - صحيح منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إذا قال الرجل: علي المشي إلي بيت الله الحرام وهو محرم بحجة، أو علي هدي كذا وكذا، فليس بشيء، حتي يقول: لله علي المشي إلي بيته، أو يقول: لله علي أن أحرم بحجة، أو يقول: لله علي هدي كذا وكذا)(2) وغيره. فإنها وإن كانت واردة لبيان توقف النذر علي إضافة المنذور لله تعالي، لا لبيان توقف النذر علي اللفظ، إلا أن المنذور إذا كان طاعة في نفسه - كالحج والهدي - فكثيراً ما يكون الالتزام به ابتدائياً لله تعالي خالصاً لا من أجل توثق الآخرين، فالحكم بعدم الاعتداد به حتي يذكر الله تعالي فيه ظاهر في المفروغية عن اعتبار اللفظ في النذر. فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 31 ما أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 1 من أبواب كتاب النذر حديث: 1.

ص: 103

(104) (104)

واليمين (1). والظاهر جريانها في الرهن (2)،

---------------

(1) بلا إشكال ظاهر. والظاهر مفروغيتهم عنه، كما يشهد به تحريرهم الخلاف في فروعه. ويقتضيه عدم وضوح صدق اليمين عرفاً من غير لفظ، حيث لا يبعد كون اليمين فعلاً كلامياً مشروطاً بالقصد، لا أمراً قصدياً يمكن أن يبرز بالكلام وغيره، كما قد يناسبه قوله تعالي: (لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم) فإن اللغو هو الخطأ والكلام من غير روية.

وأما مثل موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام):

(قال: إذا قال الرجل: أقسمت أو حلفت فليس بشيء، حتي يقول: أقسمت بالله أو حلفت بالله) (1) . فهو وراد لبيان عدم انعقاد الحلف إلا بالله تعالي، لا لبيان اعتبار اللفظ في اليمين. ولا يجري فيه ما تقدم في نصوص النذر. نعم قد يدل عليه حديث عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(أنه قال: اليمين التي تكفر أن يقول الرجل: لا والله ونحو ذلك) (2) .

(2) الظاهر أن الكلام في ذلك هو الكلام في البيع، لتحقق العقد والرهن بالمعاطاة عرفاً، كالبيع، فيدخل في عموم أدلة نفوذ العقود، والإطلاقات المقامية لأدلة الرهن. وحينئذٍ إن تم الإجماع المخرج عن ذلك في أصل حصول العقد - كما هو المشهور - أو في لزومه - كما سبق من سيدنا المصنف (قدس سره) - فهو، وإلا تعين البناء علي حصول الرهن ولزومه، كما سبق منا في البيع. ولعله لذا قال في التذكرة:

(والخلاف في الاكتفاء فيه بالمعاطاة والاستيجاب عليه، المذكور في البيع، آت ههنا) .

لكن قال في جامع المقاصد: (ويشكل بأن باب البيع ثبت فيه حكم المعاطاة بالإجماع، بخلاف ما هنا). وهو كما تري، فإن ما سبق منه في البيع إنما يقضي بعدم لزومه، لا بعدم وقوعه، ويظهر منه أن وقوعه مقتضي القاعدة، لا من أجل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 15 من أبواب كتاب الإيمان حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 30 من أبواب كتاب اليمين حديث: 13.

ص: 104

(105) (105)

والوقف (1). لكنها تكون لازمة لا جائزة (2).

---------------

الإجماع. فراجع.

(1) فإنه وإن كان الظاهر عدم كونه عقداً، بل إيقاعاً، فلا يكون مشمولاً لأدلة نفوذ العقود، إلا أن بناء العرف علي وقوعه بالفعل - كالتوقيع علي ورقة الوقفية بداعي إبراز الالتزام بمضمونها، وبذل العين للجهة الموقوفة ونحوهما - موجب لدخوله في الاطلاقات المقامية لأدلة أحكام الوقف، بنحو يقتضي نفوذه وترتب الأثر عليه، فيجري فيه ما سبق.

(2) أما بناءً علي ما سبق منا من عدم نهوض الإجماع بالخروج عن أصالة اللزوم فظاهر. وأما بناء علي ما سبق منه (قدس سره) من نهوض الإجماع في البيع وكثير من العقود بذلك، فقد يوجه لزوم الرهن المعاطاتي بتقوم الرهن باللزوم، لأن فائدته التوثق للدين، وهو لا يحصل مع جواز رجوع المرتهن، فوقوعه بالمعاطاة مساوق للزومه.

لكنه يندفع بأنه إذا تم تقوم الرهن باللزوم فالإجماع المدعي علي عدم لزوم المعاطاة يكون دليلاً علي عدم وقوع الرهن بها وردعه عن حكم العرف بوقوعه بها.

اللهم إلا أن يمنع عموم الإجماع لمثل الرهن مما يتقوم باللزوم، لأن عمدة كلماتهم في البيع، والمتيقن في التعدي عنه ما يماثله مما يقبل الجواز. ولاسيما وأنه لا مجال فيه للإباحة التي ذهب إليها المعظم في المعاطاة، لعدم جواز التصرف في العين المرهونة حتي مع إيقاع عقد الرهن باللفظ. كما أن محل كلامهم العقود اللازمة، والمتيقن منها العقود اللازمة من الطرفين، والرهن لازم من طرف واحد.

وأما الوقف فقصور الإجماع عنه أظهر، لأن معقده في كلماتهم العقود اللازمة، وقد عرفت أن الوقف ليس من العقود، فمع قيام الدليل علي وقوعه يتعين البناء علي لزومه، تبعاً لما دل علي لزم الوقف. ولا أقل من استصحاب بقائه، وعدم ترتب الأثر علي الرجوع فيه. ولعله لذا اكتفي الشيخ في المبسوط في وقف المسجد بالنية حين بنائه.

ص: 105

(106)

وربما يظهر من غيره.

هذا وربما يمنع من سببية المعاطاة لبعض العقود والإيقاعات الأخر.

منها: الوصية والتدبير والضمان، فقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) عدم وقوعها بالمعاطاة، لعدم وجود فعل يكون مصداقاً لها. وهو كما تري، فإن إبراز المضمون العقدي أو الإيقاعي بالفعل ليس لكونه مصداقاً حقيقياً لذلك المضمون، في نفسه، بل إنما يكون بضميمة القرينة علي حصول الفعل به بداعي إبراز الالتزام به، نظير قيام القرينة علي صدور اللفظ بداعي الإنشاء لا الإخبار، ومن الظاهر أنه لا مانع من قيام القرينة علي إرادة إبراز هذه الأمور ببعض الأفعال.

كما لو اتفق الموصي مع شخص علي أنه إن دفع له شيئاً أراد بدفعه الوصية له به، بحيث يكون أمانة عنده، ليكون له بعد موته، أو جعله وصياً عليه، لينفقه في وجوه البر عنه بعد موته.

وكما لو اتفق الضامن مع الدائن علي أنه إذا أرسل إليه المدين ليأخذ رهنه منه فإنما يريد بذلك ضمان دينه، ثم أرسل المدين من أجل ذلك، فدفع الدائن له الرهن من أجل قبوله بالضمان.

وكما لو اتفق مالك العبد مع ورثته علي أنه إن مكّن عبده من بيته فهو مدبر بعد وفاته. ونحو ذلك. نعم قد يلحق التدبير بالعتق، لأنه من أفراده، فيلحقه ما سبق. فتأمل.

ومثله في الضعف ما رتبه علي ذلك من عدم وقوع الإيقاعات بالفعل إلا باب الإجازة والفسخ وما يلحق بهما، كالرجوع في العدة. لعدم وجود فعل يكون مصداقاً لمثل الطلاق والعتق ونحوها، فإن إلقاء القناع علي الزوجة وإخراج العبد من الدار وأمثال ذلك من الأفعال ليست مصداقاً للطلاق والعتق، بل هي من آثارهما. حيث يظهر وهنه مما سبق.

ولاسيما مع ظهور اتفاقهم علي الاكتفاء بالإشارة مع تعذر اللفظ. لوضوح أن

ص: 106

(107)

(مسألة 11): في قبول البيع المعاطاتي للشرط - سواء أكان شرط خيار في مدة معينة، أم شرط فعل (1) أم غيرهما (2) - إشكال (3). وإن كان

---------------

ذلك فرع صلوح الإشارة لإبراز المضمون العقدي والإيقاعي.

بل لو تعذر وقوع العقد والإيقاع بترتيب آثارهما لما حصلت المعاطاة في كثير مما يتعارف وقوعها به، لوضوح أن تسليم المبيع من آثار البيع، وآثار إجازته لو كان فضولياً. كما أن الامتناع من تسليمه من آثار الفسخ، لو كان جائزاً، وتقبيل الزوجة من آثار الرجوع بها... إلي غير ذلك.

ومنها: القرض. حيث قد يستشكل في حصوله بالمعاطاة بأن القبض شرط في القرض، فلو تحقق به عقده لزم اتحاد المقتضي والشرط، وهو محال، لفرض تعددهما، واختلاف نحو تأثيرهما.

وفيه: أولاً: أن مرجع اتحاد المقتضي والشرط إلي كون المقتضي من القوة بنحو لا يحتاج تأثيره في المعلول للشرط، وهو ليس محذوراً. مثلاً إرادة الضعيف للدخول لا يترتب عليها الدخول إلا بشرط فتح الباب له، أما إرادة القوي، فهي لا تحتاج إلي ذلك، بل هي تقتضي فتحه الباب ودخوله.

وثانياً: أن المقتضي في المقام ليس هو القبض، بل الالتزام العقدي المبرز به، والشرط هو القبض بنفسه.

وثالثاً: أنه لو تم امتناع اتحاد الشرط مع المقتضي في الأمور الحقيقية فلا مجال لذلك في الأمور الاعتبارية، لأنها تابعة لاعتبارها ممن له الاعتبار، وليست أسبابها إلا موضوعات لاعتباره، وله أن يعتبر كيف شاء.

(1) كما لو باعه الثوب بدينار بشرط أن يصوم عن أبيه عشرة أيام.

(2) كما لو اشترط تأجيل الثمن شهراً، أو أن للبايع منفعة المبيع إلي سنة.

(3) كأنه لعدم السنخية بين العقد والشرط.

ص: 107

(108)

القبول لا يخلو من وجه. فلو أعطي كل منهما مالاً إلي الآخر قاصدين البيع، وقال أحدهما في حال التعاطي: جعلت لي الخيار إلي سنة مثلاً، صحّ شرط الخيار، وكان البيع خيارياً.

(مسألة 12): لا يجوز تعليق البيع (1) علي أمر غير حاصل حين العقد، سواءً أعلم حصوله بعد ذلك، كما إذا قال: بعتك إذا هلّ الهلال، أم جهل حصوله، كما إذا قال: بعتك إذا ولد لي ولد ذكر، ولا علي أمر مجهول الحصول حال العقد، كما إذا قال: بعتك إن كان اليوم يوم الجمعة، مع جهله بذلك.

---------------

وفيه: أولاً: أنه لا دليل علي اعتبار وحدة السنخ بينهما بعد شمول إطلاقات العقود والشروط لهما.

ثانياً: أن الشرط والعقد من سنخ واحد، لأنهما متقومات معاً بالالتزام، واختلافهما في المبرز للالتزام المذكور لا يوجب اختلافهما سنخاً.

وثالثاً: أن الشرط قد لا يكون لفظياً، بل معاطاتياً كالعقد، كما لو اتفقا قبل إيقاع المعاملة علي إيقاع المعاملة ذات الشرط الخاص، ثم قصد بالتعاطي إيقاع المعاملة المتفق عليها بشرطها.

وربما يكون منشأ الإشكال هو أن لزوم الشرط لا يناسب جواز المعاملة المعاطاتية التي وقع فيها، كما سبق منه (قدس سره). لكنه يندفع بأن المراد بلزوم الشرط لزومه مادامت المعاملة نافذة، لا لزومه مطلقاً، كي لا يناسب جواز المعاملة. ولذا لا إشكال في نفوذ البيع اللفظي وشروطه اللفظية من حين وقوعه، وإن كان جائزاً قبل افتراق المتبايعين.

(1) فقد صرح غير واحد باشتراط التنجيز في البيع، بل في جميع العقود، بل الظاهر الإجماع عليه، كما ادعاه غير واحد. فإنهم وإن لم يذكروه هنا، إلا أن ظاهرهم في

ص: 108

الوكالة المفروغية عنه في البيع وغيره من العقود اللازمة، وأن تعرضهم له في الوكالة للتنبيه علي الفرق بين تعليق نفس الوكالة وتعليق الأمر الموكل فيه، وأن الممنوع هو الأول دون الثاني، لعدم كونه عقداً، لا لخصوصية في الوكالة تقتضي اعتبار التنجيز فيها. بل اعتبارهم له فيها يقتضي اعتبارهم له في العقود اللازمة بالأولوية، لما هو المعلوم من تساهلهم في العقود الجائزة بما لا يتساهلون به في العقود اللازمة.

ومن ثم كان الظاهر الإجماع علي بطلان التعليق في العقود، بل حتي الإيقاعات، إلا ما استثني كالوصية التمليكية والتدبير. والتشكيك في ذلك من مثل الأردبيلي والسبزواري، والمنع منه في الوكالة من مثل المحقق القمي - فيما حكي عن جامع الشتات - لا يقدح في الإجماع، لأن المعيار فيه قدماء الأصحاب، دون من ظهر في العصور المتأخرة، وبني أمره علي التدقيق في الأدلة.

هذا والتعليق: تارة: يكون علي ما يتوقف عليه صحة العقد أو الإيقاع، كبلوغ الموقع للعقد والإيقاع، وملكية البايع للمبيع، وزوجية المطلق للمطلقة. وأخري: يكون علي أمر لا يتوقف عليه الصحة. ومحل كلامهم هو الثاني. أما الأول: فقد صرح غير واحد في غير مورد بعدم مبطلية التعليق عليه للعقد والإيقاع لو فرض تحققه.

كما أن الثاني: تارة: يكون علي أمر حالي. وأخري: يكون علي أمر استقبالي. وكل منهما: تارة: يعلم حين العقد حصوله. وأخري: لا يعلم حين العقد حصوله. فالصور أربعة. والمصرح به في كلام غير واحد جواز التعليق علي الحالي المعلوم الحصول، وأن المنع إنما يكون في الصور الثلاث الباقية.

إذا عرفت هذا فقد يستدل علي اعتبار التنجيز في العقد والإيقاع بوجوه:

الأول: ما يستفاد من محكي كلام الشهيد (قدس سره) في القواعد من أن ترتب الأثر علي الإنشاء إنما هو من أجل تحقق الرضا به، ولا رضا إلا مع الجزم، والجزم ينافي التعليق.

وفيه: أولاً: أن التعليق إنما يكشف عن عدم إطلاق الرضا وعن تقييده بحال

ص: 109

وجود الأمر المعلق عليه، لا عن عدم الرضا بالمضمون المنشأ رأساً. ولولا ذلك لامتنع التعليق علي ما يتوقف عليه صحة المضمون المنشأ، مع أنه (قدس سره) قد اعترف - كغيره - بعدم قادحيته. بل ثبت التعليق في بعض الأمور - كالوصية التمليكية والتدبير - مع وضوح توقفها علي الرضا.

وثانياً: أن ذلك لا يجري في التعلق علي الأمر المستقبل المعلوم الحصول، لوضوح أن العلم بحصول المعلق عليه يستلزم الجزم بجعله - تبعاً للرضا به - في وقته. وأما ما ذكره من أن الاعتبار بجنس الشرط دون أنواعه. فهو كما تري، ضرورة أنه لا معني لعموم المنع مع قصور دليله عن بعض الصور. مع أنه لو بني علي ذلك لزوم المنع من التعليق مطلقاً، وقد عرفت عدم بنائهم علي ذلك.

ومنه يظهر الإشكال في دعوي: أن المعتبر الجزم بلحاظ مضمون الكلام، والكلام المعلق لا يتضمن الجزم، لأن الشرطية لا تقتضي فعلية مضمونها، وإن أمكن الجزم بفعليته من الخارج.

وجه الإشكال أن الدعوي المذكورة لا تناسب البناء علي الصحة مع التعليق في بعض الموارد كما سبق. علي أنه لا شاهد عليها، فإن دليل السلطنة إنما يقتضي إعمالها في المضمون العقدي أو الإيقاعي بأي وجه فرض، بحيث يكون ترتبه مستنداً لها، وهو حاصل مع التعليق.

الثاني: ما في الجواهر في مبحثي الوقف والوكالة من أن المستفاد مما دل علي تسبيب العقود مقارنة ترتب مسبباتها لها.

وفيه: أن أدلة تسبيب العقود ليست إلا أدلة نفوذها، وهي تقتضي نفوذها علي النحو الذي أنشئت به منجزة أو معلقة. وعدم ترتب المسبب علي المعلق قبل حصول ما علق عليه لعدم تمامية موضوعه، لا لانفصال المسبب عن السبب. فهي نظير أدلة الوفاء بالنذر التي لا مجال فيها لتوهم أن مقتضي تسبيب النذر لمضمونه اتصاله به، بحيث يقصر عن النذر المعلق.

ص: 110

علي أن الوجه المذكور - لو تم - يقصر عما إذا كان الشرط مقارناً مشكوك الحصول. وأما ما قد يظهر منه (قدس سره) من أن الوجه في منعه حينئذٍ الشك في تناول الإطلاقات له. فإن أراد به انصراف الإطلاقات عنه. فهو - لو تم - بدوي لا يعتد به. وإن أراد به احتمال تقييدها فيه فهو لا يكفي في رفع اليد عنها.

الثالث: ما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) واستوضح بطلانه من عدم قابلية الإنشاء للتعليق.

والوجه في بطلانه: أن المراد بالإنشاء إن كان هو المعني المصدري، فهو وإن لم يقبل التعليق، لأنه فعل خارجي متقوم بصدور الكلام بالنحو الخاص، كسائر الأمور الخارجية، التابعة لأسبابها التكوينية، والتي لا معني للتعليق فيها.

إلا أن الكلام ليس فيه، بل في المضمون المنشأ، كالبيع والتمليك والنكاح وغيرها من مضامين العقود والإيقاعات، ولا ريب في قابليتها للتعليق علي أمور خارجة عنها، بحيث تكون منوطة بها، بل وقع ذلك في جملة منها، كما سبق.

ومن هنا كان الظاهر انحصار الدليل عليه بالإجماع الذي لا إشكال في كشفه عن رأي المعصومين (عليهم السلام) في بعض الأمور، كالعتق والوقف والصدقة والطلاق، لأن ظهور جواز التعليق فيها عند العامة في عصور المعصومين (عليهم السلام) - حتي كانت من الأيمان الشايعة عندهم - لا يناسب خفاء حكمهم (صلوات الله عليهم) في ذلك علي شيعتهم حتي أطبقوا علي المنع فيها. ولاسيما مع اعتضاد الإجماع فيها بالنصوص الحاكمة بعدم نفوذه فيها(1).

وحتي مثل البيع والإجارة، فإنه لو أمكن التعليق فيها لأمكن التوثق بذلك لتنفيذ الوعود والعهود. بل ربما أمكن إيقاع العقود والإيقاعات عند فقد شروطها معلقاً علي تحقق تلك الشروط، كبيع ما ليس مملوكاً معلقاً علي ملكه بشراء أو إرث أو غيرهما، وبيع المجهول معلقاً علي معرفته، وزواج المرأة المزوجة أو ذات العدة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 20 من أبواب المهور، وج: 16 باب: 11، 18، 45، من أبواب كتاب الإيمان.

ص: 111

(112)

أما مع علمه فالوجه الجواز (1).

(مسألة 13): إذا قبض المشتري ما اشتراه بالعقد الفاسد وجب عليه رده إلي البايع (2).

---------------

معلقاً علي خروجها عن عصمة زوجها، وطلاق الحائض معلقاً علي طهرها، وغير ذلك. حيث قد يستظهر من أدلة الشروط كونها شروطاً حين فعلية المشروط، لا حين إنشائه بنحو معلق. ولا أقل من احتمال ذلك، بنحو لو كان التعليق مشروعاً لكثر السؤال عنه تبعاً للحاجة له، فإهمال السؤال عن ذلك يناسب سدّ هذا الباب، كسدّ باب التوثق لتنفيذ الوعود والعهود. وهو مناسب لكون إطباق الأصحاب (رضي الله عنهم) علي امتناع التعليق مطابقاً للواقع. ومن ثم لا ينبغي التأمل في الاستدلال علي مانعية التعليق في الجملة بالإجماع.

إلا أن الإشكال في استفادة عموم المنع عنه من الإجماع وغيره، خصوصاً في العقود المستحدثة التي لم تكن معروفة ببين الأصحاب، بل يتعين الاقتصار علي المتيقن منه، وتحديده في غاية الإشكال. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

(1) قال في القواعد في تقريب جواز تعليق البيع علي ملك المبيع: (لأنه أمر واقع يعلمان وجوده، فلا يضر جعله شرطاً. وكذا كل شرط علما وجوده، فإنه لا يوجب شكاً في البيع ولا وقوفه). ووافقه عليه في جامع المقاصد ومحكي المسالك وغيره. ومن ثم لا ينبغي الإشكال فيه بعد قصور الإجماع علي المنع من التعليق عنه.

(2) لأنه باق علي ملكه بعد فرض بطلان البيع، فوضع اليد عليه من دون إذنه مناف لسلطنته ولحرمة ماله. ودعوي: أن الإذن الضمني المستفاد من العقد الفاسد كاف في جواز حبس المال والتصرف فيه. مدفوعة بأن العقد إنما يتضمن البيع والتمليك، دون الإذن بالتصرف في المبيع وحبسه، وترتب جواز تصرف المشتري وحبسه عليهما شرعي بمقتضي سلطنة الإنسان علي ماله، من دون أن يكون مأذون

ص: 112

وإذا تلف - ولو من دون تفريط - وجب عليه ردّ (1)

---------------

فيه من قبل البايع، فمع بطلان العقد وعدم حصول البيع والتمليك لا وجه لجواز التصرف والحبس.

(1) لأنه قد وضع يده عليه بلا حق بسبب فساد العقد، فتكون يده عليه مضمنة له. بخلاف ما لو كان وضع يده عليه بحق، فإنها لا تكون مضمنة، وتوقف الضمان علي الإتلاف أو التفريط، كما في اليد الأمانية.

قال في المبسوط في فرض شراء المبيع بالبيع الفاسد: (وإذا ثبت أن البيع فاسد نظر، فإن كان المبيع قائماً أخذه مالكه، وهو البايع الأول، سواء وجده في يد المشتري الأول أو المشتري الثاني، لأنه ملكه لا حق لغيره فيه. وإن كان تالفاً كان له أن يطالب بقيمته كل واحد منهما، لأن الأول لم يبرأ بتسليمه إلي الثاني، لأنه سلمه بغير إذن صاحبه، والمشتري الثاني قبضه مضمون بالإجماع)(1) ، وقال في موضع آخر منه:

(فهو مضمون عليه، لأنه في يده ببيع فاسد، والبيع الصحيح والفاسد مضمون عليه إجماعاً) (2) .

هذا وثبوت الضمان في المقام وفي جميع موارد وضع اليد من دون حق هو المصرح به في كلماتهم بنحو يظهر منهم الاتفاق عليه، بل عن غير واحد دعوي الإجماع عليه في البيع وغيره، مثل ما سبق من المبسوط. وفي كتاب الغصب من المسالك: أنه موضع وفاق، وفي الجواهر: (بلا خلاف أجده فيه بل هو المعروف من مذهب الأصحاب)، وعن غصب الكفاية أنه مقطوع به في كلام الأصحاب.

وقد استدل عليه - بعد الإجماع المذكور - بأمور:

الأول: النبوي المشهور - كما في مفتاح الكرامة ومكاسب شيخنا الأعظم (قدس سره) -:

(علي اليد ما أخذت حتي تؤدي)، أو: (حتي تؤديه).

********

(1) المبسوط ج: 2 ص: 150، 204.

(2) المبسوط ج: 2 ص: 150، 204.

ص: 113

(114)

والكلام: تارة: في سنده. وأخري: في دلالته.

أما السند فلا ريب في ضعفه، لعدم روايته من طرقنا، وإنما ذكر مرسلاً في كتب الفقه، ولم ينقل عن كتب الحديث لأصحابنا إلا عن عوالي اللآلي المعلوم عدم تقيد صاحبه بنقل الأحاديث المعتبرة، بل ولا خصوص أحاديث أصحابنا (رضوان الله تعالي عليهم).

والظاهر أنه عبارة عما روي في أصول العامة بطرقهم عن الحسن البصري عن سمرة بن جندب عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال:

(علي اليد ما أخذت حتي تؤديه) (1) . ومن المعلوم عدم التعويل علي الطرق المذكورة عندنا. ولاسيما مع ما هو المعلوم من حال سمرة بن جندب من ردّه علي النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في حديث لا ضرر، وعدائه لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل البيت، وموالاته لأعدائهم، وقيامه بالموبقات العظام.

نعم، قد يدعي انجباره بعمل الأصحاب، وقبولهم له خلفاً عن سلف، بلا نكير منهم، حتي ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أنه معمول به عند الفريقين.

لكن الإنجبار بعمل الأصحاب إنما هو من أجل كشف عملهم عن اطلاعهم علي قرائن تشهد بصدور الحديث أو حجيته. وذلك إنما يتجه في الحديث الذي يرويه أصحابنا في أصولهم، لإمكان اطلاعهم علي قرائن تشهد بصدوره، كأخذه من كتب معتمدة متسالم علي الرجوع إليها في عصور الأئمة (عليهم السلام)، أو اطلاعهم علي وثاقة روايته - ولو حين روايته له - وإن لم يوثقه علماء الرجال، أو نحو ذلك. ولا مجال لذلك في مثل الحديث المتقدم مما لم يروه إلا العامة، وبطريق مظلم في منتهي الضعف.

علي أنه ربما يكون استدلال بعضهم به غفلة عن أصله، وبتخيل كونه من رواياتنا، أو مجاراة للعامة واستدلالاً عليهم برواياتهم، مع كون الدليل عنده أمراً آخر، كما يظهر من الشيخ (قدس سره) في الخلاف، حيث ذكره في المسألة العشرين والثانية والعشرين من كتاب الغصب، مؤكداً للأصل الذي استدل به لردّ بعض أقوال العامة،

********

(1) سنن البيهقي ج: 6 ص: 90 من كتاب العارية. كنز العمال ج: 5 ص: 257.

ص: 114

مع أنه لو كان بنظره حجة كافية لكان المناسب له ذكره قبل الأصل.

كما ربما تكون مطابقته للمرتكزات العقلائية هي التي أوجبت غض النظر عن سنده، إما لثبوت مضمونه علي كل حال، أو لكون المرتكزات المذكورة قرينة علي صحته عند بعضهم، حيث ذكروا أن من جملة قرائن صحة الخبر مطابقته لمقتضي العقول. وإن كان التحقيق أن ذلك قرينة علي صحة مضمونه، لا صحته في نفسه.

نعم، ربما يظن بصحته في مثل المقام بضميمة رفعة أسلوب بيانه، واستبعاد الداعي لاختلاقه. وإن كان في بلوغ ذلك حداً ينهض بالحجية إشكال أو منع. وعلي كل حال لا مجال لدعوي انجبار ضعفه بعمل الأصحاب في المقام.

وأما الدلالة فمن الظاهر أن جعل المأخوذ علي اليد لا يراد به إلا جعله علي صاحبها، لأنه هو القابل لأن يكون طرفاً للإضافة الاعتبارية الخاصة التي هي مفاد (علي).

ويظهر من استدلال الأصحاب بالحديث بناؤهم علي أن مرجع جعل المأخوذ علي الآخذ كونه في عهدته وذمته، وأن مقتضي ذلك ضمانه له، وتحمله لدركه.

قال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(والخدشة في دلالته بأن كلمة (علي) ظاهرة في الحكم التكليفي، فلا يدل علي الضمان. ضعيفة جداً، فإن هذا الظهور إنما هو إذا أسند الظرف إلي فعل من أفعال المكلفين، لا إلي مال من الأموال، كما يقال: عليه دين. فإن لفظة (علي) حينئذٍ لمجرد الاستقرار في العهدة، عيناً كان أو ديناً) .

لكن جعل الشيء في العهدة لا يقتضي ضمان دركه أو نقصه، وإنما يقتضي لزوم أدائه وحفظه مقدمة لذلك.

وبعبارة أخري: لا فرق بين العمل والعين في كون جعلهما علي الشخص يقتضي كونهما في عهدته وضمانه، بحيث يكون مسؤولاً عنهما، وليس مقتضي المسؤولية بالشيء إلا أداؤه، لا ضمان دركه ولذا استدل به الشيخ (قدس سره) في المسألتين السابقتين من الخلاف وابن إدريس في السرائر علي وجوب أداء المغصوب، لا علي ضمانه ببدله.

ص: 115

نعم، لو كان المضمون هو النقص أو التلف، فحيث لا معني لأدائه يتعين كون مقتضي ضمانه تداركه ببدله من مثله أو قيمته، كما في قوله في صحيح أبي ولاد: (أرأيت لو عطب البغل أو نفق أليس كان يلزمني ؟ قال: نعم...)(1).

وبالجملة: لا مجال للاستدلال بالحديث علي ضمان درك المأخوذ، بحيث يجب دفع بدله من المثل أو القيمة.

نعم، بعد المفروغية - من الخارج وبدليل آخر - عن كون المسؤولية بالمال تقتضي ضمان دركه، فما تضمنه الحديث من كون مسؤولية المأخوذ علي آخذه يستلزم كون دركه عليه. ولعل ذلك هو الذي جعل الأصحاب يستدلون بالحديث علي ضمان الدرك. لكن ذلك يرجع للاستدلال بالحديث علي تعيين من عليه مسؤولية المال، بحيث يكون عهدته، لا علي تحديد مفاد المسؤولية وسعتها، بحيث تشمل ضمان الدرك.

إن قلت: جعل الأداء غاية للضمان يناسب كون المراد بالضمان ما يعم تحمل الدرك، إذ لو أريد بضمان المأخوذ كونه بنفسه مورداً للمسؤولية، بحيث لا يجب إلا أداؤه كان الأداء غاية له عقلا، لارتفاع الموضوع به، نظير ما ذكروه من إجزاء امتثال الأمر الواقعي، بخلاف ما لو كان المراد به ما يعم تحمل الدرك، فإن الأداء يكون غاية له شرعاً، حيث يمكن عقلاً بقاء المأخوذ مضموناً ببدله حتي بعد أدائه بعينه. وحمل الغاية علي كونها شرعية هو الأنسب بالبيان الشرعي.

قلت: لما كان ظاهر جعل الشيء في الذمة هو لزوم أدائه بنفسه فالغاية لا تصلح قرينة علي حمله عن ضمان دركه، بل يتعين حملها علي كونها غاية عقلية.

نعم، لو كان جعله في الذمة مردداً بين الأمرين، وصالحاً لكل منهما، لم يبعد صلوح الغاية للقرينة علي ترجيح ضمان الدرك، لما ذكر من أن حملها علي الغاية الشرعية أنسب بالبيان الشرعي.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب أحكام الإجارة حديث: 1.

ص: 116

(117)

الثاني: عموم قاعدة السلطنة. فإنا وإن لم نعثر علي ما يدل عليه من النصوص غير المرسل عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال:

(الناس مسلطون علي أموالهم) (1) ، وهو لإرساله لا ينهض بالاستدلال، إلا أنه يكفي في الدليل عليه المرتكزات العقلائية القطعية.

وكيف كان فقد استدل به في الجواهر. ويظهر منه أن وجه الاستدلال به عمومه للأموال التالفة، ومقتضي السلطنة عليها جواز المطالبة بها، وحيث يتعذر إرجاعها يتعين الانتقال لبدلها وتحمل دركها.

وفيه: أنه لا موضوع للسلطنة مع التلف. مع أن تعين صاحب اليد ليكون هو المطلوب بها يحتاج إلي دليل. نعم لو ثبت بدليل آخر سببية اليد للضمان، كان مقتضي الدليل المذكور ملكية صاحب المال التالف ببدله في ذمة صاحب اليد، فيكون مقتضي سلطنته علي ماله جواز مطالبته به. فعموم قاعدة السلطنة للمورد متفرع علي ضمان اليد، لا أنه مثبت له.

الثالث: ما دل علي عدم حلّ مال المسلم إلا بطيبة نفسه، مثل ما رواه زيد الشحام في الصحيح وسماعة في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) من خطبة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) بمني في حجة الوداع، وفيها قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(ألا من كانت عنده أمانة فليؤدها إلي من أتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه) (2) .

بدعوي: أن المراد من عدم حلّ المال حرمته وضعاً بضمانه، لا حرمته تكليفاً الراجعة لحرمة التصرف فيه، لأن الحرمة التكليفية لا تناسب عطف المال علي الدم، الذي لا مجال لحمل عدم الحلّ فيه علي التكليف، لوضوح عدم حلّه حتي بطيب النفس، بل يتعين حمل عدم الحلّ فيه علي الضمان، لأنه يرتفع بطيب النفس والإبراء، لجواز العفو عن القاتل.

وفيه: أولاً: أن حمل عدم حل المال والدم علي ضمانهما غير مألوف ولا مقبول

********

(1) الخلاف ج: 1 ص: 223، وبحار لأنوار ج: 2 ص: 272.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 1 من أبواب القصاص في النفس حديث: 3.

ص: 117

عرفاً خصوصاً بعد سوقه تعليلاً للأمر بأداء الأمانة، الظاهر في كونه تكليفياً. وحمله علي الإرشاد للتخلص من الضمان بعيد جداً. كما أنه لو حمل عدم حلّ الدم علي ضمانه فهو لا يرتفع بطيب نفس صاحب الدم - كما هو ظاهر لحديث بدواً - بل ولا بطيب نفس وارثه. غايته أن لوارثه العفو، وهو من سنخ إسقاط الضمان، لا من سنخ المانع منه، بنحو يجعل الدم غير مضمون وحلالاً وضعاً بالمعني المذكور.

ومن هنا لا مخرج عن ظهور عدم الحلّ في المال والدم معاً في كونه تكليفياً، ولابد لأجل ذلك من إرجاع الاستثناء بطيب النفس، إلي خصوص المال الذي هو الأقرب، أو إلي الدم أيضاً، لكن مع القصور عن التصرف المتلف، والاقتصار علي غيره، كالحجامة والفصد، وسائر التصرفات البدنية غير القاتلة، حيث لا منع من البناء علي حلّها بطيب نفس من توقع به.

وثانياً: أن الحديث لو نهض بإثبات كون المال مضموناً فهو لا ينهض ببيان أن الموجب لضمانه اليد، بل لعل الموجب له خيانة الأمانة بحبسها، لا مطلق اليد، كما هو محل الكلام.

الرابع: ما دل علي حرمة مال المسلم، كموثق أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام):

(قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه) (1) . إما لأن مقتضي الحرمة الضمان، لأن ذهابه هدراً ينافي حرمته، أو لأنه مقتضي تشبيه حرمة المال بحرمة الدم الذي لا إشكال في ضمانه.

وفيه: أولاً: أن الحرمة كما تكون بالضمان تكون بتحريم الاعتداء تكليفاً. بل لعل الثاني أقرب. ولاسيما بلحاظ سياق الفقرات السابقة. وليسا هما فردين للحرمة، كي يكون مقتضي إطلاقها الحمل عليهما معاً، بل كل منهما مصحح لنسبة الحرمة للأعيان. ويكفي فيها أحدهما، من دون حاجة لإرادة الجامع بينهما. بل لعل الجامع بينهما غير عرفي ليمكن الحمل عليه. ولا أقل من كون المتيقن في المقام الحرمة التكليفية.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 158 من أبواب أحكام العشرة حديث: 3.

ص: 118

وثانياً: أنه لا ينهض بتعين منشأ الضمان، وأنه اليد أو الإتلاف أو غيرهما. ولعل الأنسب الحمل علي الإتلاف، لأنه الأقوي ارتكازاً. ولاسيما بقرينة الدم، حيث لا يضمن باليد، بل بالإتلاف أو التفريط الملحق به.

الخامس: قاعدة نفي الضرر، لدعوي أن عدم ضمان المال التالف مستلزم للضرر في حق صاحبه.

وفيه: أن القاعدة المذكورة إنما تنهض برفع الأحكام الضررية، ولا تنهض بتشريع الحكم الذي يتدارك به الضرر، كالضمان في المقام. ولاسيما وأن تضمين صاحب اليد ضرر عليه أيضاً، فيكون منافياً للامتنان في حقه. إلا أن يثبت سقوط حرمته بمجرد وضع يده علي المال من دون أن يكون متلفاً له، وهو عين المدعي.

السادس: النصوص المتضمنة أنه لا يصلح ذهاب حق أحد، كصحيح الحلبي ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(سألته هل تجوز شهادة أهل ملة من غير ملتهم ؟ قال: نعم، إذا لم يوجد من أهل ملتهم جازت شهادة غيرهم. إنه لا يصلح ذهاب حق أحد) (1) ، ونحوه غيره.

وفيه: أن النصوص المذكورة - مع قصورها عن بيان من عليه الضمان - واردة لبيان عدم ذهاب الحق إثباتاً بعد الفراغ عن استحقاقه ثبوتاً، وهو أجنبي عما نحن فيه من الكلام في ثبوت سببية اليد للضمان ثبوتاً. نعم لا ريب في أن المال كالدم لا يذهب هدراً من دون ضمان. إلا أن ذلك إنما يكون بعد الفراغ عن تحقق سبب الضمان، كالإتلاف، لا مع الشك في سببية شيء للضمان، كاليد في المقام.

السابع: دعوي بناء العقلاء علي الضمان باليد، وأن وضع اليد علي ملك الغير بلا حقّ مقتض لضمانه بمقتضي المرتكزات العقلائية. وهو إن كان قد يخفي بسبب صعوبة الحكم وثقل الالتزام به، خصوصاً في موارد الجهل بعدم الاستحقاق، لتخيل مانعية العذر الرافع للعقاب من الضمان، إلا أن التأمل في المرتكزات العقلائية مجرد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 20 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 3.

ص: 119

(120)

عن الاستبعاد والعاطفيات قاض به، لأن حرمة المال تناسب مسؤولية من يضع يده عليه به لصاحبه.

ويظهر من جملة من النصوص الجري علي ذلك، مثل ما تضمن أن من أستعار عارية بغير إذن صاحبها ضمن(1) ، وما تضمن أن من تجاوز بالعين المستأجرة العمل المستأجر عليه ضمن(2). بل قد يظهر المفروغية عن ذلك من قوله في صحيح أبي ولاد المتقدم: (أرأيت لو عطب البغل أو نفق أليس كان يلزمني ؟ قال: نعم...)(3). لظهور أن تجاوز الشرط لا يزيد عن كونه تصرفاً في المال وأخذاً له بلا حق.

وأظهر من ذلك ما تضمن تعليل عدم ضمان من بيده المال إذا أخذه بإذن المالك بأنه أمين، كموثق غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(إن أمير المؤمنين أتي بصاحب حمام وضعت عنده الثياب، فضاعت فلم يضمنه، وقال: إنما هو أمين) (4) . فإن تعليل عدم ضمانه بأنه أمين ظاهر في أن من شأن صاحب اليد الضمان لولا الاستئمان، وأن الاستئمان هو الرافع للضمان، ولو لم تكن اليد مقتضية للضمان لم يكن للاستئمان أثر في رفع الضمان، ولم يحسن التعليل به.

ويؤيد ذلك كله ظهور اتفاق الأصحاب علي ضمان اليد، حيث يقرب كون منشئه الارتكاز المذكور، وإن لم يتوجهوا له تفصيلاً ليذكروه في مقام الاستدلال، وأن الاستدلالات والتعليلات التي تضمنتها كلماتهم أشبه بالتعليل بعد الورود والمفروغية عن ثبوت المدعي. ومن ثم كان هذا الوجه لا يخلو عن قوة، وكان البناء علي الضمان من أجله قريباً جداً.

هذا وقد يستدل علي الضمان في خصوص المقبوض بالمعاوضة الفاسدة - كالبيع والإجارة وغيرهما - بوجهين:

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 4 من أبواب كتاب العارية.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب كتاب الإجارة.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب كتاب الإجارة حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 28 من أبواب كتاب الإجارة حديث: 1

ص: 120

الأول: بعض نصوص الجارية المسروقة، كموثق جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الرجل يشتري الجارية من السوق، فيولدها، ثم يجيء مستحق الجارية، قال: يأخذ الجارية المستحق، ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد. ويرجع علي من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه)(1).

قال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(فإن ضمان الولد بالقيمة - مع كونه نماء لم يستوفه المشتري - يستلزم ضمان الأصل بطريق أولي. وليس استيلادها من قبيل إتلاف النماء، بل من قبيل إحداث نمائها غير قابل للملك، فهو كالتالف، لا المتلف. فافهم) . وفيه: أنه لا طريق لإحراز أن ضمان قيمة الولد بملاك ضمان اليد للجارية، ليدل علي ضمانها بالأولوية.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من انحصار سبب الضمان في اليد والإتلاف والتسبيب، وأن الأخيرين منتفيان، لتوقفهما علي سبق ملكية الولد، ولا يكفي وجوده بنحو لا يكون معه مملوكاً.

ففيه: أنه لا دليل علي انحصار الضمان بالأسباب الثلاثة، فليكن الضمان في المقام بسبب تعبدي رابع. ولو سلم الانحصار المذكور فضمان اليد يختص أيضاً بما إذا كان المضمون مملوكاً للمضمون له. ومن هنا لم يكن إلحاق ضمان الولد بضمان اليد مع عدم سبق ملك صاحب الجارية له بأولي من إلحاقه بضمان الإتلاف. بل لعل الثاني أقرب عرفاً، لاستناد عدم تملك صاحب الجارية للولد لفعل المشتري، فهو يشبه الإتلاف.

وعلي كل حال لا طريق لإحراز أن ضمان قيمة الولد بملاك ضمان اليد للجارية، كما ذكرنا. ولاسيما وأن الظاهر ثبوته حتي في مورد عدم اليد، كما يناسبه إطلاق ما تضمن أنه إذا وقع علي الجارية أكثر من واحد، فجاءت بولد أقرع بينهم، فمن خرج سهمه ألحق الولد به، ولزمه قيمته لصاحب الجارية، فإن كان شريكاً فيه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 88 من أبوب نكاح العبيد والإماء حديث: 5

ص: 121

دفع لشركائه من قيمة الولد بنسبة حقهم فيها(1). فإن إطلاقه يعمّ ما إذا لم يكن الواطئ صاحب يد علي الجارية.

وفي صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد، فولدت، فادعوه جميعاً أقرع الوالي بينهم، فمن قرع كان الولد ولده، ويرد قيمة الولد علي صاحب الجارية. قال: فإن اشتري رجل جارية، وجاء رجل فاستحقها، وقد ولدت من المشتري ردّ الجارية عليه، وكان له ولدها بقيمته) (2) . والمنساق منه أن الحكم في الذيل وإن كان وارداً في المقبوض بالعقد الفاسد، إلا أنه بنفس ملاك الحكم الوارد في الصدر، الذي لم يفرض فيه ذلك.

أما لو تم ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) فاللازم البناء علي ضمان صاحب اليد لقيمة الولد وإن لم يكن هو المستولد، كما لو وطأ الجارية المسروقة أو المقبوضة بالعقد الفاسد غير صاحب اليد شبهة، فيكون ضمان الولد علي صاحب اليد، لا علي أبيه الواطئ، وهو مما تأباه النصوص جداً. بل مقتضي ما ذكره ضمان صاحب اليد لنماءات العين إذا لم تكن بنفسها تحت يده، تبعاً لضمان العين باليد، ولا يظن منه ولا من غيره البناء علي ذلك.

الثاني: أن المتعاقدين قد أقدما علي الضمان بالعوض المسمي، فإذا لم يسلم المسمي يتعين الرجوع للمثل والقيمة. وقد تكرر الاستدلال بذلك من الشيخ (قدس سره) في المبسوط، وتبعه غير واحد، منهم الشهيد في المسالك.

قال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(وهذا الوجه لا يخلو عن تأمل، لأنهما إنما أقدما وتراضيا وتواطئا بالعقد الفاسد علي ضمان خاص، لا الضمان بالمثل أوالقيمة، والمفروض عدم إمضاء الشارع لذلك الضمان الخاص، ومطلق الضمان لا يبقي بعد انتفاء الخصوصية، حتي يتقوم بخصوصية أخري) .

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 57 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 57 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

ص: 122

وزاد سيدنا المصنف (قدس سره) في نهجه، فقال:

(لو فرض إقدامهما علي الضمان بالمثل أو القيمة - كما لو باعه بمثله أو بقيمته - لم يجد ذلك في ضمانه بعد كون المفروض فساد العقد وعدم ترتب أثر عليه، فالإقدام علي الضمان إذا لم يمضه الشارع الأقدس ليس من أسباب الضمان مطلقاً، فلا تتم دعوي كونه من أسباب الضمان) .

بل لا أثر للإقدام المذكور حتي لو فرض انحلاله إلي أمرين الإقدام علي الضمان مطلقاً، والإقدام علي الضمان بالعوض المسمي، إذ بعد فرض فساد العقد وعدم ترتب الأثر عليه لا أثر لكلا الإقدامين اللذين يتضمنهما.

لكن بعض مشايخنا (قدس سره) حاول توجيه ما ذكره الشيخ (قدس سره) بأن الإقدام بنفسه ليس علة تامة للضمان، بل هو متمم لسبب الضمان، الذي هو الاستيلاء علي مال الغير من دون تسليط مجاني من المالك، لقيام سيرة العقلاء القطعية علي سببية ذلك الضمان.

أقول: إن كان مراده أن سبب الضمان مركب من أمور ثلاثة: الاستيلاء، وعدم التسليط المجاني من المالك، وإقدام المستولي علي الضمان، فلو وجد الأولان دون الأخير فلا ضمان، كما لو دفعه المالك علي أنه مبيع وأخذه الآخذ علي أنه هبة، أو أخذه هبة من الغاصب بتخيل أنه المالك.

فالظاهر أنه لا يمكن البناء علي ذلك كيف ؟! والمنساق من كلماتهم بيان شرط ضمان المأخوذ حتي مع التلف مع وضوح أن ضمان التلف لا يتوقف علي إقدام المتلف علي الضمان. علي أن مقتضاه عدم البناء علي الضمان إلا بعد إحراز الإقدام عليه، وهو لا يناسب النصوص المتضمنة أنه إذا اختلف المالك ومن عنده المال في أن المال دين أو وديعة، فالقول قول المالك المدعي للدين، ما لم تثبت الوديعة(1).

وإن كان مراده أن سبب الضمان هو الاستيلاء وعدم التسليط المجاني، وأن ذكر الإقدام علي الضمان لملازمته لعدم كون التسليط مجانياً. رجع ذلك إلي أن منشأ الضمان

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 18 من أبواب الرهن، وباب: 7 من كتاب الوديعة.

ص: 123

مثله إن كان مثلياً (1)

---------------

هو اليد، وابتني علي ما سبق الكلام فيه من عموم ضمانها. غاية الأمر أن إقدامهما علي التسليط والتسلط المجاني مانع من مضمنية اليد. وقد حمل شيخنا الأعظم (قدس سره) بالآخرة كلام الشيخ (قدس سره) علي ذلك. ولا يبعد كونه مراد بعض مشايخنا (قدس سره). وعليه لا أثر للإقدام علي الضمان في ترتبه، بل يتسبب عن اليد المصاحبة له، كما لا يخفي.

وبذلك يظهر أن مفروغية الأصحاب علي الضمان في مورد الإقدام مبنية علي الارتكاز الذي أشرنا إليه في وجه ضمان اليد، ويكون من جملة مؤيداته.

(1) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، وفي الرياض أنه لا خلاف فيه، وفي جامع المقاصد وعن ظاهر كشف الرموز الإجماع عليه، وعن الشهيد في غاية المراد: (أطبق الأصحاب علي ضمان المثلي بمثله. إلا ما يظهر من ابن الجنيد، فإنه قال: إن تلف المضمون ضمن قيمته، أو مثله إن رضي صاحبه). قال:

(ولعله يريد القيمي) .

وقد يستدل علي ذلك بوجوه:

الأول: الإجماع المدعي ممن عرفت، المؤيد بكثرة من تعرض لذلك من الأصحاب، من دون ظهور خلاف في ذلك، إلا ما حكي عن الإسكافي، الذي لو تم الخلاف منه لم يقدح في الإجماع، لكثرة انفراده عما عليه الأصحاب.

ويشكل: بأن المسألة إنما حررت في عصر تدوين الفتاوي، ومن ثم لم ينقل الحكم بذلك عمن قبل الشيخ في المبسوط والخلاف، وحيث لم تكن منصوصة لا طريق لمعرفة رأي قدماء الأصحاب فيها بنحو يكشف عن رأي الأئمة (عليهم السلام). ولاسيما مع قرب كون منشأ ذهاب الأصحاب لذلك بعض وجوه الآتية للاستدلال بها في كلماتهم، حيث يصعب مع ذلك إحراز الإجماع التعبدي مع قطع النظر عن تمامية تلك الوجوه. فاللازم النظر فيها.

ص: 124

(125)

الثاني: قوله تعالي: (فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم)(1) وقد استدل به الشيخ (قدس سره) في المبسوط وابن إدريس في السرائر. وجماعة ممن تأخر عنهما.

وقد أورد عليه في الرياض باحتمال كون المراد بالمثل فيه مثل أصل الاعتداء، لا مثل الأمر المعتدي فيه. وكأن مراده بذلك الاكتفاء في المماثلة بالمماثلة بين الفعل والردّ في كونهما اعتداء، من دون اعتبار المماثلة في سنخ الأمر المعتدي به. فكأنه قيل: فاعتدوا عليه كما اعتدي عليكم لكنه كما تري مخالف لظاهر أخذ المماثلة قيداً في الاعتداء.

ومثله ما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) وتنظر فيه، من حمل المماثلة علي المماثلة في مقدار الاعتداء لا في المعتدي به، حيث لا يبعد كون المراد به المماثلة في مقدار مالية المال المعتدي به، دون سنخه. إذ فيه: أنه لا يناسب إطلاق المماثلة في الآية الشريفة.

فالعمدة في الإشكال في الاستدلال بالآية الشريفة في المقام: أولاً: أنها ظاهرة في جواز ردّ الاعتداء بمثله قصاصاً، كالردّ علي إتلاف النفس والطرف أو المال بإتلاف المعتدي عليه لمثلها من المعتدي. وليست في مقام بيان كيفية الضمان، كضمان النفوس والأطراف بدفع الدية، وضمان الأموال بدفع البدل. فهي نظير قوله تعالي: (وإن عوقبتم فعاقبوا بمثل ما عقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)(2). ولذا كانت مختصة بصورة التعمد والعدوان، كما هو المنساق من التعبير بالاعتداء، بخلاف الضمان.

وثانياً: أنه لو تم نظر الآية الشريفة للضمان أو عمومها له، فمن الصعب جداً عمومها لضمان اليد الذي لا يكون الاعتداء فيه إلا بوضع اليد علي المال من دون إتلاف له.

وثالثاً: أنه لابد من حمل المماثلة في الآية الشريفة علي المماثلة العرفية التي تشمل

********

(1) سورة البقرة آية: 194.

(2) سورة النحل آية: 126.

ص: 125

(126)

وقيمته إن كان قيمياً (1).

---------------

كثيراً من القيميات بلحاظ تشابهها في الصورة والصفة والفائدة، كما تقضي ما زاد علي المثل في المثليات من خصوصيات المضمون غير الدخيلة في قيمته. ولا مجال لحمل المماثلة فيها علي المثلي الذي يريده الفقهاء (رضوان الله تعالي عليهم)، فإنه معني غير عرفي للمماثلة، وإنما هو محض اصطلاح لهم.

الثالث: ما في المبسوط، حيث قال بعد أن استدل بالآية الشريفة: (ولأن مثله يعرف مشاهدة، وقيمته تعرف بالاجتهاد، وما يعلم يقدم علي ما يجتهد فيه)، ونحوه في السرائر.

وفيه - مع قصوره عما إذا كانت القيمة قطعية لا اجتهاد فيها - أن ترجيح الحس علي الحدس والاجتهاد راجع إلي الترجيح بينهما في مقام الإثبات بعد الفراغ عن كون موضوع الأثر ثبوتاً هو الموضوع القابل لهما معاً، كالوقت. ولا ينهض دليلا علي ترجيح الموضوع الذي يدرك من طريق الحس علي الموضوع الذي يدرك من طريق الحدس عند التردد بين الموضوعين ثبوتاً، في المقام.

ومثله ما فيه أيضاً، حيث قال:

(ولأنه إذا أخذ المثل أخذ وفق حقه، وإذا أخذ القيمة ربما زاد أو نقص، فكان المثل أولي) . بل لعله عينه. هذا ويأتي إن شاء الله تعالي تمام الكلام في ذلك.

(1) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، ولم يعرف الخلاف فيه إلا من الإسكافي في كلامه المتقدم في المثلي، ومن الخلاف والشرايع، قال في الخلاف: (إذا لم يجد مال القرض بعينه وجب عليه مثله. وهو مذهب أكثر أصحاب الشافعي. وفيهم قال: يجب عليه قيمته، كالمتلف)، حيث أطلق وجوب المثل في القرض، بل تشبيهه في بالمتلف في ذيل كلامه يدل علي عمومه أو اختصاصه بالقيمي، لأنه الذي يضمن بالقيمة في التلف. وقال في الشرايع في مبحث القرض: (وكل ما يتساوي أجزاؤه

ص: 126

يثبت في الذمة مثله، كالحنطة والشعير والذهب والفضة، وما ليس كذلك يثبت في الذمة قيمته وقت التسليم. ولو قيل يثبت مثله أيضاً كان حسناً).

لكن كلام الإسكافي إنما يقتضي الاكتفاء بالمثل إذا رضي صاحبه، والمنصرف منه صورة رضا الطرفين، إذ لو كفي رضا صاحبه وحده لكان المناسب أن يقول: إذا أراد صاحبه، فيكون خارجاً عن محل الكلام من تحديد ما يلزم شرعاً.

وكلام الخلاف والشرايع مختص بالقرض. ولعله يبتني علي دعوي ابتناء عقده علي ذلك، فلا يكون خلافاً فيما نحن فيه من الضمان الشرعي بالتلف ونحوه، بل مقتضي ما سبق من الخلاف أن الواجب فيه القيمة. ومن ثم لا يتضح الخلاف في المقام.

إلا أنه غير مهمّ بعد عدم وضوح انعقاد الإجماع، وعدم وضوح حجيته، لنظير ما سبق في المثلي. ويأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالي.

هذا وقد يدعي أن الضمان بالقيمة هو مقتضي الأصل في المقام، لأن ما عداها خصوصيات زائدة، وانشغال الذمة بها، أو وجوب أدائها في مقام تفريغ الذمة عن الضمان الثابت، مخالف للأصل.

لكنه إنما يتم لو كان المراد بالقيمة مطلق ما تحفظ به المالية مخيراً بين الأمور المتمولة، حتي لو كان المدفوع مبايناً للتالف سنخاً، كدفع الحنطة مثلاً بدل الثوب المضمون ولا يظن بأحد البناء علي ذلك، كما لا يناسبه بناء العقلاء في كيفية الضمان.

بل ليس مرادهم بالقيمة إلا ما يتمحض في المالية، ويكون من سنخ الأثمان، كالدراهم والدنانير وما ألحق بها من النقود الورقية التي شاع التعامل بها في عصورنا. ومن الظاهر أن الاقتصار عليها مخالف للأصل، كالاقتصار علي غيرها من الأنواع، كالمثل في المثلي، والمشابه للمضمون في القيمي. ومن هنا لا مجال للاستدلال بالأصل إثباتاً أو نفياً في كلا شقي التفصيل.

كما لا مجال للاستدلال بالنصوص فيهما، لعدم التعرض فيها لشرح كيفية

ص: 127

الضمان، إلا ما ورد في قليل منها من الحكم بالقيمة في بعض القيميات كالحيوان، بنحو لا مجال لاستيفاء القضية الكلية منها.

والعمدة في دليل التفصيل المذكور السيرة الارتكازية العرفية علي ضمان المثل بمثله والقيمي بقيمته. وكأنه لأن اختلاف الأغراض النوعية والشخصية المتعلقة بأنواع المضمونات وأفرادها يمنع من سعة الضمان، بحيث يكتفي فيه بكل ما تحفظ به المالية. وبعد تعذر إرجاع نفس المضمون يتعين الاقتصار علي ما هو الأقرب إليه من حيثية المالية. فالمثلي حيث كانت ماليته قائمة بالنوع يضمن بمثله، حفاظاً علي المالية، وعلي موضوعها، والقيمي، حيث كانت ماليته قائمة بشخصه المفروض التعذر يتعين ضمانه بما يتمحض في المالية، إذ لا أقرب منه. وأما بقية المتمولات فقد تكون أبعد عن غرض المضمون له من الأمر المضمون، لما سبق من اختلاف أغراض المتمولات نوعاً. وقرب بعضها لغرضه في بعض الحالات لا أثر له، فإن المدار علي الأقربية النوعية، لانضباطها، دون الشخصية غير المنضبطة.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في بناء العرف علي الضمان بالوجه المذكور، وفي لزوم الرجوع إليه بعد ما سبق من عدم بيان كيفية الضمان في النصوص، فإن عدم شرح كيفية الضمان، وعدم السؤال عنه، مع شدة الحاجة لذلك، شاهد بالاتكال فيه علي ما عند العرف حيث يشيع ابتلاؤهم بالمسألة، بنحو لا بد أن يكون لهم حكم فيها يجرون عليه بطبعهم.

ويؤكد بناء العرف علي التفصيل المذكور ظهور حال الأصحاب في الاتفاق عليه، إذ يمتنع عادة خروج الأصحاب عما عليه العرف من دون أن تكون هناك نصوص مخرجة عنه. ولاسيما في مثل هذه المسألة الشايعة الابتلاء في جميع العصور حتي عصور المعصومين (عليهم السلام)، حيث يمتنع عادة خفاء حكمهم (عليهم السلام) فيها. وبذلك يظهر أن الإجماع في المقام صالح للكشف عن رأي المعصوم، لاحتفافه بقرائن تتمم كشفه عنه. فلاحظ.

ص: 128

(129)

هذا وقد يدعي وجوب الحفاظ في المثلي علي الخصوصيات التي تختلف فيها الرغبات غير الدخيلة في المالية، لأنها أقرب للمضمون. لكن لم يتضح بناء العرف علي ضمان الخصوصيات المذكورة بعد عدم دخلها فيما هو المهم في الضمان، وهو المالية. ولاسيما مع عدم انضباطها، لاختلاف الناس في اهتماماتهم ورغباتهم اختلافاً فاحشاً. فلا مخرج عن مقتضي الأصل من عدم ضمانها، والاكتفاء بمطلق المثل. فتأمل.

بقي الكلام في تحديد كل من المثلي والقيمي.

والمشهور أن المثلي ما تساوي أجزاؤه في القيمة، والقيمي بخلافه. وعرّفا بتعاريف أخر. وقد أطالوا الكلام في شرح هذه التعاريف، وفي تماميتها طرداً وعكساً. والأمر غير مهم بعد عدم أخذ العنوانين المذكورين في الأدلة الشرعية، ليترتب الأثر علي تحديدها. فاللازم الرجوع إلي ما يقتضيه الدليل المتقدم للتفصيل، وهو بناء العرف.

والظاهر أن المعيار في التفصيل عندهم علي كون القيمة منسوبة لشخص المضمون وكونها منسوبة للكلي الشامل له، كما سبق. من دون فرق بين كون الكلي نوعاً، كالحنطة والشعير، وكونه صنفاً منه، كأصناف الحنطة والشعير والتمور وغيرها مما تختلف في المالية، وكالمصنوعات الحديثة ذات الماركات المختلفة والكتب المطبوعة بطبعاتها المختلفة وغير ذلك، فإن ذلك كله من المثلي، ويضمن بدفع فرد من الكلي الذي تنسب القيمة له. بخلاف ما كانت قيمته منسوبة لشخصه، ككثير من الأحجار الكريمة، والمصنوعات اليدوية، والكتب المخطوطة، والحيوانات وغيرها. فإنها قيميات تضمن بدفع قيمتها من الأثمان الرائجة. ومجرد تماثل بعضها أو تقاربها في القيمة لا يجعلها مثلية بعد نسبة القيمة لكل منها بنفسه، وعدم نسبتها للكلي الجامع مع بينها، لعدم انضباطه وعدم شيوع أفراده.

هذا ولو فرض تردد الأمر في بعض المتمولات بين كونها قيمية وكونها مثلية فالظاهر أنه لا أصل يقتضي تعيين أحد الأمرين، فيلزم الاحتياط بالصلح بين الضامن

ص: 129

وكذا الحال في الثمن إذا قبضه البايع (1). ولا فرق في ذلك بين العلم بالحكم والجهل به (2).

---------------

والمضمون له.

ودعوي: أن الأصل هو الضمان بالمثل، بمعني: أن اللازم بعد تعذر دفع العين الحفاظ في مقام الأداء علي جميع صفاتها الدخيلة في المالية، وذلك لا يكون إلا بأداء المثل ما لم يثبت كون التالف قيمياً.

مدفوعة: بأن تفسير المثل بذلك ممنوع، إذ هو يقتضي وجوب المثل في كثير من القيميات. ولاسيما مع ما سبق مع عدم ورود عنوان المثل في أدلة الضمان، ليدعي تفسيره بما يشترك مع غيره في الصفات الدخيلة في المالية، ولزوم الخروج عنه في القيمي بأدلته، بل سبق تفسيره بما تكون فيه القيمة منسوبة للكلي، والمفروض في المقام الشك في ذلك.

ومثلها دعوي: أن مقتضي الأصل الاقتصار علي القيمة، لأصالة البراءة من خصوصية المثلية إلا في مورد اليقين بثبوتها. حيث يظهر اندفاعها مما سبق من منع الاستدلال علي القيمة في القيمي بالأصل. ومن هنا لا مخرج مما ذكرنا من لزوم الصلح في محل الكلام من فرض الشك والتردد بين كون المضمون مثلياً وكونه قيمياً.

(1) لعدم الفرق بينه وبين المبيع بعد فرض فساد البيع. نعم إذا كان الثمن في البيع الفاسد كلياً فالمدفوع ليس ثمناً، بل مدفوعاَ وفاء عن دين متخيل لا واقع له. غاية الأمر أنه مضمون كالثمن في البيع الفاسد، لعين ما سبق.

(2) لعموم دليل ضمان اليد، وهو الارتكاز المستفاد إمضاؤه من النصوص، ومنها ما دل علي مسقطية الاستئمان للضمان بالتقريب المقدم. ودعوي: رافعية الجهل لسببية اليد للضمان، مدفوعة: بأن الضمان ليس من سنخ المؤاخذة، ليسقط بالجهل. ولاسيما مع أن سقوطه مناف للامتنان في حق المضمون له.

ص: 130

ولو باع أحدهما ما قبضه كان البيع فضولياً (1) تتوقف صحته علي إجازة المالك. وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي.

---------------

ومثلها دعوي: سقوط الضمان مع العلم بالفساد، لأن تسليط البايع للمشتري علي المبيع مع علمه بعدم استحقاقه له وعدم استحقاقه هو للثمن في مقابله بسبب فساد البيع راجع إلي هدره لحرمة ماله، كما لو سلطه عليه مجاناً، لاندفاعها: بأن تسليطه عليه لما كان مبنياً علي البيع وجرياً علي مقتضاه تسامحاً أو تشريعاً، فهو لا يرجع إلي هدره لحرمة ماله، بحيث يكون مدفوعاً مجاناً، بل لا يخرج عن كونه مبنياً علي الضمان بالثمن، غاية الأمر عدم إمضاء الشارع الأقدس للبناء المذكور، كما هو الحال مع الجهل بالفساد.

هذا والظاهر أن مراد سيدنا المصنف (قدس سره) من الحكم هو الفساد في المعاملة الخاصة، الذي يتوقف العلم به علي العلم بالحكم الشرعي الكلي وبالموضوع الخارجي، ويكفي في الجهل به الجهل بأحدهما، وليس مراده خصوص الحكم الشرعي الكلي، إذ لا وجه لإهمال العلم والجهل بالموضوع مع الابتلاء بهما، وجريان ما سبق فيهما.

(1) لعدم سلطنته عليه بعد عدم كونه مملوكاً له، ولا مأذوناً في بيعه من قبل المالك. نظير ما تقدم في وجوب ردّ المبيع علي مالكه، وعدم جواز التصرف فيه وحبسه عنه.

ص: 131

ص: 132

(133) (133)

الفصل الثاني: في شروط المتعاقدين

اشارة

وفيه مسائل.

(مسألة 1): يشترط في كل من المتعاقدين أمور:

(الأول): البلوغ. فلا يصح عقد الصبي (1)

---------------

(1) بلا خلاف معتد به أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. كذا في الجواهر. وفي التذكرة: (الأول: الصغير. وهو محجور عليه بالنص والإجماع، سواءً كان مميزاً أو لا، في جميع التصرفات، إلا ما يستثني، كعبادته وإسلامه وإحرامه وتدبيره ووصيته وإيصاله الهدية، وإذنه في دخول الدار، علي خلاف في ذلك).

واستدل علي ذلك - بعد الإجماع المذكور، بل ظهور المفروغية عنه في الجملة - بأمور:

الأول: قوله تعالي: (وابتلوا اليتامي حتي إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا)(1). لظهوره في توقف وجوب دفع المال الذي هو مقتضي قاعدة السلطنة علي البلوغ والرشد معاً، فيدل علي عدم وجوب دفع مال اليتيم له، وعدم سلطنته عليه، كالسفيه، وهو راجع إلي عدم نفوذ تصرفه فيه ويتعدي عن اليتيم لغيره من الصبيان للمفروغية عن عدم

********

(1) سورة النساء آية: 6.

ص: 133

الفرق، أو لفهم عدم الخصوصية، وأن المعيار هو الصبي وعدم البلوغ.

وأما ما ذكره المحقق الإيرواني (قدس سره) من أن الأمر بدفع المال له بعد إيناس الرشد منه قرينة علي أن المعيار في صحة تصرفه علي رشده ولو قبل البلوغ، وأن ذكر البلوغ لطريقتيه إلي الرشد، من دون أن يكون دخيلاً في رفع الحجر في قباله. فهو مخالف للظاهر جداً.

وأضعف من ذلك ما حكي عنه من الاستدلال بصدر الآية الشريفة علي نفوذ تصرف الصبي قبل البلوغ، لأن ابتلاءه إنما يكون بدفع شيء من المال له، ليري كيف يتصرف فيه. إذ فيه: أنه لو سلم توقف الابتلاء علي ذلك، فهو إنما يكون بنظر الولي، لأنه هو الذي يدفع له المال، ويحمله علي التصرف فيه، لاستكشاف حاله، نظير دفعه الطعام له ليأكله، واللباس ليلبسه، والمال ليتصدق به لو رأي ذلك صلاحاً له، فلا يدل علي استقلاله بالسلطنة علي ماله، بحيث ينفذ تصرفه فيه من دون إذن الولي. ولذا جاز الابتلاء قبل إحراز الرشد، مع عدم الإشكال في توقف نفوذ تصرفه واقعاً علي رشده، وظاهراً علي إحراز الرشد.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الآية الشريفة في عدم استقلال الصبي بالسلطنة علي ماله وعدم نفوذ تصرفه فيه، ونهوضها باستدلال علي ذلك. ويأتي تمام الكلام فيها عند الكلام في أدلة نفوذ عقد الصبي بإذن الولي إن شاء الله تعالي.

الثاني: قوله تعالي: (فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل)(1). قال في وجه الاستدلال به في التذكرة: (قيل: السفيه البذر، والضعيف الصبي، لأن العرب يسمي كل قليل العقل ضعيفاً، والذي لا يستطيع أن يملي المغلوب علي عقله). وهو كما تري تفسير خال عن الشاهد، ومقتضي ما حكي عن العرب - لو تم - قصور الآية الشريفة عن الصبي الكامل العاقل، الذي هو محل الكلام. علي أن الآية ليست واردة في التصرف بالمال، بل في الإقرار به. وإن

********

(1) سورة البقرة آية: 282.

ص: 134

كان الظاهر وحدة الحكم فيهما.

الثالث: النصوص المتضمنة عدم جواز أمر الصبي، كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): (سأله أبي وأنا حاضر عن اليتيم متي يجوز أمره ؟ قال: حتي يبلغ أشدّه ؟ قال: وما أشدّه ؟ قال: احتلامه... قال:

إذا بلغ وكتب عليه الشيء جازه أمره، إلا أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً) (1) ، وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام):

(قال: إذا بلغ أشده ثلاث عشرة سنة وجب عليه ما يجب علي المسلمين، احتلم أم لم يحتلم، وكتبت عليه السيئات، كما له الحسنات، وجاز له كل شيء [من ماله. خصال] إلا أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً) (2) . وخبر حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال:

(إن الجارية ليست مثل الغلام. إن الجارية إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم، ودفع إليها مالها، وجاز أمرها في الشراء والبيع... والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع، ولا يخرج من اليتم حتي يبلغ خمس عشرة سنة، أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك) (3) ، وغيرها.

وهي - كما تري - واردة لتحديد البلوغ مع ظهورها أو ظهور بعضها في المفروغية عن عدم نفوذ تصرف غير البالغ في ماله، لأن ذلك هو الظاهر من عدم جواز أمره.

الرابع: ما تضمن رفع القلم عن الصبي، كخبر ابن ظبيان قال:

(أتي عمر بامرأة مجنونة قد زنت فأمر برجمها. فقال علي (عليه السلام): أما عملت أن القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبي حتي يحتلم، وعن المجنون حتي يفيق، وعن النائم حتي يستيقظ) (4) .

وخبر أبي البختري عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام)

:(أنه كان يقول في المجنون والمعتوه الذي لا يفيق والصبي الذي لم يبلغ: عمدهما خطأ تحمله العاقلة. وقد رفع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب كتاب الحجر حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب كتاب الحجر حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 11.

ص: 135

عنهما القلم) (1) .

وموثق عمار عنه (عليه السلام)

:(سألته عن الغلام متي تجب عليه الصلاة ؟ قال: إذا أتي عليه ثلاث عشرة سنة. فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة، وجري عليه القلم. والجارية مثل ذلك إن أتي لها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك فقد وجبت عليها الصلاة وجري عليها القلم) (2) . لصراحته في توقف جريان القلم علي البلوغ، وإن خالف المعروف في تحديد البلوغ.

وموثقه الآخر عنه (عليه السلام): (سئل عن المولود ما لم يجر عليه القلم هل يصلي عليه ؟ قال: لا إنما الصلاة علي الرجل والمرأة إذا جري عليهما القلم)(3).

وخبر سليمان المروزي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال:

(كان رسول الله يكثر الصيام في شعبان... وكان يقول شعبان شهري... وإن الصائم لا يجري عليه القلم حتي يفطر ما لم يأت بشيء فينتقض. وإن الحاج لا يجري عليه القلم حتي يرجع ما لم يأت بشيء يبطل حجه... وإن الصبي لا يجري عليه القلم حتي يبلغ، وإن المجاهد في سبيل الله لا يجري عليه القلم حتي يعود إلي منزله... ) (4) .

ونحوه خبره الآخر عن الإمام الرضا (عليه السلام):

(أنه قال: من صام شهر رمضان إيماناً واحتساباً غفرت له ذنوبه ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وإن الصائم لا يجري عليه القلم حتي يفطر... وإن الصبي لا يجري عليه القلم حتي يبلغ... ) (5) .

فقد استدل به علي عدم نفوذ معاملات الصبي جماعة من أصحابنا، أولهم فيما نعلم الشيخ (قدس سره) في كتاب البيوع من الخلاف، وفي أوائل كتاب الإقرار من المبسوط قال فيه:

(ورفع القلم عنهم يقتضي أن لا يكون لكلامهم حكم) ، ويناسبه ما عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 36 من أبواب القصاص في النفس حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 12.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5.

(4) كتاب فضائل الأشهر الثلاثة للصدوق باب فضل شهر شعبان ص: 55.

(5) كتاب فضائل الأشهر الثلاثة للصدوق باب فضل شهر رمضان ص: 116.

ص: 136

بعض الأعاظم (قدس سره) من ظهوره في كونه مسلوب العبارة، وأن فعله كالعدم، وأن ما صدر عنه لا ينسب إليه. ولاسيما مع جعله في سياق المجنون والنائم ويأتي من الجواهر في المجنون ما يناسب ذلك.

لكنه في غاية المنع، فإن رفع القلم عن الشخص ظاهر في التخفيف عنه، لا في إلغاء قصده. وجعل ذلك كناية عن إلغاء القصد لا شاهد له. وجعل الصبي في سياق المجنون والنائم في رفع القلم لا يشهد بحمل رفع القلم علي ذلك، فإن لغوية وعمل المجنون والنائم لا تمنع من كون الحكم برفع القلم عنهما لمجرد بيان التخفيف عنهما.

ومن ثم أشكل شيخنا الأعظم (قدس سره) علي الشيخ (قدس سره) ومن تبعه بأن الظاهر من رفع القلم قلم المؤاخذة. وإليه يرجع ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في مستمسكه من أن الظاهر منه رفع قلم السيئات.

وقد يدفع بأن المؤاخذة من الآثار العقلية التي لا تنالها يد الجعل الشرعية. ومن ثم ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) في كتاب البيع أن المرفوع هو الأحكام الإلزامية، التي هي منشأ المؤاخذة.

ولكن قال سيدنا المصنف (قدس سره) في نهجه: (وفيه: أن القلم جرياً ورفعاً لا يختص بالمجعولات الشرعية، وقد اشتهر في النصوص التعبير بكتابة الحسنات والسيئات. بل رواية أبن سنان الواردة في المقام قد تضمنت أنه إذا بلغ كتبت عليه السيئات، وكتبت عليه الحسنات. وهذا هو الظاهر في المقام).

ودعوي: أن لازم ذلك العفو مع الاستحقاق، وهو خلاف المقطوع به. مدفوعة بأن المراد بالاستحقاق إن كان ما يلازم عدم قبح العقاب، فلا مجال له بعد الوعد الجازم بعدم العقاب قبل الإقدام علي العمل، حيث يقبح العقاب حينئذٍ من المولي الحكيم بعد تأمينه منه. وإن كان المراد بالاستحقاق أن المكلف قد فعل ما من شأنه أن يعاقب عليه فلا مانع من الالتزام به. ولو فرض لغوية جعل الحكم مع الوعد المذكور، كشفت النصوص المذكورة عن رفع التكليف من دون أن تكون مسوقة لذلك، بحيث

ص: 137

تكون ظاهرة فيه، بل هي ظاهرة في عدم المؤاخذة والتبعة لا غير. ويناسبه سياقه في خبري سليمان المروزي المتقدمين مساق رفع القلم عن الصائم والحاج وغيرهما.

وبالجملة: النصوص المذكورة إنما تقتضي رفع المؤاخذة والتبعة، وغاية ما يمكن دعواه هو رفع الأحكام الإلزامية التي هي منشأ المؤاخذة والتبعة. ولا مجال للبناء علي عمومها لرفع جميع الأحكام في حقّ الصبي وأخويه، لينفع في البناء علي عدم نفوذ معاملتهم.

هذا ولكن بعض مشايخنا (قدس سره) أصرّ في كتاب الخمس علي عموم رفع القلم لجميع الأحكام، وأن مفاد النصوص المذكورة استثناء الطفل وأخويه عن قلم التشريع، وقصوره عنهم كالبهائم. إلا أن يكون الرفع منافياً للامتنان في حق الآخرين، كما في مورد الضمانات، أو ورد فيه نص خاص، كموارد التعزيزات.

وفيه: أولاً: أن التعبير برفع القلم عنهم ظاهر في إرادة التخفيف عنهم، برفع ما يكون فيه ثقل عليهم، كالمؤاخذة، والأحكام الإلزامية التي تكون منشأ لها، ولا يقتضي قصور التشريع عنهم رأساً في جميع الأحكام كالبهائم. كيف ؟! ولا إشكال في مشاركتهم للمكلفين في الأحكام التكليفية غير الإلزامية والأحكام الوضعية، كالحدث والخبث والطهارة منهما، ونفوذ العقود والإيقاعات في حقهم إذا أوقعها الولي أو الوكيل، والملكية بالحيازة والميراث وغير ذلك، وكيف يمكن قياسهم بالبهائم ؟! بل حتي البهائم والجمادات تكون موضوعاً للتشريع، ومورداً لبعض الأحكام، فتكون طاهرة ونجسة ومملوكة وموقوفة.

وثانياً: أن منافاة الرفع للامتنان في حق الآخرين إنما تنهض بتقييد إطلاقه إذا كان امتنانياً، ورفع القلم إنما يكون امتنانياً إذا اختص برفع التكليف ونحوه مما فيه ثقل علي المرفوع عنه. أما إذا أريد استثناؤه من قلم التشريع رأساً - كالبهائم - فليس هو امتنانياً، لتنهض قرينة الامتنان بتقييده وقصوره عن صورة منافاة الامتنان في حق الآخرين.

ص: 138

وثالثاً: أن قرينة الامتنان إنما تنهض بتقييد الرفع الامتناني بما إذا لم يناف الامتنان في حق الآخرين فيما إذا كان الرفع والامتنان في حق الأمة بمجموعها، كما في رفع الإكراه والحرج والضرر ونحوها، فإذا لزم الحرج علي شخص من حرمة إضراره بالغير لم ترتفع الحرمة في حقه، إذ لا امتنان علي الأمة بمجموعها بالتخفيف عن بعضها إذا كان منافياً للامتنان في حق الآخرين.

أما إذا كان الرفع الامتناني في حق قسم خاص من الأمة - كما في المقام - فقرينة الامتنان لا تقتضي قصوره عما إذا نافي الامتنان في حق الآخرين. ولذا لا ريب في أنه لا جناح علي الطفل وأخويه في الإضرار بالآخرين وإيذائهم ونحوهما مما ينافي الامتنان عليهم، وعدم قصور رفع القلم في حقهم عن ذلك.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر أن قصور حديث رفع القلم عن مثل الضمان ليس لقرينة الامتنان، كما ذكره (قدس سره)، بل لاختصاصه برفع المؤاخذة والتبعة أو رفع منشئهما، وهو الحكم الإلزامي، كما ذكرنا، دون مثل الضمان الذي هو حكم وضعي ثابت بملاك تدارك خسارة المضمون له.

هذا وقد حاول شيخنا الأعظم (قدس سره) استفادة عموم رفع القلم لكل غرامة وعقوبة أخروية أو دنيوية مما سبق في خبر أبي البختري من تعقيب الحكم بأن عمد الصبي والمجنون خطأ بقوله (عليه السلام)

:(وقد رفع عنهما القلم) ، بدعوي: أنه لا مناسبة لذكر رفع القلم إلا أحد أمرين:

الأول: أن يكون علة للحكم بثبوت الدية علي العاقلة، دون القصاص، ودون الدية في مالهما.

الثاني: أن يكون معلولاً للحكم بأن عمدها خطأ، بمعني أنه لما كان عمدها بنظر الشارع بحكم الخطأ رفع القلم عنهما. وكلا الأمرين ملزم بحمل رفع القلم علي ما يعم العقوبة الأخروية والدنيوية، كالقصاص وغرامة الدية، ومنه نفوذ إقرارهما والتزامهما المالي عليهما، فيدل علي عدم صحة معاملتهما، وعدم ترتب الأثر

ص: 139

علي إقرارهما.

وقد أجاب عن ذلك سيدنا المصنف (قدس سره) بأنه يكفي في مناسبة ذكر رفع القلم أنه يتضمن حكماً أخروياً، وما قبله يتضمن حكماً دنيوياً، فيكون المقصود في الحديث استيعاب حكم الصبي والمجنون من الجهتين معاً، من دون ملزم بأن يكون بينهما علية ومعلولية. بل ينفي العلية عدم ذكر ما يدل عليها - كالفاء واللام - وينفي المعلولية دخول (قد) المفيدة للثبوت والتحقيق علي الحكم برفع القلم وعدم دخولها علي الحكم بثبوت الدية علي العاقلة، ولا معني للتحقق في المعلول دون العلة.

وما ذكره (قدس سره) وإن كان متيناً. بل يبعد كون المناسبة هي العلية أو المعلولية - مضافاً إلي ما ذكره (قدس سره) - أن كلاهما حكم شرعي متقوم بالاعتبار ليس له ما بإزاء في الخارج، ليكون ملاكاً للحكم الشرعي وعلة له. لكن مع ذلك لا يبعد سوق رفع القلم لتأكيد أن عمد الصبي والمجنون خطأ بكبري عامة تعم التبعة الأخروية والدنيوية من باب تأكيد الخاص بالعام الذي هو شايع في الاستعمالات.

وبعبارة أخري: حيث كان الحكم بأن عمد الصبي والمجنون خطأ يتضمن عدم ثبوت حكم العمد عليهما، وهو القصاص الذي هو من سنخ التبعة الدنيوية، أكد (عليه السلام) ذلك بعموم رفع القلم عنهما، لبيان نفي كل تبعة عليهما دنيوية كانت أو أخروية. وهو مناسب لما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من عموم رفع القلم لكل عقوبة وتبعة دنيوية وأخروية.

نعم، ذلك لا يختص بخبر أبي البختري، بل خبر أبن ظبيان أظهر فيه لوروده لبيان عدم ثبوت الحد للمجنونة الذي هو من سنخ العقوبة الدنيوية. بل هو مقتضي إطلاق رفع القلم من دون حاجة للتشبث بهذين الخبرين مع ما هما عليه من الضعف، فإن تخصيص رفع القلم بخصوص العقوبة الأخروية يحتاج إلي دليل. أما لو قيل بأن المراد برفع القلم رفع الحكم الإلزامي الموجب للعقاب فالأمر أظهر، لعدم الفرق بين العقوبتين في توقفهما علي المعصية، التي هي فرع ثبوت الحكم الإلزامي.

ص: 140

لكن من الظاهر أن ثبوت الدية ليس من سنخ العقوبة، بل هي نظير ضمان الأموال باليد والإتلاف من باب عدم بطلان دم المسلم وماله، ولذا تثبت مع عدم العدوان، كما في الخطأ، وقد تثبت في حق غير المتلف، كالعاقلة و الإمام. ومن ثم كان الحكم بثبوتها علي العاقلة دون الصبي والمجنون حكماً تعبدياً غير مترتب علي رفع القلم.

كما أنه لا يترتب أيضاً علي تنزيل عمد الصبي منزلة الخطأ، لأن العاقلة لا تحمل كل خطأ، بل خصوص قسم منه وهو الخطأ المحض، دون الخطأ الشبيه بالعمد، ولذا ورد تنزيل عمد الأعمي منزلة الخطأ، مع الحكم بثبوت الدية عليه في ماله، ففي موثق أبي عبيدة:

(سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أعمي فقأ عين صحيح، فقال: إن عمد الأعمي مثل الخطأ. هذا فيه الدية من ماله) (1) .

وأظهر من ذلك نفوذ المعاملات واقعاً والإقرار ظاهراً، حيث لا منشأ لتوهم كونها من سنخ العقوبة، ليشملها حديث رفع القلم بناء علي ما تقدم منه ومنا من عمومه للعقوبة الدنيوية والأخروية. كيف ؟! ولا ريب في لزوم معاملة الولي في حقّ الصبي، مع أنه لو كان لزومها من سنخ العقوبة لنهض حديث رفع القلم برفعه.

نعم، لا يبعد البناء علي ما عدم اختصاص رفع القلم بالعقوبة، بل يعم كل تبعة تثبت علي الإنسان بمقتضي كونه مورداً للمسؤولية والمحاسبة، لقضاء المناسبات الارتكازية بأن رفع القلم في الصبي وأخويه، يبتني علي قصورهم عن مقام المسؤولية والمحاسبة، وذلك يقتضي العموم لما ذكرنا، وهو لو تم يقتضي عدم نفوذ معاملة الصبي ولا إقراره ولا نذره ويمينه وعهده ونحو ذلك، لأن نفوذها في حق موقعها وإن لم يكن عقوبة عليه، إلا أنه يبتني علي تحميله مسؤوليتها وإلزامه بتبعتها، ومحاسبته عليها، فإذا قصر الصبي وأخويه عن مقام المسؤولية والحساب تعين عدم نفوذها عليهم، وعدم تحملهم تبعتها، بخلاف ما يوقعه الولي من المعاملات، فإن نفوذها عليهم لا يبتني علي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 35 من أبواب القصاص في النفس حديث: 1.

ص: 141

كونهم في عملهم بمستوي المسؤولية، بل علي كون وليهم كذلك.

وبذلك ظهر أن الاستدلال بعموم رفع القلم لعدم نفوذ معاملة الصبي لا يخلو عن وجه، لا لما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في وجه ظهور خبر أبي البختري فيه، بل لفهمه من إطلاق رفع القلم بعد تحكيم المناسبات الارتكازية. فلاحظ.

الخامس: النصوص المتضمنة أن عمد الصبي خطأ، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: عمد الصبي وخطؤه واحد) (1) ، وموثق إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه

:(إن علياً كان يقول: عمد الصبي خطأ يحمل علي العاقلة) (2) ، ومعتبر الجعفريات: (قال علي (عليه السلام):

ليس بين الصبيان قصاص، عمدهم خطأ يكون فيه العقل) (3) ، وخبر أبي البختري المتقدم في نصوص رفع القلم، وغيرها.

فقد استأنس بها شيخنا الأعظم (قدس سره) للمقام بدعوي: أن الأصحاب وإن ذكروها في باب الجنايات، إلا أنه لا إشعار في النصوص بالاختصاص بها. ولذا استدل في المبسوط والسرائر بالتنزيل المذكور علي عدم ترتب الكفارة بقيام الصبي بمحظورات الإحرام. وذلك لأن إطلاق التنزيل فيها يقتضي عدم ترتب الأثر علي قصد الصبي قال (قدس سره):

(فكل حكم شرعي تعلق بالأفعال التي يعتبر في ترتب الحكم الشرعي عليها القصد، بحيث لا عبرة بها إذا وقعت بغير القصد، فما يصدر منها عن الصبي قصداً بمنزلة الصادر عن غيره بلا قصد، فعقد الصبي وإيقاعه مع القصد كعقد الهازل والغالط والخاطئ وإيقاعاتهم) .

وقد استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره): تارة: بأن ذلك إنما يتم لو كان التعبير هكذا: عمد الصبي كلا عمد، أما التعبير الذي تضمنته النصوص فهو ظاهر في تنزيل العمد منزلة الخطأ فيما ثبت له من الأحكام، كما في باب الجنايات، من دون أن يدل علي إلغائه رأساً. بل ذكر الحمل علي العاقلة في أكثر هذه النصوص كالصريح في اختصاصه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 11 من أبواب كتاب العاقلة حديث: 2، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 11 من أبواب كتاب العاقلة حديث: 2، 3.

(3) مستدرك الوسائل ج: 18 باب: 33 من أبواب القصاص في النفس حديث: 2.

ص: 142

بالجنايات. ولاسيما وأن استعمال العمد والخطأ في الجناية العمدية والخطئية شايع جداً في نصوص الخاصة والعامة، علي نحو صار كاصطلاح خاص، فمع تردد المراد يكون الكلام من قبيل المجمل.

وأخري: بأن حمله علي عموم عدم ترتب الأثر علي قصده مستلزم لتخصصه في كثير من الموارد، كصلاته وصومه وإفطاره وسفره وإقامته وإحرامه، ونحوها من الأفعال التي تتقوم بالقصد. ومن ذلك عدم بطلان صلاته مثلاً بالإخلال عمداً بغير الأركان، كما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره)، بعد أن ذكر أكثر ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في جواب شيخنا الأعظم (قدس سره).

هذا مضافاً إلي أمرين:

الأول: أن من القريب انصراف تنزيل عمد الصبي منزلة الخطأ إلي ما يناسب الإرفاق به، وهو رفع خصوص آثار العمد التي يكون في رفعها تخفيف علي الصبي وتوسعة عليه، دون بقية الآثار، بحيث يسقط عن الاعتبار رأساً.

الثاني: أن إلغاء الشارع الأقدس عمد الصبي - لو تم - إنما يقتضي عدم ترتب الآثار الشرعية للعمد علي فعله كترتب الكفارة في الإحرام وغيره، دون الآثار واللوازم الخارجية، كما هو الحال في سائر موارد التنزيلالشرعي. ومن الظاهر أن اعتبار القصد والعمد في العقد والإيقاع ليس شرعياً, بل لتوقف تحققهما خارجاً عليه، لتقوم مفهومهما عرفاً بالقصد والعمد، فمع عدمه لا معاملة ولا عقد، لا أنه يتحقق العقد والمعاملة، ولا ينفذان شرعاً، لتوقف نفوذهما علي العمد والقصد.

وإرادة عدم الاعتداد بالعقد والمعاملة المبتنيين علي العمد والقصد من إلغاء القصد والعمد في كلام الشارع الأقدس وإن أمكن، إلا أنه يحتاج إلي عناية، كما لورود لبيان ذلك، ولا مجال لاستفادتها من إطلاق التنزيل، كما في المقام.

والحاصل: أنه لا ينبغي التأمل في قصور النصوص المذكورة عن إثبات المدعي. ولاسيما وأنه قد ورد نظير ذلك في الأعمي - كما تقدم في موثق أبي عبيدة - ولا يظن

ص: 143

وإن كان مميزاً (1) إذا لم يكن بإذن الولي (2). أما إذا كان بإذنه فالصحة لا تخلو من وجه (3)، وإن كانت لا تخلو من إشكال (4).

---------------

بأحد البناء من أجله علي إلغاء، قصد الأعمي رأساً.

والذي تحصل من جميع ما تقدم: أن عمدة الدليل علي عدم نفوذ معاملة الصبي وعقده - بعد الإجماع، بل الضرورة في الجملة - هو الآية الأولي الكريمة، ونصوص عدم جواز أمر الصبي في ماله أو مطلقاً. مضافاً إلي قرب استفادته من عموم رفع القلم بالتقريب الذي ذكرناه له أخيراً.

(1) بأن يدرك مفاد العقد والإيقاع بحيث يتحقق منه القصد لمفادهما. والظاهر عدم الإشكال والخلاف في أنه لا أثر لذلك في صحة العقد. لإطلاق الأدلة المتقدمة. وما تقدم من المحقق الإيرواني عند الكلام في مفاد الآية الأولي التي تقدم الاستدلال بها إنما هو في الرشد الذي هو أخصّ من التمييز.

(2) وهو المتيقن من الإجماع والأدلة المتقدمة.

(3) لما يأتي من قصور الأدلة السابقة عن ذلك.

(4) بل صرح في الخلاف بعدم نفوذ معاملته حينئذٍ، كما لو لم يأذن، وهو الذي جري عليه غير واحد، بل ادعي في الغنية الإجماع علي العموم، وألحقه في الجواهر بالبديهيات التي لا تحسن المناقشة فيها من المتفقه فضلاً عن الفقيه.

لكنه غير ظاهر بعد التأمل في بعض كلماتهم. ولاسيما ما يظهر منها أن المسألة تبتني علي شرعية أفعال الصبي علي أنه لا مجال للتعويل علي الإجماع في مثل هذه المسألة التي لم تحرر إلا في عصر تدوين الفتاوي، ولم يرد فيها نصّ خاص، ليعلم رأي قدماء الأصحاب فيها من ظهور عملهم به. ومن ثم لابد من النظر في أدلة المسألة غير الإجماع مما تقدم التعرض له.

أما الآية الكريمة المتضمنة لابتلاء اليتامي، فهي ظاهرة في عدم دفع أموالهم

ص: 144

إلا بعد البلوغ، والظاهر أن دفع المال إليهم مساوق لاستقلالهم في السلطنة عليها وعلي التصرف فيها، وانقطاع علقة الولي وارتفاع ولايته عليهم وعليها، فإناطته بالبلوغ ظاهر في عدم ثبوت ذلك قبله وبقاء ولاية الولي حينئذ، ولا ينهض بالمنع من تصرف الصبي بإذن الولي وتبعاً لولايته، بل مقتضي إطلاق أدلة المعاملات نفوذه، كما هو الحال في السفيه، حيث لا إشكال في نفوذ تصرفه بإذن الولي إذا رأي في إيكال الأمر إليه في مورد خاص صلاحاً، مع أن البلوغ والرشد قد سيقا في الآية الشريفة في مساق واحد.

وكذا نصوص عدم جواز أمر الصبي مطلقاً أو في ماله. لظهور عدم جواز أمره في عدم استقلاله في التصرف، أما مع إذن الولي فجواز تصرفه راجع لجواز أمر الولي وهو مقتضي ولايته.

وأما حديث رفع القلم بالتقريب المتقدم، فهو إنما يقتضي عدم نفوذ عقده ومعاملته من حيثية التزامه بهما، ولا ينافي نفوذ تصرفه من حيثية كونه في طول التزام الولي به.

أما شيخنا الأعظم (قدس سره) فحيث بني عدم نفوذ معاملته علي عدم تحمله الغرامة والعقوبة الدنيوية والأخروية، وكان عدم تحمله للعقوبة يعمّ حال إذن الولي له، تعين عدم نفوذ معاملته مع إذن الولي، وذلك يناسب عدم ترتب الأثر علي إنشائه، لسلب قصده.

قال بعد أن قرب عموم رفع القلم في خبر أبي البختري للعقوبة والغرامة الدنيوية والأخروية:

(وعلي هذا فإذا التزم علي نفسه مالاً بإقرار أو معاوضة ولو بإذن الولي فلا أثر له في إلزامه بالمال ومؤاخذته به ولو بعد البلوغ، فإذا لم يلزمه شيء بالتزاماته ولو بإذن الولي فليس ذلك إلا لسلب قصده وعدم العبرة بإنشائه، إذا لو كان ذلك لأجل عدم استقلاله وحجره عن الالتزامات علي نفسه لم يكن عدم المؤاخذة شاملاً لصورة إذن الولي، وقد فرضنا الحكم مطلقاً، فيدل بالالتزام علي كون

ص: 145

قصده في إنشاءاته وإخباراته مسلوب الأثر) .

ويظهر ضعفه مما سبق من أن نفوذ الالتزام العقدي والإقرار عليه ليس من سنخ العقوبة، ليكون عموم رفع القلم عن الصبي لصورة إذن الولي مقتضياً لعموم عدم النفوذ لصورة إذنه، ليستلزم ذلك إلغاء قصده شرعاً.

مضافاً إلي أن العقد إذا صدر بإذن الولي فهو وإن كان منسوباً للصبي لمباشرته له، إلا أنه منسوب للولي لتوكيله، وعدم نفوذه من الحيثية الأولي لا ينافي نفوذه من الحيثية الثانية، كسائر تصرفات الولي في حقّ الصبي.

وأما ما سبق منّا في وجه عدم نفوذ عقد الصبي وإقراره من أن رفع القلم يبتني ارتكازاً علي قصوره عن مقام المسؤولية في عمله. فهو إنما يقتضي عدم نفوذ عقده بنفسه، ولا ينافي نفوذه إذا كان منسوباً للولي، لصدوره بإذنه، فإنه يبتني علي مسؤولية الولي بعمله.

نعم، لو تم ما سبق منه (قدس سره) من ظهور ما دل علي أن عمد الصبي خطأ في إلغاء قصده، وعدم الاعتداد بإنشائه، اتجه عدم نفوذ عقده حتي بإذن الولي، إذ هو فرع تحقق العقد منه، ولا عقد شرعاً مع إلغاء القصد. وكذا الحال لو تمّ ما سبق عن بعض الأعاظم (قدس سره) من ظهور رفع القلم بنفسه في ذلك. لكن سبق المنع من الظهورين معاً.

هذا وأما الإقرار فحيث لا يكون إذن الولي موجباً لنسبته له تعين عدم نفوذه من الصبي مطلقاً. بل حتي لو كان منسوباً للولي لا دليل علي إلزام المولي عليه به. غاية الأمر أن يكون حجة في نفسه، لأن من ملك شيئاً ملك الإقرار به، ولحجية إخبار الإنسان عما تحت يده. إلا أن ذلك غير حجيته بملاك الإقرار، بحيث لو ادعي الصبي العلم بخطئه لم تسمع دعواه. وتمام الكلام في ذلك في بحث الإقرار.

هذا وقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن الأدلة وإن لم تنهض بإلغاء إنشاء الصبي إلا أنه لا يجوز له التصرف في ماله مستقلاً حتي بإذن الولي. وكأن مراده بذلك أن يفوض له الولي القيام بالمعاملة من دون إشراف منه عليها، واحاطة بخصوصيتها،

ص: 146

كالوكيل المفوض، بخلاف ما إذا قام الولي بالمعاملة، ووكله في إجراء العقد فقط، فإن المعاملة تصح حينئذٍ - كما صرّح به في فتواه - لعدم الدليل علي إلغاء إنشائه، كما سبق.

ويظهر منه أن الوجه في المنع من استقلاله حينئذٍ ما تضمنته الآية الشريفة من النهي عن دفع المال للصبي، وما تضمنته النصوص السابقة من عدم جواز أمر الصبي في ماله، بحملها علي عدم سلطنته علي ماله، بحيث يتصرف فيه كما يشاء.

لكنه يشكل بأن الآية الشريفة لا تنهض بإثبات ما ذكره: أولاً: لأن دفع المال كناية عن استقلال الصبي بالتصرف في ماله وسلطنته عليه، وانقطاع ولاية الولي عنه، فلا يجوز حبس ماله عنه، فتعليق ذلك علي البلوغ إنما يقتضي بقاء ولاية الولي وعدم استقلال الصبي بالتصرف في المال والسلطنة عليه قبله، وذلك لا يمنع من دفع الولي المال إليه إذا كان بنظره صالحاً لإدارته ورعايته، بحيث يكون تصرف الصبي فيه لولايته عليه، نظير تصرف الوكيل الأجنبي المفوض إذا رآه الولي أهلاً للوكالة التفويضية، فضلاً عما إذا عين له تصرفاً خاصاً، وأوكل إليه اختيار الفرد المناسب له، كما إذا دفع إليه ثمن ثوب وأوكل إليه اختيار البايع الذي يشتريه منه أو اختيار لون الثوب أو جنسه المناسب له أو نحو ذلك.

وإلا فالجمود علي دفع المال في الآية الشريفة، من دون أن يجعل كناية عن انتهاء ولاية الولي، مستلزم لحرمة دفع المال إليه ولو لحفظه أو نقله من مكان إلي أخر، ولقصور الآية عن إثبات عدم نفوذ تصرف الصبي في ماله لو بقي عند الولي، كما إذا باعه وهو عنده، أو تضمن تصرفه جعل مال في ذمته، كما لو أشتري شيئاً نسيئه.

كما أن حمل المنع من دفع المال قبل البلوغ علي المنع من تصرف الصبي في المال حتي لو كان بإذن الولي مستلزم لقصور الآية عن إثبات انتهاء ولاية الولي بالبلوغ، وغاية ما تدل عليه حينئذٍ أن الصبي إذا بلغ جاز دفع المال إليه، ليتصرف فيه، من دون أن ينافي لزوم استئذان الولي لو أراد التصرف فيه، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك.

وثانياً: لأن الذي أنيط بالبلوغ في الآية الشريفة هو وجوب دفع مال الصبي

ص: 147

له، بملاك حرمة حبس ماله عنه بعد كماله، ومقتضي المفهوم حينئذٍ عدم وجوب دفع المال له، لا حرمة دفعه له. نعم لو كان المنوط بالبلوغ هو جواز دفع المال كان مقتضي المفهوم حرمة الدفع. لكنه ليس كذلك قطعاً.

وثالثاً: أن دفع المال كما أنيط في الآية الشريفة بالبلوغ أنيط بالرشد، مع عدم الإشكال ظاهراً في جواز دفع المال للسفيه بعد البلوغ، ليتصرف فيه إذا رأي الولي الصلاح في ذلك ولم يكن فيه تفريط بالمال.

ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من أن الأمر بدفع المال له كناية عن انتهاء ولاية الولي عليه، واستقلاله بالتصرف بعد البلوغ، فتدل بمقتضي المفهوم علي عدم استقلاله فيه، وإن جاز تصرفه فيه بإذن الولي إذا رأي الصلاح في ذلك.

وأما النصوص المذكورة فهي كما ذكره تدل علي عدم سلطنة الصبي علي ماله، بحيث له التصرف فيه كما يشاء، إلا أن نفوذ تصرفه فيه بإذن الولي لا يرجع إلي سلطنته عليه، بل إلي سلطنة الولي، حيث تكون سلطنة الصبي حينئذٍ في طول سلطنته، ومستمدة منه، كسلطنة الوكيل الأجنبي، والنصوص لا تمنع من السلطنة بالوجه المذكور، بل من السلطنة الاستقلالية، لأنها هي الظاهرة من جواز الأمر الذي منعت منه النصوص المذكورة. فهي نظير ما دل عدم جواز بيع الإنسان مالا يملكه(1) ، حيث لا ينافي جواز بيعه له بإذن مالكه وكالة عنه.

وبالجملة: حجر الصبي عن التصرف في أمواله إنما يقتضي عدم استقلاله بالتصرف فيها من دون أن ينافي نفوذ تصرفه بإذن الولي، الذي هو في الحقيقة من تصرف الولي ومن شؤون سلطنته.

نعم، لو لم يبتن إذن الولي علي إعمال سلطنته وولايته بمراعاة صلاح الصبي، بل علي التخلي عنها، نظير إذن الوكيل للموكل في أخذ ماله منه والتصرف فيه بنفسه، أو طلبه منه ذلك، تعين عدم جواز الإذن المذكور، وعدم نفوذ تصرف الصبي تبعاً له،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2.

ص: 148

(149)

لكونه قاصراً محجوراً عليه، من دون أن يستمد سلطنته من الولي. لكنه خارج عن محل الكلام. كما هو ظاهر.

بقي شيء. وهو أن قد يستدل لنفوذ معاملة الصبي بإذن الولي، وعدم إلغاء قصده وعمله - مضافاً إلي العمومات والإطلاقات - بأمور:

الأول: الآية الشريفة المتقدمة حيث تضمنت ابتلاء اليتامي قبل بلوغ من أجل إحراز رشدهم. قال سيدنا المصنف (قدس سره) في نهجه: (والظاهر من الابتلاء الابتلاء بالمعاملات علي الأموال، واختبار رشدهم فيها. وحملها علي الابتلاء بمقدمات العقد خلاف الظاهر).

لكن من الظاهر أن المعاملة ليست بنفسها من أفراد الاختبار ليتمسك بإطلاقه لجوازها، بل هي سبب له، وكما يمكن حصوله بها يمكن حصوله بغيرها، كاستصحاب الطفل عند المعاملة من أجل الإطلاع علي مدي تمييزه المعاملة السفهية من غيرها، وأمره بإجراء المعاملات الصورية بعد الاتفاق مع أطرافها علي إيقاعها قبله أو بعده أو عدم إيقاعها، وإيكال مقدمات المعاملة له، وغير ذلك.

نعم، لو تم تعارف اختبار الطفل بإيكال المعاملة له، كان مقتضي الإطلاق المقامي في الآية جواز ذلك. لكنه يرجع في الحقيقة للاستدلال بالسيرة العقلائية، غاية الأمر أن يدعي استفادة إمضاء السيرة من الآية الشريفة حينئذٍ.

هذا كله إذا كان المراد بالابتلاء اختبار رشدهم المالي. أما إذا أريد به اختبار بلوغهم، كما نسبه كاشف الغطاء (قدس سره) في شرحه علي القواعد إلي ظاهر الأخبار، فيكون أجنبياً عما نحن فيه. نعم لم يتيسر لنا عاجلاً العثور علي الأخبار المذكورة. لكن يكفي في التوقف عن الاستدلال بالآية الشريفة لما نحن فيه الاحتمال المذكور بعد عدم وضوح الدافع له من نفس الآية الشريفة أو من قرينة خارجية.

الثاني: موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عن كسب الإماء، فإنها إن لم تجد زنت، إلا أمة عرفت بصنعة يد، ونهي عن كسب الغلام

ص: 149

الذي لا يحسن صناعة بيده، فإنه إن لم يجد سرق) (1) . فإن تعليل النهي باحتمال السرقة ظاهر في صحة معاملة الصبي ذاتاً، وإلا كان الأولي التعليل ببطلان معاملته. بل مقتضي التقييد بعدم إحسانه صناعة بيده جواز تكسبه بالإجارة علي العمل الذي يقوم به. قال سيدنا المصنف (قدس سره):

(ولو حمل النهي علي الكراهة فالدلالة أظهر) .

لكن ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه محمول علي عوض كسبه من التقاط، أو أجرة عن إجارة أوقعها الولي، أو الصبي بغير إذن الولي، أو عن عمل أمر به من دون إجارة، فأعطاه المستأجر أو الآمر أجرة المثل، فإن هذه كلها مما يملكه الصبي.

وهو كما تري بعيد جداً، كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره). ولاسيما مع سياقه في مساق كسب الإماء، الذي لا إشكال في جوازه ولو بمثل البيع والشراء.

علي أن المراد بعوض كسبه من الالتقاط، إن كان هو الأجرة علي الالتقاط - بأن يستأجره شخص علي أن يلتقط له الحصي أو النوي أو نحوهما - فهو داخل فيما ذكره بعد ذلك من فروض الأجرة. وإن كان هو ثمن ما يلتقطه ويملكه من المباحات الأصلية أو غيرها، فهو يرجع إلي صحة بيعه لما يلتقطه، ومساق كلامه يأباه. وإن كان هو نفس ما يلتقطه ويحوزه من الحصي والنوي والحطب وغيرها، فهو لا يناسب احتمال السرقة الذي تضمنه الموثق. فلاحظ.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من حمله علي ما إذا كان الصبي بمنزلة الآلة للولي في إيقاع المعاملة مع الطرف الآخر. إذ هو إنما يتصور مع ضبط الولي للمعاملة بخصوصياتها وإحاطته بها، ولا مجال لحمل الموثق عليه، لأن احتمال سرقة الصبي إنما يكون مع عدم إحاطة الولي بمعاملاته وتصرفاته. علي أنه لا يناسب سياقه في مساق الأمة التي لا ريب في عموم تكسبها لما إذا لم تكن آلة.

ومن هنا كان الظاهر تمامية الاستدلال بالموثق. وهو لو تم لا يفرق فيه بين المحقرات وغيرها، للإطلاق. ولاسيما مع عدم انضباط المحقرات، حيث يبعد حينئذٍ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 33 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 150

إرادتها من الإطلاق.

الثالث: خبر إبراهيم بن أبي يحيي عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: تزوج رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) أم سلمة. زوجها إياه عمر بن أبي سلمة، وهو صغير لم يبلغ الحلم) (1) . فإنه يدل علي الاعتداد بعقد الصبي وإنشائه، وعدم إلغاء قصده.

لكنه - مع الإشكال في سنده، لاشتماله علي سلمة بن الخطاب، الذي ضعفه النجاشي، فلا ينفع في إحراز توثيقه كونه من رجال كامل الزيارات - مختص بالعقد الذي يجريه لغيره وكالة عنه، ولا ينفع في تصحيح عقده لنفسه، فضلاً عما يتعلق منه بماله، ولم يثبت عدم الفصل في المقام، خصوصاً بعد ما سبق من بعض مشايخنا (قدس سره). نعم لو كان الوجه في عدم صحة عقده إلغاء قصده كان منافياً للخبر المذكور.

الرابع: السيرة التي ادعاها غير واحد. قال سيدنا المصنف (قدس سره): (والظاهر أنها ليست مورداً للتشكيك. إذ لا يحتمل عدم مداخلة الصبيان المميزين في أمر المعاملات في عصر المعصومين (عليهم السلام). كيف ؟! وقد استقرت علي ذلك سيرة العقلاء، إذ لا يفرقون في جواز المعاملة مع المميزين بين من بلغ الخمس عشرة سنة ومن لم يبلغها إلا بعد أيام أو ساعات. غاية ما ثبت الردع عن بنائهم علي استقلالهم في التصرف، فيبقي جواز التصرف بإذن الولي بحاله بلا رادع).

وقد استشكل شيخنا الأعظم (قدس سره) في التعويل علي السيرة المذكورة بقوة احتمال كونها ناشئة من التسامح في الدين، علي نحو ما سبق منه من الإشكال في التعويل علي السيرة في العقد بالمعاطاة. وقد سبقه إلي ذلك في الجواهر. والظاهر اندفاعه علي نحو ما سبق هناك بتفاصيله. فراجع.

نعم، أيّد (قدس سره) ابتناء السيرة علي التسامح في الدين بعمومها للمميزين وغيرهم، بل للمجانين، بل تعم ما إذا استقلوا بالتصرف بحيث لا يعلَم الولي.

لكن عمومها لغير المميزين والمجانين إن ابتني علي كونهم آلة لأوليائهم في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 16 من أبواب عقد النكاح حديث: 1.

ص: 151

إيصال العوض للطرف الآخر، مع توليه بنفسه طرفي العقد، فلا محذور فيه. وإن ابتني علي إيقاع المعاملة معهم، فهو مما تأباه مرتكزات العقلاء ويتجنبه المتدينون، ولا يقدم عليه غير المتسامحين، ممن لا عبرة بسيرتهم وليس هو كالتعامل مع المميزين المأذونين مورداً لسيرة المتدينين.

وأما عمومها لما إذا استقلوا بالتصرف من دون علم الولي، فإن أريد به استقلالهم في إجراء المعاملات مع إذن الولي لهم بذلك فلا محذور فيه، ولا ينكشف عن ابتناء السيرة علي التسامح في الدين. وإن أريد به استقلالهم من دون إذن الولي، فهو أمر يختص بالمتسامحين أيضاً، ولا يقدم عليه المتدينون الملتزمون، وليس كالتعامل مع المأذون مورداً لسيرة المتدينين.

وإذا أمكن التشكيك في تدين المتعامل مع الصبي، للالتباس ببعض الصور المتقدمة، فلا مجال للتشكيك في تدين الأولياء الذين يأذنون للصبيان في تولي المعاملات، ويرتبون الأثر علي المعاملة التي قد أذنوا لهم في القيام بها. فإن فيهم من هو في الدرجة العليا من الدين والمعرفة، ولو لم يستعينوا بالصبيان لاضطربت أمورهم.

والحاصل: أن قيام سيرة المتشرعة المتدينين علي التعامل مع الصبي بإذن الولي من الوضوح بحيث لا يمكن التشكيك فيه، فضلاً عن إنكاره. كما أن السيرة المذكورة من أقوي الأدلة علي صحة التعامل معهم بإذنه.

بل الإنصاف أن إسقاط قصد الصبي وإنشائه بعيد عن الاعتبار وعن سليقة الشارع الأقدس، لما فيه من توهين الصبي، وتحطيم معنوياته، وسدّ طريق النمو والتكامل عليه، بنحو لا يناسب تهيئته للاستقلال بالتصرف بعد البلوغ وتحمل المسؤولية الكاملة. وهذا بخلاف إيكال أمره للولي، فإنه أمر مقبول ارتكازاً، كسائر شؤون التربية، المبنية علي التلقي من الكبار والاستفادة من تجاربهم وخبراتهم. فلاحظ.

هذا وبعد وضوح السيرة المذكورة فقد حاول غير واحد منع الاستدلال به

ص: 152

علي عموم صحة عقد الصبي لوجوه:

الأول: ما في الرياض من قصرها علي ما إذا كان الصبي بمنزلة الآلة لمن له أهلية التصرف، وكأن المراد به كونه آلة للولي في إيصال المال للطرف الآخر للمعاملة، مع إيقاع الولي بنفسه لإيجاب العقد - بناء علي ما سبق من جواز الفصل بين الإيجاب القبول - أو مع الإذن للطرف الآخر في تولي طرفي العقد، فيكون موجباً عن نفسه قابلاً عن الولي أو بالعكس، كما يظهر من كاشف الغطاء في شرحه علي القواعد.

لكن الأول موقوف علي قصد الولي إنشاء إيجاب العقد بتسليم المال للصبي، وعلي إحاطته بخصوصيات العقد من الثمن والمثمن وغيرهما. وكلاهما فرض محض، أو نادر الوقوع، فلا مجال لقصر السيرة عليه.

والثاني - مع توقفه علي قصد الولي التوكيل بالنحو المذكور، الذي هو كسابقه - إنما يتجه فيما إذا لم يكن الصبي مميزاً للمعاملة، أما مع تمييزه لها فالظاهر حصول التعامل معه، خصوصاً إذا أعمل نظره في اختيار البايع أو في خصوصيات المبيع أو ماكس في الثمن، حيث لا ريب حينئذٍ في كونه بنفسه طرفاً في المعاملة، وابتناء حال الولي معه علي الإذن له بذلك، لا علي خصوص الإذن له بإيصال المال للطرف الآخر.

الثاني: تخصيص ذلك بالمحقرات، لدعوي أنها مورد السيرة، التي هي الدليل في المقام. لكنه في غاية المنع، لأن غلبة اقتصارهم علي المحقرات ليس لبنائهم علي المنع من قيام الصبي بالتعامل في غيرها ارتكازاً، بل لغلبة قصوره عن الإحاطة بغيرها، ولذا يختلف الأطفال تبعاً لاختلاف أعمارهم وإدراكهم في مقدار أهمية المعاملات التي يقومون بها. ولو فرض نضوج الصبي وحسن استيعابه للمعاملات المهمة لم يتوقفوا عن إيكالها له. كما هو ظاهر.

وأضعف من ذلك ما قد يظهر مما عن الكاشاني (قدس سره) من أن الدليل في المحقرات ليس هو السيرة، بل لزوم الحرج من تجنب المعاملات معهم فيها، إما لشدة الحاجة لهم فيها لكثرة الابتلاء بها، فلو اقتصر فيها علي البالغين لضاقت أوقاتهم عنها، أو لأنه بعد

ص: 153

(154)

وكذا إذا كان تصرفه في غير ماله بإذن المالك (1).

(الثاني): العقل، فلا يصح عقد المجنون (2)

---------------

تعارف قيام الصبيان بها يصعب تجنب التعامل معهم.

إذ فيه: أن دليل الحرج لا ينهض بإثبات مشروعية المعاملة وصحتها إذا لم تنهض الأدلة الأخر بذلك. مع أنه لم يتضح الوجه في إهمال الاستدلال بالسيرة مع ظهور ما سبق عنه في المفروغية عنها.

الثالث: أن ذلك يختص بالمعاطاة المبنية علي الإباحة من دون ملك، والتي يكفي فيها الإذن في التصرف المحرز من تولي الطفل، دون العقد المملك.

ويظهر ضعفه مما سبق من أن المعاملة المعاطاتية عقد مملك، بل لازم، كسائر العقود. وغلبة وقوعها من الطفل تبتني علي غلبة إيقاع العقود بالمعاطاة، من دون خصوصية الصبي في ذلك، لا لاختصاص الجواز في حق الصبي بها ارتكازاً.

ومن هنا كان الظاهر نهوض السيرة بإثبات صحة معاملة الصبي بإذن الولي مطلقاً، وكونها عاضدة للعمومات القاضية بها. بل هي أقوي منها، لكونها قطعية المفاد.

(1) لعموم السيرة المتقدمة لذلك. بل هو داخل في المتيقن منها. مضافاً إلي إطلاق الأدلة القاضية بنفوذ العقد من المأذون والوكيل، بعد ما سبق من عدم الدليل علي إلغاء قصد الصبي وعقده. ومنه يظهر صحة عقده وإيقاعه - لنفسه بإذن الولي، ولغيره بإذنه - في غير الماليات، كالنكاح والطلاق.

(2) قال في الجواهر:

(لا أجد فيه خلافاً، بل الإجماع بقسميه عليه، بل الضرورة من المذهب، بل الدين. لا لعدم القصد، فإنه قد يفرض في بعض أفراد الجنون، بل لعدم اعتبار قصده، وكون لفظه كلفظ النائم، بل أصوات البهائم. وهو المراد من رفع القلم عنه وعن الصبي في الخبر، مع أن العمومات التي اغتر بها من عرفت في الصبي

ص: 154

(155)

إذا كان قاصداً إنشاء البيع (1).

(الثالث): الاختيار فلا يصح بيع المكره (2).

---------------

شاملة لبعض أفراده إن لم يكن جميعها) .

لكن المتيقن من الإجماع غير القاصد، الذي لا عقد له في الحقيقة. أما مع القصد فلا مانع من البناء علي صحة عقده مع إذن الولي عملاً بالعمومات التي أشار إليها. وإلغاء قصده خال عن الدليل. وقد سبق المنع من حمل رفع القلم عليه.

نعم، لا مجال للاستدلال علي صحة عقده حينئذٍ بالسيرة، لعدم شيوع الابتلاء بذلك وعدم ظهوره، بحيث يكون دليلاً في المقام. فينحصر الدليل علي صحة عقده حينئذٍ بالعمومات. وكأن مراد سيدنا المصنف (قدس سره) عدم صحة عقده في نفسه من دون إذن الولي، كما يناسبه ما ذكره في كتاب الإجارة من مستمسكه من قصور أدلة المنع عن صورة إذن الولي.

(1) أما إذا لم يكن قاصداً فلا عقد منه، ليقع الكلام في صحته.

(2) بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه، بل الضرورة من المذهب. كذا في الجواهر. ولا إشكال ظاهراً في عدم اختصاص ذلك بالبيع، بل يجري في غيره من العقود والإيقاعات ونحوها. وقد استدل علي عموم ذلك أو يستدل عليه - بعد الإجماع المذكور - بأمور:

الأول: عموم رفع الإكراه المستفاد من أحاديث الرفع المتقاربة الألسنة. كصحيح حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ والنسيان، وما كرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه... ) (1) ، لظهوره في رفع تبعة الفعل والتكليف، وما يكون من شؤون المسؤولية المترتبة عليهما، نظير ما تقدم في حديث رفع القلم، فيعمّ العقوبة الأخروية، والدنيوية - بمثل الحد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 56 من أبواب جهاد النفس حديث: 1.

ص: 155

والتعزير - وغيرها مما هو من سنخ التبعة وشؤون المسؤولية كالكفارة، والنفوذ في العقد والإيقاع والإقرار واليمين ونحوها، دون مثل النجاسة والحدث اللذين هما من سنخ الآثار الوضعية المحضة، وتحريم الحيوان مع الخطأ في التذكية المسبب عن صيرورته ميتة، والضمان الثابت بملاك تدارك خسارة المضمون له، ووجوب الإعادة والقضاء عند الخطأ في الامتثال الثابت بملاك امتثال التكليف الواقعي، وغير ذلك مما لا يبتني علي تحميل الإنسان تبعة عمله ومسؤوليته به ومحاسبته عليه.

ويشهد لما ذكرنا من عموم الحديث لغير العقوبة الأخروية وشموله لمثل نفوذ العقد والإيقاع صحيح صفوان والبزنطي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام):

(في الرجل يستكره علي اليمين، فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك ؟. فقال: لا. قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): رفع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا) (1) .

قال شيخنا الأعظم (قدس سره) في بحث أصل البراءة من فرائده:

(فإن الحلف بالطلاق والعتق والصدقة وإن كان باطلاً عندنا مع الاختيار أيضاً، إلا أن استشهاد الامام (عليه السلام) علي عدم لزومها مع الإكراه علي الحلف بها بحديث الرفع شاهد علي عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة) .

الثاني: ما دل علي عدم حلّ مال المسلم إلا بطيب نفسه، مثل ما رواه زيد الشحام في الصحيح وسماعة في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) من خطبة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في مني، وفيها:

(ألا من كانت عنده أمانة فليؤدها إلي من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه) (2) ، بتقريب عدم طيب النفس بالشيء مع الإكراه عليه.

وقد استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره) بأن قصد المكره لمضمون المعاملة لا يكون إلا عن إرادته له ورضاه به، وهو عين طيب النفس به. ودعوي: أن الرضا به ليس لنفسه، بل لتجنب ضرر المكره والتخلص من شره. مدفوعة بأن الرضا الذي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من أبواب كتاب الإيمان حديث: 12.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 1 من أبواب القصاص في النفس حديث: 3.

ص: 156

يتوقف عليه حلّ المال ليس خصوص الرضا ببذله لنفسه، بل الأعم من ذلك ومما إذا كان من أجل دفع مفسدة أهم من حفظ المال والتمسك به، كما لو باع الشخص ماله ليداوي به مريضه، أو يتخلص به من شر نزل به.

لكن الإنصاف هو انصراف الرضا وطيب النفس في الأدلة عن الرضا الناشئ من الإكراه. ولعله لورود الأدلة المذكورة لبيان حرمة من يعتبر رضاه بنظر الشارع الأقدس المناسب لعدم الاكتفاء برضاه الناشئ من التعدي عليه بالإكراه وإلزامه بما لا يريد. وليس هو كالرضا الحاصل له من أجل دفع مفسدة أهم غير ضرر المكره، فإن الاكتفاء بالرضا المذكور لا ينافي حرمته، بل مقتضي حرمته إيكال أمر ماله إليه، فله اختيار ما يره الأنسب بحاله، والترجيح فيه بين الدواعي المختلفة.

هذا وقد جري (قدس سره) علي ما ذكرنا في آية التجارة عن تراض، لدعوي: أن التجارة لما كانت من العقود المبنية علي القصد، ولا يقدم موقعها عليها إلا وهو قاصد لها راض بها، فتقييدها بالرضا لا بد أن يكون بلحاظ أمر زائد علي ذلك، وهو الرضا المقابل للإكراه. ومن ثم جعل (قدس سره) الآية الشريفة من أدلة المسألة، بل عمدة أدلتها.

ومقتضي ما ذكره أن الرضا قد يستعمل بمعني يقابل الإكراه. وحينئذٍ كما يحمل عليه في الآية الشريفة من أجل أصالة كون القيد احترازياً لا تأكيدياً، فليحمل عليه في الحديث المتقدم بقرينة وروده مورد الاحترام للمسلم، كما هو المستفاد منه عرفاً.

نعم، قد يدعي اختصاص الحديث الشريف بالحرمة التكليفية المتعلقة بالتصرفات الخارجية، كحبس مال الأمانة وأكله، التي هي المتيقن من مورد الحديث، دون الحرمة الوضعية الراجعة للفساد وعدم ترتب الأثر، والتي تتعلق بالتصرفات الاعتبارية التي هي محل الكلام، كالبيع وغيره من العقود والإيقاعات، إذ لا أقل من عدم وضوح الجامع بين الحرمتين.

لكن من القريب جداً استفادة العموم، فإنه لو لم يكن مقتضي إطلاق الحديث المتقدم فلا أقل من فهمه منه بضميمة إلغاء الخصوصية عرفاً، ولو من أجل وروده في

ص: 157

مقام بيان احترام المسلم شرعاً. فلاحظ.

بقي شيء. وهو أن ما سبق من سيدنا المصنف (قدس سره) يبتني علي المفروغية عن كون المكره قاصداً لمعني اللفظ، وهو إنشاء المضمون الذي يكره عليه، كما صرح به هو (قدس سره) بعد ذلك، وسبقه إليه شيخنا الأعظم (قدس سره). وهو الذي أصرّ عليه في كتاب الطلاق من الجواهر.

لكن منع من ذلك في كتاب البيع من الجواهر، تبعاً لما يبدو من كلام الشهيدين في الدروس والمسالك، بل محكي كلام العلامة في مبحث الطلاق من التحرير. وإن أصر شيخنا الأعظم (قدس سره) علي توجيه كلمات العلامة و الشهيدين بحمل القصد المنفي فيها علي ما يساوق الرضا، لا علي قصد الإنشاء الذي هو محل الكلام.

ولا يهم تحقيق مرادهم، وإنما المهم في المقام أنه لا ينبغي التأمل في عدم منافاة الإكراه للقصد إلي إنشاء العقد. ومن ثم يصدق عنوان العقد والإيقاع المكره عليه. ولذا سئل عن حكمه في النصوص، وينفذ إذا كان الإكراه بحق أو تعقبته الإجازة بالنحو الذي يصح به عقد الفضولي... إلي غير ذلك مما يتوقف علي قصد إنشاء المضمون من المكره. وأما كراهته له فهي لا تنافي الإقدام علي إنشائه حذراً من الضرر المتوعد به، كما في سائر موارد الدوران بين محذورين.

الثالث: ما ورد في خصوص بعض المعاملات، كقوله تعالي

:(ولا تكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض) (1) ، حيث تقدم قريباً أن التقييد بالتراضي ظاهر في مانعية الإكراه. والاستثناء في المقام وإن كان منقطعاً، لخروج التجارة عن الباطل، إلا أن الاستثناء المنقطع دال علي الحصر أيضاً، لرجوعه إلي كون المستثني منه هو الأعم من المستثني والمستثني منه الملفوظ، فإذا قيل: ما في الدار رجل إلا حمار كان ظاهراً في نفي مثل البقرة أيضاً.

نعم، لابد من البناء علي كون الحصر في الآية الشريفة إضافياً - كما سبق في

********

(1) سورة النساء آية: 29.

ص: 158

المسألة الثالثة من مقدمة كتاب التجارة - للعلم بحلية أكل المال بوجوه أخر غير التجارة كالإجارة والمضاربة والصلح والهبة والصدقة وغيرها. لكنه لا يمنع من ظهور الآية في الحصر بالإضافة للتجارة لا عن تراض، لأنها المتيقن عرفاً من الحصر الإضافي في المقام.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الآية الشريفة في اشتراط التراضي في صحة التجارة، لا من جهة مفهوم الوصف، بل لخصوصية الاستثناء الظاهر في الحصر.

وكذا ما في غير واحد من النصوص من عدم صحة طلاق المكره وعتقه، كصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): (سألته عن طلاق المكره وعتقه. قال:

ليس طلاقه بطلاق، ولا عتقه بعتق) (1) ، وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام):

(سألته عن عتق المكره. قال: ليس عتقه بعتق) (2) ، وموثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: كل طلاق جائز، إلا طلاق المعتوه، أو الصبي، أو مبرسم، أو مجنون، أو مكره) (3) وغيرها.

ومثلها ما تضمن عدم انعقاد اليمين مع الإكراه. كمعتبر الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلي المأمون، قال:

(والتقية في دار التقية واجبة، ولا حنث علي من حلف تقية يدفع بها ظلماً عن نفسه) (4) ، وغيره.

وهذه الأدلة وإن وردت في موارد متفرقة، إلا أنه قد يستدل بها علي العموم المدعي بضميمة عدم الفصل. لكنه يشكل بأن عدم الفصل لم يثبت بنحو يكون في مقابل الإجماع المشار إليه آنفاً، ليكون دليلاً آخر في قباله، كما أشار لذلك في الجملة سيدنا المصنف (قدس سره).

وبعبارة أخري: لم يتضح أن في المقام إجماعان: الإجماع علي عموم عدم نفوذ تصرف المكره، والإجماع علي الملازمة بين الموارد، وعدم الفصل بينهما، بحيث لو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 37 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 19 من أبواب كتاب العتق حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 34 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من أبواب الأيمان حديث: 10.

ص: 159

(160)

وهو من يأمره غيره (1)

---------------

نفذ في بعضها نفذ في الجميع، ليكون الإجماع الثاني متمماً لدليلية الأدلة المتقدمة علي العموم، بل المتيقن هو الإجماع الأول لا غير.

نعم، لا يبعد استفادة العموم منها بإلغاء خصوصية مواردها، لفهم عدم دخلها، وأن الحكم فيها يبتني علي عموم القضية الارتكازية بعدم تحمل الإنسان تبعة التزامه الثابتة عليه بمقتضي مسؤوليته إلا إذا كان مختاراً في الالتزام المذكور، وأقدم عليه بنفسه، دون ما إذا كان قد أكره عليه عدواناً، بنحو ينافي حرمته وسلطنته علي نفسه وماله.

بل لا يبعد كون وضوح القضية الارتكازية المذكورة موجباً لانصراف أدلة النفوذ الشرعية في جميع المعاملات، بحيث تقصر عن صورة الإكراه، لما هو المرتكز من جري الأدلة المذكورة علي المرتكزات العرفية من إلزام الإنسان بالتزاماته ونفوذها عليه بلحاظ سلطنته علي نفسه وماله، فتقتصر عن الموارد التي لا يري العرف إلزامه بها، ومنها مورد الإكراه حيث لا يستقل الموقع للمعاملة بإعمال سلطنته فيه، ويتعدي عليه بإكراهه وإلزامه. وحينئذٍ لا يحتاج في عدم نفوذ معاملة المكره إلي دليل يتضمن مانعية الإكراه، لينظر في عمومه أو خصوصه، بل يكفي فيه عدم المقتضي بسبب قصور أدلة النفوذ. فلاحظ.

(1) كما هو مقتضي تفسير الإكراه بحمل الغير علي ما يكره في كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره. وهو المفهوم منه عرفاً، والظاهر من كلام غير واحد من اللغويين. فإن الحمل من الغير لا يتم إلا بطلبه وحثه علي العمل ويترتب علي ذلك عدم تحقق الإكراه في موارد:

الأول: ما لو أقدم علي العمل خوفاً من الغير من دون يأمره به، كما لو باع داره خوفاً من مصادرة السلطان لها، لحاجته لها، أو حسداً منه لصاحبها، أو لغير ذلك. وأظهر من ذلك ما إذا لم يكن الضرر المخوف من شخص خاص، كما لو باع

ص: 160

(161)

بالبيع المكروه له (1)،

---------------

الدابة خوفاً عليها من الموت أو المرض، أو خوفاً من إيذائها له أو شؤمها عليه، أو من تنكيل الله تعالي به لتميزه عن أقرانه المؤمنين أو غير ذلك له، فإن الإكراه لا يصدق في جميع ذلك، حتي لو كان الفعل الذي يقدم عليه مكروهاً له في نفسه، ولا يقدم عليه لولا خوف الضرر المذكور. ومن هنا يتعين نفوذ المعاملة بعد الرضا بها وعدم صدق الإكراه.

الثاني: ما إذا تحقق الأمر من الغير مع الوعيد، إلا أنه لم يكن هو الحامل للمأمور علي القيام بالعمل، إما للجهل بصدور الأمر المذكور، أو مع العلم به لكن كان الداعي للإقدام علي العمل أمراً آخر، بحيث يصلح للاستقلال بالداعوية. لظهور أن حمل الغير لا يصدق بمجرد أمره ووعيده، بل لابد من كونه هو الداعي الحامل للإقدام علي العمل. ومن ثم يتعين صحة المعاملة هنا أيضاً.

الثالث: ما إذا أقدم علي العمل لتخيل صدور الأمر والوعيد من شخص يخاف منه من دون أن يحصل ذلك واقعاً، لظهور أن الإكراه لا يصدق بمجرد تخيله. نعم ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن المتعين حينئذٍ بطلان المعاملة، لعدم طيب النفس بها. وهو المناسب لما سبق منا من أن المراد بطيب النفس ليس مطلق الرضا الملازم للإقدام علي الإنشاء، بل رضا خاص لا يتحقق إلا مع الرضا بالمعاملة من دون إكراه. ومثل هذا الرضا كما لا يحصل مع الإقدام عن الإكراه الواقعي لا يحصل مع الإقدام عن تخيل الإكراه.

ومنه يظهر انه لو فرض المنع من الاستدلال في المقام لاعتبار الرضا بالوجه المذكور في صحة المعاملة بما دل علي عدم حلّ مال المسلم إلا بطيبة نفسه، لدعوي أن المتيقن منه حلّ التصرفات الخارجية تكليفاً، كما سبق الكلام فيه، كفي في الاستدلال عليه آية التجارة عن تراض، لما سبق من لزوم حملها علي خصوص الرضا المذكور.

(1) مقتضي ما سبق في تعريف الإكراه اعتبار كون موضوعه مكروهاً، كم

ص: 161

ذكره (قدس سره) وتكرر في كلماتهم. لكنه لا يناسب ما هو المعلوم من صدق الإكراه في مورد الحرمة التكليفية وارتفاعها به، مع أن المكره عليه قد يكون محبوباً في نفسه للمكره، كما لو أكره علي عمل محرم يحبه ويود القيام به لولا حرمته.

وقد ادعي سيدنا المصنف (قدس سره) صدق الكراهة في جميع موارد الإكراه وإن اختلف معيار صدقها باختلاف الأفعال المكره عليها. فإن كان المكره عليه مما لا اقتضاء فيه شرعي فالكراهة إنما تكون بلحاظ الجهات النفسانية والدواعي الجبلية، كما في المعاملات، ويكون الرفع فيها للحكم الوضعي، كالنفوذ والصحة. وإن كان الفعل المكره عليه مما فيه اقتضاء شرعي، كما لو كان محرماً شرعاً فالكراهة إنما تكون بلحاظ الاقتضاء الشرعي، لابتناء الاقتضاء الشرعي علي إلغاء نظر المكلف ودواعيه النفسانية.

قال (قدس سره):

(بل هناك قسم ثالث لا تكون فيه الكراهة المأخوذة في موضوع الإكراه بلحاظ الاقتضاء الشرعي ولا بلحاظ الدواعي النفسانية، وذلك كما في إكراه الولي علي بيع مال الصبي، فإن الإكراه الرافع للصحة فيه إنما هو بلحاظ مصلحة الصبي، فإذا كانت مصلحة الصبي في ترك البيع فأكره عليه كان باطلا وإن لم يكن مكروهاً بلحاظ دواعي الولي النفسانية، ولا بلحاظ مناط الحكم الشرعي الاقتضائي. وإن كان البيع مصلحة للطفل كان صحيحاً، وإن كان مكروهاً للولي بلحاظ دواعيه النفسانية، فإذاً الكراهة التي هي شرط صدق الإكراه يختلف النظر في تطبيقها باختلاف المقامات الثلاث) .

ويشكل - بعد الفراغ عن أن المراد بالاقتضاء الشرعي، خصوص الإلزامي وهو التحريم - بأن جعل الشارع الأقدس للتحريم ولولاية الولي من أجل مصلحة المولي عليه، وإن اقتضي عدم العمل علي الرغبات النفسية والدواعي الجبلية علي خلافهما، إلا أنه لا يرجع إلي التصرف في تطبيق الكراهة، وحملها علي ما يساوق الحكم الشرعي ومصلحة المولي عليه، دون الرغبات والدواعي المذكورة.

ص: 162

ولاسيما وأن تفسير الإكراه بأنه حمل الغير علي ما يكره ليس شرعياً، ليدعي أن مراد الشارع من الكراهة فيه هو المعني العرفي في غير مورد الجعل الشرعي، وما يساوق التحريم الشرعي في مورده، وما يساوق مصلحة المولي عليه في باب الولايات، وإنما هو تفسير عرفي، ومن الظاهر أن مراد العرف من الكراهة معناها العرفي، وهو الكراهة بلحاظ الجهات النفسية والدواعي الجبلية للمكره، ولا معني لتصرف الشارع في ذلك.

وأشكل من ذلك ما ذكره (قدس سره) من أن إقدام المكرَه علي الفعل المكره عليه مع كراهته له حيث يكون فراراً عن المحذور الأهم الذي يوقعه به المكرِه، ففي موارد التحريم الشرعي لابد أن يكون المحذور الأهم الذي يسوّغ الإقدام علي الحرام هو الوقوع في محرم آخر أهم.

إذ فيه: أنه لا ريب في جواز إقدام المكلف علي الحرام مع الإكراه في الجملة دفعاً للضرر الذي يوقعه به المكرِه وإن كان الضرر المذكور مما يجوز تحمله، كالضرب الشديد والسجن. وحرمة إيقاعه علي المكرِه لكونه تعدياً منه علي المكرَه نفسه، ليكون إقدامه علي المحرم المكره عليه دفعاً للمحذور الأهم. ومن ثم لا يتضح ما ذكره قده سره في توجيه تطبيق الكراهة في موارد الجعل الشرعي، بالتحريم التكليفي، أو بجعل الولاية علي الغير.

نعم، قد يكون التحريم الشرعي موجباً لكراهة المحبوب حقيقة بجهة ثانوية. لكنه لا يطرد، مع أنه لا ريب في عموم رفع الإكراه لجميع موارد القهر والحمل من الغير الذي يخشي من مخالفته الضرر وإن لم يكن الأمر الذي يحمل عليه مكروهاً فعلاً.

ومن ثم كان من القريب جداً عدم توقف صدق الإكراه علي كون الأمر المكره عليه مكروهاً للمكره ومبغوضاً له، بل المعيار في صدقه الحمل علي الفعل والقسر عليه، بحيث لا يستقل المكره باختياره وإعمال سلطنته فيه، فيكون صدق

ص: 163

الإكراه بلحاظ القسر المذكور، لا بلحاظ كراهة نفس الفعل، كما يناسبه مقابلة الكره بالطوع في مثل قوله تعالي: (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون)(1) ، وقوله سبحانه:

(ثم استوي إلي السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) (2) وغيرهما. وإن كان تحديد المفهوم اللغوي مع اختلاف وجوه استعمال مادة الكره في غاية الإشكال.

والعمدة في المقام كون ذلك هو المفهوم عرفاً، ولو بضميمة ارتكاز أن رفع الإكراه إنما هو من أجل مراعاة حرمة المكرَه واحترام سلطنته وعدم تحميله مسؤولية عمله إذا لم يستقل بإعمال سلطنته فيه وباختياره له، فإن ذلك يناسب كون المعيار الحمل من الغير والإلجاء منه من دون خصوصية لنحو علاقته بالفعل وحبه إياه أو كراهته له.

نعم، لو كان له حين الإكراه داع لإيقاع المعاملة غير الإكراه، صالح للاستقلال بالداعوية لإيقاعها، فأوقعها بذلك الداعي صحت، لاستقلاله في إعمال سلطنته، كما سبق.

وبما ذكرنا يتجه عموم الرفع للمحرمات المكره عليها وإن لم تكن مبغوضة للمكرَه، بلا حاجة إلي ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من الوجه، وكذا للمعاملات المكره عليها وإن لم تكن مبغوضة للمكره، لعدم توجهه إليها حين الإكراه، ليتحدد موقفه النفسي منها، أو لتوجهه إليها وعدم رجحان أحد الأمرين من وجودها وعدمها في نفسه، وكذا لمعاملة الولي عن المولي عليه وإن كانت محبوبة للولي إذا لم يكن من وظيفته إيقاعها، لعدم كونها صلاحاً للمولي عليه، أو لعدم وضوح حالها في حقه. كل ذلك لخلوها عن الاستقلال في إعمال السلطنة بسب الإكراه.

وبذلك يظهر أنه لو أكره الولي علي إيقاع المعاملة عن المولي عليه، وهو لا يحرز

********

(1) سورة آل عمران آية: 83.

(2) سورة فصلت آية: 11.

ص: 164

(165)

علي نحو يخاف من الإضرار به لو خالفه (1)،

---------------

صلاحها في حق المولي عليه لم تصح واقعاً، وإن كانت في الواقع صلاحاً للمولي عليه لعدم استقلاله في إعمال سلطنته عليها بمقتضي ولايته.

غاية الأمر أنه إذا ظهر له بعد ذلك كونها صلاحاً للمولي عليه أمكن له إجازتها، بناء علي ما يأتي إن شاء الله تعالي من صحة معاملة المكره بالإجازة، ولا تصح بدون ذلك.

(1) فإن حمل الغير علي العمل الذي تقدم أخذه في تفسير الإكراه، وإن كان يصدق بمجرد طلب الغير له منه وحثه إياه عليه، إلا أن الإكراه لا يصدق عرفاً بذلك إلا مع خوف الضرر من التخلف عنه وعدم الاستجابة له، بحيث يبتني الطلب علي القسر والالجاء. فلو أمن المأمور من الضرر، وإنما حمله علي الموافقة للآمر حبه له أو تحببه إليه أو حسن مخالطته ومعاشرته أو نحو ذلك مما لا يرجع إلي خوف إيقاعه الضرر به لم يصدق الإكراه عرفاً. وأظهر من ذلك ما إذا كانت الاستجابة طمعاً في الجزاء وترتب النفع مع الوعد به مسبقاً أو بدونه، كما لعله ظاهر.

هذا وفي خبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: لا يمين في غضب ولا في قطيعة رحم، ولا في جبر ولا في إكراه. قلت: أصلحك الله، وما الفرق بين الجبَر والإكراه ؟ قال: الجبَر من السلطان، ويكون الإكراه من الزوجة والأم والأب. وليس ذلك بشيء) (1) .

ومن الظاهر أن الإكراه من الزوجة والأبوين، قد لا يبتني علي الإضرار، بل علي سوء المعاشرة والإلحاح، والانفعال النفسي الذي لا ينبغي للولد إلحاقه بأبويه، من دون أن يصدق الإضرار عرفاً. بل مقابلة الإكراه بالجبر وتفسير الجبر بما يكون من السلطان، المنصرف إلي ما يستتبع الإضرار، يناسب كون المراد بالإكراه ما ل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 16 من أبواب الأيمان حديث: 1.

ص: 165

يستتبع الإضرار.

لكن الخبر - مع ضعفه في نفسه، لأن في طريقه عبد الله بن القاسم المشترك بين الموثق والضعيف والمجهول - لابد من الاقتصار فيه علي مورده، وهو اليمين، لظهور أن الإكراه يعمّ ما يقع من السلطان ويستتبع الضرر الفادح، وليس مقابلاً للجبر الحاصل من السلطان، كما تضمنه الخبر.

ولاسيما بملاحظة مثل قوله تعالي: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي...)(1). وقوله سبحانه: (أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين)(2) ، وقوله عز وجل: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)(3) ، وقوله جل شأنه حكاية عن السحرة مع فرعون: (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر)(4) ، وقوله عز اسمه: (ولا تكرهوا فتياتكم علي البغاء إن أردن تحصنا)(5) ، لظهور أن حمل المولي للأمة يبتني علي التخويف، نظير حمل السلطان للرعية.

بل مادة الكره بالفتح تناسب القسر، ولذا تقابل بالطوع كما في كثير من الآيات الشريفة، وهو مناسب لحمل الإكراه علي الدفع نحو المطلوب من طريق التخويف بالضرر الفادح، بحيث يشبه القسر الرافع للاختيار. ومن ثم لا مجال للخروج بالخبر المتقدم عن جميع ذلك.

هذا ولو خاف المأمور ترتب الضرر من شخص آخر غير الآمر فعن السيد الطباطبائي وبعض الأعاظم (قدس سرهما) عدم صدق الإكراه بذلك. لكن بعض مشايخنا قرب بطلان المعاملة حينئذٍ، لعدم طيب النفس، ولصدق الإكراه، لأن الإكراه هو حمل الغير علي الفعل مع الوعيد بفعله ولو من غير الآمر.

********

(1) سورة البقرة آية: 256.

(2) سورة يونس آية: 99.

(3) سورة النحل آية: 106.

(4) سورة طه آية: 73.

(5) سورة النور آية: 33.

ص: 166

بحيث يكون وقوع البيع منه من باب ارتكاب أقل المكروهين (1). ولو لم يكن

---------------

وما ذكره (قدس سره) قد يتجه فيما إذا ابتني الأمر من الآمر علي الاعتماد في تنفيذه علي الإضرار المترتب من غيره، كما لو طلب أحد خواصّ السلطان من شخص أمراً متكلاً في تنفيذ أمره علي الخوف من السلطان، لأن الأمر بنفسه حين صدوره يبتني علي الإلزام والتخويف ولو بفعل الغير، فيصدق عليه الحمل الذي يتحقق به الإكراه.

وأظهر من ذلك ما إذا كان الأمر من الشخص الأول محققاً لموضوع الأمر من الآخر الذي يترتب منه الضرر. كما إذا نهي السلطان الناس عن احتكار بضاعهم والامتناع من بيعها ممن يريد شراءها منهم، فإن طلب شخص من صاحب البضاعة البيع مستلزم لطلب السلطان البيع أيضاً، وإذا لم يصدق الإكراه في حق الأول لعجزه وغفلته عن تنفيذ أمره بالضرر المتوعد به يصدق في حق السلطان نفسه، لتحقق الأمر منه مع الوعيد بمخالفته.

أما في غير ذلك فلا يتحقق الإكراه، كما لو كان الآمر بالمعاملة غافلاً عن ترتب الضرر من غيره بالتخلف عن الأمر، ولم يكن هناك شخص يخشي ضرره قد أمره بالاستجابة للأمر، لكن المأمور يخشي من عدم الاستجابة للأمر أن يبلغ ذلك السلطان مثلاً، فيحقد عليه ويوقع به من دون سابق إنذار، حيث لا يصدق حينئذٍ الإكراه، لا من الآمر، لأنه بسبب غفلته ليس في مقام حمل المأمور وإلجائه، ولا من الشخص الآخر - كالسلطان في المثال - لعدم صدور الأمر منه، بل ترتب الضرر منه نظير ترتبه من دون أمر أصلاً فيما سبق مثاله، وحينئذٍ يتعين صحة المعاملة، لأن موقعها يعمل سلطنته فيها استقلالاً، وبطيب نفس منه، وأن كان الداعي لإيقاعها دفع الضرر.

(1) لما هو المعلوم من حال العاقل من عدم الإقدام علي ما يكرهه إلا لمحذور أهم بنظره حين الإقدام ولو بلحاظ الجهات العاطفية.

نعم، إنما يتم ذلك إذا توقع المكره تنفيذ المعاملة ولو عملاً فقط، بنحو لا يقدر علي الرجوع فيها، فإنه لا يقدم عليها حينئذٍ إلا إذا كان الضرر المتوقع أشدّ من

ص: 167

البيع مكروهاً وقد أمره الظالم بالبيع، فباع صح (1). وكذا لو أمره بشيء غير البيع، وكان ذلك الشيء موقوفاً علي البيع المكروه، فإنه يصح، كما إذا أمره بدفع مقدار من المال، ولم يمكنه إلا ببيع داره، فباعها، فإنه يصح بيعها (2).

---------------

ضررها. أما إذا توقع قدرته علي الرجوع فيها ولو بعد مدة، فإنه قد يقدم عليها مع الإكراه عليها تجنباً للضرر المتوقع ولو كان دونها في الأهمية، لأنه بإقدامه عليها حينئذٍ يتجنب كلا الضررين، وهو أولي من حصول الضرر الأقل وحده، كما هو الظاهر.

ومن ذلك يظهر أنه لو التفت إلي بطلان معاملة المكره فقد يقدم عليها بأدني ضرر متوقع من عدم الاستجابة للمكرِه.

(1) مما سبق يتضح أن المدار في الصحة علي صدور البيع بدع آخر غير الأمر صالح للاستقلال بالداعوية، ولا يكفي عدم كراهة البيع إذا لم يقدم عليه إلا من أجل الأمر وخوف ترتب الضرر علي مخالفته، بل الظاهر صدق الإكراه حينئذٍ، وبطلان المعاملة تبعاً له.

(2) لما سبق من عدم صدق الإكراه حينئذٍ بعد عدم الأمر بنفس البيع وعدم الحمل عليه، ومجرد ترتب الضرر من ترك المعاملة من دون أمر بها وحمل عليها لا يكفي في صدق الإكراه، ولا يمنع من الرضا وطيب النفس.

لكنه (قدس سره) ادعي في نهجه صدق الإكراه في المقام، بتقريب: أن الإكراه علي ذي المقدمة إكراه علي المقدمة غيرياً. غايته أن عموم رفع الإكراه يقصر عن ذلك، لوروده مورد الامتنان، ولا امتنان في بطلان المعاملة هنا، في حق المكره، لأنه تعسير لا تيسير، وتضييق لا توسعه.

وفيه: أن قصور عموم حديث رفع الإكراه بقرينة وروده مورد الامتنان لا ينفع مع عموم الحصر المستفاد من قوله تعالي: (إلا أن تكون تجارة عن تراض)(1) ، الذي

********

(1) سورة النساء آية: 29.

ص: 168

(169)

(مسألة 3): إذا أكره أحد الشخصين علي بيع داره - كما لو قال الظالم: فليبع زيد أو عمرو داره - فباع أحدهما داره، بطل البيع (1).

---------------

تقدم منه (قدس سره) حمله علي التراضي في مقابل الإكراه، حيث لا قرينة علي وروده مورد الامتنان، ليقصر عن المقام.

فالعمدة عدم صدق الإكراه في المقام وصدق طيب النفس، لأن إيقاع المعاملة ليس مقدمة للأمر المكره عليه، إذ يكفي في تحقق الأمر المكره عليه دفع المال ولو لم يكن مملوكاً، بل كان مسروقاً أو ثمن معاملة باطلة، وإنما يقدم المكره علي المعاملة في المقام تجنباً لحرمة استيلائه علي المال بلا حق، من دون أن يكون مكرهاً عليها لا نفسياً ولا غيرياً، ومن هنا يتحقق منه طيب النفس الذي هو شرط صحة المعاملة.

ولو فرض صدق الإكراه علي المعاملة غيرياً فقد سبق أنه إنما يمنع من صحة المعاملة إذا كان الإقدام عليها من أجله، أما إذا كان بداع آخر مقارن له فالمعاملة صحيحة، لطيب النفس المعتبر في صحة المعاملة. كما إذا التفت المكرَه علي المعاملة نفسها إلي أن بطلان المعاملة المكره عليها مستلزم لعدم تملكه الثمن، وما يترتب علي ذلك من مشاكل، فرضي بالمعاملة وأقدم عليها بداعي تجنب المشاكل، فإنها تصح وإن كان مكرهاً عليها. وحينئذٍ يمكن تصحيح المعاملة في المقام، لأن الغرض من الإقدام علي المعاملة هو تملك المال مقدمة لدفعه، لا مجرد تحصيله ولو بوجه محرم، فيتعين صحة المعاملة وإن كانت مكرهاً عليها غيرياً. فلاحظ.

(1) لأن أمر أكثر من واحد كفائياً أمر لكل طرف، وهو باق في حقه ما دام غيره لم يفعل. لكنه لا يكون ملزماً عملاً بحيث يترتب عليه الضرر المتوعد به الذي هو المعيار في صدق الإكراه، إلا مع عدم ترتب الفعل من الغير أصلاً. ومقتضي ذلك عدم صدق الإكراه واقعاً وعدم ترتب أثره - وهو بطلان المعاملة - في حق كل طرف إلا بعدم ترتب الفعل من الغير أصلاً.

بل لو فرض أن امتناع أحد الأطراف عن الفعل موجب لحمل بقية الأطراف

ص: 169

عليه فراراً من ضرر المكرِه، كان من موارد إمكان التخلص من ضرر المكرِه بارتفاع موضوع إكراهه، المانع من صدق الإكراه. نظير ما إذا كان قادراً علي أن يقنعه بالعدول عن أمره، أو أن يفعل ما يوجب ارتفاع موضوع أمره من دون أن يترتب عليه محذور في ذلك.

هذا كله في مقام الثبوت، أما في مقام الإثبات فمقتضي القواعد الأولية اعتبار العلم بذلك، إلا أن العلم المذكور حيث لا يتيسر حصوله في كثير من الموارد، فلو أنيط الأمر به فقد يتعرض المكرَه للضرر، فالظاهر الاكتفاء عرفاً بالاحتمال الموجب للخوف، لأن ذلك كافٍ في الحمل الذي هو المعيار في صدق الإكراه، نظير الاكتفاء بالخوف من ترتب الضرر بمخالفة أمر المكرِه، وعدم اعتبار العلم بذلك.

هذا وعن بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره أن إكراه الوليين أو الوكيلين أو الوكيل والأصيل علي إيقاع معاملة خاصة تابعة لهما وتحت سلطانهما معاً يصدق ويترتب أثره - وهو بطلان المعاملة - في حق كل منهما ولو مع العلم بإقدام الآخر عليها.

ويظهر منه (قدس سره) توجيه ذلك بأن الإقدام علي المعاملة لما كان من أجل دفع الضرر عن نفسه أو عن الطرف الآخر صدق الإكراه في المقام، لعدم وقوع المعاملة عن طيب نفس ورغبة في الاستجابة للمكره، بل لدفع شره.

ولو تم ذلك جري فيما لو كان المكره عليه كل منهما كفائياً معاملة تخصه، كما في المثال الذي ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) وهو ما إذا طلب من أحدهما بيع داره، ولا يختص بما إذا كان المكره عليه معاملة واحدة تحت سلطانهما معاً، لن كلاً منهما حينئذٍ لا يقدم علي المعاملة إلا لدفع ضرار المكرِه عن نفسه وعن صاحبه.

لكن ما ذكره في غاية الإشكال، بل المنع، لأن مجرد وقوع المعاملة لدفع ضرر الآمر لا يكفي في صدق الإكراه ما لم يكن الضرر المذكور لاحقاً بالمكرَه نتيجة مخالفته هو للأمر بحيث لا يمكن تخلصه منه إلا بالاستجابة له، وهو غير حاصل في المقام بعد فرض علم الموقع للمعاملة، لأن الطرف الآخر في مقام الاستجابة للآمر المكرِه

ص: 170

والإتيان بالمعاملة.

ولا يفرق في ذلك بين كون الطرف الآخر ممن يهمّ الشخص المذكور، بحيث يكون الإضرار به إضراراً به عرفاً، كأبيه وأخيه، وكونه أجنبياً عنه لا يكون الإضرار به إضراراً عرفاً. إذ في الصورة الأولي إنما يصدق الإكراه في حق المكرَه إذا كانت مخالفته هو سبباً للإضرار بمن له علاقة به، كما إذا أمره المكِره بشيء، وخشي من مخالفته أن ينتقم منه بالإضرار بمن يهمه أمره، كأبيه وولده.

بخلاف ما إذا كان الضرر مترتباً علي مخالفة ذي العلاقة نفسه، لأنه هو المأمور بالمعاملة والمحمول عليها والمهدد علي مخالفة الأمر، كما إذا أكره الظالم الوكيل وحده علي إيقاع المعاملة، فامتنع، فخاف الموكل عليه من إضرار الظالم به، وكان أمره يهمه، فأوقع الموكل نفسه المعاملة، ليرتفع موضوع الإكراه عن الوكيل ويسلم من الضرر، حيث لا يكون الموكل مكرَهاً بعد عدم ترتب الضرر علي مخالفته هو، بل علي مخالفة الوكيل، ويتعين صحة المعاملة منه، نظير ما إذا أوقعها دفعاً لضرر لم يهدد به.

والأمر في المقام أظهر، لأن المفروض فيه عدم ترتب الضرر علي ذي العلاقة، لأنه في مقام الاستجابة للمكرِه والإتيان بما طلبه منه، فقيام الشخص الآخر مع ذلك بالمعاملة ليس لدفع الضرر لا عن نفسه ولا عن ذي العلاقة به، فكيف يكون مكرهاً؟!.

وأشكل من ذلك ما جنح له (قدس سره) من جريان ذلك حتي في المحرمات سواء كان المحرم في حق الطرفين فعلاً واحداً، كتنجيس المسجد أم فعلين، كما لو أمر بأن يأكل أحد الطرفين طعاماً محرماً.

قال في منية الطالب: (بل يمكن أن يقال: إن حكم المحرمات أيضاً حكم المعاملات في هذه الصورة. وهو ما إذا علم أحدهما بأن الآخر يفعله لدفع الإكراه لا للشهوة، فيجوز للعالم أن يقدم علي شرب المحرم لدفع الإكراه عن نفسه وأخيه، لأن مجرد علمه بأن الآخر يفعله لا يدخله في عنوان الاختيار إذا فعل العالم لدفع ضرر

ص: 171

الحامل. وهكذا لو أكره أحد الشخصين علي أحد الفعلين، فإن كل واحد منهما لو أقدم علي أحد الفعلين لدفع الضرر عن نفسه وأخيه فهو مكره وإن علم بأن الآخر يفعله لدفع الضرر. فتدبر جيداً).

إذ فيه: أن ذلك وإن كان هو المناسب لما سبق منه من توجيه صدق الإكراه في المعاملات مع العلم المذكور. إلا أن الالتزام به في المحرمات مما تأباه المرتكزات جداً بعد ابتناء التكليف فيها علي الانحلال، بحيث يكون كل شخص مكلفاً بنفسه مع قطع النظر عن غيره، فكيف يسوغ له الإقدام علي المحرم، لمجرد دفع اضطرار غيره لارتكابه ؟!.

هذا وقد جري بعض مشايخنا (قدس سره) علي ما ذكرنا من عدم صدق الإكراه في المحرمات في حق أحد الطرفين إذا علم باستجابة الآخر، ولا في المعاملات إذا كان المطلوب من أحدهما معاملة تخصه، كما في المثال المذكور في المتن.

إلا أنه التزم بصدق الإكراه في حق كل منهما وإن علم باستجابة الآخر للمكره فيما إذا كان الأمر المكرِه عليه معاملة واحدة تحت سلطان كل منهما، كالموكل والوكيل، لدعوي: أن تعدد المكرَه لا أثر له بعد كون المكره عليه أمراً واحداً، بل هو المكره عليه علي كل حال، كما لو أكره شخص واحد علي أمر واحد.

وفيه: أن مجرد وجود الإكراه لا ينفع في بطلان المعاملة ما لم يكن إيقاعها من أجل الإكراه خوفاً من ضرر المكره، ومع فرض علم أحد الطرفين في المقام بأن الآخر سوف يستجيب للطلب يأمن هو من ضرر المكرِه، فلا يكون إيقاعه للمعاملة خوفاً من ضرره، بل بطيب نفسه، ولا مجال لترتب أثر الإكراه علي فعله حينئذٍ.

هذا ولو فرض أن الذي يقدم علي إيقاع المعاملة استجابة للمكرِه هو الوكيل، فحيث كان إيقاعه للمعاملة خارجاً عن مقتضي وكالته، فيكون المورد كما لو اكره علي المعاملة كل من المالك والأجنبي، حيث لا ينبغي الإشكال حينئذٍ في أن إقدام المالك علي المعاملة مع التفاته لذلك بطيب نفسه، نظير ما لو أكره المالك علي البيع الصحيح

ص: 172

والفاسد، فاختار الصحيح ملتفتاً للفرق بينهما، حيث يتعين صحة بيعه حينئذٍ، لعدم إكراهه علي الخصوصية الموجبة للصحة. نعم لو علم بعدم إقدام الأجنبي عليها أو خاف من ذلك فأقدم هو دفعاً للضرر عن نفسه كان مكرهاً.

أما سيدنا المصنف (قدس سره) فقد جري علي ما ذكرنا ولم يستثن منه إلا صورة إكراه الوليين علي إيقاع المعاملة في حق الصبي. قال (قدس سره):

(نعم لو أكره كل من الوليين علي بيع مال الصبي بعينه علي نحو الكفاية، فإنه لو باع أحدهما كان مكرهاً، وإن علم بإقدام غيره عليه لو لم يبع، لأن الطيب المعتبر في المقام ما كان بلحاظ مصلحة الصبي، لا بلحاظ مصلحة نفسه، فإذا لم يكن مصلحة للصبي كان مكرهاً، وإقدام الغير عليه ليس تخلصاً عن المكروه، بل وقوع فيه، ففعل الولي الثاني لا يكون سبباً للتخلص، فلا يكون العلم به مجدياً في رفع الإكراه) .

وهو يبتني علي ما تقدم منه (قدس سره) من توجيه كون الشيء المكره عليه مكروها في باب الولايات بعدم كونه صلاحاً للمولي عليه. وقد عرفت الإشكال فيه.

مضافاً إلي أمرين:

الأول: أنه يبتني علي الخلط بين الكراهة التي قيل باعتبارها في موضوع الأمر المكره عليه، والتي سبق منه (قدس سره) تفسيرها بوجه خاص، وما يتوقف عليه صدق الإكراه، وهو الضرر المخوف بالتخلف عن أمر المكرِه، والمهم في المقام الثاني الذي لا مجال له بعد فرض العلم بقيام الطرف الآخر بالفعل المكره عليه.

الثاني: أن الذي لا يمنع من صدق الإكراه هو القدرة علي دفع الضرر المتوقع من المكرِه بضرر مثله، كما لو قدر في الفرض علي دفع ضرر المكرِه ببيع مال ليتيم آخر يضرّ به أيضاً. وليس منه المقام، لأن الضرر في المقام مندفع ببيع الولي الآخر من دون أن يدفعه هو يفرّ به عن الضرر التي يخشي من المكرِه، فكيف يكون مكرهاً مع ذلك ؟!.

ومن هنا لا يتم ما ذكره (قدس سره) أيضاً. ولا مخرج عما ذكرنا أولاً من توقف الإكراه

ص: 173

(174)

إلا إذا علم إقدام الآخر علي البيع (1).

(مسألة 3): لو أكره علي بيع داره أو فرسه (2)،

---------------

علي الخوف من عدم إقدام الطرف الآخر، ولا يتم مع العلم بإقدامه مطلقاً.

نعم، لما كانت ولاية الوليين تقصر عن التصرف المضرّ بمصلحة المولي عليه، فالمتعين عدم نفوذ تصرفهما حينئذٍ في المقام حتي لو لم يكونا مكرهين، فعدم نفوذ تصرف الولي الذي يعلم باستجابة الولي الآخر للمكرِه ليس لكونه مكرهاً، بل لقصور ولايته.

وإنما يظهر الأثر للإكراه وعدمه في محل الكلام فيما إذا كان العالم باستجابة الطرف الآخر للمكرِه تام السلطنة علي التصرف كالمالك، وكذا في مورد الإكراه علي المحرم تكليفاً، حيث يكون كل منهما مكلفاً مسؤولاً بتصرفه لا يسقط حرمته عليه إلا صدق الإكراه في حقه.

(1) مما سبق يظهر أن المعيار في صدق الإكراه احتمال عدم إقدام الآخر علي البيع احتمالاً يصدق معه الخوف. وعليه لو احتمل عدم إقدامه احتمالاً ضعيفاً لا يصدق به الخوف كفي في عدم صدق الإكراه، ولا يتوقف علي العلم بعدم إقدامه.

(2) لا ينبغي التأمل في أن الإكراه علي الجامع في المحرمات والمعاملات لا يقتضي الإكراه علي الخصوصية، بل الخصوصية تابعة لاختيار المكره وبمحض رضاه.

وأما ما عن المحقق الايرواني (قدس سره) من أن خصوصيات الأفراد تعد مكرهاً عليها بالإكراه علي الجامع. فهو مما لا مجال للبناء علي ظاهره، حيث لا ريب في عدم كون كل خصوصية مورداً للإكراه بعد عدم توقف الجامع الذي هو مورد غرض المكره وأمره عليها وإمكان تحققه بغيرها، كما أن اختيار المكرَه لها لدواع خاصة بها غير موافقة أمر المكرِه.

ص: 174

كيف ؟! ولازم ذلك أن الإكراه علي الجامع بين موضوع الأثر وغيره يقتضي الإكراه علي موضوع الأثر، فلو أكره علي شرب الماء الأعم من النجس والطاهر، أو البيع الأعم من الواجد للشرائط والفاقد لها، كان مكرهاً علي شرب النجس فلا يحرم، وعلي البيع الواجد للشرائط فلا يصح ؟!.

ومن الغريب ما عن المحقق الخرساني (قدس سره) في حاشيته علي المكاسب من أن ذا الأثر في الفرض وإن وقع مكرهاً عليه، إلا أنه يمكن دعوي أن دليل الأثر فيه أظهر من دليل رفع الإكراه، فيقدم عليه، ويكون مستثني من عموم رفع الإكراه. إذ فيه: أن تقديم دليل رفع الإكراه علي أدلة الأحكام الأولية لما كان بملاك الحكومة فلا يفرق فيه بين الموارد بعد تشابه ألسنة أدلة الأحكام الأولية ووحدة دليل رفع الإكراه في جميعها.

ومثله ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الإكراه علي الجامع إنما يسري إلي جميع الأفراد إذا كانت متساوية لا يمتاز بعضها عن بعض في أثر يخصه. أما إذا كانت مختلفة في ذلك فيتوجه الإكراه ثبوتاً علي ما لا أثر له أو علي ما كان أثره أقل وأخف، فلو أكره علي شرب احد إنائين أحدهما نجس، والآخر مغصوب ونجس، فالإكراه إنما يتعلق بالنجس وحده.

إذ فيه: أنه بعد فرض توجه المكره للجامع وأمره به دون الخصوصيات، وفرض سريان الإكراه من الجامع للخصوصيات، كيف يختص الإكراه ببعض الخصوصيات دون بعض. نعم لو كان الإكراه حكماً شرعياً، أمكن القطع باختصاصه ببعض الأفراد تبعاً لاختصاص غرض الشارع بها، ولا مجال لذلك في الأمور الواقعية.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في أن الإكراه علي الجامع لا يقتضي الإكراه علي الخصوصية، وغاية ما يدعي أن أثر الإكراه علي الجامع - وهو رفع الحكم التكليفي أو الوضعي - يسري إليها فلابد من النظر في وجه ذلك.

وقد يوجه بأن الجامع المكره عليه إذا كان موضوعاً للأثر، فمقتضي عموم رفع

ص: 175

الإكراه رفع أثره المذكور، وإذا ارتفع أثره كانت أفراده خالية عن ذلك الأثر. فإذا أكره علي شرب النجس مثلاً ارتفعت حرمته بسبب الإكراه عليه، فإذا ارتفعت حرمة شرب النجس في حق المكرَه فأي فرد اختاره منه لا يكون حراماً، وإذا أكره علي طلاق زوجته قصر دليل النفوذ عن طلاقها بسبب الإكراه، فأي فرد اختاره من طلاقها لم ينفذ، وهكذا.

وبذلك يتجه عدم ارتفاع أثر الخصوصية إذا كان المكره عليه هو الجامع بين ذي الأثر وغيره، كما إذا أكره علي شرب الماء الأعم من الطاهر والنجس، فإنه لا يجوز له شرب النجس منه، لأن مطلق شرب الماء ليس محرماً لترتفع حرمته بالإكراه عليه، وشرب الماء النجس بخصوصيته وإن كان محرماً إلا أنه ليس مكرهاً عليه، لترتفع حرمته، لما سبق من أن الإكراه علي الجامع ليس إكراهاً علي خصوصيات أفراده.

وكذا إذا أكره علي البيع الأعم من الواجد للشرائط وفاقدها، فإنه حيث لا يكون موضوعاً للنفوذ، لم يكن الإكراه رافعاً لنفوذه بالإضافة إلي إفراده. وما هو الموضوع للنفوذ - وهو الواجد للشرائط - ليس مكرهاً عليه ليرتفع نفوذه، فيتعين نفوذه وترتب الأثر عليه لو اختاره المكره.

ومثل ذلك ما إذا أكره علي الجامع ذي الأثر، وكان أحد أفراده يمتاز بأثر زائد، فإنه لا يجوز ارتكابه، لعدم سقوط أثره بعد عدم الإكراه عليه، كما إذا أكره علي أكل شيء من الأطعمة المغصوبة وكان بعضها نجساً، فإن الإكراه رافع لحرمة الغصب، لانحصار المكره عليه بالمغصوب دون حرمة النجس، لعدم انحصار المكره عليه به.

وبعبارة أخري: حيث كانت نسبة دليل رفع الإكراه لأدلة الأحكام الأولية نسبة الحاكم للمحكوم، فإن كان المكره عليه موضوعاً للحكم التكليفي أو الوضعي، كان مقتضي دليل رفع الإكراه ارتفاع حكمه عن تمام أفراده، فلا يترتب الحكم علي أي فرد اختاره المكرَه منها وإن لم يكن مكرهاً عليه بخصوصه. وإن لم يكن المكره عليه موضوعاً للحكم التكليفي ولا الوضعي لم يكن للإكراه عليه أثر، وإذا كان لبعض

ص: 176

أفراده حكم لم يكن مرتفعاً بعد عدم كونه مكرهاً عليه بخصوصه، وبعد ما سبق من عدم سريان الإكراه من الجامع لأفراده. وكأنه إلي هذا يرجع كلام شيخنا الأعظم وسيدنا المصنف (قدس سرهما) بل حتي كلام غيرهما. وإن كانت كلماتهم لا تخلو عن غموض.

لكن مقتضي ذلك عدم ترتب الأثر علي الإكراه علي الجامع بين ما هو موضوع الأثر الشرعي وما هو موضوع الضرر، كما لو أكره علي شرب الماء، وكان الماء منحصراً بين النجس والطاهر الذي يضرّ شربه ضرراً لا يحرم الوقوع فيه، أو يكون شربه حرجياً. فإن المكره عليه - وهو الجامع المذكور - ليس محرماً، وشرب النجس المحرم ليس مكروهاً عليه، ليرتفع تحريمه. ومقتضي ذلك أن دليل الإكراه لا ينهض في المقام بالترخيص في الحرام، وهو شرب النجس. غاية الأمر أن يدعي الترخيص في الحرام بدليل رفع الضرر أو الحرج، لتحقق موضوعهما بالإضافة إليه بعد انحصار تجنب محذوري مخالفة أمر المكرِه والطرف المباح به. وهو بعيد جداً.

وأشكل من ذلك ما إذا أكرهه علي أحد أمرين كل منهما موضوع للأثر الشرعي من التحريم أو النفوذ - بخصوصيته من دون أن يكون الجامع بينهما موضوعاً للأثر، كما لو اكرهه علي شرب الخمر أو أكل الميتة، أو علي شرب الخمر أو بيع داره، أو علي بيع داره أو طلاق زوجته، فإن كلاً من الطرفين في الفروض المذكورة ليس مكرهاً عليه، ليرتفع أثره بالإكراه، والجامع بينهما ليس موضوعاً للأثر، ليرتفع بالإكراه عليه.

وإعمال دليل رفع الضرر أو الحرج موقوف علي تحقق موضوعهما، وهو لا يطرد في المعاملات، إذ قد لا يكون نفوذها ضررياً ولا حرجياً، وإن لم يكن حصولها مرغوباً فيه.

وأما ما يظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) من: أن كلاً من الأطراف مكره عليه في ظرف عدم الآخر، لأن ذلك هو مرجع الواجب التخييري في الشرعيات، فيكون كذلك حال أمر المكره بأحدها.

ص: 177

فهو ممنوع: أولاً: لعدم رجوع الواجب التخييري إلي ذلك، بل إلي التكليف بأحد الأطراف بخصوصيته علي البدل المستلزم لعدم الإلزام بكل منها، وإنما يلزم اختيار أحدها عقلاً في مقام الامتثال، نظير لزوم اختيار أحد أفراد الواجب التعييني من دون أن يكون كل فرد واجباً بنفسه، وإنما الواجب هو القدر المشترك لا غير.

وثانياً: لأن ثبوت الأثر شرعاً لأحد الأمرين أو الأمور بخصوصيتها من دون أن يثبت للجامع بينها لا يستلزم كون الإكراه الصادر متعلقاً بخصوصيتها بنحو البدل، نظير الواجب التخييري، بل قد يتعلق الإكراه بالجامع بينها، فإن الإكراه ليس تابعاً للشارع، بل للمكرِه، وهو قد لا يلحظ الخصوصيات بل يلحظ الجامع بينها لا غير. كما لو أكرهه علي شرب شيء من العصير العنبي الموجود في البيت، وكان العصير المذكور منحصراً بما غلا بالنار من دون أن يذهب ثلثاه، وما غلا بنفسه حتي صار مسكراً. ومن هنا لا يكون هذا الوجه وافياً بتوجيه تطبيق دليل رفع الإكراه باطراد.

ولعل الأولي أن يقال: الإكراه: تارة: ينسب للشيء بلحاظ صدور الأمر الملزم به من المكره بنحو يخاف من التخلف عنه إيقاع الضرر من قبله. وأخري: ينسب لفعل المكره بلحاظ عدم صدوره منه باختياره وبإعمال سلطنته فيه استقلالاً، بل قهراً عليه بسبب إكراه المكرِه وحذراً من الضرر المتوعد به.

أما الأول فهو مختص بالعنوان المأخوذ في كلام المكرِه علي سعته ولا يسري لأفراده، لعدم تعلق غرض المكرِه ولا أمره بخصوصيتها، وإنما يختارها المكرَه لدواع زائدة علي الإكراه. وأما الثاني فهو يختص بالفعل الصادر من المكرَه استجابة للمكرِه، وتخلصاً من تبعة إكراهه.

وبالتطبيق الأول يكون المرفوع هو الحكم الثابت للعنوان المأخوذ في كلام المكرِه، دون أحكام خصوصيات أفراده، لعدم إكراهه عليها. أما بالتطبيق الثاني فيكون المرفوع هو الحكم الثابت للفرد الذي يختاره المكلف.

ص: 178

ومن الظاهر أن كون الرفع بلحاظ التطبيق الثاني للإكراه هو الأنسب ارتكازاً بلحاظ صدور الرفع إرفاقاً بالمكرَه وتأكيداً علي حرمته وسلطنته، حيث يناسب ذلك التخفيف عنه وعدم مؤاخذته بفعله الذي لم يصدر عنه بمحض اختياره، بل استجابة للإكراه الواقع عليه عدواناً، بحيث لولا الإكراه لما أقدم عليه.

وعلي ذلك فالتخفيف المذكور إنما يكون برفع الحكم الإلزامي التكليفي أو الوضعي الثابت لذلك الفعل، سواء ثبت له بتوسط الجامع الذي صدر الأمر به من المكره، كما لو أكره علي شرب النجس فشربه، أو علي بيع داره فباعها، أم ثبت له بخصوصيته من دون أن يثبت للجامع المكره عليه. كما لو أكره علي تكريم زيد، وكان للتكريم فردان استقباله من مسافة بعيدة، وتقديم هدية له، فاختار تقديم هدية له، لأنها أيسر عليه، أو كان الإكراه وارداً علي عدة أمور بنحو البدلية، وكان أحدها أو كلّ منها بخصوصيته موضوعاً لحكم إلزامي تكليفي أو وضعي، فاختار أحدها لأنه أخف عليه وأيسر.

نعم، حيث كان ارتفاع الحكم بالإكراه من سنخ الحكم الاضطراري، مع تحقق موضوع الحكم المرفوع وتمامية ملاكه، كان ذلك قرينة عرفية علي اختصاص الرفع المذكور بصورة عدم إمكان التخلص من الإكراه بفرد آخر لا محذور فيه، أو أخف محذوراً، وإلا لزم التخلص من الإكراه بذلك الفرد الذي الآخر، إذ لا ضرورة تسوغ اختيار ما فيه المحذور أو الأشد محذوراً حينئذٍ.

وبعبارة أخري: المحذور الثابت في بعض الأطراف يمنع من الإقدام عليه إلا لضرورة مسوغة، والفرار من ضرر المكره وإن كان من سنخ الضرورة المسوغة، إلا أن القدرة علي الفرار منه بالطرف الذي لا محذور فيه أو الأخف محذوراً، يمنع من كون رفع الإكراه ضرورة مسوغة للإقدام علي ما فيه المحذور أو كان محذوره أشدّ.

ولعل هذا هو مراد بعضهم، خصوصاً المحقق الخراساني وبعض الأعاظم (قدس سرهما)، وإن لم توضحه كلماتهما بالوجه الكافي.

ص: 179

(180)

إذا عرفت هذا فيقع الكلام في أمور:

الأول: إذا أكره علي إيقاع الشيء في وقت موسع فهل تكون المبادرة إليه مانعة من صدق الإكراه عليه، بحيث لا يرتفع أثره الإلزامي بذلك، أو لا؟ صرح بعض مشايخنا (قدس سره) بالثاني من دون فرق بين المحرمات والمعاملات، لعدم الاضطرار لفعل المكره عليه إلا في آخر الوقت، لتعذر التخلص منه حينئذٍ بسبب الإكراه، أما قبل ذلك فيمكن التخلص منه بالتأخير.

لكنه يشكل بأنه مضطر لكل من الفرد المتقدم والمتأخر في ظرف عدم الآخر، وكما يمكنه ترك المتقدم بفعل المتأخر يمكنه ترك المتأخر بفعل المتقدم، ولا مرجح لأحدهما.

وبعبارة أخري: الإكراه يقتضي فعل الجامع بين الفرد المتقدم والمتأخر بفعل أحدهما، فكل منها جيء به بداعي التخلص من محذور الإكراه صدق أنه مستكره عليه. وأما العجز عن التخلص المعتبر في الإكراه فهو العجز عن التخلص من فعل المكره عليه الجامع، وهو حاصل في المقام، دون العجز عن التخلص عن فعل الفرد، إذ هو - مع عدم اعتباره في صدق الإكراه - حاصل بالإضافة إلي الفردين معاً، لإمكان التخلص عن كل منهما بفعل الآخر، ولا أثر في ذلك للتقدم والتأخر.

هذا ومقتضي ذلك عدم الفرق بين الإكراه علي المحرم والإكراه علي المعاملة. لكن بعض الأعاظم (قدس سره) منع من المبادرة في الإكراه علي المحرم، بدعوي: أنه لابد في ارتكاب المحرم من حصول المسوغ له حين الارتكاب، فإذا لم يكن حين الشرب ملزماً لإمكان التأخير، لا مسوغ للارتكاب. وفيه: أن المسوغ في المقام لما كان هو الإكراه، فهو حاصل في المقام بالتقريب المتقدم.

إن قلت: يقبح الإقدام علي الحرام إلا عند الاضطرار إليه، ولا اضطرار مع إمكان التأخير.

قلت: المكره مضطر لفعل الحرام في ضمن الوقت، ولا خصوصية لآخر

ص: 180

الوقت في ذلك، بل كما يمكن سد الضرورة بالفعل في آخر الوقت يمكن سدها بالفعل في أوله.

وتوضيح ذلك أن التكليف في المقام كما يقتضي امتثاله في أول الوقت يقتضي حفظ القدرة علي الامتثال في آخر الوقت، ولا يجوز تعجيز النفس عن الامتثال في آخره، والجمع بينهما في المقام بسبب الإكراه متعذر، حيث يدور أمر المكرَه بين اجتناب المحرم المكره عليه في أول الوقت، فيعجز عن اجتنابه في آخر الوقت، والمبادرة لارتكابه في أول الوقت فيحافظ علي القدرة علي اجتنابه في آخر الوقت، ولا مرجح لأحد الأمرين بعد كون الفردين متساويين في الأهمية، فيتعين التخيير بينهما ثبوتاً.

ولذا لا إشكال ظاهراً في وجوب المبادرة لو كان الفرد المتأخر أهم، كما لو أكرهه إما علي شرب الفقاع يوم الخميس أو شرب الخمر يوم الجمعة، فإن أهمية حرمة الخمر تقضي بوجوب المبادرة لشرب الفقاع يوم الخميس من أجل حفظ القدرة علي اجتناب الخمر يوم الجمعة.

نعم، لا ريب في وجوب الاحتياط ظاهراً في مقام الإثبات بترك المبادرة لفعل الحرام لو احتمل القدرة علي ترك الحرام في آخر الوقت، إما لعدول المكرِه عن إكراهه، أو للأمن من الضرر بمخالفته. إذ لا يعلم حينئذٍ بتحقق الإكرَاه علي الجامع، ولا بكون المبادرة سبباً لحفظ القدرة علي اجتناب الحرام في آخر الوقت، بل يحتمل القدرة علي الامتثال في الوقتين معاً، ومع احتمال القدرة يجب الاحتياط.

بل الظاهر وجوب الاحتياط بترك المبادرة لفعل الحرام في المقام ونحوه من موارد الدوران بين مخالفة التكليف المتقدم والمتأخر، لاحتمال مرجحية السبق الزماني شرعاً. وقد استوفينا الكلام في ذلك في مرجحات باب التزاحم من خاتمة مبحث التعارض من الأصول. فراجع.

لكن الترجيح في ذلك ظاهري، لاحتمال الأهمية، لا لعدم المسوغ واقعاً، كما يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره)، فضلاً عن أن يكون لعدم الإكراه، كما ذكره

ص: 181

(182) (182) (182)

بعض مشايخنا (قدس سره). ومن ثم يختص بالتكاليف، ولا يجري في المعاملات بعد صدق الإكراه عرفاً.

الثاني: إذا أكره علي الجامع بين ذي الأثر الوضعي أو التكليفي وما يكون ارتكابه ضررياً أو حرجياً، أو خير بينهما، كما إذا أكره علي شرب الماء وانحصر بالنجس الذي لا يضر شربه والطاهر الذي يكون شربه ضررياً أو حرجياً.

فالظاهر صدق الإكراه بالإضافة إلي ذي الأثر لو اختاره استجابة لأمر المكره، فيرتفع أثره الوضعي أو التكليفي، لأن رفع الإكراه وإن لم ينحصر به، إلا أن الإقدام علي الفرد الآخر لما كان حرجياً أو ضررياً، فالقدرة علي التخلص به لا تنافي الاضطرار، الذي تبتني عليه رافعية الإكراه، كالقدرة علي التخلص من فعل الأمر المكره عليه بتحمل الضرر المتوقع من مخالفة أمر المكرِه.

الثالث: إذا أكره علي فعل الحرام أو إيقاع معاملة - من عقد أو إيقاع - فقد صرح بعض مشايخنا (قدس سره) بحرمة الإقدام علي فعل الحرام وترك المعاملة، لأن فعل المعاملة مباح ولا مجال لاختيار الحرام عند الدوران بينه وبين المباح.

وفيه: أن ذلك إنما يتجه إذا لم يكن الإقدام علي المعاملة ضررياً ولا حرجياً. أما إذا كان كذلك، فيدخل في الفرع السابق الذي سبق جواز الإقدام فيه علي الحرام. نعم لو التفت إلي بطلان المعاملة المكره عليها، وكان في وسعه عدم الجري عليها خارجاً، فلا يلزم منها الحرج ولا الضرر، ويتعين الإقدام عليها فراراً من الحرام وتخلصاً منه، لعدم الاضطرار له حينئذٍ.

الرابع: إذا أكره علي الجامع بين الصحيح والفاسد، كما إذا أكره علي الطلاق الأعم من واجد الشرائط وفاقدها، فقد صرح غير واحد بأنه لو اختار الصحيح لم يرتفع أثره بالإكراه، لعدم الاضطرار إليه بعد إمكان التخلص من الإكراه بالفاسد، بل يقع بطيب نفسه.

لكنه يشكل بأن الفاسد قد كون أشد محذوراً من الصحيح. مثلاً طلاق الرجل

ص: 182

(183)

لزوجته بوجه صحيح وإن كان قد يصعب عليه كثيراً، لكونها أم ولده العزيزة عليه، وبها نظم بيته، إلا أن طلاقه لها بوجه غير شرعي قد يكون أشدّ كثيراً عليه، لما فيه من تعريضها للتزوج من شخص آخر، واستمتاعه بها، وهي بعد في حبالته، فقد يضطر حينئذٍ للتخلص من الإكراه بالطلاق الواجد للشرائط، لأنه أخفّ المحذورين، لا لطيب نفسه به، ويتعين حينئذٍ عدم صحته بسبب الإكراه. نظير ما يأتي منّا في المسألة الخامسة.

نعم، لو علم بعدم نفوذ معاملة المكرَه، فاختياره للمعاملة الواجدة للشرائط يكون: تارة: لأنها المتيسرة له مع صعوبة غيرها بحدّ يلزم من اختياره محذور أهم من محذور صحة المعاملة. وأخري: لأنها الأيسر له، من دون أن يلزم محذور معتد به من اختيار الأخري. وثالثة: لطيب نفسه بها، ولو بسبب الإكراه، دفعاً للمحذور الأهم. والمتعين البطلان في الصورة الأولي، والصحة في الصورتين الأخيرتين.

ومن ذلك يظهر الحال في مثل ما إذا أكره علي إيقاع المعاملة عنه أو عن غيره فضولاً، حيث صرح بعض مشايخنا (قدس سره) بأنه لو أوقع المعاملة عن نفسه صحت المعاملة، لعدم المحذور في إنشاء المعاملة فضولاً، فلا يكون مضطراً لإيقاع المعاملة عن نفسه، ولا يكون إيقاعها إلا بطيب نفسه.

لكن إيقاع المكرَه المعاملة الفضولية قد يترتب عليه محذور أهم من محذور إيقاع المعاملة عن نفسه، فيكون التخلص من أمر المكرِه بإيقاع المعاملة عن نفسه لأنها أخف محذوراً، لا لطيب النفس بها، ويتعين حينئذٍ بطلانها من جهة الإكراه.

الخامس: إذا أكره علي الجامع بين ما يستحق عليه وما لا يستحق، فقد صرح غير واحد بأنه لو أوقع ما لا يستحق عليه نفذ، فلو أكره علي وفاء دينه الذي حلّ وقته أو بيع داره، فَباع داره صح البيع. ويظهر منهم ابتناؤه علي ما سبق من أن الإكراه علي الجامع لا أثر له بسبب استحقاق أحد فرديه، والفرد الذي اختاره غير مكره عليه.

لكن لا يتضح الوجه في ذلك بعد عدم كون الإتيان بكل من الأمرين عن

ص: 183

فباع أحدهما بطل (1). ولو باع الآخر بعد ذلك صحّ (2). ولو باعهما جميعاً جميعاً دفعة بطل فيهما جميعاً (3).

---------------

طيب نفس، بل تخلصاً من أمر المكرِه. نعم يتجه ذلك إذا كان الإكراه بحق، كما لو طالب الدائن بالدين ولم يرض بتأجيله إلا إذا باع المدين داره، فإن إكراهه للمدين حينئذٍ علي أحد الأمرين تخييراً يكون بحق، والإكراه بحق مستثني من عموم دليل رافعية الإكراه، لمنافاة استحقاق الإكراه للرافعية، كما هو ظاهر.

(1) كما صرح به غير واحد. لصدوره استجابة للمكره، فينطبق عليه دليل رافعية الإكراه بالتقريب المتقدم فيما لو أكره علي الجامع فأتي بأحد أفراده.

(2) كما صرح به غير واحد أيضاً. لاندفاع الإكراه بالأول، فيقع الثاني غير مكره عليه. لكن شيخنا الأعظم (قدس سره) بعد أن استظهر ذلك قال:

(مع احتمال الرجوع إليه في التعيين، سواء ادعي العكس أم لا) . وهو غريب إذ الرجوع إليه في التعيين فرع التعين الواقعي مع اشتباه المعين، كما لو أقر بطلاق إحدي زوجتيه ولم يعين. ولا مجال لذلك في المقام بعد اندفاع الإكراه بالأول، دون الثاني قطعاً.

(3) لدعوي: أن الإكراه المشروط بترتب الضرر من مخالفة أمر المكرِه وإن لم ينطبق علي كل منهما في عرض انطباقه علي الآخر، بل ينطبق علي كل منهما علي البدل، فيكون أحدهما مكرهاً عليه دون الآخر، إلا أنه حيث كان انطباقه علي كل منهما بلا مرجح تعين بطلانهما معاً.

وفيه: أن ترتب الضرر بمخالفة أمر المكره، وإن كان شرطاً في صدق الإكراه، إلا أنه لا يكفي ما لم يكن الداعي للعمل هو الخوف من المكره، ولا مجال لذلك في المقام. أما بالإضافة إلي بيع مجموعهما فلفرض عدم أمر المكره به، وعدم ترتب الضرر بتركه. وأما بالإضافة إلي كل واحد منهما بعينه فلأنه إنما يترتب الضرر علي تركه في ظرف عدم فعل الآخر، لا مطلقاً ولو أتي به معه، كما في المقام، حيث لا مجال حينئذٍ

ص: 184

لكون الدافع لبيع كل منهما مع الآخر تجنب الضرر، بل لابد من كون الدافع أمراً آخر، ككراهة التفريق بينهما، المستلزم للرضا ببيعها معاً بسبب الإكراه علي بيع أحدهما.

فالمقام نظير ما لو أكرهه زيد علي بيع أحد عبديه، فباع أكبرهما، وهو يعلم أن عمراً سيكرهه علي بيع أصغرهما، وأنه لو لم يبع الأكبر حتي باع الأصغر لا من الضرر من زيد وعمرو، لاكتفائهما ببيعه، حيث لا مجال للبناء علي صدق الإكراه علي بيع الأكبر حينئذٍ بعد العلم بعدم ترتب الضرر علي ترك بيعه في ظرف بيع الأصغر المفروض حصوله بعد. ونظير ما إذا أكره أحد شخصين علي البيع فباع كل منهما مع علمه بتحقق البيع من الآخر أيضاً، حيث يصح البيع من كل منهما، كما يظهر مما سبق في المسألة الثالثة.

ومن هنا كان الظاهر في المقام صحة البيع فيهما معاً، كما قواه شيخنا الأعظم وبعض الأعاظم (قدس سرهما). نعم يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم (قدس سره) وصريح بعض الأعاظم (قدس سره) أن الوجه فيه خروجه عن الأمر المكره عليه. وهو في غير محله، لأن المكره عليه هو بيع أحدها مطلقاً ولو مع الآخر، فالواقع من أفراد المكره عليه، وإنما صحّ لأنه لم يقع عن إكراه، كما ذكرنا، وهو الظاهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم (قدس سره).

ومن ذلك يظهر أنه لا مجال لما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) - كما في تقرير درسه - من فساد البيع في أحدهما لا بعينه، ولزوم الرجوع في تعيينه للقرعة، وإن وافق سيدنا المصنف (قدس سره) في الفتوي ببطلانهما معاً. حيث ظهر مما سبق أن كلاً منهما لم يقع عن إكراه، وأن المتعين صحتهما معاً.

وأما تنظيره له بما إذا أكره علي أحد محرمين ففعلهما معاً، فإنه يعاقب عقاباً واحداً علي أحدهما. فهو لا يصلح شاهداً علي عدم حرمتهما معاً، بل يبتني علي ما هو الظاهر من تبعية العقاب للطاقة، وحيث لا يطيق امتثالهما في المقام معاً لم يؤاخذ إلا علي واحد منهما. خلافاً لما ذكره هو (قدس سره) وغيره في بحث الترتب من مسألة الضد

ص: 185

(186)

(مسألة 4): لو أكرهه علي بيع دابته، فباعها مع ولدها بطل بيع الدابة، وصح بيع الولد (1).

(مسألة 5): الظاهر أنه يعتبر في صدق الإكراه عدم إمكان التفصي بالتورية (2). فلو أكرهه علي بيع داره، فباعها مع قدرته علي التورية صح المبيع.

---------------

في الأصول من ثبوت العقاب علي كلا التكليفين المتزاحمين الأهم والمهم وإن كان لا يطيق الجمع بينهما في الامتثال.

هذا مضافاً إلي ما سبق في المسألة التاسعة والثلاثين من مقدمة كتاب التجارة عند الكلام في حكم مجهول المالك من عدم ثبوت عموم الرجوع للقرعة.

نعم، لو فرض تعذر بيع أحدهما منفرداً وانحصر الأمر ببيعها مجتمعين - بحيث لا يمكن التخلص من أمر المكرِه وإضراره إلا بذلك - كان بيعهما معاً عن إكراه وتعين بطلانه فيهما معاً. وما يظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) من عدم الفرق بين ذلك وسائر الدواعي لجمعهما في البيع، في غير محله. فلاحظ.

(1) للإكراه علي بيع الدابة، دون بيع الولد، وإنما أقدم علي بيعه معها لداع آخر، ولو بسبب الإكراه علي بيعها، كصعوبة التفريق بينهما. ودعوي: أن وحدة المعاملة تمنع من التفريق بين مضامينها في الصحة والفساد. ممنوعة، بل يتعين تبعض الصفقة، كما التزموا به في موارد كثيرة. نعم إذا تعذر بيعها دون ولدها كان بيعه معها مكرهاً عليه أيضاً، نظير ما تقدم.

(2) كما ذكره غير واحد خلافاً لشيخنا الأعظم (قدس سره)، حيث لم يعتبر العجز عن التخلص بالتورية. وهو الذي أفتي به بعض مشايخنا (قدس سره)، وإن كان ما في تقرير درسه لا يناسب ذلك.

وكيف كان فالوجه في اعتبار العجز عن التخلص بالتورية أنه مع القدرة علي التخلص بها لا يخشي من ترتب الضرر بمخالفة أمر المكرِه، وقد سبق أن ذلك شرط

ص: 186

في صدق الإكراه.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن القدرة علي التورية لا يخرج الكلام عن حيز الإكراه عرفاً، لأن المعتبر في الإكراه هو ترتب الضرر مع علم المكرِه بالمخالفة، لا بمطلق المخالفة وإن لم يعلم بها، وذلك حاصل مع القدرة علي التورية، ضرورة أن المكرِه لو علم أن المكرَه قد ورّي لم يقبل منه، وأوقع الضرر به، وإنما لا يصدق الإكراه مع القدرة علي التخلص بغيرها، كما لو قدر المكرَه علي إقناع المكرِه أو إرغامه أو نحوها.

فهو في غاية المنع، بل المعتبر في الإكراه الرافع للأثر هو ترتب الضرر بمطلق المخالفة، ولو مع جهل المكرِه بها، فلو قدر عليها لم يتحقق الإكراه الرافع، كما لو أمره بشرب الخمر، وهو يقدر علي شرب الماء موهماً أنه خمر، أو بالمكث في المسجد وهو جنب، وهو يقدر علي المكث في مكان متصل بالمسجد خارج عنه، أو بالأكل وهو صائم، وهو يقدر علي لفظ الطعام قبل بلعه، أو بوقف داره، فأوقفها من دون إقباض لها، ليبطل الوقف ولا يترتب أثره... إلي غير ذلك.

ولا أقل من كون ذلك هو المفهوم من دليل رفع الإكراه، بقرينة وروده مورد الاضطرار، حيث يتعين اعتبار العجز عن التخلص ولو بإيهام المكرِه بفعل الأمر المكرَه عليه.

ومثله ما ذكره (قدس سره) من ظهور النصوص والفتاوي في عدم اعتبار العجز عن التورية. قال: (لأن حمل عموم رفع الإكراه، وخصوص النصوص الواردة في طلاق المكره وعتقه، ومعاقد الإجماعات والشهرات المدعاة في حكم المكره، علي صورة العجز عن التورية، لجهل أو دهشة بعيد جداً، بل غير صحيح في بعضها من جهة المورد).

إذ فيه: أنه بناء علي ما سبق لا يصدق الإكراه مع القدرة علي التورية، ليحتاج للاستثناء. ودعوي: أن إغفال النصوص والفتاوي التنبيه علي التورية شاهد بعدم

ص: 187

نعم، لو كان غافلاً عن التورية، أو عن إمكان التفصي بها (1). فباع، بطل البيع (2).

---------------

اعتبار العجز عنها. مدفوعة بأن الملتفت للتورية القادر عليها يقدم عليها بطبعه بعد ما سبق من عدم صدق الإكراه مع القدرة عليها. والغافل عنها لا موجب لتنبيهه إليها، لصدق الإكراه في حقه، لأن الرافع للإكراه هو الالتفات لوجه التخلص المقدور عليه، لا مجرد القدرة عليه ولو مع الغفلة عنه، ومع صدق الإكراه وترتب أثره - وهو الرفع

لا يلزم من عدم التنبيه تفويت الواقع في حقه، ليقبح.

بل قد لا يحسن التنبيه لها، لأنه كثيراً ما يوجب ارتباك المكرَه وظهور حاله بسبب عدم سيطرته علي التورية، فيقع في الضرر. ومن هنا لا مجال لما ذكره (قدس سره) من عدم اعتبار العجز عن التورية، وصدق الإكراه مع القدرة عليها.

نعم، القدرة علي التورية إنما تمنع من صدق الإكراه إذا لم يلزم من التورية محذور أهمّ من تحقق المعاملة وصحتها، كما إذا كان المكرِه في مقام الاقتصار علي إيقاع المعاملة من دون ترتيب أثرها. كما هو الحال في مثل العشارين حينما كانوا يستحلفون بالطلاق والعتاق. بخلاف ما إذا كان في مقام ترتيب أثرها، كما لو أكرهه علي طلاق زوجته ليتزوجها، حيث إن طلاق الزوج لزوجته حقيقة أهون علي كثير من الناس من تعرضها لتزويج الغير واستمتاعه بها مع بقائها في عصمته، فلا يكون إيقاع الطلاق حقيقة من دون تورية لطيب النفس به، بل لأنه أهون المحذورين.

نعم، لو التفت إلي بطلان طلاق المكرَه فإقدامه علي الطلاق الحقيقي مع قدرته علي التورية لابد أن يكون عن طيب نفس، ولو بسبب الإكراه، نظير ما تقدم في الفرع الرابع من الإكراه علي الجامع بين الصحيح والفاسد. فراجع.

(1) لتخيل ترتب الأثر معها كما لو لم يورّ.

(2) لما سبق من أن الرافع للإكراه هو الالتفات لوجه التخلص المقدور، ل

ص: 188

(189)

(مسألة 6): المراد من الضرر الذي يخافه علي تقدير عدم الإتيان بما أكره عليه ما يعم الضرر الواقع علي نفسه وماله وشأنه، وعلي بعض ممن يتعلق به ممن يهمه أمره (1). فلو لم يكن كذلك، بل كان علي بعض المؤمنين، فلا إكراه (2).

---------------

مجرد القدرة عليه مع الغفلة عنه.

(1) بحيث يكون الإضرار به إضراراً بالمكرَه عرفاً، ومحذوراً في حقه وتعدياً عليه، فيتخلص من ذلك التعدي بالإقدام علي العمل المكره عليه، ولا يكون إقدامه عليه بطيب نفسه عرفاً.

(2) كأنه لعدم خوف الضرر بعد كون الإضرار بذلك الشخص إضراراً به عرفاً، لعدم اهتمامه به. لكن الإضرار لم يؤخذ بعنوانه في معني الإكراه، ليتعين الجمود علي عنوانه ويهتم بتحديد مصاديقه، وإنما ذكر في كلماتهم لابتناء الإكراه علي الحمل والقسر الذي لا يحصل بمجرد الأمر من الغير من دون لزوم محذور من مخالفته. وذلك لا يقتضي الاقتصار علي الضرر، بل يعم كل محذور يوقعه ويستعين بالتخويف به علي تنفيذ أمره وتحقيق مطلوبه. فإذا لم يكن الإضرار بالغير إضراراً بالشخص المأمور عرفاً، لعدم اهتمامه به في نفسه، إلا أنه كان مما يجب عليه دفعه عن ذلك الغير شرعاً، كما لو هدد بقتل مؤمن، فإنه يصدق الحمل والقسر به. ومثله لو نهب مال المؤمن إذا كان أميناً عليه، إذ بضميمة وجوب حفظه شرعاً يصدق الحمل والقسر المعتبر في مفهوم الإكراه.

ويؤيد ذلك أو يدل عليه ما سبق في صحيح صفوان والبزنطي عن أبي الحسن (عليه السلام):

(في الرجل يستكره علي اليمين، فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك ؟ فقال: لا. قال رسول الله صلي الله عليه وآله: وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه، وما لم يطيقوا، وما أخطأوا) (1) . فإن الشايع من الإكراه علي اليمين م

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من أبواب كتاب الأيمان حديث: 12.

ص: 189

فلو باع حينئذٍ صح البيع (1).

---------------

يتعارف من العشارين ونحوهم ممن يطلبون اليمين دفعاً لأخذ العشور ونحوها.

ومن الظاهر أن ذلك لا يختص بأخذه من مال الإنسان نفسه، بل حتي من مال أخيه إذا كان أميناً عليه، كالمضارب ونحوه. وفي صحيح إسماعيل الجعفي: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أمر بالعشار، ومعي مال، فيستحلفني، فأن حلفت له تركني، وإن لم أحلف له فتشني وظلمني. قال: أحلف له. قلت: فإنه يستحلفني بالطلاق. قال: أحلف له. فقلت: فإن المال لا يكون لي. قال:

فعن مال أخيك... ) (1) بل لا يبعد الاكتفاء برجحان دفعه شرعاً إذا كان مهماً جداً، بحيث يصعب تحمله.

وبذلك يظهر أن المحذور لا يختص بالإضرار، بل يجري في غيره من المحاذير التي يحب دفعها أو يهتم به، لشدة رجحانه شرعاً، كهدم المساجد وإشاعة الفساد ونحوهما. فلاحظ.

(1) مما سبق يظهر الإشكال في الصحة حينئذٍ، بل المنع منها.

بقي في المقام أمور:

الأول: إذا أكره علي خصوصيات المعاملة، كالثمن والمكان وغيرهما من دون إكراه علي أصل إيقاعها، فاستجاب المكرَه وحافظ علي الخصوصيات المكرَه عليها، صحت المعاملة، إذ بعد عدم الإكراه علي إيقاعها فإيقاعها واجدة للخصوصيات المكره عليها عن رضا وطيب نفس، وإلا لم يقدم علي إيقاعها، كما لعله ظاهر.

الثاني: الإكراه المبطل للمعاملة هو إكراه من تكون المعاملة له، ويكون هو ملزماً بمضمونها، كالمالك والزوج والزوجة والمضارب وغيرهم، دون مثل الوكيل والولي ونحوهما ممن يوقع المعاملة، ويكون الملزم بها غيره، حيث لا أثر لإكراهه مع رضا الأصيل بالنحو المعتبر في المعاملة المكره عليها، لظهور أن مفاد حديث رفع الإكراه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 18 من أبواب مقدمات الطلاق وشروطه حديث: 5.

ص: 190

(191)

عدم إلزام المكرَه بما أكره عليه. كما أن الآية الكريمة إنما تدل علي أن المعتبر في صحة التجارة هو رضا صاحبها. فلو أكره المالك أو المرأة أو الزوج شخصاً علي أن يوقع عقد البيع أو النكاح أو الطلاق عنه صح، لوقوعه برضا الأصيل من دون إكراه، ولا أثر لإكراه موقع المعاملة. وكذا لو أكره الأجنبي الوكيل علي إيقاع معاملة هو موكل فيها.

نعم، لو قصرت الوكالة أو الولاية عن التصرف المكره عليه، لمخالفته لمقتضي الوكالة أو الولاية تعين عدم صحة التصرف، كما لو كان التصرف المذكور مخالفاً لما عينه الموكل أو لمصلحة المولي عليه، وكذا لو ابتنت الوكالة أو الولاية علي إعمال نظر الولي أو الوكيل، بحيث يراه صلاحاً في حق الموكل أو المولي عليه، فأعجله المكرِه عن إعمال نظره في ذلك. لكن بطلان المعاملة حينئذِ ليس للإكراه، بل لعدم سلطنة موقعها، كما لو أوقعها الأجنبي فضولاً.

الثالث: صرح في الشرايع والقواعد وغيرهما بنفوذ عقد المكره إذا تعقبه الرضا من صاحبه، ونسبه في المستند للأكثر، وفي الجواهر: (علي المشهور نقلاً إن لم يكن تحصيلاً)، وذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه المشهور بين المتأخرين. وفي الرياض وعن الحدائق أن ظاهرهم الاتفاق عليه.

والعمدة فيه عموم الوفاء بالعقود الذي سبق الاستدلال عليه في أول كتاب التجارة بالآية الشريفة والسيرة العقلائية، مؤيداً أو معتضداً بصحة عقد الفضولي بذلك. وقد تنظر في ذلك المحقق الثاني (قدس سره) في جامع المقاصد وجماعة ممن تأخر عنه. وما ذكر أو يذكر في وجه ذلك أمور:

الأول: ما في جامع المقاصد والجواهر من انتفاء القصد مع الإكراه، ومع عدم القصد لا عقد، ليصح بالرضا المتأخر، كما في عقد الهازل. ويظهر الجواب عنه مما تقدم في ذيل الكلام في الوجه الثاني للاستدلال علي بطلان عقد المكرَه.

الثاني: ما تضمن رفع ما استكرهوا عليه. وفيه: أن لا نظر له إلي حال الرضا به، فلا ينافي في ثبوته في حقه وإلزامه به بسببه. ومثله ما تضمن عدم حلّ مال المسلم إل

ص: 191

بطيبة نفسه بناء علي أنه من أدلة المسألة وعمومه للحل الوضعي. بل هو ظاهر حينئذٍ - بمقتضي الحصر - بحله بالرضا المتأخر.

الثالث: آية التجارة عن تراض. لظهورها بمقتضي الحصر في اعتبار مقارنة الرضا للعقد، بحيث يصدر عنه. وإنكار شيخنا الأعظم (قدس سره) دلالتها علي الحصر في غير محله، كما يظهر مما تقدم في وجه الاستدلال بها. بل هو لا يناسب استدلاله بها لبطلان عقد المكرَه.

ومثله ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من المنع من خلوّ عقد المكرَه من الرضا بعد وقوعه باختياره. إذ يظهر الإشكال فيه مما سبق منا من انصراف الرضا في المقام عن الرضا الصادر عن إكراه. بل سبق منه (قدس سره) أنه لابد من البناء علي ذلك في الآية الشريفة. ومن ثم استدل هو (قدس سره) بها علي بطلان عقد المكره. فراجع.

ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في مبحث عقد الفضولي - وسبقه إليه في المقابيس - من احتمال كون قوله تعالي: (عن تراض) خبراً ثانياً، لا قيداً للتجارة، حيث يرجع ذلك إلي أنه يعتبر في حلّ أكل المال أن يكون سبب الأكل تجارة وأن يكون عن تراض، والمفروض في المقام أنه لا يحل المال إلا بعد الرضا. ولعله إليه يرجع ما في الجواهر، من أن أقصي آية التراضي اعتباره نفسه في الحلية والخروج عن أكل المال بالباطل.

إذ فيه: - مع أن غلبة توصيف النكرة تؤيد تقييد التجارة بالتراض، كما اعترف به (قدس سره) -: أن ذلك يقتضي بطلان العقد في المقام، لأن سبب حلّ الأكل فيه نفس العقد، وبه تكون التجارة، والمفروض عدم صدوره عن تراض.

نعم، لو كان اسم (تكون) ضمير يعود إلي الأكل المستفاد من مساق الكلام، وكانت (تجارة) منصوبة بنزع الخافض، لتمّ ما ذكره، حيث يكون المعني حينئذٍ: إلا أن يكون أكل المال بتجارة وعن تراض. لكنه لا يتناسب مع كون الثابت في المصحف الشريف (تكون) بالتاء، لا بالياء، كما أن نصب التجارة بنزع الخافض مخالف

ص: 192

للظاهر جداً.

وكذا الحال فيما ذكراه (قدس سرهما) من أن الخطاب لملاّك الأموال، والتجارة في الفضولي إنما تصير تجارة المالك بعد الإجازة. لرجوعه إلي أن (عن تراض) متعلق بالمعني الحرفي المقدر، وهو إضافة التجارة لملاك الأموال. وكون المتعلق هو نسبة الإضافة بما هي معني حرفي غير مألوف في استعمالات أهل اللغة والعرف، خصوصاً مع كونها مقدرة غير مصرح بها، كما في المقام.

علي أن اختصاص الخطاب بملاّك الأموال غير ظاهر، فإن النهي عن أكل المال بالباطل يعمّ المالك وغيره. وغاية ما يدعي أنه لابد من تقييد التجارة بما يصدر عن المالك، بل عن كل من هو مسلط شرعاً، فالتجارة الصادرة عن غيره خارجة عن العموم موضوعاً، ولا تدخل في العموم حتي تنسب له بالإجازة، وهي حينئذٍ عن رضاً منه، لا من دون رضا. وكأنه إلي هذا يرجع ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) في مبحث عقد الفضولي. وهو يبتني علي ما سبق من كون (عن تراض) متعلق بنسبة الإضافة المقدرة. الذي سبق الإشكال فيه. علي أنه لا ينفع في الإكراه، لأن التجارة صدرت ممن هو مسلط عليها وانتسبت له من دون رضاً منه بها.

لكن ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن التجارة بالمعني المصدري وإن كانت أمراً آنياً لا بقاء له، إلا أنها بالمعني الاسم المصدري أمر قارّ له بقاء، فإذا تعقبها الرضا صدق أنها عن رضا.

لكنه يشكل: أولاً: بأن حمل التجارة في الآية الشريفة علي المعني الاسم المصدري مخالف للظاهر، فإنها من المصادر، لا أسماء المصادر. وثانياً: بأن اسم المصدر وإن كان له وجود استمراري، إلا أن حدوثه تابع للمصدر ومقارن له غير منفصل عنه، فإذا لم يقع المصدر عن تراض لم يقع اسم المصدر عنه، وإذا تعقبه الرضا، لم يصدق عليه أنه عن تراض، بل ملحوق بالرضا.

نعم، ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن المراد بالتجارة ليس هو العقد، بل الاكتساب،

ص: 193

وهو لا يحصل شرعاً إلا بعد الرضا، وإن كان العقد سابقاً عليه. لكن تفسير التجارة بالاكتساب الشرعي غريب جداً، لا يناسب معناها لغة وعرفاً. كما أنه لا يناسب ورود الآية الشريفة في بيان أسباب الاكتساب الصحيحة شرعاً، حيث يتعين حينئذٍ حمل التجارة علي التجارة العرفية، وأن المراد بالآية بيان أنه يشترط في صحتها شرعاً صدورها عن تراض، وذلك لا يتم مع صدورها عن إكراه وتعقبها بالرضا. ومن هنا كانت الآية الشريفة ظاهرة في اعتبار مقارنة التجارة للرضا، بحيث تصدر عنه، ولا يكفي لحوقها به.

فالعمدة في المقام أنه لابد من رفع اليد عن الظهور المذكور بعد أن كان المرتكز أن اعتبار الرضا إنما هو لاعتبار استقلال صاحب السلطنة في إعمال سلطنته، بحيث لو لم يستقل في إعمال سلطنته وكان مكرهاً كان رضاه بالمعاملة لاغياً، وكانت التجارة كما لو وقعت من دون إعمال سلطنته. وحيث ثبت - كما يأتي عند الكلام في عقد الفضولي - أنه يكفي في إعمال السلطنة المعتبر في التجارة إعمالها بعد وقوعها، تعين الاجتزاء بالرضا اللاحق، ونفوذ التجارة به.

ومرجع ذلك إلي الجمع بين الآية الشريفة وأدلة نفوذ العقد الفضولي بإلغاء خصوصية تعقب التجارة للتراضي، والاكتفاء بمطلق الرضا بالتجارة، ولو بعد حصولها، إعمالاً للسلطنة المعتبر في العقد.

فإن ذلك أولي عرفاً من الجمود علي ظاهره، وتخصيصه بعقد الفضولي، ليدعي أن الخروج عنه في عقد الفضولي لا يستلزم الخروج عنه في عقد المكره، لما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من استناد عقد الفضولي للأصيل حين إجازته له ورضاه به، واستناد عقد المكره له حين صدوره منه قبل رضاه به.

وإن كان الظاهر أن ذلك ليس فارقاً بعد ظهور الآية نفسها في اعتبار صدور التجارة عن الرضا، لأن انتساب التجارة في العقد الفضولي للأصيل وإن كان مقارناً للإجازة والرضا، إلا أن وقوعها سابق عليه، فلا يصدق أنها تجارة عن رضا من

ص: 194

صاحبها، بل هي ملحوقة به. نعم لو كان قوله تعالي: (عن تراض) متعلقاً بنسبة الإضافة بما هي معني حرفي اتجه الفرق المذكور، كما أشرنا إليه آنفاً. لكن سبق المنع من ذلك. فراجع.

بل ربما يكون صدور عقد المكره عن صاحبه يجعله أولي بالصحة مع تعقبه بالرضا منه من عقد الفضولي. ومن ثم استدل بعضهم علي الصحة في المقام بفحوي ما دل علي صحة عقد الفضولي بالإجازة والرضا اللاحق. وإن كنا في غني عن ذلك بما سبق. فلاحظ.

هذا وفي كون الرضا اللاحق موجباً لترتب أثر صحة العقد من حين صدوره الذي يعبر عنه بالنقل، أو من حين صدور العقد الذي يعبر عنه بالكشف، كلام موكول للكلام في حكم إجازة عقد الفضولي، لأنهما من باب واحد، خصوصاً بعد ما سبق في وجه صحة عقد المكره بالرضا اللاحق.

ثم إن هذا كله في عقد المكره أما إيقاعه فلا مجال لتصحيحه بالرضا اللاحق، لعدم ثبوت عموم كفاية إعمال السلطنة في الإنشاء بعد وقوعه، وإنما يختص ذلك بالعقد، فلا مخرج عن ظهور الأدلة في اعتبار مقارنة صدوره للرضا. ومن ثم لو وقع فضولاً لم يصح بالإجازة اللاحقة إلا بدليل خاص لو حصل.

ص: 195

ص: 196

(197)

البيع الفضولي (1)

(الرابع): القدرة علي التصرف (2). لكونه مالكاً (3). ووكيلاً عنه، أو مأذوناً منه (4).

---------------

(1) قال في القاموس:

(الفضولي بالضم المشتغل بما لا يعنيه) . وعلي ذلك يكون المراد به في المقام موقع البيع، كما جري عليه سيدنا المصنف (قدس سره) في غير موضع مما يأتي. ومقتضي ذلك أن يضاف البيع له فيقال: بيع فضولي. ولا يكون وصفاً للبيع، كما في المتن.

هذا والظاهر أن الكلام الآتي لا يختص ببيع الفضولي، بل يجري في جميع عقوده، كما يظهر من أدلة المسألة إن شاء الله تعالي.

(2) من الظاهر أن العقود والإيقاعات تقتضي نحواً من التصرف في المال أو النفس، إما بإثبات حق عليها مالي أو غيره، أو بجعل عنوان اعتباري لها، كالزوجية والبينونة والحرية وغيرها. ومجرد تشريع المضمون العقدي أو الإيقاعي لا يقتضي ثبوت السلطنة لكل أحد علي إيقاعه، بل لابد في إثباتها لبعض الأشخاص من دليل آخر.

(3) فإن مقتضي قاعدة السلطنة علي المال نفوذ تصرف المالك فيه. وكذا الحال لو كان العقد متعلقاً بالنفس كالتزويج، فإن مقتضي قاعدة السلطنة علي النفس نفوذ تصرف من يتعلق العقد به. نعم لو قصرت قاعدة السلطنة في حق الشخص - كما في الصبي والسفيه - تعين عدم نفوذ عقده ولا إيقاعه.

(4) لأن الوكيل والمأذون يقوم مقام الموكل والآذن في السلطنة علي الأمر

ص: 197

(198)

أو ولياً عليه (1). فلو لم يكن العاقد قادراً علي التصرف لم يصح البيع (2)، بل توقفت صحته علي إجازة القادر علي ذلك التصرف، مالكاً كان، أو وكيلاً عنه، أو مأذوناً منه، أو ولياً عليه. فإن أجاز صح (3)،

---------------

الموكل أو المأذون فيه.

(1) لأن مقتضي الولاية السلطنة علي شؤون المولي عليه، سواءً كان إنساناً كالصبي، أم غيره كالوقف ومال الزكاة. ومن هنا لا يختص الأمر بولي المالك، كما قد توهمه عبارة المتن.

(2) بلا خلاف ولا إشكال، بل هو من الضرورات الفقهية والدينية. وسيتضح إن شاء الله تعالي الوجه في قصور عمومات النفوذ والصحة عنه. مضافاً إلي الأدلة الخاصة التي يأتي التعرض لبعضها. ووضوح الحكم يغني عن استيعابها.

(3) كما في المقنعة والنهاية والوسيلة والشرايع والتذكرة، وعن الإسكافي والحلبي والقاضي وغيرهم، وفي الجواهر أنه الأشهر بالمشهور، بل قيل إنه كاد يكون إجماعاً. بل صرح في الناصريات بالإجماع علي صحة عقد الفضولي بالنكاح، وحكي عن ظاهر التذكرة في موضع وصريحه في آخر الإجماع عليه في البيع، وإن كان الموجود فيه ذكر ذلك في بعض فروع المسألة مع تصريحه بالخلاف في أصل المسألة. وهو لا يخلو عن تدافع.

وقال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(واستقر عليه رأي المتأخرين عدا فخر الدين وبعض متأخري المتأخرين كالأردبيلي والسيد الداماد وبعض متأخري المحدثين) .

خلافاً للخلاف والغنية والسرائر، ومن تقدم ذكره في كلام شيخنا الأعظم (قدس سره). بل في الغنية الإجماع عليه. وكذا في الخلاف، مع اعترافه بوجود المخالف فيه. ونفي في السرائر في كتاب باب المضاربة الخلاف في بطلان شراء الغاصب بعين المال بنحو يظهر منه عدم صحته بالإجازة مع اعترافه بوجود القائل بأن ربح المال

ص: 198

المغصوب لمالكه المغصوب منه.

وكيف كان فقد يستدل علي صحة بيع الفضولي، بل مطلق عقده بأمور:

الأول: عموم نفوذ العقد المستفاد من قوله تعالي: (أوفوا بالعقود)(1) ، فقد ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أن خلّوه عن إذن المالك لا يوجب سلب العقد عنه. غاية الأمر أنه لابد في نفوذه من رضا المالك. أما اعتبار سبق الرضا، فلا دليل عليه، بل مقتضي إطلاق دليل النفوذ الاكتفاء بالرضا المتأخر، اقتصاراً في تقييده علي المتيقن.

ويشكل: أولاً: بما أشار إليه سيدنا المصنف (قدس سره) من أنه بعد فرض صدق العقد عليه - الذي هو موضوع عموم النفوذ - وإن خلا عن رضا المالك، وأن عدم نفوذه من باب التخصيص الذي يقتصر فيه علي المتيقن، وهو صورة عدم رضا المالك به أصلاً، فالاكتفاء في نفوذه برضا المالك المتأخر إن ابتني علي كون الرضا المتأخر مانعاً من خروج العقد عن حكم العام - وهو النفوذ - من أول الأمر، بأن يكون المعتبر في نفوذ العقد حين صدوره مطلق الرضا به ولو كان متأخراً، لزم كون الإجازة كاشفة عن نفوذ العقد كشفاً حقيقياً، وهو خلاف مختاره قدس سره في المقام.

وإن ابتني علي كون الرضا المتأخر موجباً لنفوذ العقد بعد أن لم يكن نافذاً حين صدوره، لما ذكره (قدس سره) عند الكلام في النقل والكشف من أن مقتضي دليل اعتبار الرضا في النفوذ عدم فعلية النفوذ قبله، فمرجعه إلي قصور عموم نفوذ العقد عن العقد الخالي عن الرضا حين وقوعه، وخروجه عنه تخصيصاً، وغاية ما يدعي حينئذٍ تحكيم العموم فيه بعد حصول الرضا به.

لكنه قدس سره ذكر في مبحث خيار الغبن أنه مع قصور عموم حكم العقد عن بعض أفراده في بعض الأزمنة لا مجال للتمسك بالعموم في ذلك الفرد في الزمن اللاحق، لما ذكره في التنبيه العاشر من تنبيهات الاستصحاب من أن الزمان إذا لم يكن موجباً لتكثر أفراد العام - كما هو الحال في عموم العقود - فمع خروج الفرد عن حكم

********

(1) سورة المائدة آية: 1.

ص: 199

العام تخصيصاً في بعض الأزمنة لا مجال للتمسك بعموم العام فيه بعد ذلك.

وثانياً: بأنه لا مجال لدعوي عموم الأمر بالوفاء بالعقود للعقد الفضولي حين وقوعه، بحيث يكون عدم نفوذه مطلقاً أو مع عدم الإجازة من باب التخصيص للعموم المذكور. لظهور أن القضية المذكورة ارتكازية، ولا ريب في عدم نفوذ عقد الفضولي بنفسه ارتكازاً. فلابد من البناء علي قصور العموم المذكور عن عقد الفضولي حين وقوعه، ويبقي الكلام في وجه نفوذه بالإجازة، وأنه هل يكون مشمولاً للعموم بسببها، أو ملحقاً به لدليل خارج ؟.

والذي ينبغي أن يقال: لا ريب في أن المخاطب بالوفاء بالعقد خصوص من يتعلق العقد به، بحيث يكون تنفيذه من وظيفته، لكون مضمونه مقتضياً للتصرف في نفسه أو ماله، غايته أن خطابه بالوفاء بالعقد حيث كان متفرعاً علي نفوذ العقد ودالاً عليه، فالعقد كما ينفذ في حقه ينفذ في حق غيره، لعدم قابلية النفوذ للتبعيض عقلاً أو عرفاً.

إذا عرفت هذا فقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن مقابلة الجمع بالجمع في الآية الشريفة تقتضي التوزيع، وأن المراد خطاب كل أحد بالوفاء بعقده، وكما يستند العقد للشخص بمباشرته له يستند له بإجازته له. وجري علي غير ذلك غير واحد ممن تأخر عنه.

قال سيدنا المصنف (قدس سره):

(وإضافة العقد إلي الشخص: تارة: بلحاظ صدوره منه. وأخري: بلحاظ التزامه به، وإن كان صادراً من غيره. ولا يمكن الحمل علي الأول. إذ مقتضاه في عقد الوكيل والمأذون أن لا يجب علي الموكل والآذن الوفاء، لعدم صدور العقد منهما، لا مباشرة ولا تسبيباً، إذ مجرد الإذن والوكالة لا يقتضي ذلك، فيتعين الأخير. والالتزام المصحح للإضافة لا فرق فيه بين الإذن السابقة والإجازة اللاحقة... ) .

لكنه قد يشكل بعدم وضوح كفاية إمضاء عقد الفضولي ممن له العقد في نسبته له بعد كون الموقع له غيره، فضلاً عن استناده له بذلك، كما هو مقتضي الجمود علي ما

ص: 200

عن بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره.

وأما ما سبق من سيدنا المصنف (قدس سره) من أن الاقتصار في مصحح إضافة العقد للشخص علي صدوره منه مستلزم لعدم وجوب الوفاء عليه بعقد وكيله ومأذونه فلابد من كون مصحح إضافة العقد للشخص هو التزامه به. فيدفعه أن التوكيل والإذن لا يرجع إلي الالتزام بفعل الوكيل والمأذون، بل مجرد تسليط الموكل والمأذون من قبل الموكل والآذن.

ودعوي: أن تسليطه لهما راجع إلي التزامه بما يقع منهما. ممنوعة. علي أن المراد بتحقق الالتزام منه بمجرد التسليط إن كان هو الالتزام الفعلي، فمن الظاهر عدم الموضوع له، لعدم قيامهما بإيقاع الأمر الموكل أو المأذون فيه بعد. وإن كان المراد هو الالتزام بالعقد معلقاً علي وقوعه، فلا ريب في عدم كفايته في نفوذ العقد من الغير، فلو التزم الشخص علي نفسه بأن ينفذ ما يجريه ابنه من عقود من دون أن يوكله أو يأذن له، ثم غفل عن ذلك، لم تنفذ عقود أبنه عليه إلا بتنفيذه والتزامه وإجازته لها فعلاً.

وإن كان هو الالتزام الشأني، بمعني أن الموكل والآذن لو التفتا للعقد حين إيقاع الوكيل والمأذون لالتزما به. ففي كفاية مثل هذا الالتزام في نفوذ العقد كلام يأتي في المسألة الثامنة. علي أنه قد لا يتحقق، كما لو عدل الموكل عما وكل فيه وعزل الوكيل وأوقع الوكيل العقد قبل أن يبلغه ذلك، فإنه ينفذ علي الموكل، لعدم انعزال الوكيل قبل أن يبلغه العزل، فتبقي سلطنته تبعاً لبقاء وكالته.

وبذلك يظهر أن نفوذ عقد الوكيل والمأذون ليس لالتزام الموكل والآذن، بل لسلطانهما عليه تبعاً لتسليطهما لهما. نظير سلطان الولي علي شؤون المولي عليه شرعاً، المقتضي لنفوذ عقده عليه، مع وضوح عدم التزامه به أصلاً.

وبعبارة أخري: مقتضي تشريع الوكالة والإذن هو قيام فعل الوكيل والمأذون مقام فعل الموكل والآذن - وترتب أحكامه عليه - كقيام فعل الولي مقام فعل المولي

ص: 201

عليه، وليس هو متفرعاً علي نسبته له بسبب التزامه به، ليكون شاهداً علي كفاية التزام الأصيل وإمضائه لعقد الفضولي في نسبته له، ودخوله في عموم وجوب الوفاء بالعقد.

ولذا لو فرض عدم مشروعية التوكيل والإذن - ولو لقصور الوكيل والمأذون عما وكل فيه، كما لو قيل بعدم جواز توكيل الكافر علي بيع المسلم - لم يكف التوكيل والإذن في عموم وجوب الوفاء في حق الموكل لعقد الوكيل والآذن، من أجل دعوي التزامه به تبعاً لتوكيله فيه.

نعم، قد يصح نسبة عقد الوكيل للموكل عرفاً، ولو توسعاً ومجازاً، بلحاظ تسليطه له عليه، أو بلحاظ قيامه مقامه، لا بلحاظ التزامه به، ليصلح شاهداً علي عموم كفاية الالتزام في النسبة، وينفع فيما نحن فيه.

نعم، لا شاهد علي اعتبار نسبة العقد إلي المخاطب بلزوم الوفاء به. وما سبق من بعض الأعاظم (قدس سره) من أن مقابله الجمع بالجمع تقتضي التوزيع وإن كان مسلماً، بل لا ريب في عدم كون المراد في المقام وجوب وفاء كل أحد بكل عقد وإن لم يتعلق به ولم يلتزم به. إلا أن جعل المعيار في التوزيع علي النسبة إنما يتم في إضافة الجمع للجمع، كما في قوله تعالي: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم...)(1) وقوله سبحانه: (وليوفوا نذورهم)(2) وقوله عز وجل: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا علي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم)(3) وغير ذلك، لظهور الإضافة في انتساب المضاف للمضاف إليه، أما في مثل الآية الشريفة مما لا يتضمن إضافة الجمع للجمع، بل مجرد خطاب الجمع بحكم الجمع، فربما يكون معيار التوزيع أمراً آخر، حسب اختلاف المقامات واختلاف القرائن والمناسبات الارتكازية المحيطة بها.

وعلي ذلك فحيث لم تتضمن الآية الشريفة التعبير بنفوذ العقود، بل الأمر

********

(1) سورة النساء آية: 3.

(2) سورة الحج آية: 29.

(3) سورة المؤمنين آية: 5، 6، وسورة المعارج آية: 29-30.

ص: 202

بالوفاء بها، فالظاهر أن التعبير المذكور إشارة إلي قضية ارتكازية، وهي لزوم قيام الإنسان بما جعله علي نفسه بالعقد، وأدائه له علي الوجه الذي التزم به، نظير وفائه بعهده ونذره ويمينه ووعده. ومن ثم لا تشمل العقد الذي يوقعه غيره من دون أن يلتزم هو به. إلا أن يدل دليل من الخارج علي قيام التزام ذلك الغير مقام التزامه هو علي نفسه، كما في الوكيل والمأذون والولي.

وعلي ذلك لا يكون عقد الفضولي قبل الإجازة مشمولاً للآية الشريفة، لا في حق الفضولي نفسه، لعدم تعلق العقد به، وعدم كون تنفيذه من وظيفته، ولا في حق الأصيل، لعدم التزامه به، ليكون موضوعاً للوفاء بما التزم به علي نفسه. أما بعد الإجازة فيدخل في عموم الآية الشريفة، لرجوع إجازته له إلي التزامه به، كما لو أوقعه بنفسه، وإن لم نقل بكفاية ذلك في النسبة إليه.

وبعبارة أخري: ليس موضوع الآية الشريفة العقد الذي ينسب للإنسان، أو يستند إليه، كما سبق منهم، ليقع الكلام في صدق ذلك علي عقد الفضولي بالإجازة وعدمه. بل العقد الذي يلتزم به، وهو كما يصدق علي العقد الذي يوقعه هو ويلتزم به رأساً، يصدق علي العقد الذي يوقعه غيره إذا التزم هو به بعد ذلك وأجازه. وبذلك يتجه الاستدلال بعموم الأمر بالوفاء بالعقود علي نفوذ عقد الفضولي بالإجازة.

الثاني: عموم نفوذ الشرط المستفاد من مثل قولهم (صلوات الله عليهم):

(المسلمون عند شروطهم) (1) فقد سبق منّا في أول كتاب التجارة عموم الشروط للعقود المبنية علي التزام كل من المتعاقدين للآخر بشيء في مقابل التزام الآخر له، كالبيع والإجارة والمضاربة وغيرها، وإنما الإشكال في عمومها لمثل الهبة مما يتضمن التزام أحد الطرفين للآخر من دون أن يلتزم الآخر له بشيء.

إذا عرفت هذا فقد يدعي أن العموم المذكور يشمل عقد الفضولي بعد الإجازة، فيكون دليلاً علي نفوذه.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الخيار وغيرها.

ص: 203

لكن العموم المذكور مختص بالشرط المنتسب لمن يخاطب بلزوم الوفاء به، كما هو مقتضي الإضافة في الحديث السابق، لما سبق من ظهور إضافة الجمع للجمع في التوزيع. ويقتضيه أيضاً التعبير في النصوص بمثل: شرط، ويشترط، ونحوهما مما يقتضي صدور الشرط ممن يخاطب بالوفاء به. وقد سبق الإشكال في كفاية إجازة عقد الفضولي في نسبته للمجيز، فضلاً عن صدوره منه، الذي هو مفاد مثل شرط، ويشترط، ونحوهما.

اللهم إلا أن يدعي إلغاء خصوصية الانتساب والصدور عرفاً، والتعدي لجميع موارد الالتزام بالشرط، لظهور أن لزوم الوفاء بالشرط - كلزوم الوفاء بالعقد - ليس تعبدياً محضاً، بل هو ارتكازي أيضاً، والمعيار في لزومه ارتكازاً علي الشخص هو التزامه به وإن لم يصدر منه ولم ينتسب له.

الثالث: إطلاقات الصلح، كقوله تعالي: (والصلح خير) و(1) وصحيح حفص عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: الصلح جائز بين الناس [المسلمين] ) (2) فقد سبق في أول كتاب التجارة نهوضها بإثبات نفوذ العقود التي يدفع بها الفساد وتحل بها المشاكل. وبضميمة القطع بعدم خصوصية دفع الفساد في تشريع المعاملة تنهض بعموم نفوذ العقود وإن لم تحلّ بها المشاكل ويدفع بها الفساد. وحينئذٍ فقد يدعي أن مقتضي إطلاقها العموم لعقد الفضولي بعد إجازة الأصيل له.

لكن الأدلة المذكورة ظاهرة في نفوذ الصلح علي المصطلحين، ولم يتضح كون إمضاء الصلح وإجازته صلحاً، ليكون المجيز أحد المصطلحين. وتنهض هذه الأدلة بالمدعي، وهو نفوذ عقد الفضولي بالإجازة. فتأمل.

الرابع: صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)

:(سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده. فقال: ذاك إلي سيده، إن شاء أجازه وإن شاء فرق بينهما. قلت: أصلحك الله،

********

(1) سورة النساء آية: 128.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب الصلح حديث: 1.

ص: 204

إن الحكم بين عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إن أصل النكاح فاسد، ولا تحل إجازة السيد له. فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنه لم يعص الله، وإنما عصي سيده، فإذا أجازه فهو له جائز) (1) .

والاستدلال به ليس بلحاظ صراحته في جواز عقد الفضولي في مورده، وهو النكاح، بل بلحاظ ما تضمنه ذيله من أنه لم يعص الله، وإنما عصي سيده، فإذا أجازه له فهو له جائز. لقرب سوقه مساق التعليل رداً علي من حكم بفساد النكاح من العامة.

ووجه الاستدلال حينئذٍ أنه ليس المراد من معصية السيد المعصية التكليفية، لعدم فرض نهي السيد عن النكاح في الحديث، بل منافاة العقد لسلطنته علي ماله، فيدل علي أن يكفي في إعمال السلطنة المعتبر في عقد النكاح إعمالها بإمضاء العقد الواقع، ولا ينحصر بإعمالها في إيقاع العقد مباشرة أو توكيلاً أو نحوهما. ومقتضي ارتكازية التعليل إلغاء خصوصية عقد نكاح العبد في ذلك، والتعميم لكل عقد مناف لسلطنة من يعتبر إعمال سلطنته فيه.

بل لا يبعد أن يكون نفوذ عقد الفضولي بالإجازة أمراً ارتكازياً، وأن توقف من توقف في ذلك في النكاح، لشبهة أهمية النكاح، فنبه الامام (عليه السلام) بالتعليل لتلك القضية الارتكازية، لبيان أنها تعمّ النكاح. وكيف كان فالصحيح بسبب التعليل من الأدلة العامة علي نفوذ عقد الفضولي بالإجازة.

لكن ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن موقع العقد في المقام ليس فضولياً، بل هو صاحب العقد، لأن الزوج هو العبد نفسه، فلا مجال لأن يستفاد منه حكم عقد الفضولي الذي يكون الموقع فيه للعقد أجنبياً عنه. غاية الأمر أنه يعتبر في المقام رضا المولي، وهو غير حاصل حين العقد وإنما حصل بعد ذلك.

نعم، يمكن التعدي من مورد الصحيح إلي ما يماثله، كالعقد علي بنت أخ الزوجة من دون إذن عمتها المعتبر في صحة العقد إذا حصل بعد ذلك. وربما كان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

ص: 205

ذلك هو الوجه في عدم استدلال شيخنا الأعظم (قدس سره) بالتعليل المذكور في الصحيح، وإنما احتمل كونه مؤيداً.

وفيه: أن العبد لما كان ملكاً للمولي، فالتصرف فيه بالبيع والتزويج وغيرهما من شؤون المولي، لا من شؤون العبد نفسه، والعقد عليه من قبل غير المولي من عقد الفضولي، سواءً كان بيعاً أم تزويجاً أم غيرهما، وسواءً كان موقع العقد هو العبد نفسه أم شخصاً آخر غير المولي، كما أشار لذلك سيدنا المصنف (قدس سره).

بل حتي مثل بيع الراهن العين المرهونة من دون إذن المرتهن وبيع المفلس ماله من دون إذن الغرماء لا يخرج عن العقد الفضولي، لأن موقع العقد وإن كان هو المالك، إلا أن البيع لما كان موضوعاً لحق الراهن والغرماء لم يكن التصرف فيه من شؤون المالك وحده، لعدم إطلاق سلطنته علي ماله، بل تشترك السلطنة بين المالك وصاحب الحق، فيكون بيع المالك من دون إذنه من أفراد بيع الفضولي، كبيع أحد الشريكين العين المشتركة من دون إذن شريكة. ومجرد اختلاف موضوع السلطنة، حيث يكون في الشريك هو المال نفسه، وفي المرتهن الحق الثابت بالرهن لا يصلح فارقاً.

ومنه يظهر الحال في اعتبار إذن العمة والخالة في زواج بنت الأخ والأخت عليهما. فإنه إن ابتني علي اعتبار إذنهما تعبداً لم يكف الرضا بالعقد بعد وقوعه، لفقده الشرط الشرعي. وإن رجع إلي منافاة الزواج المذكور لحقهما الأدبي الثابت لهما شرعاً - فيكون اعتبار رضاهما من أجل سلطنتهما علي الحق المذكور، كما هو المرتكز عرفاً - كان مقتضي التعليل الذي تضمنه الصحيح المتقدم الاجتزاء بالرضا المتأخر، اكتفاء في إعمال سلطنة صاحب الحق بإمضاء العقد - المنافي لها - بعد وقوعه. فلاحظ.

الخامس: ما ذكرناه في أول كتاب التجارة من أن نفوذ العقد مقتضي الارتكازات التي فطر الله تعالي الناس عليها، وعليها سيرة العقلاء المبنية علي الارتكازات المذكورة. ومثل هذه السيرة حجة ما لم يثبت الردع عنها. ومن الظاهر عدم الفرق في النفوذ

ص: 206

بمقتضي السيرة الارتكازية المذكورة بين عقد الأصيل الواقع منه، وعقد الفضولي بعد الإجازة من الأصيل. فكما يكون للإنسان إعمال سلطنته بإيقاع العقد علي ما يكون تحت سلطانه، يكون له إعمالها بإجازة العقد الذي يوقعه الأجنبي علي ذلك، وكما ينفذ عليه العقد في الأول ويلزم به، ينفذ عليه في الثاني ويلزم منه. وبذلك تكون السيرة المذكورة من عمومات نفوذ عقد الفضولي.

هذا كله في عموم عقد الفضولي من دون خصوصيته للبيع. وربما يستدل علي عموم نفوذ خصوص بيع الفضولي بالإجازة بعمومات صحة البيع. وقد تقدم منا في أول كتاب التجارة ذكر أمور:

الأول: قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)(1). ويبتني الاستدلال به في المقام علي عموم التراضي للرضا المتأخر عن إنشاء العقد، كما سبق من غير واحد عند الكلام في صحة عقد المكره إذا تعقبه الرضا. وسبق الإشكال فيه. ويأتي تمام الكلام فيه عند الكلام في حجة القول ببطلان عقد الفضولي وعدم صحته بالإجازة اللاحقة إن شاء الله تعالي.

الثاني: قوله تعالي: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا...)(2). وقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن المراد به البيع المستند لمن له البيع، وذلك يصدق بإجازة بيع الفضولي ممن له البيع.

لكن تقدم هناك الإشكال في ثبوت إطلاق للآية الشريفة يقتضي صحة البيع ونفوذه، لعدم وردها لبيان ذلك، بل لاستنكار تشبيه البيع بالربا، استهواناً بتحريم الربا ورداً له، بعد الفراغ عن حرمة الربا وحلية البيع. فلا يدل إلا علي حلية البيع وتحريم الربا في الجملة.

********

(1) سورة النساء آية: 29.

(2) سورة البقرة آية: 275.

ص: 207

مضافاً إلي ما سبق هنا من الإشكال في استناد عقد الفضولي للأصيل بإجازته له. نعم لا إشعار في الآية الشريفة باعتبار انتساب البيع لمن له البيع في نفوذه. غاية الأمر أن نفوذ بيع الفضولي في حق الأصيل مناف لسلطنته علي ماله، فلابد من تقييده بما إذا أعمل سلطنته فيه، فإذا تم الإطلاق في الآية الشريفة كان مقتضاه الاكتفاء في إعمال سلطنته بإجازته اللاحقة، والاقتصار علي خصوص إيقاع عقد البيع زيادة في التقييد ينفيها الإطلاق.

اللهم إلا أن يقال: وضوح عدم نفوذ بيع غير من له السلطان مانع من انعقاد الإطلاق في الآية الشريفة من هذه الجهة، وموجب لاختصاص إطلاقها - لو تم - بغير حيثية السلطنة، مع إجمالها من هذه الحيثية، فلا تنهض بنفي اعتبار خصوص إعمالها في إيقاع العقد، والاكتفاء بإعمالها في إجازته، بل لابد من الرجوع في ذلك لدليل آخر.

الثالث: الإطلاقات المقامية لما تضمن الحث علي التجارة والنهي عن تركها(1) فإنها وإن لم تكن واردة لبيان صحة التجارة ونفوذها، إلا أنه حيث كان الغرض من التجارة ترتب أثرها والاسترزاق منها، فعدم بيان الشارع الأقدس للنافذ منها ظاهر في إمضائها، وترتب أثرها.

ومن الظاهر أن أدلة الحثّ علي التجارة تقصر عن عقد الفضولي، لأن موضوع الحثّ هو من له التجارة، ويكون ربحها له. كما تقصر عن إجازته، لعدم كونها تجارة حتي لو تم كونها موجبة لنفوذه. ومن ثم لا تنهض إطلاقاتها المقامية ببيان نفوذ عقد الفضولي بالإجازة، ولا تنفع في المقام.

ثم إنه قد استدل علي صحة بيع الفضولي ونفوذه بالإجازة بأمور أخر غير العمومات:

الأول: صحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام):

(قال: قضي في وليدة باعها ابن سيدها وأبوه غائب، فاشتراها رجل، فولدت منه غلاماً، ثم قدم سيدها الأول،

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1، 2 من أبواب مقدمات التجارة.

ص: 208

فخاصم سيدها الأخير، فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير إذني. فقال: خذ وليدتك وابنها. فناشده المشتري، فقال: خذ ابنه - يعني: الذي باع الوليدة - حتي ينفذ لك ما باعك. فلما أخذ البيّع الابن قال أبوه: أرسل ابني، فقال: لا أرسل ابنك حتي ترسل ابني. فلما رأي ذلك سيد الوليدة الأول أجاز بيع ابنه) (1) لصراحته في نفوذ بيع الابن للوليدة بإجازة أبيه بعد ذلك.

لكن قد يستشكل في الاستدلال بالصحيح من وجوه:

أحدها: اشتماله علي أخذ مالك الجارية ولدها من المشتري، مع ظهور كونها موطوءة شبهة، فيكون ولدها حرّاً، ولا يملك ولد الحرّ، وغاية ما يستحقه المالك الجارية هو قيمة الولد.

وأما ما في الاستبصار وغيره من احتمال كون الحاكم أخذ الولد من أجل استحصال قيمته من أبيه، كما تضمنته بعض النصوص. ففيه: أنه مخالف لظاهره جداً، لقوة ظهوره في استحقاق نفس الولد وفي انحصار استرجاعه بإمضاء البيع. ومثله ما فيه أيضاً من احتمال أن المراد اخذ قيمة الولد، وقد حذف المضاف وأقام المضاف مقامه، كما هو شايع في الاستعمالات. إذ هو مناف لصريح الصحيح من مطالبة الأب بولده.

وكذا ما في الجواهر من احتمال كون أخذ الولد حتي تثبت الشبهة للمشتري، إذ لو كان عالماً كان زانياً فيملك صاحب الجارية الولد. إذ فيه: أن الشبهة هي مقتضي الأصل، ويناسبها ظاهر الحال بعد كون ولد المالك البايع صاحب يد من حقه البيع ظاهراً. مضافاً إلي أن الاحتمال المذكور لا يناسب ما سبق من قوة ظهور الصحيح في انحصار استرجاع الولد بإمضاء البيع.

وبالجملة: الوقوف عن العمل بالصحيح وإرجاع عمله لأهله أولي من هذه التأويلات التي يأباها لسانه جداً.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

ص: 209

فالعمدة في دفع الإشكال المذكور: أن عدم العمل بهذه الفقرة لا يمنع من الاستدلال بالصحيح للمطلوب من نفوذ عقد الفضولي بالإمضاء. لما هو المعلوم من أن عدم العمل ببعض فقرات الحديث لا يسقطه عن الحجية في تمام مضمونه.

ثانيها: ما تضمنه من تنبيه المشتري إلي أخذ ولد المالك - وهو الذي باشر البيع

من أجل أن يمضي المالك البيع، مع أنه لا يستحق أخذه، غاية الأمر أن له مطالبته بالثمن الذي أخذه منه بعد انكشاف بطلان البيع، بل بجميع ما يخسره بسبب المعاملة المذكورة، لأنه قد غره وخدعه. بل قد يشكل من أجل ذلك ترتب الأثر علي إجازة المالك، لكونها عن إكراه من أجل تخليص ولده الذي أخذ بلا حق.

ويندفع: بأن صريح الصحيح أن أخذ المشتري لولد المالك الذي باشر البيع ليس من أجل استرقاقه، بل من أجل إحراج المالك، لينفذ البيع. وهو يستحق أخذه من أجل تصفية حسابه معه، أو من أجل طلب تعزيره، لأنه قد تصرف بلا حق تصرفاً أضر به، أو أنه (عليه السلام) نبه لذلك بمقتضي ولايته، تنكيلاً بابن المالك، لأنه معتد في تصرفه. ومع استحقاق أخذه يكون الإكراه بحق، فلا يرتفع أثر الإجازة.

علي أن عدم ظهور الوجه في استحقاق أخذه لا يمنع من العمل بالصحيح في محل الكلام، ولا يلزم سقوط أثر الإجازة بالإكراه، إذا لا ريب في كون أخذه بحق بعد تنبيه الامام (عليه السلام) له وإن جهل وجهه، وذلك يسقط أثر الإكراه.

ثالثها: أن ظاهر الصحيح تحقق الرد من المالك، مع الإجماع علي عدم نفوذ الإجازة بعد الرد، فما تضمنه من نفوذ العقد بإجازة المالك بعد رده مخالف للإجماع، وما عليه الأصحاب من نفوذه بالإجازة غير المسبوقة بالرد لا يدل عليه الصحيح. ولعله لذا حكي عن السيد الطباطبائي (قدس سره) أن الصحيح يكون دليلاً علي نفوذ عقد الفضولي بالإجازة حتي بعد الرد.

لكن منع بعض مشايخنا (قدس سره) من ظهور الصحيح في تحقق الرد، لأن ترتيب آثار عدم نفوذ العقد هو مقتضي الحكم الأولي، والذي يجوز العمل عليه ما دامت

ص: 210

الإجازة لم تحصل، وهو يجتمع مع التردد في الإجازة. ويظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) أنه لابد من تنزيل الصحيح علي ذلك، جمعاً بين ما دل عليه من نفوذ العقد بالإجازة وما ثبت من مانعية الرد من تنفيذ الإجازة للعقد.

والذي ينبغي أن يقال: إن كان المراد بالردّ البناء علي عدم إجازة العقد، فلا إشكال في قوة ظهور الصحيح في تحققه في مورده. وحمله علي كون ما صدر من المالك لمجرد العمل بالحكم الأولي بانتظار ظهور المصلحة له في إجازته للعقد بعيد جداً، لا يناسب لسان الصحيح.

وإن كان المراد بالردّ فسخ العقد وحلّه - كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره)، وظاهر الجواهر المفروغية عنه - فلا ظهور للصحيح فيه، لقرب غفلة المالك عن ذلك، وأن ما صدر منه لمجرد عدم بنائه علي الإجازة وتشبثه بملكيته للجارية.

وأظهر من ذلك ما إذا اعتبر فيه لفظ خاص قال في الجواهر: (كما عن الشهيد في حواشيه، حيث قال: والرد أن يقول: فسخت). حيث لا إشكال في عدم تضمن الصحيح ذلك.

وكيف كان فالظاهر عدم مانعية الردّ من الإجازة بأي معني فرض، كما يأتي في التعقيب علي كلام سيدنا المصنف (قدس سره). ومن ثم لا مانع من الاستدلال بالصحيح لما نحن فيه.

بل ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أن ظهور الصحيح في تحقق الإجازة بعد الرد إنما يمنع من الاستدلال به في المقام لو كان مرجع الاستدلال به للاستدلال بالقضية الشخصية التي تضمنتها بضميمة إلغاء خصوصية موردها. أما لو كان مرجعه للاستدلال بكبري تنفيذ الإجازة لعقد الفضولي المستفادة من مساق الكلام في الصحيح، فلا يمنع منه ظهوره في كون الإجازة في مورده بعد الردّ.

لكن استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره بأن الصحيح إنما تضمن نفوذ العقد الخاص بإجازته، من دون أن يتضمن كبري عامة يمكن الرجوع إليها حتي مع

ص: 211

عدم العمل بالقضية الشخصية الخاصة.

وما ذكره (قدس سره) وإن كان صحيحاً، إلا أن الصحيح لم يتضمن القضية الشخصية تأسيساً، بل ظاهره المفروغية عنها بسبب ارتكازيتها، فإن ذلك هو الظاهر من قوله (عليه السلام):

(خذ ابنه حتي ينفذ لك ما باعك) وكذا قوله (عليه السلام):

(فلما رأي ذلك سيد الوليدة أجاز البيع) ، ومن الظاهر عموم القضية الارتكازية، وعدم اختصاصها بالمورد.

نعم، عموم القضية المستفادة من الصحيح - لو تم - لا ينفع مع عدم العمل به في مورده، لوضوح أن تخصيص المورد مانع من حجية العموم في غيره. فالعمدة ما سبق.

الثاني: ما تضمن من النصوص أن عامل المضاربة إن خالف شرط المالك ضمن الخسارة مع كون الربح بينهما(1).

قال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(فإنها إن أبقيت علي ظاهرها من عدم توقف ملك الربح علي الإجازة... كان فيها استئناس لحكم المسألة، من حيث عدم اعتبار إذن المالك سابقاً في نقل مال المالك إلي غيره. وإن حملناها علي صورة رضا المالك بالمعاملة بعد ظهور الربح... اندرجت المعاملة في الفضولي. وصحتها في خصوص المورد وإن احتمل كونها للنص الخاص، إلا أنها لا تخلو عن تأييد للمطلب) .

لكن لا مجال للاستئناس بها علي الأول، ضرورة أن المهم في مسألة عقد الفضولي هو الاجتزاء بالإجازة اللاحقة في مورد اعتبار رضا المالك في صحة المعاملة، ومع فرض عدم اعتبار رضا المالك في مورد النصوص المذكورة يكون موردها أجنبياً عن مسألة عقد الفضولي بالكلية، نظير ما يدل علي عدم اعتبار إذن القاصر في صحة المعاملة المتعلقة به أو بما له.

وأما علي الثاني فلا مجال للاستدلال بما تضمن شرطاً خارجاً عن موضوع المضاربة، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام):

(سألته عن الرجل يعطي المال

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب كتاب المضاربة.

ص: 212

مضاربة، وينهي أن يخرج به، فخرج. قال: يضمن المال، والربح بينهما) (1) . لوضوح أن مخالفة الشرط بالسفر لا توجب خروج المعاملة عن موضوع عقد المضاربة الذي وقع بينهما، بحيث تكون فضولية غير مأذون فيها.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أنه مع شمول عقد المضاربة للعقد المذكور لا وجه للضمان. ففيه أن أدلة عدم ضمان العامل في المضاربة تختص بصورة عدم مخالفته للشرط، أما مع مخالفته له فصريح هذه النصوص ضمانه، ولا ملزم بحملها علي قصور المضاربة عنه.

نعم، قد يتجه الاستدلال بما ورد في الشرط المقوم لموضوع المضاربة، كصحيح جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(في رجل دفع إلي رجل مالاً ليشتري به ضرباً من المتاع مضاربة، فذهب فاشتري به غير الذي أمره. قال: هو ضامن، والربح بينهما علي ما شرط) (2) . لظهور أن شراء المتاع الآخر لا يقتضيه عقد المضاربة الذي حصل بينهما، فيكون من عقد الفضولي غير المأذون فيه.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من دخوله في عقد المضاربة بنحو الترتب، لأن غرض المالك الاسترباح، ففي فرض حصول الربح في المعاملة المنهي عنها تكون داخلة في عقد المضاربة الذي أوقعه.

فهو في غاية المنع: أولاً: لأن غرض المالك قد لا يكون مطلق الاسترباح، بل استرباح خاص، لخصوصية في البضاعة، أو في غيرها.

وثانياً: لأن مجرد واجدية المعاملة لغرض المالك واقعاً لا يكفي في عموم عقده لها بعد قصور موضوع العقد الذي أوقعه عنها، فضلاً عما إذا كان قد نهي عنها. والأمر الترتبي الذي التزمنا به في باب التزاحم بين التكليفين إنما استفيد من إطلاق دليل كل منهما حيث يلزم الاقتصار في الخروج عنه علي ما يقتضيه التزاحم، ولا مجال للبناء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب كتاب المضاربة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب كتاب المضاربة حديث: 9.

ص: 213

عليه في فرض عدم الإطلاق، فضلاً عن صورة النهي.

ومثله ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره من أن حمله علي عقد الفضولي، بحيث تتوقف صحته علي الإجازة، يقتضي كون الربح بتمامه للمالك. لأن ذلك هو مقتضي الأصل بعد عدم المخرج عنه، لفرض قصور عقد المضاربة عنه.

لاندفاعه بأنه لا مجال لذلك مع ما هو المعلوم من قصد العامل المضاربة بالمال، حيث لا يكون مفاد العقد المجاز حينئذٍ مجرد التعامل بالمال بيعاً وشراء، بل التعامل بنحو خاص يبتني علي شركة العامل في الربح، فلابد إما من إجازته بتمام مضمونه أو ردّه. ولا أقل من كون ذلك هو مقتضي نصوص المقام لو تم حملها علي كون العقد فضولياً يحتاج للإجازة.

فالعمدة أن إجازة المالك للمعاملة المذكورة وإن كانت قريبة جداً بعد غلبة تعذر تحصيل رأس المال وفرض حصول الربح، إلا أن حمل النصوص المذكورة علي دخل الإجازة في استحقاق الربح لا يناسب إطلاقها، لظهوره في تبعية استحقاقه للمعاملة بنفسها، كما لو لم يخالف الشرط أو لم يكن الشرط مقوماً لموضوع المضاربة.

ولاسيما بعد ظهور حال الأصحاب في العمل عليه، لعدم تنبيههم إلي لزوم الإجازة من المالك، حيث يناسب ذلك صحة المعاملة تعبداً ولو لأنها الأنسب بغرض المالك وتجنباً عن المشاكل المترتبة علي بطلان المعاملة بعد غلبة عدم تيسر تحصيل رأس المال وإرجاعه لصاحبه. ومن ثم يشكل الاستدلال والاستئناس بها في المقام.

وأشكل منه الاستدلال بما ورد في الاتجار بمال اليتيم(1). فإن المتحصل من مجموع نصوص المسألة أن المال إن كان بيد الولي وكان من مصلحة اليتيم ومقتضي النظر له الاتجار به جري حكم المضاربة من عدم ضمان العامل للمال مع مشاركته لليتيم في الربح. وفي غير ذلك إن كان من عنده المال ملياً قادراً علي ضمانه جاز له

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 1 من أبواب من تجب عليه الزكاة حديث: 1، وباب: 2 منها حديث: 2، 5، 6، 7، 8، وج: 12 باب: 75 من أبواب ما يتكسب به حديث: 1، 2، 3، 4.

ص: 214

اقتراضه، ويكون الربح له، كما يجوز له العمل مع بقائه علي ملك اليتيم، فيكون الربح لليتيم مع ضمان المال علي العامل. وإن لم يكن ملياً لم يحلّ له التصرف فيه، فإن عمل به كان الربح لليتيم، وعلي العامل الضمان أيضاً، سواء قصد العامل العمل لنفسه أم لليتيم أم لهما معاً مضاربة. ومن دون فرق في ذلك بين الولي وغيره.

وعلي ذلك فالحكم بثبوت الربح لليتيم والضمان علي العامل - إذا لم يكن ولياً أو لم يكن ملياً - لا يبتني علي نفوذ عقد الفضولي بالإجازة، بل هو حكم تعبدي، مخالف للقاعدة، كما لا يخفي. وقد تكون حكمته الاحتياط لمال اليتيم، والردع عن التلاعب به.

الثالث: صحيح الحلبي: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشتري ثوباً ولم يشترط علي صاحبه شيئاً، فكرهه، ثم رده علي صاحبه، فأبي أن يقيله [يقبله] إلا بوضيعة، قال

:لا يصلح له أن يأخذه بوضيعة، فإن جهل، فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه ردّ علي صاحبه الأول ما زاد) (1) . وإنما اقتصر في الرد علي الزائد - مع أن الثمن بتمامه للمشتري الأول المالك للثوب حقيقة - لأن المشتري مدين له بما استرجعه من ثمن الثوب عند الإقالة بالوضيعة المفروض بطلانها، فله أن يأخذ من الثمن الذي باع به الثوب بقدر ذلك، ويردّ الزائد عليه لا غير.

قال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(فإن الحكم بردّ ما زاد لا ينطبق بظاهره إلا علي صحة بيع الفضولي لنفسه) . والوجه فيه: أن بيع الثوب إذا لم يصح بالإجازة فالثمن بتمامه ملك للمشتري الثاني، ولا يستحق المشتري الأول منه شيئاً، ليردّ عليه.

هذا وقد استشكل فيه بعض الأعاظم (قدس سره) بأن جهل المشتري الأول ببطلان الإقالة بالوضيعة واعتقاده ملكية البايع للثوب بسببها راجع إلي إذنه للبايع في أن يبيع الثوب لنفسه، ومع الإذن المذكور يخرج البيع عن كونه فضولياً.

لكنه كما تري، إذ بعد فرض اعتقاد المشتري بملكية البايع للثوب بسبب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب أحكام العقود حديث: 1.

ص: 215

الإقالة، فهو يري نفسه أجنبياً عنه، ولا دخل له به ليأذن له في بيعه. ولو فرض الإذن منه صريحاً في بيعه فالإذن المذكور لا يرجع إلي تسليطه له علي ملكه، ليكون تصرفه إعمالاً لسلطنته عليه، ويخرج بذلك عن كونه فضولياً، بل هو إذن فيما هو أجنبي عنه لا يترتب عليه الأثر شرعاً، وإلا جري ذلك في جميع العقود التمليكية الفاسدة ونحوها من موارد خطأ المالك واعتقاده ملكية الغير لما يملكه هو، ولا يظن بأحد البناء عليه فيها.

ومثله في الإشكال ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن إذن المشتري للبايع بأخذ الثوب بالوضيعة يقتضي بالأولوية إذنه له في أن يبيعه من غيره بأكثر من ثمنه. لاندفاعه بأن المشتري لم يأذن للبايع بأخذ الثوب بالوضيعة مع بقاء الثوب علي ملكه واستمرار علقته به، وإنما اعتقد أنه قطع علقته به وأخرجه عن ملكه بالإقالة المذكورة، لاعتقاده صحتها، وأن الثوب عاد بسببها ملكاً للبايع، فيكون التصرف به من شؤونه، لا من شؤون المشتري، ليأذن له فيه. ولعله لو التفت إلي بقائه في ملكه لم يأذن ببيعه بالثمن الأكثر، لارتفاع قيمته السوقية عند البيع المذكور، أو لاحتياجه له حينئذٍ، أو لغير ذلك.

فالمقام نظير ما لو باع شخص آخر متاعاً بثمن وكان البيع فاسداً، فهل يمكن دعوي أنه يستفاد من بيعه المذكور الإذن له في أن يبيعه بأكثر من ذلك الثمن، بحيث لو باعه به ينفذ عليه ولا يكون فضولياً؟!.

ومن ثم لا ينبغي التأمل في كون البيع المذكور فضولياً بعد فرض بطلان الإقالة وبقاء الثوب علي ملك المشتري، وعدم إذنه ببيعه ثانياً عن نفسه، لجهله ببطلان الإقالة وبقائه علي ملكه.

نعم، حمل النصوص علي صورة إجازة المشتري الأول للبيع لا يناسب إطلاقها الظاهر في صحة البيع، واستحقاق المشتري الزيادة بمجرد وقوعه، من دون حاجة للإجازة. ولاسيما وأن عدم الإجازة قد يكون أنفع للمشتري لو بقي الأمر علي مقتضي

ص: 216

القاعدة، كما إذا ارتفعت قيمة الثوب إلي أكثر من ثمن البيع الثاني، حيث يكون مقتضي القاعدة ضمان البايع له لو فرض عدم الإجازة وتعذر استرجاع الثوب بسبب أخذ المشتري الثاني له.

فعدم التنبيه لذلك في الصحيح، والاقتصار فيه علي استحقاق الزيادة من دون تنبيه لاشتراط الإجازة، يناسب صحة البيع الثاني من دون حاجة للإجازة تعبداً، ولو لأنه الأنسب بغرض المالك غالباً، وتجنباً للمشاكل المترتبة علي بطلان البيع، نظير مما سبق في نصوص المضاربة. ومن ثم يشكل الاستدلال والاستئناس بالصحيح في المقام.

الرابع: موثق عبد الرحمن بن أبي عبد الله بل صحيحه: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السمسار أيشتري [يشتري] بالأجر، فيدفع إليه الورق، ويشترط عليه أنك تأتي بما نشتري [تشتري]، فما شئت أخذته، وما شئت تركته، فيذهب فيشتري، ثم يأتي بالمتاع، فيقول: خذ ما رضيت، ودع ما كرهت. قال: لا بأس)(1) حيث استدل به شيخنا الأعظم (قدس سره)، بناء منه علي أن اشتراء السمسار للمتاع من صاحبه كما يمكن أن يكون لنفسه ثم يبيع من دافع الورق ما يعجبه منه، وأن يكون لدافع الورق بإذنه، لكن مع جعل الخيار له، يمكن أن يكون لدافع الورق من دون إذنه فضولاً، فينفذ دافع الورق فيما يعجبه ويرد فيما يكرهه، ومع احتمال الوجوه الثلاثة يكون جواب الامام (عليه السلام) بالصحة مع ترك الاستفصال دليلاً علي صحة شراء الفضولي ونفوذه بإجازة الأصيل.

وفيه: أولاً: أن الظاهر تعارف التعامل بوجه خاص أريد من الحديث، فلو فرض عدم وضوحه من متن الحديث وتردده بين الوجوه الثلاثة يكون الحديث مجملاً، لا عاماً بسبب ترك الاستفصال، كما أشار لذلك بعض مشايخنا (قدس سره).

وثانياً: أن حديث دافع الورق مع السمسار صريح في الإذن له بإيقاع الشراء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 20 من أبواب أحكام العقود حديث: 2.

ص: 217

بنحو لا يكون ملزماً له فيما لم يره، وذلك يكون إما بشرائه المتاع من صاحبه مع جعل الخيار في الفسخ فيما لا يعجب صاحب الورق، وإما بأخذه منه من دون شراء من أجل عرضه علي صاحب الورق، ليختار منه ما يعجبه، ويشتريه له منه بعد ذلك، وأي منهما حصل لا يكون فيه فضولياً بعد حديث صاحب الورق معه.

الخامس: رواية ابن أشيم عن أبي جعفر (عليه السلام):

(في عبد لقوم مأذون له في التجارة دفع إليه رجل ألف درهم، فقال: اشتر بها نسمة واعتقها عني، وحج عني بالباقي، ثم مات صاحب الألف، فانطلق العبد فاشتري أباه، فأعتقه عن الميت، ودفع إليه الباقي يحج عن الميت، فحج عنه، وبلغ لك موالي أبيه ومواليه وورثة الميت جميعاً، فاختصموا جميعاً في الألف، فقال موالي العبد [موالي عتق العبد] المعتق: إنما اشتريت أباك بمالنا. وقال الورثة: إنما اشتريت أباك بمالنا، وقال موالي العبد: إنما اشتريت أباك بمالنا. فقال أبو جعفر (عليه السلام): أما الحجة فقد مضت بما فيها لا ترد. وأما المعتق فهو ردّ في الرق لموالي أبيه. وأي الفريقين بعد أقاموا البينة علي أنه اشتري أباه من أموالهم كان له رقاً) (1) .

قال شيخنا الأعظم في توجيه الاستدلال بالرواية:

(لولا كفاية الاشتراء بعين المال في تملك المبيع بعد مطالبته - المتضمنة لإجازة البيع - لم يكن مجرد دعوي الشراء بالمال ولا إقامة البينة كافية في تملك البيع) .

لكن من القريب تحقق الإذن في الشراء من موالي العبد وموالي أبيه، لظهور دعواهم الشراء بماله في أنه قد دفع للعبد مالاً وأذن له في الاتجار به له، فيخرج بذلك عن الفضولي، وينفذ شراؤه عليهم.

نعم، قد يتجه ذلك في ورثه الميت بناء علي أن ما صدر من دافع المال - الذي قد مات - هو التوكيل في الشراء والحج عنه في حياته، لا الوصية بأن يفعل ذلك عنه بعد وفاته، كما يناسب ذلك قولهم:

(إنما اشتريت أباك بمالنا) وحكمه (عليه السلام) برقية الأب لهم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 25 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1.

ص: 218

إذا أقاموا البينة أن ابنه اشتراه بمالهم.

نعم، مقتضي القاعدة تصديق الابن في تعيين من له الشراء، لأنه صاحب اليد علي أموال الجميع، ولأنه الموقع لعقد الشراء، فيرجع إليه في تشخيص خصوصيات العقد التي قصدها، وبذلك تكون الرواية مخالفة للقاعدة. كما ربما تكون مخالفة للقاعدة من جهات أخر لا يسعنا إطالة الكلام فيها. ولاسيما مع ضعف الرواية. والمهم منها هنا ما يتعلق بعقد الفضولي لا غير.

السادس: ما ورد في أضحية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)، كحديث عروة البارقي قال:

(قدم جلب فأعطاني النبي صلي الله عليه وآله ديناراً، فقال: اشتر بها شاة، فاشتريت شاتين بدينار، فلحقني رجل، فبعت أحدهما منه بدينار، ثم أتيت النبي صلي الله عليه وآله بشاة ودينار، فردّه عليّ، وقال: بارك الله لك في صفقة يمينك. ولقد كنت أقوم بالكناسة - أو قال: بالكوفة - فأربح في اليوم أربعين ألفاً) (1) ، ونحوه حديثه الآخر(2).

وفي حديث حكيم بن حزام:

(أن النبي صلي الله عليه وآله، بعث معه بدينار يشتري له أضحية فاشتراها بدينار، وباعها بدينارين، فرجع فاشتري أضحية بدينار، وجاء بدينار إلي النبي صلي الله عليه وآله، فتصدق به النبي صلي الله عليه وآله، ودعا أن يبارك له في تجارته) (3) .

فإن بيع عروة لإحدي الشاتين بدينار وبيع حكيم الشاة بدينارين لم يكونا بإذن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم). بل حتي شراء عروة الشاتين لم يكن بإذنه (صلي الله عليه وآله وسلّم). وحمل الشاة في كلام النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) علي الجنس الصادق علي القليل والكثير. بعيد جداً، لظهور المفرد النكرة في مثل ذلك في الواحد. ولاسيما مع ظهور حال الرجلين في فهم ذلك منه (صلي الله عليه وآله وسلّم)، ولذا أتياه

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 18 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1 ص: 245. وروي أيضاً مسند احمد ج: 4 ص: 376، والسنن الكبري للبيهقي ج: 6 ص: 112.

(2) مسند أحمد ج: 4 ص: 375.

(3) بحار الأنوار ج: 103 ص: 136 باب متفرقات أحكام وأنواعها من البيع الفضولي وغيره من أبواب التجارات والبيوع من كتاب العقود والإيقاعات. واللفظ له. المعجم الكبير للطبراني ج: 3 ص: 205.

ص: 219

بشاة واحدة.

ودعوي: أنه يستفاد من إذنه (صلي الله عليه وآله وسلّم) له بشراء شاة بدينار إذنه بشراء شاتين به بالأولية. ممنوعة، لأنه قد يضيق (صلي الله عليه وآله وسلّم) من أخذ الشاة الأخري لذبحها أو الاحتفاظ بها. نعم إذنه (صلي الله عليه وآله وسلّم) بشراء شاة بالدينار يقتضي إذنه (صلي الله عليه وآله وسلّم) بشراء شاة بنصف دينار بالأولية العرفية، وهو أمر آخر.

هذا وقد حاول شيخنا الأعظم (قدس سره) إخراجه عن بيع الفضولي، بناء منه علي أن علم البايع برضا المالك يكفي في نفوذ البيع من دون حاجة إلي إذن المالك، والظاهر حصوله في المقام.

لكن الظاهر ضعف المبني المذكور، وأن رضا المالك الباطني بالبيع من دون إذن منه به للبايع لا يخرجه عن كونه فضولياً، كما يأتي في المسألة الثامنة إن شاء الله تعالي. وإنما يكفي الرضا الباطني في جواز التصرف الخارجي تكليفاً. ولعله عليه يبتني إقدام الرجلين علي تسليم الثمن وقبض المثمن مع كون المعاملة فضولية لا يستحق بها ذلك، ومع ذلك لم يظهر من النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) إنكار ذلك عليهما، بل كان ظاهر حاله إقرارهما عليه. مضافاً إلي أنه لم يتضح رضا النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) بشراء عروة لشاتين. غاية الأمر أن يرضي بشراء شاة واحدة بنصف دينار، كما يظهر مما سبق.

ومثله ما ذكره غير واحد في رواية عروة من أنها قضية في واقعة لا إطلاق لها، ولا إطلاع لنا علي خصوصياتها، ولعل عروة كان وكيلاً مفوضاً. فإن ذلك بعيد جداً في عروة وفي حكيم بن حزام أيضاً، لأن الوكالة التفويضية تناسب مزيد اختصاص للوكيل بالموكل، وهو أمر لا يعهد في الرجلين مع النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم).

ومن ثم كان الظاهر نهوض الأحاديث المذكورة بالتأييد في المقام، وإن لم تنهض بالاستدلال لضعفها سنداً. وما في شرح القواعد لكاشف الغطاء والجواهر من أن شهرة حديث عروة بين الفريقين أغنت عن النظر في سنده. كما تري، لأن شهرته ليست بسبب استفاضة روايته وكثرة طرقه، بل بسبب تعرض الفقهاء له وتناقلهم

ص: 220

له في كتب الاستدلال، ومثل ذلك لا يكفي في اعتباره مع ضعف سنده. ولاسيما مع قرب ابتناء ذكر كثير منهم له علي مجاراة العامة في الاستدلال به، والاحتجاج عليهم بأدلتهم.

السابع: معتبر مسمع أبي سيار قال:

(قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني كنت استودعت رجلاً مالاً، فجحدنيه، وحلف لي عليه، ثم جاء بعد ذلك بسنين بالمال الذي كنت استودعته إياه، فقال: هذا مالك فخذه، وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك، فهي لك مع مالك، واجعلني في حلّ. فأخذت المال منه، وأبيت أن آخذ الربح، وأوقفت المال الذي كنت استودعته، وأتيت حتي أستطلع رأيك، فما تري ؟ قال: فقال: خذ الربح، وأعطه النصف، وأحله. إن هذا رجل تائب، والله يحب التوابين) (1) .

فإن ربح الودعي الخائن في المال المستودع كما يمكن أن يكون بالشراء له بالكلي في الذمة ثم تسليم عين المال وفاء، فلا يكون الشراء فضولياً، كذلك يمكن أن يكون بعين المال، فيكون كل من الشراء وبيع المتاع المشتري الذي يحصل به الربح فضولياً، فإقرار الامام (عليه السلام) أخذ المال المستودع وأخذ ربحه من دون تفصيل دليل علي صحة معاملة الفضولي بالإجازة المستفادة من تحليل المودع للودعي وأخذه الربح منه.

بل قد يدعي لزوم حمله علي الثاني، إذ علي الأول يكون الربح بتمامه للودعي، ولا يستحق منه مسمع شيئاًن مع ظهور الحديث في استحقاق مسمع له بتمامه، وأن إرجاعه لنصفه تفضل منه من أجل كون الودعي تائباً.

لكنه يندفع بأن استحقاق مسمع للربح بتمامه قد يكون بسبب بذل الودعي له في مقابل تحليل مسمع له، من دون أن يكون مسمع مستحقاً له بالأصل. فلا مخرج عما ذكرناه أولاً من دلالة الحديث علي المطلوب بالعموم المستفاد من ترك الاستفصال.

ودعوي: أن ذلك قد يكون لصحة معاملة الغاصب تعبداً من دون حاجة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 10 من أبواب كتاب الوديعة حديث: 1.

ص: 221

للإجازة، نظير ما تقدم في نصوص مخالفة عامل المضاربة للشرط والإقالة بوضيعة. مدفوعة بعدم الشاهد علي ذلك في مورد الموثق، لعدم الإطلاق فيه، بخلاف النصوص السابقة، فاللازم الاقتصار في مورده علي المتيقن، وهو صورة حصول الإجازة.

الثامن: صحيح إبراهيم بن هاشم: (كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام إذ دخل عليه صالح بن محمد بن سهل، وكان يتولي له الوقف بقم، فقال: يا سيدي أجعلني من عشرة آلاف درهم في حلّ، فإني قد أنفقتها. فقال له: أنت في حلّ. فلما خرج صالح فقال أبو جعفر (عليه السلام): أحدهم يثب علي أموال [حق] آل محمد وأيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم، فيأخذه، ثم يجيء فيقول: اجعلني في حلّ، أتراه ظن أني أقول: لا أفعل ؟!

والله ليسألنهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً) (1) . لظهوره في المفروغية عن حلّ المال المأخوذ بتحليل المالك له، وإن لم ينفع تحليله (عليه السلام) في المورد، لكونه (عليه السلام) محرَجاً فيه. كما أنه لا يراد بالتحليل خصوص الحل التكليفي، بل ما يعم التحليل الوضعي الراجع لتنفيذ المعاملات الواقعة علي المال والمترتبة علي أخذه، فينفع في محل الكلام.

التاسع: ما في بعض نصوص إباحة الخمس من طلب الإجازة من الامام (عليه السلام) بعد التصرف في المال، كخبر عبد العزيز بن نافع عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وفيه: (فقال له

:جعلت فداك إن أبي كان ممن سباه بنو أمية، وقد علمت أن بني أمية لم يكن لهم أن يحرموا ولا يحللوا، ولم يكن لهم مما في أيديهم قليل ولا كثير، وإنما ذلك لكم، فإذا ذكرت الذي كنت فيه دخلني من ذلك ما يكاد يفسد علي عقلي ما أنا فيه. فقال له: أنت في حلّ مما كان من ذلك، وكل من كان في مثل حالك من ورائي فهو في حلّ من ذلك... ) (2) . فقد استدل بذلك في الجواهر لما نحن فيه.

لكنه يشكل بأن الجمود علي الخبر المذكور ونحوه وإن كان يقتضي صدور

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 18.

ص: 222

التحليل والإجازة بعد التصرف، إلا أنه لابد من حمله علي سبق التحليل والإذن قبله، للنصوص الكثيرة، كصحيح أبي بصير وزرارة ومحمد بن مسلم كلهم عن أبي جعفر (عليه السلام):

(قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: هلك الناس في بطونهم وفروجهم، لأنهم لم يؤدوا إلينا حقنا. ألا وإن شيعتنا من ذلك وآباءهم في حلّ) (1) وصحيح القاسم بن بريد عن الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: من وجد برد حبنا في كبده فليحمد الله علي أول النعم. قلت: جعلت فداك ما أول النعم ؟ قال طيب الولادة. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لفاطمة (عليها السلام): أحلي نصيبك من الفيء لآباء شيعتنا ليطيبوا. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام):

إنا أحللنا أمهات شيعتنا لآبائهم ليطيبوا) (2) وغيرهما.

نعم، في الجواهر: (وقد عرفت أنه لا ينافي الفضولية تقدم الإذن لخصوص المشتري وإن كان البايع باقياً علي غصبيته، نحو ما سمعته في الخراج).

لكن المراد بذلك إن كان عدم نفوذ المعاملة حين وقوعها في حق الطرف المأذون إذا لم يكن الطرف الآخر مأذوناً، إلا بإجازة لاحقة، فهو لا يناسب نصوص التحليل المذكورة جداً.

وإن كان المراد عدم نفوذ المعاملة في حق غير المأذون وإن نفذت في حق المأذون. أشكل: أولاً: بعدم الأثر له، حيث لا شاهد علي تنفيذه في حقه بالإجازة اللاحقة، لينفع فيما نحن فيه.

وثانياً: بامتناع التفكيك في صحة المعاملة بين الطرفين، لقيام مضمونها بهما معاً، قيام المضامين الإضافية بأطرافها. غاية الأمر أن الغاصب يبقي مسؤولاً وضعاً وتكليفاً بالعوض، ضامناً له، ومعاقباً علي التصرف فيه. بل يعاقب حتي علي تسليم المعوض، لعدم اعتقاده بنفوذ المعاملة بتنفيذ الأئمة (صلوات الله عليهم)، فيكون متجرياً بذلك.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 1، 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 1، 10.

ص: 223

نعم، لو حمل التحليل الصادر منهم (عليهم السلام) علي مجرد الإذن في التصرف من دون إمضاء للمعاملة، تعين بقاء حقهم (عليهم السلام) في العين وضمان الغاصب له بتسليمها حتي للشيعي من دون أن ينتقل الضمان للبدل. وعلي ذلك لو اشتراها غير الشيعي من الشيعي حرم عليه التصرف فيها، لعدم ملكية الشيعي لها بتمامها وعدم تحليلها من قبلهم (عليهم السلام) للمشتري. لكنه لو تم خرج عن محل الكلام من إجازة عقد الفضولي، ولم تنفع النصوص المذكورة في الاستدلال.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن العقد لا يخرج عن الفضولية بمجرد الإذن السابق عليه ما لم يصل إلي العاقد، لأنه لا يستند للآذن إلا مع وصول الإذن. وحينئذٍ تدل النصوص المذكورة وغيرها من نصوص تحليل الخمس والأنفال علي المطلوب، لعدم وصول الإذن المذكور لكثير من الشيعة حين العقد.

إذ فيه: أن الظاهر كفاية صدور الإذن وإن لم يصل في خروج العقد عن الفضولية، إذ هو كاف في إعمال سلطنة المالك في العقد. وكذا الحال لو بلغه ثم نسيه. ولذا لا يظن بأحد الالتزام بتكرار التحليل والإمضاء منهم (عليهم السلام) بعد وقوع التصرف في حق كل من لم يبلغه التحليل من عامة الشيعة وآبائهم.

بل يظهر من بعض النصوص الاكتفاء بالتحليل السابق، كمعتبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قلت له:

إن لنا أموالاً من غلات وتجارات ونحو ذلك، وقد علمت أن لك فيها حقاً. قال فلمَ أحللنا إذاً لشيعتنا إلا لتطيب ولادتهم. وكل من والي آبائي فهو في حلّ مما في أيديهم من حقنا. فليبلغ الشاهد الغائب) (1) . ومثله في ذلك صحيح القاسم المتقدم وقد يستفاد من غيرهما. والحاصل: أنه لا مجال للاستدلال بالنصوص المذكورة في محل الكلام.

نعم، قد يستدل بصحيح علي بن مهزيار:

(قرأت في كتاب لأبي جعفر (عليه السلام) من رجل يسأله أن يجعله في حلّ من مأكله ومشربه من الخمس. فكتب بخطه: من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 9.

ص: 224

أعوزه شيء من حقي فهو في حلّ) (1) . فإن اختصاص التحليل بمن أعوزه لا يناسب إرادة الخمس الثابت فيما يؤخذ ممن لا يؤدي الخمس، بل يناسب إرادة الخمس الثابت في أموال الشيعة أنفسهم الذي يجب عليهم أداؤه، ولا تشمله التحليلات العامة المتقدمة.

لكنه يشكل: أولاً: بعدم وضوح ورود طلب السائل التحليل بعد حصول التصرف، ليناسب ما نحن فيه، بل ربما كان قبل التصرف تحرجاً من الإقدام علي التصرف من دون تحليل.

وثانياً: بأن موضوع التحليل الذي طلبه السائل هو المأكل والملبس، والتحليل في ذلك تحليل تكليفي لتصرف خارجي، وليس تحليلاًُ وضعياً لتصرف اعتباري راجع إلي إمضائه وتنفيذه، لينفع فيما نحن فيه.

اللهم إلا أن يكون ظاهر الجواب إرادة ما يعمّ التحليل الوضعي بسدّ الحاجة في مورد الإعواز، وذلك بأخذ المال الذي يحتاج إليه علي أن يمتلكه ويسد عوزه به. فالعمدة الأول.

العاشر: ما ورد في التصدق بمجهول المالك، حيث جعله في الجواهر مؤيداً للعموم في المقام.

لكن ذلك إن كان بلحاظ الأمر بالتصدق به مع اليأس من الوصول للمالك فهو راجع إلي ولاية من بيده المال علي التصدق به بنحو يخرج عن كونه فضولياً.

وإن كان بلحاظ ما تقدم من بعضهم وقد يستفاد من بعض النصوص من أنه مع العثور علي المالك إن رضي بالتصدق كان له ثواب الصدقة، وإن لم يرض به كان ثواب الصدقة للمتصدق وعليه ضمان المال للمالك، حيث يظهر منه كون التصدق موقوفاً علي إجازة المالك، ولذا يضمن له المال لو ردّ. أشكل بأن ذلك - لو سلم، وغض النظر عما تقدم عند الكلام في حكم مجهول المالك من الإشكال فيه - إنما يدل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 2.

ص: 225

علي تبعية استقرار ثواب الصدقة للإجازة، لا علي كون التصدق فضولياً محتاجاً للإجازة. ولذا لا ريب في صحة التصدق بمجرد وقوعه، وعدم ضمان المتصدق عليه لو ردّ المالك، بل قيل بعدم رجوع المالك عليه حتي مع بقاء العين عنده. ومن هنا لا مجال للاستدلال ولا للتأييد بالنصوص المذكورة.

الحادي عشر: ما تضمن صحة نكاح الفضولي بالإجازة في الحر(1) والعبد(2) من النصوص الكثيرة، فإنها نص في نفوذ عقد الفضولي في النكاح، ومؤيدة لعموم نفوذه بالإجازة. بل استدل بها غير واحد علي نفوذه في البيع بضميمة الأولوية، لما هو المرتكز عند المتشرعة من أن النكاح أهمّ من العقود المتعلقة بالأموال، تبعاً لأهمية الفروج من الأموال. بل في الرياض: (ولعمري إنها من أقوي الأدلة هنا. ولولاه لأشكل المصير إلي هذا القول، لحكاية الإجماعين الآتيين).

لكن ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه يستفاد عكس الأولوية المذكورة من صحيح العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) الوارد فيمن وكلت رجلاً أن يزوجها، ثم عزلته، ولم يبلغه العزل حتي زوجها، حيث تعرض فيه لرأي العامة المتضمن لانعزال الوكيل في النكاح خاصة، بخلاف غيره حيث لا ينعزل الوكيل إلا أن يبلغه العزل معللين بأن المال منه عوض لصاحبه، والفرج ليس منه عوض إذا وقع منه الولد. وفيه:

(فقال (عليه السلام): سبحان الله ما أجور هذا الحكم وأفسده. إن النكاح أحري وأحري أن يحتاط فيه، وهو فرج، ومنه يكون الولد... ) إلي آخر الحديث المتضمن عدم انعزال الوكيل في مورد السؤال حتي يبلغه العزل(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 4، وباب: 7 من الأبواب المذكورة حديث: 3، وباب: 13 منها حديث: 3، وج: 15 باب: 58 من أبواب المهور حديث: 2، 14. وج: 17 باب: 11 من أبواب ميراث الأزواج حديث: 1، 2، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1، 2. وباب: 25 من الأبواب المذكورة حديث: 1. وباب: 26 منها حديث: 1، 2، 3. وباب: 27 منها حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب كتاب الوكالة حديث: 2.

ص: 226

بتقريب أن المستفاد من ذلك أن الاحتياط المتأكد في النكاح يقتضي أولويته بالصحة من البيع، رداً علي العامة حين ذهبوا إلي العكس، الذي يبتني عليه الاستدلال في المقام.

ويشكل بأن الذي تضمنه الصحيح في وجه حكم العامة بصحة البيع دون النكاح ليس هو أهمية النكاح من البيع، بحيث يقتضي التساهل في أسباب صحة البيع دون أسباب صحة النكاح، الراجع لأولوية البيع بالصحة من النكاح، ليكون مرجع استنكار الامام (عليه السلام) منع الأولوية المذكورة، بل أن المال في البيع منه عوض لصاحبه، والفرج في النكاح لا عوض منه لصاحبه، فيكون مقتضي الإرفاق بالموكل عدم نفوذ تصرف الوكيل المعزول فيه وإن لم يبلغه العزل، والامام (عليه السلام) لم يتعرض للردّ علي هذه النكتة، وإنما اقتصر علي بيان أهمية النكاح ولزوم الاحتياط فيه.

ومن ثم لا يبعد أن يكون مرجع ذلك إلي أن أهمية النكاح تقتضي مزيد الاحتياط فيه في مقام الفتوي، فلا يعتمد فيه علي مثل هذا الوجوه الاستحسانية التي ما انزل الله تعالي بها من سلطان، من دون نظر للأولوية المشار إليها وعدمها، كما ذكر ذلك سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره. وبذلك ظهر انه لا مجال للاستدلال بالصحيح علي بطلان الأولوية المذكورة.

فالعمدة أن في بلوغ الأولوية المذكورة حدّ القطع، لتنهض بالاستلال إشكال، بل منع. والأولي الاستدلال بعموم التعليل في صحيح زرارة بأنه لم يعص الله وإنما عصي سيده، فإذا أجاز جاز، كما تقدم. فراجع.

هذا ما تيسر لنا الكلام فيه من النصوص المؤيدة للعمومات القاضية بنفوذ عقد الفضولي بالإجازة. وقد ظهر أن ما ينهض بذلك صحيحا محمد بن قيس وإبراهيم بن هاشم، وموثق مسمع أبي سيار، ونصوص أضحية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)، وخبر ابن أشيم، ونصوص نكاح الفضولي.

هذا مضافاً إلي أنه لا ريب في شيوع الابتلاء بعقد الفضولي فلو لم تكن صحته

ص: 227

(228)

بالإجازة مفروغاً عنها لكثر السؤال عنها، مع أنه لم يرد ما يتضمن ذلك، والنصوص المتقدمة ظاهرة في المفروغية عنه من دون أن تكون مسوقة له.

نعم، نصوص نكاح الفضولي مسوقة لذلك. إلا أن الظاهر أن منشأه أهمية النكاح في نظر المتشرعة أو خلاف بعض العامة في نفوذه بالإجازة، من دون أن ينافي المفروغية عن ذلك في بقية العقود. وكفي بذلك مؤيداً للعمومات المتقدمة. فلاحظ.

وحيث انتهي الكلام من أدلة نفوذ عقد الفضولي بالإجازة يقع الكلام فيما استدل به لبطلانه، وعدم نفوذه بالإجازة. وهو أمور.

الأول: قوله تعالي: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض)(1). بناءً علي ما تقدم منا في ذيل الكلام في عقد المكره من ظهوره في اعتبار مقارنة التجارة للتراضي، بحيث تصدر عنه، ولا يكفي تعقبها به، وحيث كان المراد التراضي ممن له السلطنة علي العقد، فهو غير حاصل في المقام. إذ الإجازة ليست عقداً، ولا تجارة، بل هي رضاً بالعقد والتجارة السابقة.

ودعوي: أن المراد رضا المتعاقدين، غاية الأمر أنه خرج عن العموم المذكور المتعاقدان اللذان لم يأذن لهما المالك، ولا أجاز عقدهما، وبقي الباقي. مدفوعة بأن الآية الشريفة لم تتضمن تعيين من يعتبر رضاه، والمناسبات الارتكازية قاضية بحمله علي من له السلطنة علي العقد. ولا أقل من كونه مقتضي الجمع بينها وبين دليل السلطنة. كيف ؟! ولو تم ما ذكر كان مقتضاها سلطنة المتعاقدين بنحو يغني عن رضا غيرهما بإذنه أو إجازته. ولا يظن بأحد الالتزام بذلك. ومن هنا لا ينبغي الشك في أن مقتضي الجمود علي مفاد الآية الشريفة عدم نفوذ عقد الفضولي، ولا عقد المكره بالإجازة.

فالعمدة في الجواب عن الآية الشريفة: أن ذلك منافٍ لعموم نفوذ العقود المستفاد من الآية الشريفة وغيرها، لما سبق من أن مقتضاه نفوذ العقد بالتزام من له السلطنة عليه وإن كان متأخراً. فلابد من الجمع بينهما إما بتحكيم آية التجارة عن

********

(1) سورة النساء آية: 29.

ص: 228

تراض، وذلك بالبناء علي استثناء التجارة مع عموم وجوب الوفاء بالعقود، فلابد فيها من سبق الرضا ولا يكفي فيها الرضا المتأخر، أو تعميم ذلك لجميع العقود لإلغاء خصوصية التجارة، وإما بتحكيم عموم الوفاء بالعقود، وحمل آية التجارة علي اعتبار مطلق الرضا ولو كان متأخراً بحمل التقييد بسبق الرضا علي الغالب، أو علي أنه الأمر الذي ينبغي حصوله، وإن كفي الرضا المتأخر في نفوذ العقد.

والظاهر أن الثاني اقرب عرفاً، لأن اعتبار الرضا ليس تعبدياً محضاً، بل هو عرفي ارتكازي، وهو عند العرف لا يختص بالرضا السابق علي العقد، بل يعم الرضا اللاحق. ولاسيما بملاحظة التعليل في صحيح زرارة - المتقدم في أدلة عموم صحة عقد الفضولي - بأنه لم يعص الله وإنما عصي سيده، فإذا أجاز جاز، فإن لسانه حاكم علي أدلة اعتبار الرضا.

ويؤكد ذلك النصوص الخاصة المتقدمة، فإن الجمع بينها وبين الآية الشريفة بحمل التقييد بسبق الرضا علي ما تقدم أقرب عرفاً من البناء علي كون التقييد احترازياً مع الاقتصار في الخروج عنه علي موارد النصوص المذكورة.

ولاسيما وأن ذلك كما ورد في التجارة ورد نظيره في النكاح. قال الله تعالي: (فانكحوهن بإذن أهلهن)(1) ، وفي معتبر أبي العباس البقباق: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يتزوج الرجل الأمة بغير علم أهلها. قال: هو زني. إن الله يقول:

(فانكحوهن بإذن أهلهن) )(2) ، وفي صحيح عبد الله بن سنان عنه (عليه السلام):

(قال: لا يجوز للعبد تحرير، ولا تزويج، ولا إعطاء من ماله، إلا بإذن مولاه) (3) ، وفي صحيح منصور بن حازم عنه (عليه السلام):

(قال: تستأمر البكر وغيرها، ولا تنكح إلا بأمرها) (4) ونحوها غيرها، ومع ذلك قد استفاضت النصوص بصحة نكاح الفضولي بالإجازة، وذلك لا يكون إل

********

(1) سورة النساء آية: 25.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 29 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 23 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 9 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 1.

ص: 229

بحمل هذه الأدلة علي ما سبق، وهو يناسب حمل آية التجارة عليه.

ولعل هذا هو منشأ المفروغية التي سبقت الإشارة إليها في ذيل الكلام في أدلة نفوذ عقد الفضولي بالإجازة، حيث لا وجه لها مع ظهور آية التجارة في اعتبار سبق الرضا لولا كون الجمع المذكور ارتكازياً لا يحتاج إلي مزيد كلفة.

الثاني: النصوص الكثيرة المتضمنة توقف البيع علي الملك مما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره، حيث تدل علي عدم صحة بيع الشيء من قبل غير مالكه.

وفيه: أنها مسوقة لبيان عدم نفوذ البيع من غير المالك، ولا تنافي سلطنة المالك علي تنفيذه ونفوذه بإجازته. ولا أقل من حملها علي ذلك جمعاً مع ما تقدم من أدلة نفوذ عقد الفضولي بالإجازة، نظير ما سبق في آية التجارة.

الثالث: الإجماع المتقدم دعواه من الخلاف والغنية والسرائر. وقد تقدم - عند الاستدلال لصحة بيع الفضولي بفحوي ما دل علي صحته في النكاح - من الرياض ما يظهر منه أهميته في المقام.

لكن لا مجال للتعويل علي مثل هذه الإجماعات التي عرف من مدعيها كثرة دعاوي الإجماع في موارد الخلاف، كما سبق من الخلاف والسرائر الاعتراف به في المقام، وخصوصاً في مثل هذه المسألة التي خلت عما يمكن فيه معرفة رأي الأئمة (عليهم السلام) من نصوص أو سيرة متصلة بعصورهم، نظير ما سبق في المعاطاة. بل سبق أن ظاهر غير واحد من النصوص المفروغية عن صحة عقد الفضولي بالإجازة، وأن ملاحظة واقع المسألة يشهد بمفروغية المتشرعة عن ذلك.

ولاسيما مع حكاية القول بالصحة عن جماعة كثيرة قبل مدعي الإجماع وبعدهم، بل سبق من الشيخ نفسه في النهاية القول بالصحة، وحكي في المقابيس عنه (عليه السلام) في نكاح الخلاف نفسه التصريح بأن بيع الفضولي موقوف علي الإجازة، وأن الباطل هو شراؤه. ومن ثم لم يكن للإجماعات المذكورة أهمية استدلالية، فضلاً عن أن تقتضي الخروج عن مقتضي أدلة الصحة المتقدمة.

ص: 230

الرابع: حكم العقل بقبح التصرف في ملك الغير بغير إذنه، معتضداً بما دلّ علي حرمته شرعاً، كالتوقيع الشريف:

(فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه... ) (1) . قال شيخنا الأعظم (قدس سره) في تقريب الاستدلال به:

(ولا ريب في أن بيع مال الغير تصرف فيه عرفاً) .

وفيه: أولاً: أن التصرف في الشيء تقليبه وتحويله عن مكانه وتغيير هيئته ومخالطته ونحو ذلك. وهو يختص بالتصرفات الخارجية، كلبس الثوب وتقطيعه ونقله عن موضعه وسكني الدار وركوب الفرس وغير ذلك. وإطلاقه علي التصرفات الاعتبارية توسع مبني علي تشبيه الأحوال الاعتبارية بالأحوال الخارجية، ولا مجال للبناء علي عموم حكم العقل المذكور له، لأن ملاكه قبح التعدي علي مال الغير، ولا تعدي في التصرف الاعتباري، لا بلحاظ السبب، لأنه لا يتعلق بالمال، ولا يخالطه، ولا بلحاظ المسبب، لأنه يستند في الحقيقة أن بيده الاعتبار من شرع أو سلطان أو عرف، وليس من المتصرف إلا تحقيق موضوع الحكم به من المشرع. ولاسيما مع فرض عدم ترتبه في المقام إلا بإجازة المالك.

كما لا مجال للبناء علي عموم الدليل النقلي المذكور للتصرف الاعتباري، بعد عدم كونه تصرفاً حقيقياً، ولاسيما بعد ارتكاز أن ملاك الحكم في الدليل النقلي هو حكم العقل المذكور، إقراراً له وجرياً علي مقتضاه.

وثانياً: أن الدليل المذكور إنما يقتضي الحرمة التكليفية تبعاً للقبح العقلي، ولا يقتضي الفساد، بناء علي التحقيق من عدم اقتضاء حرمة المعاملة الفساد. وإنما يستفاد الفساد من النهي الوارد للإرشاد إلي حدود المعاملة، دون الوارد لبيان الحرمة التكليفية.

وثالثاً: أن الفساد وعدم ترتب الأثر بتصرف الفضولي لا ينافي الصحة وترتب الأثر بإجازة المالك للتصرف المذكور ورضاه به بعد وقوعه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 6.

ص: 231

ورابعاً: أن الدليل المذكور لا مجال له مع إحراز رضا المالك، بأن يكون بحيث لو التفت لرضي حيث ثبت في محله جواز التصرف في ملك الغير بذلك، وإن لم ينفذ التصرف الاعتباري معه، ولا يخرج به الفضولية.

الخامس: أن القدرة علي التسليم شرط في البيع، والفضولي غير قادر علي ذلك، ولو لحرمته عليه شرعاً.

وفيه: أن القدرة علي التسليم إنما تعتبر في حق من ينفذ في حقه البيع، ويجب عليه الوفاء به، كالمالك بعد الإجازة، والوكيل المفوض، لا في حق كل من يجري عقد البيع ولو كان فضولياً.

وبذلك يظهر أنه لا مخرج عن مقتضي الأدلة المتقدمة القاضية بصحة عقد الفضولي بإجازته ممن له السلطنة عليه. والحمد لله رب العالمين.

بقي شيء. وهو أنه حكي عن غاية المراد الاتفاق علي بطلان إيقاع الفضولي، فلا تصححه الإجازة، وقد يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) التعويل علي الاتفاق المذكور.

لكن لا مجال للتعويل عليه في مثل هذه المسألة التي خلت عما يمكن به معرفة رأي الأئمة (عليهم السلام) من نصوص أو سيرة متصلة بعصورهم، كما سبق نظيره قريباً. ولاسيما مع تأخر عصر مدعي الإجماع، وظهور خروج الأصحاب عليه أو عدم اتفاقهم علي مقتضاه في بعض الموارد، كالوصية بما زاد علي الثلث التي هي - علي الظاهر - من الإيقاع، مع اتفاق النص وللفتوي علي صحتها بإجازة الورثة، وكعتق الراهن أو المرتهن للعين المرهونة من دون إذن الآخر.

نعم، تفترق العقود عن الإيقاعات بوجود عموم قاض بنفوذ العقود، وقد سبق أن موضوع النفوذ في العموم المذكور هو الالتزام بالعقد ممن له السلطنة عليه، لتفرع الوفاء عليه، وحيث كانت إجازة عقد الفضولي التزاماً به، كان مقتضي العموم المذكور نفوذه بها. أما الإيقاعات فليس فيها مثل هذا العموم، بل مقتضي أصالة عدم ترتب الأثر عدم حصولها، فيحتاج حصولها بإنشاء الفضولي وإجازة الأصيل للدليل.

ص: 232

(233)

وإن ردّ بطل، ولم تنفع الإجازة بعد ذلك (1). وهذا هو المسمي بعقد الفضولي.

---------------

هذا في شرح القواعد لكاشف الغطاء أنه يقوي جريان حكم عقد الفضولي في كل ما جرت فيه الوكالة. وهو غير ظاهر المأخذ بعد كون دليل الوكالة قاضياً بقيام الوكيل مقام الموكل، ولا عموم يقضي بأن الإجازة اللاحقة بحكم الوكالة السابقة.

نعم، لو تم ما سبق من بعضهم من أن الإجازة تقضي نسبة العقد المجاز للمجيز، فيكون عقداً له، كان مقتضاه جريان ذلك في الإيقاع، لعدم الفرق بينهما في مصحح النسبة، إلا أن يثبت توقف ترتب الأثر علي مباشرة من له الإيقاع له، وعدم ترتب الأثر علي فعل الغير - كالنائب - له. لكن سبق منا المنع من اقتضاء الإجازة نسبة العقد للمجير. ومن ثم لا مخرج عما سبق من أصالة عدم ترتب الأثر علي إيقاع الفضولي ما لم يدل دليل علي نفوذه بالإجازة.

(1) كما صرح بذلك غير واحد، وظاهر الجواهر ومحكي قواعد الشهيد الإجماع عليه. وقد استدل عليه شيخنا الأعظم (قدس سره) بوجوه:

الأول: الإجماع المذكور. لكنه لا ينهض بالاستدلال، كما يظهر مما تقدم في نظائر المقام.

الثاني: أن المجيز بمنزلة أحد طرفي العقد، وقد تقرر في محله أن من شروط العقد أن لا يصدر من قبل تماميته من أحد طرفيه ما ينافي التزامه به.

وفيه: أولاً: أنه تقدم منّا عند الكلام في تحديد مفهوم العقد أنه لابد فيه من ابتناء التزام أحد المتعاقدين علي التزام الآخر، وهو إنما يقتضي عدم الاكتفاء بالتزام الثاني حال إعراض الأول عن التزامه. أما لو فرض إعراض الأول عن التزامه ثم رجوعه إليه قبل التزام الثاني به، بحيث يكون التزام الثاني مبتنياً علي التزام الأول ووارداً عليه، فلا يبعد صدق العقد.

وأظهر من ذلك ما إذا بقي الأول علي التزامه، ولم يعرض عنه، لكن الثاني أبي

ص: 233

الالتزام به أول الأمر، ثم عدل والتزم به بنحو يبتني علي التزام الأول، حيث لا ينبغي التأمل في عدم مانعية امتناعه في أول الأمر من صدق العقد، بل هو أمر شايع في عقود الناس في الأمور المعقدة. ومن الظاهر أن ما نحن فيه من قبيل ذلك، فإن الرد لم يصدر قبل الإجازة من طرفي العقد الفضولي اللذين التزما به، بل من الأصيل الذي لم يلتزم به، والذي يجيز بعد ذلك.

وثانياً: أن مقتضي ذلك مانعية التردد، لا خصوص الردّ، لظهور أن الموجب إذا تردد قبل قبول القابل، وبقي علي تردده، لم يبق مجال لقبول القابل، ولم يصدق به العقد.

وثالثاً: أنه لا مجال لقياس المقام بعدول أحد المتعاقدين قبل حصول القبول، لعدم تمامية العقد هناك، بخلاف المقام حيث تمّ العقد بالتزام الفضولي والطرف الآخر. غاية الأمر أنه يحتاج نفوذه في حق الأصيل لالتزامه به، من دون أن يكون مقوماً للعقد وبه تمامه.

الثالث: أن مقتضي سلطنة الناس علي أموالهم تأثير الردّ من المالك في قطع علاقة الطرف الآخر عن ملكه، فإذا أعمل سلطنته لم يبق موضوع للإجازة.

وفيه: أن عقد الفضولي لم يحدث علاقة للطرف الآخر بالمال، لمنافاة ذلك لسلطنة الأصيل علي ماله. ولعله لذا أمر (قدس سره) بالتأمل.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أنه وإن لم تحصل به علقة شرعاً، إلا أنه قد حصلت به علقة عرفاً، ومقتضي سلطنته علي ماله قدرته علي قطعها. ففيه: أن العلقة المذكورة ليست أمراً حقيقياً، بل هي منتزعة من سلطنة المالك علي إجازة العقد، وهي حكم شرعي من شؤون السلطنة علي المال، وليس منافياً لها ولا موضوعاً لها. ولو فرض أن العلقة المذكورة أمر حقيقي، فلا يكون رفعها موضوعاً لسلطنة المالك، وإلا لما حدثت قهراً عليه، لظهور عدم الفرق في السلطنة علي الشيء بين دفعه ورفعه.

ومثل ذلك ما ذكره (قدس سره) من أن إبطال أثر عقد الفضولي لا يتوقف علي تحقق

ص: 234

(235)

(مسألة 7): لو منع المالك من بيع ماله، فباعه الفضولي، فإن أجاز المالك صح، ولا أثر للمنع السابق في البطلان (1).

---------------

العلقة فعلاً، بل يكفي شأنية تحققها، ولا شبهة في ثبوت هذه الشأنية للعقد المذكور.

إذ فيه: أن هذه الشأنية ليس أمراً متعلقاً بالمال منافياً للسلطنة عليه، وإلا لما حصلت بدون رضا المالك، بل هي منتزعة من سلطنة المالك علي إجازة العقد، وليست هي موضوعاً للسلطنة، كما سبق.

هذا وقد يستدل علي مانعية الردّ من تأثير الإجازة بأن سلطنة المالك علي إمضاء العقد وتنفيذه تقتضي سلطنته علي ردّه، لأن السلطنة علي الشيء إنما تكون بالسلطنة علي كل من وجوده وعدمه.

لكنه يندفع: بأن السلطنة علي إمضاء العقد إنما تقتضي السلطنة علي عدم إمضائه، لا علي حلّه وردّه، بحيث لا يصلح للإمضاء، كما لعله ظاهر.

ثم أنه قد يستدل علي عدم مانعية الردّ من تأثير الإجازة بصحيح محمد بن قيس المتقدم في أدلة صحة عقد الفضولي بالإجازة الوارد في وليدة باعها ابن سيدها وأبوه غائب. وقد تقدم أن دلالته علي عدم مانعية الردّ موقوف علي أن يكون المراد من الردّ ما يعم البناء علي عدم الإجازة.

أما لو أريد به فسخ العقد فلا ظهور للصحيح فيه، ولا ينهض ببيان مانعيته. وحيث كان تحقيق معيار الرد فرع ثبوت الدليل علي مانعيته من تأثير الإجازة، لينظر في مفاده، فلا مجال له بعد ما سبق من عدم الدليل علي ذلك.

(1) كما صرح به غير واحد، وذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه المشهور.

وعن فخر الدين في الإيضاح أن بعض القائلين بصحة عقد الفضولي بالإجازة اعتبر عدم سبق منع المالك. ويناسبه ما في نكاح التذكرة بعد البناء علي صحة نكاح العبد بغير إذن مولاه إذا أجازه المولي، حيث أجاب عن النبوي:

(أيما عبد تزوج بغير إذن

ص: 235

مواليه فهو عاهر) بأنه محمول علي أنه نكح بعد منع مولاه وكراهته له، فإنه يقع باطلاً. وكذا في جامع المقاصد، حيث قال في بيع الغاصب:

(حكم الغاصب كالفضولي. وإن احتمل الفساد، نظراً إلي القرينة الدالة علي عدم الرضا، وهي الغصب) .

وكيف كان فالصحة مقتضي العمومات المتقدمة التي سبق الاستدلال بها لنفوذ عقد الفضولي بالإجازة، حيث لا يفرق في وجه الاستدلال بها بين سبق المنع من المالك وعدمه. ولا يضر - مع ذلك - قصور بعض الأدلة والمؤيدات الخاصة، لورودها في واقعة خارجية لا إطلاق لها، كأحاديث أضحية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وغيرها.

هذا وربما يستدل لاشتراط عدم منع المالك بأن منع المالك يستلزم عادة كراهته لعقد الفضولي بعد وقوعه وهي بمنزلة ردّه له - الذي سبق منهم مانعيته من تأثير الإجازة - لأن منشأ مانعية رده له كشفه عن كراهته له، كما يقتضيه ما عن بعضهم من أنه إذا حلف الموكل علي نفي الإذن في اشتراء الوكيل انفسخ العقد لأن الحلف عليه أمارة عدم الرضا به. حيث يظهر منه عدم تأثير الإجازة حينئذ.

وفيه: أولاً: أنه سبق عدم مانعية الرد من تصحيح عقد الفضولي بالإجازة.

وثانياً: أنه لو تم مانعية الرد من الإجازة فاللازم الرجوع لدليل المانعية المذكورة لتحديد الرد المانع، فإن كان الدليل هو الوجه الأول من الوجوه المتقدمة هناك - وهو الإجماع - فاللازم الاقتصار فيه علي المتيقن، وهو خصوص فسخ العقد وحلّه، كما سبق من غير واحد، بل عن حواشي الشهيد التقييد بلفظ خاص، حيث قال

:(والرد أن يقول: فسخت... ) . وعلي ذلك لا يكفي مجرد الكراهة الفعلية، فضلاً عن الشأنية اللازمة من سبق النهي. وما سبق من بعضهم في حلف الموكل علي نفي الوكالة ليس متفقاً عليه، ففي المسالك فيما لو أنكر الموكل الوكالة أن الشراء إذا كان بعين المال كان فضولياً قابلاً للإجازة.

وكذا لو كان الدليل هو الوجهين الآخرين، فإن عدول العاقد عن التزامه لا يكون

ص: 236

(237)

(مسألة 8): إذا علم من حال المالك أنه يرضي بالبيع، فباعه، لم يصح، وتوقف علي الإجازة (1).

---------------

بمجرد كراهته له، بل بإعراضه عنه ورفضه له. كما أن إعمال السلطنة لا يكون بمجرد الكراهة، بل بالتزامه بما يريد إعمال سلطنته فيه.

بل لا يمكن البناء علي مانعية الكراهة الشأنية - الملازمة عادة لسبق النهي - بالنظر لما ورد في نكاح العبد بدون إذن مولاه، فإن من شأن المولي أن يكره من عبده ذلك، لما فيه من تجاهل لرسم العبودية وانتهاك لحرمة المولي، فحمل نصوص تلك المسألة علي صورة عدم الكراهة كالحمل علي الفرد النادر. كما أنه لا يناسب ما هو المرتكز عرفاً من صحة عقد المكره إذا رضي به بعد ذلك وأجازه.

(1) كما هو ظاهر الأصحاب، وصريح كثير من كلماتهم. خلافاً لما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من خروجه بذلك عن الفضولية، فإنه وإن قوي الاكتفاء بالرضا الباطني من دون إذن، إلا أن مقتضي بعض كلماته وبعض الوجوه التي استدل بها عموم الرضا الباطني للرضا الشأني، الذي هو عبارة عن كون من له العقد بحيث لو التفت لرضي به، وهو مورد كلام سيدنا المصنف (قدس سره).

وكيف كان فما يمكن أن يستدل به لذلك أمور، أشار لأكثرها شيخنا الأعظم (قدس سره):

الأول: عموم وجوب الوفاء بالعقود. بناء منه علي أن خلّوه عن إذن المالك لا يوجب سلب اسم العقد عنه، والمتيقن في الخروج عنه ما إذا خلا عن الرضا الباطني، أما معه فمقتضي العموم نفوذ العقد.

وقد أجاب عنه بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره بأن المراد به وفاء كل شخص بعقده، ولا ينتسب العقد للشخص إلا بالتزامه به، ولا يكفي في ذلك مجرد الرضا الباطني من دون إذن.

ويظهر اندفاعه، واندفاع الاستدلال المتقدم من شيخنا الأعظم (قدس سره) بالآية

ص: 237

الشريفة، مما تقدم عند الاستدلال لصحة عقد الفضولي بالإجازة من أن الآية لم تتضمن اعتبار انتساب العقد للشخص في وجوب وفائه به، بل ليس مفادها إلا نفوذ العقد في حق من التزم به، ومن الظاهر عدم تحقق الالتزام بمجرد الرضا الشأني.

ومما سبق هناك أيضاً يظهر انه لا مجال للاستدلال بقوله تعالي: (وأحل الله البيع)(1) ، حيث تقدم عدم الإطلاق له، ليتوهم لزوم الاقتصار في الخروج عنه علي ما خلا عن الرضا الباطني.

الثاني: قوله تعالي: (إلا أن تكون تجارة عن تراض)(2) بدعوي: أن مقتضاه الاكتفاء بالرضا وإن تجرد عن الإذن.

وقد أجاب عنه بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره بأنه مختص بتجارة صاحب المال، ولا يكفي في إضافة التجارة للشخص - بحيث تنسب إليه - رضاه بها، بل لابد فيها من التزامه بها، نظير ما سبق.

لكن اعتبار إضافة التجارة لصاحب المال وانتسابها له خال عن الدليل. والمتيقن اعتبار رضاه بها، ولا يكفي رضا غيره.

نعم، لا يظهر من الآية الشريفة الاكتفاء بمقارنة التجارة للتراض، بل اعتبار صدورها عنه، المناسب لإعمال سلطنته فيها، وهو لا يتحقق بمجرد الرضا الفعلي بها فضلاً عن الرضا الشأني.

غاية الأمر أنه لابد من رفع اليد عن ظهورها في اعتبار مقارنة إعمال السلطنة لصدور التجارة، والاكتفاء بإعمالها فيها بعد صدورها، جمعاً مع عموم الوفاء بالعقود وبقية أدلة صحة عقد الفضولي، علي ما تقدم عند الاستدلال بالآية لبطلان عقد الفضولي، وهو أمر آخر غير الاكتفاء بمجرد الرضا الفعلي، فضلاً عن الشأني، الذي هو ليس برضاً حقيقي.

********

(1) سورة البقرة آية: 275.

(2) سورة النساء آية: 29.

ص: 238

الثالث: ما تضمن عدم حلّ مال المسلم إلا بطيبة نفسه(1) ، بناءً علي أن طيب النفس يشمل الرضا الشأني، كما تقدم تقريبه في المسألة الثالثة من مبحث أحكام الخلوة.

وقد استشكل فيه بعض الأعاظم وبعض مشايخنا (قدس سرهما) بأنه ظاهر في اعتبار الطيب والرضا في الحلّ، لا في الاكتفاء بهما فيه، نظير قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) (2) ، حيث لا يدل علي الاكتفاء بالفاتحة، بل علي مجرد اعتبارها.

ويندفع: بأن لسان الأدلة المذكورة وإن لم يتضمن الاكتفاء في التحليل بطيب النفس، إلا أنه لما كان الجمع بين اعتبار الإذن واعتبار طيب اعتبار النفس لاغياً، لأن الإذن لازم لطيب النفس وكاشف عنه عرفاً، كان دليل اعتبار طيب النفس ظاهراً في عدم اعتبار الإذن ونحوه، والاكتفاء بطيب النفس، حتي أنه لو ورد ما ظاهره اعتبار الإذن ونحوه كان اللازم حمله علي طريقتيه لطيب النفس، من دون أن يكون معتبراً ثبوتاً. وهو راجع إلي الاكتفاء بطيب النفس إذا أحرز بطريق العلم من دون إذن أو نحوه.

وعلي ذلك جري بعض مشايخنا (قدس سره) في شرح المسألة الخامسة من فصل شرائط الوضوء من العروة الوثقي. ويؤكد ذلك أن الاكتفاء بطيب النفس في حلّ المال مقتضي سيرة المتشرعة، تبعاً للمرتكزات العقلائية والمتشرعية.

فالعمدة ما ذكره هو (قدس سره) وغيره وتقدم منّا في بيع المكره من ظهور الأدلة المذكورة في الحلّية التكليفية، بلحاظ التصرفات الخارجية، ولا نظر فيها للحلّية الوضعية، بلحاظ التصرفات الاعتبارية، التي هي من سنخ المسببات التابعة لأسبابها، ولا مانع من أن يعتبر فيها ما زاد علي طيب النفس، وهو إبرازه بالإذن أو نحوه، ويكون هو السبب الناقل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب مكان المصلي حديث: 1، وج: 19 باب: 1 من أبواب قصاص النفس حديث: 3.

(2) مستدرك الوسائل ج: 4 باب: 1 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 5.

ص: 239

الرابع: صحيح مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):

(سأله رجل من أهل النيل عن أرض اشتراها بفم النيل، وأهل الأرض يقولون هي أرضهم، وأهل الأسنان يقولون هي من أرضنا. قال: لا تشترها إلا برضا أهلها) (1) . ونحوه ما رواه في الاحتجاج من توقيع الحجة عجل الله فرجه للحميري، وفيه

:(لا يجوز ابتياعها إلا من مالكها أو بأمره أو رضاً منه) (2) وإن لم يخل سنده من أشكال.

وقد استشكل في الاستدلال بهما بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره: تارة: بأن ذلك إنما يدل علي اعتبار الرضا، لا علي الاكتفاء به، نظير ما سبق. وأخري: بإمكان حملهما علي الاختيار المقابل للكراهة، لبيان عدم صحة بيع المكره.

ويظهر اندفاع الأول مما سبق في الأمر الثالث. ولاسيما مع ورود الحديثين في بيان الوظيفة في قضية ابتلائية، حيث لا يناسب ذلك إهمال بعض ما يعتبر في التحليل مما يتعلق بأهل الأرض. ومع ما تضمنه الثاني من التخيير بين الشراء من المالك والشراء بأمره - الذي هو عبارة عن التوكيل - والشراء برضاه، فإنه كالصريح في أن الأخير عِدل للأولين في الاكتفاء به في الجواز.

كما يندفع الثاني بأن الرضا المقابل للإكراه هو عين الرضا المعتبر في المقام. علي أن مساق الحديثين لا يناسب ذلك، لوردها في مقام بيان من يجوز الشراء منه، لا في مقام بيان شرطية الاختيار زائداً علي ذلك، كما يظهر بملاحظة السؤال فيهما.

فالعمدة في الجواب عن الحديثين: أنهما لا ينهضان بالاكتفاء بالرضا التقديري، الذي هو محل الكلام، فإنه ليس رضاً حقيقياً، كما سبق بل يشكل نهوضهما بالاكتفاء بمقارنة الرضا الفعلي، من دون أن يستتبع إعمال السلطنة بالإذن ونحوه، لأن الباء في الحديثين كما يمكن أن تكون للمعية يمكن أن تكون سببية. بل الثاني هو الأظهر. ولاسيما مع قرب جري الحديثين علي ما تضمنته آية التجارة عن تراض، التي سبق ظهورها في اعتبار سببية التراضي للتجارة، وابتنائه علي إعمال السلطنة فيها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 3، 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 3، 8.

ص: 240

الخامس: ما دلّ علي أن علم المولي بنكاح العبد وسكوته إقرار منه له(1). فإن السكوت بعد العلم لا يتضمن إنشاء الشيء، وإنما يكشف عن الرضا الباطني، وإذا كان الرضا الباطني اللاحق لعقد الفضولي كافياً في نفوذه فهو مع سبقه كاف في خروج العقد عن الفضولية، لما هو المعلوم من أن الرضا المعتبر في نفوذ العقد بمعني واحد.

وفيه: أن ذلك إنما يدل علي عدم اعتبار إبراز إقراره العقد وإجازته له بالقول، وأنه يكفي الإقرار من طريق السكوت وعدم التغيير، ولا ينهض بكفاية الرضا الشأني المتأخر عن العقد في نفوذه، فضلاً عن كفايته في خروج العقد عن الفضولية.

كما أنه لا ينهض بكفاية الرضا الباطني الفعلي بنفسه، بل ما يستتبعه من الإقرار للعقد، الذي هو نحو من إعمال السلطنة فيه، ولا مانع من البناء علي كفاية ذلك لو حصل قبل العقد في نفوذه وخروجه عن الفضولية، كما لو أخذ الشخص مال غيره ليبيعه بعلم منه، بحيث يظهر منه إقراره علي ذلك وإن لم ينطبق به. فتأمل.

السادس: روايات أضحية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) التي تقدم الاستدلال بها لصحة عقد الفضولي بالإجازة، إذ لو كان العقد فضولياً لم يحلّ لموقع العقد التصرف في العوض والمعوض بالقبض والإقباض، مع أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) قد أقرّه علي ذلك، ولم ينكر عليه.

ويظهر الجواب عنه مما سبق هناك من أن القبض والإقباض من التصرفات الخارجية التي يكفي فيها طيب النفس، ومن القريب إحراز وكيل النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) رضاه (صلي الله عليه وآله وسلّم) ورضا الطرف الآخر بالقبض والإقباض، تبعاً لرضاهما الشأني والفعلي بالبيع والشراء، ولا ينافي ذلك عدم نفوذ البيع والشراء إلا بالإجازة.

السابع: ما دلّ علي أن إذن البكر في النكاح سكوتها(2). لظهور أن الإذن لا يتحقق بالسكوت، وغاية الأمر أن يكشف عن الرضا.

وفيه: أولاً: أنه قد يبتني علي كون سكوتها إقراراً منها بالنحو المتقدم في الأمر

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 26 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 5 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.

ص: 241

الخامس، ولا قرينة فيه علي كفاية الرضا الباطني المجرد عن ذلك، فضلاً عن الرضا الشأني الذي هو محل الكلام.

وثانياً: أنه وارد في مورد خاص، وقد يبتني علي الإرفاق بالبكر وعدم إحراجها بطلب الإذن الصريح، فلا مجال للتعدي عن مورده. ولاسيما مع ما تضمنته النصوص المذكورة من عدم كفاية ذلك في الثيب.

هذا ما تيسر لنا العثور عليه من وجوه الاستدلال علي كفاية الرضا التقديري في الخروج عن الفضولية بعد النظر في كلماتهم، وقد ظهر عدم نهوض شيء منه بإثبات ذلك والخروج عن أصالة عدم ترتب الأثر، بل عن قاعدة السلطنة القاضية بتبعية التصرفات الاعتبارية المتعلقة بنفس الإنسان وماله - والتي يكون ملزماً بها - له، وأنه لابد من إعمال سلطنته فيها.

كما أن ما تضمنته بعض الأدلة المتقدمة من اعتبار الرضا في البيع وغيره قاض بعدم كفاية الرضا التقديري، لعدم كونه رضاً حقيقياً، كما سبق.

ولا مجال لقياسها بالتصرفات الخارجية حيث تحلّ تكليفاً بالرضا التقديري، كما تقدم، لعدم وضوح اتحاد المناط فيهما، بل ظهور الفرق بينهما ارتكازاً. ومن ثم لا ينبغي التأمل في عدم خروج العقد عن الفضولية بالرضا التقديري، تبعاً لظاهر الأصحاب (رضوان الله تعالي عليهم)، بل صريحهم.

هذا وقد قال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(ثم إنه لو أشكل في عقود غير المالك فلا ينبغي الإشكال في عقد العبد نكاحاً أو بيعاً مع العلم رضا السيد ولو لم يأذن له، لعدم تحقق المعصية التي هي مناط المنع في الأخبار، وعدم منافاته لعدم استقلال العبد في التصرف) .

وفيه: أن معصية السيد عرفاً لا تكون بمجرد فعل ما لا يحرز رضا المولي به، وإنما تكون بمخالفة أمر المولي ونهيه، ومن المعلوم عدم إرادتها في المقام، لأن موضوع النصوص هو الزواج بغير إذنه.

ص: 242

ومن هنا فالظاهر إن طلاق المعصية في النص بلحاظ خروج العبد عن مقتضي سلطنة المولي عليه، تبعاً لملكيته له، لقضائها بأن أمر زواجه بيده، وهو غير حاصل مع إحراز رضاه، لما سبق من أن الرضا بنفسه لا يكفي في إعمال السلطنة.

مضافاً إلي أن ما تضمن التعليل بذلك قد ورد في خصوص نكاح العبد، فإن بني علي الاقتصار علي مورده فلا وجه لإلحاق بيع العبد به، وإن بني علي تعميمه تبعاً لارتكازية التعليل فاللازم التعميم لغير العبد ممن يكون تصرفه منافياً لسلطنة الغير، كما في جميع العقود الفضولية. ولذا سبق منا الاستدلال بالتعليل لعموم صحة عقد الفضولي بالإجازة.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الفرق بين من يكون طرفاً للعقد - كالزوج والزوجة في النكاح، ومالك الثمن والمثمن في البيع، والراهن والمرتهن في الرهن وغيرهم - ومن يعتبر إذنه في العقد من دون أن يكون طرفاً فيه - كالمالك في نكاح المملوك، والعمة والخالة في تزوج بنت الأخ أو الأخت، والمرتهن في بيع العين المرهونة، وغيرهم - فالأول يكون العقد من دون إذنه فضولياً، ولا يخرج العقد عن الفضولية بمجرد رضاه باطناً، بل لابد من إذنه، لعدم انتساب العقد له بدون ذلك، ومع عدم انتساب العقد له لا يدخل في عمومات الصحة والنفوذ. أما الثاني فلا يكون العقد من دون إذنه فضولياً. غاية الأمر أنه يعتبر رضاه في نفوذ العقد، فإذا تحقق منه الرضا - ولو من دون إذن - قبل العقد أو بعده نفذ.

إذ تقدم منّا - عند الاستدلال بعموم التعليل في بعض نصوص نكاح العبد من دون إذن مولاه علي عموم صحة عقد الفضولي بالإجازة - الإشكال فيما ذكره من التفصيل في فضولية العقد، وذكرنا أن معيار الفضولية في العقد منافاته لسلطنة الغير، وهو حاصل في الجميع، ولا يخرج عن الفضولية إلا بإعمال سلطنته. كما سبق عند الاستدلال بعمومات النفوذ لصحة عقد الفضولي بالإجازة المنع من أخذ انتساب العقد للأصيل فيها، ومن تحقق الانتساب المذكور بالإجازة.

ص: 243

وقد سبق أيضاً أن إعمال سلطنة الأصيل في العقد لا يكون بمجرد الرضا الباطني، وأن الرضا الباطني إنما يكفي في حلّ التصرفات الخارجة تكليفاً، دون نفوذ التصرفات الاعتبارية المنافية للسلطنة، بحيث يلزم بها صاحب السلطنة.

وقد تحصل من جميع ما سبق أن الرضا الشأني لا يكفي في خروج العقد عن الفضولية في جميع موارد منافاة العقد للسلطنة.

كما لا مجال للبناء علي نفوذ عقد الفضولي بالرضا المذكور. لو استمر أو تجدد بعد حصوله، إذ لا يصدق به الالتزام، أو الإجازة أو الإقرار أو نحوها مما تضمنته أدلة نفوذ عقد الفضولي عليه. ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه لولا رفعة مقام شيخنا الأعظم (قدس سره)، الملزمة بتعقيب كلماته، ودفع الشبهة التي أثارها.

وأما الرضا الفعلي بالعقد ممن له السلطنة عليه في فرض التفاته له فالظاهر أنه بنفسه لا يخرج العقد عن الفضولية أيضاً، لأنه لا يتضمن تسليط الأصيل للعاقد، بحيث يقوم مقامه، ويكون مسلطاً من قبله - في طول سلطنته علي نفسه وماله ومن هو تحت سلطنته - وأهلاً لإيقاع العقد، وإنما يكون ذلك بالتوكيل أو الإذن الخاص أو العام، المستفاد من اللفظ أو من شاهد الحال.

كما أنه لا يستلزم التزام الأصيل بالعقد الذي يحصل بعد ذلك، ليكون مشمولاً لعموم الوفاء بالعقود. وكذا لا يكون مشمولاً لما تضمن اعتبار الرضا في البيع أو مطلق العقد، لما سبق من أن ظاهره إرادة الرضا المبني علي إعمال السلطنة، دون الرضا المجرد عن ذلك.

نعم، من القريب الاكتفاء في نفوذ عقد الفضولي بالرضا الفعلي به بعد العلم بوقوعه، لملازمته عادة لإقراره، والالتزام به، فيدخل في موضوع وجوب الوفاء بالعقد بالتقريب المتقدم في الاستدلال بالآية الشريفة. قال في الجواهر:

(بل إن لم يقم الإجماع أمكن الاكتفاء هنا بتحقق الرضا بينه وبين الله وإن لم يصدر منه ما يصدر منه ما يدل عليه) .

ص: 244

ويؤكد ذلك نصوص نكاح العبد من غير إذن مولاه، المشار إليها آنفاً، لظهورها في أن نفوذ العقد بالإقرار المستكشف بالسكوت، لا بإظهارهم الإقرار من طريق السكوت الذي هو نظير إظهارهم له من طريق الإذن الصريح.

وبعبارة أخري: لو كان المعتبر في نفوذ عقد الفضولي وإجازته أمراً زائداً علي الإقرار النفسي للعقد، وهو إبراز الإقرار المذكور بمبرز من إقرار قولي أو عملي، لزم القصد إلي الإبراز المذكور، كالقصد للإجازة القولية، ليتحقق بذلك إعمال السلطنة، ومن الظاهر أن مجرد سكوت المولي بعد علمه بنكاح العبد لا يكشف عن قصد إبراز الإقرار المذكور بسكوته، ليكون السكوت بمنزلة الإجازة القولية، وإنما يكشف عن الإقرار النفسي للعقد، وظاهر النصوص المذكورة أنه كاف في نفوذ العقد وصحة النكاح.

ومن هنا كانت هذه النصوص تامة الدلالة علي كفاية الإقرار النفسي ثبوتاً ولو من دون مبرز، وإن كان العمل عليه موقوفاً علي وجود الدليل عليه من قول أو فعل أو شاهد حال، وهو في المقام سكوتهم عنه وعدم تغييرهم عليه.

وأظهر من ذلك ما في بعض نصوص نكاح الفضولي من أن المزوج فضولاً يرث من الآخر بعد أن يحلف أنه ما دعاه إلي أخذ الميراث إلا الرضا بالنكاح(1). لقوة ظهوره في أن الموجب لنفوذ النكاح الذي به يحلّ أخذ الميراث هو الرضا بالنكاح وإقراره، لا إبراز الرضا بمبرز.

نعم، إذا لم يكن الرضا الفعلي ملازماً لإقرار العقد لم ينفع في صحته ونفوذه، كما لو تخيل عدم تعلق العقد به، فإن رضاه به وأنسه بوقوعه حينئذٍ لا يستلزم إقراره له، والتزامه به وإعمال سلطنته فيه، ليدخل في عمومات الصحة والنفوذ. كما لعله ظاهر.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 58 من أبواب المهور حديث: 2، 14، وج: 17 باب: 11 من أبواب ميراث الأزواج حديث: 1، 4.

ص: 245

(246)

(مسألة 9): إذا باع الفضولي مال غيره عن نفسه لاعتقاده أنه مالك (1)، أو لبنائه علي ذلك - كما في الغاصب (2) - فأجاز المالك، صح (3)،

---------------

(1) إما للخطأ في الحكم الشرعي، كما في المقبوض بالعقد الفاسد، أو في الموضوع الخارجي، كما لو اشتبهت عليه الوديعة بملكه.

(2) بناء الغاصب علي كونه مالكاً يرجع إلي التشريع أو الخطأ في الحكم الشرعي، نظير ما يحصل في المقبوض بالعقد الفاسد. وكثيراُ ما لا يبتني حال الغاصب علي ذلك، بل علي ترتيب آثار الملك علي المغصوب، تعدياً علي مالكه الشرعي، وتمرداً علي الله تعالي.

(3) كما صرح به غير واحد، وقيل إنه المشهور. للعمومات المتقدمة، وموثق مسمع أبي سيار فيمن جحد الوديعة واتجر بها - الذي هو من أفراد الغاصب - بناء علي ما سبق في وجه الاستدلال به لصحة عقد الفضولي بالإجازة.

وزاد شيخنا الأعظم (قدس سره) فاستدل بظهور صحيحة محمد بن قيس. وكأنه لدعوي: أن إقدام الولد علي بيع جارية أبيه من دون إذنه إنما يكون من أجل انتفاعه بثمنها، لا من أجل حفظ الثمن لأبيه أو إنفاقه في شؤونه وحوائجه.

لكنها غير ظاهرة، لإمكان أن يكون قد باعها من أجل إنفاق ثمنها في شؤون أبيه وحوائجه، إلا أن الأب لما لم يعجبه ذلك استغل حقه في عدم إنفاذ البيع. علي أنه لو فرض تمامية الدعوي المذكورة، فهي لا تستلزم قصده البيع لنفسه تبعاً لاغتصابه الجارية، بل من القريب أن يقصد بيع الجارية لأبيه من أجل أن ينتفع هو بثمنها، كما ينتفع ببقية أموال أبيه التي تحت يده.

ودعوي: أن ترك الاستفصال في الصحيح شاهد بعموم الحكم بالصحة فيه لما إذا كان قد قصد البيع لنفسه. مدفوعة بأن قصد البيع لنفسه تبعاً لغصب الجارية محتاج لعناية لا إشارة في الصحيح إليها، والاقتصار فيه علي بيع الولد جارية أبيه بغير إذنه

ص: 246

ظاهر في إرادة بيع مال الأب بالنحو المتعارف الذي لا يعوزه إلا الإذن. فتأمل.

وأشكل من ذلك استدلاله بفحوي ما ورد في نكاح الفضولي إذ فيه: أولاً: أنه سبق منه (قدس سره) ومنّا - عند الاستدلال بالفحوي المذكورة لصحة بيع الفضولي بالإجازة

الإشكال في أولوية البيع من النكاح بالصحة. فراجع.

وثانياً: أن أولوية البيع بالصحة - لو تمت - مختصة ببيع الفضولي للمالك، ولا مجال لها مع بيعه لنفسه، لأن المحاذير المسوقة فيه وإن كانت مدفوعة - كما يأتي - إلا أن خصوصية البيع لنفسه تمنع من القطع بالأولوية.

كما أن نكاح العبد من غير إذن مولاه وإن كان لنفسه، إلا أنه لا يخرج عن الوضع الطبيعي في النكاح، فهو نظير بيع الراهن العين المرهونة لنفسه من دون إذن المرتهن، لا نظير بيع الفضولي مال غيره لنفسه الذي هو محل الكلام. فالعمدة في الدليل علي الصحة ما سبق.

هذا وربما يستشكل في صحة البيع في المقام لوجوه كثيرة ذكرها أكثرها شيخنا الأعظم (قدس سره) يظهر الجواب عن بعضها مما سبق، وما لم يظهر الجواب عنه وجوه:

الأول: أن غير مالك المبيع إذا قصد بيعه لنفسه خرج عن مقتضي المعاوضة التي عليها يبتني البيع، حيث ذكرنا أن مقتضي باء العوض الداخلة علي الثمن دخوله في ملك من خرج منه المثمن، وأن قصد دخوله في ملك غيره مناف لقصد المعاوضة المقومة للبيع.

وفيه: أن قصد الفضولي بيع الشيء لنفسه بحيث يكون ثمنه له لما كان متفرعاً علي بنائه علي ملكيته له فهو لا ينافي قصد البيع والمعاوضة، بل يستلزمه. ومجرد خطئه في الاعتقاد بالملزوم - وهو ملكية المبيع - وباللازم - وهو وقوع البيع له ودخول الثمن في ملكه - لا ينافي قصد المعاوضة. وإنما ينافيه إنما لم يبتن علي ذلك، بأن كان يري نفسه غير مالك للمبيع، ومع ذلك يقصد البيع لنفسه ودخول الثمن في ملكه، وهو خارج عن مفروض الكلام.

ص: 247

وبعبارة أخري: ابتناء المعاوضة علي دخول العوض في ملك من خرج منه المعوض يقتضي توقف قصد المعاوضة والبيع علي قصد دخول العوض في ملك من يبني البايع علي ملكيته للمبيع، لا في ملك من هو مالك له واقعاً. كما هو ظاهر.

الثاني: أن اقتران قصد البيع والمعاوضة من الفضولي بقصد وقوع البيع لنفسه ودخول الثمن في ملكه موجب للتنافي بين القصدين، فالمعاوضة الحقيقية لا تكون إلا بوقوع البيع لمالك المبيع الحقيقي وملكيته للثمن، ووقوع البيع للفضولي وملكيته للثمن لا يكونان إلا بخروج المعاملة عن حقيقة المعاوضة، ومع التنافي بين القصدين في الإنشاء الواحد يتعين لغوية الإنشاء رأساً وعدم ترتب الأثر عليه، لتعذر نفوذه بتمام مضمونه، وعدم المرجح لأحد المضمونين المتنافيين علي الآخر.

وفيه: أن التنافي بين الأمرين المقصودين في الإنشاء الواحد إنما يوجب لغويته وعدم ترتب الأثر عليه إذا كان كل منها مقصوداً بالأصل. أما إذا كان المقصود بالأصل واحداً منها وكان الباقي مقصوداً تبعاً، فإنه يترتب الأمر المقصود بالأصل، ويلغو المقصود التبعي. فإذا زوج الأب كبري بناته زينب، وكانت زينب هي الصغري، فإن كان المقصود بالأصل زواج زينب، وكان وصفها بالكبري لاعتقاد أنها الكبري خطأ، كان الزواج لزينب، ولغا قصد كونها الكبري، وإن كان المقصود بالأصل زواج الكبري، وكانت تسميتها بزينب لاعتقاد أنه اسمها وقع زواج الكبري، ولغا قصد أنها زينب.

نعم، إذا كان كل منهما مقصوداً بالأصل - بأن كان الزوج قد رأي الاثنتين معتقداً أنهما واحدة - فلا يقع زواج إحديهما ويبطل العقد رأساً.

وفي المقام حيث كان المقصود بالأصل هو البيع والمعاوضة بين المالين، وكان قصد الفضولي البيع لنفسه وتملكه للثمن تابعاً لذلك، بسبب بنائه علي ملكيته للمبيع - كما سبق - كان المعول علي قصد البيع والمعاوضة، ونتيجة لذلك يكون البيع لمالك المبيع الحقيقي، ويدخل الثمن في ملكه، ويلغو قصد الفضولي البيع لنفسه ودخول

ص: 248

الثمن في ملكه.

ويجري ذلك في نظائر المقام، كما لو باع الوكيل ماله باعتقاد أنه للموكل، أو مال الموكل باعتقاد أنه له، حيث لا مجال للبناء علي لغوية العقد. غاية الأمر أنه قد يقال بتوقف نفوذه علي الإجازة. وهو أمر آخر يأتي الكلام فيه في المسألة الثانية عشرة إن شاء الله تعالي.

الثالث: أن الفضولي إذا قصد البيع لنفسه، فإن تعلقت الإجازة بذلك ونفذ، لزم الخروج عن مقتضي عقد البيع والمعاوضة من وقوع البيع لمالك المبيع ودخول الثمن في ملكه، وإن تعلقت الإجازة بالبيع للمالك الحقيقي ودخول الثمن في ملكه، فقد تعلقت بمضمون لم ينشأ، وبقي المضمون المنشأ من دون إجازة.

ويظهر الجواب عنه مما سبق في الجواب عن الوجه الثاني من أن المقصود بالأصل هو البيع والمعاوضة بين المالين، وأن قصد الفضولي البيع لنفسه لاغ لا يترتب عليه الأثر. إذ الإجازة حينئذ تتعلق بالمقصود الأصلي للمتعاقدين، فينفذ العقد فيه، دون المقصود اللاغي منهما، وحيث كان مقتضي المعاوضة دخول الثمن في ملك المالك الحقيقي للمثمن تعين حصول ذلك بالإجازة المقتضية لنفوذ العقد. والظاهر رجوع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) لذلك. وإن أطال (قدس سره) في النقض والإبرام بما لا حاجة له بعد ما سبق، ولا يسعنا متابعته فيه.

ثم إن هذا يجري في شراء الفضولي لنفسه، كما لو اعتقد ملكيته للثمن فاشتري به لنفسه شيئاً. وتوضيح ذلك أنه تقدم منا عند الكلام في حقيقة البيع أن قوام المعاوضة دخول العوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض. أما دخول المعوض في ملك من خرج عنه العوض فهو مقتضي إطلاق المعاوضة من دون أن يكون مقوماً لها، ولا مانع من الخروج عن مقتضي الإطلاق المذكور بعناية خاصة يبتني عليها العقد، فيكون أطراف العقد ثلاثة: مالكا العوضين ومن يراد دخول المعوض في ملكه بالعقد.

وفي المقام حيث كان قصد المتعاقدين الجري علي مقتضي الإطلاق - كما لعله

ص: 249

مورد كلامهم - وكان قصد الفضولي البيع لنفسه ودخول المثمن في ملكه تابعاً لبنائه علي ملكية الثمن، تعين عدم الخروج بالإجازة عن مقتضي الإطلاق المذكور، فيدخل المعوض في ملك المجيز الذي هو المالك الحقيقي للعوض، ويلغو قصد الفضولي الشراء لنفسه، ودخول المثمن في ملكه، لما سبق من لغوية المقصود التبعي.

نعم، لو قصدا الخروج عن مقتضي الإطلاق، وتملك المشتري المثمن ابتداء من دون بناء علي تملك الثمن، بل مع البناء علي ملكية صاحبه الحقيقي له، يتعين نفوذ ذلك برضا صاحبه المذكور، لما سبق من إمكان ذلك في نفسه، وعدم منافاته لحقيقة البيع والمعاوضة. لكنه خارج عن محل الكلام.

كما أنه لو كان الشراء بالكلي في الذمة، ودفع المشتري الثمن المملوك لغيره وفاء عما في الذمة، تعين خروج العقد عن الفضولية ونفوذه رأساً، لسلطنة المشتري علي ذمته. غاية الأمر أن يكون الوفاء بملك الغير فضولياً موقوفاً علي إجازة مالك المال المذكور. والظاهر خروجه عن محل الكلام أيضاً.

الرابع: أنه لو فرض علم المشتري بعدم ملكية الفضولي للمبيع، فحيث حكي عن الأصحاب عدم رجوع المشتري علي الفضولي بالثمن حينئذٍ لو ردّ المالك، فهو يكشف عن عدم تحقق المعاوضة الحقيقية بينهما، وإلا كان الردّ موجباً لرجوع كل عوض إلي مالكه، وحينئذٍ إذا أجاز المالك لم يملك الثمن، لأنه فرع وقوع المعاوضة بين ماله والثمن. ذكر ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) علي اضطراب في كلامه يظهر بمراجعته والتأمل فيه.

ويندفع بأن ما حكي عن الأصحاب - لو تم - فالظاهر اختصاصه بما إذا تلف الثمن عند الفضولي، حيث قد يدعي أن تسليطه للفضولي علي الثمن مع علمه بعدم استحقاقه للمبيع راجع إلي تسليطه له عليه مجاناً، بنحو يوجب هدر حرمة ماله المانع من ضمانه عليه. وذلك - لو تم - لا يرجع إلي عدم قصدهما البيع والمعاوضة، بحيث لا موضوع للإجازة، بل كل ما حصل هو التفريط بالثمن بتسليمه لغير المستحق.

ص: 250

وحينئذٍ إذا أجاز المالك فإن كان الثمن كلياً فالإجازة إن تعلقت بالبيع فقط، دون قبض الثمن وتعيينه في المقبوض الشخصي، كان له الرجوع بالثمن علي المشتري، ليسلمه فرداً آخر غير ما سلمه للفضولي. وإن تعلقت بقبض الثمن أيضاً، كان له الرجوع علي الفضولي بالثمن الذي قبضه إن كان موجوداً، وببذله إن كان تالفاً.

وإن كان الثمن شخصياً، فإن كان موجوداً كان له أخذه من الفضولي. وإن كان تالفاً، فإن قلنا بأن الإجازة ناقلة فالظاهر بطلان البيع وعدم تصحيح الإجازة له، لامتناع تحقق البيع والمعاوضة مع تلف الثمن. وإن قلنا بأن الإجازة كاشفة كان له الرجوع ببدله علي الفضولي، لأنه ينكشف أنه قد استولي علي ماله من دون إذنه. وله أيضاً الرجوع علي المشتري أيضاً، لأنه ينكشف أنه قد تعدي وسلم الثمن لغير مالكه، فيكون ضامناً له.

إلا أن يقال ببطلان البيع أيضاً، لما تضمن أن كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه، بناء علي جريانه في الثمن أيضاً، واقتضائه بطلان البيع. وتمام الكلام في محله.

وكيف كان فبناء الأصحاب علي عدم رجوع المشتري علي الفضولي بالثمن - لو تم - لا يستلزم عدم قصد المعاوضة في عقد الفضولي.

هذا ولو كان مرجع بنائهم المذكور إلي دعوي أن المشتري لم يدفع المال للفضولي علي أنه ثمن للمبيع، وإنما دفعه له مجاناً بداعي تسليطه خارجاً علي العين، فإن رجع ذلك إلي مجرد عدم قصد المشتري بالمال الذي دفعه للفضولي الثمنية، لكن مع قصدهما البيع والمعاوضة، فالأمر كما سبق، إلا أن الأصيل لو أجاز لا يرجع علي الفضولي بالثمن، بل علي المشتري فقط.

وإن كان ذلك منهما متفرعاً علي عدم قصدهما البيع والمعاوضة بين المالين، تعين عدم الموضوع للإجازة. لكن لا يظن من أحد دعوي ذلك، بل هو خلاف المقطوع به من حال الفضولي والمشتري، وخلاف مفروض الكلام من بيع الفضولي لنفسه، كم

ص: 251

ويرجع الثمن إلي المالك (1).

---------------

لا يخفي.

(1) كما صرح به غير واحد، ولعله مفروغ عنه عندهم ويظهر وجهه مما سبق. لكن قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (ربما يلتزم صحة أن يكون الإجازة لعقد الفضولي موجبة لصيرورة العوض ملكاً للفضولي. ذكره شيخ مشايخنا في شرحه علي القواعد، وتبعه غير واحد من أجلاء تلاميذه).

وقد يوجه ذلك بوجهين ذكرهما في الجملة شيخنا الأعظم (قدس سره)، ونسبهما لبعضهم:

الأول: أن قضية بيع مال الغير عن نفسه جعل ذلك المال له ضمناً عند البيع، بحيث لو صح البيع لكان قد ملكه آناماً قبل انتقاله للمشتري، كما لو كان ماذوناً في بيعه لنفسه. فإذا أجاز المالك البيع المذكور بعد وقوعه من الفضولي، فقد أجازه بما تضمنه من اللازم، وهو تملك الفضولي للمبيع قبل البيع آناماً، المقتضي لوقوع البيع له، ودخول الثمن في ملكه.

وفيه: أولاً: أن الفضولي في المقام لما كان بانياً علي ملكيته للمبيع قبل البيع، فقصده البيع لنفسه لا يحتاج إلي قصده تملك المبيع عند البيع، ليدعي أن إجازة المالك للبيع تقتضي إجازة التملك المذكور. وهذا بخلاف المأذون في البيع لنفسه، فإنه حيث لا يري ملكيته للمبيع فقصده البيع لنفسه يتوقف علي قصده تملك المبيع قبل البيع آناماً.

وثانياً: أنه لا مجال لقياس إجازة المالك بيع الفضولي لنفسه بإذن المالك لغيره ببيع ماله لنفسه، لأن الآذن لما كان يري عدم ملكية المأذون للمبيع، ويري عدم صحة بيعه لنفسه إلا بتملكه له، فإذنه له في بيعه لنفسه قد يحمل بدلالة الاقتضاء علي الإذن له في تملكه أولاً ثم بيعه لنفسه، بخلاف المجيز، فإنه حيث يمكنه إجازة البيع من دون إجازة التملك - لو فرض حصوله - قبله فلا ملزم له بإجازة التملك.

ص: 252

(253)

(مسألة 10): لا يكفي في تحقق الإجازة الرضا الباطني (1)، بل لابد من الدلالة عليه بالقول، مثل: رضيت، وأجزت، ونحوهما، أو بالفعل، مثل: أخذ

---------------

بل لو أجاز التملك لم يحتج إلي إجازة البيع، إذ بعد خروج المبيع عن ملكه إلي مالك الفضولي بإجازة التملك، يكون بيع الفضولي للمبيع من شؤون الفضولي، لا من شؤون المالك. وعلي ذلك إذا قصد المالك إجازة البيع رجع ذلك إلي عدم إجازة التملك.

الثاني: أنه لا دليل علي اشتراط كون أحد العوضين ملكاً للعاقد في انتقال بدله إليه، بل يكفي كونه مأذوناً من قِبل المالك في بيعه لنفسه أو الشراء به، والإجازة اللاحقة للبيع المذكور كالإذن السابق.

وفيه: أن ذلك وإن تمّ في شراء غير مالك الثمن لنفسه، إلا أنه لا يتم في بيع غير مالك المبيع لنفسه، كما تقدم توضيحه عند الكلام في حقيقة البيع. علي أنه لو تمّ فما يترتب علي الإجازة هو نفوذ العقد الواقع في مضمونه، والمفروض أن العقد لم يتضمن بيع الشيء لغير مالكه، بل بيعه لمالكه علي الوجه المتعارف في البيوع، وإنما قصد الفضولي البيع لنفسه لبنائه علي كونه هو المالك، فمع عدم كونه هو المالك واقعاً يلغو قصد البيع لنفسه، لكونه مقصوداً تبعاً لقصد المبيع للمالك، ويتعين وقوع البيع للمالك، لأنه المقصود بالأصل، كما تقدم في الجواب عن الوجه الثاني من وجوه الاستدلال علي بطلان بيع الفضولي لنفسه، وفي تتمة الجواب عن الوجه الثالث. فراجع. ومن هنا لا مخرج عما هو المعروف من رجوع الثمن للمجيز الذي هو مالك المبيع.

(1) تقدم في المسألة الثامنة أن الرضا الباطني بمعني الرضا الشأني لا يكفي في تحقق الإجازة، وبمعني الرضا الفعلي - الذي هو الرضا الحقيقي - يكفي فيها وإن لم يظهر بمبرز من قول أو غيره، لملازمته عادة لإقرار عقد الفضولي والالتزام به. فيترتب الأثر عليه في حق كل من قامت عنده الحجة عليه.

ص: 253

الثمن أو بيعه أو الإذن في بيعه، أو إجازة العقد الواقع عليه (1)، ونحو ذلك.

(مسألة 11): الظاهر أن الإجازة كاشفة عن صحة العقد من حين وقوعه (2).

---------------

(1) فإن إعمال سلطنته في الثمن ظاهر في بنائه علي تملكه تبعاً لإجازته البيع الأول.

(2) بعد أن ثبت صحة عقد الفضولي، ونفوذه بالإجازة، وقع الكلام بين القائلين، بذلك في أن الإجازة هل تقتضي صحة العقد وترتب آثاره من حينها، أو صحته من حين وقوعه، بحيث يحكم بترتب الآثار في الزمان المتخلل بين العقد والإجازة ؟ والأول هو المراد بالنقل، وإليه ذهب في المستند، وحكاه عن الأردبيلي. والثاني هو المراد بالكشف، وهو المصرح به في كلام غير واحد، كما يأتي ذكر بعضهم، وفي المستند وعن الأردبيلي أنه مذهب الأكثر.

والظاهر أن مقتضي عموم نفوذ العقود هو النقل، لعدم دخول عقد الفضولي في العموم المذكور إلا بالإجازة، إما لما سبق منا من أن الخطاب بالوفاء فرع الالتزام به، وهو لا يتحقق إلا بالإجازة، أو لما ذكره غير واحد من أن العقد الذي يحب الوفاء به هو العقد المنتسب للمالك ولا ينتسب العقد للمالك إلا بالإجازة، أو لأن مقتضي الجمع بين العموم المذكور وما دل علي اعتبار الرضا هو حمل العموم علي خصوص العقد الذي يتحقق الرضا به، والرضا لا يتحقق إلا بالإجازة.

وهكذا الحال في بقية العمومات المدعي دلالتها علي نفوذ عقد الفضولي، كما يظهر بملاحظة تقريب الاستدلال بها في كلماتهم وأن سبق منّا الإشكال في الاستدلال بها، عدا التعليل في قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة الوارد في نكاح العبد بغير إذن سيده

:(إنه لم يعص الله، وإنما عصي سيده، فإذا أجازه فهو له جائز) (1) . فإن تفريع جواز العقد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

ص: 254

(255)

ونفوذه علي الإجازة ظاهر في ترتبه عليها وتأخره عنها رتبة ومقارنته لها زماناً.

لكن ظاهر أو صريح غير واحد البناء علي أن مقتضي العمومات الكشف علي خلاف منهم في وجوهه، تبعاً لكيفية الاستدلال عليه، كما سيتضح إن شاء الله تعالي. والمذكور في كلماتهم وجوه:

الأول: ما عن المحقق الرشتي (قدس سره) في إجارته من أن الشرط في نفوذ العقد هو الرضا التقديري المقارن للعقد، والإجازة كاشفة عنه من دون أن يستند إليها نفوذ العقد.

ويظهر الجواب عنه مما سبق في المسألة الثامنة من أن الرضا الفعلي فضلاً عن التقديري، لا يكفي في نفوذ العقد وخروجه عن الفضولية. بل هو لا يناسب النصوص المتضمنة لتوقف نفوذ عقد الفضولي علي إجازة من له السلطنة علي العقد وإقراره له لظهورها في استناد نفوذه لهما ثبوتاً، لا في كشفهما عما هو الموجب لنفوذه. كما لا يناسب كلماتهم في المقام، فإنهم ذكروا أن الإجازة تقتضي نفوذ عقد الفضولي ومضيه، لا أنها تكشف عن عدم كون العقد فضولياً.

مضافاً إلي أن الإجازة لا تستلزم مقارنة العقد للرضا التقديري، لإمكان رضا المالك بالعقد بعد إبائه له، لتبدل الظروف والدواعي، كما تضمنه صحيح محمد بن قيس في الوليدة التي باعها ابن سيدها.

الثاني: ما في جامع المقاصد قال:

(العقد سبب تام في حصول الملك، لعموم: (أوفوا بالعقود)، وتمامه في الفضولي إنما يعلم بالإجازة، فإذا أجاز تبين كونه تاماً، فوجب ترتب الملك عليه، وإلا لزم أن لا يكون الوفاء بالعقد خاصة، بل به مع شيء آخر، ولا دليل يدل عليه) . وقريب منه في الروضة.

ويظهر الجواب عنه مما تقدم من أن عقد الفضولي لا يكون مشمولاً للعموم إلا بالإجازة، فلا ينفذ إلا بعدها، فالنفوذ وإن كان للعقد وحده، إلا أنه منوط بها متأخر عنها، لا منكشف بها. وهو المناسب لما تضمنته نصوص نفوذ عقد الفضولي

ص: 255

من التعبير بإقرار العقد وإجازته ونحو ذلك.

الثالث: ما عن فخر الدين في الإيضاح من أنها لو لم تكن كاشفة لزم تأثير المعدوم في الموجود، لأن العقد حالها عدم. وتوضيحه: أن المؤثر للنقل والانتقال بمقتضي العمومات لما كان هو العقد، فلو كان تأثيره مقارناً للإجازة المتأخرة لزم تأثيره حال كونه معدماً، فلابد من الخروج عن ظواهر الأدلة، والبناء علي مقارنة الأثر للعقد في ظرف تحقق الإجازة في وقتها، إما لكون الشرط في تأثير العقد هو الوصف المنتزع من ترتب الإجازة لاحقاً، وهو مقارن للعقد ككون العقد بحيث تتعقبه الإجازة، وإما لكون الشرط هو الإجازة بنفسها، لكن بنحو الشرط المتأخر - كما يظهر من الجواهر - بناء علي ما هو الظاهر من إمكان الشرط المتأخر في الأحكام الشرعية وسائر المجعولات الاعتبارية، لأن عللها الشرعية ليست عللاً حقيقية، بل هي موضوعات وضوابط لما هو العلة الحقيقية، وهي اعتبار من بيده الاعتبار الذي هو خفيف المؤونة، ولا مانع من إناطته بأمر متأخر أو سابق غير موجود حين وجود المعلول.

وفيه: أولاً: النقض بمثل الهبة والصدقة المشروطتين بالقبض، حيث يظهر منهم البناء علي ترتب أثرهما بعد القبض، لا من حين العقد لو تعقبه القبض. بل لا ريب في عدم ترتب أثر العقد إلا بعد تماميته بالقبول، مع كون الإيجاب معدوماً حينه، وهو أحد جزئي المؤثر. وكذا الحال في الوصية والتدبير اللذين لا يترب أثرهما إلا بعد الموت... إلي غير ذلك. وما يقال في توجيه جميع ذلك يجري هو أو نظيره في المقام.

وثانياً: أن مقتضي عموم الوفاء بالعقود بالتقريب المتقدم عدم تأثير الإجازة في تنفيذ العقد إلا بوجودها الخارجي وبنحو الشرط المقارن، حيث به يتم الالتزام المستتبع للخطاب بالوفاء أو الانتساب للمالك، فلو تم امتناع ذلك - لامتناع تأثير المعدوم في الموجود - يتعين البناء علي قصور العموم المذكور عن عقد الفضولي، ولا ملزم بالبناء علي عمومه له مع الخروج عن ظهوره في دخل الإجازة بوجوده

ص: 256

الخارجي وبنحو الشرط المقارن. وإنما يتجه ذلك إذا كان نفوذ عقد الفضولي بالإجازة مستفاداً من أدلة خاصة.

وثالثاً: أن تأثير المعدوم في الموجود - بالوجه المتقدم - إنما يمتنع في الأمور التكوينية الحقيقية، فالمعلول منها لا يوجد ما لم تجتمع أجزاء علته التامة في الوجود. ولا مجال لذلك في الأمور الاعتبارية، لما تقدم من أن عللها الشرعية ليست عللاً حقيقية، بل هي موضوعات وضوابط لما هو العلة الحقيقية، وهو اعتبار من بيده الاعتبار، الذي لا مانع من إناطته بأمر سابق أو لاحق معدوم حين وجود المعلول. ولولا ذلك لامتنع دخل الإجازة في نفوذ العقد، بل يدور الأمر بين نفوذ العقد حين وقوعه مطلقاً وعدمه كذلك وهو خلاف المفروض.

وأما الفرار عن ذلك بأن الدخيل في نفوذ العقد هو الأمر المنتزع من ترتب الإجازة. ففيه: أنه ليس للأمر المذكور وجود حقيقي صالح للتأثير إلا بالتفريق بين الأمور الحقيقية والاعتبارية بما سبق، الذي لو تم أمكن تأثير المعدوم في الموجود الاعتباري، كما ذكرنا. ومثله في ذلك الالتزام بدخل الإجازة بنحو الشرط المتأخر، كما هو ظاهر.

الرابع: أن نفوذ العقد وإن كان مترتباً علي تحقق الإجازة في الخارج - كما هو مقتضي العمومات وظواهر الأدلة الخاصة - فلا يحكم شرعاً بحصول مضمونه وترتب أثره إلا بعد حصولها، إلا أن الإجازة حيث تتضمن تنفيذ العقد بتمام مضمونه، فمن الظاهر أن مفاد العقد هو حصول المضمون حين صدوره، لا متأخراً عنه، فيكون مقتضي أدلة النفوذ بالإجازة الحكم شرعاً بعد الإجازة بحصول مضمون العقد وترتب أثره من حين صدوره، لا من حين الإجازة، كما ذكره السيد في الرياض، وحكي عن المحقق القمي (قدس سره).

وقد استشكل في ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) بأنه بعد فرض عدم نفوذ العقد واقعاً قبل الإجازة - وأن كلاً من العوضين في الزمان المتخلل بينها وبين العقد علي حاله

ص: 257

الأول - يمتنع انقلاب الحال بحيث يكون العقد نافذاً من حين وقوعه، والتبادل بين العوضين حاصلاً حينئذٍ، فإن تبدل الشيء عن حاله إنما يكون مع اختلاف الزمان، لا في نفس الزمان الواحد، بل ما حصل فيه يمتنع أن ينفك عنه. وقد يرجع إلي ذلك ما في الجواهر من أنه يلزم اجتماع المالكين علي مال واحد في زمان واحد. بل لا يعقل التأثير في الملك في الزمان الماضي.

لكنه يندفع بما ذكره غير واحد من مشايخنا من أن ذلك إنما يتم في الأمور الحقيقية، أما الأمور الاعتبارية فيمكن تبدل الحال فيها، تبعاً لاعتبار من بيده الاعتبار إذا تبدل الموضوع الذي يناط به اعتباره. مثلاً إذا شك في طهارة الأرض يوم الخميس فمقتضي أصالة الطهارة الحكم بطهارتها في اليوم المذكور، فإذا علم يوم السبت بملاقاتها للنجاسة يوم الأربعاء واحتمل وقوع المطر عليها ليلة الخميس فمقتضي الاستصحاب الحكم بنجاستها يوم الخميس، فانقلب حكم الأرض ظاهراً يوم الخميس عما كان عليه بسبب العلم بنجاستها يوم الأربعاء.

نعم، لا مجال لذلك في الأحكام التكليفية، لا من جهة امتناع انقلاب الشيء عما وقع عليه، بل لأن تقومها بالعمل مستلزم للغوية جعلها مع مضي زمان العمل.

ومثله ما ذكر (قدس سره) أيضاً من أن ترتب الملك علي العقد إنما استفيد من وجوب الوفاء بالعقد المقتضي لنفوذه، وحيث كان وجوب الوفاء في حق المالك متأخراً عن إجازته للعقد تعين تبعية الملك لها، فلا ملك قبلها، لعدم وجوب الوفاء حينئذٍ.

لاندفاعه بأن وجوب الوفاء والأمر به، وإن كان دليلاً علي نفوذ العقد وحصول الملك وكاشف عنه إثباتاً، إلا أن التابع لوجوب الوفاء إثباتاً هو الحكم بالملك، أما الملك المحكوم به فلا مانع من تقدمه عليه ومقارنته للعقد بسبب تضمن العقد جعل مضمونه من حين صدوره - كما هو المدعي - واقتضاء الإجازة تنفيذه بتمام مضمونه.

فالعمدة في الجواب عن الوجه المذكور ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) أيضاً - في الجملة - من أن العقد إنما يتضمن جعل مضمونه من دون اخذ خصوصية الزمان

ص: 258

فيه، وإنما يترتب المضمون مقارناً للعقد بضميمة دليل نفوذه، فإذا اقتضي الدليل عدم نفوذه رأساً، بل موقوفاً علي مثل القبض أو الإجازة أو غيرها، تعين تأخر مضمونه.

ودعوي: أنه بعد امتناع الإهمال في جعل الجاعل فمع فرض عدم التقييد يتعين الإطلاق وحصول مضمون العقد من حينه. مدفوعة بأن حصول مضمون العقد من حينه مع الإطلاق ليس لأخذ زمان العقد قيداً في المضمون المنشأ، ليكون مقتضي إجازة العقد في تمام مضمونه ترتب المضمون من حين العقد، بل لأن مقتضي الإنشاء العقدي تحقق المنشأ ادعاءً، فمع نفوذ العقد وإمضائه شرعاً يتعين تحقق المضمون المنشأ شرعاً مقارناً للعقد، ومع توقف نفوذه شرعاً علي أمراً آخر - من إجازة أو قبض أو غيرهما - يتعين تحقق المضمون شرعاً حين حصول ذلك الأمر.

ويتضح ذلك بملاحظة حال القبول مع الإيجاب، فإنه عبارة عن إمضاء الإيجاب وإقراره، كما هو حال الإجازة مع العقد، مع أنه لا يقتضي ثبوت المضمون شرعاً من حين الإيجاب، بل من حينه، لعدم تمامية العقد الذي هو موضوع أدلة النفوذ إلا به.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن مضمون العقد ما لم يتحقق القبول لا يحصل بالإيجاب وحده. فإن أراد به عدم حصول المضمون شرعاً، فهو مسلم، كعدم حصول مضمون عقد الفضولي إلا بالإجازة. لكنه لا يمنع من التنظير، كما لا يخفي. وإن أراد به عدم حصوله ادعاء بمقتضي إنشاء الموجب، فهو ممنوع قطعاً، إذ لا ريب في إنشاء كل من المتعاقدين للمضمون الواحد.

وما ذكره (قدس سره) من أن الإيجاب معلق علي القبول ضمناً وإن لم يعلق عليه صريحاً. ممنوع جداً، بل غاية ما يدعي أن الغرض الداعي للإيجاب هو حصول القبول من القابل، ليتم به العقد الذي هو موضوع النفوذ شرعاً وعرفاً. علي أنه لو سلم فهو لا يقتضي أخد زمان القبول قيداً في المضمون المنشأ في الإيجاب، ولا ينافي إطلاق المضمون المنشأ به.

ص: 259

إلا أن يرجع ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره)، حيث قال بعد أن نظّر لما نحن فيه بالقبول:

(اللهم إلا أن يقال: لما كان القبول مقوماً للعقد في نظر العرف يتعين أن يكون مقصود الموجب الإيقاع بعد القبول. فتأمل) .

لكنه غريب جداً، فإن تقوم العقد بالقبول لا يستلزم أخذ زمان القبول قيداً في المضمون المنشأ بالإيجاب. وهل يمكن دعوي أن المضمون المنشأ بإيجاب أحد المتعاقدين يختلف عن المضمون المنشأ ممن يتولي طرفي العقد بالإطلاق والتقييد؟! ولعله لذا أمر (قدس سره) بالتأمل.

والحاصل: أنه لا ينبغي التأمل في عدم أخذ خصوصية الزمان قيداً في مضمون العقد، ليكون مقتضي دليل تنفيذ الإجازة لعقد الفضولي نفوذه وترتب مضمونه من حينه.

الخامس: ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) حيث قال بعد الإشكال في الوجه السابق: (اللهم إلا أن يقال: زمان العقد وإن لم يؤخذ قيداً للمضمون. لكن من المرتكزات العرفية كون المضمون من آثار العقد ومسبباً عنه علي نحو المسببات الحقيقية الناشئة عن أسبابها من كونها مقارنة لها غير منفكة عنها. وهذا الارتكاز العرفي موجب لحمل العمومات علي تنفيذه علي النحو المذكور. فإذا كانت الإجازة مصححة لتطبيق العمومات علي العقد كان مقتضاها النفوذ من حينه، لا من حين الإجازة. وهذا قريب جداً).

لكنه كما تري فإن مقارنة المسبب للسبب إنما تكون مع تمامية السبب وعدم قصور سببيته، أما مع عدم تماميته وقصور سببيته فمن الظاهر عدم مقارنة المسبب له، بل يتوقف حصول المسبب علي تمامية سببيته بحصول المتمم لها. فارتكاز قياس سببية العقد علي سببية الأسباب الحقيقية يقضي اختصاص مقارنة مضمونه له بما إذا كان تام السببية، كعقد الأصيل، دون مثل عقد الفضولي المفروض قصور سببيته، بل يتعين حينئذٍ عدم مقارنة المسبب للسبب، بل لتمامية سببيته، بحصول المتمم لها، كالإجازة

ص: 260

في المقام. كما لعله ظاهر.

هذا ما تيسر لنا الإطلاع عليه من الوجوه المستدل بها لحمل العمومات علي الكشف، وقد ظهر عدم نهوضها به، وأن النقل هو الأنسب بالعمومات.

وأما الأدلة الخاصة فيشهد جملة منها بالكشف: منها: صحيح محمد بن قيس في الوليدة التي باعها ابن سيدها، حيث تضمن أن الإجازة موجبة لرجوع الولد الحاصل بوطء سابق عليها لأبيه وجريان حكم ولد المملوكة عليه.

ومنها: روايات أضحية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم). لظهور أن صحة المعاملات المترتبة علي عقد الفضولي بإجازته مع وقوع تلك المعاملات قبل الإجازة لا يتم إلا علي الكشف.

ومنها: صحيح إبراهيم بن هاشم، لما سبق من أن المراد من طلب التحليل من مال الوقف فيه ليس هو التحليل التكليفي فقط، بل ما يعم التحليل الوضعي الراجع لتنفيذ المعاملات الواقعة علي المال الذي أنفقه قبل حصول التحليل والإجازة.

ومنها: موثق مسمع في الاتجار بمال الوديعة المجحودة، فإن ظهور الربح الكثير في تلك المدة الطويلة يكون غالباً بمعاملات كثيرة متعاقبة، وقد لا يصح إجازة بعضها علي النقل، لتلف أحد العوضين حين الإجازة، فعدم تنبيه الامام (عليه السلام) لذلك يناسب الكشف والاكتفاء في صحة المعاملة بواجديتها للشروط حين وقوعها وإن فقدتها حين الإجازة.

ومنها: ما في بعض نصوص نكاح الفضولي المشار إليها في أواخر المسألة الثامنة من أن المزوج فضولاً يرث من الآخر بعد أن يحلف أنه ما دعاه إلي أخذ الميراث إلا الرضا بالنكاح(1).

ومنها: صحيح معاوية بن وهب: (جاء رجل إلي أبي عبد الله (عليه السلام) فقال:

إني كنت مملوكاً لقوم، وإني تزوجت امرأة حرّه بغير إذن موالي، ثم اعتقوني بعد ذلك،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 58 من أبواب المهور حديث: 2، 14، وج: 17 باب: 11 من أبواب ميراث الأزواج حديث: 1، 4.

ص: 261

(262)

كشفاً حكمياً (1).

---------------

فأجدد نكاحي إياها حين أعتقت ؟ فقال له: أكانوا علموا أنك تزوجت امرأة وأنت مملوك لهم ؟ فقال: نعم، وسكتوا عني ولم يغيروا علي. قال: فقال: سكوتهم عنك بعد علمهم إقرار منهم. اثبت علي نكاحك الأول) (1) .

فإنه كالصريح في ترتيب السائل آثار النكاح الصحيح من حين العقد إلي حين العتق، وإنما يسأل عن حكم ما بعد العتق، فاكتفاء الامام (عليه السلام) في صحة العقد بإمضاء الموالي المستفاد من سكوتهم بعد علمهم، من دون تنبيه منه (عليه السلام) لعدم ترتيب آثار صحة النكاح قبل علم الموالي به وإقرارهم له، قد يظهر في إقراره له علي ترتيب آثار النكاح من حين وقوعه بسبب إقرار الموالي له بعد ذلك، كما هو مقتضي الكشف. وقريب منه في ذلك صحيح الحسن بن زياد الطائي(2).

هذا ما تيسر لنا العثور عليه من النصوص الظاهرة في الكشف، وهي وإن وردت في موارد خاصة، إلا أن من القريب جداً أن يستفاد منها العموم. ولاسيما مع ظهورها في المفروغية عن مضي العقد بالإجازة، الذي سبق أنه مقتضي العمومات والمرتكزات العرفية، حيث يظهر منها المفروغية عن الكشف تبعاً لذلك. وهو المناسب لعمل العرف، تبعاً لمرتكزاتهم.

وكأن ذلك هو الذي حمل المشهور علي القول بالكشف محاولين تنزيله علي القواعد وتطبيق العمومات عليه، وإن عرفت الإشكال في ذلك.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في الكشف بعد ما سبق. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

(1) بعد أن ذهب المشهور إلي الكشف اختلفوا في حقيقته علي وجوه: الأول: الكشف الحقيقي، بمعني أن الإجازة تكشف عن نفوذ العقد حين وقوعه، بحيث لو علم بحصولها حين العقد حكم بنفوذه، وجاز ترتيب آثاره حينئذٍ. وهو المناسب

********

(1) ، وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1، 3.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1، 3.

ص: 262

للوجوه الثلاثة الأولي التي تقدم الاستدلال بها للكشف. قال في الجواهر - بعد أن سبق منه ما يناسب الوجه الثالث -: (لو أخبر المعصوم بأنه يحصل الرضا فعلاً من لمالك الذي يؤثر رضاه كفي ذلك في ترتب الآثار الآن عليه، لتحقق الشرط حينئذٍ، كتحققه بنفس وقوعه، إذ الشرط الحصول فعلاً ولو في المستقبل).

الثاني: الكشف الانقلابي، كما هو مفاد الوجه الرابع والخامس.

الثالث: الكشف الحكمي. ومرجعه إلي أن الإجازة تقتضي ترتب ما يمكن من أحكام وآثار نفوذ العقد في الزمان السابق، كتملك المشتري لنماء المبيع الحاصل في الزمان المتخلل بين العقد والإجازة، وحرية الولد الحاصل نتيجة وطء الجارية المشتراة في الزمن المذكور ونحو ذلك. وهو الذي نسبه شيخنا الأعظم إلي أستاذه شريف العلماء قدس سرهما، واختاره هو بعد أن منع من نهوض العمومات بالكشف الحقيقي، وادعي امتناع الكشف الانقلابي، كما سبق.

لكن حيث سبق عدم امتناع الكشف الانقلابي فلا ملزم بالبناء علي الكشف الحكمي. بل حيث كان مقتضي العمومات نفوذ العقد، فإن استفيد منها نفوذه حين الإجازة تعين القول بالنقل، وإن استفيد منها نفوذه من حين العقد تعين القول بالكشف الانقلابي.

ولو فرض امتناعه تعين البناء علي خروج عقد الفضولي عن عموم النفوذ والبناء علي بطلانه بالنظر للعموم المذكور، ولا مجال للبناء علي عمومه له، وحمله فيه - دون بقية الأفراد - علي النفوذ الحكمي، فإنه تصرف غير عرفي، ولا قرينة عليه، كما ذكر سيدنا المصنف (قدس سره). ولاسيما مع عدم الإشكال ظاهراً في بناء القائل به علي النفوذ الحقيقي في عقد الفضولي بالإضافة إلي الزمان المتأخر عن الإجازة، حيث يلزم منه اختلاف المراد من العام باختلاف أفراده، بل باختلاف أزمنة الفرد الواحد. ولا نظير لذلك في الاستعمالات العرفية.

هذا وحيث سبق عدم نهوض العمومات بالكشف، وأن الدليل عليه النصوص

ص: 263

السابقة، فمن الظاهر أن النصوص المذكورة - كغيرها من النصوص المتضمنة توقف صحة عقد الفضولي علي الإجازة - ظاهرة في دخل الإجازة بوجودها الخارجي في نفوذ العقد، بحيث يكون نفوذه مقارناً لها، ولا تناسب نفوذه قبل حصولها كما هو مفاد الكشف الحقيقي، فهي في ذلك كالعمومات، بل بعضها كالصريح في ذلك، كقوله (عليه السلام) في صحيح زرارة: (إنه لم يعص الله وإنما عصي سيده، فإذا أجازه فهو له جائز)(1) وغيره.

وكذا الحال في الكشف الحكمي، لظهور النصوص المتضمنة نفوذ عقد الفضولي بالإجازة في النفوذ الحقيقي الذي هو عبارة عن ترتب مضمون العقد نفسه، فتتبعه الآثار، لا عن ترتب الآثار رأساً، دون المضمون المستتبع لها. ولاسيما مع ما سبق من عدم الإشكال ظاهراً في نفوذ العقد حقيقة في الزمن اللاحق للإجازة، حيث يلزم من البناء علي الكشف الحكمي التفكيك في مفاد الدليل بين الأزمنة، كما ذكرناه آنفاً. ومن هنا يتعين حملها علي الكشف الانقلابي بعد ما سبق من إمكانه في نفسه.

نعم، لو فرض امتناعه تعين حمل النصوص المذكورة علي نفوذ العقد من حين الإجازة، الذي هو عبارة عن النقل، لكن مع ترتب آثار مضمون العقد في الزمن المتخلل بين العقد والإجازة تبعاً، وهو مطابق عملاً للكشف الحكمي. فإنه وإن كان لا يناسب قوة ظهورها في أن ترتب تلك الآثار من شؤون نفوذ العقد، لا أمر آخر قد حكم الشارع به تبعاً له، إلا أنه لابد من المصير إليه جمعاً.

هذا ومن الغريب ما في المتن وأقره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن الكشف في المقام حكمي، مع أنه - كسيدنا المصنف (قدس سره) - صرح في مقام الاستدلال بأن الكشف في المقام انقلابي. بل قال سيدنا المصنف (قدس سره): (ومن هنا تعرف أن الكشف الحكمي ضعيف جداً... ومن ذلك تعرف أن الكشف الحقيقي الانقلابي أقوي من النقل ومن سائر وجوه الكشف، فهو المتعين). إلا أن يكون مرادهما من الكشف الحكمي الحكم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

ص: 264

(265)

فنماء الثمن من حين العقد إلي حين الإجازة ملك مالك المبيع، ونماء المبيع ملك المشتري (1).

---------------

بما يناسب الكشف في مقابل الكشف الحقيقي.

(1) وكذا الحال في سائر آثار سبق نفوذ العقد، كنفوذ العقود المترتبة علي عقد الفضولي من البايع علي الثمن، ومن المشتري علي المبيع وغير ذلك مما فصل في محله.

وبقي في المقام بعض الثمرات ذكرها شيخنا الأعظم (قدس سره) يحسن بنا التعرض لها أو لما يناسبها.

منها: أنه بناء علي النقل فللطرف الأصيل رفع اليد عن العقد قبل الإجازة. فإذا اشتري زيد ملك عمرو فضولاً، كان لزيد رفع اليد عن البيع قبل إجازة عمرو له، فلا تنفع في نفوذه، وإذا تزوج زيد هند فضولاً، كان له رفع اليد عن عقد النكاح قبل إجازة هند له، فلا تنفع إجازتها في نفوذه إذ بناء علي النقل فالإجازة بمنزلة القبول، ولا إشكال في أن للموجب رفع اليد عن الإيجاب قبل تحقق القبول. أما بناء علي الكشف فلا مجال لذلك، لكشف الإجازة عن تمامية العقد وترتب أثره من حين وقوعه من دون أن تكون دخيلة في ذلك، فرجوع الأصيل عنه كرجوع الموجب عن الإيجاب بعد تمامية العقد لا يترتب الأثر عليه.

ولا يخفي أن ذلك إنما يتم بناء علي الكشف الحقيقي، المبتني علي تأثير العقد حين وقوعه، من دون دخل للإجازة فيه، وإنما هي كاشفة عن حاله، وأنه مؤثر في بنفسه، كما هو مفاد الوجهين الأولين للاستدلال علي الكشف، وقد سبق ضعفهما. أما بناء علي بقية وجوه الكشف وأدلته فالإجازة دخيلة في نفوذ العقد، كما هو الحال علي النقل، ولا مجال للفرق بينهما في ذلك.

نعم، قد يقال: لا مجال لقياس الإجازة بالقبول في إمكان رفع اليد عن العقد قبلها حتي بناء علي النقل، لعدم صدق العقد إلا ببقاء الموجب علي التزامه إلي حين

ص: 265

القبول، بحيث يبتني القبول علي ارتباط أحد الالتزامين بالآخر وابتنائه عليه، كأنه قد عُقِد به، علي ما أشرنا إلي ذلك عند الكلام في مانعية الردّ من الإجازة.

أما الإجازة في المقام فهي إنما ترد بعد تمامية العقد، وعدول الأصيل قبلها لا يمنع من صدق العقد، بل هو عدول عن العقد بعد تماميته. غايته أنه قبل تحقق شرط نفوذه، وحينئذٍ لا وجه لمانعيته من تأثير الإجازة في نفوذ العقد، منه بل هي خلاف عموم الخطاب بالوفاء بالعقود، وإطلاق مثل قوله (عليه السلام)

:(فإذا أجازه فهو له جائز) (1) .

لكن الإنصاف أن المفهوم عرفاً من الأدلة - تبعاً للمناسبات الارتكازية - أن الإجازة بحكم القبول في المقام، لاشتراكهما في كون الحاجة لهما من أجل التزام أحد طرفي العقد بمضمونه القائم بهما. وذلك لأن ملاك نفوذ العقد عند العقلاء هو إلزام كل من الطرفين أو الأطراف بما التزم به بناء علي التزام الآخر ومرتبطاً بالتزامه، وذلك كما يقتضي لزوم ارتباط القبول بالإيجاب في عقد الأصيلين، فلا يتم العقد إذا ورد القبول بعد عدول الموجب عن الإيجاب، كذلك يقتضي لزوم ارتباط الإجازة في عقد الفضولي بالتزام الأصيل به، فلا يتم التعاقد بينهما إذا وردت الإجازة بعد عدول الأصيل عن التزامه، فإن عدوله وإن لم يمنع من صدق العقد والتعاقد بينه وبين الفضولي، إلا أنه يمنع من صدق التعاقد بينه وبين الأصيل الآخر الذي تصدر منه الإجازة، والذي هو موضوع النفوذ دون الأول.

وما ذكرناه من الارتكاز صالح للقرينة علي حمل الإطلاقات علي ما يناسبه لو فرض قصورها لفظاً. نظير ما ورد في القبول، ففي حديث أبان بن تغلب في زواج المتعة:

(قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال: تقول: أتزوجك متعة علي كتاب الله... فإذا قالت: نعم، فقد رضيت، وهي امرأتك وأنت أولي الناس بها... ) (2) ولا يظن بأحد دعوي أن مقتضي إطلاقه تمامية الزواج بقولها: نعم، حتي لو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 18 من أبواب المتعة حديث: 1.

ص: 266

عدل الزوج عن الإيجاب قبل ذلك. وما ذلك إلا لأن ارتكاز عدم تمامية العقد صالح لصرف الإطلاق إلي ما يناسبه. وكذلك في المقام.

علي أنه يشيع الابتلاء بذلك في جميع المعاملات، إذ كثيراً ما يتضح للعاقد أن طرف العقد معه فضولي غاصب أو غيره، ولا ريب في أن بناءهم حينئذٍ علي أن له أن يعرض عن العقد، وأنه إذا أعرض عنه ليس للأصيل أن يجيز العقد، ويلزمه به، وليس بناؤهم علي أنه يبقي معلقاً بانتظار موقف الأصيل، وأنه يجيز أو لا يجيز، الذي قد لا يتضح مدة طويلة. خصوصاً بناء علي ما سبق من عدم مانعية الرد من تنفيذ العقد بالإجازة. وما ذلك منهم إلا لاستحكام الارتكاز المتقدم، وكفي به دليلاً في المقام صالحاً للقرينة علي تنزيل الإطلاقات علي ما يناسبه. ومن هنا يتعين البناء علي مانعية عدول الأصيل من تأثير الإجازة حتي بناء علي الكشف الحقيقي.

ودعوي: أن مقتضي ذلك اعتبار بقاء الطرف الأصيل في العقد علي التزامه، فلو سقط عن ذلك بجنون أو موت لم تنفع الإجازة في تنفيذ العقد، مع إباء المرتكزات عن ذلك، كما لا تناسبه السيرة، لعدم الاهتمام حين إجازة عقد الفضولي بالفحص عن حال الطرف الآخر. بل تقدمت الإشارة للنصوص المتضمنة أن المزوج فضولاً يرث من صاحبه بعد أن يحلف أنه ما دعاه إلي أخذ الميراث إلا الرضا بالنكاح(1). فإنها صريحة في نفوذ النكاح بالإجازة مع موت الطرف الآخر.

مدفوعة بالفرق بين عدول الإنسان عما التزم به، وبقائه علي التزامه حتي مات أو جنّ أو نحوهما، في نسبة الالتزام له عرفاً في الثاني دون الأول. وعدم الاكتفاء بذلك في الموجب لو مات قبل القبول لا يستلزم عدم الاكتفاء به في المقام، إذ ليس المدعي أن الإجازة كالقبول في كل شيء، بل المدعي أنها مثله في مانعية العدول عن الالتزام من تأثيرها ونفوذ العقد بها. وكفي بالمرتكزات معياراً في الفرق بين الموارد، وشاهداً علي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 57 من أبواب المهور حديث: 2، 14 وج: 17 باب: 11 من أبواب ميراث الأزواج حديث: 1، 4.

ص: 267

تنزيل الإطلاقات علي ما يناسبها. فلاحظ.

ومنها: تصرف الأصيل في موضوع العقد تصرفاً منافياً لصحة العقد. فإذا اشتري الفضولي لغيره عيناً من شخص فهل لذلك الشخص قبل حصول الإجازة التصرف في العين تصرفاً خارجياً، كلبس الثوب، أو اعتبارياً، كبيعه ووقفه ؟ وإذا زوج الفضولي من جانب المرأة تلك المرأة لرجل فهل لذلك الرجل الأصيل قبل إجازتها أن يتزوج أمها أو بنتها أو أختها أو الخامسة إن كانت هي الرابعة أو نحو ذلك ؟ وإذا زوج الفضولي من جانب الرجل امرأة من ذلك الرجل، فهي لتلك المرأة الأصيلة أن تزوج نفسها قبل إجازته من رجل آخر؟ إلي غير ذلك.

والكلام في ذلك مع قطع النظر عما سبق في الثمرة السابقة من أن للأصيل أن يرفع اليد عن عقد الفضولي قبل الإجازة، إما للبناء هناك علي أنه ليس له رفع اليد عن العقد المذكور، أو لعدم ابتناء تصرفه المفروض هنا علي رفع اليد عن ذلك العقد، إما لغفلته عن منافاة التصرف له، أو غفلته عن العقد نفسه، أو نحو ذلك.

إذا عرفت ذلك فيظهر من بعض كلماتهم عدم جواز التصرف المذكور له مطلقاً، سواء قيل بالنقل أم بالكشف. قال في القواعد في مبحث أولياء العقد في النكاح

:(ولو تولي الفضولي أحد طرفي العقد ثبت في حق المباشر تحريم المصاهرة، فإن كان زواجاً حرم عليه الخامسة والأخت والبنت والأم. إلا إذا فسخت، علي إشكال في الأم) . وحكي نحوه عن جماعة. وقال في جامع المقاصد في كتاب الغصب فيما إذا اشتري الفضولي بعين المال:

(وليس لكل من البايع والغاصب التصرف في العين، لإمكان إجازة المالك، خصوصاً علي القول بأن الإجازة كاشفة) .

وربما يوجه ذلك بأن العقد لازم من طرف الأصيل لأنه قد التزم به علي نفسه، فيترتب أثره في حقه، وحيث كان نفوذه منافياً للتصرف المذكور، تعين تحريمه وعدم سلطنته عليه.

وفيه: أن مضمون العقد قائم بالطرفين، فلما لم يثبت في حقهما معاً - لعدم

ص: 268

إجازة الآخر بعد - لا يثبت في حق المباشر وحده، كما أشار إلي ذلك في الجملة في جامع المقاصد في تعقيب كلام العلامة المتقدم. ومجرد التزامه به لا يقتضي إلزامه واقعاً بترتيب آثاره في حقه بعد أن كانت الآثار تابعة للمضمون المفروض عدم ثبوته بعد. وإلا لكان ملزماً به حتي لو لم يجز الآخر. كما لا يقتضي إلزامه به ظاهراً احتياطاً للعقد، لاحتمال صحته بالإجازة اللاحقة. لعدم الدليل علي ذلك بعد أن كان مفاد دليل نفوذ العقود نفوذها واقعاً، والمفروض قصورها عن العقد المذكور، لعدم تمامية شروطه، وغاية ما يدعي أنه بناء علي الكشف يكون تعقب الإجازة مقتضياً لصحة العقد من حينه بنحو يقتضي حرمة التصرف السابق عليها.

لكن حيث لا يعلم بتحقق الإجازة يتعين البناء علي جواز التصرف، لاستصحاب عدمها. نعم ورد وجوب الاحتياط في بعض الموارد، مثل عزل الميراث في زواج الصغيرين فضولاً، كما أشرنا إليه آنفاً. إلا أنه مختص بمورده لمخالفته للقاعدة.

لكن قال في جامع المقاصد:

(والحكم بثبوت حرمة المصاهرة إنما كان لأن العقد الواقع نقل عن حكم الحل الذي كان قبله، وإن كانت سببيته وعدم سببيته الآن غير معلومة، فلم يبق حكم للأصل كما كان) .

وهو كما تري فإن مجرد تبدل الحال بحصول العقد المذكور لا يستلزم تبدل الحكم بعد فرض الشك في سببيته، لاحتمال عدم حصول الإجازة، بل هو مقتضي الأصل.

وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في جواز التصرف ونفوذه ظاهراً مع الشك في الإجازة من دون فرق بين البناء علي النقل والبناء علي الكشف.

وإنما الكلام في حكم التصرف واقعاً علي تقدير حصول الإجازة، وأنها هل تكشف عن حرمة التصرف الخارجي وبطلان التصرف الاعتباري السابق عليها، أو لا، بل يحلّ التصرف المذكور وينفذ واقعاً وإن تعقبته الإجازة. ويترتب علي الأول حرمة الإقدام عليه وترتيب آثاره لو علم بتعقب الإجازة، وعلي الثاني جواز الإقدام

ص: 269

عليه ونفوذه.

لا ينبغي التأمل في حلّ التصرف واقعاً ونفوذه بناء علي النقل، لعدم ترتب مضمون العقد حين التصرف، ليمنع منه، ومقتضي عموم سلطنة الأصيل علي ماله ونفسه جواز التصرف المذكور ونفوذه.

وحينئذٍ إن ابتني التصرف المذكور من الأصيل علي رفع اليد عن عقد الفضولي، فبناء علي ما سبق منا من سلطنته علي ذلك، يتعين بطلان عقد الفضولي وعدم ترتب الأثر علي إجازة الطرف الآخر، من جهة الأعراض المذكور، لا من جهة التصرف.

أما إذا لم يتبين تصرف الأصيل علي الإعراض عن العقد - ولو للغفلة عنه حين التصرف - أو قلنا بعدم سلطنته علي الإعراض عنه، فإن كان التصرف المذكور مانعاً من ترتب مضمون العقد، تعين عدم ترتب الأثر علي الإجازة، كما لو زوجه الفضولي امرأة، فتزوج قبل إجازتها بنتها أو أختها، فإن مقتضي صحة زواج الثاني - تبعاً لسلطنة الزوج علي إيقاعه - عدم تحقق الزواج الأول بالإجازة.

وأما بناءً علي الكشف فقد يدعي أن اللازم البناء علي كشف الإجازة عن حرمة التصرف المذكور وعدم نفوذه، لكشفها عن صحة عقد الفضولي من حين وقوعه، ومع صحته يحرم التصرف واقعاً، ولا ينفذ.

لكنه لا مجال لذلك بناءً علي الكشف الانقلابي أو الحكمي لابتنائهما علي عدم ترتب مضمون العقد وآثاره قبل تحقق الإجازة. فلا تكشف الإجازة عن وقوع التصرف في غير محله، بل هو واقع في محله بعد فرض عدم ترتب مضمون العقد حينه، وبعد وقوعه في محله لا مجال للبناء علي بطلانه بالإجازة، بل يتعين البناء علي مانعيته من مضمون العقد، وعدم ترتب الأثر علي الإجازة، كما هو الحال بناء علي النقل، لاشتراكهما في صحة التصرف الواقع من الأصيل.

نعم، قد يقال: وقوع التصرف المذكور في محله قبل الإجازة إنما يمنع من ترتب مضمون العقد بعدها - كما هو مقتضي النقل - لمانعيته منه. ولا يمنع من الحكم بترتبه

ص: 270

من حين العقد قبل حصول التصرف المنافي - كما هو مقتضي الكشف الانقلابي - لعدم المانع حينئذٍ. غايته أن الحكم بترتبه من حين العقد يستلزم الحكم ببطلان التصرف المذكور بعد الحكم بصحته، ولا محذور في ذلك، بناءً علي الكشف الانقلابي، لأنهما من باب واحد.

كما يجري ذلك بناء علي الكشف الحكمي أيضاً، حيث لا مانع بعد فرض صحة التصرف حين وقوعه من الحكم بترتب أحكام حصول مضمون العقد قبل ذلك ومنها بطلان التصرف المذكور.

لكن الإنصاف إباء المرتكزات العرفية والمتشرعية لذلك جداً، إذ لازمه إمكان أن يتزوج الرجل البنت فضولاً عنها، ثم يتزوج أمها زواجاً تاماً، حتي إذا قضي وطره منها أقنع البنت بإجازة نكاحها الفضولي، فيبطل زواج أمها ويصح زواجها. ويبيع زيد داره علي عمر فضولاً، ثم يؤجرها علي بكر، حتي إذا أراد أن يضر بكراً أقنع عمراً بإجازة بيع الدار من أجل أن يحكم بملكيته لها قبل الإجارة، وببطلان الإجارة. وكما لو باع زيد عبده علي عمر فضولاً، وقبل إجازة عمرو نكل زيد بعبده المذكور، فعتق عليه، فيقنع عمراً بإجازة البيع من أجل أن يحكم بملكيته للعبد قبل التنكيل به، كي لا يكون التنكيل موجباً للعتق، لأنه من غير المالك... إلي غير ذلك مما لا يمكن البناء عليه بالنظر للمرتكزات المذكورة.

وربما يكون الوجه في ذلك أن الكشف الانقلابي والحكمي لما كانا علي خلاف القاعدة - كما يظهر مما سبق - فلابد من الاقتصار في مقتضاهما علي ما تقتضيه الأدلة، والمتيقن منه البناء علي ثبوت مضمون العقد وأحكامه من حين وقوعه بالإضافة إلي الآثار الملحوظة تبعاً، كالنماء، وصحة العقود المترتبة، واستيلاد الجارية تبعاً لملكيتها، وأمثال ذلك مما يجري عليه العرف بطبعه، دون أن يتعدي ذلك إلي نقض الأسباب التامة المؤثرة، ورفع آثارها، سواء كانت عقوداً أو إيقاعات يقوم بها من له السلطنة عليها أم غيرها من الأمور التكوينية كالتنكيل بالعبد الموجب لعتقه.

ص: 271

هذا وأما بناء علي الكشف الحقيقي فقد يتجه كشف الإجازة عن وقوع التصرف في غير محله، وأنه وقع باطلاً غير مؤثر. لكن سبق أنه لا مجال للبناء علي الكشف بالوجه المذكور، لمخالفته لظواهر الأدلة. ويزيده إشكالاً ما سبق من إباء المرتكزات بطلان التصرفات المنافية لمضمون العقد المتخللة بين العقد والإجازة. فلاحظ.

ومنها: تصرف الطرف الآخر الذي قام الفضولي مقامه قبل أن يجيز العقد تصرفاً منافياً لمضمون العقد، كما لو باع الفضولي دار زيد علي عمرو، وقبل إجازة زيد للبيع المذكور باع زيد الدار أو وآجرها علي بكر. وكما لو زوج الفضولي زيداً من هند برضاها، وقبل إجازة زيد للزواج المذكور تزوج أختها أو بنتها، ونحو ذلك.

ولا ريب في بطلان عقد الفضولي بالتصرف المذكور لو ابتني علي ردّ المتصرف للعقد، بناء علي مانعية الرد من الإجازة، كما هو المعروف بينهم. أما لو لم يبتن علي ذلك - ولو لغفلته عن العقد حين التصرف - أو لم نقل بمانعية الرد من الإجازة - كما سبق منّا - فربما يبني الكلام في ذلك علي النقل والكشف، فعلي النقل يتعين صحة التصرف الحادث، وعدم بطلانه بالإجازة، بل قد يكون مانعاً من تأثيرها، كما إذا كان التصرف المذكور مانعاً من مضمون عقد الفضولي، كتزوج بنت المزوجة فضولاً، وبيع العين المبيعة فضولاً.

نعم، إذا لم يكن مانعاً من مضمون العقد يتعين الجمع بينهما، كما إذا آجر العين المبيعة فضولاً، حيث يتعين بالإجازة نفوذ بيع العين مسلوبة المنفعة، غاية الأمر أن للمشتري بعد الإجازة الفسخ لو كان جاهلاً بسلب المنفعة وكان ذلك نقصاً فيها.

أما علي الكشف فالمتعين البناء علي نفوذ العقد بالإجازة مطلقاً، فينكشف وقوع التصرف في غير محله، ويبطل حتي إذا لم يكن مانعاً من مضمون العقد، كإجارة العين المبيعة فضولاً. لأنه ينكشف بالإجازة عدم سلطنة المجيز علي المنفعة حين إجارة العين، لخروج العين عن ملكه، فتبطل إجارته لها.

ص: 272

لكن الظاهر عدم ترتب الثمرة المذكورة. أما علي الكشف الانقلابي والحكمي فظاهر، لما تقدم في الثمرة السابقة من أن الإجازة حينئذٍ لا تكشف عن عدم وقوع التصرف في غير محله، لأن مضمون العقد لا يترتب حين وقوعه للعقد قبل حصول الإجازة، بل يترتب بالإجازة، ولا وجود له قبلها، ليكون التصرف واقعاً في غير محله، بل التصرف في محله علي كل حال حصلت الإجازة أو لم تحصل، وعليه يتعين بقاؤه بعد الإجازة، لما سبق من عدم انقلاب التصرف المذكور عن حاله، بحيث يحكم ببطلانه بعد الحكم بصحته، ولازم ذلك مانعيته من مضمون العقد، فلا يترتب الأثر علي الإجازة.

وأما علي الكشف الحقيقي - الذي سبق مخالفته لظواهر الأدلة - فلأن الإجازة الكاشفة عندهم هي الإجازة التي تصدر ممن له السلطنة علي العقد حينها، ولذا يعتبر كماله حينها، كما صرحوا به. كما لا إشكال عندهم ظاهراً في عدم ترتب الأثر علي إجازة من تجدد له السفه بعد العقد، وأنه لا مجال للبناء علي ترتب الأثر عليها بلحاظ كشفها عن تحقق مضمون العقد قبل سفهه.

وعلي ذلك فحيث كان المجيز مسلطاً علي إيقاع التصرف المذكور قبل إجازته للعقد، حتي بناء علي الكشف الحقيقي، ولو لقدرته علي عدم الإجازة، فمقتضي سلطنته صحة التصرف الذي أوقعه، ومقتضي صحته رفع سلطنته علي إجازة العقد إذا كان مضمونه منافياً له، وإذا ارتفعت سلطنته علي مضمون العقد لم تصلح إجازته للكشف عن ثبوت مضمونه حين وقوعه، لينكشف ثبوت المانع من صحة التصرف السابق عليها وبطلانه.

وبعبارة أخري: سلطنة الشخص علي التصرفات المتنافية، كزواج الأم وبنتها، تستلزم كون سبقه إلي إعمال سلطنته في أحدهما مانعاً من سلطنته علي الآخر. وفي المقام حيث فرض سبق الشخص للتصرف المنافي لمضمون عقد الفضولي تعين قصور سلطنته عن إجازته، ومع قصور سلطنته عن إجازته لا تصلح إجازته للكشف عن

ص: 273

وقوع التصرف المذكور في غير محله، ليحكم ببطلانه.

وأظهر من ذلك ما إذا كان التصرف المنافي رافعاً لموضوع السلطنة، كما لو باع ملكه الذي سبق من الفضولي بيعه عنه، إذ ببيعه له يخرج عن ملكه، فلا يكون مسلطاً عليه، ليجيز عقد بيع الفضولي السابق علي بيعه هو له. ومثله ما إذا نكل بعبده المبيع فضولاً، فعتق عليه وخرج عن سلطنته، فلا يكون له إجازة بيعه فضولاً الواقع قبل التنكيل.

نعم، لو قيل بكاشفية الإجازة مطلقاً وإن صدرت من غير السلطان اتجه عدم مانعية التصرف المذكور من الإجازة، فينكشف بها بطلانه. لكن لا يظن بأحد البناء علي ذلك. كيف ؟! ولازمه عدم اعتبار ذلك حتي بناء علي الكشف الانقلابي أو الحكمي، وعلي النقل، لوضوح أن اختلافهم في كيفية تأثير الإجازة لا يرجع إلي الاختلاف في شروطها، مع وضوح أنه علي المباني المذكورة إنما يحتاج للإجازة من أجل إعمال السلطنة في العقد، ولا معني لإعمالها ممن لا سلطنة له.

وهذا الوجه يجري علي الكشف الانقلابي والحكمي وعلي النقل أيضاً، مضافاً إلي ما سبق فيها في وجه مانعية التصرف المذكور من الإجازة.

ومنها: ما إذا لم يكن التصرف منافياً لمضمون العقد، إلا أن مضمون العقد يقتضي رفع السلطنة عليه، كتصرف الأصيل أو الطرف الذي قام مقامه الفضولي قبل الإجازة في منفعة العين التي انتقلت عنه أو نمائها، كما إذا بيعت دار زيد أو بقرته من عمرو أصالة من أحدهما وفضولاً عن الآخر، وقبل إجازة البيع ممن تعتبر إجازته منهما أجر زيد الدار أو باع لبن البقرة المتجدد من بكر.

ومحل الكلام ما إذا لم تبتن إجارة الدار أو بيع اللبن علي رفع اليد عن بيع الفضولي من قبل الأصيل أو وردّه من قبل الآخر، أو ابتني عليه وقلنا بعدم الأثر لهما وعدم مانعيتها من تنفيذ العقد بالإجازة، علي ما سبق الكلام فيه.

إذا عرفت هذا فمن الظاهر أن نقل المنفعة أو النماء المتجدد لا ينافي البيع، ول

ص: 274

يمنع منه، لاختلاف الموضوع، غاية الأمر أن ذلك لو حصل ممن انتقلت منه العين بعد انتقالها يكون فضولياً لعدم ملكيته له، بل هو ملك لمن انتقلت له العين تبعاً لها.

وحينئذٍ لا ينبغي التأمل في أنه بناء علي النقل فإجازة عقد الفضولي لا تقتضي بطلان التصرف المذكور لرجوع القول بالنقل إلي انتقال العين عن المتصرف بعد صدور التصرف عنه، فهو حين التصرف مالك لمنفعتها ونمائها، فينفذ تصرفه فيهما. وعلي ذلك يتعين اجتماع التصرف مع مضمون العقد المجاز، والبناء في المثال علي انتقال العين مسلوبة المنفعة والنماء. غاية الأمر أن يثبت الخيار لمن انتقلت له العين بالعقد إذا كان جاهلاً بالحال وكان فوتهما نقصاً في العين، نظير ما تقدم في الثمرة السابقة.

وأما بناءً علي الكشف فربما يتوهم بطلان التصرف أو توقفه علي إجازة من انتقلت له العين، لأن مقتضاه الحكم بانتقال العين له من حين العقد، فيكون هو المالك لمنفعتها ونمائها المتجدد حين التصرف، ويكون التصرف فضولياً.

لكن سبق عند الكلام في الثمرة الثانية أن ذلك إنما يتم علي الكشف الحقيقي الذي سبق ضعفه، وأما علي الكشف الانقلابي أو الحكمي فلا مجال للبناء علي ذلك، لعدم الإطلاق في دليلهما.

نعم، ربما يحكم بانتقال ثمن المنفعة والنماء في ذلك لمن انتقلت له العين، تبعاً للحكم بانتقال المثمن له. لكنه لا يخلو عن إشكال، فإن انتقاله إليه من دون إجازته للمعاملة المذكورة مناف لسلطنته، وانتقاله إليه بشرط الإجازة راجع إلي الحكم بعد إجازة البيع بعدم نفوذ المعاملة علي النماء أو المنفعة بعد الحكم بنفوذها حين وقوعها، لفرض وقوعها من أهلها في محلها، وقد سبق أن دليل الكشف الانقلابي والحكمي لا ينهض بذلك. بل ذلك بنفسه كما يقتضي عدم تبدل حال المعاملة من الصحة والنفوذ إلي عدم النفوذ والحاجة إلي الإجازة، يقتضي عدم تبدل حال الثمن فيها، بحيث يحكم بكونه ملكاً للمشتري في عقد الفضولي بعد الحكم بكونه للبايع، بل لابد من البناء علي بقائه علي الحالة التي اقتضتها المعاملة.

ص: 275

(276)

(مسألة 12): لو باع باعتقاد كونه ولياً أو وكيلاً، فتبين خلافه، فإن أجاز المالك (1). صح، وإن ردّ بطل (2). ولو باع باعتقاد كونه أجنبياً، فتبين كونه ولياً أو وكيلاً صح،

---------------

هذا وربما يجعل نظير ذلك ما لو بيعت العين فضولاً عن البايع أو عن المشتري، وقبل الإجازة باعها مالكها الأول من شخص آخر. فلا يحكم بمانعية البيع الثاني من إجازة البيع الأول، بل يترتب الأثر علي إجازة البيع الأول، ويحكم بصحة البيعين معاً، ويضمن مالك العين الأول قيمتها للمجيز.

لكنه في غير محله: أولاً: للتنافي بين المعاملتين بعد اتحاد موضوعها، وهو العين الواحدة، ولذا لا يجمع بينهما لو وقعا من المالك بعقد غير فضولي، أو وقع أحدهما منه والآخر من وكيله.

وثانياً: لأن البيع الثاني موجب لخروج المبيع عن ملك مالكه، فلا يكون مسلطاً علي إجازة البيع الأول الصادر من الفضولي.

وثالثاً: لعدم الموجب لضمان القيمة. ومجرد التفويت بسبب البيع الثاني لا يقتضيه بعد كونه بحق بسبب سلطنته علي المعاملة، تبعاً لملكيته للعين حينها. ومن هنا كان المتعين البناء علي مانعية البيع الثاني من نفوذ بيع الفضولي بالإجازة.

هذا ما تيسر لنا من الكلام في الثمرة بين الكشف والنقل، ولم نحاول تعقيب كلماتهم في المقام، لاضطرابها جداً، كما يظهر مراجعتها. ومن الله سبحانه نستمد التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) أو من يقوم مقامه من ولي أو وكيل.

(2) بناءً علي أن ردّ عقد الفضولي من قبل الأصيل مبطل له ومانع من نفوذه بالإجازة، إذ العقد في المقام فضولي. ومجرد اعتقاد المباشر خطأ كونه ولياً أو وكيلاً لا يخرجه عن الفضولية. نعم سبق منّا المنع من مبطلية الردّ.

ص: 276

ولم يحتج للإجازة (1). ولو تبين كونه مالكاً توقفت صحة البيع علي إجازته (2).

---------------

(1) كما صرح به غير واحد، ونفي عنه الإشكال شيخنا الأعظم (قدس سره)، حتي بناء علي بطلان عقد الفضولي. والوجه فيه: أن سلطنته واقعاً بسبب ولايته أو وكالته تخرجه عن الفضولية، وتوجب دخوله في عمومات النفوذ من حين وقوعه، بلا حاجة للإجازة.

ودعوي: أنه لابد في نفوذ تصرف السلطان من قصده إعمال سلطنته، وهو غير حاصل في المقام بعد فرض غفلته عن الولاية أو الوكالة التي هي منشأ سلطنته. ممنوعة بل مقتضي إطلاق أدلة السلطنة نفوذ تصرف صاحبها، وبه يتحقق إعمال السلطنة وإن لم يعلم صاحب السلطنة بمنشئها.

ولم يعرف الخلاف في ذلك إلا من القاضي، حيث ذكر أن العبد المأذون في التجارة إذا جهل الإذن لم يكن مأذوناً، ولا ينفذ شيء مما يفعله. وقد يناسبه ما سبق من بعض مشايخنا (قدس سره) عند الاستدلال علي صحة عقد الفضولي بالإجازة بنصوص تحليل المناكح والمساكن للشيعة من أن إذن المالك في إيقاع المعاملة لا يخرجها عن الفضولية إلا مع وصولها لموقع المعاملة، لعدم انتساب المعاملة للآذن إلا بوصول الإذن، لكنه هنا أصر علي صحة المعاملة، لصدورها من أهلها. وهو في محله، كما ذكرنا، وإن لم يتضح لنا فعلاً الفرق بينه وبين ما سبق منه.

نعم، لابد من قيامه بوظيفة الولي والموكل بمراعاة مصلحة المولي عليه والوكيل علي النحو المعتبر شرعاً أو في عقد الوكالة. فلو لم يكن كذلك تعين عدم النفوذ، لا للجهل بالولاية والوكالة، بل لقصورهما.

(2) أما أصل صحته في الجملة وعدم بطلانه رأساً فهو المشهور، كما قيل. وقد يظهر من جامع المقاصد المفروغية عنه، حيث تعرض الكلام في الحاجة للإجازة وعدمها من دون أن يشير لاحتمال البطلان. والوجه فيه: عدم النقص في إنشاء العقد

ص: 277

ولا في مضمونه، فتشمله عمومات النفوذ والصحة.

لكن عن العلامة في نهاية الأحكام والشهيد في قواعده احتمال البطلان، وعن فخر الدين في الإيضاح تعليله له: تارة: بأنه لم يقصد نقل المال عن نفسه، بل عمن يعتقد ملكه له. وأخري: بأنه وإن كان منجزاً في الصورة، إلا أنه معلق لبّاً علي تحقق سبب ملكه له. وثالثة: بأنه كالعابث عند مباشرة العقد، لأنه يعتقد أن المبيع لغيره.

والكل كما تري!. لاندفاع الأول بأن المقصود بالأصل البيع المبتني علي المعاوضة بين المالين وقصد خصوصية من له المعاملة أمر خارج عن ذلك تابع له بسبب الخطأ في تشخيص المالك، فيكون لاغياً، نظير ما سبق في بيع الفضولي مال غيره له.

والثاني بأن فرض قصد البيع للغير - كما هو مورد كلامهم، ويقتضيه الوجه الأول - لا يناسب التعليق المدعي. بل لا تعليق حتي لو فرض قصد البيع لنفسه، لأنه إن ابتني علي الخروج عن مقتضي المعاوضة فالتعليق مناف له. وإن ابتني علي قصد المعاوضة فهو موقوف علي كونه في مقام ترتيب آثار ملك نفسه علي ملك الغير تشريعاً أو تعدياً - كما سبق عند الكلام في بيع الفضولي لنفسه - وهو يغني عن التعليق علي تحقق سبب الملك. غاية الأمر أنه قد يلتفت إلي أن ما قصده من ملك المبيع أو ترتيب آثاره معلق شرعاً علي تحقق سبب ملكيته للمبيع، وهو أمر آخر غير قصده التعليق لباً في البيع الذي ينشئه.

والثالث بأنه جار في جميع موارد عقد الفضولي، وليس هو محذوراً، بل المحذور كونه عابثاً حقيقة غير قاصد للمعاملة، ولا مجال للبناء علي ذلك هنا وفي جميع مواد عقد الفضولي. ومن هنا لا ينبغي التأمل في أصل صحة العقد وعدم بطلانه رأساً.

وهل يتوقف نفوذه علي الإجازة من المالك - الذي أوقع العقد - أولاً؟ ظاهر القواعد وعن الشهيد وغيره نفوذه رأساً وعدم توقفه علي الإجازة، لوقوع العقد من أهله، وهو المالك. قال سيدنا المصنف:

(لأن الاحتياج إلي الإجازة إما لتحقيق

ص: 278

إضافة العقد إلي المالك، أو الرضا بمضمون العقد. وكلاهما حاصل بصدور العقد من المالك) .

وذهب غير واحد لتوقفه علي الإجازة. قال في جامع المقاصد

:(لأنه لم يقصد البيع الناقل للملك الآن، بل مع إجازة المالك. إلا أن يقال: قصده إلي أصل البيع كاف) . وكأن مراده بما ذكره أولاً أنه لم يقصد البيع النافذ بنفسه، بل البيع الذي ينفذ بالإجازة فنفوذه بنفسه لا يتناسب مع قصده.

لكنه يندفع بأن توقف نفوذ البيع علي الإجازة وعدمه لا يرجع إلي اختلاف حقيقة البيع المقصود، نظير اختلاف البيع والهبة، ليمتنع حصول إحدي الخصوصيتين إلا بقصدها، بل إلي اختلاف الحكم الشرعي - تبعاً للخصوصيات المقارنة - مع وحدة حقيقية البيع، فالخطأ في الحكم الشرعي لا دخل له في تحقق القصد إلي البيع النافذ. نظير ما إذا باع المكيل كيلاً مع الخطأ في اعتقاد أنه موزون، حيث لا إشكال في صحة البيع حينئذٍ. وكأن هذا مراده مما ذكره أخيراً.

ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره من أن مقتضي قاعدة السلطنة توقف النفوذ علي الإجازة، لعدم قصده حين العقد بيع مال نفسه، فنفوذ البيع عليه مناف لسلطنته.

إذ فيه: أنه يكفي في إعمال السلطنة الإقدام علي ما هو مسلط عليه، وهو حاصل في المقام. ومجرد الجهل بتحقق موضوع السلطنة لا ينافي إعمالها، كما لو باع ملكه بظن عدم البلوغ فبان بالغاً، أو باع ملك غيره بظن عدم ولايته عليه فبان ولياً.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن الجهل بكون المال له مانع من وقوع الفعل علي ماله باختياره، وذلك خلاف قاعدة السلطنة علي المال. ففيه: أن مفاد قاعدة السلطنة تحديد من له السلطنة والقدرة علي التصرف، وهو حاصل بتحقق الملكية واقعاً. وإعمال السلطنة إنما يكون بالإقدام علي العمل من قبل السلطان، وهو حاصل في المقام - كما ذكرنا - ولا أثر للعلم بكون المال له والجهل به في ذلك.

ص: 279

وكذا الحال فيما يظهر من بعض مشايخنا (قدس سره) من قصور عموم وجوب الوفاء بالعقد عن العقد في المقام من دون إجازة، لأن الخطاب بالوفاء موجه إلي من ينتسب العقد له بما أنه مالك، وهو غير حاصل في المقام.

إذ فيه - مع الغض عما سبق في أدلة صحة عقد الفضولي بالإجازة من الإشكال في أخذ انتساب العقد للشخص قيداً في الخطاب بالوفاء به -: أن انتساب العقد للمالك في المقام قهري بسبب صدوره منه، ولا دخل لعلمه بكونه مالكاً عدمه في انتسابه له. ولاسيما وأن عموم الوفاء بالعقود لا يختص بالمالك. غاية الأمر أن يدعي أخذ العلم بأنه مالك قيداً في دليل النفوذ، وهو مدفوع بالإطلاق.

نعم، قد يقال: لا يكفي في خطاب الإنسان بالوفاء بالعقد التزامه به، بل لابد من كون التزامه به علي نفسه، بحيث يتضمن كلفة عليه، ويكون مورداً للمسؤولية بالإضافة إليه، كما هو الحال في سائر موارد الخطاب بالوفاء، كالوفاء بالوعد واليمين والنذر. ومن الظاهر أن بيع الإنسان المال باعتقاد أنه لغيره، وأنه فضولي في بيعه، لا يتضمن الالتزام ببيعه علي نفسه، بل الالتزام بأمر يتعلق بالغير. ومن ثم يشكل عموم الخطاب بالوفاء له وإن كان مالكاً له في الواقع. وإنما يشمله بعد العلم بأنه ملكه ثم إجازته، لتضمن الإجازة الالتزام به علي نفسه.

هذا مضافاً إلي ما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) - وتبعه عليه غير واحد - من انصراف أدلة اعتبار الرضا والإذن وطيب النفس في تصرف الإنسان في ماله - تبعاً للمناسبات الارتكازية - إلي الرضا وطيب النفس بالتصرف بماله بما أنه ماله وبعد الالتفات لذلك، دون الرضا بالتصرف به بذاته ولو مع الغفلة عن كونه مالاً له، لقضاء المناسبات الارتكازية بأن منشأ اعتبار الرضا وطيب النفس هو مراعاة حرمة المالك والرفق به، وذلك يقتضي عدم نفوذ المعاملة علي ماله إلا بإقدامه علي ذلك ورضاه به، ولا يكفي رضاه بالتصرف بالمال من دون علم بأنه ماله.

ولذا كان المرتكز عدم حلّ التصرف الخارجي بالمال تكليفاً برضا صاحبه إذا لم

ص: 280

يكن عالماً بأنه ماله، كما لو كان زيداً وكيلاً علي مال عمرو، فأذن في التصرف في ماله بتخيل أنه مال عمرو.

والحاصل: أنه لا ينبغي التأمل تبعاً للمرتكزات في عدم نفوذ البيع ونحوه من التصرفات في المال الصادرة من المالك باعتقاد أنه غير مالك، وأنه يلتزم بها في حق غيره الذي يعتقد أنه هو المالك. بل لابد في نفوذها من إجازته لها بعد التفاته إلي كونه مالكاً، بحيث يكون التزامه بها التزاماً علي نفسه، ورضاه بها رضاً بالتصرف في ماله.

هذا وفي الجواهر بعد أن أشار لبعض ما ذكرنا قال:

(والمتجه فيه الوقوف علي الإجازة - كما سمعته من الكركي - أو إثبات الخيار. إلا أني لم أجد من احتمله) . لكن قوي المحقق التستري في المقابس صحة البيع حين وقوعه مع ثبوت الخيار للبايع، لقاعدة نفي الضرر. وكأنه لدعوي: أن انتقال ماله عن ملكه من دون أن يقصد ذلك ويرضي به ضرر عليه.

وفيه: أولاً: أن ثبوت الخيار فرع صحة البيع، ولا مجال لصحته بعد ما سبق من قصور أدلة اعتبار الرضا في نفوذ المعاملة عن الرضا الحاصل في المقام. بل لا يبعد قصور عموم الخطاب بالوفاء بالعقد عن العقد المذكور قبل الإجازة، كما سبق.

وثانياً: أن انتقال مال الشخص عن ملكه إنما يكون ضرراً عليه إذا كان مجانياً بلا عوض، أو بعوض دونه في المالية، أما إذا كان بعوض مساو له في المالية، أو زائد عليه، فلا ضرر. ومجرد كونه بدون رضاً منه لا يجعله ضررياً، فإن الرضا وعدمه لا دخل له في تحقق الضرر وعدمه. غاية الأمر أن قد يكون غير مرغوب فيه، وليس هو بنفسه معياراً في الضرر.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن هذا الضرر هو المثبت لتوقف نفوذ عقد الفضولي علي الإجازة، فلا وجه لأن يقتضي هنا ثبوت الخيار مع نفوذ العقد في نفسه. ففيه: أنه لو تم كون هذا ضرراً فهو وإن كان مشتركاً بين جميع موارد عقد الفضولي ومنها المقام، إلا أن التوقف علي الإجازة في غير المقام من موارد عقد الفضولي ليس

ص: 281

لأجل هذا الضرر بل لعدم تحقق الرضا من المالك أصلاً. أما هنا فحيث تحقق الرضا من المالك بالبيع وإن لم يعلم بأن المبيع ملك له، فالرضا عند هذا القائل كاف في نفوذ البيع، ويكون هذا الضرر مانعاً من لزومه وفي ثبوت هذا الخيار لا غير، كما يثبت في موارد الغبن مع صحة البيع في نفسه، لتحقق الرضا به. فالعمدة في الجواب عن الاستدلال المذكور ما ذكرنا. والمتعين البناء علي عدم نفوذ البيع رأساً، لما سبق.

ثم إنه لا يفرق في ذلك بين أن يعتقد كونه أجنبياً فضولياً لا سلطنة له علي المال، وأن يعتمد كونه مسلطاً عليه بولاية أو وكالة أو غيرهما، لعدم الفرق بينهما في الجهة المانعة من النفوذ، والقاضية بتوقفه علي الإجازة.

نعم، يختص ذلك بما إذا أوقع التصرف عن الغير، بانتظار إجازته، أو بدون ذلك تسامحاً في البناء علي نفوذ تصرفه عليه. أما إذا أوقعه عن نفسه، لبنائه علي كونه مالكاً تشريعاً، أو علي ترتيب آثار الملك عليه عصياناً وتعدياً علي المالك - كما في الغاصب

فالظاهر نفوذ التصرف من دون حاجة للإجازة، كما ذكره في الجواهر وذهب إليه بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره، وحكي عن المحقق التستري (قدس سره) في مقابس الأنوار.

وذلك لتحقق الالتزام به علي نفسه، فيشمله عموم الخطاب بالوفاء بالعقود بلا إشكال، ولتحقق الرضا به بما أنه مالك، لأنه في مقام ترتيب آثار الملك علي المال.

خلافاً لشيخنا الأعظم (قدس سره)، فاعتبر الإجازة، وعليه جري سيدنا المصنف (قدس سره). قال:

(وقد يقال بعدم الحاجة إلي الإجازة، لأن قصد نفسه مستلزم لبنائه علي كون المال لنفسه، فرضاه بالبيع رضا ببيع مال نفسه. وحينئذٍ لا مقتضي للإجازة. وفيه - مع منع الاستلزام المذكور - أن المعتبر رضاه ببيع مال نفسه حقيقة، لا بناء وادعاءً. فلاحظ) .

وهو كما تري! لأن عدم استلزام قصد البيع لنفسه البناء علي كونه مالكاً إنما يكون إذا قصد الخروج عن حقيقة المعاوضة، وهو خارج عن محل الكلام، كما أشرنا إليه في أول الكلام في بيع الغاصب لنفسه، وهو موجب لبطلان المعاملة، كما سبق في

ص: 282

(283)

(مسألة 13): لو باع مال غيره فضولاً، ثم ملكه قبل إجازة المالك، ففي صحته بلا حاجة إلي الإجازة (1)،

---------------

أوائل الكلام في حقيقة البيع.

وأما أن المعتبر رضاه ببيع مال نفسه حقيقة لا أدعاء، فهو إنما يتم في الادعاء المساوق للتطبيق التخيلي المجازي، نظير ادعاء الإنسان أن مال صديقه مال له، دون الادعاء فيما نحن فيه الراجع للبناء علي ترتيب الآثار الحقيقية لما له علي مال غيره، تجاهلاً للحكم الشرعي، فيبذله بملاك بذله لماله، فإنه حيث لم يكن اعتبار العلم بكون المال له في الرضا ببيعه مستنداً لدليل خاص، لينظر في شموله للرضا في محل الكلام، بل لانصراف دليل اعتبار الرضا عن الرضا مع الجهل بكون المال له، بضميمة المناسبات الارتكازية المشار إليها آنفاً، فالمناسبات الارتكازية لا تقتضي الانصراف عن الرضا في محل الكلام.

ولذا لا يظن بأحد التوقف في حلّ المال المسروق لو أذن السارق في التصرف فيه، وعلم المأذون أن المال ملك للسارق شرعاً، وأنه قد استرجعه ممن غصبه منه، وإن تخيل الآذن أنه ملك شرعاً لمن سرقه منه. ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا.

(1) كما قد ينسب للشيخ (قدس سره)، حيث ذكر في المبسوط أنه إذا باع النصاب الزكوي قبل إخراج الزكاة منه صح البيع فيما عدا مقدار الزكاة، فإن أدّي بعد ذلك الزكاة من مال آخر صح البيع في الكل من دون أن يعتبر الإجازة، مع أنه لم يملك مقدار الزكاة من النصاب حين البيع، بل بعد أداء الزكاة، نظير ما نحن فيه.

اللهم إلا أن يكون ذلك لخصوصية في الزكاة، إما لأن تعلقها بالعين ليس بنحو الشركة، بل هي حق ثابت في العين مانع من نفوذ التصرف، فإذا أخرج نفذ التصرف، كما لو باع الراهن العين المرهونة، حيث قيل بنفوذ البيع بمجرد فكّ الرهن. أو للنص الخاص، وهو صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله: (قلت لأبي عبد الله: رجل لم يزك

ص: 283

إبله أو شاته عامين، فباعها، علي من اشتراها أن يزكيها لما مضي. قال: نعم تؤخذ منه زكاتها، ويتبع بها البايع. أو يؤدي زكاتها البايع) (1) .

نعم، قد يلوح من كلام الشهيد الثاني في كتاب الهبة من المسالك الميل لنفوذ البيع بمجرد ملك العاقد للمبيع من دون حاجة للإجازة، وعن الفخر في الإيضاح ترجيحه بناء علي صحة عقد الفضولي.

وقد يستدل له بالعمومات. قال شيخنا الأعظم (قدس سره) في تقريب ذلك: (إن مقتضي عموم وجوب الوفاء بالعقود والشروط علي كل عاقد وشارط هو اللزوم علي البايع بمجرد انتقال المال إليه، وإن كان قبل ذلك أجنبياً لا حكم لوفائه ونقضه).

وفيه: أن قاعدة السلطنة بضميمة المناسبات الارتكازية قاضية بأن الخطاب بالوفاء بالعقد وسائر أدلة نفوذ التصرفات الاعتبارية إنما هو فرع سلطنة المتصرف علي ذلك التصرف، وأن مرجعها إلي نفوذ تصرف من له السلطنة في موضوع سلطنته، لكونه مالكاً أو ولياً علي المالك أو نحو ذلك. وذلك إما بإيقاع العقد ممن له السلطنة عليه، أو بتنفيذه له لو أوقعه من لا سلطنة له عليه. ولذا لا إشكال في عدم نفوذ مثل عقد الصبي لو بلغ وصار قابلاً لأن يخاطب بالوفاء إلا أن يعمل سلطنته بتنفيذ العقد بعد بلوغه. وفي المقام حيث صدر العقد ممن لا سلطنة له، لعدم كونه مالكاً ولا ولياً فلا مجال لخطابه بالوفاء به بمجرد تجدد السلطنة له من دون إعمال لها.

وبما ذكرنا يظهر أنه لا مجال لقياس ما نحن فيه بصحة عقد الفضولي بالإجازة، فإنهما وإن اشتركا في أن كلاً منهما قد وقع فاقداً لشرط قد حصل بعد ذلك، إلا أن إجازة عقد الفضولي من قبل المالك ترجع إلي إعمال سلطنة من له السلطنة في العقد. أما ملكية العاقد في المقام فهي لا ترجع إلي إعمال سلطنة من له السلطنة في العقد، بل لم يحصل إلا موضوع السلطنة - وهو الملكية - من دون إعمال لها.

هذا كله إذا أوقع العقد عن نفسه، لبنائه علي كونه مالكاً جهلاً أو تشريعاً، أو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 12 من أبواب زكاة الأنعام حديث: 1.

ص: 284

أو توقفه علي الإجازة (1). أو بطلانه رأساً (2). وجوه أقواها الأخير (3). نعم

---------------

علي ترتيبه آثار مالكيته تمرداً وعصياناً، بحيث يكون قد التزم بالعقد علي نفسه، أما إذا أوقع العقد عن المالك فضولاً أو لتخيل وكالته عنه أو ولايته عليه، فالنفوذ أشكل، لما ذكرناه في المسألة السابقة من قوة احتمال اختصاص الخطاب بالوفاء بالعقد بمن يلتزم به علي نفسه، بحيث يكون مضمونه كلفة عليه، ومورداً لمسؤوليته. فراجع. وكأن ما في كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) راجع إلي ما ذكرنا في الجملة. فلاحظه.

ثم إن الكلام في شمول عمومات النفوذ للعقد بمجرد ملكية البايع للمبيع من دون حاجة للإجازة فرع إمكان نفوذ العقد في نفسه، أما لو قيل بامتناع نفوذه حتي بالإجازة - علي ما يأتي الكلام فيه - فالأمر أظهر.

(1) كما في المعتبر والدروس وحكي عن الصيمري، وقواه شيخنا الأعظم (قدس سره) وبعض من تأخر عنه. مستدلاً عليه بالأصل والعمومات. لكن المراد بالأصل إن كان هو الأصل العملي، فمن المعلوم أنه يقتضي في المعاملات البطلان لاستصحاب عدم ترتب الأثر. وإن كان هو أصالة عدم المانع المخرج عن مقتضي العمومات رجع للاستدلال بالعمومات، الذي ذكره ثانياً، ويظهر الحال فيه مما يأتي إن شاء الله تعالي.

(2) كما ذكره المحقق التستري، وأطال في الاستدلال عليه. وهو الذي يظهر من الجواهر وعن حاشية الإرشاد للمحقق الثاني. وجري عليه جماعة ممن تأخر عن شيخنا الأعظم (قدس سره).

(3) لا كلام في البطلان إذا كان ملكه للمال بتصرف من المالك الأول بنحو يبتني علي ردّ عقد الفضولي، وقلنا بأن الرد مانع من صحة العقد بالإجازة. وإنما الكلام في غير ذلك، إما للبناء علي أن ردّ عقد الفضولي لا يمنع من نفوذه بالإجازة - كما سبق منّا - أو لعدم كون الانتقال للبايع بتصرف من المالك الأول، كما لو أخذ الفضولي المبيع مقاصة، أو كان بتصرف منه، لكن لا بنية الرد لعقد الفضولي، كما لو

ص: 285

باعه منه أو وهبة له غفلة عن وقوع العقد منه فضولاً، أو عن التفات منه له من دون قصد لردّه، ولو من أجل أن يجعل له السلطنة علي إجازته، أو غير ذلك. وقد يستدل علي البطلان حينئذٍ بوجوه:

الأول: أنه لا يراد إجازة البيع علي الوجه الأول الذي وقع عليه، وهو البيع لمالك العين حين إيقاع العقد، كما هو مقتضي المعاوضة، بل علي أن يكون البيع للمالك الثاني، وذلك خلاف مقتضي الإجازة، لأن إجازة العقد تنفيذه علي وجهه، لا علي وجه آخر.

ودعوي: أن خصوصية من له البيع غير مأخوذة فيه بنحو تكون مقومة له، ولذا سبق إمكان إجازة ببيع الغاصب لنفسه، علي أن يقع البيع للمالك الحقيقي.

مدفوعة بأن الذي لا يؤخذ في البيع ولا يكون مقوماً له هو من له البيع بعنوانه، فلا يضر الخطأ في تشخيصه، كما سبق في بيع الغاصب لنفسه، أما من له البيع بواقعه، وهو طرف المعاوضة الحقيقي فهو مقوم للبيع، لأن مفاد البيع لما كان هو المعاوضة، فقوام المعاوضة انتقال العوض إلي ملك من خرج عنه المعوض، وحيث كان مالك المعوض حين العقد في المقام هو المالك الأول، فمقتضي العقد هو البيع له بنحو ينتقل العوض له، والمفروض أنه لا يجاز كذلك، بل بنحو يكون للمالك الثاني، وينتقل العوض له، وهو خروج عن مقتضي العقد، كما ذكرنا.

الثاني: أن الإجازة حيث كانت - علي التحقيق - سبباً للحكم بصحة العقد وترتب مضمونه من حين وقوعه - كما هو المراد من الكشف الانقلابي - فلا مجال لذلك في المقام إذ الحكم بصحة البيع المذكور من حين وقوعه مستلزم للحكم بعدم تملك الفضولي المجيز للمبيع، المستلزم لعدم ترتب الأثر علي إجازته للبيع، وما يلزم من وجوده عدمه محال. كما أنه مستلزم للحكم بملكية المشتري لنماء المبيع المتخلل بين وقوع العقد وانتقال المبيع له قهراً علي مالكه الأول، وهو - مع منافاته لقاعدة السلطنة في حقه - لا يظن بأحد البناء عليه.

ص: 286

وقد دفع ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) بأنه إنما يتوجه لو التزم في المقام بكشف الإجازة عن صحة بيع الفضولي من حين وقوعه، ولكن حيث لا مجال لذلك لما سبق، فالمتعين الالتزام يكشفها بالمقدار الممكن مع صحة البيع، وهو الصحة من حين ملك المجيز.

وبعبارة أخري: بعد أن كان مقتضي العمومات في المقام صحة البيع بالإجازة، لعدم الدليل علي اعتبار كون المجيز هو المالك حين العقد، فالمتعين الاقتصار في الكشف علي ما يجتمع مع صحة البيع.

وفيه: أن ذلك إنما يتجه لو كان الكشف حكماً زائداً علي الحكم بنفوذ العقد بالإجازة، حيث يتعين حينئذٍ البناء في المقام علي نفوذ العقد بالإجازة عملاً بعموم دليله، والاقتصار في الكشف علي المقدار الممكن، لتعذر العمل بعموم دليله. ومن المعلوم أنه ليس كذلك، فإن الكشف من شؤون نفوذ العقد بالإجازة. أما بناء علي أن مفاد الإجازة تنفيذ العقد من حينه - كما سبق من بعضهم - فظاهر، إذ مع امتناع الإجازة بالنحو المذكور لا دليل علي تشريع الإجازة بوجه آخر. وأما بناء علي أن مفادها تنفيذ العقد لا غير - كما سبق - فلأن الحكم بالكشف ليس حكماً تعبدياً في مقابل الحكم بنفوذ العقد، نظير الحكم بنجاسة الشيء ونجاسة ملاقيه، بل هو مبتن علي فهم الكشف من دليل النفوذ ارتكازاً بضميمة بناء العقلاء وظهور بعض الأدلة في المفروغية عنه، فإذا امتنع الكشف بالنحو المذكور في المقام لم يبق مجال للبناء علي النفوذ بوجه آخر.

الثالث: ما ورد في نكاح العبد بغير إذن مولاه، كصحيح معاوية بن وهب: (جاء رجل إلي أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: أني كنت مملوكاً لقوم، وأني تزوجت امرأة حرة بغير إذن موالي، ثم أعتقوني بعد ذلك، فأجدد نكاحي إياها حين أعتقت ؟ فقال له: أكانوا علموا انك تزوجت امرأة وأنت مملوك لهم ؟ فقال: نعم، وسكتوا عني، ولم يغيروا علي. قال: فقال: سكوتهم عنك بعد علمهم إقرار منهم. اثبت علي نكاحك

ص: 287

الأول) (1) . ونحوه غيره. فإنه كالصريح في أنه لو لم يظهر من مواليه إقرار نكاحه وإمضائه لاحتاج إلي تجديد النكاح، ولو يكفِ رضاه هو بعد تحرره وسلطنته علي نفسه بالنكاح الأول في نفوذه والاكتفاء به، مع أن العتق لم يوجب إلا تبدل السلطنة، وليس هو كتبدل مالك المبيع في المقام موجباً أيضاً لتبدل موضوع مضمون العقد، وهو من له البيع. ومن ثم يكون المقام أولي بعدم النفوذ بإجازة المالك الثاني من مورد هذه النصوص.

الرابع: النصوص المتضمنة عدم جواز بيع ما لم يملك، وأنه لابد من إيجاب بيعه بعد ملكه، كصحيح يحيي بن الحجاج: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قال لي: اشتر هذا الثوب وهذه الدابة وبعنيها أربحك فيها كذا وكذا. قال: لا بأس بذلك. اشترها، ولا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها أو تشتريها)(2) وغيره، فإن المنهي عنه قبل أن يشتري الشيء وإن كان هو بيعه بنحو ملزم، بحيث يملك البايع الثمن، يملك المشتري عليه المبيع، فيلزمه أن يشتريه ويسلمه له، وهو غير ما نحن فيه من بيعه فضولاً، بحيث لا يلزم ولا يترتب عليه الأثر إلا بعد أن يملك البايع المبيع ويجيز البيع، إلا أنه لا يبعد أن يستفاد من مجموع النصوص الكثيرة الواردة في المقام انحصار الوجه في بيع ما لم يملك ببيعه بعد ملكه.

لظهور أنه لا فرق في ترتب الغرض للطرفين بين البيع الملزم ابتداء، والبيع فضولاً بنحو يترتب عليه الإجازة، بعد أن كان البايع مهتماً بشراء المبيع وتسليمه جرياً علي مقتضي البيع، فالاقتصار في بيان الوجه الصحيح علي إيقاع البيع بعد الملك ظاهر أو مشعر بعدم صحة البيع قبل الملك ولو فضولاً بانتظار تحقق الإجازة بعد المالك. فهي إن لم تكن دليلاً علي المنع في المقام تصلح لتأييد الوجوه السابقة الكافية في الدليل علي المنع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 26 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب أحكام العقود حديث: 13.

ص: 288

وهناك بعض الوجوه الأخري ربما تساق دليلاً للمنع. لكنها لا تخلو عن إشكال أو ترجع لما سبق. فلا موجب لإطالة الكلام فيها، وفيما سبق كفاية. ومن هنا يتعين البناء علي بطلان البيع، وعدم صحته حتي بإجازة المالك الجديد.

بقي في المقام أمور:

الأول: أنه لا فرق فيما ذكرنا بين أن يبيع الفضولي لنفسه، لتخيل أنه المالك، أو عدواناً منه كالغاصب، وأن يبيع للمالك فضولاً أو لتخيل ولايته علي المالك أو وكالته عنه. لجريان جميع ما تقدم فيه، عدا الوجه الرابع، فإن النصوص المتقدمة ظاهرة في بيع غير المالك لنفسه. لكن في بقية الوجوه كفاية.

الثاني: إذا انتقل المبيع في المقام لغير البايع، كما لو باعه المالك من شخص ثالث، فالظاهر هو جريان جميع ما سبق فيه عدا القول بصحة البيع غير حاجة للإجازة من المالك الجديد، فإنه لا مجال لاحتماله بعد عدم وقوع البيع ممن تجدد له الملك، ليتوهم أن تجدد الملك له موجب لإلزامه بالعقد الواقع منه.

الثالث: أنه قد يتبدل من له السلطنة علي الإجازة من دون أن يتبدل من له البيع، كما إذا كان المالك قاصراً حين العقد، فكمل وصار هو المسلط علي الإجازة، أو كان كاملاً فقصر بجنون أو نحوه، فاحتيج لإجازة وليه بدلاً من إجازته، أو تبدل ولي المالك القاصر قبل إجازة العقد.

والظاهر صحة العقد بإجازة اللاحق، عملاً بعمومات النفوذ من دون مانع، لعدم جريان شيء من الوجوه السابقة حتي الوجه الثالث، لأن السلطنتين المتبادلتين في مورد نصوصه أصليتان تابعتان لموضوعين مستقلين، فإن السلطان حين العقد هو مالك الزوج، بملاك ملكيته، و السلطان بعد عتق الزوج نفسه، بملاك سلطنته علي نفسه، فيكون نفوذ العقد من حين وقوعه منافياً لسلطنة الأول وتعدياً عليه، بخلاف ما نحن فيه، فإن إحدي السلطنتين فيه أو كليتهما فرعية طولية، مع وحدة السلطنة الأصلية، فلا يكون نفوذ العقد من حين وقوعه منافياً لسلطنة من له السلطنة بالأصل،

ص: 289

ولا تعدياً عليه ولا علي غيره. فلا مخرج فيه عن عمومات النفوذ.

الرابع: إذا كان البيع منافياً لحق الغير - كالمرتهن - فلا إشكال في عدم نفوذه إلا بإجازته، فلو سقط الحق - كما لو فك الرهن - قبل الإجازة فهل ينفذ البيع رأساً، أو يبطل كذلك، أو يحتاج إلي الإجازة من صاحب الحق السابق - كالمرتهن - أو من البايع ؟ وجوه. قد يرجح الأول عملا بعموم أدلة النفوذ، بدعوي: أنها المرجع بعد ارتفاع المانع.

لكنه يشكل بما أشرنا إليه في أول المسألة من أن مقتضي الجمع بين عمومات النفوذ ودليل السلطنة اعتبار سلطنة المتصرف في موضوع النفوذ، وحيث لم يكن البايع تام السلطنة تعين قصور عمومات النفوذ عن بيعه. واستقلاله بالسلطنة بعد سقوط الحق لا ينفع بعد وقوع البيع حال قصور سلطنته، وعدم إعمال سلطنته حال استقلاله بها.

وأما توقف نفوذه علي إجازة صاحب الحق السابق - كالمرتهن - فلا مجال لاحتماله بعد ارتفاع حقه وصيرورته أجنبياً عن موضوع المعاملة.

ومن ثم قد يدعي توقف صحة البيع علي إجازة البايع نفسه بعد استقلاله بالسلطنة بسبب سقوط الحق.

لكن إجازته إن كانت كاشفة عن صحة العقد من حين سقوط الحق، فقد سبق في الوجه الثاني عدم الدليل علي مشروعية الإجازة بالنحو المذكور. وإن كانت كاشفة عن صحة العقد من حين وقوعه فهو قد ينافي الحق السابق. ولاسيما بلحاظ النصوص المشار إليها في الوجه الثالث، حيث يستفاد منها - كما سبق - لزوم تجديد العقد إذا لم يجزه صاحب السلطنة السابق قبل سقوط سلطنته، وعدم الاكتفاء في نفوذ العقد السابق باستقلال موقعه بالسلطنة، ولا بإجازته له بعد ذلك.

وهو المناسب لإطلاق الأدلة في نظيره، وهو زواج بنت الأخ أو الأخت بغير إذن عمتها أو خالتها، بناء علي ما هو الظاهر من كفاية رضا العمة أو الخالة لاحقاً،

ص: 290

(291)

لو ملكه البايع بالإرث ففي الصحة مع الإجازة إشكال (1). والأحوط البطلان.

---------------

فإن مقتضاه بطلان العقد لو ماتت العمة أو الخالة قبل الرضا بالعقد، وعدم الاكتفاء في صحته باستقلال الزوجين حينئذٍ بالسلطنة علي مضمون العقد، ولا بإجازتهما له بعد ذلك. ومن ثم يقوي بطلان العقد في المقام.

وأما ما في كتاب الرهن من الجواهر من استنكار ذلك، لأن تصرف الراهن قبل فك الرهن غير محكوم بالبطلان بل هو قابل للنفوذ بالإجازة، فكيف محكوماً بالبطلان بعد فك الرهن. مع أن مقتضي إطلاق الأدلة صحته.

ففيه: أن بطلانه ليس بمعني خروجه عن قابلية النفوذ بالإجازة - كالبيع الربوي مثلاً - ليكون أسوأ حالاً مما كان عليه، بل بمعني أنه لا مجال لصحته، لتعذر الإجازة التي ينحصر تصحيحه بها، مع بقائه علي ما هو عليه. وأما إطلاق أدلة الصحة فلا مجال له بعد ما سبق.

الخامس: لو رجع المبيع إلي مالكه الأول الذي كان حين العقد - بفسخ العقد الناقل أو بعقد جديد أو غيرهما - فربما يقال بإمكان إجازته للعقد الفضولي، عملاً بعمومات النفوذ وعدم جريان أكثر الوجوه السابقة للمنع. لكن قد يشكل الأمر بلحاظ الوجه الثاني، فإن الكشف التام لا مجال له، لاستلزامه عدم صحة التصرف المتخلل بين عقد الفضولي وإجازته، والكشف الناقص لا دليل علي مشروعية الإجازة معه، نظير ما سبق. فلاحظ.

(1) فقد وجه بعض الأعاظم (قدس سره) تصحيح العقد بإجازة الوارث بأن الوارث يقوم مقام المورث في ملكيته للعين، فملكيته بقاء لملكيته وإن تبدل شخص المالك. فكما يمكن للمورث لو كان باقياً أن يجيز العقد من حين وقوعه، بحيث يحكم بخروج المبيع عن ملكه حين حصول العقد مع أنه قبل الإجازة محكوم ببقائه في ملكه. كذلك يمكن للوارث أن يجيز العقد من حينه، فيحكم بخروج المبيع عن ملك المورث من حين حصول العقد ودخول الثمن بدله في ملكه وانتقاله منه للوارث، مع أن المبيع

ص: 291

(مسألة 14): لو باع مال غيره فضولاً، فباعه المالك (1) من شخص آخر، صح بيع المالك (2)، وبطل بيع الفضولي (3)، ولا ينفع في صحته إجازة المالك (4)،

---------------

كان قبل الإجازة محكوماً بأنه في ملك الوارث قد انتقل إليه من المورث. ولذا يكون النماء المتخلل بين العقد والإجازة والحاصل في حياة المورث للمشتري، بخلاف ما إذا كان الفضولي قد ملك المبيع بغير الإرث، فإنه لا يقوم مقام الأصيل في ملكيته بحيث تكون ملكيته بقاء لملكيته، بل يملكه بملكية أخري مترتبة علي ملكيته، ولذا لا يمكنه أن يجيز العقد من حين وقوعه، لمنافاته لملكيته له، كما سبق، بل غاية ما يمكنه أن يجيز العقد بحيث ينفذ من حين ملكيته له. ولا طريق لإثبات مشروعية الإجازة بالنحو المذكور، كما سبق.

أما سيدنا المصنف (قدس سره) فقد جري في نهجه علي ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) مدعياً أن بناء العقلاء عليه، إلا أنه يبدو أنه تردد فيه بعد ذلك، ولذا توقف في الفتوي هنا واستشكل في الصحة.

والإنصاف أن ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من إمكان إجازة الوارث للعقد قريب للمرتكزات العرفية جداً. غاية الأمر أن توجيهه بالوجه المذكور ربما يكون ناشئاً من ضيق التعبير.

(1) يعني: قبل أن يجيز عقد الفضولي.

(2) إذ بعد فرض عدم الإجازة فالعين لا زالت ملكاً له، ومقتضي قاعدة السلطنة علي المال صحة بيعه لها. وقد تقدم عند الكلام في الثمرة الثانية التي ذكرناها للخلاف في الكشف والنقل تمام الكلام في ذلك.

(3) بمعني تعذر الإجازة التي تنحصر صحته بها، لا بمعني خروجه عن قابلية التصحيح بالإجازة، كالبيع الربوي، نظير ما تقدم في أواخر المسألة السابقة.

ص: 292

(293)

ولا المشتري (1).

(مسألة 15): إذا باع الفضولي مال غيره، ولم تتحقق الإجازة من المالك، فإن كانت العين في يد المالك فلا إشكال. وإن كانت في يد البايع جاز للمالك الرجوع بها عليه (2). وإن كان البايع قد دفعها إلي المشتري جاز له (3) الرجوع علي البايع (4)

---------------

(4) يعني المالك الأول، لأنه صار أجنبياً عن بيع الفضولي، فلا سلطنة له علي إجازة البيع المتعلق به، من دون فرق بين القول بالنقل والقول بالكشف بوجوهه المختلفة، كما يظهر مما تقدم في الثمرة الثالثة والرابعة من الثمرات التي ذكرناها في تعقيب الكلام في الكشف والنقل في ذيل المسألة الحادية عشرة.

(1) كما يظهر وجهه مما تقدم في المسألة السابقة. وذكرناه نصاً في التنبيه الثاني من التنبيهات التي ذكرناها في ذيلها.

(2) كما يجب عليه دفعها له إن طلبها، بل بمجرد عدم إذنه له بإبقائها عنده، بلا إشكال في شيء من ذلك، لعدم حل مال المسلم إلا بإذنه وطيبة نفسه، كما تضمنه الصحيح(1) وغيره.

(3) يعني: للمالك.

(4) لكونها مضمونه عليه بضمان اليد الذي تقدم الاستدلال عليه في المسألة الثالثة عشرة من الفصل الأول. وحينئذٍ إن أمكنه استرجاعها من المشتري وجب عليه مقدمة لإرجاعها للمالك. وإن تعذر عليه مع فرض عدم تلف العين - كما يظهر من المتن - فالظاهر أن اللازم دفع بدلها، وهو المعبر عنه ببدل الحيلولة. لعموم ضمان اليد، فإن مقتضي كون العين في العهدة لزوم إرجاعها بنفسها مع القدرة علي ذلك، وببدلها مع تعذره، من دون فرق بين التلف وغيره، لأن ملاكها ارتكازاً هو مراعاة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 1 من أبواب القصاص في النفس حديث: 3.

ص: 293

حال المضمون له والرفق به، وسدّ النقص الوارد عليه بذهاب ملكه عليه، ومجرد ملكيته للعين مع بقائها من دون أن تصل إليه لا يمنع من صدق النقص المذكور.

ويؤيده أو يعضده ما ورد في ضمان الأمانات، كالرهن(1) ، والوديعة(2) ، والعارية(3) ، وفي الإجارة(4) ، بنحو يظهر منه ثبوت الضمان مع التفريط بمجرد تعذر تسليم العين وإن لم تتلف، كما لو ضاعت أو سرقت. فإن الظاهر أن الضمان فيها مع التفريط هو ضمان اليد، وأن الاستئمان يمنع من الضمان كما أشرنا إلي ذلك عند الكلام في سببية اليد للضمان، فإذا سقط حكمه بالتفريط ارتفع المانع وأثرت اليد الضمان.

نعم، الظاهر أن تعذر إرجاع العين مع بقائها لا يوجب بنفسه انقلاب حق المضمون له من العين للبدل، ليكون للضامن إلزامه بقبول البدل من أجل تفريغ ذمته بمجرد إحرازه تعذر تسليم العين، بل يبقي المضمون له مالكاً للعين ومستحقاً لتسليمها، لعدم الدليل علي الانقلاب المذكور، بل هو خلاف الأصل.

غايته أن للمضمون له حينئذٍ المطالبة بتسليم البدل، فلا يملك البدل إلا بقبضه بدلاً عن العين. كما أن له الانتظار برجاء القدرة علي العين نفسها ولو من غير طريق الضامن - كما صرح بذلك في المبسوط فيما لو كان المغصوب عبداً، فأبق - إذ لا دليل علي إلزامه بأخذ البدل بعد عدم استحقاقه له.

هذا والظاهر أن الضامن لو دفع البدل ورضي به المضمون له ملك العين بدلاً عما دفع، ولا تبقي العين في ملك المضمون له، لأن دفع البدل إنما هو من أجل ضمان العين بدلاً عنها بعد تعذر تسليمها، كما لو تلفت، وذلك لا يناسب بقاءها في ملك مالكها، لمنافاته لمقتضي البدلية، بل المناسب له هو انتقال الدافع البدل وهو الضامن، بل لا ينبغي التأمل في ذلك بالنظر إلي المرتكزات العرفية. ومرجع ذلك إلي أن رض

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 7، 9 من كتاب الرهن.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 5 من كتاب الوديعة.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من كتاب العارية.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 29، 30 من كتاب الإجارة.

ص: 294

المالك بالبدل راجع إلي رضاه بكون البدل عوضاً عن العين، فيملك الدافع العين بمقتضي المعاوضة المذكورة.

ويؤيده ما في معتبر سدير عن أبي جعفر (عليه السلام)

:(في الرجل يأتي البهيمة. قال: يجلد دون الحدّ، ويغرم قيمة البهيمة لصاحبها، لأنه أفسدها عليه، وتذبح وتحرق إن كانت مما يؤكل لحمه، وإن كانت مما يركب ظهره غرم قيمتها، وجلد دون الحد، وأخرجها من المدينة التي فعل بها فيها، كيلا يعيّر بها صاحبها) (1) . فإنه كالصريح في أن ما يركب يملكه الفاعل بعد دفع القيمة لمالكه. ومورده وإن كان هو ضمان الإفساد الذي هو من سنخ ضمان الإتلاف، إلا أن المرتكز كون الضمان بجميع أنواعه علي نهج واحد. ومن ثم لا يبعد عدم استحقاق مالك البهيمة الموطوءة لقيمتها لو رضي ببقائها في ملكه وإخراجها عن البلد.

نعم، لو لم يكن دفع البدل فيما نحن فيه من أجل ضمان العين، بل من أجل تدارك ضرر عدم وصولها المالك - كما قد يوهمه ما سبق من تعبيرهم عنه ببدل الحيلولة - اتجه

بقاء العين في ملك المالك. وأظهر من ذلك ما لو قيل بعدم ملكية مالك العين للبدل، بل يكون مباحاً له إباحة مطلقة وأنه لا يملكه إلا بتلف العين.

لكن المرتكزات تأبي ذلك جداً ولاسيما مع عدم الدليل علي وجوب تدارك مثل ذلك بدفع بدل العين تمليكاً أو إباحة. بل لا ينبغي التأمل في أن دفع البدل من أجل ضمان العين نفسها، وبدلاً عنها، كما لو تلفت، لوحدة الدليل لاشتراكهما في دليل واحد. ولاسيما مع سوق الضياع والسرقة في مساق التلف في نصوص الأمانات المشار إليها آنفاً وغيرها.

ومن الغريب مع ذلك إصرار شيخنا الأعظم (قدس سره) علي عدم ملكية الضامن للعين. بدعوي: أن البدل المدفوع غرامة بسبب ضمان العين، لا عوض عنها. إذ لا دليل علي هذه الغرامة، وإنما المستفاد من دليل الضمان ولو بضميمة المرتكزات

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 1 من أبواب نكاح البهائم ووطء الأموات والاستمناء حديث: 1.

ص: 295

وعلي المشتري (1). وإن كانت تالفة رجع علي البايع (2) إن لم يدفعها إلي

---------------

هو البدلية.

وعلي ذلك يكون للبايع الفضولي بعد دفعه البدل للمالك و رضا المالك به مطالبة المشتري بالعين إن كانت عنده، كما يجب علي المشتري دفعها له، فإن تعذر دفعها بنفسها دفع بدلها، علي ما يأتي الكلام فيه في المسألة التاسعة عشرة إن شاء الله تعالي.

(1) بلا إشكال، إذ بعد بقائها علي ملكه - لفرض عدم إجازته البيع - يكون له المطالبة بها، كما يحرم حبسها عنه. وإن كانت قد خرجت من يده كان ضامناً لها بضمان اليد، ووجب عليه استرجاعها مقدمة لدفعها للمالك، فإن تعذر عليه استرجاعها كان للمالك المطالبة ببدلها، علي نحو ما تقدم في حكم البايع مع المالك. وهكذا الحال في كل من تصير تحت يده غيرهما.

نعم، في حديث السراج عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(في الذي توجد عنده السرقة. قال: هو غارم إذا لم يأت علي بايعها بشهود [شهوداً] ) (1) . وقد يظهر في عدم جواز أخذها منه إذا أقام البينة علي أنه قد اشتراها من غيره، بل يتبع ذلك الغير.

لكن لا يمكن البناء علي ذلك. إذ لا ريب في عدم خروج المسروق عن ملك مالكه ولا عن سلطنته ببيع السارق له. ولاسيما مع التصريح في جملة من النصوص برجوع المبيع المسروق ونحوه مما يباع بغير إذن مالكه إلي المالك إذا انكشف الحال(2).

ومن هنا يتعين حمل الحديث - مع غض النظر عن سنده، لعدم ثبوت وثاقة السراج راويه - علي أن عدم غرمه مع إقامة البينة علي البايع، إنما هو بلحاظ إلزام البايع حينئذٍ بردّ الثمن له، فلا يخسر شيئاً، بخلاف ما إذا لم يقم البينة، فإن السرقة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 10.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب عقد البيع وشروطه، وج: 14 باب: 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء، وغيرهما.

ص: 296

المشتري، أو علي أحدهما إن دفعها إليه (1)

---------------

تؤخذ منه من دون تدارك. كما أشار إلي ذلك في محكي مرآة العقول.

(2) لكونه ضامناً لها بضمان اليد. هذا إذا لم تكن يده عليها أمانية، وإلا فلا يرجع عليه بشيء، كما هو ظاهر. والظاهر خروجه عن مفروض المتن.

(1) لأن مقتضي عموم ضمان اليد المستفاد من بناء العقلاء وغيره مما تقدم ضمان كل منهما لها، فيجوز الرجوع علي كل منهما.

وربما يستشكل في ذلك بأن ضمان كل منهما لها عند التلف إن رجع إلي انشغال كل منهما ببدل العين غير ما تنشغل به ذمة الآخر، لزم ثبوت بدلين وعوضين للعين الواحدة، وهو محال، إذ لا يكون للعين الواحدة إلا بدل وعوض واحد. مع أن لازمه استحقاق المالك لكلا العوضين والبدلين، فيجوز للمالك الرجوع عليهما معاً، لا علي أحدهما علي البدل. وليس بناؤهم علي ذلك.

وإن رجع ضمان كل منهما للعين عند التلف إلي انشغال ذمتهما معاً ببدل واحد يستحقه المالك وله الرجوع به علي أي منهما شاء، أشكل بأنه لا مجال لانشغال ذمم متعددة بشيء واحد، لامتناع وجود الشيء الواحد في أكثر من ذمة واحدة، الذي هو نظير وجود الشيء الواحد في أكثر من مكان واحد.

ولذا ذهب أصحابنا إلي أن مرجع عقد الضمان إلي انشغال ذمة الضامن بالدين بدلاً عن المضمون عنه، بحيث تفرغ ذمة المضمون عنه، خلافاً للجمهور، حيث ذهبوا إلي انشغال ذمة الضامن والمضمون عنه معاً بالدين.

لكنه يندفع بأن مرجع ضمان كل منهما للعين عند تلفها إلي انشغال ذمتهما معاً ببدل واحد للعين، ولا محذور فيه، لأن انشغال الذمم المتعددة بالمال لا يرجع إلي وجوده فيها، بحيث تكون ظرفاً له نظير ظرفية المكان لما فيه، بل هو محض اعتبار راجع إلي مسؤولية صاحب الذمة بالمال، ولا مانع من مسؤولية أكثر من شخص

ص: 297

(298)

بمثلها إن كانت مثلية وبعينها إن كانت قيمية (1).

(مسألة 16): المنافع المستوفاة مضمونة (2)

---------------

بالشيء الواحد. ولذا أمكن ضمان أكثر من واحد للعين مع عدم تلفها فيما لو تعاقبت عليها أيديهم، كما سبق.

وما عليه أصحابنا من رجوع عقد الضمان إلي انشغال ذمة الضامن بدلاً عن المضمون عنه ليس لامتناع انشغال ذمتهما معاً بالمال، بل للنصوص الخاصة الظاهرة في رجوع عقد الضمان لذلك. ومن ثم لا مخرج عن مقتضي عموم دليل ضمان اليد القاضي بضمان كل من يقع المال تحت يده له مهما بلغ عددهم.

(1) كما تقدم يظهر مما في المسألة الثالثة عشرة من الفصل الأول فإنهما من باب واحد.

(2) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، المصرح به في كلام غير واحد. ويقتضيه المرتكزات العرفية القطعية، فإن المنفعة وإن لم تكن مالاً مملوكاً قبل وجودها، بل ليس المال المملوك إلا العين نفسها، إلا أنها بوجودها تكون مالاً فتكون مملوكة لصاحب العين تبعاً للعين. وبلحاظ ذلك أمكن للمالك المعاوضة عنها بمثل الإجارة، وبذلها بالعوض. ومن هنا يكون المستوفي لها قد اتلف علي المالك ماله، فيضمنه له.

مضافاً إلي ما ورد في الجارية المسروقة، كمعتبر زرارة: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل اشتري جارية من سوق المسلمين، فخرج بها إلي أرضه، فولدت منه أولاداً، ثم أتاها من يزعم أنها له، وأقام علي ذلك البينة. قال: يقبض ولده، ويدفع إليه الجارية، ويعوضه من قيمة ما أصاب من لبنها وخدمتها)(1) ، ومعتبره الآخر: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام): الرجل يشتري الجارية من السوق، فيولدها، ثم يجيء الرجل فيقيم البينة علي أنها جاريته لم تُبَع ولم تُهَب. فقال: يرد إليه جاريته، ويعوضه بما انتفع. قال: كان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 4، 2.

ص: 298

[كأنه. في] معناه قيمة الولد)(1). وحيث كان الظاهر أن ما في ذيله تفسير من الراوي، فلا يخرج به عن إطلاق الجواب. ولاسيما مع الإشكال في التفسير بعدم وضوح كون الاستيلاد من سنخ الانتفاع، وأن اللازم فيه قيمة الولد، لا أجرة الاستيلاد.

ومثلهما في ذلك ما ورد في الدابة المستأجرة إذا تجاوز بها المستأجر المكان المتفق عليه، كصحيح أبي ولاد، قال: (اكتريت بغلاً إلي قصر ابن هبيرة ذاهباً وجائياً بكذا وكذا، وخرجت في طلب غريم لي، فلما صرت قرب قنطرة الكوفة خبرت أن صاحبي توجه إلي النيل، فلما أتيت النيل خبرت أن صاحبي توجه إلي بغداد، فاتبعته وظفرت به، وفرغت مما بيني وبينه، ورجعنا إلي الكوفة. وكان ذهابي ومجيئي خمسة عسر يوماً، فأخبرت صاحب البغل... فتراضينا بأبي حنيفة، فأخبرته بالقصة، وأخبره الرجل. فقال لي: ما صنعت بالبغل ؟ ف قلت: قد دفعته إليه سالماً. قال: نعم، بعد خمسة عشر يوماً... فقال: ما أري لك حقاً، لأنه اكتراه إلي قصر ابن هبيرة، فخالف وركبه إلي النيل والي بغداد، فضمن قيمة البغل، وسقط الكراء، فلما ردّ البغل سليما وقبضته لم يلزمه الكراء... وحججت تلك السنة، فأخبرت أبا عبد الله (عليه السلام)... فقال: أري له عليك مثل كراء بغل ذاهباً من الكوفة إلي النيل، ومثل كراء بغل من بغداد إلي الكوفة توفيه إياه... فقلت له: أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني ؟ قال: نعم...)(2). ونحوه في ضمان الأجرة مع التجاوز بالدابة عن الموضع المتفق عليه غيره.

وهي وإن لم ترد في بيع الفضولي، إلا أن من المعلوم عدم الفرق، وأن المنشأ للضمان هو استيفاء المنفعة من دون حق ولا إذن من المالك.

هذا وفي معتبر زيد عن آبائه (عليهم السلام) قال:

(أتاه رجل تكاري دابة، فهلكت، وأقرّ أنه جاز بها الوقت، فضمنه الثمن، ولم يجعل عليه كراء) (3) . لكنه وارد لبيان قضية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 4، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب أحكام الإجارة حديث: 1، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب أحكام الإجارة حديث: 1، 5.

ص: 299

خاصة منقولة بالمعني من غير المعصوم. ولعل عدم تضمينه الكراء لعدم الاهتمام بالسؤال عنه وبيان حكمه، لا للحكم بعدم تضمينه. ولا أقل من لزوم حمله - كغيره مما اقتصر فيه علي ضمان الدابة من دون تعرض للكراء - علي ذلك جمعاًُ مع النصوص السابقة. ولو فرض تعذر حمله علي ذلك فالمتعين حمله علي التقية، كما ذكره الشيخ (قدس سره)، لموافقته لما عن أبي حنيفة، كما تضمنه صحيح أبي ولاد.

نعم، في حديث زريق عن أبي عبد الله (عليه السلام) الوارد فيمن اشتري ضيعة مغصوبة والمتضمن الأمر بإرجاعها لصاحبها: (قال: فإذا أنا فعلت ذلك له أن يطالبني بغير هذا؟ قال: نعم، له أن يأخذ منك ما أخذت من الغلة ثمن الثمار، وكل ما كان مرسوماً في المعيشة يوم اشتريتها يجب أن ترد ذلك، إلا ما كان من زرع زرعته أنت، فإن للزارع إما قيمة الزرع، وإما أن يصبر عليك إلي وقت حصاد الزرع، فإن لم يفعل كان ذلك له، ورد عليك القيمة، وكان الزرع له...)(1). فإن عدم التعرض فيه لوجوب إرجاع أجرة زرع الأرض في مدة استيلائه عليها ظاهر في عدمه، لظهوره في بيان جميع ما يجب عليه بسبب استيلائه علي الأرض.

لكنه - مع ضعف سنده - أضعف ظهوراً في عدم الضمان من النصوص السابقة في الضمان. فلابد من تقديمها عليه. ولو فرض عدم الترجيح تعين تساقط النصوص، والرجوع لما عرفت من المرتكزات القاضية بالضمان.

نعم، قال في الوسيلة في فصل بيان أحكام البيع الفاسد: (فإذا باع أحد بيعاً فاسداً، وانتفع به المبتاع، ولم يعلما بفساده، ثم عرفا واسترد البايع المبيع، لم يكن له استرداد ثمن ما انتفع به واسترداد الولد إن حملت الأم عنده، وولدت، لأنه لو تلف لكان من ماله، والخراج بالضمان). وكلامه وإن كان في المبيع بالبيع الفاسد، إلا أن تعليله واستدلاله يشمل منافع كل مضمون. كما أنه لا ينافي ما ذكرنا من قضاء المرتكزات بالضمان، حيث لا يبعد كون مراده بالتعليل لزوم الخروج عنها تعبداً بم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

ص: 300

تضمنه النبوي من أن الخراج بالضمان، لا أنها غير ثابتة، أو أنها تقصر رأساً عن منافع الأعيان المضمونة.

لكن النبوي المذكور غير مروي من طرقنا، وإنما روي مرسلاً عن عوالي اللآلي: (عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قضي بأن الخراج بالضمان)(1). وروي بما يقرب من هذا اللفظ مسنداً في كتب العامة(2). مع أن في حديث آخر مسند عن عائشة: (أن رجلاً ابتاع غلاماً، فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيباً، فخاصمه إلي النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) فرده عليه. فقال الرجل: يا رسول الله قد استغل غلامي. فقال رسول الله: الخراج بالضمان)(3). وهو مختص بما إذا كان الانتفاع بالعين حال ملكية المنتفع لها. قبل فسخ الشراء بظهور العيب. ومن ثم كان شارحاً للمراد من الأول، ومانعاً من التمسك بإطلاقه.

وتوضيح ذلك: أن الضمان في كلمات الفقهاء والمتشرعة في العصور المتأخرة يراد به المسؤولية للغير بما يخصه علي نحو يتحمل دركه وخسارته له، ومنه ضمان اليد الذي يثبت في المقام. وهذا المعني لا يتجه في مورد الحديث السابق، ضرورة أن الغلام قبل الفسخ حين استغله المشتري كان ملكاً له، فلابد أن يراد بضمانه له إما الضمان العقدي، حيث يبتني شراؤه علي تملكه مضموناً بالثمن، وإما كونه ملكاً له، فكأنه في ضمن حوزته، وإما كون خسارته عليه، لا بمعني تحمله لدركه، بل بمعني أن تلفه وخسارته في ملكه ومن ماله.

ومن الظاهر أن الضمان بأحد هذه المعاني غير الضمان بالمعني الأول الذي هو محل الكلام، ومنه ضمان اليد. ولا يتضح لنا قدر جامع عرفي بين المعنيين، ليمكن حمل مثل قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم): (الخراج بالضمان) عليه، بل يتردد بدواً بينهما، ويكون مجملاً.

********

(1) مستدرك الوسائل باب: 7 من أبواب الخيار حديث: 3.

(2) صحيح الترمذي ج: 5 ص: 285، 286، وسنن أبي داود ج: 3 ص: 284 رقم: 3508، والسنن الكبري للبيهقي ج: 5 ص: 321، وغيرها.

(3) سنن أبي داود ج: 2 ص: 255. واللفظ له. وسنن ابن ماجة ج: 2 ص: 31 المطبعة التازية، ومسند أحمد الطبعة الأولي ج: 6 ص: 208، 80، وتاريخ بغداد ج: 8 ص: 298، وغيرها.

ص: 301

وللمالك الرجوع بها علي من استوفاها (1). وكذا الزيادات العينية، مثل اللبن والصوف والشعر والسرجين ونحوها مما كان له مالية،

---------------

غير أن الحديث المتضمن وروده في استغلال العبد المبيع قبل فسخ البيع صالح لتفسير الضمان فيه بالمعني الثاني، ويكون أجنبياً عن الضمان بالمعني الأول الذي هو محل الكلام.

ولو فرض إمكان تحصيل الجامع بين المعنيين، فلا دليل علي إرادته بعد عدم شيوع الاستعمال فيه، بحيث يكون هو المتبادر من الإطلاق، بل غاية الأمر التردد في الحديث بين إرادته وإرادة المعني الثاني بخصوصه، فيكون المعني الثاني هو المتيقن.

ولعله لذا لم يعرف القول من العامة - الذين كان الحديث من روايتهم - بعدم ضمان منافع المغصوب إلا من الحنفية. وربما يظهر مما حكي عنهم أن ذلك ليس عملاً بالحديث للبناء علي عمومه، بل لوجه آخر كالقياس، أو غيره.

وكيف كان فلا مجال للاستدلال بالحديث علي عدم ضمان منافع العين المضمونة لمالكها، بعد ما عرفت من حال سنده ودلالته.

علي أنه لو غض عن جميع ذلك، وبني علي عموم الحديث لما نحن فيه، فلابد من الخروج عنه بالنصوص السابقة الصريحة في الضمان. ولاسيما صحيح أبي ولاد المتضمن للإنكار علي حكم أبي حنيفة بعدم الضمان بناء منه علي القاعدة المذكورة. حيث تكشف هذه النصوص عن عدم صحة الاستدلال بالحديث، لعدم صدوره، أو قصور دلالته، أو تخصيصه. ومن ثم كان ما تقدم من الوسيلة في غاية الغرابة. ويأتي عند الكلام في حكم المنافع غير المستوفاة ما ينفع في المقام، فإنه لو تم الدليل علي ضمانها كان دليلاً علي الضمان في المنافع المستوفاة بعمومه أو بالأولوية.

(1) لأنه هو المتلف لها والمنتفع بها. والظاهر عدم الإشكال في ذلك، وإنما الإشكال في جواز الرجوع علي من كانت عنده العين لو لم يستوف المنفعة وإنم

ص: 302

فإنها مضمونة (1)

---------------

استوفاها من أخذها، كالبايع الفضولي في المقام لو كان المستوفي للمنفعة هو المشتري، حيث قد يظهر منهم جواز الرجوع عليه.

قال في الشرايع في مسألة بدل الحيلولة: (وإذا تعذر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل... وعلي الغاصب الأجرة إن كان مما له أجرة في العادة من حين الغصب إلي حين دفع البدل. وقيل: إلي حين إعادة المغصوب. والأول أشبه). وظاهره المفروغية عن وجوب دفع الأجرة إلي ما قبل دفع البدل. وفي الجواهر أنه لا خلاف ولا إشكال فيه، بل الإجماع بقسميه عليه.

ومقتضي إطلاق كلاهما العموم لما إذا كان تعذر دفع العين لانتقالها من الغاصب لغيره ممن يستوفي منافعها، حيث يكون مقتضي ذلك حينئذٍ جواز الرجوع بقيمة المنفعة علي غير من يستوفيها ممن سبق وضع اليد علي العين، فمع تعاقب الأيدي كما يجوز الرجوع بالعين علي الكل يجوز الرجوع بالمنفعة عليهم.

لكنه في غاية الإشكال، بل المنع، ضرورة أن منشأ ضمان العين هو اليد المشتركة بين الكل. أما منشأ ضمان المنفعة فهو الاسيفاء المختص بمن يستوفيها. بل حتي لو قلنا بأنها مضمونة بضمان اليد، لتحقق الاستيلاء عليها بالاستيلاء علي العين - علي ما يأتي الكلام فيه قريباً - فمن الظاهر أن المنفعة التي يتم الاستيلاء عليها تبعاً للاستيلاء علي العين هي منفعة زمان استيلاء الشخص علي العين وصيرورتها في يده، دون ما يتجدد من منافعها بعد خروجها عن يده. ومن هنا لا موجب لضمانه لها.

(1) لعموم ضمان اليد الذي تقدم الكلام فيه في المسألة الثالثة عشرة من الفصل الأول، فإنها من الأعيان القابلة للدخول تحت اليد، كالأصل. ولخصوص ما تقدم في الجارية المسروقة من ضمان ما أصاب المشتري من لبنها، وما انتفع منها. فراجع.

نعم، لو تم الاستدلال بحديث: (الخراج بالضمان) في المنافع اتجه للاستدلال

ص: 303

(304)

علي من استولي عليها (1) كالعين. أما المنافع غير المستوفاة ففي ضمانها إشكال (2).

---------------

به في المقام، لعموم الخراج للنماء، ولاسيما وأن في بعض طرقه: (الغلة بالضمان)(1). لكن سبق المنع من ذلك.

(1) فإن كان هو البايع وحده رجع عليه وحده. وإن كان هو البايع والمشتري معاً رجع علي من شاء منهما، نظير ما سبق في نفس العين ذات النماء. وإن كان هو المشتري وحده رجع عليه وحده. ولا مجال للرجوع علي البايع بعد عدم صيرورتها تحت يده. ومجرد ضمانه للعين بسبب اليد لا يكفي في الرجوع عليه بالنماء تبعاً لها بعد عدم دخولها تحت يده، نظير ما تقدم في المنافع.

(2) لا يبعد كون الضمان هو المشهور، خصوصاً في الغصب، كما يناسبه ما تقدم - عند الكلام في الرجوع بقيمة المنافع المستوفاة - من الشرايع والجواهر.

وقد يستدل عليه بوجوه:

الأول: الإجماع. قال في آخر كتاب الإجارة من السرائر: (المنافع عندنا تضمن بالغصب). وقال في كتاب الغصب من التذكرة: (منافع الأموال من العبيد والثياب والعقار وغيرها مضمونة بالتفويت والفوات تحت اليد العادية، فلو غصب عبداً أو جارية أو ثوباً أو عقاراً أو حيواناً مملوكاً ضمن منافعه، سواء أتلفها بأن استعملها، أو فاتت تحت يده، بأن بقيت في يده مدة ولا يستعملها عند علمائنا أجمع).

لكن لا مجال للتعويل عليه في هذه المسألة التي لم تتضمنها النصوص، وإنما ذكرت في عصر تدوين الفتاوي، حيث لا يبعد ابتناء الفتوي بها علي بعض الوجوه الاجتهادية كما يكثر منهم في المعاملات، وقد تقدم نظائره. خصوصاً مع ابتناء أحكام الغصب في نظر كثير منهم علي التثقيل علي الغاصب لتعديه.

********

(1) مسند أحمد ج: 6 ص: 80.

ص: 304

الثاني: عموم ضمان اليد - الذي تقدم الاستدلال به في المسألة الثالثة عشرة من الفصل السابق - لدعوي: أن المنافع تابعة للعين في كونها تحت اليد، ولذا يكتفي في تسليم العين المستأجرة تسليم العين نفسها.

وفيه: أنه لا ينبغي التأمل في قصور النبوي: (علي اليد ما أخذت حتي تؤدي) عن شمول المنافع غير المستوفاة، حيث لا وجود لها، ليصدق عليها الأخذ والأداء. والاكتفاء بتسليم العين المستأجرة ليس من أجل تسليم المنفعة بذلك، بل من أجل التمكين من استيفاء المنفعة، لكفاية ذلك في الإجارة، كما يكتفي بحضور الأجير للعمل وإن لم يتحقق تسليمه ولا تسليم منفعة بذلك.

علي أن دليل ضمان اليد ليس هو النبوي المذكور، بل المرتكزات العقلائية المؤيدة أو المعتضدة ببعض النصوص، والمتيقن من جميع ذلك هو الأعيان التي تكون بنفسها أموالاً ومورداً للاستيلاء والعدوان.

الثالث: ما دل علي حرمة مال المسلم. ويظهر الإشكال فيه مما سبق عند الاستدلال به علي ضمان اليد من عدم ظهوره في الضمان، بل في الحرمة التكليفية، وأنه لو كان ظاهراً فيه فلا ينهض ببيان سبب الضمان وأنه اليد أو الإتلاف أو غيرهما.

مضافاً إلي أن المنافع غير المستوفاة ليست مالاً مملوكاً، كما أشرنا إليه في أول الكلام في ضمان المنافع المستوفاة. وهناك بعض الوجوه الأخر قد تقدم التعرض لها عند الاستدلال علي ضمان اليد، حيث قد يستدل بها هنا أيضاً. ولا يسعنا التعرض لها، لظهور ضعفها، كما يظهر بالرجوع إليها هناك.

ومن ثم كان الظاهر عدم الدليل علي ضمان المنافع غير المستوفاة، فيتعين البناء علي عدمه، عملاً بالأصل. مضافاً إلي أن الاقتصار في معتبري زرارة المتقدمين في حكم الجارية المسروقة وفي نصوص التعدي بالعين المستأجرة عن مورد الإجارة علي خصوص المنافع المستوفاة ظاهر في عدم ضمان غيرها.

بل هو الصريح من صحيح أبي ولاّد المتقدم، حيث تضمن حبس البغل خمسة

ص: 305

عشر يوماً، وتأكيد صاحب البغل علي ذلك مع أبي حنيفة، ومع ذلك اقتصر الامام (عليه السلام) علي ضمان ما استوفاه أبو ولاّد من منافعه، التي لا إشكال ظاهراً في كونها أقل من منفعة خمسة عشر يوماً. وأما ما قد يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من سقوطه عن الحجية، لعدم العثور علي العامل به في مورده، وهو المغصوب. فهو في غاية الإشكال، بل المنع، لعدم وضوح إعراض القدماء عنه قبل عهد تحرير الفتاوي، وقرب غفلتهم عنه بعد تحرير الفتاوي بسبب أنس أذهانهم ببعض الوجوه الاجتهادية، كما يكثر منهم في أحكام المعاملات.

مع أن شيوع الابتلاء بالمسألة في موارد الغصب ونحوه يناسب ورود الأسئلة في كثير من فروعها، كالسؤال عن أن المضمون هو كل منفعة تصلح العين لها، أو خصوص المنفعة التي يتعارف تحصيلها من العين، أو خصوص ما يعدّ المالك العين لها، وعن حكم المنافع المتضادة، وأن المضمون أعلاها قيمة أو أقلها قيمة أو المتوسط... إلي غير ذلك، فعدم ورود الأسئلة في ذلك يناسب المفروغية عن عدم ضمان المنافع غير المستوفاة. ولعله لذا تردد في الدروس والمسالك ومحكي التنقيح في الضمان، وحكم بعدمه في محكي الإيضاح.

هذا ويظهر من بعض مشايخنا (قدس سره) التفصيل بين ما إذا لم يكن المالك في مقام الانتفاع بالعين فلا ضمان، وما إذا كان في مقام الانتفاع بها فيتعين الضمان، لأن الغاصب قد أتلفها علي المالك وإن لم يستوفها.

وفيه: أولاً: أن الإتلاف في ذلك راجع إلي تفويت المنفعة بالمنع من تحصيلها في ظرف كون المالك في مقام تحصيلها، وليس بناؤهم علي كونه سبباً في الضمان، ولذا لا يضمن منافع الحرّ لو حبسه عن العمل. كما لا يضمن منافع أعيانه لو منعه من استيفائها من دون أن يستولي علي الأعيان نفسها، وكذا منافع المباحات الأصلية، كما لو منعه من رعي أغنامه في الأرض المباحة. ومثلها الأعيان لو منعه من تملكها وكسبها، كما لو منعه من صيد الحيوان العابر، أو من حيازة المباحات الأصلية وأخذها، أو من

ص: 306

أخذ الأعيان المملوكة لو أذن مالكها في أخذها وتملكها، أو من استنماء ماله... إلي غير ذلك.

وبعبارة أخري: قاعدة الضمان بالإتلاف ليست مستفادة من كبري شرعية لفظية، كي ينظر في عمومها لتفويت المال علي الغير ومنعه من تحصيله، وإنما هي قاعدة متصيدة من حكم الشارع الأقدس بالضمان في الموارد المتفرقة بضميمة القدر الجامع الارتكازي بينها. ومن الظاهر أن الموارد المذكورة مختصة بإتلاف الأعيان المملوكة واستيفاء منافعها، دون المنع من تحصيل الأعيان والمنافع.

وثانياً: أن التفويت قد لا يستند للغاصب، كما لو منع السلطان المالك من أخذ العين، فتركها مكرهاً وفارقها، وبعد ذلك استولي عليها غيره من دون حق، فكان هو الغاصب لها، من دون أن يمنع المالك من أخذها، لانصرافه عنها بسبب سبق منع السلطان، فإن تفويت المنفعة علي المالك حينئذٍ إنما يكون بسبب منعه من أخذه لها، المستند للسلطان، لا للغاصب الذي استولي عليها بعد ذلك.

وثالثاً: أن ظاهر نصوص الجارية المسروقة ونصوص التعدي بالعين المستأجرة كما سبق هو ضمان خصوص المنافع المستوفاة كما سبق. وحملها علي خصوص ما إذا لم يكن المالك في مقام استيفاء المنفعة بعيد في نفسه ومناف لإطلاقها، بل يكاد يكون متعذراً عرفاً في صحيح أبي ولاد، لأن من شأن المكاري استيفاء منفعة البغل، ولذا تظلم أمام أبي حنيفة من حبسه خمسة عشر يوماً. ومن ثم لا مجال لما ذكره (قدس سره).

ومثله في الإشكال ما ذكره من أن الضمان مختص بالغصب، دون المقبوض بالعقد الفاسد، فلا ضمان للمنافع غير المستوفاة فيه، مع ظهور أن المقبوض بالعقد الفاسد من أفراد المغصوب. ومجرد الإذن في قبضه لتخيل صحة العقد لا يخرجه عن كونه مغصوباً، بعد عدم ترتب الأثر علي الإذن المذكور، لخطأ مبناه، ولذا يحرم حبسه عنه.

ودعوي: أن منشأ الضمان في المغصوب عنده لما كان هو تفويت المنفعة علي المالك مع كونه بصدد تحصيلها، فهو لا يجري في المقبوض بالعقد الفاسد، لعدم كون

ص: 307

(308)

(مسألة 17): المثلي ما يكثر وجود مثله في الصفات التي تختلف باختلافها الرغبات، والقيمي ما لا يكون كذلك (1). فالآلات والظروف والأقمشة المعمولة في المعامل في هذا الزمان من المثلي، والجواهر الأصلية من الياقوت والزمرد والألماس والفيروزج ونحوها من القيمي.

(مسألة 18): الظاهر أن المدار في القيمة المضمون بها القيمي قيمة زمان التلف (2)، لا زمان الأداء.

---------------

المالك بصدد تحصيل منفعته فعلاً بعد تخيله عدم كونه ملكاً له.

مدفوعة بأن المعيار في عدم الضمان إذا كان هو عدم تصدي المالك للانتفاع بالعين فعلاً ولو للخطأ في تشخيص حالها، فهو قد يتم في المغصوب أيضاً، كما لو ادعي الغاصب كذباً ملكية عين أعدها مالكها للانتفاع بها، فصدقه المالك، وسلمها له. كما قد لا يتم حتي في المقبوض بالعقد الفاسد، كما لو كان المالك مع تخيله صحة العقد، بصدد الانتفاع بالعين عصياناً، فمنعه المشتري بالعقد الفاسد، وأخذها منه لتخيل صحة العقد.

وكيف كان فحيث سبق عدم ضمان المنافع غير المستوفاة في المغصوب، فلا إشكال في عدم ضمانها في المقبوض بالعقد الفاسد، حتي ما كان فساده بسبب عدم إذن المالك، كعقد الفضولي، الذي هو محل الكلام.

(1) تقدم منا في المسألة الثالثة عشرة - في ذيل الكلام في ضمان المثلي بمثله والقيمي بقيمته - أن المثلي هو ما تنسب قيمته عرفاً للكلي الشامل له، والقيمي هو ما تنسب قيمته له بشخصه من دون أن تنسب لكلي شامل له. فراجع.

(2) كما قد يظهر من الدروس وعن جملة من كتب العلامة وغيرها، ونسبه في الدروس للأكثر. وكأنه لما ذكره غير واحد من أنه وقت الانتقال للقيمة. ودعوي:

ص: 308

أن الانتقال للقيمة حينئذٍ لا يستلزم كون القيمة هي قيمة يوم التلف. مدفوعة بأن الانتقال للقيمة لما كان بملاك كونها بدلاً عن العين، وتداركاً للنقص المالي الحاصل للمالك بتلفها، تعين كون القيمة المنتقل إليها هي قيمة العين حينئذٍ، لأنها هي التي يتدارك النقص المالي بها.

هذا كله بناءً علي أن مرجع الانتقال للقيمة مع التلف إلي تبدل ما تنشغل به الذمة، وأنه قبل التلف نفس العين، وبعده القيمة بدلاً عنها. لكنه غير ظاهر، بل من القريب رجوعه إلي جواز مطالبة المالك بالقيمة بدل العين، لتعذر تسليمها، كما يجوز له المطالبة بها مع بقائها لو تعذر تسليمها لسرقة أو غرق أو ضياع أو نحوها، حيث لا دليل علي الانتقال المذكور، بل المنسبق من أدلة الضمان باليد والإتلاف وغيرهما - ولو بضميمة المرتكزات - كون المضمون هو العين - التي هي موضوع الضمان - نفسها. كما هو الحال عند وجودها وإمكان تسليمها، وأن الانتقال للقيمة عند تعذر تسليم العين لتلف أو غيره إنما هو من شؤون الأداء.

بل هو المناسب لمفاد النبوي: (علي اليد ما أخذت حتي تؤدي) لولا ما سبق من ضعفه بنحو لا ينهض بالاستدلال. ومن ثم تكرر في كلام السيد الطباطبائي (قدس سره) في حاشيته علي المكاسب دعوي انشغال الذمة بالتالف بعينه، لا بالقيمة.

ودعوي: أنه يمتنع انشغال الذمة بالعين حال وجودها فضلاً عن حال تلفها، لأنها أمر حقيقي موجود في الخارج، وليست أمراً اعتبارياً كالكليات الذمية، ليمكن انشغال الذمة بها. فلابد من تنزيل أدلة الضمان علي انشغال الذمة ببدلها رأساً كما في ضمان التلف، أو التكليف بإرجاعها بنفسها مع وجودها من دون أن تنشغل الذمة بها، وانشغال الذمة ببدلها مع تلفها، كما في ضمان اليد ونحوه.

مدفوعة: بأنه لا يراد بانشغال الذمة بالعين وجودها في الذمة، ليمتنع ذلك في الأعيان الخارجية، بل نحو من الاعتبار المبتني علي نحو من المسؤولية، وكما يمكن ذلك في الكليات يمكن في الأعيان الخارجية، كما ذكر ذلك سيدنا المصنف (قدس سره) في

ص: 309

أواخر كتاب الضمان من مستمسكه. بل التفكيك في مثل ضمان اليد بتنزيله حال وجود العين علي التكليف المحض بالإرجاع، وحال تلفها علي انشغال الذمة بالبدل الذي هو نحو من الوضع، تكلف تأباه المرتكزات.

ومثلها دعوي: امتناع انشغال الذمة بالتالف، بعد تعذر أدائه، ولذا يسقط التكليف بتعذر المكلف، فلابد من الالتزام بانشغال الذمة بما يمكن أداؤه، وهو القيمة.

لاندفاعها بأنه لا مجال لقياس انشغال الذمة بالماليات الذي هو من سنخ الوضع بالتكليف، لتقوم التكليف بالعمل، فيلغو مع تعذره ويسقط عن الفعلية، أما انشغال الذمة بالماليات فهو اعتبار محض يكفي في تصحيحه ترتب الأثر عليه في الجملة، كجواز المطالبة بأدائه عند القدرة ولو بتسليم بدله، وإمكان تبرع الغير بأدائه ونحو ذلك، ولذا لا إشكال في عدم سقوط الدين بإعسار المدين، وكذا بقاء انشغال الذمة بالمثل مع تعذره مطلقاً أو في حق الضامن، وبالعين المضمونة في موارد بدل الحيلولة، ولا ينتقل فيها للقيمة إلا إذا رضي المضمون له بأدائها بدلاً عن المضمون، ولذا لو تجددت القدرة علي المثل أو العين وجب أداؤهما، ولا يكتفي بالقيمة بتوهم سبق الانتقال إليها عند التعذر.

ومن هنا كان مقتضي القاعدة دفع قيمة زمان الأداء، للزوم تعويض العين ببدلها حينئذٍ. وبذلك يظهر أن العين مع التلف هي المضمونة حتي في المثلي، وأن دفع المثلي ليس لانشغال الذمة به، بل لوجوب تعويضها به.

كما ظهر أن القول المذكور لا يبتني علي ضمان القيمي بمثله، وأن دفع القيمة إنما هو لكونها بدلاً عن المثل المتعذر، لا عن العين التالفة، لدعوي أنه حينئذٍ يتعين ملاحظة القيمة حين الدفع، لأنها هي التي تصلح للبدلية عن المضمون حينه. إذ بعد أن ظهر إمكان انشغال الذمة بالعين التالفة فالمتعين ملاحظة قيمتها حين الأداء من دون حاجة إلي انشغال الذمة بالمثل. علي أنه إذا أمكن انشغال الذمة بمثل العين

ص: 310

القيمية مع كونه فرضياً لا وجود له أمكن بقاء انشغالها بنفس العين مع تلفها بلا حاجة إلي الانتقال للمثل، لعدم الفرق بين التالف وغير الموجود في ذلك.

هذا وعن جماعة الضمان بقيمة يوم الغصب، وفي الشرايع وعن التحرير أنه اختيار الأكثر. وقد يستدل عليه بوجهين:

الأول: أنه وقت دخول العين في ضمان الغاصب، ولا يكون ضمانها إلا بضمان قيمتها حينئذٍ.

لكنه كما تري، فإن الضمان بالقيمة إنما يكون بعد التلف، إذ لا ريب في كفاية ردّ العين قبله، وإذا كان الضمان بالقيمة بعد التلف فكون القيمة المضمون بها قيمة يوم الغصب، يحتاج لدليل.

ودعوي: أن مقتضي سببية اليد للضمان انشغال الذمة بوضع اليد علي العين، وحيث لا تنشغل بالموجود الخارجي الشخصي تعين انشغال الذمة بالقيمة حينئذٍ بدلاً عن العين، غايته أنه بتسليم العين تفرغ الذمة عن القيمة.

مدفوعة: بما سبق من إمكان انشغال الذمة بالعين حال وجودها، وبقائها في الذمة بعد تلفها. بل لو فرض امتناع ذلك فالبناء علي ضمان العين بنفسها، وأنه راجع إلي وجوب تسليمها، أهون عرفاً من البناء علي انشغال الذمة بالقيمة من حين أخذ العين مع وجوب تسليم العين دون القيمة، وفراغ الذمة عن القيمة بذلك، فإنه تكلف، بل تعسف تأباه المرتكزات. وإن كان هو الظاهر بدواً من كلام أبي حنيفة الذي تضمنه صحيح أبي ولاد المتقدم ذكره عند الكلام في ضمان المنافع المستوفاة.

الثاني: صحيح أبي ولاد المتقدم وفيه بعد حكم الإمام بضمان ما استوفاه من منفعة البغل: (فقلت له: أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني ؟ قال: نعم قيمة بغل يوم خالفته. قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز. قال: عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترده عليه. فقلت: من يعرف ذلك ؟ قال: أنت وهو، إما أن يحلف هو علي القيمة، فيلزمك، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت علي القيمة، لزمه

ص: 311

ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا، فليزمك...) (1) .

فقد استظهر شيخنا الأعظم (قدس سره) كون (يوم خالفته) في جواب السؤال الأول قيداً للقيمة بأحد وجهين:

أولهما: أن يكون مجروراً بإضافة القيمة إليه، بأن تكون القيمة المضافة إلي البغل مضافة إلي اليوم ثانياً.

لكن الإضافة بعد الإضافة إن رجعت إلي كون المضاف إليه مضافاً إلي ما بعده، وهو المعروف بتتابع الإضافات، كما في قولنا: زوجة ابن زيد. فهي صحيحة شايعة، لكنها لا تناسب ما ذكره (قدس سره)، حيث يكون اليوم قيداً للبغل، لا للقيمة.

مع أن في صحتها في المقام إشكالاً بلحاظ ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره من أن البغل من الذوات غير القابلة للتقييد بالزمان - لوحدة وجودها بتعاقب الأزمنة والأيام - إلا بتكلف مخالف للظاهر. ولاسيما مع عدم وضوح المناسبة المصححة لإضافة البغل لليوم.

وإن رجعت إلي كون المضاف نفسه مضافاً مرة أخري، كما لو قيل دار زيد عمرو، لبيان أن الدار لزيد بلحاظ سكناه لها، ولعمرو بلحاظ ملكيته لها مثلاً. فهي غير معهودة في استعمالات أهل اللغة والعرف، بل هي مستنكرة بنحو تعد من الأغلاط، بل قيل باستحالتها. فلا مجال للبناء عليها في المقام، ولاسيما وأنه لا مناسبة مصححة لإضافة القيمة بنفسها لليوم. كما أنها لا تنفع في إثبات المطلوب.

وإن رجعت إلي أن المعني المتحصل من المضاف والمضاف إليه هو المضاف ثانياً فقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أنه غلط في اللغة العربية، بل يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) امتناعه.

إلا أن بعض مشايخنا (قدس سره) ذكر أنه كثير في الاستعمالات العرفية، فيقال: ماء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب كتاب الإجارة حديث: 1.

ص: 312

رمان زيد وبيض دجاجه، مع عدم ملكيته للرمان الذي أخذ منه الماء، ولا للدجاج الذي أنتج البيض.

ويشكل بعدم وضوح صحة الاستعمالات المذكورة لغة. نعم لا يبعد جري العرف عليها تسامحاً. لكنه مختص بالمركب الإضافي كماء الرمان، وماء الورد، حيث يكون بمجموعه اسماً يغفل فيه جانب الإضافة، دون غيره مما كانت فيه الإضافة مقصودة بالأصل، فلا يقال: ملبوس ملوك زيد، ولا ثياب شتاء عمرو. ومنه المقام.

علي أنه حكي عن الوافي وبعض نسخ الكافي والتهذيبين اقتران كلمة (بغل) بأداة التعريف وهو لا يناسب الوجه الأول والثالث من وجوه الإضافة. فلم يبق إلا الوجه الثاني الذي لا إشكال في بطلانه. والحاصل: أنه لا مجال لاحتمال كون (يوم خالفته) مضافاً إليه.

ثانيهما: أن يكون (يوم خالفته) منصوباً علي الظرفية قيداً لنسبة الاختصاص التي تفيدها إضافة قيمة البغل.

وقد أورد عليه في كلام غير واحد بأن الاختصاص المستفاد من الإضافة معني حرفي فلا يتعلق به الظرف، بل لابد في متعلقه من أن يكون معني اسمياً ملحوظاً استقلالاً، لأنه هو الذي يمكن أن يكون طرفاً للنسب، ومنها نسبة الظرفية.

ويندفع بأن النسب التي يشتمل عليها الكلام بعضها يقتضي تقييد بعض، ولا ملزم بكون طرفي كل نسبة معنيين اسميين ملحوظين استقلالاً، وإنما يلزم ذلك في خصوص بعض النسب، كالنسبة الاسنادية والوصفية، فلابد من كون المبتدأ والخبر والفاعل والموصوف والوصف ونحوها معاني اسمية، ولا يطرد ذلك في جميع النسب، فالنسبة الحالية والشرطية إنما تكونان قيداً للنسب التي هي معاني حرفية، لا للمفردات التي هي معاني اسمية. وكذا الحال في نسبة الظرف الناقص في مثل: نام زيد في بيته، وسافر أمس.

وعلي ذلك لا مانع من تعلق الظرف بنسبة الاختصاص المستفادة من الإضافة،

ص: 313

كما في قولنا: هند زوجة زيد قبل سنة، وعمرو غريمه قبل شهر، ومنه المقام. كما جري عليه في ظاهر قوله (عليه السلام) في تتمة الحديث السابق: (أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا).

ومن هنا كان الظاهر تمامية ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في تقريب دلالة الصحيح علي ضمان البغل - الذي هو من القيميات - بقيمة يوم مخالفة الأجير الذي هو يوم الغصب، ويكون دليلاً علي المدعي.

هذا ولو سلم امتناع تعلق الظرف بالاختصاص الذي تفيده نسبة الإضافة أمكن كون (يوم خالفته) ظرفاً تاماً متعلقاً بكون عام محذوف صفة للقيمة علي تقدير تنكير بغل كما تضمنته النسخ المطبوعة، وحالاً منها علي تقدير تعريفه كما تقدمت حكايته عن بعض النسخ، لما هو المعروف من أن الجمل بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال، والتقدير: قيمة بغل كائنة أو ثابتة يوم المخالفه. فيكون قيداً للقيمة، كما لو كان متعلقاً بالاختصاص المستفاد من نسبة الإضافة.

ثم إنه ربما يحتمل كون (يوم مخالفته) متعلقاً بقوله (عليه السلام): (نعم) الذي هو في قوة قوله: يلزمك. بل هو الذي أصرّ عليه بعضهم فيكون المعني: يلزمك يوم مخالفته قيمة بغل، فلا يكون قيداً للقيمة، وتبقي القيمة غير محددة.

لكنه يشكل: أولاً: بأن مقتضي قوله (عليه السلام): (نعم) إقرار السائل علي ما ذكره من أن اللزوم عند التلف، وهو ينافي كون اللزوم يوم المخالفة. وحمله علي إقرار أصل اللزوم، مع التنبيه علي أنه ثابت من يوم المخالفة - خلافاً لما ذكره السائل - لا يناسب التعبير المذكور، وإنما يتجه لو كان التعبير هكذا: نعم قيمة بغل، لكن من يوم المخالفة. ولا يقاس ذلك ببيان الامام (عليه السلام) بكون اللازم هو القيمة، مع أنه أمر غير مسؤول عنه. للفرق بظهور أن السائل وإن أطلق اللزوم لكن من المعلوم أنه لا ريب في عدم لزوم دفع البغل بنفسه بعد فرض عطبه وموته، بل لزوم ما يناسب ضمان البغل، فيكون بيان الامام (عليه السلام) للزوم القيمة شرحاً وتفسيراً للمسؤول عنه، لا مخالفاً له،

ص: 314

ليحتاج إلي الاستدراك.

وثانياً: بأن اللازم يوم المخالفة هو البغل بنفسه دون قيمته، فيجب عليه إرجاعه مع القدرة ولو احتاج إلي مؤنة، كما لو شرد أو سرق، وتوقف إرجاعه علي بذل جهد أو مال، وإنما يجب دفع قيمته علي تقدير تلفه.

نعم، يمكن الحكم يوم المخافة بلزوم القيمة معلقاً علي التلف، لا فعلاً. لكن السؤال إنما تضمن اللزوم الفعلي، وظاهر الجواب إقرار ذلك، وبيان لزوم القيمة فعلاً، وهو لا يكون من يوم المخالفة. وإنما يتجه ذلك لو كان التعبير هكذا: نعم، لأنه لزمك من يوم المخالفة قيمة البغل إذا تلف.

وثالثاً: بأن لزوم القيمة يوم المخالفة إذا كان فعلياً، فمقتضي إطلاقه كون القيمة اللازمة هي قيمة ذلك اليوم، كما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره)، لأنها هي القيمة التي يصح نسبتها للبغل حينئذٍ، وتكون بدلاً عنه، ولا يحمل علي غيرها إلا بقرينة مخرجة عن مقتضي الإطلاق.

ومن هنا لا ينبغي التأمل في ظهور الفقرة المذكورة في عدم كون يوم المخالفة قيداً للزوم، بل للقيمة اللازمة، إما لكونه ظرفاً ناقصاً متعلقاً بالاختصاص الذي تضمنه نسبة الإضافة، أو لكونه ظرفاً تاماً وصفاً للقيمة أو حالاً منها.

نعم، قد يدعي أنه ينافي في ذلك أمران:

الأول: قوله:

(قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز. قال: عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترده عليه) ، حيث يظهر منه أن المعيار في القيمة يوم الرد.

لكنه يشكل: أولاً: بأنه وارد في تحديد أرش النقص، لا قيمة العين، واتحاد المعيار فيهما وإن كان قريباً جداً بالنظر للمرتكزات، إلا أنه ليس بحيث يلزم برفع اليد عن الدليل في أحدهما من أجل الدليل في الآخر، بل لا مانع من اختلاف المعيار فيهما، تبعاً لاختلاف الدليل في كل منهما.

وثانياً: أن من القريب كون الظرف، وهو (يوم تردّه عليه) لبيان أن المعيار في

ص: 315

الأرش هو مقدار العيب الموجود يوم ردّ البغل، كما أفتي بذلك بعضهم، لا أعلي مراتب العيب من حين حدوثه إلي حين الردّ، كما يحكي عن ظاهر آخرين.

كما يحتمل كونه بياناً للوقت المتعارف لتسليم الأرش، لأن وقت رد البغل هو الوقت المتعارف لتصفية الحساب بين الطرفين. ولعله إليه يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من كونه متعلقاً بقوله: (عليك). وإلا فلا إشكال ظاهراً في أن الأرش يثبت علي الغاصب بحدوث العيب، لا برد العين المعيبة.

وثالثاً: أن كلمة (يوم) غير موجودة في بعض النسخ. قال في الجواهر

:(الموجود فيما حضرني من نسخة التهذيب الصحيحة المحشاة: ترده عليه، من دون لفظ يوم) . نعم لا يخلو التعبير حينئذٍ عن تكلف، إذ الردّ لا يكون إلا للمأخوذ سابقاً، وهو في المقام البغل، دون الأرش. لكنه لا يكفي في تكذيب النسخة المذكورة. فالأولي في وجه عدم التعويل عليها أن ذلك موجب لسقوط نسخ التهذيب بالمعارضة، وتبقي رواية الكافي والاستبصار المشتملة علي لفظ (يوم) حجة، لعدم المعارض. فالعمدة في الإشكال هما الوجهان الأولان.

الثاني: قوله:

(أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا، فليزمك) . لظهوره في أن العبرة بقيمة يوم الاكتراء، لا بقيمة يوم المخالفة.

ويشكل بأنه حيث لا قائل بذلك، ولا منشأ له بعد كون المستأجر أميناً غير ضامن، فمن القريب حمله علي كون منشأ ذكر يوم الاكتراء سهولة إتيان صاحب البغل بمن يشهد له بقيمة البغل حينئذٍ، لإطلاعهم عليه، مع قرب المدة بين الاكتراء والمخالفة في مورد الصحيح، بحيث لا يختلف القيمة فيهما عادة. ولو تعذر الحمل المذكور كانت الفقرة من المشكل، فلا تصلح لمعارضة الفقرة المستدل بها، بحيث تلزم برفع اليد عنها.

وربما يستشكل في العمل بالفقرة المذكورة لوجوه أخر لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ظهور ضعفها. ومن ثم لابد من العمل عليها، والبناء علي ضمان المغصوب

ص: 316

بقيمة يوم الغصب.

وقد يؤيده ما في صحيح إسحاق بن عمار:

(سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يكون لي عليه المال، فيقبضني بعضاً دنانير وبعضاً دراهم، فإذا جاء يحاسبني ليوفيني يكون قد تغير سعر الدينار، أي السعرين أحسب له، الذي كان يوم أعطاني الدنانير أو سعر يومي [يوم أحاسبه] الذي أحاسبه ؟ فقال: سعر يوم أعطاك الدنانير، لأنك حبست منفعتها عنه) (1) .

فإن الحكم وإن لم يتوقف علي العلة المذكورة، لأن الدفع بنية الوفاء يستلزم تحقق الوفاء بقيمة المدفوع حين الوفاء به، إلا أن التعليل يتضمن أمراً ارتكازياً يناسب ما تضمنه الصحيح من ضمان الغاصب للعين المغصوبة بقيمتها يوم الغصب، لأنه حبس منفعتها عن مالكها حينئذٍ.

اللهم إلا أن يقال: حبس المنفعة في مورد الصحيح لا يستند لخصوص الآخذ، بل للطرفين معاً، لأنه بالاتفاق بينهما، فجعله سبباً لضمان الآخذ لا يخلو عن غموض. ولاسيما وأنه لا يمكن التعدي عن مورده لمثل الوديعة والعارية وغيرهما من الأمانات. فلابد من كونه تعليلاً تعبدياً يقتصر فيه علي مورده. أو يحمل حبس المنفعة فيه علي حبسها شرعاً، الراجع لسلطنته علي منفعتها بسبب ملكيته لها وفاء عن الدين. فلا يشمل الحبس العدواني من الغاصب الذي هو محل الكلام. ومن ثم لا مجال لتأييد المدعي به، فضلاً عن الاستدلال، وينحصر الدليل عليه بالصحيح.

بقي الكلام في القول بضمان أعلي القيم من حين القبض إلي حين التلف، وهو الذي صرح به الشيخ في الخلاف وغير موضع من المبسوط وعن موضع من النهاية، وتبعه جماعة. وقد يستدل له بوجوه:

الأول: ما في الخلاف وعن السرائر وغيرهما من عدم إحراز براءة الذمة إلا بدفع أعلي القيم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الصرف حديث: 2.

ص: 317

وفيه: أنه بناء علي امتناع انشغال الذمة بالعين مطلقاً أو بعد تلفها، وأن الذمة إنما تنشغل بالقيمة، فمرجع الشك للشك في مقدار ما تنشغل به الذمة، ولا ريب في أن المرجع فيه البراءة من الزائد، كما لو شك في مقدار المغصوب.

وأما بناءً علي انشغال الذمة بالعين ولو مع التلف فلا إشكال في عدم التكليف بأداء ما انشغلت به الذمة مع تلفه، بل ليس المكلف به إلا أداء بدله، ومع تردده بين الأقل والأكثر فالمرجع فيه البراءة أيضاً، ولاسيما مع عدم كونه ارتباطياً، بل انحلالياً.

الثاني: ما عن الوحيد (قدس سره) من أنه مقتضي قاعدة نفي الضرر، حيث فوت الغاصب علي المالك أعلي القيم بحبسه للعين، فلو لم يضمنه لزم الضرر في حقه.

ويظهر ضعفه مما سبق في المسألة الثالثة عشرة عند الكلام في ضمان اليد من عدم نهوض قاعدة نفي الضرر بأصل الضمان، فضلاً عن خصوصياته. علي أن المالك قد لا يكون في مقام بيع العين حين ارتفاع قيمتها، أو مطلقاً، أو لم يكن يتيسر له بيعها بقيمتها حينئذٍ ولو لعدم تهيؤ المشتري منه، فلا يكون الغاصب قد فوت عليه ذلك.

الثالث: أن العين مضمونه في تمام أزمنة وجودها تحت يد الغاصب، ومنها زمان ارتفاع قيمتها، فتكون مضمونة بأعلي القيم، كما تكون مضمونة ببقية القيم، ويدخل الأقل في الأكثر، إذ لا ريب في عدم لزوم الجمع بين القيم المتعاقبة في الذمة.

بل لو قيل بانشغال الذمة بالعين حتي بعد تلفها، أو بمثلها بعد تلفها حتي في القيميات، لزم ضمان أعلي القيم إلي حين الأداء، كما عن المحقق في أحد قوليه، وصرح بالشرايع بالتردد في ذلك.

وفيه: أولاً: أنه حيث لا ريب في وجوب أداء العين مع وجودها، فليس وجوب أداء القيمة إلا تقديرياً معلقاً علي تعذر أداء العين، من دون تحديد للقيمة التي يجب دفعها فعلاً، بل اللازم الرجوع فيه للدليل الخاص - كالصحيح الذي عرفت الكلام في مفاده - أو للقاعدة التي سبق الكلام في أن مقتضاها قيمة زمان التلف أو

ص: 318

زمان الأداء.

وثانياً: أنه لو تم فرض انشغال الذمة بالقيمة حين وجود العين فلا وجه للبناء علي الانشغال بتمام القيم مع التداخل. بل المناسب هو انشغال الذمة بها علي نحو التعاقب، بمعني أن العين مضمونة في كل زمان بقيمتها في ذلك الزمان، لأنها هي البدل عنها حينئذٍ، وعلي ذلك تستقر القيمة الثابتة للعين في آخر زمان ضمانها، وهو زمان التلف أو زمان الأداء علي الكلام السابق. ولو غضّ النظر عن ذلك فالمتيقن هو انشغال الذمة بقيمة يوم الغصب مع الشك في تبدلها بقيمة أخري، فتستصحب.

الرابع: صحيح أبي ولاد فقد ادعي في المسالك والروضة أن فيه دلالة علي القول المذكور. ولم يتضح وجه دلالته عليه. وربما يبتني علي ما سبق من كون (يوم خالفته) ظرفاً متعلقاً باللزوم المستفاد من قوله (عليه السلام): (نعم)، مع تنزيله علي بيان مبدأ الضمان، ويكون مفاده أنه مضمون بالقيمة من يوم المخالفة إلي يوم التلف، فيدل علي ضمان أعلي القيم بالتقريب المتقدم في الوجه السابق.

لكن مما سبق يظهر ضعفه: تارة: بأن الظرف المذكور قيد للقيمة، لا للزوم المستفاد من قوله (عليه السلام): (نعم). وأخري: بأنه لو تمّ كون الظرف قيداً للزوم فهو ظاهر في بيان زمان الضمان، لا مبدئه، ويكون مقتضاه حينئذٍ مراعاة قيمة يوم المخالفة، كما سبق. وثالثة: بأنه لو تمّ وروده لبيان مبدأ الضمان واستمراره فهو يقتضي ضمان القيم بنحو التعاقب، المستلزم لاستقرار قيمة آخر أزمنة ضمان العين، لا بنحو التداخل، ليستلزم استقرار أعلي القيم. فلاحظ.

بقي في المقام أمران:

الأول: أن المتيقن مما سبق هو ضمان المغصوب في حق الغاصب أما في حق من يأخذه من الغاصب قهراً عليه، أو بأذنه، أو بعقد الفضولي - كما في محل الكلام - فالظاهر العموم له.

أما بناءً علي الضمان بقيمة يوم التلف أو يوم الأداء، فظاهر، لابتنائهما علي أن

ص: 319

(مسألة 19): إذ رجع المالك علي المشتري ببدل العين - من المثل أو القيمة - أو بدل نمائها - من الصوف واللبن ونحوهما - أو بدل

---------------

ذلك مقتضي القاعدة، فلا يفرق فيها بين موارد ضمان اليد.

وأما بناءً علي الضمان بقيمة يوم الغصب، للنص المتقدم، فلقرب إلغاء خصوصية الغاصب الأول، وأن المدار علي كل آخذ بلاحق. نعم يتجه ضمان الغاصب الثاني ومن بعده بقيمة يوم غصبه هو، ووضع يده علي العين بلا حق، لا بقيمة يوم غصب الأول، كما هو ظاهر.

هذا وأما المقبوض من المالك بالعقد الفاسد لو كان مضموناً فالظاهر أنه بحكم المغصوب - كما عن السرائر دعوي الإجماع عليه - لأنه من أفراده بعد فرض عدم سقوط ضمانه بالإذن اللازم من إجراء العقد، فهو مقبوض بلاحق، فيكون مغصوباً. ومجرد الجهل بالغصب - لو فرض - لا يمنع من جريان حكمه، كما لو أخذ الشخص ملك غيره لتخيل أنه ملك له بنفسه.

الثاني: إذا تعذر تسليم المغصوب من دون تلف - لسرقة أو غرق أو ضياع أو نحوها من موارد بدل الحيلولة - فلا إشكال في أن المعيار في ضمانه علي قيمة يوم الأداء، بناء علي أن المرجع في الضمان هو القاعدة، حيث سبق أنها تقتضي ذلك. بل لا يبعد ذلك حتي بناء علي أنها تقتضي الضمان بقيمة يوم التلف، لفرض عدم التلف. ومجرد تعذر رد العين لا يقتضي استحقاق المالك للقيمة. ولذا سبق أن له الانتظار برجاء تحصيل العين، وأنه لو تجددت القدرة عليها وجب أداؤها.

وأما بناءً علي ما سبق من ظهور صحيح أبي ولاد في ضمان قيمة يوم الغصب، فهو وإن اختص بالتلف إلا أنه لا يبعد إلغاء خصوصيته عرفاً، وفهم أن من شؤون الغصب ضمان المغصوب بعينه، ومع تعذر تسليمه فالغاصب ملزم بقيمة يوم الغصب. فالتفريق بين التلف وبين مثل الضياع والسرقة وغيرها يحتاج إلي عناية مغفول عنها جداً. وإن كان الاحتياط بالصلح حسناً أو لازماً. فلاحظ.

ص: 320

(321)

المنافع المستوفاة أو غير ذلك. فإن كان المشتري مغروراً من قبل البايع - بأن كان جاهلاً بأنه فضولي، فأخبره البايع بأنه مالك، أو ظهر له منه أنه مالك (1) رجع المشتري علي البايع بجميع الخسارات التي خسرها للمالك (2)،

---------------

(1) وكذا لو أخبره أو ظهر له منه أنه مأذون من المالك أو وكيل عنه أو ولي عليه أو نحو ذلك، مما يخرج البيع عن الفضولية.

(2) أما إذا كان المدفوع في مقابل أمر لم يحصل له نفع منه - كالمنافع غير المستوفاة - بناء علي كونها مضمونة، وما أنفقه علي العين إذا استرجعها المالك، وغير ذلك فهو المعروف بينهم. وقد يستدل عليه بوجوه:

الأول: الإجماع، حيث صرحوا بذلك من دون خلاف يعرف منهم، وظاهر غير واحد الإجماع عليه، بل عن المحقق الثاني في شرح الإرشاد دعواه صريحاً، وفي الجواهر دعوي الإجماع بقسميه عليه.

لكن تقدم منّا الإشكال في الاستدلال به في نظائر المقام من المسائل التي لم يعرف الكلام فيها إلا في عصر تحرير الفتاوي، من دون أن تكون مورداً للنصوص، ليعرف مذهب قدماء الأصحاب فيها متصلاً بعصور المعصومين (صلوات الله عليهم) من تدوينهم لتلك النصوص، وظهور حالهم في العمل بها، ولا مورداً لسيرة ظاهرة متصلة بعصورهم (عليهم السلام) يعلم بها حكمهم (عليهم السلام)، ويعرف بها رأي فقهاء شيعتهم.

الثاني: قاعدة نفي الضرر. ويظهر اندفاعه مما تقدم غير مرّة من أن القاعدة المذكورة إنما تنهض برفع الأحكام الضررية، لا بتشريع أحكام يتدارك بها الضرر.

مضافاً إلي ما ذكره غير واحد من أن رجوع المشتري علي البايع الفضولي ضرر علي البايع، فلا تنهض به القاعدة.

اللهم إلا أن يقال: منصرف أدلة قاعدة نفي الضرر الإرفاق بغير الضار - الذي هو في المقام عرفاً البايع - فلا تمنع من تحميله الضرر، ولذا لا يكون مثل ضمان الإتلاف

ص: 321

منافياً لقاعدة نفي الضرر عرفاً ومخصصاً لها. ومن هنا لا تمنع القاعدة من تضمين الضار لو نهضت بتشريع الحكم الذي يتدارك به الضرر.

نعم، كما يكون تدارك الضرر في المقام بتضمين البايع يكون بوجه آخر، كتضمين الوسيط في البيع، وتضمين بيت المال، وغيرهما، ولا تنهض قاعدة نفي الضرر بتعين الوجه الذي يتدارك به الضرر في المقام.

الثالث: قاعدة الغرور، التي قيل باستفادتها من النبوي المذكور في كلام غير واحد، بل تكرر في كلام سيدنا المصنف (قدس سره) أنه المشهور: (المغرور يرجع إلي من غره)، بلحاظ أن المشتري مع جهله بالفضولية مغرور من قبل البايع الفضولي، فيرجع عليه بما خسره نتيجة غروره.

لكن لم نعثر علي النبوي المذكور في كتب الحديث للخاصة والعامة. كما لم نعثر في كتب الحديث للخاصة علي رواية ذلك عن أحد الأئمة (عليهم السلام). نعم في جامع المقاصد: (وظاهر قوله (عليه السلام): المغرور يرجع علي من غره) و(1) ونحوه في الجواهر(2) وحكي عن حاشية الإرشاد للمحقق الثاني ولا يبعد ظهور ذلك منهما في أنه من كلام أحد الأئمة (عليهم السلام).

إلا أنه لا مجال للوثوق بكونه رواية عن أحد المعصومين (صلوات الله عليهم) بعد ما سبق منّا - وذكره غير واحد - من عدم وجوده في كتب الحديث. ولاسيما وأنا لم نعثر حتي الآن علي من نسبه للرواية قبل المحقق الثاني. والمظنون أنه قاعدة ارتكازية في الجملة تناسب بعض النصوص الآتية والفتاوي التي نقلها العامة عن بعض الصحابة التبست عليه بالرواية.

ومثل ذلك في الإشكال ما ذكره النراقي في المستند، وبعض الأعاظم (قدس سره) - ويظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) في المسألة السادسة من خاتمة كتاب المضاربة من مستمسكه - من انجباره بالشهرة. حيث تكرر منا أن الشهرة إنما تجبر الحديث المتداول

********

(1) جامع المقاصد ج: 13 ص: 295.

(2) جواهر الكلام ج: 37 ص: 145.

ص: 322

بين الأصحاب، المروي بطرقهم الذي يظهر منهم التعويل عليه، دون ما روي بهذا الوجه. ولاسيما مع ما سبق من احتمال كونه قاعدة ارتكازية في الجملة من دون أن تكون حديثاً عن المعصوم.

هذا مضافاً إلي أن المضمون المذكور مما لا يمكن البناء عليه علي إطلاقه، لشموله لما إذا كان الغار أجنبياً عن المعاملة، كما لو أقدم زيد علي الشراء من بضاعة معينة اغتراراً بشراء عمرو منها فبانت معيبة، ولما إذا كان الغرور في غير المعاملات، كما لو سلك زيد طريقاً معيناً اغتراراً بمدح عمرو له، أو بسلوكه إياه، فلحقه فيه ضرر مالي أو بدني، ولما إذا كان الغار جاهلاً بالحال، أو غافلاً عن اغترار الغير به، مع عدم الإشكال بينهم ظاهراً في عدم العمل عليه في غير المعاملات التي يكون الغارّ طرفاً فيها. وذلك مستلزم لكثرة التخصيص في العموم بالنحو المسقط له عن الحجية، لكشفه عن خلل فيه، موجب لجريان حكم المجمل عليه لو كان حجة في نفسه.

ومن ذلك يظهر الإشكال فيما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) - في المسألة الثلاثين من كتاب المساقاة من مستمسكه - بعد الإشارة لاحتمال عدم وجود النبوي المذكور من الاستدلال علي القاعدة المذكورة بالارتكازيات القاضية بأن سبب الضمان مجرد التغرير والإيقاع في خلاف الواقع، سواءً كان عن علم أم عن جهل.

إذ فيه: أن الارتكازيات علي العموم المذكور ممنوعة جداً، بل لا يظهر منهم الالتزام به. واختصاصه بالمعاملات في حق من هو طرف المعاملة، بلا وجه ظاهر.

نعم، لا ريب في وجود مناسبة ارتكازية بين الخديعة - بتعمد الإيهام والتغرير - والضمان. إلا أن في بلوغ المناسبة المذكورة حداً يقتضي الحكم بالضمان - بأن يكون الضمان مقتضي الارتكازيات العرفية التي يجب العمل عليها ما لم يثبت الردع الشرعي - إشكال، بل منع. غاية الأمر أنه لو ورد الحكم بضمان الخادع شرعاً فالحكم المذكور ليس تعبدياً صرفاً، بل هو ارتكازي، وذلك وحده لا يكفي في حجية الارتكاز ونهوضه بنفسه بالاستدلال.

ص: 323

الرابع: أن البايع الفضولي في المقام وإن لم يتلف المال علي المشتري بالمباشرة، إلا أنه السبب في إتلافه عليه، والسبب أقوي من المباشر.

وفيه: أنه لا مجال للبناء علي عموم تضمين السبب، كما يظهر مما سبق في قاعدة الغرور، فإنه أعم من قاعدة الغرور، وإنما يلتزم بذلك فيما إذا كان الفعل يستند عرفاً للسبب دون المباشر، ويكون المباشر كالآلة كما لعله في مثل ما إذا أغري كلبه بقتل حيوان الغير، ولا يكفي في ذلك مجرد الإيهام والتغرير. وحينئذٍ يكون السبب هو الضامن ابتداء، لا أن الضامن يرجع إليه، كما هو المدعي في المقام.

نعم، تضمنت النصوص تضمين شاهد الزور(1). لكنها مختصة بموردها، ولا قرينة علي التعدي بها عنه. مع أنها دلت علي تضمينه بالمباشرة، لا علي رجوع الضامن عليه، نظير ما سبق. ومن هنا يشكل إثبات العموم المذكور.

نعم، في صحيح جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها، ثم يجيء مستحق الجارية. قال: يأخذ الجارية المستحق، ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد، ويرجع علي من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه) (2) ومقتضي إطلاقه ضمان البايع قيمة الولد وإن لم يعلم بالحال ولم يكن مدلساً للجارية وخادعاً للرجل. ولا ينافيه سكوت بعض النصوص عن ذلك، حيث قد لا تكون في مقام البيان من هذه الجهة. بل لو فرض ظهورها في عدم رجوع المشتري علي البايع تعين الخروج عنها بالصحيح، لأنه نص في الرجوع.

لكنه مختص بقيمة الولد. وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن في توصيف قيمة الولد بأنها أخذت منه نوع إشعار بعلية الحكم، فيطرد في سائر ما أخذ منه. فهو غير ظاهر، بل المتيقن منه مجرد التوصيف لبيان توقف رجوعه بها علي فعلية خسارته لها وأخذها منه. ولا يكفي مجرد استحقاق المالك لها من دون أن يأخذها منه.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 18 باب: 10، 11، 12، 13، 14 من أبواب الشهادات.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 5.

ص: 324

علي أن من القريب اختصاص الرجوع بقيمة الولد بصورة علم البايع، لمعتبر إسماعيل بن جابر عنه (عليه السلام):

(سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل نظر إلي امرأة فأعجبته، فسأل عنها، فقيل: هي ابنة فلان، فأتي أباها، فقال: زوجني ابنتك، فزوجه غيرها، فولدت منه، فعلم بها بعد أنها غير ابنته، وأنها أمة. قال: ترد الوليدة علي مواليها، والولد للرجل. وعلي الذي زوجه قيمة ثمن الولد يعطيه موالي الوليدة، كما غرّ الرجل وخدعه) (1) . فإن تعليل غرامته لقيمة الولد بأنه غرّ الرجل وخدعه كالصريح في أن علة الرجوع عليه ليس هو إيقاعه للعقد فضولاً، بل هو التغرير والخدع المختص بصورة علم الفضولي بالحال.

نعم، في معتبره الآخر عنه (عليه السلام): (قلت له: رجل كان يري امرأة تدخل إلي قوم وتخرج، فسأل عنها، فقيل له: إنها أمتهم، واسمها فلانة، فقال لهم: زوجوني فلانة، فلما زوجوه عرفوا [علي. يب. صا] أنها أمة غيرهم. قال: هي وولدها لمولاها. قلت: فجاء فخطب إليهم أن يزوجوه من أنفسهم، فزوجوه [من غيرهم. صا] وهو يري أنها من أنفسهم، فعرفوا بعد ما أولدها أنها أمة. فقال: الولد له، وهم ضامنون لقيمة الولد لمولي الجارية)(2) لصراحته في أن معرفتهم بأنها أمة بعد زواجه بها واستيلاده لها، ومع هذا حكم فيه بضمانهم لقيمة الولد.

لكن من القريب جداً أن يكون الحديث مصحفاً، وأن الصحيح: (فعرف بعد ما أولدها أنها أمة) أو: (فعرّفوه...). لظهور أن اشتباه جارية غيرهم ببنتهم عليهم بعيد جداً. ولاسيما مع سبق عدم تضمينهم قيمة الولد مع سبق جهلهم بأن الأمة التي زوجوها ليست لهم، ومع قوله

:(فزوجوه [من غيرهم] وهو يري أنها من أنفسهم) ، حيث يشعر بأن الاشتباه مختص به. وهو المناسب لما في الاستبصار من تعليل الحكم فيه بضمانهم قيمة الولد بأنهم دلسوها عليه.

ومن ثم يصعب الخروج به عن المعتبر الأول مع وضوح دلالته. ومن هنا يتجه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 7 من أبواب العيوب والتدليس حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 67 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 7.

ص: 325

ما ذكرنا من تقييد صحيح جميل بالمعتبر المذكور، وحمله علي خصوص صورة علم البايع بالحال وتغريره بالمشتري وخديعته له.

اللهم إلا أن يقال: صحيح جميل وارد في بايع الجارية فضولاً، ومعتبر إسماعيل وارد في مزوجها فضولاً، ومع اختلاف موردهما لا مجال لتقييد الصحيح بالمعتبر، بل يعمل بإطلاق كل منهما في مورده.

لكن الإنصاف أن إلغاء خصوصية مورد كل منهما عرفاً قريب جداً. فإن تمّ ذلك، وإلا فالظاهر إلغاء خصوصية قيمة الولد في صحيح جميل أصعب من إلغاء خصوصية المزوج في المعتبر، بل يتعين إلغاء خصوصية المزوج في المعتبر بلحاظ عموم التعليل فيه بالخديعة. ولازم ذلك الاقتصار في عموم الضمان لحال الجهل وعدم الخديعة علي خصوص قيمة الولد في البايع الفضولي، والرجوع في غير قيمة الولد مما يغرمه المشتري إلي عموم التعليل المذكور في المعتبر، فيبني علي ضمانه مع علم البايع وخديعته للمشتري، دون ما إذا لم يكن خادعاً له لجهله بالحال.

ولاسيما مع ورود التفصيل المذكور في ضمان المهر مع تدليس المرأة أو وليها في النكاح، حيث يصلح ذلك لتأييد الحكم في المقام. بل يصلح لأن يكون دليلاً بلحاظ عموم التعليل في بعض نصوصه.

كصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): (سألته عن المرأة تلد من الزني، ولا يعلم بذلك أحد إلا وليها، أيصلح أن يزوجها ويسكت علي ذلك إذا كان قد رأي منها توبة أو معروفاً؟ قال: إن لم يذكر ذلك لزوجها، ثم علم بعد ذلك، فشاء أن يأخذ صداقها من وليها بما دلس عليه كان ذلك علي وليها، وكان الصداق الذي أخذت لها، لا سبيل عليها فيه، بما استحل من فرجها. وإن شاء زوجها أن يمسكها فلا بأس)(1) ، وفي معتبر رفاعة بن موسي عنه (عليه السلام):

(وسألته عن البرصاء، فقال: قضي أمير المؤمنين (عليه السلام) في امرأة زوجها وليها وهي برصاء أن لها المهر بما استحل من فرجها، وأن المهر علي الذي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب العيوب والتدليس حديث: 1.

ص: 326

زوجها. وإنما صار عليه المهر لأنه دلسها. ولو أن رجلاً تزوج امرأة وزوجه إياها رجل لا يعرف دخيلة أمرها لم يكن عليه شيء، وكان المهر يأخذه منها) (1) ، ونحوه معتبر الحلبي المروي في مستطرفات السرائر(2).

فإن المتحصل من مجموع هذه النصوص عموم الرجوع علي الغار الخادع والمدلس بجميع الخسارات التي تقع بسبب خديعته له وتدليسه عليه.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن عموم التعليل في هذه النصوص إنما يقتضي الرجوع إلي غير المزوج في المهر إذا دلس، ولا يقتضي الرجوع في غير المهر من الخسارات علي المزوج المدلس، فضلاً عن غيره ممن يدلس.

ففيه: أن عموم التعليل لغير مورده تابع لعمومه ارتكازاً، لظهور أن بيان الحكم لعلة الحكم لما لم يكن لازماً علي الامام (عليه السلام)، لوجوب التعبد بحكمه وإن لم تعرف علته، فظاهر ذكره للعلة اهتمامه بتقريب وجه حكمه للمخاطب وإقناعه له به، وذلك يقتضي حمل التعليل علي كونه ارتكازياً، فيكون تابعاً لعمومه ارتكازاً، ومن الظاهر أن ارتكازية تضمين الغارّ الخادع كما لا تختص بالمزوج لا تختص بالمهر ولا بقيمة الولد، بل تعمّ كل ما يخسره المغرور بسبب التغرير والخديعة التي قام بها الغار، فيتعين البناء علي عموم التعليل لذلك.

نعم، قد يستشكل في العموم المذكور بأنه ليس بناء الأصحاب علي الضمان مع الخديعة والتغرير في غير ما إذا كان الغار الخادع طرفاً في المعاملة، كما لو خدعه فأقدم علي معاملة ليس الخادع طرفاً فيها، فخسر فيها، فضلاً عما إذا كان التغرير والخديعة في غير المعاملات، كما لو خدعه فسلك طريقاً تعرض فيه للضرر المالي أو البدني، أو قام بعمل فأضر به أو غير ذلك.

لكن ذلك لا يقتضي رفع اليد عن عموم التعليل، بل إن أمكن الالتزام بالعموم علي سعته وتجاهل موقف الأصحاب فهو، وإن لم يكن - كما هو غير بعيد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 2 من أبواب العيوب والتدليس حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 2 من أبواب العيوب والتدليس ذيل حديث: 2.

ص: 327

- فليحمل العموم بقرينة موقفهم علي خصوص ما إذا كان الغار طرفاً في المعاملة، بأن يراد بالتغرير والخدع هو التغرير العملي الذي يكون هو السبب في الخسارة، لأن المعاملة حيث كانت هي السبب في الخسارة، فالذي يقوم بها يكون هو المسبب عملاً للخسارة، فيكون التغرير والخديعة شرطاً في مضمنية التسبيب المذكور، لا تمام العلة في الضمان. ولا ريب في أن مناسبة الخديعة للضمان أقوي ارتكازاً مع التسبيب المذكور، وحمل عموم التعليل علي خصوص ذلك ليس عزيزا بلحاظ مورده وبضميمة بناء الأصحاب وفهمهم.

وبعبارة أخري: ظاهر التعليل بدواً كون الخديعة تمام السبب للضمان، تبعاً للمناسبة الارتكازية بينهما. فإن لم يمكن البناء علي ذلك تعين حمله علي كونها شرطاً في مؤثرية التسبيب المذكور للضمان، تبعاً للمناسبة الارتكازية بينهما التي هي أقوي من المناسبة السابقة وآكد، ولا وجه لرفع اليد عن عموم التعليل والاقتصار به علي مورده، ليكون تعليلاً تعبدياً غير ارتكازي.

ولاسيما مع تعدد مورده، حيث ورد في المهر في حق الولي، وفي قيمة الولد في حق المزوج فضولاً، وليس بينهما قدر جامع عرفي ارتكازي غير ما ذكرنا. ومن ثم كان هو المتعين. ومرجع ذلك إلي اختصاص قاعدة الغرور بصورة التغرير الملازم لعلم الغار بالحال، وعدم عمومها لمطلق الاغترار بسببه وإن كان جاهلاً بالحال، كما قد يظهر من الأصحاب. كما أنها تختص بما إذا كان الغار طرفاً في المعاملة، كما يظهر من الأصحاب.

ومن ذلك يظهر الحال فيمن قدم لغيره طعاماً فأكله، حيث ينسب للأصحاب أنه إن قدمه علي أنه للدافع آذنا له بأكله فانكشف أنه للآكل فالذي قدمه ضامن للطعام، وإن قدمه علي أنه للآكل فانكشف أنه للدافع فالآكل لا يضمن الطعام، وفي الصورتين لو انكشف أنه لثالث لا يأذن بأكله فالآكل يضمن الطعام لمالكه، ويرجع بما خسره علي من قدم له الطعام. من دون فرق في جميع ذلك بين جهل من قدم الطعام

ص: 328

بالواقع، وعلمه به مع تدليسه الحال علي من قدم له الطعام وخدعه له.

فإن الظاهر انحصار الدليل عليه عندهم بقاعدة الغرور، بناء منهم علي عمومها للجاهل غير الخادع. وحيث عرفت منا قصورها عنه واختصاصها بصورة الخديعة فاللازم التفصيل.

نعم، لا يبعد عدم الضمان لمن قدم طعام نفسه بتخيل أنه طعام من قدمه له، أو طعام شخص ثالث أذن له في أكله، حيث لا يبعد بناء العقلاء علي عدم الضمان له لو انكشف الحال، لهدر حرمة ماله بسبب تقديمه له بل حتي لو لم يقدمه، وإنما أخبر بحاله خطأ، من أجل أن يعمل الطرف الآخر علي خبره.

ولا أقل من قصور دليل سببية الإتلاف للضمان عن ذلك، لأنه إنما ورد في موارد متفرقة خالية عن الخصوصية المذكورة، وهي التغرير من صاحب المال ولو كان جاهلاً بالحال.

لكن هذا أجنبي عما نحن فيه من كون التغرير مطلقاً - ولو جهلاً بالحال - سبباً للضمان، بل هو راجع إلي كونه مسقطاً لحرمة المال ورافعاً لضمان ما من شأنه أن يضمن.

بقي الكلام فيما يغرمه المشتري للمالك مما فيه نفع عائد له، كالمنافع التي استوفاها والنماءات التي استهلكها من اللبن والصوف وغيرهما. والمشهور - كما في الجواهر - رجوعه علي البايع، وعن التنقيح أن عليه الفتوي. وهو المتجه مع علم البايع وخديعته للمشتري، لعموم ما سبق من نصوص ضمان الغار الخادع. ومجرد انتفاعه بما ضمنه للمالك لا يقتضي قصوره بعد إقدامه علي الانتفاع به مجاناً بسبب تغرير البايع، وربما لا يقدم علي الانتفاع المذكور لو لم يكن مغروراً.

ولاسيما مع ورود النصوص المذكورة في قيمة الولد الذي هو من سنخ المنفعة عرفاً، ولو لم يكن منه حقيقة. بل في المهر الذي هو في مقابل الاستمتاع، وهو انتفاع حقيقي. ومجرد عدم كونه أجراً - ولذا لا يتكرر بتكرر الاستمتاع - لا ينافي كونه في مقابل الانتفاع. ولا أقل من صعوبة التفريق عرفاً بين قيمة الولد والمهر وغيرهما من

ص: 329

سائر موارد الانتفاع بوجه مضمن.

ومن ذلك يظهر ضعف ما في الرياض، ونسبه للشيخ - في الخلاف والمبسوط - والحلي من عدم الضمان مطلقاً. لقصور قاعدة الغرور عن صورة عدم ترتب الضرر، كما في المقام، لفرض كون الخسارة في مقابل ما استوفاه من المنفعة.

إذ فيه: أن قاعدة الغرور - بعد اختصاصها بصورة التغرير والخديعة - لما كانت مستفادة من النصوص السابقة فإطلاقها في تلك النصوص يشمل صورة عدم ترتب الضرر، بل يكفي فيها ترتب الخسارة غير المتوقعة، ولاسيما بلحاظ مورديها، كما سبق.

مع أن ترتب النفع قد يمنع من صدق الضرر عرفاً إذا كان من شأن المغرور استيفاء المنفعة بوجه مضمون لو لم يتيسر له استيفاؤها بوجه غير مضمون، أما إذا لم يكن من شأنه ذلك فالظاهر عدم مانعيته من صدق الضرر.

أما مع عدم خديعة البايع للمشتري، لجهله بالحال، فلا مجال للبناء علي الضمان، لما سبق من قصور دليل الضمان عنه. بل لو كان الدليل هناك هو الإجماع فالمفروض فقده في المقام.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من تحقق الإجماع ظاهراً في نظير المسألة، وهو رجوع آكل طعام الغير إلي من غرّه بدعوي أنه ملكه وقد بذله وأباحه له. فهو كما تري، فإن حصول الإجماع هناك لا يناسب الخلاف هنا. فلو فرض تحققه كشف ذلك عن اضطراب الأصحاب في المسألة، بنحو لا يناسب التعويل علي إجماعهم في المورد المذكور، فضلاً عن التعدي منه لما نحن فيه، بحيث يكون دليلاً مخرجاً عن الأصل القاضي بعدم الضمان.

بقي شيء، وهو أن ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من رجوع المشتري علي البايع ببدل العين من المثل أو القيمة لو رجع به المالك عليه لا يتم علي إطلاقه، لأن المشتري لم يقدم بسبب الغرور علي أخذ العين مجاناً، بل في مقابل الثمن، وحيث أن الثمن

ص: 330

(331)

سواءً كان البايع عامداً في تغريره أم غير عامد (1). وإن لم يكن مغروراً من البايع - كما إذا كان عالماً بالحال - لم يرجع عليه بشيء من الخسارات المذكورة (2).

---------------

يرجع له - كما يأتي - لفرض عدم نفوذ البيع، فالبدل الذي يأخذه المالك منه إن كان دون الثمن أو مساوياً له تعين عدم الرجوع به عليه، لأن خسارة هذا المقدار لم تكن بسبب التغرير، بل بسبب إقدامه علي أخذ العين في مقابل الثمن. وإن كان أكثر من الثمن تعين رجوعه عليه بالزائد لا غير، لأنه هو الذي يخسره بسبب التغرير والخديعة، دون ما يقابل الثمن. ولذا جعل شيخنا الأعظم (قدس سره) ومن تبعه موضوع الكلام هو الزيادة لا غير. وكأن هذا هو مراد سيدنا المصنف (قدس سره)، لأنه قد صرح بذلك في نهجه، واستدل عليه بما ذكرنا. وإن كان إطلاق كلامه هنا لا يناسبه.

بل لا يبعد عدم الرجوع بالخسارات إلا بعد استيفاء الثمن لو زاد علي البدل من المثل والقيمة. فمثلاً إذا اشتري ناقة بألف وتلفت، وكانت قيمتها السوقية خمسمائة، فضمنها المشتري، ورجع عليه المالك أيضاً بما استوفاه من نمائها ومنفعتها فلا يرجع هو علي البايع الفضولي بما يدفعه للمالك من ثمن النماء والمنفعة إلا بما زاد علي الخمسمائة الباقية من الثمن، لأنه هو الذي خسره نتيجة التغرير والخدمة. أما الخمسمائة فهو قد أقدم علي خسارتها وخسارة الخمسمائة التي دفعها بدلاً عن الناقة بشرائه للناقة بألف.

نعم، إذا لم تتلف العين وأرجعها بعينها للمالك واسترجع الثمن فلا تستثني زيادة الثمن من قيمتها السوقية مما يخسره للمالك من قيمة النماء والمنفعة التي استوفاها، لأنه لم يقدم علي خسارة الألف إلا علي تقدير بقاء الناقة له أو تلفها عنده، لا مطلقاً. وهو المناسب لإطلاق صحيح جميل الحاكم بالرجوع بقيمة الولد مع رجوع الجارية بعينها.

(1) مما سبق يظهر اختصاص الرجوع بما إذا كان عامداً، بحيث يكون غارّاً خادعاً.

(2) بلا خلاف ولا إشكال، كما في الجواهر، لعدم الموجب للضمان بعد قصور

ص: 331

دليله عن صورة عدم التغرير.

نعم، له الرجوع عليه بالثمن المسمي بالبيع، لفرض عدم نفوذ البيع، وبقاء الثمن المذكور في ملكه. وتفصيل الكلام في ذلك: أن البايع الفضولي إن لم يكن قد أخذ الثمن بعد فلا إشكال في عدم وجوب تسليمه له، وجواز احتفاظ المشتري به، لعدم خروجه عن ملكه، وعدم استحقاق أحد له عليه بعد فرض عدم نفوذ البيع.

وإن كان البايع قد قبض الثمن، فإن كان المشتري جاهلاً بالحال رجع به، كما ذكره غير واحد، وصرح في مفتاح الكرامة بالإجماع عليه، وفي الجواهر بالإجماع بقسميه. لما سبق من عدم خروجه عن ملكه، فله المطالبة به مع بقاء عينه، وببدله مع تلفه، لكونه مضموناً بضمان اليد بعد كونها عادية. ومجرد تسليط المشتري عليه بدفعه له لا يخرجها عن العدوان بعد ابتناء التسليط المذكور علي الخطأ في كونه مستحقاً لأخذه، لا علي تمليكه له، كي لا يضمنه بالإتلاف ونحوه، ولا علي استئمانه عليه، كي لا يضمنه بضمان اليد. مضافاً إلي ما سبق في صحيح جميل من التصريح برجوع المشتري علي البايع بثمن الجارية.

وإن كان المشتري عالماً بالحال فإن كان الثمن باقياً بعينه فمقتضي إطلاق جماعة عدم رجوعه به، بل نسب في التذكرة عدم الرجوع به مطلقاً إلي علمائنا، بنحو يظهر منه دعوي الإجماع عليه، كما يأتي نقل كلامه، وقال في الجواهر

:(وفي تلخيص التلخيص: أطلق الأصحاب كافة ذلك، بل عن الإيضاح أنه نسب عدم الرجوع مع بقاء العين فضلاً عن تلفها تارة إلي قول الأصحاب, وأخري إلي نصهم) ، وفي جامع المقاصد: (وظاهر كلام الأصحاب عدم الرجوع مطلقاً)، ونحوه في الروضة.

وقد يوجه بأنه قد سلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه له، وهو راجع إلي إعراضه عنه وإباحته له. لكنه - مع عدم تماميته كما سيأتي - لا يمنع من رجوعه به مع بقاء عينه، لظهور عدم لزوم الإباحة المذكورة. بل لا يمنع من رجوعه به حتي لو فرض تملك البايع له - بناء علي الإعراض والإباحة المذكورين - وعدم اكتفائه

ص: 332

بقبضه علي أنه مباح له. لوضوح أنه حينئذٍ كالهبة التي يجوز الرجوع بها إلا في الرحم أو مع التصرف مع عدم بنائهم علي قصر الحكم بعد الرجوع عليهما. ومن ثم صرح في التذكرة وفي القواعد وجامع المقاصد والمسالك والروضة وغيرها بجواز الرجوع حينئذٍ. ويأتي في صورة التلف ما ينفع في المقام إن شاء الله تعالي.

وأما مع التلف فعدم الرجوع كالمتيقن من معقد الإجماع المدعي فيما سبق. وقد يوجه - مع ذلك - بما أشرنا إليه آنفاً - تبعاً لغير واحد - وفصل الكلام فيه شيخنا الأعظم (قدس سره). وحاصله: أن المشتري قد سلط البايع علي الثمن مع علمه بعدم استحقاقه له، ولم يسلطه في مقابل ماله، ليكون قد دفعه له مضموناً عليه، بل مجاناً بعد علمه بعدم استحقاقه للمبيع، فيتعين عدم ضمانه له، كما في سائر موارد التسليط المجاني. ولا يقاس ذلك بالمقبوض بالعقد الفاسد، لأن التسليط هناك في مقابل العوض المملوك له فيكون مضموناً عليه مع عدم سلامة العوض له شرعاً، أما هنا فالتسليط في مقابل العوض المملوك لغيره مع كونه مجانياً في حقه.

لكنه كما تري، فإن المشتري إنما دفع الثمن للبايع علي أنه ثمن المبيع وفي مقابله، لا مجاناً، فهو لم يهدر حرمة المال، فإذا لم يسلم له المبيع تعين ضمان الثمن. وبعبارة أخري: إنما يسقط ضمان اليد برفع المالك اليد عن حرمة ماله، وإقدامه علي التسليط عليه مجاناً بلا عوض، وهو غير حاصل في المقام، كما في المضمون بالعقد الفاسد.

وأما الفرق بينهما بأن تسليط البايع علي الثمن ليس في مقابل ماله، بل في مقابل مال غيره، بخلافه في المقبوض بالعقد الفاسد، فإنه في مقابل الطرف الآخر. فهو - لو تم - ليس فارقاً بعد عدم إقدام المشتري هنا علي المجانية، بحيث يرجع إلي هدر حرمة ماله. مع أنه غير تام، لأنه إنما دفع الثمن إليه للبناء علي معاملته معاملة المالك تشريعاً أو عصياناً، تجاهلاً لحكم الشارع. ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه، كما صنع سيدنا المصنف (قدس سره).

كيف ؟! وقد صرحوا بحرمة تصرف الفضولي في الثمن. لظهوره أنه لا يناسب عدم ضمانه له مع تلفه، كما نبّه لذلك في المسالك والروضة، وغيرهما. ويظهر من

ص: 333

المسالك أنه الوجه فيما يأتي من المحقق. لأن التسليط المذكور إن ترتب عليه الأثر شرعاً في حق البايع تعين جواز التصرف له، وإن لم يترتب الأثر عليه، لابتنائه علي المعاوضة الباطلة تعين الضمان. ويأتي من المسالك تمام الكلام في ذلك.

ولعله لذا يظهر من المحقق التردد في عدم رجوع المشتري بالثمن مع علمه بالغصب، حيث اقتصر في الشرايع علي نسبته للقيل. بل حكي عنه في بعض تحقيقاته - وقيل: في نكت النهاية - ضمان البايع للثمن وجواز رجوع المشتري عليه به. قال في جامع المقاصد:

(وهو متجه لكن نقل في التذكرة الإجماع علي عدم الرجوع) . وقريب منه في المسالك.

وهو كما تري: أولاً: لما تكرر منا من الإشكال في الاعتماد علي دعاوي الإجماع في مثل هذه المسألة مما حرر في كلمات الفقهاء في عهد تدوين الفتاوي من دون أن يكون مورداً للنصوص ولا لسيرة ظاهرة.

وثانياً: لأن العلامة - مع تأخره عن المحقق - إنما ادعي الإجماع علي الرجوع بالثمن مطلقاً - كما سبق - لا في خصوص صورة التلف، كما يظهر من المحقق والشهيد الثانيين قال في التذكرة: (ولو كان عالماً لم يرجع بما اغترم ولا بالثمن مع علم الغصب مطلقاً عند علمائنا. والأقوي أن له الرجوع مع بقاء الثمن، لعدم الانتقال، بخلاف التالف، لأنه أباحه فيه من غير عوض).

وحينئذٍ إن بني علي حجية الإجماع المذكور فلا وجه للتفصيل بينهما، كما جري عليه في جامع المقاصد وغيره. وإن فرض وهن دعوي الإجماع المذكور مع بقاء الثمن بذهاب العلامة نفسه للرجوع معه، تعين وهنه مع تلفه أيضاً بذهاب المحقق للرجوع معه.

بل يظهر من كلام العلامة المتقدم أن الإجماع ليس بنحو ينهض بالاستدلال، ولذا اختار التفصيل لما سبق من الوجه في كلا شقيه، من دون أن يعول علي الإجماع في أحدهما أو يجعله مانعاً من الخروج عنه في الآخر.

ص: 334

وإذا رجع المالك علي البايع (1) بالعين (2)، فإن كان المشتري مغروراً من

---------------

وأشكل من ذلك ما في المسالك، فإنه بعد أن ذكر أن القول بالرجوع في غاية القوة لولا الإجماع المدعي، قال:

(فإن قيل: كيف يجامع تحريم تصرف البايع في الثمن عدم رجوع المشتري به في حال، فإنه حينئذٍ لا محالة غاصب آكل للمال بالباطل، فاللازم إما جواز تصرفه أو جواز الرجوع إليه مطلقاً. قلنا: هذا الالتزام في محله. ومن ثم قلنا: إن القول بالرجوع مطلقاً متجه. لكن لما أجمعوا علي عدمه مع التلف كان هو الحجة. وحينئذٍ نقول: إن تحقق الإجماع فالأمر واضح. وإلا فمن الجائز أن يكون عدم جواز رجوع المشتري العالم عقوبة له، حيث دفع ماله معاوضاً به علي محرم. وعلي هذا يكون البايع مخاطباً بردّه أو ردّ عوضه مع التلف، فإن بذله أخذه المشتري، وإن امتنع منه بقي للمشتري في ذمته، وإن لم يجز له مطالبته به... ) .

إذ فيه: أن الوجه الذي ذكره في العقوبة - مع مخالفته لما يظهر من الأصحاب، وعدم مناسبته لما اختاره من التفصيل بين بقاء الثمن وتلفه - يحتاج إلي دليل. لظهور أن مجرد تسليط المالك علي الثمن لا يقتضيه، والمفروض في كلامه عدم تمامية الإجماع. فكيف يدفع به الإشكال ؟! ولاسيما وأن البايع الغاصب يشارك المشتري العالم في استحقاق العقوبة، فلماذا يعاقب المشتري بحبس الثمن عليه، ويخفف عن البايع فلا يطالبه المشتري بردّ الثمن الذي له عنده ؟!.

علي أن الجمع بين استحقاق المشتري للثمن وعدم جواز مطالبته به في غاية الغرابة، ولا نعهد نظيراً له في الاستحقاقات. ومن هنا يظهر اضطراب الأصحاب في المقام. ولا مخرج عما تقتضيه القاعدة من رجوع المشتري بالثمن مطلقاً وإن تلف.

(1) بناءً علي ما سبق في المسألة الخامسة عشرة من جواز رجوعه عليه وإن خرجت العين من يده، لأنها مضمونة عليه بضمان اليد.

(2) يعني ببدلها، لتعذر إرجاع العين عليه. أما لو أمكنه أخذ العين من المشتري وإرجاعها للمالك وجب عليه ذلك ولم يبق موضوع لهذا الفرض.

ص: 335

(336)

قبل البايع لم يرجع البايع علي المشتري (1) وإن لم يكن مغروراً من قبل البايع رجع البايع عليه (2)

---------------

(1) لأن الغرور حيث كان موجباً لاستحقاق المغرور علي الغار ما يخسره فلا فائدة في رجوع البايع علي المشتري، لأن المشتري حينئذٍ يستحق الرجوع عليه بما يخسره له. ويأتي الكلام في تحديد الغرور المانع من الرجوع في آخر الكلام في هذا الحكم إن شاء الله تعالي. نعم سبق أن الغرور إنما يمنع من الرجوع بالزيادة علي الثمن، مع جواز الرجوع بما يقابل الثمن.

كما أن ذلك إنما يتم مع تلف العين في يد المشتري أو خروجها من يده، بحيث لا يقدر علي إرجاعها، وإنما يقدر علي دفع بدلها وخسارته، حيث لا يجب عليه خسارته له بعد استحقاقه الرجوع عليه بما يخسره بسبب الغرور.

أما مع بقاء العين في يد المشتري فالظاهر جواز رجوع البايع عليه، لأنه بدفع البدل للمالك يملكها، كما تقدم في المسألة الخامسة عشرة عند الكلام في بدل الحيلولة، وإذا ملكها جاز له المطالبة بها ووجب علي المشتري دفعها له، لقاعدة السلطنة. ومجرد غرور المشتري لا يمنع من ذلك، لعدم خسارة المشتري بإرجاع العين للبايع، وليس هو كدفع بدلها لو تلفت عنده، فإنه خسارة لم يقدم عليها، وإنما أقدم علي أن يكون تلفها مجانياً عليه.

ومن ذلك يظهر أن المشتري لو دفع العين لغيره جاز للبايع الرجوع علي ذلك الغير وأخذ العين منه مع بقائها. ولو كان المشتري قد دفعها له بمعاوضة متأخرة عن دفع البايع البدل كان له إمضائها وأخذ العوض. أما إذا كانت المعاوضة سابقة علي ذلك فلا يكون له إمضاؤها، كما يظهر مما سبق في المسألة الثالثة عشرة فيما لو باع الفضولي ثم ملك المبيع قبل الإجازة.

(2) فقد ذكروا في تعاقب الأيدي أن المالك إذا رجع علي السابق يرجع السابق

ص: 336

علي اللاحق، وإذا رجع علي اللاحق لم يرجع اللاحق علي السابق، وأن قرار الضمان علي من تلفت العين عنده. وهو في بدو النظر يحتاج إلي دليل، لأن اللاحق قد كان ضامناً للمالك بضمان اليد، وبعد براءة ذمته من الضمان للمالك بسبب أخذ المالك البدل من السابق - لأن المالك لا يستحق إلا بدلاً واحداً عن العين - يحتاج انشغال ذمة اللاحق للسابق إلي دليل.

وقد اختلفوا في توجيه ذلك والاستدلال عليه، وما ذكر أو يذكر في الاستدلال عليه وجوه:

الأول: ما في كتاب الغصب من الجواهر من عدم الدليل علي انشغال الذمم المتعددة بمال واحد، وأن الذي تنشغل ذمته للمالك بالبدل هو الأخير الذي تتلف العين في يده، دون من قبله ممن تثبت يده علي المال. غاية الأمر للمالك إلزامه - بسبب غصبه - بأداء ما اشتغلت به ذمة من تلفت العين في يده، ويجب عليه حينئذٍ تكليفاً دفعه من دون أن تنشغل ذمته به. فإذا دفعه للمالك ملك البدل الذي انشغلت به ذمة الأخير الذي تلفت العين في يده بالمعاوضة الشرعية القهرية، وإذا ملكه عليه جاز له مطالبته به.

وفيه: أولاً: أنه بعد أن سبق في المسألة الخامسة عشرة إمكان انشغال الذمم المتعددة بمال واحد فاللازم البناء عليه بعد اقتضاء عموم دليل ضمان اليد له، لاشتراك الجميع في كونهم أصحاب يد علي العين، ولذا كان للمالك الرجوع علي كل منهم، ولا مجال بعد ذلك للتفريق بينهم بالبناء علي انشغال ذمة واحد بالمال، وتكليف الباقين بأدائه من دون أن تنشغل ذممهم به. وعلي ذلك فإذا أدي بعضهم سقط عن الباقين، إذ لا يستحق المالك إلا العين أو بدل واحد عنها، ولا يبقي شيء مع أداء أحدهما.

وثانياً: أنه لو بني علي التفريق بين أصحاب الأيدي المتعاقبة في كيفية الضمان لامتناع انشغال الذمم المتعددة بمال واحد. فلا وجه لكون من تنشغل ذمته هو الأخير الذي تتلف العين تحت يده، دون غيره، حيث لا مرجح له. بل لا يبعد ترجيح الأول

ص: 337

حينئذٍ، لأنه حيث كان منفرداً في أول الأمر بوضع اليد لم يكن مانع من انشغال ذمته بالعين، وبعد انشغال ذمته بالعين لا دليل علي انتقال ما في ذمته لذمة من بعده، بل مقتضي الاستصحاب بقاء العين في ذمته، وعدم انشغال ذمة من بعده بها، غاية الأمر وجوب أدائها عليه تكليفاً فقط. فإذا تلفت العين بعد ذلك، وبني علي لزوم انتقال ما في الذمة لبدلها، يكون البدل في ذمة الأول، وليس علي من بعده إلا وجوب أدائه تكليفاً من دون أن تنشغل ذممهم به.

وعلي ذلك فإذا أدي الأول البدل فلا يملك صاحب العين شيئاً في ذمم الآخرين لينتقل لمؤدي البدل بالمعاوضة القهرية، ويحق له مطالبته به، بل يتعين سقوط تكليفهم بأداء البدل للمالك، لأنه لا يستحق أكثر من بدل واحد، ويحتاج وجه رجوع الأول عليهم إلي الدليل. وإذا أدي اللاحق البدل - تعين بناء علي ما ذكره (قدس سره) - عدم رجوعه علي من بعده، بل علي الأول، لأنه هو الذي انشغلت ذمته للمالك، فيملك ما انشغلت به ذمته بالمعاوضة القهرية الشرعية.

وثالثاً: أن الغاصب السابق لو كان مكلفاً بدفع البدل من دون أن تنشغل ذمته به، فالبدل المكلف بدفعه ليس بدلاً عما انشغلت به ذمة من تلفت العين في يده، ليتوهم ملكه لما انشغلت ذمته به، بل هو بدل عن العين، لأن اليد إنما تقتضي ضمان العين، لا ضمان البدل المذكور.

ورابعاً: أنه لا دليل علي المعاوضة القهرية الشرعية في المقام. وإنما التزمنا في بدل الحيلولة بملكية العين بأداء بدلها، لرجوع رضا المالك بالبدل ارتكازاً إلي الرضا بكون البدل عوضاً عن العين وبدلاً عنها، ولولا ذلك لم يكن له إلا العين والانتظار برجاء تحصيلها. فالمعاوضة هناك مالكية لا شرعية قهرية، كما يدعيه (قدس سره) في المقام.

نعم، لو كان المدعي في المقام أن يرجع أداء السابق للمالك البدل هو المعاوضة بينه وبين المالك علي أن يكون البدل المدفوع عوضاً عما يستحقه المالك علي من تلفت العين في يده كانت المعاوضة مالكية. لكن لا يظن بأحد دعوي ذلك. كما لا وجه له.

ص: 338

وخامساً: أن ذلك لا ينهض بتوجيه تمام المدعي، بل يختص بتوجيه رجوع من لم تتلف العين في يده إذا دفع للمالك البدل علي من تلفت العين في يده، ولا ينهض بتوجيه عموم رجوع السابق للاحق في غير ذلك، كما لو خرجت العين من يد اللاحق وتلفت في يد غيره، أو لم تتلف لكن تعذر عليه إرجاعها، إما لضياعها من دون تلف، أو لوقوعها في يد من يتعذر الوصول إليه أو استرجاع العين منه، مع أن الظاهر بنائهم علي رجوع السابق للاحق في الجميع.

وكذا لو أتلف العين متلف وهي في يد غيره، فإن الظاهر بناؤهم علي جواز رجوع المالك أو من يرجع عليه المالك لمن تلفت العين في يده ورجوع من تلفت العين في يده للمتلف، لأن قرار الضمان عليه، من دون أن ينهض ما ذكره (قدس سره) بتوجيه ذلك.

الثاني: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وحاصله: أن السابق قد أخذ العين مضمونة بنفسها للمالك، فيثبت في ذمته بدلها له لا غير، أما اللاحق فقد أخذها مضمونة ببدلها علي السابق وقد انشغلت ذمته ببدلها، فضمنها وهي ذات بدل. ومرجع ذلك إلي ضمانه لها هي وبدلها علي نحو البدل، إذ لا يعقل ضمان المبدل معيناً من دون بدله، وإلا خرج بدله عن كونه بدلاً له. فإذا دفع السابق بدل العين للمالك فقد برئت ذمته من ضمانها، كما تبرأ ذمة اللاحق من ضمانها للمالك أيضاً، إذ لا يستحق المالك إلا بدلاً واحداً للعين يكون به تداركها، ويتعين ضمان اللاحق للسابق بدلها، لأنه بعد أن كان ضامناً لها ولبدلها علي البدل يتعين ضمانه لبدلها تعيناً بعد أن سقط ضمانها عنه.

ولو تم هذا أمكن توجيه رجوع السابق علي اللاحق وإن كانوا جماعة كثيرة، بأن يكون المتأخر يضمن لمن سبقه مهما تعدد بدلاً يخصه، فالثاني يضمن مع العين للمالك بدلاً واحداً للأول، والثالث يضمن بدلين للأول والثاني، والرابع يضمن ثلاثة أبدال للثلاثة الذين هم قبله... وهكذا.

لكن فيه: أولاً: أن العين حينما أخذها اللاحق من السابق لم تكن مضمونة

ص: 339

بالبدل، فإن العين مادامت موجودة فهي مضمونة بنفسها وصاحب اليد مسؤول بها لا ببدلها، ولا يكون مسؤولاً ببدلها إلا بعد تلفها، إما لانقلاب ما في ذمته من العين للبدل، أو لبقاء ذمته مشغولة بالعين مع استحقاق المالك عليه أداء بدلها. والحاصل: أن العين لا بدل لها حين وضع اللاحق يده عليها، فهو يضمنها بنفسها لا غير.

وثانياً: أن وضع يد اللاحق إنما هو علي العين، وكونها مضمونة بالبدل ليس صفة كمالية فيها تقتضي زيادة قيمتها، ليتوهم ضمانها، وإنما هو أمر مقارن لها لا يكون مورداً للضمان. وما ذكره (قدس سره) من امتناع ضمان المبدل معيناً من دون البدل، وإلا خرج البدل عن كونه بدلاً، غريب جداً. فإن بدلية البدل ترجع إلي أن دفعه لتدارك خسارة المالك لو لم ترجع له العين، في مقابل كونه غرامة مالية ابتدائية. وهذا المعني لا يقتضي ضمان اللاحق البدل المذكور للسابق تبعاً لضمان العين للمالك. بل لا ريب في إمكان تصريح الشارع بعدم ضمانه له، من دون أن يخل ذلك ببدلية البدل.

وثالثاً: أن دليل ضمان اليد يقتضي ضمان اللاحق - كالسابق - للمالك، لا للسابق، فلو سلم أنه يقتضي ضمان العين والبدل معاً علي نحو البدل، فهو إنما يقتضي ضمان البدل بالنحو المذكور للمالك، لا لصاحب اليد السابق، فإذا سقط ضمان اللاحق للمالك بأداء السابق للبدل، فلا دليل علي ضمانه البدل للسابق وانقلاب المضمون له. وربما كان هناك وجوه أخر في الإيراد علي هذا الوجه لا يسعنا إطالة الكلام فيها بعد ظهور ضعف الوجه المذكور، بل غرابته.

هذا وقد ادعي بعض الأعاظم (قدس سره) أن مراد شيخنا الأعظم (قدس سره) من الوجه المتقدم هو أن ضمان اللاحق في طول ضمان السابق، بمعني أن السابق يضمن للمالك العين فقط، حيث تكون في عهدته وعليه إرجاعها، فإن تعذر ذلك عليه أرجع بدلها. أما اللاحق فهو مع كونه ضامناً للمالك ضامن للسابق، ومسؤول له بتدارك خسارته لو دفع للمالك البدل بمقتضي ضمانه وخروجاً عما ثبت في عهدته، فضمانه للسابق نظير الضمان العقدي عند الإمامية إذا كان بإذن المدين.

ص: 340

وما ذكره (قدس سره) وإن لم يناسب صدر كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) في بيان هذا الوجه، إلا أنه يناسب ما ذكره من عدم جواز دفع اللاحق البدل قبل خروج السابق عن الضمان للمالك بدفع بدل العين، مع أن مقتضي ضمان العين للمالك والبدل للاحق علي نحو البدل جواز ذلك له كما يجوز الدفع للمالك بلا إشكال.

قال (قدس سره): (ولا يجوز دفعه إلي الأول قبل دفع الأول إلي المالك، لأنه من باب الغرامة والتدارك، فلا اشتغال للذمة قبل حصول التدارك، وليس من قبيل العوض لما في ذمة الأول، فحال الأول مع الثاني كحال الضامن مع المضمون عنه في أنه لا يستحق الدفع إليه إلا بعد الأداء. والحاصل: أن من تلف المال في يده ضامن لأحد الشخصين علي البدل من المالك ومن سبقه في اليد، فيشتغل ذمته إما بتدارك العين، وإما بتدارك ما تداركها. وهذا اشتغال شخص واحد بشيئين لشخصين علي البدل...). وعلي ذلك يكون المراد من ضمان الثاني العين والبدل علي البدل هو ضمانهما علي التعاقب، لا في عرض واحد.

وكيف كان فهذا الوجه وإن أمكن ثبوتاً، إلا أنه يحتاج إلي إثبات، لظهور أنه راجع إلي أن صاحب اليد الثاني ضامن ضمانين مختلفين في الرتبة وفي الأمر المضمون وفي الشخص المضمون له. كما أنه لو كان هنالك ثالث لكان ضامناً ثلاث ضمانات كذلك، لأن نسبته مع الثاني كنسبة الثاني مع الأول، مع كونه ضامناً للمالك وللأول مثله، وكلما زاد أصحاب الأيدي المتعاقبة زادت الضمانات علي النهج المذكور. ومن الظاهر أن قاعدة اليد إنما تنهض بإثبات ضمان الجميع العين للأول، وتبقي بقية الضمانات محتاجة للدليل.

وأما ما سبق من شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن أخذ العين من الضامن يستلزم الضمان له زائداً علي الضمان للمالك، وإلا خرج البدل عن كونه بدلاً. فقد سبق المنع منه، ويزيد منعاً بلحاظ ما يقتضيه هذا الوجه من اختلاف الضمانين رتبة، كما لعله ظاهر.

ص: 341

ومثله ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) فإنه بعد أن منع من اشتغال الذمم المتعددة بمال واحد، إلا أن يكون ضمان كل منها في طول ضمان الآخر، التزم بأن إطلاق دليل ضمان اليد لما كان يقتضي ضمان جميع الأيدي المتعاقبة للمال الواحد، فلابد من تنزيله علي الضمان الطولي.

إذ فيه أولاً: ما عرفت من إمكان اشتغال الذمم المتعددة بمال واحد في عرض واحد من دون أن يكون أحدها في طول الآخر، ولذا لا ريب في إمكان حكم الشارع الأقدس بضمان الجميع للمالك من دون أن يرجع أحدهم للآخر. بل ما ذكره راجع إلي اجتماع ضمانين عرضين مع ضمان طولي، ضرورة أن أصحاب الأيدي كلهم ضامنون للمالك في عرض واحد. فالالتزام بالضمان الطولي في الحقيقة ليس للتخلص من اجتماع أكثر من ضمان واحد في عرض واحد، بل هو راجع لضمّ الضمان الطولي إلي الضمانيين العرضيين، ومع الالتزام بإمكان اجتماع أكثر من ضمان في عرض واحد ما هو الملزم بانضمام الضمان الطولي لهما؟.

وثانياً: أن مفاد دليل ضمان اليد هو ضمان نفس العين للمالك. وأما ضمان اللاحق للسابق في طول ذلك فهو ضمان آخر يحتاج إلي دليل، ولا ينهض عموم ضمان اليد بإثباته، لأنه خارج عن مفاده. ومجرد توقف شمول عموم ضمان اليد للأيدي اللاحقة عليه - لو سلم - لا يكفي في استفادته منه، لعدم نهوض أصالة العموم بإثبات مثل هذه العناية التي هي خارجة عن مفاد العام.

علي أن ذلك لا يتجه علي مبني شيخنا الأعظم (قدس سره) من إمكان ضمان الكل علي البدل من دون حاجة للطولية، فإن استفادة الطولية علي مبناه (قدس سره) تحتاج إلي دليل آخر قطعاً، وهو مفقود. ومن ثم لا يتم الوجه الذي ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) علي كلا تفسيريه.

الثالث: ما عن السيد الطباطبائي (قدس سره) في حاشيته علي المكاسب من أنه لا فرق بين تلف المال تحت يد اللاحق وإتلافه في حق السابق إذ كما يكون إتلافه له سبب

ص: 342

في ضمان السابق وخسارته للبدل كذلك أخذه له وعدم إرجاعه للمالك حتي يتلف سبب لذلك. فكما يجوز الرجوع عليه في الإتلاف يجوز الرجوع عليه في التلف.

وهذا الوجه لو تمّ لم يفرق فيه بين اللاحق الذي تلف المال تحت يده، والذي تلف المال بعد خروجه من يده، لعدم الفرق بينهما في كون أخذ المال وعدم إرجاعه حتي يتلف سبباً في خسارة السابق وضمانه للبدل، بل يعمّ من أخذ المال ولم يرجعه للمالك حتي تعذر إرجاعه إليه من دون أن يتلف.

لكنه يشكل: أولاً: بالفرق بين إتلاف اللاحق للمال وأخذه له من دون أن يرجعه حتي يتلف بأن إتلافه له سبب لتعذر خروجه عن ضمان العين إلا بخسارة البدل، بخلاف أخذه له فإنه بنفسه لا يوجب ذلك، خصوصاً إذا كان استرجاعه منه ميسوراً للسابق.

وثانياً: بأن الرجوع علي اللاحق مع إتلافه للمال ليس بملاك مضمنية الإتلاف الذي استفيد من أدلة لفظية يكفي في العمل عليها ظهورها عرفاً، لأن مفاد الأدلة المذكورة ضمان المتلف للمالك، لا لصاحب اليد السابق، بل لابد من كون الوجه في رجوع السابق علي اللاحق مع الإتلاف هو التسبيب، بلحاظ أن المتلف سبب خسارة السابق للبدل، ومن الظاهر أن سببية التسبيب للضمان ليست مفاد أدلة لفظية لينظر في عمومها لما نحن فيه، بل لا إشكال في عدم ثبوت عموم مضمنية التسبيب، غاية الأمر البناء علي مضمنيته في الجملة، من أجل بعض من الأدلة اللبية من سيرة أو مرتكزات عقلائية أو غيرها.

وحينئذٍ إن وجدت تلك الأدلة اللبية فيما نحن فيه كان المتعين الاستدلال بها من دون حاجة لقياس من تلفت العين عنده علي من أتلفها، وإن لم توجد لم ينفع القياس المذكور في إثبات الضمان فيما نحن فيه.

الرابع: ما اعتمده بعض مشايخنا (قدس سره) - وأشار إليه في الجملة سيدنا المصنف (قدس سره) في بيان وجوه الاستدلال - من أنه إذا أدي أحد أصحاب الأيدي البدل للمالك يملك

ص: 343

التالف بقاء بالمعاوضة القهرية، حيث لا إشكال بمقتضي السيرة العقلائية الارتكازية أن مخلفات التالف وأجزاءه التي لا مالية لها تكون ملكاً لدافع البدل. وكذا الحال في العين نفسها إذا صارت بحكم التالفة، كما لو غرق المتاع في البحر وفرّ الطائر الوحشي بنحو يتعذر الوصول إليهما ونحو ذلك، ولا مانع من البناء علي ملكية التالف إذا ترتب عليه الأثر ولم يكن لغواً. وحينئذٍ إذا ملك دافع البدل التالف كان بمنزلة المالك له الرجوع علي كل من وضع يده عليه بعده، بمقتضي عموم ضمان اليد.

وفيه: أولاً: أن الملكية من الاعتبارات العقلائية التي لا تتعلق بالتالف ارتكازاً. ومجرد ترتب الأثر المدعي في المقام لا يصححها. ولذا لا تصح المعاوضة الاختيارية من أجل الأثر المذكور، فلا يصح بيع العين التالفة تحت يد الغير لشخص ثالث من أجل أن يكون ضمانها له، لا للمالك الأول.

وأما ما سبق منا من إمكان انشغال ذمة صاحب اليد بالعين بعد تلفها، فهو لا يستلزم ملكية العين الخارجية بعد تلفها، وإنما يراد به ثبوت نحو من المسؤولية بالعين التالفة يقتضي نسبة البدل لها عند دفعه، بحيث لا يكون دفع البدل وفاء له، بل وفاء عن العين.

نعم، يتجه في انتقال مخلفات العين مع تلفها ونفس العين مع تعذر الوصول إليها - لغرق ونحوه - لدافع البدل، لما سبق من رجوع الرضا بالبدل إلي المعاوضة بينه أو بين بعضه وبين الموجود من العين، مع كون ما قابل التالف تعويضاً وتداركاً من دون ملك لشيء، وحينئذٍ تكون المعاوضة مالكية اختيارية، لا شرعية قهرية كما سبق.

ولو سلم أن المعاوضة فيها شرعية قهرية فهو لا يشهد بتحقق المعاوضة بالنحو المذكور بالإضافة إلي العين التالفة. ولاسيما مع ما سبق من عدم قابلية التالف للملكية عرفاً.

وثانياً: أن انتقال العين التالفة لدافع البدل لا يستلزم كونه كالمالك في أن له

ص: 344

مطالبة ذوي الأيدي الباقين بالعين، وإن صرح بذلك سيدنا المصنف (قدس سره) أيضاً. ضرورة أن دليل ضمان اليد إنما يقتضي ضمان العين لمن يملكها حين وضع اليد، لا لمن يملكها بعد خروجها عن اليد. فلو تعاقبت الأيدي علي العين، وباع المالك العين علي شخص آخر لم يستحق المشتري الرجوع إلا علي من كانت العين عنده حين شرائها ومن انتقلت إليه بعد ذلك، دون من خرجت العين عنه قبل شرائها. وعلي ذلك فملكية دافع البدل للعين المغصوبة التالفة لا تقتضي رجوعه علي من بعده إذا كانت قد خرجت من يده، بل حتي إذا كانت قد تلفت عنده.

اللهم إلا أن يريد بذلك أن المعاوضة القهرية ليست بين البدل المدفوع والعين الخارجية التالفة، بل بينه وبين العين التالفة بما لها من وجودات ذمية في ذمم ذوي الأيدي المتعاقبة، والتي كانت هي المنشأ في استحقاق المالك المطالبة بأداء بدلها من كل منهم، فدافع البدل لا يملك العين التالفة بنفسها، بل بما لها من تلك الوجودات الذمية، فله المطالبة بها كالمالك. نظير حال وارث المالك، حيث يستحق ما يستحقه المورث من الرجوع علي الجميع.

لكن ذلك: أولاً: عين المدعي في الحقيقة، إذ المعاوضة القهرية تحتاج إلي إثبات، وليست هي كالميراث ثابت بمقتضي إطلاق ما تضمن أن ما ترك الميت من حقّ فهو لوراثه. ولا مجال للاستدلال عليها بملكية مخلفات العين التالفة وملكية العين بنفسها إذا كانت بحيث يتعذر تحصلها لغرق ونحوه، لاختلاف سنخ المملوك فيهما عنه في مورد الكلام.

وثانياً: أن لازمه استحقاقه الرجوع علي من قبله من ذوي الأيدي. ومجرد أخذه العين منهم لا يقتضي براءة ذممهم معه، لأنه أخذها قبل استحقاقه لها، ولذا لا تبرأ ذممهم للمالك، والمفروض أن المعاوضة قد وقعت مع المالك الذي يستحق العين عليهم بأجمعهم.

ودعوي: أنه لما كان هو السبب في استقرار الضمان علي من قبله لم يجز رجوعه

ص: 345

عليه. مدفوعة بعدم الدليل علي مانعية التسبيب المذكور من الرجوع بعد فرض تحقق موجب الرجوع، وهو المعاوضة القهرية المفروضة. ولو تمت مانعية التسبيب من الرجوع علي من قبله أمكن دعوي كون التسبيب المذكور هو سبب الرجوع علي من بعده - كما تقدم في الوجه السابق - بلا حاجة إلي تكلف دعوي المعاوضة الشرعية القهرية، لأنهما من سنخ واحد.

الخامس: ما قد يدعي من أن ذلك مقتضي الارتكازات العقلائية التي يكفي في العمل عليها عدم ثبوت الردع عنها. كما سبق في أول الكلام في المكاسب المحرمة. وإلي ذلك يرجع ما يذكره سيدنا المصنف (قدس سره) وحكي عن المحقق الخراساني (قدس سره).

لكن قال سيدنا المصنف (قدس سره): (وفيه: أن ثبوت ذلك كلية غير ظاهر. نعم لا يبعد فيما لو كان اللاحق قد أخذه قهراً علي السابق. فالالتزام بالرجوع في غير ذلك غير ظاهر المأخذ. اللهم إلا أن يكون إجماعاً. لكن ثبوته بنحو يصح الاعتماد عليه في الخروج عن القواعد الأولية غير ظاهر).

والإنصاف أن ما ذكره من بناء العرف بمرتكزاتهم علي الرجوع مع أخذ اللاحق العين قهراً علي السابق قريب جداً. بل لا يبعد ذلك في مطلق ما لو أخذه من دون إذنه ولو مع غفلة السابق. ولعل مراده (قدس سره) ما يعم ذلك.

بل لا يبعد ذلك أيضاً فيما لو كان اللاحق عالماً بالحال دون السابق. كما لو بذل الودعي الأمانة لغيره بتخيل إنها ماله أو مال المبذول له، وعلم المبذول له بالحال، فلم ينبهه وأخذها وخرجت من يده أو تلفت، فإن مثل هذا الإذن لا أثر له، ولذا لا يرفع الضمان بالإضافة إلي مال المالك لو بذله بتخيل أنه للمبذول له. ومن ثم كان من القريب عموم المرتكزات القاضية برجوع السابق علي اللاحق لذلك.

وكذا لو أخذه اللاحق منه مضموناً بمال خاص - كما في البيع - أو بالمثل، كما في القرض. غاية الأمر أن المتيقن حينئذٍ الرجوع عليه بمقدار ما أقدم عليه من ضمانه، دون ما زاد علي ذلك، فلو اشتراه من السابق بخمسة وضمنه السابق للمالك بعشرة،

ص: 346

لم يرجع علي اللاحق إلا بخمسة.

أما فيما عدا ذلك فلا مجال للرجوع، سواء كان اللاحق مغرراً من قبل السابق ومخدوعاً، أم كان مغتراً بظاهر حاله من دون أن يكون السابق خادعاً له، لجهله بالحال، أم كان عالماً بالحال، كما لو أعلن السابق أنه سرق المال، لكنه بذله لغيره مجاناً، كما يبذل المالك ملكه، فإن اللاحق وإن حرم عليه أخذ المال، ولو أخذه كان ضامناً للمالك، بحيث له الرجوع عليه، لكن لو لم يرجع المالك عليه، ورجع علي السابق، لم يكن للسابق الرجوع عليه، لخروجه عن المتيقن من بناء العرف ومرتكزاتهم المذكورة لو تمت، لاستناد خسارة السابق له عرفاً، لا للاحق، ليرجع عليه. هذا ما يظهر لنا فعلاً. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

بقي في المقام أمور:

الأول: كما لا يرجع السابق علي اللاحق إذا كان أخذه للمال برضاه، كذلك لا يرجع علي من بعده إذا كان أخذه للمال برضا منه أيضاً، كما لو وهب الغاصب العين لزيد، فوهبها زيد لعمرو، فأتلفها أو خرجت من يده، فإن الغاصب الأول لو دفع البدل للمالك ليس له الرجوع علي زيد ولا علي عمرو. بل لا يبعد عدم رجوعه علي عمرو حتي لو كان قد غصبها من زيد. لخروجه عن المتيقن من المرتكزات لو تمت.

نعم، لا يبعد رجوعه عليه في عكس الفرض، بأن أخذها زيد من الغاصب قهراً عليه، فوهبها لعمرو، فإن الغاصب لو دفع البدل للمالك فكما يجوز له الرجوع علي زيد يجوز له الرجوع علي عمرو، لعدم الأثر لإذن زيد له بعد كونه متعدياً علي الغاصب بأخذه العين منه. وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال.

الثاني: أشرنا آنفاً إلي أنه يظهر منهم أن قرار الضمان علي المتلف وإن لم تدخل العين تحت يده. بل الظاهر أنه أولي بأن يرجع عليه من صاحب اليد المتأخر، لأنه السبب المباشر لثبوت الخسارة المالية علي أصحاب الأيدي المتعاقبة. لكن لم يتضح الدليل علي كفاية التسبيب المذكور في قرار الضمان لغير المالك. ومن ثم لا مناص عن

ص: 347

التفصيل المتقدم في الأيدي المتعاقبة لو تم قضاء الارتكازيات العرفية بالضمان فيها علي النحو السابق، فإذا أتلفها برضا ممن هي تحت يده لم يرجع عليه من هي تحت يده إذا رجع عليه المالك... إلي غير ذلك مما تقدم.

الثالث: لو دفع بعض ذوي الأيدي البدل للمالك لتعذر إرجاع العين عليه من دون أن تتلف، فقد سبق أنه يملكها. وحينئذٍ إن لم تكن العين في يد أحد - كالحيوان الوحشي الشارد، والمال الغارق ونحوهما - جري في رجوعه علي من بعده ما سبق. وإن كانت في يد بعضهم حين دفعه للبدل جاز له الرجوع عليه من أجل استرجاعها مطلقاً وإن كان قد دفعها هو إليه مجاناً، لعدم ملكية الآخذ لها بالدفع المذكور. ولو علم بصيرورتها في ملكه ولم يعتن بذلك ولا راجعه حتي أخرجها من يده أو أتلفها تعين ضمانها، وجاز لصاحبها مطالبته بالبدل، لأنه بتصرفه المذكور متعد علي المالك، فيكون ضامناً له بضمان اليد أو الإتلاف بلا إشكال.

بل قد يدعي جواز رجوعه عليه إذا أتلفها أو أخرجها من يده مطلقاً وإن كان جاهلاً بالحال. لعموم ضمان اليد والإتلاف بعد عدم ترتب الأثر علي سبق تسليطه عليها، لعدم ملكيته لها حينه، فيكون تصرفه فيها - بإخراجها عن يده أو إتلافه لها - بلا حق، فيضمنها لمالكها.

لكنه إنما يتجه لو كان لضمان اليد والإتلاف عموم يشمل المقام. وهو غير ثابت، لما سبق من عدم حجية حديث:

(علي اليد... ) ، وأن الدليل علي ضمان اليد بناء العقلاء الذي يظهر الجري عليه من بعض النصوص. والمتيقن منه غير ما نحن فيه مما كان منشأ تصرف صاحب اليد أو استيلائه علي المال تسليط المالك علي المال ولو قبل ملكه له، نظير ما لو بذل وكيل المالك العين لشخص، ثم ملكها الوكيل ولم يعلمه حتي أخرجها من يده أو أتلفها، فإنه يشكل البناء علي ضمان المأذون.

كما أن قاعدة الضمان بالإتلاف إنما استفيدت من النصوص الواردة في الموارد المتفرقة بعد إلغاء خصوصية مواردها، والمتيقن منها غير الصورة المذكورة. نعم لو

ص: 348

كان قد أخذها قهراً عليه أو من دون إذنه اتجه رجوعه عليه، نظير ما سبق من رجوع السابق علي اللاحق مع تلف العين بل هو مع بقاء العين وتملكه لها اظهر، كما لا يخفي.

الرابع: لو توقف إرجاع العين - ولو مع وحدة اليد - علي مؤنة من عمل أو مال وجب علي الضامن تحملها مقدمة للإرجاع الواجب. إلا أن تبلغ مرتبة الضرر عرفاً، فقد يدعي أن مقتضي قاعدة نفي الضرر عدم وجوب تحملها.

لكن ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن وجوب الردّ والإرجاع في نفسه ضرري، فيؤخذ بإطلاقه.

وفيه: أن وجوب الرد لا يستلزم الضرر دائماً، إذ كثيراً ما لا يكون ردّ نفس العين ضررياً، بل يتيسر من دون مؤنة معتد بها. كما أن ردّ البدل إنما يكون ضررياً إذا لم يمكن انتفاع الضامن بالعين بدلاً عنها، إما لتلفها أو لعدم إمكان الانتفاع بها في مكانها، كما لو سرقت أو ضاعت أو غرقت أو نحو ذلك.

أما لو أمكن الانتفاع بالعين في مكانها - كما لو كان قد نقلها عن بلد المالك إلي بلد بعيد له فيه وكيل يقوم مقامه في أمرها - فلا ضرر في ردّ بدلها، لأن دافع البدل يملكها بدلاً عنه. وعلي ذلك لا يكون وجوب الرد ضررياً دائماً، ليكون دليله أخص من عموم دليل نفي الضرر، ويقدم عليه علي إطلاقه، بل يكون بينهما عموم من وجه وحينئذٍ يتعين تقديم عموم نفي الضرر لحكومته علي عمومات الأحكام الأولية إلا في مورد التلف وتعذر الانتفاع بالعين، حيث لا إشكال في الضمان حينئذٍ، فلابد من تخصيص قاعدة نفي الضرر فيه، بل لا يبعد انصرافها عنه، لأن رفع الضمان ضرر في حق المالك المضمون له، فتقصر القاعدة عنه بمقتضي ورودها مورد الامتنان، ولا موجب لرفع اليد عن عموم قاعدة نفي الضرر في غير ذلك كما في محل الكلام.

ودعوي: أن عدم وصول عين المال لمالكه ضرر عليه، فيعارض الضرر اللازم علي الضامن من إيصالها إليه.

مدفوعة: بأنه لا ضرر علي المالك غالباً من عدم وصول عين المال مع وصول

ص: 349

بدله له، والتشبث بعين المال حينئذٍ لرغبة شخصية لا يكفي في صدق الضرر عرفاً.

نعم، قد يصدق الضرر حينئذٍ عرفاً في خصوص بعض الأعيان كالأشياء الأثرية ونحوها، حيث قد يهتم العقلاء بأعيانها مع قطع النظر عن ماليتها. وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال خصوصاً إذا كان ضرر الضامن أهم من ذلك عرفاً. فتأمل.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في غير ذلك في عدم وجوب تحمل الضامن لمؤنة رد العين إذا كانت بمرتبة يصدق عليها الضرر عرفاً، بل ينتقل للبدل حينئذٍ.

نعم، ذلك مختص بما إذا لم يكن الضامن معتدياً في أخذه للمال، بأن كان جاهلاً بالحال أما مع علمه وعدوانه في الاستيلاء علي العين فالظاهر قصور قاعدة نفي الضرر عنه، لأنه أقدم علي تحمل الضرر ولاسيما مع ورود قاعدة نفي الضرر مورد الامتنان، حيث يوجب ذلك انصراف دليلها عن مثله، فيتعين وجوب ردّ العين عليه مطلقاً وإن كانت مؤنة الردّ بنحو يصدق عليها الضرر. بل حتي لو كانت مجحفة به، لعدم وضوح الفرق في تحمل الضرر بين المجحف وغيره، فإن جرت قاعدة نفي الضرر شملتهما معاً فلا يجب تحملهما، وإن لم تجر فيهما معاً، فيجب تحملهما. وما يظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) من التفصيل بينهما غير ظاهر المأخذ.

هذا وفي مورد وجوب دفع المال علي الضامن من اجل استرجاع العين لو طلب المالك أن يكون هو المباشر لذلك علي أن يأخذ هو المال فهل يجب علي الضامن الرضا بذلك ؟ قد يدعي وجوب الرضا بذلك علي الضامن جمعاً بين أداء العين الواجب وحرمة التصرف فيها علي غير المأذون.

لكن ذلك إنما يتجه إذا وجب عليه نقل العين من موضعها التي هي فيه إلي المكان الذي فيه المالك، بحيث يكون النقل بنفسه محقوقاً عليه وإن وصلت للمالك قبله، كما لو قلنا بوجوب إرجاع الضامن للعين إلي موضعها الذي أخذها منه.

أما إذا لم يجب النقل إلا من أجل الإيصال للمالك، فتولي المالك بنفسه أو وكيله للنقل موجب لوصول العين بنفسها له قبل نقلها، فلا يكون النقل واجباً علي

ص: 350

الضامن، ليستحق المالك أجرته عليه. وأما غير مؤنة النقل - كرسوم الدولة - فلا يجب عليه ترجيح المالك إذا لم يستلزم تصرفاً في العين، وإنما يترجح المالك إذا استلزم تصرفاً فيها. فلاحظ.

الخامس: إذا ابرأ المالك واحداً من ذوي الأيدي المتعاقبة فالظاهر براءة ذمته دون غيره من ذوي الأيدي، إذ لا منشأ للارتباطية بينهم مع تعدد الحقوق تبعاً لتعدد من عليه الحق وإن كان الأمر المحقوق واحداً.

ودعوي: أن مرجع الإبراء إلي إسقاط الحق، ومع إسقاطه لا يبقي شيء لتنشغل به ذمة الآخرين.

مدفوعة: بأن مرجع إبراء الشخص إلي إسقاط الحق عنه، لا إلي إسقاط الحق رأساً، فإن لم يكن هناك من تنشغل به ذمته غيره، تعين سقوط الحق، وإلا فلا وجه لسقوطه عن غيره.

ودعوي: أنه لا دليل علي التفكيك، بل مقتضي أصالة عدم ترتب الأثر بقاء الحق في ذمم الجميع إلا برفع اليد عن الحق رأساً المستلزم لسقوطه عن الكل.

مدفوعة: بأن دليل ترتب الأثر علي الإبراء وسقوط الحق به هو المرتكزات العقلائية، وهي لا تأبي التفكيك، ولا تري التناقض في قول المالك: أبرأت ذمة فلان دون غيره. فاللازم العمل بالمرتكزات المذكورة علي سعتها. خصوصاً والمسألة عملية شايعة الابتلاء، إذ ما أكثر ما يسرق المتاع مثلاً من الأمين بتفريط منه أو يتلفه متلف، فهل يخطر ببال أحد أن المالك لو رفق بالأمين، فغضّ النظر عن حقه عليه وأبرأه أن تبرأ ذمة السارق والمتلف ؟!.

هذا ولا يبعد أن يكون مورد كلامهم من لا تكون العين تحت يده حين إبراء المالك للبعض، إذ من كانت العين تحت يده لو فرض براءة ذمته بلحاظ الحق الثابت عليه بسبب وضع يده علي العين، فذلك لا ينافي تجدد الحق عليه باستمرار وضع يده علي العين بلا حق، حيث لا إشكال في عدم رجوع الإبراء إلي الإذن في وضع اليد علي

ص: 351

في الخسارة التي خسرها للمالك (1). وكذا الحال في جميع الموارد التي تعاقبت فيها الأيدي العادية (2) علي مال المالك، إن رجع المالك علي السابق رجع

---------------

العين، لتكون أمانة غير مضمونة.

ثم إن إبراء المالك للشخص، وإن أوجب براءة ذمته من حقه عليه كما ذكرنا، فلا يجوز له الرجوع عليه بعد ذلك، إلا أنه لا يمنع من سبقه من أصحاب الأيدي من الرجوع عليه لو رجع عليه المالك، كما لو كان قد أخذ العين من السابق قهراً عليه، بناء علي أن ذلك مصحح للرجوع عليه، كما لعله ظاهر. فلاحظ.

(1) فلا يرجع عليه قبل أن يخسر للمالك، إذ لا منشأ لذلك بعد اشتراكهما معاً في كونهما معاً محقوقين للمالك بنحو البدل، وللمالك الرجوع علي كل منهما وتخسيره دون الآخر، والوجوه المتقدمة إنما تقتضي الرجوع بعد أن يخسر هو للمالك وتبرأ ذمة الآخر.

كما أن مقتضي الوجه الذي ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره)، بناء علي ما حمله عليه بعض الأعاظم (قدس سره) واختاره هو ضمان مقدار ما يخسره للمالك وإن كان أقل من قيمة التالف، دون تمام قيمة التالف، كما يظهر بملاحظة الوجه المذكور. وهو المتيقن من الوجه الثالث والخامس.

أما علي الاحتمال الأول في كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) الأول في كلامه فاللازم الرجوع عليه بقيمة التالف مطلقاً، لأنه البدل الذي فرض ثبوته في ذمة الأول وضمان الثاني له بأخذه للعين منه.

وأظهر من ذلك الوجه الأول والرابع، لأن موضوع المعاوضة القهرية المفروضة هو العين أو بدلها الذي انشغلت به ذمة من تلف المال عنده لكن لا يبعد عدم بناء أحد علي ذلك. ومن ثم كان ذلك من جملة المؤاخذات علي الوجوه المذكورة.

(2) يعني: التي حصلت بلا حق وإن لم يكن أصحابها في مقام العدوان، لجهلهم بالحال.

ص: 352

(353)

السابق علي اللاحق إن لم يكن مغروراً منه، وإلا لم يرجع علي اللاحق(1). وإن رجع المالك علي اللاحق لم يرجع إلي السابق(2) ، إلا مع كونه مغروراً منه(3). وكذا الحكم في المال غير المملوك(4) كالزكاة المعزولة ومال الوقف المجعول مصرفاً في جهة معينة أو غير معينة أو في مصلحة شخص أو أشخاص، فإن الولي يرجع علي ذي اليد عليه مع وجوده علي النهج المذكور(5).

(مسألة 20): لو باع إنسان ملكه وملك غيره صفقة واحده صح البيع فيما يملك(6). وتوقفت صحة بيع غيره علي إجازة المالك، فإن أجاز

********

(1) مما سبق يتضح أن المدار في الرجوع وعدمه ليس علي الغرور وعدمه، بل علي كون أخذ اللاحق للعين بإذن السابق وعدمه.

(2) لعدم المنشأ لرجوعه إليه. إلا أن يتم الوجه الرابع بناء علي الاحتمال الثاني فيه، فيتجه الرجوع عليه، كما سبق. لكن سبق أنه غير تام.

(3) مما سبق يظهر أن معيار الغرور المصحح للرجوع هنا هو التغرير والخديعة الموقوفة علي علم الغار بالحال، لا مطلق كونه سبباً في التباس الأمر عليه وإن كان جاهلاً بالحال.

(4) لعدم الفرق في دليل ضمان اليد والإتلاف بين المملوك وغيره من المال المحترم، الذي يكون المرجع في أمره شخص خاص.

(5) غاية الأمر أن الولي قد يري أن المصلحة في الرضا بالبدل، فيلزمه قبوله، وليس له التعنت كالمالك.

(6) بلا خلاف، كما في الجواهر، بل فيه وفي الرياض أن ظاهرهم الإجماع عليه، كما هو الظاهر من نسبته إلي علمائنا في التذكرة، بل ادعاه صريحاً في الخلاف وشرح القواعد لكاشف الغطاء. كما ادعاه في الغنية في بيع ما يملك إذا بيع مع ما لا يقبل

ص: 353

الملك وما نحن فيه أولي منه بالصحة.

وقد استدل عليه في الجواهر وغيره بالعمومات. وكأن المراد بها عموم نفوذ العقود والتجارة عن تراض ونحوها. لكن التمسك فيه بعموم نفوذ العقود إنما يتجه مع إجازة المالك الآخر، بناء علي ما سبق من أن مقتضي عموم نفوذ العقود صحة عقد الفضولي بالإجازة. أما مع عدم إجازته فحيث لا ينفذ العقد في تمام مضمونه ويقصر عنه عموم النفوذ، لعدم التزام بعض من له العقد به، فلا ينهض عموم نفوذ العقود بصحته ونفوذه في بعض مضمونه، لظهوره في نفوذ العقد بتمامه في تمام مضمونه من دون تبعيض.

ومن ذلك يظهر ضعف ما في الخلاف من التمسك لصحة البيع في المملوك بإطلاق قوله تعالي: (وأحل الله البيع)(1) إذ لو تم إطلاقه، إلا أنه لا ينهض بإثبات صحة البيع في بعض مضمونه بعد فرض عدم صحته في تمامه. علي أن الظاهر عدم تمامية الإطلاق فيه، كما ذكرناه في أول كتاب التجارة، وعند الاستدلال لصحة عقد الفضولي.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) في مسألة بيع ما يقبل الملك وما لا يقبله من أن العقد ينحل بالنسبة إلي جزئي المبيع إلي عقدين أحدهما صحيح والآخر فاسد، نظير انحلال التكليف المتعلق بالمركب المشتمل علي أجزاء. فهو ممنوع جداً، فإن العقد أمر واحد متقوم بالتزام واحد قائم بالمجموع، ولا يقبل الانحلال، إلي أكثر من عقد واحد، ليمكن التفكيك بينها بالصحة والفساد. كيف ولازم ما ذكره انحلال العقد الواحد إلي ما لا يحصي من العقود نتيجة انقسام المبيع بلحاظ الأجزاء الخارجية والأشقاص المفروضة، من النصف والربع ونحوهما. ولاسيما مع عدم التفات المتعاقدين إلي أكثر خصوصيات الأجزاء ومميزاتها الخارجية والفرضية، ليمكن صيرورتها موضوعاً للعقود الانحلالية المدعاة.

********

(1) سورة البقرة آية: 75.

ص: 354

وكذا الحال في النظير، فإن التكليف بالمركب لا ينحل إلي تكاليف حقيقية متعددة، لكل منها طاعته ومعصيته، بل إلي تكاليف ضمنية ارتباطية انتزاعية لا يتم لكل منها طاعة ولا معصية إلا بطاعة المجموع ومعصيته، والتكليف الحقيقي الذي له طاعة ومعصية هو التكليف الوارد علي المركب بمجموعه لا غير.

وبعبارة أخري: التحليل في جميع ذلك ادعائي انتزاعي قياساً علي الأعراض الحقيقية الواردة علي المركبات حيث تنحل علي أجزائها، وليس حقيقياً عرفياً، بحيث يكون هناك عقود متعددة أو تكاليف متعددة عرفاً، ليلحق كلا حكمه. ولذا لا يمكن بلحاظ الانحلال المذكور التفكيك بين العقود المفروضة في الإجازة لو كانت فضولية وفي الفسخ والتقايل ونحو ذلك من شؤون العقد والبيع الواحد.

وأشكل من ذلك ما ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) من أن البيع وإن كان واحداً إثباتاً - أي من حيثية المبرز - إلا أنه ينحل ثبوتاً إلي بيوع عديدة بحسب أجزاء الثمن والمثمن، كما ينحل الحكم التكليفي إلي أحكام عديدة بحسب أفراد موضوعه في العام الاستغراقي. غايته يكون هناك شرط ضمني، وهو وصف الانضمام، وتخلفه لا يوجب البطلان، بل يوجب الخيار.

إذ فيه: أن المبرز مقوم للعقد وليس كاشفاً عنه، والالتزام العقدي المبرز واحد لا يقبل الانحلال، كما سبق. ولا مجال لقياسه بالعموم الاستغراقي الانحلالي، لكون أفراد العموم المذكور أحكاماً مستقلة لكل منها موضوعه - المحدود بحدوده المعينة تبعاً للملاكات المتعددة التابعة لتلك الموضوعات - وطاعته ومعصيته. غاية الأمر أنها بينت ببيان واحد، وأين هذا من أجزاء المبيع الفرضية التي لا حد لها ولا حصر، وغالباً ما لا يلتفت المتعاقدان إلي حدودها، وإنما ينشئان العقد علي المجموع.

والحاصل: أن الالتزام العقدي واحد قائم بالمجموع، وظاهر أدلة النفوذ نفوده بتمامه في تمام مضمونه، ومع عدم نفوذه بتمامه، لعدم التزام بعض من له العقد به يقصر دليل نفوذ العقد عنه ويحتاج نفوذه في بعض مضمونه إلي دليل آخر.

ص: 355

أما سيدنا المصنف (قدس سره) فقد فصل في الانحلال المدعي فقال:

(العقد الوارد علي الجملة: تارة: ينشأ عن غرض واحد قائم بالجملة، فيكون المنشأ علي نحو وحدة المطلوب. وأخري: ينشأ عن غرضين أحدهما قائم بالجملة، والآخر قائم بالأجزاء، فيكون المنشأ علي نحو تعدد المطلوب، وحينئذٍ لا مانع من التفكيك بين أبعاض العقد بلحاظ أبعاض موضوعه، كما لا مانع من الرضا بكل واحد من هذه الأبعاض ولو في حال الانفراد) .

وما ذكره (قدس سره) لا يخلو عن غموض، لما هو المعلوم من أن الغرض لا أثر له في تحديد موضوع العقد، وأن تخلفه لا يوجب بطلان العقد، وإنما المعيار في صحة العقد وبطلانه سلامة ما هو الموضوع له عرفاً. فإذا اشتري قميصاً، وكان غرضه أن يقيه من البرد، فبان أنه قميص لا يقي منه صح البيع، وإن بان أنه عباءة تقي من البرد لم يصح البيع.

كما أن تعدد المطلوب إنما يتعقل في الطلب والتكليف، حيث ينشأ: تارة: عن ملاك واحد قائم بالذات الواحدة. وأخري: عن ملاكين أحدهما قائم بالذات والآخر قائم بخصوصية فيها زائدة عليها، ويتعين تبعاً للملاك في الأول وحدة الطلب، وتعلقه بالذات المقيدة بالخصوصية كالصلاة عن طهارة وإطعام العدد الخاص في الكفارة، وفي الثاني تعدده، فيكون أحد الطلبين متعلقاً بالذات، والثاني متعلقاً بواجدية الذات للخصوصية، كالصلاة في المسجد، أو مع تثليث الذكر في الركوع والسجود، أو غير ذلك.

أما في العقود ونحوها فلا مجال لشيء من ذلك، لأن خصوصية الاجتماع إن كانت مأخوذة في موضوع العقدتعين وحدة العقد، ومقتضي ذلك بطلانه مع تخلفها، كما لو باعه الضيعة بحدودها بألف دينار والباب بمصراعيها بعشرة دنانير، والناقة وفصيلها بمائة دينار ونحو ذلك، وإن كانت خارجة عنه مقارنة له تعين تعدد العقد من دون ارتباطية، كما لو قال وكيل المرأتين للرجل: زوجتك فلانة وفلانة كل منهم

ص: 356

علي مهر قدره كذا، فقبل الرجل زواجهما معاً، أو قال: بعتك الثور بمائة دينار والبقرة بمائة وخمسين ديناراً، فقبل. ولازم ذلك أنه لو بطل العقد في أحد الموضوعين فلا يمنع من صحة العقد في الآخر، ولا يقتضي الخيار فيه.

والظاهر خروجه عن محل كلامهم في المقام المفروض فيه وحدة الصفقة. ولذا التزموا بثبوت الخيار مع عدم إجازة المالك الآخر، ولا وجه لثبوته مع تعدد العقد عرفاً، ومحل الكلام إنما هو الأول الذي عرفت عدم الانحلال فيه. ومن هنا لا مجال للتفصيل المذكور.

وقد اعترف (قدس سره) في الجملة بما ذكرنا في شرح المسألة الخامسة من كتاب الإجارة وفي شرح المسألة السادسة والعشرين من فصل أولياء العقد من كتاب النكاح، وفي شرح المسألة الخامسة من كتاب الوصية. فراجع. وأوضحه بتفصيل في مجلس درسه الشريف. وكيف كان فلا تنهض العمومات بإثبات صحة العقد في بعض مضمونه.

مضافاً إلي أن التزامهم بالخيار لتبعض الصفقة لا يناسب التمسك بعموم نفوذ العقد ووجوب الوفاء به المستفاد من الآية الكريمة، لوضوح أن مقتضي العموم المذكور هو اللزوم، فمع فرض ثبوت الخيار في العقد وعدم لزومه ينكشف قصور العموم عنه.

ودعوي: أن العموم كما تضمن اللزوم تضمن النفوذ والصحة، فالخروج عما تضمنه من اللزوم لا يستلزم الخروج عما تضمنه من النفوذ والصحة.

مدفوعة: بأن اللزوم والنفوذ لم يستفادا من الآية الكريمة بدالين بنحو الانحلال، ليمكن التفكيك بينهما في الحجية، وإنما استفيدا معاً من الأمر بالوفاء، لظهور أن الأمر بالوفاء يقتضي اللزوم المستلزم للنفوذ، فمع فرض عدم اللزوم يلزم عدم الأمر بالوفاء، فلا يبقي مجال لاستفادة النفوذ.

نعم، هذا لا يجري في مثل آية التجارة عن تراض وآية حلّ البيع بناء علي ثبوت الإطلاق فيها، لأن مفادهما النفوذ والصحة دون اللزوم، فينحصر وجه

ص: 357

المنع من التمسك بها، بالوجه الأول، وهو ظهورها في صحة البيع والتجارة في تمام مضمونهما، ولا مجال لاستفادة الصحة في خصوص بعض المضمون منها. وبالجملة لا مجال للتمسك بالعمومات في المقام ونحوه من أجل إثبات صحة العقد في بعض مضمونه.

نعم، الظاهر أن صحة العقد في بعض مضمونه من الأحكام العرفية الارتكازية، كما يظهر بملاحظة سيرتهم فيما بينهم، وقد تكرر منا أنه يكفي في العمل علي الارتكازيات العرفية عدم ثبوت الردع عنها. بل يستفاد إمضاؤها في المقام من أمرين:

الأول: ظهور بعض النصوص في جري الشارع الأقدس عليهما في جملة من الموارد. ففي مكاتبة الصفار للإمام العسكري (عليه السلام) فيمن باع قرية بحدودها، وليس له منها إلا قطاع أرضين، فوقع (عليه السلام):

(لا يجوز بيع ما ليس يملك، وقد وجب الشراء من البايع علي ما يملك) (1) .

وفي معتبر عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(في رجل باع أرضاً علي أنها عشرة أجربة، فاشتري المشتري من ذلك بحدوده، ونقد الثمن، ووقع صفقة البيع، وافترقا، فلما مسح الأرض فإذا هي خمسة أجربة. قال: إن شاء استرجع فضل ماله [وأخذ الأرض] وإن شاء رد البيع وأخذ ماله كله. إلا أن يكون له إلي جنب تلك الأرض أيضاً أرضون، فليؤخذ، ويكون البيع لازماً له... ) (2) فإنه يلزم تنزيله علي كون المبيع متقوماً بالمساحة، لا بالأرض الشخصية مع كون المساحة شرطاً فيها، وحينئذٍ يدل علي نفوذ البيع في بعض المبيع. فتأمل.

وفي صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) فيمن اكتري دابة إلي موضع معين، فأعيت الدابة:

(قال: فدعوتهما إلي، فقلت للذي اكتري: ليس لك يا عبد الله أن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 358

تذهب بكراء دابة الرجل كله. وقلت للآخر: يا عبد الله ليس لك أن تأخذ كراء دابتك كله. ولكن انظر قدر ما بقي من الموضع وقدر ما أركبته فاصطلحا عليه، ففعلا) (1) . فإن ظاهر أمره (عليه السلام) بملاحظة نسبة ما قطعه من الطريق إلي ما لم يقطعه هو لزوم دفع ما يناسب ذلك من الأجرة المسماة، ولو كانت الإجارة لا تتبعض بل تبطل لكان اللازم دفع أجرة المثل لما قطعه من الطريق مهما بلغت، من دون حاجة إلي ملاحظة نسبة ما قطعه إلي ما لم يقطعه.

وفي خبر أبي شعيب المحاملي الرفاعي:

(سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قبّل رجلاً أن يحفر له عشرة قامات بعشرة دراهم، فحفر له قامة ثم عجز. فقال: تقسم عشرة علي خمسة وخمسين جزءاً، فما أصاب واحداً فهو للقامة الأولي والاثنان للثانية والثلاثة للثالثة، وعلي هذا الحساب إلي العشرة) (2) . فإن استحقاق أجرة ما عمل بنسبته من الثمن لا بأجرة المثل يبتني علي تبعيض مضمون العقد عند عدم صحته بتمامه بسبب التعذر.

ومثل ذلك ما دل علي عدم نفوذ الشرط المخالف للكتاب مع صحة العقد، كما في قصة بريرة، حيث بيعت وشرط مواليها أن ولاءها لهم، فردّ رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عليهم شرطهم لأن الولاء لمن اعتق ولم يبطل بيعها(3). وما دل علي أن من تزوج امرأة علي أنها بكر فبانت ثيباً صح نكاحها ونقص مهرها(4) ، وأن من تزوجت رجلاً علي أنه حرّ، فبان عبداً، صح نكاحه، وكان لها الخيار(5) ، مع ظهور أن الشرط بعض مضمون العقد.

الثاني: ظهور مفروغية الأصحاب عن ذلك وإجماعهم عليه، في مسألتنا هذه ونظائرها، فإن شيوع الابتلاء بذلك في الفروع المختلفة من العصور الأولي يمنع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 12 من أبواب كتاب الإجارة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب 35 من أبواب كتاب الإجارة حديث: 2.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 52 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 10 من أبواب العيوب والتدليس.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب العيوب والتدليس.

ص: 359

عادة من خطئهم فيه. وذلك بمجموعه كاف في الدليل علي الصحة من دون حاجة للعمومات. ومن ثم لا ينبغي التوقف في الصحة في مسألتنا هذه وفي نظائرها.

ومنه يظهر ضعف ما عن الاردبيلي من احتمال بطلان العقد رأساً، لأن التراضي إنما حصل ببيع المجموع. فإن ذلك وإن كان متجهاً بناء علي ما سبق من عدم انحلال العقد عرفاً، إلا أنه لابد من البناء علي الصحة في بعض مضمون العقد، لما سبق. ولعله لذا لم يعرف موافق له من أصحابنا كما في الجواهر. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

ثم إن هذا مبني علي جواز بيع ملك شخصين صفقة واحدة أما لو قيل بعدم صحة ذلك، لاستلزامه جهالة الثمن في حق كل منهما. فالبيع باطل ذاتاً، لا من حيثية الفضولية. وقد ذكر في أواخر كتاب الشركة من الخلاف أنه إذا كان لرجلين عبدانِ يختص كل منهما بواحد منهما، لم يصح بيعهما صفقة بثمن واحد، لأنهما بمنزلة بيعين، فيلزم جهالة الثمن في كل منهما. كما ذكر ذلك في المبسوط أيضاً لكن خصه بما إذا اختلفت قيمة العبدين معللاً له بذلك أيضاً.

والمناسب للتعليل المذكور توقف البطلان علي جهالتهما بنسبة قيمة كل من العبدين لقيمة الآخر، سواء كانتا متساويتين أم مختلفتين. إذ مع العلم بها يتيسر معرفة ما يلحق كلا منهما من الثمن المعلوم.

وكيف كان فلا مجال لما ذكر (قدس سره) من تنزيل البيع المذكور بمنزلة البيعين، إذ مجرد تعدد المالكين لا يقتضي ذلك بعد وحدة الصفقة، والمتيقن من دليل اعتبار العلم بالثمن اعتباره في مجموع الصفقة. بل لا ينبغي التأمل في الاجتزاء بذلك بملاحظة مكاتبة الصفار ومعتبر عمر بن حنظلة السابقين. وبملاحظة السيرة علي بيع وكيل الشركاء وولي الأيتام ونحوهما المال المشترك فيه مع الجهل حين البيع بمقدار سهام كل منهم وما يلحقه من الثمن. ومن هنا لا ينبغي التوقف في عدم بطلان البيع من هذه الجهة.

بل هو لا يناسب ما صرح به في الخلاف والمبسوط من صحة البيع في تبعض

ص: 360

الصفقة فيما ينفذ فيه البيع بحصته من الثمن، مع غلبة جهالة مقدار الحصة. اللهم إلا أن يكون مورد كلامه في تبعض الصفقة ما إذا قصد البايع بيع المجموع لنفسه، وترتيب أثر ذلك - تشريعاً، أو للخطأ في الموضوع الخارجي، لتخيل كونه مالكاً للكل

ومورد كلامه في كتاب الشركة ما إذا قصد كل من البايعين بيع حصته لنفسه بما يقابلها من الثمن، وأن ذلك هو الذي يكون بمنزلة البيعين دون الأول.

لكن ذلك حينئذٍ لا يجري في كثير من فروض مسألتنا، لأن كثيراً منها مبني علي قصد البايع بيع المجموع لنفسه، كما هو الظاهر من مكاتبة الصفار ومعتبر ابن حنظلة. مع أن ما ذكره في كتاب الشركة لا يتم في نفسه بملاحظة المرتكزات المعتضدة بالسيرة المشار إليها آنفاً.

بقي شيء. وهو أن التبعيض في صحة العقد مع عدم إجازة الآخر إنما هو حيثية عدم مانعية تبعيض مضمون العقد. فلا ينافي في بطلانه إذا لزم منه محذور آخر، كما نبه له في الجواهر، قال:

(وعلي كل حال فلا خلاف في صحة بيعه ونفوذه فيما يملك إذا لم يتولد من عدم الإجازة مانع شرعي، كلزوم رباء وبيع آبق من دون ضميمة ونحو ذلك) . وأقره علي ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) وغير واحد ممن تأخر عنه.

وما ذكره تام كبروياً. وإنما الإشكال في المثالين اللذين ذكرهما. لأن الظاهر بطلان البيع فيهما حتي مع الإجازة، بل حتي مع عدم كون البيع فضولياً، لصدوره عن وكيل المالكين معاً، وأنه يعتبر في الضميمة المصححة لبيع العبد الآبق أن تكون ملكاً لصاحب العبد، كما تضمنته النصوص، ففي صحيح رفاعة

:(سألت أبا الحسن موسي) قلت له: أيصلح لي أن اشتري من القوم الجارية الآبقة وأعطيهم الثمن وأطلبها أنا؟ قال: لا يصلح شراؤها إلا أن تشتري منهم معها ثوباً أو متاعاً، فتقول لهم: اشتري منكم جاريتكم فلانة وهذا المتاع بكذا وكذا درهماً، فإن ذلك جائز)(1) ونحوه غيره.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 11 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

ص: 361

صح، وإلا فلا. وحينئذٍ يكون للمشتري خيار تبعض الصفقة (1) فله فسخ البيع بالإضافة إلي ما يملكه البايع.

---------------

كما أن التفاضل المنهي عنه في الربا لا يختص بالمشتري، بل يعم البايع أيضاً، فإذا كان المختلفان في الجنس ملكاً لشخصين، وبيعا بأحد الجنسين مع التفاضل من شخص واحد، فالربا وإن لم يلزم في حق المشتري، إلا أنه يلزم في حق أحد البايعين، فمثلاً إذا كان لزيد رطل من العدس، ولعمرو رطل من الماش، وكانت قيمتهما السوقية واحدة فباعاهما صفقة من بكر بثلاثة أرطال من العدس. فالربا وإن لم يلزم في حق بكر، إلا أنه يلزم في حق زيد، لأنه باع رطلاً من العدس برطل ونصف منه.

ومن هنا لو كان البيع بغير إذن زيد يكون عدم إجازته له في ماله مصححاً له، لصحة البيع في حق عمرو وبكر فقط، ولا ربا بينهما، لعدم التجانس بين العوضين. وإن لم يخل عن إشكال بعد وحدة الصفقة.

ولو غض النظر عنه وأمكن التفكيك بين أبعاض الصفقة من حيثية الربا تعين البناء علي عدم الأثر للإجازة في بطلان البيع، بل يصح البيع في حق عمرو وبكر مطلقاً، لعدم الربا، ويبطل في حق بكر وزيد مطلقاً للزوم الربا.

وكيف كان فالمحذور في المقام ليس لازماً من عدم الإجازة بل من تعدد من له البيع، سواء لم يكن فضولياً أصلاً أم كان فضولياً في حق أحدهما فقط أو في حقهما معاً.

فالأولي التمثيل لما ذكره (قدس سره) بما إذا كان المشتري ولياً علي اليتيم ولم يكن من مصلحة اليتيم شراء ما يختص بالمالك منفرداً من دون أن ينضم للآخر، حيث يكون عدم إجازة مالك الآخر مستلزماً لقصور سلطنة الولي عن شراء ما يختص بالمالك، ويبطل شراؤه له من أجل ذلك. فلاحظ.

(1) بل خلاف ظاهر، بل نسبه في التذكرة إلي علمائنا. لأن المشتري إنما أقدم

ص: 362

علي تمامية الصفقة، فهي من سنخ الشرط الضمني الذي يثبت الخيار بتخلفه ويناسبه ما سبق في معتبر عمر بن حنظلة.

هذا وقد خصوا ذلك بما إذا كان جاهلاً بالحال، لأنه مع علمه به أقدم علي إلغاء الشرط. لكنه لا يطرد، بل قد يكون إقدامه مبنياً علي سلامة تمام المبيع، لتوقع الإجازة أو برجائها، أو للبناء تشريعاً أو عصياناً علي ترتيب آثار الملك للجميع في حق البايع للمجموع. نعم إذا كان إقدامه غير مبني علي ذلك اتجه عدم ثبوت الخيار له، كما ذكره.

هذا وفي المبسوط في أوائل فصل تفريق الصفقة قال:

(والمشتري بالخيار بين أن يمسكه أو يرده، فإن اختار الردّ فلا كلام، وإن اختار الإمساك فبِكَم يمسك ؟ بكل الثمن أو بحصته ؟ فالأحوط أن نقول: يأخذه بحصته من الثمن، أو يردّ، لأن الثمن يتقسط عليهما. ومتي اختار أن يمسك بكل الثمن فلا خيار للبايع، وإن اختار إمساكه بما يخصه من الثمن فالأولي أن نقول: لا خيار له أيضاً. وإن قلنا: له الخيار، كان قريباً) .

ولا يخفي أنه لا مجال لاحتمال الإمساك بتمام الثمن، لأن تمام الثمن إنما جعل في مقابل المجموع، فإن بني علي عدم تبعيض العقد تعين بطلانه، لفرض عدم صحة البيع في البعض، وإن بني علي تبعيضه تعين تقسيط الثمن، لأن جعل مجموع الثمن في مقابل مجموع المبيع يرجع بمقتضي التحليل الضمني إلي جعل أجزاء الثمن في مقابل أجزاء المبيع بالنسبة. ومن هنا يتعين البناء علي التقسيط، كما جزم به في الخلاف و الغنية، وعليه جري الأصحاب، بنحو يظهر منهم المفروغية عنه.

وحينئذٍ فكأن الوجه فيما قربه من ثبوت الخيار للبايع مع التقسيط: أن البايع إنما أقدم علي البيع بتمام الثمن، فإذا لم يسلم له ثبت له الخيار، كخيار المشتري مع عدم سلامة تمام المبيع له. لكنه يندفع بأنه إنما أقدم علي بيع المجموع بتمام الثمن، الراجع ضمناً إلي مقابلة ما يملكه ببعض الثمن، لا إلي مقابلته بتمام الثمن، فإذا سلم له بعض

ص: 363

(364)

(مسألة 21): طريق معرفة حصة كل واحد منهما من الثمن أن يقوّم كل من المالين بقيمته السوقية، فيرجع المشتري بحصة من الثمن نسبتها إلي الثمن نسبة قيمة مال غير البايع إلي مجموع القيمتين (1)، فإذا كان قيمة ما له عشرة،

---------------

الثمن في مقابل ما يملكه لم يكن ذلك مخالفاً لما أقدم عليه. ومن ثم لا ينهض ذلك بإثبات الخيار للبايع. ولعله لذا جزم في الخلاف والغنية بعدم ثبوت الخيار للبايع، وهو ظاهر المشهور. كما قد يستدل عليه بقوله (عليه السلام) في مكاتبة الصفار المتقدمة:

(وقد وجب الشراء من البايع علي ما يملك) . وإن كان الظاهر أن مفاده نفوذ الشراء لا لزومه، وإنما يتجه دلالته علي اللزوم لو كان التعبير هكذا: وقد وجب الشراء علي البايع.

نعم، قد يتجه الخيار لو كان للاجتماع دخل في ضعف الرغبة فيما يملكه، وفي نقص قيمته، بحيث لا يرغب في بيعه لو انفرد، أو بحيث تكون قيمته لو انفرد أكثر مما يتقسط عليه من قيمتهما مجتمعين، حيث قد يدعي أنه إنما أقدم علي الرضا بالبيع وبالقليل من ثمنهما من أجل انضمام أحدهما للآخر، لأنه لا يسهل عليه جمعهما في ملكه ولا بيع ما يملكه منفرداً، فإذا انكشف عدم الاجتماع كان له الخيار من أجل استرجاع ما يملك، أو من أجل تحصيل ما يلحقه من القيمة منفرداً، سواءً كان يري نفسه مالكاً لما يملكه للخطأ في الحكم أو الموضوع، أم كان في مقام ترتيب أثر ملكيته تشريعاً أو تمرداً.

نعم، لا يتجه ذلك لو لم يكن بيعه لما لا يملكه لنفسه، بل لمالكه الحقيقي بتخيل وكالته عنه أو برجاء إجازته، حيث يكون قد أقدم حينئذٍ علي النقص الحاصل ببيعهما مجتمعين من دون أن يجتمعا في ملكه. وإن كان الأمر محتاجاً لمزيد من التأمل.

(1) عبارات الأصحاب (رضوان الله عليهم) وإن اختلفت في كيفية التقويم، إلا أنها تتفق في النتيجة مع الوجه المذكور فيما إذا لم يكن للإجماع دخل في قيمة المبيعين.

ص: 364

وقيمة مال غيره خمسة، والثمن ثلاثة، يرجع المشتري بواحد، الذي هو ثلث الثمن، ويبقي للبايع اثنان، وهما ثلثا الثمن. هذا إذا لم يكن للاجتماع دخل في زيادة القيمة ونقصها، أما لو كان الأمر كذلك وجب تقويم كل منهما في حال الانضمام إلي الآخر ثم تنسب قيمة كل واحد منهما إلي مجموع القيمتين (1)،

---------------

وهو الناسب لمرتكزات المتبايعين في تعيين الثمن في مقابل المبيعين معاً، إذ لما كان جعل الثمن لتدارك النقص المالي بفقدها تعين انحلاله ارتكازاً علي نسبة ماليتهما.

ودعوي: أن مقتضي ذلك دوران التقسيط مدار ما يعتقدانه من النسبة بين المالين، لا مدار النسبة الواقعية بينهما التابعة للسوق. فإذا كانت النسبة الواقعية التماثل، وكانا يعتقدان التفاضل فالتقسيط علي التفاضل، لأنه المقصود لهما حين المعاملة في توزيع الثمن.

مدفوعة: بأن المقصود لهما في التوزيع ارتكازاً هو النسبة الواقعية، ولا عبرة بالخطأ في تشخيصها. ولذا لو اختلفا فيما بينهما في النسبة بين المالين، أو اختلفا مع المشتري فيها لا يبطل البيع، بلحاظ عدم الاتفاق بين الأطراف علي المضمون المنشأ، بل يصح البيع ويتعين الرجوع لأهل الخبرة في تعيينها. فلاحظ.

(1) كما ذكره غير واحد ممن علق علي كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) والوجه فيه: أنه حيث كان الوجه في انحلال الثمن علي المبيعين بلحاظ نسبة ماليتهما - كما سبق - هو مرتكزات المتبايعين، فمن الظاهر أن مرتكزاتهما إنما تقتضي ملاحظة ماليتهما حال بيعهما، وهو حال اجتماعهما، فلابد من ملاحظة قيمة كل منهما وقيمة مجموعهما في ذلك الحال، ولا معني للحاظ قيمتهما حال الانفراد طرفاً في النسبة.

وبذلك يظهر ضعف ما عن المشهور من أنهما يقوما مجتمعين ويقوم أحدهما منفرداً، وتنسب قيمته إلي قيمة المجموع، سواءً كان الذي يقوّم منفرداً هو غير المملوك الذي لا يصح البيع فيه، فيسترجع المشتري من الثمن بنسبة قيمته ويبقي الباقي للبايع،

ص: 365

فيؤخذ من الثمن بتلك النسبة. مثلاً: إذا باع الجارية وابنتها بخمسة، وكانت قيمة الجارية في حال الانفراد ستة وفي حال الانضمام أربعة، وقيمة ابنتها بالعكس، فمجموع القيمتين عشرة، فإن كانت الجارية لغير البايع رجع

---------------

كما هو مقتضي إطلاق الشرايع، أم كان الذي يقوّم منفرداً هو المملوك الذي يصح البيع فيه، فيأخذ البايع من الثمن بنسبة قيمته ويبقي الباقي للمشتري، كما هو مقتضي إطلاق ما سبق من المبسوط.

ويظهر الفرق بينهما في بعض صور ما إذا كان للاجتماع دخل في زيادة القيمة أو نقصها. فلو كان قيمة كل منهما منفرداً ثلاثة، وقيمتهما مجتمعين عشرة، يسترجع المشتري علي الأول ثلاثة، وعلي الثاني سبعة. ولو كان قيمة كل منهما منفرداً ثلاثة وقيمتهما مجتمعين أربعة يسترجع المشتري علي الأول ثلاثة، وعلي الثاني واحداً.

ومن ثم قد يستدل علي الثاني بأن البيع حيث وقع علي المجموع ولم يسلم منه إلا الواحد تعين كون الثمن المستحق هو ما يقابل ذلك الواحد بقيمته حال وحدته، نقصت عما كان عليه حال اجتماعه أو زادت.

ويشكل بأن الاجتماع والانفراد لم يجعل بإزائهما شيء من الثمن، ليسقط منه شيء في مقابل الاجتماع أو يلحق منه شيء من أجل الانفراد، وإنما جعل الثمن بإزائهما معاً حال اجتماعهما، فلابد من تقسيطه علي كل منهما بلحاظ قيمته حال اجتماعهما، كما سبق.

ومثله ما اختاره شيخنا الأعظم (قدس سره) - وحكاه عن ظاهر الإرشاد وصريح المحقق الثاني في شرحه للإرشاد وهو ظاهر السرائر وعليه جري في الروضة والمسالك والرياض - من تقوميهما منفردين، وملاحظة نسبة قيمة أحدهما إلي مجموع قيمتيهما. إذ لا مجال لتقوميهما منفردين بعد جعل الثمن بإزائهما حال اجتماعهما المستلزم لتقسيطه عليهما بلحاظ قيمتيهما في الحال المذكور. ويأتي في ذيل الكلام في المسألة ما يوضح

ص: 366

المشتري بخمسين (1)، وهما اثنان من الثمن، وبقي للبايع ثلاثة أخماس. وإن كانت البنت لغير البايع رجع المشتري بثلاثة أخماس الثمن (2)، وهو ثلاثة، وبقي للبايع اثنان.

---------------

ذلك ويؤكده. فلاحظ.

(1) لأن ذلك هو نسبة قيمتها لقيمة بنتها حال اجتماعهما. أما بناء علي ما عليه المشهور فاللازم أن يرجع بثلاثة أخماس، لأن نسبة قيمة ما صح فيه البيع منفرداً لقيمة المجموع خمسان، ونسبة قيمة ما لم يصح فيه البيع منفرداً لها ثلاثة أخماس. وكذا بناء علي ما سبق من شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره، لأن قيمة البنت - التي صح فيها البيع - منفردة خمسا مجموع قيمتهما منفردين.

(2) لأن ذلك هو نسبة قيمتها القيمة أمها حال اجتماعهما، نظير ما سبق في أمها.

أما بناء علي ما عليه المشهور فاللازم أن يرجع بخمسين، وهما قيمة البنت التي لم يصح فيها البيع، ويدفع له ثلاثة أخماس، وهما قيمة الجارية التي صح فيها البيع. وكذا بناء علي ما سبق من شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره، لأن قيمة الجارية التي صح فيها البيع منفردة ثلاثة أخماس مجموع قيمتهما منفردين.

بقي في المقام أمران:

الأول: أن ما سبق في كيفية التقسيط يجري في صورة الإجازة، وفي صورة توكيل أحد المالكين للآخر، أو توكيلهما لشخص ثالث، فكل من المالكين يأخذ من الثمن بنسبة قيمة ماله لقيمة مال الآخر في حال انضمامهما. لعين ما سبق من الوجه. كما أنه بناه علي ما ذهب إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) تبعاً لظاهر الإرشاد وغيره فاللازم البناء علي أن كلا من المالكين يأخذ من الثمن بنسبة قيمة ماله لقيمة مال الآخر منفرداً. ولا يبعد بناؤهم علي ذلك.

ص: 367

أما بناءً علي المشهور. فاللازم البناء علي أن كلا من المالكين يأخذ من الثمن بنسبة قيمة ماله منفرداً لقيمتها مجتمعين. لكن يلزمه أنه لو كان لاجتمعهما أثر في زيادة القيمة أو نقصها أن يزيد الثمن علي ما يأخذه كل منهما أو ينقص، فيقع الكلام في توزيع الزيادة أو النقيصة، وأنها هل تكون بالسوية، أو بنسبة قيمة كل من المالين لقيمة الآخر منفرداً، فمن كانت قيمة ماله ضعف قيمة مال الآخر يأخذ ثلثي الزيادة ويتحمل ثلثي النقيصة، أو يختص بالزيادة والنقيصة من يختص ماله بها، أو بنسبة ما يحصل منها في ما له ؟ وجوه، قد ينسبق الأخير للذهن، لأنه الأقرب للإنصاف ارتكازاً.

لكنه في الحقيقة يبتني علي الوجه المختار - من كون الملحوظ في توزيع الثمن عند البيع هو قيمة كل منهما في حال الانضمام للأخير - بحيث لو تم كان شاهداً له، ولبطلان مبني المشهور، كما قد يظهر بقليل من التأمل.

الثاني: لو كان كل من المالين حصة مشاعة في عين واحدة، كما لو باع مالك حصة في الدار تمامها جري الوجه السابق، ولازمه أن يأخذ من الثمن بنسبة ملكه من الدار قلت أو كثرت، لعدم اختلاف قيمة الأسهم في حال الاجتماع، سواء قلت أم كثرت.

أما بناء علي ما اختاره شيخنا الأعظم (قدس سره) فيختلف الحال، كما ذكره (قدس سره)، لأن الأسهم كلما قَلَّت، قَلَّت قيمتها منفردة غالباً، فقيمة الثلث منفرداً أقل من نصف قيمة الثلثين منفردين.

لكن لازم ذلك الاختلاف مع الإجازة أو بيع الشريكين أو الشركاء، مع أنه لا ريب في بناء العرف وسيرتهم علي توزيع الثمن بنسبة السهام. وهو شاهد ببطلان هذا الوجه وتمامية الوجه المختار.

ويكثر الفرق بناء علي قول المشهور، لظهور أن نسبة قيمة سهام العين منفردة إلي قيمة العين بتمامها أقل بكثير من نسبة نفس السهام للعين. وحينئذٍ لا يتم ما عليه العرف - من توزيع الثمن بنسبة السهام - إلا بالبناء في توزيع الزيادة علي الوجه الثالث

ص: 368

(369)

(مسألة 22): إذا كانت الدار مشتركة بين شخصين علي السوية، فباع أحدهما نصف الدار (1)، فإن قامت القرينة علي المراد نصف نفسه أو نصف

غيره أو نصف في النصفين (2) عمل علي القرينة (3)، وإن لم تقم القرينة علي الشيء حمل علي نصف نفسه لا غير (4).

---------------

الذي تقدم في الأمر الأول، وتقدم منّا التنبيه إلي أنه لو تم يبتني علي الوجه المختار، ويكون شاهداً له ولبطلان مبني المشهور. فلاحظ.

(1) الكلام الآتي يجري في جميع فروض بيع مالك السهم من العين لما يساوي سهمه، كما لو باع مالك ثلث العين ثلثها، أو باع مالك ربع العين ربعها، وهكذا.

(2) أو بنسبة مختلفة فيهما، كربع أحد النصفين وثلاثة أرباع الآخر، وغير ذلك.

(3) بلا إشكال لتبعية العقد للقصد. ويترتب علي ذلك أن يكون العقد نافذاً في الصورة الأولي، وفضولياً في تمام موضوعه في الثانية، وفي بعض موضوعه بالنسبة في الثالثة، فيجري فيه ما تقدم في المسألة السابقة. إلا أن يكون وكيلاً أو مأذوناً عن شريكه في البيع أو ولياً عليه، فينفذ في الجميع، ولا يكون فضولياً.

(4) كما في جامع المقاصد والمسالك وغيرهما، وهو الذي ذكره في القواعد، لكن عقبه باحتمال الإشاعة. وفي الجواهر: (صرح به جميع من تعرض لذلك... ولا ينافي ذلك احتمال الإشاعة في النصيبين في جملة من الكتب، ضرورة عدم منافاة ذلك للظاهر). وكأنه حمل احتمال الإشاعة في كلامهم علي احتمال إرادتها واقعاً من دون أن يعتد به عملاً. لكنه خلاف ظاهر مثل العلامة في القواعد.

وكيف كان فالكلام في مقامين:

المقام الأول: فيما إذا علم أن البايع لم يقصد إلا بيع النصف بما له من مفهوم عرفي من دون تقييد بنصف خاص مما سبق ذكره. والظاهر أن البيع يقع علي المشاع في

ص: 369

المشاع، لا لأنه المقصود بعنوانه، كي يتجه الإشكال عليه بأنه ترجيح بلا مرجح بعد ما سبق من إمكان إرادة الإشاعة بوجوه أخر، بل لأن طبيعة الإشاعة تقتضي الإشاعة في الأجزاء المفروضة في رتبة سابقة عليها، سواء كانت تلك الأجزاء خارجية منتزعة من جهة حقيقية، أم اعتبارية منتزعة من جهة اعتبارية. فالأولي هي الأجزاء الخارجية المتميزة عن بعضها من حيثية الطول أو العرض أو العمق أو الوزن أو غيرها، والثانية هي الأجزاء الاعتبارية القائمة بالمالية المتميزة عن بعضها بلحاظ إشاعة سابقة، كما لو كان نصف المال المشاع لزيد ونصفه الآخر لعمرو، أو كان موزعاً بينهما وبين اثنين آخرين أرباعاً، أو كان نصفه مال وقف ونصفه مملوكاً أو كان نصفه للوقف ونصفه زكاة أو غير ذلك.

كل ذلك للوجه الملزم بحمل إطلاق الحصة علي الحصة المشاعة، حيث لا إشكال في أن المفهوم من الاقتصار علي عنوان النصف أو الربع أو غيرها من دون تعيين لجهة خاصة يكون التقسيم بلحاظها هو إرادة الجزء المشاع، دون المعين. وأن إرادة الجزء المعين تحتاج إلي مؤنة وبيان.

وكأنه لأن انتزاع الجزء المعين يتوقف علي ملاحظة جهة زائدة علي موضوعه تكون التجزئة بلحاظها من طول أو عرض أو عمق أو وزن أو مساحة أو غيرها، أما الجزء المشاع فانتزاعه لا يتوقف إلا علي ملاحظة موضوعه بنفسه، كالدار مثلاً. كما أن الجزء المعين لابد من انتزاعه وتعيينه في مرتبة سابقة علي ما يجعل عليه من بيع أو وقف أو هبة أو إبراء أو غيرها، بخلاف الجزء المشاع، فإنه ينتزع بجعل ما يتعلق به من الأمور المذكورة، من دون أن يكون متعيناً، بل ولا منتزعاً في مرتبة سابقة عليها.

وكيف كان فلهذين الأمرين أو غيرهما لا إشكال عند العرف في حمل الجزء ثبوتاً في فرض الإطلاق والاقتصار علي عنوانه علي المشاع، دون المعين، بحيث تحتاج إرادة المعين إلي مؤنة زائدة.

وذلك كما يقتضي عدم الحمل علي الجزء المعين بلحاظ الجهات الخارجية من

ص: 370

الطول والعرض وغيرهما، كذلك يقتضي عدم الحمل علي الجزء المعين بلحاظ إشاعة سابقة علي مفاد القضية المجعولة من بيع أو وقف أو غيرهما، فإن الجزء المذكور وإن كان مشاعاً، إلا أن له نحواً من التعين الاعتباري في مرتبة سابقة، وإرادته تتوقف علي مؤنة زائدة علي ملاحظة موضوع الانقسام - كالدار - وهو ملاحظة الانقسام الإشاعي السابق، كما تتوقف إرادة الجزء الخارجي علي ملاحظة الجهة المميزة له.

وبعبارة أخري: الحمل علي الجزء المشاع بلحاظ تجزئة سابقة ليس حملاً علي الإشاعة، بل هو حمل علي التعيين الذي هو خلاف الظاهر في نفسه، لاحتياجه إلي مؤنة زائدة، غاية الأمر أن المعين مشاع في نفسه، وذلك وحده لا يكفي في الحمل عليه.

ولذا لا إشكال ظاهراً في حمل المبيع في المقام علي المشاع في المشاع لو لم يكن البايع مالكاً لأحد النصفين، كالوكيل عن المالكين، والفضولي. سواءً كان البايع عالماً بالتنصيف الإشاعي السابق أم جاهلاً به.

وأما ما يظهر من غير واحد من أن الحمل علي النصف المشاع في المشاع يتوقف علي قصد بيع نصف النصفين، ولا مرجح لحمل عليه من بين المحتملات الأخر. فيظهر اندفاعه مما سبق من أن المشاع في المشاع هو مقتضي طبيعة الإشاعة، المفروض ثبوتها بمقتضي الإطلاق، بلا حاجة إلي قصد بيع نصف النصفين. بل قصد بيع نصف النصفين المشاعين كقصد نصف النصفين الطوليين أو العرضيين أو نحوهما خارج عما يقتضيه الإطلاق من الإشاعة، وإن اتفق معها نتيجة.

هذا وربما يدعي أن المقام من موارد بيع الكلي في المعين، وأن المبيع هو نصف صالح للانطباق علي النصفين، وحيث قد ملك البايع فرداً منه تعين المبيع فيه.

وفيه: أولاً: أن بيع الكلي في المعين يختلف سنخاً عن بيع الجزء المشاع. ويظهر الفرق بينهما في الأجزاء الخارجية حيث تبقي علي ملك البايع في الأول، فيستقل هو بالتصرف فيها، ولا يملكها المشتري إلا بتسليم الفرد الذي يختاره، أما في الثاني فيتعين

ص: 371

الشركة فيها، المستلزمة لعدم استقلال كل منهما بالتصرف فيها، بل لابد من صدوره بنظرهما معاً، والمفروض في المقام هو بيع الجزء المشاع الموجب للشركة، ولذا قد لا يكون للجزء المبيع فرد آخر، كما لو كان المبيع ثلثا العين. كما أنه لا إشكال في احتياج بيع الكلي في المعين إلي عناية خاصة خارجة عن مفروض الكلام.

وثانياً: أن ذلك لا يقتضي تعين المبيع في النصف الذي للبايع، بل يتوقف تعينه فيه علي تسليمه وفاء عن الكلي المبيع، فلو لم يسلمه البايع إياه، وإنما سلمه النصف الآخر بإذن مالكه وفاء عن الكلي المذكور ملك ذلك النصف وبقي للبايع نصفه.

ومثله ما قد يدعي من منافاة ذلك لما ذكره في الشرايع وغيره من أن المرأة إذا وهبت نصف مهرها مشاعاً ثم طلقت قبل الدخول فللزوج الباقي. بدعوي أن الطلاق يقتضي ملك الزوج لنصف المهر، فلو تم ما سبق من تنزيل النصف علي المشاع في المشاع لا النصف المملوك لزم استحقاقه نصفاً مشاعاً في الباقي ونصف قيمة الموهوب، لا تمام النصف الباقي.

لكن القياس في غير محله، لأن رجوع نصف المهر بالطلاق لا يبتني علي الإشاعة، بحيث يكون الزوج شريكاً لها فيه ولا يجوز لها الاستقلال بالتصرف فيه، بل علي مجرد استحقاقه عليها نصف المهر، بحيث يجب عليها إرجاعه له، مع جواز استقلالها بقسمته، وضمانها له لو تلف بعد الطلاق من دون تفريط، وغير ذلك. فإن لازم ذلك إرجاع الباقي بعد قدرتها عليه، لبقائه عندها.

ويناسب ذلك ضمانها له ما تلف قبل الطلاق، وما في صحيح محمد بن مسلم أو موثقه: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل تزوج امرأة فأمهرها ألف درهم، ودفعها إليها، فوهبت له خمسمائة درهم وردتها عليه، ثم طلقها قبل أن يدخل بها. قال: ترد عليه الخمسمائة درهم الباقية، لأنها إنما كانت لها خمسمائة درهم فوهبتها له، فهبتها له ولغيره سواء)(1). لظهور أنه لو ابتني الأمر علي الإشاعة لزم استحقاقه نصف

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 35 من أبواب المهور حديث: 1.

ص: 372

الخمسمائة الباقية وضمانها له نصف الخمسمائة التي وهبتها بمثلها، لا بخصوص نصف الخمسمائة الآخر.

وهناك بعض الوجوه الأخر ذكرها شيخنا الأعظم (قدس سره) ومن تابعه ممن عقب علي كلامه لا يسعنا إطالة الكلام فيها، لأنها ليست أدلة، بل فتاوي قد تتم وقد لا تتم، فلا مجال للخروج بها عما ذكرنا.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في أنه مع فرض عدم قصد البايع إلا بيع النصف بعنوانه لابد من البناء علي الإشاعة المقتضية في المقام لكون المبيع هو المشاع في المشاع، كما يكون هو المشاع في سائر الأقسام المفروضة بلحاظ الطول أو العرض أو غيرهما.

وبذلك يظهر أنه لابد حمل البيع علي النصف المشاع في المشاع لو لم يكن البايع عالماً باستحقاقه للنصف فقط، كما لو كان يري ملكيته للعين بتمامها، أو عدم ملكيته لشيء منها، وإنما باع النصف فضولاً، أو لسلطنته عليه بوكالة أو ولاية. وذلك لعدم المنشأ لاحتمال قصده لخصوص النصف الذي له، بل يعلم بعدم قصده إلا لبيع النصف بما له من مفهوم عرفي.

المقام الثاني: فيما إذا احتمل قصد البايع بيع خصوص النصف الذي له، ولا ينبغي التأمل في حمله عليه لو علم المشتري بأن البايع يختص بنصف له، لأن ذلك يصلح قرينة عرفاً علي حمل إضافة النصف للدار علي العهد زائداً علي الاختصاص - كما هو مقتضي الأصل في الإضافة - لو غض النظر عما يأتي الكلام فيه من القرائن.

بل لو لم يقصد البايع ذلك، وإنما قصد إطلاق النصف تعين بطلان العقد، لعدم التطابق بين قصد البايع وقصد المشتري. إلا أن يكون المشتري غير قاصد للنصف المذكور أيضاً. فيتعين البناء علي كون المبيع هو المشاع في المشاع، لعين ما سبق.

أما لو لم يكن هناك نصف معهود بينهما، كما لو لم يعلم المشتري بالحال، فقصد ما قصده البايع، لم يبعد البناء علي كون المبيع هو النصف المملوك للبايع، لأمرين:

الأول: ظهور حال البايع في كون البيع لنفسه، نظير ظهور حال المشتري في

ص: 373

الشراء لنفسه، ولذا لو كان الثمن ذمياً يبني علي كون الشراء له في ذمته، لا لغيره وإن كان مسلطاً علي الشراء لذلك الغير بوكالة أو ولاية.

ويترتب علي ذلك أن يحمل المبيع علي نصفه المختص به حتي لو كان مسلطاً علي بيع نصف شريكه بولاية أو وكالة. غاية الأمر أنه يسمع منه دعوي وقوع البيع علي النصف الآخر، لأن من ملك شيئاً ملك الإقرار به، وإنما يظهر أثر ذلك فيما لو لم يدع ذلك، ولم يبين.

الثاني: ظهور حال المتصرف في كونه مسلطاً علي ذلك التصرف، بحيث يكون التصرف نافذاً، لا موقوفاً علي إجازة الغير. ولذا لو اشتري في الذمة لغيره، ودار أمر الغير بين موكله والأجنبي، يبني علي نفوذ البيع ووقوعه لموكله.

ويترتب علي ذلك أنه لو كان نصف الدار لموكله ونصفه الآخر لأجنبي أن يحمل المبيع علي أنه نصف موكله.

اللهم إلا أن يستشكل في الظهور الثاني بأن المتيقن هو البناء علي سلطنته علي البيع ونفوذه - عملاً بقاعدة الصحة - بنحو يقتضي إلزامه بالثمن، لظهور حال المستقل بإيقاع المعاملة بتعهده بالثمن، أصيلاً كان أو وكيلاً، أو لبناء العقلاء علي ذلك. أما البناء علي وقوع البيع لموكله أو من له الولاية عليه، بحيث يملك المبيع ويلزم بثمنه فلا يتضح بناء العقلاء عليه إلا مع دعوي موقع البيع ذلك، لأن من ملك شيئاً ملك الإقرار به.

ومثل ذلك ما لو رتب آثاره، كما لو سلم المبيع لموكله أو طالبه بثمنه. بل لا يبعد ذلك أيضاً فيما لو ظهر منه ذلك حين البيع، كما لو طلب منه الموكل شراء المتاع الخاص له، فذهب فاشتراه، حيث لا يعتد عرفاً باحتمال إيقاعه الشراء لنفسه، إلا أن يدعي هو ذلك.

أما فيما عدا ذلك فلا يتضح بناؤهم علي وقوع المعاملة لموكله أو من له الولاية عليه، فضلاً عن أن يبني من أجل ذلك علي تعيين المبيع وأنه هو ما يملكه الموكل.

ص: 374

(375)

(مسألة 23): يجوز للأب (1)

---------------

وأما الظهور الأول فهو وإن كان مسلماً، إلا أنه إنما يقتضي وقوع البيع له وما يترتب علي ذلك من ثبوت الثمن في ذمته، لأصالة خروج الثمن ممن دخل المثمن في ملكه. من دون أن يتضح نهوضه بإثبات لازم ذلك، وهو كون المبيع هو الأمر المملوك له.

وبعبارة أخري: الظهور المذكور إنما ينهض بتعيين من له البيع، وترتيب آثار ذلك، مثل كون الثمن الذمي في ذمته، من دون أن ينهض بتعيين موضوع البيع، وهو المبيع، وأنه خصوص ما يملكه.

ومن ثم يشكل الخروج عن مقتضي الإطلاق - من بيع المشاع في المشاع - من أجل الظهورين المذكورين. إلا أن ينضم لهما ظهور حال من البايع بلحاظ ما يقارن البيع ويحيط به بنحو يوجب الوثوق عرفاً ببيعه لخصوص النصف الذي يملكه.

وأشكل من ذلك ما إذا قصد المشتري بسبب جهله باختصاص البايع بنصف الدار مقتضي الإطلاق، فإنه لو فرض قصد البايع النصف المختص به - ولو لظهور حاله في ذلك بنحو يعتد به - يلزم عدم التطابق بين القصدين، فيبطل العقد.

اللهم إلا أن يكون قصد المشتري راجعاً للخطأ في التطبيق، لعدم الغرض المعتد به له في ذلك، لأن المهم له شراء النصف، وقصده الإطلاق إنما هو لتخيل عدم انقسام الدار بإشاعة سابقة، لا للاهتمام بمقتضي الإطلاق. فلاحظ.

(1) بلا إشكال ظاهر، وقد نفي الخلاف فيه وادعي الإجماع عليه غير واحد. بل هو من الضروريات الفقهية.

ويقتضيه - مضافاً إلي ذلك - سيرة المتشرعة القطعية، تبعاً لسيرة العقلاء بمقتضي ارتكازياتهم البدوية. ولعل ذلك هو الوجه في عدم ورود النصوص ببيان ذلك تأسيساً مع شيوع الابتلاء به وشدة الحاجة لمعرفته. وإنما يظهر من جملة منها المفروغية عنه، حيث تعرضت في موارد متفرقة لبعض الفروع المترتبة عليه.

ص: 375

منها: ما تضمن أخذ الأب جارية ابنه بعد تقويمها علي نفسه(1).

ومنها: ما تضمن أن الأب إذا زوج ابنه الصغير فالمهر علي الولد إن كان له مال(2).

ومنها: ما يأتي في الوصي عن الأب، لظهور أن ولاية الوصي فرع ولاية الموصي.

ومنها: حديث محمد بن الفضيل:

(سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن صبية صغار لهم مال بيد أبيهم أو أخيهم هل يجب علي مالهم الزكاة ؟ فقال: لا يجب في مالهم زكاة حتي يعمل به، فإذا عمل به وجبت الزكاة... ) (3) . ولا يقدح فيه اشتماله علي ذكر الأخ، كما يأتي عند الكلام في ولاية الجد، ويظهر مما يأتي في الولاية علي اليتيم.

هذا وقد يستدل عليه بفحوي ما تضمن ولايته عليه في النكاح(4). ولكنه لا يخلو عن إشكال، لابتناء النكاح علي بعض الخصوصيات التي لا تجري في غيره، كالولاية في الجملة علي البكر البالغة الرشيدة، وكعدم الولاية علي الصغير في الطلاق.

نعم، قد يستفاد عموم ولاية الأب علي الصغير في جميع شؤونه من النصوص المتقدمة، ومن النصوص الواردة في النكاح المشار إليها، ومن نصوص أخر.

منها: ما ورد في إجارة الأب ولده الصغير، كصحيح محمد بن عيسي اليقطيني: (أنه كتب إلي أبي الحسن علي بن محمد العسكري في رجل دفع ابنه إلي رجل وسلمه سنة بأجرة معلومة ليخيط له، ثم جاء رجل آخر فقال: سلم ابنك سنة بزيادة، هل له الخيار في ذلك ؟ وهل يجوز له أن يفسخ ما وافق عليه الأول، أم لا؟ فكتب (عليه السلام): يجب عليه الوفاء للأول ما لم يعرض لابنه مرض أو ضعف)(5).

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 40 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 28 من أبواب المهور.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 2 من أبواب من تجب عليه الزكاة ولا تجب حديث: 4.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.

(5) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 15 من أبواب كتاب الإجارة حديث: 1.

ص: 376

ومنها: ما تضمن بيان المكاسب التي ينبغي للصغير أن يحسنها أو يتجنبها، كصحيح إسحاق بن عماد أو موثقه: (دخلت علي أبي عبد الله (عليه السلام) فخبرته أنه ولد لي غلام... قلت: جعلت فداك في أي الأعمال أضعه ؟ قال: إذا عدلته [عزلته] عن خمسة أشياء فضعه حيث شئت. لا تسلمه صيرفياً...)(1) ، لظهوره في المفروغية عن أن من شأن الأب تعليم ولده مكسباً يتعيش به.

ومنها: ما ورد في تأديب الصبي(2) ، وحضانته(3) ، وتمريضه(4).

ومنها: ما تضمن كفاية قبض الأب عن ولده الصغير في الهبة والصدقة(5). وغير ذلك.

فإن إلغاء خصوصية موارد هذه النصوص وفهم عموم ولاية الأب من مجموعها قريب جداً. ولاسيما مع ظهور جملة منها في المفروغية عن ثبوت الولاية في مواردها، حيث لا منشأ له ظاهراً إلا السيرة، تبعاً لارتكاز عموم الولاية المدعي.

علي أن ذلك هو الظاهر من بعضها. كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):

(في الرجل يتصدق علي ولده وقد أدركوا: إذا لم يقبضوا حتي يموت فهو ميراث، فإن تصدق علي من لم يدرك من ولده فهو جائز، لأن والده هو الذي يلي أمره... ) (6) ونحوه معتبر عبيد بن زرارة(7). فإن مقتضي إطلاق التعليل فيهما عموم ولاية الأب علي ولده لا خصوص ولايته عليه في قبض الصدقة له. كل ذلك مع اعتضاده بظهور الإجماع والسيرة القطعية علي العموم المذكور. بل يكاد يلحق بالضروريات، نظير ما تقدم في الولاية بالمال.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 22، 82، 83، 85، 86، من أبواب أحكام الأولاد.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 81 من أبواب أحكام الأولاد.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 97، 98 من أبواب أحكام الأولاد.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 4، 5 من أبواب أحكام الهبات، وباب: 4 من أبواب الوقوف والصدقات.

(6) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 4 من أبواب الوقوف والصدقات حديث: 1، 5.

(7) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 4 من أبواب الوقوف والصدقات حديث: 1، 5.

ص: 377

وبذلك يظهر أنه لا حاجة للاستدلال علي ولاية الأب علي مال ولده بما تضمن جواز أخذ الأب من مال ولده(1). علي أنه لا مجال للاستدلال به: أولاً: لاختصاص بعضه بالكبير، وإطلاق بعضه بنحو يشمله، ولا إشكال في عدم ولايته عليه. وثانياً: لأن جواز الأخذ من المال لا يستلزم الولاية عليه بحيث ينفذ التصرف فيه، كما هو ظاهر.

ومثله الاستدلال علي عموم ولايته عليه بقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(أنت ومالك لأبيك) (2) بدعوي: أن ملكيته له كناية عن سلطنته عليه.

إذ فيه: أولاً: أنه لم يتضح كونه كناية عن السلطنة، الراجعة للولاية، التي هي نحو من الاستئمان مع القدرة علي التصرف، بل السلطنة الراجعة للإباحة، كما يناسبه سياقه مع المال الذي يراد به ذلك، كما يظهر من بعض النصوص المشار إليها، وهي التي تتضمن الاستشهاد بالحديث لجواز أخذ الأب من مال ولده.

وثانياً: أنه مختص بالكبير كما هو المنصرف من الخطاب، والظاهر من بعض النصوص. وحيث لا إشكال في عدم ولايته عليه فلا مجال لأن يستفاد منه ولايته علي الصغير بفهم عدم الخصوصية أو بالأولوية. بل لابد من حمله علي كونه وارداً لبيان قضية تأديبية.

بل هو كالصريح من معتبر الحسين بن أبي العلاء: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما يحلّ للرجل من مال ولده ؟ قال: قوته [قوت] بغير سرف إذا اضطر إليه. قال: فقلت له: فقول رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) للرجل الذي أتاه، فقدم أباه: أنت ومالك لأبيك ؟ فقال: إنما جاء بأبيه إلي النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) فقال: يا رسول الله هذا أبي وقد ظلمني ميراثي عن أمي، فأخبره الأب أنه قد أنفقه عليه وعلي نفسه، وقال: أنت ومالك لأبيك، ولم يكن عند الرجل شيء. أوَ كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) يحبس الأب للابن ؟!)(3).

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2، 8، 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 8.

ص: 378

والجد (1)

---------------

نعم، يأتي عند الكلام في ولاية الجد ما يناسب استفادة الولاية منه. فيكون عاضداً لما سبق، وإن كان في نفسه وافياً بالاستدلال.

(1) كما هو مقتضي الجمع منهم بينهما في الولاية بنحو يظهر منهم المفروغية عنه وانعقاد إجماعهم عليه كالأب. وكفي به حجة في المقام، لشيوع الابتلاء بالمسألة بنحو يمتنع عادة خفاء حكمها علي الأصحاب، مع مناسبة الحكم للسيرة.

وقد يستدل عليه - مضافاً إلي ذلك - بأمرين:

الأول: إطلاق النصوص الواردة في الأب، لأن الجد أب أيضاً. ويشكل بأنه وإن كان أباً بمعني، ولذا يجري عليه حكم الأب في تحريم النكاح مثلاً، إلا أن إطلاق الأب في نصوص المقام ينصرف عنه كما يتصرف عنه في كثير من موارد إطلاقه في الاستعمالات العرفية. ولذا تضمنت النصوص الواردة في الولاية علي النكاح مقابلة الأب بالجد. كما لا إشكال عندهم في قصوره عن الجد للأم في المقام، مع أنه أب بالمعني الأول. ولا أقل من خروج الجد للأب عن المتيقن من إطلاق الأب في المقام.

الثاني: فحوي ما تضمن ولايته في النكاح. لكن عرفت عند الكلام في ولاية الأب الإشكال في الفحوي المذكورة.

نعم، قد يستفاد ذلك من بعض نصوصه، وهو معتبر عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: إني لذات يوم عند زياد بن عبد الله [ابن عبيد الله الحارثي] إذ جاء رجل يستعدي علي أبيه. فقال: أصلح الله الأمير إن أبي زوج ابنتي بغير إذني. فقال زياد لجلسائه الذين عنده: ما تقولون فيما يقول هذا الرجل ؟ فقالوا: نكاحه باطل. قال: ثم أقبل علي، فقال: ما تقول يا أبا عبد الله ؟ فلما سألني أقبلت علي الذين أجابوه، فقلت لهم: أليس فيما تروون أنتم عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) أن رجلاً جاء يستعديه علي أبيه في مثل هذا، فقال له رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أنت ومالك لأبيك ؟ قالوا: بلي. فقلت لهم: فكيف

ص: 379

يكون هذا وهو وماله لأبيه ولا يجوز نكاحه ؟! فأخذ بقولهم وترك قولي)(1).

لظهوره في أن ما تضمنه النبوي الشريف من حق الأبوة - علي أي معني حمل - يستتبع الولاية ونفوذ التصرف، ولو بتنقيح المناط أو الأولوية. ومن الظاهر أن الملاك المذكور إذا كان يقتضي ولايته علي بنت ابنه فهو يقتضي ولايته علي ابن ابنه، وإذا كان يقتضي ولايته عليها في النكاح فهو يقتضي ولايته عليها في سائر الأمور، لعدم تفريق العرف بنحو يفهم العموم من فحوي الكلام.

ومثله في ذلك صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر (عليه السلام):

(سألته عن رجل أتاه رجلان يخطبان ابنته، فهوي أن يزوج أحدهما، وهوي أبوه الآخر، أيهما أحقّ أن ينكح ؟ قال: الذي هوي الجد أحقّ، لأنها وأباها للجد) (2) فإن التعليل يقتضي العموم المذكور ارتكازاً، وهو يشير لمفاد النبوي المتقدم. كما أن الحديثين ينفعان في إثبات عموم ولاية الأب ويعضدان ما سبق فيه، كما أشرنا إليه آنفاً.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في ولاية الجد بعد ما عرفت من ظهور الإجماع والمفروغية المعتضدين بالحديثين الشريفين. ومنه يظهر ضعف ما قد يظهر مما عن ابن أبي عقيل من عدم ولايته، لاقتصاره في الولاية علي ذكر الأب.

بقي في المقام شيء، وهو أنه ربما يدعي اختصاص ولاية الجد علي الصغير بما إذا كان الأب حياً، كما صرح بذلك في الولاية علي النكاح في الهداية والنهاية والمبسوط والغنية والمراسم والوسيلة وعن ابني الجنيد والبراج وغيرهما. بل في الخلاف الإجماع عليه.

وقد يستدل عليه بوجهين:

الأول: الأصل بعد اختصاص الدليل علي ولايته بصورة وجود الأب. أما الإجماع فظاهر. وأما النصوص فلأنها واردة لبيان أولوية الجد من الأب ونفوذ تزويجه لها بغير إذنه ونحو ذلك مما يختص بحال وجوده.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 5، 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 5، 8.

ص: 380

وفيه: أن المستفاد من النصوص المذكورة عرفاً أن أولوية الجد بلحاظ أقوائية ملاك ولايته، لأبوته للأب، وذلك يقتضي إلغاء خصوصية وجود الأب في ولايته. بل ظاهر التعليل في صحيح علي بن جعفر المتقدم بأنها وأباها للجد ثبوت الولاية للجد عليها لأنها له، وأولويته بها من الأب لأن الأب له. ومقتضي ذلك عموم ولايته عليها لحال فقد الأب.

كما لا يبعد استفادة ذلك أيضاً من موثق عبيد بن زرارة:

(قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل، ويريد جدها أن يزوجها من رجل آخر. قال: الجد أولي بذلك ما لم يكن مضاراً، إن لم يكن الأب زوجها قبله. ويجوز عليها تزويج الأب والجد) (1) . لظهور ذيله في ثبوت الولاية لهما بنحو الانحلال. ولا مجال لحمله علي خصوص صورة اجتماعهما، لنهوض الصدر ببيان ذلك، فلا فائدة في بيانه.

علي أنه لو فرض قصور النصوص عن إثبات عموم ولاية الجد لحال موت الأب. فالظاهر نهوض الاستصحاب به، للشك في ارتفاع ولايته بموت الأب فتستصحب، بناء علي جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية، علي ما حقق في محله، فيكون الاستصحاب المذكور حاكماً الأصل المدعي في المقام. نعم لا يجري الاستصحاب فيما لو مات الأب قبل ولادة الطفل، للشك في حدوث ولايته عليه بعد ولادته، لا في ارتفاعها بعد العلم بثبوتها.

الثاني: موثق الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: إن الجد إذا زوج ابنة ابنه، وكان أبوها حياً، وكان الجدّ مرضياً جاز. قلت: فإن هوي أبو الجارية هوي، وهوي الجدّ هوي، وهما سواء في العدل والرضا. قال: أحب إلي أن ترضي بقول الجدّ) (2) . حيث تضمن اعتبار حياة الأب في جواز عقد الجد.

ودعوي: أنه وإن عبر عنه بالموثق في كلام بعضهم، إلا أنه قد رمي بالضعف في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 2، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 2، 4.

ص: 381

الشرايع والمسالك ومحكي مرآة العقول. إما لضعف الموثق عندهم، أو لأن في سنده جعفر بن سماعة، وهو لم يوثق.

مدفوعة بأن الموثق حجة. كما أن من القريب أن يكون جعفر بن سماعة هذا هو جعفر بن محمد بن سماعة الثقة، وأن نسبته إلي سماعة من باب النسبة للجد، لأنه هو صاحب كتاب النوادر الذي يرويه أخوه الحسن بن محمد بن سماعة الراوي عنه هنا، مع أن الموجود في أكثر رواياته أو جميعها هو جعفر بن سماعة. وقد أطال بعض مشايخنا (قدس سره) في تقريب ذلك بما لا يخلو عن قوة.

نعم، قد استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره) باحتمال سوق التقييد بذلك تمهيداً للحكم المذكور في ذيل الموثق في فرض التشاح بين الأب والجد، حيث لا موضوع له إلا في فرض وجود الأب، فهو نظير الشرط المسوق لتحقيق الموضوع لا مفهوم له.

لكنه يندفع بأن فرض التشاح لم يؤخذ في جزاء الشرطية، وإنما اقتصر في جزائها علي جواز النكاح لا غير. وأما التشاح فقد فرض في كلام السائل بعد تمامية الشرطية. ولعله لذا أمر (قدس سره) بالتأمل.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن المراد بالجواز في الجزاء ليس هو جواز التزويج في نفسه، بل جواز التزويج علي الأب، كما يظهر من النصوص المعتبرة، ومن الظاهر أن الجواز علي الأب فرع حياته، فالشرط مسوق لتحقيق الموضوع.

لاندفاعه بأن ذلك وإن ورد في بعض النصوص، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام

): (قال: إذا زوج الرجل ابنة ابنه فهو جائز علي ابنه... ) (1) ، ونحوه معتبر عبيد بن زرارة(2) ، إلا أن ذلك لا ينهض قرينة علي حمل موثق الفضل علي ذلك، ولاسيما مع التعبير بجواز التزويج عليها في موثق عبيد بن زرارة المتقدم، بل يتعين حمله علي ظاهره وهو جواز التزويج ونفوذه في نفسه، كما هو الحال في غيره مما أطلق فيه جواز التزويج. ومن ثم لا يتم ما ذكره من كون الشرط مسوقاً لتحقيق الموضوع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 1، 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 1، 7.

ص: 382

فالعمدة في منع الاستدلال بالموثق علي التقييد المذكور أمران:

الأول: أن كون الأب حياً وكون الجد مرضياً ليسا شرطين في قبال التزويج، بل هما حال منه وقيد فيه، وليس الشرط إلا التزويج وحده، ولا مفهوم له، لأنه مسوق لتحقيق موضوع الجواز والنفوذ.

نعم، في الجواهر أن دلالة الموثق علي اعتبار حياة الأب بمفهوم الشرط. وقد وجهه بعض مشايخنا (قدس سره) بأن الشرط في الشرطية إذا كان مركباً من أمور - كما في المقام

انحلت إلي شروط متعددة، ولحق كل منها حكمه، فما كان مقوماً لموضوع الجزاء لم يكن له مفهوم، كالتزويج في المقام، وما لم يكن مقوماً لموضوع الجزاء - كحياة الأب في المقام - كان له مفهوم، كسائر موارد مفهوم الشرط.

لكن الانحلال المذكور غير ظاهر الوجه بعد وحدة الشرطية. ولاسيما وأنه لا يمكن البناء علي رجوع الشرطية في المقام إلي شرطيات ثلاث في عرض واحد. إذاً إشكال في أن الجزاء مترتب علي مجموع الأمور المذكورة لا علي كل منها لوحده. فمرجع الانحلال المدعي إلي انحلال الشرطية إلي شرطية في ضمن شرطية تكون جزاء لها. فكأنه قيل: إذا زوج الجدّ ابنة ابنه، فإن كان الأب حياً وكان الجدّ مرضياً جاز التزويج. ولا إشكال في ابتناء ذلك علي عناية وكلفة لا يناسبها لسان الحديث.

ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا من أن حياة الأب وكون الجدّ مرضياً قيدان كسائر القيود التي لا مفهوم لها وضعاً. وإن كانت القرائن والمناسبات الارتكازية قد تقضي بسوقها للاحتراز، فيكون لها مفهوم، كما هو غير بعيد في التقييد بكون الجد مرضياً. أما التقييد بكون الأب حياً فمن البعيد جداً كونه احترازياً، خصوصاً بملاحظة ملاك ولاية الجد الذي أشير إليه في التعليل. بل لا يبعد كون ذكره لدفع توهم توقف ولاية الجدّ علي موت الأب، رداً لما عن العامة من اشتراط ولايته بفقد الأب، كما هو المناسب لما تقدم في معتبر عبيد بن زرارة من حكم الحاضرين في مجلس زياد بن عبد الله ببطلان نكاح الجد.

ص: 383

الثاني: أن ظاهر ذيل الموثق فرض بلوغ البنت، ولذا أحب لها الامام (عليه السلام) الرضا بما يختاره الجد، واعتبار حياة الأب في نفوذ تزويج الجد لها مع بلوغها لا يستلزم اعتبار حياته في نفوذ تزويج الجد لها قبل بلوغها، فضلاً عن اعتبارها في ولايته عليها في غير التزويج من شؤونها.

ومن هنا لا مخرج عما يستفاد من النصوص المتقدمة من عموم ولاية الجد علي الصغير، سواء كان الأب حياً أم لا. ولو فرض قصورها عن إثبات العموم كفي الاستصحاب الذي تقدم التعرض له آنفاً. ولعله لذا صرح غير واحد بالعموم، كما في السرائر والشرايع والتذكرة والمسالك وغيرهما، وهو مقتضي إطلاق جماعة آخرين.

ثم إن ظاهر المسالك الإجماع علي عموم ولاية الجد علي مال الصغير لحال موت الأب، وأن الخلاف في ولايته مع موت الأب إنما هو في النكاح لا غير، كما هو الظاهر من المحقق في الشرايع، حيث لم يشر للخلاف المذكور في كتابي البيع والحجر، وأشار إليه في النكاح. ومن العلامة في القواعد، حيث لم يشر له في كتاب البيع وأشار إليه في كتاب النكاح.

ومن ثم استدل في المسالك لعموم ولايته حتي في النكاح بصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: الذي بيده عقدة النكاح هو ولي أمرها) (1) . قال في المسالك:

(ولا خلاف في أن الجد ولي أمر الصغيرة في الجملة) .

ومثله في ذلك صحيح أبي بصير ومحمد بن مسلم:

(سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الذي بيده عقدة النكاح. فقال: هو الأب والأخ والموصي إليه والذي يجوز أمره في مال المرأة من قرابتها، فيبيع لها ويشتري. قال: فأي هؤلاء عفا فعفوه جائز في المهر إذا عفا عنه) (2) ، ونحوه أو عينه خبر أبي بصير(3) ، وصحيح أبي بصير وسماعة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 2.

(2) التهذيب ج: 7 ص: 484 واللفظ له، ووسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 4.

ص: 384

عنه (1)(عليه السلام)، وصحيح الحلبي عنه (2)(عليه السلام).

نعم، استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره) بأن ظاهر الآية الشريفة الاختصاص بالبالغات، بقرينة نفوذ عفوهن، فالروايات الواردة في تفسيرها قاصرة عن شمول غيرهن، ولذا ذكر الأخ في الصحيح المتقدم، حيث لابد من حمله وحمل غيره ممن ذكر علي ما إذا كان وكيلاً عنها، فيخرج عن محل الكلام.

لكنه يندفع بأن ما تضمنته الآية الشريفة من نفوذ عفوهن وعفو من بيده عقدة النكاح ظاهر في أن موردها أعم من البالغات والصغيرات، وأن البالغات يكون العفو منهن، والصغيرات يكون العفو ممن بيده عقدة النكاح بدلاً عنهن، وهو الولي.

ولاسيما مع ذكر الموصي إليه الذي ينفصل عن المولي عليه ببلوغه، ولا خصوصية له إلا قبل البلوغ، وليس هو كالأب تبقي علاقته ببنته حتي بعد بلوغها. مع ما في صحيح رفاعة:

(سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الذي بيده عقدة النكاح. قال: الولي الذي يأخذ بعضاً ويترك بعضاً. وليس له أن يدع كله) (3) ، ونحوه غيره. لقوة ظهوره في الولي القهري، دون الذي يتولي أمرها بتوكيل منها. ولذا لم يكن له أن يدع الكل، مع أنه لو كان وكيلاً عنها لجاز له ذلك مع عموم وكالته، كما يجوز لها.

مع أن مراده (قدس سره) من الوكيل إن كان هو الوكيل في الأمور المالية فعقدة النكاح ليست بيده. وإن كان هو الوكيل في النكاح فلا وجه لنفوذ عفوه في المهر. ومن هنا يتعين حمله علي الولي الذي له التصرف في جميع شؤونها.

وأما ذكر الأخ في الصحيح وغيره فهو لا يدل علي كونه وكيلاً، بل لعله لكونه ولياً، كما قد يظهر من بعض النصوص(4). وإن لزم حمله علي ما إذا كان وصياً كما في مرسل العياشي(5) ، أو علي ما إذا كان مهتماً بأمرها قائماً عليها، ففي مرسل العياشي

********

(1) الكافي ج: 6 ص: 106، ووسائل الشيعة ج: 15 باب: 52 من أبواب المهور حديث: 1.

(2) الكافي ج: 6 ص: 106.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 3، 6.

(4) ، وسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 3، 6.

(5) مستدرك الوسائل ج: 15 باب: 37 من أبواب المهور حديث: 1.

ص: 385

للأب (1) وإن علا (2)

---------------

الآخر أنه بمنزلة الأب يجوز له العفو(1) ، أو علي التقية أو طرحه.

نعم، في مرسل العياشي في ذيل حديث أبي بصير المتقدم:

(قلت له: أرأيت إن قالت لا أجيز ما يصنع ؟ قال: ليس لها ذلك، أتجيز بيعه في مالها ولا تجيز هذا؟!) ونحوه عن سماعة(2) ، ومقتضاهما أن المراد بالذي يجوز أمره في مال المرأة هو الوكيل في الأمور المالية، وحينئذٍ يناسب اختصاص الآية الشريفة بالكبيرة.

لكنه - مع ضعفه - قد تضمن إرغامها علي ما يفعله الوكيل المذكور، وهو غريب جداً، مع ما سبق منا من أنه ليس بيده عقدة النكاح، وأن صدر الحديث قد تضمن عدّ الموصي إليه ممن بيده عقدة النكاح. ومن هنا لا يبعد تنزيله علي الولي القهقري قبل بلوغها، ويكون المراد بإجازتها بيعه في مالها ليس هو توكيلها له في البيع بعد بلوغها، بل نفوذ بيعه السابق علي بلوغها. والمتحصل من الحديث حينئذٍ أنه كما ينفذ عليها بيع الولي في مالها ينفذ عليها عفوه في المهر، فليس لها ردّهما بعد بلوغها.

(1) دون الجد للأم. ويظهر من كلماتهم المفروغية عنه. ويظهر وجهه بملاحظة نصوص ولاية الجد ولاسيما ما تضمن تعليل أولويته من الأب بأبوته له. وبذلك يظهر لزوم رفع اليد عن إطلاق الجد في بعض النصوص(3) ، لو لم ينصرف لخصوص الجد للأب.

(2) كما هو المصرح به في بعض كلماتهم ويظهر من بعضها المفروغية عنه. ويقتضيه عموم التعليل المتقدم الوارد في ولاية الجد وأولويته. ومنه يظهر أن المراد به من يتصل بالأب بتسلسل الآباء كأبي الجد وجده لأبيه وهكذا، دون من يتصل به بتوسط الأمهات كجد الأب لأمه، وجد أم الأب ونحوهما.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 52 من أبواب المهور حديث: 5.

(2) تفسير العياشي ج: 1 ص: 125، 126. ووسائل الشيعة ج: 15 باب: 52 من أبواب المهور حديث: 3 وذيله.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح حديث: 2، 3.

ص: 386

(387)

التصرف في مال الصغير (1) كالبيع والشراء والإجارة وغيرها. وكل منهما مستقل في الولاية (2).

---------------

لكن في التذكرة: (الوجه أن جد أم الأب لا ولاية له مع جد أب الأب. ومع انفراده نظر). وهو غريب، إذ ليس في النصوص إطلاق ولاية الجد للأب أو جده، ليتوهم شموله لجد أم الأب أو لأبيها. ولو كان لم يكن وجه الترتيب بينه وبين جد أبيه في الولاية. وليس الموجود في النصوص إلا عنوان الجد، وأبي الأب. والثاني لا ينهض بولاية الجد الأعلي مطلقاً. وفي نهوض الأول بها إشكال. مع أنه يقتضي العموم للجد للأم وعدم الترتيب بين الطرفين. فلم يبق إلا التعليل المتقدم. وهو يقتضي العموم لخصوص من يتصل بالأب بتسلسل الآباء، كما ذكرنا، ولا يبقي منشأ للاحتمال الذي ذكره (قدس سره).

(1) مما سبق يتضح عموم ولايتهما عليه في جميع شؤونه حتي ما لا يتعلق بالمال.

(2) كما هو ظاهر نسبة الولاية لكل منهما في كلمات الأصحاب والمصرح به في كلام بعضهم، بل في الجواهر نفي وجدان الخلاف فيه. ويقتضيه في الأب النصوص المتقدمة في ولايته، فإن مقتضاها عدم اعتبار استئذان الجد في تصرفه، كما هو المصرح به في بعض نصوص النكاح أيضاً. وفي الجد النصوص الواردة في النكاح بضميمة التعليل المتقدم القاضي بعدم الفرق بينه وبين غيره من التصرفات كما تقدم.

وعن بعضهم أولوية الأب لشدة اتصاله وكون ولاية الجد بواسطته، ونحو ذلك مما هو كالاجتهاد في مقابل النص. ومثله الاستدلال بقوله تعالي: (وأولوا الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله)(1) ، بناء علي أن المراد به أولوية الأقرب من الأبعد، لا مجرد أولوية الأرحام من غيرهم، وأن الأولوية لا تختص بالميراث،

********

(1) سورة الأنفال آية: 75.

ص: 387

بل تجري في الولايات، كما تفصل الكلام فيه في المسألة الثانية من الفصل الثاني من مباحث أحكام الأموات من كتاب الطهارة.

إذ فيه: أن ذلك وإن كان قريباً، إلا أن الظاهر عدم ابتناء الولاية الخاصة علي الصغير علي ذلك، لاختصاصها بالأب والجد دون بقية الأرحام. علي أنه لا يزيد علي العموم الذي يتعين تخصيصه ورفع اليد عنه بالتعليل المتقدم.

وعلي ذلك فأي منهما سبق نفذ تصرفه، كما هو مقتضي القاعدة بعد فرض إطلاق ولايته. وبه صرح في غير واحد من النصوص الواردة في النكاح، وقد تقدم بعضها.

نعم، المتيقن من ذلك ما إذا لم يسبق التشاح والاختلاف بينهما. وأما معه فمقتضي نصوص أولوية الجدّ عدم نفوذ تصرف الأب لو سبق، كما يظهر من قوله (عليه السلام) في صحيح علي بن جعفر المتقدم:

(الذي هوي الجدّ أحقّ بالجارية، لأنها وأباها للجدّ) ونحوه غيره. وحمل الأولوية فيه علي استحباب عدم تسرع الأب لما يخالف الجدّ وإن نفذ تصرفه لو سبق. خلاف الظاهر. ولاسيما مع التعليل الذي يظهر من الصحيح وغيره أنه هو الملاك في أصل الولاية.

نعم، يتجه ذلك في الكبيرة التي لا يجب عليها الرضا بما يختاره لها كل منهما، حيث يتعين كون الأولوية في حقها علي الاستحباب، كما يناسبه قوله (عليه السلام) في موثق الفضل بن عبد الملك المتقدم:

(أحب إلي أن ترضي بقول الجد) .

كما أن مقتضي اشتراكهما في الولاية وإن كان هو بطلان تصرفهما معاً لو اقترنا - كما عن بعضهم - إلا أن مقتضي الأولوية المذكورة هو نفوذ تصرف الجد. وهو المصرح به في صحيح هشام بن سالم ومحمد بن حكيم عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: إذا زوج الأب والجد كان التزويج للأول، فإن كانا جميعاً في حال واحدة فالجد أولي) (1) .

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 3.

ص: 388

(389)

كما لا تعتبر العدالة في ولايتهما (1)،

---------------

(1) كما هو مقتضي إطلاق المشهور وصريح غير واحد. وهو المناسب لإطلاق النصوص المتقدمة المعتضدة بالسيرة القطعية، لشيوع الابتلاء بالمسألة، لكثرة عدم تمامية العدالة في الآباء والأجداد - فضلاً عن إحرازها - من دون أن يظهر من المتشرعة البناء علي عدم ولايتهم، ولولا ذلك لكثرت الأسئلة عن فروع ذلك وعن المشاكل المترتبة عليه، كما لعله ظاهر.

لكن في وصايا القواعد بعد أن قرب اعتبار العدالة في الوصي قال:

(ويشكل الأمر في الأب الفاسق) . وفي الإيضاح: (والأصح عندي أن لا ولاية له مادام فاسقاً، لأنها ولاية من لا يدفع عن نفسه، ولا يعرف عن حاله، ويستحيل من حكمة الصانع أن يجعل الفاسق أميناً تقبل إقراراته وإخباراته علي غيره مع نص القرآن علي خلافه. فإن عادت عادت ولايته).

ويندفع بمنع الاستحالة، لإمكان إدراك الشارع الأقدس أن إيكال أمر الطفل إلي العادل الأجنبي عنه أضر عليه نوعاً من إيكال أمره إلي أبيه وجده الفاسقين اللذين يعيش في كنفهما، ويريان أنهما مسؤولان عنه بمقتضي ما يستحكم من عاطفتهما نحوه، وروابطهما الاجتماعية معه. أو يري أن تشريع الولاية علي الطفل مع وجود أبيه وجده غير مقبول اجتماعياً ولا صالح للتنفيذ خارجاً، بنحو يمنع من فعلية جعله.

وأما النص القرآني علي خلافه فكأن المراد به آية النبأ المتضمنة عدم حجية خبر الفاسق. لكنها - مع اختصاصها بإخباره من حال الطفل وإقراره عليه، دون بقية شؤون ولايته - إنما تدل عليه بالإطلاق القابل للتقييد، كما قيد بالإقرار علي نفسه، وبإخباره عما تحت يده، ونحو ذلك.

وربما يراد بالنص القرآني قوله تعالي: (ولا تركنوا إلي الذين ظلموا فتمسكم النار)(1). لكنه أجنبي عما نحن فيه، فإن الركون للشيء هو الميل إليه والطمأنينة له، في

********

(1) سورة هود آية: 113.

ص: 389

مقابل النفور عنه، ولذا فسره في تفسير القمي بالمودة والنصيحة والطاعة، وفي مجمع البيان أنه المروي عنهم (عليه السلام). والنهي عنه لا ينافي ولاية الظالم شرعاً علي الطفل، بل هي حكم شرعي يبتني علي ملاحظة أن مقتضي مصلحة الطفل إيكال أمره إلي أبيه. علي أنه عموم قابل للتخصيص، وما سبق كاف في تخصيصه.

نعم، قد يستدل لاعتبار عدالة الأب بما سبق في موثق الفضل بن عبد الملك من قوله (عليه السلام):

(إن الجد إذا زوج ابنة ابنه، وكان أبوها حياً، وكان الجدّ مرضياً، جاز) ، بناء علي ما سبق عند الكلام في ولاية الجد من أن كون الجد مرضياً وإن لم يكن شرطاً، بل هو حال من الشرط الذي لا مفهوم له. إلا أن المناسبات الارتكازية تقضي بكونه قيداً احترازياً، فيكون مقتضاه عدم جواز تزويج الجد إذا لم يكن مرضياً.

ومن هنا قد يساق الموثق دليلاً علي اعتبار العدالة في ولاية الجد. بل ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه يقتضي حينئذ اعتبارها في ولاية الأب بالأولوية. ولعله لذا حكي عن بعضهم البناء علي اعتبار العدالة في ولايتهما معاً، اعتماداً علي الحديث المذكور.

لكن الأولوية غير ظاهرة، فإن النصوص وإن تضمنت أولوية الجدّ من الأب بالولاية بلحاظ أن ملاك الولاية حق الأبوة، لكن لا مانع من اعتبار العدالة في الجدّ رعاية لحق المولي عليه واحتياطاً له، دون الأب، لأن عاطفته نحو ولده وارتباطه به آكدّ بنحو يعوض عن ذلك، أو يمنع من تنفيذ هذا الشرط في حقه، علي ما تقدم في رد استدلال الفخر علي اعتبار العدالة.

نعم، قد يستفاد من ذيل الحديث المتقدم المفروغية عن اعتبار هذا الشرط في ولاية الأب كالجد، حيث فرض فيه تساويهما في العدل والرضا.

هذا ولكن لا مجال مع كل ذلك للاستدلال بالحديث المذكور علي اعتبار العدالة في ولاية الجد - فضلاً عن الأب - علي الصغير: أولاً: لما تقدم من أن الظاهر من ذيله فرض بلوغ البنت واعتبار رضاها، وأن أولوية الجد إنما تكون في حقها بنحو يكون الأولي بها الرضا بما رضيه لها، لا بنحو تكون ملزمة لها، فضلاً عن أن تكون

ص: 390

لازمة عليها، لقصورها في نفسها بسبب صغرها، ليكون من محل الكلام من الولاية علي الصغير.

وثانياً: لأن اعتبار العدالة في الولاية علي النكاح لا يستلزم اعتبارها في الولاية علي غيره من شؤون المولي عليه، لإمكان خصوصية النكاح في ذلك بلحاظ أهميته. وعدم ظهور التفصيل في كلماتهم بين النكاح وغيره لا يكفي في التعميم. ولاسيما مع قرب ابتنائه علي عدم العمل بالحديث في مورده.

وثالثاً: لأنه لا يمكن البناء علي اعتبار العدالة في ولاية الأب والجدّ بالنظر لإطلاق النصوص الكثيرة وعموم السيرة القطعية في مثل هذا الأمر الشايع الابتلاء. بل لا يبعد لزوم اختلال النظام في أمر الأطفال لو بني علي اعتبار العدالة في ولايتهما عليهم.

بل حتي بناء علي ما ذكرناه من اختصاص الحديث بالبالغة يصعب اعتبار العدالة في ولاية أبيها وجدها في أمر نكاحها بالنظر لإطلاق النصوص والفتوي والسيرة.

ومن ثم لا يبعد حمل الرضا والعدالة فيه علي خصوص الرضا والعدالة في أمرها، بأن يظهر من الأب والجدّ الاهتمام بصلاحها، وعدم التحكم في أمرها إشباعاً لرغباتها الشخصية، فإن ذلك أهون من رفع اليد عن إطلاق النصوص والفتاوي وعموم السيرة علي ولايتهما في أمر نكاحها.

بل قد يتعين بلحاظ موثق عبيد بن زرارة: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل، ويريد جدها أن يزوجها من رجل آخر. فقال: الجدّ أولي بذلك ما لم يكن مضاراً إن لم يكن الأب زوجها قبله. ويجوز عليها تزويج الأب والجدّ)(1) ، حيث لا يبعد نهوضه بتفسير الرضا في موثق الفضل المتقدم، لما هو المعلوم من أن عدم كونه مضاراً أعم من العدالة كثيراً فالاقتصار عليه لا يناسب اعتبار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 391

(392)

ولا أن تكون المصلحة في تصرفهما (1).

---------------

العدالة، فضلاً عن تفسير الرضا في موثق الفضل بها، بل يصلح لأن يكون قرينة علي حمل الرضا فيه علي ذلك. فلاحظ.

والحاصل: أنه لا مجال للبناء علي اعتبار العدالة في ولاية الأب والجد.

نعم، لو ظهر منهما الخروج عن مقتضي الولاية في رعاية الطفل وحفظ ماله تعين سقوط ولايتهما وعدم نفوذ تصرفهما سواء كان منشأ ذلك فسقهما أم قصورهما وقلة رشدهما. وهو أمر آخر غير اعتبار العدالة في ولايتهما.

(1) قال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(الأقوي كفاية عدم المفسدة، وفاقاً لغير واحد من الأساطين الذين عاصرناهم) . وكأن مراده مثل كاشف الغطاء في شرحه علي القواعد وصاحب الجواهر، حيث صرحا بكفاية ذلك في الأبوين، وقد استظهر (قدس سره) الإجماع علي عدم المفسدة. خلافاً لجماعة من الأصحاب فاعتبروا في تصرف الولي مطلقاً المصلحة. بل في شرح القواعد المذكور أن ظاهر الأصحاب الإجماع علي ذلك، وفي مفتاح الكرامة: (هذا الحكم إجماعي علي الظاهر، وقد نسبه المصنف إلي الأصحاب فيما حكي عنه).

ولا ينبغي التأمل في اعتبار عدم المفسدة، لأن ذلك مقتضي الولاية التي هي نحو من الاستئمان المبني علي الحفظ والرعاية للمولي عليه، وعدم التفريط في أمره.

وربما يستدل لعدم اعتبار ذلك بالنبوي المروي بطرق متعددة فيها الصحيح أنه صلي الله عليه وآله قال لرجل:

(أنت ومالك لأبيك) (1) ، وموثق سعيد بن يسار أو صحيحه: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أيحج الرجل من مال ابنه وهو صغير؟ قال: نعم. قلت: حجة الإسلام، وينفق منه ؟ قال: نعم بالمعروف. ثم قال: نعم يحج منه وينفق منه. إن مال الولد للوالد. وليس للولد أن يأخذ من مال والده شيئاً)(2). فإن الحكم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2، 8، 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

ص: 392

بأن الولد وماله للأب، في الأول، وبأن مال الولد للأب في الثاني، بعد تعذر حمله علي الحقيقة يتعين حمله علي إطلاق سلطنته عليه، كسلطنته علي ماله.

وهو المناسب لما تضمنته جملة من النصوص من أن له أن يأخذ من مال ولده(1) ، بل في بعضها أن له أن يأخذ منه ما شاء، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(سألته عن الرجل يحتاج إلي مال ابنه. قال: يأكل منه ما شاء من غير سرف. وقال: في كتاب علي (عليه السلام): إن الولد لا يأخذ من مال والده شيئاً إلا بإذنه، والوالد يأخذ من مال ابنه ما شاء. وله أن يقع علي جارية ابنه إذا لم يكن الابن وقع عليها, وذكر أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال لرجل: أنت ومالك لأبيك) (2) .

ويظهر اندفاعه مما سبق عند الاستدلال بالنصوص المذكورة لولاية الأب. فإنه لا قرينة علي حمل النبوي وحديث سعيد بن يسار علي السلطنة علي التصرف، بنحو يرجع للولاية، بل الظاهر منها إباحة الأخذ من المال. ولاسيما مع اختصاص النبوي الشريف بالكبير، الذي لا ولاية للأب علي ماله قطعاً، فضلاً عن أن يكون له التصرف فيه بما فيه المفسدة. وحديث سعيد وإن ورد في الصغير، إلا أن قوله (عليه السلام):

(إن مال الولد للوالد) يعمّ الكبير، وخصوصاً بملاحظة تعقيبه بمنع الولد من أن يأخذ من مال والده شيئاً.

ومنه يظهر حال بقية النصوص المتضمنة أن الأب يأخذ من مال ولده، لما ذكرناه من أن الأخذ من المال لا يقتضي الولاية. ولاسيما مع أن النصوص المذكورة بين ما هو ظاهر في الكبير - كصحيح محمد بن مسلم السابق وغيره - وما هو شامل له. ومع تقييد الأخذ في بعضها بأن يكون بغير سرف، كالصحيح المذكور، وأن يكون بالمعروف، كحديث سعيد بن يسار المتقدم. وفي معتبر الحسين بن أبي العلاء المتقدم عند الاستدلال علي ولاية الأب: (قوته [قوت] بغير سرف إذا اضطر إليه)(3) ، وفي

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 8.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 8.

ص: 393

معتبر علي بن جعفر: (لا، إلا أن يضطر إليه، فيأكل منه بالمعروف)(1) ، وفي صحيح أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام): (إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال لرجل: أنت ومالك لأبيك. ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): وما أحب [لا تحب] أن يأخذ من مال ابنه إلا ما احتاج إليه مما لابد منه. إن الله لا يحب الفساد)(2). وتعليل عدم حبّ أن يأخذ ما لا يحتاج إليه بأن الله لا يحب الفساد قد يشهد بأن المراد من عدم الحب الحرمة. وفي صحيح ابن سنان: (سألته - يعني: أبا عبد الله (عليه السلام) - ماذا يحل للوالد من مال ولده ؟ قال: أما إذا أنفق عليه بأحسن النفقة فليس له أن يأخذ من ماله شيئاً. وإن كان لوالده جارية للولد فيها نصيب فليس له أن يطأها إلا أن يقومها قيمة تصير لولده قيمتها عليه. قال: ويعلن ذلك...)(3).

فإن القيود المذكورة تناسب استحقاق الأخذ عند الحاجة، ولا تناسب الولاية، فضلاً عن إطلاق السلطنة بنحو يسوغ التصرف مع المفسدة. ومن ثم لا مخرج عما سبق من أنه لا مجال للبناء علي جواز التصرف بما فيد المفسدة بعد منافاته لمقتضي الولاية.

وأما اعتبار المصلحة فقد يستدل عليه بقوله تعالي: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتي يبلغ أشده)(4) فإن التفضيل يقتضي اعتبار المصلحة في التصرف عند الدوران بين بينه وبين عدمه، واعتبار الأشدّ أو الأكثر صلاحاً عند الدوران بين تصرفين أو أكثر. وهو وإن ورد في اليتيم، إلا أن إطلاقه يشمل الجدّ عند فقد الأب، فيلحق به الجدّ مع وجود الأب بعدم الفصل، والأب بذلك أيضاً، أو بالأولوية، لأن ذلك مقتضي ما تقدم من أولوية الجدّ في الولاية. فتأمل.

لكن لم يتضح من الآية الشريفة إرادة التفضيل في التصرفات الخاصة التي يقوم بها الولي في مال اليتيم، ليكون مما نحن فيه، بل لعل المراد التفضيل في وجه الاستيلاء علي مال اليتيم ووضع اليد عليه، وأن وضع اليد عليه لابد أن يكون علي وجه الأمانة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6، 2، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6، 2، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6، 2، 3.

(4) سورة الأنعام آية: 152، وسورة الإسراء آية: 34.

ص: 394

بما يناسب الحفظ والرعاية وصلاح المال، في مقابل الاستيلاء عليه من أجل الانتفاع به واستغلاله وأكله وإفساده، كما قد يناسبه جعل موضوع الترخيص هو القرب من المال بالوجه الأحسن في مقابل البعد عنه وتجنبه، لا التصرف الأحسن في مقابل التصرف غير الأحسن بعد فرض استيلاء الشخص علي المال وجعله في حوزته.

وإلي ما ذكرنا يرجع ما في مجمع البيان قال:

( (إلا بالتي هي أحسن) أي بالخصلة والطريقة الحسني ولذلك أنث. وقد قيل في معناه أقوال: أحدها: أن معناه إلا بتثميره بالتجارة... وثانيها: بأن يأخذ القيم عليه بالأكل بالمعروف، دون الكسوة... وثالثها: بأن يحفظ عليه حتي يكبر) .

فتجري الآية الشريفة مجري قوله تعالي: (ولا تأكلوها إسرافاً وبدراً أن يكبروا)(1). وتكون أجنبية عما نحن فيه. ولا تنهض بالاستدلال علي المنع من التصرف غير المضرّ بالمال والطفل إذا لم يترتب عليه فائدة ولم تكن فيه مصلحة لهما.

كما قد يناسب ذلك قوله تعالي: (ويسألونك عن اليتامي قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح)(2) حيث تضمن الحث علي الإصلاح من دون إلزام به، مع مقابلته بالإفساد، والتنبيه مع مخالطتهم علي الأخوة، لبيان لزوم كون مخالطتهم كمخالطة الإخوان عرفاً لا تبتني علي التزام نفعهم في كل تصرف معهم، بل علي رجحان نفعهم والتزام عدم الإضرار بهم والإفساد في أمرهم.

وهو المستفاد من جملة من النصوص. كمعتبر الكاهلي: (قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا ندخل علي أخ لنا في بيت أيتام، ومعه خادم لهم، فنقعد علي بساطهم، ونشرب من مائهم، ويخدمنا خادمهم. وربما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم، فما تري في ذلك ؟ فقال: إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، وإن كان فيه

********

(1) سورة النساء آية: 6.

(2) سورة البقرة آية: 220.

ص: 395

ضرر فلا. وقال (عليه السلام):

(بل الإنسان علي نفسه بصيرة) فأنتم لا يخفي عليكم، وقد قال الله عز وجل: (والله يعلم المفسد من المصلح)(1). فإنه (عليه السلام) لم يشترط إلا المنفعة لهم لتدارك النقص الحاصل عليهم، من دون أن يشترط كونها أكثر من مقدار النقص، ليكون في دخولهم منفعة وصلاح لهم.

وموثق سماعة: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وإن تخالطوهم فإخوانكم) فقال: يعني: اليتامي. إذا كان الرجل يلي لأيتام في حجره فليخرج من ماله علي قدر ما يحتاج إليه، علي قدر ما يخرجه لكل إنسان منهم، فيخالطهم ويأكلون جميعاً. ولا يرزأن من أموالهم شيئاً، إنما هي النار)(2). فإنه كالصريح في كفاية عدم الإضرار بهم. ونحوهما غيرهما.

وأظهر من ذلك ما تضمن جواز الاقتراض من مال اليتيم، كصحيح منصور بن حازم عنه (عليه السلام): (في رجل ولي مال يتيم أيستقرض منه. فقال:

إن علي بن الحسين (عليه السلام) قد كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجره، فلا بأس بذلك) (3) ، ونحوه حديث أبي الربيع(4) ، وحديث منصور الصيقل(5).

مضافاً إلي أن ذلك هو مقتضي سيرة المتشرعة، إذ ليس بناء المتدينين منهم علي التقيد بما إذا كان التصرف في مال اليتيم خيراً من عدمه، بل يكتفون بعدم ترتب المفسدة علي التصرف فيه بمثل تقليبه ونقله عن موضعه وإيداعه وتبديله بمثله ونحو ذلك مما قد تحدث لهم الدواعي له لجهات تخصهم ولا تنفع اليتيم. كما هو الحال في تصرفهم في نفس اليتيم بتكليفه ببعض الأعمال الخفيفة التي لا إجهاد فيها ولا أجرة لها، أو نقله عن مكانه الذي هو فيه إلي مكان آخر أو غير ذلك، مع أن الفرق في ذلك بين النفس

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 71 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 73 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 76 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 76 من أبواب ما يكتسب به ذيل حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 2 من أبواب من تجب عليه الزكاة ومن لا تجب حديث: 7.

ص: 396

إلا أن يكون التصرف تفريطاً منهما في مصلحة الصغير (1)، كما إذا اضطر الولي إلي بيع مال الصغير، وأمكن بيعه بأكثر من قيمة المثل، فلا يجوز بيعه بقيمة المثل. وكذا لو دار الأمر بين بيعه بزيادة درهم عن قيمة المثل وزيادة درهمين،

---------------

والمال بعيد جداً، بل قد يكون التصرف في النفس أولي عرفاً بالتقيد والتحرج.

ولاسيما وأنه لا ريب في التخيير بين التصرفين إذا تساويا في المصلحة، ومن البعيد جداً الفرق بين إحداث التصرف وإبقائه، ففي الأول يتخير بين إيقاع أحد المتصرفين وتركه الآخر، وفي الثاني يتعين إبقاء التصرف الذي حصل ما لم يكن رفعه وإبداله بالتصرف الآخر أصلح. مثلاً إذا احتاج حفظ مال الطفل لوضعه في أحد صندوقين لا تفاضل بينهما جاز وضعه في كل منهما، فإذا وضعه في أحدهما لم يجز نقله للآخر إلا إذا كان أصلح.

ومثل هذا الاستبعاد يوجب غفلة العرف عن الفرق بنحو يفهم من الأدلة عموم التخيير بعد ما هو المعلوم من أن ملاك التقييد هو صلاح اليتيم. ومن هنا لا ينبغي الإشكال في كفاية عدم المفسدة في جواز تصرف الولي في شؤون اليتيم المالية وغيرها.

وأظهر من ذلك تصرف الأب والجد في شؤون الصغير، فإن الآية الشريفة إذا لم تنهض بالتقييد بالأصلح في اليتيم - ولو بقرينة النصوص السابقة والسيرة - فهي أولي بأن لا تنهض بالتقييد في غيره. بل السيرة والارتكازات علي التعميم في غيره أظهر، خصوصاً بملاحظة ما تضمن ولايتهما علي تزويج الصغيرين، حيث يصعب جداً تقييده بما إذا كان صلاحاً لهما، بل يكاد يقطع بعدمه.

ومنه يظهر الحال في الوصي، لتفرع ولايته علي ولايتهما. ولا أقل من كونه كغيره من أولياء اليتيم. ويأتي عند الكلام في ولايته تمام الكلام في ذلك.

(1) لخروجه عن مقتضي الولاية المبنية علي رعاية المولي عليه والنظر في صلاحه.

ص: 397

لاختلاف الأماكن أو الدلالين أو نحو ذلك لم يجز البيع بالأقل وإن كان فيه مصلحة إذا عدّ ذلك مساهلة في مال الصغير. والمدار في كون التصرف مشتملاً علي المصلحة أو عدم المفسدة علي كونه كذلك في نظر

---------------

بل هو مقتضي قوله تعالي: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن)(1) بأي معني فسر من المعنيين المتقدمين. ولا أقل من الشك في عموم ولايتهما علي التصرف حينئذ، المستلزم للشك في نفوذه ومقتضي الأصل عدمه. وقد سبق أن ما تضمن جواز الأخذ من مال الولد وأن الولد وماله لأبيه أجنبي عن مقام الولاية، فلا ينهض بولايتهما علي التصرف في محل الكلام. والأمر في غيرهما من الأولياء أظهر.

نعم، الظاهر اختصاص ذلك بما إذا لم يحتج التصرف الأنفع إلي مؤنة معتد بها، فلا يجب علي الولي تحمل المؤنة المذكورة، لأن وظيفته حفظ مال المولي عليه ونفسه وبقية شؤونه والرعاية لها، لا تنمية ما عنده وتجديد المنفعة له، غاية الأمر أن لا يكون مفرطاً في أمره، وذلك لا يكون بترك ألصلح إذا كان فيه مؤنة معتد بها عليه. والنظر في سيرة المتشرعة يشهد بذلك.

وأظهر من ذلك ترك التصرف الذي يترتب عليه النفع إذا احتاج إلي مؤنة معتد بها، كتنمية المال بالتجارة والزراعة ونحوهما. نعم إذا لم يكن محتاجاً لمؤنة معتد بها فقد يقال بوجوب إيقاعه رعاية لمصلحة المولي عليه. وإن لم يخل عن إشكال، بل لعل السيرة تشهد بعدم وجوب ذلك. ولا أقل من أصالة البراءة من وجوبه.

بل لا ينبغي الإشكال في عدم وجوبه لو احتمل تعرض المال أو الصغير نفسه للضرر وإن كان الإقدام علي التصرف عليه مقبولاً عند العقلاء، بحيث لا يعتبر تفريطاً في حق المولي عليه. غاية الأمر أنه يجوز الإقدام عليه للولي، خصوصاً الأب والجد. نعم ورد النهي عن الاتجار بمال اليتيم علي تفصيل يوكل إلي محله.

********

(1) سورة الإسراء آية: 34.

ص: 398

العقلاء (1) لا بالنظر إلي علم الغيب، فلو تصرف الولي باعتقاد المصلحة، فتبين أنه ليس كذلك في نظر العقلاء بطل التصرف (2). ولو تبين أنه ليس

---------------

(1) لأن ذلك هو المعيار في القيام بمقتضي الأمانة، فتنزل عليه الولاية بمقتضي الإطلاقات المقامية. ويناسب ذلك صحيح محمد بن عيسي اليقطيني المتقدم في أول المسألة المتضمن نفوذ إجارة الأب لولده ولزوم الوفاء بها وإن حصل بعد ذلك من يبذل أكثر من الأجر الذي وقع عليه العقد، مع أنه بحصول الباذل المذكور ينكشف عدم كون الإجارة الأولي من مصلحة الولد في الواقع وعلم الغيب.

(2) لخروجه عن مقتضي الولاية. ولا يصححه اعتقاده للمصلحة بعد فرض شذوذه وخروجه عما عليه العقلاء، الذي هو المعيار في الولاية. كما لا يصححه انكشاف مصادفته للمصلحة في علم الغيب لو فرض ذلك، إذ بعد خروجه عن مقتضي الولاية يكون فضولياً، وترتب المصلحة لا يكفي في نفوذ عقد الفضولي.

ولذا لو فرض التفات الولي إلي خروجه في تصرفه عما عليه العقلاء، فأعرض عنه وأوقع تصرفاً منافياً له مطابقاً لما عليه العقلاء، صحّ التصرف الثاني، ولا يكون انكشاف وجود المصلحة في التصرف الأول في علم الغيب مستلزماً لانكشاف صحته حين وقوعه وبطلان التصرف الثاني المنافي له. وأظهر من ذلك ما إذا كان تصرفه ليس لاعتقاد المصلحة شذوذاً بل لتسامحه في أمر الصغير وتفريطه في حقه خروجاً عن مقتضي الولاية.

نعم، لو لم يوقع التصرف المنافي يبقي التصرف الأول فضولياً قابلاً للتصحيح بالإجازة بشروطها لو انكشف مطابقته للمصلحة في علم الغيب. بل قد تجب علي الولي إجازته، لأن تركها قد يكون تفريطاً عرفاً.

كما أن التصرف المذكور إنما يبطل إذا كان اعتقاد الولي للمصلحة فيه لشذوذه. أما إذا كان لاطلاعه علي ما لم يطلع عليه عامة الناس، بحيث لو اطلع العقلاء علي م

ص: 399

(400)

كذلك بالنظر إلي علم الغيب صح إذا كان فيه مصلحة بنظر العقلاء (1).

(مسألة 24): يجوز للأب والجد التصرف في نفس الصغير (2) بإجارته عاملاً في المعامل (3)، وفي سائر شؤونه، مثل تزويجه (4). نعم ليس لهما طلاق زوجته (5). وهل لهما فسخ نكاحه عند حصول المسوغ للفسخ،

---------------

اطلع عليه لوافقوه في كون التصرف صلاحاً، فالمتعين صحة التصرف، لعدم خروجه عن مقتضي الولاية، وجريه علي مقتضي نظر العقلاء في الحقيقة. فلاحظ.

(1) لجريه علي مقتضي الأمانة والولاية حينئذ، فينفذ، ولا يكون فضولياً.

(2) لعموم ولايتهما المستفاد مما تقدم.

(3) كما يستفاد في الجملة من صحيح محمد بن عيسي اليقطيني المتقدم في أول المسألة السابقة.

(4) الذي هو مقتضي النصوص الكثيرة المعتبرة والمعول عليها عند الأصحاب (رضي الله تعالي عنهم). وقد تقدم كثير منها. وتمام الكلام في ذلك في محله من كتاب النكاح.

(5) بلا خلاف فيه منّا، بل الإجماع بقسميه عليه. كذا في الجواهر. ويقتضيه في الأب جملة من النصوص، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):

(في الصبي يتزوج الصبية يتوارثان ؟ فقال: إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم. قلت: فهل يجوز طلاق الأب ؟ قال: لا) (1) ، وغيره(2). ويتعدي من الأب للجد بفهم عدم الخصوصية، أو تنقيح المناط، لوحدة ملاك ولايتهما وأولوية الجدّ ليس لأقوائية ملاك ولايته علي الصغير، بل لأبوّته للأب المقتضية لتقديمه عليه. ولو غض النظر عن ذلك كفي الإجماع علي عدم الفرق بينهما في المنع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 12 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 33 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه حديث: 1، 2.

ص: 400

(401)

وهبة المدة في عقد المتعة ؟ وجهان (1).

(مسألة 25): إذا أوصي الأب أو الجد إلي شخص بالولاية بعد موته علي القاصرين نفذت الوصية وصار الموصي إليه ولياً عليهم (2) بمنزلة الموصي تنفذ تصرفاته.

---------------

(1) الأول: عدم ولايتهما علي الأمرين، إلحاقاً لهما بالطلاق. الثاني: ثبوت ولايتهما عليهما لإطلاق أدلة ولايتهما بعد اختصاص المنع بالطلاق. وإلحاقهما به خال عن الوجه، بل هو بالقياس أشبه. ومن ثم كان ذلك هو الأقوي، كما جري عليه بعض مشايخنا (قدس سره). نعم حيث كانت هبة المدة من سنخ إسقاط الحق، وفيه نحو من النقص علي صاحبه، ففي ولايتهما علي هبتها من دون منفعة للطفل في مقابلها إشكال.

(2) نصاً وفتوي، بل إجماعاً بقسميه. كذا في الجواهر. والنصوص به مستفيضة في الجملة، كالنصوص المتقدمة في عموم ولاية الجدّ لحال موت الأب، المتضمنة عدّ الموصي له ممن بيده عقدة النكاح، وصحيح العيص بن قاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(سألته عن اليتيمة متي يدفع إليها مالها؟ قال: إذا علمت أنها لا تفسد ولا تضيع. فسألته إن كانت قد تزوجت. فقال: إذا تزوجت فقد انقطع ملك الوصي عنها) )(1) ، ومعتبر محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام)

:(أنه سئل عن رجل أوصي إلي رجل بولده وبمال لهم، وأذن له عند الوصية أن يعمل بالمال، وأن يكون الربح بينه وبينهم. فقال: لا بأس به، من أجل أن أباه قد أذن له في ذلك وهو حي) (2) ، وغيرها(3).

ويظهر من بعضها المفروغية عنه، كصحيح إسماعيل بن سعد الأشعري:

(سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل مات بغير وصية، وترك أولاداً ذكراناً غلماناً صغار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 45 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 92 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 46 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 1، وباب: 47 من أبواب الوصايا حديث: 1، وباب: 92 منها حديث: 2.

ص: 401

وترك جواري ومماليك، هل يستقيم أن تباع الجواري... ) (1) ، وغيره(2). لظهورها في جواز البيع والشراء لو كانت هناك وصية وقام الوصي ببيع التركة.

وبعض هذه النصوص وإن اختص بالأب، إلا أن جملة منها لا يختص به، وبعضها وإن لم يكن له إطلاق، لعدم وروده لبيان ولاية الوصي، بل لبيان حكم آخر، كخبر إسماعيل: (عن وصي أيتام يدرك أيتامه، فيعرض عليهم أن يأخذوا الذي لهم فيأبون عليه، كيف يصنع ؟ قال: يردّ عليهم بكرههم)(3) ، إلا أنه لا يبعد تمامية الإطلاق في بعضها بنحو يشمل وصي الجد، كالنصوص المتقدمة المتضمنة عدّه فيمن بيده عقدة النكاح.

ودعوي: أن مقتضي إطلاقها ولاية وصي كل أحد حتي غير الأب والجد، وحيث لا مجال للبناء علي ذلك تعين إجماله، والاقتصار فيه علي المتيقن، وهو وصي الأب. مدفوعة بأن ولاية الوصي حيث كانت متفرعة عن ولاية الموصي فالمناسبات الارتكازية تقتضي حمل إطلاق الوصي في هذه النصوص علي الوصي عن الولي، وهو الأب والجد، دون غيرهما ممن لا ولاية له.

بل من القريب لأجل ذلك فهم العموم لوصي الجد من النصوص الواردة في وصي الأب، بإلغاء خصوصيته عرفاً.

ولو غض النظر عن جميع ذلك كفي في البناء علي العموم له التعليل في معتبر محمد بن مسلم، فإن ارتكازيته تقضي بأن منشأ جواز الاتجار للوصي بمال الطفل مع إذن الأب هو ولايته علي ولده بنحو له الاتجار بماله في حياته، وذلك يجري في الجدّ. مضافاً إلي ظهور الإجماع علي عدم الفصل بينهما في ذلك. فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2، وج: 13 باب: 88 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 47 من أبواب أحكام الوصايا حديث: 1.

ص: 402

(403)

نعم، يشكل صحة تزويجه لهم (1)، كما يأتي إن شاء الله تعالي.

---------------

(1) بل في المبسوط والشرايع وعن غيرهما عدم تزويجه لهم. وقيل: إنه المشهور، وفي المسالك أنه الأشهر. وفي الخلاف وعن موضع من المبسوط أن له تزويجهم.

والكلام: تارة: مع إطلاق الوصية بالقيمومة علي الصغير.

وأخري: مع التنصيص علي تزويجه.

أما الأول فقد يستدل لعدم جواز تزويجه بمفهوم قوله (عليه السلام) في صحيح محمد ابن مسلم المتقدم في مسألة عدم ولاية الأب علي الطلاق: (إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم)، وبصحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: (سأله رجل عن رجل مات، وترك أخوين وابنة، والبنت صغيرة، فعمد أحد الأخوين الوصي فزوج الابنة من ابنه، ثم مات أبو الابن المزوج. فلما أن مات قال الآخر: أخي لم يزوج ابنه، فزوج الجارية من ابنه. فقيل للجارية: أي الزوجين أحب إليك الأول أو الآخر؟ قالت: الآخر. ثم إن الأخ الثاني مات، وللأخ الأكبر ابن أكبر من الابن المزوج. فقال للجارية: اختاري أيهما أحب إليك الزوج الأول أو الآخر؟. فقال: الرواية فيها أنها للزوج الأخير. وذلك أنها قد كانت أدركت حين زوجها، وليس لها أن تنقض ما عقدته بعد إدراكها)(1).

لكن من القريب حمل صحيح محمد بن مسلم علي كون ذكر الأب فيه بلحاظ ولايته، فيكون مسوقاً لبيان عدم نفوذ تزويج غير الولي، لا لبيان عدم ولاية غير الأب علي التزويج، أو علي عدم سوقه لبيان المفهوم، بل لمجرد نفوذ تزويج الأب. ولذا لا إشكال في نفوذ تزويج الجدّ وثبوت التوارث به، فلا ينافي نفوذ تزويج الوصي بعد فرض ولايته علي الصغير بسبب وصية الأب أو الجد.

وأما صحيح محمد بن إسماعيل فإضماره مانع من التعويل عليه لعدم وضوح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 1.

ص: 403

كون المسؤول هو الإمام. ودعوي: أن إضمار مثل محمد بن إسماعيل لا يقدح في الحجية، ولاسيما مع إيداعه في الكافي والتهذيب المعدين لجمع أحاديث المعصومين (صلوات الله عليهم).

مدفوعة بأن اشتمال الحديث علي نسبة الحكم للرواية موجب للريب في صدوره عن الإمام، لعدم مناسبته لمقامه وعدم تعارف ذلك منهم (عليهم السلام) إلا في زمن الغيبة الصغري، بسبب التقيّة الشديدة علي شخص الإمام عجل الله فرجه، ومحمد بن إسماعيل لم يدرك ذلك، وآخر من عاصر من الأئمة هو الإمام الجواد (عليه السلام)، واحتمال صدور ذلك من أحد الأئمة الذين عاصرهم لظروف خاصة - من تقيّة أو نحوها - ليس بأولي من احتمال صدوره عن بعض علماء الشيعة، ويكون ذكر محمد بن إسماعيل والكليني والشيخ له بلحاظ اشتماله علي الرواية المرسلة.

مضافاً إلي عدم خلوه عن الاضطراب، لعدم الإشارة في السؤال إلي ما فرض في الجواب من إدراكها حين الزواج الثاني. واحتمال فهمه بقرينة خارجية ليس بأولي من احتمال قيام القرينة الخارجية علي كون الوصي وصياً للميت في أموره الخاصة به من دون أن يكون قيماً علي البنت الصغيرة، أو كان قيماً عليها في غير الزواج، ويكون تزويجه لها خارجاً عن مقتضي وصايته، فيكون فضولياً قطعاً. ومن هنا لا مجال للاستدلال المذكور.

ومثله الاستدلال لجواز تزويجه بما تقدم عند الكلام في عموم ولاية الجد لحال موت الأب من النصوص المتضمنة أن الموصي إليه ممن بيده عقدة النكاح. للإشكال فيه بعدم وضوح كون المراد به هو مطلق الموصي إليه بالقيمومة علي الصغير، بل لعل المراد به خصوص الموصي إليه الذين ينص علي عموم قيمومته عليه لتزويجه بالتزويج نصاً.

وبعبارة أخري: بعد العلم بعدم إرادة مطلق الموصي إليه ولو كانت وصيته مختصة بشؤون الميت، فليس تقييده بمن يوصي إليه بالقيمومة بأمر الصغير بأولي من

ص: 404

تقييده بمن يوصي إليه بتزويجه أيضاً، بحيث يوكل أمر زواجه بنظره. بل المتيقن الأخير، فيجب الاقتصار عليه في الخروج عن مقتضي أصالة عدم ترتب الأثر. فتأمل.

نعم، قد يقال: بعد ظهور المفروغية في النصوص - ولاسيما معتبر محمد بن مسلم المتقدم - عن صحة الوصية من الأب بأولاده الصغار فالمستفاد عرفاً ابتناء الوصية المذكورة علي قيام الوصي مقام الأب في رعاية مصلحة الصغير وسدّ حاجته في جميع شؤون حياته، وإن لم ينص عليها، ومقتضي ذلك ولايته علي تزويجه إذا كان صلاحاً له أو كان الصغير محتاجاً له، كما يكون ولياً عليه في غير التزويج إذا كان كذلك. نعم لا يكفي مجرد عدم ظهور الضرر عليه بالتزويج، لقصور الوصية أو انصرافها عنه، لأن أهمية التزويج وما يترتب عليه من اللوازم في المزوج لا يناسب سلطنة الوصي فيه لذلك.

وأما الثاني فربما يستدل علي نفوذ الوصية فيه بقوله تعالي: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاًَ علي المتقين فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه علي الذين يبدلونه إن الله سميع عليم فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)(1) بدعوي: أن صدورها وإن كان مختصاً بالوصية المالية للوالدين والأقربين، إلا أن الاستدلال بقوله:

(فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه علي الذين يبدلونه) في النصوص الكثيرة(2) علي نفوذ الوصية في غير ذلك شاهد بإلغاء خصوصيته وعموم نفوذ الوصية.

لكنه يشكل بأن المستفاد من النصوص المذكورة إلغاء خصوصية الوالدين والأقربين والعموم لغيرهم، ولا تنهض بإلغاء خصوصية الوصية بالمال الذي تركه والعموم للوصية بغير المال من الأمور المتعلقة بالموصي نفسه - كشؤون تجهيزه - فضلاً عما يتعلق بغيره، كما في المقام، بل لابد في إثبات نفوذ الوصية فيه من دليل آخر غير

********

(1) سورة البقرة آية: 181-183.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 32، 35، 37 من أبواب كتاب الوصايا.

ص: 405

ويشترط فيه الرشد والأمانة (1)، ولا يشترط فيه العدالة (2) علي الأقوي. كم

---------------

الآية الشريفة.

وأشكل من ذلك ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من استفادة عموم نفوذ الوصية في كل شيء من الآية الكريمة بقرينة قوله تعالي: (فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً...). إذ فيه: أن ذلك لا ينهض بالتعميم للوصية بالمال لغير الوالدين والأقربين، فضلاً عن التعميم للوصية بغير المال، لظهور أن الوصية للوالدين والأقربين قد تكون حيفاً وتعدياً علي الورثة، كما قد تكون بأمر محرم، كما لو أوصي بدفع خمر أو آلة لهو لرحمه، فالتنبيه لعدم نفوذ الوصية حينئذ لا يشهد بعموم نفوذ الوصية بكل شيء غير محرم.

بل لا إشكال في عدم نفوذ الوصية في حق البالغ وإن لم تكن بحرام، ولا تعدياً علي الآخرين، كالوصية بأن يتزوج فلانة أو يشتري الدار الفلانية أو نحو ذلك. بل حتي من له ولاية عليه في حياته ليس له أن يعمل ولايته عليه بالوصية بعد وفاته ما لم يثبت سلطنته علي الوصية المذكورة، ولذا ليس له الوصية فيما يتعلق بزواج بنته البكر البالغة الرشيدة وإن كان له الولاية في الجملة علي ذلك في حياته. ومن هنا لابد في إثبات سلطنته علي الوصية بزواج الصغير من دليل آخر غير الآية الشريفة.

فالعمدة ما سبق من أنه المتيقن مما تضمن عدّ الموصي له ممن بيده عقدة النكاح. مضافاً إلي ما تقدم في معتبر محمد بن مسلم من تعليل جواز مضاربة الوصي بمال الصبي بقوله (عليه السلام):

(من أجل أن أباه قد أذن له في ذلك وهو حي) فإن ارتكازية التعليل تقضي بالتعميم لكل ما يأذن به الولي مما له القيام به في حياته. فلاحظ.

(1) لأنه نحو من الاستئمان علي المولي عليه، ومن لا يتحلي بهما ليس أهلاً لها قطعاً. بل في الوصية له جنفاً وحيفاً في حق الصغير الموصي به.

(2) كما لا يشترط في الوصي في سائر الأمور. والعمدة فيه إطلاق الأدلة. وتمام

ص: 406

(407)

يشترط في صحة الوصية فقدهما معاً (1)، فلا تصح وصية الأب بالولاية علي الطفل مع وجود الجد، ولا وصية الجد بالولاية علي حفيده مع وجود الأب.

---------------

الكلام في محله من كتاب الوصية. وتقدم عند الكلام في اعتبار العدالة في ولاية الأب والجد بعض ما ينفع في المقام.

(1) قال في الشرايع:

(ولو أوصي بالنظر في مال ولده إلي أجنبي وله أب لم يصح، وكانت الولاية إلي جدّ اليتيم دون الوصي) وفي الجواهر:

(بلا خلاف أجده فيه في الجملة، بل الظاهر الإجماع عليه) . وكأن مراده بنفي الخلاف فيه في الجملة الإشارة إلي ما ذكر في الشرايع بقوله:

(وقيل: يصح في قدر الثلث وفي أداء الحقوق) . وهو يبتني علي ما هو خارج عن محل الكلام من اختصاص الثلث بالميت.

وكيف كان فقد استدل أو يستدل عليه بوجوه:

الأول: ما أشار إليه سيدنا المصنف (قدس سره) من عدم الإطلاق في ولاية الأب في حال حياته، فضلاً عن المقام. ويظهر اندفاعه مما سبق من ثبوت الإطلاق المذكور.

الثاني: ما ذكره هو (قدس سره) أيضاً من عدم الإطلاق في نصوص الوصية بنحو يشمل صورة وجود الولي الآخر. وفيه: أنه يمكن استفادة العموم من ترك الاستفصال في معتبر محمد بن مسلم المتقدم. بل لا يبعد استفادته من إطلاق ما تضمن عدّ الموصي إليه ممن بيده عقدة النكاح.

الثالث: ما في الجواهر من ترتب ولاية الوصي علي ولاية الأب الصادق علي الجد. وفيه - مع الإشكال في صدق الأب علي الجد، كما يظهر مما تقدم عند الاستدلال علي ولاية الجد -: أن ولاية الوصي مترتبة علي ولاية الموصي له، فمع ثبوت الولاية لشخصين في عرض واحد - كالأب والجد - تكون ولاية وصي كل منهما مترتبة علي ولاية من أوصي إليه، دون ولاية الآخر. نظير وكيل كل منهما.

الرابع: ما فيه أيضاً من الاستدلال بما دل علي ولاية الجد والأب مما هو ظاهر

ص: 407

في انحصار أمر الطفل فيهما مع وجودهما أو وجود أحدهما علي وجه ينافيه ولاية أحدهما مع وصي آخر.

ويشكل بعدم وضوح الدليل المذكور، فإن ثبوت الولاية لأحدهما مع انفراده لا ينافي ولاية غيره معه وصياً كان عن الآخر أم لم يكن. غاية الأمر أن مفهوم قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم المتقدم في مسألة عدم ولاية الأب علي الطلاق:

(إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم) انحصار الولاية علي التزويج بالأب. لكن حيث لا إشكال في ولاية الجدّ علي التزويج، بل في ولاية الوصي عليه في الجملة - كما سبق - فلابد إما من حمله علي كون ذكر الأب بما أنه ولي علي الطفل، وأنه وارد لبيان عدم نفوذ تزويج غير الولي، لا عدم نفوذ تزويج غير الأب من الأولياء، وإما من البناء علي عدم سوقه للمفهوم، كما سبق عند الكلام في الاستدلال بالحديث المذكور لعدم جواز تزويج الوصي. وهو أجنبي عما نحن فيه.

الخامس: ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن في الوصية المذكورة تعدياً علي الولي الآخر وجنفاً عليه، فتبطل، لقوله تعالي: (فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه)(1). وتوضيح ذلك أن دليل نفوذ الوصية إنما يقتضي نفوذها في حق المولي عليه، ولا دليل علي نفوذها في حق الولي الآخر، بل تقييد ولايته بما إذا لم يسبقه الوصي تعدّ عليه وجنف في حقه، فلا تنفذ.

وهذا الوجه لو تم يجري حتي مع تمامية إطلاق ولاية الموصي في نفسه، وإطلاق سلطنته علي الوصية، لوضوح أن استثناء الجنف والإثم من سنخ التخصيص القطعي المقدم علي الإطلاق والعموم.

لكنه يشكل: أولاً: بأن الولاية ليست من حقوق الولي لتكون مزاحمته فيها تعدياً عليه، ولذا لا تقبل الإسقاط، بل هي حكم شرعي تابع لموضوعه ثبوتاً ولدليله إثباتاً، فإذا كان مقتضي إطلاق الأدلة نفوذ الوصية فاللازم العمل عليه.

********

(1) سورة البقرة آية: 183.

ص: 408

وثانياً: بأن الولاية كانت من الحقوق فحيث كانت من أول الأمر للأب والجد معاً، فكل منهما لم يكن منفرداً بها، لتكون في ولاية الوصي من قبل أحدهما تضييق لولاية الآخر، بل الولاية الثابتة لكل منهما ضيقة من أول الأمر بولاية الآخر. فإذا كان مقتضي إطلاق دليل الوصية سعة ولاية كل منهما بحيث له أن يجعل وصيه يقوم مقامه، فقد بقيت ولاية كل منهما بعد وفاة الآخر كما كانت في حياته ضيقة من دون أن يطرأ عليها تضييق جديد ليحصل الجنف والتعدي في حقه. فالمقام نظير توكيل أحد الوليين لشخص ثالث في حياة الآخر. وأما كون وصية كل منهما بالولاية مانعة من توسع ولاية الآخر، إذ لولاها لانفرد بالولاية. فهو لا يكفي في كونها تعدياً وجنفاً في حقه. نظير وصية الميت بالثلث، حيث لا تكون تعدياً وجنفاً في حق الوارث بلحاظ مانعيتها من ميراثه للثلث.

وثالثاً: بأن نفوذ تصرف السابق من الوليين ليس تقييداً لولاية الآخر، ليكون تعدياً عليه لو كانت الولاية من الحقوق، بل هو رافع لموضوع ولايته، إذ لا موضوع للولاية علي التزويج أو البيع أو غيرهما مع حصولها بتصرف السابق، وعدم حصول الأثر مع عدم إيقاع الولي لسببه ليس مقتضي ولايته، ليكون حصوله بتصرف أحد الوليين منافياً لولاية الآخر، بل هو لعدم حصول السبب. وبذلك لا يكون نفوذ تصرف الوصي لو سبق منافياً لولاية الولي الآخر، ولا مقيداً لها.

نعم، غاية ما يقتضيه هذا الوجه - لو تمّ - عدم مزاحمة الوصي للولي الآخر لو تقارن تصرف كل منهما مع تصرف الآخر. وكذا مع التشاح بينهما في الجملة علي ما يتضح مما تقدم عند الكلام في استقلال كل من الأب والجد بالولاية.

ورابعاً: أنه لو غض النظر عن جميع ما سبق فما ذكره (قدس سره) إنما يتم إذا لم يمكن عرفاً تحكيم دليل نفوذ الوصية علي دليل الحكم الأولي المقتضي لكون الأمر الموصي به جنفاً وإثماً، كما في الوصية بحرمان بعض الورثة من الميراث، أو بما زاد علي الثلث، أو بسقي الخمر، أو بإقراض مال الثلث قرضاً ربوياً. أما إذا أمكن عرفاً تحكيم دليل

ص: 409

نفوذ الوصية علي دليل الحكم الأولي المذكور بحيث يقصر عن موردها، فاللازم نفوذ الوصية، لكشف دليل نفوذها عن عدم كون موردها جنفاً وإثماً. والظاهر ذلك في المقام، حيث يقرب عرفاً تحكيم دليل نفوذ الوصية بالقيمومة علي الصغير من قبل الأب والجد علي إطلاق ولاية كل منهما عليه، بحمله علي غير حال الوصية بالقيمومة، أما معها فولاية كل منهما مقيدة بولاية الوصي ومزاحمة بها، لأنها امتداد لولاية الموصي المزاحمة لها، فلا تكون الوصية جنفاً وتعدياً عليه، لقصور ولايته معها. فلاحظ.

السادس: ما يظهر من المبسوط من أن ولاية الأب والجد لما كانت بأصل الشرع، فلا يكون معهما من يتولي بتولية. قال:

(ألا تري أن الحاكم لا يلي من اليتيم مع وجود الأب والجد، ويلي عليهم مع عدمهما) لكنه كما تري لا يخرج عن الاستحسان حيث لا مانع من تولي من تولي بتولية مع إطلاق دليل توليته، كما لا مجال لتولي من لا إطلاق لدليل توليته وإن كان منصوباً بالأصل من الشرع كما ذكروه في الحاكم.

السابع: ظهور اتفاق الأصحاب علي ذلك، كما سبق. ولذا لم ينقل الخلاف إلا في الوصية بمقدار الثلث الذي يبتني علي ولاية الموصي علي الثلث، وهو خارج عن محل الكلام.

لكن في نهوضه بالاستدلال إشكال، لعدم نهوضه بالكشف عن رأي المعصوم بعد عدم ورود نصوص بذلك، وإنما ذكر في عصور تدوين الفتاوي، وعدم وضوح سيرة عليه متصلة بعصور المعصومين (صلوات الله عليهم)، لعدم شيوع الابتلاء بالمسألة، واحتمال استنادهم في الحكم المذكور لبعض وجوه الاستدلال المتقدمة أو غيرها من الوجوه الاعتبارية.

نعم، قد يؤيد ذلك باحتمال انصراف إطلاق دليل الوصية الذي تقدمت الإشارة إليه في ردّ الوجه الثاني إلي صورة انقطاع الطفل وعدم وجود من يرعاه. وإن لم يخل عن إشكال.

هذا وأما القول بنفوذ الوصية في الثلث الذي تقدمت الإشارة إليه في الشرايع

ص: 410

ولو أوصي أحدهما (1) بالولاية علي الطفل بعد فقد الآخر، لا في حال وجوده (2) ففي صحتها إشكال (3).

---------------

فهو الذي ذهب إليه الشيخ في المبسوط. وهو لا يخلو عن قرب حتي بناء علي عدم صحة وصية أحدهما بالقيمومة مع وجود الآخر، لأن ولايته علي الثلث تقتضي نفوذ شرطه في تمليكه للموصي له وصرفه عليه بأن يكون بنظر الوصي، كغيره من الشروط، سواء كان الموصي له صغيراً أم كبيراً قريباً أم بعيداً. ومجرد ولاية الجد علي الصغير بالأصل لا ينافي نفوذ الشرط المذكور في حق الصغير، كنفوذه في حق الكبير المستقل بالتصرف.

نعم، الشرط المذكور لما كان متعلقاً بالموصي له فلابد من قبوله به إن كان كبيراً وقبول وليه به إن كان صغيراً. ولازم ذلك تنفيذه في المقام بنظر كل من الولي الأصلي الموجود ووصي الولي الميت الموصي. فلاحظ.

(1) يعني: في حال وجود الآخر.

(2) فتكون الوصية حال وجود الآخر والولاية الموصي بها بعد فقده.

(3) كأنه لما سبق منه (قدس سره) من عدم ثبوت إطلاق لولاية الأب والجد، ولا إطلاق لدليل الوصية منهما بالقيمومة علي الصغير. لكن حيث سبق منا ثبوت الإطلاق في المقامين فلا ينبغي الإشكال في صحة الوصية في الفرض، كما يتضح مما تقدم. ومثله ما إذا كان الآخر عاجزاً عن تولي أمر الصغير، لغيبة أو مرض أو نحوهما. بل الظاهر صحة الوصية مع قدرته علي ذلك إذا كانت مشروطة بعدم توليه أمر الصغير، ولو اتكالاً علي الوصي. كل ذلك للإطلاق، والاقتصار في الخروج عنه علي ما إذا كانت ولايته في عرضه لو تم الانصراف عنه. فلاحظ.

تتميم: ألحق الأصحاب (رضي الله عنهم) المجنون بالطفل في ولاية الأب والجد، ونفي الخلاف فيه في المسالك، وفي الجواهر:

(ولا ريب فيه في الجملة، بل عن مجمع البرهان:

ص: 411

كأن عليه إجماع الأمة) . وهو المتيقن فيمن اتصل جنونه بصغره، لاستصحاب ولايته عليه الثابتة حال الصغر، بناء علي ما هو الظاهر من جريان الاستصحاب في مثل الولاية من الأحكام الوضعية القائمة بالجزئي الموجود خارجاً، وهو في المقام شخص المولي عليه والولي.

بل الظاهر عدم الإشكال في ذلك حتي بناء علي عدم جريان الاستصحاب. نظراً إلي السيرة، إذ لا ريب في عدم اعتزال الأب والجد المجنون ببلوغه، بل يبقي تحت رعايتهما وولايتهما.

كما يدل عليه في الجد قوله تعالي: (وابتلوا اليتامي حتي إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم)(1). لظهوره في أن من بيده مال اليتيم لا يدفع له ماله إذا بلغ غير رشيد، لجنون أو سفه، فيدل علي بقاء ولاية الجدّ علي اليتيم إذا بلغ مجنوناً، ويلحق به الأب، لعدم الفصل.

وأما مع عروض الجنون عليه بعد البلوغ فمقتضي إطلاق جماعة وصريح آخرين ولايتهما عليه. خلافاً لما في كتاب الحجر من جامع المقاصد وكتاب النكاح من المسالك ومحكي مجمع البرهان وغيرها من ولاية الحاكم عليه، لزوال ولايتهما ببلوغه ولا دليل علي عودها بطروء الجنون عليه، فتكون الولاية للحاكم، بناء علي ما هو المعروف من أنه ولي من لا ولي له.

لكن قال في كشف اللثام:

(وأما إن تجدد الجنون بعد البلوغ ففي عود ولايتهما نظر، ففي التذكرة والتحرير أنها تعود وهو الأقرب. بل لا عود حقيقة، لأن ولايتهما ذاتية منوطة بإشفاقهما وتضررهما بما تضرر به الولد) . وهو كما تري، فإن كون ملاك الولاية ذاتي فيهما لا ينافي صدق العود بعد فرض استغناء المولي عليه عن الولاية برشده بعد البلوغ، وتجدد الحاجة لها بجنونه. علي أن تبعية الولاية للملاك المذكور دائماً تحتاج إلي دليل، ولو كان هو الإطلاق. وهو غير ثابت. بل لا يمكن البناء عليه،

********

(1) سورة النساء آية: 6.

ص: 412

لعدم اطراده، فإنه قد يكون في الأم آكد، مع عدم القول بولايتها.

وعن شيخنا الأعظم (قدس سره) الاستدلال بخبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):

(قال: إذا كانت المرأة مالكة أمرها تبيع وتشتري وتعطي من مالها ما شاءت فإن أمرها جايز تزوج إن شاءت بغير إذن وليها، وإن لم تكن كذلك فلا يجوز تزويجها إلا بأمر وليها) (1) بدعوي: أن المجنونة من أظهر مصاديق من لا تملك أمرها. كما أن من البعيد أن يراد من الولي الحاكم، بل الظاهر أنه من يتصدي لإدارة شؤونها، وهو الأب والجد. بل ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن إضافة الولي لها ظاهر في اختصاصه بها، وذلك لا يكون إلا الجد والأب، دون الحاكم.

وفيه - مع ضعف سند الخبر، لجهالة طريق الشيخ إلي علي بن إسماعيل -: أن المراد بالولي إن كان هو من يتولي إدارة أمورها فعلاً فهو لا يختص بالأب والجد، بل كل من تعيش في كنفه وتحت رعايته من الأرحام، بل حتي الأجنبي لو صادف ذلك فيه. ولابد حينئذ إما من البناء علي ولايته علي إطلاقه من دون أن يختص بالأب والجد، وإما من فرض كونه ولياً شرعاً، ولو لاستئذانه من الولي الشرعي ونصبه من قبله، فلا ينافي ولاية الحاكم.

مضافاً إلي أن من البعيد جداً عموم الخبر للمجنونة ونحوها ممن لا تصلح لإجراء العقد معها عرفاً، بل الظاهر منه التفصيل في المرأة الكاملة بين ما إذا كانت مستقلة في إدارة شؤونها وما إذا كانت في رعاية شخص يتولي أمرها، وأن الأولي تستقل بالتزويج، والثانية لا تستقل به، بل لابد فيه من إذن وليها. وهو راجع إلي التفصيل فيما عن العامة من عدم صحة النكاح إلا بولي. ولابد حينئذ من عدم التعويل عليه ورد علمه إلي قائله (عليه السلام).

وهي قريبة جداً. ولاسيما بلحاظ ما سبق من جريانها فيما لو بلغ مجنوناً، لعدم الفرق بحسب مرتكزات المتشرعة بينه وبين من جنّ بعد البلوغ في نحو علاقته بالأب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 9 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 6.

ص: 413

والجد. ومنه يظهر إمكان استفادته من الآية الشريفة بالتقريب المتقدم بضميمة إلغاء خصوصية استمرار الجنون من قبل البلوغ. ولو فرض عدم بلوغ ذلك حدّ الجزم بالحكم جري عليه حكم اليتيم المتقدم في المسألة الرابعة والعشرين من مباحث الاجتهاد والتقليد من هذا الشرح، لمشاركته له في الأدلة. فراجع.

هذا وأما الوصي فلا إشكال في ولايته علي المجنون إذا مات الموصي وهو صغير ثم بلغ مجنوناً، لعين ما سبق من الآية الشريفة والسيرة والاستصحاب. مضافاً إلي صحيح العيص المتقدم في الاستدلال لولاية الوصي، لدلالته علي بقاء ولاية الوصي مع إفساد المولي عليه وتضييعه، فضلاً عن جنونه. كما لا إشكال في عدم ولايته عليه لو بلغ رشيداً ثم جن، لأنه بعد خروجه عن ولايته يكون كسائر الأجانب. وسبق وصيته عليه لا أثر لها ارتكازاً. ولا أقل من عدم الدليل علي عود ولايته عليه.

وأما ولايته عليه لو مات الموصي وهو كبير مجنون - إما لاستمرار جنونه من صغره، أو لطروء الجنون عليه بعدما بلغ إذ قلنا بولاية الأب والجدّ عليه حينئذ - فهو يبتني علي مشروعية الوصية به، كما هو غير بعيد. ويناسبه إطلاق معتبر محمد بن مسلم المتقدم في أدلة ولاية الوصي علي الصغير. وقضاء المناسبات الارتكازية بإلغاء خصوصية الصغير، وأن المدار في مشروعية الوصية هو ولاية الموصي وحاجة الموصي به للكفالة والرعاية بعد موت وليه.

هذا وقد صرح في الشرايع بولاية الوصي علي تزويج فاسد العقل إذا كان به ضرورة إلي النكاح. وفي الجواهر: (بل نفي بعضهم الخلاف عن ثبوتها في ذلك، بل عن ظاهر الكفاية الإجماع عليه، بل عن القطيفي دعواه صريحاً). ويظهر الوجه فيه مما سبق من كونه مقتضي الوصية، مع قصور ما ورد في الصغير من النصوص عنه. بل مقتضاه الاكتفاء بالحاجة العرفية، بحيث يكون صلاحاً له وإن لم يبلغ حد الضرورة.

هذا ولو نصّ الموصي علي التزويج بالخصوص كان المدار علي ما يستفاد من نصه عموماً وخصوصاً، كما يظهر مما سبق.

ص: 414

(مسألة 26): ليس لغير الأب والجد والوصي لأحدهما ولاية علي الصغير (1) ولو كان عماً (2)، أو أمّاً (3)،

---------------

(1) هذا إنما يتم في الولاية الإلزامية المبنية علي إلزام الولي بتولي أمر المولي عليه. أما الولاية الاختيارية الراجعة إلي جواز أمره فالظاهر ثبوتها لمن يتولي أمره ويكفله عند فقد الأولياء القهريين المتقدمين، علي ما سبق منا في المسألة الرابعة والعشرين من مباحث الاجتهاد والتقليد من هذا الشرح. فراجع.

(2) بلا إشكال ظاهر، ويظهر من الأصحاب المفروغية عنه. وقال في التذكرة:

(ليس للعصبة - كالأخ وابنه والعم وابنه. وبالجملة: كل عصبة هي علي حاشية النسب

ولاية النكاح عند علمائنا أجمع، سواء كانت المرأة صغيرة أو كبيرة عاقلة أو مجنونة بكراً كانت أو ثيباً) . وكفي بهذا الإجماع دليلاً في مثل هذه المسألة الشايعة الابتلاء.

ويقتضيه - مضافاً إلي ذلك - الأصل، وصحيح علي بن مهزيار عن محمد بن الحسن الأشعري:

(كتب بعض بني عمي إلي أبي جعفر الثاني (عليه السلام): ما تقول في صبية زوجها عمها، فلما كبرت أبت التزويج. فكتب لي: لا تكره علي ذلك، والأمر أمرها) (1) .

اللهم إلا أن يقال: ثبوت الخيار لها بعد البلوغ لا ينافي ولاية العاقد وصحة عقده. ولذا ورد ذلك في تزويج الأبوين(2) وإن وقع الكلام في العمل به. علي أن عدم صحة تزويج العمّ للصغير لا ينافي ولايته عليه، نظير ما تقدم من الخلاف في الوصي. فالعمدة ما سبق.

(3) كما هو المعروف بين أصحابنا وظاهر التذكرة الإجماع عليه. لكن في الجواهر:

(لا ولاية للأم ولا لأحد من آبائها علي الولد الصغير. بلا خلاف أجده فيه إلا من الإسكافي الذي يمكن تحصيل الإجماع علي خلافه) . وكفي في الدليل عليه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 2، 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 2، 8.

ص: 415

(416)

أو جدّاً لها (1)، أو أخاً كبيراً (2)، ولو تصرف أحد هؤلاء في مال الصغير أو في نفسه أو في سائر شؤونه لم يصح، وتوقف علي إجازة الولي.

(مسألة 27): تكون الولاية علي الطفل للحاكم الشرعي مع فقد الأب والجد والوصي لأحدهما (3).

---------------

الأصل. بل لا ينبغي الإشكال فيه بعد شيوع الابتلاء بالمسألة بنحو يمتنع عادة خفاء حكمها علي جمهور الأصحاب.

(1) كما هو معقد نفي الخلاف المتقدم من الجواهر عند الكلام في الأم. ويجري فيه ما سبق فيها.

(2) كما هو مقتضي عموم معقد الإجماع المتقدم من التذكرة في العم. ويجري فيه ما سبق فيه. ولابد لأجله من رفع اليد عما قد يظهر من عدّ الأخ ممن بيده عقدة النكاح من النصوص المتقدمة عند الاستدلال لعموم ولاية الجد لحال موت الأب، كما سبق هناك. ومثله مرسل الحسن بن علي عن الرضا (عليه السلام):

(قال: الأخ الأكبر بمنزلة الأب)(1). حيث لابد من حمله علي المبالغة لبيان استحباب تكريم الأخ الأكبر، لعدم الإشكال في عدم إرادة ظاهره بالإضافة إلي الولاية وغيرها من أحكام الأب. وتقدم هناك ما ينفع في المقام. فراجع.

(3) هذا بناءً علي ما هو المعروف بينهم من عدم جواز تولي أمر اليتيم والنظر في صلاحه لكل أحد حسبة. لكن تقدم منّا في المسألة الرابعة والعشرين من مباحث الاجتهاد والتقليد من هذا الشرح تقريب جواز ذلك. وحينئذٍ يكون الحاكم الشرعي كغيره بالإضافة إلي الصغير.

إلا أن نقول بولايته المطلقة الراجعة لكونه أولي بالمؤمنين من أنفسهم، فيكون الصغير والكبير معاً مشمولين بها من دون أن يمتاز الصغير بشيء. وهي حينئذٍ تكون

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 6.

ص: 416

مانعة لولي اليتيم الاختياري من التصرف في أمره، وللكبير من إعمال السلطنة في نفسه، في خصوص حال إعمال الحاكم الشرعي لولايته، لا مطلقاً، كما هو ظاهر.

وكيف كان فالمناسب الكلام هنا تبعاً لغير واحد من الأكابر في ولاية الحاكم الشرعي، فإنه وإن سبق منّا الكلام فيها في المسألة المذكورة، إلا أنا رأينا إعادة تحريرها بوجه أشمل وأوضح، فنقول بعد الاتكال علي الله وطلب العون والتسديد منه:

ولاية الحاكم يراد بها: تارة: الولاية المطلقة المساوقة لولاية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) والإمام، الثابتة لهما بالضرورة والمستفادة من مثل قوله تعالي: (النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم)(1) ، وقوله تعالي:

(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (2) ، وقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) في خطبة الغدير:

(إن الله مولاي وأنا مولي المؤمنين، وأنا أولي بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه) (3) ، وقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(علي وليكم بعدي) (4) ، والنصوص المتضمنة لتفسير أولي الأمر بالأئمة الاثني عشر (صلوات الله عليهم)(5) وغيرها. ومن لوازم الولاية المذكورة وجوب الطاعة علي الناس.

وأخري: الولاية الخاصة، وهي الولاية فيما يحتاج للولي مع عدم الولي، ولعله المراد بالنبوي:

(السلطان ولي من لا ولي له) (6) .

وكأنه إليه يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من الولاية الإذنية التي هي عبارة عن إناطة تصرف غيره بإذنه، بلحاظ أن ذلك إنما يجري في التصرف الذي لا دليل علي جواز الاستقلال فيه، بل لابد فيه من إذن الولي مع عدم وجود الولي وانحصار ولايته

********

(1) سورة الأحزاب آية: 6.

(2) سورة المائدة آية: 55.

(3) الغدير في الكتاب والسنة ج: 1 ص: 11.

(4) في رحاب العقيدة ج: 2 ص: 345.

(5) في رحاب العقيدة ج: 3 ص: 215، 219.

(6) صحيح الترمذي كتاب النكاح باب: 15. وسنن أبي داود كتاب النكاح باب: 16. وسنن البيهقي ج: 7 ص: 105. وكنز العمال ج: 16 ص: 309 حديث: 44643 و 44644.

ص: 417

(418)

بالإمام بلحاظ ولايته العامة. وعليه يكون وجود الولي مغنياً عن إذنه ورافعاً لموضوع ولايته.

ولولا ذلك فلا يتضح الفرق بين الولاية الإذنية والولاية العامة، ضرورة أن من يعتبر إذنه ليس إلا الولي، الذي له إعمال ولايته بالمباشرة أو بالإذن للغير. إلا أن يراد بها الولاية علي منع الغير من التصرف وإن كان لذلك الغير بالأصل السلطنة عليه لكنها حينئذٍ ترجع إلي الولاية العامة، الراجعة لكونه أولي من صاحب السلطنة بنفسه، بحيث له منعه من إعمال ولايته.

وكيف كان فالكلام في مقامين:

المقام الأول: في الولاية المطلقة. ومن الظاهر أنه لا يراد بها ما يعمّ الولاية علي خلاف مصلحة المولي عليه، فإن ذلك غير ثابت للنبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) ولا للإمام، فضلاً عن غيرهما كالحاكم، لما هو المعلوم بالضرورة وتضمنته بعض النصوص(1) من أن ملاك جعل الإمامة - المستتبعة للولاية - لهما هو صلاح الإسلام والمسلمين، فكيف تعمّ ولايتهما علي التصرف المخالف للمصلحة ؟!.

غاية الأمر أن عموم الولاية يقتضي رعاية المصالح الشخصية والنوعية وترجيح الأهم منها وإن كان مخالفاً للمهم ومضراً به، فالخروج عن مقتضي المصلحة في بعض الموارد إنما هو رعاية للمصلحة الأهم، لا اعتباطاً، فهو لا يخرج عن مقتضي المصلحة اللازمة الملاحظة.

هذا ولم يعرف القول بثبوت الولاية المذكورة للحاكم إلا في العصور المتأخرة. نعم ربما عللوا الرجوع للحاكم في بعض موارد القسم الثاني للولاية بنيابته عن الإمام. ولعل هذا هو منشأ ما ذكره النراقي في الاستدلال علي عموم ولاية الحاكم، حيث قال في محكي العوائد:

(فالدليل عليه بعد ظاهر الإجماع، حيث نصّ عليه كثير من الأصحاب، بحيث يظهر منهم كونه من المسلمات... ) .

********

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج: 2 ص: 99.

ص: 418

(419)

لكن من القريب أن يكون مرادهم من نيابته قيامه مقامه عند الحاجة لإيقاع التصرف في الموارد المذكورة، ولو لأنه مقتضي الأصل، علي ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي، لا لكونه منصوباً من قبله نائباً عنه، بنحو يرجع إلي عموم نيابته عنه، وتثبت له الولاية المطلقة، لعدم اهتمامهم بتحرير هذه المسألة والنظر في أدلتها. وإنما ظهر الحديث عنها متأخراً. ولعله لذا حكي عن المحقق الكركي في رسالته قاطعة اللجاج الشك في عموم نيابة الحاكم الشرعي عن الإمام.

ومن هنا لا مجال للاستدلال علي الولاية العامة بالإجماع. ولاسيما مع ما يأتي من الإشكال في الاستدلال بالإجماع علي الولاية الخاصة.

وكيف كان فقد يستدل عليها بجملة من النصوص:

الأول: مقبولة عمر بن حنظلة: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلي السلطان و [أو] إلي القضاة أيحلّ ذلك ؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فقد تحاكم إلي الطاغوت... قلت: فكيف يصنعان ؟ قال:

ينظران إلي من كان منكم ممن قد روي حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله، وعلينا ردّ... )

(1) .

ولا مجال لما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الإشكال في الاستدلال بها بضعف السند، حيث لم ينصوا علي توثيق عمر بن حنظلة. لاندفاعه بأنه يكفي في ثبوت وثاقته رواية صفوان بن يحيي عنه، لنص الشيخ (قدس سره) في العدة إلي أنه لا يروي إلا عن ثقة. وبحديث يزيد بن خليفة:

(قلت لأبي عبد الله: إن عمر بن حنظلة جاءنا عنك بوقت. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا لا يكذب علينا... ) (2) والظاهر اعتبار سنده إذ ليس فيه من لم ينص علي توثيقه إلا يزيد بن خليفة، والظاهر اعتبار حديثه، لرواية صفوان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 5 من أبواب المواقيت حديث: 6.

ص: 419

عنه أيضاً. ويؤيد ذلك نصوص أخر، ورواية جماعة من الأجلاء عنه فيهم من هو من أصحاب الإجماع. مضافاً إلي ظهور عمل الأصحاب بهذه الرواية وتعويلهم عليها حتي وصفوها بالمقبولة، وهو كاف في انجبارها لو كانت ضعيفة في نفسها.

وحينئذٍ فوجه الاستدلال بها ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره من أنه يستفاد من جعله حاكماً هو لزوم الرجوع إليه في الأمور العامة، كسائر الحكام المنصوبين من قبل النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) ومن قام مقامه بحق أو باطل. ومن الظاهر أنه كثيراً ما يحتاج في ذلك لإعمال الولاية العامة حفظاً للنظام ورعاية لمصالح العباد والبلاد.

لكنه يشكل بأن الحكام المنصوبين من قبل النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) ومن قام مقامه الذين يرجع إليهم في الأمور العامة ليس إلا ولاة الأقطار والأمصار، ولا قرينة علي حمل الحاكم في المقبولة عليهم بعد أن كان من موارد استعماله الشايعة هو القاضي في الخصومة التي هي مورد الحديث، حتي أنه قد يظهر من بعض اللغويين اختصاصه به، ولو لأنه المنصرف منه.

ولاسيما بعد عدم شيوع التعبير في تلك العصور عن الولاة في الأقطار والبلدان بالحكام، بل بالولاة والعمال. وعدم تعارف توليهم للقضاء بين الناس وفصل خصوماتهم، لأن المهم فيهم الكفاءة الإدارية، دون الفقه والقضاء، بل الشايع نصبهم أو نصب السلطان والخليفة قضاة يختصون بهذه المهمة.

مضافاً إلي معتبر أبي خديجة: (بعثني أبو عبد الله (عليه السلام)

إلي أصحابنا، وقال: قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شيء من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلي أحد من هؤلاء الفساق. اجعلوا بينكم رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته عليكم قاضياً. وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلي السلطان الجائر) (1) ، ونحوه معتبره الآخر(2).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 1 من أبواب صفات القاضي حديث: 5.

ص: 420

فإن جعل القاضي وإن لم ينافِ جعل الحاكم بمعني الوالي، إلا أن التعليل بهما معاً لوجوب الترافع لا يخلو عن حزازة، لأن العلة أحدهما. بل من القريب جداً تأخر حديث أبي خديجة عن حديث عمر بن حنظلة، ومن البعيد جداً مع سبق سعة الجعل الاقتصار علي بيان الجعل الضيق.

ومن هنا يقرب كون معتبري أبي خديجة قرينة علي أن المراد بالحاكم في حديث ابن حنظلة هو القاضي دون الوالي لو فرض تردد الحاكم فيه بين المعنيين.

وبذلك يظهر أنه لا مجال لحمل الحاكم في الحديث علي الوالي بقرينة العدول عن التعبير بالحكَم للتعبير بالحاكم. إذ هو فرع ثبوت المعني المذكور للحاكم، وحسن إرادته في المقام، وعدم القرينة الصارفة عنه، والجميع لا يخلو عن إشكال أو منع، كما يظهر مما سبق.

علي أن العدول قد يكون لنكتة بيانية، وتجنباً للتكرار. أو لأجل التعدية ب - (علي) الظاهرة في نحو من القهر والسيطرة للحاكم في مقام القضاء وفصل الخصومة وبنحو يستتبع وجوب القبول والطاعة.

بل من القريب الاختلاف بينهما بنحو من الاعتبار، فإطلاق الحكم علي القاضي بلحاظ الرجوع إليه للنظر في الخصومة والحكم فيها. وإطلاق الحاكم عليه بلحاظ أن له الحكم والفصل فيها، وإن لم يتيسر لنا العثور في اللغة علي أصل للفرق المذكور.

ومثله دعوي: أن حمل الحاكم علي القاضي في المقبولة لا يناسب سوق الجملة لتعليل الأمر بتحكيمه، لظهوره في التعليل بالكبري التي هي الأعم من الحكم المعلل، المناسب لكون الحاكم أوسع سلطنة من الحكم.

لاندفاعها بأنه يكفي في كبروية التعليل كونه مشيراً إلي كبري نفوذ جعلهم (عليهم السلام)، فكأنه قال: فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، وكل ما جعلته يجب العمل عليه، نظير قول القائل: إذا أردت التصرف في أموالي فراجع ولدي الأكبر، لأني قد وكلته.

ص: 421

وفائدة ذلك إما التنبيه علي أن منصب القضاء مختص بهم (عليهم السلام) بالأصل وتابع لهم، وأن ثبوته للفقيه بتوسط جعله من قبلهم له، وليس ثابتاً له بالأصل، كالإفتاء، أو للتنبيه علي أن إرجاعه (عليهم السلام) في القضاء للفقيه لا ينافي ما تضمنته النصوص(1) من اختصاص المنصب بهم (عليهم السلام)، لأن المنصوب من قبلهم (عليهم السلام) بمنزلتهم.

هذا ويظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) أن المراد بالحاكم في المقبولة ليس هو القاضي، ولا الولاة المنصوبين من قبل السلطان، ليجري ما سبق، بل السلطان نفسه، لأن الحاكم هو الذي يحكم بين الناس بالسيف والسوط، وليس ذلك شأن القاضي، ولأن السائل قد جعل القاضي مقابلاً للسلطان، فقال:

(فتحاكما إلي السلطان أو إلي القضاة) . وعلي ذلك يكون المجعول هو السلطنة العامة الثابتة للنبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) والإمام، وما يناسبها من الولاية العامة علي القضاء وغيره من شؤون السلطنة والحكم.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن هذا المعني يأباه قوله (عليه السلام)

:(فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه... ) لظهوره في الحكم المتعلق بفعل المكلف. ففيه: أن السلطان بالمعني المذكور حيث كان له القضاء ففرض أدائه لوظيفته فيه لا ينافي جعل السلطنة بنحو العموم له.

فالعمدة في دفع ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) أنه بعد إطلاق الحاكم علي القاضي لغة - كما سبق - فاللازم الاقتصار عليه، ولو لأنه المتيقن من المجعول ليناسب المورد. ولاسيما بلحاظ معتبري أبي خديجة المتقدمين، وعدم شيوع إطلاق الحاكم بالمعني المذكور، بل يعبر عنه بالخليفة والوالي والسلطان، كما عبر عنه في السؤال.

بل لم يتضح صحة إطلاقه عرفاً علي من له حق السلطنة والحكم، وإنما يطلق علي من له الحكم فعلاً، لأنه يملك السيف والسوط، ومن الظاهر عدم إرادة ذلك، لأنه أمر تكويني تابع لعلته الخارجية، وليس أمراً اعتبارياً قابلاً للجعل.

ومثله ما قد يدعي من أن المراد بالحاكم مطلق من له الحكم، مع عدم اختصاص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 3 من أبواب صفات القاضي حديث: 2، 3.

ص: 422

الحكم بالقضاء في فصل الخصومات، بل يطلق عليه وعلي الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية وغيرها مما يكون مورداً للحكم، ومنه الحاكمية علي الناس المبتنية علي السلطة والسلطنة عليهم، والحكم المراد بقول الله تعالي: (إن الله يحكم ما يريد)(1) ، وقوله سبحانه: (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين)(2) ، وقوله عزّ من قائل: (ما كان لبشر أن يؤتيه الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباد لي من دون الله)(3)... إلي غير ذلك.

وكأنه إلي هذا يرجع ما ذكره النراقي في محكي عوائد الأيام. قال:

(ليس المراد بالحكم خصوص ما يكون بعد الترافع، لأعميته لغة وعرفاً. وعدم ثبوت الحقيقة الشرعية فيه) .

لكنه يشكل بأن المعني المذكور بهذه السعة لو فرض رجوعه لقدر جامع واحد ليس من شأنه أن يجعل لأحد اعتباراً، بل بعض أفراده ثابت للإنسان بلا حاجة للجعل، كالحكم في القضايا التكوينية والتشريعية بحق، كقيام زيد وجلوس عمرو وحرمة الميتة ووجوب الصلاة، وبعضها ثابت له شرعاً بالأصل، كالحكم والإدارة لشؤون عائلته ومماليكه وأمواله ونحوها، وبعضها ثابت له شرعاً بتوسط جعل غير الامام (عليه السلام)، كالحكم في أمر الأوقاف التي يجعله الواقف ولياً عليها، والأيتام الذين يوصي بهم إليه أبوهم، وبعضه مما يمتنع جعله له، كالحكم بالأحكام الشرعية التكليفية والوضعية تشريعاً، وسائر موارد الإدارة والحكم بغير الحق، وبعضها قابل للجعل من قبل الامام (عليه السلام)، كمناصب القضاء، والولاية الخاصة، والعامة التي تبتني عليها السلطنة العامة.

ومن الظاهر أن المراد في المقام هو خصوص ما يقبل الجعل من الامام (عليه السلام)، وهو مردد بدواً بين المناصب الثلاثة المذكورة، وحيث لا جامع عرفي بينها تعين

********

(1) سورة المائدة آية: 1.

(2) سورة الأنعام آية: 57.

(3) سورة آل عمران آية: 79.

ص: 423

الاقتصار علي أحدها، والمتعين الأول، لأنه المتيقن أو الظاهر من أجل ما سبق.

هذا مضافاً إلي أن المقبولة لو كانت بصدد بيان الولاية العامة للفقيه، لزم ثبوتها للفقهاء في عهد ظهور الأئمة (عليهم السلام) وما ألحق به وهو عهد الغيبة الصغري، ولو كان البناء علي ذلك لظهر العمل عليه في هذه المدة الطويلة التي تقارب مائتي عام ولو بصورة محددة لا تنافي التقية، أو تنافيها تسامحاً، كما تسامح كثير من الشيعة في أمر التقية غفلة أو بمقتضي اندفاعاتهم العاطفية، ولكثر السؤال عن فروع ذلك، لوضوح أنه بطبعه يقتضي التسابق والتشاح وظهور المشاكل بنحو أكثر بكثير من الاقتصار ثبوت ولاية القضاء لهم، لأن التصدي للقضاء إنما يكون بعد الترافع من قبل الخصمين ورضاهما بشخص القاضي، بخلاف إعمال الولاية، فإنه لا يتوقف علي شيء، بل للولي المبادرة لذلك. وذلك وحده كاف في الكشف عن عدم إرادة جعل الولاية في المقبولة.

الثاني: التوقيع الشريف الوارد في جواب إسحاق بن يعقوب عن مسائل أشكلت عليه، وفيه: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلي رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله [عليهم])(1).

وقد يستشكل في الاستدلال به من وجهين: الأول: السند، لعدم ثبوت وثاقة إسحاق بن يعقوب.

لكن قد يهون ذلك، لأن الراوي له عن إسحاق هو الكليني (قدس سره) الذي عاش في زمن الغيبة الصغري حيث التحفظ والتكتم علي أشدهما، المناسب لكون الاتصال فيها بالناحية الشريفة مقصوراً علي الخاصة، فمن البعيد جداً إغفال الكليني ذلك وروايته له عن غير ثقة. ولاسيما وأن لسان التوقيع ومضامينه تناسب ما ورد عنهم (عليهم السلام).

الثاني: الدلالة، لأن الراوي اقتصر علي بيان جواب الامام (عليه السلام) من دون ذكر للسؤال، ليعرف منه الجهة المسؤول عنها، والتي أريد بالجواب الإرجاع فيها للرواة،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 9.

ص: 424

وهل هي معرفة الحكم الشرعي للحادثة عند الجهل به، أو حلّ مشكلتها بإعمال الولاية فيها إذا كانت مما يحتاج فيها للولي.

ومع ذلك فقد استدل بها غير واحد علي ولاية الحاكم بعد الفراغ منهم عن أن الإرجاع للرواة ليس لمحض تحملهم للرواية، ثم الحديث بها، بل من أجل معرفتهم للحكم الشرعي بسببها واستفادته منها، فالمراد بالرواة في الحقيقة الفقهاء، كما هو غير بعيد، ويناسبه ما سبق في مقبولة عمر بن حنظلة وغيره. ولاسيما وأن المتعارف في ذلك الوقت عدم صيرورة الشخص فقهياً إلا بعد تحمله للروايات، لعدم تداول كتب الروايات، بحيث لا يحتاج لروايتها، كما في هذه العصور.

وعلي ذلك فقد ذكر الفقيه الهمداني (قدس سره) عند الكلام في مصرف الخمس أن مقتضي التوقيع الشريف قيام الفقيه مقام الإمام فيما يحتاج إليه فيه. قال (قدس سره):

(ومن تدبر في هذا التوقيع الشريف يري أنه) أراد بهذا التوقيع إتمام الحجة علي شيعته في زمان غيبته، بجعل الرواة حجة عليهم علي وجه لا يسع لأحد أن يتخطي عما فرضه الله معتذراً بغيبة الإمام... فلو رأي أن صلاح اليتيم أن يأخذ ماله من هذا الشخص الذي لا ولاية عليه شرعاً وينصب شخصاً آخر قيماً عليه... فليس لمن عنده مال اليتيم أن يمتنع من ذلك، ويستعمل رأيه في التصرف فيه علي حسب ما يراه صلاحاً لحال اليتيم. وكذا في الأوقاف ونظائرها، وإن أفتي له الفقيه عموماً بجواز التصرف فيها بالتي هي أحسن... والحاصل: أنه يفهم من تفريع ارجاع العوام إلي الرواة علي جعلهم حجة عليهم أنه أريد بجعلهم حجة إقامتهم مقامه فيما يرجع إليه فيه، لا مجرد حجية قولهم في نقل الرواية والفتوي... ) .

ومن الظاهر أن مقتضي ذلك قيام الفقيه مقام الإمام حتي في الولاية العامة، إذ قد يحتاج إلي ذلك في عصر الغيبة الطويل، وما يحصل فيه من مستجدات، بل هو صريح ما ذكره في مال اليتيم والأوقاف، إذا بعد فرض فتوي الفقيه للعامي بجواز الاحتفاظ بها والتصرف فيها بالتي هي أحسن لا وجه لاستجابته للفقيه إل

ص: 425

ولايته العامة.

لكن لم يتضح منشأ فهم ذلك من التوقيع الشريف بعد عدم تيسر تحديد الوقائع المسؤول عنها لنا، لعدم ذكر السؤال، وبعد الاقتصار في التوقيع علي الإرجاع للرواة والفقهاء ابتداءً، لا بلسان تنزيلهم منزلة الامام (عليه السلام)، ليدعي أن مقتضي إطلاقه عموم التنزيل لجميع وظائفه (عليه السلام).

ولاسيما وأن التوقيع قد صدر علي يد الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) ثاني النواب الأربعة في الغيبة الصغري، حيث كان النواب المذكورون هم القائمين مقام الامام (عليه السلام) للشيعة بالنص الخاص، وبهم يستغني الشيعة عن طلب من يقوم مقامه (عليه السلام) في الوقائع.

بل ربما لم تكن الغيبة الكبري وانقطاع السفارة متوقعين عندهم حتي ذلك الوقت، ليحتاج للسؤال عمن يقوم مقام الامام (عليه السلام) فيها، أو كانا متوقعين في الجملة، لكن ليس بهذا الطول، ليحتاج لجعل من يقوم مقام الإمام (صلوات الله عليه) فيها. خصوصاً مع السؤال فيه عن الفرج، حيث يناسب احتمال تعجيله. ولا أقل من عدم وضوح اهتمام إسحاق بن يعقوب بالسؤال عمن يقوم مقام الامام (عليه السلام) في مناصبه.

ومثله في الإشكال ما قد يدعي من عموم الحوادث بنحو تشمل الحوادث التي يراد معرفة حكمها الكبروي - وهي التي يحتاج فيها للمفتي - والحوادث التي يحتاج فيها لتشخيص الموضوع في مقام التنازع - وهي التي يحتاج فيها للقاضي - والحوادث التي يحتاج فيها لإعمال الولاية في الجملة ولو كانت خاصة - كإدارة الأوقاف العامة والأيتام ونحوهما - والحوادث المتجددة المتعلقة بالأمور الاجتماعية والسياسية والإدارية، وهي التي يحتاج فيها للولاية العامة. كل ذلك لأن الحوادث جمع محلي باللام ظاهر في العموم الاستغراقي من دون دليل علي التخصيص.

لاندفاعه: أولاً: بأن اختلاف سنخ الوظيفة المطلوبة في أقسام الوقائع مانع من إرادة عمومها، فإن الوظيفة المطلوبة مع الجهل بالحكم الشرعي هي بيانه، ومع

ص: 426

التنازع في الموضوع الخارجي هي الفصل فيه علي الوجه المطلوب شرعاً، ومع الحاجة فيه للولي هي إعمال الولاية فيه، وحيث لا جامع عرفي بينها يمتنع عرفاً إرادة الإرجاع فيها كلها، بحيث يرجع إلي بيان جعل تلك الوظائف للرواة والفقهاء، بل لابد من كون الإرجاع في خصوص سنخ منها، ليرجع إلي جعل خصوص الوظيفة المناسبة له.

نعم، لو كان الإرجاع في الحوادث وجعل الوظيفة فيها للرواة والفقهاء بلسان تنزيلهم منزلة الامام (عليه السلام) في وظائفه أمكن العموم، بالنظر للجامع الانتزاعي بين الوظائف، الحاصل من تقمص الامام (عليه السلام) بها وثبوتها له.

كما أنه لو فرض المفروغية عن ثبوت هذه الوظائف للفقهاء أمكن إرادتها بإطلاق واحد، بأن يقول مثلاً: عندنا في مدينتنا من نرجع إليه في الحوادث والمستجدات، فيراد بذلك الحوادث التي من شأنها أن يرجع إليه فيها، لأن هذا جامع انتزاعي بينها أيضاً.

وأما الإرجاع من أجل بيان جعل الوظيفة له - كما هو المدعي في التوقيع الشريف - فلابد أن يكون من أجل بيان خصوص إحدي الوظائف المتقدمة بعد عدم الجامع العرفي بينها، ومرجع ذلك إلي تقييد الحوادث بخصوص ما يناسب تلك الوظيفة.

وثانياً: بأن الجمع المحلي باللام إنما يقتضي العموم الاستغراقي عند عدم العهد، ولا طريق لإحراز ذلك في المقام بعد عدم ذكر السؤال، لإمكان اشتماله علي خصوص سنخ خاص من الحوادث يكون هو المعهود في الجواب، بنحو يمنع من استفادة العموم.

نعم، استظهر شيخنا الأعظم (قدس سره) ظهور الحوادث - في التوقيع الشريف - في الأمور التي لابد عرفاً أو عقلاً أو شرعاً من الرجوع فيها للرئيس، مثل النظر في أموال القاصرين لغيبة أو موت أو صغر أو سفه. وذكر أنه لا مجال لحملها علي خصوص الرجوع للرواة والفقهاء في خصوص الأحكام الشرعية لأمور:

ص: 427

الأول: ظهور التوقيع في إيكال نفس الحادثة للرواة والفقهاء لينهوا أمرها مباشرة أو استنابة، لا الرجوع إليهم في حكمها.

وفيه: أن التوقيع لم يتضمن إيكال نفس الحوادث لهم، بل تضمن الإرجاع إليهم فيها، وهو ظاهر في كون الحادثة مما تهمّ المكلف، بحيث يحتاج لحل مشكلتها. وحينئذٍ فالرجوع إليهم فيها إما أن يكون من أجل معرفة حكمها للجهل به، أو من أجل التصرف فيها بإعمال مقتضي الولاية، ولا معين للثاني.

بل لا معني لإيكال نفس الحوادث الواقعة لهم، لأن الإيكال للغير إنما يكون فيما لم يقع بعد، أما ما وقع فلابد من كون المراد من إيكاله له إيكال أمر متعلق به، وهو إما بيان حكمه أو إيقاع التصرف المناسب له. ولا معين للثاني.

الثاني: تعليل الإرجاع للرواة بأنهم حجة من قبله (عليه السلام)، لظهوره في كون الرجوع إليهم فيما هو من شؤونه (عليه السلام) بتوسط جعله ونصبه، كما في الولاية، بخلاف تبليغ الأحكام، فإن ملاك القبول من الرواة فيها حجية قولهم شرعاً ابتداءً من دون توسط الجعل منه (عليه السلام)، كالقبول من البينة، فلو أراد (عليه السلام) ذلك لكان المناسب أن يقول: فإنهم حجة الله.

وفيه: أن وجوب الرجوع للرواة والفقهاء وإن كان متفرعاً علي حجية قولهم شرعاً من دون توسط جعله (عليه السلام)، إلا أنه لما كان من أهمّ وظائف الامام (عليه السلام) هو حفظ الأحكام الشرعية وبيانها للمؤمنين، كان الإرجاع فيها للفقهاء، وبيان الاكتفاء بالرجوع إليهم في التعرف عليها والخروج عن عهدتها، قياماً منه (صلوات الله عليه) بواجبه في حفظها، بحيث لا مجال معه لاعتذار الناس بجهلهم، واتجه بلحاظ ذلك إطلاق أنهم حجة له (عليه السلام) علي الناس، لأن في إرجاعهم للفقهاء أداء لوظيفته إزاء الأحكام الشرعية، ومنعاً لاحتجاجهم عليه بأنه لم يعرفهم بدينهم. بل الإنصاف أن التعليل بالحجية أنسب بمقام التبليغ والبيان منه بمقام جعل الولاية.

الثالث: أن وضوح الرجوع للرواة والفقهاء في الأحكام الشرعية لا يناسب

ص: 428

خفاء الحال علي مثل إسحاق بن يعقوب حتي يكتبه في عداد مسائل أشكلت عليه، بخلاف الرجوع في المصالح العامة إلي رأي أحد ونظره وإيكال الامام (عليه السلام) الأمر فيه له، فإنه ليس بذلك الوضوح.

وفيه أولاً: أن إسحاق بن يعقوب لم يرد ذكره إلا في هذا التوقيع، ولا طريق لمعرفة مقامه العلمي وغيره إلا منه. علي أن التهريج والشبهات قد تحمل الإنسان علي السؤال عن الأمور الواضحة. ولاسيما وأن السؤال لم يذكر ليعرف السبب الدافع له، وقد جاء في التوقيع نفسه أمور لا تقصر عن ذلك وضوحاً قال (عليه السلام) فيه: (وأما قول من زعم أن الحسين (عليه السلام) لم يقتل فكفر وتكذيب وضلال... وأما محمد بن عثمان العمري - رضي الله عنه وعن أبيه من قبل - فإنه ثقتي وكتابه كتابي... وأما أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع ملعون وأصحابه ملعونون، فلا تجالس أهل مقالتهم، وإني بريء وآبائي عليهم السلام منهم براء، وأما المتلبسون بأموالنا فمن استحل منها شيئاً فأكله فإنما يأكل النيران...)(1).

وثانياً: أن الرجوع للرواة والفقهاء في الأحكام الشرعية وإن كان واضحاً في الجملة، إلا أن صدمة الشيعة بالغيبة بعد أن قام كيانهم ونشؤوا في مدة حضور الأئمة (عليهم السلام) الطويلة علي الاطمئنان بوجود الإمام ليزيح علتهم فيما يشكل عليهم، ثم انكماش النواب الخاصين بسبب الضغط الشديد من السلطة والعامة، وكثرة العلماء من دون مرجح قاطع بينهم مع وضوح تعرضهم للخطأ والخلاف، كل ذلك قد يحمل بعض الناس علي طلب المرجع الذي يركن إليه ويطمأن به، والذي يتعهد الإمام بالرجوع إليه، للاستظهار، وللغفلة عن كفاية الرجوع للفقهاء عموماً، لحجية قولهم ظاهراً. ولاسيما وأنه كثر من الأئمة (صلوات الله عليهم) الإرجاع لبعض الرواة الذين كانوا مورد ثقتهم.

ومثل ذلك في الإشكال ما قد يدعي من أن ظاهر قوله (عليه السلام):

(وأما الحوادث

********

(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص: 177.

ص: 429

الواقعة) إرادة الحوادث الشخصية الاتفاقية، لا القضايا الكلية، وظاهر الإرجاع فيها إرادة الرجوع فيها بخصوصياتها للرواة والفقهاء، وذلك يناسب الرجوع لهم لإعمال ولايتهم فيها، لا لمعرفة حكمها الشرعي، لأن إعمال الولاية إنما يكون في كل حادثة بخصوصيتها، بخلاف الفتوي، لوضوح أن فتوي الفقيه في الحادثة راجع إلي فتواه فيها وفي مشابهاتها، لأن الأحكام الشرعية كلية، لا دخل لخصوصية الحادثة فيها.

لاندفاعه بأنه يكفي في حسن الإرجاع للفقيه في الحادثة الشخصية لمعرفة فتواه اختصاصها بالابتلاء والعمل الموجب لاختصاصها بالحاجة لمعرفة الحكم، وإن كان حكمها يعمّ مشابهاتها من الحوادث الفرضية. نظير ما إذا مرض اليتيم فطلب من الامام (عليه السلام) نصب القيم عليه، مع أنه ينفع في جميع شؤونه بناءً علي توقفها علي نظر القيم.

علي أن هذه الوجوه لو تمت لا تقتضي ظهور التوقيع الشريف في المطلوب، بحيث يكون حجة يترتب عليه العمل بعد عدم ذكر السؤال، بل غايته الإشعار غير الصالح للاستدلال. ولاسيما مع ما أشرنا إليه آنفاً من أن التعليل بالحجية أنسب بمقام البيان والتبليغ، وبعد مناسبة ذلك لعنوان الراوي والفقيه ارتكازاً، بنحو يوجب انصراف الإرجاع إليه إلي الإرجاع من أجل الاستفادة بعلمه.

هذا مضافاً إلي أمرين:

الأول: أن ذلك هو المعهود الشايع بين الشيعة في الرجوع للأئمة (عليهم السلام)، إذ لم يظهر منهم (عليهم السلام) التصدي لإدارة الأمور وإعمال الولاية فيها، بنحو يشيع ذلك منهم، ويلتفت إليه، ويسأل عمن يقوم مقام الامام (عليه السلام) فيه. وإذا حصل ذلك منهم (عليهم السلام) فهو في حدود ضيقة لا تلفت انتباه عموم شيعتهم، بل ربما لا تلفت حتي انتباه الخاصة منهم.

ولذا لا إشكال في انتشار الشيعة في عهد حضور الأئمة (عليهم السلام) في الأقطار الشاسعة وفي أماكن بعيدة عن مقرهم (عليهم السلام)، مع صعوبة التنقل والاتصال عموماً،

ص: 430

وبهم (عليهم السلام) خصوصاً، في ذلك العهد، ومع ذلك لم يظهر من أحد من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وخواصهم المنتشرين في البلاد في تلك المدة الطويلة علاج أمر الولاية في القضايا الحسبية وغيرها.

الثاني: أن لازم ورود التوقيع الشريف لبيان ولاية الفقيه ثبوتها للفقهاء في عرض ثلاثة من النواب الخاصين، وهو في غاية البعد، بل قد يقطع بعدمه. ولاسيما وأنه لم يتضح عموم نيابة النواب الخاصين للولاية العامة مع جلالتهم وبلوغهم المرتبة العالية في العلم والدين والورع والحكمة والرشد، ومع انحصار الأمر بكل واحد منهم في عصره. وذلك بمجموعه إن لم يوجب ظهور التوقيع الشريف في الرجوع في خصوص الفتوي فلا أقل من إجماله، لما سبق من عدم ذكر السؤال، ليتضح منه الغرض الداعي له، وسنخ الحوادث المسؤول عنها.

هذا وكلام شيخنا الأعظم (قدس سره) في المقام لا يخلو عن اضطراب، لأن الوجوه الثلاثة التي ذكرها تقتضي عدم إرادة الإرجاع في الفتوي وقصور التوقيع الشريف عنه، مع أنه ساقها البيان عدم اختصاصه به، بنحو قد يظهر في المفروغية عن عمومه له مع تقريب عمومه للولاية أيضاً. وهو - مع عدم مناسبته للوجوه المذكورة - راجع إلي ما سبق من دعوي عموم الحوادث لكل ما من شأنه الرجوع فيه للإمام، الذي سبق منّا الإشكال فيه، بل المنع منه.

الثالث: ما تضمن من النصوص الكثيرة أن العلماء ورثة الأنبياء، كصحيح عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلي الجنة... وإن العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر) (1) وغيره. بدعوي: أن إطلاق الوراثة يقتضي وراثة جميع شؤون الأنبياء ومناصبهم، ومنها الولاية، ولا يخرج عن ذلك إلا فيما قام الدليل علي عدم انتقاله، كالنبوة.

********

(1) الكافي ج: 1 ص: 34 باب ثواب العالم والمتعلم حديث: 1.

ص: 431

ودعوي: أن المراد بالعلماء هم الأئمة (عليهم السلام)، لأنهم العلماء الحقيقيون الذين أخذوا من الأنبياء ما عندهم، وللنصوص الكثيرة المتضمنة تفسير أهل الذكر بهم (1)(عليهم السلام)، ومثل صحيح جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: يغدوا الناس علي ثلاثة أصناف: عالم ومتعلم وغثاء، فنحن العلماء، وشيعتنا المتعلمون، وسائر الناس غثاء) (2) ، وغيره.

وهو المناسب لخبر أبي البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه، فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) (3) .

مدفوعة بأن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وإن كانوا هم الفرد الأكمل، إلا أنه لا مجال لتخصيص الوراثة في هذه الأحاديث بهم بعد ورودها في بعض النصوص - ومنها ما تقدم - في مقام الحثّ علي طلب العلم.

وأما خبر أبي البختري فلا ظهور له في تخصيص الوراثة التي تضمنتها النصوص بهم (عليهم السلام)، بل لما كان موضوع الوراثة هو علم النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)، دون غيره مما افتري عليه (صلي الله عليه وآله وسلّم) نبّه (عليه السلام) إلي أنه لابد من التوثق من كون العلم المأخوذ هو علم النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وذلك إنما يكون بأخذ العلم منهم (عليهم السلام)، لأنهم يعلمون الصحيح من الغش والصدق من الافتراء، ولا يرجع لغيرهم لئلا يختلط الأمر.

فالأولي في الجواب عن الاستدلال المذكور أن هذا المضمون لم يرد مجرداً عن بيان ما يورثه الأنبياء إلا في مرسلة عوالي اللآلي:

(قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده محمد: تفقه في الدين، فإن الفقهاء ورثة الأنبياء) (4) والظاهر أنها فقرة من وصية طويلة لأمير

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 18 باب: 7 من أبواب صفات القاضي، الكافي ج: 1 ص: 210-212.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 7 من أبواب صفات القاضي حديث: 18.

(3) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 8 من أبواب صفات القاضي حديث: 2.

(4) عوالي اللآلي ج: 4 ص: 60.

ص: 432

المؤمنين (عليه السلام) لولده محمد رواها الصدوق في باب النوادر من كتاب الفقيه، وفيها:

(وتفقه في الدين، فإن الفقهاء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكنهم ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر... ) (1) . وهو - كبقية النصوص المتضمنة لذلك، ومنها ما تقدم - صريح في أن الموروث منهم هو العلم دون غيره من مناصبهم وشؤونهم.

ولو فرض كونها رواية مستقلة أمكن الجواب عنها: أولاً: بأن النصوص المذكورة صالحة لبيان المراد من الموروث فيها.

وثانياً: بأن ظاهر الفقيه في المرسلة هو مطلق من له علم بأمور الدين، من دون خصوصية للعلم بالأحكام الشرعية الفرعية، كالعلم بالأمور العقائدية وبالأخلاق وآداب السلوك، وبالذكر والدعاء ونحوهما، وبتفسير القران المجيد... إلي غير ذلك، لظهور أن إطلاق الفقيه علي خصوص العالم بالأحكام الفرعية اصطلاح متأخر، فلا مجال لحمل النصوص عليه.

وحينئذٍ حيث لا إشكال ظاهراً في عدم ثبوت الولاية لغير المجتهد في الأحكام الفرعية العادل، يدور الأمر بين البناء علي حمل الميراث علي خصوص العلم مع عموم المراد من الفقيه لكل عالم، ويكون المراد أن كل عالم يرث من الأنبياء بمقدار ما يعلم من علمهم، أو تعميم الميراث لغير العلم، ومنه الولاية، مع حمل الفقيه علي خصوص المجتهد المذكور. ولا معين للثاني، لو لم يكن الأول أقرب. فلاحظ.

الرابع: موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله، وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم علي دينكم) (2) .

بدعوي: أن متعلق الاستئمان إما الأمة، فيدل علي وجوب رعايتهم لها في كل

********

(1) من لا يحضره الفقيه ج: 4 ص: 277 باب: 176 من أبواب النوادر حديث: 10.

(2) الكافي ج: 1 ص: 46 باب المستأكل بعلمه حديث: 5.

ص: 433

ما تحتاج إليه، وذلك لا يكون إلا بالولاية عليها والسلطنة علي التصرف في كل ما تقضيه مصالحها، وإما جميع وظائف الأنبياء إزاء الأمة من تبليغها بالأحكام الشرعية ورعايتها في جميع شؤونها المالية والاجتماعية والسياسية وغير ذلك، وذلك لا يكون إلا بثبوت الولاية لهم عليها.

وفيه أولاً: أن المنصرف من استئمان الرسل للفقهاء هو استئمانهم علي ما أرسلوا به، وهو الدين المتقوم بالعقائد والأحكام الفرعية. بل يكاد يكون ذلك صريحاً من الموثق بلحاظ ذيله، فإن التحذير علي الدين منهم عند اتباعهم للسلطان يناسب كون استئمانهم في الدين دون غيره.

وثانياً: أنه لو فرض كون متعلق الاستئمان هو الأمة نفسها فالمنصرف منه الاستئمان من حيثية حفظ دينها وإرشادها فيه، لأن ذلك هو المناسب لأخذ عنوان الفقهاء في الاستئمان، نظير ما لو قيل: الأطباء أمناء علي الناس، أو: العقلاء أمناء عليهم، حيث يفهم من الأول الاستئمان علي صحتهم في استعمال طبهم، ومن الثاني الاستئمان علي بيان صلاحهم في استعمال عقلهم.

ولو غض النظر عن ذلك فهو يقتضي لزوم رعاية مصالح الأمة في حدود قدرتهم الخارجية وصلاحيتهم الشرعية من دون أن ينهض بتحديد تلك الصلاحيات، فضلاً عن أن ينهض ببيان خصوص ولايتهم عليها.

نعم، إذا ورد الاستئمان في مقام الاستخلاف، بحيث يجعل الأمين بدلاً عن المستأمن يكون ظاهر الاستئمان قيام الأمين مقام المستأمن في جميع صلاحياته، ولا شاهد عليه في المقام، إذ مجرد الحكم بكونهم أمناء لا يستلزم ذلك.

وأما احتمال كون متعلق الاستئمان هو وظائف الأنبياء إزاء الأمة. فهو غريب جداً، فإن مبني الاستئمان علي الشيء هو حفظه، ولا معني لحفظ تلك الوظائف. وليس مبني الاستئمان علي الشيء هو انتقاله للأمين، ليمكن تعلقه بالوظائف المذكورة.

نعم، بعد فرض انتقال الوظائف المذكورة للشخص يصح وصفه عرفاً بالأمانة

ص: 434

والخيانة، بلحاظ قيامه بمقتضي وظيفته وعدمه، وهو أمر آخر غير كون مبني استئمانه علي الوظائف هو انتقالها له.

الخامس: قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) (1) . بدعوي: أن حذف وجه الشبه موجب لظهوره في عمومه لجميع شؤون الأنبياء ومناصبهم إلا ما استثني.

وفيه - مع ضعفه بالإرسال -: أنه لا مجال لظهور الإطلاق في عموم التشبيه بلحاظ جميع شؤون الأنبياء وخصائصهم التكوينية والتشريعية، للعلم بامتناع ذلك، كما يمتنع إرادة التشبيه من جميع الجهات في سائر موارد التشبيه، بل لابد من انصرافه إلي خصوص بعض الجهات، كحفظ الدين، أو التبليغ به، أو ما يترتب علي ذلك من الثواب، أو بعض المناصب القابلة للنقل كالولاية.

ولا مجال لإرادة التشبيه بلحاظ جميع ذلك، لأن التشبيه بلحاظ حفظ الدين والتبليغ به وترتب الثواب علي ذلك منتزع من أمر خارجي تكويني، فهو متمحض في الأخبار، والتشبيه بلحاظ المناصب المجعولة للأنبياء - كالولاية - منتزع من أمر تشريعي جعلي، فهو مسوق بداعي التشريع والجعل، ولا جامع بينهما عرفاً ومن ثم يتعين إرادة خصوص أحدهما، ولابد في تعيينه من قرينة. ومع عدمها يتعين إجمال وجه الشبه أو انصرافه لخصوص الأول، كما هو غير بعيد، لأنه المدرك لعامة الناس من خصائص العلماء، والمناسب لعنوان العلم عندهم.

هذا مع أن الاستدلال بالنصوص الثلاثة الأخيرة مبني علي ثبوت الولاية بالمعني المذكور لجميع الأنبياء والرسل (صلوات الله علي نبينا وآله وعليهم)، وهو غير ظاهر، والمتيقن منه ثبوتها لنبينا (صلي الله عليه وآله وسلّم) أو ما يعمّ بعض الأنبياء الخاصين، لا لكل نبي.

السادس: ما رواه الصدوق في كتاب العيون بأسانيد ثلاثة عن الإمام الرضا (عليه السلام):

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 17 ص: 320 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 30.

ص: 435

(قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): اللهم ارحم خلفائي. ثلاث مرات. قيل:

يا رسول الله ومن خلفاؤك ؟ قال: الذين يأتون من بعدي، ويروون أحاديثي وسنتي، فيعلمونها الناس من بعدي) (1) . وعن المجالس ومعاني الأخبار روايته بسند آخر بألفاظ مقاربة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عنه (2)(صلي الله عليه وآله وسلّم)، وكذا روي عن صحيفة الإمام الرضا (3)(عليه السلام). وعن لب الألباب للقطب الراوندي عنه (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(قال: رحمة الله علي خلفائي. قالوا: ومن خلفاؤك ؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله. ومن يحضره الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين الأنبياء درجة) (4) . وعن المجموع الرائق عنه (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(أدلكم علي الخلفاء من أمتي ومن أصحابي ومن الأنبياء قبلي، هم حملة القرآن والأحاديث عني وعنهم... ) (5) . ومن ثم يقرب الركون لهذا المضمون.

وقد يستدل به لإثبات المدعي بتقريب: أن إطلاق الخلافة يقتضي ثبوت جميع مناصب النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) بما فيها الولاية المطلقة. ولا أقل من خصوص الزعامة والرئاسة علي المسلمين، لأن المنصرف المعهود في أذهان المسلمين من مقام الخليفة ذلك، فيدل علي الولاية بالمقدار الذي تحتاج إليه الزعامة والرئاسة المذكورة.

لكنه كما تري، للإشكال فيه أولاً: بأن ظاهر أكثر هذه النصوص تفسير الخلفاء بالرواة وحملة القرآن المجيد والأحاديث الشريفة، دون الفقهاء الذين هم في محل الكلام المجتهدون، فيساوق قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) في خطبته في مسجد الخيف: (نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلي من هو أفقه منه)(6).

نعم، ما تقدم عن القطب الراوندي في لبّ الألباب قد يظهر في إرادة الفقهاء الذين يصلون إلي الحكم الشرعي من طريق النص، لأن ذلك أنسب بإحياء السنة

********

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج: 2 ص: 36.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 8 من أبواب صفات القاضي حديث: 50، 53.

(3) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 8 من أبواب صفات القاضي حديث: 10، 48، 52.

(4) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 8 من أبواب صفات القاضي حديث: 10، 48، 52.

(5) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 8 من أبواب صفات القاضي حديث: 10، 48، 52.

(6) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 8 من أبواب صفات القاضي حديث: 43. وقريب منه حديث: 44.

ص: 436

والإسلام. وإن كان في بلوغ ذلك حداً يوجب الظهور في المجتهدين إشكال، لأن الراوي أيضاً يحيي الإسلام والسنة بحفظها وروايتها ونشرها بين الناس.

وأشكل من ذلك أن ينهض المرسل المذكور بالخروج عن ظهور بقية النصوص المتقدمة في إرادة نفس الراوي بما هو راوٍ. ولاسيما مع إرساله. بل عدم حجية كل واحد من هذه النصوص في نفسه، وغاية الأمر حجيتها بمجموعها بلحاظ تعاضدها الملزم بالاقتصار علي المضمون المتيقن من مجموعها، كما هو ظاهر.

ودعوي: أن ذلك لا يناسب التعليم الذي تضمنته النصوص الأول. مدفوعة بأن التعليم قد أضيف إلي السنة الشريفة، لا إلي الدين، والتعليم بالسنة إنما هو ببيانها لمن لم يعرفها. بل الفتوي ليست تعليماً بالسنة، بل برأي المفتي الذي قد يخالفها، وإن كان معذوراً في مخالفتها، ومعذّراً لمن يجوز له تقليده.

ومثلها دعوي: أن المراد بالسنة في هذه النصوص هي السنة الواقعية، دون الظاهرية والصورية. لاندفاعها بأن رواية الأحاديث تتضمن السنة الواقعية دون الصورية. غاية الأمر أن ظاهرها قد لا يطابق الواقع. نعم قد تكون السنة صورية لو تضمنت الرواية نقل كلام النبي من دون تنبيه لقرينة المجاز ونحوها مما يوجب تبدل ظهور الكلام، وهو خارج عن محل الكلام. أما الفتوي فهي لا تتضمن حكاية السنة، بل حكاية رأي المجتهد المتحصل من السنة المنقولة وغيرها من القرائن.

وأشكل من ذلك دعوي: أن مجرد نقل الحديث من دون فهمه ودرايته لا يوجب صلاحية الشخص لخلافة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم). لاندفاعها بأن المراد من الخلافة إن كانت هي الخلافة بلحاظ التبليغ فهي تثبت لراوي الحديث وإن لم يفهمه، فضلاً عما إذا فهمه ولم يستطع استنباط الحكم منه، لعدم استكماله الفحص عن الأدلة. وأما الخلافة بلحاظ الولاية ونحوها من مناصبه (صلي الله عليه وآله وسلّم) فلم يعلم بعد إرادتها من هذه الأحاديث، ليتعين حمل الرواة علي الفقهاء. بل قد يتعين من أجل أن موضوعها الرواة البناء علي عدم إرادتها، كما ذهب إليه غير واحد.

ص: 437

وثانياً: بأنه لو سلم كون المراد بالرواة للسنة من يصل للمراد منها بعد النظر في القرائن الخارجية والجمع بين النصوص، إلا أن ذلك لا يختص بالمجتهد في الأحكام الفرعية الذي هو محل الكلام، بل يعمّ كل من له معرفة بالسنة الواردة في سائر المعارف الدينية، نظير ما سبق في ذيل الحديث الثالث، فيدور الأمر بين تخصيص الخلافة بخصوص التبليغ حفاظاً علي عموم الرواة، وتخصيص الرواة بخصوص المجتهدين حفاظاً علي إطلاق الخلافة بنحو تشمل الولاية لو تم، ولا إشكال في ترجيح الأول، إذ لا يظن بأحد البناء علي قصور هذه النصوص عن مثل الرواة في العقائد وفي تفسير الكتاب المجيد وغيرهم.

وثالثاً: بأنه لا مجال للبناء علي إطلاق الخلافة بنحو تشمل الولاية مطلقاً أو في الجملة، لعدم ورود هذه الأحاديث لبيان خلافة هؤلاء له (صلي الله عليه وآله وسلّم)، ليدعي أن حذف المتعلق يقتضي إطلاق الخلافة وعمومها، بل كل ما تضمنته هو الدعاء لهم بعد فرض خلافتهم من دون تحديد لجهة خلافتهم، فالإطلاق ليس وارداً في مقام البيان من هذه الجهة.

السابع: ما عن الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) - وربما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) - قال:

(وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسمعون. ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام علي أيدي العلماء بالله الأمناء علي حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة... ) (1) .

فإنه صريح في أن الحكم وجريان الأمور إنما يكون بيد العلماء وإذا كان جريان الأمور بأيديهم فلابد من ولايتهم بنحو تقدم علي ولاية كل فرد علي نفسه، لعدم جريان الأمور إلا بذلك، وهو عبارة أخري عن كون العالم أولي بالمسلمين من أنفسهم، الذي إليه ترجع الولاية العامة التي هي محل الكلام.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 16.

ص: 438

وفيه أولاً: أنه ضعيف بالإرسال. ومجرد كون المرسِل له صاحب تحف العقول الذي هو من أجلاء علمائنا، لا يكفي في جبره. ولا أقل من أنه لا دافع لاحتمال التصحيف المخل بالمعني فيه من الوسائط المجهولة. ولاسيما وأن الناظر فيه يكاد يقطع بذلك فيه في الجملة.

وثانياً: أنه لا ظهور له في إرادة الفقهاء المجتهدين في الأحكام الفرعية، بل العلماء بالله الأمناء علي حلاله وحرامه، ومن القريب جداً كون المراد بهم أئمة أهل البيت (عليهم السلام). ولاسيما مع التبكيت فيه للمخاطبين، لحرمانهم من ذلك بسبب تفرقهم واختلافهم بعد البينة، بل يكاد يقطع بذلك بعد النظر في تمام الخطبة الموجودة في باب ما روي عن الإمام الحسين (عليه السلام) من تحف العقول. ومن هنا فهو خارج عن محل الكلام.

الثامن: معتبر علي بن أبي حمزة: (سمعت أبا الحسن موسي بن جعفر (عليه السلام) يقول:

(إذا مات المؤمن بكت عليه بقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها) (1) .

بتقريب أن الإسلام مركب من الأحكام الشرعية والكيان الإسلامي، وإذا كان الفقهاء حفظة الإسلام، فهم حفظة الأحكام بتصديهم للفتوي، وحفظة الكيان الإسلامي بتصديهم لرئاسته، المستلزمة للولاية علي أفراده.

وفيه: أولاً: أن الحديث لا يخلو عن اضطراب، لأن موضوعه مطلق المؤمن، والتعليل فيه يختص بالفقيه. ولعل ذلك يناسب حمل الفقيه فيه علي الذي يفهم ما يعرض له، نظير ما تقدم في خطبة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في مسجد الخيف، ليقرب من الإطلاق. وكيف كان فلا مجال لحمل الفقيه فيه علي خصوص المجتهد بالأحكام الفرعية، لما سبق من أنه معني مستحدث، ولعدم مناسبته للإطلاق جداً.

وثانياً: أن كون الفقهاء حصون الإسلام وحفظته لا يتوقف علي ثبوت الولاية

-

********

(1) الكافي ج: 1 ص: 38 باب فقد العلماء حديث: 3.

ص: 439

لهم، بل قد يكون المراد أنهم حافظون له بمعرفتهم بدينهم وثباتهم عليه وتسليمه لمن بعدهم جيلاً بعد جيل.

التاسع: قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن أولي الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به (إن أولي الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا). إن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد من عصي الله وإن قربت قرابته)(1).

وفيه أولاً: أنه لو كان وارداً لبيان الولاية التي هي محل الكلام فهو ظاهر في ولاية الأعلم، وهو ظاهر في الأعلم بنحو الإطلاق، وهم الأئمة (صلوات الله عليهم) دون الأعلم من المجتهدين.

وثانياً: أن محل الكلام هو ولاية الحاكم الشرعي الذي هو المجتهد العادل، وإن لم يكن أعلم، بل لا يظهر منهم القول باختصاص الولاية بالأعلم.

وثالثاً: أن من القريب حصول التصحيف فيه، وأن الصحيح: أعملهم بما جاؤوا به، لمناسبته للاستشهاد بالآية الكريمة ولآخر كلامه (عليه السلام)، كما نبّه لذلك ابن أبي الحديد، وهو المنقول عن بعض نسخ مجمع البيان في حكايته لكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) عند تفسير الآية الكريمة. أما المتن المثبت في نهج البلاغة فلا ينسجم مع ذلك إلا بتكلف ذكره كمال الدين البحراني في شرحه الوسيط للنهج.

هذا مضافاً إلي أن مقتضي هذه الأحاديث السبعة الأخيرة - لو تمت دلالتها علي الولاية العامة - أن ولاية الفقيه في عرض ولاية الأئمة (صلوات الله عليهم)، لا في طول ولايتهم ومتفرعة عليها بجعل منهم (عليهم السلام)، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك. بل هو مخالف لظاهر ما ورد في ولاية الأئمة (عليهم السلام)، كحديث الغدير، لظهوره في اختصاصهم بهذه المناصب بأشخاصهم، وأنها تنتقل من النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لهم ومن بعضهم لبعض بالنص الخاص. بل يعلم بعدم تصدي أحد لذلك غيرهم وعدم دعواه إلا لهم.

ومن الغريب ما قد يدعي من أنه لا مانع من البناء علي ولاية الفقيه في عرض

********

(1) نهج البلاغة ج: 4 ص: 21.

ص: 440

ولاية الأئمة (عليهم السلام). غاية الأمر أن خلافة الإمام أوسع من ولاية الفقيه، فهو ولي حتي علي الفقيه، أما الفقيه فلا يكون ولياً علي الإمام، كما أن للإمام عزل الفقيه ونصبه، وليس للفقيه ولاية علي الفقهاء الآخرين. وولاية الإمام باقية بعد وفاته، ولذا تبقي الروايات الواردة عنهم (عليهم السلام) حجة بعد وفاتهم كروايات النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)، بخلاف فتوي الفقيه، حيث تسقط عن الحجية، إلا بناءً علي جواز البقاء علي تقليد الميت الذي هو محل الكلام.

إذ فيه أولاً: أنه لا أثر لذلك في الواقع الإسلامي، ولذا لم يدّعِ الولاية المذكورة أحد ولم تدّع لأحد غير الأئمة (عليهم السلام)، وحتي خلفاء الجور لم يدّعوها ولم تدّع لهم في الجملة إلا بالبيعة، مع أن دعواهم الفقه في الدين من أجل ثبوت ولايتهم شرعاً أولي بهم وأيسر عليهم. وحينما أنكر عليهم أهل الحق لم يكن إنكارهم من طريق إنكار فقههم، أو دعوي عزل إمام الحق لهم.

بل هو لا يناسب مثل مقبولة ابن حنظلة ومعتبري أبي خديجة المتضمنة لجعل الفقيه حاكماً وقاضياً، فإنها كالصريحة في عدم ثبوت منصب القضاء - الذي هو شؤون رئاسة المسلمين - له لولا جعلهم (عليهم السلام)، مع أنه لو كانت الولاية ثابتة له بالأصل لكفي عدم عزلهم (عليهم السلام) له.

وثانياً: أن الفرق بين الولايتين يحتاج إلي دليل بعد مشابهة لسان دليل ولاية الفقيه لو تم لولاية الأئمة (عليهم السلام). وحجية أخبار الأئمة (عليهم السلام) بعد وفاتهم ليس لولايتهم، بل لعصمتهم، بخلاف فتوي المجتهد بعد موته فإن حجيتها قابلة للتقييد بالحياة.

والحاصل: أن عدم ثبوت الولاية العامة لغير الأئمة (صلوات الله عليهم) في عرضهم أظهر من أن يحتاج إلي إطالة الكلام فيه.

العاشر: ما تضمن من النصوص كفالة العلماء لأيتام الشيعة عند انقطاعهم عن إمامهم، بدعوي: أن الكفالة تبتني علي الولاية علي المكفول.

وفيه: أن النصوص المذكورة - مع ضعفها في نفسها، وأن الفقيه فيها أعمّ

ص: 441

من المجتهد بالأحكام الفرعية كما سبق - صريحة في أن كفالة العلماء لهؤلاء الأيتام بتعليمهم إياهم، فعن الإمام الحسن (عليه السلام):

(فضل كافل يتيم آل محمد) المنقطع عن مواليه الناشب [التائه] في رتبة الجهل، يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه، علي فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس علي السهي)(1) ونحوه غيره.

هذا ما تيسّر لنا الكلام فيه من النصوص التي قد يستدل بها علي الولاية العامة. ووضوح ضعف الاستدلال بكثير منها يغني عن التعرض له لولا اهتمام غير واحد من الأعيان بها واستدلالهم به عليها أو علي الولاية الخاصة. وكأن مفروغيتهم عن الحاجة لجعل الولي، بحيث لا يمكن إغفال الأئمة (صلوات الله عليهم) له كان له الأثر في استيضاح دلالتها.

قال النراقي في محكي العوائد بعد أن سرد مضامين أكثر النصوص المتقدمة في مقام الاستدلال بها علي الولاية العامة: (فإن من البديهيات التي يفهمها كل عامي وعالم، ويحكم بها، بأنه إذا قال نبي لأحد عند سفره أو وفاته: فلان وارثي، ومثلي، وبمنزلتي، وخليفتي، وأميني، وحجتي، والحاكم من قبلي عليكم، والمرجع لكم في جميع حوادثكم، وبيده مجاري أموركم وأحكامكم، وهو الكافي لرعيتي، له كل ما كان لذلك في أمور الرعية وما يتعلق بأمته، بحيث لا يشك فيه أحد، ويتبادر منه ذلك...).

وهو كما تري، فإن مقام الكلام الذي فرضه - وهو السفر أو الموت اللذين من شأنهما الحاجة للاستخلاف - معين علي فهم الاستخلاف الملازم للولاية العامة من هذه المضامين. بل قد يفهم مما دونها وضوحاً.

علي أنه قد غفل أو أغفل القرائن والشواهد الصارفة للنصوص عما فهمه منها، والمانعة من الاستدلال بها، كما يظهر مما سبق.

ولعله لذا سبق عن المحقق الكركي في رسالته قاطعة اللجاج الشك في عموم

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 23.

ص: 442

نيابة الحاكم الشرعي عن الامام (عليه السلام)، وقال في تعقيب احتمال ثبوت عموم ولاية الحاكم: (لم أقف بعد التتبع للأخبار علي شيء من هذه العمومات والإطلاقات، لا في النكاح، ولا في المال، وإن كان مشهوراً في كلامهم ومسلماً بينهم... وليس هنا مما ربما يتوهم منه ذلك إلا الروايات الدالة علي الترافع إلي الحاكم الشرعي... وغاية ما تدلّ عليه الترافع إليه في الحكم والفتوي، وأنه منصوب من قبلهم (عليهم السلام) لذلك، لا بالنسبة إلي الولاية... وبالجملة: فإن عدّ الحاكم الشرعي في جملة الأولياء كما ذكروا وإن كان مسلماً بينهم ومتفقاً عليه عندهم، إلا أنه خالٍ عن الدليل من الأخبار...).

هذا مضافاً إلي أمرين:

الأول: أن مثل هذا الأمر الخطير لابد أن يشرع بنحو لا يكون مثاراً للخلاف والشقاق والتشاح، خصوصاً مع طول المدة والانقطاع المطلق عن الامام (عليه السلام)، وذلك بوضوح الأدلة وجلائها، بحيث لا تقبل الإنكار: أولاً: في أصل جعل الولاية. وثانياً: في تحديد موضوعها - وهو الفقيه - كبروياً بحدود دقيقة مضبوطة. وثالثاً: في طرق إحراز الموضوع المذكور صغروياً. ورابعاً: في تحديد الوظيفة كبروياً عند تعدد الفقهاء وحصول الخلاف أو التشاح بينهم. بل وكذا صغروياً، بأن لا يكون التشخيص قابلاً للاجتهاد والخلاف.

ومع الإخلال بشيء من ذلك لا يتأدي الغرض من جعل الولاية، وهي طاعة الولي وتنفيذ تصرفه، بل تترتب مضاعفات خطيرة وإفرازات مأساوية لا تناسب كمال التشريع الإسلامي القويم. بل قد تجر بالآخرة إلي الخدش بقدسية الدين الحق، وزعزعة العقيدة به والولاء لرموزه.

الثاني: أن هذا الأمر لا يناسب غير المعصومين (عليهم السلام)، حيث يؤمن الخطأ في حقهم، فلا يكون تسليطهم سبباً لتلف النفوس والأموال بغير الحق وانتهاك الأعراض والحرمات. ولاسيما باستمرار الزمان، وتعاقب الأحداث، وتعوّد الخروج تدريجاً عن حرفية النص.

ص: 443

بل أدني تأمل في أدلة الولاية الثابتة للأئمة (صلوات الله عليهم) يشهد بمساوقتها للإمامة، فأدلة اعتبار العصمة في الإمامة تكفي في منع الولاية المطلقة لغير المعصوم.

هذا وقد يدعي أن طول عهد الغيبة الكبري في علم الله تعالي، وتبدل الأوضاع العامة والخاصة فيها، وما نتج وينتج عن ذلك من تفاعلات ومشاكل يتعذر حلّها والخروج منها بالاقتصار علي ما تقتضيه القاعدة من بقاء الأحكام الأولية، وفعلية سلطنة كل شخص علي نفسه وماله، كل ذلك بمجموعه كاشف عقلاً عن جعل الشارع الأقدس الولاية لبعض الناس من أجل حلّ تلك المشاكل والخروج عنها، مع بذل الجهد في مراعاة الاولويات والمرجحات بما يتناسب مع صلاح الدين والمؤمنين، وحيث لا يحتمل ولاية غير الحاكم الشرعي، تعين كونه هو الولي المجعول شرعاً.

لكن من الظاهر أن ذلك لا يخفي علي الشارع الأقدس، وكان باستطاعته جعل ذلك علي إطلاقه أو تقييده ببعض القيود التي يراها أدفع للمحاذير، ثم بيانه بوجه ظاهر لا لبس فيه، وحيث لم يظهر منه ذلك فلعله يعلم أن المفاسد المترتبة علي جعل ذلك، وتعهد الشارع به وتحمله مسؤوليته، أهم من محذور ترك الناس وما يختارونه لأنفسهم من حلّ يتحملون مسؤوليته بأنفسهم، بعد أن أدي هو وظيفته في حقهم علي أفضل وجه بجعل الولاية للمعصوم، وكان حرمانهم من خيره من قبلهم، لتقصيرهم في أداء وظيفتهم في حقه.

وأشكل من ذلك ما قد يدعي من أنه من المعلوم اهتمام الشارع الأقدس بالكيان الإسلامي العام، وبإعلان كلمة الحق في الأرض، وبتطبيق الإسلام بنظمه ومفرداته. فإن ذلك كاشف عن جعل الولاية في غيبة الإمام (عجّل الله تعالي فرجه) المتمادية من أجل القيام بذلك بعد أن تعذر قيام الامام (عليه السلام) به، لما ابتلي به من موانع ظهوره وتوليه ذلك بنفسه. وحيث لا يحتمل ولاية غير الحاكم الشرعي تعين كونه هو الولي المجعول شرعاً.

ص: 444

(445)

لاندفاعه أولاً: بأن ذلك إنما يقتضي ولاية الحاكم عند تهيؤ الظرف المناسب للقيام بذلك من دون أن ينهض بإثبات ولايته مطلقاً حتي مع عدم تهيؤ ذلك، كما هو المدعي للقائلين بالولاية.

وثانياً: بأنه بعد العلم بعدم تطبيق الإسلام التام، ولو لعدم كون المباشر لذلك هو المنصوص عليه المعصوم، فلا طريق لنا للعلم باهتمام الشارع الأقدس بتطبيق ما يمكن تطبيقه حسب اختلاف الظروف والأشخاص، بحيث يتعهد الشارع بذلك ويتحمل مسؤوليته، إذ لعلّ السلبيات المترتبة علي ذلك أهم بنظره الشريف من إيجابياته.

بل لعلّ بقاء دعوة الدين في موقع المعارضة والتصدي لسلبيات الأنظمة القائمة وفضحها، ومحاسبة القائمين بها، خير من تحملها المسؤولية المباشرة بعد الانحراف الذي حصل في مسيرة الدعوة الحقة.

هذا كله بغضّ النظر عن النصوص الواردة في هذا المقام، حيث لا يسعنا استطرادها والنظر في مفادها. وإن كان يحسن بكل أحد يهتم بالحقيقة أن يكون قريباً منها.

نعم، قد يكون هذان الوجهان، مع حصول المشاكل فعلاً، واحتكاك بعض الناس بها، سبباً لحصول القطع للحاكم الشرعي، أو لخصوص من يقلده من الناس ويرجعون إليه في أمورهم بجعل الولاية بوجه عام أو جزئي، حسب اختلاف الأشخاص والموارد. وقد يكون معذوراً في ذلك، بل قد يمضي الشارع الأقدس حينئذٍ تصرفه لو صادف الواقع.

لكن الشخص المذكور هو الذي يتحمل وحده تبعة قطعه والسلبيات الحاصلة من خطئه لو كان، من دون أن يتحمل الشارع الأقدس شيئاً من ذلك، لتنعكس آثاره ومضاعفاته علي دينه العظيم وتشريعه القويم وعقائده الحقة. والله سبحانه العالم العاصم.

المقام الثاني: في الولاية الخاصة الراجعة إلي كون الحاكم الشرعي ولي من لا ولي له وما لا ولي له في مورد الحاجة للولي. وظاهر كثير من الأصحاب البناء علي

ص: 445

ذلك، حيث صرّحوا بولاية الحاكم في كثير من موارده وصغرياته، كاليتيم والمجنون والأوقاف التي لا ولي لها ومجهول المالك وغيرها، ويظهر من بعض كلماتهم المفروغية عن ذلك. بل ادعي الإجماع عليه صريحاً في بعض الموارد. وقد سبق من الحدائق ما يناسب ذلك. وقد يفهم من مساق كلماتهم عدم الخصوصية لتلك الموارد في ذلك، وأن الحكم فيها بالرجوع للحاكم لعدم وجود الولي الخاص.

وكيف كان فقد يستدل علي ذلك بأمرين:

الأول: الإجماع المستفاد من كلماتهم، كما سبق.

وفيه أولاً: أنه لم يتضح حصول الإجماع في المقام، لعدم تعرض بعض القدماء للمسألة، ومن تعرض لها وإن عبّر بالحاكم، إلا أنه لم يتضح كون المراد به في كلمات القدماء هو المجتهد العادل، لأن إطلاق الحاكم عليه اصطلاح متأخر، بل من القريب أن يكون مرادهم به هو حاكم المسلمين، وهو الإمام.

ففي المبسوط في فصل تصرف الولي في مال اليتيم قال:

(من ولي مال اليتيم جاز له أن يتجر فيه للصبي نظراً له، سواءً كان أباً أو جدّاً أو وصياً أو حاكماً أو أميناً لحاكم) ، وفي كتاب الرهن قال:

(من يلي أمر الصغير والمجنون خمسة: الأب والجد ووصي الأب والجد والإمام أو من يأمره الإمام) .

وفي النهاية في باب الوكالات قال

:(وللناظر في أمور المسلمين وحاكمهم أن يوكل علي سفهائهم ونواقصي عقولهم من يطالب بحقوقهم ويحتج عنهم ولهم) . وفي باب أقسام الطلاق وشرائطه قال:

(فإن طلق الرجل امرأته وهو زائل العقل بالسكر أو الجنون أو المرة أو ما أشبهها كان طلاقه غير واقع. فإن احتاج من هذه صورته - إلا السكران - إلي الطلاق طلق عنه وليه، فإن لم يكن له ولي طلق عنه الإمام أو من نصبه الإمام) . وربما يوجد ما يناسب ذلك في كلمات أخر لهم تظهر للمتتبع لا يسعنا استقصاؤها.

وثانياً: أنه تكرر منّا أنه لا مجال للتعويل علي الإجماع في المسائل الخالية من

ص: 446

النصوص، ولم تحرز فيها سيرة تطابقها، حيث لا مجال حينئذٍ لمعرفة رأي علماء الطائفة في العهود السابقة علي تدوين المسائل - ممن كان يقتصر في بيان الفتوي علي ذكر الرواية - متصلاً بعصور الأئمة، ليعرف بذلك حكمهم (عليهم السلام). ومجرد ظهور القول بذلك بعد الغيبة، عندما بدؤوا بتحرير المسائل مجردة عن النصوص وتبويبها، لا يكفي في الكشف عن رأي الأئمة (صلوات الله عليهم).

ولاسيما مع احتمال استنادهم في ذلك إلي ما يأتي من الوجه، أو إلي بعض النصوص المتقدمة ولو بعد تتميم دلالتها ببعض الوجوه الاعتبارية، أو بلحاظ أولوية الحاكم من غيره بعد فرض الحاجة للولي... إلي غير ذلك مما يجب النظر فيه والبحث عن نهوضه بالاستدلال.

الثاني: النبوي: (السلطان ولي من لا ولي له)، بضميمة المفروغية عن قيام الحاكم مقامه.

وفيه أولاً: أن النبوي المذكور لم يذكره أصحابنا إلا مرسلاً في بعض كتبهم(1) ، والظاهر أن أصله من العامة، حيث رووه مسنداً في أصولهم(2). فلا مجال للتعويل عليه. نعم لا ريب في ثبوت هذه الولاية للإمام، لكن في ضمن الولاية العامة، فلو ثبتت نيابة الحاكم عنه لم تقتصر ولايته علي ذلك.

وثانياً: أن قيام الحاكم مقام السلطان في ذلك يحتاج إلي دليل. وقيامه مقام الإمام إن رجع إلي عموم نيابته عنه فقد عرفت المنع من ذلك، وإن رجع إلي نيابته في خصوص هذه الولاية فهي تحتاج إلي دليل.

ومن ثم قد يستدل عليها: تارة: بالتوقيع الشريف بناءً علي كون الإرجاع فيه بلحاظ الولاية، لكن بعد تخصيصها بخصوص ما يحتاج فيه للولي مع فقده، لأنه

********

(1) المسالك ج: 7 ص: 147، وعوائد الأيام ص: 563 ذيل العائدة 54، والجواهر ج: 29 ص: 188.

(2) سنن أبي داود ج: 1 ص: 463 باب: 20 حديث: 2083. سنن الترمذي ج: 2 ص: 281 باب: 14 حديث: 1108. سنن البيهقي ج: 7 ص: 105 باب: لا نكاح إلا بولي.

ص: 447

مورد الحاجة والتحير الموجب للسؤال، دون ما له ولي فعلاً أو لا يحتاج فيه للولي أصلاً، لعدم كونه مورداً للتحير، بعد وضوح الوظيفة فيه. ومجرد كونه مورداً لولاية الامام (عليه السلام) العامة لا قرينة علي كونه مورداً للسؤال. ولا أقل من خروجه عن القدر المتيقن من مورده.

ويظهر اندفاع الاستدلال المذكور مما سبق من عدم القرينة علي النظر في التوقيع الشريف للولاية لو لم يكن ظاهراً في خصوص الإرجاع في الفتوي.

مضافاً إلي أنه لا مجال لحمله علي الولاية الخاصة، لأن الالتفات لتقسيم الولاية بهذا التقسيم حصل متأخراً، والتوجه للولاية إنما يكون باعتبارها منصباً للإمام (عليه السلام) يحتاج لمن يقوم مقامه فيه عند تعذر الوصول إليه، وذلك يقتضي إرادة المنصب بسعته. ولاسيما وأن الحاجة للولي كما تكون عند فقد الولي حيث يحتاج لمن يقوم مقامه، كذلك تكون عند وجود الولي إذا كان الرجوع إليه لا يفي بحلّ المشكلة القائمة، لامتناعه من حلّها تمسكاً بسلطنته، حيث يحتاج في حلّها للولي العام الذي يكون مقدماً عليه، لأنه أولي به من نفسه.

نعم، لو ثبت شيوع ابتلاء الشيعة بالحاجة لخصوص بعض أقسام الولاية، بحيث يحتمل انصراف السؤال إليه، اتجه الاقتصار عليها، لأنها المتيقن بعد عدم التعرض للسؤال في التوقيع الشريف، ليتيسر فهم الإطلاق منه. لكن لا طريق لإثبات ذلك.

وأخري: بالحديث السابع المتقدم المتضمن أن مجاري الأمور بيد العلماء، بناءً علي حمل العلماء فيه علي الفقهاء والمجتهدين، بتقريب ظهوره في حصر مجاري الأمور بهم، وذلك لا يتم فيما له ولي يمكن الوصول له فعلاً، أو لا يحتاج فيه للولي، وإن دخل تحت ولاية الإمام العامة، وإنما ينحصر فيما يحتاج للولي ولا ولي له، أو له ولي يتعذر الوصول إليه.

ويظهر اندفاعه مما سبق من ظهور الحديث المذكور في أن المراد بالعلماء هم

ص: 448

الأئمة (صلوات الله عليهم). مضافاً إلي أن ظهوره في الحصر وإن كان مسلماً، إلا أن الظاهر من الأمور فيه ما هو من شؤون الرئاسة المبنية علي الولاية العامة. ولذا كان ظهوره في إرادة الأئمة (عليهم السلام) راجعاً لظهوره في بيان رئاستهم وولايتهم المساوقة لإمامتهم (عليهم السلام)، والرجوع إليهم فيما يحتاج للولي مع فقده أو تعذر الوصول إليه إنما هو لأنه من موارد الرجوع للولي العام، لا لأنه وحده المراد بالحديث المذكور.

ومثل ذلك في الإشكال ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من منع ثبوت الولاية العامة للحاكم، ثم الاستدلال علي ثبوت الولاية الإذنية - التي تقدم احتمال رجوعها للولاية الخاصة التي هي محل الكلام - له بالحديث السابع المذكور، وبالتوقيع الشريف بعد حمل الحوادث فيه علي الحوادث التي يرجع فيها للرئيس وبالمقبولة بعد حمل الحاكم فيها علي الحكام المنصوبين من قبل النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) ومن قام مقامه، كما تقدم منه (قدس سره) عند الاستدلال بها علي ثبوت الولاية العامة للحاكم الشرعي.

للإشكال فيه بأن الرئيس والحكام المنصوبين من قبل النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) ومن قام مقامه لا يستطيعون أداء مهماتهم التي تناط بهم كاملاً إلا بإعمال الولاية العامة في موارد الحاجة إليها لحفظ النظام ورعاية مصالح العباد والبلاد، كفتح الطرق، وحشر الناس للأعمال الجَماعية، وتحديد تحرك أهل الريبة وغير ذلك مما تفرضه الأحداث المستجدة، فلو تم تقريب دلالة التوقيع والمقبولة علي ما ذكره تعين دلالتهما علي الولاية العامة، كما هو الظاهر من الحديث السابع، علي ما تقدم.

وكذا ما ذكره (قدس سره) من أنه لابد من تخصيص ولاية الحاكم بالتصرف الذي يكون مفروغاً عن مشروعيته في الخارج، بحيث لو فرض عدم وجود الحاكم كان علي الناس القيام به كفاية. قال (قدس سره): (وأما ما يشك في مشروعيته - كالحدود لغير الإمام، وتزويج الصغيرة لغير الأب والجد، وولاية العاملة علي مال الغائب بالعقد عليه، وفسخ العقد عنه، وغير ذلك - فلا يثبت من تلك الأدلة مشروعيتها للفقيه، بل لابد للفقيه من استنباط مشروعيتها من دليل آخر. نعم الولاية علي هذه الأمور

ص: 449

وغيرها ثابتة للإمام (عليه السلام) بالأدلة المتقدمة المختصة به، مثل آية: (أولي بالمؤمنين من أنفسهم).

إذ فيه: أنه بعد تمامية موضوع هذه الأمور، ولذا يكون للإمام الولاية عليها، وإنما يشك في مشروعية قيام الحاكم بها للشك في ولايته، فمقتضي النصوص المذكورة بناءً علي تمامية وجه استدلاله بها للولاية جواز قيام الحاكم بها، لدخولها في عموم مجاري الأمور في الحديث السابع، وعموم الحوادث في التوقيع الشريف، ووضوح أن وظيفة الحكام والولاة المنصوبين من قبل النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) ومن قام مقامه من بعده تعم إقامة الحدود فتنهض المقبولة بإثباتها للحاكم بناءً علي ما ذكره (قدس سره) في وجه الاستدلال بها.

نعم، قد تقصر وظيفتهم عن الأمور الخاصة، كتزويج الصغيرة والتصرف في مال الغائب. وإن لم يبعد الرجوع إليهم فيها عند الضرورة العرفية الملزمة بإيقاع التصرف. علي أنه يكفي فيها عموم الأولين.

الثالث: ما تضمن الحث علي المعروف(1) وعلي البر بالمؤمنين(2) ونفع الناس(3) ونحو ذلك، بدعوي: أن تولي الحاكم أمر من لا ولي له وقيامه بإدارة شؤونه من أظهر مصاديق المعروف والبر بالمؤمنين ونفع الناس ونحوها من العناوين الراجحة شرعاً.

وفيه - مع أن ذلك لا يختص بالحاكم -: أن صدق الأمور المذكورة فرع السلطنة عليها بثبوت الولاية شرعاً، فلا ينهض بإثبات الولاية، لوضوح أنه مع عدم الولاية يكون التصرف الخارجي في النفس والمال المحترمين محرماً شرعاً، فلا يكون معروفاً، كما يخرج عن عموم حسن البر والنفع ونحوهما، لوضوح أن ما هو المطلوب للشارع البر النفع ونحوهما بالوجه الحلال. كما أن التصرف الاعتباري مع عدم الولاية لا ينفذ ولا يتحقق به المعروف والبر والنفع ونحوها.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 6 باب: 41 من أبواب الصدقة، وج: 11 باب: 1 من أبواب فعل المعروف وغيرهما.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 6 باب: 50 من أبواب الصدقة، وج: 11 باب: 32 من أبواب فعل المعروف.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 11 باب: 22 من أبواب فعل المعروف.

ص: 450

ولذا لا ريب في قصور الأدلة المذكورة عن التصرف في نفس الكبير الرشيد وماله من دون إذنه مع إمكان الوصول إليه حتي لو كان التصرف صلاحاً بنظر المتصرف، مع أنه يشترك مع القاصر في دليل المنع، وهو عموم عدم حلّ التصرف الخارجي تكليفاً والاعتباري وضعاً في مال الغير ونفسه بغير إذنه.

نعم، لو لم يلزم التصرف الخارجي ولا الاعتباري فلا إشكال في حسن ما يصدق عليه المعروف والبر والنفع ونحوها، كحراسة المال، ودفع كيد الباغي والحاسد ونحوهما.

ومن هنا يصعب إثبات عموم الولاية الخاصة التي هي محل الكلام للحاكم الشرعي.

هذا وقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن ما تضمنه معتبرا أبي خديجة المتقدمان من جعل الفقيه قاضياً يقتضي توليه لجميع ما يتولاه القضاة في عصر صدورهما، مثل أخذ الحق من المماطل وحبسه وبيع ماله، والتصرف في مال القصير، ونصب القيم عليه ونحو ذلك، فتكون ولاية الحاكم تابعة سعة وضيقاً لوظائف القضاة. ويجري ذلك في المقبولة بناءً علي ما سبق من حمل الحاكم فيها علي القاضي.

ولكن ما ذكره إنما يتجه إذا ثبت أن تولي الأمور المذكورة من الوظائف الشرعية للقاضي، وهو غير ثابت، لعدم تعرض الأدلة لشرح مناصب القاضي، والمناسب لمعناه اختصاصه بفصل الخصومة. وتولي القضاة المنصوبين من قبل سلاطين العدل أو الجور لتلك الأمور - لو تم - ربما يبتني علي إيكال ذلك إليهم زائداً علي منصب القضاء، لا لكونه من شؤون منصب القضاء. كما قد يكون الرجوع إليهم في مثل أخذ الحق من المماطل وحبسه لمجرد تشخيص موضوع الاستحقاق الذي هو من شؤون فصل الخصومة، مع كون المتولي لذلك والمنصوب له هو الهيئة التنفيذية في الدولة.

وأما ما ذكره (قدس سره) من استفادة العموم لهذه الأمور من النصوص المتقدمة، بلحاظ أن نصبه لو كان مختصاً بفصل الخصومة لكفي مثل قوله (عليه السلام):

(اجعلوا بينكم

ص: 451

رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا... ) ، ولم يحتج لمثل قوله (عليه السلام):

(فإني قد جعلته عليكم قاضياً) الظاهر في سوقه تعليلاً بالكبري التي هي أعم من الحكم المعلل.

فيندفع بأنه يكفي في كبروية التعليل كونه مشيراً إلي كبري نفوذ جعلهم أو نصبهم (عليهم السلام)، نظير ما تقدم عند الاستدلال بالمقبولة علي الولاية العامة. فراجع.

ومثله دعوي: أن الغرض من نصب القاضي لما كان هو استغناء الشيعة عن قضاة الجور فهو يقتضي جعل جميع مناصبهم التي يحتاج فيها إليهم للفقيه، دون خصوص فصل الخصومة.

لاندفاعها بأن المتيقن من الغرض المذكور هو استغناؤهم عن قضاة الجور في فصل الخصومة، لأن ذلك هو الذي تضمنته النصوص المذكورة. ولا قرينة علي عموم الغرض لجميع المهام التي كانوا يقوم بها القضاء المذكورون. ولاسيما مع احتمال احتياج بعض تلك المناصب بنظرهم (عليهم السلام) إلي كفاءة زائدة علي العلم والعدالة المعتبرين في القاضي. ومع أن ترتب فائدة بعض تلك المناصب - كحبس الممتنع من أداء الحق - موقوف علي تمتع صاحبه بقوة تجعله قادراً علي تنفيذ مقتضي النصب، وهو أمر غير متحقق نوعاً في عصر صدور الأحاديث المذكورة. ولو تحقق نادراً فقد يكون ظهور القيام به من الشيعة مضراً بهم، بل خطراً عليهم وعلي الأئمة (صلوات الله عليهم). ولعله لذا أكد في المقبولة علي أهمية تنفيذ الحكم وشدة جريمة ردّه دينياً، بنحو يناسب الاتكال في التنفيذ علي الحافز الديني وحده، ومع ذلك كيف يحرز عموم الغرض من نصب القضاة لاستغناء الشيعة عن قضاة الجور في جميع مناصب وظائفهم التي كانوا يقومون بها؟!. وقد تقدم عند الكلام في نفوذ حكم الحاكم بالهلال من كتاب الصوم من هذا الشرح ما ينفع في المقام. فراجع.

والحاصل: أنه لا مجال لاستفادة ولاية الحاكم علي غير فصل الخصومة من هذه النصوص. كما لا مجال لاستفادة ولايته من بقية النصوص المستدل بها في المقام، ولا من غيرها من الأدلة التعبدية كالإجماع المدعي.

ص: 452

ومن هنا يتعين الرجوع لما تقتضيه القاعدة. فإن كان هناك دليل أو أصل يقتضي جواز التصرف أو نفوذه من كل أحد لم يجب مراجعة الحاكم، كما قربناه فيما سبق بالإضافة إلي اليتيم في الجملة. وقد ذكرنا هناك أنه لا مجال للخروج عن الدليل المذكور بنصوص جعل الفقيه قاضياً حتي لو فرض نهوضها بإثبات جميع مناصب القضاة له وثبت توليهم للتصرف المذكور.

وإن لم يكن هناك دليل ولا أصل يقتضي جواز التصرف المذكور لكل أحد، فإن احتمل عدم رضا الشارع بإيقاع التصرف أصلاً تعين امتناع الحاكم منه - كغيره - بعد ما سبق من عدم الدليل علي ولايته. وإن علم برضا الشارع الأقدس بالتصرف أو لزومه في الجملة بلحاظ ما يترتب عليه من مصالح عامة أو خاصة، فحيث لا دليل ولا أصل يقتضي جواز التصرف لكل أحد، يتعين الاقتصار فيه علي الحاكم، فيباشره بنفسه أو يأذن فيه لغيره، لأن ولايته وإن لم تثبت، إلا أنه لا دافع لاحتمالها، ولو في خصوص هذا الحال. ولاسيما بعد ظهور معروفية القول بها في الجملة بين الأصحاب، وبعد كون الحاكم هو الأولي بنظر المتشرعة بالولاية لأنه الأبصر بضوابط التصرف الشرعية والآمن علي مراعاتها بسبب عدالته المفروضة ونحو ذلك، فيدخل تصرفه أو التصرف الواقع بإذنه في المتيقن مما فرض من جواز التصرف أو وجوبه. ولعل هذا هو المنشأ لحكم الأصحاب بولايته أو لزوم الرجوع إليه، وإن لم يحدد في كلمات كثير منهم بهذا النحو.

نعم، لو فرض احتمال ولاية غيره أيضاً لم يجز لكل منهما الانفراد بالتصرف وتعين الاشتراك بينهما في السلطنة، بمعني لزم الجمع بين نظريهما، لعدم تحقق المتيقن من جواز التصرف أو وجوبه إلا بذلك، فاللازم الاقتصار عليه بعد فرض عدم الدليل علي جواز التصرف لكل أحد. هذا ما تيسر لنا من الكلام في ولاية الحاكم الشرعي. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم والحمد لله رب العالمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 453

(454)

ومع تعذر الرجوع إليه فالولاية لعدول المؤمنين (1)

---------------

(1) وفاقاً لصريح بعض الأصحاب، بل نسب إلي مشهورهم، بل ربما نسب ذلك إليهم. كذا في الجواهر.

وقد يستدل عليه بصحيح إسماعيل بن سعد الأشعري عن الرضا (عليه السلام) وفيه: (عن الرجل يموت بغير وصية، وله ولد صغار وكبار، أيحل شراء شيء من خدمه ومتاعه من غير أن يتولي القاضي بيع ذلك، فإن تولاه قاضٍ قد تراضوا به ولم يستعمله الخليفة أيطيب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع وقام عدل في ذلك)(1). بناءً علي ما هو الظاهر من أن المراد بالقاضي فيه من يتراضون به ليشرف علي تصفية التركة، دون الحاكم الشرعي، لعدم تعارف التعبير عنه بالقاضي في تلك العصور، بل حتي في عصورنا، ولعدم مناسبته لاعتبار قيام العادل في ذلك. بل لو كان هو المراد لكان التنبيه علي جعله من قبلهم (عليهم السلام) أولي من التنبيه علي تراضيهم به. ولاسيما مع التعرض في السؤال للمنصوب من قبل الخليفة. بل يبعد جداً توقف السائل حينئذٍ في الاجتزاء به بناءً علي ولايته بعد ظهور حال السائل في المفروغية عن الاجتزاء بالقاضي المنصوب من الخليفة.

وبذلك يخرج عن إطلاق الثقة في موثق سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام)

:(سألته عن رجل مات، وله بنون وبنات صغار وكبار، من غير وصية، وله خدم ومماليك وعقد، كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث ؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس) (2) .

هذا وفي صحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع: (مات رجل من أصحابنا ولم يوصِ، فرفع أمره إلي قاضي الكوفة، فصير عبد الحميد القيم بماله، وكان الرجل خلف ورثة صغاراً ومتاعاً وجواري، فباع عبد الحميد المتاع، فلما أراد بيع الجواري ضعف

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 88 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 2.

ص: 454

قلبه عن بيعهن، إذ لم يكن الميت صيّر إليه وصيته، وكان قيامه فيها بأمر القاضي، لأنهن فروج. قال: فذكرت ذلك لأبي جعفر (عليه السلام)، وقلت له: يموت الرجل من أصحابنا، ولا يوصي إلي أحد، ويخلف جواري، فيقيم القاضي رجلاً منّا، فيبيعهن، أو قال: يقوم بذلك رجلاً منّا، فيضعف قلبه، لأنهن فروج، فما تري في ذلك ؟ قال: فقال: إذا كان القيم مثلك و [أو] مثل عبد الحميد فلا بأس)(1). وحيث لم تذكر فيه جهة المماثلة فهو مجمل، وينهض الحديثان السابقان ببيان المراد به.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أنه لا مجال لحمله علي العدالة، لأنه لا يناسب حال عبد الحميد، حيث باع المتاع بمجرد نصب القاضي مع التفاته لعدم شرعية نصبه، ولذا توقف عن بيع الجواري.

ففيه: أنه لم يتضح من حال الشيعة في تلك العصور بناؤهم علي توقف تصفية التركة علي الولاية الشرعية. غاية الأمر أن يتورع بعضهم عن بيع الجواري لأنهن فروج، وعن بيع العقار لأنه مال ثابت يصلح لأن يكون ذخراً لصاحبه ونحو ذلك من الأمور المهمة التي يحتمل عدم جواز بيعها شرعاً إلا بوصية خاصة من الأب، نظير الاتجار بمال اليتيم. ولذا لم يظهر من ابن بزيع علي جلالته التوقف في بيع المتاع، وهو الظاهر من بعض النصوص الواردة في المقام أيضاً. وإلا فمن البعيد جداً أن يكون جعل الامام (عليه السلام) عبد الحميد عديلاً لابن بزيع لمجرد الثقة من دون عدالة.

بل الظاهر أنه من أجلاء الشيعة بحيث يحسن عرفاً قرنه بابن بزيع، وحيث لا يمكن عرفاً تنزيل موثق سماعة علي خصوص هذه المرتبة من الجلالة يتعين البناء علي عدم سوق الشرطية في صحيح ابن بزيع للمفهوم.

نعم، قد يقال: العدالة وإن كانت أخص من الوثاقة، إلا أن الوثاقة حيث كانت كافية عرفاً مراعاة لمصلحة الأيتام فالاقتصار عليها في موثق سماعة يوجب قوة ظهوره في كفايتها جرياً علي ما عند العرف، بحيث يكون تنزيله علي خصوص ما إذ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2.

ص: 455

كان الثقة عدلاً أصعب من تنزيل صحيح إسماعيل بن سعد عليه، إما بالبناء علي عدم سوق الشرطية فيه للمفهوم وأن ذكر العدالة فيه لأنها تستلزم الوثاقة، أو علي تنزيل العدالة فيه علي العدالة في أمر الأيتام في مقابل الحيف عليهم ويمكن أن يكون ذلك هو الملحوظ في صحيح ابن بزيع، بلحاظ أن هذه المرتبة من الجلالة تمنع من الحيف علي اليتيم. غايته أن الشرطية فيه غير مسوقة للمفهوم، وهو أمر لازم علي كل حال.

ويزيد ما ذكرنا وضوحاً ما في صحيح ابن رئاب: (سألت أبا الحسن موسي (عليه السلام) عن رجل بيني وبينه قرابة مات وترك أولاداً صغاراً، وترك مماليك له غلماناً وجواري ولم يوصِ فما تري فيمن يشتري منهم الجارية، فيتخذها أم ولد؟ وما تري في بيعهم ؟ فقال: إن كان لهم ولي يقوم بأمرهم باع عليهم ونظر لهم كان مأجوراً فيهم. قلت: ماذا تري فيمن يشتري الجارية فيتخذها أم ولد؟ قال: لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيم لهم الناظر فيما يصلحهم. وليس لهم أن يرجعوا عما صنع القيم لهم الناظر فيما يصلحهم)(1).

لقوة ظهوره في أن المعيار في نفوذ التصرف نظر المتصرف فيما يصلحهم من دون توقف علي أمر آخر، فيكفي إحراز ذلك، وهو المنصرف من الثقة في موثق سماعة، بأن يراد به الثقة في أمر اليتيم ورعاية مصلحته.

بل المناسبات الارتكازية قاضية بأن مقتضي الجمع بين موثق سماعة وصحيح ابن رئاب هو البناء علي أن معيار نفوذ التصرف واقعاً هو نظر القيم في صلاح اليتيم، عملاً بصحيح ابن رئاب، ومعيار نفوذه ظاهراً من أجل ترتيب غير القيم - كبقية الورثة والأجانب، ومنهم المشتري - الأثر علي التصرف هو وثوقه بالقيم في ذلك، عملاً بموثق سماعة بعد تنزيل صحيح إسماعيل بن سعد عليه، أو علي العدل في أمر اليتيم، فيناسب ما في صحيح ابن رئاب.

نعم، استدلالهم بهذه النصوص علي ولاية الثقة أو العدل عند فقد الحاكم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 88 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 1.

ص: 456

الشرعي مبني علي تنزيلهم لها علي صورة تعذر الرجوع للحاكم، لبنائهم علي تعينه للولاية. وهو بعيد جداً، لكثرة فقهاء الشيعة في عصر صدور هذه النصوص، خصوصاً في العراق، ولاسيما في الكوفة.

ومن ثم فهي تصلح لأن تكون دليلاً علي عدم تعين الحاكم للولاية علي اليتيم. فتؤكد ما سبق الإشارة إليه في أول الكلام في هذه المسألة من أنه يجوز لكل أحد تولي أمر اليتيم ورعايته ومخالطته بالمعروف حسبة. وبذلك لا يحتاج للولي، ليقع الكلام في ولاية الحاكم له مع تيسر الوصول إليه، وولاية عدول المؤمنين مع تعذر ذلك.

ومقتضي ذلك حمل المتولي له علي الصحة، وجواز التعامل معه في شؤون اليتيم من دون حاجة إلي إحراز عدالته أو وثاقته.

غاية الأمر أنه لابد من الاقتصار في ذلك علي ما تقتضيه الكفالة والمخالطة من التصرفات، كحفظ ماله والإنفاق عليه منه ومداواته ونحو ذلك، دون التصرفات الاستثنائية النادرة، كتصفية التركة من أجل تعيين حصته منها، ومثل تبديل العقار بالنقد أو العكس أو نحو ذلك، لخروجه عن المتيقن من دليل جواز التصرف حسبة. بل مقتضي هذه النصوص اعتبار عدالة القائم بها أو وثاقته واقعاً أو ظاهراً في حق غيره من أجل التعامل معه وترتيب آثار صحة المعاملة، علي الكلام السابق.

وبذلك يظهر أنه لا مجال للاستدلال بهذه النصوص علي ولاية عدول المؤمنين عند تعذر الوصول للحاكم في غير اليتيم مما يحتاج فيه للولي.

فالأولي الاستدلال عليها، بأنه حيث تقدم اختصاص ولاية الحاكم أو وجوب مراجعته بما إذا علم برضا الشارع الأقدس بإيقاع التصرف من دون أن يكون هناك دليل أو أصل يقتضي جواز إيقاعه لكل أحد، فكما يكون الحاكم عند تيسر الوصول له هو المتيقن من جواز التصرف، كذلك يكون المؤمن العادل هو المتيقن من جواز التصرف عند تعذر الوصول للحاكم، لاحتمال ولايته في هذا الحال، ولا يجوز التصرف لغيره، لخروجه عن المتيقن بعد فرض عدم المسوغ له من دليل أو أصل.

ص: 457

لكن الأحوط الاقتصار علي صورة لزوم الضرر في ترك التصرف (1)، كما لو خيف علي ماله التلف مثلاً، فيبيعه العادل لئلا يتلف. ولا يعتبر حينئذٍ أن يكون التصرف فيه غبطة وفائدة (2). بل لو تعذر وجود العادل حينئذٍ لم يبعد جواز ذلك لسائر المؤمنين (3). ولو اتفق احتياج المكلف إلي دخول دار أيتام والجلوس علي فراشهم والأكل من طعامهم وتعذر الاستئذان من وليهم لم يبعد جواز ذلك إذا عوضهم عن ذلك بالقيمة (4)، ولم يكن فيه ضرر عليهم (5)، وإن كان الأحوط تركه. وإذا كان التصرف مصلحة لهم جاز من دون حاجة إلي عوض (6). والله سبحانه العالم.

---------------

(1) لم يتضح المنشأ لذلك بعد عموم النصوص المتقدمة المستفاد من ترك الاستفصال فيها، بناءً علي كونها مما نحن فيه من ولاية العدول. كما أن معيار ولاية العدول في غير موردها هو مجرد العلم بجواز التصرف ورضا الشارع الأقدس به وإن لم يلزم الضرر من تركه، كما يظهر مما تقدم.

(2) يكفي في الغبطة والفائدة حينئذٍ تجنب الضرر.

(3) لعين الوجه المتقدم في العدول. فإن اعتبر لزوم الضرر من عدم التصرف هناك اعتبر هنا أيضاً، وإلا فلا.

(4) يأتي الكلام في ذلك بعد الكلام في حكم ما إذا كان في دخوله منفعة لهم.

(5) إذ لا إشكال في حرمة الإضرار بهم. وهو صريح صحيح الكاهلي الآتي.

(6) كأنه لصحيح الكاهلي: (قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّا ندخل علي أخ لنا في بيت أيتام، ومعه خادم لهم، فنقعد علي بساطهم، ونشرب من مائهم، ويخدمنا خادمهم. وربما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم، فما تري في ذلك. فقال: إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، وإن كان فيه ضرر فلا. وقال (عليه السلام):

(بل

ص: 458

الإنسان علي نفسه بصيرة). فأنتم لا يخفي عليكم. وقد قال الله عز وجل: (والله يعلم المصلح من المفسد)(1).

لكنه.. أولاً: لا يختص بصورة الحاجة للدخول. بل حيث كان فرض الحاجة أنسب بالجواز فعدم التنبيه لها في السؤال ظاهر أو مشعر بعدمها أو بعدم التقيد بها. نعم الجواز مع عدم الحاجة يقتضي الجواز معها بالأولوية العرفية. كما أنه مقتضي عموم الصحيح المستفاد من ترك الاستفصال.

وثانياً: ظاهر أو محتمل لكون الأيتام في كفالة الأخ الذي يدخلون عليه ورعايته، وهو الذي يتولي أمرهم، وجواز الدخول بإذنه لا يقتضي جواز الدخول مطلقاً، من دون مراجعة الولي.

نعم يتجه ذلك علي مبني الأصحاب من عدم الأثر لرعايته أمر الأيتام إذا لم يكن منصوباً من قبل الحاكم الذي هو الولي الشرعي لهم عنده. لكن عرفت المنع من ذلك.

اللهم إلا أن يقال: مجرد احتمال ذلك لا يكفي في تقييد الصحيح به، بل مقتضي ترك الاستفصال فيه العموم لما إذا لم يكن متوالياً أمرهم، بل كان ساكناً معهم تعدياً أو بأجرة.

ومنه يظهر الوجه في الصورة الأولي، وهي ما إذا لم يكن في الدخول لدار الأيتام منفعة لهم، حيث لا يبعد أن يستفاد من الصحيح أن اللازم حصول العوض لهم عما يخسرون بسبب الدخول عليهم، إما بأن يكون في الدخول نفسه مصلحة لهم، أو بتعويضهم بقيمته. فلاحظ.

والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 71 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 459

انتهي الكلام في فصل شروط المتعاقدين من كتاب البيع شرحاً لكتاب (منهاج الصالحين) تأليف سيدنا الأستاذ الجد آية الله العظمي المرجع الأعلي (السيد محسن الطباطبائي الحكيم (قدس سره). وكان ذلك في أواخر شهر ذي القعدة الحرام سنة ألف وأربعمائة وخمس وعشرين للهجرة النبوية علي صاحبها وآله أفضل الصلاة والتحية في النجف الأشرف ببركة الحرم المقدس علي مشرفه الصلاة السلام.

بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) الطباطبائي الحكيم. والحمد لله رب العالمين. ومنه نستمد العون والتوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 460

فهرست تفصيلي

(5)استحباب التفقة في التجارة5

(6)لا يجوز ترتيب آثار الصحة عند الشك6

(7)استحباب التساوي بين المتبايعين7

(8)استحباب إقالة النادم8

(9)استحباب التكبير والشهادتين9

(10)كراهة مدح البائع سلعته10

(11)كراهة الحلف علي البيع والبيع في مكان مظلم11

(12)كراهة الربح علي المؤمن زائداً عن مقدار الحاجة12

(13)كراهة الربح علي الموعود بالإحسان13

(14)كراهة السوم ما بين الطلوعين14

(15)كراهة مبايعة الأدنين15

(16)كراهة مبايعة ذوي العاهات16

(17)كراهة طلب تنقيص الثمن بعد العقد17

(18)كراهة الزيادة وقت النداء18

(19)الكلام فيمن لا يحسن الكيل أو الوزن19

(19)كراهة الدخول في سوم المؤمن19

(22)توكل بعض أهل البلد لمن هو غريب عنها22

(26)كراهة تلقي الركبان26

(28)الكلام في حد التلقي المنهي عنه28

(31)حرمة الاحتكار مع الكلام في تحديده31

(41)الفصل الأول في شروط العقد41

(41)الكلام في مفهوم البيع41

(46)الإيجاب والقبول وما يعتبر فيهما46

ص: 461

(48)كفاية كل لفظ دال علي الإيجاب والقبول في البيع48

(51)العربية ليس شرطاً في العقد51

(55)الكلام في تقديم القبول علي الإيجاب55

(62)الموالاة بين الإيجاب القبول ليست شرطاً في صحة العقد62

(68)اعتبار التطابق بين الإيجاب والقبول68

(69)إذا تعذر النطق تكفي الإشارة إلي العقد69

(72)بيع المعاطاة72

(88)البيع المعاطاتي لا يختلف عن البيع العقدي في شروطه88

(90)البيع لازم من الطرفين90

(93)الكلام فيما ذكر من شروط لزوم البيع المعاطاتي93

(98)موت أحد المالكين في البيع المعاطاتي98

(100)عقد النكاح لا يقع بالمعاطاة100

(102)عدم صحة الطلاق بالمعاطاة102

(103)عدم صحة العتق بالمعاطاة103

(103)الكلام في صحة التحليل بالمعاطاة103

(103)عدم صحة النذر بالمعاطاة103

(104)لا ينعقد اليمين بغير اللفظ104

(104)جريان المعاطاة في الرهن104

(105)جريان المعاطاة في الوقف105

(105)لزوم الرهن والوقف المعاطاتي105

(106)الكلام في المنع من سببية المعاطاة لبعض العقود106

(107)قبول البيع المعاطاتي للشرط107

(108)تعليق البيع علي أمر غير حاصل108

(112)المقبوض بالعقد الفاسد112

(114)الكلام في حديث (علي اليد...) 114

(117)أدلة ضمان اليد117

(120)الكلام فيما دل علي ضمان المقبوض بالعقد الفاسد120

(125)ضمان المثلي بالمثل125

(126)ضمان القيمي بالقيمة126

ص: 462

(129)الكلام في تحديد المثلي والقيمي129

(133)الفصل الثاني: شروط المتعاقدين133

(133)الكلام في صحة عقد الصبي133

(149)الكلام في نفوذ معاملة الصبي بإذن وليه149

(154)شرطية العقل في نفوذ العقد154

(155)بيع المكره155

(160)موارد لا يتحقق بها الإكراه160

(161)تحديد الإكراه161

(165)الإكراه لا يصدق من دون خوف الضرر165

(169)إذا أكره أحد الشخصين169

(174)إذا أكره علي بيع أحد الفردين174

(180)الكلام فيما لو أكره علي إيقاع الشيء في الوقت الموسع180

(182)إذا أكره علي الجامع بين ذي الأثر الوضعي أو التكليفي182

(182)إذا تردد الأمر المكره عليه بين العقد وفعل الحرام182

(182)إذا أكره علي الجامع بين الصحيح والفاسد182

(183)إذا أكره علي الجامع بين ما يستحق وما لا يستحق183

(186)يعتبر في الإكراه عدم إمكان التغضي بالتورية186

(189)المراد من الضرر الموجب لصدق الإكراه189

(191)نفوذ عقد المكره إذا تعقبه الرضا191

(197)البيع الفضولي197

(198)صحة بيع الفضولي بعد الإجازة198

(228)ما استدل به علي بطلان بيع الفضولي حتي مع الإجازة228

(233)لو رد المالك البيع الفضولي ثم أجازه صح البيع233

(235)المنع السابق علي البيع لا أثر له235

(237)عدم كفاية الرضا الباطني في توقف البيع الفضولي علي الإجازة237

(246)إذا باع الفضولي مال غيره بتخيل أنه المالك246

(253)لا يكفي في الإجازة الرضا الشأني بل لا بد من الرضا العقلي253

(255)الكلام في كون الإجازة ناقلة أو كاشفة ؟255

(262)الإجازة كاشفة عن صحة العقد مع الكلام في كونه من الكشف الحكمي أو الانقلابي262

ص: 463

(265)الثمرات المترتبة علي الكشف والانقلاب265

(276)فروع في عقد الفضولي276

(283)إذا باع مال غيره فضولاً ثم ملكه قبل الإجازة283

(291)إذا باع الفضولي ثم ملكه بالإرث291

(293)إذا باع الفضولي ولم تتحقق الإجازة293

(298)المنافع المستوفاة في العقد الفضولي مضمونة298

(304)الكلام في المنافع غير المستوفاة304

(308)المدار في القيمة المضمون بها زمان الأداء لا زمان التلف308

(321)رجوع المشتري علي البائع بجميع الخسارات321

(331)إذا لم لكن المشتري مغروراً فلا يرجع علي البائع بشيء331

(336)تعاقب الأيدي336

(353)إذا باع ملكه وملك غيره فضولاً صفقة واحدة353

(364)طريق معرفة حصة كل واحد من الثمن364

(369)بيع نصف العين المشتركة بينه وبين غيره369

(375)ولاية الأب والجد375

(387)استقلال كل من الأب والجد بالولاية387

(389)عدم اعتبار العدالة في ولايتهما389

(392)يعتبر في نفوذ تصرفات الولي عدم المفسدة392

(400)يجوز للولي التصرف في نفس الصغير400

(401)الوصي عن الولي بمنزلة الولي401

(403)الكلام في صحة تزويج الوصي للصغير403

(407)الكلام في صحة وصية الأب مع وجود الجد وبالعكس407

(416)ولاية الحاكم الشرعي416

(418)الكلام في ثبوت الولاية المطلقة للحاكم الشرعي418

(419)استعراض الأدلة علي الولاية المطلقة ومناقشتها419

(445)الكلام في ولاية الحاكم الخاصة وأنه ولي من لا ولي له445

(454)الكلام في ولاية عدول المؤمنين454

ص: 464

المجلد 3

اشارة

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

الطبعة الاولي

1427ه - 2006م

ص: 1

اشارة

مصباح المنهاج

ص: 2

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

ص: 3

الجزء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

(5) (5)

الفصل الثالث: في شروط العوضين

وفيه مسائل:

(مسألة 1): يشترط في المبيع أن يكون عيناً (1)، سواء كان موجودا

---------------

(1) كما صرح به غير واحد، ونفي الإشكال والخلاف فيه بعض الأعاظم (قدس سره)

وجعله في مبحث التدبير من الجواهر من الأمور المعلومة. ومن أجل ذلك نزلوا ما تضمن بيع المنفعة وحق الاستغلال من النصوص الواردة في بيع خدمة العبد المدبر(1) ، والأرض الخراجية(2) ، وسكني الدار التي يسكنها الإنسان من دون أن يملكها(3) علي التوسع، من دون أن يكون بيعاً وشراء حقيقياً.

وما ذكروه قريب جداً. ويناسبه ما هو المرتكز عرفاً من الفرق بين البيع والإجارة مورداً. ولو فرض عدم بلوغه مرتبة اليقين فلا أقل من كونه مقتضي الأصل، حيث لابد من الاقتصار في ترتيب الأحكام علي المتيقن من موارد انطباق عناوين موضوعاتها. ومجرد استعمال البيع في النصوص المشار إليها في بيع غير الأعيان لا يشهد بالعموم لغة ولا عرفاً، لأن استعمال أعم من الحقيقة.

نعم ذلك لا يقتضي بطلان بيع غير الأعيان من الحقوق والمنافع، لعدم

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 3 من أبواب التدبير.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 11 باب: 71 جهاد العدو، وج: 12 باب: 21 من أبواب عقد البيع وشروطه.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 عقد البيع وشروطه.

ص: 5

في الخارج أم في الذمة (1)، وسواءً أكانت الذمة ذمة البايع أم غيره (2)، كما إذا كان له مال في ذمة غيره فيبيعه علي شخص ثالث. كما يشترط فيه أن يكون مالاً (3)، بحيث يتنافس عليه العقلاء (4). فلا يجوز بيع المنفعة، كمنفعة الدار، ولا بيع العمل، كخياطة الثوب، ولا بيع الحق (5)، كحق الخيار، ولا بيع ما لا يكون مالاً (6) كالحشرات. وأما الثمن فيشترط فيه

-

اختصاص دليل النفوذ بالبيع، بل يعم جميع العقود، والبيع المذكور وإن لم يحرز كونه بيعاً حقيقياً، غلا أنه لا يخرج عن كونه عقداً، فينفذ بمقتضي عموم نفوذ العقود. وإنما يظهر أثر ذلك في الأحكام الخاصة بالبيع، كخيار المجلس.

(1) بلا إشكال ظاهر. وعليه يبتني بيع السلف.

(2) بلا إشكال ظاهر. ويقتضيه مضافاً إلي الإطلاق النصوص الخاصة الواردة في بيع الدين(1).

(3) كما يظهر من غير واحد المفروغية عنه. وقال شيخنا الأعظم (قدس سره): (إن ما تحقق أنه ليس بمال عرفاً فلا إشكال ولا خلاف في عدم جواز وقوعه أحد العوضين). لكن سبق منا المنع من ذلك في المسألة الرابعة من مقدمة كتاب التجارة. فراجع.

(4) لأن ذلك هو معيار المالية، كما سبق في أواخر المسألة الأولي من مقدمة كتاب التجارة.

(5) يظهر مما سبق أن المعاملات المذكورة صحيحة ونافذة، وإن لم تترتب عليها آثار البيع. نعم لابد في صحة بيع الحق من قابليته الحق المبيع للنقل. إلا أن يراد ببيعه إسقاطه، فتصح المعاملة علي ذلك.

(6) مما سبق يظهر صحة البيع المذكور.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 15 من أبواب الدين والقرض.

ص: 6

(7)

أن يكون مالاً (1)، سواءً أكان عيناً أم منفعة (2) أم عملاً (3) أم حقاً (4).

---------------

(1) الكلام فيه هو الكلام في اعتبار المالية في المبيع.

(2) كما صرح به غير واحد، وحكي عن غير موضع من التذكرة والقواعد. وعن الوحيد (قدس سره) الخلاف فيه. قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (ولعله لما اشتهر في كلامهم من أن البيع لنقل الأعيان. والظاهر إرادتهم بيان المبيع، نظير قولهم: الإجارة لنقل المنافع).

والعمدة في المقام هو العموم ارتكازاً، الذي لا مجال له في المبيع بعد ما سبق من الفرق بين البيع والإجارة مورداً. وقد يهون الأمر حيث يظهر مما سبق في المبيع أن عدم صحته بيعاً لا يستلزم بطلانه، بل يتعين البناء علي صحته وإن كان عقداً آخر.

(3) الكلام فيه هو الكلام في المنفعة، بل هو من أفرادها. لكن قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (وأما عمل الحر فإن قلنا إنه قبل المعاوضة عليه من الأموال فلا إشكال، وإلا ففيه إشكال، من حيث احتمال اعتبار كون العوضين في البيع مالاً قبل المعاوضة).

وما ذكره (قدس سره) لا يخلو عن غموض. فإن مراده بالمال إن كان هو الأمر الذي له مالية بسبب تنافس العقلاء عليه فلا إشكال في كون عمل الحر كعمل العبد منه، ولولا ذلك لم يقدم العقلاء نوعاً علي محاولة كسبه، وبذل المال بإزائه في الإجارة وغيرها. وإن كان هو الملك، بمعني كونه مملوكاً لصاحبه قبل المعاوضة عليه فمن الظاهر أن ذلك غير معتبر في المقام، لاختصاصه بالأعيان الخارجية دون الذمية، لظهور أن الإنسان لا يملك في ذمته شيئاً، ودون منافع أعيانه التي يملكها وأعمال عبيده الذين يملكهم، مع وضوح إمكان كون الجميع طرفاً للمعاوضة، ومثمناً أو ثمناً في البيع.

(4) إذ بناء علي ما هو الظاهر، من كون الحق نحواً من الملك، فلا مانع من جعل الأمر المحقوق ثمناً. غاية الأمر أنه ليس عيناً. ولا ملزم بكون الثمن في البيع

ص: 7

نعم إذا كان الحق لا يقبل الانتقال كحق الشفعة أو لا يقبل الانتقال إلي خصوص البايع كحق القسم الذي لا يقبل الانتقال إلي غير الضرة (1). ففي جواز جعله ثمناً إشكال، وإن كان هو الأظهر، فيسقط بمجرد وقوع البيع من دون انتقال إلي المشتري (2).

---------------

عيناً، كما سبق. ولو فرض الشك في ذلك تعين البناء علي صحة المعاملة وإن لم تكن بيعاً، نظير ما سبق.

(1) ظاهره أنه يقبل الانتقال إلي الضرة. والكلام فيه موكول إلي محله.

(2) الظاهر أنه لا مجال للبناء علي كون المعاملة بيعاً صحيحاً مع ذلك. بل إن كان المفروض في محل الكلام ما إذا لم يقصد بالمعاملة انتقال الحق للبايع، بل قصد سقوط حق المشتري في مقابل انتقال المبيع له، فالظاهر عدم صدق البيع حينئذ، لابتناء البيع علي صيرورة الثمن عوضاً عن المبيع، وذلك لا يكون إلا بتملك البايع له، ومع فرض عدم انتقال الحق له لا يتحقق ذلك.

ودعوي: أن ذلك ينتقض ببيع الدين علي من هو عليه، أو جعله ثمناً في الشراء منه. مدفوعة بأن النقض بذلك لا يتجه بناء علي إمكان ملك الإنسان لما في ذمته، لا بمعني أن يملكه علي نفسه، لامتناع ذلك ارتكازاً، بل بمعني أن يملك الذات التي انشغلت بها ذمته، فتسقط عن ذمته بسبب الامتناع المذكور، نظير ما إذا كان مديناً لمورثه فمات المورث.

وأظهر من ذلك ما إذا لم يكن موضوع المعاملة عين ما في الذمة، بل مثله في ذمة الدائن، فيسقط ما في الذمة بالتهاتر.

أما إذا كان موضوع المعاملة عين ما في الذمة، وبني علي امتناع ملك الإنسان لما في ذمته حتي بالوجه المتقدم، فالمتعين البناء علي عدم صدق البيع، كما هو الحال فيما نحن فيه من بيع الحق الذي لا يقبل النقل.

ص: 8

(9)

(مسألة 2): يشترط في كل من العوضين أن يكون معلوماً مقداره المتعارف تقديره به عند البيع (1)

---------------

غاية الأمر أنه تقدم أن عدم كون المعاملة بيعاً حقيقياً إنما يقتضي عدم ترتب الأحكام الخاصة بالبيع عليها، وإن كانت صحيحة في نفسها، لعموم أدلة نفوذ العقود.

وإن كان المفروض في محل الكلام ما إذا قصد بالمعاملة انتقال الحق للمشتري ثمناً للبيع تشريعاً، أو للجهل بعدم قابلية الحق المذكور للانتقال، فالمعاملة وإن كانت بيعاً، إلا أن المتعين بطلانها، لعدم تحقق مضمونها. ولا مجال للبناء علي صحتها مع سقوط الحق، لعدم كون ذلك هو المقصود منها، فما قصد لم يقع، وما يدعي وقوعه لم يقصد.

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب، وقد نفي في الغنية الخلاف في بطلان العقد علي المجهول، وادعي في التذكرة إجماع علمائنا علي اعتبار العلم بالعوضين، وفي الخلاف الإجماع علي عدم جواز بيع المكيل جزافاً، ونحوه كلام غيرهم. وبعض الأصحاب وإن لم يتعرض لذلك في كبري تتضمن اشتراط العلم بالعوضين في صحة البيع، إلا أنه يظهر من جملة من كلماتهم الجري عليها، لتعليلهم الفساد في كثير من هذه الموارد بالجهالة.

نعم قد يظهر من بعض كلماتهم عدم الجري عليها. فالسيد المرتضي (قدس سره) في الناصريات حينما تعرض لقول الناصر: (معرفة مقدار رأس المال شرط في صحة السلم) قال: (ما أعرف لأصحابنا إلي الآن نصاً في هذه المسألة. إلا أنه يقوي في نفسي أن رأس مال السلم إذا كان معلوماً بالمشاهدة مضبوطاً بالمعاينة لم يفتقر إلي ذكر صفاته ومبلغ وزنه). وعدده وبذلك صرح الشيخ (قدس سره) في إجارة المبسوط، وهو المناسب لما في الغنية من الاكتفاء في شروط السلم بمشاهدة رأس المال، حيث لم يذكر معرفة

ص: 9

مقداره بالعد أو الوزن.

بل في إجارة المبسوط عمم ذلك لغير السلم. قال: (إذا باع شيئاً بثمن جزافاً جاز إن كان معلوماً مشاهداً وإن لم يعلم وزنه... والثمن في السلم أيضاً يجوز أن يكون جزافاً).

وذكر في بيع المبسوط أنه لا يجوز بيع صبرة من طعام بصبرة من طعام من دون تحديد بكيل إذا كانا من جنس واحد، لئلا يلزم الربا، ويصح إذا كانا من جنسين، لأن التفاضل يصح فيهما. وحكي نحوه عن الإسكافي.

كما حكي عن الإسكافي جواز البيع مع جهل أحدهما بمقدار الثمن، كما لو باعه بسعر ما باعه سابقاً، لكن له الخيار لو علم، علي غموض في كلامه.

ويأتي من الشيخ وابن حمزة وعن الإسكافي جواز بيع الجملة كل مقدار منها بكذا من دون معرفة مقدارها حين البيع، ومن المشهور عدم اعتبار الذرع في المذروع... إلي غير ذلك مما قد يجده المتتبع.

كما يأتي عند الكلام في اعتبار القدرة علي التسليم من بعضهم جواز بيع جملة لا يعلم غلا بسلامة بعضها، نظير ما هو المعروف من جواز بيع العبد الآبق مع الضميمة. وذلك مستلزم للجهل بمقدار البيع، إذ لا معني لبيع ما يسلم. ومن ثم بشكل دعوي الإجماع علي الكبري المذكورة.

وأشكل من ذلك جعله دليلاً في المسألة، لعدم وضوح كونه إجماعاً تعبدياً لو تم. ولاسيما مع عدم تيسر الإطلاع علي فتوي قدماء الأصحاب ممن تعرف فتاواهم من طريق رواياتهم، لعدم وجود رواية من طرق الأصحاب تتضمن الكبري المذكورة، ولو كانت ضعيفة. مضافاً إلي ظهور كثير من كلماتهم في التعويل علي بعض النصوص العامة أو الخاصة وأنها هي الدليل في المسألة، دون الإجماع.

بل كالصريح من المبسوط، حيث قال: (إذا قال: بعتك هذه الصبرة بعشرة

ص: 10

دراهم صحّ البيع، لأن الصبرة مشاهدة، ومشاهدة البيع تغني عن معرفة مقداره. وقد روي أن ما يباع كيلاً لا يباع جزافاً. وهو الأقوي عندي. فإن أجزنا البيع نظر، فإن كان ظاهرها وباطنها واحداً لم يكن للمشتري الخيار...).

ومن هنا لا مجال لإحراز إجماع تعبدي حجة ينهض بإثبات الكبري المذكورة. بل يتعين النظر في النصوص. وقد شاع في كلماتهم الاستدلال بعموم النبوي المشهور المتضمن النهي عن بيع الغرر. وهذا الحديث لم نعثر عليه من طرقنا إلا ما رواه الصدوق بأسانيد ثلاثة عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن الإمام الحسين (عليه السلام) أنه قال: (خطبنا أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: سيأتي علي الناس زمان عضوض... وسيأتي زمان يقدم فيه الأشرار وينسي فيه الأخيار، ويبايع المضطر، وقد نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عن بيع المضطر وعن بيع الغرر...)(1). ونحوه عن صحيفة الإمام الرضا (2)(عليه السلام).

نعم ورد من طرق العامة مستفيضاً. قال في الجواهر عن الحديث المذكور: (المشهور المعتبر المتلقي بالقبول. بل قيل: إنه قد أجمع عليه المؤالف والمخالف القائل بحجية خبر الواحد وغيره، كالسيد المرتضي وابني زهرة وإدريس. بل رُدّ به كثير من الأخبار المسندة المروية من طرق الأصحاب). ومن ثم يقرب الركون له وإن لم يصح سنده.

نعم في بلوغ ذلك حداً يستلزم حجيته إشكال. فإن الصدوق لم يرو الحديث في كتاب الفقيه المعدّ للفتوي، وإنما رواه في كتاب عيون الأخبار المبني علي استقصاء أحوال الإمام الرضا (عليه السلام) وما يتعلق بما في ذلك جمع الأخبار المروية عنه، والكثير عن رجال طرقه فيما يبدو ليسوا من الخاصة.

ولا طريق لإحراز اعتماد فقهائنا علي حديث الصدوق بنحو يكشف عن وثوقهم

********

(1) عيون أخبار الرضا ج: 2 ص: 45 طبعة النجف الأشرف، وقد ذكر الفقرة الأخيرة منه في وسائل الشيعة ج: 12 باب: 40 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 33 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 11

بصدوره، ليكون جابراً لسنده، بل من القريب أخذهم له من العامة، كما يحصل كثيراً منهم، خصوصاً في المعاملات، لأن المعهود من طريقتهم نسبة أحاديثه (صلي الله عليه وآله وسلّم) المروية عن طريق الأئمة (عليهم السلام) لهم، وعدم نسبتها للنبي رأساً، فنسبتهم الحديث له (صلي الله عليه وآله وسلّم) رأساً يناسبه أخذه من العامة.

وهو لا يكشف عن توثقهم من سنده، بل يمكن أن يكون ذكر كثير منهم له مجاراة للعامة، لاشتهاره بينهم، مع كون جريهم علي مضمونه لموافقته للاعتبار بنظرهم، أو لكون موافقته للاعتبار قرينة علي صحته عندهم. وإلا فيصعب جداً توثق أصحابنا من إسناد العامة، مع ما هو المعلوم من اضطراب أمرهم في ذلك.

ولو غض النظر عن السند فمادة الغرر علي ما يظهر من كلمات اللغويين وكثير من الاستعمالات يراد منها:

تارة: التغرير والخديعة، كما في مثل قوله تعالي: (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)(1).

وأخري: الإقدام علي الخطر والتعرض للهلكة، ففي الدعاء الواحد والثلاثين من أدعية الصحيفة السجادية: (هذا مقام من تداولته أيدي الذنوب... فقصّر عما أمرت به تفريطاً، وتعاطي ما نهيت عنه تغريراً)، وفي الدعاء الثالث والخمسين منها: (سبحانك أي جرأة اجترأت عليك، وأي تغرير غررت بنفسي). ولم يتضح استعمال المادة المذكورة في الجهل إلا بلحاظ ملازمته لأحد المعنيين المذكورين.

ومن هنا يبتني الاستدلال به في المقام علي حمله علي المعني الثاني، وهو الذي صرح به غير واحد من اللغويين، حيث فسروا الحديث الشريف، ببيع الخطر. وعليه جري الفقهاء، فقد استدلوا به علي اعتبار القدرة علي التسليم في العوضين، لمنع مثل بيع العبد الآبق والسمك في الماء والطير في الهواء.

********

(1) سورة لقمان الآية: 33.

ص: 12

وحينئذ يمكن تقريب الاستدلال به علي اعتبار العلم بالعوضين بأنه مع الجهل بأحدهما يكون الإقدام علي المعاملة خطراً بلحاظ بعض مراتب المالية.

لكنه يشكل أولاً: بأنه لا شاهد علي حمل الحديث المتقدم علي المعني الثاني، بل يمكن حمله علي المعني الأول، فيساوق ما تضمن النهي عن الغش في البيع. ولاسيما مع ما في لسان العرب، حيث قال: (وأنا غرر منك، أي: مغرور)، فإن مقتضاه أنه قد يراد من الغرر المغرور. بل ذلك هو المناسب لسياقه مع النهي عن بيع المضطر في الحديث المتقدم.

وثانياً: بأنه لا يمكن البناء علي عموم النهي عن البيع الخطري، كيف! ولا إشكال في جواز شراء ما يحتمل تعرضه للتلف بسرقة أو عفن أو غيرهما. وأظهر من ذلك ما لو عمم للخطر بلحاظ بعض مراتب المالية، إذ لا إشكال في جواز القيام بالمعاملات التي لا يعلم مقدار ربحها، بل وإن احتمل ترتب الخسارة عليها. وذلك يكشف عن أن المراد بالغرر المنهي عنه هو الخطر من حيثية خاصة، فيكون مجملاً.

نعم مثلوا له ببيع السمك في الماء والطير في الهواء. فيكون المراد به بيع ما لا يقدر عليه، ولا يضمن حصوله للمشتري، بحيث يكون تمام المال مورداً للخطر. وهو المناسب لما في الانتصار والغنية وظاهر الخلاف من أن الضميمة في بيع العبد الآبق رافعة للغرر.

وقد يشهد لهذا التفسير ما في حديث ابن مسعود: (قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر)(1). وهو وإن لم يتضمن تحديد الغرر بذلك، إلا أنه يكون متيقناً منه بعد ما سبق من إجماله في نفسه.

لكن من الظاهر عدم حجية الخبر المذكور. ويأتي إن شاء الله تعالي في المسألة الخامسة عشرة عند الكلام في اشتراط القدرة علي التسليم ما ينفع في المقام.

********

(1) مسند أحمد ج: 1 ص: 388، سنن البيهقي ج: 5 ص: 340، المعجم الكبير للطبراني ج: 10 ص: 209.

ص: 13

وكيف كان فلا مجال للتعويل علي إطلاق النهي عن بيع الغرر، بنحو يشمل جهالة مقدار أحد العوضين مع العلم بحصوله.

وثالثاً: بأن جهل المتبايعين أو أحدهما بقدر العوضين أو بقدر أحدهما قد لا يوجب الخطر حتي بلحاظ بعض مراتب المالية، كما لو كان هناك جنسان مما يكال أو يوزن مجهولاً المقدار، إلا أنهما بقدر واحد فبيع أحدهما بالآخر، أو كانت هناك صبرة من طعام فبيعت جملة علي أن كل صاع بدرهم، أو علم البايع بقدر المبيع وجهله المشتري، فأقدم علي شرائه بقيمة أقل ما يحتمل فيه. كما علم البايع أن الطعام صاعان وترد عند المشتري بين الصاعين والثلاثة فاشتراه بسعر صاعين، وغير ذلك.

ومن هنا لا مجال للاستدلال في المقام بالعموم المذكور، وليس في المقام إلا النصوص الخاصة التي ذكروها في المقام.

منها: صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه قال في رجل اشتري من رجل طعاماً عِدلاً بكيل معلوم، وإن صاحبه قال للمشتري: ابتع مني هذا العدل الآخر بغير كيل، فإن فيه مثل ما في الآخر الذي ابتعت. قال: لا يصلح إلا بكيل. وقال: ما كان من طعام سميت فيه كيلاً فإنه لا يصلح مجازفة. هذا مما يكره من بيع الطعام)(1).

والاستدلال به من وجهين:

الأول: نهيه (عليه السلام) في صدر الجواب عن بيع العدل الآخر بغير كيل. وأما حمل قوله (عليه السلام): (يصلح) علي الكراهة فلا ينافي صحة البيع. فهو مخالف للظاهر، بل ظاهر عدم الصلاح الفساد.

نعم قد يشكل الاستدلال المذكور بأن المراد من السؤال تارة: بيع العدل بكيل مع تصديق البايع في كيله. وأخري: بيعه جزافاً برجاء صدق البايع في كيله.

فإن حمل علي الأول خرج عن محل الكلام من المنع عن البيع جزافاً. مع أنه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2.

ص: 14

(15)

مخالف لما تضمن جواز تصديق البايع في الكيل مما يأتي بعضه. فلابد من حمله إما علي الكراهة، أو علي فرض إخبار البايع تخميناً من دون اختبار، كما قد يناسبه عدم دعوي البايع كيل العدل الآخر، بل مجرد مماثلته في المقدار للعدل المكيل.

وإن حمل علي الثاني صلح للاستدلال. لكنه لا شاهد عليه، بل لعل الأقرب الأول، لانصراف السؤال لحيثية إحراز الكيل المناسب للمفروغية عن أخذه في البيع. ويناسبه ما يأتي.

الثاني: قوله (عليه السلام): (ما كان من طعام سميت فيه كيلاً...) بحمله علي النهي عن بيع الطعام جزافاً إذا كان من شأنه أن يكال.

وفيه: أنه لا شاهد عليه، بل ظاهر الوصف التنويع، فيرجع إلي النهي عن أخذ الطعام جزافاً إذا كان بيعه بكيل مسمي، وهو الوجه الأول الذي تقدم، وتقدم أنه خارج عن محل الكلام.

والحاصل: أن الظاهر أو المتيقن من الجواب بصدره وذيله المنع من أخذ الطعام جزافاً في فرض بيعه بكيل مسمي، وهو خارج عن محل الكلام. ولا ظهور له في المنع من بيعه جزافاً، لينفع فيما نحن فيه. غايته أن مقتضي صدره عدم تصديق البايع في مفروض السؤال، إما بحمله علي الكراهة، أو علي كون إخبار البايع حدسياً من دون اختبار، وهو أمر آخر.

ومنها: ما تضمن النهي عن بيع الطعام الذي قد ابتيع قبل أن يكال أو يوزن. كصحيح معاوية بن وهب: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل ببيع البيع قبل أن يقبضه. قال: ما لم يكن كِيل أو وُزِن فلا تبعه حتي تكيله أو تزنه، إلا أن توليه الذي قام عليه)(1). وصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): (أنه قال في الرجل يبتاع الطعام ثم يبيعه، قبل أن يكتال قال: لا يصلح له ذلك)(2) وغيرهما. فقد يستدل بها كما في الجواهر

بحملها علي صورة عدم تحقق الكيل في البيع الأول.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 11، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 11، 5.

ص: 15

لكنه كما تري لو تم اقتضي صحة البيع الأول من دون كيل، فيكون علي خلاف المطلوب أدل. ولاسيما مع التفصيل في بعضها كالحديث الأول بين بيع التولية فلا يجب الكيل، وغيره فيجب.

والظاهر أن النصوص المذكورة أجنبية عما نحن فيه وواردة في مقام بيان حكم بيع الإنسان ما اشتراه قبل أن يقبضه في فرض كونه قد اشتراه بكيل. كما يظهر بمراجعتها. ويأتي بعض الكلام فيه

ومنها: ما تضمن النهي عن البيع بصاع غير صاع المصر(1). قال في الجواهر: (فإن إطلاق المنع منه يتناول صورة العلم بالمغايرة).

وفيه: أن المنع كما يتناول صورة العلم بالمغايرة يتناول ما إذا كان الصاع المغاير لصاع المصر معلوم المقدار، وحيث لا إشكال ظاهراً في جواز الكيل به مع علمهما بمغايرته لصاع المصر وبمقداره، فلابد إما من حمله علي خصوص صورة الجهل بالمغايرة، أو حمله علي خصوص الجهل بمقداره ولو مع العلم بالمغايرة، لينفع فيما نحن فيه. ولا قرينة علي الثاني،

بل لعل الأظهر الأول، لقرب انصرافه لصورة الخيانة والغش، كما هو المصرح به في خبر الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (لا يحل لأحد أن يبيع بصاع سوي صاع المصر، فإن الرجل يستأجر الحمال فيكيل له بمدّ بيته، لعله يكون أصغر من مد السوق. ولو قال هذا أصغر لم يأخذ به، ولكنه يحمّله ذلك، ويجعله في أمانته(2).

ومنها: ما دل علي وجوب تقدير المبيع في السلم بالكيل والوزن، كصحيح عبد الله بن سنان: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يسلم في غير زرع ولا نخل فقال: تسمي كيلاً معلوماً إلي أجل معلوم...)(3). قال في الجواهر: (فإن السلف نوع

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 26 من أبواب عقد البيع وشروطه.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 26 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 6 من أبواب السلف حديث: 3.

ص: 16

من البيع).

وفيه: أنه يمكن امتيازه عن بقية أنواع البيع بابتنائه علي نحو من الضبط، لعدم إمكان رؤية المبيع فيه، وتجنباً عن النزاع.

ومنها: صحيح أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام)، وفيه: (قيل له: فما تري في الحنطة والشعير، يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا ويأخذ حظه، فيعزله بكيل، فما تري في شراء ذلك الطعام منه ؟ فقال: إن كان قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه من غير كيل)(1). وهو ظاهر الدلالة علي توقف شرائه من غير كيل علي سبق كيله.

ومنها: موثق سماعة: (سألته عن شراء الطعام وما يكال ويوزن [مما يكال أو يوزن. كافي] هل يصلح شراؤه بغير كيل ولا وزن ؟ فقال: أما أن تأتي رجلاً في طعام قد كيل و [أو] وزن تشتري منه مرابحة فلا بأس إن اشتريته منه ولم تكله ولم تزنه إذا كان المشتري الأول قد أخذه بكيل أو وزن، وقلت له عند البيع: إني أربحك كذا وكذا، وقد رضيت بكيلك ووزنك فلا بأس)(2). ودلالته كالصحيح السابق.

ومنها: ما تضمن أن من أخذ طعاماً بتصديق البايع في كيله ليس له أن يبيعه من غير كيل، كصحيح محمد بن حمران: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): اشترينا طعاماً فزعم صاحبه أنه كاله فصدقناه وأخذناه بكيله. فقال: لا بأس. فقلت: أيجوز أن أبيعه كما اشتريته بغير كيل ؟ قال: لا. أما أنت تبعه حتي تكيله)(3) ، وغيره. حيث تدل هذه النصوص علي عدم جواز البيع من غير كيل في غير مورد تصديق البايع في دعوي الكيل.

اللهم إلا أن يكون المنهي عنه في هذه النصوص ليس هو البيع جزافاً، بل البيع بكيل مع الاكتفاء بتعهد البايع الأول بالكيل في تعهد البايع الثاني به، لبيان أن تعهد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 52 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 7، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 7، 4.

ص: 17

البايع الأول بالكيل إنما يكون حجة علي الكيل في الشراء منه، لا مطلقاً بنحو يصحح تعهد المشتري بالكيل عندما يبيع ما اشتري منه، بل لابد في تعهده به من كيله له بنفسه، خروجاً عن مقتضي الأمانة. وهو خارج عن محل الكلام.

إن قلت: السؤال عن جواز الأخذ بكيل البايع يدل علي المفروغية عن وجوب الكيل إذ لو لم يجب فلا وجه للتوقف فيه والسؤال عنه.

ومثلها في ذلك موثق ابن بكير عن رجل من أصحابنا قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشتري الجص، فيكيل بعضه، ويأخذ البقية بغير كيل. فقال: إما أن يأخذ كله بتصديقه، وإما أن يكيله كله)(1) فإن السؤال عن تصديق البايع في كيل البعض فرع عن وجوب الكيل.

وحديث عبد الملك بن عمرو: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أشتري مائة راوية من زيت، فأعترض راوية أو اثنتين فأتزنهما، ثم آخذ سائره علي قدر ذلك. قال: لا بأس)(2).

وصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): (أنه سئل عن الجوز لا نستطيع أن نعده، فيكال بمكيال، ثم يعدّ ما فيه، ثم يكال ما بقي علي حساب ذلك العدد. قال: لا بأس به)(3).

فإن السؤال عن إحراز الوزن والعدد عن طريق القياس علي الموزون والمعدود فرع وجوب الوزن والعدّ، وعدم جواز البيع جزافاً.

وبالجملة: الإشكال في مقام الإثبات في إحراز الكيل والوزن والعدد فرع المفروغية في مقام الثبوت عن وجوبه.

قلت: السؤال عن إحراز الكيل أو الوزن أو العدد بإخبار البايع وغيره من الطرق غير العلمية إنما يتفرع علي ابتناء البيع الواقع علي الكيل أو الوزن أو العدد، ل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 3، 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 3، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

ص: 18

علي لزوم ابتنائه علي أحدها، بحيث لا يجوز البيع جزافاً. بل يمكن جواز البيع جزافاً، إلا أنه لو ابتني البيع علي الكيل أو الوزن يقع الإشكال والسؤال في أنه هل يلزم العلم بهما، أو يكتفي بإحرازهما بالطرق غير العلمية، كإخبار البايع، والقياس علي الموزون والمعدود وغير ذلك، مما تضمنته النصوص. نظير ما تقدم في صحيح الحلبي الأول.

نعم قد تستفاد المفروغية عن وجوب الكيل من حديث عبد الكريم بن عمرو: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أشتري طعام فأكتاله ومعي من شهد الكيل، وإنما أكيله لنفسي، فيقول: بعنيه، فأبيعه إياه علي ذلك الكيل الذي اكتلته. قال: لا بأس)(1) وما في خبر أبي العطارد عنه (عليه السلام): (قلت: فأخرج الكر والكرين، فيقول الرجل: أعطنيه بكيلك. قال: إذا ائتمنك فلا بأس)(2). وقريب منه خير ابن حجاج الكرخي(3).

فإن السؤال فيها ليس عن إحراز الكيل بالطرق غير العلمية، لفرض أن السائل قد كال الطعام بنفسه، بل عن لزوم تكرار الكيل عند بيعه له، ومن الظاهر أنه لولا المفروغية عن لزوم ابتناء البيع علي الكيل وعدم جواز البيع جزافاً لم يكن موقع للسؤال المذكور. بل قوله (عليه السلام) في خبر أبي العطار: (إذا ائتمنك فلا بأس) كالصريح في أن البيع إنما يجوز إذا ابتني علي الائتمان في إحراز الكيل الذي هو فرع وقوع البيع عليه، وأنه لا يصح إذا كان جزافاً مبتنياً علي إهمال الكيل.

هذه هي النصوص التي يستدل بها في المقام. وقد ظهر أن ما ينهض بالاستدلال هو صحيح أبي عبيدة وموثق سماعة، معتضدين بالمفروغية المستفادة من أحاديث عبد الكريم وأبي العطارد والكرخي.

وهي كما تري مختصة بالمكيل والموزون. والتعدي منهما لجميع جهات التحديد كالعد والمساحة في مثل الأرض والثياب يحتاج إلي دليل. والاستدلال عليه بحديث النهي عن بيع الغرر قد عرفت حاله.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2، 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 19.

ص: 19

نعم استدل شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره بصحيح الحلبي المتقدم لاعتبار العلم بالعدد في المعدود بناء علي الوجه المتقدم الذي عرفت الاشكال فيه.

ثم إن أكثر النصوص المتقدمة مختصة بالطعام، إلا أن موثق سماعة يعمّ كل مكيل وموزون علي رواية التهذيب والوسائل، ويختص بالطعام علي رواية الكافي، ولا يبعد فهم العموم منه بحمله علي تبعية الحكم للقيد من دون خصوصية للطعام.

كما أن مقتضي الإطلاق في الموثق وجوب الكيل والوزن فيه حتي لو لم يتوقف عليهما دفع الغرر، كما لو كان العوضان مجهولي المقدار، إلا أنهما بوزن واحد.

هذا كله في المبيع وأما الثمن فلم يذكر ما يشهد باعتبار العلم فيه عدا ما عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه كره أن يشتري بدينار غير درهم، لأنه لا يدري كم الدينار من الدرهم)(1).

لكن سنده لا يخلو عن خدش، لعدم ثبوت وثاقة بعض رواته، واختلاف الطرق والنسخ في روايته عن الإمام (عليه السلام)، كما يظهر بمراجعة المصادر. وقد جمعها بعض مشايخنا (قدس سره) في ترجمة حماد بن ميسر.

وأما دلالته فقد تقرب بلحاظ أن مقتضي التعليل فيه مانعية الجهالة من صحة البيع، بناء علي ظهور الكراهة في البطلان. لكن قد يشكل بعد تسليم ظهور الكراهة في أمثال المقام في البطلان بغلبة معرفة نسبة الدرهم للدينار عند إيقاع المعاملة، حيث قد يوجب ذلك الريب في التعليل.

ولاسيما مع ما موثق السكوني عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) عن علي (عليه السلام): (في رجل يشتري السلعة بدينار غير درهم إلي أجل، قال: فاسد. فلعل الدينار يصير بدرهم)(2). وخبر وهب عنه (عليه السلام) عن أبيه: (أنه كره أن يشتري الرجل بدينار إلا درهم وإل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 23 من أبواب أحكام العقود حديث: 1، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 23 من أبواب أحكام العقود حديث: 2.

ص: 20

درهمين نسية، ولكن يجعل ذلك بدينار إلا ثلثاً، أو إلا ربعاً...)(1).

لظهورهما في خصوصية النسيئة في المنع بلحاظ احتمال تبدل نسبة الدينار للدرهم، من دون عموم للمنع بلحاظ جهالة نسبة الدرهم للدينار.

ولعل المنع من ذلك في النسيئة لخصوصية فيها، لاحتمال ابتنائها علي نحو من الضبط، ولو لتجنب النزاع، نظير السلف. ولربما يكون ذلك هو الوجه فيما حكي عن الاسكافي من الاقتصار في المنع من نحو ذلك علي بيع النسيئة، بينما عمم غيره المنع.

هذا وعن الحدائق الاستدلال علي عدم قدح الجهل بالثمن بصحيح رفاعة النخاس: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ساومت رجلاً بجارية فباعنيها بحكمي، فقبضتها منه علي ذلك، ثم بعثت إليه بألف درهم، فقلت: هذه ألف درهم حكمي، عليك أن تقبلها. فأبي أن يقبلها مني، وقد كنت مسستها قبل أن أبعث إليه بالثمن. فقال: أري أن تقوم الجارية قيمة عادلة، فإن كانت قيمتها أكثر مما بعثت إليه كان عليك أن ترد عليه [إليه. يب] ما نقص من القيمة، وإن كان ثمنها أقل مما بعثت إليه فهو له. قلت: جعلت فداك إن وجدت بها عيباً بعد ما مسستها. قال: ليس لك أن تردها. ولك أن تأخذ قيمة ما بين الصحة والعيب منه)(2).

وهو كالصريح في صحة البيع. غاية الأمر أن حكم الإمام (عليه السلام) بالرجوع للقيمة السوقية، مع عدم استرجاع الزائد عليها لو كانت دون الألف التي دفعها يحتاج للتوجيه، إذ مقتضي تبعية الثمن لحكم المشتري هو الاكتفاء بالألف زادت أو نقصت عن القيمة السوقية. ولو فرض تنزيله علي البيع بالقيمة السوقية مع تحكيمه في تعيينها، بأن يكون حكمه كاشفاً عن الثمن، لا معياراً فيه، فاللازم الرجوع بالزائد عليها لو كانت دون الألف.

ولعل الأقرب توجيهه بأن تحكيم البايع للمشتري في الثمن مقيد لباً بعدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 23 من أبواب أحكام العقود حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 18 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

ص: 21

(22)

الإخلال بالقيمة السوقية مع توقع الزيادة عليها، فإن ذلك هو المعلوم من طريقة العرف في تعاملهم، وليس بناؤهم علي التسامح في ذلك إلا في حالات خاصة تبتني علي الإيثار أو شدة الحاجة للمال، كما ذكر ذلك في الجملة بعض مشايخنا (قدس سره). ولو فرض حمله علي التحكيم في تعيين القيمة السوقية فحكمه علي نفسه بالزيادة قد يلزم عليه بعد قبض البايع لها، لأنه أشبه بالصلح.

ودعوي: أن ذلك لا يناسب عمل رفاعة، لأنه لو فهم من البيع المذكور أحد الوجهين لراعي القيمة السوقية، ولو راعاه لذكر ذلك للإمام (عليه السلام) حينما أمره بمراعاتها.

مدفوعة بأنه لا يبعد مراعاته لها من دون تثبت وتأكد، فيرجع أمر الإمام (عليه السلام) بها إلي الأمر بالتثبت منها، وعدم الاكتفاء بالتخمين تسامحاً.

وكيف كان فإن تم التوجيه المذكور فذاك، وإلا تعين حمل ما تضمنه الصحيح علي أنه حكم تعبدي من دون أن يخل بدلالته علي صحة البيع. نظير ما ورد فيمن تزوج امرأة علي حكمه أو علي حكمها(1).

وأما حمل البيع بحكمه كما في كلام غير واحد علي توكيل البايع للمشتري في تولي طرفي المعاملة بعد تعيين الثمن المناسب بنظره.

فهو خروج عن ظاهر الصحيح أو صريحه من دون أن ينهض بدفع الإشكال السابق. بل قد يزيد الأمر تعقيداً، إذ مع عموم التوكيل لما حصل من رفاعة من تعيين الثمن بالألف يتعين نفوذه وعدم الحاجة لمراعاة القيمة السوقية. ومع عدمه يتعين بطلان الشراء، وانحصار الأمر بإرجاع الجارية، أو مساومة مالكها علي ثمن خاص من أجل تجديد شرائها.

ومن هنا كان الظاهر نهوض الصحيح في نفسه بجواز البيع بحكم المشتري.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 21 من أبواب المهور.

ص: 22

لكن مع مراعاته في حكمه للقيمة السوقية، ونفوذ الزيادة عليه لو زاد عليها.

نعم قد يدعي سقوطه عن الحجية بهجر الأصحاب له لعدم ظهور فتواهم بمضمونه. لإطلاقهم عدم جواز الجهالة في الثمن، ودعوي غير واحد منهم الإجماع علي ذلك. وتصريح غير واحد ببطلان البيع بحكم أحدهما، وتصريح آخرين ببطلانه بحكم المشتري كما في المقنعة والنهاية وعن وابن البراج وأبي الصلاح وغيرهم. بل في التذكر والروضة وعن غيرهم الإجماع علي ذلك. وفي الروضة رمي الصحيح المتقدم بالشذوذ، بل في مفتاح الكرامة: (رماها جماعة بالشذوذ والندرة).

لكنه لا يخلو عن إشكال بعد ظهور اعتماد الكليني والصدوق علي الصحيح، لابتناء كتابيهما علي انتقاء الأحاديث الصحيحة المعول عليها عندهما. وربما كان ذلك حال من قبلهما ممن لا تعرف فتاواه إلا من طريق الروايات التي يرويها من أجل العمل بها. بل حتي الشيخ في التهذيب، حيث ذكره في الباب المناسب، من دون أن يظهر منه التوقف في العلم به.

بل حتي هو نفسه في النهاية والمفيد في المقنعة وابن البراج وأبي الصلاح فيما حكي عنهما. فإنهم وإن حكموا ببطلان البيع كما سبق وأن للبايع انتزاع المبيع من المشتري، إلا أنهم صرحوا بأن المبيع لو تلف لزمه القيمة، إلا أن يحكم علي نفسه بأكثر منها، فيلزمه ما حكم به. ومن الظاهر أن ذلك لا وجه له إلا الصحيح.

بل قد يظهر من الشيخ (قدس سره) في النهاية الصحة في نظير المسألة، وهو ما إذا كان الشراء بحكم البايع، لأنه لم يحكم ببطلان البيع، وإنما قال: (فإن ابتاعه بحكم البايع في ثمنه فحكم البايع بأقل من القيمة كان ذلك ماضياً ولم يكن له أكثر من ذلك، وإن حكم بأكثر من قيمته لم يكن له أكثر من القيمة في حال البيع...). وهو غريب جداً. إلا أن يكون قد اكتفي عن التنبيه للبطلان هنا بتصريحه به في مسألتنا.

وأغرب من ذلك ما في الغنية، حيث قال: (ومن باع بشرط حكم البايع أو المشتري في الثمن فالبيع فاسد، لما قدمناه من الجهالة بالثمن. فإن تراضيا بإنفاذه

ص: 23

(24)

فحكم المشتري بالقيمة فما فوقها، أو حكم البايع بالقيمة فمادونها مضي ما حكما به، وإن حكم البايع بأكثر والمشتري بأقل لم يمض).

إذ مع فساد البيع كيف يترتب الأثر علي تراضيهما بإنفاذه، بحيث يمضي حكمهما في الثمن علي التفصيل المذكور؟! وإنما يتجه ذلك بناء علي العمل بالصحيح ولو في بعض مضمونه.

وذلك بمجموعه يكشف عن اضطرابهم بنحو يصعب معه ترتيب الأثر علي هجرهم. وكان ذلك ناشئ عن استحكام كبري بطلان البيع مع الجهالة التي لم يتضح منشؤها وقد خرجوا عنها في بعض الموارد، كما سبق.

بقي في المقام أمران:

الأول: أنه روي جميل في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في رجل اشتري طعاماً كل كر بشيء معلوم، فارتفع الطعام أو نقص وقد اكتال بعضه، فأبي صاحب الطعام أن يسلم له ما بقي، وقال: إنما لك ما قبضت. فقال: إن كان يوم اشتراه ساعره علي أنه له فله ما بقي، وإن كان اشتراه ولم يشترط ذلك فإن له بقدر ما نقد)(1). وفي صحيحه الآخر (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): اشتري رجل تبن بيدر، ركل كرّ بشيء معلوم، فيقبض التبن ويبيعه قبل أن يكال الطعام. قال: لا بأس به)(2). ومقتضاهما جواز شراء الطعام والتبن من دون معرفة مقدارهما، ولا مقدار ثمنهما، وغايته أن يعين لكل كر من الطعام أو تبن الكر منه ثمناً، ثم يعرف مقدار المبيع والثمن بعد أن يكال الطعام.

ويظهر من جملة النصوص شيوع مثل هذا البيع في المكيل والموزون، ففي صحيح معاوية بن وهب: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه. فقال: ما لم يكن كيل أو وزن فلا تبعه حتي تكيله أو تزنه، إلا أن توليه الذي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 26 من أبواب أحكام العقود حديث: 3.

(2) الكافي ج: 5 ص: 180. واللفظ له. وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 عقد البيع وشروطه حديث: 1.

ص: 24

قام عليه)(1) ، وصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): (أنه قال في الرجل يبتاع الطعام ثم يبيعه قبل أن يكال. قال: لا يصلح له ذلك)(2) ، وخبر خالد بن حجاج الكرخي: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أشتري الطعام من الرجل، ثم أبيعه من رجل آخر قبل أن أكتاله، فأقول: ابعث وكيلك حتي يشهد كيله إذا قبضته قال: لا بأس)(3). ونحوها غيرها.

فإنها صريحة في تحقق البيع وملك المشتري للطعام المبيع قبل أن يكال، ولا يكون ذلك إلا لكون التحديد بالكيل مبنياً علي مقابلة كل وحدة تفرض بما يقابلها بالثمن بنحو تحفظ فيه نسبة المالية بين العوضين، فالتحديد به أشبه ما يكون بالقضية الحقيقية.

هذا وقد يدعي مخالفة هذه النصوص لما عليه الأصحاب من اعتبار العلم حين البيع بقدر العوضين، فتسقط عن الحجية بالهجر. ولاسيما مع تصريح جمع بعدم صحة مثل هذا البيع.

لكن لا مجال لذلك بعد فتوي الإسكافي والشيخ وابن حمزة بمضمونها في الجملة، ففي كلام محكي عن الاسكافي ما يظهر منه جواز بيع الصبرة من الطعام كل كر بكذا، وصرح في النهاية والوسيلة بجواز بيع تبن البيدر لكل كر من الطعام تبنة بشيء معلوم، وصرح في المبسوط والخلاف بجواز بيع الصبرة من الطعام كل قفيز بدرهم، وبيع السمن كل رطل بدرهم، وبيع الدار كل ذراع بدينار، كما يظهر من الكليني الاعتماد علي صحيحي جميل.

ومن الغريب ما في الشرايع من عدم جواز ذلك في بيع الصبرة والدار بالكيل والذراع، وجوازه في بيع السمن بظروفه بالوزن. وما في الجواهر من حمل الأخير علي صورة العلم بوزن المجموع لا قرينة عليه.

وكيف كان فالمتعين البناء علي جواز ذلك مطلقاً بعد وفاء النصوص به وعمل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 11.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 5، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 5، 3.

ص: 25

(26)

من عرفت بها فيحمل ما دلّ علي وجوب التحديد بالكيل أو غيره علي ما يعم التحديد بالوجه المذكور.

وكذا الحال في النهي عن بيع الغرر بناء علي عمومه لما نحن فيه، حيث يتعين حمله علي الغرر بالنحو الذي لا تراعي فيه نسبة المالية بين العوضين، دون الغرر من سائر الجهات.

وأظهر من ذلك الحال في غير المكيل والموزون مما لم يقم دليل علي وجوب التحديد فيه، كالمعدود بناء علي ما سبق وما تتقوم ماليته بمساحته كالثوب والأرض. بل حتي بيع قطيع الغنم كل رأس بكذا. لأن هذه الأمور وإن لم ترد فيها نصوص خاصة، إلا أن الصحة فيها مقتضي العمومات. ولاسيما بعد ورود النصوص المتقدمة في نظائرها من المكيل والموزون.

ومن الغريب أن غير واحد من الأصحاب ممن تعرض لذلك مجوزاً أو مانعاً لم يشر لهذه النصوص، حيث يوهم ابتناء مذهب المجوزين علي مجرد الاجتهاد منهم في الاكتفاء بذلك في العلم المعتبر في العوضين، مع رده باشتمال البيع فيها علي الغرر والجهل المفروغ عندهم عن مانعيتها من صحته. فراجع ما ذكروه في صور بيع الصبرة.

نعم أشار لصحيح جميل الثاني في السرائر، وذكر أن الأولي رده، لأنه بيع مجهول، نظير بيع الصبرة كل قفيز بدينار، وهو باطل بالإجماع.

لكن عرفت تصريح الشيخ بالجواز في بيع الصبرة المذكور أيضاً. كما أن رد الصحيح للوجه الذي ذكره ظاهر الوهن، لأن عدم جواز بيع المجهول ليس حكماً عقلياً غير قابل للتخصيص.

الثاني: قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (لو وقعت معاملة الموزون بعنوان معلوم عند أحد المتبايعين دون الآخر كالحقة والرطل والوزنة باصطلاح أهل العراق الذي لا يعرفه غيرهم، خصوصاً الأعاجم غير جائز، لأن مجرد ذكر أحد العنوانات عليه

ص: 26

(27)

من كيل أو وزن أو عدّ أو مساحة (1)، فلا تكفي المشاهدة، ولا تقديره بغير المتعارف فيه عند البيع (2)، كبيع المكيل بالوزن وبالعكس،

---------------

وجعله في الميزان ووضع صخرة مجهولة المقدار معلومة الاسم في مقابله لا يوجب للجاهل معرفة زائدة علي ما يحصل بالمشاهدة).

وفيه: أن الزائد في المقام هو معرفة أن الموزون بالغ المقدار المضبوط المعهود عند أهل البلد الذي عليه التعامل بينهم. وهذا مخرج عن الجزاف، ومحقق لعنوان الوزن أو الكيل المعتبرين. وإلا فمعرفة تفاصيل المكاييل والأوزان مقصورة علي الخاصة، ولا تعرفها عامة الناس، حتي من أهل البلد.

علي أنه تكفي السيرة في المقام شاهداً علي الجواز، لظهور أن الابتلاء بالسفر لا يختص بزمان، واختلاف البلدان في مقادير المكاييل والموازين شايع، والجهل بالنِسَب بينهما أشيع، والتعرف عليها أصعب، خصوصاً في العصور السابقة، لعدم تيسر وسائل الضبط. فلو بني علي لزوم العلم بها لوقع الهرج والمرج ولكثر السؤال عن الحلّ، وحيث لا أثر لذلك تعين اكتفاء الشارع بالرجوع لكيل البلد ووزنه.

هذا وأما الاستدلال علي الجواز بما تضمن لزوم كون البيع بصاع المصر(1) ، فهو في غير محله، لأن الظاهر ورود المضمون المذكور لبيان عدم جواز الغش والتطفيف، كما تقدم عند الكلام في أدلة المسألة. فلاحظ.

(1) يأتي منه (قدس سره) في المسألة الرابعة ما يظهر منه التوقف في وجوب التقدير بالمساحة.

(2) كما صرح به غير واحد. عملاً بظاهر دليل التقدير بكل وجه من الوجوه المعتبرة. ودعوي: أن مقتضي عمومات النفوذ عدم وجوب التقدير، وقد سبق انه لا مخرج عن ذلك إلا في المكيل والموزون، وموثق سماعة الوارد فيهما معاً إنما تضمن

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 26 من أبواب عقد البيع وشروطه.

ص: 27

وجوب أحدهما، من دون أن يصرّح فيه بالتقسيم ولا بالتخيير، ومع إجماله من هذه الجهة يتعين الرجوع لعمومات النفوذ المقتضية للاكتفاء بكل منهما، المطابق للتخيير عملاً.

مدفوعة بأن ذلك وإن كان هو مقتضي الجمود علي عبارة الموثق، إلا أن المناسبات الارتكازية قاضية بأن اعتبار التقدير بكل منهما إنما هو من أجل معرفة مقدار مالية المقدر، ولذا لا يكتفي بالتقدير بالكيل والوزن غير المعروفي المقدار، وذلك يقتضي الاقتصار في كل مقدر علي ما يتعارف تقديره به من كيل أو وزن، بحيث ينحصر معرفة مقداره بلحاظ ماليته عرفاً به، وعدم الاجتزاء في تقديره بالآخر إذا لم تعرف ماليته به عرفاً.

مضافاً إلي أن مقتضي صحيح أبي عبيدة لزوم الكيل في المكيل وعدم الاجتزاء بالوزن فيه بدلاً عنه، وهو يصلح شاهداً علي حمل موثق سماعة علي التقسيم. فلاحظ.

هذا وقد احتمل في اللمعة الاجتزاء بكل منهما في مورد الآخر ووجهه في الروضة بالانضباط، وبرواية وهب الآتية. واستوجهه في الدروس في السلم، قال: (ولو أسلم في المكيل وزناً أو بالعكس فالوجه الصحة، لرواية وهب عن الصادق عليه السلام).

ومراده بها رواية وهب عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام): (قال: لا بأس بالسلف ما يوزن فيما يكال، وما يكال فيما يوزن)(1). وقد استشكل في الاستدلال بها لذلك بضعفها سنداً ودلالة.

أما السند فلضعف وهب، وقد رماه غير واحد بالكذب، بل عن الفضل بن شاذان أنه كان من أكذب البرية، وفي معتبر العباس بن هلال عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال عنه: (لقد كذب علي الله وملائكته ورسله).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 7 من أبواب السلف حديث: 1.

ص: 28

نعم ذلك لا يتناسب مع إيداع الأصحاب رواياته في الفقه في كتبهم، حتي أن للصدوق (قدس سره) له طريقاً في كتاب من لا يحضره الفقيه الذي صرح بأنه لا يودع فيه إلا ما هو يفتي به ويحكم بصحته ويعتقد أنه حجة فيما بينه وبين ربه تقدس ذكره وتعالت قدرته، وأن جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع. وقد افتي الشهيد (قدس سره) اعتماداً علي هذه الرواية بمثل هذا الحكم المخالف لما هو المعلوم من مبانيهم خصوصاً المتأخرين من الإصرار علي اعتبار العلم بالعوضين.

ومن ثم لا يبعد ظهور بعض القرائن لهم توجب الوثوق بمثل هذه الرواية، كما يناسبه ما عن كتاب ابن الغضائري، حيث قال: (وهب بن وهب... أبو البختري القاضي كذاب عامي، إلا أن له عن جعفر بن محمد عليهما السلام أحاديث كلها يوثق بها).

غاية الأمر أن خفاء هذه القرائن علينا يمنعنا من الاعتماد علي هذه الرواية وأمثالها. ولاسيما مع عدم ظهور انجبارها بعمل قدماء الأصحاب غير الصدوق.

وأما الدلالة فقد قال في مفتاح الكرامة تعقيباً علي كلام الشهيد: (وفيه: أن الظاهر من معني الرواية إنما هو أنه لا بأس بسلف المكيل في الموزون وبالعكس. يعني: أن يكون أحدهما ثمناً للآخر مثمناً، لا ما ذكره من كيل الموزون ووزن المكيل. ويشير إلي ذلك أن الشيخ ذكر الرواية في باب إسلاف السمن في الزيت...). وقد جري علي ذلك غير واحد ممن تأخر عنه.

وهو مبني علي حمل (في) علي معني باء العوض، وهو مخالف للظاهر، ولذا عنون الشيخ في الاستبصار الباب بالباء، فقال: (باب إسلاف السمن بالزيت)، وذكر فيه حديث عبد الله بن سنان: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا ينبغي للرجل إسلاف السمن بالزيت، ولا الزيت بالسمن)(1). ولاسيما أن وضوح جواز ذلك بحد يبعد معه تعرض الرواية له، لوضوح أن غالب الأثمان هو الدراهم والدنانير التي هي

********

(1) الاستبصار ج 3 ص 79.

ص: 29

من الموزون، وأغلب ما يسلم فيه هو الطعام الذي هو من المكيل. ومن ثم قد يكون المراد بالرواية ما فهمه الشهيدان.

وإن كان الإنصاف أنه لا يناسب تركيبها اللفظي أيضاً، والبناء علي إجمالها هو الأنسب. والأمر سهل بعد عدم حجية الرواية.

وأما ما سبق من الروضة من توجيه احتمال الاجتزاء بكل منهما بدل الآخر بالانضباط، فيدفعه أن المراد بالانضباط ليس هو الانضباط في الجملة. ولذا لا إشكال في عدم الاجتزاء بالوزن والكيل غير المعروفين، بل الانضباط بلحاظ مقدار المالية، فإذا كان مقدارها تابعاً عرفاً لأحد التقديرين فالتقدير بالآخر لا يحقق الانضباط المطلوب.

وربما قيل بالتفصيل بين وزن المكيل وكيل الموزون، فيجوز الأول، كما عن المبسوط والسرائر وظاهر الشرايع، وفي الرياض أنه المشهور، دون الثاني، فعن السرائر أن ما يباع وزناً لا يباع كيلاً بلا خلاف.

وقد يستدل له بوجوه:

الأول: أن الوزن أضبط من الكيل. وفيه: أن كلاً منهما يضبط المقدر من جهة خاصة فالوزن يضبطه بلحاظ كثافته، والكيل يضبطه بلحاظ حجمه، ومع تبعية المالية لإحدي الجهتين دون الأخري يكون الضبط من الجهة الأخري خارجاً عن موضوع دليل لزوم التقدير بالكيل والوزن، كما يظهر مما سبق.

الثاني: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن بيع المكيل وزناً ليس من بيع المجازفة المنهي عنه في الأخبار ومعقد الاجماعات.

وفيه: أولاً: أنه لا يمكن أن يراد بالمجازفة عدم الضبط من جميع الجهات، لما عرفت من عدم الإشكال في عدم الاجتزاء بالوزن والكيل غير المعروفين، بل أن يراد بها عدم الضبط بلحاظ مقدار المالية، فإذا كان مقدارها تابعاً للكيل كان البيع بالوزن

ص: 30

من بيع المجازفة. وبعبارة أخري: مقتضي الأدلة المتقدمة وجوب كيل المكيل ووزن الموزون، لا مجرد منع البيع المجازفة.

وثانياً: أن لازمه الاجتزاء بالكيل في الموزون، لعدم كونه بيع مجازفة بالمعني الذي ذكره. والتفريق بينهما في ذلك غير ظاهر. ولا ينفع فيه نفي الخلاف المتقدم عن السرائر، لظهور عدم نهوضه بالحجية.

الثالث: ما عن الإيضاح من أن الوزن أصل الكيل.

وفيه: أولاً: أنه وإن كان مسلماً في الجملة، كما يظهر مما ذكروه تحديد المد والصاع والكر، إلا أنه لا يتيسر لنا الجزم به بنحو العموم. بل الوزن المشهور هذه الأيام الذي أصله الغرام متفرع علي الكيل، لأن الغرام هو وزن السنتمتر المكعب من الماء المقطر.

وثانياً: أنه لا ينفع إذا صارت مالية الجنس المقدر تابعة لكيله، كما هو المفروض في المقام.

نعم لو ثبت أن مالية كل جنس مكيل تابعة لوزنه، وأن الاكتفاء فيه بالكيل لأنه يرجع إليه ولو تقريباً، للتسامح في الفرق، اتجه الاكتفاء بالوزن في المكيلات، لرجوع ذلك إلي أنها موزونة حقيقية. والي ذلك يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره)، حيث قال: (والمحكي بالتتبع أن الوزن أصل الكيل، وأن العدول إلي الكيل من باب الرخصة. وهذا هو معلوم لمن تتبع موارد تعارف الكيل في الموزنات).

لكن عهدة ذلك علي مدعيه. وشيخنا الأعظم (قدس سره) إنما ادعي العلم بذلك في المكيلات الموزونة، لا في جميع المكيلات.

ومن هنا لا مخرج عما سبق من لزوم الاقتصار في كل جنس علي التقدير بالوجه الذي يعرف به مقدار ماليته عرفاً.

نعم لو فرض معرفة مقدار ماليته بكل من الوجهين عرفاً، تعين التخيير في تقديره بين الوجهين حتي في البلد الذي يتعارف تقديره بخصوص أحدهما، لأنه

ص: 31

(32)

أسهل، أو لمجرد التعارف. لما ذكرناه آنفاً من قضاء المناسبات الارتكازية بأن التقدير بالكيل والوزن من أجل ضبط مقدار مالية المبيع. ولا يبعد كون غالب المكيلات كذلك.

وكذا الحال لو فرض معرفة مالية الشيء بالعدّ أيضاً حيث يتعين الاكتفاء في تقديره بكل من الوجوه الثلاثة وإن تعارف خصوص بعضها، لعدم نهوض موثق سماعة بالمنع عن ذلك بعدما سبق من اختصاصه بالتقدير الدخيل في معرفة مقدار مالية المقدر.

بقي في المقام أمور:

الأول: أن تقدير الشيء بغير ما يتعارف تقديره به تارة: يكون مبنياً علي الإعراض عن تقديره بما يتعارف تقديره به، ويكون في قباله، وهو الذي تقدم الكلام فيه.

وأخري: يكون في طول تقدير بما يتعارف تقديره من أجل إحرازه به، كما إذا وزنت كيلة من الطعام الذي من شأنه أن يكال ثم وزن الباقي منه بقدرها، أو كيل رطل من الزيت الذي من شأنه أن يوزن ثم كيل الباقي منه بقدره، وهكذا الحال في المعدود.

ولا إشكال في الاجتزاء به لو أوجب العلم بالمقدار المعتبر في ذلك الشيء بالأصل، لظهور أن اعتبار التقدير بالمقادير المذكورة إنما هو من أجل معرفة مقدار الأمر المقدر بحسبها، لا لاعتبارها تعبداً، فمع فرض العلم يتحقق المقدار المذكور من طريق آخر يتعين الاجتزاء به، ولا يحتاج للقيام بعملية التقدير. وإنما الكلام فيما إذا احتمل الفرق. وحينئذ فالفرق المحتمل تارة: يكون قليلاً يتسامح فيه. وأخري: يكون كثيراً لا يتسامح فيه.

أما الأول فقد ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره أنه يجتزأ به، لأنه تقدير للشيء بما يتعارف تقديره به.

ص: 32

ويشكل بأن المفروض أن التقدير الذي يناط به معرفة ماليته هو التقدير الآخر الذي لم يقدر به، وأن تقديره بالوجه الذي قدر به ليس لكونه معياراً في معرفة ماليته، بل لجعله طريقاً لمعرفة التقدير المطلوب الذي لم يقدر به، بحيث يكون أمارة عليه، ومن الظاهر أن الأمارية المذكورة تحتاج إلي دليل، نظير ما يأتي في المسألة الثالثة من تصديق قول البايع في الكيل والوزن.

وقد يستدل في المقام بخبر عبد الملك بن عمرو: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أشتري مائة رواية من زيت فاعترض رواية أو اثنتين، فأتزنهما، ثم آخذه سائره علي قدر ذلك. قال: لا بأس)(1).

لكنه مع غض النظر عن سنده إن حمل علي العلم باتفاق الروايات في الوزن خرج عن محل الكلام. وإن حمل علي الظن بذلك، نتيجة تشابهها، مع التسامح في الفرق، رجع إلي حجية الظن، لا إلي حجية الكيل علي تعيين مقدار الوزن، لعدم كيل الروايا الباقية.

كما أنه لا يناسب صحيح الحلبي المتقدم عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه قال: في رجل اشتري من رجل طعاماً عدلاً بكيل معلوم، وإن صاحبه قال للمشتري: ابتع مني هذا العدل الآخر بغير كيل، فإن فيه مثل ما في الآخر الذي ابتعت. قال: لا يصلح إلا بكيل...)(2) ، بناء علي ما سبق من حمله علي أن إخبار البايع عن تخمين.

اللهم إلا أن يحمل علي الكراهة. أو يفرق بينهما بأن الصحيح وارد في إخبار البايع عن تخمين، وخبر عبد الملك وارد في ظن المشتري بنفسه بسبب تشابه الروايا، ويعمل بكل منهما في مورده.

كما أن خبر عبد الملك وإن لم يكن مما نحن فيه، إلا أن ما نحن فيه مثله، بل أولي منه، لاحتمال الفرق بين الروايات في الحجم قليلاً، وعدم احتمال ذلك المقام بعد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 عقد البيع وشروطه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 عقد البيع وشروطه حديث: 2.

ص: 33

فرض تكرار الكيل بكيل واحد. فالظاهر نهوضه بالمطلوب لولا الإشكال في سنده، لعدم ثبوت وثاقة عبد الملك بوجه يعتمد عليه، وإن كانت مظنونة.

هذا وفي صحيح الحلبي عنه (عليه السلام): (أنه سئل عن الجوز لا نستطيع أن نعده، فيكال بمكيال ثم يعد ما فيه، ثم يكال ما بقي علي حساب ذلك العدد. قال: لا بأس به)(1).

لكنه مع اختصاصه بصورة تعسر العد وارد في كيل المعدود، الذي لا دليل فيه علي وجوب العد، إلا ما قد يدعي من دلالة هذا الصحيح عليه، كما يظهر مما سبق، فكيف يمكن التعدي منه لوزن المعدود، فضلاً عن وزن المكيل وكيل الموزن، مع ما سبق من وفاء النصوص بوجوب كيل الأول ووزن الثاني.

اللهم إلا أن يقال: بعد فرض ابتناء البيع في الموزون علي الوزن وعدم الجزاف فالإشكال إنما هو في إحراز الوزن، وهو بذلك يشارك ما يبتني فيه البيع علي العد، وإن لم يجب العد، وبلحاظ ذلك يكون فهم العموم من صحيح الحلبي للموزن قريباً جداً. وأما التقييد بتعسر العد فقد وقع في كلام السائل ومن البعيد جداً دخله في الجواز. ومن ثم يقرب البناء علي الاجتزاء بالكيل لإحراز العدد والوزن معاً. ولاسيما مع اعتضاده أو تأيده في الثاني بحديث عبد الملك، ومع قرب قيام السيرة علي ذلك في عصور المعصومين (صلوات الله عليهم) وإن كان شيوعها بحيث يحرز إقرارهم (عليه السلام) لها لا يخلو عن إشكال.

وأما الاكتفاء بالوزن أو العدّ عن الكيل وبالوزن عن العدّ وبالعدّ عن الوزن فلا يخلو عن إشكال، لعدم الدليل عليه بعد اختصاص النصوص بالكيل. ولاسيما مع عدم وضوح قيام سيرة عليه.

وأشكل من ذلك الأمر في الثاني، وهو ما إذا كان الفرق المحتمل كثيراً لا يتسامح فيه، حيث لا مجال لدعوي قيام السيرة عليه، فضلاً عن نهوض النصوص به.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 عقد البيع وشروطه حديث: 1.

ص: 34

لكن قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (وأما إذا كان التفاوت مما لا يتسامح فيه فالظاهر أيضاً الجواز مع البناء علي ذلك المقدار المستكشف من التقدير إذا كان ذلك التقدير أمارة علي ذلك المقدار، لأن ذلك أيضاً خارج عن الجزاف، فيكون نظير إخبار البايع بالكيل. ويتخير المشتري لو نقص).

وهو كما تري! إذ المراد بأماريته إن كان هو أماريته شرعاً، ولو إمضاء لما عند العرف، فهي تحتاج إلي دليل. وإن كان هو أماريته قصداً، في مقابل ما إذا لم يكن القيام بالتقدير الخاص بنية طريقتيه للتقدير الآخر المطلوب، فهو وحده لا يكفي في صحة البيع بعد فرض ظهور الأدلة في وجوب التقدير المطلوب من أجل معرفة مقدار المقدر به، المفروض عدم حصوله. وإلا جاز مثل شراء صبرة غير مكيلة ولا موزونة بنية كونها بكيل أو وزن خاص، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك.

ومثل ذلك في الإشكال ما ذكره (قدس سره) من ثبوت الخيار للمشتري لو نقص فإن متقضي مقايسته بإخبار البايع بالقدر هو رجوع البايع بالزيادة والمشتري بالنقيصة، لتوزيع الثمن علي أجزاء المقدار، كما يأتي في المسألة الثالثة.

مع أنه لا مجال لمقايسته بإخبار بالمقدار، لرجوع إخبار البايع إلي تعهده بتحقق ما أخبر به، الملزم له عرفاً بتحمل دركه، كما لو أخبر بسائر صفات المبيع المرغوبة. ولذا لو أقدم المشتري علي شراء الشيء بسبب إخبار غير البايع بصفة فيه مرغوبة فظهر الخطأ لم يرجع علي البايع ولم يكن له خيار. والظاهر أن مرجع إقدامهما علي التقدير المذكور مع الإطلاق هو الصلح بينهما علي الاجتزاء بالمقدر عن المقدار الذي وقع عليه البيع بالأصل، كما في الصورة الأولي، ولا رجوع مع ذلك.

نعم لو ابتني اكتفاؤهما عند البيع بالطريق المذكور علي اشتراط الرجوع مع الخطأ تعين في فرض صحة البيع رجوع المشتري عند ظهور النقص ورجوع البايع عند ظهور الزيادة، عملاً بالشرط المفروض. وهو غير محل الكلام.

وقد تحصل من جميع ما سبق جواز الاكتفاء بالكيل عن الوزن والعد مع

ص: 35

التسامح عرفاً في الفرق دون غيره.

نعم يجوز ذلك في موارد:

الأول: ما إذا كان التقدير الآخر أوفي من التقدير الذي يقع البيع بلحاظه، كما لو باع عشرة أرطال من الطعام فكاله له بكيل يعلم بزيادته علي العشرة ولو قليلاً، لكن مع كون المبيع المقابل بالثمن هو العشرة لا غير، والزيادة من سنخ الهبة، نظير الزيادة في الميزان التي ورد الحث عليها(1). لأن مقتضي الجمع بين دليلي وجوب الكيل والوزن واستحباب الزيادة هو لزوم العلم ببلوغ المبيع المقدار المطلوب مع استحباب زيادة المدفوع هبة.

الثاني: ما إذا بيعت الجملة كل مقدار بثمن معين، كما لو بيعت الصبرة كل قفيز بكذا أو كل رطل بكذا، بناء علي ما سبق من جواز ذلك، حيث لا يحتاج للكيل والوزن والعدّ من أجل تصحيح البيع، بل من أجل معرفة مقدار الثمن المستحق. وحينئذ لا ما نع من رضا الطرفين بتعيين المقدار الذي يدور الثمن مداره من طريق التقدير الآخر وفي طوله، لرجوع ذلك إلي الصلح بينهما علي تعيين الثمن تبعاً للتقدير الآخر، فينفذ، لعمومات نفوذ الصلح.

الثالث: ما إذا كان المبيع كلياً في الذمة بكيل أو وزن أو عدد خاص وكذا كل ما تنشغل به الذمة ولو من غير طريق البيع، فكما يجوز تسليمه بالكيل أو الوزن والعدد الذي أخذ فيه، يجوز تسليمه من طريق تعيين القدر المطلوب بالوجه الآخر، لرجوعه إلي الصلح أيضاً عن المقدار المستحق بالتقدير الذي يسلم به. بل يجزي فيه الجزاف أيضاً. لعموم نفوذ الصلح.

مضافاً إلي صحيح يعقوب بن شعيب: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون لي عليه أحمال كيل مسمي، فيبعث إلي بأحماله فيها أقل من الكيل الذي لي عليه،

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب آداب التجارة.

ص: 36

(37)

وآخذ مجازفة. فقال: لا بأس)(1).

وهذه الموارد الثلاثة خارجة عن محل كلامهم. والدليل فيها العموم من دون أن يحتاج فيها لأدلة خاصة. وإنما ذكرناها استطراداً، لمناسبتها في الجملة لمحل الكلام.

الثاني: يشيع بين الناس الإندار للظروف في الموزونات، وذلك بوزن المظروف المبيع مع ظرفه، ثم إسقاط شيء من وزن المجموع يخص الظرف، ويحسب الباقي وزناً للمظروف. وهو يبتني غالباً علي نحو من التخمين تسامحاً في الفرق، ويستلزم نحواً من عدم الضبط في وزن المظروف المبيع. والمعروف بين الأصحاب جوازه، بل قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (لا خلاف فيه في الجملة).

وهو تارة: يكون بعد تمامية البيع إما من أجل تسليم المبيع، كما لو كان كلياً في الذمة وسلم البايع للمشتري من جنسه بظروفه وفاء له، وإما من أجل معرفة قدر الثمن، كما لو بيعت الجملة بظروفها كل مقدار منها بكذا بناء علي ما سبق منا من صحة ذلك ثم وزنت بظروفها من أجل معرفة قدرها وقدر ثمنها.

وأخري: يكون عند البيع من أجل إحراز وزن المبيع الذي هو شرط في صحته، كما لو أريد بيع ما في الظرف، فوزن مع ظرفه، ثم أندر للظرف مقدار من الوزن، وحسب الباقي وزناً للمبيع عند بيعه.

أما في الصورة الأولي فمقتضي القاعدة جوازه، لرجوع رضا المتبايعين به إلي التصالح بينهما علي وفاء ما انشغلت به الذمة بما يبقي بعد الإندار، أو علي وفاء الثمن الذي انشغلت به الذمة عند بيع الجملة بالثمن المقابل لما يبقي بعد الإندار، ومقتضي العمومات نفوذ الصلح المذكور.

وأما في الصورة الثانية فمقتضي القاعدة عدم جوازه في فرض عدم العلم بالوزن الحقيقي للمبيع، لابتناء الإندار علي التسامح في وزن الظرف. ومجرد العلم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 5.

ص: 37

بوزن المجموع من المظروف المبيع والظرف الخارج عنه لا يكفي في صحة البيع، بل لابد فيه من العلم بوزن المبيع وحده. والاكتفاء فيه بالتخمين يحتاج إلي دليل.

ودعوي: أن تعارفه في البيوع يرجع إلي كون تقدير المبيع بذلك هو التقدير بالوجه المتعارف في تحديد مالية المبيع، وهو كاف في المقام.

مدفوعة بأن المفروض أن التقدير الدخيل في مالية المبيع عرفاً هو الوزن، فاللازم مراعاته، عملاً بالأدلة. وتعارف الإندار يرجع إلي تعارف الاكتفاء به عن الوزن، أو إلي التعارف أحراز الوزن به، وكلاهما يحتاج إلي دليل. نعم لو فرض كون الاكتفاء به مورداً لسيرة متصلة بعصور المعصومين (صلوات الله عليهم)، بحيث يحرز إقرارهم لها اتجه الاجتزاء به. لكنه غير ثابت.

فالعمدة في المقام النصوص، كموثق حنان: (كنت جالساً عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له معمر الزيات: إنا نشتري الزيت في زقاقة، ويحسب لنا فيه نقصان لمكان الزقاق. فقال: إن كان يزيد وينقص فلا بأس، وإن كان يزيد ولا ينقص فلا تقربه)(1) وحديث علي بن أبي حمزة: (سمعت معمر الزيات يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: جعلت فداك إني رجل أبيع الزيت... فقال: فإنه يطرح لظروف السمن والزيت لكل ظرف كذا وكذا رطلاً، ربما زاد وربما نقص. فقال: إذا كان ذلك عن تراض منكم فلا بأس)(2). وحديث علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر (عليه السلام): (سألته عن الرجل يشتري المتاع وزناً في الناسية والجوالق، فيقول: ادفع للناسية رطلاً أو أقل أو أكثر من ذلك أيحل ذلك البيع. قال: إذا لم يعلم وزن الناسية والجوالق فلا بأس إذا تراضيا)(3).

وحمل هذه النصوص علي خصوص الصورة الأولي بلا شاهد، بل مقتضي ترك الاستفصال فيها العموم للصورتين معاً.

نعم مقتضي الأول عدم جواز الإندار إذا كان يزيد ولا ينقص، فاللازم الخروج به عن إطلاق الأخيرين لو نهضا في أنفسهما بالاستدلال.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 20 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 4، 1، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 20 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 4، 1، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 20 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 4، 1، 3.

ص: 38

وإن كان من القريب حمله علي الكراهة، لما فيه من إجحاف بالبايع واستغلال له، لابتنائه غالباً علي جعل تعذر وزن المظروف وحده أو صعوبته نقطة ضعف في البايع تستغل من أجل إرغامه علي الرضا باستثناء أكثر من وزن الظرف. فإن ذلك وإن كان جائزاً بمقتضي القاعدة، لأن من حق المشتري أن لا يرضي إلا باستثناء الأكثر، إلا أنه استغلال مخالف للإنصاف وأخلاقيات التعامل.

وإلا فمن البعيد جداً عدم جواز استثناء الأكثر. إذ هو نظير ما ورد الحث عليه من دفع الزائد وإرجاح الميزان(1).

غاية الأمر أن الفرق بينهما أن إرجاح الميزان مما يقدم عليه البايع بدافع أخلاقي، والإندار بالوجه المذكور مما يضطر للرضا به غالباً لاستغلال نقطة الضعف المذكورة، ويبعد كون هذا الفرق سبباً للحرمة.

وأبعد منه عموم الكراهة فضلاً عن الحرمة لما لو أقدم البايع علي ذلك ورضي به بدافع أخلاقي من دون استغلال له.

وإن كان في بلوغ ذلك حداً يسوغ الخروج عن ظاهر النهي في الموثق وعن إطلاقه إشكال.

ومن الغريب ما في الشرايع والقواعد وعن غيرهما من إطلاق جواز الإندار إذا كان محتملاً للزيادة والنقيصة، وتوقف جوازه مع الزيادة علي التراضي.

فإنه إن ابتني علي العمل بالقواعد فهي تقتضي المنع أو الجواز في الجميع، لكن مع التراضي. وإن ابتني علي العمل بالنصوص فهي تقتضي التفصيل حتي مع التراضي، حيث لا مجال لحمل موثق حنان علي صورة عدم التراضي، لانصرافه إلي كون الذي يندر للظرف هو الذي بيده المعاملة وإنداره باختياره.

نعم قد يحمل كلامهم علي أن المراد بالتراضي التراضي الصريح، بخلاف صورة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من آداب التجارة.

ص: 39

(40)

احتمال الزيادة والنقصان، فإنه يكفي فيها التراضي الارتكازي بسبب تعارف الإندار بالوجه المذكور، حيث يكون الإقدام علي المعاملة حينئذ مبتنياً علي الرضا ارتكازاً بالجري علي إيقاعها بالوجه المتعارف. فلاحظ.

وكيف كان فلا يبعد أن يلحق بالظروف كل ما يكون متصلاً بالمبيع ولا يكون مقابلاً بالمال كالرصاص أو الشمع الذي يملأ به تجاويف الذهب والفضة المصوغين، والأحجار غير ذات المالية المثبتة فيهما، ونحوها مما يصعب فصله. إذ من القريب إلغاء خصوصية الظروف في ذلك عرفاً، بحيث يفهم من النصوص المتقدمة أن المدار علي صعوبة تجريد المبيع مما يتصل به، تسهيلاً وجرياً علي ما عليه العرف عند الحاجة.

الثالث: المستفاد من دليل وجوب الكيل والوزن هو لزوم كيل أو وزن كل جنس يكال أو يوزن بنفسه ولوحده. فلا يكتفي بوزن أو كيل أكثر من جنس واحد جمله من دون أن يعرف وزن كل منها وحده. بل لا يبعد اعتبار معرفة كيل أو وزن كل صنف علي انفراده في أصناف الجنس الواحد إذا اختلفت بينها في مقدار المالية.

لما سبق من أن المستفاد من موثق سماعة هو اعتبار تقدير الشيء بالنحو الدخيل في تحديد ماليته، ومع اختلاف أجناس المكيلات والموزونات وأصنافها الدخيلة في المالية لا يتحقق ذلك إلا بإفراد كل منها بالكيل.

نعم إذا تعارف كيل أو وزن المركب من أكثر من جنس أو صنف واحد كيلاً أو وزناً واحداً، تعين الاجتزاء به، لرجوعه إلي كون الممتزج بنفسه جنساً واحداً له مواصفاته الدخيلة في المالية عرفاً.

من دون فرق في ذلك بين كون التركيب بنحو الامتزاج الموجب للاتحاد عرفاً، كالحليب والعصير، وكونه بنحو الاختلاط الذي يصعب الفصل معه، كالرز والماش، وكونه بنحو يتميز كل جنس منه بنفسه بحيث يسهل فصله، كالمصوغ من الذهب المشتمل علي بعض الأحجار الكريمة، أو المصوغ من قطع متصلة بعضها ذهب وبعضها فضة وغير ذلك، لأن المدار علي تعارف كون الشيء بمجموعه له مواصفاته

ص: 40

(41)

وكبيع المعدود بالوزن أو الكيل (1)، وبالعكس (2)، وإذا كان الشيء مما يباع في حال بالمشاهدة وفي حال أخري بالوزن أو الكيل كالثمر يباع علي الشجرة بالمشاهدة وفي المخازن بالوزن، والحطب محمولاً علي الدابة بالمشاهدة وبالمخزن بالوزن، واللبن المخيض يباع في السقاء بالمشاهدة وفي المخازن بالكيل فصحة بيعه مقدراً أو مشاهداً تابعة للمتعارف (3).

-

الخاصة التي بها قوام ماليته ككل، ومقدار ماليته بمجموعه تابع لمقدار كيله أو وزنه. كل ذلك مع تعارف تحديد مالية المجموع بكيل أو وزن واحد. أما مع عدمه فلا مجال لشيء من ذلك، لخروجه عن ظاهر دليل الكيل والوزن.

وبذلك يتجه الاكتفاء بوزن الشيء مع ظرفه، بحيث يكون الظرف مبيعاً وموزوناً معه إذا تعارف فيه ذلك، بحيث تحدد ماليته بهذا النحو. أما مع عدم تعارف ذلك فلا مجال له، سواءً كان الظرف من الموزون أم لم يكن، كما يظهر مما سبق.

(1) حيث سبق عدم الدليل علي وجوب العد في المعدود يتعين جواز بيعه بالوزن والكيل، سواء كان التقدير بهما في قباله أم في طوله من أجل إحرازه بهما. وكذا الحال لو تم الاستدلال لوجوب العدّ بصحيح الحلبي المتقدم المتضمن لبيع المعدود كيلاً من أجل معرفة عدده، فإنه إنما يدل عليه في الجملة ولو لكون وجوبه تخييرياً. ومثله الإجماع الذي قد يدعي في المقام، فإن المتيقن منه وجوبه في مقابل البيع جزافاً.

(2) يعني: بيع المكيل والموزون عداً. ويظهر مما سبق عدم جوازه إلا في فرض معرفة مالية الشيء بالعد وإن لم يكن متعارفاً فيه، كما ذكرناه في ذيل الكلام في جواز تقدير المكيل بالوزن والموزون بالكيل. فراجع.

(3) لأن موضوع موثق سماعة ما يكال ويوزن المراد به شأنية ذلك، فمع عدم كون المبيع كذلك في بعض الأحوال يتعين الاكتفاء فيه بالمشاهدة في تلك الحال، لخروجه عن موضوع النص. بل ربما يدعي عدم وجوب المشاهدة فيه، علي ما يأتي

ص: 41

وكذا إذا كان يباع في حال بالكيل وفي أخري بالوزن (1)، كالفحم يباع كثيراً في الأكياس الكبيرة بالكيل (2)، وفي المخازن قليلاً قليلاً بالوزن، فإن المدار في التقدير ما يكون متعارفاً في تلك الحال التي بيع فيها كيلاًَ أو وزن

---------------

الكلام فيه في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالي.

ويشهد بعدم وجوب الكيل والوزن حينئذ مضافاً إلي ذلك النصوص الكثيرة الواردة في بيع الثمار، وفي بيع الصوف علي ظهر الغنم(1) وفي بيع اللبن في ضروعها(2) وغيرها، مع وضوح أن الثمار من المكيل والموزون في بعض الأحوال والصوف واللبن من الموزون والمكيل كذلك. ويأتي في المسألة الخامسة إن شاء الله تعالي ما ينفع المقام.

وبذلك يظهر عدم وجوب الكيل والوزن في القليل الذي هو دون الوزن والكيل المتعارفين في جنسه، فإنه لقلته ليس من المكيل والموزون، وإن أمكن أن يكال أو يوزن بمكاييل وموازين ليس من شأن ذلك الجنس أن يكال أو يوزن بها، كالسمن يوزن بالغرامات والمثاقيل، والجص يكال بالكوب ونحوه. مضافاً إلي قيام السيرة علي ذلك، لشيوع الابتلاء ببيع القليل والقطع بعد الالتزام بكيله ولا وزنه. فلاحظ.

(1) لنظير الوجه المتقدم. نعم لا يبعد أن يكون بيعه بالكيل في بعض الأحوال وبالوزن في أخر ليس لانحصار معرفة ماليته بأحدهما، بل لكونه متعارفاً أو أيسر في تلك الحال، مع كون كل من التقديرين كافياً في معرفة ماليته عرفاً، وحينئذ يتعين التخيير بينهما في جميع الأحوال، كما يظهر مما ذكرناه في ذيل الكلام في جواز تقدير المكيل بالوزن والموزون بالكيل. فراجع.

(2) الذي نعهده أنه يباع بالأكياس، وهي ليست كيلاً، ولذا قد تختلف قليلاً، بل هي نحو من العدد. وكذا الحال في المعلبات الشايعة في عصورنا.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

ص: 42

(43)

أو عداً (1).

(مسألة 3): يكفي في معرفة التقدير إخبار البايع بالقدر (2)

---------------

(1) بناء علي وجوب العد في المعدود.

(2) كما ذكره في الجملة غير واحد، وذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه المشهور، واستظهر في الرياض عدم الخلاف في الاعتماد علي إخبار البايع في الكيل والوزن، وظاهر التذكرة إجماع أصحابنا علي جواز الاعتماد عليه في الكيل.

وذكر بعض الأعاظم (قدس سره) في وجهه أن اعتبار التقدير بأحد الوجوه المذكورة إنما هو لخروج البيع عن كونه جزافاً، وإذا وقع البيع بناء علي إخبار البايع بالقدر خرج عن كونه جزافاً.

وفيه: أن ظاهر النصوص اعتبار التقدير بالكيل والوزن، لا مجرد عدم كون البيع جزافاً، فلابد من إحراز الكيل أو الوزن بطريق معتبر، ولا يكفي مجرد ابتناء البيع علي التقدير بأحدهما، وخروجه بذلك عن الجزاف.

فالعمدة في المقام مضافاً إلي قاعدة قبول قول الإنسان فيما تحت يده غير واحد من النصوص، كصحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله: (أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام)

عن الرجل يشتري الطعام أشتريه منه بكيله وأصدقه. قال لا بأس، ولكن لا تبعه حتي تكيله)(1) ، وموثق سماعة المتقدم في أوائل المسألة السابقة وغيرهما مما تقدم بعضه.

ولا ينافيها صحيح الحلبي عنه (عليه السلام): (أنه قال في رجل اشتري من رجل طعاماً عدلاً بكيل معلوم، وإن صاحبه قال للمشتري: ابتع مني هذا العدل الآخر بغير كيل، فإن فيه مثل ما في الآخر الذي ابتعت. قال: لا يصلح إلا بكيل...)(2).

لما تقدم في أوائل المسألة السابقة من قرب حمله علي كون إخبار البايع تخمينياً،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2.

ص: 43

وإلا كان المناسب له أن يخبر بأنه قد كاله. ولو تعذر ذلك تعين حمله علي الكراهة بقرينة النصوص الأول.

نعم قد ينافيها صحيح أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام): (سألته عن الرجل منا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة، وهو يعلم أنهم يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم. قال: فقال: ما الإبل إلا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتي تعرف الحرام بعينه. قيل له: ما تري في مصدق يجيئنا فيأخذ منا صدقات أغنامنا، فنقول: بعناها، فيبيعناها، فما تقول في شرائها منه ؟ فقال: إن كان قد أخذها وعزلها فلا بأس. قيل له: فما تري في الحنطة والشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا ويأخذ حظه، فيعزله بكيل، فما تري في شراء ذلك الطعام منه ؟ قال: إن كان قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك فلا باس بشرائه منه من غير كيل)(1). لظهور اشتراطه حضورهم الكيل في لزوم علمهم به.

اللهم إلا أن يقال: سياق الحديث لا يناسب كون السؤال عن شراء الحنطة والشعير من دون كيل، بل عن أصل شرائها، وسوق الجواب لبيان أن شرط جوازه هو قبضه بحضورهم. ولعله من جهة أن تعين الحق في المعزول مشروطاً برضاهم، وبدونه يبقي ملكاً لهم، فلا يصح شراؤهم له. وتعرضه (عليه السلام) لجواز شرائه من دون كيل قد يكون تبعاً لفرضهم كيله، لا لكونه مشروطاً بحضورهم كيله، بحيث لابد من علمهم به، ولا يكفي إحرازه من طريق آخر، كإخبار البايع به، لينافي النصوص السابقة. نعم هو دال علي عدم جواز شرائه من غير كيل إذا لم يكن قد كيل سابقاً، كما تقدم، وهو أمر آخر غير محل الكلام.

علي أنه لو سلم حمل الصحيح كون العلم بالكيل شرطاً في جواز الشراء من دون كيل فمقتضي الجمع بينه وبين النصوص السابقة المتضمنة تصديق البايع في الكيل هو حمل العلم في الصحيح علي أنه مأخوذ بنحو الطريقية، يقوم مقامه سائر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 52 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

ص: 44

(45)

كيلاً (1) أو وزناً (2) أو عداً (3). ولا فرق بين عدالة البايع وفسقه (4). والأحوط اعتبار حصول اطمئنان المشتري بإخباره (5)

---------------

الطرق المعتبرة، ومنها إخبار البايع.

نعم لو كان السؤال ناظراً لإخبار البايع، والجواب مسوقاً للردع عن التعويل عليه، تعذر الجمع بذلك، وكان الصحيح منافياً للنصوص السابقة. لكن من الظاهر عدم إشعار السؤال بذلك. ومن هنا لا مخرج عما تضمنته النصوص السابقة التي هي حجة في نفسها، ومعول عليها عند الأصحاب.

(1) كما تضمنته جميع نصوص المقام. مضافاً إلي قاعدة قبول قول الإنسان فيما تحت يده.

(2) كما تضمنه موثق سماعة. وقد يستفاد من بقية النصوص بإلغاء خصوصية الكيل فيها عرفاً. مضافاً إلي قاعدة قبول قول الإنسان فيما تحت يده.

(3) النصوص المتقدمة وإن لم تتضمن ذلك، إلا أنه قد يستفاد منها بإلغاء خصوصية مواردها عرفاً. مضافاً إلي قاعدة قبول قول الإنسان فيما تحت يده.

علي أنه حيث سبق عدم الدليل علي وجوب العد في المعدودات إلا دعوي إلحاقها بالمكيل والموزون فهي كما تقتضي إلحاقها بها في أصل وجوب العد تقتضي إلحاقها بها في تصديق البايع فيه.

(4) كما استظهره في مفتاح الكرامة، وهو مقتضي إطلاق الأصحاب، تبعاً لإطلاق النصوص السابقة، وعموم قاعدة قبول قول الإنسان فيما تحت يده للفاسق.

(5) ولعله إلي هذا يرجع ما في مفتاح الكرامة من أن المدار علي السكون إليه. قال سيدنا المصنف (قدس سره) تعقيباً علي النصوص: (نعم لا يبعد انصرافها إلي سكون المشتري إلي الإخبار. ويقتضيه ما في خبر أبي العطارد المتقدم من قوله (عليه السلام): إذا ائتمنك فلا بأس).

ص: 45

لكن لم يتضح منشأ الانصراف. ولاسيما مع ما في صحيح محمد بن حمران: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): اشترينا طعاماً، فزعم صاحبه أنه كاله، فصدقناه وأخذناه بكيله. فقال: لا بأس...)(1) ، فإن التعبير بالزعم لا يناسب الانصراف للوثوق.

وأما خبر أبي العطارد المتقدم في الاستدلال علي وجوب الكيل فهو مع غض النظر عن سنده إنما تضمن استئمان المشتري للبايع، وجعل أمر الكيل في عهدته، في مقابل ما إذا أقدم علي المعاملة جزافاً معرضاً عن الكيل، ولم يتضمن اعتبار إيمان المشتري بقول البايع، ليناسب اطمئنانه أو وثوقه بقوله.

ومثله ما ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) من تأييد اعتبار الوثوق بما في مرسل بن

بكير المتقدم فيمن يشتري الجص، فيكيل بعضه ويأخذ البقية من غير كيل من

قوله (عليه السلام): (إما أن يأخذ كله بتصديقه، وإما أن يكيله كله) حيث يبدو أنه (قدس سره) فهم من تصديقه له ركونه لقوله وإيمانه بصدقه.

لكن لدلالة فيه علي ذلك، بل ظاهره إرادة التصديق العملي بالاجتزاء بقوله، وإنما قد يتجه ذلك لو قال: إن صدقه أخذه كله بغير كيل، وإلا كاله كله.

ومن هنا لا مجال لاعتبار الركون والوثوق أو الاطمئنان في المقام. ومثله ما قواه شيخنا الأعظم (قدس سره) من اعتبار حصول الظن منه.

نعم قد تنصرف النصوص عما إذا ظن بكذبه أو كان هناك ما يوجب الريب فيه. علي أنه لا يخلو عن إشكال بعد عموم صحيح محمد بن حمران.

نعم لو انحصر لدليل في المقام بقاعدة قبول قول الإنسان فيما تحت يده تعين الاقتصار علي ما إذا لم يكن متهماً، لأن ذلك هو المتيقن منها.

بقي في المقام أمور:

الأول: قال في القواعد: (ولو عرف أحدهما الكيل أو الوزن وأخبر الآخر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 4.

ص: 46

صح، فإن نقص أو زاد تخير المغبون) وهو صريح في قبول قول المشتري في الكيل والوزن كالبايع. بل قد يستفاد منه كما قد يظهر من مفتاح الكرامة قبول قول كل منهما فيما يخص الآخر، كالبايع في الثمن، والمشتري في المثمن.

وهو متجه لو أوجب العلم، لما سق من أن لزوم الكيل والوزن ليس لذاتهما، بل لمعرفة المقدار بهما، فمع فرض معرفته بدونهما يتعين الاجتزاء به. ولكن الظاهر خروجه عن مفروض كلامهم في المقام، وأن الكلام فيما لا يوجب العلم.

وحينئذ يتجه التعميم بناء علي ما سبق من بعض الأعاظم (قدس سره) في توجيه قبول قول البايع بخروج البيع معه عن كونه جزافاً، لعدم الفرق بينه وبين المشتري في ذلك، بل حتي الأجنبي، كما لعله ظاهر.

نعم سبق المنع منه، وأن العمدة في المقام النصوص. وهي مختصة بالبايع في المبيع، والتعدي لغيره يحتاج إلي دليل. غاية الأمر أنه لا يبعد التعدي للمشتري في الثمن لفهم عدم الخصوصية عرفاً بعد كون كل منهما يخبر عما يختص به، ويقع تحت يده. ولا مجال لما زاد علي ذلك.

نعم مع كون الثمن تحت يد البايع أو المبيع تحت يد المشتري لم يبعد تصديق صاحب اليد منهما في وزن أو كيل ما تحت يده إذا لم يكن متهماً، لما سبق من القاعدة العقلائية.

الثاني: محل الكلام ما إذا كان المبيع شخصياً يراد بكيله أو وزنه تصحيح البيع. وكذا الحال في الثمن لو قلنا بحجية قول المشتري فيه. أما لو كان المبيع أو الثمن كلياً محدداً بكيل أو وزن، ولا يراد بالكيل والوزن تصحيح البيع، بل إحراز الوفاء لا غير فهو خارج عن محل الكلام.

وحينئذ فالقبول بغير العلم تابع لرضا صاحب الحق الذي يراد وفاؤه، ومن حقه الرضا به ثبوتاً، الراجع لمصالحته عن حقه بالمقدار غير المعلوم، فيتحقق الوفاء واقعاً، لعموم نفوذ الصلح. كما أن له القبول به ظاهراً بمعني عدم مطالبته بما زاد

ص: 47

(48)

ولو تبين الخلاف بالنقيصة (1) رجع المشتري علي البايع بثمن النقيصة (2)،

---------------

عليه، وإن كان يستحقه واقعاً لو كان ما استلمه أقل من حقه.

الثالث: يلحق بإخبار البايع كل طريق لتشخيص المقدار ثبتت حجيته شرعاً، ولو إمضاء لما عند العرف. وحكم الخطأ فيه هو الحكم الآتي في خطأ البايع. نعم لو ظهر من دليله ترتب الأثر علي مضمونه واقعاً فلا أثر للخطأ فيه. كما لا يبعد ذلك في صحيح الحلبي المتقدم في كيل المعدود، فإن الظاهر بناء المتعاملين معه علي التسامح في الفرق المتوقع الراجع لنحو من الصلح بينهما وظاهر الصحيح صحة المعاملة معه علي النحو الذي يقدمان عليه. فلاحظ.

(1) الظاهر أن موضع كلامهم مطلق النقيصة والزيادة وإن لم يلزم غبن أحد الطرفين، كما يظهر مما يأتي في وجه المسألة. وما تقدم من القواعد من التعبير بالمغبون يراد به من يكون النقص أو الزيادة علي خلاف مصلحته إيجازاً في العبارة، لا الغبن المصطلح.

لكن في مفتاح الكرامة: (وتخير المغبون لأن كان الخيار خيار غبن. وقضيته أن التفاوت اليسير غير معتبر). وهو كما تري، فإن لازمه عدم اعتبار التفاوت الكثير إذا لم يستلزم الغبن، لكون البيع مع النقيصة بأقل من ثمن المثل كثيراً، ومع الزيادة بأكثر من ثمن المثل كذلك. ولا يظن بأحد الالتزام به.

(2) ظاهرهم المفروغية عن عدم بطلان البيع، وقد صرح في مبحث الشروط من جامع المقاصد بذلك في نظيره، وهو ما إذا ظهرت الزيادة، قال: (وهل يحتمل البطلان، كما لو باعه ثوباً علي أنه قطن فبان كتاناً؟ الظاهر العدم، للفرق بين كون ذلك من غير الجنس، وهذا منه، إنما الفائت الوصف).

نعم الظاهر أن المعيار في البطلان وعدمه ليس علي كون الفائت جنساً وكونه وصفاً، بل علي كون العنوان مقوماً للبيع عرفاً وكونه زائداً عليه مرغوباً فيه، علي م

ص: 48

تقدم منا توضيحه في المسألة السابعة والعشرين من مقدمة كتاب التجارة عند الكلام في حكم الغش.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في عدم بطلان البيع في محل الكلام، لأن الكيل والوزن ليسا مقومين للمبيع. وإنما الكلام في أن فوتهما من فوت الجزء وتبعض الصفقة، أو من فوت الوصف من دون أن تتبعض، بل تصح بتمامها مع ثبوت الخيار، كما لو باعه الشيء علي أنه جيد، فبان رديئاً.

قد يقرب الأول بأن مبني التقدير في محل الكلام علي التوزيع وأن لكل جزء من المبيع قسماً من الثمن بما يناسب التقدير المذكور، فإذا باعه الطعام علي أنه عشرة أقفزة بعشرة دراهم انصرف إلي أن لكل قفير درهم، فإذا انكشف أنه تسعة أقفزة تعين بطلان البيع في قفيز، لعدم سلامة المبيع، وإذا انكشف أنه أحد عشر قفيزاً تعين قصور البيع عن قفيز منها، فيبقي علي ملك البايع.

وفيه: أن هذا إنما يتجه فيما إذا وقع البيع علي أجزاء المقادير، كما لو اعتقد أن صبرة من الطعام عشرة أقفزة، فباعه صاحبها عشرة أقفزة منها بعشرة دراهم. وأظهر من ذلك ما إذا باعها كل قفيز بدرهم.

أما إذا وقع البيع علي الجملة بناء علي بلوغها المقدار المذكور، فالجملة لم يفقد منها شيء، ليبطل البيع فيما يقابله من الثمن. وتوزع الثمن لباً علي أجزاء المقدار الملحوظ في المعاملة وإن كان مسلماً، إلا أنه لا يقتضي عموم البيع لشيء مفقود بعد فرض كون المبيع هو الجملة لا غير. غاية الأمر أن يكون في المقام تدافع بين جعل المبيع هو الجملة وأخذ المقدار الخاص فيها، وهو مغفول عنه بسبب الخطأ في تقديرها، وهو أمر آخر غير عدم سلامة بعض المبيع.

اللهم إلا أن يقال: التدافع المذكور كسائر موارد التدافع بين عنواني موضوع العقد، كما لو زوجه بنته الكبري زينب، فظهر أن زينب ليست هي الكبري، وكما لو باعه هذا القميص، فبان قماشاً غير مخيط، أو باعه هذا العبد الكاتب، فبان غير

ص: 49

كاتب... إلي غير ذلك. وبناء العرف في جميع ذلك علي ترتيب الأثر علي ما هو المقصود بالأصل، وإلغاء المقصود تبعاً، علي الاختلاف بين الموارد.

وحينئذ فمرجع ما سبق من أن مبني التقدير علي التوزيع هو كون المقصود بالأصل هو التوزيع، وأن جعل الثمن في مقابل الجملة مقصود بالتبع، لتخيل بلوغها المقدار المذكور، فيتعين العمل علي ذلك.

بخلاف ما لو انعكس الأمر، وكان المقصود بالأصل هو الجملة، وكان التقدير مقصوداً تبعاً من دون أن يؤخذ بنحو التوزيع، فإن تخلفه لا يوجب تبعض الصفقة، كما يأتي إن شاء الله تعالي في المسألة السادسة.

ويتضح ذلك بالرجوع للعرف في المقام، لظهور مبناهم علي عدم استحقاق الزائد عن مقتضي التوزيع في الزيادة والنقيصة رأساً، وأن الذي يأخذه يأخذ ما لم يملك، وأن البيع لا يصح في تمام الثمن مع النقيصة، ولا في تمام المثمن مع الزيادة.

ويشهد به ما في موثق السكوني عن جعفر عن أبيه: (أن علياً (عليه السلام) قضي في رجل اشتري من رجل عكة فيها سمن احتكرها حكرة، فوجد فيها رباً، فخاصمه إلي علي (عليه السلام)، فقال له علي (عليه السلام): لك بكيل الرب سمناً. فقال له الرجل: إنما بعته منك حكرة. فقال له علي (عليه السلام): إنما اشتري منك سمناً، ولم يشتر منك رباً)(1). فإن الظاهر أن المراد من بيعه حكرة بيعه جملة جزافاً من دون أخذ الكيل فيه. وحينئذ يظهر من البايع المفروغية عن أنه لو أخذه بكيل لاستحق عليه الفرق.

ومثله في ذلك معتبر عمر بن حنظلة عنه (عليه السلام): (في رجل باع أرضاً علي أنها عشرة أجربة، فاشتري المشتري [ذلك] منه بحدوده، ونقد الثمن، ووقع صفقة البيع وافترقا، فلما مسح الأرض إذا هي خمسة أجربة. قال: إن شاء استرجع فضل ماله [وأخذ الأرض]، وإن شاء رد البيع، وأخذ ماله كله. إلا أن يكون له إلي جنب تلك الأرض أرضون، فليؤخذ [فليوفه]، ويكون البيع لازماً له، وعليه الوفاء بتمام

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب أحكام العيوب حديث: 3.

ص: 50

البيع...)(1). ويأتي في صحيح عمر بن يزيد ما يناسب ذلك. ومن هنا لا ينبغي الإشكال في تبعض الصفقة.

وحينئذ فمقتضي القاعدة رجوع المشتري بما يقابل النقص من الثمن، كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره). ويظهر منهم المفروغية عنه في تبعض الصفقة.

لكن قال العلامة في التذكرة: (لو أخبره البايع بكيله، ثم باعه بذلك الكيل، صح عندنا... فإن زاد رد الزيادة، وإن نقص رجع بالناقص). ولعل مقتضي الجمود عليه هو لزوم البيع في التام، ووجوب تدارك النقص علي البايع من جنس المبيع. إلا أن عدم معهودية ذلك عندهم تبعد إرادته.

ويظهر من شيخنا الأعظم حمله علي فسخ البيع الواقع علي الناقص، ليرجع إلي أن المقام بنظره من موارد تخلف الوصف، لا تخلف الجزء. وربما يحمل علي إرادة الرجوع بثمن الناقص، ليطابق ما ذكره في القواعد في بيع الصرف في نظير المسألة من تخييره بين الفسخ والإمضاء بحصة الباقي من الثمن، وهو المفروغ عنه عندهم في تبعض الصفقة.

وربما انصرف ذهنه الشريف إلي فرض وقوع البيع علي الكلي التام ويكون دفع الناقص وفاء به، فيجب إتمامه. وإن كان الظاهر خروجه عن محل الكلام.

وكيف كان فوجوب تدارك البايع للنقص في محل الكلام وهو وقوع البيع علي الموجود الخارجي الناقص مخالف للقواعد التي جروا عليها في نظائر المقام.

نعم تقدم في موثق السكوني ومعتبر عمر بن حنظلة ما يناسب ذلك. لكن ظاهرهم الإعراض عنهما في هذه الجهة، كما يظهر بمراجعة كلماتهم في المواضع المتفرقة. ومن ثم يشكل التعويل عليهما.

ولاسيما مع ما في صحيح ميسر عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قلت له: رجل اشتري

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 51

زق زيت وجد فيه دردياً. قال: فقال: إن كان يعلم أن ذلك يكون في الزيت لم يرده، وإن لم يكن يعلم أن ذلك يكون في الزيت رده علي صاحبه)(1). فإنه مشابه لموثق السكوني مورداً.

وفي مكاتبة الصفار للإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) فيمن باع قرية بحدودها، وليس له منها إلا قطاع أرضين فوقع (عليه السلام): (لا يجوز بيع ما ليس يملك، وقد وجب الشراء من البايع علي ما يملك)(2) ومورده من سنخ مورد معتبر عمر بن حنظلة، ولم يتضمن التفصيل المذكور فيه.

بل في صحيح عمر بن يزيد: (بعت بالمدينة جراباً هروياً، كل ثوب بكذا وكذا، فأخذوه فاقتسموه، ثم وجدوا بثوب فيها عيباً، فردوه علي. فقلت لهم: أعطيكم ثمنه الذي بعتكم به. فقالوا: لا، ولكنا نأخذ قيمته منك، فذكرت ذلك لأبي عبد الله (عليه السلام) فقال: يلزمهم ذلك)(3). فإنه صريح فيما ذكره الأصحاب في حكم تبعض الصفقة.

نعم رواه في الكافي هكذا: (يلزمه ذلك)(4). بنحو يظهر منه إلزام عمر بما قالوه من دفع قيمة الثوب لهم. وهو مع غرابة مضمونه لا يخلو عن اضطراب رافع للوثوق به، كما يظهر بملاحظته. علي أنه يمكن حمله علي أنه يلزم عمر ما قاله، دون ما قالوه، فيطابق رواية الفقيه.

ومن هنا لا يبعد حمل موثق السكوني علي كونه (عليه السلام) بصدد بيان ما يصحح أخذ تمام الثمن. ولاسيما مع صعوبة تشخيص نسبة مقدار الرب لمجموع العكة، ليعرف مقدار ما يناسبها من الثمن، كما تقدم منا في آخر المسألة السابعة والعشرين من مقدمة كتاب التجارة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

(3) من لا يحضره الفقيه ج: 3 ص: 136.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 52

وكان له الخيار في الفسخ والإمضاء في الباقي (1)، ولو تبينت الزيادة كانت الزيادة

---------------

كما يحتمل حمل معتبر عمر بن حنظلة علي كون المبيع ليس هو الأرض الخاصة بحدودها، بل ما يساوي عشرة أجربة منها، وشخّص البايع ذلك بما يناسب الحدود الخاصة، فمع فرض وجود أرض مجاورة ينكشف دخولها في المبيع، فيجب عليه دفعها للمشتري.

فإن أمكن ذلك، وإلا تعين ردّ علم الحديثين لقائليهما (عليهما السلام). والعمل علي ما جري عليه الأصحاب، عملاً بالقاعدة المعتضدة بالنصوص السابقة، خصوصاً صحيح عمر بن يزيد. فلاحظ.

(1) وهو خيار تبعض الصفقة، بتقريب: أن المشتري إنما أقدم علي شراء التام، فحيث لم يسلم له كان له الخيار كسائر صفات المبيع التي يبتني عليها البيع.

لكن الظاهر أن ذلك إنما يتجه إذا كانت التمامية مورداً لغرض المشتري، بحيث أقدم علي شراء الجملة بناء علي واجديتها لذلك، كما لو تعلق غرضه بشراء طن من الطعام جملة، فأخبره صاحب الطعام ببلوغ الطعام الذي عنده المقدار المذكور، فاشتراه علي ذلك، فتبين نقصه. أما إذا أقدم علي شراء جملة من الطعام مهما بلغ قدرها، فأخبره البايع أنها بقدر خاص من أجل تحديد ثمنها لا غير، فلا موجب للخيار لو بان النقص، لعدم ابتناء البيع علي المقدار المذكور. بل ليس له الرجوع إلا بما يقابل النقص من الثمن.

نعم لو قيل بأن المقام ليس من تخلف جزء المبيع، بل من تخلف الوصف، لعدم ابتناء التقدير علي توزيع الثمن علي أجزاء المقدار، بل علي مقابلة الجملة بالجملة، وأن البيع يصح بتمام الثمن في الناقص، فالمتعين ثبوت الخيار مطلقاً، لظهور ابتناء جعل جملة الثمن في مقابل الجملة ذات المقدار الخاص علي سلامة ذلك المقدار.

ص: 53

(54)

للبايع (1)، وكان المشتري بالخيار بين الفسخ والإمضاء بتمام الثمن (2).

---------------

(1) كما صرح به غير واحد. ويظهر وجهه مما سبق. نعم لابد هنا من كون الزيادة من باب الغلط في التقدير، دون الزيادة التي يقدم عليها البايع من أجل رجحان الوزن، أو الخطأ في الوزن والكيل بالوجه المتعارف والمتوقع، فإنها هبة من البايع خارجة عن المبيع، كما هو ظاهر، وصرح بجواز أخذها في النصوص الواردة في فضول المكاييل والموازين(1).

(2) علله (قدس سره) بلزوم الشركة بين المالين من دون إقدام عليها. لكن الظاهر أن ثبوت الخيار بذلك بلحاظ كونها صفة مرغوباً عنها. وهو يختص بما إذا احتاجت القسمة إلي مؤنة، فثبوت الخيار في غير ذلك لا يخلو عن إشكال.

نعم يتجه ثبوت الخيار له لو ابتني البيع علي حفظ الجملة، كما لو كان بصدد شراء قدر خاص من الحنطة في كيس كامل مختوم، فأخبره البايع بأن ما في الكيس المختوم بقدر المطلوب ثم تبين زيادته، حيث يتعين ثبوت الخيار له بتبعض الصفقة الراجع لخيار تخلف الوصف.

هذا وقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن الشركة مع الزيادة وإن كانت تثبت لكل من المشتري والبايع، إلا أنها لا تقتضي الخيار للبايع، لأن الشركة في حقه ليست في المبيع، بل في ماله الذي بقي له بعد البيع.

ويشكل بأن ثبوت الخيار بتخلف وصف المبيع إنما هو من أجل انكشاف عدم وقوع البيع علي الوجه المطلوب الذي بني عليه، وذلك كما يحصل في حق المشتري في المقام، لأنه أقدم علي شراء ما ليس مشاعاً، كذلك يحصل في حق البايع لأنه أقدم علي بيع ما ليس مشاعاً أيضاً. ومجرد كون المشاع المملوك مبيعاً في حق المشتري ليس مبيع

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب أحكام العقود.

ص: 54

(55)

(مسألة 4): الأحوط في مثل الثوب والأرض ونحوهما مما يكون تقديره بالمساحة دخيلاً في زيادة القيمة معرفة مقداره (1)، ولا يكتفي في

---------------

في حق البايع، ليس فارقاً بعد كون البيع والمبيع في حق كل منهما علي خلاف النحو المرغوب فيه الذي أقدم عليه.

ومنه يظهر اندفاع ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من عدم دخول الفرز وعدم الاشاعة في مال البايع تحت الالتزام العقدي. وجه الاندفاع: أنه يكفي في ثبوت الخيار لهما معاً التزامهما معاً بكون المبيع مفروزاً غير مشاع. غايته أن المشتري يلتزم بذلك ويرغب فيه لأن الإشاعة عيب فيما ينتقل له، والبايع يلتزم بذلك ويرغب فيه لأن إشاعة المبيع تستلزم العيب فيما يبقي له. وهو ليس فارقاً.

ومن ثم يتعين البناء علي ثبوت الخيار للبايع أيضاً، كما صرح بذلك في الوسيلة فيمن باع ثوباً أو أرضاً علي ذرع خاص فبان أكثر.

نعم لابد من جهل البايع كالمشتري بالحال، أما مع علمه به، فيكون قد أقدم بنفسه علي بيع المشاع الذي يستلزم العيب في ملكه، فلا موضوع للخيار في حقه، كما هو ظاهر. والظاهر خروجه عن محل الكلام.

هذا ولو قيل بأن المتخلف في المقام هو وصف المبيع لأجزؤه، وأنه لابد إما من الرضا بالبيع في تمام المبيع والثمن أو الفسخ كذلك من دون أن تتبعض الصفقة فالظاهر ثبوت الخيار للبايع مع الزيادة كما يثبت للمشتري مع النقيصة، لتخلف وصف المبيع الذي وقع عليه البيع في حق كل منهما.

(1) ظاهره التوقف في وجوب ذلك، بل قرب في نهج الفقاهة عدمه، وهو لا يناسب ما تقدم منه في المسألة الثانية من عد المساحة من وجوه التقدير التي يجب العلم بها.

وكيف كان فقد صرح في الشرايع والقواعد والدروس بكفاية المشاهدة في

ص: 55

بيع الثوب والأرض وإن لم يذرعا. ونحوه في المختلف في الثوب، وحكاه عن ابن إدريس، بل نسبه للمشهور. وعن التحرير جواز بيع قطيع الغنم وإن لم يعلم عددها. وفي المبسوط أن بيع الثوب المشاهد صحيح بلا خلاف، وفي التذكرة: (لو باع مختلف الأجزاء مع المشاهدة صح كالثوب والدار والغنم بالإجماع).

وعن أبي الصلاح اعتبار الذرع في المذروع. ويناسبه ما في المبسوط والخلاف من لزوم العلم بمعرفة مقدار الثمن في السلم بالذرع في المذروع.

هذا ويظهر من الجواهر حمل كلام من جوز علي فرض تعارف بيعه بالمشاهدة، ولو مع تعارف بيعه بالذراع أيضاً. وحينئذ قد يوجه بارتفاع الجهالة معه بالمشاهدة، لأن معرفة مالية كل شيء بالنحو الذي يتعارف به، فإذا كانت تعرف بالوجهين اجتزئ بكل منهما في المعرفة المعتبرة في البيع.

لكن لا قرينة علي حمل كلامهم علي خصوص ذلك. كما لا ملزم به بعدما سبق من اختصاص الدليل علي وجوب التقدير بالمكيل والموزون، فيكون المرجع في غيرهما عمومات النفوذ. وإلي هذا يرجع استدلال غير واحد علي الجواز.

لكن قال كاشف الغطاء في شرحه علي القواعد: (والحق أن قاعدة الغرر مثبتة لا يسوغ هدمها إلا بأقوي منها، وأني لنا بذلك ؟! فيدور الحكم مدارها، فما كان من الثياب مخيطاً يطلب وضعه لا ذرعه ومن الأرض يطلب فسحته لا ذرعته، ومن البهائم تطلب هيئة اجتماعها لا عددها، لا يتوقف بيعه علي ذرع أو عد. وما بني علي المداقة فلابد من ذلك منه).

وقال شيخنا الأعظم (قدس سره): (يشكل الحكم بالجواز في كثير من هذه الموارد، لثبوت الغرر غالباً مع جهل أذرع الثوب وعدد قطيع الغنم. والاعتماد في عددها علي ما يحصل تخميناً بالمشاهدة عين المجازفة) ونحوهما في الجملة كلام غيرهما.

ويظهر ضعف ذلك مما سبق في أوائل المسألة الأولي من عدم نهوض عموم النهي عن بيع الغرر بالاستدلال.

ص: 56

بيعه بالمشاهدة (1).

---------------

(1) ظاهرهم المفروغية عن وجوب المشاهدة. وربما ذكروا قيام الوصف والرؤية السابقة مقامها، علي ما يأتي في نظيره في المسألة السابعة.

وكيف كان فقد يستدل علي وجوب المشاهدة أو ما يقوم مقامها مضافاً إلي حديث النهي عن بيع الغرر بمعتبر عبد الأعلي بن أعين قال: (نئبت عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه كره شراء ما لم تره)(1) ومعتبره الآخر: (نئبت عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه كره بيعين: اطرح وخذ علي غير تقليب، وشراء ما لم تر)(2). وروي نحوه بطريق معتبر عن محمد بن سنان عنه (3)(عليه السلام).

لكن تكرر منا عدم نهوض حديث النهي عن بيع الغرر بالاستدلال.

وأما النصوص المتقدمة فهي: أولاً: مراسيل. أما حديث محمد بن سنان فظاهر، لأنه لم يدرك أبا جعفر (عليه السلام) الذي يراد به الإمام الباقر (عليه السلام) في هذه الروايات. والظاهر أنه عين حديث عبد الأعلي الثاني، لأن محمد بن سنان في طريقه. وأما حديثا عبد الأعلي فلظهورهما في عدم سماعه ذلك من الإمام (عليه السلام)، وأنه بلغه عنه من غيره من دون تعيين منه له.

ثانياً: لا ظهور لهما في الحرمة، لأن الكراهة وإن كانت قد تستعمل في الحرمة، بل قد يكون ذلك هو الأصل فيها، إلا أن ذلك يختص بما إذا أطلقت، كما إذا قيل: (يكره كذا) أو: (ذلك مكروه). وأما إذا أسندت إلي شخص الإمام فلا ظهور لها في ذلك. بل قد تكون ظاهرة في الكراهة المصطلحة حيث قد يشعر نسبة الكراهة لشخصه (عليه السلام) في عدم الكراهة المطلقة، وإلا كان الأولي بيانها، لأنه أدعي للعمل لو كان لازماً. هذا مضافاً إلي صحيح جميل: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشتري ضيعة، وقد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 18 من أبواب الخيار حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 14 وباب: 25 منها حديث: 3.

ص: 57

(58)

(مسألة 5): إذا اختلفت البلدان في تقدير شيء بأن كان موزوناً في بلد ومعدوداً في آخر ومكيلاً في ثالث فالظاهر أن المدار في التقدير اللازم العلم به في بلد المعاملة (1).

---------------

كان يدخلها ويخرج منها، فلما أن نقد المال صار إلي الضيعة، فقلبها [ففتشها. فقيه] ثم رجع فاستقال صاحبه فلم يقله. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إنه لو قلب منها أو نظر [لو قلبها ونظر منها. فقيه] إلي تسع وتسعين قطعة ثم بقي منها قطعة [و. يب] لم يرها لكان له في ذلك خيار الرؤية)(1). وهو كالصريح في صحة البيع مع عدم الرؤية. غاية الأمر ثبوت خيار الرؤية، فيرفع به اليد عن النصوص السابقة لو فرض ظهورها في بطلان بيع ما لم يرَ، ويكون قرينة علي حملها علي الكراهة.

لكن حيث كان المعروف بينهم بطلان بيع المجهول خصوا خيار الرؤية بما إذا لم يقع البيع عن جهالة، وصرح بعضهم بتنزيل الصحيح علي ذلك. قال شيخنا الأعظم (قدس سره) بعد أن ذكر الرواية دليلاً لخيار الرؤية: (لابد من حملها علي صورة يصح معها بيع الضيعة، إما بوصف القطعة غير المرئية أو بدلالة ما رآه منها علي ما لم يره). لكنه لا ملزم بذلك، بل لا مجال له بعد إطلاق الصحيح. ويأتي عند الكلام في خيار الرؤية إن شاء الله تعالي ما ينفع في المقام.

(1) قال في المبسوط في مبحث الربا: (المماثلة شرط في الربا، وإنما يعتبر المماثلة بعرف العادة في الحجاز علي عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم)، فإن كانت العادة فيه الكيل لم يجز إلا كيلاً في سائر البلاد، وما كان العرف فيه الوزن لم يجز فيه إلا وزناً في سائر البلاد. والمكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة. هذا كله لا خلاف فيه. فإن كان مما لا يعرف عادته في عهد النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) حمل علي عادة البلد الذي فيه ذلك الشيء. فإذا ثبت ذلك فما عرف بالكيل لا يباع إلا كيلاً، وما كان العرف فيه وزناً ل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 58

يباع إلا وزناً). ونحوه في المهذب. وفي المختلف أنه الأقرب. ونحوه في الجملة في الشرايع والتذكرة والدروس في المبحث المذكور، وفي الحدائق وظاهر مجمع البرهان نسبته للأصحاب.

وكأنه يبتني علي حمل ما تضمن أحكام الكيل والوزن، علي المكيل والموزون في زمان النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) والعرف الذي عاش فيه.

لكنه لو تم لزم الاحتياط فيما تردد الأمر بينهما في زمانه (صلي الله عليه وآله وسلّم)، فيجب فيما نحن فيه الجمع بينهما في المعاملة الواحدة بناء علي عدم جواز بيع المكيل وزناً، وإلا كفي الوزن.

كما أن مقتضاه، عدم جريان حكم الكيل والوزن فيما ثبت عدم الالتزام بأحدهما في زمانه (صلي الله عليه وآله وسلّم) ولو لعدم الابتلاء به، حتي لو كان من المكيل أو الموزون في بقية البلدان أو في العصور المتأخرة عنه (صلي الله عليه وآله وسلّم)، لخروجه عن موضوع الأدلة. بل حتي لو شك في ذلك، لأصالة عدم أحدهما، حيث يحرز بها خروجه عن موضوعها.

علي أنه غير تام، لأن مقتضي الإطلاقات المقامية للأدلة الرجوع للعرف الذي يقع البيع فيه، الذي هو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ولا خصوصية للعرف الذي عاشه النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم).

ولاسيما بملاحظة ما أشرنا إليه آنفاً عند الكلام في عدم جواز التقدير بغير ما يتعارف التقدير به من قضاء المناسبات الارتكازية بأن اعتبار التقدير بالكيل والوزن من أجل معرفة مالية المقدر، لظهور أن تحديد مقدار المالية عند المعاملة تابع للعرف الذي تجري المعاملة فيه، ولا أثر فيه للأعراف الأخري.

وأما ما عن جماعة في توجيه ما تقدم من الأصحاب من أن اللازم حمل اللفظ علي المتعارف عند الشارع، ومع عدم التعارف عنده فالمتعين الرجوع للعرف العام.

ففيه: أن ذلك إنما يتم في الجملة في تحديد المفاهيم ومعاني الألفاظ، حيث يتعين

ص: 59

حمل كلامه (صلي الله عليه وآله وسلّم) وكلام الأئمة (عليهم السلام) مع وجود الحقيقة الشرعية عليها، ومع عدمها علي الحقيقة العرفية القائمة في عصر المتكلم وإن خالفت الحقيقة العرفية القائمة في عصره (صلي الله عليه وآله وسلّم) أو العصور المتأخرة. ولا يحمل علي الحقيقة المتأخرة عن عصورهم (صلوات الله عليهم)، إلا مع احتمال مطابقتها للحقيقة العرفية القائمة في عصر المتكلم، لأصالة تشابه الأزمان وعدم النقل. أما مع العلم بمخالفتها للحقيقة العرفية القائمة في عصر المتكلم فلا يحمل عليها، بل يتعين مع عدم عرفة الحقيقة العرفية القائمة في عصر المتكلم التوقف والبناء علي إجمال الكلام، والرجوع للأصل في المسألة.

أما في معايير تطبيق المفهوم وتشخيص أفراده فلا يراعي عرف الشارع، بل مقتضي الإطلاقات المقامية الرجوع إلي عرف المكلف حين العمل بالحكم الشرعي، كما لو ورد الحث علي إكرام الجار، وتبجيل العالم، والتجمل للناس، واختلفت الأعراف في مظاهر الإكرام والتبجيل والتجمل، كما ذكر ذلك في الجملة في الجواهر وغيره.

ومثل ذلك ما قد يدعي من الإجماع علي أن المكيل والموزون في عصر النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لا يباع جزافاً.

لاندفاعه بعدم وضوح قيام إجماع تعبدي علي ذلك ينهض بالخروج عما تقتضيه القواعد.

أولاً: لأنه قد أطلق غير واحد من الأصحاب أولهم فيما عثرت عليه الصدوق في المقنع اعتبار الكيل والوزن في موضوع الربا من دون إشارة لهذا التفصيل، حيث يظهر من إطلاقهم الرجوع للعرف مطلقاً. بل تعرض جملة منهم كالمفيد في المقنعة والشيخ نفسه في النهاية وسلار وابن إدريس لحكم اختلاف البلدان من دون أن يشيروا لذلك.

وثانياً: لقرب اعتمادهم من ذهب إلي ذلك إلي بعض الوجوه الاجتهادية، نظير ما أشرنا إليه، بل هو المصرح به في كلام بعضهم، من دون أن يكون ذلك منهم لتعبد خاص مخرج عن مقتضي القاعدة.

ص: 60

(61)

(مسألة 6): قد يؤخذ الوزن شرطاً (1) في المكيل أو المعدود، أو الكيل شرطاً في الموزون (2). مثل أن يبيعه عشرة أمنان من الدبس بشرط أن يكون كيلها صاعاً، فيتبين أن كيلها أكثر من ذلك لرقة الدبس، أو يبيعه عشرة أذرع من قماش (3) بشرط أن يكون وزنها ألف مثقال، فيتبين

---------------

ومن هنا لا مخرج عما تقتضيه القاعدة من أن المدار علي التقدير المعتمد في بلد المعاملة، لما أشرنا إليه آنفاً من الإطلاقات المقامية.

وبذلك يظهر الحال فيما لو اختلفت البلدان في أصل التقدير للجنس، فكان يباع في بعضها جزافاً، وفي آخر مقدراً بعض الوجوه، حيث يتعين الرجوع في كل بلد لما يتعارف فيه أيضاً. نظير ما تقدم في المسألة الثانية من اختلاف حالات الجنس الواحد ولو في البلد الواحد.

نعم أشرنا عند الكلام في جواز تقدير الشيء بغير ما يتعارف التقدير به إلي أن المناسبات الارتكازية قاضية بأن اعتبار التقدير بالكيل والوزن إنما هو من أجل معرفة مقدار مالية المقدر، فإذا فرض معرفته بالتقدير غير المتعارف تعين الاكتفاء به. وبذلك يتعين جواز التقدير بغير ما يتعارف التقدير به في البلد بين غير أهل البلد ممن يتعارف في بلدهم التقدير به. فلاحظ.

(1) المراد بالشرط الوصف الذي تبتني عليه المعاملة، لا الشرط الحقيقي الراجع لاستحقاق شيء للمشروط عليه، والذي يأتي الكلام فيه في أحكام الشروط إن شاء الله تعالي.

(2) ويجري ذلك حتي في المبيع جزافاً، كما لو اشتري صبرة من الطعام جزافاً، واشترط أن يزن المدّ منه رطلاً من أجل تحديد مقدار رطوبته أو جفافه.

(3) هذا ليس من المعدود، بل مما يتحدد بالمساحة. وإنما المعدود هو الصنف ذو الأفراد المتماثلة في المالية كالبيض والجوز، وما تنتجه المعامل الحديثة من ذوات

ص: 61

أن وزنها تسعمائة، لعدم إحكام النسج، أو يبيعه عشرة أذرع من الكتان بشرط أن يكون وزنه مائة مثقال، فيتبين أن وزنه مائتا مثقال لغلظة خيوطه،

ونحو ذلك مما كان التقدير فيه صفة كمال للمبيع لا مقوماً له (1). والحكم أنه مع التخلف بالزيادة أو النقيصة يكون الخيار للمشتري لتخلف الوصف (2)، فإن أمضي العقد (3) كان عليه تمام الثمن (4)، والزيادة للمشتري علي كل حال (5).

---------------

الماركات الخاصة، كالجوراب والألبسة الداخلية. والأمر سهل.

(1) تقدم في المسألة الرابعة أن الوزن والكيل في الموزون والمكيل ليسا مقومين للمبيع أيضاً، وإنما يؤخذان فيه لتحديد نسبة الثمن للمثمن ولذا لا يبطل البيع بتخلفهما، بل مع النقيصة تتبعض الصفقة، ومع الزيادة يخرج الزائد عن المبيع. أما في المقام فهما غير مأخوذين فيه بلحاظ ذلك، بل هما صفتان كماليتان فيه، ككتابة العبد وصفاء اللون.

(2) هذا إذا رجع أخذ المقدار إلي التحديد به في طرفي الزيادة والنقيصة معاً. أما إذا رجع إلي التحديد به من أحد الطرفين فلا خيار بتخلفه من الطرف الآخر.

(3) يكفي عدم إعمال الخيار، لصحة العقد في نفسه، فما لم يعمل المشتري الخيار ويفسخ ولو لجهله بتخلف الشرط يتعين ترتب أثره. ولعل ذلك مراده (قدس سره).

(4) لأن الشرط والوصف وإن كانا داعيين لزيادة الثمن، إلا أنهما ليسا مقابلين بجزء منه. وربما يأتي بعض الكلام في ذلك في خيار الرؤية وأحكام الشروط.

(5) كان الأولي أن يقول: وللمشتري المبيع بتمامه علي كل حال. يعني: سواءً زاد أم نقص، لفرض مقابلة الثمن بالمبيع جملة بجملة من دون أن يتوزع علي أجزاء المقدار المأخوذ في المعاملة.

ص: 62

(63)

(مسألة 7): يشترط معرفة جنس العوضين وصفاتهما التي تختلف القيمة باختلافهما (1)، كالألوان والطعوم والجودة والرداءة والرقة والغلظة

---------------

ثم إن الشرط أو الوصف المذكور ونحوه كما يمكن أن يبتني عليه التزام المشتري وحده بالمعاملة يمكن أن يبتني عليه التزام البايع وحده به، ويمكن أن يبتني عليه التزامهما معاً، وعلي الأول يثبت بتخلفه الخيار للمشتري فقط، وهو مفروض كلام سيدنا المصنف (قدس سره)، وعلي الثاني يثبت بتخلفه الخيار للبايع فقط، وعلي الثالث يثبت بتخلفه الخيار لهما معاً. وملاك الكلام في الجميع واحد.

(1) قد اختلفت كلمات الأصحاب في هذه المسألة كثيراً، فقد صرح بشرطية الاختبار في صحة البيع في المراسم والوسيلة، وحكي عن أبي الصلاح. وقال في المقنعة: (وكل شيء من المطعومات والمشمومات وما يمكن الإنسان اختباره من غير أفساد له كالأدهان المستخبرة بالشم، وصنوف الطيب والحلواء المذوقة فإنه لا يصح بيعه بغير اختبار له، فإن ابتيع من غير اختبار كان البيع باطلاً، والمتبايعان فيه بالخيار)، ونحوه في النهاية، إلا أنه قال: (والمتبايعان فيه بالخيار، فإن تراضيا بذلك لم يكن به بأس) وكذا عن ابن البراج، إلا أنه ذكر الخيار للمشتري لا غير. وقد يجعل ذكرهم للخيار قرينة علي أن مرادهم من البطلان جواز البيع وعدم لزومه، لا عدم انعقاده.

وقرب عدم اشتراط الاختبار وصحة البيع مع الجهل بحال المبيع من هذه الجهات في الشرايع والنافع وكشف الرموز والقواعد والمختلف والدروس والتنقيح وغيرها. ونسبه للمتأخرين في التنقيح، وفي جامع المقاصد أنه المشهور بين الأصحاب، وفي الرياض: (وعليه الأكثر، بل لعله عليه عامة من تأخر). وظاهرهم بل صريحهم لزوم البيع إلا أن يظهر معيباً، فيثبت خيار العيب بشروطه.

وقد يستفاد من ذلك أن مرادهم بالصفات التي يقع الكلام في وجوب التعرف عليها هي الصفات التي يتوقف عليها سلامة المبيع والتي يكون فقدها عيباً فيه، دون غيرها مما له دخل في زيادة القيمة، فضلاً عن غيرها مما تختلف فيه الرغبات. كما هو

ص: 63

والثقل والخفة ونحو ذلك مما يوجب اختلاف القيمة. أما ما لا يوجب اختلاف القيمة منها فلا تجب معرفته (1) وإن كان مرغوباً عند قوم وغير

---------------

أيضاً مقتضي المقابلة في كلماتهم بين ما يفسده الاختبار وغيره، حيث أجمعوا علي عدم وجوب الاختبار في الأول، وأن الخيار فيه يدور مدار العيب وعدمه، حيث يناسب ذلك كون الفحص الذي هو محل الكلام فيما لا يفسده الاختبار هو الفحص عما يكون تخلفه عيباً.

نعم هو لا يناسب إطلاق من أوجب الفحص، خصوصاً بعد أن كان دليله تجنب الغرر، لوضوح أن مرادهم بالغرر يعم كل ما يتعلق بمقدار المالية، لا خصوص ما يتعلق بالعيب.

وكيف كان فحيث سبق عدم نهوض النهي عن بيع الغرر بالاستدلال في أمثال المقام فالمتعين البناء علي عدم وجوب الاختبار، عملاً بعموم أدلة النفوذ. بل من القريب قيام السيرة علي عدم الالتزام بذلك، لما في الالتزام من تكلف ظاهر، ولأن من الشايع التعرف علي حال الشيء وصفاته بشراء كمية قليلة منه للاختيار والتجربة.

نعم قد يستدل علي وجوب الاختبار بخبر محمد بن الفيض: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشتري ما يذاق، يذوقه قبل أن يشتري ؟ قال: نعم فليذقه، ولا يذوقن ما لا يشتري)(1).

لكن لو غض النظر عن سنده فمن القريب كون السؤال فيه عن جواز الذوق لتوهم حرمته لكونه تصرفاً في مال الغير قبل شرائه أو لكون عدم منع المالك منه للإحراج أو نحوه، فلا يدل الجواب علي الوجوب، بل علي مجرد الترخيص دفعاً للتوهم المذكور. ولا أقل من احتمال ذلك بنحو يرجع إلي إجماله من هذه الجهة.

(1) كأنه لحملهم دليل النهي عن الغرر علي الغرر بلحاظ المالية، دون الغرر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

ص: 64

مرغوب عند آخرين. والمعرفة إما بالمشاهدة (1)، أو بتوصيف البايع (2)،

---------------

بلحاظ الدواعي والرغبات. ولم يتضح منشؤه. ولاسيما أن الثاني قد يكون أهم بلحاظ حال شخص المشتري، بل قد يؤدي إلي الضرر المالي، حيث قد يضطر إلي عدم الانتفاع بما لا يلائمه حتي يكون بحكم التالف عليه، أو إلي بيعه بأقل من ثمنه الذي

اشتراه به.

(1) المراد بالمشاهدة هنا تعرف المتبايعين بأنفسهما علي الخصوصية بالوجه المناسب لها، من نظر أو شمّ أو ذوق أو لمس أو غيرها. والاجتزاء بها متيقن من كلماتهم.

(2) كما ذكره غير واحد هنا، ويظهر مما ذكروه من أن مورد خيار الرؤية بيع ما يكتفي عند البيع بوصفه من دون أن يري. نعم هو لا يناسب بعض كلماتهم السابقة. كما أن ابن إدريس خصه، بما إذا لم يكن المبيع حاضراً، أما مع حضوره فلابد من اختباره.

وكيف كان فقد وجهه غير واحد بأنه يكفي في رفع الغرر بناء علي كونه الدليل في المسألة بالتقريب المتقدم. وكأنه لابتناء البيع علي كون المبيع بالوصف الخاص، لا مردد الحال. وبذلك يختلف وصف البايع عن وصف غيره، حيث لا يبتني البيع معه علي الوصف.

لكن ذلك وحده لا يكفي في رفع الغرر بالتقريب المذكور إذا لم يكن التوصيف موجباً للعلم بحصول الصفة المطلوبة.

نعم قد يقال: إن ثبوت الخيار بتخلف الوصف حينئذ يكفي في رفع الغرر، لإمكان تدارك الأمر بالفسخ.

وفيه: أنه كما يمكن تدارك الأمر بالخيار مع الوصف يمكن تدارك الأمر به مع اشتراطه مطلقاً، او بتخلف الوصف، لكن من دون تعهد من البايع بالوصف، كما لو

ص: 65

أو بالرؤية السابقة (1).

---------------

باعه ما يجهل حاله من حيثية الجودة والرداءة من دون أن يوصف بالجودة مع اشتراط الخيار لو لم يكن جيداً. وظاهر كلمات القائلين باشتراط العلم بحال المبيع عدم كفاية ذلك في صحة البيع. وذلك يكشف عن أن تطبيق الغرر عندهم بلحاظ نفس البيع ومضمونه، لا بلحاظ ما يترتب عليه من خيار أو نحوه.

مضافاً إلي أن تدارك الأمر بالخيار لا يتم فيما لو اشترط سقوط خيار الرؤية، بناء علي نفوذ الشرط المذكور، علي ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالي.

(1) أما مع اعتقاد عدم التغير ولو للغفلة عن الحال فظاهر، بل هو المدعي عليه في الجملة الإجماع في ظاهر التذكرة وعن غيرها. لعدم الغرر الذي هو دليلهم في المقام.

وأما مع احتماله فهو المصرح به في المبسوط والخلاف والشرايع والتذكرة والقواعد وغيرها. وقد استدل عليه غير واحد بالأستصحاب، الراجع لأصالة عدم تغير الشيء عما كان عليه حين رؤيته.

لكن من الظاهر أنه ليس أصلاً شرعياً بعد أن لم يكن الحال السابق مأخوذاً شرعاً في صحة البيع، وإنما المأخوذ فيه عندهم عدم الغرر والخطر.

ومن ثم لا ينفع إلا في مورد عدم تغير المبيع عما كان عليه عادة، حيث لا يبعد بناء العقلاء علي عدم الاعتناء باحتمال التغير، بحيث لا يكون الإقدام معه برجاء بقاء الحال السابق تغريراً بنظرهم. أما في غير ذلك فلا يخرج البيع معه عن كونه غررياً. ومجرد ثبوت الخيار بالتخلف لا ينفع في رفع الغرر عندهم، كما يظهر مما سبق عند الكلام في الوصف.

هذا وقد يدعي عدم وجوب الفحص عن الصفة التي يكون المبيع بتخلفها تالفاً عرفاً، كموت الشاة وفساد اللبن، أو معيباً كمرض في الحيوان وتخرق الثوب،

ص: 66

(67)

(مسألة 8): يشترط أن يكون كل واحد من العوضين ملكاً مثل أكثر البيوع الواقعة بين الناس أو ما هو بمنزلته (1)، لاختصاصه بجهة

---------------

لا لعدم وجوب العلم بها، بل لكون أصالة السلامة من الأصول المعول عليها عند العقلاء، وهي تقتضي إحراز الصفة المشكوكة بنحو يقوم مقام العلم.

لكن عدم صدق الغرر بذلك إنما يكون مع الغفلة عن عدم حصول الصفة المذكورة، لارتكاز أصالة السلامة، أو كان تخلفها بعيداً عادة، أما مع احتمالها بوجه معتد به فالغرر حاصل قطعاً. وأما بطلان البيع بتخلف القسم الأول، وثبوت الخيار فيه بتخلف القسم الثاني فهو لا يكفي في منع صدق الغرر، كما يظهر مما سبق عند الكلام في وصف البايع.

هذا كله بناء علي تحكيم النهي عن بيع الغرر في المقام، أما بناء علي ما ذكرنا من عدم نهوضه بالاستدلال فلا ملزم بشيء مما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) وذكروه في المقام.

(1) قد يقرب ذلك بأن البيع لما كان من المعاوضات المبتنية علي سد العوض مسد العوض وتدارك خسارته به فلابد من كون المبيع مختصاً بجهة يلحقها النقص بفقده، سواءً كانت الجهة مالكة له، كما في بيع الإنسان لملكه، أم كانت تلك الجهة عنواناً يختص بها المبيع من دون أن يكون مملوكاً لأحد، كما في بيع المال الزكوي وبقية الصدقات والمال الموصي به ومال الوقف ونحوها. لعدم الفرق بينهما في صدق المعاوضة المقومة للبيع.

لكن من الظاهر أن كل شيء له عنوان يختص به حتي الحر والمباحات الأصلية، فكما أن الوقف مثلاً يختص بالجهة الموقوف عليها، كذلك الحر معنون بعنوان خاص، فيمكن فرض بيعه وقيام الثمن مقامه في كونه غير مملوك لأحد. كما أن المباحات الأصلية علي حال خاص، فيمكن فرض بيعها وقيام الثمن مقامها في ذلك.

ص: 67

من الجهات (1)، مثل بيع ولي الزكاة بعض أعيان الزكاة وشراء العلف لها. وعليه فلا يجوز بيع ما ليس كذلك، مثل بيع السمك في الماء والطير في

---------------

علي أن التقريب المذكور إنما يجري في الثمن بناء علي لزوم خروجه ممن يصير المثمن له، ليكون المثمن ساداً مسده وعوضاً عنه. أما بناء علي ما هو التحقيق من عدم لزوم ذلك كما تقدم منا عند الكلام في معني البيع فلا يجري فيه هذا التقريب، لعدم كون المبيع ساداً مسد الثمن، ليلزم واجدية الثمن لعنوان خاص به يقوم المبيع مقامه فيه.

فالعمدة في وجه ما ذكره (قدس سره) وذكروه في المقام هو عدم السلطنة في غير الملك ونحوه من ذوات العناوين الخاصة التي يكون لها متول خاص أو عام. فعدم جواز بيع المباحات الأصلية مثلاً ليس لامتناع كونها موضوعاً للبيع ثمناً أو مثمناً، بل لعدم السلطنة عليها من عامة الناس، فلا ينفذ بيعهم لها. ومجرد سلطنتهم علي تملكها بالحيازة لا يقتضي سلطنتهم علي بيعها قبل ذلك.

ولو فرض قيام الولي العام ببيعها صح ونفذ بمقتضي ولايته. وكذا الحال في الحرّ، أو يلتزم بعدم جواز بيعه تعبداً، كالميتة.

ومن هنا كان اشتراط السلطنة والقدرة علي التصرف الذي تقدم في الشرط الرابع من شروط المتعاقدين مغنياً عن هذا الشرط، وهو في الحقيقة من صغرياته.

(1) الظاهر عدم الإشكال بينهم في ذلك، كما يظهر بالنظر في كلماتهم، وبملاحظة عمل المتشرعة في الصغريات المختلفة لذلك.

نعم أطلق في بعض كلماتهم اعتبار الملك، وفي الجواهر أن الإجماع بقسميه عليه. لكن الظاهر أن مرادهم بذلك ليس هو الحصر الحقيقي، بل في مقابل الحرّ والمباحات الأصلية. أو أنه مبني علي تكلف دعوي الملكية في جميع ذلك لله تعالي أو للمسلمين أو للفقراء أو غير ذلك، كما يظهر مما يأتي منهم في مال الوقف.

ص: 68

(69)

الهواء (1)، وشجر البيداء قبل أن يصطاد أو يحاز.

(مسألة 9): يشترط أن يكون كل من العوضين طلقاً (2). يعني: لا

---------------

(1) هذا فيما إذا أمكن تسليمها. أما إذا تعذر، أو لم تحرز القدرة عليه، فيبطل البيع من جهة أخري، كما يظهر مما يأتي في المسألة الخامسة عشرة إن شاء الله تعالي.

(2) كذا عبر في الشرايع في شروط المبيع، وتبعه غير واحد. وقد ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أن مرجع الشرط المذكور إلي عدم وجود مانع شرعي من بيع المبيع.

لكن من الظاهر أن ذلك بنفسه ليس شرطاً شرعياً، بل هو منتزع من مانعية الموانع الشرعية من البيع في الموارد المختلفة. وبعبارة أخري: الكبري المذكورة ليست شرعية، بل هي منتزعة من كبريات شرعية تتضمن مانعية الموانع المذكورة.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن مرجع الشرط المذكور إلي اشتراط تمامية السلطنة زائداً علي الملكية. ففيه: أن امتناع البيع عبارة عن قصور السلطنة عنه، فلا معني لتفريع أحدهما علي الآخر. علي أن ذلك ليس مراداً لهم قطعاً، ولذا جعلوا الشرط المذكور في مقابل الشروط الأخر.

نعم قد يراد بقصور السلطنة ما يرجع لنقص في سلطنة الشخص علي التصرف مع مشروعيته في نفسه. وذلك تارة: لعدم أهلية الشخص للتصرف. وأخري: لمزاحمة سلطنته علي المبيع لسلطنة الآخرين، كما لو كان بيعه مزاحماً لحق الغير. ومن الظاهر أن الأول يذكر في شروط المتعاقدين.

وحينئذ قد يدعي أن ما يبحث عنه هنا هو الثاني وهو مرجع عدم الطلقية في كلماتهم، ومنه عدم جواز بيع العين المرهونة لمنافاته لحق المرتهن. ويظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) الجري علي ذلك.

لكن لا مجال لذلك في كلماتهم بعد ذكرهم من صغريات اشتراط الطلقية عدم جواز بيع أم الولد، مع وضوح أنه حكم شرعي، كعدم جواز بيع الميتة. وليس من

ص: 69

(70)

يكون موضوع حق لغير البايع، فلا يجوز بيع العين المرهونة (1).

---------------

أجل منافاته لحقها، ولذا ليس لها الإذن في البيع تنازلاً عن حقها. ولعله لذا جعل سيدنا المصنف (قدس سره) عدم جواز بيع أم الولد في مسألة مستقلة عن هذه المسألة التي موضوعها عدم الطلقية.

مضافاً إلي أن بعض الصغريات المذكورة في كلماتهم ليست مملوكة أصلاً، كالوقف، علي الظاهر الذي قربه سيدنا المصنف (قدس سره). ومن هنا لا معدل عما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره).

أما العلامة (قدس سره) فقد عبر في التذكرة والقواعد بتمامية الملك. قال في التذكرة: (يشترط في الملك التمامية، فلا يصح بيع الوقف، لنقص الملك فيه). وهو بظاهره شرط شرعي مستقل تتفرع عليه عدم صحة البيع في الموارد المذكورة في كلماتهم، نظير القدرة علي التسليم. وحينئذ يقع الكلام تارة: في دليله. وأخري: في صغرياته.

لكن لا حقيقة لما ذكره أصلاً، لعدم معهودية النقص في الملكية عرفاً. بل تقدم أن بعض الصغريات المذكورة في كلماتهم ليست مملوكة أصلاً، كالوقف.

ولذا حمل كاشف الغطاء في شرحه علي القواعد التمامية علي تمامية السلطنة قال: (إذ لا يعقل في أصل الملك الزيادة والنقصان). لكنه مخالف لظاهر القواعد، وما هو كالصريح مما تقدم من التذكرة.

نعم لا يبعد اختلاط نقص السلطنة بنقص الملكية علي العلامة (قدس سره).

كما قد يكون مراده من تمامية الملكية عين مراد الآخرين من الطلقية. ويظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره أنهم فهموا منه ذلك. والأمر سهل.

(1) بلا خلاف كما في الرياض، ويستفاد من جملة من كلماتهم المفروغية عنه، بل الظاهر الإجماع عليه. والعمدة فيه منافاته لحق المرتهن، لأن مقتضي عقد الرهن توثقه لدينه به، بحيث يمكن استيفاؤه منه، والبيع بطبعه مفوت لذلك.

ص: 70

ويؤيده النبوي: (الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرف)(1). إما لعمومه للتصرف الاعتباري، أو لفهمه منه تبعاً، لإلغاء خصوصية التصرف الخارجي عرفاً. غاية الأمر أن ضعف سنده مانع من نهوضه بالاستدلال.

هذا وقد استشكل في ذلك بعض مشايخنا (قدس سره) بأنه لم يتضح قيام إجماع تعبدي في المقام ينهض بالاستدلال، لاحتمال استناد الأصحاب للوجه المذكور في المسألة. وأما منافاة البيع لحق الراهن فهي ممنوعة، حيث لا يعتبر في العين المرهونة أن تكون ملكاً للراهن، وقد صرحوا بجواز استعارة الشيء لرهنه. وحينئذ لا مانع من صحة بيع المرهون مع اشتراط فكّ الرهن، بل مع عدم اشتراط فكه، غاية الأمر أن للمشتري الفسخ، لكون المبيع معيباً. وأما النبوي فهو مع ضعفه منصرف للتصرف المنافي لحق الراهن.

وما ذكره (قدس سره) وإن كان متيناً في الجملة، إلا أن من الظاهر خروج البيع المذكور عن مفروض كلامهم، وأن كلامهم في البيع المتبني علي خروج العين المرهونة عن كونها رهناً، ولذا وقع الكلام بينهم في أنه مع إذن الراهن في البيع هل ينتقل حقه للثمن، فيكون رهناً، أو يسقط حقه بتحقق البيع.

كما أن ما ذكره من أن البيع بشرط فك الرهن لا ينافي حق المرتهن، في محله جداً لو فكه، أو لم يفكه وفسخ المشتري، وإنما الإشكال فيما إذا لم يفكه ورضي المشتري، أو لم يشترط الفك ورضي المشتري، إما لعلمه بالرهن وإقدامه علي شرائه مرهوناً، أو جهله به ثم رضاه ببقائه مرهوناً بعد علمه.

فإنه أولاً: قد يبطل البيع لعدم العلم بسلامة المبيع للمشتري، علي ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي عند الكلام في اعتبار القدرة علي تسليم المبيع.

وثانياً: قد ينافي حق المرتهن، لأن الغرض من الرهن ليس مجرد استحقاق

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 17 من أبواب كتاب الرهن حديث: 6. كما روي عن المختلف ج: 5 ص: 221.

ص: 71

(72)

نعم لو أذن الراهن (1)

---------------

استيفاء الدين شرعاً، بل التوثق لذلك بالنحو الذي أقدم عليه المرتهن، ولذا كثيراً ما يبتني الرهن علي حبس العين المرهونة عنده وعدم تصرف الراهن فيها تصرفاً قد يصعب معه استيفاء الدين منها وإن كان مستحقاً شرعاً. وحينئذ قد يكون تبدل مالك العين المرهونة مخالفاً لما أقدم عليه المرتهن ولو ارتكازاً من غير تصريح، حيث قد يكون ذلك سبباً لإحراجه أو صعوبة استيفاء دينه من العين أو نحو ذلك.

وبعبارة أخري: التصرف الممنوع منه الراهن لم يثبت تحديده شرعاً، ولاسيما بعد ضعف النبوي، وإنما هو تابع لما أقدم عليه المتراهنان ولو ارتكازاً، وقد يكون تبدل المالك منافياً له، فيكون البيع منافياً لحق المرتهن.

وعلي كل حال محل كلامهم البيع المبتني علي سقوط حق المرتهن من العين، بحيث يستقل المشتري بها. فإن تمت منافاة البيع مطلقاً لحق المرتهن لما ذكرنا تعين عدم نفوذه مطلقاً أو إذا لم يجز المرتهن علي ما يأتي الكلام فيه وإلا تعين عدم نفوذ خصوص البيع المبتني علي استقلال المشتري بالعين مطلقاً أو إذا لم يجز المرتهن. فلاحظ.

(1) الظاهر أن المراد إذن المرتهن، وهو الذي تكون العين المرهونة وثيقة لدينه، لأنه هو الذي يثبت حقه في العين المرهونة، ويكون بيعها منافياً لحقه في الجملة. أما الراهن فهو المالك لها غالباً، والبيع من غير إذنه راجع إلي فقد شرط الملك، لا فقد شرط الطلقية الذي هو محل الكلام.

هذا والظاهر عدم الإشكال في جواز البيع مع إذن المرتهن. ويظهر مما ذكروه في بعض فروع الإذن في البيع المفروغية عنه. ويظهر وجهه مما سبق في وجه المنع، لظهور أنه إذا كان وجه المنع هو منافاته لحق المرتهن فله التنازل عن حقه، والإذن في الخروج عن مقتضاه، فيرتفع المانع من البيع.

غاية الأمر أن الإذن إن رجع إلي إسقاط حقه رأساً خرجت العين بالإذن عن

ص: 72

أو أجاز (1)

---------------

كونها مرهونة وإن لم يتحقق البيع. وإن رجع إلي الأذن في الخروج عن مقتضي الحق، من دون إسقاط له، لم تخرج عن كونها مرهونة قبل البيع.

وفي الثاني تارة: يرجع إلي التنازل عن حقه مع البيع رأساً، بحيث يسقط حق الرهانة. ولا إشكال في صحته، وترتب الأثر عليه. وهو المتيقن من كلماتهم.

وأخري: إلي التنازل عن حقه في شخص المبيع، مع انتقال حق الرهانة للثمن بدله. والظاهر صحته وترتب الأثر عليه أيضاً.

نعم في الجواهر: (ظاهر الأصحاب في المقام سقوط حق الرهانة، لعدم تعقل بقائها في المبيع حتي تقابل بالثمن... وإن كان فيه نوع تأمل). لكن لا تأمل في أنه متعقل. بل هو مقتضي الأصل، فإن رفع اليد عن حق الارتهان رأساً يحتاج إلي مؤنة، والأصل عدمه.

وثالثة: إلي عدم التنازل عن حقه حتي في شخص المبيع، بحيث يبقي مرهوناً وهو في ملك المشتري. والظاهر صحته وترتب الأثر عليه أيضاً.

لعدم المانع منه بعد إمكان كون العين المرهونة ملكاً لغير الراهن. وقد سبق الكلام في توقف صحة البيع بالنحو المذكور علي إذن المرتهن.

(1) قال في النهاية: (ومتي باع الرهن أو تصدق به أو وهبه أو آجره أو عارضه [عاوضه. ظ] من غير علم المرتهن كان ذلك باطلاً... فإن أمضي المرتهن ما فعله الراهن كان ذلك جائزاً ماضياً...). وبذلك صرّح غير واحد ممن تأخر عنه ونسبه شيخنا الأعظم (قدس سره) لجمهور المتأخرين. وقد يحمل عليه إطلاق من حكم بالبطلان من قدماء الأصحاب، كما في المقنعة والخلاف والمبسوط وعن غيرها. حيث قد يحمل علي البطلان في نفسه، فلا ينافي صحته بالإجازة.

وكيف كان فهو مقتضي عموم نفوذ العقود المستفاد من قوله تعالي: (أوفو

ص: 73

بالعقود)(1) بالتقريب المتقدم عند الكلام في عقد الفضولي.

وحاصل تقريبه في المقام: أن المخاطب الوفاء بالعقد هو خصوص من يتعلق العقد به، لكون مضمونه منافياً لسلطنته علي نفسه أو ماله، أو منافياً لحقه، كما في المقام. غايته أن خطابه بالوفاء به لما كان متفرعاً علي نفوذ العقد ودالاً عليه فهو كما ينفذ في حقه ينفذ في حق غيره، لعدم قابلية النفوذ للتبعيض عقلاً ولا عرفاً.

وحينئذ فمن الظاهر أن الوفاء بالعقد فرع الالتزام به، نظير الوفاء بالوعد والنذر والعهد وغيرها، ومع عدم الالتزام به لا موضوع للوفاء. وكما يكون الالتزام به قبل وقوعه بالإذن فيه أو بالقيام به مباشرة يكون أيضاً بإمضائه له وإجازته بعد وقوعه. وبذلك يدخل المرتهن بإجازته للعقد الواقع علي العين المرهونة في الخطاب بالوفاء في الآية الشريفة، فينفذ في حقه بعد أن لم يكن نافذاً بسبب منافاته لحق الرهانة.

مضافاً إلي ما في صحيح زرارة من تعليل صحة نكاح العبد بغير إذن سيده إذا أجازه سيده بقوله (عليه السلام): (إنه لم يعص الله، وإنما عصي سيده، فإذا أجازه فهو له جائز)(2). لظهوره في أن الخلل في العقد إذا كان لذاته، وللخروج به عما هو المشروع، لا يمكن تصحيحه. أما إذا كان للخروج به عن سلطنة من يعتبر إعمال سلطنته كالمرتهن في المقام أمكن تصحيحه بإمضاء صاحب السلطنة له. وهو المطابق للمرتكزات العقلائية المؤيدة ببعض النصوص الخاصة في الموارد المتفرقة، علي ما فصلنا الكلام فيه في مبحث بيع الفضولي. فراجع.

هذا وقد خالف في ذلك المحقق التستري (قدس سره) في المقابس فذهب إلي بطلان البيع رأساً وعدم نفوذه بإجازة المرتهن، وأطال في بيان ذلك بما لا يسعنا تعقيبه، لظهور ضعفه. وما ينبغي التعرض له أمران يتعلقان بالاستدلال السابق:

الأول: أن بيع الفضولي يبطل رأساً إذا وقع علي وجه التعدي علي الأصيل،

********

(1) سورة المائدة الآية: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

ص: 74

أو فكّ الرهن (1) صح.

---------------

وإنما يصح بالإجازة إذا وقع علي وجه النيابة عن المالك، وذلك لا يجري في المقام لفرض أن البايع هو المالك، وهو الراهن، فلا معني لقصده النيابة عن المرتهن، بل هو واقع علي وجه التعدي عليه.

ويظهر اندفاعه مما سبق عند الكلام في بيع الفضولي من صحة بيع الفضولي بالإجازة وإن باع لنفسه، لاعتقاد كونه مالكاً، أو تعدياً كالغاصب، عملاً بالعموم المتقدم.

الثاني: أن التعليل المتقدم في صحيح زرارة إنما يجري إذا كان الفضولي غير مالك، لأنه يكون قد عصي المالك بإيقاعه العقد علي ملكه، أما إذا كان مالكاً محجوراً عليه كالراهن في المقام فهو عاص لله تعالي بتصرفه، وليس هو عاصياً لغيره، كالمرتهن في المقام، لعدم كونه مالكاً.

وفيه: أن العصيان للمالك في مورد الصحيح إنما هو بلحاظ مخالفته لمقتضي سلطنته علي ماله ونظيره حاصل في المقام بالإضافة إلي المرتهن، لمخالفة البيع لمقتضي حقه في العين المرهونة.

والمراد بعصيان الله تعالي في الصحيح إنما هو بعدم شرعية العقد ذاتاً، كالتزويج في العدة كما صرح به في بعض النصوص(1) دون ما يعم قصور السلطنة، وإلا كان التزويج أو البيع بغير إذن المالك معصية لله سبحانه أيضاً. ومن هنا لا معدل عما تقتضيه الأدلة من نفوذ البيع بإجازة المرتهن، علي ما سبق توضيحه.

(1) قال في التذكرة: (ولو باع ولم يعلم المرتهن ففك لزم البيع). وحكي نحوه عن الإيضاح والشهيد في الحواشي، وقواه في جامع المقاصد وغيره. لارتفاع المانع. وتنظر فيه في القواعد.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 2.

ص: 75

(76)

وكذا لا يجوز بيع الوقف (1) إلا في موارد:

---------------

والظاهر عدم لزوم البيع بذلك، ويبقي غير نافذ، لأنه نظير من باع فضولاً ثم ملك، الذي كان التحقيق فيه عدم نفوذ البيع، علي ما أوضحناه في ذيل الكلام في البيع المذكور من المسألة الثالثة عشرة من فصل شروط المتعاقدين. فراجع.

نعم لو قلنا بعدم منافاة البيع للرهن، وأن المبيع يبقي مرهوناً ولا يستقل به المشتري، فيكون له الخيار لو لم يعلم بالرهن للعيب، لم يبعد سقوط خياره بالفك، إذا رضي بعدم الاستقلال بالمبيع إلي حين الفك، أو كانت المدة قصيرة، بحيث لا يعد عدم الاستقلال فيها عيباً عرفاً.

(1) قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (إجماعاً محققاً ومحكياً). وفي شرح القواعد لكاشف الغطاء أنه من الظهور بحد يعد من الضروريات. وقد يستدل عليه مضافاً إلي ذلك بوجوه:

الأول: ما في الشرح المذكور وأقره سيدنا المصنف (قدس سره) - من أخذ الدوام في مفهوم الوقف. ويناسبه ما في الجواهر، حيث قال: (والذي يقوي في نظر [النظر. ظ] بعد إمعانه أن الوقف مادام وقفاً لا يجوز بيعه. بل لعل جواز بيعه مع كونه وقفاً من المتضاد. نعم إذا بطل الوقف اتجه حينئذ جواز البيع).

وحمله كما يظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) - علي جواز البيع بمعني نفوذه، ليرجع إلي أن صحة البيع تستلزم بطلان الوقف، مما يأباه سياق كلامه، لأن حديثه في مسوغات البيع، لا في آثاره. بل بطلان الوقف بالبيع من الوضوح والبداهة بحيث لا يحسن بيانه، مع أن مقتضي كلامه أنه أمر لا يخلو عن خفاء، وإنما يتضح بعد إمعان النظر.

هذا وقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن أخذ التأبيد في مفهوم الوقف لا ينافي جواز بيعه شرعاً وهو وقف قبل أن تبطل وقفيته، لإمكان رفع الشارع الأقدس اليد

ص: 76

عن لزوم الوقف وحكمه بجواز إبطاله، فهو قبل إبطاله بالبيع وقف يبتني علي التأبيد، إلا أنه غير لازم الوقفية مؤبداً، بل يجوز شرعاً إبطال وقفيته ببيعه.

وعلي ذلك جري الأصحاب في بعض موارد جواز بيع الوقف، حيث لا إشكال بينهم في عدم بطلان الوقف بجواز بيعه فيها، كما نبّه له شيخنا الأعظم (قدس سره).

لكن ذلك مستلزم لكون دليل جواز البيع منافياً لدليل نفوذ الوقف ومخصصاً له، لأنه إذا فرض أن مفاد الوقف التأبيد فحيث كان نفوذ البيع مستلزماً لبطلان الوقف وعدم تأبيده، فدليل نفوذ البيع يكون منافياً لدليل نفوذ الوقف ومخصصاً له في الحال المذكور. مع أنه لا تنافي بين الدليلين عرفاً، بل جواز البيع متفرع علي نفوذ الوقف، والنسبة بين دليليهما نظير النسبة بين دليل نفوذ النكاح ودليل جواز الطلاق.

مضافاً إلي أن أخذ التأبيد في مفهوم الوقف بالنحو الذي يمنع من البيع لا يناسب جواز اشتراط الواقف البيع، كما يأتي في المسوغ الثالث لبيع الوقف إن شاء الله تعالي. لظهور أن الشرط لا ينفذ إذا كان منافياً لمضمون الأمر المشترط فيه.

ومن هنا يتعين البناء علي عدم أخذ الدوام في مفهوم الوقف، أو علي أن الدوم المأخوذ في مفهومه لا ينافي البيع. والظاهر الثاني. وتوضيح ذلك:

أن الوقف متقوم بانقطاع علاقة الواقف بالعين الموقوفة، بحيث تخرج عن ملكه ولا تعود إليه، في مقابل مثل التحبيس، الذي تبقي معه العين في ملك المالك، ويكون حبسها بلحاظ منفعتها لا غير، ومثل بيع الشرط الذي تخرج فيه العين عن ملك البايع مع استحقاقه الرجوع بها بعد مدة.

ولذا لو بطل الوقف بخراب أو انتفاء الجهة الموقوف عليها أو غيرهما لا تعود العين الموقوفة إلي ملك الواقف، بل تبقي صدقة. كما أنه لا يشرع الوقف المنقطع، إلا أن يرجع للتحبيس الذي تبقي فيه العين ملكاً للمحبس.

والذي يترتب علي ذلك هو عدم جواز بيعه بنحو يصير ثمنه للواقف، لانقطاع

ص: 77

علقته به، وعدم مشروعية اشتراط مثل البيع المذكور، ولمنافاته لمفاد الوقف. أما عدم جواز بيعه بالنحو المذكور، أو عدم جواز اشتراط ذلك فهو لا يترتب علي التأبيد بالمعني المذكور.

الثاني: أن عدم مشروعية البيع من لوازم الوقف وخواصه، كما يستفاد من بعض النصوص، كصحيح ربعي بن عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: تصدق أمير المؤمنين (عليه السلام) بدار له في المدينة في بني زريق، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تصدق به علي بن أبي طالب وهو حي سوي، تصدق بداره التي في بني زريق صدقة لا تباع ولا توهب حتي يرثها الله الذي يرث السماوات والأرض. وأسكن هذه الصدقة خالاته ما عشن وعاش عقبهن، فإذا انقرضوا فهي لذي الحاجة من المسلمين)(1). وقريب منه معتبر عجلان أبي صالح(2).

فقد استظهر شيخنا الأعظم (قدس سره) أن الوصف لنوع الصدقة وهو الوقف لا لشخصها، كشرط خارجي منه (عليه السلام)، وإلا كان المناسب تأخيره عن ركن العقد، وهو الموقوف عليه.

ويشكل بأن ذلك وحده لا يكفي في تقريب الظهور. ولاسيما بعد أن لم يؤخذ الموقوف عليه جزءاً من جملة إنشاء الوقف، بل ذكر في جملة مسأنفة. ولعله لذا أخر عدم البيع عن بيان الموقوف عليه في صحيح أيوب بن عطية: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)

يقول: قسم رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) الفيء، فأصاب علياً (عليه السلام) أرض فاحتفر فيها عيناً، فخرج منها ماء... فجاء البشير يبشره. فقال: بشر الوارث. بشر الوارث. هي صدقة بتاً بتلا، في حجيج بيت الله وعابر سبيله، لا تباع ولا توهب ولا تورث. فمن باعها أو وهبها فعلية لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)(3). ونحوه في ذلك صحيح عبد الرحمن بن الحجاج في صدقة الإمام الكاظم (4)(عليه السلام).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 6 من أبواب أحكام الوقوف والصدقات حديث: 4، 3، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 6 من أبواب أحكام الوقوف والصدقات حديث: 4، 3، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 6 من أبواب أحكام الوقوف والصدقات حديث: 4، 3، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 10 من أبواب أحكام الوقوف والصدقات حديث: 5.

ص: 78

ومثله ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن جملة لا تباع ولا توهب في حديثي ربعي وعجلان صفة للمصدر الذي هو مفعول مطلق لبيان النوع، وهو صدقة. ومقتضي ذلك أن عدم البيع والهبة من خواص نوع هذه الصدقة، وهي الوقف.

إذ فيه: أن المراد بالمصدر المبين للنوع في كلام النحويين ما يعم الدال علي الخصوصية الشخصية، كقولنا: سرت سيراً متعباً. بل لعله مختص بذلك.

نعم لا يبعد إشعار الأحاديث المتقدمة بسبوق عدم البيع والهبة لبيان خاصة هذا النوع من الصدقة، لا شرطاً زائداً عليه من قبله (عليه السلام) في خصوص الفرد الخاص منها، لتعارف بيان الخصوصيات الفردية بصورة الشرط، وفي جملة مستأنفة.

لكن من القريب جداً سوقه بلحاظ طبيعة الوقف لتأكيد كونه محبساً وغير مملوك لأحد، ليجوز له بيعه وهبته حيث يكون البايع حينئذ غاصباً معتدياً، كما قد يناسبه قوله (عليه السلام) في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج المشار إليه آنفاً: (لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيعها، ولا يبتاعها، ولا يهبها، ولا ينحلها، ولا يغير شيئاً مما وصفت عليه، حتي يرث الله الأرض ومن عليها).

ولا أقل من كون ذلك مقتضي الجمع بينها وبين ما تضمن مشروعية ترخيص الواقف في نفسه بيع الوقف، علي ما أشرنا إليه آنفاً.

الثالث: إطلاق بعض النصوص الخاصة المتضمنة عدم جواز بيع الوقف كصحيح أبي علي بن راشد: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) قلت: جعلت فداك اشتريت أرضاً إلي جنب ضيعتي بألفي درهم، فلما وفرت المال خبرت أن الأرض وقف. فقال: لا يجوز شراء الوقوف [الوقف. يب]، ولا تدخل الغلة في مالك [ملكك]...)(1).

الرابع: أن مقتضي أدلة نفوذ الوقف لزوم العمل علي مقتضاه وعدم الخروج عنه بالبيع وغيره فيما إذا كان منافياً له.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 10 من أبواب أحكام الوقوف والصدقات حديث: 1.

ص: 79

(80)

(منها): أن يخرب بحيث لا يمكن الانتفاع به (1) مع بقاء عينه، كالحيوان المذبوح والجذع البالي والحصير المخرق.

---------------

نعم إذا لم يكن منافياً له تعين قصور هذا الوجه عنه، ولم يبق إطلاق إلا صحيح أبي علي بن راشد.

ثم إن مقتضي هذين الوجهين عدم الفرق بين أنواع الوقف من الخاص والعام، وعدم الفرق أيضاً بين البناء علي كون الوقف فيها أو في بعضها يبتني علي تمليك الموقوف عليهم وعدمه، غاية الأمر أنه مع ابتناء الوقف علي التمليك يكون المورد من صغريات شرطية الطلقية في الملك في جواز البيع، ومع عدمه يكون المورد من موارد المنع عن البيع بملاك آخر، ولا أثر لذلك عملاً. ومن ثم لا ينبغي إطالة الكلام في ذلك هنا. إلا أن يبتني عليه الاستدلال في بعض الفروع المتعلقة بالمقام، فيبحث عن ذلك حينئذ، كما يأتي إن شاء الله تعالي.

(1) يعني: في الجهة الموقوف عليها. وجواز بيعه حينئذ هو المصرح به في كلام جماعة. بل لعله المعروف بين الأصحاب. وقد يستدل عليه بوجوه:

الأول: أن ذلك مقتضي نفس الوقف، لأن تسبيل المنفعة بنحو التأييد وحتي يرث الله الأرض ومن عليها، مع ما هو معلوم من أن العين الموقوفة كثيراً ما تسقط عن الانتفاع بنفسها، كاشف عن سعة موضوع الوقف والتحبيس بنحو يقتضي الانتقال للبدل والانتفاع به، وأن وقف العين إنما هو بلحاظ ماليتها التي يمكن حفظها بالتبديل.

وتعابيرهم في بيان ذلك وإن كانت لا تخلو عن اختلاف وإشكال، إلا أنه يمكن استيضاحه بملاحظة نظيره، وهو ما إذا دفع الأب لولده قدراً من المال، وقال له: تعيش بهذا المال، فإن قلة المال بنحو لا تناسب كونه معاشاً له طول عمره قرينة علي أن المراد به اتخاذه رأس مال يتجر به ويعيش بربحه، فكذلك الحال في المقام.

ص: 80

ولا يخفي أن ذلك لو تم إنما ينهض بتصحيح البيع فيما إذا كان الوقف الخراب صالحاً لأن يستبدل به ما يمكن الانتفاع به في الجهة الموقوف عليها بنحو الاستمرار ولو بتكرار التبديل بمرور الزمن. أما إذا لم يصلح لذلك فالوجه المذكور يقصر عنه.

علي أن الوجه المذكور لا يخلو عن إشكال، لأن المراد بسعة موضوع الوقف والتحبيس بنحو يقتضي الانتقال للبدل إن كان هو إلغاء خصوصية شخص العين الموقوفة، وأن الانتفاع بالعين بلحاظ ماليتها، نظير مثال رأس المال المتقدم كما قد يظهر بدواً من تقرير درس بعض مشايخنا (قدس سره) - فهو خلاف المقطوع به من حقيقة الوقف، ولذا صرحوا بعدم جواز وقف النقود إذا لم تصلح للانتفاع بشخصها، بل بالاتجار بها لا غير، كما صرحوا بأن البيع مخالف لمقتضي الوقف في الجملة ولو بإطلاقه. بل هو أوضح من أن يحتاج لذكر الشواهد.

وإن كان المراد بذلك انحلال الوقف إلي وقف العين بشخصها مع إمكان الانتفاع بها، ووقفها بلحاظ كونها مالاً صالحاً للتبديل عند تعذر الانتفاع بها كما يظهر من بعض المحققين (قدس سره) في حاشيته علي المكاسب، ومما حكاه عن شيخه المحقق الخراساني (قدس سره) في بعض كلماته فالظاهر أن الانحلال المذكور مغفول عنه نوعاً. ولو فرض التفات الواقف إليه فمن شأنه أن ينص عليه، وعلي بيان حال الوقف مع تعذر الانتفاع به الخراب ونحوه. وأما ابتناء الوقف علي الدوام فإنما هو بمعني الدوام مادامت العين صالحة للانتفاع بها.

والتعبير بمثل: حتي يرث الله الأرض ومن عليها إنما يحسن فيما من شأنه البقاء، ولو للغفلة أو التغافل عن تقلبات الدنيا وتغير الأوضاع، كالأرض الزراعية والدار التي يفترض تعميرها أو ترميمها ولو من قبل الموقوف عليهم من أجل أن ينتفعوا بها، كما يناسب ذلك مثل قوله (عليه السلام): في صحيح ربعي المتقدم: (صدقة لا تباع ولا توهب حتي يرث الله الأرض ومن عليها).

ولو فرض التعبير بذلك عما ليس من شأنه البقاء، بنحو يمكن الانتفاع به

ص: 81

بالوجه الذي يتضمنه الوقف، فلابد كون المراد به الكناية عن مجرد الدوام بالمعني الذي ذكرنا. كيف والأعيان الموقوفة التي يمكن الانتفاع بها بالنحو المنصوص عليه في الوقف باستمرار ولو من طريق التبديل بحيث يستغني به عن الدعم من جهات خارجية كتبرع ونحوه أندر النادر، وغالب الأوقاف لا تصلح لذلك لنقص ماليتها بخرابها.

بل كثير منها يضمحل أو يتعطل حتي يفقد ماليته، أو يبقي القليل منها بحيث لا يعتد بمنفعته بدله، كالكتب والفرش والآلات المختلفة وكثير من أدوات البناء وغيرها وغيرها، فكيف يمكن مع ذلك أن يكون قصد الواقف ارتكازاً وبنحو العموم هو وقف العين بلحاظ ماليتها، لينتفع ببدلها في الجهة الموقوفة عليها؟!.

هذا مضافاً إلي أن المصرح به فيما عن بعض مشايخنا (قدس سره) في التقرير المذكور أن الموضوع في هذه المسألة ليس هو الخراب، بل ما يترتب عليه، وهو تعذر الانتفاع في الجهة الموقوف عليها، فمعه يجوز البيع ولو مع عدم الخراب، كالدار الموقوفة لسكني الموقوف عليهم إذا كانت في بلدة قد خربت وتركها أهلها، بحيث لا يمكن الانتفاع بالدار في السكن. ولعله عليه يبتني ما أفتي به من جواز البيع في الصورة الرابعة.

وحينئذ كما يمكن جعل دوام الانتفاع بالعين الموقوفة حتي يرث الله تعالي الأرض ومن عليها قرينة علي إلغاء خصوصية العين ولو بنحو تعدد المطلوب، فيجب بيع الدار في الفرض المتقدم لشراء داراً أخري في بلدة عامرة بالسكن، كذلك يمكن جعلها قرينة علي إلغاء خصوصية المنفعة التي أوقفت العين بلحاظها، فلا يجوز بيع الدار في الفرض المتقدم، بل يجب تبديل منفعتها، فبدلاً من سكنها تكون مثلاً محلاً تجارياً أو مزرعة ينفق واردها لصالح الموقوف عليهم. بل لعل الثاني أقرب عرفاً.

وبالجملة: الوجه المذكور يبتني علي تكلف يقطع بعدم ابتناء الوقف عليه. ومن ثم كان الظاهر أن البيع في المقام وأمثاله ليس مقتضي نفس الوقف، ولابد في تصحيحه من وجه آخر خارج عنه.

ص: 82

الثاني: ما ذكره الشيخ في الخلاف أن الدليل علي ذلك الأخبار المروية عن الأئمة (صلوات الله عليهم). لكن لم يتضح مراده من تلك الأخبار، حيث لم نعثر علي ما يدل علي ذلك، ولا علي من استدل عليه بشيء منها.

الثالث: وهو العمدة في المقام. إن الوقف وإن تضمن حبس العين بنحو ينافيه البيع، إلا أنه حبس خاص يبتني علي الانتفاع بالعين في الجهة الخاصة، فمع سقوط العين عن ذلك لخرابها يرتفع موضوع الحبس الذي به قوام الوقف، وتبقي صدقة بمقتضي ما سبق عند الكلام في تقوم الوقف بالتأييد من ابتناء الوقف علي انقطاع علقة المالك بالعين، بحيث لا تعود إليه. ولا أقل من الشك في عودها إليه أو لورثته، فيستصحب عدم ملكهم لها.

وكيف كان فلا ينهض الوجه الرابع بالمنع من البيع حينئذ. كما أن النصوص المتقدمة في الوجه الثاني تقصر عنه، كما يظهر بالرجوع لما سبق عند الكلام فيها. فلم يبق إلا إطلاق صحيح أبي علي بن راشد وهو لا ينهض بالاستدلال أيضاً.

أولاً: لأن من القريب قصوره عن المنع حينئذ، لعدم وضوح صدق الوقف علي العين حينئذ بعد ما سبق من تقوم الوقف بالتحبيس المفروض ارتفاع موضوعه بالخراب، ولو فرض صدقه عرفاً إغفالاً لهذه النكتة، فمن القريب انصراف النهي فيه للبيع المنافي لمقتضي الوقفية، لأن موضوع النهي عن البيع في المقام حيث كان مناسباً للمنهي عنه ارتكازاً فمن القريب قصور النهي عن غير مورد الارتكاز، نظير ما ذكرناه في نصوص الوجه الثاني، وليس هو مثل النهي في موضوع تعبدي محض كالنهي عن بيع مثل الخمر والميتة.

وثانياً: لأنه مروي بوجهين: (الوقف) بالإفراد و (الوقوف) بالجمع. ويظهر من كتاب الوقوف من الوسائل طبعة الحروف الأولي أن الأول هو الوارد في التهذيب فقط والثاني هو الوارد في الكافي والفقيه والاستبصار، ولكن في الطبعات الحديثة لهذه الكتب قد ورد الثاني في التهذيب فقط، والأول قد ورد في الكتب الثلاثة الباقية.

ص: 83

وكيف كان فالحديث مروي بالوجهين، وذلك مانع من حجيته في الإطلاق، لاحتمال صحة الرواية بالإفراد، ومعه يحتمل إرادة العهد من اللام، بأن يكون المراد عدم جواز بيع الوقف المسؤول عنه، المفروض كونه ضيعة عامرة ذات غلة، فعدم الاستفصال فيه لا تقتضي العموم للوقف الخراب الذي هو محل الكلام، ولا ينهض بالمنع عن بيعه.

ودعوي: أن مقتضي الاستصحاب عدم جواز بيعه. مدفوعة بأن المراد من عدم جواز البيع لما كان هو عدم جوازه وضعاً، الراجع لعدم نفوذه، فهو راجع إلي حكم تعليقي، وهو عدم نفوذه لو وقع، والتحقيق عدم جريان الاستصحاب التعليقي ذاتاً علي ما أوضحناه في الأصول. إلا أن يراد بالاستصحاب أصالة ترتب الأثر علي البيع وعدم نفوذه، لعدم إحراز السلطنة عليه، وهو أمر آخر يأتي الكلام فيه.

ومثلها دعوي: أن بيع الوقف حينئذ ينافي حق البطون اللاحقة فيه لاندفاعها بأن حقهم في العين إنما هو بلحاظ انتفاعهم بها، واستغلالهم لمنفعتها، فمع فرض تعذر انتفاعهم بها بلحاظ خرابها لا موضوع لحقهم فيها، لينافيه البيع.

نعم بناء علي أن الوقف يرجع إلي تمليك العين للموقوف عليهم بجميع بطونهم علي نحو التعاقب، نظير ملك المسلمين لأرض الخراج، فقد يدعي أن ارتفاع موضوع التحبيس بالخراب لا ينافي بقاء العين في ملكهم. ولا أقل من كونه مقتضي الاستصحاب، فيكون البيع منافياً لسطنتهم علي ما لهم.

والولي المنصوب من قبل الواقف إنما يكون ولياً علي إيصال حقهم لهم، لا ولياً عليهم، بحيث له التصرف في مالهم بالبيع، خصوصاً إذا لم يكن صلاحاً للبطون اللاحقة. غاية الأمر أنه قد يتجه حينئذ بيع الإمام له، لأنه أولي بهم من أنفسهم. وهو خارج عن محل كلام الأصحاب (رضي الله عنهم).

لكن المبني المذكور في غير محله.

أولاً: لما هو الظاهر من وحدة مفاد الوقف في جميع أقسامه، مع أن الجهة

ص: 84

الموقوف عليها قد لا تقبل الملك، كالمساجد والمشاهد والحيوانات وبعض الأعمال الراجحة، كترويج الدين وطبع الكتب النافعة، وغير ذلك.

ودعوي: أن الوقف حينئذ علي المسلمين، كما في الشرايع والقواعد وغيرهما ممنوعة، لأن صيغة الوقف لا تناسب ذلك، ومجرد انتفاع المسلمين به لا يقتضيه، بل هو كانتفاع من ينزل من الباعة ومؤجري وسائل النقل بفناء المنازل الموقوفة علي عابري السبيل، الذي لا إشكال في عدم اقتضائه الوقف عليهم أو ملكهم لها.

بل قد لا ينتفع به المسلمون، كالوقف علي وسائل الدعوة للدين والدعاية له في وسط المجمعات الكافرة.

وثانياً: أن الوقف لو كان علي الإنسان فلا يتعقل فيه الملك إذا ابتني علي بذل المنفعة في العنوان بنحو التخيير بين أفراده، لعدم تعقل الملكية التخييرية.

كما لا يتعقل الملك بنحو التعاقب إلا مع استقلال كل بالملك في وقته، كما في التعاقب علي الملك بمثل البيع والميراث، ولا يتحقق ذلك في الوقف علي البطون، لأن كل بطن يستقل بملك العين بلحاظ استغلاله لتمام منفعتها، ولا يستقل به بلحاظ تعلق حق البطون اللاحقة بها.

ومن هنا يتعين البناء علي عدم ملك الموقوف عليهم للعين، بل هي صدقة محبسة عليهم بالنحو الخاص، غير مملوكة لهم، من دون فرق بين البطن الموجود والمعدوم.

والظاهر أن ذلك يجري في جميع الأموال العامة، كالزكاة ونمائها، فإنها صدقة بنحو خاص من دون أن تكون محبسة ولا مملوكة، وأرض الخراج، فإنها مستحقة بنحو خاص من دون أن تكون مملوكة.

والتعبير عن أرض الخراج في النصوص بأنها للمسلمين لا يحمل علي الملك بالمعني المعهود الذي هو موضوع للسلطنة، بل الاختصاص بهم ولو بلحاظ كونهم مصرفاً لها، أو استحقاقهم لها بنحو خاص.

ص: 85

وبذلك يظهر ضعف ما في القواعد من أن الوقف إن كان علي معين فالأقرب أنه يملكه، وإن كان علي جهة عامة فالأقرب أن الملك لله تعالي.

وجه الضعف: ما أشرنا إليه من وحدة مفاد الوقف، وعدم تعقل ملك الإنسان بالنحو الذي يقتضيه الوقف. مضافاً إلي أن الله سبحانه هو المالك الحقيقي لكل شيء، والملكية الاعتبارية تابعة لجعل الواقف، وهي لا تتضمن تمليك الله تعالي في الجميع.

ومجرد كون الجهة قربية إنما تقتضي نسبة الوقف له تعالي في جميع أقسامه حتي الخاص منه، لأنه نحو من الصدقة التي هي من العبادات. لكن مرجع ذلك إلي كونه عز وجل غاية للواقف من إنشاء الوقف، لا كونه مالكاً للعين الموقوفة ملكية اعتبارية زائداً علي الملكية الحقيقية.

هذا مضافاً إلي أن بقاء الوقف الخراب معطلاً غير قابل لأن تنتفع به الجهة الموقوف عليها أو تستثمره مما يقطع عدم تعلق غرض الشارع الأقدس به، بحيث يستكشف جواز بيعه والانتفاع بثمنه في الجملة حتي لو فرض البناء علي كونه ملكاً للموقوف عليهم، فضلاً عما إذا لم يثبت ذلك أو ثبت عدمه، كما سبق.

وبذلك يظهر أنه لا مجال لأصالة عدم ترتب الأثر، لما سبق من عدم إحراز السلطنة. لظهور أن ما سبق من العلم برضا الشارع الأقدس ببيعه راجع إلي إحراز السلطنة عليه في الجملة.

ثم إنه لا يفرق في ذلك بين الوقف الخاص والوقف العام عدا المساجد ونحوها، لما يأتي في المسألة العاشرة.

لكن منع كاشف الغطاء (قدس سره) في شرحه علي القواعد من بيع الوقف العام مطلقاً. قال: (فلا يصح بيع أرض الوقف العام، لعدم التمامية، بل لعدم أصل الملكية، لرجوعها إلي الله تعالي ودخولها في مشاعره، أمكن الانتفاع بها في الوجه الذي وضعت له أولاً. ومع اليأس من الانتفاع بالجهة المقصودة تؤجر للزراعة ونحوها مع المحافظة علي الآداب اللازمة لها إن كانت مسجداً مثلاً، وإحكام السجلات، لئلا تغلب اليد،

ص: 86

فتقضي بالملك دون الوقف المؤبد. وتصرف فائدتها فيما يماثلها من الأوقاف، مقدماً للأقرب والأحوج والأفضل احتياطاً...).

هذا وقد سبق منع اعتبار الملكية في البيع. كما أنه لم يتضح مراده برجوع الأوقاف العامة لله سبحانه وصيرورتها في مشاعره. فإن أراد بذلك ملكه تعالي لها فقد ظهر ضعفه ما سبق. وإن أراد احترامها باعتبار انتسابها له فهو لا يمنع من بيعها.

ولا مجال لقياسها بمواضع مناسك الحج ونحوها، لأن جعل تلك المواضع مورداً لأداء المناسك مستلزم للمنع من بيعها واختصاص بعض الناس بملكها، فكيف يقاس بها ما تعطل، وسقط عن الانتفاع المعد له ؟! وإلا فما المسوغ لإجارتها، مع أن إجارة العين كبيعها من حيثية اعتبار السلطنة، لظهور تبعية المنفعة للعين.

علي أن الإجارة قد لا تتيسر، أو تكون سبباً للخطر علي مالية العين، لعدم تيسر الضبط المانع من العدوان عليه والاختلاس له.

ومن جميع ما سبق يظهر أنه لا ينبغي الإشكال في جواز البيع مطلقاً.

نعم لابد من تعذر عمارته، بحيث يلزم من عدم بيعه تعطيله. أما مع إمكان عمارته بالنحو الذي وقف عليه فاللازم عمارته وعدم جواز بيعه.

أما إذا كان بوجه قد تعرض له الواقف عند الوقف وعين له مالاً كما لو وقف مدرسة ووقف لها محلات تجارية يكون ريعها لترميم المدرسة وعمارتها فظاهر، لأنه مقتضي نفس الوقف، المفروض نفوذه علي ما أوقف عليه. وأما إذا لم يتعرض الواقف لذلك ولم يكن مقتضي الوقف. فالعمارة تكون بأحد وجهين:

الأول: أن تكون ببذل أجنبي. والوجه في عدم جواز البيع حينئذ أن الواقف وإن حبّس الأرض والعمارة معاً في الجهة الموقوف عليها، وبالخراب بطل تحبيس العمارة، لتعذر الانتفاع بها، إلا أن ذلك لا يقتضي بطلان تحبيس الأرض بعد إمكان عمارتها جديداً والانتفاع بها في الجهة المذكورة، لعدم الارتباطية في الوقف من هذه

ص: 87

الجهة عرفاً. نظير ما إذا خرب بعض الوقف، حيث لا يحتمل بطلان وقف العامر منه.

بل هو أولي من تبعض الصفقة في البيع ونحوه، لأن تبعض الصفقة يكون ببطلان البيع في البعض من أول الأمر ومن حين وقوعه، وبطلان الوقف هنا في البعض وهو العمارة يكون من حين الخراب بعد أن صح بتمامه مدة من الزمن.

الثاني: أن تكون بإجارة الأرض نفسها وبذل الأجرة في عمارتها، وهو ما يعرف في زماننا بالمساطحة. والظاهر أنه مقدم علي البيع، لعدم بطلان وقفية الأرض بعد إمكان الانتفاع بها في الجهة التي عينها الواقف. وغاية ما يلزم هو تأخر بذل المنفعة، أو بذل بعضها، في الجهة المذكورة إلي انتهاء مدة الإجارة، وذلك وحده لا يكفي في بطلان الوقف وجواز بيعه، نظير ما لو تعذر الانتفاع بالوقف في الجهة الموقوف عليها موقتاً، لمانع خارجي، كسلطان قاهر، أو فتنة تخل بالنظام أو نحو ذلك. ولعله ظاهر.

بقي شيء: وهو أن مقتضي الوجه المتقدم كون المعيار في بطلان التحبيس علي الجهة الموقوف عليها هو تعذر استيفاء المنفعة في الجهة التي عينها الواقف، وذلك يكون:

تارة: لخراب الوقف، بحيث يسقط عن أن ينتفع به، وهو ما سبق في كلام سيدنا المصنف (قدس سره) وذكره كثير من الأصحاب.

وأخري: لاستغناء الجهة الموقوف عليها عن منفعة الوقف، كما إذا وقف للمسجد فراش أو جهاز تبريد، فاستغني المسجد عنه بما هو الأحسن.

وثالثة: لتعذر انتفاع الجهة الموقوف عليها بالموقف، كما لو منع السلطان من ذلك.

ورابعة: لارتفاع الجهة الموقوف عليها، كما لو وقف منزلاً أو سقاية في طريق الحجاج أو الزوار، فتبدل الطريق.

ص: 88

وفي الجميع يتعين بطلان التحبيس بارتفاع موضوعه، وهو بذل المنفعة في الجهة التي عينها الواقف.

نعم قد تختلف هذه الصور في جواز البيع وعدمه، إذ مع سقوط العين عن الانتفاع بالخراب ونحوه لا موضوع للتحبيس رأساً، أما مع بقائها صالحة لأن ينتفع بها فيمكن بقاء حبسها بلحاظ الانتفاع بها في جهة خيرية أخري، كنقل فراش المسجد لمسجد آخر أو حسينية مثلاً، وبذل المنزل الموقوف للحجاج أو الزوار في طريقهم مع تبدل طريق الحج أو الزيارة، لغير الحجاج والزوار من المارة في الطريق أو جعله معهداً خيرياً أو غير ذلك.

ولعله إلي ذلك يرجع ما في النهاية والشرايع وغيرهما: وقيل: إنه المشهور، من أنه لو وقف علي مصلحة فبطل رسمها صرف في وجوه البر، وما عن الأصحاب من نقل آلات المسجد لمسجد آخر.

وحينئذ قد يدعي وجوب ذلك لأحد وجوه:

الأول: أن التحبيس علي الجهة الخاصة وإن بطل بارتفاع موضوعه، إلا أنه يتعين بقاء أصل التحبيس بلحاظ وجود المنفعة للعين، وعدم تعذر الانتفاع بها. لابتناء قصر التحبيس علي الجهة الخاصة علي تعدد المطلوب، نظير بقاء العين صدقة عند بطلان أصل التحبيس لخراب الوقف بنحو لا ينتفع به.

وحينئذ يستعمل في وجوه البر، إما لابتناء التحبيس الباقي علي ذلك ارتكازاً، أو لما في الجواهر من أن كل مال لا يعلم مصرفه يصرف في وجوه البر، كما يستفاد مما ورد فيما لو نسي الوصي المصارف التي عينها الموصي(1) وما تضمن جواز التصدق بالمال الموصي به إذا لم يف بالجهة التي أوصي به فيها(2).

وفيه: أن فهم تعدد المطلوب إنما يتجه في التكليف، لابتنائه علي الملاك الذي قد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 61 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 87 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 1.

ص: 89

يستفاد من القرائن أو المرتكزات انحلاله إلي مراتب، فيلزم انحلال التكليف تبعاً لها. ولا مجال له في الإنشائيات ذات المضامين الاعتبارية، كالبيع والوقف وغيرها، لوحدة الأمر المنشأ، وإناطته بموضوعه بتمام قيوده، والمفروض ارتفاعه.

ولا يقاس ذلك ببقاء أصل التصدق، لأن بقاء التصدق مستفاد من ابتناء الوقف علي انقطاع علقة الواقف بالعين الموقوفة التي سبق ابتناء الوقف عليها. ولا أقل من كون عدم رجوع العين للواقف أو وارثه مقتضي الاستصحاب، كما سبق أيضاً، فيكون بحكم الصدقة غير مملوك لأحد.

الثاني: أن ذلك أقرب لغرض الواقف إذ بعد تعذر الانتفاع بالعين في الجهة الموقوف عليها، فاستمرار الانتفاع بها في الوجه القربي الآخر أولي من بيعها وانقطاع الانتفاع بها.

وفيه أولاً: أنه لا عبرة بغرض الواقف، لأن الأدلة إنما تضمنت نفوذ الوقف ولزوم العمل عليه، وهو متقوم بالإنشاء لا بغرض الواقف.

وثانياً: أن ذلك قد يتجه فيما إذا بني علي إنفاق الثمن في وجوه البر المنقطعة، أما إذا بني علي تبديله بما يستمر الانتفاع به من وجوه البر فيختلف حال الواقف.

مثلاً: من وقف فراشاً لمسجد خاص.

تارة: يكون غرضه المهم حين الوقف جعل الفراش صدقة جارية، وإنما اختار المسجد الخاص له لحاجته للفراش. وأخري: يكون غرضه المهم اكتفاء المسجد الخاص، فاختار وقف الفراش له لحاجته له.

فمع فرض تعذر الانتفاع بالفراش في المسجد المذكور يكون الأقرب لغرضه في الصورة الأولي نقل الفراش لمسجد آخر أو معهد خيري أو نحو ذلك. أما في الصورة الثانية فيكون الأقرب لغرضه تبديل الفراش بشيء آخر يحتاجه المسجد نفسه كجهاز التبريد أو الإنارة. بل حتي ما يحتاجه من المصالح المنقطعة، كدفع ثمن الماء أو

ص: 90

(91)

(ومنها): أن يخرب علي نحو يسقط عن الانتفاع المعتد به، مع كونه ذا منفعة يسيرة ملحقة بالمعدوم عرفاً (1).

---------------

الكهرباء أو أجرة الحارس.

الثالث: أن مقتضي الأصل عدم نفوذ البيع وعدم ترتب الأثر عليه مع إمكان الانتفاع بالوقف في وجوه البر الأخري. إذ المتيقن مما سبق في وجه البيع والخروج عن أصالة عدم ترتب الأثر عليه ما إذا لزم من عدم البيع تعطيل المال، دون ما إذا أمكن الانتفاع به في وجه آخر راجح شرعاً.

وفيه: أن الشك في جواز البيع ونفوذه إن كان لاحتمال وجود مانع شرعي من البيع، فالمانع المحتمل إن كان هو التحبيس فالمفروض ارتفاعه بتعذر الانتفاع بالعين في الجهة التي تضمنها الوقف، وصيرورة العين صدقة. وإن كان أمراً آخر فمقتضي عموم أدلة النفوذ عدمه.

وإن كان لاحتمال قصور السلطنة عنه فهو مشترك بين البيع والتصرف الخارجي، إذ لا إشكال في احترام المال وعدم جواز التصرف فيه لكل أحد كيفما شاء، بل لابد من الرجوع فيه للولي. وحينئذ يكون نظر الولي محكماً في اختيار التصرف المناسب. وربما يأتي في المسألة الحادية عشرة ما ينفع في المقام.

(1) بحيث لا يشملها نظر الواقف عند الوقف، ولا يكون التحبيس بلحاظها، كما لو وقفت الدار لسكني الموقوف عليهم، فخربت بحيث تعذرت السكني بها مدة معتداً بها، وإن أمكن قضاء بعض الوقت فيها للعابر والمضطر. أو وقف مدرسة كبيرة لأهل العلم، فخربت ولم يبق منها إلا غرفة يمكن أن يسكنها شخص أو شخصان. وحينئذ يتجه بيعها لعين الوجه المتقدم، وهو ارتفاع موضوع التحبيس.

أما إذا كان ذلك لتبدل نوع الانتفاع كما إذا ماتت النخلة الموقوفة لصالح المسجد، فأمكن الانتفاع بجذعها لتسقيفه فيدخل في المسوغ الرابع الذي يأتي الكلام

ص: 91

(92)

(ومنها): ما إذا اشترط الواقف بيعه (1)

---------------

فيه إن شاء الله تعالي، كما يتضح بملاحظته.

(1) قال في الإرشاد: (ولو شرط بيع الوقف عند حضور ضرر به كالخراج والمؤن من قبل الظالم وشراء غيره بثمنه فالوجه الجواز). وقال في الدروس: (ولا يجوز بيع الوقف إلا إذا خيف من خرابه أو خلف بين أربابه المؤدي إلي فساد... ولو شرط الواقف بيعه عند حاجتهم أو وقوع الفتنة بينهم فأولي بالجواز. وفي شراء بدله في هذه المواضع نظر).

واستشكل في جواز الشرط المذكور في القواعد، ومنع منه في محكي الإيضاح مطلقاً. وإليه يرجع ما في جامع المقاصد عن عدم صحة اشتراط بيعه في غير مورد مسوغات البيع الشرعية.

وكأنه لمنافاة البيع للوقف أو للتأبيد، كما صرح بذلك غير واحد منهم سيدنا المصنف (قدس سره) قال: (وأما تصحيحه بإرجاعه إلي شرط فسخ الوقف أولاً ثم يبيع. ففيه: أن الفسخ أيضاً ينافي التأبيد، كالبيع، فلا يمكن شرط فعله في عقد الوقف. والمائز بين الوقف وسائر العقود التي يجوز فيها شرط الفسخ أن المجعول فيها مجرد حدوث المضمون من دون نظر إلي بقائه ودوامه، فلا مانع من شرط الفسخ... بخلاف الوقف حسب الفرض من كون التأبيد والدوام مقوماً له مجعولاً بجعل الواقف).

وفيه: أن مبني الفسخ علي حلّ العقد بتمام مضمونه، ومع حله كذلك يتعين ارتفاع مضمونه، من دون فرق بين ابتنائه علي التأبيد وعدمه. نظير ما إذا اشترط البايع علي المشتري بقاء المبيع في ملك المشتري وعدم خروجه عن ملكه، واشترط لنفسه الخيار في فسخ البيع، حيث لا تنافي بين الشرطين.

نعم اشتراط الفسخ إنما يشرع فيما إذا كان لزوم المضمون حقياً، علي ما يأتي عند الكلام في خيار الشرط. ولا طريق لإحراز ذلك في الوقف، خصوصاً علي م

ص: 92

هو الظاهر من أنه إيقاع لا عقد. بل الظاهر عدمه. ولذا كان الظاهر اتفاقهم علي عدم جواز اشتراط الفسخ في الوقف. وقد يستفاد مما تضمن عدم جواز الرجوع في الصدقة وما أريد به وجه الله(1).

كما أن البناء علي رجوع شرط البيع في الوقف إلي شرط فسخ الوقف، ثم البيع، خروج عن محل كلامهم. كيف ولازمه رجوع العين للواقف أو لورثته، وليس بناؤهم علي ذلك.

هذا وحيث منع سيدنا المصنف (قدس سره) من رجوع شرط البيع لشرط فسخ الوقف ثم البيع لما سبق فقد حاول توجيه الشرط المذكور بأنه راجع إلي تعليق الوقف والتأبيد بعدم حصول السبب المنوط به الشرط، فمع حصوله يرتفع الوقف والتأبيد فيصح البيع، فمرجع اشتراط الواقف جواز البيع عند حاجة الموقوف عليهم مثلاً إلي أن الوقف معلق علي عدم حاجتهم، فإن احتاجوا فلا وقف، فيجوز البيع.

وقد ذكر (قدس سره) أن التعليق وإن كان يبطل العقد والإيقاع عندهم رأساً، إلا أن الدليل علي مبطليته ينحصر بالإجماع، ولولاه لكان مقتضي العمومات الصحة، وحيث لا إجماع في المقام، لخلافهم في جواز شرط البيع في الوقف، تعين البناء علي عدم مبطليته عملاً بالعمومات. قال (قدس سره): (واحتمال أن الخلاف كان لشبهة، لا لجواز العليق، غير ظاهر. فالعمل بالعمومات متعين).

لكن التوجيه بذلك ليس كتوجيه الحكم الشرعي التعبدي لا يتوقف علي قصد الواقف، ولا علي ظهور كلامه فيه، بل يكفي فيه الفرار عن مخالفة الحكم لمبني الموجِّه، بل هو راجع إلي حمل مراد الواقف علي ذلك، وهو موقوف علي التفات الواقف له، وظهور كلامه فيه. وكلاهما يحتاج إلي إثبات. بل قد يقطع بعدمهما. علي أنه يشكل:

أولاً: بأن ذلك مستلزم لرجوع العين الموقوفة للواقف، وقد سبق عدم بنائهم

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11، 13 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات، وباب: 3 من أبواب كتاب الهبات.

ص: 93

عليه، حيث ينكشف بحصول السبب المذكور عدم حصول الوقف.

وثانياً: بأن المعلق علي عدم حصول السبب المنوط به الشرط إن كان هو أصل وجود الوقف لزم كون حصول السبب المذكور كاشفاً عن عدم حصول الوقف من حين إنشائه، وبقاء العين الموقوفة علي ملك الواقف، المستلزم لملكه لمنافعها ونمائها السابقة بنحو يستلزم ضمان الموقوف عليهم لها لو كانوا قد استغلوها. ولا يظن بأحد البناء علي ذلك.

وإن كان المعلق هو بقاء الوقف واستمراره، بحيث يرتفع الوقف بحصول السبب المذكور فهو مناف لفرض أخذ التأبيد في الوقف كما لعله ظاهر.

وثالثاً: بأن الوقف إذا كان معلقاً علي عدم حصول السبب المذكور لزم عدم الوقف علي تقدير حصوله وإن لم يتحقق البيع، ولا يظن منه (قدس سره) ولا من غيره البناء علي ذلك. خصوصاً إذا كان مفاد الشرط الترخيص في البيع لا الإلزام به.

إلا أن يلتزم (قدس سره) بأنه منوط بعدم حصول السبب المتعقب بالبيع، نظير الشرط المتأخر. وهو يحتاج إلي كلفة يقطع بعدم توجه الواقف لها حين إنشاء الوقف لها. بل الإنصاف أن أصل التعليق المذكور يحتاج إلي كلفة يغفل عنها الواقف، كما أشرنا إليه آنفاً.

ورابعاً: بأن مراده (قدس سره) بعدم مبطلية التعليق للوقف إن رجع إلي عدم مبطليته له مطلقاً، فهو خلاف المقطوع به من بناء الأصحاب علي عدم مشروعية اليمين المعروف عند العامة بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، وإن كان عدم مبطليته في خصوص مورد شرط البيع، فهو يبتني علي تكلف منهم في الفتوي يكاد يقطع بعدمه.

أما شيخنا الأعظم (قدس سره) فقد احتمل منافاة البيع لإطلاق الوقف، لا لأصله. وحينئذ لا مانع من اشتراطه والخروج عن مقتضي الإطلاق. قال (قدس سره): (ثم إنه لو سلم المنافاة فإنما هو بيعه للبطن الموجود وأكل ثمنه، وأما تبديله بوقف آخر فلا تنافي بينه وبين مفهوم الوقف. فمعني كونه حبساً كونه محبوساً من أن يتصرف فيه بعض

ص: 94

طبقات الملاك علي نحو الملك المطلق، وأما حبس شخص الوقف فهو لازم لاطلاقه وتجرده عن مسوغات الإبدال، شرعية كانت، كخوف الخراب، أو بجعل الواقف، كالاشتراط في متن العقد. فتأمل).

وما ذكره أخيراً يصلح لأن يكون وجهاً لما سبق من الإرشاد. وهو المناسب لما سبق من غير واحد من ابتناء وقف العين علي البقاء ولو بلحاظ إبدالها بمثلها. وإن سبق الإشكال فيه. نعم هو يقصر عن شرط البيع بنحو لا يبتني علي الإبدال، بل علي انتفاع البايع من الموقوف عليهم بالثمن وأكله له.

وكيف كان فالعمدة في جواز البيع في الثاني فضلاً عن الأول صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: (بعث إليّ بهذه الوصية أبو إبراهيم (عليه السلام): هذا ما أوصي به وقضي في ماله عبد الله علي ابتغاء وجه الله... وإن الذي كتبت من أموالي صدقة واجبة بتلة حياً أنا أو ميتاً، ينفق في كل نفقة أبتغي بها وجه الله في سبيل الله ووجه، وذوي الرحم من بني هاشم وبني المطلب والقريب. وإنه يقوم علي ذلك الحسن بن علي يأكل منه بالمعروف، وينفقه حيث يريد الله في حل محلل لا حرج عليه فيه. فإن أراد أن يبيع نصيباً من المال، فيقضي به الدين فليفعل إن شاء لا حرج عليه فيه... وإن كان دار الحسن غير دار الصدقة فبداله أن يبيعها فليبعها إن شاء لا حرج عليه فيه. وإن باع فإنه يقسمها ثلاثة أثلاث، فيجعل ثلثاً في سبيل الله، ويجعل ثلثاً في بني هاشم وبني المطلب، ويجعل ثلثاً في آل أبي طالب، وأنه يضعه حيث يريد الله. وإن حدث بحسن بن علي حدث وحسين حي فإنه إلي حسين بن علي. وإن حسيناً يفعل فيه مثل الذي أمرت به حسناً، له مثل الذي كتبت للحسن، وعليه مثل الذي علي الحسن... وإنه شرط علي الذي يجعله إليه أن يترك المال علي أصوله، وينفق حيث أمره به... لا يباع منه ولا يوهب ولا يورث...)(1).

وهو صريح في جواز بيع الوقف لغير إبداله بمثله، سواء كان صرف الثمن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 10 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات حديث: 4.

ص: 95

عند حدوث أمر (1) من قلة المنفعة أو كثرة الخراج أو كون بيعه أنفع، أو لاختلاف بين أرباب الوقف أو احتياجهم إلي عوضه أو نحو ذلك.

---------------

لصالح البايع كقضاء الدين أم في جهات البر الأخري.

كما أنه صريح في عدم أخذ التأييد بالمعني المنافي للبيع في مفهوم الوقف، كما سبق منا توضيحه في أول المسألة وبذلك يكون نفوذ الشرط المذكور هو مقتضي دليل نفوذ الوقف بعد أن لم يكن منافياً له.

لكن قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (وظاهرها جواز اشتراط البيع في الوقف لنفس البطن الموجود، فضلاً عن البيع لجميع البطون وصرف ثمنه فيما ينتفعون به. والسند صحيح. والتأويل مشكل، والعمل أشكل).

ولم يتضح وجه الإشكال في العمل به، خصوصاً بعدما سبق منه (قدس سره) من احتمال عدم منافاة البيع لأصل الوقف، بل لإطلاقه.

ودعوي: ظهور هجره عند قدماء الأصحاب، حيث لم يذكروا ذلك في مسوغات بيع الوقف.

مدفوعة بأنه لا مجال لإحراز هجرهم له بعد ظهور حال الكليني في العمل به، وذكر الشيخ له في التهذيب في الموضع المناسب له، وإطلاقه في النهاية وإطلاق المفيد في المقنعة لزوم العمل علي ما يشترطه الواقف. وربما يوجد ذلك في كلام غيرهما. ومن ثم قد يكون منصرف كلامهم في بيان مسوغات البيع الخارج عن مقتضي الوقف، ولا يكون عدم ذكرهم للمسوغ المذكور شاهداً ببنائهم علي عدمه، للإعراض عن الصحيح، ومن ثم يتعين العمل بالصحيح، والبناء علي نفوذ شرط البيع في الوقف.

(1) الصحيح المتقدم وإن تضمن الترخيص في البيع في مورد خاص، إلا أن إلغاء خصوصية مورده عرفاً قريب جداً. ولاسيما وأن من القريب كون إرسال الإمام الكاظم (عليه السلام) بهذه الوصية لعبد الرحمن بن الحجاج من أجل تعليم كيفية التصدق

ص: 96

(97)

(ومنها): ما لو لاحظ الواقف في قوام الوقف عنواناً خاصاً في العين الموقوفة مثل كونها بستاناً أو داراً أو حماماً فيزول ذلك العنوان، فإنه يجوز البيع حينئذ (1)

---------------

المشروع. ولا أقل من كشفه عن عدم منافاة الترخيص في البيع لحقيقة الوقف وحينئذ يكون مقتضي عموم دليل نفوذ الوقف عموم جواز الترخيص في البيع فيه.

وربما يستدل عليه حينئذ أيضاً بعموم نفوذ الشروط، المستفاد من قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم): (المؤمنون عند شروطهم)(1).

لكنه لا يخلو عن إشكال، لاختصاصه بالشرط الذي يشترطه الإنسان علي نفسه لغيره، بحيث يكون الوفاء به له من شؤونه، دون مطلق بالشرط وإن لم يتضمن كلفة علي المشترط لغيره، وليس الوفاء به من شؤونه، كما في المقام. فالعمدة ما سبق.

نعم لا يبعد قصوره عن اشتراط الواقف البيع لنفسه، لما تضمن بطلان الوقف علي النفس(2). خصوصاً معتبر إسماعيل بن الفضل: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يتصدق ببعض ماله في حياته في كل وجه من وجوه الخير قال: إن احتجت إلي شيء من المال فأنا أحق به. تري ذلك له وقد جعله لله يكون له في حياته، فإذا هلك الرجل يرجع ميراثاً أو يمضي صدقة ؟ قال: يرجع ميراثاً علي أهله)(3). وقريب منه أو عينه موثقه عنه (عليه السلام): (قال: من أوقف أرضاً، ثم قال: إن احتجت إليها فأنا أحق بها، ثم مات الرجل، فإنها ترجع إلي الميراث)(4). وتمام الكلام في محله من كتاب الوقف.

(1) كما يظهر من الجواهر لارتفاع موضوع التحبيس، وهو منفعة العنوان الخاص وإن كانت في العين منافع أخري فيجري فيه ما سبق في الخراب.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 20 من أبواب المهور حديث: 4.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات حديث: 3.

(4) تهذيب الأحكام ج: 9 ص: 150.

ص: 97

غاية الأمر أنه بناء علي ملكية الموقوف عليهم للعين لا مجال لدعوي القطع برضا الشارع الأقدس بالبيع، لعدم لزوم تعطيل العين مع وجود منافع أخري فيها. لكن سبق ضعف المبني المذكور.

وقد استشكل فيه شيخنا الأعظم (قدس سره) بأن أخذ العنوان في الوقف لا يقتضي دوران الوقف مداره، كأخذ العنوان في البيع.

لكنه يندفع بالفرق بابتناء البيع علي مجرد تبديل أحد العوضين بالآخر من دون نظر إلي منافعهما، ومع تملك الذات المعنونة بعنوان خاص لا تخرج عن الملك بفقدها للعنوان. أما الوقف فإنه متقوم بتحبيس العين ذات العنوان الخاص بلحاظ منفعتها الخاصة المناسبة للعنوان، فمع فرض تعذر المنفعة المذكورة لتبدل العنوان يتعين بطلان التحبيس، نظير إجارة العين ذات العنوان الخاص لو تبدل عنوانها.

نعم بناء علي رجوع الوقف إلي تمليك العين للموقوف عليهم يتجه عدم خروجها عن ملكهم ببطلان التحبيس، كما تقدم عند الكلام في الخراب. وكأن ذلك هو المنشأ لقياس شيخنا الأعظم (قدس سره) الوقف بالبيع.

ثم إن بطلان التحبيس بارتفاع العنوان المأخوذ في العين حين الوقف إنما يتضح فيما إذا كان العنوان مقوماً للعين الموقوفة عرفاً، كما لو وقف نخلة لمصلحة المسجد فماتت وأمكن الانتفاع بجذعها لتسقيفه، لمباينة التسقيف عرفاً للمنفعة الملحوظة للواقف عند وقف النخلة.

وكذا إذا ابتني الوقف علي استغلال الموقوف عليهم لنفس المنفعة المختصة بالعنوان، كالأكل من ثمرة البستان والغسل في الحمام وتغسيل الموتي في المغتسل، وسكني طلبة العلم في المدرسة.

أما إذا ابتني الوقف علي الانتفاع بمالية المنفعة، كما لو وقف البستان أو الحمام أو المحل التجاري علي أن ينفق واردها في جهة معينة شخصية كأهل العلم، أو خيرية كترويج الدين فمن القريب جداً إلغاء خصوصية منفعة العنوان عرفاً، وفهم

ص: 98

(99)

وإن كانت الفائدة باقية بحالها أو أكثر (1).

(ومنها): ما إذا طرأ ما يستوجب أن يؤدي بقاؤه إلي الخراب المسقط له عن المنفعة المعتد بها عرفاً. واللازم تأخير البيع إلي آخر أزمنة إمكان البقاء (2).

---------------

أن الوقف للعين بلحاظ منفعتها وواردها بنحو الإطلاق، وأن ذكر العنوان لتعنون العين به واختصاص منفعتها بمنفعة حين الوقف.

ويترتب علي ذلك بقاء الوقف والتحبيس مع تبدل العنوان، بل جواز تبديل عنوان العين اختياراً إذا رآه الولي أصلح وأنفع للجهة الموقوف عليها.

ولو فرض الشك في ذلك أشكل البيع، لعدم إحراز بطلان التحبيس والوقف. غاية الأمر أنه لا يحرز بقاؤه، ولا يمكن استصحابه، لأنه من استصحاب المفهوم المردد، لدوران التحبيس المتيقن سابقاً بين تحبيس المنفعة الخاصة المعلومة الارتفاع، ومطلق المنفعة ذات المالية المعلومة البقاء. لكنه لا يكفي في جواز البيع، بل مقتضي أصالة عدم ترتب الأثر بطلانه. فلاحظ.

(1) لأن الفائدة الأخري الحاصلة مع تبدل العنوان ليست موضوعاً للوقف والتحبيس، فلا تجدي في بقائهما وترتب أثرهما.

نعم لا ينحصر الأمر حينئذ بالبيع، بل يمكن إبقاء العين واستغلال منافعها الأخري لصالح الجهة الموقوف عليها، نظير ما تقدم في ذيل الكلام في الصورة الأولي، من أنه قد يسقط الوقف عن أن ينتفع به الموقوف عليهم من دون أن يخرب. فراجع.

(2) يظهر منه (قدس سره) بملاحظة كلامه في نهج الفقاهة أن المراد بذلك تأخير البيع إلي آخر أزمنة بقائه علي حاله لم يخرب بالوجه المذكور. فمثلاً إذا تحول النهر عن البستان بحيث تعرض للجفاف والخراب جاز بيعه في آخر سنة عمرانه بالزرع، وإن لم يخرب بعد، إذا ابتني البيع علي عدم أخذ المشتري ثمرته حين البيع، بل تصرف الثمرة في الجهة الموقوف عليها.

ص: 99

والوجه في جواز البيع حينئذ هو الوجه المتقدم في جواز البيع في الصورة الثانية، لفرض عدم تجدد المنفعة المعتد بها له، ليبقي التحبيس بلحاظها. ولا موضوع للتحبيس إلا بلحاظ الثمرة الموجودة المفروض عدم منافاة البيع لمقتضي التحبيس فيها، لفرض صرفها في الجهة الموقوف عليها.

وبذلك يظهر جواز البيع قبل ذلك مسلوب المنفعة، كما لو علم أن البستان يخرب ويتعذر زراعته بعد خمس سنين، فيباع مسلوب المنفعة خمس سنين.

نعم بناء علي ملكية الموقوف عليهم للعين، فحيث سبق أن عدم البيع مع الخراب مما يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به، للزوم تعطيل المال وهو العين الموقوفة فلا مجال لذلك في الفرض، إلا إذا علم بعدم تيسر البيع بعد ذلك، بحيث لو لم يبادر لبيع مسلوبة المنفعة تعذر البيع بعد ذلك، ولزم تعطيل المال.

هذا ومقتضي القاعدة لزوم العلم بحصول الخراب بالنحو المذكور وما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من كفاية الظن بذلك غير ظاهر المنشأ.

وأشكل من ذلك ما في كلام جماعة كثيرة أولهم فيما عثرنا عليه الشيخ (قدس سره) في المبسوط من الاكتفاء بالخوف. لأنه أعم من الظن، حيث يكفي فيه الاحتمال المعتد به مطلقاً أو مع وجود ما يثيره وإن لم يكن أمارة عرفاً، بحيث توجب الظن نوعاً أو فعلاً. وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من توقفه علي قيام الأمارة علي الأمر المخوف، ليرجع للظن. فهو ممنوع جداً.

هذا وقد قال الشيخ (قدس سره) في المبسوط: (وإنما يملك بيعه في علي وجه عندنا، وهو إذا خيف علي الوقف الخراب، وكان بأربابه حاجة شديدة، أو لا يقدرون علي القيام به، فحينئذ لهم بيعه، ومع عدم ذلك لا يجوز بيعه). وقال في النهاية: (ولا يجوز بيع الوقف ولا هبتة ولا الصدقة به إلا أن يخاف علي الوقف هلاكه أو فساده، أو كان بأرباب الوقف حاجة... فحينئذ يجوز بيعه). وتبعه غير واحد ممن تأخر عنه، وإن اختلفوا بين من جعل خوف الخراب قيداً في مسوغ البيع، كما في المبسوط، ومن جعله

ص: 100

مسوغاً مستقلاً، كما في النهاية.

وكيف كان فمقتضي إطلاقهم جواز بيعه حينئذ ولو مع كونه صالحاً للانتفاع بنحو معتد به مدة من الزمن.

لكن من الظاهر منافاة ذلك لمقتضي الوقف، لعدم بطلان التحبيس مع كونه صالحاً للانتفاع. ولا يبطل بمجرد كونه يؤول إلي الخراب مع العلم به، فضلاً عما لو خيف ذلك.

نعم قد يستدل عليه بصحيح علي بن مهزبار: (كتبت إلي أبي جعفر (عليه السلام): إن فلاناً ابتاع ضيعة، فوقفها، وجعل لك في الوقف الخمس، ويسألك عن رأيك في بيع حصتك من الأرض أو تقويمها علي نفسه بما اشتراها أو يدعها موقوفة. فكتب (عليه السلام) إليّ: أعلم فلاناً أني آمره أن يبيع حقي من الضيعة وإيصال ثمن ذلك إليّ، وإن ذلك رأيي إن شاء الله تعالي، أو يقومها علي نفسه إن كان ذلك أوفق له. وكتبت إليه: إن الرجل ذكر أن بين من وقف بقية هذه الضيعة عليهم اختلافاً شديداً، وأنه ليس يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم بعده، فإن كان تري أن يبيع هذا الوقف، ويدفع إلي كل إنسان منهم ما وقف له من ذلك، أمرته. فكتب بخطه إليّ: وأعلمه أن رأيي له إن كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف أن يبيع الوقف أمثل، فإنه ربما جاء في الاختلاف ما فيه تلف الأموال والنفوس)(1).

بتقريب أن مقتضي تعليل جواز البيع مع الاختلاف بأنه قد يكون سبباً لتلف الأموال والنفوس دوران الترخيص في البيع مدار الخوف من تلفها وإن لم يكن بسبب الاختلاف بين الموقوف عليهم. كما أن ضم تلف النفوس لتلف الأموال ليس لاعتبار اجتماعهما، بل لكون كل منهما موضوعاً مستقلاً لجواز البيع، وعلي ذلك يكفي في جوازه خوف تلف الأموال. وبذلك يجوز بيع الوقف مع خوف خرابه، إما لكونه هو

********

(1) الكافي ج: 7 ص: 36. واللفظ له. وسائل الشيعة ج: 13 باب: 6 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات حديث: 5، 6.

ص: 101

المراد بالأموال، أو لكونه من أفرادها، كما هو الظاهر.

وفيه أولاً: أن خراب الوقف قد لا يكون تلفاً له، إذ كثيراً ما يبقي معه شيء من ماليته بلحاظ مادته، كالأرض وأدوات البناء، وغيرها من أدوات الأجهزة الموقوفة. وإنما يصدق معه تلف الأموال بلحاظ بعض مراتب ماليته بسبب تلف هيئته في الجملة. وإذا كان ذلك معياراً في جواز البيع لزم جواز بيعه إذا خيف نقص ماليته ولو بسبب تقادم عهده وإن لم يخرب ولم يسقط عن الانتفاع المعتد به. ولا يظن بأحد البناء علي ذلك.

وثانياً: أن مقتضي الجمود علي جمع النفوس والأموال اعتبار اجتماعهما، ولو لأنه المتيقن من التعليل، والبناء علي الانحلال يحتاج إلي قرينة. أما مقتضي سياق الكلام فهو بيان أهمية محذور الخلاف، وأنه قد يفضي إلي فتنة شديدة ينبغي الاحتياط لدفعها، وذلك لا يتحقق بمجرد خراب الوقف إلا إذا كان من الأهمية بحيث يعد محذوراً يشبه محذور الفتنة المذكورة، ويكون دفع محذوره ببيعه. وهو أمر نادر أو لا واقع له، لأن الأوقاف التي هي بهذه الأهمية هي التي لها شيء من القدسية، ولا يدفع محذور خرابها إلا بعمرانها، وأما الأوقاف المتمحضة في الجانب المالي فليس لها غالباً من الأهمية ارتكازاً ما يجعل محذور خرابها مناسباً لمحذور الخلاف والفتنة المشار إليها في الصحيح.

وثالثاً: أنه لا ظهور للفقرة المذكورة في التعليل الذي يدور الحكم مداره، ويكون هو الموضوع له حقيقة، بل في مجرد التنبيه للفائدة المترتبة علي الحكم من أجل تقريبه للمخاطب وإقناعه به، فهو أشبه بالحكمة. إذ ليس من شأن الاحتمالات غير المنضبطة أن تكون معياراً في الأحكام. ولاسيما أن البناء علي عمومه لو حمل علي التعليل يستلزم البناء علي جواز بيع الوقف لمجرد احتمال ترتب الفساد المذكور ولو من غير جهة الاختلاف، كما لو احتمل أن يؤدي بقاء الوقف إلي مضايقات الأجانب، عداء أو حسداً بنحو يؤدي إلي المحذور المذكور، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك.

ص: 102

وبذلك يظهر دلالة الصحيح علي جواز البيع عند اختلاف الموقوف عليهم اختلافاً شديداً، بحيث يخشي أن يتفاقم. وصريح المسالك والروضة ومحكي الكفاية العمل به في ذلك.

والظاهر أنه يرجع إلي ذلك ما في وقف التذكرة مستدلاً عليه بالصحيح من جواز بيعه مع خوف الفتنة بين أربابه يحصل باعتبارها فساد لا يمكن استدراكه مع بقائه. وقريب منه ما في جامع المقاصد. وكذا ما عن بيع التحرير من جواز بيعه لو خشي وقوع فتنة بين أربابه لو بقي علي الوقف، وما ذكره الشهيد في الدروس من جواز البيع مع خوف خلاف يؤدي إلي فساد، ونحوه ما عنه في غاية المراد، وما عن النزهة من اعتبار أن يؤدي النزاع بين أربابه إلي ضرر عظيم.

هذا وفي الجامع تقييد ذلك بخوف وقوع فتنة بين أربابه تجتاح فيها الأنفس وقريب منه ما عن إيضاح النافع. وكأنه لحمل الفقرة المذكورة في الصحيح علي التقييد أو التعليل الذي يدور الحكم مداره. ويدفع الأول أن الاحتمال المذكور قد أثير من الإمام (عليه السلام) من دون أن يشار لاعتبار حصوله لمتولي الوقف أو للموقوف عليهم أو لغيرهم. كما يظهر اندفاع الثاني مما سبق.

وأشكل من ذلك ما سبق من المبسوط من تقييد خوف الخراب ببعض القيود. ومثله ما في كلام غير واحد. قال في كتاب البيع من الشرايع: (فلا يصح بيع الوقف ما لم يؤد بقاؤه إلي خرابه لاختلاف بين أربابه ويكون البيع أعود علي الأظهر). وقال في كتاب الوقوف والصدقات منه: (ولو وقع بين الموقوف عليهم خلف بحيث يخشي خرابه جاز بيعه) ومثلهما عبارة القواعد في الكتابين. وعن تلخيص الخلاف أنه أشهر الأقوال وفي كتاب البيع من التذكرة: (لو كان بيعه أعود لوقوع خلف بين أربابه وخشي تلفه أو ظهور فتنة بسببه جوز أكثر علمائنا بيعه).

إذ فيه: أن التقييد مع الاختلاف بخوف الخراب، أو شدة حاجة الموقوف عليهم، أو كون البيع أعود لهم، أو غير ذلك، مخالف لإطلاق الصحيح. ومجرد اشتمال بعض

ص: 103

النصوص كما يأتي علي تسويغ البيع مع كونه أصلح لهم، واقتضاء القاعدة تسويغه مع الخراب لا يقتضي التقييد، لإمكان كون كل منها مسوغاً مستقلاً. ولاسيما أن التنبيه في الصحيح علي أهمية محذور لاختلاف يناسب استقلاله في تسويغ البيع.

ومن الغريب ما في التهذيبين من حمل قيد ترتب الخراب من جملة مفاد الصحيح قال في الاستبصار: (فالوجه في هذا الخبر أن نحمله علي جواز بيع ذلك إذا كان بالشرط الذي تضمنه الخبر من أن كونه وقفاً يؤدي إلي ضرر ووقوع اختلاف وهرج ومرج وخراب الوقف، فحينئذ يجوز بيعه...) ونحوه في التهذيب. مضافاً إلي أن تحديد محذور الخلاف بهذا النحو لا يقتضيه الصحيح.

نعم قد يستشكل في نهوض الصحيح بإثبات مضمونه بوجهين:

الأول: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من مخالفته للمشهور. وفيه: أن ما يسقط الحديث عن الحجية هو إعراض الأصحاب عنه، ولا يظهر منهم ذلك في الصحيح، بل يظهر من الأكثر العمل به، وإن قيدوا الحكم ببعض القيود لتخيل دلالته عليها أو كونه مقتضي الجمع بينه وبين بقية الأدلة. علي أن ظاهر وصريح غير واحد من الأكابر العمل به في مضمونه الذي ذكرناه، كما يظهر مما سبق.

الثاني: مخالفته للقواعد المانعة من بيع الوقف. ولاسيما مع ما فيه من قسمة الثمن علي البطن الموجود لا غير، وتصدي الواقف للسؤال، وجعل المدار علي علمه بالاختلاف، وإيكان أمر البيع له، مع أنه ينبغي أن يكون ذلك كله من وظيفة متولي الوقف، لانقطاع علاقة الواقف بالعين وخروجها عن ملكه بالوقف.

وفيه: أن الخروج عن القواعد في الأحكام الشرعية غير عزيز. ولاسيما إذا كان لمحذور يزاحم ملاك التشريع الأولي كما في المقام بالإضافة إلي أصل البيع والي تقسيم الثمن علي البطن الموجود، لعدم تجنب المحذور إلا بذلك. وأما تولي الواقف للأمر فلعله لأنه قد جعل نفسه هو المتولي للوقف عند إنشائه.

فالعمدة في الإشكال في الصحيح ظهور صدره في أن وقف الضيعة علي نحو

ص: 104

واحد بالإضافة إلي الخمس المجعول للإمام (عليه السلام) والأخماس الأربعة الباقية، وظاهر الصدر أن وقف الخمس علي الإمام (عليه السلام) غير مقبوض له (عليه السلام)، لأنه قد تضمن إخبار علي بن مهزيار له بذلك، ثم سؤاله عن كيفية العمل به، ومن الممكن أن يكون الأمر كذلك في بقية الموقوف عليهم.

كما أن الخمس المذكور قد وقف له (عليه السلام) بشخصه بنحو الوقف المنقطع، ومن الممكن أن يكون الأمر كذلك في بقية الموقوف عليهم. بل هو مقتضي الجمود علي قول السائل: (ويدفع إلي كل إنسان منهم ما كان قد وقف له من ذلك).

ولابد حينئذ أن يرجع إلي الصدقة بالضيعة علي أشخاصهم، بحيث يملك كل منهم خصته ويستقل بها. غاية الأمر أن يبتني ملكه لها علي البقاء، ويكون السؤال عن جواز الخروج عن ذلك شرعاً بالبيع، أو لا يبتني علي البقاء، ويكون مرجع السؤال إلي استشارة الإمام (عليه السلام) في البيع بعد الفراغ عن جوازه شرعاً. ومجرد ظهور إطلاق الوقف في الوقف المؤبد لا يكفي في الحمل عليه مع ما سبق.

ولاسيما مع تأيد ذلك بما عن دعائم الإسلام: روي عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام أن بعض أصحابه كتب إليه: (إن فلاناً ابتاع ضيعة فأوقفها وجعل لك في الوقف الخمس، وذكر أنه وقع بين الذين أوقف عليهم هذا الوقف اختلاف شديد، وأنه ليس يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم، وسأل عن رأيك في ذلك. فكتب إليه: إن رأيي له إن لم يكن جعل آخر الوقف لله أن يبيع حقي من هذه الضيعة، ويوصل ثمن ذلك إليّ، وأن يبيع القوم إذا تشاجروا، فإنه ربما جاء في الاختلاف إتلاف الأموال والأنفس)(1). ولسانه يناسب كون أصله الصحيح الذي هو محل الكلام.

غاية الأمر أن لا يناسب ما هو المعروف عن صاحب دعائم الإسلام من جريه علي ما يلائم مذهب الإسماعيلية من عدم روايته عمن بعد الإمام الصادق من الأئمة الاثني عشر. ولعله أوهم أو توهم بسبب إتحاد الإمامين الباقر والجواد صلوات الله

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 14 باب: 4 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات حديث: 1.

ص: 105

(106)

عليهما في الاسم واسم الأب والكنية. وكيف كان فقد تضمن الحديث اعتبار عدم التأبيد في جواز البيع فيناسب ما ذكرنا.

ولعله لذا قال في الفقيه بعد أن ذكر الصحيح: (هذا وقف كان عليهم دون من بعدهم. ولو كان عليهم وعلي أولادهم ما تناسلوا، ومن بعد علي فقراء المسلمين إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها، لم يجز بيعه أبداً).

ولا أقل من إجمال حال الوقف المسؤول عنه في الصحيح، بحيث لا مجال لحمله علي الوقف المصطلح، المبني علي بقاء العين واستغلال منفعتها في الجهة الموقوف عليها باستمرار، لينفع فيما نحن فيه.

بقي في المقام صور لبيع الوقف تعرض لها الأصحاب لم يتعرض لها سيدنا المصنف (قدس سره) ولم يتقدم منا التعرض لها ينبغي التعرض لها تتميماً للفائدة واستيفاء لمحل الكلام.

الأولي: أن يكون بيع الوقف أعود علي الموقوف عليهم. فقد نسب في جامع الدروس والمقاصد جواز البيع حينئذ للمفيد (قدس سره).

لكن كلامه في المقنعة لا يظهر في ذلك قال: (والوقوف في الأصل صدقات لا يجوز الرجوع فيها، إلا أن يحدث الموقوف عليهم ما يمنع الشرع من معونتهم والقربة إلي الله تعالي بصلتهم، أو يكون تغير الشرط في الوقف إلي غيره أدرّ عليهم وأنفع لهم من تركه علي حاله. وإذا أخرج الواقف الوقف عن يده إلي من وقفه عليه لم يجز له الرجوع في شيء منه ولا تغيير شرائطه ولا نقله من وجوهه وسبله...).

وهو كما تري أولاً: صريح في جواز تغيير الشرط في الوقف إلي غيره إذا كان أدر عليهم وأنفع لهم، لا بيعه.

وثانياً: كالصريح في أن ذلك إنما يجوز قبل إقباض الوقف ما دام في يد الواقف، أما بعد إخراجه من يده إلي أيدي الموقوف وقبضهم له فلا يجوز الرجوع فيه ولا تغيير

ص: 106

شرطه.

غاية الأمر أن مقتضي دليل اشتراط القبض في صحة الوقف جواز الرجوع في الوقف وتغيير شرطه مطلقاً من دون أن يكون مشروطاً بشيء. وهو أمر آخر.

وكيف كان فقد يستدل علي ذلك بخبر جعفر بن حنان [حيان]: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل وقف غلة له علي قرابته من أبيه وقرابته من أمه، وأوصي لرجل ولعقبه ليس بينه وبينه قرابة بثلاثمائة درهم في كل سنة، ويقسم الباقي علي قرابته من أبيه وقرابته من أمه. فقال: جائز للذي أوصي له بذلك. قلت: أرأيت إن لم يخرج من غلة الأرض التي وقفها إلا خمسمائة درهم. فقال: أليس في وصيته أن يعطي الذي أوصي له من [تلك] الغلة ثلاثمائة درهم ؟ ويقسم الباقي علي قرابته من أبيه وقرابته من أمه ؟ قلت: نعم. قال: ليس لقرابته أن يأخذوا من الغلة شيئاً حتي يوفوا الموصي له ثلاثمائة درهم، ثم لهم ما بقي بعد ذلك. قلت: أرأيت إن مات الذي أوصي له ؟ قال: إن مات كانت الثلاثمائة لورثته يتوارثونها بينهم. فأما إذا انقطع ورثته فلم يبق منهم أحد كانت الثلاثمائة درهم لقرابة الميت ترد إلي ما يخرج من الوقف، ثم يقسم بينهم يتوارثون ذلك ما بقوا وبقيت الغلة. قلت: فللورثة من قرابة الميت أن يبيعوا الأرض إن احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج من الغلة ؟ قال: نعم إذا رضوا كلهم وكان البيع خيراً لهم باعوا)(1).

ومكاتبة الحميري لصاحب الزمان (عليه السلام): (روي عن الصادق خبر مأثور: إذا كان الوقف علي قوم بأعيانهم وأعقابهم فاجتمع أهل الوقف علي بيعه، وكان ذلك أصلح، لهم أن يبيعوه. فهل يجوز أن يشتري من بعضهم إن لم يجتمعوا كلهم علي البيع، أم لا يجوز إلا أن يجتمعوا كلهم علي ذلك ؟ وعن الوقف الذي لا يجوز بيعه. فأجاب (عليه السلام): إذا كان الوقف علي إمام المسلمين فلا يجوز بيعه، وإذا كان علي قوم من المسلمين فليبع كل قوم ما يقدرون علي بيعه، مجتمعين ومتفرقين، إن شاء الله)(2).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 6 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات حديث: 8، 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 6 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات حديث: 8، 9.

ص: 107

بدعوي: أن مقتضي خبر جعفر جواز البيع إذا كان خيراً لهم. ولعله هو المراد بالأصلح في الخبر المأثور المشار إليه في المكاتبة، حيث يقرب أن يراد به الإشارة لهذا الخبر، لتقاربهما مضموناً، فيناسب اشتهار خبر جعفر، وكونه مورداً لعمل الشيعة في عهد الحميري. ولذا كان ظاهر المكاتبة المفروغية عن مضمونه من جواز البيع مع اجتماع الموقوف عليهم، وأن السؤال فيها عن الشراء من بعضهم حصته إن لم يجتمعوا علي بيع الكل. وبذلك قد تكون المكاتبة عاضدة لسند الخبر وإن كان ضعيفاً في نفسه بسبب عدم ثبوت وثاقة جعفر ولاسيما وأن ظاهر الصدوق أخذه من كتاب الحسن بن

محبوب الذي هو من الكتب المشهورة التي لا يبعد تعويل الأصحاب عليها. غاية الأمر أن مقتضي إطلاق المكاتبة جواز البيع مطلقاً، إلا أنه يتعين تقييده بخبر جعفر.

هذا ولكن خبر جعفر لم يتضمن جواز البيع إذا كان أعود، بل إذا كان خيراً لهم، وبينهما عموم من وجه. مع أن المتيقن منه صورة احتياج الموقوف عليهم، لذكره في السؤال، وابتناء الجواب عليه.

وعلي كل حال لم يظهر عامل به بعدما سبق من كلام المفيد (قدس سره)، فكيف يمكن التعويل عليه مع ضعفه في نفسه ؟!.

ولاسيما مع عدم خلوه عن الاضطراب والإشكال أولاً: لنسبة الوقف فيه للغلة، دون الأرض. وثانياً: للجمع فيه بين الوقف والوصية. وكما يمكن حمل الوصية فيه علي الشرط في الوقف، يمكن حمل الوقف فيه علي الوصية بالغلة لقرابته من دون وقف للأرض، بل تبقي ملكاً لهم، وأدخل في وصيته بالغلة لهم وصيته بثلاثمائة درهم للرجل من غير قرابته.

كما قد يناسبه ما تضمنه من دفع الثلاثمائة درهم لورثة الموصي له بعد موته، لأن ذلك وارد في الوصية(1) ، وما تضمنه أيضاً من جواز بيع الأرض لقرابة الميت، مع أنه لو كان الرجل غير القرابة الموصي بثلاثمائة درهم وورثته من جملة من وقفت عليه

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 30 من أبواب كتاب الوصايا.

ص: 108

(109) (109)

الأرض لكان المناسب اعتبار رضاهم معهم. وحمل الخبر علي فرض موته وانقراض عقبه، كما تضمنه السؤال السابق، مخالف لظاهره، لظهوره في كون السؤال عن البيع في قبال السؤال عن حكم موته وعن حكم انقراض عقبه لا متفرعاً عليهما. وذلك بمجموعه مما يثير الريب في الخبر ويزيد في الإشكال فيه.

وأما المكاتبة فالسؤال فيها وإن كان ظاهراً في التعويل علي الخبر المأثور، إلا أن الجواب فيها ظاهر في الإعراض عنه، وبيان ضابط جواز البيع استقلالاً، وهو إنما تضمن جواز البيع مطلقاً للموقوف عليهم في حصصهم، وذلك يختص بالوقف المنقطع الذي تقدم الكلام فيه عند الكلام في مفاد صحيح ابن مهزيار لأن الوقف المؤبد لا يختص بالموجودين الذين قد يجوز لهم بيعه. وحينئذ لا ينهض بإثبات جواز البيع لبعض البطون في الوقف المؤبد. ومن ثم قد يكون الجواب موهناً للخبر المأثور ورادعاً عما استفيد منه. فلاحظ.

الثانية: أن يحدث الموقوف عليهم ما يمنع الشرع من معونتهم والتقرب إلي الله بصلتهم. فقد نسب في جامع المقاصد للمفيد جواز البيع حينئذ. وكأنه لكلامه المتقدم.

لكنه إنما تضمن جواز رجوع الواقف في الوقف حينئذ، لا جواز بيعه، واختصاص ذلك بما إذا كان الوقف في يد الواقف، ولم يخرجه من يده ولم يقبضه الموقوف عليهم، كما يظهر بالرجوع إليه.

كما أنه لا دليل ظاهر علي جواز بيع الوقف حينئذ مع نفوذه، وقبض الموقوف عليهم له.

الثالثة: أن يلحق الموقوف عليهم حاجة شديدة لثمنه، عبر عنها بالضرورة في بعض كلماتهم، وبالضرورة الشديدة في أخري. وقد صرح بجواز البيع حينئذ في المقنعة والمبسوط والمراسم والوسيلة والغنية والجامع، وعن فقه القرآن للراوندي والنزهة وغيرها. وفي الانتصار أنه مما انفردت به الإمامية، ورد علي ابن الجنيد في منعه من بيع

ص: 109

الوقف مطلقاً بأنه مسبوق وملحوق بالإجماع، كما ادعي الإجماع عليه في الغنية.

وقد يستدل عليه مضافاً إلي الإجماع المذكور بوجهين:

الأول: ما في الانتصار قال: (فأما إذا صار الوقف بحيث لا يجدي نفعاً أو ادعت أربابه الضرورة إلي ثمنه لشدة فقرهم فالأحوط ما ذكرناه من جواز بيعه، لأنه إنما جعل لمنافعهم، فإذا بطلت منافعهم منه فقد انتقض الغرض فيه ولم يبق منفعة فيه إلا من الوجه الذي ذكرناه). وقريب منه في الغنية.

لكنه كما تري إنما ينهض وجهاً لجواز البيع مع الخراب، لا مع الضرورة لثمنه، لإمكان انتفاعهم به مع بقائه ولو مع عدم دفع ضرورتهم بثمنه.

الثاني: خبر جعفر المتقدم بحمل ما تضمنته من كون البيع أصلح مع حاجتهم وعدم كفاية الغلة لهم علي خصوص حال الضرورة، كما يظهر من النهاية، حيث قال: (أو كان بأرباب الوقف حاجة ضرورية كان معها بيع الوقف أصلح لهم وأدر عليهم).

لكنه خروج عن ظاهر الخبر بلا قرينة. وتعذر العمل بظاهره لا يصحح حمله علي خلاف ظاهره، بل هو في الحقيقة هجر له. مضافاً إلي ما سبق من الإشكال في الخبر بضعف السند وغيره. فراجع.

وأما الإجماع المدعي فلا مجال للتعويل عليه مع ظهور الخلاف، وقرب استناد القائلين بجواز البيع لخبر جعفر بعد تأويله بما سبق، وظهور عدول بعض القائلين بجواز البيع هنا، كما هو مقتضي ما سبق من التهذيبين عند الكلام في صحيح ابن مهزيار، وظهور اضطراب الأصحاب في هذه المسألة جداً.

علي أن كثرة دعاوي الإجماع ممن سبق مع ظهور الخلاف مانع من الوثوق بها والتعويل عليها، بل من التعويل علي أكثر دعاوي الاجماع. كما حقق في الأصول مفصلاً.

هذا تمام الكلام في مسوغات بيع الوقف. وقد ظهر انحصار مسوغ البيع

ص: 110

(111)

(مسألة 10): ما ذكرناه من جواز البيع في الصور المذكورة لا يجري في المساجد، فإنها لا يجوز بيعها علي كل حال (1).

---------------

بالصور التي ذكرها سيدنا المصنف (قدس سره). والله سبحانه وتعالي العالم العاصم. والحمد لله رب العالمين.

(1) كما صرح بذلك غير واحد، وعن غير واحد نفي الخلاف فيه.

وظاهر بعضهم وصريح آخرين ابتناء ذلك علي ما أشرنا إليه في المسألة السابقة من اشتراطهم الملك في العوضين، مع البناء علي امتياز المساجد عن غيرها بعدم ابتناء وقفها علي تمليك العين الموقوفة لجهة تختص بها، بل يبتني وقفها علي فكّ الملك والتحرير، فهي كالحرّ لا تكون موضوعاً للبيع.

ويظهر مما سبق في المسألتين السابقتين الإشكال فيه تارة: بعدم اعتبار الملكية في العوضين. وأخري: بعدم ابتناء الوقف علي التمليك لا في المسجد ولا في غيره من الأوقاف، وأن جميع الأوقاف تبتني علي انقطاع علقة المالك بالعين، وأن ذلك هو مرجع التأبيد المدعي أخذه في مفهوم الوقف، من دون أن يمنع من بيعه.

فالأولي في وجه ذلك ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن وقف المسجد لا يبتني علي تحبيس العين بلحاظ منفعتها، ليكون تعذر الانتفاع بها لخراب أو غيره مما تقدم عند الكلام في الصورة الأولي لجواز البيع موجباً لبطلان التحبيس، ولا يكون البيع منافياً لمقتضي الوقف، بل هو مبني علي مجرد تعنون العين بعنوان خاص، وهو عنوان المسجد، وإيقاع العبادة فيه ليس مقوماً لعنوان المسجدية، بخلاف المصلي والمدرس ومنزل الحجاج أو الزوار وغيرها مما يبتني علي تهيئة المكان للانتفاع الخاص. غاية الأمر أنه يستحب شرعاً إيقاع العبادة فيه، كما يستحب مطلق الكون فيه، ويجوز القيام فيه ببعض الأعمال الأخري، ويكره بعضها، ويحرم بعضها. لكن ذلك غير مقوم لعنوان المسجد، ولا مأخوذ فيه.

ص: 111

ومن هنا لا يكون تعذر الانتفاع به بالوجه المطلوب شرعاً من إيقاع العبادة ونحوها به بسبب الخراب أو غيره، مبطلاً لوقفيته، ومخرجاً له عن كونه مسجداً، ليجوز بيعه.

نعم قد يقال: إن ذلك إنما يقتضي عدم مسوغية الخراب أو نحوه لبيع المسجد، ولا يمنع من جواز بيعه إذا اشترط الواقف ذلك، فإنه سبق أن النص المتقدم المتضمن اشتراط الواقف البيع يكشف عن عدم منافاة الشرط المذكور للوقف. وحينئذ يكون مقتضي عموم دليل نفوذ الوقف نفوذ الشرط المذكور حتي في غير مورد النص.

لكن ذلك موقوف علي عدم أخذ التأبيد في مفهوم المسجد، ولا طريق لإحراز ذلك، بل الظاهر تبعاً للمرتكزات المتشرعية ابتناء المسجدية علي التأبيد، وليس هو كسائر الأوقاف المبنية علي انتفاع الجهة الموقوف عليها بها، كي يمكن تحديد أمد الانتفاع الملحوظ. ولعله لذا سبق منهم دعوي ابتناء وقف المسجد علي التحرير المبتني علي التأبيد. ولاسيما أن دليل نفوذ شرط البيع في الوقف مختص بالوقف المبتني علي انتفاع الموقوف عليهم بالعين. ولا مجال للتعدي منه للمسجد بعدما سبق من احتمال ابتناء المسجدية علي التأبيد، حيث يكون الشرط المذكور منافياً للوقف.

وأشكل من ذلك ما في المسالك، حيث إنه بعد أن استدل لعدم بطلان وقف المسجد بما سبق في كلام الأصحاب قال: (وهذا كله يتم في غير المبني في الأرض المفتوحة عنوة، حيث يجوز وقفه تبعاً لآثار التصرف، فإنه حينئذ ينبغي بطلان الوقف بزوال الآثار، لزوال المقتضي للاختصاص وزوال حكم الأصل).

إذ فيه: أن المسجد حقيقة واحدة، تبتني كسائر الأوقاف علي انقطاع علقة المالك بالعين. وحينئذ إن شرع إنشاؤه في الأرض المفتوحة عنوة كما يظهر مفروغيتهم عنه، تبعاً للسيرة تعين انقطاع علقة المسلمين بالأرض، ولا وجه لرجوعها بعد ذلك إليهم. وإلا يتعين عدم مشروعية إنشائه فيها.

وأما إنشاؤه بلحاظ آثار التصرف مع بقاء العين علي ملك المسلمين، فهو راجع

ص: 112

(113) (113) (113)

إلي تحبيس منفعته مدة وجود آثار التصرف، من دون وقف للعين، نظير إجارة الأرض لتكون مسجداً، وهو لا يتناسب مع مفهوم المسجدية ارتكازاً، ولم تتضح مشروعيته في نفسه. وقد تقدم في فصل أحكام النجاسة من كتاب الطهارة عند الكلام في حرمة تنجيس المسجد ما ينفع في المقام.

بقي في المقام أمران:

الأول: سبق من كاشف الغطاء (قدس سره) المنع من بيع الأوقاف العامة ومنها المساجد وذكر أنه يمكن إجارتها بما لا ينافي الآداب اللازمة لها. وقد سبق جواز البيع في غير المساجد. وأما الإجارة فقد تتجه في غير المساجد لو قيل بعدم جواز بيعها، أو بجوازه لكن لم تبع لعدم جواز الانتفاع بها في غير الجهة التي عينها الواقف، فمع فرض تعطيل الوقف يجوز إجارتها لغير المنفعة التي عينها الواقف من أجل استغلالها بالمقدار الميسور.

أما في المساجد فلا مجال لذلك، لجواز الانتفاع بها لكل أحد بالنحو الذي لا يزاحم إقامة العبادة فيها مع عمرانها، فضلاً عن خرابها، ومع جواز الانتفاع بالوجه المذكور وعدم سلطنة أحد علي المنع منه لا وجه لأخذ الأجرة عليه.

وبعبارة أخري: لما لم تختص منفعة المساجد بجهة معينة تكون هي المستحقة لها لا مجال لأخذ الأجرة من أي جهة علي استغلالها والانتفاع بها.

الثاني: الظاهر أن ما سبق في المساجد يجري في مثل مشاهد النبي والأئمة (صلوات الله عليهم) والأولياء (رضوان الله عليهم). لأنها تشارك المساجد في أنها متقومة بحفظ عنوان خاص، من دون أن يؤخذ فيها الانتفاع بالمكان بالتعبد ونحوه من شؤون زيارتها، وإن ترتب عليها خارجاً ذلك، فلا يكون تعذر الانتفاع المذكور، لانصراف الناس عن زيارتها مبطلاً لوقفها ومسوغاً لبيعها.

وهذا بخلاف المكان المعد مصلي للزائرين أو مستراحاً لهم أو منزلاً يبيتون فيه أو مطعماً لهم، فإنه كسائر الأوقاف العامة المحبسة بلحاظ المنفعة الخاصة تبطل وقفيته

ص: 113

(114)

نعم يجري في مثل الخانات الموقوفة للمسافرين وكتب العلم والمدارس والرباطات الموقوفة علي الجهات الخاصة (1).

(مسألة 11): إذا جاز بيع الوقف (2) فالأحوط مراجعة الحاكم

---------------

بتعذر الانتفاع به بتلك المنفعة.

وكذا الحال في المقامات المنسوبة للأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم والأولياء المنتشرة في بقاع الأرض، فإن الظاهر تقومها بالنسبة المذكورة، وابتناء وقفيتها علي حفظ العنوان المنتزع منها. وقصد الناس لها وتعبدهم فيها أمر مترتب علي ذلك، من دون أن يكون مأخوذاً في وقفيتها، ليكون تعذره لخراب أو غيره مبطلاً لها.

ولا يعتبر في مشروعية الوقف المذكور ثبوت النسبة بوجه شرعي، بل يكفي احتمال ذلك والعمل عليه بحيث يصير المكان معلماً دينياً ورمزاً يشد الناس للمقدسات الدينية ويذكرهم بها، لكفاية ذلك في رجحان تشييده والتقرب به.

نعم لا يجوز تعمد اختراعه افتراءً علي الناس وتضليلاً لهم، لحرمة ذلك، فلا يصح الوقف له، لما هو معلوم من أن الوقف نوع من الصدقة المبنية علي التقرب. إلا أن يجري الناس علي ذلك لغفلتهم حتي يصير المكان معلماً مذكراً بالدين ورموزه، فيحسن تشييده حينئذ، ويشرع الوقف له.

(1) لأن الوقف في جميع ذلك يبتني علي تحبيس العين بلحاظ منفعتها، فمع تعذر الانتفاع بها يتعين بطلان التحبيس، فيجري ما سبق في الصورة الأولي من مسوغات بيع الوقف. خلافاً لما سبق من كاشف الغطاء (قدس سره) من عدم جواز البيع في هذه الأمور وغيرها من الأوقاف العامة. فراجع.

(2) الظاهر أن مراده غير صورة شرط الواقف للبيع. لوضوح أن المتبع فيها ما يستفاد من الشرط من حيثية متولي البيع ومصرف البدل، وإنما الكلام في مثل الخراب مما لا يكون البيع فيه مقتضي الوقف.

ص: 114

(115)

الشرعي والاستئذان منه في البيع (1). كما أن الأحوط أن يشتري بثمنه ملكاً ويوقف علي النهج الذي كان عليه الوقف الأول (2).

---------------

(1) أما مع عدم وجود الولي المنصوب للوقف فلخروج البيع عن مقتضي الوقف، ولا إطلاق يقتضي السلطنة عليه، فيجب الاقتصار علي المتيقن، وهو صورة مراجعة الحاكم الشرعي. وأما مع وجود الولي المنصوب للوقف فلأن المتيقن من ولايته المجعولة من قبل الواقف ولايته في إدارة الوقف والقيام بمقتضاه، وحيث كان البيع خارجاً عن مقتضي الوقف كانت ولايته قاصرة عنه، فيجب مراجعة الحاكم حينئذ، لما سبق، ويأتي تمام الكلام فيه.

لكن استئذان الحاكم الشرعي حيث لم يكن لثبوت ولايته كما تقدم في محله مفصلاً بل للخروج عن احتمال ولايته، فاللازم الجمع بين الاستئذان منه والاستئذان من كل من يحتمل ولايته، كالموقوف عليهم والولي المنصوب من قبل الواقف.

نعم إنما يحتمل اعتبار الاستئذان من الموقوف عيهم إذا كانوا محصورين ولو بلحاظ البطن الموجود حين البيع. أما مع عدم حصرهم كما في الأوقاف العامة فلا مجال للاحتمال المذكور.

كما أنه لو استفيد من الواقف عموم ولاية المنصوب من قبله لمثل البيع مما هو من شؤون بطلان الوقف، فلا إشكال في الاكتفاء بإذنه مع وجوده، وعدم وجوب الاستئذان الحاكم الشرعي. ولا يبعد استفادة ذلك عرفاً ولو تبعاً في جميع موارد نصب الولي. وأظهر من ذلك ما إذا قلنا بأن البيع من شؤون الوقف، لا من شؤون بطلانه، كما سبق ويأتي من بعضهم.

(2) كما صرح به كثير منهم، ويظهر من بعض كلماتهم المفروغية عنه. ويتضح الوجه فيه بناء علي ما سبق من غير واحد في وجه جواز البيع مع الخراب ونحوه من أن وقف العين ينحل إلي حبسها بشخصها من أجل انتفاع الموقوف عليهم بها، مع إمكان

ص: 115

ذلك، وحبسها بما أنها مال من أجل انتفاعهم ببدلها.

بل بناء علي ذلك لا يحتاج إلي وقف جديد، حيث يكون بنفسه وقفاً بمقتضي وقف العين، المفروض ابتناؤه علي الانحلال، بضميمة البدلية التي يقتضيها.

غاية الأمر أنه قد يقرب جواز بيع البدل وإبداله بغيره ولو مع صلاحيته للانتفاع وعدم خرابه إذا كان تبديله أصلح للموقوف عليهم، لأن الحبس بلحاظ الانتفاع بالعين بشخصها إنما كان في العين الموقوفة بالأصل، فيجب إبقاؤها بشخصها مادام يمكن الانتفاع بها. أما بعد سقوطها عن الانتفاع بالخراب أو نحوه وجواز تبديلها بلحاظ حبسها بما هي مال كما هو المدعي فلا موجب لحبس شخص البدل، لعدم تضمن الوقف له،، بل للحبس بلحاظ أصل المالية المقتضي لجواز التبديل.

فكما كان الوقف بلحاظ أصل المالية مقتضياً لجواز تبديل العين الأصلية عند تعذر الانتفاع بها بالثمن، وتبديل الثمن بالعين الأخري، يكون مقتضياً لجواز تبديل العين الثانية بالثمن وهكذا، من دون ملزم بانتظار تعذر الانتفاع بالعين الثانية. فتعذر الانتفاع بالعين إنما يكون شرطاً في تبديل العين الأولي التي وقع الوقف عليها، لا في تبديل ما بعدها من الأبدال.

بل ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه لا يجب شراء المماثل إذا لم يشترط الواقف ذلك، لأن مقتضي الجمع بين تأبيد الوقف المستفاد من مثل: حتي يرث الله تعالي الأرض ومن عليها، وواقع العين الموقوفة هو التبديل بلحاظ أصل الوقف، دون خصوصية المماثلة. بل مقتضي ولاية المتولي ملاحظته مصلحة الموقوف عليهم واختيار ما هو الأصلح لهم.

لكنه يشكل بأن التأبيد المستفاد من العبارة المذكورة لو تم إنما ورد في صيغة الوقف علي الانتفاع الخاص، لا مطلق الانتفاع، ولا يتحقق تأبيد الانتفاع الخاص بالعين بلحاظ ماليتها إلا بالتبديل بالمثل مع الإمكان. كما جري علي ذلك بعض المحققين (قدس سره) في حاشيته علي المكاسب.

ص: 116

نعم حيث سبق ضعف المبني المذكور من أصله فلا مجال لاستفادة وجوب التبديل منه، فضلاً عن حفظ خصوصية المماثلة.

هذا وأما بناء علي ما اشتهر بينهم من كون الوقف ملكاً للموقوف عليهم بجميع بطونهم فسقوطه عن الانتفاع وإن اقتضي بطلان حبسه وجواز بيعه، إلا أنه لا يقتضي خروجه عن ملكهم، وبذلك يتعين قيام البدل مقامه في ملكيتهم له، كما هو مقتضي البدلية من دون حاجة إلي أن يوقف عليهم. كما أن اللازم بعد ملكيتهم له مراعاة مصلحتهم ولو بشراء غير المماثل، كما صرح بذلك شيخنا الأعظم (قدس سره).

لكن صرح غير واحد بوجوب شراء المماثل مع الإمكان، إما لأنه الأقرب لغرض الواقف، وإما لأنه الميسور من العمل بمقتضي الوقف، إذ مع تعذر العمل بمقتضي الوقف بنحو التأبيد في شخص العين الموقوفة يتعين العمل به في النوع باختيار المماثل.

وفيه: أنه لا دليل علي وجوب مراعاة غرض الواقف، وإنما تضمنت الأدلة وجوب العمل بالوقف المفروض تعذره. مضافاً إلي أنه لا ضابط لغرض الواقف. إذ قد لا يكون اختياره للخصوصية حين الوقف لانحصار غرضه بسنخها، بل لأنها الأنفع للموقوف عليهم بنظره أو في وقته، فمع تعذر العمل بالوقف يكون الأقرب لغرضه هو مراعاة مصلحتهم والأنفع لهم، دون اختيار المماثل. وقد تقدم نظير ذلك في ذيل الكلام في الصورة الأولي من مسوغات البيع.

كما أنه لا دليل علي وجوب مراعاة الميسور في العمل بالوقف، لعدم ثبوت عموم قاعدة الميسور في الأحكام التكليفية التي قد تبتني علي ملاك قابل للانحلال، فضلاً عن الوضعيات التابعة للإنشاء والجعل غير القابل للانحلال، ومنها الوقف.

ومن هنا قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (والحاصل: أن الوقف مادام موجوداً بشخصه لا يلاحظ فيه إلا مدلول كلام الواقف، وإذا بيع وانتقل الثمن إلي الموقوف عليهم لم يلاحظ فيه إلا مصلحتهم).

ص: 117

كما أن مقتضي ذلك عدم وجوب حبس البدل، بحيث لا يباع مادام يمكن الانتفاع به، بل يجوز تبديله للأصلح ولو مع قابليته لأن ينتفع به.

بل مقتضاه جواز نفعهم به ما تعاقبوا ولو بمثل الاتجار به واستغلال ربحه من دون ملزم بشراء ما تبقي عينه، ويستغل بمنفعته أو نمائه، ويكون اختيار الأصلح تابعاً لتشخيص الولي.

نعم سبق منا منع المبني المذكور من أصله، وأن العين الموقوفة ليست ملكاً للموقوف عليهم، بل هي نحو من الصدقة عليهم، فإذا بطل تحبيسها بلحاظ منفعتها تعين بقاؤها صدقة عليهم. وحينئذ لا موجب لشراء المماثل ووقفه أيضاً، بعد ما سبق من عدم وجوب موافقة غرض الواقف وعدم انضباط غرضه، وعدم جريان قاعدة الميسور. وعلي ذلك جري سيدنا المصنف (قدس سره) في نهج الفقاهة.

اللهم إلا أن يقال: مصرف الصدقة تارة: يؤخذ من الشارع الأقدس، كما في الزكاة والكفارات. وأخري: من المتصدق نفسه، كما في مثل الوقف المبتني علي الإنشاء والجعل، والتبرع المبتني علي البذل.

والمتبع في تحديد الأول الدليل الشرعي، الذي يختلف باختلاف أنواع الصدقات. وفي تحديد الثاني سعة الأمر المنشأ، أو سعة إذن الباذل.

ولا مجال لشيء من ذلك في المقام بعد عدم تعرض النصوص التي بأيدينا لحكم الوقف الخراب والمعطل، وبعد اختصاص جعل الواقف بالعين الموقوفة، وسكوته عن حكم بدلها.

ومن هنا يتعين الاقتصار في علي المتيقن، لاحترام المال المانع من التصرف الخارجي فيه إلا بمسوغ، ولأصالة عدم ترتب الأثر علي التصرف الاعتباري.

ولا إشكال في أن المماثل ولو في الجملة هو المتيقن بالإضافة إلي غيره مع تساويهما في مقدار مصلحة الموقوف عليهم.

ص: 118

(119)

نعم لو خرب بعض الوقف جاز بيع ذلك البعض (1)، وصرف ثمنه في مصلحة المقدار العامر (2)، أو في وقف آخر إذا كان موقوفاً علي نهج

---------------

كما لا يبعد قضاء المرتكزات بأن المماثل من جميع الجهات هو المقدم علي غيره ولو كان غيره هو الأصلح، كما إذا كان الوقف مدرسة تسع مائة طالب علم في حاجة للسكن، فدار الأمر بين صرف البدل في مدرسة كذلك وصرفه في جهة أنفع لطلاب العلم.

أما لو دار الأمر بين المماثل في الجملة وغيره مما هو أصلح فلا يخلو الأمر عن إشكال، كما لو دار الأمر بين في الفرض المتقدم إنفاق البدل في مدرسة تسع ثلاثين طالباً، وصرفه في جهة أنفع لطلاب العلم. وإن لم يبعد قضاء المرتكزات بترجيح الأصلح حينئذ.

وبذلك يظهر الحال فيما لو تعذر المماثل، حيث لا يبعد ترجح الأقرب فالأقرب مع عدم مزاحمته بالأصلح، وأما مع مزاحمته به فلا يبعد ترجيح الأصلح.

هذا والظاهر عدم الحاجة لوقف البدل، بل يكفي استغلاله في الجهة الموقوف عليها مع إمكانها، أو في الجهة الأقرب إليها حسب تشخيص الولي. لتعيينه لها بمقتضي البدلية بلا حاجة للوقف، بل يكون الوقف لغواً.

كما أنه لا ينحبس عليها، بل يجوز تبديله إذا كان أصلح بنظر الولي وإن كان باقياً علي صلاحيته للانتفاع فيما عين له، لعدم موجب للحبس بعد فرض عدم وقفه، فهو صدقة تستغل في الجهة الخاصة مادام الولي يري الصلاح في استغلالها فيها.

(1) بالشروط المتقدمة.

(2) لأنه في الحقيقة من أفراد الصرف في المماثل للجهة الموقوف عليها في الجملة. ومما سبق يظهر أن المتيقن من ذلك ما إذا لم يكن صرفه في جهة أخري أصلح للموقوف عليهم، ومنه ما إذا أمكن استغناء المقدار العامر منه بتبرع أو نحوه.

ص: 119

وقف الخراب (1). وإذا خرب الوقف ولم يمكن الانتفاع به، وأمكن بيع بعضه وتعمير الباقي بثمنه، جاز بل وجب علي الولي بيع بعضه، ولم يجز بيع جميعه (2).

(مسألة 12): لا يجوز بيع الأمة إذا كانت ذات ولد لسيدها (3) ولو

---------------

(1) لعين ما سبق. ويجري فيه ما جري في سابقه.

(2) لعدم سقوطه عن الانتفاع به في الجهة الموقوف عليها، ليبطل تحبيسه، غاية الأمر تعذر الانتفاع ببعضه فيها، والبناء علي الانحلال في ذلك قريب جداً بالنظر للمرتكزات العرفية، نظير الانحلال في تبعض الصفقة في جميع العقود والإيقاعات.

ولولا ذلك للزم بطلان الوقف بتمامه لو خرب بعضه وتعذر الانتفاع به في الجهة الموقوف عليها، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك.

غاية الأمر أن تبعض الصفقة فيها في البعض المعين، وفيما نحن فيه قد يكون في بعض غير معين، وهو غير فارق عرفاً. فلاحظ.

(3) إجماعاً بقسميه. كذا في الجواهر. والنصوص به مستفيضة، كصحيح

عمر بن يزيد عن أبي إبراهيم (عليه السلام): (قلت: لِمَ باع أمير المؤمنين (عليه السلام) أمهات الأولاد؟ قال: في فكاك رقابهن... قلت: فتباع فيما سوي ذلك من الدين ؟ قال: لا)(1) وغيره.

نعم في صحيح زرارة: (سألته عن أم الولد. قال: أمة تباع وتوهب وتورث. وحدّها حدّ الأمة)(2). وفي الجواهر أنه من الشواذ التي يجب طرحها. وربما يحمل علي ما إذا مات ولدها، كما عن الشيخ وغيره.

وأما حمله علي بيعها في ثمن رقبتها فهو لا يناسب ما تضمنه من الهبة والميراث. ولاسيما مع تأكيد ذلك بأن حدها حد الأمة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 2 من أبواب الاستيلاء حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 24 من أبواب بيع الحيوان حديث: 3.

ص: 120

(121)

كان حملاً غير مولود (1).

---------------

ومثله في ذلك حمله علي أنه قد يعرض لأم الولد ما يسوغ بيعها وهبتها أو يصيرها موروثة. فإنه بعيد عن ظاهره جداً. ولاسيما مع التأكيد المذكور.

ثم إن ما تقدم في صحيح محمد مسلم يجري في صحيح وهب بن عبد ربه عن أبي عبد الله (عليه السلام) علي ما رواه الصدوق قال: (في رجل زوج أم ولد له عبداً، ثم مات السيد. قال: لا خيار لها علي العبد، هي مملوكة للورثة)(1). بل الحال فيه أشكل. لمنافاته لما تضمن انعتاق الأم إذا ملكها ابنها حتي في غير أم الولد.

نعم رواه الشيخ هكذا: (في رجل زوج عبداً له من أم ولد له ولا ولد لها من السيد...)(2). فيخرج عن محل الكلام، لأن المراد به من مات ولدها.

(1) كما صرح به غير واحد، بل أرسله في الجواهر إرسال المسلمات. ويقتضيه صحيح محمد بن مارد عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الرجل يتزوج الأمة، فتلد منه أولاداً، ثم يشتريها، فتمكث عنده ما شاء الله لم تلد منه شيئاً بعدما ملكها، ثم يبدو له في بيعها. قال: هي أمته إن شاء باع، ما لم يحدث عنده حمل بعد ذلك، وإن شاء أعتق)(3).

ومنه يظهر توقف ترتب أحكام أم الولد علي حصول الولد لها من سيدها وهي في ملكه، ولا يكفي فيه حصول الولد له منها قبل ملكه لها، كما صرح بذلك في الشرايع وغيرها في الجواهر أنه المشهور بينهم شهرة عظيمة.

خلافاً للمبسوط، فحكم بصيرورتها أم ولد إذا كان ولدها حراً حينما علقت به، وهو ظاهر الوسيلة. بل في الخلاف عموم ذلك لما إذا تحرر الولد وإن كان رقاً حين علوقها به. وكان الوجه فيهما الإطلاق. لصدق أم الولد عليها. لكنه لو تم وجب الخروج عنه بالصحيح.

********

(1) من لا يحضره الفقيه ج: 3 ص 82.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 5 من أبواب الاستيلاء حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 4 من أبواب الاستيلاء حديث: 1.

ص: 121

(122)

وكذا لا يجوز نقلها بسائر النواقل (1). وإذا مات ولدها جاز بيعها (2).

---------------

وإنما يظهر الأثر في جواز بيعها وعدمه. أما انعتاقها في الجملة من نصيب ولدها لو مات سيدها وهي في ملكه فهو أمر لا إشكال فيه، لعموم ما دل علي عدم ملك الإنسان لأحد عموديه(1).

(1) كما صرح به غير واحد، وعن غير واحد إرساله إرسال المسلمات. وعن الإيضاح دعوي الإجماع عليه. بل ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه قول جميع المسلمين.

وقد ذكر أن المستفاد من نصوص المنع عموم المنع لكل ناقل. وكأنه لأن المناسبات الارتكازية قاضية بأن منشأ المنع من البيع هو تشبثها بالحرية بسبب ولدها، حيث نعتق من نصيبه، وهو المناسب لما في معتبر الوليد بن هشام عن أبي الحسن (عليه السلام)، وفيه: (فقلت: إن فيهم جارية قد وقعت عليها، وبها حمل. قال: لا بأس. أليس ولدها بالذي يعتقها؟! إذا هلك سيدها صارت من نصيب ولدها)(2) فإن إعتاق الولد لها لا يكون إلا للمفروغية عن بقائها علي ملك أبيه إلي يموت.

(2) بلا خلاف أجده فيه، بل لعل الإجماع بقسميه عليه. كذا في الجواهر وقال شيخنا الأعظم (قدس سره): (اتفاقاً فتوي ونصاً).

ويشهد به صحيح ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في رجل اشتري جارية يطأها، فولدت له ولداً فمات ولدها. قال: إن شاؤوا باعوها في الدين الذي يكون علي مولاها من ثمنها. وإن كان لها ولد قومت من نصيبه)(3) ومعتبر أبي مخلد السراج: (قال أبو عبد الله (عليه السلام) لإسماعيل وحقيبة والحارث النضري: اطلبوا لي جارية... فدلو لنا علي جارية رجل من السراجين قد ولدت له ابن

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 7، 8، 9 من أبواب كتاب العتق.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 6 من أبواب الاستيلاء حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 5 من أبواب الاستيلاء حديث: 2.

ص: 122

ومات ولدها، فأخبروه بخبرها، فأمرهم فاشتروها...)(1).

نعم في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: (في جارية لرجل كان يأتيها، فأسقطت سقطاً منه بعد ثلاثة أشهر. قال: هي أم ولد)(2). وإذا كان السقط لا يخرجها عن كونها أم ولد فموت ولدها أولي بذلك.

لكن من الظاهر أن أظهر أحكام أم الولد انعتاقها من نصيب ولدها من ميراثه من أبيه، ولا موضوع له مع موت الولد، فضلاً عن السقط.

ومن ذلك يظهر الإشكال فيما يظهر من الوسائل من حمله علي سقطها بعد موت السيد، وجعله مع خبر أبي البختري الآتي دليلاً علي انعتاقها حينئذ.

إذ فيه أولاً: أنه لا شاهد علي الحمل المذكور. وثانياً: أنه حيث لا إشكال في أن السقط لا يرث فكيف تنعتق به ؟!.

ومن هنا ذكر صاحب الجواهر وشيخنا الأعظم (قدس سره) أن أثر الاكتفاء بالحمل في صدق أم الولد هو بطلان البيع الواقع حاله، لعدم الإشكال في صحة بيعها بعد الإسقاط. وربما يحمل الصحيح علي ذلك.

لكنه مخالف لظاهره جداً، لقوة ظهوره في بيان حكمها بعد الإسقاط، لا في انكشاف حكمها الثابت قبله.

ومن ثم لا يبعد جريه علي ما يظهر مما عن بعض العامة من تشبثها بالحرية بمجرد الحمل ولو مع موت الولد. ونحوه في ذلك خبر أبي البختري عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام): (قال: إذا أسقطت الجارية من سيدها فقد عتقت)(3) ، سواء حمل علي عتقها فعلاً، كما هو المعني الحقيقي، أم علي أنها تتشبث بالحرية، بمعني أنه يقطع عليها بأنها سوف تعتق بموت سيدها. وكيف كان فلابد من الإعراض عن الحديثين، لمخالفتهما لما عليه الطائفة وللنصوص المعول عليها عندهم، ومنما ما تقدم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 5 من أبواب الاستيلاء حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 3 من أبواب الاستيلاء حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 3 من أبواب الاستيلاء حديث: 1، 2.

ص: 123

(124)

كما يجوز بيعها في ثمن رقبتها مع إعسار المولي (1). وفي هذه المسألة فروع كثيرة لم نتعرض لها لقلة الابتلاء.

(مسألة 13): لا يجوز بيع الأرض الخراجية، وهي الأرض المفتوحة عنوة العامرة حين الفتح، فإنها ملك للمسلمين من وجد ومن يوجد (2)،

---------------

(1) كما هو مقتضي إطلاق جماعة، ونسب للأكثر. لموثق عمر بن يزيد عن أبي الحسن (عليه السلام): (سألته عن أم الولد تباع في الدين ؟ قال: نعم في ثمن رقبتها)(1) ولا يبعد ظهوره في صورة إعسار المولي، لأن خصوصية الدين تناسب ذلك.

هذا وقد تردد الفاضلان قدس سرهما في إطلاقه أو تقييده بصورة موت المولي، بل قوي تقييده بصورة موته غير واحد من متأخري المتأخرين.

لصحيح عمر بن يزيد المتقدم. وفيه: (قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام): أسألك قال: سل. قلت: لِمَ باع أمير المؤمنين (عليه السلام) أمهات الأولاد؟ قال: في فكاك رقابهن. قلت: وكيف ذلك ؟ قال: أيما رجل اشتري جارية فأولدها، ثم لم يؤد ثمنها ولم يدع من المال ما يؤدي عنه أخذ ولدها منها، فبيعت وأدي ثمنها. قلت: فيبعن فيما سوي ذلك من دين ؟ قال: لا)(2).

لظهور قوله (عليه السلام): (ولم يدع من المال ما يؤدي عنه) في موت المولي. كما أنه صريح في الحصر، وهو من سنخ المبين للإطلاق. ومن ثم يتعين قصر الإطلاق عليه. ولنكتف بهذا المقدار في المسألة، لخروجها عن مورد الابتلاء في عصورنا.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب، المدعي عليه الإجماع في كلام غير واحد. والنصوص به مستفيضة. كصحيح الحلبي: (سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن السواد ما منزلته ؟ فقال: هو لجميع المسلمين، لمن هو اليوم، ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، ولمن لم يخلق بعد. فقلت: الشراء من الدهاقين. قال: لا يصلح. إلا أن تشتري منهم

********

(1) ، وسائل الشيعة ج: 13 باب: 24 من أبواب بيع الحيوان حديث: 2، 1.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 13 باب: 24 من أبواب بيع الحيوان حديث: 2، 1.

ص: 124

علي أن يصيرها للمسلمين، فإذا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها...)(1) ، ومعتبر أبي بردة بن رجا: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف تري في شراء أرض الخراج ؟ قال: ومن يبيع ذلك ؟! هي أرض المسلمين. قلت: يبيعها الذي هي في يده، قال: ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟! ثم قال: لا بأس اشتري حقه منها، ويحول حق المسلمين عليه. لعله يكون أقوي عليها، وأملأ بخراجهم منه)(2) ، وغيرهما.

لكن في صحيح حريز عنه (عليه السلام): (قال: رفع إلي أمير المؤمنين (عليه السلام) رجل مسلم اشتري أرضاً من أراضي الخراج. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): له ما لنا، وعليه ما علينا، مسلماً كان أو كافراً. له ما لأهل الله، وعليه ما عليهم)(3). وقد يظهر في إقراره (عليه السلام) للشراء.

ولابد من حمله وحمل غيره مما قد يظهر في ذلك علي شراء حق الاختصاص والاستغلال، مع بقاء العين علي ملك المسلمين، ولزوم أداء الخراج، بقرينة التفصيل الذي تضمنته النصوص الأول.

نعم النصوص المذكورة لا تقتضي عدم قابلية الأرض المذكورة للبيع والنقل، وإنما تقتضي منع من بيده الأرض من بيعها ونقلها، لعدم ملكه لها، وعدم سلطنته عليها بعد أن كانت ملكاً للمسلمين، وليس له إلا حق الاختصاص باستغلالها علي أن يؤدي خراجها لهم.

ولا ينافي ذلك جواز بيع ولي المسلمين لها، بل حتي هبته لها وإقطاعها لبعض الناس مجاناً، كما يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم (قدس سره) المفر وغية عنه. لعموم ولايته، وقابليتها للنقل ذاتاً، كسائر أملاك المسلمين.

وقد يجري علي ذلك صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) والساباطي وزرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنهم سألوهما عن شراء أرض الدهاقين من أرض

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 71 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 72 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه حديث: 6.

ص: 125

الجزية. فقال: إنه إذا كان ذلك انتزعت منك، أو تؤدي عنها ما عليها من الخراج. قال عمار: ثم أقبل علي، فقال: اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك)(1) ومعتبر إبراهيم بن أبي زياد: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشراء من أرض الجزية. فقال: اشترها فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك)(2).

فإن ما تضمنه الصحيح من أنها تنتزع منه عد ظهور القائم (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) أو يؤدي ما عليها من الخراج، ثم الترخيص في الشراء للتعليل المذكور ظاهر في كون الترخيص المذكور شخصاً لخصوص عمار، وأن الشراء المرخص فيه هو شراء عين الأرض، بحيث لا يجب الخراج فيها، وإلا فجواز الشراء مع دفع الخراج قد بين أولاً، وهو لا يحتاج للتعليل المذكور. وذلك يبتني إعمال ولايته (عليه السلام) علي الأرض وأربابها في الترخيص المذكور.

قال في محكي مرآة العقول تعقيباً علي الصحيح المتقدم: (ثم جوز عليه السلام له شراءها لأن له الولاية عليها. وعلل بأن لك من الحق بعد ظهور دولة الحق في الأرض أكثر من ذلك، فلذلك جوزنا لك ذلك). ومنه يظهر الوجه في حمل معتبر إبراهيم المتقدم علي ذلك أيضاً.

اللهم إلا أن يقال: لم يتضح كون المراد بالحديثين من أرض الجزية الأرض المفتوحة عنوة التي هي ملك المسلمين، بل لا يبعد كون المراد بها الأرض التي صالح أهلها علي أن تكون جزيتهم من حاصل أرضهم، فإن الأرض المذكورة باقية علي ملك أصحابها الأولين، ولا تكون ملكاً للمسلمين، ولا مانع من شرائها منهم.

غاية الأمر أن في حاصلها جزيتهم فيكون في شرائها منهم والاستقلال بها تفريط بجزيتهم التي هي ملك للمسلمين أيضاً، ولذا احتاج للترخيص الشخصي المبتني علي التعليل المذكور، وعلي إعمال الإمام (عليه السلام) لولايته عليها. فالعمدة ما ذكرناه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 71 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه حديث: 4.

ص: 126

(127)

ولا فرق بين أن تكون فيها آثار مملوكة للبايع من بناء أو شجر أو غيرهم

وأن لا تكون (1).

---------------

أولاً من عموم الولاية.

نعم استشكل في الجواهر في بيعها حتي لولي المسلمين. قال: (لاحتمال كون حكمها شرعاً بقاؤها وصرف خراجها، كالوقف).

لكن لا شاهد للاحتمال المذكور. إذ النصوص لم تتضمن إلا أنها للمسلمين، والظاهر أن تعيينها لأخذ الخراج منها لأنه الوجه المتعارف لانتفاع عموم المسلمين منها، لا لحبسها شرعاً علي ذلك. كيف ولا إشكال - بملاحظة السيرة - في اتخاذ المساجد فيها، والظاهر أنها علي حدّ سائر المساجد تبتني علي وقف الأرض مسجداً، كما سبق في المسألة العاشرة. بل لا إشكال في شق الطرق فيها، وبناء المساكن ونحوها مما يحتاجه من يعمرها.

وما ذلك إلا لعدم تعينها للخراج، بل لانتفاع المسلمين بها بعد أن كانت لهم بنحو من أنحاء الملك ولو تسامحاً. وذلك يقتضي سلطنة ولي الأمر علي نقلها ببيع وغيره إذا كان صلاحاً لهم.

وبذلك يظهر نفوذ بيع وإقطاع ولاة الجور للأرض المذكورة في حق المؤمنين. لما دل علي جواز تعاملهم معهم، والترخيص لهم في أخذ جوائزهم، ونحو ذلك، والظاهر شيوع إقطاع ولاة الجور للأرضين في عهود الأئمة (صلوات الله عليهم)، فلو لم يكن نافذاً في حق المؤمنين لكان المناسب استثناؤه.

(1) كما هو مقتضي إطلاق جماعة وصريح آخرين. لإطلاق النصوص السابقة. لكن في بيع التذكرة وفي اللمعتين والمسالك جواز بيعها تبعاً للآثار. وحكي عن غير واحد، علي إشكال في النسبة، لصراحة كلام بعضهم في بيع نفس الآثار.

والذي ينبغي أن يقال: إحداث آثار التصرف من البناء ونحوه إن لم يكن بوجه

ص: 127

مأذون فيه شرعاً كان عدواناً، فيحق للولي قلعه، وهو لا يقتضي حقاً في الأرض، فضلاً عن أن يقتضي ملكها تبعاً له، ليجوز بيعها معه. ولعله خارج عن محل كلامهم.

وكذا إذا كان بوجه مأذون فيه إذا ابتني علي انتفاعه به بنفسه مادام هو في الأرض من دون أن يستحق إبقاءه. فإنه إذا لم يستحق إبقاءه في الأرض بعد خروجه منها، فلا منشأ لتوهم ملكه للأرض بتبعه، بحيث يصح بيعها معه. غايته أنه يملك أثر التصرف بنفسه، فله قلعه عند خروجه من الأرض، وله بيعه ممن يخلفه فيها.

وإن ابتني علي استحقاقه إبقاء أثر التصرف مادام قائماً، بحيث لا يجوز للولي قلعه عند خروجه منها، فهو وإن اقتضي حقاً لصاحب التصرف في الأرض لا ينتهي بخروجه منها، إلا أنه لا يقتضي ملك الأرض بنفسها، لعدم المنشأ لذلك. ولاسيما مع عدم معهودية الملكية الموقتة، إذ مبني الملكية ارتكازاً علي البقاء ما لم يحدث الرافع لها، ولو مثل فسخ العقد الناقل.

وحينئذ إن كان مرادهم بيع الحق المذكور تبعاً لآثار التصرف فهو متين جداً، إلا أنه لا يصح استثناؤه من عموم منع بيع الأرض. وإن كان مرادهم بيع نفس الأرض التي تقوم عليها آثار التصرف. فهي غير مملوكة له ليصح منه بيعها.

ودعوي: أن ذلك مقتضي السيرة. مدفوعة بأنه لم يتضح قيام سيرة في المقام متصلة بعصور المعصومين صلوات الله عليهم كاشفة عن رضاهم. ولاسيما مع ما هو المعلوم من عدم بسط أيديهم (عليه السلام)، بحيث يستطيعون استنكار ما يحصل، ليكشف عدم استنكارهم إياه عن إقرارهم له.

علي أن المتيقن من السيرة إنما هو بيع أثر التصرف، ولا يعلم منها بيع رقبة الأرض تبعاً له إلا بناء علي الملازمة بين الأمرين، وهي ممنوعة. غاية الأمر ملازمة بيع أثر التصرف لبيع حقّ إبقائه في الأرض الذي تقدم الكلام فيه.

ومثله الاستدلال بما تضمن جواز شراء أرض الخراج. فإنه مع عدم وروده فيما نحن فيه من بيع الآثار محمول علي بيع حق الاختصاص بالأرض واستغلالها، ل

ص: 128

(129)

بل الظاهر عدم جواز التصرف فيها (1)

---------------

عينها ورقبتها، كما سبق.

(1) قال في المبسوط: (ولا يصح بيع شيء من هذه الأرضين ولا هبته ولا معاوضته ولا تمليكه ولا وقفه ولا رهنه ولا إجارته ولا إرثه. ولا يصح أن يبني دوراً ومنازل ومساجد وسقايات، ولا غير ذلك من أنواع التصرف الذي يتبع الملك. ومتي فعل شيء من ذلك كان التصرف باطلاً، وهو باق علي الأصل).

والوجه فيه ظاهر بعد ما سبق من كون الأرض المذكورة للمسلمين علي نحو خاص، حيث يكون التصرف المذكور تعدياً عليهم، ومنافياً لما هو المعلوم من حرمتهم وحرمة أموالهم وحقوقهم، فلابد في جوازه من إذن وليهم، وهو الإمام أو من يقوم مقامه، علي ما يأتي الكلام فيه.

نعم قد يدعي أن النصوص المتقدم بعضها، المتضمنة جواز شراء أرض الخراج علي أن يقوم المشتري مقام البايع في عمارتها وأداء خراجها، ظاهرة في جواز التصرف فيها بالوجه المذكور لكل أحد من دون حاجة لإذن الإمام أو غيره.

لكنه لا يخلو عن إشكال أو منع، فإن الأرض المذكورة لما كانت للمسلمين فلا يتيسر التصرف فيها غالباً إلا بمراجعة السلطان. غاية الأمر أن لأهلها الأولين حق الأولوية في استغلالها وعمارتها، بحيث لا يجوز إخراجهم منها قسراً عليهم، حتي بالتضييق عليهم بتحميلهم من الخراج أكثر من طاقتهم، كما يظهر من النصوص.

ومنها موثق إسماعيل بن الفضل الهاشمي: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشتري [اكتري] أرضاً من أرض أهل الذمة من الخراج وأهلها كارهون. وإنما يقبلها من السلطان لعجز أهلها أو غير عجز. فقال: إذا عجز أربابها عنها فلك أن تأخذها، إلا أن يضاروا. وإن أعطيتهم شيئاً فسخت أنفس أهلها لكم فخذوها...)(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 10.

ص: 129

وعلي ذلك يكون المراد بشراء أرض الخراج في النصوص المتقدمة هو شراء حق الأولوية المذكور الثابت لهم، نظير شراء حق السرقفلية للمستأجر المتعارف في عصورنا.

أما استحقاق المباشرة بعمارة الأرض واستغلالها فلابد أن يبتني علي إذن السلطان في عصر صدور تلك النصوص، إما لابتناء تعامله مع أهل الأرض الأولين علي أن لهم بيعها بالوجه المذكور علي غيرهم، أو لمراجعة المشتري بالخصوص له باستئذانه قبل الشراء، أو بطلب إقراره وإمضائه بعده، كما يناسبه قوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي المتقدم: (فإذا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها).

وعلي ذلك فغاية ما تدل عليه النصوص المذكورة الاكتفاء في جواز التصرف في الأرض المذكورة بإذن سلطان الجور، لا إطلاق جواز التصرف فيها لكل أحد، ليخرج بها عما سبق.

هذا وقد يظهر ممن سبق منه جواز بيع الأرض المذكورة تبعاً لآثار التصرف جواز إحداث الآثار المذكورة الموجبة لنحو من الحق في الأرض من دون حاجة إلي إذن. ولم يتضح وجهه.

غاية الأمر أنه قد يبتني تقبيل الأرض من قبل من يتولي أمر المسلمين - بحق أو بجور - علي الإذن ضمناً في التصرف الذي يقتضيه الارتباط بالأرض من أجل عمارتها وزراعتها لاستحصال الخراج منها، كمساكن العاملين فيها ومرافقهم من مخازن ومساجد وسقايات لهم وللعابرين فيها، ونحو ذلك بالنحو المتعارف.

لكن هذا - مع اختصاصه بمن يتقبل الأرض، دون من هو أجنبي عرفاً، وبالتصرف المتعارف دون غيره - ليس تصرفاً من دون إذن، بل هو تابع للإذن الضمنية التي يبتني عليها تقبيل الأرض من قبل من يتولي أمر المسلمين، فلو منع من التصرف المذكور أو من بعض أقسامه تعين عدم جوازه، بل يكون تعدياً لا يترتب عليه حق الإبقاء في الأرض، علي ما سبق.

ص: 130

كما أنه قد فصل في الدروس بين زمان الحضور وزمان الغيبة، فلا يجوز التصرف في الأول إلا بإذن الإمام (عليه السلام)، ويجوز التصرف في الثاني من دون حاجة لذلك، ووافقه في جامع المقاصد، وحكاه عن غيره.

وكأنه لأن توقف التصرف علي إذنه (عليه السلام) مستلزم لتعذر التصرف في عصر الغيبة في الأرض المذكورة، وهو مما يقطع بعدم رضا الشارع به، لاستلزامه تعطيلها وعدم الاستفادة بها.

لكن ذلك يجري أيضاً في عصر الحضور لو تعذر استئذان الإمام أو امتنع هو (عليه السلام) من الإذن ومزاولة وظائف الإمامة حذراً من ظهور ذلك عنه بنحو يعرضه أو يعرض شيعته للخطر.

وحيث يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس بتعطيل الأرض حينئذ بنحو يعلم بجواز التصرف في الجملة، فاللازم الاقتصار علي المتيقن من الجواز، وهو صورة استئذان سلطان الجور، حيث لا إشكال في الجواز حينئذ ولو بلحاظ السيرة في عصور حضور الأئمة (عليهم السلام).

ولا أقل من كونه مقتضي النصوص المتقدمة المتضمنة جواز شراء أرض الخراج علي أن يقوم المشتري مقام البايع في أداء خراجها، لما هو المعلوم من أن أداء خراجها إنما كان في تلك العصور لولاة الجور، وكانوا هم المتولون لإدارة شؤونها.

ودعوي: أنه يعلم بعدم الأثر لإذن الجائر، لأن عدوانه لا يناسب اهتمام الشارع الأقدس به وبإذنه. ممنوعة، لإمكان اهتمام الشارع الأقدس بضبط أمر أرض الخراج، وتنظيم التصرف فيها دفعاً للتشاح والخلاف وما يترتب عليهما من مفاسد في المجتمع قد تسود حتي علي الأرض وعلي غلتها، ومع تعذر تنظيمها بالوجه الأكمل بإيكالها لنظر الإمام العادل يكتفي بتنظيمها من طريق سلطان الجور، لأنه خير من الانفراط المطلق. ولعله لذا جاز التعامل في الخراج مع السلطان.

ومثل ذلك ما قد يدعي من أن مقتضي السيرة جواز التصرف فيها لكل أحد،

ص: 131

إلا بإذن الحاكم الشرعي (1)، إلا أن تكون تحت سلطة السلطان المدعي للخلافة العامة، فيكفي الاستئذان منه (2). بل في كفاية الاستئذان من الحاكم الشرعي حينئذ إشكال (3). ولو ماتت الأرض العامرة حين الفتح

---------------

حيث يشيع من عامة الشيعة وخاصتهم التصرف فيها من دون توقف منهم أو استئذان من أحد.

إذ فيه أولاً: أن السيرة الحادثة في عصر الغيبة لا تصلح للاستدلال، وما ينهض بالاستدلال هو السيرة المتصلة بعصور ظهور المعصومين صلوات الله عليهم بحيث يكشف عدم ظهور الردع منهم عنها في إمضائهم لها.

وثانياً: أن السيرة من الخاصة قد تبتني علي ما سبق منا من نفوذ إقطاع السلطان الجائر، ومن العامة علي ذلك وعلي عدم مراعاة الحكم الشرعي جهلاً به أو تسامحاً. ولاسيما أن كثيراً منهم من ذوي القوة والنفوذ وممن يغمض بسببهما عن الموازين الشرعية.

ومن هنا لا مخرج في عصر الغيبة عن مقتضي القاعدة المتقدمة من عدم جواز التصرف في الأرض المذكورة من دون إذن ولي المسلمين، أو من يقوم مقامه.

(1) لأن احتمال ولايته كاف في وجوب الاستئذان منه بعد العلم بجواز التصرف في الجملة، للعلم بعدم رضا الشارع الأقدس بتعطيل الأرض عن الانتفاع.

(2) لما هو المعلوم ويستفاد من النصوص السابقة وغيرها من إمضاء التعامل معه شرعاً. وعليه كان العمل في عصور حضور الأئمة صلوات الله عليهم.

(3) لعدم إطلاق يقتضي ولاية الحاكم الشرعي، كما يظهر مما سبق في أواخر الكلام في شروط المتعاقدين، وإنما يرجع إليه لاحتمال ولايته في مورد يعلم بجواز التصرف في الجملة، ولا يعلم بجوازه من دون إذنه. أما في المقام فحيث يعلم بكفاية استئذان سلطان الجور ودفع التعطيل بمراجعته فلا طريق لإحراز الاكتفاء بإذن

ص: 132

(133)

فالظاهر أنها لا تملك بالإحياء، بل هي باقية علي ملك المسلمين (1). أما الأرض الميتة زمان الفتح فهي ملك للإمام (عليه السلام) (2). وإذا أحياها أحد ملكها بالإحياء (3)،

---------------

الحاكم الشرعي.

بل لا ينبغي التأمل في عدم البناء علي الاكتفاء باستئذانه بدلاً عن السلطان في عصور الأئمة صلوات الله عليهم، مع أن أكثر الأدلة التي سيقت لإثبات ولاية الحاكم الشرعي أو كلها لا يختص بعصر الغيبة، كما يظهر بمراجعة ما تقدم منا عند الكلام في أدلة ولايته، وذلك يكشف عن أن ولايته لو تمت ليست بنحو تقتضي الاكتفاء باستئذانه بدلاً عن السلطان.

نعم لو فرض عدم بناء السلطان علي التصدي للأرض، جهلاً بكونها خراجية، أو لتبدل القوانين التي يجري عليها، فلا طريق لإحراز الاكتفاء بإذنه، لخروجه عن موضوع السيرة والنصوص السابقة. بل لا منشأ لاحتمال اعتبار إذنه حينئذ، ويتعين الاكتفاء باستئذان الحاكم الشرعي. والظاهر خروجه عن مفروض كلام سيدنا المصنف (قدس سره).

(1) كما صرح به غير واحد، بل قد يظهر منهم عدم الخلاف فيه. والكلام في ذلك متفرع علي الكلام في مملكية الإحياء، وفي عمومها للأرض المفتوحة عنوة، ويأتي الكلام فيهما إن شاء الله تعالي.

(2) كما تقدم منا عند الكلام في الأنفال من خاتمة كتاب الخمس من هذا الشرح.

(3) الظاهر عدم الإشكال فيه في الجملة، وأرسل في بعض كلماتهم إرسال المسلمات، وأدعي عليه في كلمات بعضهم الإجماع.

ويقتضيه جملة من النصوص، كصحيح زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وفضيل وبكير وحمران وعبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام):

ص: 133

(134)

(قالا: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): من أحيي أرضاً مواتاً فهي له)(1) ، وصحيح عبد الله بن

سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): (سئل وأنا حاضر عن رجل أحيي أرضاً مواتاً، فكري فيها نهراً، وبني فيها بيوتاً، وغرس نخلاً وشجراً، فقال: هي له وله أجر بيوتها، وعليه فيها العشر فيما سقت السماء أو سيل وادي أو عين، وعليه فما سقت الدوالي والغرب نصف العشر)(2) وغيرهما، مما يأتي بعضه إن شاء الله تعالي. وعلي كل حال فالحكم في الجملة لا شبهة فيه، إلا أنه ينبغي الالتفات لأمرين:

الأول: أنه يظهر من بعض مواضع المبسوط أن الإحياء لا يوجب ملك الأرض، بل مجرد حق التصرف فيها. قال في كتاب الجهاد في فصل حكم ما يغنم وما لا يغنم: (فأما الموات فإنها لا تغنم، وهي للإمام خاصة، فإن أحياها أحد من المسلمين كان أولي بالتصرف فيها، ويكون للإمام طسقها). ونحوه في كتاب الزكاة من النهاية مع إطلاق المحيي من دون تقييد له بالمسلمين. وهو صريح الاستبصار في باب من أحيي أرضاً مستدلاً عليه بصحيح الكابلي وغيره من النصوص الكثيرة التي يأتي الكلام فيها.

وقال في كتاب إحياء الموات من المبسوط: (إذا تحجر أرضاً وباعها لم يصح بيعها... لأنه لا يملك رقبة الأرض بالإحياء، وإنما يملك التصرف بشرط أن يؤدي إلي الإمام ما يلزمه عليها). وكلامه بدواً وإن أوهم أنه في التحجير إلا أن الظاهر عدم التفريق عنده بينه وبين الإحياء، كما نبه لذلك في السرائر. ويناسبه ما ذكره من التعليل المتقدم، وما ذكره بعد ذلك من أن ملك الأرض تارة: يكون بإقطاع السلطان لها. وأخري: يكون بإحداث شيء فيها. قال: (وذلك مثل الموات من الأرض، وقد ذكرنا أنه يملك بالإحياء بإذن السلطان التصرف فيها، وهو أولي من غيره. وإذا تحجر صار أحق به من غيره). وجري علي ذلك في المهذب والغنية والسرائر.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 1 من أبواب كتاب إحياء الموات حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 1 من أبواب كتاب إحياء الموات حديث: 8.

ص: 134

الثاني: أن الأصحاب صرحوا بعدم جواز إحياء الأرض الميتة التي هي ملك الإمام إلا بإذنه، مطلقاً كما يظهر مما سبق من المبسوط أو مع ظهوره (عليه السلام)، كما في الشرايع، أو مع بسط يده، كما في الجواهر. قال في كتاب الجهاد: (بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. مضافاً إلي عموم قاعدة قبح التصرف في مال الغير بغير إذنه).

إذا عرفت هذا فإن كان مرادهم من الإذن الإذن الخاص لكل شخص بشخصه، فمن الظاهر أن الإذن إن ابتنت علي الإذن في الإحياء المبني علي التملك رجعت إلي الإقطاع الذي سبق من المبسوط حصول التملك به، وإن ابتنت علي الإذن في الإحياء بنفسه من دون تملك تعين عدم حصول الملك بالإحياء، كما ذكره في المبسوط، لأنها تكون نظير المزارعة.

غاية الأمر أن سعة حق الأولوية بتبع الإحياء تابع لسعة الإحياء المأذون فيه. ولا يبعد كون مفروض كلام المبسوط إطلاق الإذن في الإحياء بنحو يستلزم الأولوية مادام المأذون في مقام الإحياء غير معرض عنه.

كما قد يتجه ما ذكره غير واحد من الفرق بين عصر الحضور، فيشترط في جواز الإحياء فيه الإذن منه (عليه السلام)، وعصر الغيبة فلا يشترط فيه الإذن مطلقاً، كما يظهر من الشرايع، أو لخصوص الشيعة كما في الجواهر.

إذ قد يكون الوجه في عدم اعتبار الإذن في الإحياء في عصر الغيبة أن اعتباره مستلزم لتعطيل الأرض الموات، وهو مما يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به.

وأما الاستدلال له بنصوص التحليل فلا يخلو عن إشكال إذا لو تم عموم التحليل فهو لا يختص بعصر الغيبة، بل عصر الحضور متيقن منه لورود نصوصه فيه. وهذا بخلاف محذور التعطيل الذي أشرنا إليه.

نعم لو تم الاستدلال بمحذور التعطيل فهو إنما يقتضي جواز الإحياء وأولوية المحيي بالأرض، لكفاية ذلك في الحث علي عمران الأرض وعدم تعطيلها، ول

ص: 135

يتوقف علي ملك المحيي لها كما هو مقتضي إطلاق الأصحاب، وصريح الشرايع وغيره في خصوص عصر الغيبة، بخلاف الإذن الخاص، حيث قد يستفاد منه الإحياء المبتني علي التملك، الذي سبق رجوع الإذن فيه للإقطاع.

كما أن اعتبار الإذن الخاص في الإحياء لا يناسب إطلاق النصوص المتقدمة دليلاً علي مملكية الإحياء. بل يكاد يقطع بعدم اعتباره حتي في عصر الحضور بالنظر للسيرة، ولذا لم تتعرض النصوص لطلب أفراد الشيعة الإذن من الأئمة (صلوات الله عليهم) في الإحياء، مع شيوع حاجتهم له وكونه مورداً لابتلائهم.

وإن كان مرادهم من الإذن المعتبر في جواز الإحياء ما يعم الإذن العام المستفاد من النصوص السابقة، فبعد إطلاق النصوص المذكورة، وظهورها في مملكية الإحياء، لا يظهر الوجه لما سبق من المبسوط من عدم مملكية الإحياء، ولا لما سبق من الشرايع وغيره من الفرق بين عصر الحضور والغيبة.

كما أنه لا فائدة في بيان اشتراط الإذن بعد أن كان حاصلاً بمقتضي هذه النصوص. ومن ثم فكلام الأصحاب لا يخلو عن اضطراب وإشكال.

ولا يبعد كون منشئه اختلاف الأخبار فإن النصوص المتقدمة وغيرها وإن كانت ظاهرة في مملكية الإحياء، إلا أن نصوصاً أخر قد تضمنت أن الأرض كلها للإمام بنحو يظهر في عدم خروجها عن ملكه بالإحياء، كصحيح أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر (عليه السلام): (قال: وجدنا في كتاب علي (عليه السلام): (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين). أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض، ونحن المتقون، والأرض كلها لنا. فمن أحيي أرضاً من المسلمين فليعمرها، وليؤد خراجها إلي الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها. فإن تركها وأخربها فأخذها رجل من المسلمين بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها، فليؤد خراجها إلي الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها حتي يظهر القائم عليه السلام من أهل بيتي بالسيف، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها، كما حواها رسول الله صلي الله عليه وآله ومنعها. إلا ما كان

ص: 136

في أيدي شيعتنا، فإنه يقاطعهم علي ما في أيديهم، ويترك الأرض في أيديهم)(1).

وصحيح مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام) وكان قد حمل إليه مالاً من الخمس، فرده عليه. وفيه: (إني قلت له حين حملت إليه المال: إني كنت قد وليت البحرين الغوص، فأصبت أربعمائة ألف درهم، وقد جئتك بخمسها بثمانين ألف درهم... فقال: أو مالنا من الأرض وما أخرج الله منها إلا الخمس يا أبا سيار؟! إن الأرض كلها لنا، فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا. فقلت له: وأنا أحمل إليك المال كله. فقال: يا أبا سيار قد طيبناه لك وأحللناك منه، فضم إليك مالك. وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتي يقوم قائمنا، فيجبيهم طسق ما كان في أيديهم، ويترك الأرض في أيديهم. وأما ما كان في أيدي غيرهم فإن كسبهم من الأرض حرام عليهم حتي يقوم قائمنا، فيأخذ الأرض من أيديهم، ويخرجهم صَغَرة)(2). ونحوهما غيرهما. وقد عقد في الكافي باباً لذلك(3).

ومن الظاهر منافاتها بدواً لنصوص الإحياء المتقدم بعضها، ولغيرها مما تضمن ملكية الناس بأسباب التمليك المختلفة. بل حتي مثل الأوقاف ونصوص الأرض المفتوحة عنوة وغيرها.

وقد يجمع بين الطائفتين تارة: بحمل الطائفة الثانية علي نحو خاص من الملكية لا ينافي في ثبوت الملكية بالمعني المعروف لغيرهم (عليهم السلام)، عملاً بظاهر الطائفة الأولي. ومرجعها إلي ولايتهم (عليهم السلام) وأحقيتهم بالتصرف، بحيث لا يحلّ تصرف الناس في أملاكهم إلا بموالاتهم (عليهم السلام)، أو تحليلهم منه.

وأخري: بإبقاء الطائفة الثانية علي ظاهرها في الملكية بالمعني المعروف، وحمل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب كتاب إحياء الموات حديث: 2.

(2) الكافي ج 1 ص 408، واللفظ له. وسائل الشيعة ج: 6 باب: 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 12.

(3) الكافي ج: 1 ص: 407-410.

ص: 137

الطائفة الأولي علي أولوية التصرف، ومضيه حقيقة في حق الشيعة، وحكماً - من أجل تمشية الأمور بسبب الهدنة - في حق غيرهم، بمعني أن علي الشيعة أن يرتبوا أحكام ملكية غيرهم لما تحت أيديهم، وإن لم يكن أولئك مالكين، وكان تصرفهم محرماً عليهم واقعاً.

والظاهر أن الثاني هو المتعين، لمناسبته للصحيحين المتقدمين، لصعوبة تنزيلهما علي الأول، بلحاظ ما تضمناه من الآثار المناسبة لملكيتهم (عليهم السلام) الحقيقية، ولتضمن أكثر نصوص هذه الطائفة أن حِلّ الأرض للشيعة لتحليل الأئمة (عليهم السلام) لهم، بخلاف غيرهم، مع أن ملكية الناس لو كانت حقيقية لكان المناسب عدم احتياج الشيعة للتحليل، غاية الأمر أن يحرم ما في الأرض علي غيرهم، لعدم تحقق شرط الحل وهو الولاية أو أداء الخراج.

ولاسيما أن بعض نصوص الإحياء قد اقتصر فيه علي أن محيي الأرض أحق بها، أو أنه أحق بها وهي له، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): (قال: أيما قوم أحيوا شيئاً من الأرض أو عمروها فهم أحق بها)(1). وفي صحيحه الآخر: (فهم أحق بها، وهي لهم)(2). حيث يسهل بلحاظه تنزيل الحكم في بقية النصوص بأنها له علي أنه أحق بها.

وأظهر من ذلك قوله (عليه السلام) في صحيح عمر بن يزيد الآتي: (من أحيي أرضاً من المؤمنين فهي له، وعليه طسقها يؤديه إلي الإمام في حال الهدنة. فإذا ظهر القائم فليوطن نفسه علي أن تؤخذ منه)(3). لظهور أن دفع الطسق وأخذها منه عند ظهور القائم (عليه السلام) يناسب بقاءها علي ملك الإمام، وأن المراد من كونها له أنه أحق بها.

ولعل غرابة مضمون هذه النصوص، وثقله وصعوبة تحمله، ومنافاته بدواً للنصوص الأخر وغيرها مما يتضمن ملكية الناس بأسبابها المعروفة، ومخالفة ذلك

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 1 من أبواب كتاب إحياء الموات حديث: 3، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 1 من أبواب كتاب إحياء الموات حديث: 3، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 13.

ص: 138

لظاهر عمل الناس وسيرتهم، وعدم ظهور الأثر العملي له بعد صدور التحليل للشيعة، وعدم ظهور الأثر للتحريم في حق غيرهم، كل ذلك أوجب عدم تركيز أكثر الأصحاب علي هذه النصوص ومدارسة مضمونها.

إن أن ذلك لا يبلغ ما ذكره في الجواهر من إعراض الأصحاب عنها، الموهن لها والمسقط لها عن الحجية. ومثله ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من مخالفة صحيح الكابلي وعمر بن يزيد المتقدمين لظاهر النص والفتوي من مملكية الإحياء.

ولاسيما بعد ما سبق من المبسوط وغيره، وبعد ظهور حال الكليني قدس سره في البناء عليها، حيث ذكرها في باب أن الأرض كلها للإمام، وقرب كون ذلك مذهب رواة هذه الأخبار من قدماء الأصحاب، حيث لا تعرف فتاواهم إلا من طريق رواياتهم، وبعد ما سبق من الشيخ (قدس سره) وغيره من عدم مملكية الإحياء، وبعد تعرض كثير ممن تأخر عنهم لهذه النصوص عملهم ببعض مضامينها في الجملة، وبعد ما سبق من ظهور اضطراب الأصحاب في هذه المسألة.

بل روي في الكافي في ذيل الباب المذكور أن ابن أبي عمير كان يري أن الدنيا للإمام علي حهة الملك، وأنه غضب علي هشام بن الحكم وهجره بعد أن كان لا يعدل به شيئاً، وذلك لأن هشاماً لم يقر بذلك، وذكر أن أملاك الناس لهم إلا ما حكم الله تعالي به له من الفيء والخمس والمغنم. ومن الظاهر أن ابن أبي عمير من أعيان الطائفة وفقهائها وربما يكون معه غيره علي ذلك.

نعم قد يستشكل في هذه النصوص بوجهين:

الأول: أن النصوص لا تناسب نصوص الأرض المفتوحة عنوة حيث تضمنت أنها للمسلمين وخراجها لهم لا للإمام، ولا نصوص الأنفال، كالأرض الخربة والتي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وبطون الأودية وشطوط الأنهار، لظهورها في خصوصية العناوين المذكورة في كونها ملكاً للإمام، وهو لا يناسب ما تضمنته هذه النصوص من أن الأرض كلها للإمام.

ص: 139

ويندفع أولاً: بإمكان حمل نصوص الأرض المفتوحة عنوة علي أولوية المسلمين بها قبل ظهور القائم (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) بسبب فتحهم لها، نظير أولوية المحيي.

وأما نصوص الأنفال فيمكن ورودها لدفع توهم عدم ملك الإمام لها، لتوهم كون الأرض الميتة أو العامرة بالأصل باقية علي الإباحة الأصلية، والقري التي انجلي أهلها أو الخربة باقية علي ملك أهلها، والتي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب للمسلمين، كسائر الغنائم.

ثانياً: بأن مضمون هذه النصوص ثقيل جداً، ولا يسهل تقبله علي عامة الشيعة، كما لا يحسن ظهوره لغيرهم. ولعل المصلحة كانت في التدرج في بيان حقهم (عليهم السلام) في الأرض، تبعاً للتدرج في إظهار رفيع مقامهم، وإذعان النفوس به بعد تحقق الأرضية الصالحة بسبب تركز دعوة التشيع بأبعادها العقائدية.

الثاني: أن صحيح الكابلي قد أطلق فيه دفع الخراج إلي الإمام (عليه السلام) في حال الهدنة، مع عدم عمل الشيعة علي ذلك في عصر الغيبة، ولا نقل عنهم في عصر الحضور، وإلا لظهر في النصوص.

لكن لا يخفي أن ما سبق من المبسوط وغيره يناسب العمل علي مضمون الصحيح. مع أنه يمكن البناء علي سقوط الخراج عن الشيعة بنصوص التحليل، ومنها صحيح مسمع المتقدم وغيره من نصوص المقام، حيث لا مخرج عنها إلا في الخمس، للنصوص الكثيرة المتضمنة للمطالبة به، خصوصاً من الأئمة المتأخرين (صلوات الله عليهم).

مضافاً إلي ظهور نصوص الإحياء المتقدمة في عدم وجوب دفع الطسق. بل هو كالصريح من صحيح عبد الله بن سنان، فإن الاقتصار فيه علي التنبيه لوجوب الزكاة الذي هو ضروري مستغن عن التنبيه يجعله كالصريح في عدم وجوب شيء غيرها، كالطسق.

ص: 140

(141)

مسلماً كان المحيي أو كافراً (1) وليس عليه دفع العوض.

---------------

(1) كما استحسنه في الشرايع. لكن في التذكرة: (إذا أذن الإمام لشخص في إحياء الأرض الموات ملكها المحيي إذا كان مسلماً، ولا يملكها الكافر بالإحياء، ولا بإذن الإمام في الإحياء. فإن أذن الإمام فأحياها لم يملك عند علمائنا).

هذا وقد ذكرنا آنفاً أنهم اشترطوا في الإحياء إذن الإمام. فإن أرادوا به الإذن الخاص، فهو إن ابتني علي الإذن بالإحياء المبتني علي التملك رجع للإقطاع، وتعين حصول الملك بالإحياء للمسلم والكافر، للقطع بنفوذ ما يأذن به الإمام. وإن ابتني علي الإذن بالإحياء المجرد تعين عدم حصول الملك بالإحياء لا للمسلم ولا للكافر.

وإن أرادوا به الإذن العام المستفاد من النصوص السابقة فهي ظاهرة بدواً في مملكية الإحياء، إلا أن يخرج عنها بنصوص ملك الإمام لجميع الأرض، فتحمل علي أولوية المحيي، علي ما سبق الكلام فيه.

وكيف كان فمقتضي إطلاقها العموم للكافر، ولا وجه لحمله علي خصوص المسلم. بل بعضها صريح أو كالصريح في عموم الحكم للكافر، كصحيح محمد بن مسلم: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشراء من أرض اليهود والنصاري. فقال: ليس به بأس. قد ظهر رسول الله (صلي الله عليه وآله) علي أهل خيبر فخارجهم علي أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمرونها. فلا أري بأساً لو أنك اشتريت منها شيئاً. وأيما قوم أحيوا شيئاً من الأرض وعملوها فهم أحق بها وهي لهم)(1) ، وصحيح أبي بصير: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن شراء الأرضين من أهل الذمة. فقال: لا بأس أن يشتريها منهم. إذا عملوها وأحيوها فهي لهم...)(2).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 71 من أبواب جهاد العدو حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 4 من أبواب إحياء الموات حديث: 1.

ص: 141

(142)

وإذا تركها حتي ماتت فهي علي ملكه (1).

---------------

(1) إذ بناء علي مملكية الإحياء يكون مقتضي الاستصحاب عدم خروجها عن ملكه بالخراب. بل لا يبعد بناء العقلاء والمتشرعة مع قطع النظر عن الاستصحاب علي أن المضامين الاعتبارية - كالملكية والزوجية والطهارة والنجاسة إذا جعلت بنحو الإطلاق ولم تجعل بنحو التوقيت - يبني علي بقائها ما لم يثبت حصول الرافع لها وذلك أصل عقلائي مطابق للاستصحاب، ولا يتوقف علي القول بجريانه.

علي أنه قد يدعي أن ذلك مقتضي إطلاق دليل مملكية الإحياء، لأن مقتضي إطلاق مثل قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) في الصحيح المتقدم: (ومن أحيي أرضاً مواتاً فهي له) أنها له سواءً بقيت محياة أم ماتت. نعم لو كان التعبير هكذا: (من أحيي أرضاً مواتاً ملكها) كان ناظراً للحدوث من دون نظر للبقاء، للفرق بين الفعل والجملة الاسمية، في تمحض الفعل للحدوث، وابتناء الجملة الاسمية علي الثبوت.

إلا أنه لا يخلو عن إشكال، لأن الثبوت المستفاد من الجملة الاسمية ليس هو البقاء زائداً علي الحدوث، بل مفاد اسم المصدر في مقابل الفعل الذي يدل علي الحدوث بالمعني المصدري، مع اشتراكهما في عدم النظر للبقاء. ومن هنا كان الظاهر انحصار الأمر بالاستصحاب والأصل العقلائي المشار إليه لو تم.

هذا وقد تضمنت نصوص كثيرة عدّ الأرض الخربة من الأنفال، التي هي ملك الإمام (عليه السلام)، كصحيح حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب... وكل أرض خربة وبطون الأودية فهو لرسول الله صلي الله عليه وآله، وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء)(1) ، ونحوه موثق سماعة(2) وصحاح محمد بن مسلم(3) وغيرها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 1 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 1، 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 1 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 1، 8.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 1 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 10، 12، 22.

ص: 142

ومقتضاها أن الأرض المحياة لو كانت ملكاً لمحييها فهي تخرج بالخراب عن ملكه، وترجع إلي ملك الإمام (عليه السلام). وبذلك يخرج عن الاستصحاب والأصل المتقدمين. ومثلها في ذلك قوله (عليه السلام) في مرفوع أحمد بن محمد: (والموات كلها هي له)(1) وإن لم ينهض بالاستدلال لضعف سنده.

نعم في مرسلة حماد عن العبد الصالح (عليه السلام) - التي لا تخلو عن اعتبار لانجبارها بعمل الأصحاب -: (والأنفال كل أرض خربة باد أهلها... وكل أرض ميتة لا رب لها...)(2) وحيث كانت واردة في بيان الأنفال كان ظاهرها الحصر، ويكون التقييد فيها ظاهراً في المفهوم، المخرج عن العموم المتقدم، حيث يكون مقتضاه اختصاص الأنفال بالأرض الميتة والخربة التي لا رب لها، وحيث سبق أن مقتضي الاستصحاب والأصل العقلائي بقاء الأرض المحياة بعد موتها علي ملك المحيي، يتعين البناء علي عدم كونها من الأنفال.

اللهم إلا أن يقال: كثرة اختلاف النصوص في بيان الأنفال توجب وهن ظهورها في التحديد والحصر. ومن ثم يشكل حمل التقييد المتقدم علي المفهوم.

ولاسيما بلحاظ صحيح إسحاق بن عمار: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عن الأنفال، فقال: هي القري التي خربت وانجلي أهلها...)(3). للتصريح فيه بكفاية انجلاء أهل الأرض، الراجع لتركهم لعمارتها، من دون اعتبار هلاكهم مع ذلك.

وصحيح عمر بن يزيد: (سمعت رجلاً من أهل الجبل يسأل أبا عبد الله (عليه السلام)

عن رجل أخذ أرضاً مواتاً تركها أهلها، فعمرها وكري أنهارها وبني فيها بيوتاً وغرس فيها نخلاً وشجراً. قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: من أحيي أرضاً من المؤمنين فهي له. وعليه طسقها يؤديه إلي الإمام في حال الهدنة، فإذا ظهر القائم فليوطن نفسه علي أن تؤخذ منه)(4) فإنه لم يفرض فيه موت أهلها ول

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 1 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 17، 4، 20.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 1 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 17، 4، 20.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 1 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 17، 4، 20.

(4) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 13.

ص: 143

جهالتهم، بل مجرد تركهم لها وخرابها.

وهو وإن لم يصرح فيه بأنه من الأنفال، إلا أن جريان حكم الأنفال عليها ظاهر في المفروغية عن كونها منها. ولو كانت باقية علي ملك أصحابها لكان المناسب التعرض لوجه التصرف فيها، ولم يكن وجه لدفع طسقها للإمام.

غاية الأمر أنه لابد من حمل بيان دفع الطسق للإمام علي مجرد استحقاقه له، وإن لم يجب دفعه له فعلاً من أجل تحليلهم (عليهم السلام) حقهم لشيعتهم. أو حمل المؤمنين فيه علي عموم المسلمين، بل خصوص غير الشيعة منهم، كما يناسبه ما في ذيله من أخذ الأرض منه عند ظهور القائم (عجّل الله فرجه الشريف)، لما تضمنه صحيحا الكابلي ومسمع من أنه لا يأخذها من الشيعة، بل من غيرهم.

هذا ويظهر من غير واحد توقف صيرورتها من الأنفال ملكاً للإمام علي عدم وجود مالك معروف لها. ولم يتضح الوجه فيه، فإن مرسلة حماد تضمنت هلاك أهل الخربة، وبقية النصوص تضمنت تركهم لها وانجلاءهم عنها، وهما لا يستلزمان الجهل بهم وضياعهم.

ومن ثم يشكل الخروج عن عموم النصوص السابقة. ولاسيما مع كثرتها، حيث يبعد جداً إهمال القيد فيها لو كان معتبراً.

ومن هنا يقرب البناء علي خروج الأرض عن ملك المحيي وصيرورتها من الأنفال إذا ترك عمارتها حتي خربت. نعم ذلك لا يناسب صحيحي سليمان بن خالد والحلبي الآتيين، ويأتي الكلام فيهما إن شاء الله تعالي.

هذا وأما بناء علي ما سبق منا ومن جماعة من عدم ملكية المحيي للأرض، وإنما يكون له الأولوية بها، فيكون مرجع النصوص المذكورة إلي اشتراط أولويته بما إذا كان في مقام عمرانها، فإذا تركها عادت لما كانت عليه من الإطلاق كسائر الأنفال. وذلك أقرب ارتكازاً من خروجها عن ملكه بعد دخولها فيه. ومن ثم قد يكون مؤيداً لما سبق من عدم مملكية الإحياء. فلاحظ.

ص: 144

(145)

فإذا ترك زرعها جاز لغيره زرعها بلا إذن منه (1) ويعطيه خراجها (2)

---------------

(1) كلمات الأصحاب في المقام في غاية الاضطراب والاختلاف، كما يظهر بمراجعة كتاب الجهاد وإحياء الموات من المسالك والجواهر وغيرهما. ولا يسعنا التعرض لها. فالأولي النظر في الأدلة.

ومن الظاهر أنها تقتضي جواز عمران الأرض للثاني بناء علي عدم ملك الأول الأرض بالإحياء، لأن أولويته بها إنما تمنع من مزاحمته فيها، ومع تركه عمارتها لا يكون في إحياء غيره مزاحمة له فيها. وكذا الحال بناء علي ملكه لها بالإحياء، إلا أنها تخرج بتركه لعمارتها وخرابها عن ملكه وتصير من الأنفال.

أما بناء علي بقائها في ملكه مع خرابها فينحصر الوجه في جواز إحيائها لغيره من دون إذنه بالنصوص، كصحيح الكابلي وعمر بن يزيد المتقدمين.

وصحيح معاوية بن وهب: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أيما رجل أتي خربة بائرة، فاستخرجها وكري أنهارها وعمرها، فإن عليه فيها الصدقة. فإن كانت لرجل قبله، فغاب عنها وتركها فأخربها، ثم جاء بعد يطلبها فإن الأرض لله ولمن عمرها)(1). ولعل المراد بالصدقة فيه الزكاة، نظير ما تقدم في صحيح عبد الله بن سنان. وقد يستفاد جواز إحياء الغير لها من بعض النصوص الأخر التي يأتي الكلام فيها.

(2) كما صرح به غير واحد، ونسبه في المسالك للأكثر. وقد يوجه بأن ذلك مقتضي القاعدة، لما هو المعلوم من ضمان المنافع المستوفاة لمالك العين ذات المنفعة، وهي الأرض في المقام. لكنه مع ابتنائه علي بقاء الأرض علي ملك المحيي الأول، الذي عرفت ويأتي الكلام فيه مختص بما إذا لم يكن الاستيفاء مأذوناً فيه شراعاً، والمفروض في المقام جواز الإحياء للثاني. ولولا ذلك لكان مقتضي القاعدة إرجاع الأرض نفسها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب كتاب إحياء الموات حديث: 1.

ص: 145

هذا وقد استدل غير واحد لوجوب دفع خراجها للأول. بصحيح سليمان بن خالد: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يأتي الأرض الخربة، فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها ماذا عليه ؟ قال: الصدقة. قلت: فإن كان يعرف صاحبها. قال: فليؤد إليه حقه)(1).

بحمل حقه فيها علي الطسق، إذ لو أريد به ردّ نفس الأرض لكان التصريح به أخصر وأفيد. ولاسيما أنه لم يفرض فيه تجدد معرفة المالك، بل هو ظاهر في معرفته من أول الأمر، فلو كان الحكم عدم جواز الاستيلاء علي الأرض لكان المناسب الإنكار علي الثاني في إحيائها. وقريب منه في ذلك ما عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسي بسنده عن الحلبي(2).

نعم لا يخلو ذلك عن غرابة، لأن جواز التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وحبسه عنه، ودفع بدل المنفعة له، لا يناسب القواعد التي عليها العمل.

ولعله لذا خص ذلك في الدروس بما إذا امتنع المالك من عمارة الأرض. قال: (نعم لو تعطلت الأرض وجب عليه أحد الأمرين، إما الإذن لغيره أو الانتفاع. فلو امتنع فللحاكم الإذن، وللمالك طسقها علي المأذون. ولو تعذر الحاكم فالظاهر جواز الإحياء مع الامتناع من الأمرين، وعليه طسقها).

لكنه لا شاهد عليه من الحديثين المتقدمين، ولا يكون عملاً بهما. كما لا دليل عليه من غيرهما. بل مقتضي عموم قاعدة السلطنة عدم إجباره علي أحد الأمرين المذكورين، وله تعطيل الأرض.

هذا وفي الوسائل بعد أن ذكر صحيح سلمان ذكر أن مثله ما رواه بسند صحيح الحلبي عنه (عليه السلام). وتبعه غير واحد. لكن صحيح الحلبي يختلف عنه لقوله (عليه السلام) في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب كتاب إحياء الموات حديث: 3.

(2) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 2 من أبواب كتاب إحياء الموات حديث: 2.

ص: 146

جوابه: (فليرد إليه حقه)(1). وهو كالصريح في إرجاع الأرض بنفسها، لأنها هي المأخوذة. ومرجع ذلك إلي كون التصرف عدواناًَ محرماً.

ولو كانا عن راو واحد لكانا حديثاً واحداً مضطرباً قد يمكن إرجاعه لمضمون واحد، وحمل الاختلاف فيه علي أنه بسبب النقل بالمعني. إلا أن اختلاف الراويين ملزم بالبناء علي أنهما حديثان مختلفا المضمون.

نعم قد يتجه الجمع بينهما بحمل صحيح سليمان علي دفع نفس الأرض، بأن تكون هي المراد من حق صاحب الأرض الأول. وإن كان ذلك خلاف ظاهره بدواً، كما سبق. وحينئذ لا يبقي وجه لما سبق منهم.

بل حتي لو فرض استحكام التعارض بينهما وتساقطهما، فبناء علي ملكية المحيي الأول للأرض يكون مقتضي القاعدة أن له استرجاعها، كما تضمنه صحيح الحلبي، وبناء علي عدم ملكيته لها يكون مقتضي القاعدة عدم استحقاقه الطسق علي الثاني.

علي أن الصحيحين منافيان للنصوص السابقة، خصوصاً صحيحي الكابلي ومعاوية بن وهب، لصراحتهما في عدم استحقاق الأول شيئاً، حيث تضمن الأول أن الطسق للإمام، والثاني عدم شرعية مطالبته، لأن الأرض لمن عمرها.

ومن هنا فقد يجمع بين النصوص بأن صحيح الكابلي حيث كان مختصاً بما إذا كان الأول قد ملك الأرض بالإحياء فهو يكون شاهد جمع بين إطلاق صحيحي معاوية بن وهب وعمر بن يزيد وإطلاق صحيحي سليمان والحلبي، فيحمل الثاني علي ما كان الأول قد ملك الأرض بغير الإحياء من شراء أو إرث أو نحوهما والأول علي ما إذا ملكها بالإحياء.

لكن فيه أولاً: أن الظاهر إلغاء خصوصية الإحياء عرفاً في صحيح الكابلي بعد

********

(1) التهذيب ج 7 ص 201 باب المزارعة حديث: 34.

ص: 147

تفريع الحكم فيه علي ملكيتهم (عليهم السلام) للأرض، وظهوره في أن الإحياء إنما يقتضي أولوية المحيي بالأرض من دون أن يملكها، ولذا يجب عليه الطسق للإمام (عليه السلام)، إذ انتقالها منه بالبيع أو الميراث أو غيرهما لا يقتضي ملكية الذي تنتقل إليه للأرض نفسها، بل أولويته بها من غيره، كالأول، فيكون مثله في دفع الطسق وغيره. ولذا يظهر منه ومن صحيح مسمع وغيرهما استرجاع الإمام القائم عجل الله فرجه للأرض بأجمعها من غير الشيعة، وإبقاء ما يبقي منها تحت يد الشيعة من أجل عمارتهم لها بالطسق، لا من أجل ملكهم لها.

وثانياً: أن حمل صحيح معاوية علي خصوص ما إذا كان صاحب الأرض الأول قد أحياها بنفسه صعب جداً، لاحتياجه لعناية خاصة مغفول عنها.

وأصعب منه حمل صحيح عمر بن يزيد علي ذلك، لأن فرض ترك أهل الأرض لها وإن لم يستلزم الجهل بهم، إلا أنه كثيراً ما يكونون كذلك فإغفال القيد فيه أصعب.

هذا مضافاً إلي أن غالب أفراد الملك بغير الإحياء يتفرع علي الملك بالإحياء، كالشراء والاتهاب من المحيي والميراث منه. والمرتكز أن الأسباب المذكورة إنما تقتضي تبدل المالك من دون أن تقتضي تبدل نحو الملكية، فمع فرض أن الملكية بالإحياء نحو خاص من الملكية يناط حدوثاً وبقاء بالإحياء، كما هو المفروض، وأكده (عليه السلام) بقوله: (فإن الأرض لله ومن عمرها)، كيف تكون الملكية المتفرعة عليها غير منوطة بقاء بالإحياء؟!.

نعم لا يجري هذا في مثل إقطاع الأرض من الإمام نفسه. لكنه فرض نادر أو غير واقع. والحاصل: أن الجمع المذكور ليس عرفياً، بل هو مغفول عنه.

ولعل الأقرب ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من حمل صحيحي سليمان والحلبي علي ما إذا لم يكن الأول قد ترك الأرض وأخربها، وإنما خربت قهراً عليه، كما لو حبسه ظالم، أو منعه من عمرانها، أو انقطع عنها الماء أو نحو ذلك، مع بقاء علقته بها،

ص: 148

واهتمامه بعمرانها، لقصور صحيحي عمر بن يزيد والكابلي عن ذلك.

وأما صحيح معاوية بن وهب فهو إن كان يشمله لفظاً، بلحاظ قوله (عليه السلام) فيه: (فإن الأرض لله ولمن عمرها) إلا أنه لا يبعد انصرافه عنه ولو بضميمه مرتكزات المتشرعة. إلا أن تطول المدة بحيث يلزم تعطيل الأرض. فلاحظ.

ولو فرض استحكام التعارض بين الطائفتين، فإن تم ما سبق من عدم مملكية الإحياء فالأصل يقتضي عدم وجوب إرجاع الأرض ولا دفع الطسق للأول. وكذا إذا قلنا بمملكية الإحياء وصيرورتها بالموت من الأنفال، علي ما سبق الكلام فيه.

وإن لم يثبت ذلك، فمقتضي الاستصحاب ملكية الأول للأرض. وعليه يحرم علي الثاني إحياؤها، ويجب عليه إرجاعها للأول، كما تضمنه صحيح الحلبي.

ولو فرض العلم بجواز إحيائها تعين عدم وجوب دفع الطسق، لما ذكرناه آنفاً من اختصاص ضمان المنافع المستوفاة بما إذا كان استيفاؤها عدوانياً غير مأذون فيه شرعاً.

نعم قد يدعي حكومة عمومات الإحياء علي استصحاب ملكية الأول للأرض، وقضائها بملكية الثاني، لأن العمومات المذكورة كما تنطبق علي إحياء الأول تنطبق علي إحياء الثاني، ولا تعارض بين التطبيقين بعد ما سبق من دلالة نصوص الإحياء علي سببية الإحياء لحدوث الملكية من دون نظر لبقائها. وحينئذ يكون مقتضي تطبيقها علي إحياء الثاني انتقال الأرض به من الأول للثاني.

اللهم إلا أن يدعي انصراف أدلة الإحياء للأرض غير المملوكة للناس لظهورها في المفروغية عن جواز الإحياء.

وذلك لا يكون مع ملكية الأرض للغير، لارتكاز أن إحياءها مع ملكية الأرض من دون إذن مالكها عدوان محرم.

وأظهر من ذلك ما لو استفيد من نصوص الإحياء ابتناؤه علي إعمال النبي والأئمة (صلوات الله عليهم) سلطنتهم في أملاكهم وهي الأنفال، لقصور الأنفال

ص: 149

عن ملك الغير قطعاً.

وعلي ذلك يكون استصحاب ملكية المحيي الأول وارداً علي عمومات الإحياء ورافعاً لموضوعها، لا محكوماً لها.

هذا ما يتيسر لنا ذكره في هذه المسألة. وقد سبق أن تعرضنا لها في ذيل كتاب الخمس من هذا الشرح عند التعرض لحكم الأنفال. وقد خرجنا هنا في غير مورد عما ذكرناه هناك. ونسأل الله سبحانه أن يوفقنا لتحقيق الحقائق، ويعصمنا من الزلل في القول والعمل، ويعفو عن أخطائنا، ويوفقنا لتدارك ما فرط منا. إنه ولي المؤمنين. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

بقي الكلام في أرض الخراج إذا تركت حتي خربت. وقد سبق من سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره عدم تملك غيرها لها بالإحياء. وهو المتعين بناء علي ما سبق عن الأكثر من وجوب دفع الطسق لصاحب الأرض مع معرفته. لظهور أنها معلومة المالك، وهو المسلمون. بل يجب استئذان وليهم أو من يقوم مقامه في إحيائها، علي ما يأتي الكلام فيه. أما بناء علي عدم تمامية ما سبق عن الأكثر فمن الظاهر أن المتيقن من دليل ملكية المسلمين لها أو أوليتهم بها وإن كان هو حال عمرانها، إلا أن مقتضي الاستصحاب بقاؤها علي ذلك بعد خرابها.

نعم لو تم عموم أن الأرض الميتة للإمام، جري عليها حكم الأنفال من جواز إحيائها للشيعة فيملكها المحيي أو يكون أولي بها علي الكلام السابق من دون ملزم بدفع الطسق للمسلمين ولا للإمام.

أما إذا اختص العموم المذكور بالأرض التي لا رب لها، أو التي انجلي أهلها، أو تركوها، فلا مخرج عن الاستصحاب. وحينئذ لا يجوز إحياؤها ولا تملك بالإحياء بناء علي ما سبق من قصور عموم مملكية الإحياء عن الأرض المملوكة.

بل ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن صحيح سليمان والحلبي بعد حملهما علي الأرض المملوكة بغير الإحياء ينهضان بالمنع عن ملكيتها بالإحياء، لأن سبب ملك المسلمين

ص: 150

(151)

وإذا أحياها السلطان المدعي للخلافة علي أن تكون للمسلمين لحقها حكم الأرض الخراجية (1).

---------------

لها هو الفتح حال الإحياء، لا الإحياء نفسه.

لكن الظاهر قصور الصحيحين وغيرهما من نصوص المقام الواردة في إحياء الأرض التي كان لها صاحب سابق عن الأرض المفتوحة عنوة، لانصرافها واختصاصها بما إذا اختص بها سابقاً شخص أو أشخاص معينون، دون ما إذا كانت للنوع من وجد منه ومن لم يوجد، كالمسلمين في المقام، حيث لا يصدق ترك أهلها لها وإخرابهم إياها إلا بنحو من التسامح.

نعم لا يبعد عموم التعليل في صحيح معاوية بن وهب بقوله (عليه السلام): (فإن الأرض لله ولمن عمرها) لها، لظهوره في أن عمران الأرض شرط في بقاء أولوية صاحبها بها، وهي قضية ارتكازية أعم من مورد الصحيح. ومقتضاها جواز إحيائها للغير إذا لم يكن ولي المسلمين في مقام عمرانها.

هذا ولو تم ذلك فلا يحتاج عمرانها حينئذ إلي إذن سلطان الجور، أو الحاكم الشرعي أو غيرهما أما لو لم يتم، وقلنا ببقائها علي ملك المسلمين بعد خرابها، ولو للاستصحاب، فاللازم الاستئذان. لظهور اختصاص ما يستفاد من النصوص السابقة من جواز التصرف في الأرض من دون إذن صاحبها السابق بمواردها.

(1) كأنه لظهور الأدلة في إمضاء تصرفه في حقهم، فتكون الأرض لهم كالأرض الخراجية. نعم إنما تكون بحكم الأرض المفتوحة عنوة من حيثية كون خراجها للمسلمين، ولا يمنع ذلك من بيعها حتي لو قيل بعدم جواز بيع الأرض الخراجية لولي المسلمين.

كما أنه لو كان الوجه في عدم ملك المحيي للأرض الخراجية هو أن المسلمين قد ملكوها بغير الإحياء - كما تقدم من سيدنا المصنف (قدس سره) - فالوجه المذكور يقصر

ص: 151

(152)

(مسألة 14): في تعيين أرض الخراج إشكال. وقد ذكر العلماء والمؤرخون مواضع كثيرة منها. وإذا شكّ في أرض أنها ميتة أو عامرة حين الفتح يعمل علي أنها ميتة (1)، فيجوز إحياؤها وتملكها إن كانت حية (2)، كما يجوز بيعها وغيره من التصرفات الموقوفة علي الملك.

---------------

هذه الأرض، كما هو ظاهر.

(1) لاستصحاب عدم كونها عامرة إلي حين الفتح، لظهور أن العمران أمر حادث علي الأرض.

(2) إن كان مراده (قدس سره) تملكها ممن هي بيده بشراء أو غيره فلا إشكال فيه. لحجية اليد. وإن كان مراده تملكها بالحيازة فهو متجه مع إحراز كونها من الأنفال - كما لو كانت ميتة حين الفتح، أو كانت عامرة واحتمل عمرانها بنفسها من دون ملك أحد لها، لأصالة عدم جريان ملك أحد عليها أو عمرانه لها - لأن الظاهر تحليلهم (عليهم السلام) الأنفال للشيعة.

إلا أن يحرز ولو بالأصل كونها ميراث لا وارث له، كما لو علم بجريان ملك مسلم عليها وموته واحتمل أو علم بعدم الوارث له. فإن الظاهر عدم تحليلهم (عليهم السلام) له، بل له مصارفه الخاصة، علي ما ذكرناه في حكم الأنفال في ذيل كتاب الخمس من هذا الشرح.

أما لو لم يحرز كونها من الأنفال، بل أحرز كونها لمالك مجهول فلا مجال لتملكها، بل يتعين جريان حكم مجهول المالك عليها. إلا أن يكون قد تركها حتي ماتت، فيجوز إحياؤها، كما سبق.

هذا ولو علم أنها كانت حين الفتح عامرة وشك في كونها مفتوحة عنوة، بأن احتمل كونها مما لم يوجف عليه بخيل أو ركاب لتكون من الأنفال، أو أن أهلها قد أسلموا طوعاً أو صالحوا المسلمين لتبقي لهم، تعين استصحاب عدم فتحها عنوة، فل

ص: 152

(153)

(مسألة 15): يشترط في كل من العوضين أن يكون مقدوراً علي تسليمه (1)، فلا يجوز بيع الجمل الشارد أو الطير الطائر أو السمك المرسل في الماء.

---------------

يحكم بأنها من أرض الخراج.

وحينئذ إن كانت حين الابتلاء بها عامرة تعين ترتيب آثار ملكية من هي تحت يده لها. وإن لم تكن تحت يد أحد معروف، فإن احتمل حياتها بنفسها من دون محي لها جري عليها حكم الأنفال، لاستصحاب عدم إحياء أحد لها.

وإن علم بإحيائها من قبل شخص بحيث يحرز ولو بالاستصحاب وجود مالك لها، جري عليها حكم مجهول المالك. وإن لم يحرز للعلم بموت مالكها واحتمل عدم الوارث له جري عليها حكم ميراث من لا وارث له، نظير ما سبق. وإن لم تكن حين الابتلاء بها عامرة جاز إحياؤها، كما يظهر مما سبق.

بقي شيء: وهو أنه لو علم كون الأرض خراجية، لفتحها عنوة وهي عامرة. فلها صورتان:

الأولي: أن تكون عامرة حين الابتلاء بها. وحينئذ إن كانت تحت يد شخص خاص واحتمل ملكه لها، لإقطاع السلطان إياها له أو لمن وصلت إليه منه، حكم بملكيته لها عملاً بمقتضي اليد. وإلا تعين البناء علي كونها ملكاً للمسلمين.

الثانية: أن تكون حين الابتلاء بها ميتة. وحينئذ إن علم بسبق يد عليها مبنية علي التملك، واحتمل صدقها جري عليها ما سبق في الأرض المملوكة للغير إذا تركها حتي ماتت. وإن لم يعلم بسبق يد بهذا النحو عليها جري فيها الكلام السابق في جواز تملك أرض الخراج الميتة بإحيائها.

(1) بلا خلاف، كما في الغنية وإجماعاً، كما في التذكرة وتعليق الإرشاد وعن محكي كنز الفوائد وحواشي التحرير. وفي المبسوط الإجماع علي عدم جواز بيع السمك

ص: 153

(154)

في الماء والطير في الهواء.

وفي الخلاف الإجماع علي عدم جواز بيع ما في الماء وحده. والحكم في الجملة مما لا إشكال فيه عندهم، وإن اختلفوا في بعض فروعه.

وكيف كان فقد استدل عليه بوجوه:

الأول ولعله عمدتها: حديث النهي عن بيع الغرر بناء علي حمل الغرر فيه علي الخطر، بلحاظ أن ما لا يقدر علي تسليمه يتعرض المشتري للخطر المالي بشرائه.

وقد تقدم في المسألة الثانية من هذا الفصل أن الحديث المذكور لو تم سنده فلا شاهد علي حمل الغرر فيه علي الخطر، بل يمكن حمله علي التغرير والخديعة، فيناسب النهي عن الغش.

مضافاً إلي أنه لا مجال للبناء علي عموم النهي عن البيع الخطري، فلو تم حمل الغرر في المقام علي الخطر تعين كون المراد به الخطر من حيثية خاصة، فيكون الحديث مجملاً في نفسه.

غاية الأمر أنه ورد في روايات العامة ما يناسب كون المراد به أو المتيقن منه أن يكون المبيع بحيث لا يعلم بسلامته للبايع، كالسمك في الماء والطير في الهواء. وهو لا ينهض بالحجية.

هذا وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أنه أخص من المدعي، لقصوره عما إذا كان المبيع مما يتعذر الوصول إليه عادة كالغريق في البحر بنحو لا يتيسر إخراجه لأن الخطر إنما يصدق مع احتمال السلامة ولو ضعيفاً.

فيندفع بأنه لو تمت دلالة الحديث علي النهي عن البيع الخطري أمكن استفادة النهي منه عن البيع المذكور بالأولوية العرفية، كما أشار إليه في الجملة بعض

مشايخنا (قدس سره).

ومعه لا حاجة للتشبث في بطلان بيعه بما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من لزوم

ص: 154

(155)

السفاهة بشرائه، وكون أكل المال في مقابله أكلاً له بالباطل. بل هو لا يعد مالاً عرفاً.

علي أن الاستدلال بالوجوه المذكورة لا يخلو عن إشكال، لمنعها كبروياً أو صغروياً، كما يظهر مما ذكرناه غير مرة في هذا الشرح، لشيء منه في نظير المقام.

الثاني: ما ورد في روايات الخاصة والعامة من نهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) عن بيع الإنسان ما ليس عنده، كمعتبر سليمان بن صالح عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عن سلف وبيع وعن بيعين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن)(1) ونحوه في ذلك خبر الحسين بن زيد عنه (2)(عليه السلام).

فقد ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه لا يراد بكونه عنده حضوره عنده، للإجماع علي جواز بيع السلف والغائب، ولا ملكيته له، وإلا كان المناسب أن يقول: ما ليس لك، ولا السلطنة عليه والقدرة علي تسليمه، لمنافاته لتمسك الخاصة والعامة علي عدم جواز بيع العين الشخصية المملوكة للغير، ثم شرائها منه وتسليمها للمشتري، مع تحقق القدرة في ذلك، ولاسيما مع وكالته علي مالكها في بيعها ولو من نفسه. وحينئذ يتعين أن يكون كناية عن السلطنة التامة الفعلية التي تتوقف علي الملك، مع كونه تحت اليد حتي كأنه عنده وإن كان غائباً.

وفيه: أن مفاد (عند) الحقيقي هو الحضور الخارجي. ومع تعذر الحمل عليه فالأقرب حمله علي الملك، لشيوع استعماله فيه عرفاً وفي النصوص(3). ومجرد كون اللام أظهر في الملك لو تم لا يمنع من حمله عليه بعد كونه أقرب المجازات.

أما المعني الذي ذكره (قدس سره) فهو ليس عرفياً، فإن السلطنة التامة التي ذكرها مركبة من السلطنة الخارجية والشرعية ولا سنخية بينهما عرفاً، فضلاً عن أن يفهم من الكلام المذكور المعني المركب منهما.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب أحكام العقود حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 12.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب أحكام العقود وغيرها.

ص: 155

(156) (156) (156)

علي أن السلطنة المذكورة متحققة في العين الشخصية المملوكة للغير إذا كان البايع قادراً علي تسليمها خارجاً وشرعاً، بأن كان مأذوناً في شرائها ولو لنفسه، مع

أنه (قدس سره) ذكر أن عدم جواز بيعه متيقن من النهي المذكور.

وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في لزوم حمله علي الملك بعد تعذر حمله علي الحضور الخارجي. غاية الأمر أن يخص ببيع الأمر الشخصي، أما الكلي فهو خارج قطعاً. ولعله لأن السلطنة عليه شرعاً لا تتوقف علي ملك فرد منه، بل هو لا يملك إلا في الذمة.

الثالث: أن لازم البيع وجوب تسليم كل من المتبايعين ما انتقل منه من العوضين لصاحبه، فيجب أن يكون التسليم مقدوراً.

وفيه أولاً: أن التسليم إنما يجب إما لحرمة حبس العين عن صاحبها ووجوب تمكينه منها، وإما لأن البيع يبتني علي التسليم، بحيث يكون شرطاً ضمنياً في العقد يجب الوفاء به، كما يجب الوفاء بالعقد. والأول يختص بمن تكون العين عنده وإن لم يكن طرفاً في العقد، ولا يجري في حق طرف العقد مع فرض خروج العين عن يده وتعذر تسليمها عليه. والثاني يختص بما إذا ابتني عقد البيع علي التسليم، كما هو الغالب، دون ما إذا لم يبتن عليه، لفرض تعذره، كما لعله محل الكلام.

وثانياً: أنه لو تم عموم وجوب التسليم فهو كسائر التكاليف، حيث تناط فعليتها بالقدرة. وحينئذ مع العجز لا يكون التكليف بالتسليم فعلياً من دون أن يقتضي بطلان البيع، ولذا لا يكون العجز عن تسليم أحد العوضين إذا كان كلياً مستلزماً لبطلان البيع، ولا كاشفاً عنه حتي لو انكشف العجز من أول الأمر. بل قد يجري ذلك في المبيع الشخصي، علي ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي عند التعرض لما إذا اعتقد القدرة علي التسليم فانكشف عدمها.

الرابع: أن الغرض من البيع انتفاع كل منهما بما يصير إليه، وهو لا يتم إلا بالتسليم.

وفيه أولاً: أن كون الغرض من البيع ذلك إنما يقتضي ابتناء العقد علي اشتراط

ص: 156

(157) (157)

التسليم ضمناً، وذلك إنما يقتضي وجوب التسليم عملاً بالشرط، وثبوت الخيار بتخلفه، من دون أن يقتضي كونه شرطاً في صحة العقد، بحيث يبطل بتخلفه، فضلاً عن أن يكون الشرط هو القدرة عليه حين العقد، كما هو المدعي.

وثانياً: أن الغرض من البيع قد لا يكون فعلية الانتفاع بالعين، بل مجرد القدرة علي الانتفاع بها شرعاً في فرض القدرة عليها خارجاً، كما هو الحال فيما لو أقدما علي البيع مع احتمال عدم القدرة علي التسليم أو العلم بذلك.

الخامس: أن بذل الثمن علي غير المقدور سفه، فيكون ممنوعاً منه، وأكله أكلاً له بالباطل.

وفيه: أن بذل المال القليل في مقابل المال الكثير المحتمل الحصول ليس سفهاً، كما ذكر ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره). مضافاً إلي ما سبق منا في أوائل الكلام في المكاسب المحرمة من أن الممنوع منه هو معاملة السفيه، لا المعاملة السفهية، وأن أكل المال بالباطل لا يراد به مثل ذلك. كما أنه قد يتعلق بالمعاملة غرض آخر غير الانتفاع الخارجي بالعين يخرجها عن السفه.

السادس: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره): من أن ما لا يمكن التصرف فيه للبايع ولا للمشتري لا يعد مالاً عرفاً، فإن مالية المال في عالم الاعتبار إنما هي باعتبار كونه منشأ للآثار والانتفاع، وما لا يكون كذلك لا يعده العقلاء مالاً، وإن ترتب عليه بعض الآثار الجزئية، كالعتق.

لكنه مع غض النظر عما تكرر منا من عدم اعتبار المالية في العوضين لا يخرج عن كونه قناعة منه (قدس سره) في تحديد المالية لا تخلو عندنا عن غرابة. كيف ولازمه أن مثل الحيوان الوحشي لا يكون مالاً إلا بصيده، كالماء علي النهر الذي لا يكون مالاً إلا بتثليجه أو نحوه. مع وضوح أنه إنما يصاد ويهتم بتحصيله لكونه مالاً مورداً للتنافس بين العقلاء.

بل مقتضي ما ذكره أنه لو أمكن انتفاع غير المتبايعين بالشيء كان مالاً في حقه

ص: 157

دونهما، فتختلف مالية المال باختلاف الأشخاص. ثم لماذا لا يكون مثل العتق منفعة معتداً بها مع أنه قد يبذل من أجلها ثمن العبد غير الآبق ؟!.

هذا مع أن كلام الأصحاب في هذا الشرط يعم عدم قدرة البايع حين البيع علي التسليم ولو مع رجاء القدرة عليها بعد ذلك، كما لو احتمل القدرة علي الآبق أو الضال أو الضايع بالفحص، فإن كان كلامه يعمّ ذلك فالأمر أعجب، وإلا كان قاصراً عن إثبات تمام المدعي.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) أن ما يتعذر الانتفاع به حتي لغير المتابعين إذا كان ميؤوساً من رجوعه - كالحيوان الوحشي إذا فر من صاحبه - يعد تالفاً عرفاً، فلا يجوز بيعه حتي بناء علي عدم اعتبار المالية في العوضين، إذ لابد في المبيع من أن يكون موجوداً، ليكون طرفاً لنحو من الإضافة مع المالك بلحاظها يقع البيع والمعاوضة.

ويترتب علي ذلك أنه لو كان من محتمل الرجوع من دون أن يعلم أو يطمأن برجوعه فهو مشكوك الوجود، وتكون صحة المعاوضة عليه مراعاة برجوعه نظير وجود الثمرة بعد العدم.

فإنه - مع وفائه بتمام المدعي - غريب أيضاً. إذ فيه:

أولاً: أن لازمه كون الاستيلاء علي مثل الحيوان المذكور وصيده ابتداء سبباً لوجود المال بعد العدم، نظير وجود الثمرة بعد العدم، لا لتملك المال المباح.

وثانياً: أنه لو فرض ضياع المال علي صاحبه بحيث لا يرجع إليه ووجده شخص آخر لا يعرفه ولا يصل إليه، فهل هو موجود في حقهما معاً، أو مفقود وتالف في حقهما معاً، أو تالف في حق أحدهما موجود في حق الآخر، وهل التلف أمر إضافي ؟!.

وثالثاً: أنه لا ريب في بقاء المال في ملك مالكه، وكيف يمكن ملكية المعدوم ؟!.

ورابعاً: أن ذلك لا يناسب ما ذكره عند الكلام في الضمان في مورد بدل

ص: 158

(159)

الحيلولة من أن المدفوع في مثل ما نحن فيه مما يلحق بالتلف عرفاً يكون بدلاً عن العين المضمونة وعوضاً عنها بمعاوضة قهرية. إذ كما أمكن أن يكون المال المذكور طرفاً للمعاوضة القهرية يمكن أن طرفاً للمعاوضة الاختيارية، كالبيع في المقام.

علي أنه يرد علي ما ذكراه معاً أن ما تضمن جواز بيع العبد الآبق مع الضميمة وإن كان عندهم مخالفاً للقاعدة إلا أنه لا إشكال ظاهراً في كونه بيعاً حقيقياً واجداً لأركان البيع ومقوماته، كما يظهر بمراجعة كلماتهم، وليس هو معاملة أخري أطلق عليها البيع مجازاً، لفقدها لمقوماته من المعاوضة أو المالية أو غيرهما.

هذا ما ذكروه من وجوه الاستدلال في المقام، وقد ظهر عدم نهوضها باثبات المدعي.

والذي ينبغي أن يقال: البيع تارة: يبتني علي التسليم كما هو الغالب. وأخري: لا يبتني عليه، لإقدام المشتري علي شراء ما لا يمكن تحصيله برجاء تحصيله أو بدونه، لانحصار غرضه في تملك المبيع، كما لو كان المبيع عبداً وأراد عتقه.

أما الأول فلا ينبغي الإشكال في لزوم القدرة علي التسليم فيه، لما أشرنا إليه في الوجه الثالث من رجوعه إلي اشتراط التسليم ضمناً، ولا معني لأن يجعل الإنسان علي نفسه مالا يقدر عليه.

لكن ذلك بنفسه لا يقتضي بطلان البيع مع عدم القدرة علي التسليم، بل غايته ثبوت الخيار للمشتري، لتخلف الشرط المذكور، كما أشرنا إليه آنفاً.

نعم قد يستدل علي بطلان البيع حينئذ بصحيح عبد الرحمن بن الحجاج: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ليس عنده فيشتري منه حالاً. قال: ليس به بأس... إلا أن يكون بيعاً لا يوجد، مثل العنب والبطيخ وشبهه في غير زمانه، فلا ينبغي شراء ذلك حالاً)(1). وفي صحيحه الآخر عنه (عليه السلام):

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب أحكام العقود حديث: 1.

ص: 159

(160)

(إن أبي كان يقول: لا بأس ببيع كل متاع كنت تجده في الوقت الذي بعته فيه)(1) ونحوهما غيرهما.

ومقتضي النهي فيها الفساد. وهي وإن وردت في بيع الكلي، إلا أن إلغاء خصوصية مواردها، والتعدي للمبيع الشخصي، قريب عرفاً.

لكن النهي في المعاملات نوعاً وإن كان ظاهراً في الإرشاد للفساد، دون الحرمة التكليفية، إلا أنه في مثل المقام لا ظهور له في فساد وأصل البيع، بل قد يكون وارداً للإرشاد إلي بيان المورد الذي يناسب الشرط الذي يبتني عليه العقد.

ولا أقل من كون ذلك مقتضي الجمع بين هذه النصوص وما يستفاد من جملة من النصوص من صحة بيع السلف لو عجز البايع عن تسليم المبيع في وقته(2) ، وصحة بيع النسيئة مع تعذر الثمن عند حلول الأجل ونحو ذلك. ولذا لا يظن منهم البناء في المقام علي بطلان البيع لو رضي المشتري بتأخير التسليم.

وأما الثاني فالمستفاد من جملة من النصوص الواردة في الموارد المتفرقة بطلان البيع في الجملة فيه بتعذر التسليم، وأنه لا يجوز شراء ما لا يحرز سلامته للمشتري، بحيث لا يحصل في مقابل له الثمن شيء.

كصحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام): (لا تبع راحلة عاجلاً بعشر ملاقيح من أولاد جمل في قابل)(3) ، وخبر مسمع عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: إن أمير المؤمنين (عليه السلام)

نهي أن يشتري شبكة الصياد يقول: اضرب بشبكتك فما خرج فهو من مالي)(4) ، ومعتبر غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام): (أنه كره بيع صك الورق حتي يقبض)(5) وخبر الحسين بن زيد عنه (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب أحكام العقود حديث: 3.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب السلف.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب الربا حديث: 5.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 7.

ص: 160

حديث المناهي قال: (ونهي عن بيع وسلف... ونهي عن بيع ما لم يضمن)(1).

بناء علي أن المراد بالضمان إحراز الحصول، فيدل علي العموم، ويكون مؤيداً لإلغاء خصوصية موارد النصوص المتقدمة وفهم العموم منها.

لكن لم يتضح كون المراد بالضمان ذلك، بل قد يكون المراد به أمراً آخر، مثل كون الشيء في عهدة البايع ومملوكاً له، لبيان عدم جواز بيع الإنسان أمراً لا يملكه، ثم يشتريه ويسلمه للمشتري.

علي أنه قد تضمن في معتبر سليمان بن صالح - المتقدم في الوجه الثاني للاستدلال

بدل النهي عن بيع ما لم يضمن النهي عن ربح ما لم يضمن. ولعله الأنسب بالمعني الذي تقدم احتماله في الضمان. ومن ثم يشكل استفادة العموم من هذه النصوص.

علي أنه يظهر من جملة من النصوص أنه يكفي في صحة البيع إحراز سلامة بعض البيع، بحيث يسلم للمشتري شيء في مقابل الثمن، ولا يذهب هدراً، كما هو مورد النصوص السابقة. وهي علي طائفتين:

الأولي: ما ورد فيما لا يحرز وجود بعضه. كموثق سماعة: (سألته عن اللبن يشتري وهو في الضرع. فقال: لا. إلا أن يحلب لك منه اسكرجة، فيقول: اشتر مني ما في هذه الاسكرجة وما في ضروعها بثمن مسمي. فإن لم يكن في الضرع شيء كان ما في الاسكرجة)(2).

ومعتبر إبراهيم بن ميمون: (أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: نعطي الراعي الغنم بالجبل يرعاها، وله أصوافها وألبانها، ويعطينا لكل شاة دراهم. فقال: ليس بذلك بأس. فقلت: إن أهل المسجد يقولون: لا يجوز، لأن منها ما ليس له صوف ولا لبن. فقال (عليه السلام): وهل يطيبه إلا ذلك ؟! يذهب بعضه وبقي بعضه)(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 12.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2.

ص: 161

(162)

ومعتبر إبراهيم الكرخي: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في رجل اشتري من رجل أصواف مائة نعجة وما في بطونها من حمل بكذا وكذا درهماً. فقال: لا بأس بذلك. إن لم يكن في بطونها حمل كان رأس ماله في الصوف)(1).

ومعتبر أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن بعض أصحابه عنه (عليه السلام): (قال: إذا كان أجمة ليس فيها قصب أخرج شيء من السمك، فيباع وما في الأجمة)(2).

وقريب منه خبر أبي بصير عنه (3)(عليه السلام). وحديث معاوية بن عمار عنه (عليه السلام): (قال: لا بأس أن يشتري الآجام إذا كان فيها قصب)(4).

ومعتبر إسماعيل بن الفضل الهاشمي عنه (عليه السلام): (في الرجل يتقبل بجزية رؤوس الرجال وبخراج النخل والآجام والطير، وهو لا يدري لعله لا يكون من هذا شيء أبداً، أو يكون، أيشتريه ؟ وفي أي زمان يشتريه ويتقبل منه ؟ قال: إذا علمت أن من ذلك شيئاً واحداً أنه قد أدرك فاشتره وتقبل به [منه])(5) وغيرها.

الثانية: ما ورد فيما لا يحرز القدرة علي تحصيل بعضه مع إحراز وجوده ولو بالاستصحاب، وهو ما ورد في الآبق، كصحيح رفاعة: (سألت أبا الحسن موسي (عليه السلام)، قلت: أيصلح لي أن أشتري من القوم الجارية الآبقة، وأعطيهم الثمن، وأطلبها أنا؟ قال: لا يصلح شراؤها، إلا أن تشتري منهم معها ثوباً أو متاعاً، فتقول لهم: اشتري منكم جاريتكم فلانة وهذا المتاع بكذا وكذا درهم، فإن ذلك جائز)(6).

وموثق سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الرجل يشتري العبد وهو آبق عن أهله. قال: لا يصلح إلا أن يشتري معه شيئاً آخر، ويقول: أشتري منك هذا الشيء وعبدك بكذا وكذا. فإن لم يقدر علي العبد كان الذي نقده فيما اشتري منه)(7).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2، 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 5، 4.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 5، 4.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 11 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1، 2.

(7) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 11 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1، 2.

ص: 162

وهاتان الطائفتان تشتركان في قدر جامع واحد، وهو إحراز سلامة بعض المبيع للمشتري دون بعض، ويظهر من مجموع نصوصهما علي اختلاف مواردها وألسنتها أن المعيار في صحة البيع عموماً هو إحراز ذلك.

ولاسيما بملاحظة التعليل المتقدم في موثقي سماعة ومعتبري إبراهيم بن ميمون وإبراهيم الكرخي المتضمن أنه إن لم يسلم ما لم يعلم وجوده أو وصوله للمشتري كان الثمن فيما تحرز سلامته.

ودعوي: أن ذلك ليس وارداً مورد التعليل وبيان ضابط صحة المعاملة، بل لبيان أن الثمن لا يقسط علي ما لا يسلم، بل يكون بمجموعه مقابل ما سلم، وهو الضميمة، وإن كانت القاعدة تقتضي التقسيط.

مدفوعة بأن ذلك مخالف للظاهر جداً. ولاسيما أن ذلك لم يرد في خصوص ما يعلم بوجوده ويشك في وصوله للمشتري، بل فيما يشك في حصوله أيضاً، ومن الظاهر أنه لا معني للتقسيط فيه.

علي أن مبني هذه البيوع علي عدم التقسيط، ولذا استشكل فيها العامة باحتمال عدم وجود بعض المبيع، فيكون الثمن في حصته بلا مقابل، علي ما تقدم في معتبر إبراهيم بن ميمون، وأجاب عنه الإمام (عليه السلام) بأن سلامة بعض المبيع كاف في طيب تمام الثمن.

ومثله ما قد يدعي من أنه مسوق لبيان أن وقوع المعاملة علي المشكوك مراعي بحصوله، فإن حصل كان موضوع المعاملة المجموع، وإن لم يحصل كان موضوعها خصوص معلوم الحصول.

إذ فيه: أن ذلك في الطائفة الأولي معلوم من واقع المعاملة، فيلغو بيانه، وفي الطائفة الثانية أمر تعبدي يحتاج إلي عناية، لما فيه من عدم مطابقة واقع المعاملة شرعاً لقصد المتعاقدين، فلا يتناسب مع وحدة لسان البيان في الطائفتين. بل لا يظن بأحد البناء علي عدم ملكية المشتري للآبق لو لم يحصل عليه.

ص: 163

(164)

ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا من ظهور ذلك في التعليل وبيان الضابط في صحة المعاملة. ولاسيما مع ورود نظيره في بيع الثمرة قبل وجودها مع الضميمة تعليلاً لجواز البيع(1) علي ما يأتي في محله، ويأتي هناك ما ينفع في المقام إن شاء الله تعالي.

وبذلك يخرج عما قد يستظهر من النصوص الأول من اعتبار سلامة المبيع بتمامه.

وكذا الحال في حديث النهي عن بيع الغرر لو تم الاستدلال به في المقام. ولاسيما بعد ما سبق من تعذر البناء علي عموم النهي عن البيع الغرري، وأن المتيقن منه بسبب التفسير الذي سبق عن العامة ما إذا كان تمام المبيع معرضاً للخطر، كالطير في الهواء والسمك في الماء. ولعله لذا كان ظاهر أو صريح غير واحد ممن يأتي خروج البيع بالضميمة عن الغرر.

نعم قد يدعي سقوط النصوص المذكورة عن الحجية بإعراض الأصحاب عنها، حيث أطبقوا علي اعتبار القدرة علي التسليم، ويظهر منهم كون مرادهم القدرة عليه في تمام المبيع، وحيث اقتصروا في الاكتفاء بالضميمة علي بيع الآبق، مع الكلام منهم في إلحاق الضال به.

لكن لا مجال لذلك بعد كثرة هذه النصوص، وذكر الأصحاب لها من دون ذكر معارض، حيث يقرب عمل الأصحاب في عصور الأئمة (صلوات الله عليهم) عليها. بل هو ظاهر الكليني والصدوق قدس سرهما لابتناء كتابيهما علي إثبات الروايات المعول عليها عندهما. وحتي الشيخ، حيث ذكر في أكثر هذه الأخبار في باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة وما يجوز من ذلك وما لا يجوز من بيع التهذيب وكذا في الاستبصار حيث ذكر بعض هذه الأخبار بنحو يظهر منه التعويل عليه.

وفي المبسوط - بعد أن ذكر الإجماع علي عدم جواز بيع السمك في الماء والطير في الهواء - قال: (وروي أصحابنا أنه يجوز بيع قصب الآجام مع ما فيها من السمك). ولعله يشير إلي حديث معاوية بن عمار المتقدم. وقد يظهر ركونه إليه من سكوته عنه،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 13 من أبواب بيع الثمار حديث: 1.

ص: 164

وعدم رده له.

وأظهر منه في ذلك ما في الغنية، حيث ذكر رواية الأصحاب لذلك ولبيع الآبق مع الضميمة، مع وضوح اشتهار العمل بالثانية، بل صريح تتمة كلامه العمل بالرواية في الموردين، بل دعوي الإجماع علي مضمونها كما ادعي في الخلاف الإجماع علي جواز بيع السمك في الماء مع الضميمة، مع تصريحهما بخروجه بسبب الضميمة عن بيع الغرر، كالتصريح في الانتصار بذلك في بيع العبد الآبق.

ومثله ما في النهاية حيث صرح بجواز بيع اللبن في الضرع إذا حلب منه شيئاً وباعه مع ما في الضرع، وجواز بيع ما في بطون الأنعام إذا جعل معها شيئاً آخر قال: (فإن لم يكن ما في البطون حاصلاً كان الثمن في الآخر... ولا بأس أن يشتري الإنسان أو يتقبل بشيء معلوم جزية رؤوس أهل الذمة وخراج الأرضين وثمرة الأشجار وما في الآجام من السموك إذا كان أدرك شيء من هذه الأجناس وكان البيع في عقد واحد. ولا يجوز ذلك ما لم يدرك منه شيء علي حال).

كما صرح في الوسيلة بجواز بيع ما في الأرحام والبيض في جوف الحيوان واللبن في الضرع والسمك في الأجمة مع الضميمة، وحكي جواز بيع اللبن في الضرع والسمك والآجام مع الضميمة عن ابني الجنيد والبراج.، ونسب للشهيد في بعض كتبه الميل لذلك أو القول. كما مال إليه أو قال به غير واحد من متأخري المتأخرين.

وقد تعرض لمضامين النصوص المذكورة في السرائر بنحو قد يظهر في حصول الفتوي بها، وإن ذكر أن الأولي عدم العمل بها، لأنها من أخبار الآحاد علي ما هو المعروف من مذهبه، ولا يظهر منه إعراض الأصحاب عنها.

ومثله ما في الشرايع والنافع من أن الأصح عدم صحة بيع بعض هذه الأمور مع الضميمة حيث يظهر منه أن المسألة خلافية. بل هو صريح ما في جامع المقاصد والروضة وعن غيرهما من أنه المشهور، وما في التذكرة من أنه الأشهر عندنا.

كما أن عدم تعرض بعضهم لغير العبد الآبق قد لا يكون لذهابه لاختصاص

ص: 165

التفصيل بين الضميمية وعدمها به، بل لعدم كونه في مقام استيفاء الفروع والأمثلة كما لا تأباه عبارة الشرائع والنافع.

ومع كل ذلك كيف يدعي هجر النصوص المذكورة بنحو يسقطها عن الحجية ؟!.

والمظنون أن استحكام عموم النهي عن بيع الغرر في نفوس المتأخرين هو الذي منعهم من العمل بهذه النصوص أو التوقف فيها. وقد ظهر مما سبق وهن العموم المذكور.

هذا وقد يظهر من غير واحد حمل النصوص في الطائفة الأولي وكلمات الأصحاب في الذين يظهر منهم العمل بها علي جواز ضم معلوم المقدار إلي مجهول المقدار في البيع، فيكون موردها من صغريات مسألة اعتبار العلم بمقدار العوضين. فراجع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في فروع المسألة المذكورة.

لكنه في غير محله، بل الظاهر أنها واردة في ضم معلوم الحصول إلي مجهول الحصول، كما يناسبه التعليل في النصوص المذكورة، وذكرهم له في سياق بيع السمك في الماء والطير في الهواء، وفي سياق مسألة بيع العبد الآبق مع الضميمة، وغير ذلك مما يظهر بالتأمل في النصوص وكلماتهم في المقام. ومن ثم يكون المقام مناسباً لمسألة اعتبار القدرة علي التسليم التي محل الكلام.

ومثله ما قد يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من جواز بيع ما لا يقدر علي تسليمه مراعي بتسليمه أو بالقدرة عليه. لدعوي: أن المتيقن من دليل النهي عن بيع الغرر وبيع الإنسان ما ليس عنده عدم كون البيع علة تامة في ترتب الأثر المقصود، فلا ينافي في وقوعه مراعي بانتفاء صفة الغرر وبصيرورة المبيع عند البايع.

إذ فيه: أن ذلك مخالف لظاهر الدليل المذكور، كسائر أدلة الموانع الشرعية. والالتزام بذلك في عقد الفضولي إنما كان لخصوصية السلطنة عرفاً وشرعاً في كيفية دخلها في العقد، كما يتضح مما ذكرنا في بحث عقد الفضولي، فلا يقاس عليها بقية

ص: 166

الشروط والموانع. أما بناء علي ما ذكرناه فالأمر أظهر، فإن النصوص المتقدمة كالصريحة في عدم صحة البيع إلا بالضميمة.

هذا وفي اللمعة بعد أن ذكر اشتراط القدرة علي التسليم، وأنه لا يصح بيع العبد الآبق إلا مع الضميمة، قال: (أما الضال والمجحود فيصح البيع ويراعي بإمكان التسليم وإن تعذر فسخ المشتري إن شاء).

وكأنه يبتني علي الاكتفاء بابتناء البيع علي التسليم، لا بمعني اشتراطه ضمناً، إذ لا مجال لاشتراطه مع فرض العجز عنه، بل بمعني ابتناء الالتزام بالبيع عليه، نظير وصف السلامة من العيب الذي يثبت بتخلفه الخيار من دون أن يبطل به البيع. وكأن الوجه فيه كفاية الخيار في عدم كون البيع غررياً.

لكنه يشكل أولاً: بأن ابتناء البيع علي التسليم بالمعني المذكور إنما يتجه مع الجهل بالحال، أما مع العلم بعدم القدرة علي التسليم فلا معني لأن يبتني عليه، ولذا لا يبتني البيع علي سلامة المبيع من العيب مع وجود إمارة علي العيب.

غاية الأمر أنه يمكن اشتراط الخيار حينئذ صريحاً لو انكشف تعذر التسليم، أو عدم السلامة من العيب. كما يمكن تعليق البيع علي التسليم أو السلامة، بحيث لا بيع مع عدمهما. لكنه يقتضي البطلان بتخلفهما، لا ثبوت الخيار. علي أنهم أجمعوا علي مبطلية التعليق للعقد رأساً.

وثانياً: بأن المستفاد من دليل الغرر وغيره من أدلة المسألة لو تمت عدم صحة البيع رأساً، لا مجرد ثبوت الخيار بعد التسليم أو عدم سلامة المبيع. وأظهرها في ذلك النصوص التي عولنا عليها. ولذا ذكر هو تبعاً للأصحاب اشتراط القدرة علي التسليم، بنحو يظهر منه أنها كسائر شروط البيع التي يبطل بتخلفها رأساً.

ولعله لذا قال في الروضة: (ويحتمل قوياً بطلان البيع، لفقد شرط الصحة، وهو القدرة علي التسليم).

ص: 167

والحاصل: أنه يتعين العمل بالنصوص المتقدمة، والبناء علي ما يستفاد منها ولو بضميمة التعليل المتقدم من عموم اعتبار إحراز سلامة شيء من المبيع للمشتري، بحيث لا يذهب الثمن الذي دفعه هدراً وأنه يبطل البيع بدون ذلك.

وبذلك يظهر أن ما هو الشرط في الحقيقة ليس هو قدرة البايع أو من يقومه علي التسليم، كما هو مقتضي الجمود علي عبارتهم، بل هو إحراز سلامة المبيع أو بعضه للمشتري ولو لتحصيله بنفسه أو بتوسط شخص أجنبي أو غير ذلك. وهو أيضاً مقتضي أكثر الوجوه المتقدمة في كلماتهم كما يظهر بملاحظتها.

وعليه يترتب صحة البيع لو تعذر تسليم المبيع وتسلم المشتري له بنفسه، إلا أن المشتري كان قادراً أن يبيعه، أو يصالح عليه من شخص قادر علي تحصيله، أو يفي به دينه عليه، أو يهبه له أو نحو ذلك، إذ في جميع ذلك يصدق عرفاً أن المبيع قد سلم له ولم يذهب الثمن الذي دفعه للبايع هدراً. نعم لا يكفي القدرة علي العتق، وإلا لجاز بيع العبد الآبق وحده.

اللهم إلا أن يقال: سلامة المبيع في الفروض المتقدمة إنما تصدق عرفاً بتحقق الأمور المذكورة، لا بمجرد القدرة عليها، فإذا كان المشتري قد أقدم علي الشراء عازماً علي شيء منها كان محرزاً حين البيع سلامة المبيع له، وبذلك يتحقق الشرط، فيصح البيع، فإن أعرض عنها بعد ذلك كان هو المضيع لماله، أما إذا لم يقدم عليها فهو لا يحرز سلامة المبيع له، ولا يصح البيع، لفقده للشرط.

وذلك يجري في العتق. وأما دليل عدم جواز بيع الآبق وحده فهو مختص أو منصرف إلي صورة عدم شرائه من أجل عتقه، كما هو مقتضي قوله في صحيح رفاعة: (وأطلبها أنا)، وقوله (عليه السلام) في موثق سماعة: (فإن لم يقدر علي العبد كان الذي نقده فيما اشتري منه). لظهوره في فرض الاهتمام بتحصيل العبد واحتمال عدم القدرة عليه، بحيث يذهب الثمن الذي نقده هدراً، وذلك لا يجري فيما إذا كان عازماً علي عتقه.

ومن هنا يتعين جواز شراء من ينعتق عليه إذا كان عالماً بحاله بلا حاجة

ص: 168

(169)

ولا فرق بين العلم بالحال والجهل بها (1). ولو باع العين المغصوبة وكان

---------------

للضميمة، وأما إذا لم يكن عالماً بحاله فلا يخلو عن إشكال، لعدم إحرازه حين البيع سلامة المبيع.

(1) قد يشكل ذلك لو كان دليل المنع هو النهي عن بيع الغرر، بناء علي أن المراد به البيع الخطري. لعدم صدق ذلك مع الإقدام علي شراء ما يعتقد القدرة علي تسليم البايع وتحصيل المشتري له ولو مع العجز عن ذلك واقعاً.

ودعوي: أنه يكفي في كون البيع خطرياً تعرض المبيع لما قد يؤدي إلي تلفه أو ضياعه وإن لم يعلم بذلك حين البيع.

مدفوعة بأن ذلك خلاف ظاهر توصيف البيع نفسه بالغرر والخطر. علي أن المراد بذلك إن كان هو تعرض المبيع لما من شأنه نوعاً أن يعرضه للضياع والتلف لزم عدم صحة المبيع لو أقدما علي بيع مثل الطائر في القفص إذا كان القفص مفتوحاً من دون أن يعلما به، وإن صادف أن لم يفر حتي حصل التسليم. وإن كان هو تعرضه لما يضيع به فعلاً لزم صحة بيع الحيوان الوحشي الهارب والعبد الآبق إذا صادف أن رجع بعد البيع، أو انكشف ذهابه إلي مكان يمكن استرجاعه، وحصل التسليم بالنحو المتعارف، وهو لا يناسب إطلاق دليل النهي عن بيع الآبق.

هذا وأما بناء علي ما ذكرناه، فإن ابتني البيع علي التسليم لتخيل القدرة عليه، فإن صادف أن قدر البايع علي التسليم بعد ذلك، بحيث حصل التسليم في الوقت المتعارف صح البيع. وإن لم يحصل في الوقت المذكور لاستمرار العجز عنه كان للمشتري الخيار، وله الانتظار حتي يصدق عرفاً عدم سلامة المبيع له، فيبطل البيع، لما تضمن أن كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه.

وإن لم يبتن البيع علي التسليم فإن كان المشتري لا يحرز القدرة علي تحصيله بطل البيع من حين وقوعه، إلا أن ينضم إليه ما يحرز تحصيله. وإن كان يعتقد القدرة علي

ص: 169

(170)

المشتري قادراً علي أخذها من الغاصب صح (1). كما أنه يصح بيعها علي الغاصب أيضاً وإن كان البايع لا يقدر علي أخذها منه ثم الدفع إليه (2). وإذا كان المبيع مما لا يستحق المشتري أخذه كما لو باع من ينعتق علي المشتري صح وإن لم يقدر علي تسليمه (3).

(مسألة 16): لو علم بالقدرة علي التسليم فباع، فانكشف الخلاف بطل (4)، ولو علم العجز عنه، فانكشف الخلاف فالظاهر الصحة (5).

---------------

تحصيله، فإن حصل عليه صح البيع، وإن لم يحصل عليه انكشف بطلان البيع، لأن المستفاد من نصوص المقام عدم الاكتفاء باحراز سلامة المبيع، بل لابد من سلامته أيضاً، لئلا يذهب ماله هدراً. مضافاً إلي عموم كل مبيع تلف قبل قضه فهو من مال بائعه، لأن المتيقن من دليل تخصيصه ما إذا أحرز سلامة بعض المبيع حين البيع.

(1) لتحقق القدرة علي التسليم.

(2) لقصور أكثر الوجوه المتقدمة منهم والوجه المتقدم منّا عن هذه الصورة، كما يظهر بالرجوع إليها، وسبق منا التنبيه لذلك.

(3) كما أشرنا إلي ذلك آنفاً مع شيء من التفصيل.

(4) يظهر الكلام فيه مما سبق عند الكلام في عدم الفرق بين العلم والجهل.

(5) حيث كان عمدة دليلهم في المقام هو النهي عن بيع الغرر، فالظاهر صدقه في المقام، إلا أن يكون المعيار فيه كون المبيع معرضاً لما يؤدي إلي تلفه، علي ما ذكرناه آنفاً، وذكرنا الإشكال فيه. فراجع.

أما بناء علي ما ذكرنا فالأمر أظهر، لعدم إحراز سلامة المبيع. وسلامته واقعاً لا تكفي، لظهور النصوص المتقدمة في عدم صحة البيع مراعي بسلامة المبيع، بل توقف صحته علي إحراز سلامته من أول الأمر وحين البيع.

ص: 170

(171)

(مسألة 17): لو انتفت القدرة علي التسليم في زمان استحقاقه، لكن علم بحصولها بعده، فإن كانت المدة يسيرة صح (1)، وإذا كانت المدة طويلة لا يتسامح بها، فإن كانت مضبوطة مثل سنة أو أكثر فالظاهر الصحة مع علم المشتري بها (2). وكذا مع جهله بها، لكن يثبت الخيار للمشتري (3). وإن كانت غير مضبوطة فالظاهر البطلان (4)، كما لو باعه دابة غائبة يعلم بحضورها، لكن لا يعلم زمانه.

(مسألة 18): إذا كان العاقد هو المالك فالاعتبار بقدرته، وإن كان وكيلاً في إجراء الصيغة فقط فالاعتبار بقدرة المالك، وإن كان وكيلاً في المعاملة كعامل المضاربة فالاعتبار بقدرته أو قدرة المالك، فيكفي قدرة أحدهما علي التسليم في صحة المعاملة، فإذا لم يقدرا معاً بطل البيع (5).

---------------

نعم إذا وقع مبيناً علي التسليم، بأن لم يُعلِم البايع المشتري بالحال فقد تتجه الصحة، لابتناء البيع علي إحراز سلامة المبيع مع سلامته فعلاً. فلاحظ.

(1) عملاً بالعمومات بعد قصور الوجوه السابقة عن ذلك.

(2) لعين الوجه السابق. والظاهر كفاية انضباط منتهي المدة، كما لو تردد الأمر من السنة إلي السنتين، لقصور الوجوه السابقة أيضاً، فيرجع للعمومات.

(3) لما ذكرناه آنفاً من أن البيع يبتني علي اشتراط التسليم ضمناً، فيثبت الخيار بتخلف الشرط المذكور.

(4) لا يخلو عن إشكال، لعدم وضوح جريان الوجوه السابقة. نعم قد يتجه ذلك مع طول المدة، بحيث يلحق المبيع بالتالف عرفاً. فتأمل.

(5) لا وجه لذلك إذا كان المشتري قادراً علي تحصيل المبيع، ورضي بأن يسعي هو لتحصيله، لعدم جريان الوجوه السابقة، كما ذكرناه آنفاً. بل هو لا يناسب ما سبق

ص: 171

(172)

(مسألة 19): يجوز بيع العبد الآبق مع الضميمة (1)

---------------

منه (قدس سره) فيما لو كانت العين مغصوبة. ولأجل ذلك قد يكون فرض قدرة المشتري علي تحصيل المبيع خارجاً عن مفروض كلامه (قدس سره).

بل يكفي قدرة الأجنبي علي تسليم المبيع إذا كان في مقام إعمال قدرته في ذلك، لعين ما سبق. نعم لا تكفي إذا لم يكن في مقام إعمال قدرته، لعدم إحراز سلامة المبيع للمشتري حينئذ، وصدق الغرر وغيره مما ذكروه في المقام، كما هو ظاهر.

(1) لا خلاف فيه نصاً وفتوي، كما في الجواهر. بل إجماعاً، كما في الانتصار والخلاف وكشف الرموز والتنقيح، وسبق من الغنية. ويقتضيه صحيح رفاعة وموثق سماعة المتقدمان. بل يستفاد من جميع النصوص المتقدمة بضميمة التعليل فيها، كما يظهر مما سبق. ويظهر منه أيضاً عدم الاختصاص بالآبق، بل يعم كلما يحتمل عدم وجوده، أو عدم حصوله للمشتري مع العلم بوجوده، كالحيوان الضال والشارد، وكالضايع.

ويظهر من الجواهر وشيخنا الأعظم (قدس سره) اختصاص ذلك بما إذا كان الآبق محتمل الحصول، دون ما إذا كان ميؤوساً من تحصيله، لقصور الحديثين عنه. أما صحيح رفاعة فلقوله فيه: (وأنا أطلبها)، فإن طلبها فرع رجاء الظفر بها. وأما موثق سماعة فلقوله (عليه السلام): (فإن لم يقدر علي العبد كان الذي نقده فيما اشتري منه)، لظهور (إن) الشرطية في أن الشرط أمر استقبالي.

لكن لا يبعد إلغاء خصوصية ذلك بلحاظ التعليل المذكور، لظهوره في أن المهم في المقام هو سلامة شيء في مقابل الثمن، وذلك حاصل مع اليأس عن تحصيل الآبق ولو للعجز عن الفحص عنه.

هذا وفي التنقيح: (الآبق مادام آبقاً ليس مبيعاً في الحقيقة، ولا جزء مبيع، لكنه مشروط الملكية للمشتري، كمن اشتري الحامل وشرط الحمل له، فإن الحمل ليس

ص: 172

(173)

مبيعاً ولا جزء مبيع... فلو تلف قبل قبضه لم ينقص شيء من الثمن).

وهو كما تري أولاً: لابتناء المعاملة في ظاهر النصوص علي كونه جزء مبيع، بل هو المقصود الأهم، لا مشروطاً تابعاً للمبيع.

وثانياً: لأنه فرض كونه مشروطاً فهو كذلك مطلقاً، لعدم انقلاب المعاملة بوجدانه عما وقعت عليه. وأما ما ذكره في آخر المسألة من زوال العلة التي هي العجز عن قبضه فيدفعه أن أولاً: المستفاد من نصوص بيع الآبق مع الضميمة قصور العلة في المقام عن المنع من كونه جزء مبيع. وثانياً: أن ارتفاع العلة لا يوجب انقلاب المعاملة عما وقعت عليه، كولادة الحمل في النظير الذي ذكره.

بقي شيء: وهو أنه لو مات الآبق قبل القدرة عليه فظاهر شيخنا الأعظم (قدس سره) المفروغية عن عدم تقسيط الثمن عليه لو كان الموت بعد اليأس من تحصيله، وإنما الإشكال فيما لو كان الموت قبل اليأس من تحصيله.

أما سيدنا المصنف (قدس سره) فقد أطلق ولم يستبعد تقسيط الثمن عليه، عملاً بعموم: كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه. قال (قدس سره): (لخروج الفرض عن ظاهر النص أو منصرفه).

لكن لم يتضح الوجه في خروجه عنه بعد كون الآبق معرضاً لكل شيء حتي الموت، وابتناء بيعه علي أن يطلبه المشتري وعلي عدم مسؤولية البايع عنه وانقطاع علقته به.

وعليه يترتب عدم تقسيط الثمن عليه حتي لو مات قبل اليأس من تحصيله. وهذا هو العمدة، لا ما سبق من التنقيح من خروجه عن المبيع. لما عرفت من ضعفه.

ومنه يظهر عدم ثبوت الخيار أو الأرش لو أصابه عيب بعد البيع وقبل الحصول عليه. بل لا يبعد عدم ثبوتهما لو حصل العيب فيه بعد الإباق قبل البيع، حيث لا يبعد اختصاص ابتناء البيع علي السلامة من العيب إذا كان المبيع تحت يد البايع. نعم لو

ص: 173

(174) (174)

انكشف ثبوت العيب فيه قبل الإباق يتجه ثبوت الخيار أو الأرش.

كما أنه لو انكشف موته قبل البيع فالظاهر تقسيط الثمن، عملاً بالقاعدة بعدما سبق من كونه جزء مبيع لقصور الحديثين المتقدمين عنه. قال في الحدائق: (فلو ظهر تلفه حين العقد أو استحقاق الغير له بطل البيع فيما قابله من الثمن. ولو ظهر كونه مخالفاً للوصف تخير المشتري).

اللهم إلا أن يقال: تقدم منا رجوع التعليل في نصوص بيع العبد الآبق ونصوص بيع مشكوك الحصول كالسمك في الماء إلي قدر مشترك واحد وهو كفاية إحراز سلامة شيء من المبيع للمشتري، وذلك بعمومه شامل للمقام. ولاسيما أنه لم يفرض في حديثي بيع الآبق قرب الإباق من البيع، بحيث يكون بقاء الآبق علي حاله متوقعاً، ويكون البيع مبتنياً علي فرض وجود الآبق وبقائه علي حاله. ومن هنا يتعين البناء علي صحة البيع وعدم تقسيط الثمن، ولا ثبوت الخيار. إلا أن ينصرف البيع إلي فرض وجود الآبق، أو بقائه علي حاله، بحيث يبتني البيع علي ذلك، فيتعين التقسيط أو الخيار.

نعم إذا ظهر مستحقاً للغير أو مخالفاً للوصف قبل الإباق اتجه التقسيط، أو ثبوت الخيار، عملاً بالقاعدة بعد خروجه عن مفاد النصوص قطعاً.

هذا وأما لو تلفت الضميمة بعد البيع قبل قبضها وقبل تحصيل الآبق، فحيث كان مقتضي عموم: كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه فساد البيع فيما يقابلها من الثمن، يتعين في المقام بطلان البيع رأساً حتي بالإضافة إلي الآبق، لأن مقتضي النص - ولو بلحاظ التعليل المشار إليه - عدم صحة بيع الآبق وحده حدوثاً وبقاء، كما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره). إذ لو صح البيع بالإضافة إليه حينئذ لا يحرز حصول المشتري علي شيء في مقابل ما دفعه من الثمن، كما لو اشتري الآبق وحده من أول الأمر.

ومثله ما لو فسخ البيع بالإضافة إلي الضميمة، لوجود عيب فيها قبل البيع

ص: 174

(175)

إذا كانت ذات قيمة معتد بها (1).

---------------

أو قبل قبضها. وأظهر من ذلك ما إذا انكشف بطلان البيع بالإضافة إلي الضميمة، لكونها مغصوبة مثلاً من دون أن يجيز مالكها بيعها.

نعم يتجه التقسيط وصحة البيع بالإضافة إلي الآبق لو حصل عليه وسلم له، ثم تلفت الضميمة قبل قبضها أو فسخ البيع بالإضافة إليها لعيب أو غيره، كما لعله ظاهر. غاية الأمر أن للمشتري حينئذ خيار تبعض الصفقة بالإضافة إلي الآبق.

ثم إن جميع ما ذكر في بيع الآبق مع الضميمة يجري في جميع موارد ضمّ معلوم الوجود والحصول في البيع إلي مجهول الوجود أو الحصول، بناء علي ما سبق منّا من استفادة العموم من مجموع النصوص المتقدمة، وعدم اختصاص الجواز ببيع الآبق مع الضميمة.

(1) أما بناء علي عدم جواز بيع ما لا قيمة له معتد بها فظاهر. وأما بناء علي جواز بيعه - كما سبق منّا في أوائل الكلام في المكاسب المحرمة - فلانصراف نصوص المقام للضميمة المعتد بها، أو اختصاصها بذلك، خصوصاً بلحاظ مواردها. فتأمل جيداً.

بقي شيء: وهو أن جميع ما تقدم يجري في الثمن. لأن جملة من الوجوه المتقدمة تشمله بعمومها كالمنهي عن بيع الغرر وكون المعاملة سفهية وغيرهما. وأما بقية الوجوه المستفادة من النصوص - كالنهي عن بيع ما ليس عندك، والتعليل المتقدم في النصوص التي اعتمدناها - فهي وإن اختصت بالمبيع، إلا أن المناسبات الارتكازية تقضي بإلغاء خصوصيته، والعموم للثمن.

نعم لو بني علي أن مقتضي القاعدة عموم اشتراط القدرة علي التسليم في العوضين، وأن جواز بيع الآبق مع الضميمة حكم تعبدي مخالف للقاعدة، فالمتعين الاقتصار فيه علي مورد النصوص، وهو كون الآبق مبيعاً، دون ما إذا كان ثمناً.

ص: 175

لكن في التنقيح: (ويحتمل الصحة. وهو الأقرب. إذ لا تغاير بين العوضين إلا باعتبار عارض). وهو كما تري بالقياس أشبه. إلا أن يرجع إلي فهم عدم الخصوصية من النص. ولا يخلو عن إشكال. فالعمدة ما سبق من ضعف المبني المذكور. فلاحظ. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم. والحمد لله رب العالمين.

ص: 176

(177) (177)

الفصل الرابع: في الخيارات

وفيه مسائل..

(مسألة 1): الخيار (1)

---------------

(1) لا ينبغي التأمل في أن الأصل في العقود اللزوم لوجهين:

الأول: أن أدلة النفوذ - المتقدمة منا في أوائل كتاب التجارة - كما تقتضي نفوذ العقود تقتضي لزومها، كما يظهر بالتأمل فيها.

ودعوي: أن أدلة النفوذ خصوصاً قوله تعالي: أوفوا بالعقود(1) إنما تقتضي نفوذ العقد مادام موجوداً، فإذا احتمل انفساحه بالفسخ فلا مجال للتمسك بها لإحراز نفوذه، لعدم إحراز الموضوع، وهو العقد.

مدفوعة بأن نفوذ الفسخ لا يقتضي ارتفاع العقد، لأن العقد أمر حقيقي لا يرتفع بعد وقوعه، وإنما يقتضي ارتفاع أثره ومضمونه، ولذا كان الفسخ عرفاً رجوعاً عن مقتضي العقد منافياً للوفاء به، فإطلاق نفوذ العقد ووجوب الوفاء به يقتضي عدم مشروعية الفسخ وعدم ترتب الأثر عليه.

الثاني: استصحاب مضمون العقد عند الشك في ارتفاعه بالفسخ، بناء علي ما هو التحقيق من جريان استصحاب الأحكام الشرعية عند الشك في ارتفاعها مع بقاء موضوعها، كما هو محل الكلام. لظهور أن الخيار في العقد لا يرجع إلي ارتفاع

********

(1) سورة المائدة الآية: 1.

ص: 177

(178)

موضوعه بالفسخ، نظير انتهاء ملكية المنفعة بانتهاء مدة الإجارة، بل ارتفاع أثر العقد مع بقاء الموضوع، كالعوضين في البيع والإجارة، والعين الموهوبة في الهبة والزوجين في النكاح ونحوها.

نعم قد يستشكل فيه بأنه إنما يتم فيما إذا لم يكن مضمون العقد متصفاً بالجواز سابقاً، وإلا كان استصحاب جوازه حاكماً علي استصحابه. والي ذلك يرجع ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) في المقام.

لكن من الظاهر أن اللزوم والجواز ليسا من الأحكام المجعولة للمضمون العقدي، ولا من التقسيمات الشرعية لحقيقته، وإنما ينتزعان من جواز الرجوع فيه شرعاً وعدمه.

وحينئذ فجواز الرجوع إن كان حكمياً رجع إلي ترتب الأثر علي الرجوع، الذي هو أمر تعليقي، بمعني أنه إن فسخ العقد ورجع فيه ارتفع المضمون العقدي، فيبتني استصحابه علي جريان الاستصحاب التعليقي، والتحقيق عدمه.

وإن كان حقياً فهو مجعول شرعاً، لرجوعه إلي ثبوت الحق لصاحب الخيار في فسخ العقد، وهو أمر قابل للاستصحاب. إلا أن يرجع الشك في بقائه للشك في أمد الفسخ المستحق، لا في أمد استحقاق الفسخ، حيث لا مجال للاستصحاب، لعدم إحراز الموضوع. فلاحظ.

هذا كله في وجه عموم اللزوم في العقود عموماً. أما البيع فيزيد علي بقية العقود بوجوه:

الأول: عموم قوله تعالي: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)(1). فإن مقتضي إطلاقه الأحوالي جواز أكل المال مع التجارة ولو بعد الفسخ من أحد الطرفين.

********

(1) سورة النساء الآية: 29.

ص: 178

(179)

ودعوي: أن الآية الشريفة إنما تضمنت نفوذ التجارة، وترتب الأثر عليها، ولا نظر فيها إلي بقاء نفوذها، وعدم ارتفاع أثرها بالفسخ.

مدفوعة بأن دلالتها علي النفوذ حيث كانت بلسان ترتب أثرها، وهو جواز أكل المال، وكان مقتضي إطلاقه جواز أكله ولو بعد الفسخ، فهو يدل علي عدم ترتب الأثر علي الفسخ.

الثاني: قوله تعالي: (وأحل الله البيع وحرم الربا)(1). فإن البيع لما كان مبنياً علي الإلزام والالتزام بمضمونه بنحو الإطلاق، لا موقتاً، فالحكم بحله المستتبع لنفوذه، ظاهر في نفوذه علي نحو ما التزم به من الإطلاق. غاية الأمر أنه تقدم في أول كتاب التجارة أنه لا إطلاق له من حيثية أفراد البيع. لكن ذلك لا يمنع من البناء علي لزوم ما ثبت نفوذه.

مضافاً إلي استفادة الإطلاق من حيثية أفراد البيع من صحيح عمر بن يزيد: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إن الناس يزعمون أن الربح علي المضطر حرام، وهو من الربا. قال: وهل رأيت أحداً يشتري غنياً أو فقيراً إلا من ضرورة ؟! يا عمر قد أحلّ البيع وحرم الربا. فاربح، ولا تربه [ترب]. قلت: وما الربا؟ قال: دراهم بدراهم مثلين بمثل)(2).

اللهم إلا أن يقال: الالتزام بمضمون البيع بنحو الإطلاق، ودلالة الآية الشريفة علي نفوذه كذلك، وإن كانا مسلمين، إلا أن ذلك إنما يقتضي ترتيب أثره كذلك إذا بقي نافذاً، والآية الشريفة إنما تدل علي أصل نفوذه، لا علي استمرار نفوذه. وهذا بخلاف الآية السابقة، فإن مقتضي إطلاقها جواز أكل المال بالنحو الذي تقتضيه التجارة بعد حصولها مطلقاً ولو بعد فسخها، وذلك يستلزم لغوية الفسخ، وعدم ترتب الأثر عليه. فلاحظ.

********

(1) سورة البقرة الآية: 275.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 40 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 179

(180) (180)

الثالث: ما تضمن استحباب إقالة النادم في البيع(1) لظهوره في المفروغية عن لزوم البيع، وأنه ليس للنادم فسخه إلا أن يرضي الآخر، فيقيله. نعم لا إطلاق له في ذلك، لعدم وروده لبيان لزوم البيع، بل لبيان استحباب الإقالة فيه بعد المفروغية عن لزومه.

الرابع: النبوي المشهور: (إن الناس مسلطون علي أموالهم)(2). فإنه يقتضي سلطنة الإنسان علي ما دخل في ملكه بسبب البيع وغيره من العقود الناقلة للمال، بحيث لا يخرج عن ملكه بغير رضاه، ومن دون إعمال سلطنته، وذلك مستلزم للزوم العقد، وعدم نفوذ فسخه بغير رضاه.

ودعوي: أن الحديث إنما يدل علي سلطنة الإنسان علي ماله، لا علي انحصار السلطنة عليه به، بحيث لا سلطنة عليه لغيره، ليدل علي عدم نفوذ فسخ الطرف الآخر للعقد.

مدفوعة: بأن إطلاق السلطنة علي المال كما السلطنة علي إيقاع التصرف فيه، يقتضي السلطنة علي منع حصول التصرف فيه، فحصول التصرف فيه من الغير مناف لسلطنة المالك عليه.

نعم لو كان موضوع السلطنة نفس إيقاع التصرف فسلطنة المالك علي إيقاعه لا ينافي سلطنة غيره علي إيقاعه أيضاً. والفرق بينهما نظير الفرق بين قولنا: زيد مسلط علي أن يسكن الدار، وقولنا: زيد مسلط علي الدار. فإن الأول لا ينافي سلطنة غيره علي أن يسكن فيها، بخلاف الثاني.

ومن ثم كان تعدد السلطان علي الشيء موجباً لضعف سلطنة كل منهم، لمزاحمتها بسلطنة الآخرين، ومقتضي الإطلاق كمال السلطنة.

نعم النبوي المذكور ضعيف بالإرسال. لكن مضمونه مقتضي المرتكزات

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب آداب التجارة.

(2) بحار الأنوار ج: 2 ص 272.

ص: 180

(181)

العقلائية التي عليها العمل. فلاحظ.

الخامس: ما تضمن جعل الغاية في خيار المجلس الافتراق، وجعل الغاية في خيار الحيوان ثلاثة أيام، كما يأتي، فإنه يقتضي عموم لزوم البيع بعد الغايتين المذكورتين.

وأما ما ذكره بعض المحققين (قدس سره) وحكي عن أستاذه المحقق الخراساني (قدس سره) من أن مفاد نصوص خيار المجلس ثبوت اللزوم من حيثية خيار المجلس لا مطلقاً، فلا ينافي ثبوت الخيار من حيثية أخري.

فهو إنما يتجه لو كانت النصوص المذكورة واردة لبيان أمد الخيار المذكور بعد الفراغ من ثبوته. أما حيث كانت واردة في مقام تشريع هذا الخيار، فهي ظاهرة في تحديد أصل الخيار وعدم ثبوته بعد التفرق والأيام الثلاثة.

ودعوي: أن ذلك مقتضي الجمع بين أدلة الخيارات المختلفة، لأنه أولي من حملها علي التخصيص. ممنوعة جداً، لقوة ظهورها في تحديد أصل الخيار.

وهناك بعض النصوص المتفرقة الأخر الدالة علي لزومه في الجملة. بل تعرض النصوص لموارد الخيار في البيع، وعدم تعرضها لموارد لزومه، شاهد بأن البيع بطبعه يبتني علي اللزوم، وأن الخيار فيه خروج عن مقتضاه، ولذا احتاج للبيان دون اللزوم.

وهناك بعض الوجوه الأخر ذكرت في المقام لا ملزم بإطالة الكلام فيها بعد وفاء ما سبق بالمطلوب. ومن ثم لا ينبغي الإشكال في أصالة اللزوم في البيع وجميع العقود.

بقي شيء: وهو أن موضوع اللزوم في المقام لما كان هو العقد بملاك الوفاء به، فلابد فيه من أمرين:

الأول: أن يكون المضمون المنشأ عقدياً، وقد سبق في أول الكلام في فصل

ص: 181

شروط العقد أنه لابد في صدق العقد من التزام كل من الطرفين بمضمون واحد للآخر علي نفسه، لابتنائه علي نحو من الكلفة عليه. فلو كان الالتزام من جانب واحد علي نفسه لم يكن عقداً، بل إيقاعاً، كما في المسابقة والجعالة ونحوهما مما كان من سنخ الوعد.

وحينئذ لا يجب الوفاء به بملاك الوفاء بالعقد، بل له العدول عنه قبل الشروع في العمل قطعاً. غاية الأمر أن بناء العقلاء علي لزوم الوفاء بالوعد إذا ابتني علي حمل الموعود علي بذل جهد وإنجاز عمل من أجل تحصيل الأمر الموعود به، فلا يجوز الامتناع عن دفع الجعل بعد إنجاز العمل بالقصد المذكور. لكنه ليس بملاك الوفاء بالعقد، بل بملاك آخر.

بل إذا كان العمل الذي يترتب عليه الجعل مركباً - كبناء الدار وخياطة

الثوب - يتعين عرفاً تقسيط الجعل علي بعض العمل.

نعم إذا ابتني الشروع في العمل علي إكماله، رجع ذلك إلي الالتزام من الطرفين عند الشروع في العمل بالمعاوضة بين تمام العمل والأجرة، بمعني التزام العامل لباذل الأجر بتمام العمل في مقابل الأجرة، والتزام الباذل بتمام الأجرة في مقابل تمام العمل. وحينئذ لا يجوز الرجوع لكل منهما، لأن ذلك نحو من العقد والصلح بين الطرفين يجب الوفاء به.

كما قد يكون ذلك بإشغال المسافر المقعد في السيارة أو تحركها به نحو مقصد متفق عليه بين الطرفين، علي اختلاف الأعراف. فإنه لا يجوز لكل منهما الرجوع وإن لم يقع بينهما العقد قبل الركوب في السيارة.

كما أنه لا يبعد عدم جواز الرجوع في المسابقة للباذل بمجرد الشروع في التسابق، لأن موضوع الوعد وإن كان هو السبق الذي هو نتيجة التسابق، إلا أن المراد به هو التسابق المفضي للسبق. فالشروع في التسابق شروع في العمل عرفاً، لا في مقدمته، وهو ملحوظ بنحو المجموعية، لا بنحو الانحلال.

ص: 182

ولا أقل من ابتناء المسابقة عرفاً علي عدم الرجوع بالشروع بالتسابق، وإلا كان له الرجوع عند ظهور أمارة السبق، وهو لا يناسب وضع المسابقة.

بل إذا ابتني البذل علي تعهد الباذل بعدم الرجوع عنه بمجرد الشروع في المقدمات من أجل التشجيع علي العمل الموعود عليه تعين عدم جواز الرجوع بالشروط فيها. لرجوعه إلي دخول المقدمات في موضوع البذل.

وكيف كان فعدم الرجوع في ذلك وأمثاله ليس بملاك لزوم العقد، بل بملاك احترام عمل المبذول له بعد وقوعه مبنياً علي البذل ولذا يجوز الرجوع قبل الشروع في العمل. نعم إذا ابتني البذل علي التعهد من كل من الطرفين للآخر بالعمل في مقابل المال المبذول، بأن يتعهد العامل بالعمل مقابل المال المبذول ويتعهد الآخر بالمال في مقابل العمل، رجع إلي التعاقد بينهما نظير عقد الإجارة وتعين لزوم العقد المذكور وعدم جواز الرجوع فيه حتي قبل الشروع في العمل.

الثاني: أن يكون الرجوع في العقد منافياً لمقتضاه لابتناء مضمونه علي البقاء كالبيع والهبة والإجارة والنكاح وغيرها، فإن الرجوع فيه حينئذ ينافي الوفاء بالعقد اللازم بمقتضي الأدلة المتقدمة.

أما إذا لم يكن مضمون العقد مبنياً علي البقاء فارتفاع مضمونه لا ينافي الوفاء بالعقد، كما في الوديعة، فإنها وإن كانت عقداً يبتني علي الائتمان علي العين لحفظها، بحيث يكون المودع متعهد بإيكال حفظها للودعي، والودعي ملزماً بذلك، إلا أنها لا تبتني علي بقاء الائتمان المذكور، لما هو المعلوم من ابتناء الوديعة علي رجوع العين لصاحبها، فلا بد من رجوعها إلي الائتمان ماداما راضيين بذلك. وحينئذ لا يكون رجوع كل منهما عن الاستيداع منافياً للوفاء بالعقد، فينفذ بمقتضي سلطنة كل منهما علي نفسه وماله.

بل حتي لو حدد بمدة معينة لا يراد بذلك إلزام كل منهما باستمرار الاستيداع في تمام المدة المذكورة، بل مجرد تحديد مدة الاستيداع في نفسه من دون أن ينافي الرجوع

ص: 183

(184)

حق يقتضي السلطنة علي فسخ العقد (1)،

---------------

فيه منهما قبل انقضاء المدة.

نعم قد يرجع ذكر المدة إلي إلزام أحد الطرفين أو كليهما بها، كما لو كان المالك لا يسهل عليه استرجاع الوديعة أو حفظها قبل انقضاء المدة، فيشترط علي الودعي الاستيداع في تمامها، أو كان الودعي لا يسهل عليه إرجاع الوديعة قبل انقضاء المدة، فيشترط علي المالك الاستيداع في تمامها.

وحينئذ يتعين البناء علي لزوم الوفاء من أحدهما أو منهما معاً بالشرط، وعدم الرجوع في الاستيداع في تمام المدة المشروطة. لكن ليس لابتناء عقد الاستيداع علي البقاء، بل من جهة الشرط المذكور.

ويجري ذلك في مثل العادية والوكالة مما لا يبتني علي البقاء في نفسه، وإن كان قد يبتني عليه بشرط زائد علي العقد. فلاحظ. والله سبحانه العالم العاصم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) قد أشار شيخنا الأعظم (قدس سره) إلي الكلام في بعض الجهات المتعلقة بتعريف الخيار، وأطال من بعده في ذلك بما لا يسعنا التعرض له، لعدم وضوح ترتب الفائدة عليه بعد رجوعه لتحديد المعني الاصطلاحي للخيار، ولا مشاحة في الاصطلاح. ولعل الأنسب التعرض لأمرين:

الأول: أن الخيار الذي هو محل الكلام من الحقوق. ولذا أخذت الملكية في تعريفيه الآتيين منهم. والحق نحو من الملك، تكون السلطنة عليه متفرعة علي استحقاقه وتملكه، نظير السلطنة علي المال. وليس هو حكماً يرجع للسلطنة علي الفسخ ابتداء، نظير السلطنة علي المباح الأصلي، كما هو الحال في العقد الجائز، حيث لصاحبه فسخه من دون أن يكون ذلك حقاً مملوكاً له.

ويمتاز الحق بكونه قابلاً للمعاوضة، كما سبق في أول الفصل الثالث. كما أنه

ص: 184

(185)

يقبل الإسقاط الرافع لموضوع السلطنة. بخلاف الحكم، فإنه لا يقبله، بل هو تابع سعة وضيقاً للجعل الشرعي ابتداء.

الثاني: المحكي عن فخر المحققين في الإيضاح تعريف الخيار بأنه ملك فسخ العقد، ونسبه شيخنا الأعظم (قدس سره) لجماعة من المتأخرين وإليه يرجع ما في المتن.

وعرفه في التنقيح بأنه عبارة عن ملك إقرار العقد وإزالته. وتبعه علي ذلك غير واحد. قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (ويمكن الخدشة فيه بأنه إن أريد من إقرار العقد إبقاؤه علي حاله بترك الفسخ، فذكره مستدرك، لأن القدرة علي الفسخ عين القدرة علي تركه، إذ القدرة لا تتعلق بأحد الطرفين. وإن أريد منه إلزام العقد وجعله غير قابل لأن يفسخ، ففيه أن مرجعه إلي إسقاط حق الخيار، فلا يؤخذ في تعريف نفس الخيار...).

لكن الظاهر الفرق بين الأمرين، وأنه يبتني علي نحو حال العقد في زمان الخيار. فإن قلنا بأنه كالعقدة السهلة الحل، يمكن حلها لصاحب الخيار، ويصير بانتهاء زمن الخيار كالعقدة المحكمة الشدّ، بحيث لا يمكنه حلها، أمكن فرض الفسخ والإقرار فيه، ويكون الفسخ نظير حلّ العقدة والإقرار نظير إحكام شدها.

كما أنه يمكن إسقاط الخيار، ويكون مرجعه إلي بقاء العقد في زمن الخيار علي ما هو عليه قابلاً للحل والشد، غاية الأمر أنه لا سلطان لصاحب الخيار علي أحد التصرفين، لسقوط حقه. ولا يقرّ العقد، بحيث يكون كالعقدة المحكمة الشد إلا بانتهاء زمن الخيار.

وإن قلنا بأن العقد لا يختلف حاله في زمن الخيار عن حاله بعده. غايته أن لصاحب الخيار السلطنة علي فسخه، فحينئذ لا موضوع للإقرار، لعدم الأثر له. غايته أنه يمكن إسقاط الخيار، فترتفع السلطنة علي الفسخ، كما لو انتهي زمن الخيار.

والمرتكز عرفاً الثاني. ولاسيما في الخيار المشروط، إذ ليس قصد المتعاقدين من جعل الخيار وجداناً إلا جعل السلطنة علي فسخه من دون تبديل لواقع العقد.

ص: 185

نعم قد يظهر من بعض النصوص الأول، كصحيح علي بن رئاب عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: الشرط في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري اشترط أم لم يشترط. فإن أحدث المشتري فيما اشتري حدثاً قبل الثلاثة أيام فذلك رضاً منه فلا شرط له...)(1).

وموثق السكوني عنه (عليه السلام): (أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قضي في رجل اشتري ثوباً بشرط إلي نصف النهار، فعرض له ربح فأراد بيعه. قال: ليشهد أنه قد رضيه واستوجبه، ثم ليبعه إن شاء. فإن أقامه في السوق ولم يبع فقد وجب عليه)(2).

وفي صحيح الحلبي: (إن رغب في الربح فليوجب الثوب علي نفسه، ولا يجعل في نفسه أن يرد الثوب علي صاحبه إن رد عليه)(3) ونحوها غيرها.

لصراحتها في أن لزوم العقد بالتصرف ليس لكون التصرف ملزماً بنفسه، كانتهاء أمد الخيار، بل لكونه متفرعاً علي الرضا بمضمون العقد واستيجابه، المستلزم لاختلاف حال العقد. بالرضا والاستيجاب عما كان عليه قبلهما.

وحمل الرضا والاستيجاب علي إسقاط حق الخيار - كما قد يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره - تكلف مخالف لظاهر النصوص، ولواقع حال المتصرف. إذ غاية ما يكون منه هو البناء علي عدم إعمال حق الخيار، وهو أمر آخر غير إسقاطه.

وهو المناسب لما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من الاستدلال علي سقوط الخيار بإسقاطه بفحوي ما تضمن أن التصرف في المبيع مسقط للخيار، معللاً بأنه رضا بالبيع. لظهوره في أن الإسقاط أمر زائد علي الرضا. ومن ثم تكون النصوص المذكورة مناسبة للتعريف الثاني.

اللهم إلا أن يقال: النصوص المذكورة لم تتضمن استيجاب البيع والرضا به، ليحمل - بقرينة سبق إيجابه والرضا به حين إيقاعه - علي إرادة إقرار العقد زائداً علي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الخيار حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب الخيار حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الخيار حديث: 2.

ص: 186

(187)

برفع مضمونه (1). وهو أقسام:

(الأول): ما يسمي خيار المجلس (2). يعني: مجلس البيع. فإنه إذا وقع البيع كان لكل من المشتري والبايع الخيار في الفسخ في المجلس (3) م

---------------

إيقاعه، وإنما تضمنت الرضا بالمبيع، المستلزم للبناء علي عدم إعمال حق الخيار.

وهو وإن لم يرجع إلي إسقاط حق الخيار، كما سبق، إلا أنه لا يرجع إلي إقرار العقد بالمعني المتقدم. بل غاية الأمر سقوط الخيار بالرضا المذكور، وهو لا يشهد بصحة التعريف الثاني. بل يجتمع مع التعريف الأول، فلا مخرج عنه بعدما سبق من مناسبته للمرتكزات. فلاحظ.

(1) أشار (قدس سره) بذلك إلي ما ذكرنا آنفاًً من أن الفسخ لا يرفع العقد، بل يرفع أثره ومضمونه.

(2) قال في المسالك: (إضافة هذا الخيار إلي المجلس إضافة إلي بعض أمكنته، فإن المجلس موضع الجلوس، وليس بمعتبر في تحقق هذا الخيار...). وتبعه علي ذلك غير واحد ممن تأخر عنه. وهو متين جداً، لأن موضوع الخيار في النصوص ليس هو المجلس، بل عدم الافتراق، فيشمل ما لو أوقعا البيع ماشيين مصطحبين، أو فارقا مجلس العقد كذلك، كما يظهر مما يأتي.

(3) إجماعاً منا بقسميه ونصوصاً مستفيضة أو متواترة. كذا في الجواهر. ومن تلك النصوص صحيح محمد مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): البيعان بالخيار حتي يفترقا. وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام)(1). ونحوه غيره. ومنها يظهر أن موضوع الخيار هو الاجتماع المقابل للافتراق، لا كونهما في المجلس، كما سبق.

نعم في موثق غياث بن إبراهيم عنه عن أبيه عن علي عليهم السلام: (قال: قال

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 187

(188)

لم يفترقا، فإذا افترقا ولو بخطوة لزم البيع وانتفي الخيار (1).

---------------

علي (عليه السلام): إذا صفق الرجل علي البيع فقد وجب وإن لم يفترقا)(1). ولا مجال للخروج به عن النصوص الكثيرة المشهورة المعول عليها عند الأصحاب.

وقد يحمل علي إرادة نفوذ البيع وصحته، لا علي لزومه، كما ذكره الشيخ في التهذيبين. أو علي التقية، كما في الجواهر، حيث حكي إنكار هذا الخيار عن شريح والنخعي وأبي حنيفة ومالك.

واحتمل في الوسائل حمله علي اشتراط سقوط الخيار. وهو الذي استظهره بعض مشايخنا (قدس سره) من الحديث، لأن معني الصفق - علي ما في اللغة - ضرب أحدهما يده علي الآخر دلالة علي لزوم البيع وكناية عنه، فإذا صفقا فقد ألزما البيع بإسقاطهما الخيار.

وكأنه أخذه من مثل ما في لسان العرب. قال: (وصفق يده بالبيعة والبيع وعلي يده صفقاً: ضرب بيده علي يده عند وجوب البيع). لكن لم يتضح كون مراده بوجوب البيع لزومه، بل لعل المراد به أصل إنشاء البيع وعقده، كما لعله المناسب لقولهم: ربحت صفقتك، وصفقة رابحة أو خاسرة، ونحو ذلك.

وكيف كان فإن أمكن توجيه الموثق بما يناسب النصوص المشهورة، وإلا تعين الإعراض عنه ورد علمه لقائله (عليه السلام).

(1) لا ريب في سقوط هذا الخيار بالافتراق، وهو المصرح به في كلام كل من ذكره. وفي الجواهر: (إجماعاً بقسميه ونصوصاً مستفيضة أو متواترة).

وأما الاكتفاء في تحقق الافتراق بالخطوة فهو المصرح به في المبسوط والخلاف والتهذيبين والغنية والوسيلة والشرايع والقواعد وعن غيرها، وفي الجواهر: (بلا خلاف يعتد به أجده فيه).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الخيار حديث: 7.

ص: 188

قال في التذكرة: (التفرق حقيقة في غير المتماسين، وهو يحصل بأن يكون كل واحد منهما في مكان ثم يتبايعان. لكن ذلك غير مراد من قوله (عليه السلام): ما لم يتفرقا. أي ما لم يجددا افتراقاً بعد عقدهما، فيبقي المراد ما لم يفارق أحدهما مكانه، فإنه متي فارق تخللها أجسام أكثر مما كان تخللهما أولاً، فيثبت معني الافتراق بأقل انتقال ولو بخطوة). وقريب منه في جامع المقاصد والمسالك ويبدو من غير واحد الجري علي ذلك. ومن الظاهر أن مرادهم بمفارقة أحدهما لمكانه مفارقته له بعكس اتجاه الآخر.

وفيه: أن ما ذكره من أن التفرق حقيقة في غير المتماسين لا يخلو عن إشكال، فإن التفرق عرفاً مقابل الاجتماع، لا مقابل الالتصاق والتماس، والمقابل للالتصاق والتماس هو الانفصال، لا التفرق. ولا أقل من كون ذلك هو المراد من النصوص في المقام.

وإلا فبعد أحدهما عن الآخر مهما كثر لا يوجب حدوث الافتراق بالمعني المقابل للتماس بعد العدم، لأن الافتراق لا يتعدد، بل غايته أن يصدق زيادة البعد والنصوص كالصريحة في أن المسقط للخيار هو حدوث الافتراق بعد العدم، لا زيادة البعد. وحملها علي ذلك ليس بأولي من حمل الافتراق فيها علي ما يقابل الاجتماع. بل لا ريب في تعين الثاني لو غض النظر عما سبق من أنه هو معني الافتراق عرفاً.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من حمل الافتراق علي الافتراق الإضافي بلحاظ الهيئة الاجتماعية الحاصلة لهما حين العقد. فهو غريب جداً، إذ الافتراق ليس أمراً إضافياً، بل هو أمر حقيقي عرفي يقابل الاجتماع، كما ذكرنا.

وأشكل من ذلك ما في مفتاح الكرامة، حيث وافقهم فيما سبق، إلا أنه ذكر أن الافتراق لا يتجدد بأقل من خطوة، لأن الغالب عدم حفظ النسبة بين المتعاقدين في مجلس العقد، وللإجماع علي ذلك في ظاهر الغنية.

إذ فيه: أن غلبة عدم حفظ النسبة بين المتعاقدين إنما يكشف عدم كفاية البعد بالمقدار القليل الذي يغلب التعرض له حال الجلوس، ولا ينافي كفاية البعد بما زاد

ص: 189

عليه مما هو دون الخطوة، كالشبر والشبرين. وأما ظهور دعوي الإجماع في الغنية فهو - لو تم - لا ينهض بالحجية، لعدم حجية الإجماع المنقول، خصوصاً في مثل الغنية. ولاسيما مع عدم وضوح كونه إجماعاً تعبدياً.

وبذلك يظهر أن المعيار في سقوط الخيار هو صدق الافتراق بعد الاجتماع، ولا إشكال في عدم تحققه بتجدد البعد بينهما بمقدار خطوة أو أكثر إذا لم يخل بالاجتماع عرفاً، كما لو كانا في مجلس واحد ودخل عليهما شخص فجلس إلي جنب أحدهما فابتعد عنه الآخر بمقدار خطوة. وكذا لو رجع إلي الوراء مقدار خطوة محافظاً علي المواجهة بينهما.

بل قد يشكل تحققه عرفاً بالسير خطوة في مقام الافتراق. ولاسيما بلحاظ صحيح محمد بن مسلم: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إني ابتعت أرضاً، فلما استوجبتها قمت فمشيت خطي، ثم رجعت، فأردت أن يجب البيع)(1) ، وفي صحيحه الآخر: (ثم رجعت إلي مجلسي ليجب البيع حين افترقا)(2) ، وصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه قال: إن أبي اشتري أرضاً يقال لها العريض، فلما استوجبها قام فمضي. فقلت له: يا أبه عجلت القيام. فقال: يا بني أردت أن يجب البيع)(3) ، ونحوه صحيحه الآخر(4).

فإن ما تضمنه الأولان من رجوعه (عليه السلام) بعد مشيه يناسب توقف لزوم البيع علي المشي خطي، ولا يكفي فيه الخطوة الواحدة، إذ لا داعي للزيادة عليها لو كانت كافية في لزوم البيع بعد أن كان (عليه السلام) في مقام الرجوع. كما أن ما تضمنه الأخيران من التعبير بالمضي يناسب اعتبار صدق المضي الذي يشكل صدقه بالخطوة.

ومن ثم يتعين اعتبار صدق الافتراق بينهما عرفاً. ولا يبعد اختلاف الموارد في مقدار البعد المتجدد الذي يتوقف عليه، ولا يتيسر لنا فعلاً إعطاء الضابط في ذلك، بل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب الخيار حديث: 2، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب الخيار حديث: 2، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب الخيار حديث: 1، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب الخيار حديث: 1، 4.

ص: 190

يتعين الاقتصار علي ذكر الافتراق العرفي، كما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره).

وبذلك يظهر الحال فيما لو كانا مفترقين حين البيع، كما لو تناديا بالبيع من بُعد، وكما لو كان إيقاع البيع بينهما بالهاتف أو نحوه من طرق الاتصال الشايعة في عصورنا. فإنه لو كان المعيار في التفرق علي ما سبق منهم أمكن تحققه في ذلك بتجدد زيادة في البعد المكاني بينهما، كما صرح بذلك في جامع المقاصد. قال: (ولا فرق فيما قلناه بين قرب المكانين وبعدهما، حتي لو تناديا بالبيع من بعد اعتبر التفرق من مكانيهما لسقوط الخيار).

أما بناء علي ما ذكرناه فلا موضوع للافتراق. وهل يثبت الخيار حينئذ. قال في التنقيح: (هل عدم الافتراق هنا بمعني السلب أو عدم الملكة، أي عدم الافتراق عما من شأنه. كلاهما محتمل. وتظهر الفائدة في العاقد عن اثنين، فإنه علي السلب يثبت الخيار ما لم يشترط سقوطه أو يلتزم به عنهما بعد العقد... وهو قول الشيخ في المبسوط وعلي الثاني وهو عدم الملكة لم يثبت، لعدم تحقق الافتراق إلا بين اثنين). وقد صرح بثبوت الخيار هنا غير واحد.

لكن لا ينبغي التأمل في ظهور النصوص في إرادة الافتراق بعد الاجتماع، فتقصر عن الصورة المذكورة ويتعين البناء علي عدم ثبوت الخيار رأساً ولزوم البيع عملاً بعمومات اللزوم.

نعم قد يدعي قيام مثل الاتصال بالهاتف مقام الاجتماع، وقيام قطع الاتصال مقام الافتراق. إلا أنه لا مجال لاستظهار ذلك من نصوص المقام بل هو بالقياس أشبه.

وأشكل منه ما نقله في المبسوط قولاً من أنه مع تولي شخص وحد طرفي العقد يثبت الخيار وتقوم مفارقة المكان الذي يقع فيه العقد مقام الافتراق ويلزم بها العقد. فإنه تحكم صرف.

ومثله ما في التذكرة في بيع الأب أو شرائه من ولده الصغير من ثبوت الخيار

ص: 191

(192)

وعدم سقوطه في حق كل من الطرفين إلا بالتزام العقد منه أو ممن يقوم مقامه. بدعوي: أن الولي قائم مقام الشخصين في صحة العقد، فكذا في الخيار.

إذ فيه: أن قيامه مقام الشخصين في صحة العقد مقتضي ولايته. أما الخيار فحيث كان موضوعه الاجتماع قبل الافتراق فلا يكفي في تحققه الولاية، بل لابد من تعدد المعاقدين كما هو مقتضي تثنية البيع في النصوص. وأما ما ذكره من حملها علي الغالب فهو لا يناسب جعل الافتراق غاية الخيار.

وأوضح من ذلك ما إذا كان العاقد قد اشتري لنفسه من المال الذي له الولاية عليه من دون أن يكون للمال صاحب يكون ولياً عليه، كشراء الوصي من ثلث الميت، وشراء ولي الزكاة من المال الزكوي. لعدم تعدد المتعاقدين لا بلحاظ الأصل ولا بلحاظ المباشرة. حيث يقصر موضوع الخيار عن البيع المذكور، لأن موضوع الخيار هو المتبايعان لا البيع، فيتعين لزوم البيع. عملاً بعمومات اللزوم.

بقي في المقام أمور:

الأول: قال في الشرايع: (لو ضرب بينهما حائل لم يبطل الخيار. وكذا لو أكرها علي التفرق). ونحوه كلام غيره.

أما ما ذكره في الحائل فقد عقب عليه في الجواهر بقوله: (قطعاً. لعدم صدق التفرق به، سواء كان غليظاً أو رقيقاً ثوباً أو جداراً من طين أو جص، بلا خلاف أجده بيننا...).

لكن عدم صدق التفرق قد يتضح في بعض أفراده، كالرقيق والغليظ غير المبني علي الثابت. بل يكفي الشك في صدق التفرق إذا كان للشبهة الموضوعية. لاستصحاب عدمه. وأما إذا كان للشبهة المفهومية فلا مجال لاستصحاب عدم التفرق، لأنه من استصحاب المفهوم المردد.

ومن ثم قد يرجع فيه لاستصحاب الخيار، بناء علي أنه المرجع عند الشك في

ص: 192

(193)

استمرار حكم المخصص. لكن الظاهر ضعف المبني المذكور، وأن المرجع في مثل المقام هو العام - علي ما ذكرناه في الأصول - وهو في المقام عموم لزوم العقد.

هذا وأما مثل الحائط المبني علي الثبات فالظاهر صدق التفرق به، الذي هو غاية للخيار، وسبب للزوم البيع. ودعوي: أنه لابد من إسناد التفرق للمتبايعين، وهو غير حاصل في المقام. ممنوعة، لأن نسبة الافتراق إليهما في النصوص أعمّ من ذلك.

ولذا لا إشكال في الاكتفاء بقيام أحدهما من المجلس مع بقاء الآخر فيه، كما تضمنته النصوص السابقة. وهو المقطوع به من السيرة. ولو كان المعتبر هو استناد الافتراق لهما لم يكف ذلك، لأنه يستند إلي أحدهما فقط. كيف ولازم ذلك بقاء الخيار وإن قاما عن مجلسهما بعد ذلك، لأن قيامهما عن مجلسهما لا يحقق الافتراق منهما بعد أن تحقق قبل ذلك.

نعم بناء علي أن المراد بالافتراق زيادة البعد المكاني بينهما يتجه عدم تحقق الافتراق بينهما بذلك، بل لابد فيه من زيادة البعد المكاني. لكن سبق المنع من ذلك، وأن المدار علي الافتراق المقابل للاجتماع.

الثاني: قال في المبسوط: (فإن أكرها أو أحدهما علي التفرق فإن منعنا [منعا. ظ] التخاير والفسخ معاً كان وجود هذا التصرف [التفرق. خ ل] وعدمه سواء... وإن كان الإكراه علي التفرق لا يمنع التمكن من التخاير والفسخ ينقطع الخيار، لأنه إذا كان متمكناً من الإمضاء والفسخ فلم يفعل حتي وقع التفرق كان ذلك دليلاً علي الرضا والإمضاء). وقريب منه كلام غيره.

ومرجع ما ذكروه إلي أن مسقط الخيار ليس مطلق التفرق، بل التفرق الكاشف عن الرضا بالعقد، والبناء علي عدم الفسخ.

وقد يستدل لهم بصحيح فضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (قلت له: ما الشرط في غير الحيوان ؟ قال: البيعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار

ص: 193

بعد الرضا منهما)(1). حيث يدل علي أن مسقطية الافتراق للخيار من أجل كشفه عن الرضا بالبيع والبناء علي عدم فسخ.

وفيه أولاً: أن الصحيح لم يتضمن تقييد الافتراق بما يكشف عن الرضا بالعقد والبناء علي عدم فسخه، ولا تعليل مسقطية الافتراق للخيار بذلك، ليرجع للتقييد، بل غايته بيان حصول الأمر المناسب لسقوط الخيار ارتكازاً، ولو بلحاظ غلبة مقارنته للافتراق. فهو من سنخ الحكمة التي لا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً.

غاية الأمر أن يكون الصحيح قاصراً عن صورة عدم كشف الافتراق عن الرضا، من دون أن ينهض بتقييد إطلاقات مسقطية الافتراق للخيار.

نظير ما لو ورد: وضع الله عز وجل الصوم عن المسافر، ولم يكن ليجمع عليه جهد الصوم وجهد السفر، أو ورد: إذا رأت المطلقة الطهر الثالث فلتتزوج بعد أن أمنت الحمل. فإن الأول، لا ينهض بتقييد إطلاقات النهي عن الصوم في السفر، وقصرها علي خصوص من كان السفر مجهداً له. والثاني لا ينهض بتقييد إطلاقات اعتداد المطلقة بثلاثة قروء، وقصرها علي خصوص من لا تأمن الحمل قبلها.

وثانياً: أنه لم يتضح كون المراد بالرضا في الصحيح هو الرضا ببقاء العقد، والبناء علي عدم فسخه، بل قد يكون المراد به هو الرضا بأصل العقد حين إنشائه، فيرجع المراد إلي أنه لا خيار لهما بعد أن صدر العقد برضاهما، وانتهي زمن الخيار بالافتراق.

فإن تم هذان الوجهان في أنفسهما بدوا، ولم يكونا مخالفين لظاهر الصحيح فذاك، وإلا تعين حمله عليهما أو علي أحدهما، حيث لا يمكن البناء علي اختصاص الافتراق المجعول غاية للخيار بما يكشف عن الرضا ببقاء العقد، والبناء علي عدم فسخه، إذ لا إشكال ظاهراً في كفاية الافتراق سهواً، أو غفلة عن البيع أو عن ثبوت خيار المجلس، أو جهلاً به. وفي كفاية مفارقة أحدهما من دون مراعاة التفات الآخر،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب الخيار حديث: 3.

ص: 194

كما هو منصرف النصوص المتقدمة المتضمنة لمشي الإمام (عليه السلام) خطي، حيث يصعب حملها علي خصوص ما إذا كان المشتري ملتفتاً لذلك، ولما يترتب عليه من لزوم العقد.

وأشكل من ذلك ما في الجواهر من إطلاق عدم سقوط الخيار بالافتراق عن إكراه بحيث يشمل ما إذا كانا قادرين علي الفسخ ولم يفسخا. قال: (للأصل بعد تبادر الاختيار من النصوص. ولذا يصح أن يقال: لم يفترقا، ولكن فرقا. معتضداً بأنه شرع للإرفاق المفقود مع الإجبار. وبما في صحيح الفضيل السابق من الإشعار. بل لو أريد منه بعد الرضا بالافتراق كان نصاً في المطلوب).

لكن التبادر ممنوع. ولاسيما بملاحظة ما ذكرناه آنفاً من أن النصوص قد تضمنت نسبة الافتراق لهما، مع أنه لا ريب في عدم اعتبار استناده لهما معاً، فضلاً عن كونه باختيارهما، بل يكفي أن يستند لأحدهما فقط، كما جرت عليه السيرة وهو منصرف نصوص مشي الإمام (عليه السلام) خطي.

وأما قولنا: لم يفترقا، ولكن فرقا. فالاستدراك فيه قرينة علي أن المراد بالافتراق خصوص الاختياري منه من دون أن يكون ذلك هو الظاهر منه في نفسه. نظير قولنا: لم يأتنا رجل بل رجلان، حيث لا يدل علي صدق مجيء الرجل بمجيء رجلين.

علي أنه لو تم كون ذلك هو الظاهر منه في نفسه فلا مجال للبناء علي أن ذلك هو المراد منه في نصوص المقام بعد ما سبق.

ثم إن ما ذكره من التبادر إن بلغ مرتبة اليقين بظهور نسبة الافتراق للمتبايعين في صدوره باختيارهما تعين الرجوع في بقاء الخيار لإطلاق دليله بعد عدم حصول الغاية، من دون حاجة للأصل وهو استصحاب الخيار.

وإن لم يبلغ مرتبة اليقين بالظهور المذكور، بحيث يرجع إلي إجمال دليل الخيار فالمرجع عمومات اللزوم، دون الأصل بناء علي ما هو التحقيق من أن المرجع مع الشك في بقاء حكم المخصص هو عموم العام، لا الاستصحاب.

ص: 195

وأما تشريع الخيار للإرفاق فهو - لو تم - لا ينفع في المقام، لأن الإرفاق في أصل تشريع الخيار، لا في تحديد أمده، فلا ينافي كون الغاية له مطلق الافتراق ولو لا عن تروّ واقتناع بصلاح البيع. ولذا لا ينافي الإرفاق المدعي الاكتفاء بالافتراق لحاجة ملحة تمنع من التروي لاستيضاح أن الأصلح هو الفسخ أو عدمه.

وأما صحيح الفضيل فحمل الرضا فيه علي الرضا بالافتراق لا شاهد له. وحمله علي الرضا بالبيع والبناء علي عدم فسخه لو تم وغض النظر عما سبق منا إنما يقتضي عدم سقوط الخيار بالإكراه علي الافتراق مع المنع من إعمال الخيار، لا مطلقاً، كما لعله ظاهر.

نعم قد يستدل علي ذلك بما تضمن رفع ما استكرهوا عليه(1) بلحاظ أن مرجع الرفع الشرعي إلي عدم ترتب الأثر علي الفعل المستكره عليه، وهو في المقام سقوط الخيار.

لكن تقدم عند الكلام في بيع المكره اختصاص الرفع عرفاً بما كان من سنخ تبعة الفعل المكره عليه، وما هو من سنخ المسؤولية المترتبة عليه، كالعقوبة الأخروية والدنيوية بمثل الحدود والتعزير والقصاص، وكوجوب الكفارة، والنفوذ في مثل العقد والإيقاع والإقرار والنذر واليمين، فإن مرجع ذلك عرفاً إلي تحمل الإنسان تبعة عمله ومسؤوليته به، فيكون هو المرفوع بمقتضي الأدلة المذكورة، دون بقية آثار

العمل - كانفعال الماء بملاقاة النجاسة، وحرمة الحيوان بالذبح علي خلاف الوجه الشرعي - ومنه المقام، فإن سقوط الخيار بالافتراق ليس لكونه من سنخ التبعة له، بل لمجرد كونه غاية له شرعاً.

هذا وبناء علي عدم سقوط الخيار بالافتراق عن إكراه مطلقاً أو مع المنع من إعمال الخيار فاللازم البناء علي بقاء الخيار بعد زوال الإكراه مهما طال الزمان وأبعدا في الافتراق وقطع المسافة، عملاً بعموم ثبوت الخيار للمتابعين بعد فرض اختصاص

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 11 باب: 56 من أبواب جهاد النفس، وج: 16 باب: 12، 16 من كتاب الأيمان.

ص: 196

(197)

غاية الخيار بالافتراق الاختياري غير الحاصل في المقام. والإبعاد في الافتراق ليس إحداثاً لافتراق جديد، بل هو استمرار في الافتراق الواحد المفروض عدم ترتب الأثر عليه.

نعم لو اجتمعا بعد الافتراق المذكور اتجه سقوط الخيار بتجدد الافتراق عنه، لحصول الغاية به بعد فرض عدم حصولها بالافتراق الأول. وكلماتهم في المقام في غاية الاضطراب والإشكال، ولا يسعنا تعقيبها.

الثالث: قال في التذكرة: (لو مات أحد المتعاقدين في مجلس العقد احتمل سقوط الخيار، لأنه يسقط بمفارقة المكان فبمفارقة الدنيا أولي. وعدمه لانتفاء مفارقة الأبدان...) لكن ما ذكره في وجه السقوط من الأولوية ممنوع، كما في جامع المقاصد. كما أن ما ذكره في وجه عدم السقوط من انتفاء مفارقة الأبدان يشكل بأن المعيار ليس مفارقة الأبدان، بل مفارقة المتبايعين.

ومن هنا فقد يوجه بقاء الخيار تارة: بإطلاق ما تضمن بقاء الخيار ما لم يفترقا، لأن الموت ليس افتراقاً. وأخري: بالاستصحاب، كما في جامع المقاصد.

لكن من الظاهر أنه كما لا يصدق بالموت الافتراق لا يصدق الاجتماع، حتي بالمعني الذي سبق منهم، وهو كونهما علي الهيئة التي كانا عليها حين العقد، وقد ظهر مما سبق أن جعل الغاية الافتراق شاهد بكون موضوع الخيار هو الاجتماع بأي معني فرض، فمع تجدد حالة لا يصدق فيها الاجتماع ولا الافتراق يخرج المورد عن موضوع الخيار المذكور. ولا أقل من كونه خارجاً عن منصرف نصوصه.

وحينئذ يكون المرجع فيه عموم لزوم العقد. وبه يخرج عن استصحاب الخيار لو جري في نفسه، لإحراز بقاء الموضوع، لما هو المعلوم من حكومة الدليل علي الأصل.

نعم لو سقط أحدهما أو كلاهما من قابلية إعمال الخيار بجنون أو إغماء، مع بقاء حياته تعين بقاء الخيار ماداما لم يفترقا، ويتعين قيام الولي مقام صاحب الخيار في إعماله

ص: 197

(198)

ولو كان المباشر للعقد الوكيل كان الخيار للمالك (1).

---------------

أو إسقاطه حسب ما يراه صلاحاً. فإذا لم يعمل ولايته في أحد الأمرين حتي تفرقا ولو لا عن قصد لزم العقد. فلاحظ.

(1) قال في التذكرة: (لو اشتري الوكيل أو باع، أو تعاقد الوكيلان، فالأقرب تعلق الخيار بهما وبالموكلين في المجلس، وإلا فبالوكيلين. فلو مات الوكيل في المجلس والموكل غائب انتقل الخيار إليه، لأن ملكه أقوي من ملك الوارث).

وظاهره ملك الوكيل للخيار، وهو الظاهر من غير واحد. وكأنه لإطلاق ما دل علي ثبوته للمتايعين، لصدق البايع علي الوكيل بلحاظ صدور البيع منه.

والذي ينبغي أن يقال: لما كان المراد بالبيعين البايع والمشتري، فنسبة البيع والشراء للشخص تارة: يكون بلحاظ وقوع أحدهما له، لتعلقه، بملكه. وأخري: يكون بلحاظ صدور أحد طرفي العقد منه للإيجاب أو القبول.

فإن حملت نصوص المقام علي الأول كان الخيار حقاً ثابتاً للأصيل، فينتقل لوارثه لو بقي موضوع الخيار بعد موته، ولا حق فيه للوكيل ولا للولي. غاية الأمر أنهما قد يقومان مقام الأصيل في إعماله.

وإن حملت نصوص المقام علي الثاني كان الخيار حقاً ثابتاً لمتولي طرف العقد، سواءً كان أصيلاً أم ولياً أم وكيلاً. بل حتي الفضولي لو فرض تحقق الإجازة مع بقاء موضوع الخيار. ولا يقصر عن أحدهم إلا بدليل، ولو لدعوي انصراف الإطلاق عنه لو تمت. وحينئذ كما يستقل بإعماله لنفسه إذا كان أصيلاً، كذلك يستقل بأعماله لنفسه وإن لم يكن أصيلاً. لكن لا بلحاظ قيامه مقام الأصيل، فلا يجب عليه مراعاة مصلحة الأصيل ولا رضاه، بل له اعماله حتي مع نهيه. كما ينتقل لوارثه لو بقي موضع الخيار بعد موته، ولا دخل للأصيل حينئذ به.

ولا مجال للحمل علي الأمرين معاً، بحيث يثبت للكل، كما يظهر مما تقدم

ص: 198

من التذكرة وغير واحد منهم شيخنا الأعظم (قدس سره) لدعوي صدق البايع علي الكل، فيكون مقتضي الإطلاق العموم للجميع.

إذ فيه: أنه لا جامع بين الأمرين عرفاً، ليكون هو الموضوع له المراد في المقام، لظهور اختلاف منشأ انتزاع نسبة البيع للشخص بين الوجهين.

ولاسيما مع ظهور كون اللام في قولهم (عليه السلام): (البيعان بالخيار...) للعهد الجنسي، المستلزم لانحصار موضوع الخيار المذكور بشخصين. نعم لو كان التعبير هكذا: المتبايعون بالخيار، أو كل بايع يثبت له الخيار، أو: كل بيعين يثبت لهما الخيار، أمكن ثبوته لأكثر من أثنين. فلاحظ.

ومن هنا يدور الأمر بين الوجهين المقدمين. ولا ينبغي التأمل في قضاء المناسبات الارتكازية بالأول، لظهور أن الخيار عموماً يبتني علي الإرفاق بالأصيل وإعطاء الفرصة له ليختار الأصلح بنظره. ويؤكد ذلك أمور:

الأول: أنه من شؤون المعاملة التابعة للأصيل، والمنظور فيها صلاحه.

الثاني: أن دليله عرفاً مخصص لوجوب الوفاء بالعقد، مع وضوح أن المخاطب بوجوب الوفاء بالعقد هو الذي يتعلق العقد به. غاية الأمر أن صحته في حقه تستلزم صحته في كل أحد. وذلك يناسب كون الخيار حقاً لمن يخاطب بوجوب الوفاء.

الثالث: أن خيار الحيوان ثابت للأصيل، لأنه صاحب الحيوان، الذي تضمنته النصوص، ومنها ما يأتي، ولأنه هو المشتري الذي يكون تصرفه في الحيوان مسقطاً لخياره.

كما أن خيار المجلس قد سيق في جملة من النصوص في مساق خيار الحيوان، بنحو يظهر في كون خيار الحيوان مستثني من عموم لزوم العقد بالافتراق.

ففي صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: البيعان بالخيار حتي يفترقا. وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة

ص: 199

أيام)(1) ، ونحوه صحيح زرارة عن أبي جعفر (2)(عليه السلام).

وفي صحيح فضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قلت له: ما الشرط في غير الحيوان ؟ قال: البيعان بالخيار ما لم يفترقا...)(3). وفي معتبر علي بن أسباط عن أبي الحسن

الرضا (عليه السلام): (سمعته بقول: الخيار في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري وفي غير الحيوان أن يتفرقا. وأحداث السنة ترد بعد السنة...)(4).

فإذا كان خيار الحيوان ثابتاً للأصيل - كما سبق - تعين ثبوت خيار المجلس له أيضاً... إلي غير ذلك.

والحاصل: أنه لا ينبغي التأمل في قضاء المناسبات الارتكازية وغيرها بكون الخيار حقاً للأصيل. وسلطنة الوكيل والولي عليه - لو تمت - في طول سلطنة الأصيل عليه، لا لثبوته لهما في أنفسهما، فلا يحق لهما إعماله مع نهي الأصيل أو مخالفته لمصلحته.

نعم قد يشكل الأمر في خيار المجلس بأن الغاية له لما كانت هي افتراق المتابعين فإذا كان المراد من المتبايعين فيه الأصيل لزم كون المدار في ثبوته وارتفاعه علي اجتماع الأصيلين حين العقد وافتراقهما بعده، ولا اعتبار باجتماع المباشرين للعقد وافتراقهما إذا لم يكونا معاً أصيلين.

بل حيث كان منصرف الأدلة هو افتراق المباشرين للعقد بعد اجتماعهما، لزم اختصاصه بما إذا كان المباشران معاً أصيلين، فلا يثبت مع كون المباشر هما الوكيلين أو الوليين أو الولي والوكيل أو أحد الأصيلين مع أحدهما.

ويصعب جداً البناء علي ذلك، لشيوع تصدي الولي والوكيل للمعاملة،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب الخيار حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب الخيار حديث: 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب الخيار حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب العيوب حديث: 4.

ص: 200

وظهور مفروغية الأصحاب عن ثبوت الخيار حينئذ. بل لا يبعد قيام السيرة علي ذلك، خصوصاً في مثل المضارب، والذي يخلف صاحب المحل في محله والوكيل المفوض والولي، للغفلة عن الفرق بينهم وبين المالك.

لكن من الظاهر أن بناءهم علي ثبوت الخيار حينئذ لا يرجع إلي البناء علي استحقاق الوكيل والولي له استقلالاً، بحيث لهما إعماله علي خلاف مصلحة الأصيل أو مع نهيه لو كان كاملاً، بل لا بد من مراعاة مصلحته وعدم الخروج عن إذنه. وذلك يكشف عن أن سلطنتهما علي الخيار كسلطنتهما علي المعاملة في طول سلطنته، المناسب لكون الخيار حينئذ حقاً للأصيل. غاية الأمر أنهما يقومان مقامه في إعماله.

ومن هنا يتعين النظر في كيفية تنزيل النصوص والأدلة علي ما يناسب ذلك.

قال في جامع المقاصد: (والذي يجب أن يحقق في الحديث: أن البيعين إن أريد بهما العاقدان لأنفسهما لم يعم الوكيلين ولا الموكلين. وإن أريد بهما مالك المبيع ومالك الثمن لم يطابق أول الحديث آخره إلا إذا كان المالكان هما العاقدان، لأن قوله: ما لم يفترقا. لا يصدق في المالكين إذا كان العاقد غيرهما، لأنه يصير معناه حينئذ: البيعان بالخيار ما لم يفترق العاقدان، وهو غير ظاهر. إلا أن يدعي وجود القرينة الدالة علي مرجع هذا الضمير لسبق [عدم(1)] الاجتماع للعقد. أو يقال: الحديث دال علي حكم المالكين المتعاقدين، لأنه الغالب. وحكم ما إذا كان العاقد وكيلاً مستفاد من خارج).

هذا ولا يخفي أن الوجه الأول للتعميم ظاهر التكلف بنحو يكاد يقطع بعدم إرادته من النصوص. وأما الوجه الثاني فكان الأولي له (قدس سره) تتميمه بتوجيه اختصاص النصوص بالمالكين المتعاقدين، بأن الأصل في تصرف الإنسان تصرفه أصالة عن نفسه. وإلا فالغلبة لو تمت ليست بمرتبة تقتضي انصراف النصوص.

وكيف كان فقد عقب في الجواهر علي استفادة حكم الوكيل من الخارج بقوله:

********

(1) الظاهر زيادتها، كما يناسبه ما حكاه عنه في الجواهر.

ص: 201

(قد يصعب إقامة دليل معتبر علي ثبوته للوكيلين صالح لقطع أصالة اللزوم مع فرض عدم إرادتهما من لفظ الحديث).

لكن يمكن ابتناء الوكالة علي أن الوكيل كما يقوم مقام الموكل في إجراء عقد البيع يقوم مقامه في الاجتماع والافتراق اللذين يناط بهما الخيار وجوداً وعدماً، وفي إعمال حق الخيار، كما يقوم مقامه في إحراز سلامة المبيع أو بعضه علي النحو المتقدم عند الكلام اعتبار القدرة علي التسليم، وفي العلم بقدر العوضين بالمقدار المعتبر في صحة البيع، وفي القبض قبل الافتراق المعتبر في الصرف.

وحينئذ يتجه البناء علي ذلك ولو للجمع بين ما تقدم من الوجه في كون الخيار حقاً للأصيل والسيرة علي عدم اختصاصه بما إذا كان المتولي للمعاملة هو الأصيلين.

وعلي ذلك يكون إلحاق الوكيلين مستفاداً من مقتضي الوكالة، ولو بضميمة السيرة الارتكازية. وأظهر منه في ذلك الولي، حيث لا رأي ولا سلطنة ولا تصرف للمولي عليه معه.

وبذلك يتعين قصور ذلك عن الوكيل في خصوص إجراء صيغة العقد، حيث لا وجه لقيامه مقام الموكل في بقية شؤون المعاملة ومتعلقاتها. بل الظاهر انصراف البيع عنه، وصدقه عرفاً علي من تناط به المعاملة أصيلاً كان أو ولياً أو وكيلاً، فيكون المدار علي اجتماعه وافتراقه، كما يكون هو المتولي لإعمال الخيار لو أراد.

والحاصل: أنه لا ينبغي التأمل بعد النظر في النصوص والرجوع للمرتكزات والسيرة في عموم ثبوت الخيار لعقد الولي والوكيل الذي تناط به المعاملة، وفي كون الخيار ملكاً للأصل، وأنهما يقومان مقامه في تحقيق موضوعه وإعماله، من دون أن يكون حقاً لهما في قباله. وإنما الكلام في كيفية استفادته من النصوص وتوجيه دلالتها عليه. وهو غير مهم بعد ثبوت أصل الحكم. فلاحظ. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

ص: 202

فإن كان الوكيل وكيلاً في إجراء الصيغة فقط فليس له الفسخ عن المالك (1). ولو كان وكيلاً في تمام المعاملة وشؤونها كان له الفسخ عن المالك (2). والمدار علي اجتماع المباشرين وافتراقهما، لا المالكين (3). ولو فارقا المجلس مصطحبين بقي الخيار لهما حتي يفترقا (4). ولو كان الموجب والقابل واحداً - وكالة عن المالكين أو ولاية عليهما - ففي ثبوت الخيار إشكال، بل الأظهر العدم (5).

---------------

(1) كما يظهر مما ذكرنا. ويأتي تمام الكلام في ذلك.

(2) لأنه المتيقن مما تقدم في وجه قيام الوكيل مقام الأصل. ومنه يظهر أنه لابد من مراعاة مصلحة المالك ومتابعة أمره. ونظيره في جميع ذلك الولي.

(3) هذا ظاهر في الوليين والوكيلين اللذين تناط بهما المعاملة، إذ مع قيامهم مقام الأصيل في جميع شؤون المعاملة يتعين كون المدار في الاجتماع والافتراق عليهم، لا علي الأصيل. غاية الأمر أنه حيث تقدم أن الخيار حق للأصيل فلابد من البناء علي جواز إعماله له مع أهليته، كما هو الحال في الموكلين قبل افتراق الوكيلين.

أما الوكيلان في إجراء صيغة العقد فقط فبعد فرض قصور وكالتهما لا وجه لكون المدار علي اجتماعهما وافتراقهما، بحيث يجوز للأصيلين إعمال حق الخيار قبل افتراق الوكيلين المذكورين، بل يتعين كون المدار علي اجتماع الموكلين حينئذ وافتراقهما، كما ذكرناه آنفاً.

(4) لما سبق في أول الكلام في هذا الخيار من أن موضوعه ليس هو مجلس العقد، بل الاجتماع المقابل للافتراق.

(5) كما يظهر وجهه مما تقدم عند الكلام في تحديد الافتراق.

ص: 203

(204) (204)

(مسألة 2): هذا الخيار يختص بالبيع، ولا يجري في غيره من المعاوضات (1).

(مسألة 3): يسقط هذا الخيار باشتراط سقوطه في العقد (2).

---------------

(1) كما صرح به غير واحد. ويظهر من بعض المواضع من المبسوط وغيره المفروغية عن عدم جريانه في غير البيع، ونسبه في التذكرة لعلمائنا، وادعي في الغنية الإجماع عليه.

وهو المتعين بعد اختصاص النصوص به. والمرجع في غيره عموم اللزوم في العقد واستصحاب مضمونه، كما يظهر مما تقدم في أول هذا الفصل.

لكن في المبسوط: (وأما الوكالة والعارية والوديعة والقراض والجعالة فلا يمنع من دخول الخيارين فيها مانع) ومراده بالخيارين خيار المجلس وخيار الشرط.

وهو خال عن الوجه بعد ما سبق. بل لا يناسب ما سبق منه من اختصاص خيار المجلس بالبيع. ومن ثم حاول غير واحد تأويل كلامه وتوجيهه بما لا يسعنا إطالة الكلام فيه.

(2) بلا خلاف أجده فيه بل في الغنية الإجماع عليه. كذا في الجواهر. لعموم نفوذ الشرط المستفاد مما تضمن أن المسلمين أو المؤمنين عند شروطهم(1).

وقد يستشكل فيه بوجوه:

الأول: ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن ظاهر الكبري المذكورة لزوم العمل علي الشرط تكليفاً، نظير قولنا: المؤمن عند وعده. وهو إنما يتم في اشتراط الأعمال التي تكون تحت قدرة المكلف، ولا تشمل المقام، حيث يكون الشرط سقوط الخيار بنحو شرط النتيجة من دون أن يتوقف علي فعل المكلف، ولا يتعلق به.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الخيار، وج: 15 باب: 20، 40 من أبواب المهور، وج: 16 باب: 4، 11 من أبواب المكاتبة وغيرها.

ص: 204

وفيه: أن الكبري المذكورة لم تتضمن الحث علي تحقيق الشرط، ليختص بشرط الفعل، بل الالتزام بمقتضاه وتنفيذه عملاً، وهو كما يكون بفعل الأمر المشروط لو كان عملاً، كذلك يكون بترتيب أثره لو كان أمراً آخر، كما في المقام.

ولا مجال لقياسه بمثل قولنا: المؤمن عند وعده. فإن اختصاصه بالفعل ناشئ من اختصاص الوعد به، حيث لا يتعلق الوعد إلا بالأفعال، بخلاف الشرط، فإنه

- كالعقد - يتعلق بالأفعال وبالنتائج معاً.

ويشهد بما ذكرنا تطبيق الكبري المذكورة في النصوص علي شرط النتيجة. ففي صحيح علي بن رئاب عن أبي الحسن موسي (عليه السلام): (سئل وأنا حاضر عن رجل تزوج امرأة علي مائة دينار علي أن تخرج معه إلي بلاده، فإن لم تخرج معه فإن مهرها خمسون ديناراً إن أبت أن تخرج معه إلي بلاده. فقال: إن أراد أن يخرج بها إلي بلاد الشرك فلا شرط له عليها في ذلك. ولها مائة دينار التي أصدقها إياها. وإن أراد أن يخرج بها إلي بلاد المسلمين ودار الإسلام فله ما اشترط عليها. والمسلمون عند شروطهم...)(1) لظهور أن نقصان المهر وصيرورته خمسين ديناراً ليس من شرط الغعل.

وفي صحيح الحلبي: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في المكاتب: كان الناس مرة لا يشترطون ان عجز فهو ردّ في الرق، فهم اليوم يشترطون، والمسلمون عند شروطهم...)(2) ونحوه غيره.

وفي صحيح سليمان بن خالد عنه (عليه السلام): (سألته عن رجل كان له أب مملوك، وكان لأبيه امرأة مكاتبة قد أدت بعض ما عليها، فقال لها ابن العبد: هل لك أن أعينك في مكاتبتك حتي تؤدي ما عليك بشرط أن لا يكون لك الخيار علي أبي إذا أنت ملكت نفسك ؟ قالت نعم. فأعطاه في مكاتبتها علي أن لا يكون لها الخيار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 40 من أبواب المهور حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 4 من أبواب المكاتبة حديث: 5.

ص: 205

عليه بعد ذلك. قال: لا يكون لها الخيار. المسلمون عند شروطهم)(1).

علي أنه قد شاع في النصوص تنفيذ الشرط الذي ليس بفعل، ومن القريب جداً أن يكون نفوذه من صغريات الكبري المذكورة، لا أجنبياً عنها وبملاك آخر. ولا أقل من نهوض هذه النصوص بالقرينية علي عموم نفوذ الشرط لذلك لو سلم قصور الكبري المتقدمة عنه لفظاً. ومن هنا لا ينبغي الإشكال في العموم.

نعم النتائج التي يصح اشتراطها هي المتعلقة بما للمشروط عليه السلطنة عليه من أمواله وحقوقه، كاشتراط أن عليه كذا درهماً، أو نماء شجره، أو منفعة داره، أو انتفاء حق له كاشتراط عدم ثبوت النفقة للزوجة، أو ثبوت حق عليه، كالخيار أو نحو ذلك.

أما نتائج المعاملات - ككون الشيء مبيعاً، والمرأة زوجة أو مطلقة، أو نحو ذلك - فلا مجال له، بل هو تابع لتحقق سببه. لسوق دليل نفوذ الشروط لبيان كون الاشتراط سبباً لاستحقاق الأمر المشروط علي المشروط عليه، أو تخليه عنه، بعد الفراغ عن سلطنته عليه، لا لبيان سببية الشرط للمسببات في عرض أسبابها.

وبعبارة أخري: مبني الشرط علي استحقاق الشيء، أو التخلي عنه وإسقاطه، عملاً كان أو عيناً أو منفعة أو حقاً، لا علي جعل مضامين عقدية أو إيقاعية، بل هو تابع لإنشائها بشروطها المقررة.

الثاني: ما ذكره (قدس سره) أيضاً من أن الشرط المذكور مخالف للسنة، لإطلاق دليل ثبوت خيار المجلس في البيع، الشامل لصورة اشتراط عدمه، وهو موجب لبطلان الشطر - كمخالفة الكتاب - كما يستفاد من النصوص(2).

وفيه: أن الخيار بعد أن كان حقاً لصاحبه فإعمال السلطنة فيه باشتراط السقوط

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 11 من أبواب المكاتبة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 20 باب: 4 من أبواب المهور حديث: 6 وباب: 29 منها حديث: 1، وباب: 38 منها حديث: 1، وج: 16 باب: 15 من أبواب المكاتبة حديث: 1، وقد يستفاد من غيرها.

ص: 206

أو الثبوت لا ينافي أدلة التشريع الأولية، فكما لا يكون اشتراط الخيار في العقد اللازم منافياً للزومه، لا يكون اشتراط سقوط الخيار في العقد الخياري منافياً لثبوته. ونظير ذلك بيع العين مسلوبة المنفعة إلي أمد، وبيعها بشرط استحقاق منفعة عين أخري، كما لو اشتري الرضيع وحده بشرط أن ترضعه أمه أو تحضنه حتي يستقل. فإن كلا الأمرين لا ينافي حكم الشارع الأقدس، بتبعية العين للمنفعة في الملكية. والي هذا يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في المقام.

نعم لو كان الخيار حكمياً، كما في العقود الجائزة، اتجه عدم نفوذ اشتراط سقوطه. كما لا يصح اشتراط ثبوته في العقد اللازم، بأن يشترط صيرورة العقد جائزاً من دون أن يكون الخيار فيه حقاً للمشترط. لمنافاة الشرط في الموردين لحكم الشارع الأقدس.

ويناسب ذلك ما سبق في صحيح سليمان بن خالد في اشتراط عدم الخيار للمكاتبة إذا ملكت نفسها. وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الاقتصار فيه علي مورده، فهو لا يناسب ما تضمنه من تطبيق كبري نفوذ الشروط، لظهوره في أن الكبري المذكورة تنهض بجعل الشرط مسقطاً لحق الخيار، وأنه لا ينافي ثبوته لو لا الشرط.

ومثله ما ذكره أيضاً من حمله علي اشتراط أن لا تُعمِل حق الخيار بالفسخ، مع ثبوت الخيار لها شرعاً. فإنه مخالف لظاهر الصحيح جداً. وإنما يتجه لو كان التعبير هكذا: بشرط أن لا تختاري.

الثالث: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن الشرط إنما يجب الوفاء به إذا كان العقد المشروط فيه لازماً، دون ما إذا كان جائزاً. لأن الشرط لا يزيد علي أصل العقد، فكيف يكون الشرط في المقام موجباً للزوم العقد بعد أن كان جائزاً في نفسه، لفرض ثبوت الخيار فيه ؟!.

وفيه: أن عدم لزوم الشرط في ضمن العقد الجائز إنما هو بمعني جواز رفع اليد

ص: 207

عنه تبعاً لرفع اليد عن العقد بفسخه، لا بمعني جواز رفع اليد عنه مطلقاً ولو بقاء العقد وعدم فسخه. فمع فرض صحة العقد في نفسه في المقام يتعين نفوذ الشرط، فإذا نفذ واقتضي سقوط الخيار تعين لزوم العقد. وربما يرجع إلي ذلك ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في الجواب عن هذا الوجه. وإن كان الظاهر عدم رجوعه إليه. فلاحظ. وربما يأتي عند التعرض لاشتراط عدم الفسخ ما ينفع في المقام.

الرابع: إن إسقاط الخيار في ضمن العقد إسقاط لما لم يجب، لأن الخيار لا يحدث إلا بعد البيع، فإسقاطه فيه كإسقاطه قبله، وكأنه إلي هذا يرجع ما حكاه في التذكرة عن بعض الشافعية.

وقد أجاب عن ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) بانصراف دليل ثبوت الخيار عن صورة الشرط المذكور، فيكون الشرط موجباً لخروج العقد عن موضوع الخيار تخصصاً، لا أنه موجب لسقوط الخيار مع ثبوته اقتضاء، ليكون من إسقاط ما لم يجب.

لكنه كما تري لا يناسب استدلاله (قدس سره) علي نفوذ الشرط المذكور بعموم نفوذ الشرط، فإن الاحتياج في سقوط الخيار لعموم نفوذ الشرط فرع ثبوت الخيار اقتضاء، تبعاً لعموم دليله. كما هو أيضاً مقتضي تعبير كثير منهم عن الشرط المذكور باشتراط سقوط الخيار، لا باشتراط عدم ثبوته. ويأتي تمام الكلام في ذلك.

كما أن الانصراف في غاية المنع. وهل يمكن البناء علي ذلك في إطلاقات سائر الأحكام، كالميراث ووجوب نفقة الأرحام ؟! وما هو الضابط في الفرق ؟

فالأولي الجواب عن الوجه المذكور بأن الشرط المذكور لا يتضمن إسقاط الخيار، ليكون من إسقاط ما لم يجب، بل اشتراط سقوطه بنفسه من دون إسقاط له، فيكون مقتضي نفوذ الشرط هو سقوط الخيار في مرتبة متأخرة عن تمامية الشرط تبعاً لتمامية العقد، المستتبعة لثبوت الخيار اقتضاء. وبعبارة أخري: بعد أن كان مقتضي تمامية العقد ثبوت الخيار فالشرط يقتضي سقوطه في مرتبة متأخرة عن ذلك.

ص: 208

وبذلك يظهر الإشكال فيما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) في المقام، فإن - بعد أن منع من تحكيم عموم نفوذ الشرط للوجهين السابقين - ذكر أن الخيار بعد أن كان من الحقوق فكما يمكن إسقاطه بعد العقد وفعلية ثبوت الخيار بلا كلام، يمكن إسقاطه حين العقد معلقاً علي ثبوته به. ولا محذور في التعليق بعد انحصار الدليل علي مبطليته بالإجماع القاصر عن المقام، لمعروفية القول بسقوط الخيار بذلك، بل أدعي عليه الإجماع.

وجه الإشكال: أن المفروض في المقام ليس هو إسقاط الخيار لا منجزاً ولا معلقاً، بل اشتراط سقوطه، فإذا فرض قصور عموم نفوذ الشرط عن الشرط المذكور فما الوجه في صحته في المقام ؟

مع أن قصور الإجماع علي مبطلية التعليق في المقام لا ينفع في إثبات صحة الإسقاط المعلق بعد أن كان الإسقاط إيقاعاً لا دليل علي نفوذه. لانحصار عموم النفوذ بالعقود التي ليس الإسقاط منها قطعاً، وبالشروط المفروض في كلامه (قدس سره) قصور دليل نفوذها عن المقام، بل مقتضي الأصل عدم ترتب الأثر علي الإسقاط المعلق، وبقاء الخيار المسبب عن العقد بمقتضي إطلاق أدلته.

ولاسيما مع عموم معقد الإجماع علي مبطلية التعليق للمقام، لما سبق من أن مورد كلامهم في المقام هو اشتراط سقوط الخيار، لا إسقاطه معلقاً علي حصوله. فتأمل.

وقد تحصل من جميع ما تقدم أنه لا مانع من صحة الشرط المذكور بعد أن كان مقتضي عموم نفوذ الشروط صحته.

وبذلك يظهر صحة اشتراط سقوط الخيار، سواءً كان في نفس العقد أم في عقد آخر، كما لو باعه الكتاب واشترط عليه سقوط الخيار في بيع الدار الواقع قبل بيع الكتاب أو الذي يقع بعده. كل ذلك لعموم نفوذ الشروط بالتقريب المتقدم.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من عدم التزام الفقهاء بصحة اشتراط سقوط

ص: 209

(210) (210)

الخيار في بيع متأخر عن العقد الذي يقع فيه الشرط. فهو غير ظاهر المأخذ. بل مقتضي إطلاق كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) - بمقتضي النسخة المعروفة - صحته. فراجع.

بقي في المقام أمور:

الأول: أن شيخنا الأعظم (قدس سره) قال في بيان هذا الشرط: (أن يشترط عدم الخيار. وهذا هو مراد المشهور من اشتراط السقوط، فيقول: بعت بشرط أن لا يثبت بيننا خيار المجلس - كما مثل به في الخلاف والمبسوط والغنية والتذكرة - لأن المراد بالسقوط هنا عدم الثبوت لا الارتفاع).

ويناسب ذلك ما ذكره (قدس سره) من أن الإسقاط بعد العقد هو المسقط الحقيقي. وهو المتعين بناء علي ما سبق منه من انصراف إطلاق دليل ثبوت الخيار عن صورة اشتراط عدمه. لرجوعه إلي أن الشرط يوجب خروج العقد عن دليل ثبوت الخيار موضوعاً. لكن سبق المنع من ذلك.

وعليه فالخيار وإن كان حقاً لصاحبه فله السلطنة علي إعماله وإسقاطه، إلا أن ثبوته للمتبايعين في المقام حكم شرعي مستفاد من النصوص، لا سلطنة للمتبايعين عليه، ليكون موضوعاً للاشتراط. بل يكون اشتراط عدمه مخالفاً للسنة، نظير ما تقدم في الوجه الثاني من الإشكال. بخلاف سقوطه بعد ثبوته بالعقد، فإنه يكون تحت سلطنة صاحبه.

ومن ثم يتعين تنزيل التعبير باشتراط عدم الخيار في بعض كلماتهم علي اشتراط سقوطه، كما عبر به جماعة في بيان هذا المسقط.

غاية الأمر أن الترتب بين ثبوته بالعقد وسقوطه بالشرط ليس زمانياً، بل رتبياً لا غير، لأن موضوع السقوط المشروط هو الثبوت بالعقد، فبمجرد تمامية العقد يثبت الخيار ويسقط، نظير ملك أحد العمودين وانعتاقه علي المشتري. فلاحظ.

الثاني: أن الشرط إذا رجع إلي شرط الفعل - كشرط عدم الفسخ - فهل يقتضي

ص: 210

مجرد وجوب العمل بالشرط وحرمة مخالفته تكليفاً، نظير وجوب العمل بالقَسَم، كما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره)، أو يقتضي استحقاق الأمر المشروط للمشروط له علي المشروط عليه، فيجب علي المشروط عليه القيام بالشرط بملاك وجوب أداء الحق، وتحرم عليه مخالفته بملاك حرمة التعدي علي الحق.

وتظهر الثمرة بين الوجهين فيما لو خالف المشروط عليه مقتضي الشرط ففسخ العقد في مفروض الكلام، حيث يتعين ترتب الأثر علي الفسخ علي الأول، بناء علي ما هو التحقيق من أن النهي عن المعاملة لا يقتضي الفساد. وعدم ترتب الأثر عليه علي الثاني، لقصور سلطنة المشروط عليه عن مخالفة الشرط، لمنافاتها لحق المشروط له. نظير حق المرتهن الموجب لقصور سلطنة الراهن علي ماله.

ولا ينبغي التأمل في قضاء المرتكزات بالثاني. وذلك لأن قصد المتعاقدين استحقاق المشروط له الأمر المشروط علي المشروط عليه، كما هو مبني المعاملات عموماً، مع ظهور دليل نفوذ الشرط في إمضاء ذلك شرعاً - كظهور دليل نفوذ العقد في إمضاء مضمونه - لا في الإلزام بمضمون الشرط ابتداء، كالإلزام بالكفارة.

وهو المناسب لمثل قوله (عليه السلام) في صحيح علي بن رئاب: (فله ما اشترط عليها، والمسلمون عند شروطهم)(1). وقوله (عليه السلام): (من شرط لامرأته شرطاً فليف لها به، فإن المسلمين عند شروطهم...)(2). وقوله (عليه السلام) في معتبر منصور: (فليف للمرأة بشرطها، فإن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قال: المؤمنون عند شروطهم)(3) ، ونحوها غيرها. فإن نسبة الشرط والوفاء به للمشروط له ظاهرة في استحقاقه للشرط.

ولذا له إسقاطه، والمعاوضة عليه، ومطالبة المشروط عليه به. بل له إرغامه عليه ولو برفعه للحاكم، علي ما يأتي في المسألة الرابعة والستين عند الكلام في أحكام الشروط إن شاء الله تعالي.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 40 من أبواب المهور حديث: 2، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 40 من أبواب المهور حديث: 2، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 20 من أبواب المهور حديث: 4.

ص: 211

بخلاف ما لو كان نفوذ الشرط متمحضاً في التكليف، نظير ما لو أقسم علي أن يهدي لشخص شيئاً، فإن نفوذ القَسَم لا يقتضي شيئاً من ذلك. غاية الأمر أنه يجب المطالبة به بملاك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكون مشروطاً بشروطه، ويعمّ كل من تمت شروطه في حقه ولو كان شخصاً آخر غير من أقسم علي أن يهدي له.

ويزيد الأمر وضوحاً بناء علي ما سبق من عدم اختصاص دليل نفوذ الشرط بشرط الفعل، بل يعم شرط النتيجة في الجملة. حيث لا يتجه ذلك لو كان مفاد نفوذ الشرط محض والتكليف من دون أن يبتني علي الاستحقاق، لوضوح عدم قابلية النتائج للتكليف.

وبذلك يظهر الحال فيما لو كان الشرط هو إسقاطه الخيار، فإن لو امتنع من القيام به كان للمشروط له مطالبته به، وإرغامه عليه ولو برفعه للحاكم. وقد يلتزم بأن الحاكم يقوم مقامه فيه لو تعذر عليه إجباره علي القيام به.

ولو فسح حينئذ قبل إسقاط الخيار، فإن استبطن اشتراط إسقاط الخيار اشتراط عدم الفسخ كما هو الغالب تعين عدم ترتب الأثر علي الفسخ، لما تقدم. وإلا تعين نفوذ الفسخ.

هذا وقد يستشكل في اشتراط عدم فسخ العقد الجائز في متن العقد نفسه من وجهين:

الأول: ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في المسألة الثانية من كتاب المضاربة، حيث قال (قدس سره): (شرط عدم فسخ العقد يمتنع أن يكون موجباً للزوم العقد وامتناع فسخه، لأن لزوم عدم الفسخ يتوقف علي وجود العقد، فلا يتوقف وجود العقد عليه). ومرجع ذلك إلي أن لزوم العمل بالشرط لما كان منوطاً ببقاء مضمون العقد الذي وقع فيه الشرط، وعدم ارتفاعه بالفسخ، فلا يمكن أن يستند إليه بقاء المضمون المذكور، بحيث لا يمكن فسخه.

ويندفع بأن الذي يناط به نفوذ الشرط ولزوم العمل به هو ثبوت المضمون

ص: 212

العقدي في المرتبة السابقة علي نفوذ الشرط، والذي يستند إلي نفوذ الشرط ولزوم العمل به هو بقاء المضمون العقدي في المرتبة اللاحقة لنفوذ الشرط.

وبعبارة أخري: حدوث المضمون العقدي لا يتوقف علي نفوذ الشرط، بل يكفي فيه تمامية العقد، فإذا حدث المضمون العقدي ونفذ الشرط تبعاً له كان نفوذ الشرط دخيلاً في بقاء العقد في المرتبة اللاحقة لنفوذ الشرط. فلاحظ.

الثاني: ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) في المقام، وأشار إليه في حاشيته علي المسألة المذكورة من العروة الوثقي، من أن ارتباط الشرط بالعقد يبتني علي إناطة إنفاذ المشروط له العقد وعدم رجوعه عنه علي قيام المشروط له بالشرط. فإذا اشتري الثوب من صاحبه بشرط أن يخيطه له رجع ذلك إلي توقف جريان المشتري علي البيع وعدم رجوعه عنه علي الخياطة، وأنه إن لم يخط الثوب رجع عن التزامه بالبيع. وذلك إنما يتم في غير اشتراط عدم فسخ العقد نفسه، إذ مع فسخ المشروط عليه للعقد، لا يبقي موضوع لالتزام المشروط له بالعقد ورجوعه عنه، فلا معني للشرط المذكور.

وفيه: أن مرجع ذلك إلي أن اشتراط عدم الفسخ لغو من الكلام، وتهافت بنظر العرف والعقلاء، مع أنه ليس كذلك وجداناً. ولذا وقع الكلام في نفوده وعدمه عند الفقهاء. وذلك يكشف عن خلل فيما ذكره (قدس سره) وأنه كالشبهة في مقابل البديهة، لا يعول عليه حتي لو خفي وجه دفعه.

وحينئذ نقول: المراد بذلك إن كان هو إناطة البقاء علي الالتزام بالعقد ونفوذه بحصول الشرط لزم انفساح العقد بتخلف الشرط، مع وضوح عدم انفساخه بذلك. غاية الأمر أن للمشروط له الفسخ، كما له البقاء علي الالتزام بالعقد وعدم فسخه.

وإن كان المراد بذلك هو اشتراط الخيار بتخلفه فذلك في الحقيقة ليس اشتراطاً للعمل، بحيث يلزم الطرف الآخر بالقيام به، فإذا اشتري ثوباً واشترط علي البايع أنه إن لم يخطه كان له الخيار والرجوع بالبيع وفسخه، لم تكن الخياطة شرطاً علي البايع، ولم يجب عليه القيام بها. ولذا يصح اشتراط الخيار عند عدم تحقق العمل من غير البايع.

ص: 213

أما مفاد الشرط فهو جعل الأمر المشروط علي الأمر المشروط عليه، بنحو يؤدي إلي إلزامه به، نظير إلزام المشتري بالثمن والبايع بالمثمن، والأجير بالعمل والمستأجر بالأجرة ونحو ذلك. ولذا يقع الاشتراط في العقد الذي يعلم بعد مشروعية الفسخ فيه بتخلف الشرط.

وأما ترتب الخيار بتخلفه فهو ليس لتضمن الاشتراط ذلك، بل هو حكم عقلائي ارتكازي ناشئ من بناء العقلاء علي أن لزوم الوفاء بالعقد بتمام خصوصياته بنحو الارتباطية، بحيث لا يلزم الوفاء مع تخلف بعضها. ومن ثم كان خيار تخلف الشرط مبايناً لخيار الشرط وليس من أفراده.

وارتباط الشرط بالعقد ليس بلحاظ اشتراط الخيار في العقد بتخلفه، بل لمجرد كون الالتزام بكل من مضمون العقد ومضمون الشرط بنحو الارتباطية لا بنحو الانحلال. ويأتي في أوائل الكلام في خيار الشرط إن شاء الله تعالي ما ينفع في المقام.

ولعله لذا لم يتعرض في تقرير درسه لكتاب المضاربة لذلك، حيث قد يظهر من ذلك عدوله (قدس سره) عنه حين تدرسيه للكتاب المذكور.

الثالث: صرح غير واحد بأن الشرط المذكور لا يترتب عليه الأثر إلا إذا وقع في ضمن العقد دون ما إذا وقع قبله، ونسب ذلك للمشهور. لاختصاص الشرط بالالتزام ضمن الالتزام علي ما تقدم منا توضيحه في أوائل الكلام في المكاسب المحرمة عند التعرض لأدلة نفوذ العقد، والالتزام قبل العقد التزام مجرد لا دليل علي نفوذه، فضلاً عن لزومه.

لكن في الخلاف وجواهر القاضي نفوذ الشرط المذكور وسقوط الخيار في البيع الواقع بعده، لدعوي عموم دليل نفوذ الشرط له.

فإن كان مرادهما ما إذا لم يبتن العقد علي الشرط المذكور أشكل بما ذكرنا من عدم صدق الشرط علي الالتزام المذكور.

ص: 214

(215) (215)

كما يسقط بإسقاطه بعد العقد (1).

---------------

وإن كان مرادهما ما إذا ابتني العقد علي الشرط المذكور فالظاهر تماميته ونفوذ الشرط، كما في المختلف وظاهر الجواهر، لا لصدق الشرط علي الاشتراط السابق، بل لصدقه علي الشرط الضمني الذي يبتني عليه العقد.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره)، من أن الشرط إلزام مستقل لا يرتبط بالعقد إلا بجعل المتكلم، فإن أراد به جعله لفظاً فهو ممنوع، وإن أراد به جعله قصداً فهو حاصل. ولا أقل من جريان السيرة الارتكازية علي ذلك وقضائها به.

نعم ورد في بعض النصوص أن الشرط بعد النكاح، ولا يعتد به قبله(1). وربما يستظهر منه عدم الاكتفاء بالشرط السابق وإن ابتني عليه العقد.

لكن النكاح يمتاز عن أكثر العقود بأنه لابد فيه من اللفظ، ولا يكتفي فيه بإبراز الالتزام بوجه آخر كالمعاطاة، وربما يكون لهذه الخصوصية دخل في لزوم التلفظ بالشرط عند العقد، ولا يكتفي بابتناء العقد عليه بحسب القصد. ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا.

(1) يظهر من تصريحهم بسقوط هذا الخيار باشتراط سقوطه مفروغيتهم عن سقوطه بالإسقاط ومن ثم استظهر شيخنا الأعظم (قدس سره) عدم الخلاف فيه. بل يظهر ذلك حتي ممن منع من العامة من صحة الشرط المذكور معللاً بأنه إسقاط لما لم يجب، حيث يظهر منه المفروغية عن قابليته للإسقاط بعد أن يتم العقد ويثبت الخيار.

وقد استدل علي ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) بفحوي ما دل علي سقوط الخيار بالتصرف، معللاً بأنه رضا منه. ففي صحيح علي بن رئاب عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: الشرط في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري اشترط أم لم يشترط. فإن أحدث المشتري

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 19 من أبواب المتعة حديث: 4، وباب: 32 منها حديث: 2، وج: 15 باب: 39 من أبواب المهور حديث: 2.

ص: 215

حدثاً قبل الثلاثة أيام فذلك رضا منه، فلا شرط...)(1). وكأنه بلحاظ أن الإسقاط يتضمن الرضا وزيادة.

لكن ذلك إنما ورد في خيار الحيوان، كما تضمنت بعض النصوص سقوط خيار الشرط بالرضا(2) ، ولم يرد ذلك في خيار المجلس.

ودعوي: أن مقتضي عموم التعليل سقوط جميع الخيارات بذلك. مدفوعة بأن التعليل إنما يقتضي العموم من حيثية سبب السقوط، وأنه كلما يكشف عن الرضا وإن لم يكن أمراً غير التصرف، لا من حيثية الخيار الساقط بنحو يعم غير خيار الحيوان.

وبعبارة أخري: التعليل إنما يقتضي عموم الحكم المعلل، لا العموم لحكم آخر، فإذا قيل: لا تفطر بالرمان لأنه حامض. دلّ علي النهي عن الإفطار بكل حامض، لا علي عموم النهي لغير الإفطار من أنحاء الأكل. والحكم المعلل في المقام هو سقوط خيار الحيوان، فلا يعم التعليل سقوط غيره.

ومثل ذلك في الإشكال ما يظهر منه (قدس سره) في مسألة سقوط خيار المجلس بالتصرف من أن مقتضي عموم قوله (عليه السلام) في الصحيح المتقدم: (فلا شرط) هو نفي كل خيار، لا خصوص خيار الحيوان: إذ فيه: أنه لا مجال لفهم العموم بعد تفريع مسقطية التصرف علي الحكم بثبوت خيار الحيوان. ولعله لذا أمر (قدس سره) بالتأمل.

نعم سبق عند الكلام في مسقطية الافتراق عن إكراه قوله (عليه السلام) في صحيح الفضيل: (فإذا افتراقا فلا خيار بعد الرضا منهما)(3). لكن تقدم عدم إمكان البناء علي كون المسقط هو الرضا المقارن للافتراق، دون الافتراق بنفسه، لينفع فيما نحن فيه.

فالعمدة في المقام هو ارتكاز أن الخيار في المقام من سنخ الحق، والحق قابل للإسقاط. ولعل ذلك هو المنشأ لظهور مفروغية الأصحاب من ذلك، كما سبق.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الخيار حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5، 12 من أبواب الخيار.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب الخيار حديث: 3.

ص: 216

(217) (217)

(الثاني): خيار الحيوان (1).

(مسألة 4): كل من اشتري حيواناً (2)

---------------

علي أن من القريب إلغاء خصوصية خياري الحيوان والشرط في السقوط بالرضا، كما يظهر من الأصحاب، وإنما لم يتعرض في النصوص لذلك في خيار المجلس لقصر زمانه غالباً. لأن الرضا ارتكازاً من سنخ الإعمال للخيار. ولاسيما مع ظهور صحيح علي بن رئاب - الوارد في خيار الحيوان والمتقدم عند الكلام في تعريف الخيار - في الإشارة إلي قضية ارتكازية لا خصوصية لخيار الحيوان فيها.

ويترتب علي ذلك سقوط خيار المجلس بكل ما يدل علي الرضا بالمبيع، والبناء علي عدم الرجوع به من تصرف أو غيره، ولو مثل عرضه للبيع، كما تضمنته بعض النصوص المتقدمة عند الكلام في تعريف الخيار. ولعله لذا صرح بسقوط الخيار المذكور بالتصرف في الجملة في المبسوط وغيره.

أما لو لم يتم ذلك فلا ينبغي الإشكال في سقوط الخيار المذكور بالتصرف الموجب لاختلاف الرغبة في المبيع، كلبس الجورب، بل حتي مثل الإخلال بتعليبه، بحيث لا يعود لحاله. لانصراف أدلة الخيار عنه. مع قضاء سيرة العرف الارتكازية بسقوط الخيار بذلك.

وإن شئت قلت: منصرف نصوص الخيار مراعاة نظر المتبايعين، واستكمال التزامهما وتوثقهما من رجحانه، لا إسقاط حرمة المال. فلاحظ.

(1) قال في التذكرة: (عند علمائنا أجمع خلافاً للجمهور كافة). وقال في الجواهر: (هو في الجملة إجماعي، بل ضروري عند علماء المذهب).

(2) لا ينبغي الإشكال في أن موضوع هذا الخيار هو الحيوان الواجد للحياة فعلاً، دون الميت منه وإن كان مذكي، لعدم صدق الحيوان عليه. إلا أنه يحسن التعرض لأمرين ذكرهما شيخنا الأعظم (قدس سره).

ص: 217

(218)

الأول: قال (قدس سره): (وظاهر النص والفتوي العموم لكل ذي حياة، فيشمل، مثل الجراد والزنبور والسمك والعلق. ولا يبعد اختصاصه بالحيوان المقصود حياته في الجملة، فمثل السمك المخرج من الماء والجراد المحرز في الإناء وشبه ذلك خارج، لأنه لا يباع من حيث إنه حيوان، بل من حيث إنه لحم مثلاً. ويشكل فيما صار كذلك لعارض، كالصيد المشرف علي الموت بإصابة السهم أو بجرح الكلب المعلم).

والعمدة في وجه ذلك هو انصراف شراء الحيوان الذي هو موضوع هذا الخيار في النصوص لشرائه بما هو حيوان لا بما هو لحم لا غرض في بقاء حياته. لما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن ذلك هو مقتضي مناسبة الحكم والموضوع.

ولاسيما مع مناسبته لما تضمنته النصوص من أن الحيوان لو مات في مدة الخيار كان من مال البايع(1). لأن المنساق منه تعلق غرض المشتري ببقاء حياته.

ولا أقل من عدم وضوح عموم النصوص لذلك، فيكون المرجع عمومات اللزوم. فلا وجه لما في الجواهر من استظهار عدم اعتبار استقرار الحياة في ثبوت الخيار.

وبذلك يظهر عدم الوجه في استشكال شيخنا الأعظم (قدس سره) فيما إذا كان ذلك لعارض. بل هل يمكن البناء علي أنه لو أدرك المشتري ذكاته إلا أنه لم يذكه لتعذر ذلك عليه أن يتلف من مال البايع ؟!.

علي أنه لم يتضح الفرق بين مثل السمك المخرج من الماء والصيد المشرف علي الموت، فإن كلاً منهما قد صار كذلك لعارض.

هذا وقد قال (قدس سره) بعد ذلك: (وعلي كل حال فلا يعدّ زهاق روحه تلفاً من البايع قبل القبض أو زمن الخيار).

فإن أراد به زهاق روحه بنحو لا يحرم لحمه، كما لو لم يدرك ذكاته، فهو ليس

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الخيار.

ص: 218

(219)

تلفاً لا من البايع ولا من المشتري، بل ولا عيباً. لعدم نقص قيمته بذلك.

وإن أراد به زهاق روحه بنحو يحرم لحمه، لإدراكه لذكاته، إلا أنه لم يبادر لتذكيته لعجزه، فالجزم بعدم ضمان البايع له لا يناسب التوقف في ثبوت الخيار فيه بعد إطلاق ما دل علي أن تلف الحيوان في مدة الخيار من مال البايع. فلاحظ.

هذا وربما يستشكل في ثبوت الخيار حتي في مستقر الحياة فيما لو ابتني البيع علي التعجيل بذبح الحيوان، كالهدي الذي يشتري للذبح في ساعته، والدجاج الذي يشتري ليؤكل في يومه، ونحو ذلك مما يبتني فيه البيع علي عدم الغرض ببقاء الحيوان في الأيام الثلاثة. لابتناء الخيار علي استحقاق صاحب الحيوان سلامته في مدة الثلاثة، فمع فرض الخروج عن ذلك، وعدم تعلق الغرض به، يخرج عن منصرف الأدلة. وإن كان الأمر محتاجاً لمزيد من التأمل.

ودعوي: أن الأمر في جميع ذلك يرجع في الحقيقة إلي اشتراط سقوط الخيار ضمناً وإن كان مستحقاً بمقتضي إطلاق الأدلة. لا تخلو عن إشكال. ولاسيما أن المتبايعين كثيراً ما لا يعلمان بثبوت الخيار ذاتاً، ليكون سقوطه مشترطاً ضمناً. فلاحظ.

الثاني: هل يختص هذا الخيار ببيع المعين، أو يعم بيع الكلي ؟. قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (لم أجد مصرحاً بأحد الأمرين. نعم يظهر من بعض المعاصرين قدس سره الأول. ولعله الأقوي).

وكأن وجهه انصراف نصوص المقام بلحاظ الحكمة والأحكام المصرح بها في بعض النصوص، كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (عهدة البيع في الرقيق ثلاثة أيام إن كان بها حبل أو برص أو نحو هذا. وعهدته سنة من الجنون، فما بعد السنة فليس بشيء)(1) ، وما تضمن سقوط الخيار بالتصرف، وضمان البايع درك الحيوان في مدة الخيار. لظهور النصوص المذكورة في فرض كون المبيع شخصياً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب الخيار حديث: 7.

ص: 219

إنساناً كان أو غيره (1)

---------------

وبعبارة أخري: النصوص المذكورة تناسب انصراف نصوص خيار الحيوان للمبيع الشخصي. وليس المدعي أنها مخصصة لنصوص الخيار المذكور، ليمنع من نهوضها بالتخصيص، لإمكان اختصاص الأحكام التي تضمنتها ببعض أفراد موضوع الخيار مع عموم موضوعه لبيع الكلي تبعاً لعموم نصوصه.

ودعوي: جريان ذلك في بيع الكلي بلحاظ الفرد الذي يسلم بدلاً عنه، حيث يصدق عرفاً أنه مبيع. مدفوعة بأن صدق المبيع عليه تسامحي لا حقيقي. ولذا يجب إبداله لو كان معيباً أو مخالفاً للوصف، ولا يجري فيه خيار العيب وخيار تخلف الوصف.

مع أن مبدأ خيار الحيوان فيه إن كان من حين البيع فقد ينتهي أمده قبل التسليم، وتقصر عنه النصوص المذكورة. وإن كان من حين القبض فهو خلاف ظاهر نصوص خيار الحيوان.

وبذلك يظهر أنه لو بني علي ثبوت خيار الحيوان في بيع الكلي فمبدؤه من حين البيع لا من حين القبض، ولا من حين استحقاق القبض في بيع السلف. وبذلك يظهر الإشكال في كلمات بعض الأعاظم وبعض مشايخنا (قدس سرهما) في المقام. فراجع.

هذا ويأتي في المسألة التاسعة والثلاثين في فروع خيار التأخير ما ينفع في المقام.

(1) بلا إشكال ولا خلاف ظاهر. لإطلاق وعموم كثير من النصوص، وصراحة جملة منها. ويأتي بعضها.

نعم في موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في رجل اشتري جارية بثمن مسمي، ثم افترقا. قال: وجب البيع. وليس له أن يطأها وهي عند صاحبها حتي يقبضها، ويعلم صاحبها...)(1).

********

(1) الكافي ج: 5 ص 474 باب استبراء الأمة حديث: 10. وروي أكثره في وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب الخيار حديث: 5.

ص: 220

(221)

ثبت له الخيار ثلاثة أيام (1)

---------------

لكن من القريب حمله علي بيان مجرد صحة البيع، وملكية المشتري للجارية من أجل التمهيد لحكم وطئها. ومجرد ذكر الافتراق في كلام السائل لا ينافي ذلك، ولا يلزم بحمله علي بيان لزوم البيع.

ولا أقل من لزوم حمله علي ما ذكرنا جمعاً مع النصوص الكثيرة المعول عليها عندهم. ولعله لذا لم يتعرض الفقهاء - فيما تيسر لي من الفحص - للحديث وللكلام فيه.

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب المدعي عليه الإجماع في الانتصار والخلاف والسرائر وكشف الرموز والتذكرة والمختلف والتنقيح وعن غيرها.

والنصوص به مستفيضة، منها صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): (سمعته يقول: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): البيعان بالخيار حتي يفترقا، وصاحب الحيوان ثلاثة أيام...)(1) ونحو غيره.

وفي الغنية وعن الحلبي أن مدة خيار الأمة مدة استبرائها، بل في الأول دعوي الإجماع عليه. وقد ينسب ذلك للمقنعة والنهاية والمراسم، للحكم فيها بأنها إذا هلكت في المدة المذكورة كانت من مال البايع. بل في الأخيرين أن نفقتها في المدة المذكورة عليه أيضاً.

لكن ذلك لا يناسب إطلاقهم كالأصحاب أن الخيار في الحيوان ثلاثة أيام. فلابد من عدم ابتناء ذلك عندهم علي استمرار الخيار، بل علي أنهما حكمان تعبديان لأدلة خاصة وإن خفيت علينا، وينحصر الخلاف بالأولين.

وكيف كان فلا يظهر وجه لاستمرار الخيار في الأمة مدة الاستبراء بعد عموم وإطلاق نصوص خيار الحيوان، بل صراحة بعضها في العموم للأمة، كصحيح علي بن رئاب عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: الشرط في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري اشترط أم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب الخيار حديث: 6.

ص: 221

(222)

مبدؤها زمان العقد (1)

---------------

لم يشترط. فإن أحدث المشتري فيما اشتري حدثاً قبل الثلاثة الأيام فذلك رضاً منه فلا شرط له. قيل له: وما الحدث ؟ قال: إن لامس أو قبل أو نظر منها إلي ما كان يحرم عليه قبل الشراء)(1). وصحيحه الآخر المروي في قرب الإسناد: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام)

عن رجل اشتري جارية لمن الخيار للمشتري أو للبايع أو لهما كلاهما؟ فقال: الخيار لمن اشتري ثلاثة أيام نظرة، فإذا مضت ثلاثة أيام فقد وجب الشراء...)(2).

(1) كما هو المنساق من إطلاق الأصحاب والمصرح به في كلام جماعة منهم. وفي مجمع البرهان أنه المشهور. وهو المنساق من النصوص، خصوصاً ما اقتصر فيه علي خيار الحيوان كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: في الحيوان كله شرط ثلاثة أيام للمشتري، وهو بالخيار فيها إن شرط أن لم يشترط). إذ مع عدم ذكر المبدأ فيه يظهر منه أن المبدأ تحقق البيع وصدق المشتري وصاحب الحيوان.

كما أن ما تضمن منها سوقه في سياق خيار المجلس، يقوي ظهوره في أن الاختلاف بين الخيارين في المنتهي دون المبدأ. واحتمال الاعتماد في بيان مبدأ خيار الحيوان علي ذكر الافتراق في خيار المجلس بعيد جداً.

ولاسيما في معتبر علي بن أسباط عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): (سمعته يقول: الخيار في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري، وفي غير الحيوان أن يفترقا...)(3) إذ مع تقديم خيار الحيوان في الذكر لا مجال لاحتمال الاعتماد في بيان مبدئه علي ما تضمنته بعد ذلك من انتهاء خيار المجلس بالافتراق.

ومن ذلك يظهر ضعف ما في الغنية من إطلاق أن مبدأ الخيار من حين التفرق. وذكر غير واحد أن ذلك هو اللازم من استدلال الشيخ وابن إدريس في المبسوط

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الخيار حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب الخيار حديث: 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب الخيار حديث: 5.

ص: 222

والخلاف والسرائر لكون مبدأ خيار الشرط هو التفرق. قال في المبسوط: (والأولي أن نقول أن يثبت من حين التفرق، لأن الخيار يدخل إذا ثبت العقد، والعقد لم يثبت قبل التفرق. فإن شرطاً أن يكون من حين العقد صح ذلك. للخبر في جواز الشرط) وقريب منه في الخلاف والسرائر.

لكن حيث صرحا بجواز اشتراط كون مبدئه من حين العقد، فلا يبعد كون الاستدلال المذكور راجعاً إلي تشخيص مقتضي إطلاق الاشتراط إثباتاً، لا لبيان امتناع اجتماع الخيارين ثبوتاً، ليناسب العموم لخيار الحيوان، فيكون مرجعه إلي أنه حيث لا يحتاج لخيار الشرط مع ثبوت الخيار بنفس العقد فظاهر اشتراط الخيار هو جعله عند الحاجة إليه بانتهاء خيار المجلس وهذا لا يجري في خيار الحيوان الثابت بجعل الشارع، فإنه تابع لظاهر دليله، وقد سبق ظهوره في أن مبدأه حين العقد كخيار المجلس. ولا محذور في اجتماع أكثر من خيار في وقت واحد، تبعاً لتحقق موضوعاتها. بل الظاهر أن عبارة الغنية لا تأبي الاختصاص بخيار الشرط، كما يظهر بملاحظتها.

ومن هنا لا مجال لنسبة كون مبدأ خيار الحيوان من حين التفرق للشيخ وابن إدريس بعد أن كان مقتضي إطلاق المبسوط والخلاف الثلاثة في الحيوان أن مبدأها من حين العقد. بل صرح في السرائر بأنه يثبت للمشتري في الحيوان بمجرد العقد الخياران خيار المجلس وخيار الحيوان.

وكيف كان فقد تعرض شيخنا الأعظم (قدس سره) للاستدلال لكون مبدأ خيار الحيوان هو التفرق باختلاف حكم الخيارين، لأن تلف الحيوان في زمان خياره من البايع، والتلف في زمان خيار المجلس من المشتري.

وأشار إلي دفعه بأن ذلك لا يمنع من اجتماع الخيارين. غاية الأمر أنه لابد من استثناء الحكم المذكور عند اجتماع الخيارين من عموم حكم أحدهما.

وقد ذكر (قدس سره) أن ما تضمن أن تلف الحيوان في زمان خياره من البايع محمول علي الغالب من كونه بعد المجلس. لكنه خروج عن عموم دليله من دون وجه، فإن

ص: 223

وإذا كان العقد في أثناء النهار لفق المنكسر من اليوم الرابع (1) والليلتان المتوسطتان داخلتان في مدة الخيار (2). وكذا الليلة الثالثة في صورة تلفيق

---------------

التلف في زمن خيار المجلس من مال المشتري لم يتضمنه دليل خاص، ليعارض الدليل المذكور، بل هو مقتضي القاعدة، والمفروض الخروج عنها في الحيوان بالدليل المذكور، فيتعين العمل به بعمومه، كما جري عليه بعض مشايخنا (قدس سره).

والحاصل: أنه لا مخرج عما يظهر من نصوص خيار الحيوان من كون مبدئه زمان العقد، دون التفرق.

(1) كما صرح بذلك غير واحد. وذلك لأنه بعد أن كان ظاهر اليوم هو النهار المقابل لليل فاللازم تمامية الأيام الثلاثة، عملاً بظاهر النصوص. والاكتفاء في اليوم الأول بالناقص يحتاج إلي دليل، كما ورد نظيره في أقراء عدة الطلاق، وهو مفقود في المقام.

ويكتفي في تمامية اليوم بالتلفيق، كما هو المفهوم عرفاً في مقام التحديد في سائر الموارد. بخلاف التوصيف. مثلاً: إذا أريد توصيف الأيام أو الشهور بأنها حارة أو باردة أو مريحة ومتعبة، فلابد من اتصافها كاملاً بذلك، ولا يكفي التلفيق. وإذا أريد تحديد الحر أو البرد أو الراحة أو التعب كفي التلفيق. ومنه المقام، كما هو ظاهر.

وأما احتمال التلفيق من الليلة الثالثة بقدر ما نقص من اليوم فلا مجال له مع التحديد بالأيام. نعم لو كان التحديد بمقدار الأيام الثلاثة، لا بنفس الأيام الثلاثة، اتجه التلفيق من الليل. كما يتجه حينئذ البناء علي أنه لو وقع البيع ليلاً ينقص من اليوم بقدره لكنه خلاف ظاهر النصوص، بل المقطوع منها. كيف ولازمه الاكتفاء بيوم وليلتين، أو ليلة ويومين، أو نحو ذلك مما يقطع ببطلانه.

(2) كما صرح به غير واحد، ونفي الإشكال فيه شيخنا الأعظم (قدس سره). لا لأن المراد من اليوم ما يعم الليل، كما في قولنا: الشهر ثلاثون يوماً والأسبوع سبعة أيام.

ص: 224

(225)

المنكسر (1). وإذا لم يفترق المتبايعان حتي مضت ثلاثة أيام سقط خيار الحيوان وبقي خيار المجلس (2).

---------------

فإن ذلك مخالف لمفهوم اليوم عرفاً، ويحتاج إلي قرينة خاصة مفقودة في المقام. بل لمفروغية الأصحاب، تبعاً للمنصرف من أكثر النصوص، من وحدة الخيار وابتنائه علي الاستمرار. خصوصاً قوله (عليه السلام) في صحيح علي بن رئاب: (فإذا مضت الثلاثة أيام فقد وجب الشراء)(1). فإن مقتضي مفهوم الشرط فيه عدم وجوب البيع ولزومه، واستمرار الخيار، حتي تمضي الأيام الثلاثة.

وبذلك يظهر عدم دخول الليلة الثالثة فيما لو دخل اليوم وهما متبايعان، لتمامية الأيام الثلاثة قبلها، وعدم توقف وحدة الخيار واستمراره عليها. نعم لو كان المراد من اليوم ما يعم الليل تعين دخولها. لكن عرفت المنع من ذلك.

قال في مفتاح الكرامة: (والمراد بالأيام الثلاثة ما كانت مع الليالي الثلاثة [كذا] لدخول الليلتين أصالة، فتدخل الثالثة، وإلا لاختلفت مفردات الجمع في استعمال واحد).

ويظهر اندفاعه مما سبق من عدم دخول الليلتين المتوسطتين بالأصل، بل لتوقف استمرار الخيار عليها، وهو غير حاصل في الليلة الثالثة.

(1) لعين ما سبق في الليلتين المتوسطتين. وكذا الليلة السابقة علي الأيام الثلاثة لو وقع العقد ليلاً، لما سبق من ظهور النصوص في أن مبدأ الخيار زمان العقد.

(2) كما يظهر من الجواهر ناسباً له لظهور الفتاوي. والعمدة فيه إطلاق نصوص خيار المجلس. كقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) في صحيح زرارة: (البيعان بالخيار حتي يفترقا...)(2) وغيره.

ودعوي: ظهور بعض نصوص خيار الحيوان في استثنائه من عموم خيار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب الخيار حديث: 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب الخيار حديث: 2.

ص: 225

المجلس، كقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) في صحيح زرارة: (البيعان بالخيار حتي يفترقا، وصاحب الحيوان ثلاث...)(1). مدفوعة: بأن الاستثناء - لو تم - إنما هو في عدم انتهاء الخيار بالتفرق، من دون أن ينافي بقاءه مع عدم التفرق.

نعم قد يظهر تباين موضوع الخيارين من مثل صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (المتبايعان بالخيار ثلاثة أيام في الحيوان، وفيما سوي ذلك من بيع حتي يفترقا)(2). وقريب منه في ذلك معتبر علي بن أسباط عن أبي الحسن الرضا (3)(عليه السلام).

لكن من القريب حمله علي بيان مجرد ثبوت خيار المجلس في غير الحيوان، لا علي نفيه في الحيوان، جمعاً مع الإطلاقات المشار إليها. ولاسيما بلحاظ صحيح فضيل عنه (عليه السلام): (قلت له: ما الشرط في الحيوان ؟ فقال: إلي ثلاثة أيام للمشتري. قلت: فما الشرط في غير الحيوان ؟ قال: البيعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما)(4).

فإن العدول عن بيان ثبوت خيار المجلس في غير الحيوان إلي بيان كبري خيار المجلس، بنحو يشمل الحيوان وغيره، موجب لقوة ظهور الإطلاق في العموم، وظهور الصحيح في أن الحيوان يختص بخيار زائد علي خيار المجلس، من دون أن يقصر عنه الخيار المذكور. وذلك هو المنساق من مجموع النصوص وفتاوي الأصحاب، والمفهوم منها عرفاً، كما سبق من الجواهر.

كيف ولازم البناء علي قصور خيار المجلس عن بيع الحيوان عدم ثبوت الخيار في بيع الحيوان لغير صاحبه أصلاً بناء علي ما يأتي من قصور خيار الحيوان عنه. وهو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب الخيار حديث: 6، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب الخيار حديث: 6، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب الخيار حديث: 5.

(4) الكافي ج: 5 ص: 170 باب الشرط والخيار في البيع حديث: 6. وأورد في وسائل الشيعة ج: 12 صدره بتصرف في باب: 3 من أبواب الخيار حديث: 5 وذيله في باب: 1 من الأبواب المذكورة حديث: 3.

ص: 226

(227)

(مسألة 5): يسقط هذا الخيار باشتراط سقوطه في متن العقد (1). كما يسقط بإسقاطه بعده (2)، وبالتصرف في الحيوان (3) تصرفاً يدل علي

---------------

مما تأباه المرتكزات الفقهية جداً.

(1) بلا إشكال ولا خلاف ظاهر بل إجماعاً، كما في التذكرة، ونسبه في الحدائق للأصحاب. لعين ما تقدم في خيار المجلس.

قال في مفتاح الكرامة: (وكذا يصح اشتراط سقوط بعضه، فيسقط ما شرط سقوطه يوماً أو أكثر أو أقل). وقال شيخنا الأعظم (قدس سره): (ولا بأس به).

وكأنه يبتني علي انحلال الخيار المذكور إلي خيارات متعددة بعدد أجزاء زمانه، بحيث يكون كل منها حقاً قابلاً للإسقاط، فيصح اشتراط سقوطه، كما صرح بذلك بعض مشايخنا (قدس سره).

لكنه لا يخلو عن إشكال أو منع. بل إسقاط خصوص الأسبق مع بقاء المتأخر، أو المتوسط مع بقاء الطرفين، لا يخلو عن غرابة.

نعم لا إشكال في جواز إسقاطه بعد مضي زمان منه، كإسقاطه في اليوم الثاني. لكنه لا يرجع إلي إسقاط بعض الخيار، بل إلي إسقاط تمام الحق الباقي، فيجوز اشتراط سقوطه كذلك. وكذا الحال في اشتراط إسقاطه بنحو شرط الفعل.

أما اشتراط عدم إعمال حق الخيار، أو عدم الفسخ، فيجوز مطلقاً ولو في خصوص زمان خاص منه، كاليوم الثاني منه. لعموم أدلة نفوذ الشروط من دون محذور، إذ هو شرط فعل، ولا يرجع إلي تبعيض الحق، كما لعله ظاهر.

(2) بلا إشكال ظاهر. ونسبه للأصحاب في الحدائق. والوجه فيه ما سبق في أول الكلام في الخيار من كونه حقاً، فيسقط بالإسقاط. والكلام في إسقاط بعضه يظهر مما سبق في اشتراط سقوطه.

(3) كما صرح بذلك جماعة. بل بلا خلاف، كما في الغنية، وإجماعاً، كما في التذكرة

ص: 227

إمضاء العقد واختيار عدم الفسخ (1).

---------------

وجامع المقاصد، ونسبه في الحدائق للأصحاب. ويقتضيه في الجملة النصوص الآتية.

(1) كما هو مقتضي تعليل مسقطية التصرف في التذكرة بأنه دليل الرضا. وقد يستدل علي ذلك بأنه مقتضي الجمع بين النصوص.

ففي صحيح علي بن رئاب عن أبي عبد الله (عليه السلام): (فإن أحدث المشتري فيما اشتري حدثاً قبل الثلاثة فذلك رضاً، منه فلا شرط له. قيل له: وما الحدث ؟ قال: إن لامس أو قبّل أو نظر منها إلي ما كان يحرم عليه قبل الشراء)(1).

وفي صحيحه الآخر عنه (عليه السلام): (قلت له: أرأيت إن قبلها المشتري أو لامس. فقال: إذا قبل أو لامس أو نظر منها إلي ما يحرم علي غيره فقد انقضي الشرط ولزمته)(2). وفي صحيح الصفار: (كتبت إلي أبي محمد (عليه السلام) في الرجل اشتري من رجل دابة، فأحدث فيها حدثاً من أخذ الحافر أو أنعلها، أو ركب ظهرها فراسخ، أله أن يردها في الثلاثة الأيام التي له فيها الخيار بعد الحدث الذي يحدث فيها أو الركوب الذي يركبها فراسخ. فوقع (عليه السلام): إذا أحدث فيها حدثاً فقد وجب الشراء إن شاء الله)(3).

فإن مقتضي الأخيرين وإن كان هو سقوط الخيار بالتصرف مطلقاً، إلا أن مقتضي تفريع سقوطه في الأول علي كون التصرف رضاً بالبيع كون المسقط هو الرضا اللازم للتصرف والمنكشف به. ومرجع ذلك اختصاص التصرف المسقط بما يكون ملازماً للرضا وكاشفاً عنه.

لكن لا مجال للبناء علي كون تطبيق الرضا علي التصرفات المذكورة في الصحيح الأول بلحاظ ملازمته لها، لما هو المعلوم من عدم ملازمته لها ولو غالباً. بل كثيراً ما يكون الداعي لها مجرد إشباع الشهوة، أو الاطلاع علي خبايا الجارية، أو حلية التصرف المذكور، فإن الملكية المؤقتة كالزوجية المؤقتة كافية في حلها. ولذا تقع من الغافل عن

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الخيار حديث: 1، 3، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الخيار حديث: 1، 3، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الخيار حديث: 1، 3، 2.

ص: 228

ثبوت خيار الحيوان، وممن هو عازم علي الفسخ أو متردد فيه إذا لم يعلم بأنه مسقط للخيار. بل قد تقع من غير المالك عصياناً لمجرد إشباع الشهوة.

علي أن المسقط للخيار إذا كان هو الرضا بالبيع، والبناء علي عدم الفسخ الملازم للتصرف كما هو مقتضي التفريع في الصحيح رجع ذلك إلي عدم الأثر للتصرف في سقوط الخيار، وهو لا يناسب التنبيه له والتركيز عليه في كلام الإمام (عليه السلام).

بل إن كانت مسقطية الرضا للخيار ظاهرة عرفاً - بحيث لا تحتاج للبيان - فلا فائدة في التعرض لذلك. وإن لم تكن كذلك كما هو الظاهر، لما سبق عند الكلام في تعريف الخيار من أن الرضا لا يستلزم إسقاط حق الخيار فالمناسب التنبيه لذلك والتركيز عليه، لدفع توهم أن لصاحب الخيار في مدة الخيار الرجوع عن رضاه بالمبيع وبنائه علي عدم فسخ البيع. وهو أنسب من التنبيه علي مسقطية التصرف بلحاظ ملازمته تكويناً للرضا التي هي لو تمت ولو غالباً ليس من شأن الإمام (عليه السلام) بيانها.

وأشكل من ذلك الحال في الصحيحين الآخرين، فإن المفروض للسائل فيهما إن كان صورة حصول الرضا حين التصرف فالأولي به التنبيه له دون التصرف. وإن لم يكن المفروض فيه ذلك - لما سبق من عدم الملازمة بين الرضا والتصرف معني غالباً

فإهمال الإمام (عليه السلام) للتنبيه علي الرضا الذي هو المسقط حقيقة، والاكتفاء ببيان مسقطية الأمر المقارن له غير الملازم له، لا يخلو عن غرابة. وليس هو من سنخ الإطلاق في مورد التقييد، بل هو راجع إلي بيان أمر آخر غير موضوع الحكم.

وبالجملة: لا مجال لحمل التفريع المذكور علي بيان أن المسقط الحقيقي هو الرضا المقارن للتصرف، ليرجع إلي تقييد سقوط الخيار مع التصرف بما إذا كان مقارناً للرضا وكاشفاً عنه، بل لابد من حمله علي وجوه أخر ذكرها شيخنا الأعظم (قدس سره).

وأقربها حمل التفريع علي الرضا الادعائي الراجع إلي أن التصرف بحكم الرضا شرعاً في مسقطيته للخيار، ومانعيته من الرجوع في البيع. ومرجع ذلك إلي خصوصية التصرف المذكور في إسقاط الخيار. بل مقتضي الإطلاق عموم مسقطيته له ولو مع

ص: 229

عدم مقارنته للرضا، كما هو مقتضي الصحيحين الآخرين أيضاً.

إنما الإشكال في تحديد التصرف المسقط للخيار. إذ لا مجال للبناء علي الاكتفاء بمطلق التصرف، وإن كان هو مقتضي إطلاق جماعة أولاً: لعدم الدليل علي الإطلاق المذكور. وثانياً: عدم إمكان البناء علي ذلك، لعدم انفكاك وجود الحيوان عند المشتري عنه عادة، ولو بمثل سقيه وإطعامه، ونقله في المكان المناسب له. ومن ثم يقرب عدم إرادة من أطلق العموم.

وقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن المدار فيه علي ما يصدق به الحدث في الحيوان، وهو عرفاً يوجب زيادته أو نقصه عما كان عليه، عملاً بمكاتبة الصفار المتقدمة، بحمل الجواب فيها علي خصوص الأخذ من الحافر والتنعيل، دون الركوب فراسخ.

لكن ذلك لا يناسب صحيح علي بن رئاب، حيث فسر الحدث باللمس والتقبيل والنظر منها إلي ما كان يحرم عليه، مع وضوح أنه لا يصدق بها وبأمثالها الحدث بالمعني الذي ذكره (قدس سره).

وأما ما ذكره من احتمال كون المراد من الحدث فيه هو المعني المذكور، وكون تطبيق الحدث علي الأمور المذكورة تعبدياً يقتصر فيه عليها، ولا يتعدي فيها لأمثالها، وأن ذلك إن لم يكن هو الأظهر من حمله علي كون تفسير الحدث بتلك الأمور وأمثالها حقيقياً فلا أقل من إجمال الصحيح، وسقوطه عن الحجية، وينحصر الدليل علي سقوط الخيار بالحدث بالمعني المذكور بمكاتبة الصفار.

فهو مخالف للظاهر جداً، لأن الإمام (عليه السلام) اكتفي في أول الأمر ببيان مسقطية الحدث للخيار، ولم يتصد لتطبيقه علي الأمثلة المذكورة إلا بعد أن طلب السائل إليه شرحه لإجماله عنده. ومن الظاهر أن السائل قد سأل من أجل معرفة المراد الحقيقي من الحدث، ولازم ذلك كون تطبيقه عليها حقيقياً من أجل شرح المراد منه، لا تعبدياً مع كون المراد من الحدث المعني الذي ذكره (قدس سره).

وعليه يتعدي لأمثالها بعد وضوح عدم انحصار عنوان الحدث بها. ولاسيما أن

ص: 230

صدر الحديث قد تضمن مسقطية الحدث للخيار في مطلق الحيوان، لا في خصوص الجارية، فلابد من كون ذكر هذه الأمثلة لمجرد التطبيق من أجل شرح، عنوان الحدث بما يماثلها، لا من أجل الانحصار.

هذا مضافاً إلي أن حمل الحدث في المكاتبة علي خصوص الأخذ من الحافر والتنعيل دون الركوب فراسخ وإن كان هو مقتضي الجمود علي لفظ السؤال، إلا أنه مستلزم، لعدم استيفاء الجواب للسؤال، لعدم التعرض فيه لحكم الركوب المذكور. ولأجل ذلك يقرب عموم الحدث في الجواب للركوب فراسخ. ولاسيما أنه أهم ارتكازاً من التنعيل والأخذ من الحافر. ولذا لا يبعد غفلة الناظر في المكاتبة عن قصورها عن إثبات مسقطية الركوب المذكور للخيار، وفهمه عموم المسقطية له.

ومن هنا لا يبعد عموم التصرف المسقط لكل تصرف ليس من شأن غير المالك أن يقوم به، إلا ما كان شؤون رعاية الحيوان وحفظه، كسقيه وإطعامه وربطه، أو تقتضيه طبيعة الحيوان، كحلب لبنه، أو تمكين الجارية المشتراة مع ولدها من إرضاعه، وتمكين زوج الجارية من مواقعتها لو اشتراهما معاً ونحو ذلك.

ويناسب ذلك صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في رجل اشتري شاة فأمسكها ثلاثة أيام، ثم ردها. فقال: إن كان في تلك الثلاثة الأيام يشرب لبنها رد معها ثلاثة أمداد، وإن لم يكن لها لبن فليس عليه شيء)(1). لظهوره في المفروغية عن عدم مانعية شرب اللبن من الرد. وقد يستفاد ذلك من غيره.

بل حتي بعض التصرفات الخفيفة التي هي من شؤون المخالطة أو المعاشرة، كتكليفه بفتح الباب وسقي الماء أو نحو ذلك، لخروج ذلك عن المتيقن مما يستفاد من النصوص المتقدمة، لأنها لم تتضمن عنوان التصرف وإنما تضمنت عنوان الحدث، وفسرته بتصرفات خاصة بنحو يستفاد منه عدم خصوصيتها والتعدي منها لما يشبهها ويسانخها، والتصرفات المذكورة خارجة عن المتيقن من ذلك.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 231

(232)

بل حتي مثل النظر إلي ما يحرم علي غير المالك من الجارية إذا لم يكن بطلب من المشتري أو تكلف منه، بل كان لتكشفها. لخروجه عن المتيقن من النصوص، لعدم وضوح صدق كونه أمراً قد أحدثه فيها.

هذا ويظهر من كلام غير واحد احتمال أو قوة استثناء صورة ما إذا كان التصرف بقصد الاختبار. فإن أرادوا التصرفات التي تقدم استثناؤها، فالظاهر عدم توقف استثنائها علي قصد الاختبار، لما سبق من قصور النصوص المتقدمة عنها رأساً.

وإن أرادوا غيرها مما يستفاد من النصوص المتقدمة مسقطيته للخيار فكأن الوجه في استثنائها هو ابتناء جعل خيار الحيوان علي إعطاء الفرصة لصاحبه من أجل التعرف علي خباياه. لكن ذلك لا ينهض بالخروج عن إطلاق النصوص المتقدمة ومن هنا لا مجال للتفصيل المذكور والمتعين ما تقدم.

بقي شيء: وهو أنه لا ينبغي الإشكال في مسقطية الرضا بالبيع والبناء علي عدم الفسخ للخيار، كما صرح بذلك غير واحد ونسبه في الحدائق للأصحاب.

لأن الرضا المذكور وإن لم يكن إسقاطاً لحق الخيار، كما سبق في أول الكلام في تعريف الخيار، إلا أن مقتضي صحيح علي بن رئاب مسقطيته، أما بناء علي سوقه لبيان ملازمة التصرف للرضا الحقيقي فظاهر، لرجوعه إلي أن المسقط هو الرضا المذكور، دون التصرف المقارن له.

وأما بناء علي ما ذكرنا من سوقه لبيان كون التصرف رضاً تعبدياً، وأنه بحكم الرضا في مسقطيته للخيار، فلظهوره في المفروغية عن مسقطية الرضا الحقيقي للخيار. ويؤيد ذلك ما تضمن مسقطية الرضا لخيار الشرط(1). بل تقدم عند الكلام في سقوط خيار الحيوان بالإسقاط تقريب فهم عموم مسقطية الرضا للخيار. ومن ذلك يظهر مسقطية الرضا للخيار ولو مع عدم التصرف.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5، 12 من أبواب الخيار.

ص: 232

(233)

(مسألة 6): لا يثبت هذا الخيار للبايع (1)

---------------

ودعوي: أن المتيقن من ذلك ما إذا أبرز الرضا المذكور بمبرز من قول أو فعل، كما هو الحال في سائر المضامين الإنشائية.

مدفوعة بأن ذلك إنما يحتاج إليه في المضامين الإنشائية الاعتبارية، حيث لا يكتفي عرفاً في تحققها بمجرد الالتزام بها، بل لابد من إبرازها بأحد الوجهين. أما الرضا المذكور فهو أمر حقيقي قائم بالنفس، راجع إلي البناء علي التمسك بالمبيع، والبناء علي عدم إرجاعه بفسخ البيع، ولا يتوقف علي المبرز إلا بلحاظ كشفه عنه، مع ظهور النص في أن الأثر للمنكشف وحده.

نعم لو كان مرجع الرضا المذكور إلي إسقاط حق الخيار كان أمراً اعتبارياً واحتاج المبرز. لكن سبق المنع من ذلك. وقد يناسبه عدهم التصرف المذكور مسقطاً آخر للخيار غير إسقاطه. فلاحظ.

(1) كما صرح بذلك جمع كثير من الأصحاب، وفي الجواهر أنه المشهور شهرة عظيمة، وظاهر الغنية دعوي الإجماع عليه، وظاهر الدروس دعوي الإجماع عليه ممن عدا المرتضي.

ويقتضيه بعد عموم دليل اللزوم في العقود النصوص الكثيرة المتضمنة قصره علي المشتري، أو صاحب الحيوان، الذي يراد منه صاحبه بعد البيع، إذ لا إشكال في عدم اختصاص الخيار بالبايع. ولاسيما ما تضمن من هذه النصوص ذكره في سياق ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، فإن العدول عن المتبايعين لخصوص أحدهما كالصريح في الاختصاص به.

بل هو مقتضي الحصر في بعضها، كصحيح فضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قلت له: ما الشرط في الحيوان ؟ قال: ثلاثة أيام للمشتري...)(1). فإن شرح الماهية بشيء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب الخيار حديث: 5.

ص: 233

كالصريح في انحصارها به. وكذا صحيح علي بن رئاب عنه (عليه السلام):

(قال الشرط في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري...)(1). ونحوه معتبر علي بن أسباط عن أبي الحسن الرضا (2)(عليه السلام) لما هو المعلوم من أن تعريف المسند إليه من أدوات الحصر.

وأصرح من الجميع صحيح علي بن رئاب المروي في قرب الإسناد: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشتري جارية، لمن الخيار للمشتري أو للبايع أو لهما كلاهما؟ قال: الخيار لمن اشتري ثلاثة أيام نظرة، فإذا مضت ثلاثة أيام فقد وجب الشراء...)(3) مع ما هو المعلوم عن عدم الفرق بين الجارية وغيرها.

ونسب غير واحد الخلاف في ذلك للسيد المرتضي (قدس سره)، وأنه ذهب إلي ثبوته للمتبايعين معاً. كما نسب ذلك في كشف الرموز للسيد احمد بن طاووس في كتابه البشري. وقد يظهر الميل إليه من الروضة، وفي المسالك: (فالقول به في غاية القوة إن لم يثبت الإجماع علي خلافه). وعن الشهيد في غاية المراد والحاشية النجارية وأبي العباس في المقتصر التوقف عن الترجيح.

ويشهد له صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: المتبايعان بالخيار ثلاثة أيام في الحيوان، وفيما سوي ذلك من بيع حتي يفترقا)(4).

لكن لا مجال للخروج به عما سبق من النصوص الكثيرة المعول عليها عند الأصحاب. قال في الدروس: (والرواية صحيحة، إلا أن الشهرة رواية وفتوي، بل الإجماع يعارضها).

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من عدم بلوغ النصوص الأخر حد الشهرة لموجبة للقطع بصدور بعضها، وأن اللازم النظر في بقية المرجحات المنصوصة بين الصحيح المذكور وغيره.

فهو لا يخلو من غرابة. علي أنه غير مهمّ بعد عموم لزوم العقد، حيث يكون

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الخيار حديث: 1، 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الخيار حديث: 1، 8.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب الخيار حديث: 9، 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب الخيار حديث: 9، 3.

ص: 234

مرجحاً لنصوص المشهور، أو مرجعاً بعد تساقط النصوص. وكيف كان فالمتعين طرح صحيح محمد بن مسلم، أو تأويله.

ولعل الأقرب ما ذكره غير واحد من حمله بيان أصل ثبوت الخيار بين المتبايعين من دون نظر إلي من له الخيار منهما، جمعاً مع النصوص المشهورة وإن كان ذلك مخالفاً لظاهره بدواً. ولا يمنع من ذلك اشتماله علي بيان خيار المجلس، المعلوم ثبوته للمتبايعين معاً. لإمكان سوقه أيضاً لمجرد بيان ثبوته بينهما. خصوصاً مع رواية محمد بن مسلم نفسه عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) ما تضمن الاختصاص بالمشتري(1). ووقوع مثل هذا الاختلاف بسبب النقل بالمعني غير عزيز. ولعله لذا لم يتعرض الشيخ في التهذيب عند ذكره للحديث لمخالفته لبقية النصوص ولوجه جمعه معها، وكأنه لا يخالفها.

بل قد يحمل علي ذلك كلام السيد المرتضي (قدس سره)، حيث قال في الانتصار: (مما انفردت به الإمامية أن الخيار يثبت للمتبايعين في بيع الحيوان خاصة ثلاثة أيام وإن لم يشترط... دليلنا الإجماع المتردد. ويمكن أيضاً أن يكون الوجه في ثبوت هذا الخيار في الحيوان خاصة أن العيوب فيه أخفي والتغابن فيه أقوي...). والتعليل الذي ذكره يناسب اختصاص الخيار بمن يصير الحيوان له بالبيع. وهو المناسب لدعواه الإجماع في المقام من دون أن يشير للخلاف بين الطائفة فيمن يثبت له الخيار، حيث يقرب كون نظره لأصل ثبوت الخيار من دون نظر لمن يستحقه، في مقابل العامة المانعين من ثبوته رأساً.

وأما حمل الصحيح علي ما إذا كان كلا العوضين حيواناً - كما ذكره غير

واحد - فهو بعيد جداً، لأنه حمل علي الفرد النادر. وكذا ما في الوسائل من حمله علي التقية. لما أشرنا إليه من إنكار المعاملة لهذا الخيار رأساً. إلا أن يكون معيار التقية عنده مجرد الاختلاف بين الأخبار، كما جري عليه صاحب الحدائق.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 235

حتي لو كان الثمن حيواناً (1).

---------------

والحاصل: أنه لا معدل عما هو المعروف بين الأصحاب - تبعاً للنصوص الكثيرة - من اختصاص الخيار بالمشتري، أو بمن يصير له الحيوان، علي ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي.

(1) كما هو مقتضي إطلاق المشهور وصريح غير واحد. للتقييد به في النصوص الكثيرة.

وقوّي في المسالك والروضة ومجمع البرهان ثبوته لصاحب الحيوان إذا كان بائعاً بأن كان الثمن حيواناً. وهو المناسب لما احتمله في الدروس من حمل صحيح محمد بن مسلم المتقدم علي ما إذا كان العوضان حيوانين، ونسب في مفتاح الكرامة القول به أو الميل إليه إلي جماعة، بل نسبه في الوسائل للأصحاب.

وقد استدل للقول المذكور في جامع المقاصد والمسالك - ويستفاد من غيرها - بأن فيه جمعاً بين الأخبار. وزاد في الثاني وغيره تحقق حكمة الخيار، لأن اختصاص الحيوان بالخيار إنما كان لاشتماله علي أمور باطنية لا يطلع عليها غالباً إلا بالتروي والاختبار.

لكن الثاني بالقياس أشبه، لعدم النص علي التعليل بالجهة المذكورة، ليظهر منه أن الخيار يدور مدارها سعة وضيقاً.

وأما الأول فكأن المنظور لهم أن فيه عملاً بصحيح محمد بن مسلم بحمله علي صورة بيع حيوان بحيوان، وبإطلاق ما تضمن ثبوته لصاحب الحيوان، وبما تضمن ثبوته للمشتري بحمله علي الغالب من كون المبيع حيواناً.

لكن سبق أن حمل صحيح محمد بن مسلم علي الصورة المذكورة بعيد جداً، لأنه حمل له علي الفرد النادر. مع أن الجمع بينه وبين بقية النصوص بذلك تبرعي من دون شاهد.

ص: 236

وأما إطلاق ما تضمن ثبوته لصاحب الحيوان فقد استشكل فيه بأنه مقيد بموثق بن فضال: (سمعت أبا الحسن علي بن موسي الرضا (عليه السلام) يقول: صاحب الحيوان المشتري بالخيار بثلاثة [ثلاثة. يب] أيام)(1).

لكن الظاهر أنه ليس وارداً للتقييد، بل للتفسير بلحاظ الغلبة، لدفع توهم كون المراد بصاحب الحيوان صاحبه قبل البيع، وهو البايع، فهو بدل أو عطف بيان، وليس نعتاً لبيان قيد احترازي. ولا أقل من احتمال ذلك، فلا ينهض دليلاً علي التقييد. نعم لو كان التعبير هكذا: صاحب الحيوان إن كان مشترياً فهو بالخيار. كان دالاً علي التقييد.

ومن هنا فالموثق لا يزيد مفاده عن النصوص المتضمنة ثبوت الخيار للمشتري. فاللازم النظر في الجمع بين النصوص المذكورة ونصوص ثبوته لصاحب الحيوان.

ويبدو أن المشهور جمعوا بين الطائفتين بالتقييد. وقد يناسبه ما تقدم من النصوص المتضمنة للحصر بالمشتري، وهي صحيحاً فضيل وعلي بن رئاب ومعتبر علي بن أسباط.

لكن الظاهر أن الحصر مستفاد من كلتا الطائفتين ولو بلحاظ سوق الخيار المذكور في أكثر النصوص في سياق خيار المجلس الثابت للمتبايعين معاً. فهي واردة لبيان موضوع خيار الحيوان ومختلفة بدواً في تحديده.

ويبتني مذهب المشهور علي الجمع بين التحديدين. إما للبناء علي التقييد، تقديماً لظهور كل من الطائفتين في لزوم تحقق موضوعها علي الإطلاق في الطائفة الأخري. أو للتوقف في ترجيح أحد الأمرين والاقتصار في الخروج عن عموم اللزوم علي المتيقن، وهو اجتماع الحدين.

لكن الظاهر أن مناسبة الحكم والموضوع تقضي بأولوية عنوان صاحب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب الخيار حديث: 2.

ص: 237

الحيوان من المشتري بالموضوعية، بنحو يصلح عرفاً للقرينية علي كون ذكر المشتري في نصوصه بلحاظ غلبة كونه صاحب الحيوان دون العكس.

فالحكمة المتقدمة وإن لم تصلح لأن تكون دليلاً علي التعدي من المشتري للبايع إذا كان صاحب الحيوان، إلا أنها بسبب ارتكازيتها تصلح لأن تكون قرينة عرفاً علي تقديم نصوص صاحب الحيوان، بلحاظ أولويته بالموضوعية ارتكازاً. بل ربما تصلح الجهة المذكورة قرينة علي إلغاء خصوصية المشتري في نصوصه والتعدي لما إذا كان صاحب الحيوان بائعاً من دون حاجة لنصوص صاحب الحيوان. بل التعدي في كلماتهم من أحد المتبايعين للآخر ومن أحد العوضين للآخر في الأحكام غير عزيز.

ويشهد بما ذكرنا من أولوية صاحب الحيوان من المشتري ارتكازاً بالموضوعية أنه لو فرض انحصار الدليل علي هذا الخيار بنصوص ثبوت الخيار لصاحب الحيوان فلا منشأ للإشكال في بقائها علي إطلاقها بنحو تشمل ما إذا كان الحيوان ثمناً، وكان صاحبه هو البايع وإن كان ذلك فرداً نادراً.

أما إذا انحصر الدليل بنصوص ثبوته للمشتري فمن الصعب جداً البناء علي إطلاقها بنحو تشمل الصورة المذكورة، بحيث يثبت الخيار للمشتري وإن كان صاحب الحيوان هو البايع.

وما ذلك إلا لقوة المناسبة الارتكازية بنحو تقتضي حمل الثاني علي الغالب دون الأول. وهو نحو من الجمع العرفي.

والحاصل: أن الظاهر كون مقتضي الجمع العرفي - تبعاً لمناسبة الحكم والموضوع - هو تحكيم نصوص صاحب الحيوان علي نصوص المشتري، دون الجمع بينهما بالتقييد، أو التوقف الملزم بالاقتصار علي المتيقن في الخروج عن أصالة اللزوم، بحيث يقتصر علي ما إذا كان صاحب الحيوان هو المشتري، كما ينسب للمشهور.

وكأن ذلك هو المنظور لشيخنا الأعظم (قدس سره) في المقام، كما يظهر بملاحظة كلامه. وبعض مشايخنا (قدس سره) وإن أنكر عليه ذلك، إلا أنه جري عليه في فتواه.

ص: 238

(239) (239)

(مسألة 7): يختص هذا الخيار بالبيع، ولا يثبت في غيره من المعاوضات (1).

(مسألة 8): إذا تلف الحيوان قبل القبض أو بعده في مدة الخيار كان تلفه من مال البايع (2)، ورجع المشتري عليه بالثمن إذا كان دفعه إليه.

---------------

بل لا يبعد كون مراد كثير ممن أطلق اختصاص خيار الحيوان بالمشتري ما إذا كان الحيوان مبيعاً، في مقابل ثبوته لهما معاً، من دون نظر لما إذا كان الحيوان ثمناً، كما يظهر مما سبق منهم من كم في صحيح محمد بن مسلم. ومن ثم لا يخلو ما سبق من نسبة عدم ثبوت الخيار للبايع في الفرض للمشهور عن إشكال.

وبذلك يظهر أنه لو كان كلا العوضين حيواناً ثبت الخيار للمتبايعين معاً. لا لحمل صحيح محمد بن مسلم علي ذلك، لما سبق من أنه فرد نادر، بل لإطلاق نصوص ثبوت الخيار لصاحب الحيوان.

(1) الظاهر مفروغية الأصحاب عن ذلك، لسوقهم له في سياق خيار المجلس، ولخلافهم المتقدم في اختصاصه بالمشتري أو عمومه للمتبايعين. ويقتضيه اختصاص نصوصه بالبيع.

(2) أما إذا كان قبل القبض فالظاهر التسالم علي ذلك. وفي الجواهر: (إجماعاً بقسميه). ويأتي من سيدنا المصنف (قدس سره) التعرض لذلك في الفصل السابع في القبض والتسليم. ولعل الله سبحانه وتعالي يوفق لتعقيب كلماته هناك. مضافاً إلي استفادته من النصوص الآتية بالإطلاق أو بالأولوية العرفية.

وأما إذا كان بعد القبض في مدة الخيار فالظاهر أيضاً التسالم عليه. وفي الجواهر: (إجماعاً بقسميه). وتشهد به النصوص، كصحيح عبد الله بن سنان: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشتري الدابة أو العبد، ويشترط إلي يوم أو يومين، فيموت العبد والدابة أو يحدث فيه حدث، علي من ضمان ذلك ؟ فقال: علي البايع حتي ينقضي

ص: 239

الشرط ثلاثة أيام ويصير المبيع للمشتري). وزيد في بعض طرقه: (شرط البايع أو لم يشترطه)(1) ، ومرسلة ابن رباط عنه (عليه السلام): (إن حدث بالحيوان حدث قبل ثلاثة أيام فهو من مال البايع)(2) وغيرهما.

وبذلك يخرج عما تقتضيه القاعدة من ضمان المشتري له، بناء علي ما هو الظاهر من ملكيته له بالعقد. لأن الأصل تلف المال من مالكه، وعدم تحمل غيره لدركه.

نعم قد يظهر من الصحيح وغيره عدم تملك المشتري للحيوان قبل الثلاثة. لكن لابد من حمله علي إرادة لزوم البيع بعد الثلاثة مع ملكيته له بمقتضي نفوذ العقد وصحته، ولنصوص أخر ظاهرة في ترتب أثره عليه بمجرد تمامية العقد. وللكلام في ذلك مقام آخر.

هذا والمذكور في كلماتهم أن الضامن هو من ليس له الخيار من المتابعين. قال في الشرايع: (إن تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بايعه. وإن تلف بعد قبضه وبعد انقضاء الخيار فهو من مال المشتري. وإن كان في زمن الخيار من غير تفريط وكان الخيار للبايع فالتلف من مال المشتري وإن كان الخيار للمشتري فالتلف من مال البايع).

لكن لم يتضح منشأ هذه الكبري بعد اختصاص النصوص بخيار الحيوان وخيار الشرط في الجملة علي ما ربما يأتي التعرض له في محله.

نعم بناء علي ما سبق منا من أن موضوع الخيار صاحب الحيوان، لا خصوص المشتري، فلا يبعد التعدي عن مورد النصوص السابقة، والبناء علي ضمان المشتري للحيوان في الأيام الثلاثة إذا كان ثمناً. لأن المفهوم من النصوص بقاء الحيوان في مدة الخيار في عهدة من انتقل عنه بالبيع. ويأتي من سيدنا المصنف (قدس سره) التعرض لحكم الضمان في آخر الفصل الخامس في أحكام الخيار. وربما يأتي منا هناك تمام الكلام في ذلك.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الخيار حديث: 2، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الخيار حديث: 5.

ص: 240

(241) (241)

(مسألة 9): إذا طرأ عيب في الحيوان من غير تفريط من المشتري لم يمنع من الفسخ والرد (1)، وإن كان بتفريط منه سقط خياره (2).

(الثالث): خيار الشرط (3). والمراد به الخيار المجعول باشتراطه في العقد

---------------

(1) الظاهر عدم الإشكال في ذلك. لأولويته من التلف ارتكازاً في كونه مضموناً علي البايع. وللتصريح في صحيح عبد الله بن سنان المتقدم بضمانه للحدث كالموت، والظاهر أن المراد من الحدث المرض ونحوه من العيوب. وهو مقتضي إطلاق الحدث في مرسلة ابن رباط. وبعد كونه مضموناً علي البايع لا منشأ لمانعيته من الرد. بل قوله (عليه السلام) في صحيح عبد الله بن سنان: (حتي ينقضي الشرط ويصير المبيع للمشتري) كالصريح في عدم مسقطيته للخيار، فيتعين جواز الرد مع بقاء موضوعه، لعدم تلف الحيوان.

(2) أما عدم ضمان البايع له فلأنه مقتضي القاعدة بعد ما أشرنا إليه آنفاً من ملكية المشتري له بالعقد، وظهور قصور النصوص السابقة عنه، لأنها بصدد بيان بقاء الحيوان في عهدة البايع في مدة الخيار، لا سقوط حرمة المال، كي لا يضمن بالتفريط. وبذلك يظهر جريان ذلك في التلف في المسألة الأولي. وربما يكون عدم تنبيه سيدنا المصنف (قدس سره) لذلك لوضوحه.

وأما سقوط الخيار بذلك فلأن منصرف أدلة الخيار إرجاع كل من العوضين علي حاله، ولا مخرج عن ذلك إلا النصوص المتقدمة التي عرفت قصورها عن مورد الكلام.

أما إذا كان التفريط بحيث يستند العيب إلي فعل المشتري، فيدخل في الضابط الذي تقدم منا في المسألة الخامسة للتصرف المسقط للخيار. وتمام الكلام في المسألة في فصل أحكام الخيار إن شاء الله تعالي.

(3) بلا خلاف، كما في التذكرة وعن الكفاية وغيرهما. ودعوي الإجماع في

ص: 241

فروعه - فضلاً عن أصله - متكررة في كلماتهم. وفي الجواهر: (بالضرورة بين علماء المذهب).

وقد استدل عليه غير واحد بعموم نفوذ الشروط المستفاد من النصوص الكثيرة المتضمنة أن المؤمنين أو المسلمين عند شروطهم(1).

وقد يستشكل فيه بمخالفته للكتاب المجيد، بلحاظ مخالفته لعموم قوله تعالي: (أوفوا بالعقود)(2) ، الذي تقدم دلالته علي عموم لزوم العقد.

وهو كما تري، لأن تضمن العقد للشرط المذكور يمنع من منافاة الخيار الذي هو مقتضي الشرط لوجوب الوفاء بالعقد. نعم قد يتجه ذلك في اشتراط الخيار في عقد آخر بين المتشارطين غير الذي وقع فيه الشرط.

كما قد يتجه دعوي مخالفته للسنة الشريفة بلحاظ عموم اللزوم في البيع الذي تضمنته الأدلة، ومنها ما دل علي لزومه بمجرد الافتراق ومضي الأيام الثلاثة في الحيوان، حيث قد يدعي أن مقتضي إطلاقه العموم لصورة اشتراط الخيار، كما أشار له في المستند.

لكنه يندفع بأن العقد حيث كان مبنياً علي الإلزام والالتزام بين أطرافه فلزومه ارتكازاً راجع إلي لزومه في حق كل طرف بلحاظ منافاة فسخه لحق الطرف الآخر ومرجع ذلك إلي كون لزوم العقد حقياً. ولذا كانت العقود نوعاً ومنها البيع قابلة للفسخ بالتقايل، من دون أن ينافي ذلك لزومها ارتكازاً. وحينئذ لا يكون اشتراط الخيار في العقد، أو في عقد آخر بين المتشارطين، منافياً للزوم العقد، لظهور أن لكل ذي حق التنازل عن حقه، والتصرف فيه بمقتضي سلطنته عليه.

نعم ما ثبت من العقود كون لزومه حكمياً، لعدم مشروعية التقابل فيه

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الخيار، ج: 15 باب: 20، 40 من أبواب المهور، ج: 16 باب: 4، 11 من أبواب المكاتبة وغيرها.

(2) سورة المائدة الآية: 1.

ص: 242

- كالنكاح - يتجه عدم مشروعية شرط الخيار فيه، لمنافاته للزومه شرعاً.

وإلي هذا في الجملة يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وبعض الأعاظم (قدس سره)

في المقام، وذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في المسألة الخامسة من كتاب الضمان من مستمسكه. فراجع.

هذا وقد استشكل في ذلك بعض مشايخنا (قدس سره) بدعوي: عدم الفرق بين الحق والحكم، وأن كلاهما حكم شرعي. غاية الأمر أن بعض الأحكام قد ثبت ارتفاعه في بعض الموارد برفع المكلف اليد عنه، من دون أن يوجب اختلافاً بينهما. ولزوم البيع كلزوم النكاح، ولذا ثبت الخيار فيهما معاً في بعض الموارد. وحينئذ لابد من الاقتصار علي الموارد التي تثبت جوازاً رفع اليد فيها وعدم التعدي عنها. وقد ثبت جواز رفع اليد عن لزوم البيع بالتقايل، ولا مجال للتعدي منه والبناء علي جواز رفع اليد عنه باشتراط الخيار، بل لابد فيه من دليل خاص.

ويندفع بأن جعل الحق حكم شرعي، كسائر الأحكام الشرعية. أما نفس الحق فهو مباين للحكم، ونتيجة له، ويكون موضوعاً للسلطنة بملاك سلطنة الإنسان علي ماله. فالحكم شرعاً بثبوت حق الخيار في البيع مثلاً حكم شرعي كجواز الرجوع في الهبة. أما نفس حق الخيار فهو نتيجة للحكم شرعاً بثبوته، ويكون موضوعاً لسلطنة ذي الحق.

وبعبارة أخري: نفوذ رجوع الواهب في هبته مثلاً حكم شرعي ابتدائي، وليس تابعاً لسلطنته، أما نفوذ رجوع الخيار في البيع فهو نتيجة سلطنته علي الحق المجعول له. ولذا كان له إسقاطه والمعاوضة عليه ارتكازاً، كما كان له إعماله، ولم يكن للواهب إسقاط الحكم بجواز الرجوع له في هبته، ولا المعاوضة عليه، لعدم كونه حقاً له، ليكون مسلطاً عليه. وكذلك لزوم النكاح، فإنه حكم شرعي ابتدائي لا مجال للتنازل عنه. أما لزوم البيع فإنه ثبت نتيجة لاستحقاق كل من الطرفين مضمون العقد علي الآخر، ولذا يكون لهما التنازل عنه بالتقايل.

ص: 243

فالفرق بين الأمرين في المقام نظير الفرق بين الحكم بجواز النظر للمحارم وحرمة النظر للأجنبية، والحكم بجواز تصرف الإنسان في ماله وحرمة تصرف غيره فيه، حيث أن الأول حكم شرعي ابتدائي خارج عن سلطنة المكلف، والثاني متفرع علي ملكيته لماله وسلطنته عليه، فله رفع جواز التصرف له بتمليكه المال لغيره أو رهنه منه، ورفع حرمة تصرف غيره فيه بإذنه له فيه.

ويشهد بما ذكرنا أن جواز إسقاط الخيار ومشروعية الإقالة من الأمور الارتكازية التي يقدم عليها المتعاملان بطبعهما من دون حاجة للسؤال تبعاً لارتكاز سلطنتهما علي الحق الثابت لهما. ولذا لا إشكال ظاهراً في مشروعية الإقالة واشتراط الخيار في سائر العقود إلا ما ثبت عدم مشروعيته فيه كالنكاح، مع أن نصوصهما إنما وردت في البيع.

ولعله لذا لم يرد السؤال عن مشروعية الإقالة وإسقاط الخيار في النصوص، وإنما وردت النصوص في استحباب الإقالة، وفي عدم نفوذ رجوع أحد المتبايعين إلا برضا الآخر، وفي عدم جواز الإقالة بوضعية، ونحو ذلك مما يظهر منه المفروغية عن مشروعية الإقالة في نفسها.

بل لا يبعد ذلك في خيار الشرط، حيث يظهر من بعض نصوصه المفروغية عن جوازه، وإنما وردت لبيان حكم سقوطه بالتصرف، أو ضمان البايع للمبيع في مدة الخيار. وبعض النصوص وإن تضمنت السؤال عنه، إلا أنه ربما يكون منشأ السؤال فيها احتمال كون البيع فيه صورياً لا حقيقياً، أو احتمال الحرمة بلحاظ حاجة الشخص الذي يقوم ببيع الشرط، فيدخل في بيع المضطر الذي ورد النهي عنه في الجملة.

وأما ما ذكره (قدس سره) من أن ثبوت الخيار في بعض الموارد في البيع والنكاح معاً شاهد بأن اللزوم فيهما علي نهج واحد. فهو في غاية المنع، فإن جعل الشارع الأقدس حق الخيار في العقود المختلفة استثناء من عموم اللزوم فيها لا يمنع من اختلاف ملاك اللزوم فيها بالوجه الذي تقدم.

ص: 244

هذا وقد حاول بعض مشايخنا (قدس سره) تصحيح خيار الشرط بوجهين آخرين:

الأول: يبتني علي الاستدلال بعموم نفوذ الشرط. وذلك بلحاظ ما تقدم منه في مسقطات خيار المجلس عند الكلام في اشتراط عدم فسخ العقد من أن كل شرط في العقد يتضمن اشتراط الخيار بتخلفه، إذ عليه لو كان اشتراط الخيار منافياً للزوم العقد، بنحو يمنع من نفوذ الشرط، لم يبق لعموم نفوذ الشروط مورد. فلابد من البناء علي عدم مانعية أدلة لزوم العقد من التمسك بعموم نفوذ الشروط لتصحيح اشتراط الخيار في العقد.

ويظهر الإشكال فيه مما سبق من أن الشرط إنما يقتضي إلزام المشروط عليه بالأمر المشروط، وأن ثبوت الخيار بتخلفه حكم عقلائي، وليس جزءاً من مضمون الشرط.

مع أنه لو كان جزءاً من مضمون الشرط فلا ينهض عموم نفوذ الشروط بنفوذه بناء علي ما سبق منه (قدس سره) هناك من اختصاص عموم نفوذ الشروط بالتكليف بفعل الشرط، ولذا يختص بشرط الفعل دون شرط النتيجة.

وكان المناسب له (قدس سره) أن يمنع من نهوض عموم نفوذ الشرط بتصحيح شرط الخيار بلحاظ مبناه المذكور حتي لو فرض عدم منافاته لعموم نفوذ العقد. مع أنه لم يشر لذلك.

الثاني: لا يبتني علي عموم نفوذ الشروط، وحاصله: أن مرجع اشتراط الخيار إلي تضييق دائرة مضمون العقد وتقييده بصورة عدم الفسخ، للتنافي بيت جعل الخيار وإنشاء المضمون العقدي بنحو الإطلاق، لأن إنشاء المضمون العقدي بنحو الإطلاق يقتضي ثبوته سواءً تحقق الفسخ أم لم يتحقق، وجعل الخيار يقتضي عدم ثبوت المضمون العقدي مع الفسخ، وهما متنافيان.

ودعوي: أن تحديد المضمون العقدي في مثل البيع بزمان خاص أو حال خاص باطل قطعاً، فكيف يدعي تحديده في المقام بعدم الفسخ ؟!. مدفوعة بأن بطلانه إنما هو

ص: 245

لعدم جري العرف عليه في معاملاتهم، فتقصر عنه أدلة النفوذ، أما التحديد بعدم الفسخ بسبب جعل الخيار فهو حيث كان شايعاً عند العرف يتعين شمول أدلة النفوذ له.

وحينئذ لا يكون اشتراط الخيار منافياً للكتاب، لأن قوله تعالي: (أوفوا بالعقود)(1) إنما يقتضي نفوذ مضمونها ولزومه علي نحو ما جعل، والمفروض جعله مقيداً بعدم الفسخ، فلا تقتضي الآية الكريمة بقاءه بعد الفسخ.

كما لا يكون مخالفاً للسنة، لأن ما تضمن من النصوص مثلاً لزوم البيع بالافتراق إنما تقتضي لزومه علي نحو ما جعل، فإذا جعل مقيداً بعدم الفسخ لم تنهض تلك النصوص بإثبات بقائه بعد الفسخ.

لكنه يشكل أولاً: بأن إنشاء المضمون العقدي بنحو الإطلاق لا يرجع إلي إنشائه بنحو يبقي ويستمر، بل إلي أصل إيجاده، وبقاؤه إنما هو لأن مقتضي طبعه البقاء حتي يطرأ ما يرفعه، لا لأن مقتضي العقد بقاؤه.

وعلي هذا يكون الفرق بين إطلاق المضمون العقدي وتقييده كما في الزوجية الدائمة والمنقطعة ليس بسعة المضمون وضيقه، بل إلي إبقاء الأول علي مقتضي طبعه لا يرتفع إلا برافع، كالطلاق، والخروج بالثاني عن مقتضي طبعه بتحديد أمد بقائه.

********

(1) سورة المائدة الآية: 1.

ص: 246

(247)

إما لكل من المتعاقدين (1)، أو لأحدهما (2)

---------------

ولذا لا يكون حكم الشارع الأقدس بارتفاع المضمون العقدي برافع خاص - كالرضاع والطلاق الرافعين للزوجية - راجعاً ارتكازاً إلي عدم نفوذ العقد في بعض مضمونه، بل إلي ارتفاعه بعد ثبوته بنحو الإطلاق بسبب طروء المانع أو الرافع.

وعلي كل حال فسواءً كان الفرق بين الإطلاق والتقييد هو سعة الأول وتضييق الثاني أم ما ذكرنا، فارتفاع المضمون العقدي بالفسخ في مورد خيار الشرط لا يبتني علي انتهاء أمده، بل علي ارتفاعه - مع أن من شأنه البقاء - نتيجة إبطال العقد ورفع اليد عنه بالفسخ، لأن مفاد الفسخ هو إبطال العقد، لا إنهاء المضمون.

ولذا لو فرض مشروعية شرط الخيار في عقد النكاح لكان الفرق بينه وبين النكاح المنقطع في غاية الوضوح ارتكازاً. وحينئذ يكون اشتراط الخيار منافياً للزوم العقد الذي تضمنته الأدلة، وتعود شبهة مخالفته للكتاب المجيد والسنة الشريفة.

وثانياً: بأن مجرد كون فسخ المشرط للعقد موجباً لانتهاء أمد مضمونه لا يقتضي كون الخيار حقاً للمشترط، يقتضي سلطنته عليه بالمعاوضة عليه وإسقاطه، بل لازمه عدم ترتب الأثر علي إسقاطه، لظهور أن إسقاطه لا يوجب تبدل مضمون العقد، وصيرورته واسعاً بعد أن كان ضيقاً، فإن العقد لا ينقلب عما وقع عليه. مع أنه قابل للإسقاط قطعاً. والظاهر عدم الإشكال بينهم في إمكان المعاوضة عليه. وما ذلك إلا لكون حقاً للمشترط له السلطنة عليه علي نحو سلطنته علي ملكه.

ومن هنا لا يبعد انحصار الوجه في عموم عدم منافاة اشتراط الخيار لعموم لزوم العقد بما سبق من كون اللزوم في العقد حقياً لا حكمياً.

ومنه يظهر عدم اختصاص ذلك بالبيع، بل يجري في كل عقد لم يثبت عدم مشروعية الإقالة فيه. كما لا يفرق فيه بين اشتراط الخيار في نفس العقد المشتمل علي الشرط واشتراطه في عقد آخر. كل ذلك لعموم نفوذ الشرط بعد عدم منافاته لعمومات نفوذ العقد. أما بناء علي أن الوجه فيه ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الوجهين فهو يختص باشتراط الخيار في نفس العقد المشتمل علي الشرط، كما يظهر بملاحظتهما.

(1) الظاهر عدم الإشكال فيه بينهم، بل هو داخل في معاقد الإجماع ونفي الخلاف المتقدمين. والوجه فيه عموم نفوذ الشرط بالوجه المتقدم.

(2) الأمر فيه كما في سابقه. مضافاً إلي بعض النصوص الواردة في جعل الخيار للمشتري. كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه سئل عن الرجل يبتاع

ص: 247

بعينه (1)، أو لأجنبي (2).

---------------

الثوب من السوق لأهله، ويأخذه بشرط، فيعطي الربح في أهله. قال: إن رغب في الربح فليوجب الثوب علي نفسه، ولا يجعل في نفسه أن يرد الثوب علي صاحبه إن رد عليه)(1) ، وغيره مما قد يأتي التعرض له. كما يأتي في المسألة الثانية عشرة ما يشهد بصحة شرط الخيار للبايع.

وقد يظهر من بعضهم أن منه معتبر أبي الجارود عن أحدهما (عليه السلام): (قال: إن بعت رجلاً علي شرط، فإن أتاك بمالك، وإلا فالبيع لك)(2). لكن الظاهر أن المراد بالشرط فيه شرط الأجل في الثمن. والخيار فيه خيار تخلف الشرط، لا خيار الشرط الذي هو محل الكلام، كما يظهر بأدني تأمل.

(1) أما مع عدم تعيين من له الخيار منهما فالمتعين بطلان الشرط، لعدم قابلية المردد للوجود الاعتباري، كما لا يقبل الوجود الحقيقي.

(2) كما صرح به جماعة، وهو مقتضي عموم معقد نفي الخلاف المحكي عن الكفاية، وفي التذكرة: (ذهب علمائنا أجمع إلي جوازه، وأنه يصح البيع والشرط). لكن النظر في كلماتهم يشهد بشدة اختلافهم في خصوصياته وآثاره بنحو قد يكون منشؤه عدم وضوح حقيقته عندهم.

والذي ينبغي أن يقال: العقد يبتني علي الإلزام والالتزام بين أطرافه، بنحو يقتضي بثبوت الاستحقاقات بينهم دون غيرهم ممن هو ليس طرفاً في العقد. والشرط الذي يتضمنه من جملة الالتزامات المبنية علي الاستحقاق، فلا يكون طرفه المستحق له والمستحق عليه إلا أحد أطراف العقد.

وحيث كان البيع قائماً بالمتبايعين فقط تعين عدم استحقاق غيرهما ما يتضمنه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب الخيار حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب الخيار حديث: 2.

ص: 248

من الخصوصيات المأخوذة في العقد، ومنها شرط الخيار، كما لا يكون مستحقاً عليه شيء منها.

هذا وقد حاول بعض مشايخنا (قدس سره) توجيه جعل الخيار للأجنبي مع ذلك بما سبق عنه توجيه خيار الشرط به من ابتناء شرط الخيار علي تضييق مضمون العقد وتقييده بعدم فسخ من له الخيار، حيث لا يفرق في ذلك بين فسخ أحد المتعاقدين وفسخ الأجنبي.

لكن سبق المنع من رجوع الشرط لتضييق المضمون. وأنه لو رجع إليه لم يقتض كون الخيار حقاً للفاسخ. والحاصل أنه لا مخرج عما ذكرنا من عدم صحة شرط الخيار للأجنبي، بحيث يكون حقاً له كما يكون حقاً للمتبايعين.

غاية الأمر أنه يمكن أن يكون إعمال الخيار المشترط لهما أو لأحدهما بالفسخ منوطاً بالأجنبي، حيث لا مانع من ذلك بعد عموم نفوذ الشرط. لكن من دون أن يستحق الأجنبي الخيار، بحيث يكون له إسقاطه والمعاوضة عليه، وينتقل منه لو مات لوارثه، ونحو ذلك مما هو من شؤون الملكية والاستحقاق، بل كل ذلك لمستحق الخيار من المتبايعين.

كما يمكن جعل الخيار للمتبايعين أو لأحدهما علي أن يكون الأجنبي مسلطاً علي إسقاطه، لا بملاك إسقاط صاحب الخيار لحقه، بل لاشتراط بقاء الخيار المجعول لأحد المتبايعين أو كليهما بعدم إسقاطه، فيكون الأجنبي قادراً علي إسقاط الخيار بمقتضي الشرط المذكور، وصاحب الخيار مسلطاً علي إسقاطه بمقتضي كونه حقاً له. وأيهما سبق سقط الخيار.

ثم إن جعل الخيار للأجنبي بأحد هذين النحوين يكون تارة: للاهتمام برضاه ورغبته، حباً له، أو دفعاً لمشاكل مخالفة رغبته، كما لو بيع العبد واشترط الخيار له، أو بيعت الدار واشترط الخيار للجار. وأخري: للاهتمام بنظره وحسن اختياره لمن له الخيار استنصاحاً له وثقة به.

ص: 249

ولا ينبغي الإشكال في تبعية اختياره في الصورة الأولي لصلاحه ورغبته، دون صلاح ورغبة من له الخيار من المتبايعين. وحينئذٍ قد يتسني لأحد المتبايعين أو لكليهما أو لثالث إقناعه بإعمال الخيار بالفسخ، أو بإسقاطه الخيار في فرض اشتراط سقوطه بإسقاطه ولو ببذل شيء من المال له. وحينئذ يستحق المال جعالة أو مصالحة في مقابل عمله المذكور، لا بلحاظ استحقاق الخيار. ويترتب الأثر علي عمله بمقتضي إطلاق شرط الخيار المذكور، لفرض عدم أخذ صلاح صاحب الخيار من المتبايعين في شرط الخيار.

أما في الثانية فعقد البيع المتضمن لشرط الخيار بالنحو المذكور لا يكون ملزماً للأجنبي بمراعاة صلاح من له الخيار من المتبايعين. لما سبق من أن العقد لا يكون ملزماً لغير أطرافه. نعم قد يكون ذلك راجحاً في حقه، أو ملزماً، بملاك إعانة المؤمن والنصيحة له ونحو ذلك مما لا يكون الخروج عنه موجباً لبطلان التصرف.

وحينئذ ينفذ تصرفه بالفسخ أو الإسقاط وإن لم ينظر لصاحب الخيار ولم يتحر مصلحته تسامحاً، أو بسبب إغراء الطرف الآخر له أو الأجنبي بالمال أو نحوه، كما في الصورة السابقة.

نعم إذا لم يكن النظر لصاحب الخيار وتحري مصلحته داعياً مجرداً في إيكال إعمال الخيار له ثقة به، بل قيداً في إعمال الخيار المشروط تعين عدم نفوذ تصرفه مع خروجه فيه عن ذلك.

وفي جميع الصور يحق لصاحب الخيار المذكور من المتبايعين إسقاط الخيار أو المعاوضة عنه، لأنه هو المستحق له. ومجرد إيكال إعماله للأجنبي أو اشتراط سقوطه بإسقاطه لا يمنع من سلطنته عليه.

هذا ما تيسر لنا في بيان حقيقة الخيار المجعول للأجنبي وآثاره ولوازمه. ولا يسعنا استقصاء كلمات الأصحاب في المقام، لشدة اختلافها واضطرابها. وربما يكون الملحوظ لكل منهم شيئاً مما ذكرنا وتعميمه، مع الغفلة عن الباقي وعن لوازمه، كم

ص: 250

(251)

(مسألة 10): لا يتقدر هذا الخيار بمدة معينة، بل يجوز اشتراطه ما يشاء من مدة قصيرة أو طويلة (1)، متصلة بالعقد أو منفصلة عنه (2). نعم

---------------

قد يتضح ذلك بملاحظة كلماتهم ومقارنتها بما سبق. وإن كان الأمر غير مهم لمن يستوضح ما ذكرنا.

(1) كما صرح به غير واحد، وادعي الإجماع عليه في الانتصار والتذكرة وظاهر الغنية، وفي الخلاف: (عليه إجماع الفرقة، وأخبارهم متواترة بها). ولعله يريد بالأخبار الأخبار الواردة في الخيار برد الثمن، والتي يأتي التعرض لها في المسألة الثانية عشرة إن شاء الله تعالي. وإن كان الظاهر عدم بلوغها حدّ التواتر. والعمدة في وجه العموم المذكور عموم نفوذ الشروط.

لكن قال في مفتاح الكرامة: (إلا أن يعلم بعدم بقائها إليها، فإنه يحتمل البطلان، للزوم التعطيل، والصحة، لأن الأجل مضبوط والخيار موروث). وكأن لزوم التعطيل بلحاظ ابتناء جعل الخيار علي عدم التصرف بالعين تصرفاً يوجب اختلاف الرغبة فيها. وهو - لو تم - ليس محذوراً يخرج به عن عموم نفوذ الشروط، كما لعله ظاهر.

(2) قال في الجواهر: (كما هو صريح بعض وظاهر إطلاق آخرين. للعموم). وقال في التذكرة: (الأقرب عندي أنه لا يشترط اتصال مدة الخيار بالعقد).

ويظهر منه وجود شبهة تمنع منه. وهو صريح القواعد، حيث صرح بالتردد، لان العقد اللازم لا ينقلب جائزاً. وهو مصادرة. مع أنه ينتقض بخيار التأخير وخيار تخلف الشرط.

وقال في المسالك بعد التصريح بجواز الانفصال: (وفي جواز جعلها متفرقة وجهان أجودهما ذلك). وقد يظهر منه أيضاً وجود شبهة تمنع منه. بل هو كالصريح مما في الدروس من احتمال الجواز قال في الجواهر: (ولعله لاستظهار الاتحاد من

ص: 251

(252)

لا بد من تقديرها بقدر معين وتعيين مبدئها، فلا يجوز جعل الخيار بلا مدة (1)،

---------------

الإطلاق. وفيه منع واضح).

لكن المراد من الاتحاد إن كان هو اتحاد الحق، تبعاً لوحدة الشرط، فهو - لو تم

لا ينافي تعدد زمان الخيار المستحق. وإن كان هو اتحاد زمان الخيار الراجع لاتصال أجزائه، فلا منشأ لتوهم اعتباره.

(1) جعل الخيار بلا مدة يمكن أن يقع علي وجوه:

الأول: أن يراد به بقاؤه مدة مبهمة. والظاهر بطلانه، كما عن جماعة. وهو مقتضي ما في المبسوط والتذكرة والمختلف من بطلان البيع به، وحكاه في المختلف عن السيد المرتضي، وإن حكي عن انتصاره ما يأتي. والوجه فيه ما أشرنا إليه عند الكلام في لزوم تعيين من له الخيار من أنه لا وجود للأمر المردد، اعتبارياً كان أو حقيقياً.

وفي المقنعة والانتصار والخلاف وجواهر القاضي والغنية وعن الكافي أنه يصح، ويكون ثلاثة أيام. وقد يظهر من الدروس الميل إليه، وفي الانتصار أنه من متفردات الإمامية، وفي جواهر القاضي وظاهر الغنية دعوي الإجماع عليه، وفي الخلاف أن عليه إجماع الفرقة أخبارهم.

لكن صرح غير واحد بعدم وجود خبر به، ولم يثبت الشيخ نفسه في التهذيبين شيئاً منها. ولعله لذا حمل في التذكرة كلام الشيخ علي خيار الحيوان.

نعم قال في الجواهر: (إرسال الشيخ الأخبار المزبورة لا تقصر عن المراسيل في كتب الحديث، التي من المعلوم عدم بنائها علي الاستقصاء التام... فهي حينئذ مع الإجماعات المزبورة كافية في اثبات المطلوب... بل جزم به العلامة الطباطبائي في مصابيحه. وهو لا يخلو من قوة). وسبقه إلي هذا في مفتاح الكرامة.

لكن لم يتضح كون مراد الشيخ من الأخبار أخباراً دالة علي التحديد بذلك تعبداً، بل قد يكون مراده بها الأخبار المتضمنة نفوذ الشرط عموماً، ونصوص خيار

ص: 252

(253) (253)

الشرط، بضميمة ما في الانتصار والغنية من أن هذه المدة هي المدة المعهودة في الشريعة للخيار، فيحمل الإطلاق علي المعهود. وذلك راجع إلي تشخيص مقتضي الإطلاق نتيجة القرينة العامة، الذي لو تم فلا إشكال في الحكم.

وقد يكون ذلك هو المنشأ لدعاوي الإجماع، حيث يشيع عند القدماء دعواه علي الحكم بلحاظ الإجماع علي منشئه. وحتي الأخبار قد يدعي ورودها في خصوص مورد بلحاظ ورودها في كبري تشمله بنظر المدعي.

ومن هنا يلزم النظر في الدعوي المذكورة. وهي غير ظاهرة، إذ لم يرد تحديد الخيار بثلاثة أيام إلا في خيار الحيوان، وليس هو من الشيوع والظهور بحدّ ينهض بالقرينية علي تشخيص مقتضي الإطلاق عند العرف. ولاسيما بعدما سبق من الشيخ نفسه في المبسوط وعن السيد المرتضي من بطلان العقد بالشرط المذكور. ومن هنا لا مخرج عما سبق.

الثاني: أن يراد به بقاء الخيار مدة العمر، بحيث يلزم بعد الموت، ولا يثبت للوارث. ولا يبعد خروجه عن مورد كلامهم، لأن ما سبق من الكلام في حمله علي ثلاثة أيام وعدمه فرع العلم بعدم إرادة الاستمرار.

نعم يشمله استدلالهم علي البطلان فيما يأتي من فرض جعل المدة غير مضبوطة، لظهور عدم انضباط مدة العمر. ويأتي الكلام في الاستدلال المذكور إن شاء الله تعالي.

الثالث: أن يراد به بقاء الخيار أبداً، بحيث يبقي حتي في حق الوارث. وهو كالصورة السابقة في الخروج عن مورد كلامهم. كما أن الظاهر قصور استدلالهم المشار إليه آنفاً عنه، خلافاً لما يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره). لظهور أنه لا جهل بحال الخيار المجعول ولا بمقداره بعد فرض جعله بنحو الاستمرار المطلق.

نعم ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) وجهاً آخر للمنع منه. قال في منية المريد: (بل يمكن أن يقال: إن جعله أبداً يبطل من جهة أخري أيضاً، وهي منافاته لمقتضي العقد،

ص: 253

فإن مقتضاه بمدلوله الالتزامي هو التزام كل من المتبايعين بما أنشأه، فلو لم يلتزم به في مقدار من الزمان فهو ينافي إطلاقه، ولا بأس به. وأما لو لم يلتزم به أبداً فهو ينافي مقتضاه ويفسد).

وفيه: أنه لم يتضح أخذ ذلك في مقتضي العقد ومفاده، بل مقتضاه ليس إلا الالتزام بمضمونه، من معاوضة، أو تمليك مجاني، أو نكاح، أو غير ذلك. والفسخ رجوع عن الالتزام المذكور ينافي الوفاء به سواء كان مشروعاً أم لم يكن.

نعم العقد بطبعه يقتضي الجري عليه والوفاء به وعدم الرجوع فيه مطلقاً. إلا أنه يمكن رفع اليد عن ذلك بحكم الشارع بجواز العقد، أو بجعله الخيار فيه، أو ببناء المتعاقدين، لتقايلهما أو باشتراطهما الخيار. من دون أن ينافي ذلك أصل العقد ومقتضاه.

وكما لا تكون مشروعية الإقالة بنحو الإطلاق والاستمرار منافية لمقتضي العقد لا يكون اشتراطهما الخيار بنحو الإطلاق والاستمرار منافياً له، خصوصاً بناء علي ما سبق منه ومنا من أن مشروعية شرط الخيار بسبب كون اللزوم حقياً يشرع معه التقايل.

ويزيد في توضيح ذلك أن الشارع الأقدس لو حكم بجواز الرجوع في عقد ما بنحو الإطلاق والاستمرار، فلا إشكال في أن الحكم المذكور علي خلاف مقتضي طبع العقد، إلا أنه لا يظن بأحد دعوي أنه علي خلاف مقتضي العقد ومفاده، نظير ما لو حكم بوقوع الهبة بيعاً بثمن لم يذكره المتعاقدان، أو وقوع البيع هبة للمبيع مجاناً وبدون الثمن الذي ذكره المتعاقدان.

وبالجملة: الشرط المنافي لمقتضي العقد هو المنافي لمضمونه ومفاد، بحيث يكون القصد إليهما معاً من القصد للمتنافيين الراجع للقصد للمتناقضين، وليس شرط الخيار بنحو الإطلاق في العقد كذلك قطعاً، كما ذكر ذلك في الجملة بعض

مشايخنا (قدس سره).

ص: 254

ولا جعله مدة غير محدودة قابلة للزيادة والنقصان، مثل مجيء الحاج (1)،

---------------

(1) قولاً واحداً، كما في الجواهر، وصرح شيخنا الأعظم (قدس سره) بعدم الخلاف فيه، وفي مفتاح الكرامة ومحكي المقابس بالإجماع عليه. ويظهر من خلافهم في بطلان العقد به المفروغية عن بطلان الشرط. والمذكور في كلماتهم الاستدلال عليه بالغرر.

ودعوي: أن النهي في المقام عن بيع الغرر، والغرر في المقام إنما يكون في الشرط، لا في البيع. ويظهر من كلماتهم في الشروط عدم وضوح التلازم بين اعتبار العلم في البيع واعتباره في الشرط.

مدفوعة بأنه لو سلم عدم عموم سراية الغرر من الشرط للبيع، بلحاظ أن للشرط دخلاً في الرغبة فيه، إلا أنه لابد من البناء علي سرايته في المقام مما كان فيه الشرط من شؤون العقد، لتعرض البيع بالخيار للفسخ الرافع لأثره. هذا غاية ما يمكن أن يوجه به الاستدلال المذكور.

لكنه يشكل أولاً: بما سبق منا عند الكلام في اعتبار العلم بقدر العوضين من عدم نهوض حديث الغرر بإثبات اعتبارالعلم بقدرهما، فضلاً عن إثبات اعتبار العلم بغيرهما من متعلقات العقد، كالأمر المشروط في المقام بحيث يلزم تحديده بالوجه المدعي.

وثانياً: أن مبني اقتضاء النهي عن الغرر اعتبار العلم هو حمل الغرر علي الخطر ولو بلحاظ بعض مراتب المالية، حيث يستلزم ذلك اعتبار العلم بكل ماله دخل في زيادة المالية ونقصها في العوضين من المقادير والصفات. وذلك لا يستلزم ذلك اعتبار الضبط في المدة بالإضافة إلي الأعمال التي تكون طرفاً في المعاوضة - كما في الإجارة

فضلاً عن الشروط، إذ كثيراً ما يكون الموسم دخيلاً في قيمة العمل، دون الوقت. بل قد ينحصر الأمر بذلك.

مثلاً إذا كان السفر للحج في القافلة الأولي أفضل للحاج وأعلي قيمة، وكان

ص: 255

تحديد مسير القافلة الأولي تابعاً لقرار الدولة، يكون الدخيل في مالية العمل المستأجر عليه هو قرار الدولة المجهول الوقت ويكون التحديد به أدخل في المالية من التحديد بالوقت المنضبط، كاليوم والشهر. بل قد يتعذر التحديد بالثاني، لعدم إحراز القدرة علي مراعاته.

وإذا أمكن ذلك في العمل الذي يكون طرفاً في المعاوضة - كالعمل المستأجر عليه - أمكن في المقام. كما لو كان غرض المشتري من شرط الخيار استشارة خبير يوم يمر في سفره ببلد المشتري، ولا يعرف ذلك اليوم بعينه، وكان البايع لا يرضي باشتراط الخيار مدة طويلة. ومن هنا لا مجال لإناطة رفع الغرر بتحديد المدة بيوم أو شهر معينين، بل يختلف ذلك باختلاف الموارد.

هذا شيخنا الأعظم (قدس سره) بعد أن استدل علي بطلان بصيرورة المعاملة بذلك غررية قال: (ولا عبرة بمسامحة العرف في بعض المقامات، وإقدام العقلاء عليه أحياناً، فإن المستفاد من تتبع أحكام المعاملات عدم رضا الشارع بذلك، إذ كثيراً ما يتفق التشاح في هذه الساعة والساعتين من زمان الخيار، فضلاً عن اليوم واليومين) وقد يوجد نظير ذلك في كلام غيره.

لكن الظاهر أن الأحكام التي أشار فيها في الموارد المتفرقة تبتني عندهم علي كبري النهي عن الغرر، مع البناء منهم علي أن عدم انضباط المدة باليوم والشهر ونحوهما مستلزم للغرر، لا لورود النصوص الخاصة فيها، فمع ظهور بطلان منشأ بنائهم كيف يمكن استفادة القاعدة العامة من تلك الموارد؟!.

نعم ورد في السلف جملة من النصوص تتضمن اعتبار كون الأجل معلوماً، خصوصاً موثق غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا بأس بالسلم كيلاً معلوماً إلي أجل معلوم. ولا تسلمه إلي دياس أو حصاد)(1). وربما تكون هذه النصوص منشأ لتأكد عموم النهي عن الغرر في نفوس قدماء الأصحاب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب السلف حديث: 5.

ص: 256

بحيث يقتضي ضبط المدة شرعاً، وأكد ذلك في نفوس المتأخرين تخيل بلوغ ذلك منهم حد الإجماع الحجة، فاستوضحوا العموم بهذا النحو.

وقد يرجع إلي ذلك ما حكاه شيخنا الأعظم (قدس سره) عن بعض الأساطين من قوله: (إن دائرة الغرر في الشرع أضيق من دائرته في العرف).

لكن من المعلوم اختصاص بيع السلف ببعض الأحكام التعبدية، وعدم صلوح مورد واحد لاستفادة القاعدة الكلية. فلم يبق إلا الغرر الذي عرفت الإشكال في التعويل عليه كبروياً وصغروياً.

ولاسيما بعد ما سبق عند الكلام في اعتبار القدرة علي التسليم من دلالة النصوص الكثيرة علي الاكتفاء بإحراز سلامة بعض المبيع، وما تقدم عند الكلام في اعتبار العلم بقدر العوضين من دلالة النصوص علي جواز بيع الصبرة كل كر بكذا، وجواز البيع بحكم المشتري في تعيين الثمن.

مضافاً إلي أن ما ذكرناه في القوافل لا يختص بعصورنا، بل هو سابق من صدر الإسلام، فإن سير القوافل وتحديد أوقاتها إن لم يكن خاضعاً للدولة، فلا إشكال في أن كثيراً ما يتوقف علي أمور لا يتيسر ضبطها باليوم. كما أن مدة قطع الطريق كذلك. فلو لم يكن التحديد بالوجه غير الدقيق مشروعاً لظهر وبان، ولكثرت الأسئلة عن حلّ هذه المشكلة، مع أنه ليس لذلك في النصوص عين و لا أثر. فكيف يمكن مع ذلك استفادة القاعدة الكلية من نصوص بيع السلف، والخروج عن عموم نفوذ العقود والشروط في المقام. خصوصاً مع ما أشرنا إليه آنفاً من عدم وضوح التلازم بين العوضين والشرط في مانعية الغرر عندهم. بل ملاحظة كلماتهم في الشروط تشهد باضطرابها، كما أشار إلي ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) في مباحث الشروط.

ص: 257

ولا جعله شهراً مردداً بين الشهور (1)، وإلا بطل العقد (2). نعم إذا أطلق

---------------

(1) إن أريد به ترديده واقعاً وثبوتاً فالوجه في امتناعه ما تقدم في وجه امتناع جعله مدة مبهمة من امتناع الترديد في الأمور الاعتبارية - كحق الخيار - كامتناعه في الأمور الحقيقية.

وإن أريد به تردده ظاهراً وفي مقام الإثبات - كما لو اشترط الخيار في الشهر الذي يأتي فيه زيد من السفر - فالكلام فيه هو الكلام المتقدم في مثل جعله إلي مجيء الحاج.

(2) كما في الشرايع والتذكرة والقواعد وغيرها. وهو ظاهر بناء علي إفساد الشرط الفاسد للعقد. أما بناء علي عدم ثبوت العموم المذكور - كما هو الظاهر - فلأن منشأ فساد الشرط في أكثر فروض المقام عندهم لما كان هو الغرر فهو يسري للعقد، إما لما تكرر في كلماتهم من أن للشرط قسطاً من الثمن، وإما لما أشرنا إليه آنفاً من أن للشرط دخلاً في الرغبة في العوضين، فمع فرض لزوم العلم بكل ماله دخل في الرغبة فيهما دفعاً للغرر يتعين بطلان العقد بجهالة الشرط، وإما لما سبق منا أخيراً من أن الشرط حيث كان في المقام من شؤون العقد، لدخله في لزومه وجوازه يتعين سريان الغرر منه للعقد. فلاحظ.

وأما الموارد التي يكون منشأ بطلان الشرط فيها الترديد دون الغرر فينحصر وجه بطلان العقد فيها بالبناء علي إفساد الشرط الفاسد للعقد، وحيث سبق عدم ثبوت ذلك فيحتاج فساد العقد فيها للدليل.

اللهم إلا أن يقال: لما كان العقد مبتنياً علي الشرط و مرتبطاً به فدليل نفوذ العقد ولزوم الوفاء به يقصر عن صورة بطلان الشرط وعدم وجوب الوفاء به، وحينئذ يكون مقتضي الأصل عدم نفوذ العقد مجرداً عن الشرط، خرج من ذلك ما إذا كان الشرط مخالفاً للكتاب والسنة، حيث دلت النصوص علي صحة العقد وعدم مبطلية الشرط الفاسد له. ولعله من أجل الردع عن الاشتراط، وبيان عدم ترتب

ص: 258

(259)

الشهر كان الظاهر منه المتصل بالعقد (1)، وكذا الحكم في غير الشهر من السنة أو الأسبوع أو نحوهما.

(مسألة 11): لا يجوز اشتراط الخيار في الإيقاعات (2)،

---------------

الأثر عليه. ويبقي العقد المشتمل علي الشرط الباطل ذاتاً بسبب الترديد داخلاً تحت الأصل المتقدم، ولا دليل فيه مخرج عنه. وربما يأتي في مباحث الشروط ما ينفع في المقام. فلاحظ.

(1) بلا إشكال. وعليه يبتني اتصال الأيام الثلاثة في خيار الحيوان في العقد. وكأن الوجه فيه أن ارتكاز بطلان الترديد، واختلاف الرغبات باختلاف الزمن ملزمان عرفاً بتحديد الزمن المطلوب، فإطلاقه من دون تعيين وتحديد يوجب الانصراف إلي أول أزمنة انطباق العنوان المجعول فيه من اليوم والشهر وغيرهما.

(2) قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (أما الإيقاعات فالظاهر عدم الخلاف في عدم دخول الخيار فيها، كما يرشد إليه استدلال الحلي في السرائر علي عدم دخوله في الطلاق بخروجه عن العقود). ويشهد به في الجملة تصريح غير واحد بعدم دخوله في بعضها كالطلاق والعتق والإبراء. بل في السرائر نفي الخلاف في عدم دخوله في الأولين، وفي المبسوط دعوي الإجماع علي ذلك، وفي المسالك دعوي الاتفاق علي عدم دخوله في العتق والإبراء.

وكيف كان فالكلام في مقامين:

المقام الأول: في شمول عموم نفوذ الشروط للإيقاعات. والظاهر قصور العموم المذكور عنها، لأنه لم يتضمن نفوذ الشرط علي الإطلاق، نظير نفوذ الوقف المستفاد من مثل قوله (عليه السلام) في مكاتبة الصفار: (الوقوف تكون علي حسب ما يوقفها أهلها إن شاء الله)(1) ، بل نفوذه علي من شرطه علي نفسه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات حديث: 1.

ص: 259

لظهور أن مفاد مثل قولهم (عليه السلام): (المسلمون عند شروطهم) هو إلزام المشروط عليه بالجري علي مقتضي الشرط الذي جعله علي نفسه وتنفيذه، فهو يتضمن التضييق علي المشروط عليه وإلزامه بما جعله علي نفسه، لا التوسعة علي المشروط له باستحقاق لشرطه وجواز انتفاعه به، كما هو الحال لو قيل: المسلمون لهم شرطهم، أو هم في سعة ما اشترطوا.

كما أن المنساق من تلك الأدلة أن نفوذه علي المشروط عليه للمشروط له بلحاظ كون المشروط له قد اشترطه عليه، والتزم معه به مبنياً علي الالتزام الآخر، بحيث يكون الشرط منتسباً للمشروط له والمشروط عليه بلحاظ التزامهما به معاً مبنياً علي الالتزام الآخر.

كما يناسبه ما في بعض النصوص من نسبة الشرط للمشروط له، مثل قوله (عليه السلام):

(من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلا يجوز له، ولا يجوز علي الذي اشترط عليه، والمسلمون عند شروطهم مما وافق كتاب الله عز وجل)(1) وقوله (عليه السلام): (فليف للمرأة بشرطها، فان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال: المؤمنون عند شروطهم)(2) ، وقوله (عليه السلام): (فله ما اشترط عليها والمسلمون عند شروطهم(3) ، وقوله (عليه السلام) في المكاتب إذا أدي بعض مكاتبه: (إن الناس كانوا لا يشترطون، وهم اليوم يشترطون، والمسلمون عند شروطهم. فان كان شرط عليه إن عجز رجع، وإن لم يشترط عليه لم يرجع)(4) ، ونحوها غيرها.

وهو المناسب لما سبق عند الكلام في مثل اشتراط عدم الفسخ من أن مفاد أدلة الشروط ليس مجرد وجوب العمل علي الشرط تكليفاً، بل ثبوت الحق للمشروط له، لابتناء الشروط - كالعقود - علي الالتزام باستحقاق الأمر المشروط، لابتناء المعاملات

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الخيار حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 20 من أبواب المهور حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 40 من أبواب المهور حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 4 من أبواب المكاتبة حديث: 3.

ص: 260

عموماً علي تبادل الحقوق وتقابلها، بحيث يلتزم كل طرف بثبوت الحق عليه للطرف الآخر في مقابل التزام الطرف الآخر بثبوت حق عليه له.

والحاصل: أن الشرط وإن كان هو الالتزام المبتني علي التزام آخر، فيصدق بالتزام شخص واحد بالشيء علي النحو المذكور، إلا أن المنساق من أدلة نفوذه - ولو

بضميمة المرتكزات العرفية - فرض انتسابه للمشروط له والمشروط عليه، بحيث يكون نفوذه علي المشروط عليه مبتنياً علي استحقاق المشروط له بسبب كونه طرفاً في الاشتراط، نظير استحقاق طرفي العقد لمضمونه.

وحينئذ لا مجال لصحة الشرط ونفوذه في الإيقاع، لأن الموقع إن اشترط أمراً له كما لو طلق المرأة واشترط له عليها أن تخدمه، فعموم نفوذ الشروط لا ينطبق عليه، لأنه لم يشترط علي نفسه، بل لنفسه. كما لا ينطبق علي المشروط عليه، كالمرأة في المثال،

لأنه أجنبي عن الإيقاع، ولم يشترط علي نفسه شيئاً، بل اشترط عليه اعتباطاً من دون أن يقرّ الشرط. بل حتي لو قبل به فهو بالإضافة إليه التزام ابتدائي وليس شرطاً له، لعدم التزامه بالأمر المشروط فيه كالطلاق في المثال بل هو أجنبي عنه.

وإن اشترط أمراً عليه، كما لو طلق المرأة واشترط علي نفسه أن يمتعها بقدر من المال، فهو وإن كان مشروطاً عليه، إلا أن الطرف المشروط له لم يشترط لنفسه لينتسب الشرط له. وحتي لو قَبِل به فهو بالإضافة إليه شرط ابتدائي، لأن التزامه به لا يبتني علي التزامه بالأمر المشروط فيه، كالطلاق بعد كونه أجنبياً عنه لا يكون تابعاً لالتزامه، بل لالتزام الموقع لا غير.

ويزيد في وضوح ما ذكرنا أنه لو بني علي عموم نفوذ الشرط ولو لم ينتسب للطرفين لزم نفوذ الشرط في الوعد. كما لو وعد زيد عمراً بأن يزوره، واشترط في الوعد بالزيارة تقديم هدية من أحد الشخصين للآخر، لأن عدم وجوب القيام بالأمر الموعود به، تبعاً لعدم نفوذ الوعد، وعدم وجوب الوفاء به، لا يمنع من وجوب الأمر المشروط علي أحد الطرفين لو تم عموم نفوذ الشرط، ووجوب الوفاء به بنحو يعمّ ذلك.

ص: 261

أما قياس ذلك بالشرط بعد فسخ العقد، حيث لا يجب القيام به، تبعاً لعدم وجوب القيام بمضمون العقد.

فهو في غير محله. لأن فسخ العقد راجع إلي رفع اليد عن تمام مضمونه بما في ذلك الشرط الذي يتضمنه، فمع فرض نفوذ الفسخ يتعين بطلان الشرط كالعقد. أما في المقام فالمفروض ثبوت كل من الوعد والشرط وعدم بطلانه، ولا محذور في التفكيك بينهما في اللزوم وعدمه، تبعاً لوجود الدليل علي نفوذ أحدهما ولزومه دون الآخر.

وقد جري علي ما ذكرنا في الجملة بعض مشايخنا (قدس سره) كما يظهر بمراجعة كلامه. كما تعرض غير واحد لوجوه أخر وقع الكلام في تماميتها وعدمها لا يسعنا التعرض لها بعد وفاء ما ذكرنا بالمطلوب.

نعم ما ذكرنا إنما يقتضي قصور عموم نفوذ الشرط عن الإيقاع. ولا ينافي إمكان نفوذه ثبوتاً، بحيث يمكن أن يدل عليه الدليل في خصوص بعض الموارد، كما لعله ظاهر.

المقام الثاني: في نفوذ شرط الخيار بالخصوص في الإيقاعات حتي لو فرض عموم نفوذ الشروط لها. ويظهر الحال فيه مما تقدم في وجه مشروعية شرط الخيار في العقود. حيث سبق أنه قد يستشكل فيه بمنافاته لما دلّ علي لزوم العقد في نفسه، فيكون شرطاً مخالفاً للكتاب والسنة. وتقدم أنه إنما ينافيه إذا كان لزوم العقد حكمياً، لعدم سلطنة المتعاقدين علي الحكم الشرعي ورفع اليد عنه بالشرط. أما إذا كان لزوم العقد حقياً لمشروعية التقايل فيه، فيكون تحت سلطنة المتعاقدين، فكما يكون لهما رفع اليد عن حقهما بالتقايل يكون لهما رفع اليد عنه بشرط الخيار.

فإن مقتضي ذلك عدم نفوذ شرط الخيار في الإيقاع، لظهور أن لزومه حكمي تابع لحكم الشارع الأقدس به ابتداء، لا بلحاظ استحقاق أحد لبقائه، ليمكن التنازل عنه بالتقايل ويشرع فيه شرط الخيار، فبقاء الطلاق مثلا ليس حقاً للمطلق، ليمكن

ص: 262

(263)

كالطلاق والعتق، ولا في العقود الجائزة (1)، كالوديعة. ويجوز اشتراطه في

---------------

تنازله عنه بشرط الخيار. وأما جواز الرجوع فيه فهو لا يستلزم كون بقائه حقاً له، لإمكان تسليط الشارع المكلف علي رفع ما لا يكون بقاؤه حقاً، كتسليط الزوج علي الطلاق الرافع للنكاح مع كون لزوم عقد النكاح حكمياً.

ويزيد في وضوح ما ذكرنا أنه لو أمكن اشتراط الخيار في الإيقاع حين إنشائه أمكن اشتراط الخيار فيه في ضمن عقد آخر. بل هو أولي بالنفوذ، لعدم جريان ما تقدم في المقام الأول فيه. مع أنه لا يظن بأحد البناء علي ذلك. وإلي هذا في الجملة يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في المقام، كما يظهر بملاحظة كلامه.

وكأن ارتكازية ما ذكرناه في المقامين هي المنشأ لظهور مفروغية الأصحاب عن عدم مشروعية شرط الخيار في الإيقاعات. من دون أن يرجع ذلك منهم إلي إجماع تعبدي يكون حجة في المقام، كما قد يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره). لعدم تحرير المسألة إلا في كلام قليل منهم، وعدم ورود نصوص بها، ليعرف بها رأي قدمائهم ممن كانت تعرف فتاواه من طريق رواياته، وعدم وضوح سيرة للمتشرعة فيها، كي يمكن إحراز اتصالها بعصور الأئمة (صلوات الله عليهم)، ويُعرف بسببها حكمهم (عليهم السلام).

(1) كما يظهر من التذكرة والمختلف، وصرح به في جامع المقاصد والمسالك، وحكي عن التحرير وغاية المرام. وعلل في كلامهم بما يرجع إلي لغوية الشرط بعد جواز الرجوع فيها علي كل حال.

لكن صرح في المبسوط والمهذب والسرائر بجريانه في الجملة في جملة من العقود الجائزة. قال في مفتاح الكرامة: (واستندوا في ذلك إلي جواز هذه العقود. وهو يقتضي جريانه في كل عقد جائز).

ومن الظاهر أن الاستدلال المذكور يرجع إلي عدم منافاة الشرط لمقتضي العقد. وهو راجع إلي عدم المانع من صحة الشرط، فلا ينافي لغوية الشرط، لعدم ترتب الأثر

ص: 263

العقود اللازمة (1) عدا النكاح (2).

---------------

عليه.

نعم في مفتاح الكرامة: (والتأثير غير ملتزم في الشروط، فإن منها ما هو مؤكد لمقتضي العقد). لكن المؤكد لمقتضي العقد إن ترتب عليه شيء من الأثر - كثبوت الخيار بتخلفه - دخل في دليل نفوذ الشرط. وإن لم يترتب عليه شيء من الأثر - كما في مثل المقام - فهو وإن كان لا يبطل العقد، إلا أنه لا يدخل في عموم أدلة النفوذ، لعدم الموضوع للنفوذ فيه بعد فرض عدم الأثر له.

وبذلك يظهر أن عدم جواز اشتراط الخيار في العقود الجائزة إنما هو بمعني عدم ترتب الأثر لاشتراطه، لا بمعني لزوم محذور منه.

(1) كما هو مقتضي ما سبق منا عند الكلام في توجيه عدم منافاة اشتراط الخيار للزوم العقد من أن لزوم العقد نوعاً ليس حكمياً، ليتعذر رفع اليد عنه بالشرط المذكور، بل هو حقي بلحاظ منافاة الرجوع في العقد وفسخه من أحد الطرفين لحق الطرف الآخر وسلطنته علي نفسه أو علي ماله، ولذا تشرع فيه الإقالة. وحينئذ يجوز لكل منهما التصرف في حقه والتنازل عنه باشتراط الخيار للآخر، من دون أن ينافي ذلك لزوم العقد. ومقتضي عموم نفوذ الشروط نفوذ الشرط المذكور.

(2) بلا خلاف، كما في الخلاف، وإجماعاً، كما في المبسوط والسرائر وجامع المقاصد والمسالك. قال في جامع المقاصد: (ولأنه ليس عقد معاوضة، ليشرع له اشتراط التروي والاختيار. ولشدة الاحتياط في الفروج. ولأن فيه شائبة العبادة. ولأن رفعه يتوقف علي أمر معين، فلا يقع بغيره). والكل - كما تري - لا ينهض دليلاً عدا الأخير الذي لو تم فهو عين المدعي.

وهو العمدة، فإن ملاحظة مرتكزات المتشرعة وسيرتهم والنصوص الواردة في الموارد المختلفة توجب اليقين بأن لزوم النكاح حكمي، ولا ترفع اليد عنه إلا بأمور

ص: 264

(265)

خاصة، كحدوث موانع النكاح من الرضاع والكفر وغيرها، أو روافعه كالطلاق والفسخ بأسباب خاصة وغيرهما، وليس لزومه حقياً تابعاً لسلطنة الزوجين، ليمكن رفع اليد عنه بالتقايل أو شرط الخيار.

وإلا فلو شرع التقايل فيه لم يحتج في مورد اتفاق الزوجين علي الانفصال للخلع والمباراة بشروطها الثقيلة، ولا للإلزام بالطلاق بشروطه عند عدم تكفير الزوج في الظهار والإيلاء.

ولو شرع فيه شرط الخيار لم يحتج فيه للسؤال عن جواز اشتراط المرأة أن بيدها الطلاق(1) ، وعن اشتراط الرجل لها أنه إن هجرها أو تزوج عليها أو تسري فهي طالق(2). ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه.

نعم ينبغي الكلام في أمرين:

الأول: صرح غير واحد ممن تقدم وغيرهم أن الشرط المذكور يبطل عقد النكاح. ولم يتضح الوجه فيه بعد كون الشرط المذكور مخالفاً للكتاب والسنة، كشرط المرأة أن بيدها الطلاق، ويظهر من كثير من النصوص عدم بطلان العقد بالشرط المخالف للكتاب والسنة، كما أشرنا إلي ذلك في أوائل المسألة العاشرة.

الثاني: صرح في التذكرة وجامع المقاصد بدخول خيار الشرط في المهر. قال في الثاني: (لما فيه من معني المعاوضة، وجواز إخلاء العقد عنه. مع العموم السالف).

لكن الأول ممنوع صغروياً وكبروياً. والثاني لا يزيد علي عدم المانع، من دون أن ينهض دليلاً علي النفوذ. فالعمدة الأخير. وبه أستدل في التذكرة.

لكن الشرط المذكور ينافي ما يدل علي لزوم عقد النكاح، لظهوره في لزومه بجميع خصوصياته، فيكون مخالفاً للكتاب والسنة، ويقصر عنه العموم المذكور.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 29 من أبواب المهور حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 20 من أبواب المهور حديث: 6 وباب: 13 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه حديث: 2، 1.

ص: 265

(266)

وفي جواز اشتراطه في الصدقة وفي الهبة اللازمة وفي الضمان إشكال. وإن كان الأظهر الجواز في الأخير (1)،

---------------

ولذا لا يظن بأحد البناء علي جواز التقايل في المهر، ليكشف عن كون لزومه حقياً، ولا يكون اشتراط الخيار فيه منافياً للزومه. ولا أقل من عدم ثبوت ذلك. ومجرد كون لزوم أصل التمليك حقياً أمراً ارتكازياً في الجملة، لا يكفي بعد كون جعله مهراً أمراً زائداً علي التمليك، ومن شؤون النكاح الذي لا إشكال في كون لزومه حكمياً.

(1) كما هو مقتضي إطلاق غير واحد، منهم العلامة في كتاب البيع من القواعد وصرح به في بيع التذكرة، وكتاب الضمان من جامع المقاصد. وهو الظاهر أو الصريح من الدروس وغيره. لعموم أدلة نفوذ الشرط بعد ارتكاز كون لزومه حقياً لتعلقه بالأموال والذمم. ويأتي تمام الكلام في ذلك.

وصريح كتاب الضمان من التذكرة والقواعد عدم صحة اشتراط الخيار للضامن، ونسب لظاهر المبسوط. وقد يستدل لذلك بوجهين:

الأول: ما في التذكرة قال: (لأنه ينافي مقتضي الضمان، فإن الضامن علي اليقين من الغرر). ولا يخلو ما ذكره من غموض، لظهور أن الغرر يذكر في كلماتهم محذوراً في المعاملة غير منافاة مقتضي العقد. مع أن الغرر علي تقدير حصوله إنما يكون في حق المضمون له، لا في حق الضامن.

وكيف كان فقد يحمل ما ذكره تارة: علي أن الضمان يبتني علي توثق المضمون له من حصول دينه، ومع الخيار لا وثوق بذلك. وأخري: علي أن المضمون له يقع في الغرر، لأنه مع الخيار لا يعرف من المسؤول بدينه.

لكن يندفع الأول بأن الضمان ليس كالرهن مبنياً علي التوثق من حصول الدين، بل مجرد نقله من ذمة لأخري. مع أنه لو ابتني علي التوثق من حصول الدين، فما المانع من أن يكون التوثق منوطاً بعدم فسخ من له الخيار، كما تكون المعاوضة التي

ص: 266

يبتني عليها البيع منوطة بعدم فسخ من له الخيار؟! والمراد بالمنع من الشرط المنافي لمقتضي العقد هو ما يقتضي الجمع بين المتنافيين، كالبيع من دون ثمن، دون ما يكون بقاء مقتضي العقد ومضمونه منوطاً بعدم العمل عليه، لارتفاع مضمون العقد به، كالبيع بشرط الخيار.

ويندفع الثاني بأنه لا دليل علي مانعية مثل هذا الغرر، وليس هو بأكثر من الغرر الحاصل من ضمان من لا يعلم قدرته علي وفاء الدين، مع عدم الإشكال في صحة ضمانه.

الثاني: أن الضمان يتضمن إبراء ذمة المضمون عنه، والإبراء لا يدخله خيار الشرط. ولعله إلي هذا يرجع ما عن بعض الأعاظم (قدس سره) في توجيه كون لزوم الضمان حكمياً، من أن من أثره انتقال الدين إلي ذمة الضامن وبراءة المديون.

وقد دفعه في جامع المقاصد بأن الضمان لا يتضمن براءة ذمة المضمون عنه، وإنما هي من أحكام نقل الدين، ولا تترتب علي مطلق نقله ولو متزلزلاً بل علي خصوص النقل غير المتزلزل.

لكنه - كما تري - لا يخلو عن تدافع ظاهر. إذ مع فرض نقل الدين إلي ذمة الضامن ولو متزلزلاً كيف يمكن بقاء الدين في ذمة المضمون عنه ؟!.

نعم إذا كان مفاد الضمان مجرد التعهد بالدين، نظير الكفالة الشائعة في عصورنا، يتجه بقاء الدين في ذمة المضمون عنه. لكنه خلاف المفروض في مفاد الضمان عند الأصحاب.

هذا مع أن مقتضي إطلاق ما تضمن براءة ذمة المضمون عنه بالضمان هو براءتها مطلقاً ولو مع تزلزل الضمان و اشتراط الخيار فيه.

فالعمدة في الجواب عن الوجه المذكور: أنه إن أريد بالإبراء هو إنشاء الإبراء، فعدم دخول خيار الشرط فيه لكونه إيقاعاً لا يستلزم عدم دخوله في الضمان بعد كونه

ص: 267

(268)

وعدم الجواز في الأولين (1).

---------------

عقداً.

وإن أريد به كل ما يتحقق به براءة ذمة المدين، فلا وجه للبناء علي عدم دخول الخيار فيه إلا دعوي امتناع عود المعدوم. لكنها تختص بالأمور الحقيقية دون الاعتبارية. ولذا الإشكال ظاهراً في جواز اشتراط الخيار في البيع إذا كان الثمن ديناً في ذمة البايع، مع أنه بالفسخ يعود الدين في ذمة البايع بعد براءتها منه.

نعم استشكل فيه بعض مشايخنا (قدس سره) في كتاب الضمان بأن التقايل واشتراط الخيار إنما يصح في العقود التي يختص أثرها بالمتعاقدين، لسلطنتهما علي شؤونهما، دون ما يتعلق أثره بغيرهما، كما في المقام، فإن أثر عقد الضمان بين الضامن والمضمون له لا يختص بهما، بل يجري في المضمون عنه، حيث تبرأ ذمته، ولا سلطان لهما علي ذمته، ليتسني لهما إشغالها بالدين بعد براءتها منه. وقد يرجع إلي ذلك ما سبق من بعض الأعاظم (قدس سره).

لكن ذلك إنما يقتضي توقف نفوذ شرط الخيار علي إذن المضمون عنه، بحيث يكون ملزماً بمضمون الشرط، وذلك فيما إذا وقع الضمان المشروط مبنياً علي طلبه أو أذنه، بحيث يبتني ذلك علي الرضا بالشرط. نظير ما إذا طلب زيد من عمرو أن يبيع داره علي بكر نسيئة، فرضي عمرو بالبيع مشروطاً بأن يرهن بكر دار زيد استيثاقاً للثمن، فرضي زيد، ووقع البيع المشروط مبنياً علي رضاه وطلبه، حيث يلزمه بذل داره للرهن. فلاحظ.

(1) أما في الصدقة فهو المصرح به في وقف التذكرة. وقد يظهر من تعليلهم عدم الرجوع في الوقف باشتراط القربة فيه المفروغية عن ذلك. والوجه فيه ظهور النصوص في أن لزومها حكمي لا حقي، لأنها جعلت الله عز وجل(1).

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 6 باب: 24 من أبواب الصدقة، ج: 13 وباب: 3، 5 من كتاب الهبات وباب: 11 من كتاب الوقوف والصدقات وغيرها.

ص: 268

وأما الهبة اللازمة فقد صرح غير واحد بدخول خيار الشرط فيها. وكأنه لعموم نفوذ الشروط.

لكن لم يتضح كون لزومها في موردها حقياً، بل يحتمل كونه حكمياً، كجوازها في مورده. ويصعب التعويل علي الارتكاز العام في ابتناء العقود علي كون لزومها حقياً بعد خروجها عن مقتضاه بلزومها تارة وجوازها أخري وفق ضوابط غير ارتكازية.

وبعبارة أخري: مقتضي الضوابط الارتكازية المتقدمة البناء علي لزوم الهبة مطلقاً لزوماً حقياً. لكن الشارع خرج عنها، وحكم بجواز الهبة في كثير من الموارد. ولم يحكم بلزومها إلا في موارد خاصة وفق ضوابط تعبدية، ولا طريق لإحراز كون لزومها حينئذ حقياً. فلاحظ.

وينبغي إتمام الكلام في المسألة بالتعرض للعقود اللازمة الأخري التي وقع الكلام بينهم في جواز اشتراط الخيار فيها.

منها: الصرف، فقد منع من خيار الشرط فيه في المبسوط والخلاف والغنية والسرائر وموضع من التذكرة وعن غيرها ونفي في الغنية الخلاف فيه، وادعي في المبسوط والسرائر الإجماع عليه. وقد علل في كلماتهم بأن من شرط صحة العقد في الصرف القبض.

لكن ذلك لا يختص بالصرف، بل يجري في السلف أيضاً مع تصريح الشيخ في المبسوط بعدم المانع من دخول خيار الشرط فيه، وهو ظاهر الغنية.

ولعله لذا عمم المنع لهما في بحث خيار المجلس من التذكرة. قال في وجه الاستدلال بالتعليل المذكور: (لافتقار العقد فيهما للتقابض في المجلس، والتفرق من غير علقة بينهما وثبوت الخيار بعد التفرق يمنع لزوم القبض فيه، ويثبت بينهما علقة بعد التفرق).

وهو كما تري فإن لزوم القبض فيهما قبل التفرق، لا يستلزم عدم بقاء علقة

ص: 269

بين المتبايعين. ولذا لا ريب في عدم انقطاع العلقة بينهما في السلف، لظهور استحقاق المشتري علي البايع تسليمه المبيع في وقته. ومن هنا كان الظاهر عدم نهوض التعليل المذكور بالاستدلال، والخروج عن عموم نفوذ الشروط.

وأما الإجماع المدعي ممن تقدم فلا يصلح دليلاً، كما يظهر مما ذكرناه في نظائر المقام. ولاسيما مع عدم التعرض لاستثناء الصرف من جواز اشتراط الخيار في البيع من المفيد و المرتضي وجماعة كثيرة ممن تأخر عنهما، بل صرح جماعة من المتأخرين بثبوته فيه. ومع قرب ابتنائه علي الإجماع علي اشتراط القبض في الصرف، حيث يكثر منهم دعوي الإجماع علي الحكم في المسألة بلحاظ الإجماع علي منشئه بنظر المدعي.

ومنها: السلف. فقد سبق من التذكرة في بحث خيار المجلس عدم جريان خيار الشرط فيه. ولم يعرف عن غيره. بل صرح هو في بحث خيار الشرط منها بدخوله فيه، وان استشكل في دخوله في الصرف. ويظهر الحال فيه مما سبق.

ومنها: الوقف. فقد صرح بعدم دخول خيار الشرط فيه في المبسوط والسرائر والشرايع والدروس وعن غيرها. وفي المسالك أنه موضع وفاق. لكن في الدروس وظاهر السرائر ثبوت الخلاف فيه.

وكيف كان فقد يدعي أن مقتضي إطلاق قوله (عليه السلام): (الوقوف تكون علي حسب ما يوقفها أهلها إن شاء الله)(1) هو نفوذ الشرط المذكور حتي لو كان الوقف إيقاعاً، لأن قصور عموم نفوذ الشروط عن الوقف بلحاظ ذلك لا ينافي نفوذه بأدلة نفوذ الوقف.

لكن لا مجال لذلك إذا وقع بقصد القربة، لما سبق عند الكلام في الصدقة من عدم مشروعية الرجوع فيما كان لله تعالي. أما لو لم يقع بقصدها - بناء علي عدم اعتباره فيه - فيبتني امتناع شرط الخيار فيه علي ما سبق منافي أوائل الكلام في بيع الوقف من ابتناء الوقف علي التأبيد بمعني انقطاع علقة المالك به، بحيث لا يرجع له. و قد تقدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات حديث 1.

ص: 270

عند الكلام في جواز بيعه مع اشتراط الواقف ما ينفع في المقام. فراجع.

ومنها: الصلح ففي الخلاف والمبسوط لا يقع خيار الشرط فيه مطلقاً. لعموم دليل نفوذه وعدم الدليل علي إلحاقه بالبيع في دخول خيار الشرط فيه.

لكنه - كما تري - يجري في جميع العقود التي ليست ببيع والتي حكم بجريان خيار الشرط فيها. ويندفع بأن الدليل علي جريان خيار الشرط لا ينحصر بنصوص جريانه في البيع، بل يقتضيه أيضاً عموم دليل نفوذ الشروط القاضي بجريانه في كل عقد يكون لزومه حقياً، ومنه الصلح، كما يظهر مما سبق في أول الكلام في الخيار المذكور.

وعن غاية المرام أنه إن وقع معاوضة دخله الشرط. وإن وقع عما في الذمة مع جهالته أو علي إسقاط الدعوي قبل ثبوتها لم يدخله، لأن مشروعيته لقطع المنازعة فقط، واشتراط الخيار معرض لعود الخصومة، فينافي مشروعيته، وكل شرط ينافي مشروعية العقد غير لازم.

وفيه: أن الشرط إنما لا يشرع إذا كان منافياً لمقتضي العقد، بحيث يلزم التهافت وإنشاء المتنافيين. أما إذا كان منافياً لفائدته ولما شرع له، فلا محذور فيه، فضلاً عما إذا كان معرضاً لعدم استمرار فائدته مع تحققها في الجملة، كما في المقام، إذ غاية الأمر أن يكون إعمال الشرط معرضاً لعود التنازع بعد توقفه، وأي محذور في ذلك ؟ نظير المعاوضة المبنية علي تبديل الملكية، حيث لا مانع من شرط الخيار فيها، وإن كان معرضاً لعدم بقاء أثرها، نظير ما تقدم في الضمان.

نعم ذلك إنما يتم إذا كان الصلح في مقابل سقوط الدعوي، أو في مقابل إسقاطها إذا كان إعمال الخيار قبل إسقاطها. أما إذا كان بعد إسقاطها فلا يبقي موضوع للخيار، لنفوذ الإسقاط ولزومه بعد عدم إناطته بشيء، لأن موضوع الصلح وطرفه هو استحقاق الإسقاط، لا نفس الإسقاط، ولا يبقي موضوع لاستحقاق الإسقاط مع تحققه، ليمكن الفسخ بسبب الخيار.

وفي جامع المقاصد وعن التحرير عدم دخول شرط الخيار في الصلح الذي

ص: 271

(272)

(مسألة 12): يجوز اشتراط الخيار للبايع في مدة معينة (1) متصلة بالعقد (2) أو منفصلة عنه (3) علي نحو يكون له الخيار في حال رد الثمن (4)

---------------

يتضمن الإبراء. وكأنه لعدم دخول الخيار في الإبراء. ويظهر الوجه فيه والجواب عنه مما سبق في الضمان.

ومنها: الرهن. والظاهر عدم الإشكال في جوازه من جهة المرتهن، فيلحقه ما تقدم في العقود الجائزة. وأما من جهة الراهن فلا إشكال ظاهراً في لزومه. وعن ظاهر المبسوط وصريح التحرير و غاية المرام الإشكال في دخول خيار الشرط فيه.

قال في محكي الأخير: (وفي الراهن إشكال. من أصالة الجواز... ومن منافاته لعقد الرهن، لأنه وثيقة لدين المرتهن، ومع حصول الخيار ينفي الفائدة). وهو نظير ما تقدم منه في القسم الثاني من الصلح.

ويظهر الجواب عنه مما تقدم فيه وفي الضمان. هذا ما تيسر لنا ذكره في المقام. والله سبحانه وتعالي العالم. ومنه نستمد التوفيق والتسديد. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) لظهور تسالمهم علي اعتبار ضبط المدة في الخيار، كما سبق في أوائل المسألة العاشرة. وما قد يوهمه إطلاق المدة في الإرشاد - من عدم اعتبار ضبطها - غير مراد قطعاً، كما في مفتاح الكرامة. لما هو المعلوم من مباينهم في أمثال المقام.

نعم تقدم الإشكال في دليل ذلك بنحو يخرج به عن عموم نفوذ الشروط. وذلك يجري في المقام، فإنه لو تم اختصاص النصوص الآتية بصورة ضبط المدة كفي العموم المذكور.

(2) كما لو قال: لي الخيار إلي سنة. وهو مورد النصوص الآتية.

(3) كما لو قال: لي الخيار في آخر شهر من السنة. و يقتضيه - مضافاً إلي عموم نفوذ الشروط، كما يأتي - النصوص الآتية لإلغاء خصوصية مواردها عرفاً.

(4) إجماعاً، كما في الخلاف وجواهر القاضي وجامع المقاصد والمسالك و

ص: 272

ظاهر التذكرة وعن غيرها. وفي الجواهر إجماعاً بقسميه. ويقتضيه - مضافاً إلي عموم الشروط بالتقريب المتقدم - النصوص الخاصة.

ففي صحيح إسحاق بن عمار: (أخبرني من سمع أبا عبد الله (عليه السلام)، قال: سأله رجل وأنا عنده، فقال له: رجل مسلم احتاج إلي بيع داره، فمشي إلي أخيه، فقال له: أبيعك داري هذه، وتكون لك أحب إليّ من أن تكون لغيرك. علي أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلي سنة أن ترد علي. فقال: لا بأس بهذا. إن جاء بثمنها إلي سنة ردها عليه. قلت: فإنها كانت فيها غلة كثيرة، فأخذ الغلة، لمن تكون ؟. قال: الغلة للمشتري. ألا تري أنه لو احترقت لكانت من ماله). كذا رواه الكليني(1).

وروي نحوه الصدوق، إلا أنه قال: (سأله رجل وأنا عنده، فقال: (رجل مسلم...)(2). وكذا الشيخ، إلا أنه قال: (حدثني من سمع أبا عبد الله (عليه السلام)، وسأله رجل وأنا عنده فقال: رجل مسلم...)(3). وهو الموجود في الوسائل(4).

ولا إشكال في كونه صحيحاً علي الثاني. وكذا علي الثالث، لظهوره في سماع إسحاق له بنفسه، وروايته له عمن سمعه من أبي عبد الله (عليه السلام).

كما لا يبعد اعتباره علي الأول، لأنه وإن لم يسمعه بنفسه، وإنما يرويه بطريق من حدثه به، من دون أن يعين الشخص الذي حدثه، إلا أن جزمه بأن الشخص المذكور سمع أبا عبد الله (عليه السلام) ظاهر في وثوقه، بل علمه بأنه قد سمعه (عليه السلام)، وحيث يمكن اعتماده في ذلك علي الحدس القريب من الحس، فيقرب قبول ذلك منه وقريب منه معتبر معاوية بن ميسرة(5).

وفي صحيح سعيد بن يسار: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا نخالط أناساً من

********

(1) الكافي ج: 5 ص: 171.

(2) من لا يحضره الفقيه ج: 3 ص: 128.

(3) التهذيب ج: 7 ص: 23.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب الخيار حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب الخيار حديث: 3.

ص: 273

أهل السواد وغيرهم، فنبيعهم... ويكتب لنا الرجل علي داره أو علي أرضه - بذلك المال الذي فيه الفضل الذي أخذ منا - شراء قد باع وقبض الثمن منه، فنعده [فعندنا يب. فبعده خ. ل] إن هو جاء بالمال إلي وقت بيننا وبينه أن نرد عليه الشراء. فإن جاء الوقت ولم يأتنا بالدراهم فهو لنا. فما تري في الشراء؟ فقال أري أنه لك إن لم يفعل. وإن جاء بالمال للوقت فرد عليه)(1). بناء علي ما يظهر من غير واحد من حمل الوعد فيه علي الشرط. وقد استشهد له في الجواهر بما تضمنه من الأمر بالعمل عليه، مع أنه لا يجب العمل بالوعد.

اللهم إلا أن يقال: لو تم عدم وجوب الوفاء بالوعد في المقام، فحمل الوعد فيه علي الشرط، بقرينه الأمر بالعمل عليه، ليس بأولي من حمل الأمر بالعمل عليه علي الاستحباب، بقرينة التعبير بالوعد.

ودعوي: أن استحباب الرد مع الوعد من الوضوح بحيث لا يحتاج للسؤال، لوضوح استحباب الإقالة، خصوصاً مع الوعد.

مدفوعة بأن الصحيح لم يتضمن السؤال عن حكم الرد مع الإتيان بالثمن في الوقت المحدد، بل عن حكم البيع بالوجه المذكور، ولزومه مع عدم رد الثمن في الوقت المشروط. وكما يمكن أن يكون منشأ احتمال السائل البطلان هو ذهاب الجمهور لبطلان بيع الخيار - علي ما حكي عنهم - فيكون مما نحن فيه، يمكن أن يكون منشأه أن الداعي للبيع ليس هو الرغبة عن المبيع، بل الحاجة للثمن، فيشبه بيع المضطر. ومن ثم يشكل الاستدلال بالصحيح.

وأشكل منه الاستدلال بمعتبر أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) [أبي عبد الله]: (قال: إن بعت رجلاً علي شرط، فإن أتاك بمالك، وإلا فالبيع لك)(2). لما سبق في أول الكلام في خيار الشرط من ظهور الشرط فيه في شرط الأجل في الثمن، لا شرط الفسخ في البيع، فالخيار فيه خيار تخلف الشرط، لا خيار الشرط الذي هو محل الكلام.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب الخيار حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب الخيار حديث: 1، 2.

ص: 274

فالعمدة في المقام الحديثان الأوليان.

مضافاً إلي ما سبق من عموم نفوذ الشروط بالتقريب المتقدم عند الكلام في اشتراط الخيار. بل هو مهم جداً في المقام، لانحصار الدليل به في كثير من الفروع الآتية، وغيرها مما يقصر عنه الحديثان المتقدمان.

لكن في الجواهر في خاتمة الكلام في خيار المؤامرة والشرط قال: (واعلم أن جميع ما ذكرناه في خيار المؤامرة والخيار برد الثمن جرياً علي ما ذكره الأصحاب. وظاهرهم أنها علي ما تقتضي العمومات. بل هو صريح غير واحد منهم. بل هو مقتضي ما ذكروه من التعدي عن محل النص في الخيار برد الثمن. لكن قد يشكل ذلك بأنهما معاً من التعليق الممنوع في البيع ونحوه، من غير فرق فيه بين كونه في نفس العقد وبين كونه في متعلق العقد، كالشرط ونحوه. فلو باع واشترط شرطاً مثلاً قد علقه مجيء زيد في مدة معينة مثلاً لم يجز بلا خلاف أجده فيه. والفرق بينه وبين تعليق الخيار علي رد الثمن، أو علي أمر زيدٍ به، غير واضح. والتعبير بعبارة لا تعليق فيها في اللفظ لا يرفع التعليق في المعني. فإن اشتراط الخيار حال رد الثمن أو حال أمر زيدٍ به كاشتراطه حال قدوم الحاج أو مجيء زيد في مدة معينة. فالتحقيق حينئذ الاقتصار في خيار الرد علي النصوص وما يمكن إلحاقه بما فيها...).

وفيه: أنه لا عموم يقتضي امتناع التعليق، وإنما هو مقتضي الإجماع، والمتيقن منه مثل البيع ونحوه من المضامين العقدية والإيقاعية، دون مثل الشرط الذي تابع للمعاملة.

مع أن الممنوع منه هو تعليق المضمون المعاملي المنشأ، دون متعلقة. ولذا صرحوا بامتناع التعليق في الوكالة، دون الأمر الموكل فيه. والمضمون المنشأ بالشرط في المقام هو استحقاق الخيار بالنحو الخاص. وهو فعلي يحصل بمجرد الاشتراط في البيع، لأن الاشتراط لما لم يكن معلقاً، بل كان فعلياً فالخيار فعلي أيضاً، والمعلق علي الرد إنما هو إعمال حق الخيار بالفسخ. وذلك هو المرتكز عرفاً في المقام.

ص: 275

وعليه تنزل نصوصه، وكلمات الأصحاب - وإن كان الجمود علي حاق بعضها قد يوهم خلاف ذلك - لظهور الجميع في نفوذ الشرط الذي وقع من المتعاقدين بالنحو الذي وقع عليه ارتكاز.

بل يأتي في المسألة السابعة عشرة إن شاء الله تعالي أنه يظهر من بعض كلمات صاحب الجواهر (قدس سره) نفسه الميل إليه. وقد سبق أنه لا محذور في تعليق متعلق المضمون المعامل مع فعلية نفس المضمون، وهو الاستحقاق المستفاد من الاشتراط.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من عدم الفرق بين الوجهين، لأن القدرة في كليهما موقوفة علي الرد، ولا قدرة قبله.

فهو كما تري! لأن عدم القدرة علي الوجه المدعي، لعدم تحقق شرط المملوك، وعلي الوجه الآخر لعدم تحقق الملكية، نظير ما سبق في الوكالة. بل لو فرض حصول التعليق في الشرط نفسه، فحيث كان الدليل علي بطلان التعليق منحصراً بالإجماع، فلا وجه للمنع منه في مورد ظهور حال الأصحاب في الجري عليه، كما اعترف به (قدس سره).

وأما ما ذكره من عدم ظهور الخلاف في بطلان اشتراط شرط معلق علي مجيء زيد في مدة معينة. فإن كان المراد تعليق الاشتراط الذي يكون به الاستحقاق، فهو بناء علي ما سبق ليس نظيراً للمقام. وإن كان به تعليق الأمر المشروط - كدفع مال أو خياطة ثوب - فالظاهر صحته ولا يظهر منهم بطلانه.

ومثل ذلك الإشكال في المقام بجهالة زمان الخيار المشروط، لجهالة زمان الرد. لاندفاعه أولاً: بالمنع من بطلان الشرط بالجهالة، كما يظهر مما تقدم في المسألة العاشرة. وثانياً: بأن المجهول هو زمان إعمال الخيار المشروط، لازمان الخيار نفسه، كما ذكرناه آنفاً.

وقد ظهر من جميع ما سبق أنه لا ينبغي الإشكال فيما يظهر من الأصحاب من التمسك في المقام بعموم نفوذ الشروط.

ص: 276

هذا وحيث ظهر مما سبق أن المعلق علي رد الثمن وإرجاعه هو إعمال الخيار بالفسخ، لا أصل الخيار، فإرجاع الثمن تارة: يكون فسخاً فعلياً، لقصد الفسخ به، نظير عقد المعاطاة، كما يأتي الكلام فيه. وأخري: يكون مقدمة للفسخ القولي، لتوقف الفسخ المستحق بالشرط عليه.

وعلي أحد الوجهين ينزل قوله في معتبر معاوية بن ميسرة: (فشرط إنك إن أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك). وليس المراد به انفساخ البيع بمجرد ردّ مقدار الثمن من دون فسخ، فإنه يحتاج إلي كلفة يبعد جداً حمل الحديث عليها، بخلاف ما ذكرنا، لأن شيوع شرط الخيار عند العرف وفي النصوص يوجب انصراف الصحيح اليه. ولاسيما وأن مصحح نسبة المال الذي يرجعه المشتري للبايع هو فرض انفساخ البيع، المناسب لتحقق الفسخ من المشتري.

ومن ثم لا مجال لحمل النصوص علي اشتراط انفساخ البيع بمجرد ردّ مقدار الثمن مطلقاً وان لم يقصد معه الفسخ، بل هبة أو أمانة أو غيرهما.

ثم إنه بعد فرض قصور نصوص المقام عن ذلك فلا مجال لتصحيحه بعموم نفوذ الشروط. لما أشرنا إليه - في أوائل الكلام في سقوط خيار المجلس باشتراط سقوطه - من قصور عموم الشروط عن نتائج المعاملات، ككون الشيء مبيعاً، و كون المرأة مطلقة، ومنها انفساخ البيع في المقام. لعدم كونها تحت سلطنة المشترط، بل هي تابعة لأسبابها الشرعية، كالفسخ في المقام.

وأشكل من ذلك ما لو قصد بالشرط انتهاء أمد البيع برد الثمن دون انفساخه، نظير الزواج المنقطع. لعدم ثبوت مشروعية ذلك في المعاملات. وقد تقدم عند الكلام في شرط الخيار في البيع ما ينفع في المقام.

هذا ولم يتعرض في الوسيلة لبيع الخيار في فروع خيار الشرط، وإنما ذكر من أقسام البيع بيع الإقالة، و ذكر شروطه بما يناسب بيع ما نحن فيه، ثم قال: (فإذا باع شيئاً علي أن يقيل البيع في وقت كذا بمثل الثمن الذي باعه به لزمته الإقالة إذا جاء

ص: 277

بنفسه مع وجوده، أو ببدله مع تلفه (1).

---------------

بمثل الثمن في المدة أو قبلها. فإن جاء به بعد انقضاء المدة لم تلزمه وكان مخيراً) وظاهر كلامه هذا إرادة اشتراط الإقالة علي المشتري عند ردّ الثمن، لا اشتراط الخيار للبايع مع رده، الذي سبق الكلام فيه.

فإن كان مراده بذلك صحة ذلك في نفسه، فهو في محله. لعموم أدلة نفوذ الشروط من دون مانع. وإن كان مراد بذلك حمل النصوص المتقدمة عليه، فلا وجه له إلا حمل الرد في حديثي معاوية بن عمار وسعيد بن يسار علي الإقالة.

لكنه غير ظاهر، لقرب حمله علي رفع اليد عن التمسك بالشراء بسبب الفسخ المتفرع علي الخيار المجعول، لما عرفت من أن ذلك هو المرتكز الذي تنصرف إليه النصوص، لاحتياج الإقالة إلي عناية مستغني عنها، حيث يكفي في تحقق غرض المشترط اشتراط الخيار التابع له، فلا داعي لاشتراطه الإقالة التابعة للطرف الآخر.

ولاسيما مع قوله في حديث معاوية بن ميسرة: (فشرط أنك إن أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك). لقوة ظهوره في رجوع الدار للبايع بمجرد مجيئه بالثمن، من دون حاجة إلي إقالة من المشتري، وقرب رجوع مفاد النصوص لشيء واحد، وهو الأمر المرتكز الذي سبق.

وأشكل من ذلك حمل كلمات الأصحاب عليه، فإن كلماتهم كالصريحة فيما ذكرنا. ومن ثم قد يحمل كلامه علي ما ذكرنا، ويكون تعبيره عنه بالإقالة بلحاظ كونه كالإقالة في تراجع المشتري عن التمسك بالبيع، وإرجاع المبيع إن كان قد أخذه، لأن ذلك هو الأنسب بظهور كلامه في الإشارة إلي قسم من البيع معروف بين الأصحاب، وليس هو إلا ما ذكرنا. فلاحظ.

(1) من الظاهر أن الفسخ بالخيار أو بالتقايل يقتضي رجوع كل من العوضين إلي صاحبه الذي كان له قبل المعاوضة، فمع فرض بقاء الثمن بعينه لا بد من رجوعه

ص: 278

إلي ملك المشتري بالفسخ.

نعم يختص ذلك بما إذا كان الثمن شخصياً، وقد أخذه البايع. أما إذا كان كلياً وقد دفع المشتري فرداً منه للبايع، فالفسخ إنما يقتضي رجوع الثمن الكلي إلي المشتري، لا رجوع عين الفرد الذي سلمه، ليجب علي البايع إرجاعه بعد تملكه له، لعدم كون الفرد المذكور طرفاً في المعاوضة. غاية الأمر أن يجب علي المشتري إرجاع فرد من الكلي، كما أخذ فرداً منه.

وأما ما قد يظهر من الأعاظم (قدس سره) من أنه بعد تعين الثمن الكلي بالفرد المقبوض يكون هو الثمن. فهو غير ظاهر الوجه، لأن تحديد الثمن تابع لمفاد المعاوضة، والمفروض كون طرفها هو الكلي. ولذا لا إشكال ظاهراً في عدم استحقاق فسخ البيع لو كان المقبوض معيباً، بل يستحق التبديل لا غير.

وبالجملة: لا ينبغي الأشكال في عدم صيرورة المقبوض ثمناً مستحقاً بالبيع، بل هو فرد من الثمن المستحق به، ويستحق بشخصه بتراضيها بكون وفاء عنه.

ثم إن تملك المشتري بالفسخ لعين ما دفعه للبايع فيما إذا كان الثمن شخصياً - أو كلياً والمدفوع فرد منه لو قلنا بذلك فيه - لا يقتضي توقف جواز الفسخ البايع في المقام علي إرجاعه بعينه، بل هو تابع لما أخذ قيداً في الفسخ عند اشتراط الخيار في البيع.

فإن كان القيد هو إرجاع عين المدفوع، وعدم الاكتفاء بالبدل مطلقاً، تعين عدم جواز الفسخ مع عدم إرجاعه حتي مع تلفه أو تعذر إرجاعه، لضياع أو نحوه.

وإن كان القيد هو إرجاع الأعم منه ومن مثله، تعين الاكتفاء بإرجاع المثل ولو مع وجود عين المدفوع وإمكان إرجاعه، لرجوع ذلك إلي اشتراط الاكتفاء بالمثل بدلاً عن عين المدفوع في السلطنة علي الفسخ، وفي إرجاع الثمن المترتب عليه.

وإن كان القيد هو إرجاعه بنفسه وعدم الانتقال للبدل إلا في خصوص حال

ص: 279

(280)

- كتلف المدفوع، أو الأعم منه ومن تعذر إرجاعه، أو الأعم منهما ومن صعوبة الإرجاع، أو الأعم من جميع ذلك ومن لزوم محذور منه، كما لو اشتبه بغيره - تعين العمل علي ذلك سعة وضيقاً.

كل ذلك لأن ثبوت الخيار والسلطنة علي الفسخ لما كانا بسبب الشرط الواقع بين المتبايعين، فهما تابعاً للشرط سعة وضيقاً. وما تقدم من أن مقتضي القاعدة هو إرجاع عين الثمن مع وجوده عند الفسخ، إنما يكون في الفسخ المستحق شرعاً في مثل خيار المجلس أو الحيوان، أو الفسخ مع التقايل، دون ما نحن فيه، حيث يكون الفسخ مستحقاً بالشرط القابل للسعة والضيق.

إذ عرفت هذا فالظاهر من بناء العرف وعملهم في مورد النصوص، وما هو من سنخه، مما يكون فيه الثمن من سنخ النقود، عدم التقيد عند اشتراط الخيار بإرجاع عين المدفوع، والاكتفاء بالمثل. لعدم تعلق الغرض بعين المدفوع، وغلبة عدم تيسر إرجاعه، أو لزوم محذور منه بسبب اشتباهه بغيره، حيث يحتاج حينئذ التقييد به ولو في خصوص حال لعناية مغفول عنها.

نعم يمكن تعلق الغرض بالعين، بحيث يكون ظاهر الإطلاق إرادتها فيما لو كان الثمن من العروض، كما باعه الدار بالبستان. وحينئذ يتعين العمل علي ذلك، وعدم الاكتفاء برد المثل أو القيمة حتي مع تلفها. بل يسقط الخيار حينئذ. كما يمكن أيضاً التصريح بالفرق بين حال وجود العين أو تيسر إرجاعها وعدمه.

لكن ذلك كله خارج عن مورد النصوص، وعن ظاهر عمل العرف في موردها. ويأتي بعض ما يتعلق بذلك في المسألة الثامنة عشرة إن شاء الله تعالي. فلاحظ.

بقي في المقام أمران:

الأول: أن شيخنا الأعظم (قدس سره) استشكل في الاكتفاء بردّ المثل مع التمكن من ردّ عين الثمن، بأن مقتضي الفسخ شرعاً بل لغة ردّ العين مع الإمكان.

ص: 280

(281)

ويندفع بأن الفسخ لا يقتضي ردّ العين علي المشتري، بل استحقاقه إياها وتملكه لها مع وجودها، سواء أمكن ردها أم لا. ووجوب الردّ حينئذ إنما هو لضمانه بضمان المعاوضة الذي يلزم الخروج عنه بتسليم المضمون لصاحبه. وذلك لا ينافي في الاكتفاء بالمثل بدلاً عنه بمقتضي الشرط المفروض. فإرجاع المثل ليس لدعوي استحقاقه بالفسخ، بل الرجوع شرط الخيار بالوجه المتقدم إلي اشتراط الاكتفاء به بدلاً عن العين المستحقة بالفسخ. ولا محذور في الشرط المذكور يمنع من نفوذه.

الثاني: لو لم يقبض البايع الثمن من المشتري كان له الفسخ في المدة وإن لم يتحقق الردّ، لأن المراد عرفاً من ردّ الثمن ليس إلا تمكن المشتري من الثمن وانتفاعه به، وهو حاصل في المقام.

كما لو لو بقي الثمن في ذمة المشتري، أو دفع للبايع غير المشتري مقدار الثمن من ملك المشتري، أو غصب البايع من المشتري مقدار الثمن، أو اقترض، أو أحال عليه، فأراد المشتري بعد أحد هذه الأمور الفسخ في المدة.

لكن قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (ويحتمل العدم، بناء علي أن اشتراط الردّ بمنزلة اشتراط القبض قبله). وكأنه لأن توقف صدق الرد علي قبض البايع يقتضي اشتراط القبض في الفسخ تبعاً لاشتراط الرد فيه، نظير نقل البايع للثمن - إذا كان قد قبضه مقدمة لرده علي المشتري.

وهو - كما تري - لا يناسب المفهوم عرفاً من اشتراط الرد، لما ذكرناه، والفرق بين نقل البايع للثمن وقبضه له أن قبضه له شرط للحاجة للرد من أجل انتفاع المشتري بالثمن، فمع عدمه يمكن للمشتري الانتفاع بالثمن وإن لم يرده البايع. أما نقله للثمن - إذا كان قد قبضه - فهو شرط لرد الثمن علي المشتري وانتفاعه به، وبدونه لا ينتفع المشتري بالثمن.

ص: 281

ويسمي بيع الخيار. فإذا مضت مدة الخيار لزم البيع وسقط الخيار، وامتنع الفسخ (1). وإذا فسخ في المدة من دون ردّ الثمن أو بدله مع تلفه لا يصح الفسخ (2). وكذا لو فسخ قبل المدة (3). فلا يصح الفسخ إلا في المدة المعينة في حال رد الثمن أو رد بدله مع تلفه. ثم الفسخ إما أن يكون بإنشاء مستقل في حال الرد، مثل: (فسخت) ونحوه، أو يكون بنفس الرد (4) علي أن يكون إنشاء الفسخ بالفعل، وهو الرد، لا بقوله: (فسخت) ونحوه.

---------------

(1) قطعاً. لعموم لزوم العقود بعد قصور الخيار المشترط. ولمفهوم الشرطية في حديث إسحاق بن عمار.

(2) لعدم تحقق شرطه الذي أخذ في الخيار.

(3) لعين ما سبق. ومثله ما لو فسخ بعد المدة. مضافاً فيه إلي مفهوم الشرطية في حديث إساق بن عمار.

(4) كما أشرنا إليه آنفاً. وذلك بأن يكون الرد بداعي الفسخ، نظير المعاطاة التي لو استشكل في الاكتفاء بها في العقود لا مجال للإشكال فيها في مثل الفسخ الذي صرحوا بالاكتفاء فيه بمثل التصرف الكاشف عنه.

لكن في جامع المقاصد والمسالك وعن غير واحد عدم كفاية الرد في انفساخ البيع.

فإن أرادوا بذلك الرد المجرد عن قصد الفسخ، فهو في محله، ويرجع إلي ما تقدم منا عند الكلام في مفاد الشرط في المقام. وإن أرادوا به عدم كفاية قصد الفسخ بالرد، بل لابد من الفسخ بعده. فلا مجال له بعد ما ذكرنا. بل هو لا يناسب نصوص المقام، كما يظهر بأدني ملاحظة لها.

وأما ما في مفتاح الكرامة من أن قضية كلام الأصحاب اشتراط الخيار بعد

ص: 282

(283)

(مسألة 13): المراد من رد الثمن إحضاره عند المشتري وتمكينه منه (1). فلو أحضره كذلك جاز له الفسخ (2) وإن امتنع المشتري من قبضه.

(مسألة 14): الظاهر أنه يجوز اشتراط الفسخ في تمام المبيع برد بعض الثمن (3). كما يجوز اشتراط الفسخ في بعض المبيع بذلك (4).

---------------

الرد. ففيه: أن ذلك لا ينهض دليلاً. لقرب تنزيل كلام كثير منهم علي مجرد اشتراط الرد في إعمال حق الخيار، كما سبق أنه المرتكز عرفاً. ولو تعذر ذلك في كلامهم أو كلام بعضهم لم ينهض كلامهم دليلاً مخرجاً عن مقتضي الأدلة الخاصة والعامة التي ذكرناها. فلاحظ.

(1) كما أشرنا إليه آنفاً. وهو كالصريح من نصوص المقام.

(2) كما يتحقق به الفسخ لو قصد إنشاءه بذلك.

(3) بلا إشكال ظاهر لعموم نفوذ الشروط. ومعه لا يهم قصور مورد نصوص المقام عنه. علي أنه لا يبعد استفادته منها، الإلغاء خصوصية مواردها عرفاً، وأن المفهوم منها نفوذ الشرط ولزوم الجري عليه.

(4) كما صرح به في التذكرة في شرط الخيار، وذكره هنا صاحب الجواهر وشيخنا الأعظم قد سرهما وغير واحد ممن تأخر عنهما. وفي المسالك أنه الأوجه. لعموم نفوذ الشروط.

وفيه: أن صحة الشرط فرع إمكان المشروط، ويمتنع تبعيض الفسخ مع وحدة العقد، لوضوح أن الفسخ حلّ للعقد، والعقد الواحد إما أن يحل بتمام مضمونه أولا يحل، ولا مجال للتبعيض في حله. ولعله لذا تردد في الدروس وظاهر جامع المقاصد في صحة ذلك.

لكن قد يدفع ما ذكرنا في وجه المنع بما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في نهج الفقاهة عند الكلام في بيع ما يملكه البايع وما لا يملكه من أنه مع إنشاء العقد عن

ص: 283

غرض واحد قائم بالجملة يكون المنشأ علي وحدة المطلوب، ومع إنشائه عن غرضين، أحدهما قائم بالجملة، والآخر قائم بالأجزاء، يكون المنشأ علي نحو تعدد المطلوب، فلا مانع من التفكيك بين أبعاض العقد الواحد بلحاظ أبعاض موضوعه، كما لا مانع من الرضا بكل واحد من هذه الأبعاض ولو في حال الانفراد. ولو تم ذلك فحيث كان مقتضي الشرط في المقام هو الثاني، فكما يمكن التفكيك بين أبعاض العقد في الرضا يمكن التفكيك بينها في الفسخ وعدمه.

لكن سبق منا - في المسألة العشرين من الفصل الثاني في شروط المتعاقدين - الإشكال في ما ذكره (قدس سره) أولاً: بأنه لا أثر للغرض في تحديد موضوع العقد.

وثانياً: بأن وحدة المطلوب وتعدده إنما يتجهان في التكليف التابع للملاك، حيث يمكن وحدة الملاك في الذات الواجدة للخصوصية، كالصلاة عن طهارة فيتحد التكليف بها، كما يمكن تعدده، وقيام أحد الملاكين بأصل الذات والآخر بالخصوصية، كالصلاة في المسجد، فيتعدد التكليف بها.

أما المعاملات فوحدتها وتعددها تابعان لوحدة موضوعها وتعدده، وحيث كان الموضوع واحداً عرفاً في المقام تعين وحدة العقد، فلا مجال التفكيك في الفسخ بين أبعاض موضوعه. كما لا مجال لذلك في القبول، بل يبطل العقد، لعدم التطابق بين الإيجاب والقبول. وقد اعترف (قدس سره) في الجملة بذلك في غير موضوع من مستمسكه، علي ما تقدم هناك. والظاهر أن ذلك عدول منه عما سبق منه في نهجه، من دون أن ينبه في الفتوي هنا علي العدول المذكور.

ومثله ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) في مسألة بيع ما يقبل التملك وما لا يقبله من انحلال العقد بالنسبة إلي جزئي المبيع، وما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن البيع وإن كان واحداً إثباتاً من حيثية المبرز، إلا أنه ينحل ثبوتاً إلي بيوع متعددة بحسب أجزاء الثمن والمثمن، كما ينحل الحكم التكليفي في العموم الاستغراقي إلي أحكام متعددة.

ص: 284

لاندفاعهما بأن الانحلال المذكور في غاية المنع، بل العقد واحد متقوم بالتزام واحد متعلق بالمجموع. ولذا لا ينعقد بالرضا ببعض المضمون أو إجازته لو كان فضولياً، بل يبطل العقد في الأول لعدم التطابق بين الإيجاب والقبول، ولا ينفذ في الثاني، لعدم التطابق بين الإجازة والعقد المجاز.

وغاية ما يكون في المقام هو التحليل الدقي نظير تحليل التكليف بالمركب الارتباطي إلي تكاليف ضمنية بعدد أجزائه. وهو تحليل إدعائي، قياساً علي الأعراض الحقيقية الواردة علي المركبات الخارجية المنحلة علي أجزائها من دون أن يكون تحليلاً حقيقياً عرفياً، لوحدة العقد عرفاً تبعاً لوحدة موضوعه.

لكن قال في منية الطالب: (وتوهم أن الالتزام العقدي أمر بسيط، فإما أن يجعل للمشروط له تمام الالتزام، وإما أن يبطل. فاسد جداً، لأنه لا ينافي بساطة الالتزام جعل التبعيض في الملتزم. فإن التبعيض قد ينشأ من جعل مختلفي الحكم متعلقاً لبيع واحد، كما لو باع الخل والخمر، أو مال نفسه ومال غيره، صفقة. وقد ينشأ من جعل البايع أو المشتري بالنسبة إلي الثمن أو المثمن، الذي لولا الجعل كان جميع أجزائه متحد الحكم. ففيما لو أطلق اشتراط الفسخ برد الثمن لم يكن له الفسخ إلا برد الجميع. وأما لو شرط الفسخ في كل جزء بردّ ما يخصه من الثمن، فالبايع بالشرط جعل المبيع للمشتري متبعضاً، ولا مانع عنه).

أقول: من الظاهر أن تركب البيع وتعدّ أجزائه أمر واقعي سابق علي العقد، وغير تابع لجعل المتعاقدين، وهو بنفسه لا يقتضي تعدد البيع ولا المبيع بعد تعلق البيع بالجملة، إلا بناء علي التحليل الذي سبق المنع منه، والذي لو تم لم يفرق فيه بين اختلاف الأجزاء في الحكم وعدمه، ولا بين التفكيك بينهما في الاشتراط و عدمه. ومجرد اختلاف الأجزاء في الحكم لا يقتضي تعدد البيع الملتزم بعد تعلقه بالجملة، لعدم القصد الي التعدد بذلك. ولاسيما أنه قد يكون مجهولاً للمتبايعين. كما أن اشتراط التبعيض في الفسخ لا يرجع إلي تعدد البيع الملتزم بعد فرض تعلقه بالجملة.

ص: 285

اللهم إلا أن يكون مراده (قدس سره) بذلك أن وحدة البيع و المبيع لا ينافي التبعيض في جريان أحكامه شرعاً. وهو في محله جداً. لكنه - مع عدم مناسبته لما سبق منه (قدس سره) من دعوي الانحلال في بيع ما يقبل التملك وما لا يقبله إنما يتم مثل تبعض الصفقة مما يرجع إلي ثبوت أثر البيع في بعض المبيع دون بعض، دون مثل اشتراط الفسخ، لظهور أن الفسخ إنما هو من شؤون العقد، وهو حلّ له، ولا مجال لحل بعض العقد بعد فرض بساطته، كما لا مجال لإجازة بعضه لو كان فضولياً، أو قبول بعض الإيجاب، كما سبق.

وأما ما ذكره من قياس المقام بما إذا اشتري داراً من شريكين في جعل أحدهما الخيار لنفسه دون الآخر. فإن أراد به شراء حصة كل منهما مستقلاً عن شراء حصة الآخر، فالقياس في غير محله. وإن أراد به شراء مجموع الدار جملة واحدة - كما لو اشتراها من وكيلهما - فالمتعين المنع عنه، كما في المقام.

ومن هنا لا مجال للبناء علي صحة الشرط المذكور، لما ذكرناه من عدم قابلية العقد الواحد للتبعيض في الفسخ. وقد تقدم هناك ما ينفع في توضيح الكلام في المقام.

نعم لو كان العقد منحلاً عرفاً إلي عقدين، لعدم دخل المجموعية في موضوعه، كما لو باعه الدار بألف والأثاث بمائة، أو باعه الدار والأثاث بألف ومائه بنحو اللفّ النشر المرتب، أو باعه دارين كل دار بألف، أو باعهما معاً بألفين بنحو الانحلال والتوزيع من دون قصد المجموعية، ترتب حكم العقدين عرفاً.

فيصح العقد علي أحدهما بقبول الايجاب فيه وعدم قبول الايجاب في الآخر، من دون أن يخل بالتطابق بين الإيجاب والقبول، وتنفد إجازة العقد علي أحدهما دون العقد علي الآخر لو كانا فضوليين، و يصح اشتراط فسخ أحدهما دون الآخر. و يصح التقايل في أحدهما دون الآخر حينئذ.

كما أنه لا يثبت خيار تبعض الصفقة لو تحقق شرط صحة البيع في أحدهما دون

ص: 286

الآخر، لعدم أخذ وحدة الصفقة في موضوع العقد.

لكن ذلك خارج عن محل الكلام، فان الكلام إنما هو فيما إذا ابتني العقد علي المجموعية ووحدة البيع والمبيع. ولذا كان المدعي لهم الانحلال الذي هو فرع وحدة العقد، و الذي سبق منا المنع عنه، ومنع ما يترتب عليه، وهو صحة اشتراط الفسخ في بعض البيع.

بقي في المقام أمور:

الأول: قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (إذا أطلق اشتراط الفسخ برد الثمن لم يكن له ذلك إلا برد الجميع. فلو رد بعضه لم يكن له الفسخ. وليس للمشتري التصرف في المدفوع إليه، لبقائه علي ملك البايع. والظاهر أنه ضامن له لو تلف إذا دفعه إليه علي وجه الثمنية. إلا أن يصرح بكونها أمانة عنده إلي أن يجتمع قدر الثمن، فيفسخ البايع).

والذي ينبغي أن يقال: بعد فرض كون شرط الخيار هو ردّ تمام الثمن، المستلزم لعدم استحقاق البايع الفسخ برد بعضه. فإذا رد بعضه بنية الثمينة والفسخ. فإن رضي المشتري بذلك تعين حصول الفسخ، لا من جهة الخيار المجعول، بل من جهة التقايل لحصول الرضا بالفسخ من الطرفين، فيملك المشتري الثمن، وله التصرف فيه.

وإن لم يرض بذلك لم يكن له قبض المدفوع، لعدم استحقاقه له. فإن قبضه مع ذلك، ولو بداعي حفظه للبايع، كان قبضه في غير محله، وتعين عدم جواز تصرفه فيه و ضمانه له.

وإن قبضه لتخيل أن المشتري قد دفعه أمانة عنده إلي أن يجتمع له قدر الثمن، فانكشف الخلاف، وأنه قد قصد الثمينة والفسخ، لم يبعد عدم ضمانه له مع انكشاف الحال له.

لظهور حال المشتري - بعد فرض عدم استحقاقه الفسخ - في كون دفعه بنحو

ص: 287

الأمانية، وفي مثل ذلك لا دليل علي الضمان، لقصور ضمان اليد عن صورة إيهام صاحب المال الإذن المالكي في القبض، لما تقدم - في المسألة الثالثة عشرة من الفصل الأول في شروط العقد - من انحصار دليل ضمان اليد ببناء العقلاء، ولا يتضح شموله لمحل الكلام.

نعم لو انكشف الحال له تعين عليه إرجاعه، أو تحصيل الإذن ببقائه أمانة في يده. فإن فرط كان ضامناً.

الثاني: قال شيخنا الأعظم (قدس سره) أيضاً: (ولو شرط البايع الفسخ في كل جزء برد ما يخصه من الثمن جاز الفسخ فيما قابل المدفوع. وللمشتري خيار التبعيض إذا لم يفسخ البايع بقية المبيع وخرجت المدة. وهل له ذلك قبل خروجها؟ الوجه ذلك). والذي ينبغي أن يقال: بناء علي جواز التبعيض في الفسخ. فاشتراطه

تارة: لا يبتني علي اشتراط فسخ الجميع في المدة تدريجاً. ولا مجال معه لخيار التبعيض قطعاً، بعد المدة، فضلاً عما قبلها، لإقدام المشتري عليه بمقتضي الشرط.

وأخري: يبتني علي ذلك. ومعه يتعين البناء علي انكشاف عدم صحة الفسخ في البعض إذا خرجت المدة قبل تمامية الفسخ في الجميع، لخروج الفسخ الواقع علي البعض عن مقتضي الشرط. ومعه لا موضوع لتبعض الصفقة، كما نبه لذلك بعض مشايخنا (قدس سره).

لكنه ذكر أن فسخ الجميع إذا أخذ بنحو الانحلال، بحيث يرجع إلي اشتراط الفسخ في كل جزء جزء، من دون أن يناط الخيار في الفسخ بكل جزء بالفسخ ببقية الأجزاء، فاللازم البناء علي صحة الفسخ في الأبعاض، و ثبوت خيار تخلف الشرط للمشتري، فيكون له الفسخ بمضي المدة.

وما ذكره وإن كان متيناً، إلا أنه خروج عن مورد الكلام من الاقتصارعلي اشتراط الخيار للبايع إلي إضافة اشتراط الفسخ عليه في بقية المبيع.

ص: 288

(289)

(مسألة 15): إذا تعذر تمكين المشتري من الثمن، لغيبة أو جنون أو نحوهما مما يرجع إلي قصور فيه، فالظاهر أنه يكفي في صحة الفسخ تمكين وليه (1)

---------------

و كيف كان فلا مجال للبناء علي ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من ثبوت خيار تبعض الصفقة في شيء من فروض المسألة.

وأشكل من ذلك ما ذكره من ثبوت خيار تبعض الصفقة قبل خروج المدة. إذ لا وجه له بعد إقدام المشتري علي تبعض الصفقة بجعل الخيار للبايع بالفسخ في البعض في أثناء المدة، كما لعله ظاهر.

الثالث: يمكن تحقق نتيجة شرط التبعيض في الفسخ بوجه آخر، وهو اشتراط الاشتراك في المبيع بدفع بعض الثمن بنسبتة، نظير بيع العين بشرط بيعها علي المشتري في أجل معين. والذي لا مانع منه بمقتضي عموم نفوذ الشروط، وإن كان قد يمنع منه في الجملة للنصوص الخاصة به.

غاية الأمر أنه يختلف عنه بأن اشتراط البيع من سنخ اشتراط الفعل، واشتراط الاشتراك المذكور من سنخ شرط النتيجة.

لكن قد سبق عند الكلام في سقوط خيار المجلس باشتراط سقوطه أنه لا مانع منه فيما إذا كان متعلق النتائج المشترطة أمراً تحت سلطنة المشروط عليه بنحو ترجع إلي استحقاقه عليه، ومنه المقام، لأن بعض المبيع تحت سلطنته، فله التنازل عنه للمشروط له واشتراط صيرورته له مع دفع ما يناسبه من الثمن. فلاحظ.

(1) كما قواه شيخنا الأعظم (قدس سره) وغير واحد ممن تأخر عنه، وحكاه عن المحقق القمي (قدس سره) في بعض أجوبة مسائله. خلافاً لما حكاه عن شيخه في المناهل.

ولا إشكال في أن الجمود علي عنوان رد الثمن يقتضي الرد علي خصوص المشتري، لأن ردّ الشيء إنما يكون بإرجاعه لموضعه. ومثله الإتيان به الذي تضمنه النصوص.

ص: 289

ولو كان هو الحاكم الشرعي (1) أو وكيله، فإذا أحضره كذلك جاز له الفسخ.

---------------

إلا أن المستفاد عرفاً من طبيعة هذا الخيار كون أخذ رد الثمن في مقابل عجز البايع عن إرجاعه أو امتناعه من دفعه، وتمكين المشتري منه، لئلا يضيع علي المشتري فيخسر الثمن والمثمن، فيقصر عما إذا كان تعذر الرد لشخص المشتري لقصور فيه بغيبة أو جنون أو موت. ولذا لا يرون سقوط الخيار بتعمد المشتري التخفي أو السفر في المدة من أجل تضييع الفرصة في الفسخ علي البايع.

ومن هنا يتعين التعميم لمن يقوم مقام البايع من وكيل أو ولي أو وارث، إلا مع التنصيص علي خصوصية زائدة علي الإطلاق، فيتعين العمل بها.

هذا وفي منية الطالب: (وبالجملة: يجب أن يخرج الرد إلي الوارث عن محل الخلاف، لأن الوارث ينتقل إليه المال علي نحو تعلق حق المورّث البايع إليه...)

ولا يخلو ما ذكره عن إشكال، لأن المعيار في المقام ليس هو نحو الاستحقاق للمال، بل عموم موضوع الخيار المشروط. ولا إشكال في أن مقتضي الجمود علي ردّ الثمن أو الإتيان به القصور عن الوارث وغيره ممن يقوم مقام المشتري.

فإن بني علي العمل عليه قصر الخيار عن الرد للجميع، وإن بني علي ملاحظة ما ذكرنا تعين العموم للجميع، فالفرق بين الوارث وغيره غير ظاهر الوجه.

(1) بناء علي ثبوت ولايته. وقد أشار شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره للإشكال في ولاية الحاكم الشرعي بأنه إنما يتصرف لمصلحة المولي عليه، وقد لا يكون قبض الثمن الموجب لتسلط البايع علي الفسخ مصلحة للمشتري.

وهو لو تم يجري في جميع الأولياء. بل علي حتي في الوكيل إذا لم يكن مفوضاً، بحيث له مخالفة مصلحة الموكل، كما أشار لذلك بعض الأعاظم. (قدس سره).

والعمدة في دفع الإشكال المذكور أن الشرط في سلطنة البايع علي الفسخ ليس هو قبضه الثمن، بل إحضاره. فمع فرض ظهور الشرط بين المتبايعين في أن

ص: 290

(291)

(مسألة 16): نماء المبيع من زمان العقد إلي زمان الفسخ للمشتري (1). كما أن نماء الثمن للبايع (2).

---------------

ذكر إحضار الثمن من أجل أن لا يضيع علي المشتري، فيقصر عن صورة تعذر الرد لقصور في المشتري، ويتعين سلطنة البايع علي الرد بمجرد تهيؤ الثمن له، بحيث لا يضيع علي المشتري، فإذا فسخ حينئذ ملك المشتري الثمن، فيكون قبض وكيله ووليه حتي الحاكم مصلحة له.

بل حتي لو فرض أن الشرط هو القبض فمن الظاهر أن مقتضي الشرط لزوم القبض علي المشتري، و عدم جواز امتناعه منه، فيقوم مقامه الوكيل والولي، كما يقوم مقامه في أداء الحقوق عنه بمثل وفاء دينه، والإنفاق من ماله علي من تجب عليه نفقته.

هذا ولو فقد الولي، أو تعذر الرجوع إليه، تعين - بناء علي ما سبق - سقوط اعتبار الرد في جواز الفسخ وصيرورة الثمن بالفسخ في ذمة المشتري أو أمانة عنده، كما يظهر من محكي الحدائق دعوي ظهور اتفاق الأصحاب عليه في جميع موارد خيار الشرط.

نعم استشكل فيه بمخالفته لظهور نصوص المقام في اعتبار الرد. ويظهر اندفاعه مما سبق من قصور اشتراط رد الثمن عما إذا كان تعذر الرد لقصور في المشتري.

(1) كما في الدروس والجواهر، و به صرح شيخنا الأعظم (قدس سره) وظاهره

- كالجواهر - المفروغية عنه وعدم الخلاف فيه. وهو كذلك. إذ يقتضيه - مضافاً إلي قاعدة تبعية النماء للأصل - حديث إسحاق بن عماره، فلو كان بناء الأصحاب علي خلاف ذلك كان المناسب لهم التصريح به، وبيان المخرج عما ذكرنا.

(2) بلا إشكال ولا خلاف ظاهر. ويقتضيه مضافاً للقاعدة المتقدمة معتبر معاوية بن ميسرة. ومن هنا كان ظاهر الجواهر مفروغية الأصحاب عنه وهو كذلك، لنظير ما سبق.

ص: 291

(292)

(مسالة 17): لا يجوز للمشتري فيما بين العقد إلي زمان مدة الخيار التصرف الناقل للعين (1)، من هبة أو بيع أو نحوهما. ولو تلف كان ضمانه علي المشتري (2).

---------------

(1) الظاهر عدم الإشكال فيه. لما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن غرض البايع من الخيار استرداد عين ماله، ولا يتم إلا بالتزام إبقائه للبائع، فإبقاء عين المبيع شرط ضمني يبتني عليه البيع، فيجب الوفاء به.

ومنه يظهر عدم جواز إتلاف المشتري له. بل عدم جواز كل تصرف فيه يغيره عن صورته و يوجب اختلاف الرغبة فيه، فضلاً عما يوجب نقص ماليته.

إلا ما كان بالنحو المتعارف، بسبب الانتفاع به بالوجه الذي يبتني عليه البيع المشروط بالخيار كسكني الدار، وركوب الدابة. وعلي ذلك لا يجوز له أن يؤجر العين أكثر من مدة الخيار، لأن استرجاع العين مسلوبة المنفعة مدة من الزمن نقص فيها مرغوب عنه.

هذا ولو خالف المشتري فإن أتلف العين عصي. وإن نقلها بناقل - من بيع أو هبة أو نحوهما - لم ينفذ، بناء علي ما سبق منا - عند الكلام في سقوط خيار المجلس باشتراط سقوطه في العقد من المسألة الثالثة - من أن مقتضي الشرط كون الأمر المشروط لاحقاً للمشترط، ومقتضي دليل نفوذه ثبوت ذلك الحق شرعاً. حيث يتعين حينئذ قصور سلطنة المشتري عن فعل الناقل وعدم نفوذه منه، لمنافاته لحق صاحب الخيار، وهو البايع.

نعم بناء علي ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره)، من تمحض عموم نفوذ الشروط في التكليف، يتعين البناء علي عصيان المشتري بفعل الناقل مع نفوذه، بناء علي ما هو التحقيق من عدم اقتضاء النهي عن المعاملة فسادها.

(2) بلا خلاف أجده فيه، كما في الجواهر. ويقتضيه حديثا إسحاق بن عمار

ص: 292

ولا يسقط بذلك خيار البايع (1)

---------------

ومعاوية بن ميسرة. ففي الأول: (قلت: أرأيت لو أن للدار غلة لمن تكون ؟ قال: للمشتري. ألا تري إنها لو احترقت كانت من ماله)، وفي الثاني: (قال له أبو الجارود: فإن هذا الرجل قد أصاب في هذا المال في ثلاث سنين. قال: هو ماله. وقال عليه السلام: أرأيت لو أن الدار احترقت من مال من تكون ؟!). مضافاً إلي أنه مقتضي القاعدة كما يشير له الحديثان المذكوران، فإن تحل غير الممالك لدرك المال يحتاج لدليل.

لذا لا حاجة للتشبث بقاعدة أن التلف ممن لا خيار له لو تمت. وإنما يحتاج إليه

فيما لو لم يكن من لا خيار له مالكاً، كما لو تلف الحيوان في الأيام الثلاثة وهو عند المشتري، حيث يكون ضمانه علي البايع بمقتضي القاعدة المذكورة.

(1) كما استظهره شيخنا الأعظم (قدس سره) وأصرّ عليه الأعاظم (قدس سره) وغيره. لأن الخيار متعلق بالعقد، لا بالعين، ولازم ذلك الانتقال للبدل من المثل أو القيمة.

لكن ذلك - لو تم - إنما ينفع في الخيار الشرعي، دون ما نحن فيه ونحوه مما يكون فيه الخيار بجعل المتعاقدين واشتراطهما له في العقد، فإنه تابع لنحو الاشتراط وسعة الأمر المشروط.

ولعله لذا قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (ويحتمل عدم الخيار، بناء علي أن مورد هذا الخيار هو إلزام أن له رد الثمن وارتجاع البيع [المبيع. ظ] وظاهره اعتبار بقاء المبيع في ذلك، فلا خيار مع تلفه).

نعم حيث كان المستفاد من شرط الخيار تشبث البايع بالعين، بحيث ليس للمشتري المنع من إرجاع المبيع بعينه بإتلافه أو نقله عن ملكه - كما تقدم - فمن القريب رجوع إلي ذلك اشتراط محافظته علي العين بماليتها، وتحمله دركها لو فرط في ذلك. ومرجع ذلك إلي اشتراط ضمانها مع الفسخ بما يحفظ ماليتها. خصوصاً إذا كان

ص: 293

البيع بأقل من ثمن المثل، كما هو شايع في بيع الخيار.

لكن لوتم ذلك فالمتيقن منه ما إذا كان التلف أو الخروج عن الملك بتفريط المشتري خارج عن المتعارف في الانتفاع بالمبيع، ولا يجري فيما لو لم يكن كذلك، كما لو تلف بآفة سماوية، أو بفعل غيره، أو بفعله بالنحو المتعارف في الانتفاع بالمبيع، أو صارت الجارية الصغيرة المشتراة بالخيار بفتالة من الرضاعة من دون تفريط منه بناء علي انعتاقها بذلك. لابتناء البيع المذكور علي انتفاع المشتري بالمبيع وتعامله معه كتعامله مع ملكه، من دون أن يخرج ذلك عن مقتضي شرط الخيار المفروض، ويقتضي الضمان مع الفسخ.

بل من القريب جداً كون المنصرف من حديثي إسحاق بن عمار ومعاوية بن ميسرة عدم الضمان بالوجه المذكور. لأن المراد من الحكم فيهما بأن الدار تحترق من مال المشتري مجرد خسارته لها، للمفروغية عن عدم تحقق الفسخ من البايع بعد الاحتراق، فعدم التنبيه فيهما لبقاء حق الخيار وضمان المشتري للدار لو فسخ يناسب جداً عدم بقاء حق الخيار.

غاية الأمر أن المنصرف من الاحتراق المفروض فيهما هو الاحتراق الذي لا يقدم عليه المالك تجنباً للخسارة، ولا يعم الاحتراق العمدي المخالف لما بني عليه اشتراط الخيار من عدم تفويت الرجوع بالعين علي البايع الذي تقدم تقريب الضمان معه. نعم لو اشترط الخيار بوجه خاص خارج عن المتعارف، تعين العمل علي ما مقتضاه.

هذا وقد فصل في الجواهر بين التلف قبل رد الثمن وبعد رده قبل الفسخ. ففي الأول يكون تلفه علي المشتري، لأنه ملكه، وحيث لا خيار حينئذ للبايع فلا ضمان علي المشتري. بل يسقط الخيار، لتعذر ردّ العين. بل يظهر منه جواز الإتلاف حينئذ، لأنه صرح بجواز نقل العين اختياراً مع عدم الشرط.

أما في الثاني فيكون تلفه علي المشتري أيضاً. لكن حيث كان التلف في حال ثبوت الخيار للبايع تعين كونه مضموناً علي المشتري، لأن التلف في زمن الخيار ممن ل

ص: 294

إلا إذا كان المقصود من الخيار المشروط خصوص الخيار في حال وجود العين، بحيث يكون الفسخ موجباً لرجوعها نفسها إلي البايع. لكن الغالب الأول (1).

---------------

خيار له. وحينئذ يتعين عدم سقوط الخيار بالتلف، بل للبايع الفسخ ويضمن المشتري المبيع بالمثل أو القيمة.

ويشكل أولاً: بابتنائه علي كون الرد شرطاً في ثبوت الخيار، وقد سبق أن الظاهر ثبوت حق الخيار بالشرط حين البيع، وكون الرد شرطاً في إعمال حق الخيار بالفسخ. بل قد يظهر من بعض كلماته (قدس سره) الميل إلي ذلك.

وثانياً: بأن قاعدة أن التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له كقاعدة أن التلف قبل القبض من مال البايع، يراد بها الحكم ببطلان البيع وصيرورة التالف من مال من لا خيار له، وعليه إرجاع الثمن لصاحب الخيار، من دون حاجة للفسخ. ولا يراد بها بقاء البيع وتسلط صاحب الخيار علي الفسخ، و استحقاقه علي من ليس له الخيار المثل أو القيمة، كما هو المدعي له في المقام.

وثالثاً: بما ذكرناه آنفاً من أن مقتضي الشرط الضمني الذي يبتني عليه البيع في المقام عدم جواز تعمد المشتري لإتلاف العين أو نقلها، بحيث يتعذر إرجاعها للبايع لو أراد الفسخ. ومن هنا لا مخرج عما ذكرناه من التفصيل.

ومن جميع ماسبق يظهر أن العين لو نقصت قهراً علي المشتري، أو بالوجه المتعارف الذي تقتضيه طبيعة الانتفاع بها، تعين بقاء الخيار من دون أن يضمن المشتري النقص للبايع، بل البايع مخير بين الفسخ والرضا بالعين علي نقصها وعدم الفسخ، وإنما يضمن المشتري النقص مع تفريطه.

(1) هذا لا يناسب ما سبق منه (قدس سره) من عدم جواز نقل المشتري العين عن ملكه. إذا لو فرض إطلاق الخيار المجعول، بحيث يشمل الفسخ مع الرجوع للبدل،

ص: 295

(296)

(مسألة 18): إذا كان الثمن المشروط رده ديناً في ذمة البايع - كما إذا كان للمشتري دين في ذمة البايع، فباعه بذلك الدين، واشترط الخيار مشروطاً برده - كفي في رده إعطاء فرد منه (1). وإذا كان عيناً في يد البايع فالظاهر ثبوت الخيار في حال دفعها للمشتري (2). وإذا كان الثمن كلياً في ذمة المشتري فدفع منه فرداً إلي البايع بعد وقوع البيع، فالظاهر اشتراط

---------------

جاز للمشتري النقل والإتلاف مع الضمان بالمثل والقيمة لو أراد البايع إعمال الخيار بالفسخ.

ومن هنا كان الظاهر اختصاص الخيار المجعول بصورة بقاء العين، لكن بنحو يقتضي المنع من التفريط بهاو الضمان معه، بحيث يبقي الخيار مع التفريط بنحو يعمّ البدل، كما يظهر مما سبق.

(1) قطعاً لعدم تحقق رده إلا بذلك. وهو مورد صحيح سعيد بن يسار، بناء علي أنه من أدلة هذا الخيار، وقد سبق الكلام في ذلك.

(2) يعني: ولا يكفي دفع المثل. وقد سبق أن ذلك وإن كان مقتضي الفسخ، إلا أن المعيار في المقام علي ظهور إطلاق شرط الخيار. وقد ادعي شيخنا الأعظم (قدس سره) أن ذلك هو مقتضي ظاهر الشرط. لكن الظاهر أنه مقتضي الجمود علي حاق اللفظ من دون أن يكون هو الظاهر منه، بل الظاهر منه بسبب غلبة عدم بقاء العين إرادة الأعم من البدل، كما سبق في أول الكلام في بيع الخيار.

وهو مقتضي إطلاق الدروس ومحكي حاشية المحقق علي الإرشاد قال في الدروس: (ولا يحمل الإطلاق علي المعين. ولو اشترطا ردّ العين احتمل الجواز). وظاهر جامع المقاصد إقراره. ولعل منشأ توقفه في جواز اشتراط ردّ العين قصور نصوص المقام عنه. لكن يكفي فيه عموم نفوذ الشروط.

ودعوي: مخالفته للغرض من هذا العقد. مدفوعة بأن ذلك ليس محذوراً. علي

ص: 296

(297)

صحة الفسخ برد ذلك الفرد مع وجوده، ولا يكفي فيها رد فرد آخر (1).

(مسألة 19): لو اشتري الولي شيئاً للمولي عليه ببيع الخيار، فارتفع حجره قبل انقضاء المدة، كان الفسخ مشروطاً بردّ الثمن إليه، ولا يكفي الردّ علي وليه (2). ولو اشتري احد الوليين - كالأب - ببيع الخيار، جاز

---------------

أن الغرض المذكور ليس مطرداً، بل هو غالبي غير حاصل في مورد الشرط المذكور.

(1) سبق منّا في أول الكلام في بيع الخيار المنع من اقتضاء الفسخ رد عين المدفوع في مثل ذلك، فضلاً عن اقتضاء الإطلاق ذلك. وقد تقدم تمام الكلام في المسألة هناك.

(2) لما سبق في المسألة الخامسة عشرة من ظهور أخذ الردّ شرطاً في الخيار في كون المراد تمكين المشتري من الثمن، بحيث لا يضيع عليه، وذلك يقتضي حمل الردّ علي الردّ علي المشتري نفسه ولو بالردّ علي وليه.

ولو فرض ظهوره بدواً علي الرد علي الولي تعين حمله علي كون الرد له لقيامه مقام المشتري وولايته عليه، فيقصر عما لو خرج عن الولاية، لكمال المشتري واستقلاله بالسلطنة، بل يتعين حينئذ الإرجاع للمشتري نفسه، لعدم تحقق التمكين المقصود بالأصل إلا بذلك.

بل لو فرض عموم الرد المأخوذ شرطاً في الفسخ للرد للولي أو اختصاصه به، للتنصيص علي ذلك فالرد له وإن كان موجباً لتحقق شرط السلطنة علي الفسخ، إلا أنه بعد تحقق الفسخ يكون الثمن ملكاً للمشتري نفسه، فيجب علي البايع تسليمه له شرعاً بعد فرض استقلاله وانتهاء أمد ولاية الولي عليه.

ودعوي: أن الولي إذا رأي أن من مصلحة المولي عليه إيقاع التصرف بنحو ينفذ علي المولي عليه بعد استقلاله جاز له إيقاع التصرف بالنحو المذكور، كما لو رأي المصلحة في إجارة عقاره مدة أطول من مدة قصور المولي عليه وولايته عليه. وعليه له

ص: 297

الفسخ بالرد إلي الولي الآخر (1)، كالجد.

---------------

أن يشترط في بيع الخيار تسليم الثمن له عند الفسخ - بحيث تفرغ به ذمة البايع - حتي لو وقع بعد خروجه عن الولاية.

مدفوعة بأن ذلك إنما يتم بالإضافة إلي نفس التصرف الواقع حين ولايته، كما في مثال الإجارة المتقدم، وكالبيع الخياري في المقام. أما بالإضافة للتصرف الواقع بعد خروجه عن الولاية - كقبض الثمن في المقام بحيث تبرأ به ذمة البايع - فلا مجال له، لمخالفته لقاعدة السلطنة في حق المولي عليه بعد كماله، فيكون اشتراطه مخالفاً للكتاب والسنة، فلا ينفذ.

(1) كما صرح بذلك في منية المريد وغيره. ويظهر الوجه فيه مما سبق من ظهور الرد فيه للمشتري ولو بالرد لوليه، وأنه لو فرض ظهوره بدواً في الرد للولي المباشر فالمستفاد منه كون الرد بلحاظ قيامه مقام المشتري، فيشاركه فيه كل من يقوم مقامه من الأولياء.

قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (ولو اشتري الأب للطفل بخيار البايع فهل يصح له الفسخ مع رد الثمن إلي الولي الآخر - أعني الجد - مطلقاً، أو مع عدم التمكن من الرد إلي الأب، أولاً؟ وجوه). وظاهره التوقف والتردد بين الوجوه الثلاثة. ولا وجه له بعد ما ذكرنا.

بل التوقف في كفاية الإرجاع للولي غير المباشر للمعاملة مع تعذر الإرجاع للولي المباشر لها لا يناسب ما قواه سابقاً من أنه مع إيقاع المعاملة مع المشتري نفسه إذا تعذر الرد إليه كفي الرد إلي وليه، كما لعله ظاهر.

نعم لو كان الولي المباشر للمعاملة هو الحاكم - بناء علي ولايته - فقد يستشكل في كفاية رد الثمن لحاكم آخر، بل يمنع منها.

لا لما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أنها مزاحمة للحاكم الآخر عرفاً، بناء علي

ص: 298

(299)

إلا أن يكون المشروط الرد إلي خصوص الولي المباشر للشراء (1).

(مسألة 20): إذا مات البايع قبل إعمال الخيار انتقل الخيار إلي ورثته (2)

---------------

قصور ولاية الحاكم عن صورة مزاحمة الحاكم الآخر للأشكال فيه بعدم وضوح تحقق المزاحمة بذلك. ولا أقل من عدم اطرادها.

ولا لما ذكره في منية الطالب من أنه بتصرف الحاكم في مال اليتيم ووضع يده عليه يخرج المال عن المال الذي لا ولي له، فليس لحاكم آخر التصرف في هذا المال.

لاندفاعه بثبوت ولاية الحاكمين معاً قبل وضع اليد، بملاك كون المال لا ولي له، ولا أثر لوضع اليد في ذلك. كما لا دليل علي رفعه لولاية الحاكم الآخر بعد فرض ثبوتها بالملاك المذكور.

بل الوجه في ذلك ما عن بعض مشايخنا (قدس سره) من خروجه عن المتيقن من ولاية الحاكم بعد عدم ثبوتها بإطلاق دليل لفظي، بل هي ولاية الحسبة التي يلزم الاقتصار فيها علي المتيقن.

لكن لا بد من الاقتصار فيه علي صورة إمكان الرد للحاكم المباشر. أما مع تعذره - ولو لعدم رضاه باستلام الثمن - فلا إشكال في جواز كفاية الرد للحاكم الآخر. بل هو أولي مما سبق في المسألة الخامسة عشرة من الاكتفاء بالرد للحاكم - بناء علي ولايته - مع مباشرة المشتري نفسه للمعاملة وتعذر الرد له عند إرادة الفسخ، كما لعله ظاهر. وأظهر من ذلك ما لو صرح في شرط الخيار بالاكتفاء بالرد للحاكم الآخر.

(1) حيث يلزم الاقتصار علي مورد الشرط بعد عدم المانع من نفوذه. ولو تعذر الرد إليه فالاكتفاء بالرد لغيره موقوف علي قصور الشرط عن صورة تعذر الرد إليه.

(2) الكلام في هذه المسألة موكول إلي الفصل الخامس في أحكام الخيار. نعم دخول شرط الخيار المشروط في محل الكلام في موضوع هذه المسألة موقوف علي

ص: 299

(300)

فلهم الفسخ برد الثمن إلي المشتري. ويشتركون في المبيع علي حساب

سهامهم. ولو امتنع بعضهم من الفسخ لم يصح للآخر الفسخ لا في تمام المبيع، ولا في بعضه. ولو مات المشتري كان للبايع الفسخ برد الثمن إلي ورثته (1).

(مسألة 21): يجوز اشتراط الخيار في الفسخ برد الثمن إلي البايع (2). والظاهر منه رد نفس العين، فلا يكفي رد البدل (3) حتي مع تلفها (4). إلا أن

---------------

إطلاقه بنحو يشمل حال موت المورث، بأن لم يشترط في ثبوت الخيار حياته، ولا في الرد الموقوف عليه إعمال الخيار مباشرته له. وإلا ارتفع موضوعه بالموت، ولم يبق حق ليقع الكلام في إرثه، و في فروعه.

(1) يظهر الكلام فيه مما تقدم في المسألة الخامسة عشرة.

(2) كما في الدروس وجامع المقاصد والمسالك وغيرها. ومن الظاهر اختصاص نصوص المقام ببيع الخيار، دون شرائه الذي هو محل الكلام. كما أن بعض النصوص وأن ورد في شراء الثوب بشرط إلي نصف النهار أو مطلقاً(1) ، إلا أنها ظاهرة في الشراء المبتني علي التثبت من كون الشراء صلاحاً للمشتري. ولذا صرح بسقوط الخيار بالتصرف في المبيع في المقام عموم نفوذ الشروط.

(3) كما صرح به المسالك، وقد يظهر من غيره. بل قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (ولا إشكال في انصراف الإطلاق إلي العين، ولا في جواز التصريح برد بدله مع تلفه). وما ذكره إنما يتم فيما إذا كان المبيع من العروض. أما إذا كان نقداً فلا يتضح الفرق بين كونه مبيعاً وثمناً. وقد تقدم نحو ذلك فيما إذا كان الثمن من سنخ العروض. ومن هنا يكون الفرق في أخذ خصوصية العين بين العروض والنقد، لا بين المبيع والثمن.

(4) إذ بعد فرض أخذ خصوصية العين يتعين تقييد إعمال الخيار المشروط

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب الخيار.

ص: 300

(301)

تقوم قرينة علي إرادة ما يعم رد البدل عند التلف (1). كما يجوز أيضاً اشتراط الخيار لكل منهما عند رد ما انتقل إليه (2) بنفسه أو ببدله عند تلفه (3).

(مسألة 22): لا يجوز اشتراط الخيار في الفسخ برد البدل مع وجود العين (4)، بلا فرق بين رد الثمن ورد المثمن. وفي جواز اشتراطه برد القيمة في المثلي أو المثل في القيمي مع التلف إشكال. وإن الأظهر أيضاً العدم (5).

---------------

بردها. ومعه لا مجال للاكتفاء فيه برد بدلها حتي مع التلف، بل يتعين سقوط الخيار بتعذر شرط إعماله.

(1) الظاهر أن القرينة العامة التي أشرنا إليها فيما لو كان المبيع من سنخ النقد تقتضي الاكتفاء بالبدل مطلقاً ولو مع عدم التلف، نظير ما سبق عند الكلام في اشتراط البايع الخيار برد الثمن. وعليه فتخصيص الاكتفاء برد البدل بصورة تلف العين إذا كانت نقداً هو الذي يحتاج إلي قرينة خاصة. هذا بناء علي ما ذكرناه من إمكان الاكتفاء بالبدل مع وجود العين. أما بناء علي امتناعه - كما يظهر هناك من سيدنا المصنف (قدس سره)

فلا يحتاج إلي قرينة.

(2) قطعاً، كما في الدروس. ويقتضيه بعد قصور نصوص المقام عنه عموم نفوذ الشروط.

(3) يجري فيه ما سبق.

(4) كأنه لمخالفته لمقتضي الفسخ. لكن يظهر مما سبق في أول المسألة الثانية عشرة عدم منافاته له. فراجع.

(5) كأنه لمنافاة الشرط للحكم الشرعي في كيفية الضمان، فلا ينفذ. لكن قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (أمكن الجواز، لأنه بمنزلة اشتراط إيفاء ما في الذمة بغير جنسه، لا اشتراط ضمان التالف المثلي بالقيمة والقيمي بالمثل، ولا اشتراط رجوع غير

ص: 301

(302)

(مسالة 23): يسقط هذا الخيار بانقضاء المدة المجعولة له مع عدم الرد (1)، وبإسقاطه بعد العقد (2).

---------------

ما اقتضاه العقد للبايع. فتأمل). وهو نظير ما سبق منا في أول المسألة الثانية عشرة في توجيه الاكتفاء بالمثل مع بقاء العين. ومن ثم يتعين البناء علي جوازه.

ومن ذلك يظهر عدم مناسبة ذلك من شيخنا الأعظم (قدس سره) للتوقف في جواز اشتراط الاكتفاء برد البدل مع بقاء العين، علي ما سبق منه عند الكلام في اشتراط الخيار برد الثمن، وكرره عند الكلام في اشتراطه برد المبيع. ولعله لذا أمر بالتأمل.

(1) قطعاً. ومثله تعذر الرد المشروط مع بقاء المدة. لكنهما في الحقيقة ليسا من موارد سقوط الخيار، بل الأول راجع لانتهاء أمده، و الثاني راجع إلي تعذر إعماله.

(2) بلا إشكال ظاهر، لكونه حقاً، فيقبل الإسقاط. وقد تقدم تمام الكلام في ذلك عند الكلام في سقوط خيار المجلس بالإسقاط من المسألة الخامسة.

نعم هذا موقوف علي ما ذكرناه غير مرة من فعلية حق الخيار، وأن المعلق علي الرد هو إعماله بالفسخ. أما بناء علي تعليق الخيار علي الرد، بحيث لاحق قبله، فالمتعين عدم جواز الإسقاط، لأنه إسقاط لما لم يجب ولم يستحق.

وأما ما قد يدعي من أنه يكفي في الإسقاط القدرة علي الخيار بالقدرة علي سببه، وهو الرد فهو. كما تري! إذ لا موضوع لإسقاط الخيار قبل تحققه.

نعم يمكن عقلاً إسقاطه بنحو التعليق، بأن لا يراد إسقاطه فعلاً، بل معلقاً علي الرد الموجب لثبوته، نظير الطلاق معلقاً علي الزواج. وحينئذ يمتنع من المشتري الفسخ قبل الرد، لعدم تحقق الخيار، وبعده لسقوط الخيار بالإسقاط التعليقي.

لكن لامجال للبناء علي صحة الإسقاط التعليقي في المقام، لا لأجل الإجماع علي بطلان التعليق، ليدعي خروج المورد عن المتيقن من الإجماع بعد تصريح غير واحد بجواز الإسقاط بعد العقد. بل لأصالة عدم ترتب الأثر علي الإسقاط المذكور

ص: 302

(303)

(الرابع): خيار الغبن (1).

---------------

بعد كون الإسقاط من الإقاعات، و لا عموم يقتضي نفوذ الإيقاع، ليكون هو المرجع بعد قصور الإجماع علي بطلان التعليق عن المقام. وإنما يتجه ذلك. في العقود. لعموم نفوذها ولزومها الملزم بالاقتصار في الخروج علي المتيقن ومن هنا يتعين الاقتصار في نفوذ الإسقاط لتعليقي علي مورد الدليل الخاص كالتدبير والوصية التمليكية.

هذا وأما التصرف في الثمن فالظاهر سقوط الخيار و لزوم البيع به إذا كان بداعي الرضا بالبيع والبناء علي عدم إعمال الخيار. كمكا يظهر ما تقدم في أواخر المسألة الثالثة. فراجع. وأظهر من ذلك ما إذا رجع التصرف إلي إسقاط الخيار.

وأما إذا كان لم يكن كذلك - كما هو الغالب في هذا الخيار، لابتنائه علي الانتفاع بالثمن - فلا يسقط الخيار. بل هو كالصريح من حديث إسحاق بن عمار. لظهور أن الاحتياج لبيع الدار المفروض فيه إنما هو من أجل الانتفاع بثمنها.

وأما ما ينسب للأصحاب من أن تصرف من له الخيار فيما انتقل إليه مسقط لخياره، فلا مجال للبناء علي إطلاقه. ولاسيما مع ما سبق في خيار الحيوان من تعليل بعضهم له بدلالة التصرف علي الرضا.

نعم سبق أنه لا مجال لحمل التصرف الذي تضمنت النصوص مسقطيته له علي ذلك. بل لابد من تعميمه لغيره في الجملة وقد سبق الكلام في تحديده.

وعلي كل حال فهي مختصة بخيار الحيوان. ولا مجال للتعدي منه إلي بقية الخيارات، خصوصاً مثل هذا الخيار المبتني غالباً علي التصرف. وقد أطال شيخنا الأعظم (قدس سره) في المقام بما لا يسعنا متابعته فيه بعد ما ذكرنا.

(1) المصرح به في كلام غير واحد من اللغويين أن الغبن بسكون الباء في البيع، وبفتحها في الرأي، و يراد به ضعفه. وإن كانت كلماتهم فيه وفي اشتقاقاته لا تخلو عن غموض واضطراب.

ص: 303

(304)

ويهون الأمر أن تحديد معناه اللغوي أو العرفي غير مهمّ بعد عدم جعله بعنوانه موضوعاً للخيار في النصوص ونحوها من الأدلة اللفظية، و إنما يستدل عليه بأدلة أخر. فاللازم تحديد موضوعه تبعاً لما ينهض بالاستدلال من تلك الأدلة لو كان.

وكيف كان فالمعروف ثبوت هذا الخيار. وظاهر التذكرة وصريح الغنية في مبحث الخيار والمختلف في حكم تلقي الركبان الإجماع عليه، وعن نهج الحق وكشف الصدق نسبته الي الإمامية.

لكن في التنقيح: (إن هذا النوع من الخيار يذكره كثير من المتقدمين، بل ذكره المتأخرون) و في الدروس: (وهو ثابت في قول الشيخ وأتباعه... وربما قال المحقق في الدروس بعدم خيار الغبن. ويظهر من كلام ابن الجنيد، لأن البيع مبني علي المكاسبة و المغالبة... وفي الخلاف لم يستند إلي الإجماع، ولا إلي أخبار الأصحاب. وأكثر القدماء لم يذكروه) في المسالك: (المشهور بين الأصحاب، خصوصاً المتأخرين منهم، ثبوت خيار الغبن. وكثير من المتقدمين لم يذكره).

وقد حاول في مفتاح الكرامة تقريب عدم إخلال ذلك بالإجماع بما لا يرجع إلي محصل يعتد به، ولا ينبغي إطالة الكلام فيه.

ومن ثم لا مجال للاستدلال عليه بالإجماع، كما في كلام غير واحد من متأخري المتأخرين، بل ظاهر بعضهم وصريح آخر أنه العمدة من أدلة المسألة. و من هنا يلزم النظر في الأدلة الأخر التي استدل أو يستدل بها عليه. وهي أمور:

الأول: قوله تعالي: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)(1) قال في التذكرة: (و معلوم أن المغبون لو عرف الحال لم يرض).

وهو كما تري! أولاًًً: لظهور الآية الشريفة في اعتبار الرضا الفعلي، وهو حاصل، كما أشار إليه في الجواهر. بل لا مجال لاحتمال مانعية عدم الرضا من أحد المتعاقدين

********

(1) سورة النساء الآية: 29.

ص: 304

معلقاً علي العلم بشيء مما يجهل به. إذ ما أكثر ما يندم أحدهما علي المعاملة لانكشاف أمر كان مجهولاً له من دون أن يكون ذلك مستلزماً لبطلان البيع.

وثانياً: لأن مقتضي ذلك بطلان البيع، كما ذكره في الجواهر أيضاً، لا ثبوت الخيار فيه مع صحته، كما هو المدعي. وقد حاول شيخنا الأعظم (قدس سره) دفع ذلك، فقال: (لكن لما كان المفقود صفة من صفات المبيع لم يكن تبين فقده كاشفاً عن بطلان البيع، بل كان كسائر الصفات المقصودة التي لا يوجب تبين فقدها إلا الخيار، فراراً عن استلزام لزوم المعاملة إلزامه بما لم يلتزم به ولم يرض به. فالآية إنما تدل علي عدم لزوم العقد، فإذا حصل التراضي بالعوض الغير المساوي كان كالرضا السابق، لفحوي حكم الفضولي والمكره).

وفيه: أن ذلك إنما يتجه مع تحقق الرضا المعتبر في صحة البيع، وتخلف الوصف المأخوذ في المبيع، ككون العبد كاتباً. والدليل عليه حينئذ ليس هو الآية الشريفة، بل هو حكم عقلاني.

أما مع عدم تحقق الرضا بالبيع بسبب تخلف الوصف - كما هو المفروض في المقام - فالمتعين البناء علي البطلان، كما لو أكره علي شراء الفاقد للوصف، غاية الأمر أن يكون البيع قابلاً للتصحيح بالرضا المتأخر، كما في بيع المكره والفضولي.

وبذلك يتضح أنه لا مورد لفحوي حكم الفضولي والمكره، لأن الرضا فيهما إنما يوجب نفوذ البيع بعد العدم، لا لزومه بعد نفوذه وثبوت الخيار فيه، كما هو المدعي في المقام.

ومثله في الإشكال ما في منية الطالب من أن التجارة التي يعتبر الرضا فيها ليست هي التجارة بالمعني المصدري، لتصح بالرضا الفعلي الحاصل حين إيقاع العقد، ولا تبطل بانكشاف الحال للمغبون. بل هي التجارة بالمعني الاسم المصدري. وحينئذ تصح حين العقد، لتحقق الرضا بها، وتبطل عند انكشاف الحال للمغبون إذا لم يرض بها، و تبقي علي الصحة إذا رضي بها.

ص: 305

(306)

قال: (نعم يمتاز هذا المعني من الخيار عن سائر الخيارات التي يحتاج الإمضاء والفسخ فيها إلي الإنشاء. فان الدليل المثبت لهذا الخيار بالتقريب المذكور لا يدل إلا علي أن مجرد الرضا بعد العلم يكفي في الصحة وعدمه يكفي في البطلان، والخيار الاصطلاحي ليس كذلك).

إذ فيه - مع أن التجارة من المصادر، لا من أسماء المصادر -: أن التجارة بالمعني الاسم المصدري لما كان لها وجود واحد مبني علي الاستمرار، فمقتضي إطلاق الآية الشريفة جواز أكل المال بسببها إذا صدرت عن الرضا ولو مع ارتفاع الرضا بها بعد ذلك. بل لا يمكن البناء علي اعتبار استمرار الرضا بها في جواز أكل المال، إذ ما أكثر ما يندم أحد المتعاقدين علي المعاملة بعد وقوعها، مع ما هو المعلوم من عدم بطلانها بذلك، كما اشرنا آنفاً.

وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في عدم نهوض الآية الشريفة بالاستدلال.

الثاني: قوله تعالي: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلي الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وانتم تعلمون)(1) ، قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (بناء علي أن أكل المال علي وجه الخدع ببيع ما يسوي درهماً بعشرة مع عدم تسلط المخدوع بعد تبين خدعه علي رد المعاملة وعدم نفوذ رده أكل للمال بالباطل. أما بعد رضاه بعد التبين بذلك فلا يعد أكلاً بالباطل. ومقتضي الآية وإن كان حرمة الأكل حتي قبل تبين الخدع، إلا أنه خرج بالإجماع، و بقي ما بعد اطلاع المغبون ورده للمعاملة).

وفيه - مع قصوره عن صورة عدم الخدع، لجهل المتعاقدين معاً بالقيمة السوقية للمبيع - أولاً: أن تسلط المخدوع علي ردّ المعاملة حكم شرعي لا يكون ثبوته أو عدمه دخيلاً في صدق أكل المال بالباطل الذي هو من الأمور العرفية. وإن أمكن أن يكون الحكم الشرعي المذكور متفرعاً علي صدق ذلك. غاية ما يمكن دعواه هو كون أكل

********

(1) سورة البقرة الآية: 188.

ص: 306

المال بالمعاملة الغبنية أكلاً له بالباطل. ولازم ذلك البناء علي بطلان المعاملة المذكورة، لا ثبوت الخيار فيها مع صحتها، كما هو المدعي.

نعم قد يدعي حينئذ صحتها برضا المغبون بالمعاملة، لخروج أكل المال به عن كونه أكلاً بالباطل. نظير صحة بيع المكره والفضولي بالإجازة. وهو غير المدعي.

وثانياً: أن عموم حرمة أكل المال بالباطل قضية ارتكازية آبية عن التخصيص عرفاً، فلا مجال لدعوي خروج ما قبل ظهور الخدع عن العموم المذكور بالإجماع. بل لو تم الإجماع كشف عن خلل في الاستدلال بالعموم المذكور.

وثالثاً: أنه لو سلم بدواً صدق الأكل بالباطل عرفاً في المورد المذكور، إلا أن المضمون المذكور وإن ورد مطلقاً في الآية الشريفة المتقدمة التي هي في سورة البقرة، إلا أنه ورد أيضاً في سورة النساء في قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)(1).

ومقتضي المقابلة في الآية الثانية بين الأكل بالباطل والتجارة عن تراض كون أكل المال بالتجارة عن تراض علي إطلاقه ليس أكلاً للمال بالباطل، وأن الأكل بالباطل لا يشمل صورة التجارة عن تراض.

نظير ما لو قيل: لا يحسن بالإنسان أن يعبث في إنفاق ماله، ويحسن منه أن ينفق ماله لإرضاء أبويه. حيث يكون مقتضاه أن إنفاق المال لإرضاء الأبوين خارج عن العبث من جهة المنفق مطلقاً وإن كانت دواعي الإنفاق من الأبوين عبثية مثلاً.

وحينئذ تصلح الآية الثانية لشرح أكل المال بالباطل، وبيان قصوره عن صورة التجارة عن تراض حتي في الآية الأولي. ولاسيما مع تطبيقه فيها علي الرشوة للحكام أو غصب أموال الناس بسببهم.

وحيث سبق صدق التجارة عن تراض في المقام بلحاظ حصول الرضا الفعلي فيه تعين قصوراً أكل المال بالباطل عنه وبذلك تكون الآية الثانية رادعة عن تطبيق

********

(1) سورة النساء الآية: 29.

ص: 307

(308)

الأكل بالباطل عليه عند العرف لو تم.

وبذلك يظهر أنه لا مجال لدعوي أن بين الدليلين عموماً من وجه، وأنهما يجتمعان في محل الكلام ويتعارضان فيه، لينظر في كيفية الجمع بينهما. وإن كان الظاهر أنه لو تم التعارض بينهما فالتقديم لعموم النهي عن أكل المال بالباطل، لما سبق من إبائه عن التخصيص.

ورابعاً: أن البيع في المقام يبتني علي أمرين:

الأول: الخروج في البيع عن القيمة السوقية. ولا إشكال في عدم كونه بنفسه منشأ لكون أكل المال أكلا له بالباطل بنظر العرف. ولذا لا يكون منه عندهم مع إقدام المتعاقدين علي ذلك أو احتمالهما له.

الثاني: خديعة أحد المتعاقدين للآخر، لا بإظهاره له علي خلاف الواقع، لعدم فرض ذلك في محل الكلام، بل بإبقائه علي غفلته، واستغلال ذلك وعدم تنبيهه لواقع الحال. وهذا وإن كان مستنكراً في الجملة بمقتضي المرتكزات العرفية. إلا أن استنكاره يرجع إلي كونه بنفسه نحواً من الباطل، من دون أن يكون أكل المال بالمعاوضة المبتنية عليه أكلاً له بالباطل.

وإلا فما أكثر ما تبتني المعاملة إبقاء أحد المتعاقدين علي غفلته بنحو لو التفت لما يعلم به الآخر لم يقدم علي المعاملة، كما لو اعتقد المشتري خطأ باستقرار السوق وعدم تبدل السعر، وأنه نتيجة لذلك قد اشتري الشيء بأقل من قيمته السوقية، أو اعتقد بوفاء ماشتراه بغرضه، أو اعتقد البايع أو بعدم تعرض الثمن للسرقة أو نحو ذلك، فإنه لو أبقاه الآخر علي غفلته، واستغل ذلك، فأوقع المعاملة، لايكون أكله للمال بالمعاملة حينئذ أكلا له بالباطل، بلا إشكال ظاهر.

الثالث: ما ورد عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) من إثبات الخيار في تلقي الركبان إذا دخل السوق. قال في الخلاف: (ومعلوم أنه إنما جعل له الخيار لأجل الغبن).

وفيه: أن ذلك لم يذكر مسنداً في كتب الحديث لأصحابنا، وإنما ذكر مرسلاً في

ص: 308

(309)

عوالي اللآلي قال: (وأنه نهي عن تلقي الركبان. وقال: من تلقاها فصاحبها بالخيار إذا دخل السوق)(1) والظاهر أنه أخذه من العامة، حيث رووه في كتب الحديث عندهم(2). ومجرد موافقة الحديث الضعيف لفتوي الأصحاب لا يكفي في جبره ما لم يثبت اعتمادهم عليه، ولا طريق لإحرازه في مثل ذلك، كما نبه لذلك هنا شيخنا الأعظم (قدس سره)، وأوضحناه عند الكلام في حديث: (علي اليد...) في حكم المقبوض بالعقد الفاسد.

ومن الغريب مع ذلك ما في الجواهر، حيث عقب علي ما ذكره في الحدائق من عدم ذكر الحديث في كتب أصول الحديث ولا في الفروع بقوله: (وإن كان فيه أنه يكفي إرسالهم له. بل لعله أقوي من ذكر المتن).

الرابع: النصوص الواردة في حكم الغبن، كموثق ميسر أو صحيحه عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: غبن المؤمن حرام)(3) وخبر إسحاق بن عمار عنه (عليه السلام): (قال: غبن المسترسل سحت)(4) ، و مرسل أحمد بن محمد بن يحيي قال: (أراد بعض أصحابنا الخروج للتجارة، فقال لا أخرج حتي آتي جعفر بن محمد (عليه السلام)... فأتاه فقال له: يا ابن رسول الله إني عزمت علي الخروج إلي التجارة. وإني آليت علي نفسي أن لا أخرج حتي أتاك [آتيك. ظ] وأستشيرك، وأسألك الدعاء لي. قال: فدعا له، وقال: عليك بصدق اللسان في حديثك، ولا تكتم عيباً يكون في تجارتك. ولا تغبن المسترسل، فإن غبنه لا يحل...)(5) ، وفي بعض طرقه: (فإن غبنه ربا)(6) ، وما عن كتاب الإمامة والتبصرة بسنده عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه قال: (قال رسول الله صلي

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 29 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

(2) صحيح البخاري ج: 3 ص: 28. صحيح مسلم ج: 4 ص: 138. صحيح سنن أبي داود ج: 2 ص: 132. وغيرها.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب الخيار حديث: 2، 1.

(4) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب الخيار حديث: 2، 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب آداب التجارة حديث: 7

(6) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 3 من أبواب آداب التجارة حديث: 8.

ص: 309

الله عليه وآله: (غبن المسترسل ربا)(1).

ولا يخفي أن ما تضمن من النصوص المتقدمة التعبير بالسحت والربا كالصريح في إرادة البيع الغبني المبتني علي كسب المال. وقريب منه مرسل أحمد بن محمد بن يحيي، لمناسبة التجارة لذلك.

وأما ما عدا ذلك - كحديث ميسر - فقد ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه ظاهر في حرمة الخيانة في المشاورة. قال: (فيحتمل كون الغبن بفتح الباء).

وفيه: أن الظاهر من كلمات اللغويين أن الغَبَن الذي هو بفتح الباء ليس هو الخيانة في الرأي، بل ضعف الرأي. قال في لسان العرب: (الغبن بالتسكين في البيع، والغبن بالتحريك في الرأي و غبنت رأيك. أي نسيته وضيعته...). وإن كانت كلماتهم لا تخلو عن اضطراب وغموض.

علي أنه لو تم أن الغبن بالفتح هو الخيانة في الرأي فاحتماله لا يقتضي استظهار المعني المذكور، بل احتماله، وإجمال مفاد الحديث. بل من القريب جداً أن يراد بحديث ميسر ما أريد ببقية النصوص المتقدمة، لأنه هو الشايع في النصوص وعند العرف. مع قرب تعاضد بقية النصوص، بحيث يوثق بصدور مضمونها. فلا يهم إجمال حديث ميسر لو تم.

فالعمدة في الجواب عن النصوص - بعد قصورها عن صورة عدم الخدع لجهل المتعاقدين معاً بالقيمة السوقية - ظهورها بدواً في بطلان البيع، كما هو مقتضي الظهور النوعي للنهي عن المعاملات وغيرها مما يطلب لأثره. وهو المناسب لإطلاق السحت والربا في بعض النصوص.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن السحت وإن كان هو المال الحرام، إلا أنه قد أطلق في المقام علي نفس الغبن لا علي الثمن. والغبن إنما يكون بنفس المعاملة،

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 13 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 310

(311)

ولا يصح إطلاقه علي الثمن حتي مجازاً. وأنه لا بد من حمل السحت علي الحرمة التكليفية فيندفع بأن عدم إطلاق الغبن علي الثمن لا ينافي إطلاق السحت عليه بلحاظ حرمة الثمن من باب المجاز في النسبة.

ومن هنا لا يبعد ظهور النصوص بدواً في بطلان المعاملة. لكن حيث لا يظهر منهم البناء علي ذلك فلا بد من حملها علي الكراهة.

بل قد تحمل علي الحرمة التكليفية، بلحاظ أخذ الاسترسال في موضوعها. قال في لسان العرب: (وفي الحديث: أيما مسلم استرسل إلي مسلم فغبنه فهو كذا. الاسترسال الاستئناس والطمأنينة إلي الإنسان، والثقة به فيما يحدثه. وأصله السكون و الثبات) ونحوه في مجمع البحرين. ومع الثقة والطمأنينة قد يحرم الإغفال لأنه نوع من الخيانة للأمانة. وإن كانت المعاملة صحيحة، بناء علي ما هو التحقيق من أن الحرمة التكليفية لا تقتضي الفساد.

وكيف كان فلا مجال لاستفادة ثبوت الخيار منها، كما هو المدعي في المقام.

الخامس: قاعدة نفي الضرر. بتقريب: أن لزوم البيع ضرر علي المغبون، فيتعين جوازه في حقه، وإمكان فسخه له.

وقد يستشكل في ذلك بوجوه:

أحدها: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن انتفاء اللزوم وثبوت التزلزل في العقد لا يستلزم ثبوت الخيار للمغبون بين الرد والإمضاء، بل كما يمكن أن يكون بذلك يمكن أن يكون بتخييره بين إمضاء العقد بتمام الثمن ورده للمقدار الزائد من الثمن عن قيمة المثل أو رد بدله، وأن يكون بتخييره للغابن بين الفسخ في تمام العقد ودفع الزائد من الثمن للمغبون أو دفع بدله.

غاية الأمر أن رد ذلك أو دفعه ليس هبة مستقلة، ليقال إنه لا يخرج المعاملة عن كونها غبنية ضررية - كما يظهر من جامع المقاصد و محكي الإيضاح - ولا جزء من أحد

ص: 311

العوضين، ليتجه ما عن العلامة في نظير ذلك من أن استراد بعض العوضين من دون رد ما يقابله من الآخر ينافي مقتضي المعاوضة.

وإنما ذلك غرامة عما فات منه بسبب الغبن، نظير الارش مع العيب. ولذا لا يجب أن يكون من عين الثمن، بل يكتفي ببدله.

وكأنه إلي هذا أو نحوه يرجع ما في الجواهر من أن حديث الضرار - مع قطع النظر عن كلام الأصحاب - لا يشخص الخيار.

وفيه: أن قاعدة نفي الضرر لا تقتضي تدارك الضرر، بل نفي الحكم الشرعي الموجب للضرر، وحيث كان نفوذ العقد شرعاً بنحو اللزوم هو المنشأ لضرر المغبون، تعين نفي القاعدة له، دون إثبات لزوم دفع فرق الثمن له غرامه، لأنه من سنخ تدارك الضرر الحاصل عليه من نفوذ المعاملة ولزومها، وقد سبق أن القاعدة لا تنهض به

ثانيها: ما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الضرر في المقام لا يستند للحكم الشرعي بلزوم المعاملة، ليكون مرفوعاً، بل للإقدام عليها، وهو مستند للمالك، لا للشارع. وحكم الشارع بلزومه وعدم السلطنة علي رفعه بعد ثبوته لا يكون موضوعاً لقاعدة نفي الضرر، وإلا لزم ارتفاع الضمان مع فعل ما يوجبه شرعاً جهلاً بالحال.

وقد أجاب عنه بعض مشايخنا (قدس سره) بأنه لا إقدام في المقام علي الضرر، بل علي المعاملة بتخيل عدم الضرر، فنفوذها بنحو اللزوم مع ذلك هو الموجب للضرر.

وفيه: أنه بعد عدم أخذ عدم زيادة أحد العوضين شرطاً في العقد - كما هو المفروض في كلام بعض الأعاظم (قدس سره) - فالإقدام علي المعاملة وإن لم يكن إقداماً علي الضرر بخصوصه، إلا أنه كان بنحو الإطلاق بحيث يشمل صورة الضرر، فهو كالإقدام مع احتمال الضرر.

إلا أن يدعي أن الإقدام المذكور معاملي لا يكفي في قصور القاعدة، بل لا بد في قصورها من الإقدام القصدي ولو كان احتمالياً. فتأمل.

ص: 312

وأما النقض بأن لازم ذلك ارتفاع الضمان مع فعل ما يوجبه جهلاً بالحال، فقد دفعه بعض مشايخنا (قدس سره) بأن رفع الضمان حينئذ مناف للامتنان في حق المضمون له، فتقصر القاعدة عنه لذلك.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لأن منافاته للامتنان في حق المضمون عنه إن كان بلحاظ كونه موجباً للضرر في حقه. ففيه: أنه لا يوجب الضرر في حقه، لحصوله الضرر بتلف ماله، وإنما يكون في الحكم بالضمان تدارك للضرر، الذي هو من سنخ النفع له، فليس في رفعه إضرار به، بل منع لنفعه.

وإن كان بلحاظ منع النفع المذكور، ففي كفايته في منع جريان قاعدة نفي الضرر إشكال.

فالأولي في الجواب عن النقض المذكور أن أدلة الضمان صريحة في العموم لحال الجهل وعدم الإقدام علي فعل ما يوجبه. فلتكن مخصصة للقاعدة.

ثالثها: ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن الضرر إنما يلزم من إمضاء الشارع للمعاملة و حكمه بصحتها، لأن إبدال الكثير بالقليل ضرر في حق أحد المتعاملين. وأما لزوم المعاملة فهو ليس حكماً ضررياً، بل غاية ما يلزم منه هو الإلزام بتحمل الضرر. وحينئذٍ فبعد فرض صحة المعاملة وعدم بطلانها لا وجه للبناء علي عدم لزومها من أجل قاعدة نفي الضرر.

وفيه أولاً: أن الحكم بصحة المعاملة من دون إلزام وإن كان ضررياً كما ذكره (قدس سره) وسبقه إليه بعض المحققين (قدس سره)، بل يظهر منه سبق غيرهما إليه إلا أن منصرف قاعدة نفي الضرر هو الضرر الذي يتعذر التخلص منه، لأنه هو المحذور عرفاً، والمنافي لسهولة الشريعة وكونها سمحاء، أما الضرر الذي يمكن التخلص منه من دون كلفة فهو ليس محذوراً، ولا ينافي سهولة الشريعة.

وكأنه إلي هذا نظر بعض المحققين (قدس سره)، فإنه - بعد ما سبق منه من أن الحكم بصحة المعاملة ضرري - قال: (فالحكم بصحة المعاملة الغبنية لأحد وجهين، إم

ص: 313

للإجماع علي الصحة، فيخصص به قاعدة الضرر، وإما لأن الصحة وإن كانت ضررية، إلا أن القاعدة لا تعمّ كل حكم ضرري، بل ما إذا كان رفعه موافقاً للامتنان، ولا منة في رفع الصحة وإبطال العقد).

وثانياً: أن لزوم المعاملة الضررية وإن لم يوجب حدوث الضرر، إلا أنه ضرري أيضاً بلحاظ استلزامه بقاء الضرر. ومن هنا ذهب بعض المحققين (قدس سره) إلي أن صحة المعاملة الغبنية ولزومها كلاهما ضرري. وعليه يتعين إعمال القاعدة في اللزوم بعد ما سبق من عدم إعمالها في الصحة.

إن قلت: بعد فرض صحة العقد ونفوذه فإعمال القاعدة في لزومه ينافي الامتنان في حق الغابن، لأن في الفسخ إضراراً به، إذ بعد أن ملك العوض الأكثر مالية فخروجه عن ملكه ورجوع الآخر له الأقل مالية له يستلزم الضرر عليه، وهذا بخلاف إعمالها في صحة العقد، فإنه لا يستلزم الإضرار به، بل فوت النفع عليه لا غير.

قلت: إنما يلزم الإضرار بالغابن من إعمال قاعدة الضرر إذا كان مقتضاها ارتفاع اللزوم عن العقد بعد ثبوته له. أما إذا كان مقتضاها صحة العقد ابتداء علي نحو الجواز وعدم اللزوم فلا يلزم الإضرار به، لظهور أن صحة العقد بالنحو المذكور ليست ضرراً عليه، بل هي نحو من النقص في الانتفاع، نظير صحة الهبة غير اللازمة كما لعله ظاهر.

رابعها: ما عن المحقق الخراساني (قدس سره). ومرجعه إلي أن القاعدة إنما تقتضي جواز العقد جوازاً حكمياً، نظير العقود الجائزة، لا جواز حقياً الذي هو مرادهم بالخيار، فإنه عندهم حق قابل للإسقاط - كما سبق - والتعويض والميراث مع إطلاق دليله بنحو يعم الوارث.

وهو في محله بناء علي ما سبق منا من الفرق بين الحق والحكم.

نعم قد لا يظهر الأثر بالإضافة إلي بعض الآثار. فاشتراط سقوط خيار الغبن عند العقد مستلزم للإقدام علي الضرر المانع من عموم قاعدة نفي الضرر. وإسقاطه

ص: 314

بعد العقد يكفي في لزوم العقد عملاً بعموم لزوم العقد بعد قصور القاعدة، لاستناد بقاء الضرر حينئذ لرضا المغبون به، لا للحكم باللزوم.

كما أن مرجع المعاوضة علي الحق حينئذ إلي المصالحة عن عدم الفسخ في مقابل المال المدفوع، وبعد الصلح المذكور لا ينفذ الفسخ، كما لو سقط حق الخيار.

فلم يبق إلا الميراث. فإن كان الخيار حقياً كان موروثاً، وإن كان حكمياً لم يورث. ولا مجال لإعمال قاعدة نفي الضرر في حق الورثة، لعدم استلزام نفوذ المعاملة في حقهم ولزومها الضرر عليهم، بل نقص النفع لهم، وهو لا يكفي في جريان القاعدة.

وقد حاول بعض مشايخنا (قدس سره) توجيه الميراث في المقام مع بنائه علي عدم الفرق بين الحق والحكم أنه ليس في المقام إلا الحكم الشرعي بجواز الفسخ وترتب الأثر عليه بأن المستفاد من بعض النصوص الواردة في الوصية أن الوارث وجود تنزيلي للمورث وأنه هو بعينه، ومن تلك النصوص ما تضمن عدم جواز الوصية بما زاد علي الثلث معللاً بأنه تضييع للورثة وظلم في حقهم، بدعوي: لولا اتحاد الورثة مع المورث لما كان لهذا النهي وجه، لأنه يتصرف في مال نفسه، وهو أجنبي عن ورثته.

ولا يخلو ما ذكره عن غموض، إذ يكفي في حسن التعليل لو تم حكم الشاعر باستحقاق الورثة للثلثين، بحيث لا يجوز التجاوز عليهما في الوصية إلا بإذنهم من دون توقف علي الاتحاد التنزيلي المدعي.

خامسها: أن القاعدة المذكورة تقصر عما لو تبدلت القيمة قبل الفسخ، بحيث لا يكون تبديل أحد العوضين بالآخر غبنياً، حيث لا يكون لزوم المعاملة السابقة ضررياً حينئذ، فيتعين البناء علي اللزوم حينئذ إما لما هو الظاهر من أن المرجع في مثل ذلك عموم العام، وهو في المقام عموم اللزوم، لا استصحاب حكم المخصص. وإما لما سبق من أن القاعدة إنما تقتضي الجواز الحكمي الذي هو عبارة عن كون العقد ينفسخ بالفسخ، فيكون استصحابه تعليقياً، وهو لا يجري علي التحقيق، بل يجري

ص: 315

(316)

حينئذ استصحاب عدم ترتب الأثر علي الفسخ، الراجع لاستصحاب ملكية كل من المتعاقدين لما ملكه بالعقد.

هذا وحيث لم يذكروا من مسقطات هذا الخيار ارتفاع الغبن قبل إعماله فظاهرهم عدم سقوطه بذلك.

كما أن الضرر لا يختص بالضرر المالي، بل له جهات أخري قد تندفع بنفوذ العقد الغبني، فتزاحم الضرر المالي الحاصل به، فلا يكون نفوذه بنحو اللزوم منافياً للامتنان، كما لو كان المشتري المغبون مضطراً للبيع أو انكشف كونه مضطراً له، مع أن بناءهم علي ثبوت الخيار في مثل ذلك.

وكلا الأمرين يناسب كون دليل الخيار في المقام أمراً غير قاعدة نفي الضرر. فلاحظ.

والمتحصل من جميع ما سبق: أن قاعدة نفي الضرر لا تنهض بإثبات الخيار مطلقاً، بناء أن القصد المعاملي للإقدام علي الضرر في المقام موجب لقصور القاعدة المذكورة، علي ما أشرنا إليه في الوجه الثاني للإشكال علي الاستدلال بالقاعدة.

وأما بناء علي عدم كفايته فالقاعدة إنما تقتضي جواز العقد حكماً، من دون أن يكون موضوعاً لحق الخيار، علي ما تقدم في الوجه الرابع. كما أنها تقصر عما إذا تبدل الحال بحيث لا يكون لزوم المعاملة ضررياً، أو ترتب علي المعاملة جهة تزاحم الضرر المالي علي ما ذكرناه في الوجه الخامس.

السادس: ما عن بعض الأعاظم (قدس سره). قال في منية الطالب في الاستدلال علي الخيار في المقام: (وأتم المدارك له هو حصوله من جهه تخلف الشرط الضمني. وذلك أنه لما كان تعيش بني آدم موقوفاً علي تبديل الأموال، وبناء المتعاقدين علي تساوي العوضين في المالية، فيناط التبديل بالتساوي. وحيث كان هذا البناء نوعياً بحسب العرف والعادة جري نفس إجراء العقد بين العوضين مجري اشتراط تساويهما في المالية، بحيث لو علم المغبون بالحال لم يرض. فمدرك ثبوت الخيار تباني المتعاقدين

ص: 316

علي تساوي العوضين في المالية. وهذا بمنزلة الصغري. والكبري أن تخلف البناء يوجب عدم التراضي بالمعاملة، ولما ثبت في باب الفضولي والمكره أن الرضاء اللاحق كالسابق، فلم يكن تخلف البناء موجباً لفساد البيع رأساً، فله إقرار العقد واختيار نتيجته، وله رده).

ومقتضي ما في ذيله - من أن عدم البناء يوجب عدم التراضي بالمعاملة، وتنظير المقام بالفضولي والمكره - هو بطلان المعاملة، لعدم التراضي. غاية الأمر أنه يمكن تصحيحها بالرضا اللاحق نظير عقد الفضولي والمكره. وهو - كما تري - غير عن المدعي من ثبوت الخيار مع صحة المعاملة.

نعم مقتضي ما في صدره - من ابتناء العقد علي اشتراط التساوي في المالية ضمناً - كون التساوي في المالية أمراً خارجاً عن موضوع العقد الذي صار مورداً في للتراضي. وعليه يكون التراضي حاصلاً بالعقد المتضمن للمعاوضة بين المالين، فيصح. غاية الأمر أن العقد الذي حصل التراضي به مبني علي الشرط المذكور، فيثبت بتخلف هذا الشرط الخيار، كما هو المدعي.

وبذلك يرجع خيار الغبن لخيار تخلف الوصف المشروط الثابت تبعاً للمرتكزات العقلائية، كما صرح بذلك السيد الطباطبائي (قدس سره) في حاشيته، وأشار إليه بعض المحققين (قدس سره). وعليه جري بعض مشايخنا (قدس سره) في تقريب الاستدلال للخيار في المقام. وهو لا يخلو عن وجه.

نعم الظاهر عدم اطراده، لعدم ابتناء العقد في كثير من الموارد علي الحفاظ علي المالية، بل علي الرغبة الشخصية والاتفاق بين الطرفين من دون نظر لشيء آخر.

منها: ما إذا لم تسهل معرفة القيمة السوقية، كما يغلب في مثل التحفيات والأثريات ونحوها من النوادر. حيث يتمحض الأمر فيها في التراضي بين المتعاقدين، من دون النظر للشرط المذكور.

ومنها: ما إذا كان أحد العوضين أمراً يعتز به أحد المتعاقدين، لخصوصية

ص: 317

شخصية، ككون المبيع منسوجاً بيده أو بيد شخص يخصه، وكون الكتاب قد درس فيه هو أو شخص يخصه، ونحو ذلك.

ومنها: ما تجهل خاصيته المرغبة فيه. ويعرض من أجل تحصيل من يرغب فيه لأجل صورته الظاهرة، أو لاطلاعه علي ميزة مرغبة، كمجموعة من الأحجار أو الكتب أو الطوابع أو نحوها مما قد يوجد فيه ما يدرك الخبير أو يحتمل وجود خاصية فيه توجب زيادة قيمته، من دون أن يكون ملزماً بإخبار البايع وتحديد قيمته الحقيقية تبعاً لذلك.

ومنها: ما يباع بالمزاد، حيث يكون المعيار في ثمنه علي قناعة المتزايدين الشخصية ومقدار الزيادة التي يتسابقون فيها.

ومنها: ما يأتي التعرض له عند الكلام في شرط ثبوت هذا الخيار.

وربما تكون هذه الصورة ونحوها خارجة عن مورد كلامهم لباً.

كما أنه ربما يكون مبني المعاملة علي قيمة خاصة بتعيين السلطة أو الجهة التي تنتمي إليها البضاعة، من أسواق أو شركات أو أصحاب معامل أو نحو ذلك. وقد تكون تلك القيمة أكثر من القيمة السوقية أو أقل. فتكون هي المعيار في الغبن، لأنها هي موضوع الشرط الضمني، دون القيمة السوقية، لابتناء المعاملة علي إغفالها.

هذا وقد قد يشكل أصل المطلب بلحاظ أن بناء المسألة علي الشرط الضمني يقتضي اتفاق الطرفين عليه، إذ مع اختلافهما في ذلك يلزم عدم التطابق بين الإيجاب والقبول المبطل للعقد. لعدم الفرق في مبطلية عدم التطابق بين أن يكون في أركان المعاملة - كالثمن والمثمن - وأن يكون فيما هو خارج عن ذلك، كالشرط والوصف، كما تقدم عند الكلام في شروط العقد. مع أن الظاهر عدم بناء العرف علي البطلان في فرض اتفاقهما علي الشرط المدعي في المقام، لابتناء العقد من أحدهما دون الآخر علي أحد علي الوجوه المتقدمة.

ص: 318

اللهم إلا أن يقال: يكفي في ترتب الأثر علي الشروط الضمنية بناء العرف عليها نوعاً ما لم يتفق المتعاقدان علي الخروج عنها. ولذا لا يظن منهم البناء علي البطلان لو لم يلتزم أحد المتعاقدين في نفسه بتعجيل التسليم، أو بالسلامة في المبيع، أو نحوهما من الشروط الارتكازية العامة، من دون أن ينبه الآخر لذلك. كما لا إشكال ظاهراً عندهم في ثبوت الخيار للآخر حينئذ بتخلفها.

ومرجع ذلك في الحقيقة إلي أن لزوم تحقق الأمور المذكورة وثبوت الخيار بتخلفها ليس بملاك نفوذ الشرط الضمني، لظهور أن الشرط أمر قائم بالطرفين بل هما من الأحكام العرفية الارتكازية. ولا يخرج عنها إلا باتفاق المتعاقدين، وبناء العقد منهما معاً علي عدم الالتزام بها.

بل لا يبعد الاكتفاء في الخروج عنها بإقدام من له الشرط العرفي علي عدم بناء المعاملة عليه، إما لعلمه بعدم تحققه، أو لاحتماله ذلك مع عدم ابتناء المعاملة من قبله عليه. لخروجه عن المتيقن من بناء العقلاء علي الإلزام بها وترتيب الأثر عليها.

نعم لو بني العقد عليها إلا أنه كان عازماً علي عدم المطالبة بها وعدم إعمال الخيار بفقدها، فالظاهر عدم منع عزمه المذكور من ترتب الأثر عليها. فله العدول عن عزمه، وإعمال حقه.

أما الشروط الضمنية فتختص بما يتفق عليه المتعاقدان، ويبتني العقد منهما عليه ضمناً من دون أن يصرحا به لفظاً ولو لإنشاء العقد بغير اللفظ، كما في المعاطاة.

ويترتب علي ذلك أن المعيار في ثبوت خيار الغبن علي الخروج عن قيمة المثل إلا مع تصريح المتبايعين حين العقد أو بنائهما - ولو بحسب ظهور حالهما - علي عدم ابتناء العقد عليها. وكذا لو أقدم المغبون وحده علي ذلك.

أما ابتناء العقد علي قيمة أخري غير قيمة المثل مما سبق التعرض له، فلابد فيه من اتفاقهما معاً عليه تصريحاً أو ضمناً كل ذلك لأن الأمر الارتكازي الذي عليه العرف والعقلاء نوعاً هو لزوم مراعاة قيمة المثل. وما عداها خارج عن ذلك. فلابد

ص: 319

(320)

(مسألة 24): إذا باع بأقل من قيمة المثل (1) ثبت له الخيار. وكذا إذا اشتري بأكثر من قيمة المثل. ولا يثبت هذا الخيار للمغبون إذا كان عالماً بالحال (2)

---------------

فيه من عناية خاصة يجري عليها المتعاقدان معاً. هذا ما يتضح لنا فعلاً. ولابد من مزيد من التأمل. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

(1) الظاهر أن مراده بقيمة المثل هو القيمة السوقية وإن كان المبيع قيمياً كما أنه هو المراد لنا أيضاً فيما سبق. إذ لا إشكال ظاهراً في عدم اختصاص هذا الخيار بالمثليات، لعموم أدلته.

(2) بلا خلاف، وقطعاً، كما في الجواهر، وقال شيخنا الأعظم (قدس سره): (بلا خلاف ولا إشكال) وفي التذكرة والمسالك الإجماع عليه. وفي مفتاح الكرامة أن ذلك مما لا ريب فيه. وفي كلام غير واحد عدم صدق الغبن حينئذ. وهو غير بعيد، حيث لا يبعد كون أصله الخديعة.

لكنه إنما ينفع لو كان الدليل هو النصوص الواردة في حكم الغبن. بل اشتمال أكثرها علي غبن المسترسل موجب لاختصاصه بصورة الجهل حتي لو فرض عموم الغبن مفهوماً. وكذا لو كان الدليل عليه آيتا التجارة عن تراض وأكل المال بالباطل، كما هو ظاهر. ومثلها في ذلك ما ورد في تلقي الركبان، لأن موضوعه وإن كان هو دخول السوق، إلا أن منصرفه ما إذا ظهر أن القيمة أكثر من الثمن. وهو مبني استدلالهم به. لكن تقد عدم نهوض الجميع بالاستدلال.

كما أنه تقدم اختصاص قاعدة نفي الضرر بغير صورة الإقدام عليه الحاصل مع العلم. أما بناء علي أن الدليل هو الشرط الضمني أو بناء العقلاء بالنحو الذي تقدم منا التعرض له فالأمر أظهر.

هذا ومقتضي إطلاق الأصحاب وصريح التذكرة والمسالك ومحكي التحرير

ص: 320

عدم الفرق في ثبوت الخيار مع الجهل بالقيمة بين إمكان معرفة القيمة وتعذرها. وهو مقتضي أكثر الوجوه المتقدمة، ومنها الوجه الأخير الذي تقدم منا التعويل عليه.

لكن في الجواهر أنه قد يشكل - إن لم يكن إجماعاً - بأنه هو أدخل الضرر علي نفسه، فلا خيار.

وفيه - مع ما سبق من الإشكال منه ومنافي الاستدلال بقاعدة نفي الضرر -: أن مراده إن كان صورة الالتفات للغبن والشك فيه. فيأتي الكلام فيه عند الكلام في حكم الشك والظاهر عدم الفرق فيه بين إمكان معرفة الحال وعدمه.

وإن كان ما يعم صورة الغفلة عن الغبن مع كونه بحيث لو التفت إليه لأمكن له معرفة الحال فلا إشكال في عدم تحقق الإقدام حينئذ، إذ لا معني للإقدام علي الشيء مع الغفلة عنه.

نعم سبق تحقق الأقدام المعاملي، وأنه لو كان مانعاً من عموم قاعدة نفي الضرر توقف الاستدلال بها علي صورة اشتراط عدم الغبن ولو ضمناً. ومن الظاهر إمكان فرض الاشتراط المذكور حتي مع القدرة علي معرفة الحال. وبذلك يظهر أنه لا أثر للقدرة علي ذلك.

ومنه يظهر حال ما في المبسوط والشرايع والنافع من أنه يشترط في ثبوت الخيار أن لا يكون المغبون من أهل الخبرة.

إذ المفهوم منه عرفاً ذو الملكة التجارية التي يستطيع بها معرفة القيمة. وهي أعم مورداً من فعلية العلم، إذ قد يغفل عن إعمال ملكته أو يحتاج إلي كلفة، فيقدم علي المعاملة مع الجهل، ثقة بالبايع، أو اكتفاءً بالشرط الضمني الذي تقدم الكلام فيه. ومعه لا وجه لعدم ثبوت الخيار بعدما سبق.

وربما يكون مرادهما (قدس سرهما) بالخبرة فعلية العلم. بل لعله هو الذي فهمه الأصحاب. ولذا لم يشيروا للخلاف منهما.

ص: 321

هذا ولو ظن المغبون، أو شك حين العقد بالغبن، فهل يسقط الخيار بذلك ؟

يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) التردد والإشكال في سقوطه، بلحاظ عموم نفي الضرر، وإطلاق الإجماع المحكي اقتصاراً في الخروج منهما علي المتيقن، وهو صورة العلم بالضرر. قال: (نعم لو صرح في العقد بالالتزام به ولو علي تقدير ظهور الغبن كان ذلك راجعاً إلي إسقاط الغبن).

ويظهر ضعفه مما سبق من عدم نهوض الإجماع بالاستدلال علي أصل ثبوت خيار الغبن، فضلاً عن عمومه. ولاسيما مع لزوم الاقتصار في الإجماع وجميع الأدلة اللبية علي المتيقن.

وأما قاعدة نفي الضرر فلو تم الاستدلال بها أشكل عمومها لصورة الالتفات للغبن أو الشك فيه، فضلاً عن الظن به، لعدم وضوح استناد الضرر حينئذ للحكم الشرعي بعد إمكان دفعه بعدم الإقدام علي المعاملة، نظير صورة العلم.

وأما ما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من أنه إذا أقدم عالماً بالحكم برجاء عدم الضرر فهو ليس مقدماً علي الضرر عرفاً.

ففيه: أن الإقدام مع احتمال الضرر إقدام علي الضرر علي تقدير وجوده، ولا أثر للرجاء وعدمه في تحقق الإقدام المذكور. كما أن العلم بالحكم إن أريد به الحكم بأصل ثبوت الخيار في الغبن من دون علم بثبوته في خصوص المورد فلا أثر له في نفي الإقدام علي الضرر. وإن أريد به العلم بثبوته في خصوص المورد فهو وإن كان يمنع من صدق الإقدام علي الضرر بالنحو المانع من جريان القاعدة. إلا أنه أول الكلام. ولو تم يجري حتي مع العقد لا برجاء عدم الغبن، بل حتي مع العلم بالغبن إذا فرض العلم حين العقد بثبوت الخيار معه.

علي أن المعيار في المقام ليس علي الإقدام علي الضرر وعدمه، بل علي استناد الضرر للحكم الشرعي وعدمه، وقد عرفت عدم استناده له حينئذ عرفاً. ومن ثم لا مجال للبناء علي إطلاق ثبوت الخيار مع احتمال الغبن.

ص: 322

نعم بناء علي كون منشأ ثبوت خيار الغبن هو ابتناء العقد ارتكازاً علي اشتراط عدمه، وأنه من الشروط الضمنية. فالمتعين التفصيل بين ما إذا كان العقد مع احتمال الغبن مبنياً علي اشتراط عدمه ضمناً، وما إذا لم يكن كذلك، بل كان مبنياً علي رفع اليد عنه، فيثب الخيار في الأول دون الثاني، كما صرح به بعض مشايخنا (قدس سره). وهو المناسب لاقتصار سيدنا المصنف (قدس سره) في سقوط الخيار علي العلم بالغبن والإقدام علي المعاملة علي كل حال.

وأما ما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من الإشكال في ثبوت الخيار، لأن الإقدام مع الاحتمال من دون اتكال علي طريق أو أصل محرز لعدمه - نظير أصالة السلامة المحرزة لعدم العيب - كأنه إقدام مع العلم بالغبن.

فهو كما تري لا يرجع إلي محصل بعد فرض كون المعيار في ثبوت الخيار علي الشرط، إذ لا إشكال في إمكان الشرط المذكور مع الشك. بل لو أمكن حصوله مع العلم بالغبن تعين ثبوت الخيار معه أيضاً. والاعتماد علي أصالة السلامة ليس من أجل تحقق شرط الخيار، بل من أجل منع الغرر ورفع الجهالة في البيع، المعتبر في صحته عندهم.

هذا ولكن سبق منا المنع من كون منشأ الخيار هو اشتراط عدم الخيار ضمناً، بل وأن منشأه بناء العرف بمرتكزاتهم علي ثبوت الخيار مع الغبن ونحوه مما هو خارج عن الوضع الطبيعي في المعاملات.

وعليه يتعين عدم ثبوت الخيار مع الشك، فضلاً عن الظن بثبوت الغبن، مطلقاً ولو مع عدم ابتناء الإقدام علي التنازل عن الشرط المدعي، والاقتصار في الخيار علي صورة الغفلة المطلقة، أو العلم بعدم ثبوت الغبن أو قيام الأمارة العرفية عليه وإن لم تكن معتبرة شرعاً. اقتصاراً علي المتيقن من مورد بناء العرف المذكور.

نعم لو اشترط عدم الغبن صريحاً أو ضمناً تعين ثبوت الخيار مطلقاً ولو مع العلم بثبوت الغبن. لكنه من خيار تخلف الشرط، لا خيار الغبن الذي محل الكلام.

ص: 323

(324)

أو مقدماً علي المعاملة علي كل حال (1).

---------------

(1) لقصور أكثر الوجوه المتقدمة عنه، ومنها الوجه الأخير الذي تقدم منا التعويل عليه، كما يظهر بملاحظته.

ثم إنه بناء علي ما يأتي منهم من اختصاص الغبن بالفرق الفاحش بين الثمن والقيمة السوقية دون ما يتسامح به، لو أقدم أحد المتعاقدين علي مرتبة من الفرق بينهما، فبان الفرق بينهما أزيد مما أقدم عليه، تعين عدم سقوط الخيار إذا كان الفرق مجموعه فاحشاً، سواء كان كل من الفرق الذي أقدم عليه والزيادة مما لا يتسامح فيه، أم كان كل منهما مما يتسامح فيه، إلا أن مجموعهما لا يتسامح فيه.

لعدم الموجب لسقوط الخيار بعد عدم الإقدام في الصورتين علي الغبن الحاصل في المورد الذي هو المجموع المفروض عدم الإقدام عليه.

وأظهر من ذلك ما إذا أقدم علي ما يتسامح فيه، وكانت الزيادة وحدها بالمقدار الذي لا يتسامح فيه، كما هو ظاهر.

أما العكس - وهو ما إذا أقدم علي ما لا يتسامح فيه وكانت الزيادة بالمقدار الذي يتسامح فيه - فعن بعض الأعاظم (قدس سره) سقوط الخيار معه، لأن ما يوجب الخيار قد أقدم عليه، فسقط الخيار المسبب عنه، وما لم يقدم عليه لا يوجب الخيار.

لكن قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (ففي الخيار وجه). وجزم به بعض مشايخنا (قدس سره)

بتقريب أن الغبن الحاصل لما كان بمجموعه موجباً للخيار فهو لم يقدم عليه ليسقط الخيار المسبب عنه، وإنما أقدم علي بعض مراتبه لا غير. وما ذكره متبين في نفسه.

إلا أن يستفاد من تسامحه في المقدار الكثير الموجب للخيار تسامحه فيما يزيد عليه قليلاً مما لا يوجب الخيار. وهو خارج عن محل الكلام. وربما يأتي عند الكلام في اعتبار كون الغبن فاحشاً حقيقة الحال بنحو قد ينفع في المقام.

بقي شيء: وهو أن التماكس بين أهل الخبرة قد يبتني علي الإعراض بين

ص: 324

(325)

(مسألة 25): يشترط في ثبوت الخيار للمغبون أن يكون التفاوت موجباً للغبن عرفاً، بأن يكون مقداراً لا يتسامح به عند غالب الناس (1)،

---------------

المتبايعين عن القيمة السوقية في تحديد الثمن والاتكال في تحديده علي الخبرة ولو بلحاظ الجهات والعوامل الأخري الدخيلة في الرغبة والزهد في الشيء، مثل توقع قلة العرض أو الطلب أو كثرتهما علي الأمد البعيد، وحاجة البايع أو المشتري للنقد أو استغنائهما عنه، وتعرض أحد العوضين للخطر... إلي غير ذلك.

وحينئذ يتعين عدم ثبوت الخيار بالخروج عن القيمة، لا من جهة العلم بها، ولا من جهة الإقدام علي الغبن، بل من جهة عدم ابتناء المعاملة علي مراعاة القيمة السوقية، ليكون الخروج عنها مخالفة للشرط الضمني، أو مورداً لبناء العقلاء علي الخيار، علي الكلام المتقدم.

بل حتي لو كان الدليل علي الخيار هو قاعدة نفي الضرر. لرجوع مورد الكلام إلي الإقدام علي الضرر المالي بلحاظ وجود المزاحم الأهم منه بنظر أحدهما. ولا يمنع من البناء علي ذلك عدم تعرض الأصحاب له بعد عدم كون الدليل علي الخيار هو الإجماع، وقرب كون الإجماع لو حصل مبنياً علي المرتكزات العرفية التي تقصر عن مورد الكلام.

وربما يكون ذلك هو المنظور للشيخ والمحقق قدس سرهما فيما سبق منهما من عدم ثبوت الخيار مع كون المغبون من أهل الخبرة. وإن كان ذلك لا يتناسب مع إطلاقهما له، وعدم تقييدهما إياه بما إذا قامت القرينة علي الإعراض عن القيمة السوقية، والاكتفاء منهما بكون المغبون من أهل الخبرة. كما لاتناسب عدم تعرض الأصحاب لذلك تبعاً لهما، وعدم تعقيبهم لكلامهما. فلاحظ.

(1) وإلي ذلك يرجع ما في المبسوط وكلام جماعة من عدم جريان العادة بمثله. بل لا يبعد كونه هو المراد مما في التذكرة. حيث قال: (الزيادة أو النقيصة الفاحشة

ص: 325

التي لا يتغابن الناس بمثلها وقت العقد). وقد أرسل في كلام غير واحد إرسال المسلمات.

وقال في التذكرة في وجه عدم ثبوت الخيار مع قلة الفرق: (لجريان مثل هذا التغابن دائماً بين الناس. وعدم ضبط الأثمان الموازية للمثمنات، لعسره جداً، فلم يعتد بالخارج عنه قلة أو كثرة مع القلة). وقريب منه كلام غيره.

والذي ينبغي أن يقال: إن قيمة الشيء (تارة): تكون محددة بالدقة، كما في كثير من الأمور في عصورنا - حيث تشيع التسعيرة - مع بذل الشيء، وعدم طروء الشحة عليه بنحو يوجب تبدل قيمته. (وأخري): لا تكون كذلك، بل تتردد بين الأقل والأكثر.

أما في الصورة الأولي فالظاهر الاكتفاء في حصول الغبن وثبوت الخيار بأدني اختلاف بين الثمن والقيمة الواقعية. لعموم دليل خيار الغبن الذي تقدم منا تقريبه، ولعدم تسامح العرف بعد فرض تحديد القيمة. ولذا لا يتسامحون في الحفاظ علي القيمة السوقية عند إجراء العقد، ويهتمون بعدم الزيادة عليها ولو قليلاً، نعم قد يتسامحون في إعمال حق الخيار لدواع خارجية، كالحياء وتجنب المشاكل. إلا أن ذلك خارج عن محل الكلام.

ولعل هذه الصورة خارجة عن مورد كلامهم، لعدم وضوح الابتلاء بها سابقاً، كما يظهر مما تقدم من التذكرة. ولا أقل من قصور الاستدلال المتقدم عنه.

وأما في الصورة الثانية فالظاهر عدم ثبوت الخيار مع تراوح الثمن بين أقل القيم وأعلاها. لا للتسامح في مثل هذا الغبن، أو لعدم كونه فاحشاً. بل لعدم صدق الغبن بعد عدم تجاوز حدي القيمة السوقية، المفروض كونها ذات مراتب، فالتسامح في مثل ذلك عرفاً ليس للتسامح في الغبن، بل لابتناء القيمة علي التردد.

وصدق الشراء بثمن غال أو رخيص - لو تم - ليس بلحاظ الزيادة أو النقيصة عن القيمة السوقية، بل بلحاظ مصادفة أعلي المراتب العالية من القيمة أو الدانية.

ص: 326

ومثله صدق غلبة أحد المتعاقدين أو خديعته للآخر. لتحقق الغلبة والخديعة بذلك أيضاً. بل قد يصدق الغبن ولو مجازاً، تبعاً لصدق الخديعة والغلاء والرخص لكنه غير الغبن الذي هو محل الكلام.

أما مع الخروج عن أحد الحدين فالظاهر ثبوت الخيار وإن كان الفرق قليلاً، لصدق الغبن، وعدم تسامح العرف، وعموم أكثر الأدلة المتقدمة، ومنها الوجه المتقدم منا. نعم قد يكون ابتناء القيمة في مثل ذلك علي التردد بين المراتب تحديد القيمة عند العرف بحديها غير دقيق، بأن تبتني علي التماكس في أحد طرفي الحد أو كليهما، بحيث يمكن بسبب التماكس الزيادة عن أكثر ما يعرض في السوق قليلا، ً أو الإنقاص عن أقل ما يعرض في السوق قليلاً، من دون أن يصدق الغبن.

ولا أقل من الشك في صدقه حينئذ، فيشك في تحقق موضوع الخيار وفي بناء العرف عليه، ويتعين البناء علي لزوم العقد عملاً بعموماته، لكون الشبهة في المقام حكمية، لرجوعها في الحقيقة إلي إجمال الغبن وعدم وضوح صدقه في المقام.

كما أنه يتعين البناء علي اللزوم أيضاً لو كانت الشبهة موضوعية، كما لو لم يتيسر استيعاب السوق بالفحص، واحتمل وجود من يعرض المبيع بالثمن الذي وقع عليه العقد. لكن لا لعمومات اللزوم، لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص حتي في مثل المقام مما كان المخصص فيه لبياً، علي التحقيق. بل لأصالة عدم ترتب الأثر علي الفسخ، الراجعة لاستصحاب بقاء كل من العوضين في ملك من ملكه بالعقد.

وبناء علي ذلك لا موضوع الكلام في تحديد الغبن الذي يتسامح فيه عرفاً بالشفص - من الثلث والربع وغيرهما - أو بغيره.

ولعل كلام الأصحاب في المقام ناشئ من ارتكازية ما ذكرنا، من دون وضوح له علي وجهه الذي سبق، كما قد يناسبه التعليل المتقدم من التذكرة. ويكون ذلك هو الموجب لاضطراب كلماتهم، وعدم مناسبتها للأدلة التي استدلوا بها علي هذا الخيار.

ص: 327

فلو كان جزئياً غير معتد به لقلته لو يوجب الخيار. وحده بعضهم بالثلث، وآخر بالربع، وثالث بالخمس (1). ولا يبعد اختلاف المعاملات في ذلك. فالمعاملات التجارية (2) المبنية علي المماكسة الشديدة يكفي في صدق الغبن

---------------

ولاسيما بلحاظ ما سبق من صدق الغلاء والرخص والخديعة، بل حتي الغبن ولو مجازاً، حيث قد ذلك يكون سبباً في التباس تراوح القيمة بين الزيادة والنقيصة بالغبن.

بقي شيء: وهو أن موضوع الخيار هو الغبن المالي وإن لم يضر بحال المغبون، ولم يجحف به، كما هو مقتضي إطلاق الأصحاب رضوان الله عليهم، واستظهره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغير واحد ممن تأخر عنه. لعموم الدليل المتقدم منا، بل أكثر الأدلة المتقدمة، ومنها قاعدة نفي الضرر.

ودعوي: أن ذلك لا يناسب ما ذكروه من وجوب شراء الماء للطهارة بالثمن الكثير ما لم يجحف بالمكلف. مدفوعة بأن ذلك خرج عن عموم القاعدة بالنص الخاص. وليس مفاد النص تحديد الضرر الذي هو موضوع القاعدة، ليكون حاكماً علي عمومها حتي في غير مورده.

(1) قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (لا إشكال في كون التفاوت بالثلث، بل الربع، فاحشاً. نعم الإشكال في الخمس. ولا يبعد دعوي عدم مسامحة الناس فيه). بل الظاهر عدم المسامحة فيما دونه. بل المسامحة في الفرق مهما قل لا تتناسب مع ما هو المعلوم من عدم إقدام المتعاملين عليه حين ايقاع العقد. فلابد أن يكون منشأ عدم حكمهم بالخيار هو عدم صدق الغبن، لعدم انضباط القيمة، كما سبق.

هذا ولو فرض الشك في حال الناس فالظاهر البناء علي لزوم البيع، لعموماته أو للأصل، نظير ما سبق منا عند الكلام في صورة الشك في حصول الغبن.

(2) لا يبعد كون مراده (قدس سره) بها المعاملات الواقعة بين التجار المحترفين، حيث يهتم كل منهم بالربح، بخلاف ما إذا كان أحد طرفي المعاملة المستهلك، لأن

ص: 328

(329)

فيها العشر، بل نصف العشر، والمعاملات العادية لا يكفي فيها ذلك. والمدار ما عرفت من عدم المسامحة الغالبية.

(مسألة 26): الظاهر كون الخيار المذكور ثابتاً من حين العقد (1)، لا من حين ظهور الغبن، فلو فسخ قبل ظهور الغبن صح فسخه مع ثبوت الغبن واقعاً (2).

---------------

اهتمامه بالانتفاع بالبيع قد يوجب تهاونه في زيادة الثمن في الجملة.

(1) كما صرح به في الجواهر. وإليه يرجع كلام شيخنا الأعظم (قدس سره). وهو ظاهر غير واحد ممن صرح بأن الغبن سبب للخيار. لكن مقتضي الجمود علي ما في كلام غير واحد ثبوته من حين ظهور الغبن.

وإن كان من القريب ذكرهم له بلحاظ طريقيته وكشفه عن الخيار، لا لموضوعيته فيه، كما هو الشايع في الاستعمالات في نظائر المقام. مثل: من صلي ثم علم أن صلاته كانت مع الحدث وجبت عليه الإعادة، وإن علم أنها مع النجاسة صحت صلاته، ونحو ذلك.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في ثبوت الخيار من حين العقد بلحاظ أكثر الوجوه المتقدمة في الاستدلال، ومنها الوجه الذي سبق منا.

نعم لو كان الدليل عليه الإجماع فالمتيقن منه ما بعد ظهور الغبن. كما أنه أيضاً مقتضي الجمود علي ما في حديث تلقي الركبان من الحكم بالخيار بدخول السوق.

لكن سبق عدم نهوضهما بالاستدلال. مع قرب حملهما بمناسبة الحكم والموضوع الطريقية، نظير ما سبق في كلمات الأصحاب.

(2) إذ مع ثبوت الحق يتعين فعلية السلطنة علي إعماله. نعم لابد من قصد فسخ العقد ولو تحكماً، أو برجاء ثبوت الغبن أو بتخيل سبب آخر للخيار. ولا يكفي

ص: 329

مجرد الامتناع من القيام بمقتضي العقد عصياناً.

وكما أنه يترتب علي ذلك أيضاً صحة إسقاط خيار الغبن قبل ظهوره، كما في الجواهر. أما لو كان ثبوت الخيار الغبن منوطاً بظهوره فلا مجال لإسقاطه قبله، لأنه إسقاط لما لم يجب. إلا أن يكون الإسقاط معلقاً علي ظهوره، فيبتني نفوذه علي عدم مانعية التعليق في ذلك، ولا مجال للبناء عليه، كما يظهر مما تقدم في آخر المسألة الثالثة والعشرين.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أنه يكفي في جواز الإسقاط تحقق السبب المقتضي للخيار وإن لم يتحقق شرطه، وهو العلم، نظير إبراء المالك الودعي عن الضمان، وكبراءة البايع من العيوب، الراجعة إلي إسقاط الحق المسبب عن وجودها قبل العلم بها.

ففيه: أنه لا موضوع للإسقاط منجزاً بعد فرض عدم ثبوت الخيار. و لا يكفي تحقق المقتضي بعد فرض كون موضوع الإسقاط هو الخيار نفسه.

وأما إبراء المالك الودعي عن الضمان، فإن أريد به إبراؤه قبل تحقق سبب الضمان كالتفريط، فهو إما أن يرجع إلي الإذن في تصرف الودعي في العين تصرفاً يعرضها للخطر، كوضعها في مكان غير أمين، وذلك مانع من الضمان، لا مسقط علي تقدير ثبوته، إذ الضمان إنما يكون بالخروج عما يعينه المالك صريحاً أو ضمناً، ولا يكون مع الإذن في التصرف. وإما أن يرجع إلي اشتراط الودعي إبقاء الأمانة عنده بعدم الضمان بنحو شرط النتيجة، نظير اشتراط عدم الضمان في عقد الوديعة، وليس هو إسقاطاً فعلياً. وإن أريد به إبراؤه بعد تحقق سبب الضمان قبل التلف فهو - لو صح

لابد أن يبتني علي أن الضمان نحو من الحق يثبت للمضمون له علي الضامن يقتضي كون ماله في عهدته، بحيث يلزمه تسليم المضمون بعينه أو ببدله.

وأما عدم ثبوت الخيار مع البراءة من العيوب فهو - مع كونه منصوصاً (1)- ل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الخيار حديث: 2، وباب: 8 من أبواب العيوب حديث: 1.

ص: 330

(331)

(مسألة 27): ليس للمغبون مطالبة الغابن بالتفاوت وترك الفسخ (1).

---------------

يرجع إلي إسقاط المشتري للخيار، بل نرجع إما إلي عدم ابتناء البيع علي السلامة من العيب و معه لا مقتضي للخيار، أو إلي اشتراط سقوط الخيار في العقد ولو ضمناً، الذي تقدم عند الكلام في خيار المجلس تقريب سقوط الخيار به.

ومثله ما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من أن منشأ الخيار لما كان هو عدم الالتزام بالعقد علي إطلاقه، بل مع اشتراط التساوي في المالية، أمكن رفعه بالالتزام بالعقد ولو مع عدم التساوي، فيرتفع منشأ الخيار، ويتعين عدم ثبوته بعد ظهور الغبن.

إذ فيه: أنه إذا تم كون منشأ الخيار هو عدم الالتزام بالعقد علي إطلاقه تعين البناء علي ثبوت الخيار بالعقد وإن لم يظهر الغبن، كما ذكره هو (قدس سره) أيضاً، فيخرج عن محل الكلام من فرض عدم ثبوته إلا بعد ظهور الغبن. ومن هنا لا مخرج عما سبق من ترتب الثمرة المذكورة علي القولين.

نعم الظاهر صحة اشتراط سقوطه بنحو شرط النتيجة في عقد آخر، والمصالحة علي سقوطه كذلك بعوض قبل ظهور الغبن مطلقاً حتي بناء علي كون ظهور الغبن شرطاً في ثبوته، لأن المشروط حينئذ سقوطه حين تمامية موضوعه. والدليل علي ذلك عموم دليلي نفوذ الشرط والصلح. وليس المشروط هو سقوطه فعلاً، ليمتنع بعد فرض عدم ثبوته، لعدم تحقق موضوعه.

(1) كما هو ظاهر الأصحاب، لاقتصارهم علي ثبوت الخيار. لعدم الدليل علي ذلك. ومجرد اندفاع الضرر به لا يقتضيه أولاً: لما سبق من عدم كون الدليل في المقام قاعدة نفي الضرر. وثانياً: لما سبق من عدم نهوض قاعدة نفي الضرر بتشريع أحكام يتدارك بها الضرر وأن مقتضاها لو جرت في المقام نفي لزوم العقد لا غير. وثالثاً: لعدم انحصار دفع الضرر بذلك، بل يندفع بوجوه آخر، ومنها الفسخ، فإلزام

ص: 331

ولو بذل له الغابن التفاوت لم يجب عليه القبول (1). بل يتخير بين فسخ

---------------

الغابن بذلك يحتاج إلي الدليل. ومن ثم صرح غير واحد بعدم ثبوت الأرش فيه، وفي التذكرة والمستند دعوي الإجماع علي ذلك. وقال في مفتاح الكرامة: (ولم أجد في ذلك مخالفاً، بل هم بين مصرح بذلك أو ساكت).

(1) كما هو ظاهر إطلاق ثبوت الخيار في كلام جماعة، ونسب للمشهور في المستند، وفي الرياض أنه الأشهر. وظاهر التذكرة التوقف، وفي القواعد: (ولو دفع الغابن التفاوت فلا خيار علي إشكال). وفي المستند أن الأقوي سقوط الخيار بذلك،

اقتصاراً علي المتيقن من مورد الإجماع والمتحقق به الضرر. لظهور أن لزوم العقد مع دفع التفاوت ليس ضررياً، فتقصر عنه القاعدة، ويكون المرجع فيه عموم لزوم العقد.

ومعه لا مجال لاستصحاب الخيار، بناء علي التحقيق من أن المرجع في مثل المقام عموم العام، لا استصحاب حكم المخصص. مضافاً إلي أمرين:

الأول: ما تقدم منا عند الكلام في الاستدلال بالقاعدة من أن مقتضاها كون الخيار حكمياً، فيكون استصحابه تعليقياً. وهو المتيقن من الإجماع لو تم.

الثاني: أن الشك في المقام ليس في سقوط الخيار بعد ثبوته، ليستصحب، بل يحتمل من أول الأمر اختصاص جواز الفسخ بما إذا امتنع الغابن من البذل، فمع بذله لا يشرع الفسخ من أول الأمر.

وأما في جامع المقاصد من أن بذل التفاوت هبة مستقلة لا يخرج المعاملة عن كونها غبنيته. وقريب منها الإيضاح فهو إنما يتم لو لم يبتن الهبة المذكورة علي تدارك ضرر المعاملة، أما إذا ابتنت علي ذلك فالمعاملة وإن كانت غبنيته ضررية، إلا أن حكم الشارع الأقدس بلزومها ليس ضررياً، فتقصر القاعدة عنه.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في عدم جواز الفسخ مع بذل التفاوت لو كان

ص: 332

البيع من أصله وإمضائه بتمام الثمن المسمي (1). نعم لو تصالحا علي إسقاط الخيار بمال صح الصلح (2)، وسقط الخيار (3)، ووجب علي الغابن دفع عوض المصالحة.

---------------

الدليل في المسألة هو الإجماع وقاعدة نفي الضرر.

لكن سبق المنع من ذلك، وأن منشأ الخيار هو الشرط الضمني أو بناء العقلاء. وحينئذٍ نقول:

أما بناء علي الشرط الضمني فالخيار هنا من صغريات خيار تخلف الشرط، الذي لا إشكال في عمومه لحال بذل التفاوت، لرجوعه إلي خلل في العقد بسبب عدم تمامية بعض ما أخذ فيه. وأما بناء علي ما ذكرنا من بناء العقلاء علي الخيار فالظاهر أنه كذلك، وأنه يبتني علي كون خروج المعاملة عن طبعها نوعاً موجب لخلل في العقد يقتضي الخيار. فلاحظ.

(1) من الظاهر أن إمضاء العقد لا يكون إلا بإقراره وبجميع خصوصياته ومنها تمام الثمن، فتمامية الثمن يتوقف عليها صدق الإمضاء. نعم يمكن حكم الشارع باستحقاق التفاوت في مرتبة متأخرة عن إمضاء العقد، إما من نفس الثمن، أو مطلقاً، نظير الأرش في العيب. لكنه يحتاج إلي دليل. ومن ثم صرح غير واحد بعدم ثبوت الأرش، كما سبق.

ثم إن الجمود علي عبارة المتن يقتضي وجوب أحد الأمرين عليه من الفسخ والإمضاء. لكن لادليل علي وجوب أحدهما. بل له الفسخ وتركه وإن لم يمض العقد. ومن القريب أن يكون ذلك مراد سيدنا المصنف (قدس سره).

(2) لعموم نفوذ العقود، وعموم نفوذ الصلح.

(3) إنما يسقط الخيار إذا كان موضوع المصالحة سقوطه نظير شرط النتيجة. أما إذا كان موضوعها إسقاطه، فيجب عليه إسقاطه، ولا يسقط إلا به أو بإسقاط الحاكم

ص: 333

(334)

(مسألة 28): يسقط الخيار المذكور بأمور:

(الأول): إسقاطه بعد العقد (1) وإن كان قبل ظهور الغبن (2). ولو

---------------

لو امتنع هو من الإسقاط بناء علي ولايته علي الممتنع.

نعم قد يقال: إن المصالحة المذكورة تكشف عن رضاه بالعقد، وذلك كاف في لزومه، نظير ما سبق في خيار الحيوان عند الكلام في تصرف المشتري في الحيوان.

كما أن موضوع المصالحة لو كان هو عدم الفسخ لم يجز له الفسخ، ولم يترتب عليه الأثر، لقصور سلطنته عنه بسبب نفوذ العقد، نظير ما تقدم في المسألة الثالثة عند الكلام في اشتراط عدم الفسخ. بل لا يبعد لزوم العقد بذلك بلحاظ دلالة المصالحة علي الرضا بالعقد، نظير ما تقدم.

(1) كما ذكره غير واحد مرسلين له إرسال المسلمات. ولا ينبغي الإشكال فيه، لما سبق عند الكلام في خيار المجلس من أن لكل ذي حق إسقاط حقه.

نعم لا يجري ذلك بناء علي أن دليل الخيار قاعدة نفي الضرر، حيث تقدم أنها لو جرت تقتضي الجواز الحكمي. لكن تقدم تقريب سقوطه بالإسقاط حتي مع ذلك.

هذا وقد استثني في المستند ما إذا كان الإسقاط لاعتقاد عدم الغبن. قال: (لعدم الدليل عليه وعدم كونه رضا بالضرر).

لكن مع اعتقاد عدم الغبن لا موضع للإسقاط إلا بنحو الفرض والتعليق، وإذا تحقق ذلك فهو مستلزم للرضا بالضرر في ظرف وجوده، ويكفي في الدليل عليه حينئذ ارتكاز قابلية الحق للإسقاط الذي عليه عمل العرف والمتشرعة. ولا محذور في مثل هذا التعليق مما يكون المعلق عليه شرطاً في صحة الأمر المنشأ، كطلاق المرأة المشكوكة زوجيتها.

(2) بناء علي ما سبق في المسألة السادسة والعشرين من ثبوت الخيار واقعاً من حين الغبن، ولا يتوقف علي ظهوره. وأما بناء علي ثبوته بظهور الغبن فلا مجال

ص: 334

أسقطه بزعم كون التفاوت عشرة فتبين كونه مائة، فإن كان التفاوت الأقل ملحوظاً قيداً بطل الإسقاط (1) وإن كان ملحوظاً من قبيل الداعي (2) كم

---------------

لإسقاطه قبله، كما سبق هناك.

(1) تارة: يراد بالتقييد أخذ العشرة قيداً في موضوع الإسقاط، بمعني أن الساقط هو خيار العشرة، نظير ما لو كان مديناً له بمائة فأبرأه من عشرة. والظاهر أنه لا مجال لذلك في المقام، لأن الخيار أمر بسيط متعلق بالعقد، فإما أن يسقط بتمامه أو لا يسقط، وليس هو كالدين أمر انحلالي يمكن تعلق الإبراء بأجزائه بنحو الانحلال. وأما فرق القيمة بمراتبه فهو من سنخ العلة للخيار الواحد، وليس متعلقاً له. ليكون االخيار انحلالياً.

وأخري: يراد به أخذ العشرة شرطاً في إسقاط الخيار الواحد، بأن يكون الإسقاط معلقاً علي كون الفرق عشرة، فإذا كان الفرق عشرة سقط الخيار بتمامه، وإلا لم يسقط أصلاً. والظاهر أن ذلك ممكن في نفسه. وهو مراد سيدنا المصنف (قدس سره).

نعم قد يستشكل في صحته حتي لو كان الفرق في الواقع هو عشرة من جهة التعليق. وهم وإن أجازوا التعليق علي الأمر الحاصل مع العلم بحصوله، كما هو المفروض في المقام. إلا أن ذلك في العقود مقتضي عموم نفوذها، أما في الإيقاع فلا دليل عليه بعد عدم عموم يقتضي نفوذه. إلا أن يكون دليله الإجماع، لظهور كلماتهم في عدم الفرق بين العقد والإيقاع في تلك المسألة. فتأمل. ومنه يظهر البطلان لو لم يكن عالماً بقلة التفاوت، بل شاكاً فيه، لتصريحهم بمانعية التعليق علي الأمر المشكوك وإن كان حالياً. ولا أقل من كونه مقتضي الأصل بعد عدم عموم يقتضي نفوذ الإيقاع ومنه الإسقاط في المقام.

(2) لعله (قدس سره) إنما قال ذلك لأن قلة الضرر ليست داعياً للعمل، بل من سنخ المسوغ والمبرر له بنظر الفاعل، فهو كالداعي مما يستند الإقدام علي العمل للاعتقاد

ص: 335

(336)

هو الغالب صح (1)، وكذا الحال لو صالحه عليه بمال (2).

(الثاني): اشتراط سقوطه في متن العقد (3). وإذا اشترط سقوطه بزعم كونه عشرة، فتبين أنه مائة جري فيه التفصيل السابق.

---------------

به من دون أن يكون قيداً.

(1) إذ بعد فرض إطلاق الأمر المنشأ ووقوعه ممن له السلطنة عليه يتعين نفوذه. نعم قد يدعي ثبوت الخيار فيه، لكونه موجباً لضرر لم يقدم عليه.

ودعوي: أن الإسقاط لا يقبل الخيار، لامتناع عود المعدوم. ممنوعه، كما يظهر مما سبق عند الكلام في إمكان اشتراط الخيار في عقد الضمان. علي أنه لو تم امتناع ثبوت الخيار فيه تعين تحكيم قاعدة نفي الضرر في أصل نفوذه، فيحكم ببطلانه. نعم هو مبني علي عدم كفاية الإقدام المعاملي في المنع من جريان قاعدة نفي الضرر، نظير ما تقدم عند الكلام في الاستدلال بالقاعدة علي ثبوت خيار الغبن.

(2) لعموم نفوذ الصلح والعقد. نعم يتجه ثبوت خيار الغبن فيه لو كان باعتقاد قلة التفاوت بناء علي أن الدليل علي خيار الغبن فيه هو قاعدة نفي الضرر، لعدم الوجه حينئذ لاختصاصه بالبيع، بل يتم الصلح. أما لو كان منشؤه الشرط الضمني، أو بناء العرف، فلا يبعد قصورهما عن الصلح، لعدم ابتنائه علي محض المعاوضة، بل علي حلّ المشكلة وإنهاء العلاقة بين الطرفين. إلا أن يكون المراد بالصلح محض المعاوضة. ويأتي تمام الكلام في ذلك في المسألة الثالثة والثلاثين إن شاء الله تعالي.

(3) كما استظهره في جامع المقاصد ومحكي المفاتيح. وقد يبتني علي ما سبق من توجيه صحة الاشتراط المذكور في خيار المجلس، ودفع المحاذير المتقدمة فيه. فراجع. كما قد يبتني علي قصور دليل الخيار عن صورة الشرط المذكور، لرجوعه إلي الإقدام علي الغبن علي تقدير وجوده، ومعه يقصر الدليل المتقدم منا علي الخيار بل أكثر الأدلة المسوقة عليه، كما يظهر بمراجعتها. عدا ما ورد في تلقي الركبان وما تضمن النهي

ص: 336

عن الغبن وقد سبق ضعف الاستدلال بهما. علي أنه لا يبعد انصرافهما عن صورة الالتفات للغبن وإسقاط خياره.

لكن عن الصيمري في خيارات العيب والغبن والرؤية: (ولو شرط في العقد سقوط هذه الثلاثة بطل الشرط والعقد علي الخلاف) وقال الدروس في خيار الرؤية (ولو اشرطا رفعه فالظاهر بطلان العقد، للغرر. وكذا خيار الغبن. ويحتمل الفرق بينهما، لأن الغرر في الغبن سهل الإزالة، بخلاف الرؤية).

ولعل الوجه في ثبوت الغرر به هو أن خيار الغبن إنما جعل لتدارك الضرر الحاصل في البيع علي تقدير وجوده، فإسقاطه معرض لعدم تدارك الضرر علي التقدير المذكور، وهو نحو من الخطر علي المالية.

وقد حاول شيخنا الأعظم (قدس سره) دفع ذلك (تارة) بأن الجهل بمقدار المالية لو كان غرراً لم يصح البيع مع الشك في القيمة (وأخري) بأن ثبوت الخيار لا يجدي في إخراج البيع عن كونه غررياً، وإلا لصح كل بيع غرري علي وجه التزلزل وثبوت الخيار، كبيع المجهول وجوده والمتعذر تسليمه.

ويندفع الأول بأن البيع مع الشك في القيمة إن كان مع ثبوت الخيار لم يكن غررياً، ولم يتضح منهم الإجماع علي سقوط الخيار معه، فإنهم اقتصروا في سقوط الخيار علي صورة العلم بالغبن، وإنما تقدم منا تصحيحه لقصور الوجوه المستدل بها هنا علي الخيار، ولا مانع من الالتزام بثبوته لرفع الغرر بناء علي مبطليته للمعاملة.

كما يندفع الثاني بأن ارتفاع الغرر بمعني الخطر مع الخيار قطعي وعدم الصحة في بعض الموارد حتي مع الخيار لابد أن يستند لأمر آخر غير الغرر. أو يبتني علي الخطأ في تطبيقه.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من عدم تحقق الغرر مع الجهل بالقيمة السوقية، لأنها أمر اعتباري، ولا معني لدخله في الغرر، وإلا لزم بطلان المعاملة لو لم يكن هناك سوق، كما في الصحاري والجبال. وفيما لو انحصر العاقل في العالم

ص: 337

بالمتبايعين، ولم يكن هناك غيرهما لتتحدد القيمة السوقية من طريقه.

إذ فيه: أن اختلاف القيمة السوقية ناشئ من اختلاف مقدار الرغبة في الشيء، كاختلافها بلحاظ اختلاف أوصاف الشيء، ولا فرق بينهما في صدق الغرر بلحاظ الخطر المالي. وأما البيع في موارد عدم السوق، فإن كان مع الجهل بالقيمة لبعد السوق مثلاً لزم الغرر أيضاً. وإن كان لعدم تحديد القيمة، لعدم كون أحد العوضين معروفاً في السوق، فلا موضوع للغرر، بل ينحصر الأمر باتفاق المتعاقدين، وهو الحال لو فرض انحصار العقلاء في العالم بهما.

وأما ما سبق من الدروس من أن الغرر في الغبن سهل الإزالة. فهو لا يخلو عن غموض. فإن مجرد سهولة إزالة الجهل بالقيمة بالفحص عنها لا يكفي في ارتفاع الغرر، وإنما يرتفع بمعرفة القيمة بعد الفحص، ومع معرفتها قبل العقد لا غرر ولا خيار رأساً، لا أنه يثبت الخيار ذاتاً ويسقط بالشرط، كما هو محل الكلام. ومعرفتها بعد العقد لاترفع الغرر حينه.

فالعمدة ماسبق - عند الكلام في اشتراط العلم بالعوضين - من عدم ثبوت عموم المنع عن البيع الغرري وعدم إمكان الالتزام به، وأن الثابت علي تقدير حجية النص علي المنع منه مانعيته في الجملة، بنحو يلزم الاقتصار فيه علي المتيقن، وقد سبق تحديده عند الكلام في اشتراط القدرة علي التسليم في العوضين، بحيث لا يشمل المقام. فراجع.

هذا مضافا إلي أن اشتراط سقوط الخيار قد يكون مع اعتقاد الطرفين ولو خطأ بعدم الغبن، ويكون فائدة الغبن الاستظهار لمنع الخلاف في ثبوته بعد ذلك. وحينئذ لا يكون الإقدام علي المعاملة من دون خيار غررياً.

ص: 338

(339)

(الثالث): تصرف المغبون بائعاً كان أو مشترياً فيما انتقل إليه تصرفاً يدل علي الالتزام بالعقد (1).

---------------

(1) كما صرح به شيخنا الأعظم (قدس سره). والوجه فيه أن الرضا بالبيع وإن لم يكن إسقاطاً للخيار، علي ما تقدم في تعريف الخيار وبيان حقيقته، إلا أنه ورد في نصوص خيار الشرط التصريح بأن الرضا بالمبيع مسقط للخيار. كما تقدم عند الكلام في سقوط خيار الحيوان بالتصرف أن قوله (عليه السلام) في صحيح علي بن رئاب: (فإن أحدث المشتري فيما اشتري حدثاً قبل الثلاثة فذلك رضاً منه، فلا شرط له)(1) ظاهر في سقوط الخيار بالرضا، سواء كان تطبيقه في الصحيح علي الرضا حقيقياً أم تعبدياً. فراجع.

وذلك وإن ورد في خياري الحيوان والشرط، إلا أن التعدي منهما لبقية الخيارات قريب جداً، لقضاء المناسبات الارتكازية بكون ذلك من شؤون الخيار، وأنه لما كان مبيناً علي الخروج عن اللزوم الذي هو مقتضي العقد بطبعه إرفاقاً بصاحبه، لفسح المجال له لاختياره ماهو الأصلح بنضره، فهو يقصر عن صورة الرضا منه بالعقد، لأن فيه إعمالاً لاختياره بالوجه المذكور. ويأتي في المسألة الثانية والأربعين في مسقطات خيار التأخير ما ينفع في المقام.

هذا مضافاً إلي أن الدليل علي الخيار وإن كان هو الإجماع فهو قاصر عن الصورة المذكورة. وكذا إذا كان الدليل هو قاعدة نفي الضرر، إذ مع الرضا المذكور لا يستند الضرر للحكم باللزوم عرفاً، بل لرضا المغبون به، كما لو أقدم عليه ابتداءً. وإن كان منشأ الخيار هو الشرط الضمني، وأنه من صغريات خيار تخلف الشرط كما تقدم من غير واحد فالمتيقن من بناء العقلاء علي ثبوت الخيار بتخلف الشرط في سائر الموارد غير صورة الرضا. وكذا الحال بناء علي ما تقدم منا من كون ثبوت الخيار في المقام بحكم العقلاء ابتداء من دون أن يتفرع علي الشرط الضمني.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 339

هذا إذا كان بعد العلم بالغبن (1)، أما لو كان قبله فالمشهور عدم السقوط به (2). ولا يخلو من تأمل، بل البناء علي السقوط به لا يخلو من وجه (3). نعم إذا لم يدل علي ذلك كما هو الغالب في التصرف حال الجهل بالغبن (4) فلا يسقط الخيار به ولو كان متلفاً للعين، أو مخرجاً لها عن الملك، أو مانع

---------------

وبعد قصور أدلة الخيار عن صورة تجدد الرضا يتعين البناء علي لزوم العقد، بناء علي ما هو التحقيق من أن المرجع في مثل ذلك عموم العام، لا استصحاب حكم المخصص، كما تقدم في نظير المقام.

وأما ما قد ينسب للأصحاب (قدس سره) من أن التصرف لا يوجب سقوط الخيار. فهو (أولاً): لا ينهض بالحجية بنحو يخرج به عما سبق. (وثانياً): من القريب كون المراد به عدم مسقطية التصرف بنفسه له وإن لم يدل علي الرضا، كما لو كان قبل العلم بالغبن، ولا ينافي في مسقطيته في فرض دلالته علي الرضا، لأن المسقط حينئذ في الحقيقة هو الرضا المنكشف بالتصرف لا التصرف نفسه. ويكون ذلك منهم للتنبيه لافتراق خيار الغبن عن مثل خيار الغيب الذي يسقط بالتصرف بنفسه وإن لم يدل علي الرضا.

(1) الظاهر أن مفروض كلامه ما إذا كان العلم بالغبن مستلزماً للعلم بثبوت الخيار. أما مع الجهل بثبوت الخياربة فالظاهر أنه كالجهل بالغبن، لأن التصرف غالباً يكون مبتنياً علي اعتقاد لزوم العقد وعدم إمكان الخروج عنه، فلا يدل علي الرضا.

(2) لم يتضح وجه النسبة للمشهور، لعدم شيوع التعرض منهم لذلك، كما يظهر بمراجعة كلماتهم.

(3) بل لاينبغي الإشكال في ذلك بلحاظ ما سبق.

(4) إنما يتم ذلك مع الغفلة عن الغبن أو القطع بعدمه. أما مع الشك فيه فالتصرف كثيراً ما يدل علي الرضا، كما هو الحال مع العلم بالغبن وبثبوت الخيار معه.

ص: 340

عن الاسترداد، كالاستيلاد (1).

---------------

(1) كما احتمله أو مال إليه في اللمعة. وفي الروضة: (وهذا الاحتمال متوجه. لكن لم أقف علي قائل به). وجري عليه غير واحد ممن تأخر عنهما.

وذهب إلي سقوط الخيار مع تعذر الرد في الشرايع والتذكرة والقواعد وظاهر الدروس وغيرها، وفي الروضة: (هذا هو المشهور. وعليه عمل المصنف رحمه الله في غير الكتاب).

وفي التذكرة: (لعدم التمكن من استدراكه). قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (وهو بظاهره مشكل، لأن الخيار عندهم غير مشروط بإمكان رد العين). ويناسبه جزم غير واحد أو تردده في بقاء الخيار مع تعذر إرجاع العين في غير مورد، كما يظهر بمراجعة كلماتهم. والوجه فيه: أن موضوع الخيار ليس هو العين، ليسقط بتلفها أو تعذر إرجاعها، بل هو العقد، ولا دخل لإمكان إرجاع العين وتعذره فيه.

نعم ذلك إنما يقتضي إمكان بقاء الخيار، ولا يكفي في الجزم ببقائه، بل لابد فيه من أن يكون لدليله عموم أو إطلاق يشمل حال تعذر إرجاع العين. ومن هنا يتعين الرجوع لمنشأ البناء علي ثبوت خيار الغبن.

ومما سبق يظهر أن ما ينبغي الكلام فيه من الوجوه المتقدمة في الاستدلال علي الخيار المذكور ثلاثة: قاعدة نفي الضرر، واشتراط عدم الغبن في العقد ضمناً، وحكم العقلاء بثبوت الخيار به.

فإن كان المنشأ له قاعدة نفي الضرر فقد ذكر غير واحد أن مقتضاها بقاء الخيار، لعدم الأثر لإمكان رد العين وتعذره في ثبوت الضرر بالبيع الغبني وفي بقائه. ودعوي: أن غرض الغابن قد يتعلق بالعين، فالفسخ مع تعذر إرجاعها والاكتفاء بالمثل أو القيمة تفويت لغرضه. مدفوعة بأن تفويت الغرض المذكور ليس ضرراً علي الغابن بعد حفظ مالية المبيع بمثله أو قيمته.

ص: 341

اللهم إلا أن يقال: إن تفويت الغرض المذكور وإن لم يستلزم الضرر المالي في حقه، إلا أنه قد يعدّ ضرراً عرفاً ولو بلحاظ خصوصية حاله، أو خصوصية العين المبيعة. ولا أقل من كون تفويته عليه منافياً للامتنان في حقه، بحيث يوجب قصور قاعدة نفي الضرر الواردة مورد الامتنان علي الأمة، لا الامتنان في حق خصوص المغبون.

وإن كان منشأ البناء علي خيار الغبن هو ما تقدم من غير واحد من أخذ عدم الغبن شرطاً في العقد فيظهر من بعض مشايخنا (قدس سره) المفروغية عن بقاء الخيار حينئذ.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لأن خيار تخلف الوصف المشروط لم يثبت بدليل شرعي، لينظر في إطلاقه، وإنما هو ثابت ببناء العقلاء، والمتيقن من بنائهم عليه صورة إمكان رجوع كل شيء لما كان عليه قبل العقد.

بل حتي لو تم ما سبق من بعض مشايخنا (قدس سره) - عند الكلام في اشتراط عدم الفسخ وسقوط خيار المجلس به - من رجوع اشتراط شيء في العقد إلي اشتراط الخيار بتخلفه فاشتراط عدم الغبن ضمناً وإن كان يرجع إلي اشتراط الخيار مع الغبن، إلا أن سعة الخيار المشترط وضيقه تابعان للشرط سعة وضيقاً، ولا يتضح سعة الشرط الضمني في المقام بحيث يقتضي ثبوت الخيار حتي مع تعذر رجوع كل من العوضين إلي ما كان عليه قبل البيع.

ومثل ذلك ما إذا كان منشأ ثبوت خيار الغبن ما سبق منا من تقريب حكم العقلاء بثبوت الخيار في البيع إذا خرج عما عليه البيوع نوعاً، فإن المتيقن بنائهم عليه صورة إمكان رجوع كل من العوضين إلي ماكان عليه.

ومن ثم يشكل البناء علي ثبوت الخيار مع تعذر إرجاع العين. وكذا مع تغير صورتها بحيث يوجب اختلاف الرغبة فيها، كتقطيع الثوب وصبغه وطبخ الطعام وتغيير صورة العقار وغير ذلك. مما يمنع من الرد مع العيب. فإن الدليل علي امتناع الرد معه في العيب وإن اختص بمورده، إلا أنه مناسب للمرتكزات العرفية بنحو يصعب معه إحراز بناء العرف علي بقاء الخيار في نظائره، ومنها المقام.

ص: 342

بل يبعد جداً بناء العرف علي بقاء الخيار حينئذ في المقام، خصوصاً بناء علي ما يأتي منهم من ثبوت الشركة في العين مع زيادة قيمتها بتغيير صورتها ورجوعها بنفسها مع الأرش لو نقصت بالتغيير، لما في ذلك من المشاكل في حق الغابن، وهو بعيد عن سيرة العرف الارتكازية.

بل هو لا يناسب ما سبق منهم من سقوط الخيار بتصرف المغبون في الجملة، لظهوره في المفروغية عن أن بعض التصرفات تظهر في الرضا بالعقد، مع أن أثر التصرف في العين إذا لم يمنع من الرد فالإقدام علي أي تصرف لا يكون كاشفاً عن الرضا بالعقد والبناء علي عدم الرد.

هذا وموضوع كلامهم المتقدم وإن كان هو تصرف المشتري المغبون فيما انتقل إليه، إلا أن الظاهر عموم جهات الكلام المتقدمة للمغبون من دون فرق بين كونه مشترياً وكونه بائعاً، كما يظهر بملاحظتها.

نعم إذا كان أحد العوضين من سنخ النقد فالظاهر أن تعذر رده لا يمنع من بقاء الخيار عرفاً، لأن المنظور فيه المالية، من دون أن يتعلق الغرض نوعاً بشخصه. ولولا ذلك لم يكن الخيار عملياً نوعاً، لشيوع تأخر الاطلاع علي الغبن وشيوع التصرف في الثمن حينئذٍ إذا كان من سنخ النقد. فلاحظ.

كما أن الظاهر عدم الفرق بين الغابن والمغبون. فكما أن تصرف المغبون في العين بما يمنع من ردها أو بما يوجب تغير صورتها يسقط الخيار، كذلك تصرف الغابن بأحد الوجهين المذكورين يوجب سقوطه. لاشتراكهما في قصور دليل الخيار. وأما ما يظهر من بعض كلماتهم من الفرق بينهما، وأنه لا منشأ لسقوط خيار المغبون بتصرف الغابن. فهو إنما يتجه لو كان المنشأ لسقوط الخيار بالتصرف هو ظهور حال المتصرف في الرضا بالعقد، أو إلزامه به نتيجة تصرفه، حيث لا موضوع لذلك في حق الغابن، أما من حيث كان المنشأ لسقوط الخيار هو قصور دليله عن صورة تعذر رجوع العوضين إلي حالهما السابق علي العقد، فهو يجري فيهما معاً.

ص: 343

نعم قد يدعي أن تصرف الغابن لا ينفذ ابتداء، ليمنع من الرد، لأنه ينافي حق الخيار الثابت للمغبون.

وفيه: أن الخيار ليس حقاً متعلقاً بالعين، ليمنع من التصرف فيها، وإنما هو حق ثابت في العقد، كما سبق. غاية الأمر أنه سبق في المسألة السابعة عشرة عدم جواز تصرف المشتري في المبيع ببيع الخيار تصرفاً يمنع من رد العين. لكن ليس ذلك لمجرد الخيار، بل لظهور حال البايع في تشبثه بالعين، فيكون التصرف المذكور منافياً للشرط المستفاد عرفاً من حال البايع. ولا مجال لاستفادة ذلك في المقام، كما لعله ظاهر.

مع أن هذا مختص بالتصرف الاعتباري، حيث تكون منافاته للحق الثابت في العين مانعة من تفوذه، ولا يجري في التصرف الحقيقي، بل يتعين معه البناء علي سقوط الخيار بعد ما سبق من قصور دليله عن صورة تعذر رجوع العين إلي ما كانت عليه قبل البيع.

نعم إذا كان تصرف الغابن موجباً لنقص العين من دون جهد منه يبرر له التمسك بالعين لم يبعد بناء العرف علي أن للمغبون الفسخ واسترجاع العين من دون أرش، لقضاء المناسبات الارتكازية بأن النقص ضرر علي المغبون، فلا يمنع من خياره إذا رضي بتحمله من دون أن يضر بالغابن، أو يحمله شيئاً، بخلاف ما إذا كان النقص يجهل من الغابن يبرر له التمسك بالعين، كما إذا هدم المشتري الغابن الدار التي اشتراها من أجل أن يجدد بناءها.

هذا ما يظهر لنا بعد الرجوع للمرتكزات العرفية. وإن كان الأمر محتاجاً لمزيد من التأمل، لخلوّ خيار الغبن من أصله عن النصوص، وانحصار الدليل عليه ببناء العقلاء الذي هو إن كان جلياً في أصل ثبوت الخيار، فهو قد لا يخلو من شيء من الغموض في فروعه.

بقي شيء: وهو أن ظاهر سيدنا المصنف (قدس سره) انحصار مسقطات خيار الغبن بما سبق، كما هو ظاهر الأصحاب أيضاً. واحتمل شيخنا الأعظم (قدس سره) سقوطه بتبدل

ص: 344

(345)

(مسألة 29): إذا ظهر الغبن للبايع المغبون، ففسخ، فإن كان المبيع موجوداً عند المشتري استرده منه (1)، وإن كان تالفاً بفعله أو بغير فعله رجع بمثله إن كان مثلياً وبقيمته إن كان قيمياً (2). وإن وجده معيباً بفعله أو بغير

---------------

القيمة بنحو يرتفع معه الغبن. وهو يبتني علي كون دليل الخيار المذكور هو قاعدة نفي الضرر. كما أشرنا إليه عند الاستدلال بها عليه. وكذا بناء علي أن الدليل عليه الإجماع، لأن المتيقن منه غير هذه الصورة.

أما بناء علي أن الدليل عليه الوجوه الأخر المتقدمة فالمتعين البناء علي عدم سقوط الخيار بذلك، كما يظهر بالتأمل فيها، نظير ما تقدم في المسألة السابعة والعشرين من عدم سقوط الخيار ببذل الغابن للتفاوت، فإنما من باب واحد. ولا فرق في ذلك بين كون تبدل القيمة لاختلاف القيمة السوقية وكونه لتبدل حال العين بنحو لا يستند للمغبون، كما لو اشتري حيواناً مريضاً فبرئ بنفسه فارتفعت قيمته. فلاحظ.

(1) بلا إشكال ظاهر. لأن مقتضي الفسخ رجوع المبيع له وصيرورته في ملكه، فله أخذه كسائر مملوكاته. هذا فيما إذا كان المبيع شخصياً. أما إذا كان كلياً فسلم فرداً منه، ثم فسخ وهو بعد في ملك المشتري، ففي وجوب إرجاعه بشخصه أو الاكتفاء بإرجاع مثله وجهان، ولا يبعد الثاني، كما يظهر مما تقدم في أوائل المسألة الثانية عشرة عند الكلام فيما لو فسخ البايع مع بقاء الفرد المدفوع له من الثمن الكلي، فإن المقامين من باب واحد. فلاحظ.

(2) إذ بعد فرض تمامية ما ذكروه من بقاء الخيار مع تلف المبيع فلابد من الانتقال للبدل حفاظاً علي المالية بعد تعذر العين.

ودعوي: أن ذلك إنما يتجه إذا كان تلف العين بعد الفسخ، أما إذا كان قبله فلا وجه لضمان الغابن العين بعد كون تلفها في ملكه، من دون فرق بين كون التلف بفعله وعدم كونه بفعله.

ص: 345

فعله أخذه (1) مع أرش العيب (2). وإن وجده خارجاً عن ملك المشتري

- بأن نقله إلي غيره بعقد لازم كالبيع والهبة المعوضة أو لذي الرحم فالظاهر

---------------

مدفوعة: بأن الغابن لا يضمن العين بتلفها، وإنما يضمنها بالفسخ، لأن مقتضاه رجوع العين للمغبون، وحيث لم يأخذها الغابن مجاناً، بل مضمونة بالثمن، كما هو مقتضي المعاوضة، فبعد فرض عدم ضمانها بالثمن بسبب الفسخ يتعين ضمانها ببدلها العرفي، من المثل أو القيمة. ولذا لا إشكال في الانتقال للبدل في الثمن في بيع الحيوان وفي البيع بشرط الخيار لو حصل الفسخ بعد تعذر إرجاع عين الثمن. وهو المعروف بضمان المعاوضة. ولولا ذلك لم يكن وجه للضمان مع التلف بعد الفسخ إذا لم يكن المشتري هو المتلف، ولاكان معتدياً في حبس العين، لعد م كون يده مضمنة، بل هي نظير يد الأمين لو تلفت الأمانة بعد موت المالك المستأمن دون تفريط من الأمين، ولاحبس منه لها عن الورثة.

وكذا الحال في وجوب إرجاع المشتري للعين بعد الفسخ مع وجودها في المقام. إذ لولا ضمان المعاوضة لكان اللازم الاكتفاء بعدم التصرف فيها وعدم حبسها، خروجاً عن حرمة التصرف في ملك الغير بغير إذنه وحرمة حبسه عليه. وبذلك يظهر عدم الفرق بين كون التلف بفعل الغابن وكون بغير فعله.

(1) لما سبق من أن رجوعه لملكه هو مقتضي الفسخ. ومجرد عيبه لا يخرجه عن كونه طرفاً للبيع المفروض فسخه.

(2) إذ بعد ما سبق من كونه مضموناً بضمان المعاوضة يتعين ضمان نقصه الحاصل بالعيب، وذلك إنما يكون بالأرش

لكن في المسالك: (وان وجد العين ناقصة، فان لم يكن النقص بفعل المشتري أخذها إن شاء ولا شيء له. وإن كان بفعله فالظاهر أنه كذلك، لأنه تصرف في ملكه تصرفاً مأذوناً فيه، فلا يتعقبه ضمان). وقد يظهر ذلك مما عن بعض مشايخنا (قدس سره) في

ص: 346

أنه بحكم التالف (1) فيرجع عليه بالمثل أو القيمة. وليس له إلزام المشتري بإرجاع العين (2)

---------------

فرض تصرف المغبون.

وفيه: أن ذلك لو تم يجري في الإتلاف أيضاً لأنه تصرف في ملكه تصرفاً مأذوناً فيه. ولا وجه لضمانه إلا كونه مضموناً بضمان المعاوضة. وهو كما يجري في العين يجري في صفاتها الدخيلة في المالية، كما أشار ذلك في الجواهر.

وأشكل منه ما عن بعض مشايخنا (قدس سره) في فرض تصرف المغبون من أن للغابن الامتناع من استرجاع المعيب، وأنه يتعين حينئذ دفع بدل المبيع.

إذ فيه أن مقتضي الفسخ رجوع المبيع بعينه للبايع ومع رجوعه لملكه لا وجه لامتناعه من أخذه وطلب البدل مكانه. مع أنه لم يتضح وجه الفرق بين تصرف المغبون وتصرف الغابن. ولعله لذا لم يجر علي ذلك في فتواه، بل وافق سيدنا المصنف (قدس سره)

فيما يأتي منه في المسألة الواحدة والثلاثين.

هذا والمراد بالأرش هنا فرق ما بين المعيب والصحيح بحسب القيمة السوقية، لأنها المدار في الضمان، وليس هو كالأرش في خيار العيب، حيث ذكروا أنه يكون بالنسبة من الثمن، لخصوصية فيه يأتي الكلام فيها في محله إن شاء الله تعالي.

(1) لتعذر ملك المغبون له بالفسخ بعد فرض صحة تصرف الغابن، وانتقال العين عن ملكه قبل الفسخ، فلابد بعد فرض بقاء الخيار وصحة الفسخ من كون المملوك له بالفسخ هو البدل من أجل ضمان المعاوضة المشار إليه آنفاً. ومنه يظهر عموم الوجه المذكور لما إذا بقيت العين علي ملكه مع تعذر إرجاعها شرعاً، كما لو إذا استولدت الأمة، حيث يتعين الانتقال للبدل.

(2) إذ بعد فرض تملك المغبون بالفسخ للبدل فإلزامه للغابن بإرجاع العين يحتاج إلي دليل. بعد أن كان مقتضي أصالة البراءة عدم لزومه عليه. ويأتي تمام الكلام

ص: 347

بشرائها أو استيهابها (1). بل لا يبعد ذلك لو نقلها بعقد جائز، كالهبة والبيع بخيار، فلا يجب عليه الفسخ وإرجاع العين (2). بل لو اتفق رجوع العين إليه - بإقالة أو شراءً أو ميراث أو غير - ذلك بعد دفع البدل من المثل أو القيمة لم يجب دفعها إلي المغبون (3). نعم لو كان رجوع العين إليه قبل البدل وجب إرجاعها إليه (4). وأولي منه في ذلك لو كان رجوعه

---------------

في ذلك إن شاء الله تعالي.

وبذلك يظهر الفرق بينه وبين ما إذا كانت العين موجودة إلا أنه لا يمكن الوصول إليها، لسرقة أو ضياع أو نحو ذلك، فإنها حيث تملك بالفسخ وتكون مضمونة علي الغابن بضمان المعاوضة الذي تقدم التعرض له، يتعين عليه السعي لتحصيلها، وإرجاعها بعينها للمغبون، ولو توقف علي بذل مال أو جهد معتد به.

(1) أو بالتقايل لو تيسر أحد هذه الأمور.

(2) لأن سلطنة الغابن علي فسخ العقد الجائز لا يقتضي انفساخه وملك المغبون للعين بإعمال الخيار، ومع عدم انفساخه يتعين كون المملوك بإعمال الخيار هو البدل، ومع تملكه له لا دليل علي إلزامه للغابن بفسخ العقد الجائز وإرجاع العين، نظير ما تقدم في العقد اللازم.

ومنه يظهر ضعف ما في المسالك، حيث قال: (ولو كان العقد الناقل مما يمكن إبطاله... احتمل قوياً إلزامه بالفسخ، فإن امتنع فسخ الحاكم. فإن تعذر قيل: يفسخ المغبون).

(3) كما في المسالك، وجري عليه شيخنا الأعظم (قدس سره). لبراءة ذمة الغابن من ضمان المعاوضة المتقدم بدفع البدل، ومعه لا دليل علي وجوب إرجاع العين واسترجاع البدل.

(4) كما احتمله في المسالك، وإن أفتي أولاً بعدم وجوب الإرجاع وعليه جري

ص: 348

شيخنا الأعظم (قدس سره). وكأن الوجه في وجوب الإرجاع أن مقتضي الفسخ رجوع العين للمغبون وضمان الغابن لها بضمان المعاوضة، فإذا لم تبرأ ذمته منها بدفع البدل يتعين دفعها بعينها مع تجدد القدرة علي ذلك برجوعها لملكه.

لكن الفسخ إنما يقتضي رجوع العين للمغبون مع إمكان ملكه لها، أما مع تعذر ملكه - لتلفها أو تملك الغير لها بسبب صحيح - فيتعين كون مقتضي ضمان المعاوضة هو تملك بدلها بالفسخ، ومع تملك بدلها لا دليل علي وجوب إرجاعها بعينها علي الغابن لو عادت لملكه.

ولو فرض كون مقتضي ضمان المعاوضة هو انشغال ذمة الغابن بالعين نفسه

- لا بمعني ملك المغبون لها فعلاً، بل مجرد مسؤولية المغبون بدفعها له، والاكتفاء بالبدل ليس لملكية المغبون له بالفسخ، بل لتفريغ ذمة الغابن به مع تعذر رد العين - تعين البناء علي وجوب رد العين علي الغابن مع إمكانه حتي لو خرجت عن ملكه، فيجب عليه إرجاعها لملكه مقدمة لذلك بفسخ أو تقايل أو شراء أو استيهاب أو نحو ذلك، كما يظهر من السيد الطباطبائي (قدس سره) علي خلاف ما سبق من سيدنا المصنف (قدس سره).

علي أن انشغال الذمة بالعين بالنحو المذكور وإن ذكر في كلمات بعضهم إلا أنه إنما ذكر لتوجيه ضمانها بقيمة يوم الأداء لا بقيمة يوم الغصب أو قيمة يوم التلف، لأنه إذا كانت العين باقية في الذمة إلي حين الأداء يتعين الضمان بقيمتها حينئذ، بخلاف ما إذا كانت الذمة مشغولة بالبدل من حين الغصب أو من حين التلف، حيث يتعين ملاحظة القيمة الثابتة حين الانشغال بها والانتقال إليها. وقد سبق منّا في المسألة الثامنة عشرة من فصل شروط العقد تقريب أن مقتضي القاعدة انشغال الذمة بالعين حتي بعد تلفها، وأنه راجع إلي نحو من المسؤولية المقبولة عرفاً. لكن يصعب جريان ذلك في المقام، لأن الفسخ لما كان يقتضي رجوع كل شيء إلي ما كان عليه قبل العقد فحيث كانت العين بنفسها طرفاً في العقد، والمفروض ملكية شخص ثالث له، فملكية عند فسخ البيع الغبني ملكية أخري في ذمة المشتري الغابن أمر غير مألوف ولا مقبول

ص: 349

عرفاً، بل يتعين ملكية الغابن للبدل.

علي أن مبني سيدنا المصنف (قدس سره) في الضمان ليس علي ذلك. فلا مجال لابتناء فتواه في المقام عليه.

ودعوي: أن المغبون وإن ملك البدل بالفسخ، إلا أن ملكه له ليس بذاته، بل بعنوان كونه بدلاً بملاك تعذر المبدل، فمع رجوع العين للغابن وإمكان تملك المغبون لها لا يبقي موضع للبدلية، بل يتعين تملكه للعين.

مدفوعة: بأنه يكفي تحقق موضوع البدلية حين الفسخ في ملكه للبدل، ومع ملكه له لا دليل علي انقلاب المملوك من البدل للأصل. ومجرد إمكانه لا يقتضي البناء عليه.

ولو فرض أن البدلية منوطة بالتعذر حدوثاً وبقاء لزم البناءعلي ذلك حتي بعد تسليم البدل، كما جري عليه بعض الأعاظم (قدس سره)، مع أنه تقدم من سيدنا المصنف (قدس سره)

عدم وجوب إرجاع العين حينئذ.

اللهم إلا أن يفرق بينهما ببناء العرف علي وجوب تسليم العين إذا كان رجوعها لملك الغابن بعد الفسخ قبل تسليم البدل، وعدم بنائهم علي وجوب تسليمها إذا كان رجوعها لملكه بعد تسليم البدل وبراءة ذمة الغابن. ولا أقل من عدم وضوح بنائهم حينئذ علي وجوب تسليمها واسترجاع البدل.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لإمكان ابتناء وجوب تسليمها عندهم مع رجوعها لملك الغابن قبل تسليم البدل علي ما ذكرناه آنفاً من عدم بنائهم علي مشروعية الفسخ إلا مع إمكان إرجاع العين بنفسها، فلا يملك المغبون البدل في ذمة الغابن بالفسخ قبل رجوع العين لملك الغابن، ثم يتبدل المملوك للمغبون بنفس العين عند رجوعها لملك الغابن، بل لا يصح الفسخ إلا بعد رجوعها لملك الغابن، ليمكن رجوعها بالفسخ لملك المغبون ابتداء. وهو خلاف مبني وفرض كلام سيدنا المصنف (قدس سره)، بل يدخل في الحقيقة في الفرض الآتي منه (قدس سره)، والذي يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي.

ص: 350

(351)

إليه قبل فسخ المغبون (1). بلا فرق بين أن يكون بفسخ العقد السابق، وأن يكون بعقد جديد (2)، فإنه يجب عليه دفع العين نفسها إلي الفاسخ المغبون (3)، ولا يجتزي بدفع البدل من المثل أو القيمة. وإذا كانت العين باقية عند المشتري حين فسخ البايع المغبون، لكنه قد نقل منفعتها إلي غيره بعقد لازم كالإجارة اللازمة أو جائز كالإجارة المشروط فيها الخيار لم يجب

---------------

أما بعد فرض بنائهم علي بقاء الخيار مع تعذر رجوع العين، وصحة الفسخ حينئذ، وثبوت البدل في ذمة المغبون، فلا يتضح منهم البناء علي انقلاب الحال، واستحقاق الغابن العين بمجرد رجوعها إلي ملك المغبون.

والحاصل: أنه لا يتضح لنا الوجه فيما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) هنا بنحو يناسب مبناه من جواز الفسخ مع تعذر رجوع العين، وما ذكره في الفروع الثلاثة السابقة. واللازم التأمل التام عسي أن يتضح به ما ينهض بتوجيه كلامه.

ثم إن جميع ماتقدم يجري فيما لو كان المانع من رجوع العين للمغبون آمراً آخر غير خروجها عن ملك الغابن، كالاستيلاد لو فرض ارتفاعه قبل دفع البدل بموت الولد.

(1) وجه الأولوية ظاهر. إلا أنه حيث لم يتضح وجه وجوب دفع العين في الفرض الأول فلا تنفع الأولوية، بل لابد من النظر في وجه الحكم هنا. وهو ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي.

(2) أو سبب غير العقد، كالميراث. ومثله ارتفاع المانع من رجوعها للمغبون وهي في ملك الغابن، كالاستيلاد لو مات الولد قبل فسخ الغابن.

(3) لأنه بعد فرض مشروعية الفسخ فحيث كان مقتضاه رجوع العين بنفسها، والانتقال للبدل إنما هو لتعذر تملكها، فالمتعين رجوعها بنفسها بعد إمكان تملكها.

ص: 351

هذا وقد يقال: إن ذلك إنما يتم فيما إذا كان رجوع العين للغابن بفسخ العقد الناقل للعين عن ملكه، لأن مقتضي فسخه رجوعها علي ما كانت عليه قبله ملكاً للمغبون. وأظهر من ذلك ما إذا لم تخرج عن ملك الغابن، كما في الاستيلاد لو ارتفع بموت الولد قبل فسخ المغبون.

أما إذا خرجت عن ملك الغابن، وكان رجوعها له بسبب آخر من عقد أو ميراث أو غيرهما فلا مجال لذلك. قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (لأنه ملك جديد تلقاه من مالكه، والفاسخ إنما يملك بسبب ملكه السابق بعد ارتفاع السبب الناقل).

وكأن مراده (قدس سره) أن الفسخ يبتني علي رجوع العين للفاسخ بعد ارتفاع سبب ملك الطرف الآخر بسبب الفسخ، ولا مجال لذلك في المقام، لأن الغابن لم يملك العين في الملكية الجديدة بالسبب الذي طرأ عليه الفسخ، بل بسبب آخر لم يرتفع، ولا سلطنة للمغبون علي رفعه وفسخه.

لكن المراد بذلك إن كان هو امتناع تملك المغبون للعين بفسخ البيع الغبني، بل فسخه إنما يقتضي استحقاقه للبدل، كما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) ففيه: أنه بعد كون موضوع البيع الغبني هو العين فالفسخ لابد أن يقتضي رجوعها للمغبون. والانتقال للبدل إنما يكون في طول رجوعها للمغبون من أجل ضمان المعاوضة، فمع فرض ملكية الغابن للعين حين الفسخ وإمكان تسليمه لها يتعين ملكية المغبون للعين بالفسخ وتسليمه إياها، إذ لا معني للانتقال للبدل مع تيسر المبدل. وما ذكره (قدس سره) من توقف ملكيته لها علي بطلان سبب تملك الغابن لها. غير ظاهر المأخذ علي إطلاقه. نعم لابد من بطلان سبب تملكه لها من المغبون، وهو حاصل بفسخ البيع الغبني، أما بطلان سبب تملكه لها من غيره فلا منشأ لاعتباره.

هذا وأما بناء علي ما ذكرنا - من سقوط الخيار بامتناع رجوع العين إلي ما كانت عليه قبل العقد - فقد يستشكل في ثبوت الخيار مع رجوع العين للغابن بأنه بعد سقوط الخيار بخروج العين عن ملكه بعقد جائز أو لازم لا دليل علي رجوعه برجوعها إلي

ص: 352

ملكه، بل مقتضي عمومات اللزوم عدم رجوع الخيار. ويجري ذلك حتي لو كان المانع من رجوعها بالفسخ للمغبون أمراً آخر كالاستيلاد لو ارتفع بموت الولد قبل فسخ المغبون.

لكن الظاهر أن دليل خيار الغبن يقتضي رجوعه إذا أمكن رجوع العين لحالها قبل الفسخ، لأن سقوط الخيار ارتكازاً حينئذ ليس لقصور في منشأه، بل للمانع منه، وهو تعذر رجوع العين، فإذا ارتفع المانع المذكور تعين عود الخيار.

نعم لو كان دليله الإجماع أمكن دعوي قصور المتيقن منه عن ذلك. لكن سبق أنه ليس دليلاً في المقام، بل الدليل أمور أخر لا قصور فيها، كما ذكرنا.

كما أنه لو كان الخيار حقاً متعلقاً بالعين، وكان مفاد الفسخ رجوعها إلي ما كانت عليه قبل العقد حتي كأنها لم تبع، لا مجرد حلّ العقد الواقع عليها، فقد يتجه تعذره في المقام مطلقاً بعد فرض خروج العين عن ملك المشتري، لأنها وإن رجعت إلي ملكه، إلا أن رجوعها إليه فرع خروجها عنه، وخروجها عنه متفرع علي البيع الغبني، فكيف يكون الفسخ المتفرع علي رجوعها إلي ملك المشتري رافعاً للبيع الغبني حتي كأنه لم يكن ؟!.

وربما يفرق حينئذ بين أن يكون رجوعها إلي ملك المشتري بفسخ العقد الثاني وان يكون بعقد جديد، فإن كان بفسخ العقد الثاني أمكن فسخ البيع الغبني بالتقريب المشار إليه آنفاً، لأن فسخ العقد يرجعها إلي ما كانت عليه قبله، وهو كونها مملوكة بالبيع الغبني، فكأنها لم تخرج عن ملك المشتري، وحينئذ يكون مفاد فسخ البيع الغبني رجوعها إلي ملك البايع كأنها لم تبع. أما إذا كان رجوعها بعقد ثالث جديد فهو يبتني علي ثبوت العقد الثاني، لا علي بطلانه، ليكون كأنه لم يقع. لكن ذلك كله فرض في فرض فلا ينبغي إطالة الكلام فيه.

ص: 353

عليه الفسخ أو الاستقالة مع إمكانها (1)، بل يدفع العين وأرش النقصان الحاصل بكون العقد مسلوبة المنفعة مدة الإجارة (2).

---------------

(1) لعدم الدليل علي ذلك. نظير ما تقدم في فسخ العقد الناقل للعين عن ملك المشتري. كما لا مجال لاحتمال بطلان الإجارة وعدم صحتها رأساً، بدعوي منافاتها لحق الخيار الثابت للمغبون. لاندفاعها بما سبق من أن حق الخيار ليس متعلقاً بالعين، بل بالعقد.

ومثله احتمال بطلانها بالفسخ، إما من أصلها أو من حين الفسخ، بدعوي: تبعية المنفعة للعين، فإذا رجعت العين بالفسخ للبايع المغبون تعين ملكه لمنفعتها، فينافي الإجارة، ويتعين بطلانها. لاندفاعها: بأن المنفعة وإن كانت تابعة للعين بطبعها، إلا أنها تخرج عن ذلك بمثل الإجارة المفروض صحتها في المقام، فالمقام كما لو بيعت العين المستأجرة، حيث يملكها المشتري مسلوبة المنفعة، ولا تبطل الإجارة بالبيع لا من أصلها، ولا من حين البيع.

(2) لما سبق من كون العين مضمونة بنفسها وبنقصها، فيلزم ضمان نقصها المذكور. نعم ذلك يقصر عما لو كان المشتري قد أخذها مسلوبة المنفعة مدة معينة، وبعد انقضاء المدة أجرها، وكانت حين الفسخ مسلوبة المنفعة كما أخذها.

بل لو أخذها مسلوبة المنفعة مدة معينة، وبعد انقضاء المدة حصل الفسخ، فأرجعها غير مسلوبة المنفعة، فمقتضي ما سبق أن يلحقه حكم ما لو زادت العين حين الفسخ الذي يأتي الكلام فيه.

نعم قد يستشكل في الوجه المتقدم بأن نقص قيمة العين بسلب المنفعة ليس لنقص فيها، بل لمجرد قلة الرغبة فيها، نظير ما إذا حصل الفسخ بعد كساد السوق، أو بعد انقضاء موسم الانتفاع بها وإجارتها، ومن المعلوم عدم بنائهم علي ثبوت الأرش بذلك مع عدم حدوث نقص في العين. فتأمل. وعلي ذلك جري شيخنا الأعظم (قدس سره)

ص: 354

وهو ظاهر المسالك.

هذا وأما ما عن بعض مشايخنا (قدس سره) فيما لو كان المؤجر هو المشتري المغبون من أن المشتري حيث لا يتمكن من إرجاع منافع العين للبايع فاللازم عليه ضمان المنافع له بقيمتها. فهو غير ظاهر الوجه، سواء كان المراد به ضمان جميع المنافع التي هي موضوع الإجارة، أم خصوص ما يبقي منها بعد الفسخ، كما ينسب في نظيره للعلامة (قدس سره)،

لعدم كون المنافع موضوعاً في البيع، لتكون مضمونة بضمان المعاوضة. وإنما هي تابعة للعين، والمشتري كان مسلطاً عليها تبعاً لسلطنته علي العين، فينفذ تصرفه فيها. علي أنه لم يتضح وجه الفرق بين التصرف المغبون والغابن. ولعله لذا لم يجر علي ذلك في فتواه، بل وافق سيدنا المصنف (قدس سره) فيما يأتي منه في المسألة الواحدة والثلاثين.

ومثله ما في الجواهر، حيث قال: (الظاهر وجوب ردّ العوض لو فسخ قبل انقضاء المدة، لعود الملك إليه بالفسخ). والظاهر أن مراده أنه يجب علي المشتري أن يرد علي البايع العوض الذي استحقه بالإجارة. إما بتمامه، أو خصوص ما يقابل المدة الباقية. ولم يتضح الوجه فيه بعد كون المعيار في استحقاق عوض المنفعة علي ملكية العين حين الإجارة، لانتساب المنفعة لملكه حينئذٍ.

كما أنه علي جميع الوجوه فاللازم عدم ثبوت الأرش ولا ضمان قيمة المنفعة لو كان الفسخ بعد انقضاء مدة الإجارة مهما طالت، وكذا لو كان بعد استغلال المشتري نفسه لها مدة معتداً بها.

نعم لا إشكال في أن ذلك كله مستنكر عند العرف فيما لو كان المستغل للمنفعة مباشرة أو بالإجارة هو المغبون، لما فيه من الإجحاف بنظرهم في حق الغابن. ومن ثم لا يبعد البناء علي سقوط الخيار حينئذ، لقصور دليله، كما يظهر مما سبق.

أما لو كان المستغل للمنفعة هو الغابن فلا مجال لسقوط الخيار، لما سبق من أن النقص الوارد علي المغبون لايمنعه من إعمال الخير إذا لم يضر بالغابن. فراجع

ص: 355

(356)

(مسألة 30): إذا فسخ البايع المغبون وكان المشتري قد تصرف في المبيع تصرفاً مغيراً له، فإما أن يكون بالنقيصة أو بالزيادة أو بالامتزاج بغيره. فإن كان بالنقيصة أخذ البايع المبيع مع أرش النقيصة (1). وإن كان بالزيادة، فإما أن تكون الزيادة صفة محضة، كطحن الحنطة وصياغة الفضة وقصارة الثوب، وإما أن تكون صفة مشوبة بالعين، كصبغ الثوب (2)، وإما أن تكون عيناً غير قابلة للفصل، كسمن الحيوان ونمو الشجرة، أو قابلة للفصل، كالثمرة والبناء والغرس والزرع. فإن كان صفة محضة أو صفة مشوبة بالعين، فإن لم تكن لها مالية لعدم زيادة قيمة العين بها، فالمبيع للبايع (3)،

---------------

(1) لعين ما تقدم في المسألة السابقة، بل هو تكرار له.

(2) كأنه لأن الصبغ لا يحصل إلا بإضافة العين التي يتحقق بها. لكن العين المذكورة كثيراً ما لا يبقي لها وجود عرفي في المصبوغ، بل الباقي فيه أثرها لا غير، فتكون نظير الآلة في القصارة. وإن كان لها وجود عرفي نظير صبغ الأخشاب والجدران المتعارف في زماننا دخل في القسم الثاني وهو ما إذا كانت الزيادة عيناً.

إلا أن يفرق بينهما بأن العين إن كانت لها مالية عرفاً حال كونها في المبيع إما لأنها جزء منه - كسمن الدابة ونمو الشجرة - أو لأنها أمر منضم إليه - كالبناء والغرس

فهي من القسم الثاني، وإن لم تكن لها مالية عرفاً، وإنما توجب زيادة مالية العين

- كالصبغ والخيوط في الخياطة - دخل في هذا القسم.

(3) كما هو مقتضي الفسخ. وقد تقدم عن بعض مشايخنا في فرض تصرف المغبون أن للغابن الامتناع من تسلم المبيع إذا كان معيباً، وله المطالبة بالبدل وقد يجري نظيره في المقام، بلحاظ أن تغير العين وإن لم يوجب نقص ماليتها، إلا أنه قد لايتناسب مع وضع الغابن. نعم تقدم وجه المنع من ذلك هناك بنحو يجري هنا.

ص: 356

ولا شيء للمشتري (1). وكذا إذا كانت لها مالية ولم تكن بفعل المشتري (2)، كما إذا اشتري منه عصا عوجاء، فاعتدلت، أو خلاً قليل الحموضة فزادت حموضته. وإن كان لها مالية وكانت بفعل المشتري كانت الصفة للمشتري (3).

---------------

(1) بلا إشكال ظاهر. وبه صرح غير واحد. قال في الجواهر: (العمل قد وقع في ملكه فلا يستحق به عوضاً). وقال شيخنا الأعظم (قدس سره): (لأنه إنما عمل في ماله، وعمله لنفسه غير مضمون علي غيره. ولم يحصل منه في الخارج ما يقابل المال ولو في ضمن العين). لكن في المسالك: (وفي استحقاق المشتري أجرة عمله وجه قوي) وجزم به في الروضة. ويظهر ضعفه مما تقدم.

(2) كأنه لتبعية الصفة للعين في الملكية عرفاً وليست شيئاً في مقابلها لتبقي في ملكه بعد الفسخ. خلافاً لما ذكره السيد الطباطبائي (قدس سره) في حاشيته علي المكاسب، من أنها تبقي علي ملك المشتري كما لو كانت بفعله ولا دليل علي خروجها عن ملكه. وعليه جري بعض مشايخنا (قدس سره) فيما حكي عنه في درسه. وإن لم يجر عليه في فتواه. وهو متجه إذا لم تثبت التبعية المذكورة ارتكازاً. فلابد من مزيد من التأمل.

(3) كما جري عليه شيخنا الأعظم (قدس سره). وعن بعض الأعاظم توجيهه بأن الصفة وإن كانت تابعة للعين في الملكية، إلا أن استنادها لعمل الغير يوجب نسبتها عرفاً للعامل وملكيته لها استقلالاً. وبذلك يفترق عما إذا لم تستند الصفة لعمل المشتري، كحموضة الخل، حيث يتعين ملكية البايع لها بعد الفسخ تبعاً للعين.

وذهب في الجواهر إلي أن المشتري لا يستحق شيئاً. ووافقه بعض مشايخنا (قدس سره) وقد يوجه بأحد وجهين:

الأول: أن الصفة لا مالية لها في نفسها، وليست مملوكة في مقابل العين، بل الملكية والمالية للعين، وهي التي تقابل بالمال. غاية الأمر أن الصفة قد توجب زيادة مالية العين أو نقصها، كسائر ماله الدخل في ذلك، ككثرة وجود الشيء وندرته، وقلة

ص: 357

الطلب له وكثرته. والي هذا قد يرجع ما في الجواهر، حيث قال: (وزيادة القيمة إنما كانت بصفة راجعة إلي المال بنفسه، وإن كانت بعمله، فلا يستحق بها شركة).

وفيه: أن لازم ذلك عدم ضمان نقص للصفة بإتلافها، وفي موارد ضمان المعاوضة، وموارد ضمان اليد. وهو مما تأباه المرتكزات العرفية جداً. بل هو لا يناسب ما تضمنته النصوص من ثبوت الأرش في المبيع المعيب، وفي المغصوب إذا تعيب. كما لا يناسب ما التزما قدس سرهما به من ثبوت الأرش علي المشتري بنقص الصفة في المقام.

الثاني: أن الصفة وإن كان لها مالية في نفسها، إلا أنها إنما تملك تبعاً لملكية العين، ولا تنفك عن العين في الملكية. فهي حين حدوثها في العين بفعل المشتري أو لا بفعله صارت ملكاً للمشتري تبعاً للعين، وبالفسخ تخرج عن ملكه مع العين إلي ملك البايع. وهو راجع إلي إنكار الفرق الذي تقدم عن بعض الأعاظم (قدس سره). لكن الفرق المذكور ارتكازي جداً.

وإذا كان الأمر ملتبساً في المقام، لما سبق من عدم وضوح بناء العرف علي مشروعية الفسخ، فيمكن استيضاحه فيما إذا أحدث شخص صفة كمال في عين مملوكة لغيره، لتخيل طلبه منه ذلك، أو لتخيل كون العين ملكاً للعامل، حيث يصعب جداً بعد الرجوع للمرتكزات العرفية البناء علي هدر حرمة عمله، وأن الصفة تكون ملكاً لصاحب العين، كما لو حصلت بنفسها من دون أن تستند إلي فعل فاعل.

كيف ولازمه أنها تكون مضمونة علي العامل لو فرط فيها أو أتلفها، كما هو الحكم إذا حصلت بنفسها من دون عمل منه. فمن كان عنده ذهب لغيره غير مصوغ، وتخيل أنه له، فصاغه أسورة، ثم عدل فصاغه قلادة، ثم عدل فصاغه خلخالاً، ثم انكسر الخلخال كان عليه ضمان قيمة الصياغات الثلاث لمالك الذهب ودفع أرشها له. ولا يظن بأحد البناء علي ذلك.

بل حتي لم يكن العمل محترماً، لكون العامل متعدياً غاصباً للعين عمداً لا مجال

ص: 358

للبناء علي ملكية صاحب العين لنتيجة عمله، بحيث يكون العامل ضامناً لها كالعين لو تلفت ويجب عليه دفع أرشها للمالك.

غاية الأمر أنه لا حرمة لعلمه، بحيث له الاحتفاظ بالصفة، أو التصرف في العين بإتلاف تلك الصفة، نظير ما تضمن أنه لا حرمة لعرق ظالم.

وهذا بخلاف ما إذا حصلت الصفة بنفسها، كما لو شفيت الدابة أو سمنت بنفسها، حيث تكون الصفة للمالك تبعاً للعين، وتكون مضمونة له علي من يتلفها أو تكون العين تحت يده.

وإذا لم تكن الصفة الناتجة من العمل في عين الغير مملوكة لصاحب العين، بل هي ملك للعامل، وله الاحتفاظ بها مع عدم هدر عمله بغصب ونحوه، كما سبق، فهي في المقام أولي بأن تبقي علي ملك المشتري بعد الفسخ، لأنه حينما أحدثها في العين كانت العين ملكاً له، فما الوجه في رجوعها للبايع بعد الفسخ ؟! وكيف يمكن البناء علي هدر عمله ؟!

هذا ما يتضح لنا بعد الرجوع للمرتكزات العرفية. ولابد من مزيد من التأمل، وملاحظة الآثار واللوازم، من أجل استيضاح الحال. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

بقي في المقام أمور:

الأول: أن بقاء الصفة في المقام علي ملك المشتري لا يقتضي شركته في العين بنسبة وقيمة الصفة لقيمة العين حين الفسخ، لعدم المنشأ لذلك بعد امتياز ملك المشتري عن ملك البايع، فالمملوك للمشتري هو الصفة والمملوك للبايع هو العين، بل المتعين شركة المشتري في المالية القائمة بالعين ذات الصفة بنسبة قيمة الصفة لقيمة العين

مادامت الصفة فيها. فلو بيعت مع الصفة كان للمشتري من الثمن بنسبة قيمة الصفة لقيمة العين.

ولازم ذلك أنه لو تلفت الصفة قبل البيع لم يبق للمشتري شيء. ولو اختلفت نسبة قيمة العين لقيمة الصفة يكون المعيار علي النسبة حين البيع، لا علي النسبة بينهم

ص: 359

حين الفسخ. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بشركته في العين بنسبة قيمة الصفة لقيمة العين حين الفسخ، إذ يتعين بقاء نسبة شركته في العين علي النحو الذي ثبتت عليه حين الفسخ.

الثاني: خص بعض الأعاظم (قدس سره) فيما حكي عنه ملكية المشتري للصفة بما إذا كان عمله علة تامة لها، كقصارة الثوب وصبغه، دون ما إذا كان معداً لها، كعلف الدابة وسقيها الموجبين لسمنها، وكإراحتها وسقيها الدواء الموجبين لشفائها.

ولم يتضح الوجه في التفصيل المذكور، بل الظاهر أن المعيار فيها صحة نسبة الصفة للمشتري، لكونها نتيجة لعمله عرفاً، في مقابل ما إذا لم يصح نسبتها له، لعدم استنادها عرفاً لعمله، بل لخاصيتها، كشدة حموضة الخل بطول المدة، أو لأسباب طارئة غير منسوبة للمشتري، كالحر والبرد والمطر ونحوها.

الثالث: قال في الروضة: (وإن وجدها متغيرة بصفة محضة، كالطحن والقصارة فللمشتري أجرة عمله. ولو زادت قيمة العين بها شاركه في الزيادة بنسبة القيمة).

فإن كان مراده التفصيل بين ما لا يوجب زيادة القيمة وما يوجبها، وأن المتعين استحقاق الأجرة في الأول، والشركة في الثاني، رجع الأول إلي ما تقدم من المسالك، وتقدم الكلام فيه، والثاني إلي ما ذكرناه هنا.

وإن كان مراده الجمع فيما يوجب زيادة القيمة بين أجرة العمل والشركة. فهو غريب جداً، لظهور أن استحقاق العامل نتيجة عمله مشروط بأن يكون عمله لنفسه، أما مع أخذ العوض علي العمل فتكون نتيجته لباذل العوض فالجمع بين استحقاق الفاعل الأجرة وشركته كالجمع بين المتنافيين.

الرابع: الصفة التي لها مالية قد توجب نقص قيمة العين، فيكون المجموع أقل قيمة من العين الخالية من الصفة، أو مساوياً له، أو أكثر منه بأقل من مجموع قيمة العين الخالية من الصفة وقيمة الصفة، كما قد يكون ذلك كله في مثل الخياطة.

ص: 360

(361)

وكان شريكاً مع الفاسخ في القيمة (1). وإن كانت الزيادة عيناً، فإن كانت غير قابلة للانفصال كسمن الحيوان ونمو الشجرة فلا شيء للمشتري أيضاً (2).

---------------

وفي جميع ذلك يتعين ضمان المشتري في المقام أرش نقص العين، ثم تكون الشركة بنسبة قيمة العين حال وجود الصفة إلي قيمة الصفة.

ولا مجال لتوهم ملاحظة قيمة المجموع ونسبتها لقيمة العين الخالية من الصفة، فإن نقصت عنها فعلي المشتري الأرش لا غير. وإن ساوتها فالعين كلها للبايع من دون أرش، وإن زادت عليها فالمشتري شريك بنسبة الزيادة.

لأن منشأ الشركة لما كان هو ملكية المشتري للصفة فالمتعين الشركة في الجميع. كما أن النسبة في الشركة حيث كانت تبتني علي نسبة قيمة الصفة لقيمة العين فاللازم ملاحظة قيمة العين حين وجود الصفة، لأنها هي التي يملكها البايع بعد الفسخ. ولا وجه لملاحظة قيمتها قبل حصول الصفة فيها بعد عدم ملكيته لها حينئذ. غاية الأمر أن العين إذا نقصت قيمتها بطروء الصفة كان علي المشتري للبايع الأرش بقدر النقص، كما ذكرنا.

(1) يعني: من دون أن يكون شريكاً معه في العين، كما يتضح الوجه فيه مما تقدم.

(2) كأنه لأن الزيادة المذكورة من شؤون العين المبيعة، وليست أمراً مبايناً لها عرفاً، ليمكن اختلاف مالكها عن مالك العين. ومن ذلك يظهر أن المعيار ليس علي تعذر فصل الزيادة عن الأصل، بل علي تعذر التمييز عرفاً، بحيث تكون الزيادة من شؤون الأصل، لا أمراً مقابلاً له عرفاً.

لكن ذلك ليس بأشد من الصفة المحضة، بل هو راجع لها عرفاً، فلا أقل من ثبوت التفصيل المتقدم فيها، بناء علي ما سبق من أنه لا يعتبر في ملك العامل لنتيجة العمل كون العمل علة تامة للنتيجة، كما تقدم عن بعض الأعاظم (قدس سره)، بل يكفي

ص: 361

وإن كانت قابلة للانفصال (1) كالصوف واللبن والشعر والثمر والبناء والزرع كانت الزيادة للمشتري. وحينئذ فإن لم يلزم من فصل الزيادة ضرر علي

---------------

صحة نسبتها له عرفاً.

ولاسيما أن الزيادة في المقام عينية، وقد تزيد علي الأصل كثيراً، فكيف يملكها الفاسخ تبعاً؟! مع ما في ذلك من إجحاف بالمشتري.

وأما ما عن بعض مشايخنا (قدس سره) - كما في تقرير درسه - من الفرق في ذلك بين تصرف الغابن وتصرف المغبون، وأنه في الثاني يكون المشتري شريكاً، وفي الأول يتعين دفع بدل العين من المثل أو القيمة.

فهو غير ظاهر الوجه، لأن مقتضي الفسخ رجوع عين المال مع وجوده، والزيادة المذكورة لا توجب تبدله عرفاً، فيتعين رجوعه بنفسه، وإنما الكلام في الزيادة. وبالجملة: لا يتضح وجه الفرق بين تصرف الغابن وتصرف المغبون. ولعله لذا لم يفرق بينهما في مقام الفتوي.

ويهون الأمر بناء علي ما سبق منا من قصور دليل الخيار عن ذلك ونحوه من موارد تغير العين وتعذر رجوعها إلي ما كانت عليه حين البيع.

(1) أشرنا آنفاً إلي أن المعيار في التفصيل ينبغي أن يكون بتميز أحد المالين عن الآخر عرفاً وعدم تميزه عنه. وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في ملكية كل من المالين لصاحبه، بعد أن كان مقتضي الفسخ رجوع المبيع وحده للبايع مع عدم المانع من رجوعه له، وعدم الموجب لخروج الآخر عن ملك المشتري.

كما أنه لو فرض تميز أحد المالين عن الآخر، وتعذر فصلهما، فالمتعين الاشتراك بينهما في المالية علي النحو المتقدم في الصفة ذات المالية.

ولو أجرت العين المشتمل علي الأصل والزيادة بتمامها كان لكل منهما ما يقابل منفعة ملكه من الأجرة. ولو استقل أحدهما بالانتفاع بالعين كان عليه للآخر قيمة

ص: 362

المشتري حال الفسخ كان للبايع إلزام المشتري بفصلها (1) كاللبن والثمر (2). وإن لزم الضرر علي المشتري من فصلها لم يكن للبايع إلزام المشتري به (3).

---------------

منفعة عينه.

(1) لأن مقتضي سلطنة البايع علي ماله الذي رجع إليه بالفسخ الامتناع عن إشغاله بملك غيره، وطلب تخليته منه. نظيرها لو كان المبيع محلاً تجارياً مشغولاً ببضاعة المشتري، أو داراً مشغولة بأثاثه.

نعم قد يكون بقاؤه أنفع لمالكه، كما لو لم يتيسر بيع اللبن حين طلب منه حلبه وتيسر بيعه لو تأخر في الضرع، أو لم يسهل عليه التفرغ لحلبه. لكن ذلك ما لم يبلغ مرتبة الضرر لا يصلح لرفع اليد عن قاعدة السلطنة في حق البايع. نظير ما لو لم يتيسر له محل آخر يبيع بضاعته فيه أو دار يضع أثاثه فيها.

(2) هذا إنما يتم بعد نضج الثمر. ولعله مراده (قدس سره).

(3) لحكومة قاعدة نفي الضرر علي قاعدة السلطنة في حق البايع وقد استشكل في ذلك بعض مشايخنا (قدس سره) - فيما حكي عنه من تقرير درسه - بوجهين:

الأول: أن اللازم في المقام هو قلة النفع دون الضرر، لأن مالك الغرس مثلاً لم يملك نصبه إلي الأبد، بل ملك نصبه إلي حين الفسخ، فهو بعد الفسخ معرض للإزالة، ومع تعرضه للإزالة تنقص قيمته. ولا يستند نقص قيمته لقلعه. غاية الأمر أن إبقاءه موجب لزيادة قيمته. وقاعدة نفي الضرر لا تنهض بذلك.

ويندفع بأن المشتري حين التصرف بمثل الغرس كان يستحق إبقاءه إلي الأبد، لعدم محدودية ملكه للمبيع. وبذلك ملك عيناً في المبيع من شأنها البقاء، ولها قيمتها بسبب ذلك. والفسخ لا يوجب تغيرها عن حالها وتبدلها من مثل الشجرة إلي الحطب، وإنما الموجب لذلك هو القلع، وهو المضر بالمالك. ولا منشأ لاستحقاق البايع الفاسخ له إلا قاعدة السلطنة التي سبق أنها محكومة لقاعدة نفي الضرر.

ص: 363

الثاني: أن الضرر وإن كان يترتب علي المشتري بقلع ما أحدثه في المبيع، إلا أن ذلك غير مستند للبايع الفاسخ، فإنه إنما يطالب المشتري بإرجاع المبيع له كما أخذه، وإرجاعه إليه وإن كان يستلزم القلع المضر بمال المشتري، إلا أنه ليس متعلقاً بالبايع. وإلا جري ذلك فيمن تصرف بمثل الزيادة المذكورة في ملك غيره خطأ، لتخيل كونه ملكاً له، أو مأذوناً بالتصرف من قبل مالكه.

ويندفع بأنه لا منشأ لاستحقاق البايع مطالبة المشتري بإرجاع العين كما أخذها خالية عما أحدثها فيها إلا سلطنته علي ماله الذي صار له بالفسخ. ومع حكومة قاعدة نفي الضرر علي قاعدة السلطنة، بحيث تقصر سلطنته علي ماله المذكور عما ينافيها، لا يبقي منشأ لإلزامه للمشتري بذلك.

وأما التصرف في ملك الغير خطأ بمثل الزيادة المذكورة فظاهره في غير موضع من كلامه هنا المفروغية عن عدم جريان قاعدة نفي الضرر فيه وأن للمالك إلزامه بتفريغ ماله مما أحدثه فيه وإن كان مضراً به. ومن ثم اتجه منه (قدس سره) النقض به.

لكنه غير ظاهر، بل المرتكزات العرفية تأبي هدر حرمة المال والعمل في مثل ذلك. وهو المناسب لما ورد عنهم صلوات الله عليهم من أنه ليس لعرق ظالم حق(1) لظهوره أو إشعاره بخصوصية الظلم والعدوان في سقوط الحرمة، بحيث لولاهما لكان لصاحب المال حرمته بنحو يقتضي احترام ماله وعمله. وعليه يبتني ما سبق منا في فرض إحداث صفة لها مالية في عين الغير خطأ كصياغة ذهب الغير وخياطة نسيجه.

والمضمون المذكور وإن لم يثبت عنهم صلوات الله عليهم بوجه معتبر، إلا أنه أمر مطابق للمرتكزات العقلائية المحكمة في المقام. وإليه يرجع استدلال بعضهم في المقام وأمثاله بقاعدة الاحترام.

بل لا يظن به (قدس سره) ولا بغيره الالتزام بأن من اعتقد خطأ ملكية حديدة فوضعه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 71 باب: 3 من أبواب كتاب الغصب حديث: 1. تحف العقول. عوالي اللآلي ج: 2 ص 257، النهاية في غريب الحديث ومجمع البحرين في مادة (عرف).

ص: 364

في أساس بنائه، ثم انكشف ملكيتها لغيره فلصاحبها بعد انكشاف الحال إلزامه بتسليم حديدته حتي لو استلزم ذلك نقض بنائه بتمامه مهما كان حجمه وثمنه وكيف كان فلا مخرج عن قاعدة نفي الضرر في حق المشتري الموجبة لقصور سلطنة البايع علي ماله،

فيلزمه الرضا بالرضا بالإبقاء.

نعم لا يلزم علي البايع الرضا بالإبقاء مجاناً، بل له قيمة منفعة ملكه التي يستوفيها المشتري بإشغاله بالزيادة التي أحدثها فعلي المشتري دفع ذلك له. كما عليه دفع الأجرة أيضاً لو لم يبادر بالتفريغ عصياناً أو تسامحاً من دون أن يكون مضراً، لأنه بإبقائه يكون مستوفياً للمنفعة، فعليه قيمتها.

وبذلك يظهر أن المعيار في الضرر في المقام ليس هو فرق ما بين قلع الزيادة التي أحدثها المشتري وإبقائها مجاناً، بل هو فرق ما بين قلعها وإبقائها بالأجرة.

كما أن قاعدة نفي الضرر إنما تجري إذا ابتني القلع علي عدم تعويض المشتري أما إذا ابتني علي تعويضه وتحمل ضرره المذكور من قِبَل البايع أو من قِبَل غيره، حلاً للمشكلة، فلا مجال لجريانها ومنعها من جريان قاعدة السلطنة في حق البايع إذا طلب تفريغ المبيع من الزيادة، لقصور القاعدة عن الضرر المتدارك، ولو بقرينة ورودها مورد الامتنان، لعدم كونه ضرراً حقيقة.

غاية الأمر أن الإبقاء قد يكون أحب للمشتري، أو أنفع له إلا أن ذلك لا يكفي في المنع من جريان قاعدة السلطنة في حق البايع بعد أن لم يصدق به الضرر. ومثل ذلك ما إذا حضر البايع أو من يرضاه البايع لشراء الزيادة بقيمتها في فرض بقائها بالأجرة. حيث لا يكون طلب القلع حينئذ في فرض امتناع مالك الزيادة من بيعها موجباً للضرر في حق مالكها، لعدم انحصار دفع ضرره بإبقائها.

هذا كله إذا لم يكن إبقاء الزيادة التي أحدثها المشتري في المبيع وإشغاله بها مضراً بالبايع، كما لو كان المبيع أرضاً زراعية وكانت الزيادة غرساً. أما لو كان مضراً به، كما لو منعته الزيادة التي يحدثها المشتري من استغلال المبيع الذي استرجعه بالفسخ

ص: 365

بوجه يدر عليه ربحاً وفيراً. فلا مجال لإعمال قاعدة نفي الضرر في حق المشتري. لأن ورودها مورد الامتنان مانع من جريانها في مورد يلزم منه الإضرار بالغير.

نعم لا يبعد كون المستفاد منها عرفاً بقرينة ورودها مورد الامتنان علي الأمة المنع من إجحاف كل من الطرفين بصاحبه، وأنه لابد من حل مشكلتهما بالنحو الأقرب لصالحهما معاً.

ولا أقل من كون ذلك مقتضي العدل عرفاً اللازم بمقتضي الإطلاقات المقامية لأدلة وجوبه بعد عدم ثبوت ردع شرعي عن مقتضي التطبيق العرفي لهما في المقام.

غاية الأمر أنه مع تعذر ذلك يقدم حق صاحب المال المشغول، لقاعدة السلطنة بعد سقوط قاعدة نفي الضرر في حق الطرفين.

هذا وكما يجري التفصيل المتقدم في حق البايع الغابن بالإضافة إلي الإلزام بالتخلية، يجري في حق المشتري المغبون بالإضافة إلي التعجيل بالتخلية، فكما لا يكون للبايع بعد الفسخ إلزام المشتري بالتخلية إذا أضرت به، لا يكون للمشتري بعد الفسخ التعجيل بالتخلية إذا أضرت بالبايع، كما لو اشتري في الصيف شاه قد جز صوفها، وعلم بالغبن في الشتاء، ففسخ والشاة قد نبت لها صوف جديد في ملكه. فإن تعجيله بجز الصوف قد يعرض الشاة للخطر، فتعين إبقاؤه بالأجرة علي غرار ما سبق وتفاصيله.

وقد تحصل من جميع ما سبق أنه مع عدم لزوم الضرر في حق كل منهما يتعين إلزام كل منهما لصاحبه بالتخلية. ومع إضرار ذلك بأحد الطرفين يتخير الآخر بين الإبقاء مع أخذ أجرة منفعة عينة، والتخلية مع تحمل ضرر الآخر بدفع أرش النقص الحاصل عليه بالتخلية منه أو من غيره وشرائه هو أو من يرضاه للزيادة المذكورة

وكأنه إلي ذلك ينظر ما في الروضة والجواهر من تخيير البايع المغبون بعد الفسخ بين إبقاء الغرس بالأجرة والقلع مع دفع الأرش. وإلا فلا وجه للاقتصار علي الإبقاء بالأجرة والتخلية مع دفع الأرش، بل يتعين الاكتفاء بشراء الزيادة. كما ل

ص: 366

مجال لعمومه إذا تزاحم الضرر من الطرفين، حيث سبق أنه لا يبعد لزوم حل المشكلة بما هو الأقرب لصالح كل منهما. ومع تعذره يكون لكل منهما العمل بمقتضي سلطنته علي ملكه، ويجب علي الآخر الاستجابة له.

وبذلك يظهر حال ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) قال: (فالتحقيق أن كلاً من المالكين يملك ماله لا بشرط حق له علي الآخر، ولا عليه له. فلكل منهما تخليص ماله عن مال صاحبه. فإن أراد مالك الغرس قلعه فعليه أرش طمّ الحفر. وإن أراد مالك الأرض تخليها فعليه أرش الغرس...).

وظاهره أن مقتضي القاعدة بدواً بقاء كل منهما علي حاله شاغلاً للآخر ومنشغلاً به، فلو أمكن القلع من دون أن يضر بمالك الغرس أو كان مضراً به إلا أن الإبقاء مضر بمالك الأرض أيضاً لم يكن لمالك الأرض المطالبة بقلعه، كما لا يجب علي مالكه ذلك. ويظهر ضعفه مما سبق.

ومثله ما في الجواهر - وذكره في المسالك في باب التفليس - من الفرق بين الغرس والزرع، ففي الأول يتخير البايع بين الإبقاء بالأجرة والقلع مع دفع الأرش، كما سبق، وفي الثاني يتعين الانتظار بالأجرة، لأن له أمداً ينتظر.

إذ فيه: أنه بعد كون القلع مع الأرش لا يكون الانتظار لدفع ضرر صاحب الزرع، بل لزيادة النفع له. وهو لا ينهض بالمنع من عموم قاعدة السلطنة في حق الآخر.

بقي شيء: وهو أنه ورد في خبر زريق عن أبي عبد الله (عليه السلام) فيمن اشتري أرضاً ثم تبين له عدم ملكية البايع لها (قال: فإذا أنا فعلت ذلك له أن يطالبني بغير هذا؟ قال: نعم له أن يأخذ منك ما أخذت من الغلة ثمن الثمار، وكل ما كان مرسوماً في المعيشة يوم اشتريتها يجب أن ترد ذلك، إلا ما كان من زرع زرعته أنت، فإن للزارع إما قيمة الزرع، وإما أن يصبر عليك إلي وقت حصاد الزرع، فإن لم يفعل كان ذلك له، ورد عليك القيمة، وكان الزرع له. قلت: جعلت فداك فإن كان هذا قد أحدث فيه

ص: 367

وإذا أراد المشتري فصله فليس للبايع منعه عنه (1). وإذا أراد المشتري فصل الزيادة بقلع الشجرة أو الزرع أو هدم البناء، فحدث من ذلك نقص علي الأرض تداركه، فعليه طم الحفر وتسوية الأرض ونحو ذلك (2).

---------------

بناء وغرس. قال: له قيمة ذلك أو يكون ذلك المحدث بعينه يقلعه ويأخذه... فإذا رد جميع ما أخذ من غلاتها إلي صاحبها، ورد البناء والغرس وكل محدث إلي ما كان، أو رد القيمة كذلك، يجب علي صاحب الأرض أن يرد عليه كما [كل ما] خرج عنه في إصلاح المعيشة من قيمة غرس أو بناء أو نفقة في مصلحة المعيشة ودفع النوائب عنها، كل ذلك مردود إليه)(1)

وهو كما تري مخالف للقواعد ولما ذكره الأصحاب في غير مورد. ولا مجال للتعويل عليه بعد ضعف سنده، لعدم ثبوت وثاقة زريق، ولأنه إن لم يكن مهجوراً فلا أقل من عدم ثبوت انجباره بعمل الأصحاب، لعدم ذكره إلا في كتاب مجالس الشيخ غير المعدّ لإثبات نصوص الأحكام الفقهية، وعدم ظهور عملهم ببعض ما تضمنه من الأحكام مما هو مخالف للقواعد. فلاحظ. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

(1) لسلطنته علي ماله. لكنه إنما يتم إذا لم يلزم التصرف في ملك البايع. أما إذا لزم التصرف فيه فهو ينافي قاعدة السلطنة في حق البايع. وحينئذ إن لزم الضرر علي أحد الطرفين من إعمال سلطنة الآخر في ماله دون العكس تعين إعمال سلطنة من لا يلزم من إعمال سلطنته ضرر دون سلطنة الآخر، إلا أن يتحمل ضرره أو نحوه مما تقدم. وإن لزم الضرر من إعمال كل من السلطنتين تعين جريان ما سبق في تزاحم الحقوق من اختيار الطريق الأمثل والأبعد عن الإجحاف بهما. ومع تعذر ذلك يتعين التصالح بالرجوع للقرعة أو غير ذلك. فلاحظ.

(2) لأن النقص مسبب عنه، فيكون مضموناً عليه. لكن ذلك إنما يقتضي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

ص: 368

(369)

وإن كان بالامتزاج، فإما أن يكون امتزاجه بغير جنسه، وإما أن يكون بجنسه، فإن كان بغير جنسه، فإما أن يعد المبيع مستهلكاً عرفاً - كامتزاج ماء الورد المبيع بالماء (1) - فحكمه حكم التالف (2) يضمنه المشتري ببدله من المثل أو القيمة. وإما أن لا يعد مستهلكاً، بل يعد موجوداً علي نحو المزج - مثل خلط الخل بالعسل أو السكر - فالظاهر الشركة في العين (3)

---------------

ضمان أرش النقص، وهو فرق ما بين الصحيح والمعيب، لا تدارك النقص بالتصليح، نظير ما إذا أمرض الدابة أو فتق الخياطة، حيث لا يجب عليه مداواة الدابة، ولا إعادة مجدداً، بل أرش نقص المرض والفتق.

ويترتب علي ذلك أن لمالك الأرض المنع من طمّ الحفر ونحوه وطلب الأرش المذكور. أما لو كان الواجب علي صاحب الغرس نفس الطمّ ونحوه فمنع المالك منه مسقط لحقه. بل قد يدعي أن انشغال العين بما يوجب تفريغها منه نقصاً فيها موجب لنقصها عرفاً بنحو يستحق به الأرش حين الفسخ قبل تفريغها منه حتي لو لم تفرغ منه أخيراً، لاتفاقهما بنحو آخر. ولابد من مزيد من التأمل.

(1) الظاهر أن مراده (قدس سره) ما إذا كان ماء الورد قليلاً، بحيث يعدّ مستهلكاً عرفاً والباقي لو كان فهو أثره. أما إذا كان له وجود معتد به مع الماء، فيجري عليه الحكم الآتي للامتزاج بغير الجنس كما أنه لو كان الماء هو المستهلك لقلته فيكون موجباً لاعابة ماء الورد بحيث ينقص قيمته ويجب معه الأرش كما تقدم. ومثله في ذلك كل ما يعد مستهلكاً وتالفاً عرفاً، كالملح والمقبلات في الطعام.

(2) بل تالف عرفاً.

(3) لا ينبغي التأمل في ذلك بناء علي ما هو الظاهر من أن الشركة بالمزج حكمية لا حقيقية، وأن كلاً من الطرفين مالك لعين ماله الذي كان قبل المزج وإن تعذر تمييزه أو فصله، غاية الأمر أنه حيث لا يمكن الفصل بين المالين يتعين جريان

ص: 369

حكم الشركة في مجموع المالين.

إذ علي ذلك يكون المبيع بحدوده باقياً علي ملك المشتري إلي حين الفسخ، فيتعين رجوعه للبايع بالفسخ، لما سبق غير مرة من أن مقتضي الفسخ ذلك. فيكون البايع شريكاً للمشتري في المجموع شركة حكمية.

وبذلك يتعين حصول الشركة المذكورة حتي مع المزج بمال شخص ثالث غير المشتري. غاية الأمر أن البايع حينئذ يكون شريكاً مع ذلك الشخص، لا مع المشتري.

نعم ذكر السيد الطباطبائي (قدس سره) في حاشيته علي المكاسب أنه له مع ذلك المطالبة بالبدل، لحيلولة الغابن بينه وبين ماله.

ويشكل بأن الحيلولة لم ترد في دليل نقلي، لينظر في تعيين المراد بها، وأنه يعم مثل المقام أولاً، وإنما وردت في لسان بعض الفقهاء للإشارة إلي صورة تعذر إيصال المال للمضمون له، وإذا لم يكن من المعلوم أن مرادهم التعذر الخارجي الذي لا يشمل المقام، فلا أقل من كون ذلك هو المتيقن من دليل الانتقال للبدل، وهو بناء العرف المعتضد أو المؤيد بالإجماع.

وأما بناء علي حصول الشركة الحقيقية بالامتزاج، وأن كلاً من المالكين ينقلب ملكه مما كان يملكه أولاً بتمامه إلي شقص في المجموع كما قد ينسب للمشهور فقد يدعي وجوب رد البدل بالفسخ. وبه جزم بعض مشايخنا (قدس سره) في مطلق المزج.

وقد استدل عليه - كما تقرير درسه - بأنه يتعذر رجوع العين للبايع، لأن نصفها قد انتقل إلي ملك شخص آخر بنقل لازم لأجل الشركة.

وفيه أولاً: أن ذلك إنما يتجه إذا كان المزج بملك شخص غير المشتري، كما هو مورد استدلاله المتقدم. أما إذا كان بملكه - كما لا يبعد كونه مورد كلام سيدنا المصنف (قدس سره)

وغيره - فلا شركة قبل الفسخ، بل المالك للكل هو المشتري وحده، ولا موضوع

ص: 370

للشركة حينئذ، فإذا فسخ انتقل المبيع بتمامه للبايع. وحيث كان المالان بعد الفسخ واختلاف المالكين ممتزجين تعين حصول الشركة بين المتبايعين حينئذ.

نظير ما إذا أوصي زيد لغير وارثه بعسل له وصية تمليكية، ثم مُزِج العسل في حياته بدبس تمر له من دون أن يعلم. فإنه لو مات زيد بعد ذلك انتقل الدبس للوارث والعسل للموصي له، وتعين البناء علي الشركة بعد فرض الامتزاج حين تعدد المالكين.

وثانياً: أنه لو فرض كون المزج بملك شخص غير المشتري موجباً لانتقال نصف المبيع المشاع عن ملك المشتري حينئذ فذلك إنما يمنع من رجوع النصف المذكور لملك البايع بالفسخ، لا من رجوع تمام المبيع له حتي النصف الباقي منه علي ملك المشتري. فهو كما لو باع المشتري النصف المشاع قبل الفسخ، فإن الفسخ إنما يوجب الانتقال للبدل في النصف الذي باعه المشتري وخرج قبل الفسخ، لا في تمام المبيع الذي هو موضوع العقد المفسوخ.

نعم قد يظهر من بعض المحققين (قدس سره) أن الملكية الإشاعية سنخ خاص من الملكية مباين للملكية الاستقلالية. وحينئذ فالمبيع قبل البيع حيث كان مملوكاً للبايع بملكية استقلالية ويمتنع رجوعه بعد الفسخ في المقام للملكية الاستقلالية، لحصول الشركة، فلا مجال لرجوعه له بملكيته الإشاعية بعد عدم كون الملكية المذكورة مسببة عن البيع، بل يتعين كون الفسخ سبباً لرجوع العين له لا بشخصها بل بماليتها، فيلزم دفع البدل.

لكنه يشكل بعدم وضوح الفرق بين الملكيتين، بل الظاهر كون الملكية حقيقة واحدة. غاية الأمر أن المملوك كما يختلف في كونه خارجياً تارة وكلياً أخري، كذلك المملوك الخارجي يختلف، فيكون معنياً تارة وشقصاً أخري. ولذا لو بيعت العين، فانكشف امتناع بيع نصفها المشاع لغصب أو وقف أو غيرهما، صح البيع في النصف الثاني، لكونه جزء المبيع، ولم يبطل لدعوي: أن المقصود بالبيع هو الملكية الاستقلالية

ص: 371

المفروض امتناعها، ولا مجال لحصول الملكية الإشاعية، لعدم القصد إليها.

ثم أن بعض مشايخنا (قدس سره) قد أشار في منهاجه إلي وجه يختص بالمزج بغير الجنس قال: (وإن كان الامتزاج بغير الجنس فحكمه حكم التالف يضمنه المشتري ببدله من المثل أو القيمة. سواء عد المبيع مستهلكاً عرفاً - كامتزاج ماء الورد المبيع بالماء - أم لم يعد مستهلكاً، بل عد موجوداً علي نحو المزج، مثل خلط الخل بالعسل أو السكر. فإن الفاسخ بفسخه يملك الخل مثلاً، والمفروض أنه لا وجود له، وإنما الموجود طبيعة ثالثة حصلت من المزج، فلا مناص من الضمان بالمثل أو القيمة). ويستفاد ذلك من بعض المحققين (قدس سره) في حاشيته علي المكاسب. وإليه قد يرجع ما في المسالك والروضة من أن المزج إذا كان بغير الجنس فهو بحكم انعدام المبيع.

هذا وقد سبق منا في المسألة السابعة والعشرين من مقدمة كتاب التجارة أن العنوان المأخوذ في المبيع إن كان مقوماً عرفاً للمبيع تعين بطلان البيع بتخلفه، سواءً كان منتزعاً من مقام الذات كعنوان الحنطة والشعير والصوف واللبن أم منتزعاً من خصوصية زائدة عليها، كعنوان الخبز والقميص والجبن والخل.

وقد يبتني ما سبق منهم علي ذلك. بلحاظ أن مثل عنوان الخل مقوم للمبيع عرفاً، وهو لا يصدق علي الممزوج بالعسل أو السكر، فكما يكون تخلفه مبطلاً للبيع يكون تخلفه مانعاً من رجوع العين بالفسخ، إذ الفسخ إنما يقتضي رجوع المبيع إلي ملك البايع لا رجوع أمر آخر. وهو لو تم يقتضي الانتقال للبدل حتي بناءً علي أن المزج لا يقتضي الشركة الحقيقية، بل الحكمية، كما لعله ظاهر.

لكن الظاهر الفرق بين عقد البيع وفسخه بأن العقد حيث كان موضوعه العوضين والمفروض كون العنوان مقوماً لأحدهما، فمع فقده لا موضوع للعقد، فيتعين بطلانه. أما الفسخ فهو - بعد فرض كون موضوعه العقد دون العوضين ولذا يصح مع تلفهما - لا يقتضي إلا حل العقد من دون دخل لذات المبيع فضلاً عن عنوانه. غاية الأمر أن من شأن حل العقد رجوع كل شيء إلي حاله السابق علي العقد حتي

ص: 372

(373)

بنسبة المالية (1). وإن كان خلطه بجنسه، فإن كان بمثله في الرداءة والجودة

---------------

كأنه لم يبع، ومن الظاهر أن المبيع لو لم يبع لكان للبايع حتي مع فقده للعنوان، فيجب إرجاعه بمقتضي ضمان المعاوضة، وإنما ينتقل لتعذر إرجاعه إليه، كما هو الحال في سائر موارد الضمان، إذ من الظاهر أن المعيار في الانتقال للبدل في باب الضمانات ليس علي تعذر إرجاع العنوان، بل علي تعذر إرجاع الذات. غاية الأمر أن فقد العنوان إذا كان موجباً لنقص قيمة العين كان مضموناً بالأرش.

علي أنه لو بني علي ذلك لزم البناء علي الانتقال للبدل في جميع موارد فقد العنوان ولو لم يكن بسبب المزج، كما لو كان المبيع حنطة أو شعيراً فطحن، أو دقيقاً فخبز، أو كان قماشاً فخيط، أو كان سكراً فأذيب وصار شيرة، ولا يظن منهم البناء علي ذلك. ولذا تقدم منهم إطلاق رجوع العين مع تصرف المشتري فيها بزيادة أو نقيصة أو وصف، من دون أن يشيروا للتفصيل بين بقاء عنوان المبيع وعدمه.

(1) يعني: لا بنسبة كمية المالين. والوجه فيه ظاهر بناء علي ما سبق من أن الشركة في المقام حكمية. إذ بعد فرض ملك كل منهما لعين ماله يتعين حفظ ماليته له.

نعم يتعين أولاً: ملاحظة قيمة كل منهما حال المزج، لأنه حال الشركة المفروضة. غاية الأمر أنه لو نقصت قيمة المبيع بالمزج كان النقص مضموناً حين الفسخ علي المشتري بضمان المعاوضة، كسائر النواقص الطارئة عليه قبل إرجاعه للبايع.

وثانياً: أن المزج إذا كان سبباً في حدوث صفة فيهما ذات مالية جري علي تلك الصفة ما سبق في حكم زيادة الصفة من كونها ملكاً للمشتري إذا كانت بفعله. وعلي ذلك يكون البايع شريكاً في مالية المجموع بنسبة قيمة المبيع بعد المزج إلي قيمتي الصفة والممتزج الآخر، لا بنسبة قيمة المبيع إلي قيمة الممتزج الآخر فقط. غاية الأمر أنه إذا لم يتيسر تحديد القيم المذكورة يتعين التصالح.

وأما بناء علي أن الشركة في المقام حقيقية، فهو مبني علي منشأ الشركة ودليلها،

ص: 373

كان شريكاً معه في العين (1)

---------------

ولا يتضح لنا، كي يتضح لنا كيفية الشركة. نعم قد استدل عليها بالإجماع المعتضد ببناء العقلاء علي ذلك. فإن تم فحيث كان مقتضي الإنصاف هو الشركة في المالية فمن البعيد جداً ابتناؤهما علي خلافه. ولاسيما مع دعوي اتفاقهم علي ذلك في القسمة المبتنية علي تمييز الحقوق، لوضوح أن تمييز الحقوق بنسبة المالية فرع ثبوت الحقوق بالنسبة المذكورة.

هذا و يظهر من بعض مشايخنا (قدس سره) كما في تقرير درسه لكتاب الشركة أن منشأ الشركة كون الموجود بعد الامتزاج أمراً مبايناً للمالين الممتزجين عرفاً نشأ منهما بعد انعدامهما، فلا منشأ لاختصاص أحدهما به.

وذلك لو تم يناسب اشتراك الطرفين في غير محل الكلام من موارد المزج بالتساوي من دون نظر للنسبة بينهما بحسب الكمية أو المالية، لتساويهما في منشأ ملكيتهما للمال، وهو كونه ناشئاً عن ملكهما بعد انعدامه. نعم هو لايجري في المقام، بل يتعين بناء عليه الانتقال للبدل، لتلف المبيع عرفاً، كما سبق. فلاحظ.

(1) كما صرح به غير واحد. وهو يبتني علي أن المزج موجب للشركة، حيث هو هنا أظهر منه في المزج بمختلف الجنس. وقد أشرنا آنفاً إلي أنه يوجب الشركة الحكمية. وعليه لا يفرق بين كون المزج بملك المشتري وكونه بملك غيره، كما أشرنا إليه آنفاً.

أما بناء علي أنه يوجب الشركة الحقيقية - كما هو ظاهرهم، بل صريح بعضهم

فالمتعين مع المزج بملك غير المشتري هو شركة البايع الفاسخ مع المشتري في خصوص حصته من المبيع مع دفع المشتري البدل عن الباقي منه الذي صار للثالث بالمزج.

نعم مع المزج بملك المشتري - كما لعله مورد كلامهم - يتعين أن يكون شريكاً مع المشتري بدلاً عن المبيع بتمامه، لحصول الشركة بعد الفسخ، كما سبق آنفاً.

ص: 374

بنسبة كمية ماله (1). وإن خلطه بالأجود أو الأردأ فالظاهر الشركة بينهما في العين أيضاً، لكن بنسبة المالية (2)، فتكون حصة المشتري أكثر في الأول، وأقل في الثاني. وإن كان الأحوط التصالح (3).

---------------

لكن ذكر بعض مشايخنا أنه يتعين الانتقال للبدل، ولم يتضح وجهه. كما يظهر مما سبق في المزج بغير الجنس. بل هو هنا أظهر، حيث لامجال لاحتمال تبدل عنوان المبيع. فلاحظ.

(1) من الظاهر تطابق نسبة المالية مع نسبة الكمية في ذلك، فلا موضوع للترجيح بينهما. نعم لا يبعد أن يكون منشأ التعبير بالكمية أن ذلك هو المنصرف من إطلاق الأصحاب بناء علي أن الدليل علي الشركة هو الإجماع.

(2) يظهر الكلام فيه مما تقدم في المزج بغير الجنس.

(3) كأنه لاحتمال كون الشركة في المقام بنسبة الكمية، لئلا يلزم الربا بناء علي جريان في غير البيع من المعاوضات. وبذلك يختلف عن صورة الاختلاف في الجنس

لكن لايخفي أن ذلك - مع ابتنائه علي الشركة الحقيقية، كما هو ظاهر غير واحد في المقام - يختص بالمكيل والموزون، لاختصاص الربا بهما.

مع أن سيدنا المصنف (قدس سره) قد دفع ذلك في حاشيته القديمة علي المكاسب بأن ما نحن فيه ليس من المعاوضة في شيء، وإنما هو من قبيل التبدل في المملوك.

فإن كان مراده بذلك أن الشركة ليست معاوضة حتي لو كانت عقدية، لابتنائها علي تبدل المملوك من كونه معيناً إلي كونه مشاعاً، أشكل بأن التبدل المذكور يبتني علي وجود المقابل لأن تبدل المملوك من أحد المالين المعين إنما يكون إلي المشاع من المالين، فإذا كان المشاع أكثر حصل الربا.

وإن كان مراده أن الشركة بالمزج ليست معاوضة، لتكون موضوعاً للربا، بناء علي جريانه في غير البيع من المعاوضات، لعدم توقفها علي قصد الشركة، بل تحصل

ص: 375

(مسألة 31): إذا فسخ المشتري المغبون وقد تصرف في المبيع تصرفاً غير مسقط لخياره، لجهله بالغبن، فتصرفه أيضاً (تارة): لا يكون مغيراً للعين (وأخري): يكون مغيراً لها بالنقيصة أو الزيادة أو بالمزج. وتأتي فيه الصور المتقدمة. وتجري عليها أحكامها (1). وهكذا لو فسخ المشتري المغبون وكان البايع قد تصرف في الثمن، أو فسخ البايع المغبون وكان هو قد تصرف في الثمن تصرفاً غير مذسقط لخياره، فإن حكم تلف

---------------

بمجرد المزج بحكم الشارع قهراً علي الطرفين، فهو متين جداًً، لظهور أن المعاوضة من العقود المبنية علي قصد التعاوض، فلا تحصل بمجرد المزج وإن أوجب الشركة.

هذا وفي الجواهر - واحتمله شيخنا الأعظم (قدس سره) من الفرار عن محذور الربا بالالتزام بعدم ثبوت الشركة في العين مع المزج بالأجود والأردأ، بل تكون الشركة في الثمن لا غير، التي هي مرجع الشركة الحكمية. وفيه: أن دليل حصول الشركة بالمزج بالمساوي هو دليل حصولها بالمزج بالأجود والأردأ، فإن كان مفاده الشركة الحكمية - التي إليها يرجع الاشتراك في الثمن - تعين البناء عليها في الجميع، وإن كان مفاده الشركة الحقيقي في تمام الممتزج لزم البناء عليها في الجميع، وانحصر الفرار عن محذور الربا لو تم بالبناء علي الشركة بنسبة الكمية.

هذا وفي الروضة في صورة المزج بالجنس: (وإن وجدها ممتزجة بغيرها، فإن كان بمساو أو أردأ صار شريكاً إن شاء. وإن كان بأجود ففي سقوط خياره، أو كونه شريكاً بنسبة القيمة، أو الرجوع إلي الصلح، أوجه). وقريب منه في المسالك، لكن زاد: (والثالث لا يخلو عن قوة، لبقاء ماله. وأصالة بقاء خياره). ولا يتضح الوجه في التفصيل المذكور فلاحظ. والله سبحانه وتعالي العالم.

(1) كما يظهر مما سبق. وقد أشرنا في بعض الموارد إلي خلاف بعضهم وتفصيلهم بين تصرف المشتري المغبون والبايع المغبون، وذكرنا ما يناسب المقام. فراجع.

ص: 376

(377)

العين (1) ونقل المنفعة ونقص العين وزيادتها ومزجها بغيرها وحكم سائر الصور التي ذكرناها هناك جار هنا علي نهج واحد (2).

(مسألة 32): الخيار في الغبن علي الفور (3).

---------------

(1) يعني: عين الثمن. ويجري حكم تلف العين علي نقلها أو التصرف فيها تصرفاً يمنع من الرد، كالاستيلاء علي النهج المتقدم في التصرف في المبيع.

(2) لكن سبق منا في أواخر المسألة الثامنة والعشرين أنه لا مجال للبناء علي سقوط الخيار بالتصرف في أحد العوضين إذا كان من سنخ الأثمان التي ليس من شأن العرف الاهتمام بأعيانها. ولا فرق في ذلك بين كونها في المعاملة الغبنية ثمناً وكونها مثمناً. وهذا بخلافها إذا لم يكن من سنخ الإيمان، بل كان من سنخ العروض حيث سبق تقريب سقوط الخيار بتلفه وما بحكمه وبالتصرف المغير لصورته بحيث يكون منشأ لاختلاف الرغبة فيه. فراجع.

(3) كما صرح به في الجملة - هنا أو في مسألة تلقي الركبان - في المبسوط والوسيلة والسرائر والتذكرة والدروس وجامع المقاصد والمسالك والروضة وعن المهذب البارع وغاية المرام وغيرها. واستظهر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه المشهور.

وفي الشرايع عند الكلام في تلقي الركبان: (والخيار فيه علي الفور مع القدرة. وقيل لا يسقط إلا بالإسقاط. وهو الأشبه). وقواه في الإيضاح والتنقيح وعليه جري في محكي التحرير.

وقال في المسالك في المسألة المذكورة: (والأقوي أنه علي الفور. اقتصاراً في مخالفة عموم لزوم البيع والوفاء بالعقد علي موضع اليقين. ووجه التراخي أن ثبوت أصل الخيار إجماعي، فيستصحب إلي أن يثبت المزيل. واختاره المصنف. وهو وجيه). لكنه اقتصر علي تقريب القول بالفور والاستدلال له في مبحث خيار الغبن. فراجع.

هذا وبعد الاعتراف بأن مقتضي عموم لزوم العقود هو الفور فلا مجال للخروج

ص: 377

عنه بالاستصحاب، لظهور أن الاستصحاب - كسائر الأصول - محكوم للأدلة، ومنها العموم.

نعم استشكل شيخنا الأعظم (قدس سره) في اقتضاء العموم المذكور للفور بأنه بعد خروج العقد في المقام عن العموم المزبور، وثبوت الخيار فيه حين وقوعه، لا يلزم من استمرار الخيار فيه زيادة في التخصيص، لوحدة العقد.

لكنه يندفع بأن العموم لزوم الوفاء بالعقود عموم أفراد بلحاظ تكثر أفراد العقود - ومنها العقد في المقام - وإطلاق أحوالي يقتضي لزوم تلك العقود في جميع الأزمنة والأحوال. فإذا كان المتيقن من دليل التخصيص خروج بعض أفراد العقد عن العموم وثبوت الخيار فيه في بعض الأزمنة والأحوال كان مقتضي العموم - بلحاظ إطلاقه الأحوالي - ثبوت حكم العام له في بقية الأحوال والأزمنة، اقتصاراً في الخروج عن العموم علي المتيقن. وقد أفضنا الكلام في ذلك في مبحث الاستصحاب من الأصول، وذكرنا أنه لا مجال لاستصحاب حكم المخصص في أمثال المقام مما كان للعام فيه عموم أو إطلاق أحوالي يقتضي ثبوت حكمه لأفراده في جميع الأزمنة والأحوال. فراجع.

ثم إنه لو فرض قصور العموم فالظاهر جريان استصحاب الخيار، كما تقدم من المسالك، لتمامية أركانه من اليقين والشك.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من عدم إحراز الموضوع فيه، لأنه كان قادراً علي تدارك ضرره بالفسخ ولم يفعل.

ففيه - مع أن ذلك لا يناسب مبناه في موضوع الاستصحاب الذي قرره في رسائله من أن المرجع فيه العرف -: أن موضوع حق الخيار هو المغبون وهو أمر جزئي غير قابل للانقسام والتعدد وليست القدرة علي تدارك ضرره إلا من حالاته الطارئة غير المقومة له، ولا المقسمة، بحيث يتعدد بلحاظها.

وكان الأنسب بمبانيه (قدس سره) في الاستصحاب توجيه المنع من جريانه في المقام

ص: 378

(379)

نعم لو أخره (1) جاهلاً بالغبن (2)

---------------

بعدم ثبوت كون الشك في بقاء الخيار لاحتمال الرافع له، بل لعله لقصور مقتضي الخيار المجعول وانتهاء أمده. وإن كان ذلك ليس مانعاً من جريانه عندنا.

هذا وفي الإيضاح وجود القول بأن أمد الخيار في المقام ثلاثة أيام، لأنه خيار تدليس. ونسبه في التنقيح للشيخ (قدس سره)، وقال: (حملاً علي الحيوان)، كما نسبه له أيضاً في الرياض، وزاد: (كما عن التحرير أيضاً). لكن لم يثبت ذلك عنهما، بل الموجود في المبسوط الفور، والمحكي عن التحرير إطلاق التراخي، كما نبه لذلك في مفتاح الكرامة.

وكيف كان فلا وجه للتحديد المذكور والحمل علي الحيوان قياس. وكذا الحمل علي التدليس. علي أنه لم يثبت في التدليس ذلك. بل هو راجع إلي خيار تخلف الوصف - الذي لا تحديد له بذلك - علي ما تقدم التعرض له في المسألة السابعة والعشرين من مقدمة كتاب التجارة. فراجع.

(1) قد أطلق غير واحد ممن تقدم أن الخيار علي الفور. وقيده المبسوط والوسيلة والسرائر بالإمكان. وظاهره الإمكان العرفي، لأن الإمكان العقلي لا يحتاج للتنبيه. بل في الوسيلة: (فإن أخر لغير عذر بطل خياره). ومقتضاه جواز التأخير لكل عذر عرفي، وهو الأنسب بالمرتكزات العقلائية التي هي العمدة في ثبوت هذا الخيار، وكان عليها المعول في الخروج عن عموم لزوم العقود.

(2) كما هو ظاهر إطلاق الأصحاب أن الخيار يثبت بظهور الغبن. لكن في المبسوط: (وإذا قدم السوق ولم يشغل [يشتغل] بتعرف السعر وتبين الغبن بطل خياره). ومقتضاه لزوم المبادرة بالفحص. بل مقتضي إطلاقه سقوط الخيار لو لم يبادر حتي مع الغفلة عن حصول الغبن وعدم احتماله. وإن كان من البعيد إرادته ذلك، لإباء المرتكزات العرفية له جداً، حيث لا يكون حق الخيار في الغبن عملياً غالباً،

ص: 379

(380)

أو بثبوت الخيار للمغبون (1) أو غافلاً عنه أو ناسياً له لم يسقط خياره، وكان له الفسخ إذا علم أو التفت، ولو كان شاكاً في الغبن أو شاكاً في ثبوت الخيار للمغبون، فإن كان غافلاً عن إمكان الفسخ له برجاء ثبوته له لم يسقط خياره (2). وإن كان ملتفتاً إلي ذلك ففي سقوط خياره إن لم يفسخ إشكال (3). وكذا الإشكال لو علم بالغبن فلم يرض به، ولكنه أخر إنشاء الفسخ

---------------

لغلبة الغفلة عن حصوله. بل الظاهر من بناء العرف عدم سقوط الخيار لو احتمل الغبن ولم يفحص عنه لانشغاله عنه بما يكون عذراً عرفاً، أو لصعوبة الفحص، فأخره بانتظار تيسره. بل حتي مع تيسر الفحص إذا لم يرجع ترك الفحص إلي الرضا بالعقد علي كل حال. فتأمل.

(1) لعين ما سبق في الجهل بحصول الغبن. ويجري فيه ما يجري فيه من التفصيل المتقدم.

(2) لعين ما سبق.

(3) لا مجال للبناء علي سقوط الخيار حينئذ لو خشي عدم ظهور الحال بالفحص، فإن الأصل وإن كان يقتضي نفوذ البيع وعدم صحة الفسخ حينئذ، إلا أن احتمال صحة الفسخ وبطلان البيع واقعاً محذور عرفي مصحح لعدم المبادرة للفسخ بالنحو المذكور، بحيث لا يسقط به الخيار بالنظر للمرتكزات العرفية.

بل من القريب جداً بالنظر للسيرة الارتكازية عدم سقوط الخيار مع الجهل بالغبن حتي لو لم يلزم المحذور المذكور، لكونه عذراً عرفاً، خصوصاً إذا كان الداعي للتأخير هو التعرف علي مرتبة الغبن علي تقدير وجوده من أجل التعرف علي أهميته بنحو يستدعي الإصرار علي إعمال حق الخيار. وقد سبق الاكتفاء بالعذر العرفي في ترك المبادرة.

ص: 380

لانتظار حضور الغابن (1) أو حضور من يستشيره في الفسخ وعدمه (2)

---------------

(1) عدم الفسخ لانتظار حضور الغابن (تارة): يكون لتخيل توقف الفسخ ونفوذه علي حضوره. (وأخري): لاحتمال عدم العثور عليه، فيلزم من الفسخ عدم تيسر إرجاع كل من العوضين لمالكه الأول قبل البيع. (وثالثة): لاحتمال عدم رضاه بالفسخ وعدم ترتيبه لأثره، إما عصياناً، أو لاختلافه مع المغبون في الاجتهاد أو التقليد في تحديد حق الخيار، أو في كون البيع غبنياً فيلزم من الفسخ الابتلاء باستيلاء المغبون علي ملك الغابن، واستيلاء الغابن علي ملك المغبون. (ورابعة): لأن الفسخ يوجب ملك الغابن لما عند المغبون من العوضين، ولابد من تصرف المغبون فيه ولو بمثل إطعام الحيوان وسقيه إلي حين إيصاله له، ولا يحرز رضاه فيما يختاره هو أو يتيسر له من وجوه التصرف. (وخامسة): لمحض التواني في الفسخ من دون غرض عرفي يصلح أن يكون عذراً.

والظاهر عدم سقوط الخيار في الصورة الأولي لأنها نظير الجهل بثبوت الخيار والغفلة عن الفسخ برجاء ثبوته اللذين تقدم منه قدس سره عدم سقوط الخيار معهما. وكذا في الصور الثلاث المتوسطة، لأن المحاذير المتقدمة أعذار عرفية لترك المبادرة.

بل من القريب بالنظر لسيرة العرف ومرتكزاتهم عدم سقوط الخيار حتي في الصورة الخامسة، لبناء عامة الناس علي عدم إعمال حق الخيار قبل الوصول للغابن والحضور عنده. ولذا لو ذهب المغبون له بتخيل لقائه فلم يجده يبني علي بقاء البيع نافذاً، حتي قد يعدل عن إعمال حق الخيار. فإن ذلك يكشف عن أن ذهابه بقصد المقدمة للفسخ، لا من أجل مجرد تراد العوضين مع تحقق الفسخ قبل ذلك. ولا يلتفت للفسخ بمجرد ظهور الغبن - بحيث يكون الذهاب للغابن لمجرد تراد العوضين - إلا الخاصة، ولا أهمية لهم في تشخيص مقتضي السيرة العرفية الارتكازية.

(2) الظاهر كفاية ذلك عرفاً في العذر عن المبادرة للفسخ إذا لم تكن المدة طويلة بنحو يخرج عن المعارف. وإلا ففيه إشكال. بل مقتضي عموم نفوذ العقود سقوط

ص: 381

ونحو ذلك من الأغراض الصحيحة (1) جهلاً بالفورية (2). نعم لو أخره توانياً منه، لاعتقاد جواز التراخي سقط خياره (3).

(مسألة 33): الظاهر ثبوت خيار الغبن في كل معاملة مبنية علي المماكسة (4)، صلحاً كانت أو إجارة أو غيرهما.

---------------

الخيار. إلا أن تكون الاستشارة لتخوف محذور مهم من إعمال حق الخيار بالفسخ، فالظاهر عدم سقوط حق الخيار حينئذٍ.

(1) كإقناع الغابن بتقبل الفسخ فراراً من محذور تعذر تراد العوضين لو حصل الفسخ ولم يرتب الأثر عليه.

(2) بناء علي ما سبق فالفورية ليست بنحو تقتضي المبادرة في هذه الموارد.

(3) لا يخلو عن إشكال، بل منع بالنظر لما سبق من عدم سقوط الخيار إذا كان ترك المبادرة للعذر العرفي. بل عن ظاهر بعضهم الوفاق علي عدم سقوط الخيار. وإن لم يتضح مأخذه بعد عدم شيوع تحرير المسألة في كلامهم.

(4) صرح بثبوته في كل معاوضة مالية في التنقيح ومحكي شرح الإرشاد للفخر وإيضاح النافع. وهو مقتضي ما في إجارة جامع المقاصد من أن الخيار من توابع المعاوضات.

وعن المهذب البارع والمقتصر عدم جريانه في الصلح. وكأنه لابتناء الصلح علي حلّ المشكلة وإنهاء العلاقة بين الطرفين من دون نظر للقيمة السوقية. لكنه لا يطرد، بل قد يتمحض في المعاوضة، كما أشرنا إليه في المسألة الثامنة والعشرين عند الكلام في المصالحة عن حق الخيار في الغبن بمال.

هذا ومما سبق منا في وجه ثبوت خيار الغبن في البيع يظهر أن المعيار في ثبوته في غير البيع هو ابتناء المعاملة نوعاً علي ملاحظة القيمة السوقية كالبيع والإجارة فإنه يثبت حينئذ ما لم يخرج الطرفان معاً في المعاملة المذكورة عن ذلك كما تقدم ذكر

ص: 382

(383)

(مسألة 34): إذا اشتري شيئين صفقة بثمنين، كعبد بعشرة وفرس بعشرة، وكان مغبوناً في شراء الفرس، جاز له الفسخ في الفرس، ويكون للبايع الخيار في بيع العبد (1).

---------------

بعض صغرياته في البيع ويجري مثلها في غيره. أما ما لا يبتني من المعاملات علي ذلك نوعاً كالصلح فلا يثبت فيه الخيار المذكور ما لم يشترطا معاً ولو ضمناً مراعاة القيمة السوقية فيرجع خيار الغبن فيها حينئذ إلي خيار تخلف الشرط. أما ابتناء المعاملة علي المماكسة كما في المتن فلا يتضح الوجه في كونه معياراً في ثبوت الخيار.

نعم لو كان الدليل علي الخيار المذكور هو الإجماع أشكل ثبوته في غير البيع، لعدم وضوح عموم الإجماع له. كما أنه لو كان الدليل عليه قاعدة نفي الضرر تعين البناء علي ثبوته في كل معاوضة ما لم تبتن علي الإقدام علي الغبن ولو احتمالاً. وكذا لو كان الدليل عليه النصوص الواردة في الغبن، لعموم أكثرها لغير البيع.

(1) أما فسخ المشتري في شراء الفرس فلفرض الغبن فيه. وأما فسخ البايع في بيع العبد بعد فسخ المشتري بيع الفرس فلتبعض الصفقة. لكن ذلك يتوقف علي أمرين:

الأول: عدم ابتناء بيع الفرس علي عدم ملاحظة القيمة السوقية.

الثاني: ابتناء البيعين علي الارتباطية، إذ مع عدم الأول لا يثبت خيار الغبن، كما سبق عند الكلام في الاستدلال عليه، ومع عدم الثاني لا يثبت خيار تبعض الصفقة، لرجوعه إلي خيار تخلف الوصف الشرط بعد فرض ابتناء البيع علي الارتباطية بين أجزاء المبيع الواحد، أو بين المبيعين في مثل المقام.

والظاهر أن الجمع بين الأمرين في المقام يحتاج إلي عناية، إذ كثيراً ما يكون الجمع بين البيعين بنحو الارتباطية راجعاً إلي رفع اليد عن القيمة السوقية لكل من المبيعين من أجل جمعه مع المبيع الآخر.

ص: 383

(384)

(مسألة 35): إذا تلف ما في يد ا لغابن بفعله أو بأمر سماوي وكان قيمياً، ففسخ المغبون (1) رجع عليه بقيمة التالف (2). وفي كونها قيمة زمان التلف أو زمان الفسخ أو زمان الأداء وجوه، أقواها الأول (3). ولو كان التلف

---------------

وحينئذ قد يكون المعيار في الغبن علي ملاحظة مجموع الثمنين بالإضافة إلي كلا المبيعين، فيثبت خيار الغبن في البيعين معاً بنحو الارتباطية.

علي أنه قد لا يثبت حتي ذلك، لابتناء الارتباطية بين البيعين علي الإعراض عن القيمة السوقية رأساً من أجل الاهتمام بالارتباطية.

هذا لو فرض اجتماع الأمرين، وثبوت خيار الغبن للمشتري في خصوص الفرس، فمن القريب أن يثبت له الخيار في العبد لتبعض الصفقة، كما يثبت للبايع. لأن إرجاع المشتري للفرس بخيار الغبن لايقتضي إعراضه عن شرط الصفقة وإسقاطه له.

(1) بناء علي ما سبق منه (قدس سره) ومن جماعة من عدم سقوط الخيار بتعذر إرجاع كلا العوضين إلي من كان له قبل البيع. أما بناء علي سقوطه بذلك كما هو المشهور في الجملة، وسبق منا في المسألة الثامنة والعشرين فلا موضوع لهذا المسألة، كما هو ظاهر.

(2) كما سبق في المسألة التاسعة والعشرين. وتقدم في أوائل المسألة التاسعة والعشرين أن منشأه ضمان المعاوضة.

(3) وهو قيمة يوم التلف، كما هو ظاهر الأكثر. وكأنه يبتني علي ما جري

عليه (قدس سره) في المقبوض بالعقد الفاسد وفي المغصوب من ضمانهما بقيمة يوم التلف، حملاً لضمان المعاوضة علي ضمان اليد، لدعوي رجوعهما ارتكازاً إلي أمر واحد وإن اختلف سبب الضمان.

لكن تقدم في المسألة الثامنة عشرة من فصل شروط المتعاقدين أن منشأ البناء علي استحقاق قيمة يوم التلف في ضمان اليد هو أن انشغال الذمة بالقيمة إنما يكون

ص: 384

حين التلف، لأنه زمان خروج العين المضمونة عن ملك المضمون له والانتقال للبدل، والذي هو بدل عن العين حين التلف هو القيمة الثابتة لها حينئذ.

ولا مجال لذلك في المقام، لفرض كون تلف العين في ملك من ملكها بالعقد، ولا معني لضمانه لملكه، بل لابد من أن يكون ضمانه لها بعد الفسخ، لأنه زمان رجوع العين إلي ملك من كانت له قبل العقد، فمع تلفها لابد من رجوع بدلها له حينئذ. وذلك يقتضي ملاحظة البدلية حينئذ، وما هو البدل لها حينئذ هو قيمتها حين الفسخ، لا حين التلف.

وكون منشأ الضمان هو المعاوضة لا يرجع إلي انشغال الذمة بالعين حين المعاوضة، إذ لا معني لانشغال ذمته بها بعد فرض ملكيته لها، بل يرجع إلي أن أخذ العين إذا لم يكن مجانياً، بل مبنياً علي ضمانها بالعوض لم تخرج عن الضمان برجوع العوض لدافعه بسبب الفسخ بل تبقي مضمونة عليه، ويكون مسؤولاً بإرجاعها بنفسها مع وجودها وببدلها مع تلفها.

نعم يتجه قياس المقام بضمان اليد في استحقاق البدل الثابت حين التلف لو تم فيما إذا كان تلف العين بعد الفسخ من دون تفريط من الفاسخ بحبس العين عن صاحبها الأول، حيث ينحصر ضمانه لها حين التلف بضمان المعاوضة. لكنه خارج عن محل الكلام.

هذا وقد سبق في المسألة المذكورة المناسبات الارتكازية تقتضي في ضمان اليد دفع قيمة يوم الأداء، لبقاء انشغال الذمة ارتكازاً بالعين، ودفع البدل ليس لانشغال الذمة به ابتداءً، بل للخروج عن ضمان العين، فلابد من ملاحظة البدلية وتحديد القيمة تبعاً لذلك حين دفع البدل الذي يكون به الخروج عن الضمان.

غاية الأمر أنه لابد من الخروج عن ذلك بما تضمن وجوب دفع قيمة يوم الغصب، وهو لا يشمل المقام، لعدم كون الضامن في المقام غاصباً، بل كان استيلاؤه علي العين بحق. ومن هنا قد يتجه لزوم دفع قيمة وقت الأداء.

ص: 385

نعم قد يستشكل في ذلك بوجهين:

الأول: ما عن بعض مشايخنا (قدس سره) من أن ذلك قد يستلزم كون الضامن في المقام أسوأ حالاً من الغاصب، إذ قد تكون قيمة يوم الغصب أقل من قيمة يوم الأداء، وحيث لا يحتمل كون الضامن في المقام أسوأ حالاً من الغاصب فلا مجال للبناء علي تعين قيمة يوم الأداء، بل يتعين أداء قيمة يوم الفسخ الذي هو بمنزلة يوم الغصب.

لكنه إن أراد بذلك عدم وجوب دفع قيمة يوم الأداء فيما إذا كانت أكثر من قيمة يوم الفسخ، مع الاكتفاء بها لو لم تكن كذلك. فهو مع عدم مناسبته لفتواه في المقام، حيث أطلق أن اللازم دفع قيمة يوم الفسخ تفصيل لا يظن بأحد الالتزام به بعد وحدة منشأ الضمان في المقام.

وإن أراد به وجوب دفع قيمة يوم الغصب مطلقاً وإن كانت أكثر من قيمة يوم الأداء فما ذكره من الوجه لا ينهض به.

مضافاً إلي أن العلم بأن الضامن في المقام لا يكون أسوأ حالاً من الغاصب إنما يمنع من كون معيار الضمان فيه أشد من الغاصب إذا لم يكن المعيار المذكور أخف من المعيار في الغاصب في بعض الحالات. وإلا فملاحظة الحالة الشديدة ليس بأولي من ملاحظة الحالة الخفيفة. ومن ثم لا يرجع ما ذكره (قدس سره) إلي محصل ظاهر.

الثاني: ما سبق منا عند الكلام فيما لو حصل الفسخ وقد خرجت العين عن ملك الغابن، ثم رجعت له قبل دفع البدل، من أنه لا مجال للبناء علي كون الفسخ سبباً لانشغال ذمة الغابن بالعين للمغبون، لأنه مع وجود العين وملكيتها فعلاً للشخص الثالث، يمتنع ارتكازاً أن تكون مملوكة ملكية أخري للمغبون في ذمة الغابن، بل لابد من البناء علي ملكية المغبون بسبب الفسخ للبدل في ذمة الغابن وانقطاع علاقته بالعين. وحينئذ لابد من كون المملوك له هو القيمة حين الفسخ، لأنها هي البدل للعين حينئذ.

وحيث يعلم بعدم الفرق في نحو الضمان بين تلف العين وانتقالها عن ملك من

ص: 386

بإتلاف المغبون (1) لم يرجع عليه بشيء (2). ولو كان بإتلاف أجنبي، ففي

---------------

صارت له بالفسخ تعين وجوب دفع قيمة يوم الفسخ حتي مع تلف العين.

اللهم إلا أن يقال: الانتقال للبدل لا يقتضي تحديده حين الانتقال له، بل ربما يبتني علي مجرد لزوم دفع البدل بعنوان كونه بدلاً، مع كون تحديده منوطاً بدفعه. وهو لو تم لا يقتضي تعين قيمة يوم التلف في المغصوب حتي لو قلنا بكون التلف سبباً لانشغال الذمة بالبدل، لا بالعين، علي خلاف ما سبق منا في المسألة المشار إليها آنفاً. لكنه لا يخلو عن إشكال، ولابد من مزيد من التأمل. والله سبحانه وتعالي العاصم.

(1) يعني: ولم يدفع البدل حتي حصل الفسخ.

(2) أما بناء علي وجوب دفع قيمة يوم التلف في المقام وفي ضمان الإتلاف كما هو مختاره (قدس سره) فظاهر، لسقوط الضمانين بالتهاتر. وكذا بناءً علي ضمانهما معاً بقيمة يوم الأداء، للبناء علي انشغال ذمة الضامن بالعين حتي يخرج عنها بدفع البدل، حيث تنشغل في المقام ذمة المتلف بالعين، فإذا لم يخرج عنها حتي ضمنها الآخر له بالفسخ، كان المضمون لكل منهما شيئاً واحداً، وهو العين، فيسقط بالتهاتر.

وأما بناء علي أن المدار في الضمان هو قيمة يوم الضمان، وهي في حق المتلف قيمة يوم التلف، وفي حق الآخر قيمة يوم الفسخ - كما جري عليه بعض مشايخنا (قدس سره)

فقد تختلف القيمتان، ومقتضي ذلك لزوم دفع الزائد للآخر. لكن ذكر بعض

مشايخنا (قدس سره) كما في تقرير درسه في المكاسب - أن مقتضي السيرة العقلائية عدم الرد في المقام. والمتعين البناء علي ذلك

ولا ينافيه صحيح أبي ولاد المتضمن ضمان قيمة يوم الغصب المستلزم للرد في الجملة، لأن مورد الصحيح ما إذا كان الضمان من طرف واحد، ولا يشمل ما إذا كان الضمان من الطرفين، كما فيما نحن فيه، حيث تحقق في حق كل منهما سبب ضمان العين للآخر، بل المتعين حينئذ سقوط الضمان في حق كل منهما بالتهاتر.

ص: 387

وإن شئت قلت: إن وجوب دفع القيمة إنما هو فيما إذا لم تصل العين للآخر ولو حكماً، وقد وصلت العين للآخر في المقام حكماً، وذلك بإتلافه لها.

وما ذكره (قدس سره) من أن مقتضي السيرة العقلائية عدم التراد في المقام وإن كان قريباً ولو بلحاظ المرتكزات التي تبتني عليها السيرة، إلا أنه لا مجال للبناء علي قصور الصحيح عن المورد، لفرض أن الإتلاف قبل الفسخ. فحين الإتلاف يكون الضمان من جانب واحد، والمفروض أن مقتضي الصحيح ثبوت قيمة يوم التلف في ذمة المتلف، لا نفس العين، فإذا حصل الفسخ تجدد ضمان الطرف الآخر له، والمفروض أن ضمانه بقيمة يوم الفسخ، فإذا فرض الفرق بين القيمتين تعين رد الزائد.

ودعوي: أن إتلاف الطرف الآخر للعين بحكم وصولها له لا ترجع إلي محصل ظاهر بعد كون الإتلاف سبباً للضمان. غاية الأمر أن الضمان يستلزم التهاتر مع تساوي المضمونين، أما مع عدم تساويهما فالمتعين عدم سقوط الزائد ووجوب رده.

نعم قد يقال: الصحيح مختص بضمان اليد دون الإتلاف، فاللازم الرجوع في الإتلاف للقاعدة المشار إليها آنفاً، المقتضية لانشغال الذمة بنفس العين وعدم الفراغ عنها إلا بدفع قيمة يوم الأداء فيقع التهاتر حين الفسخ.

لكن لازم ذلك الفرق بين ما إذا كان الإتلاف مسبوقاً باليد من المتلف - بأن يكون قد استولي علي العين ثم أتلفها - وما إذا لم يكن مسبوقاً به. وهو بعيد جداً، مغفول عنه عرفاً.

وأما السيرة فلعلها مبينة علي أن ضمان العين عند العرف لا يقتضي دفع قيمة يوم التلف، بل قيمة يوم الأداء، وقد سبق أنه يترتب علي ذلك التهاتر. فإذا فرض أن مقتضي الصحيح دفع قيمة يوم التلف كان رادعاً عن السيرة بالردع عن منشئها. فلاحظ.

ص: 388

(389)

رجوع المغبون بعد الفسخ علي الغابن، أو علي الأجنبي، أو يتخير في الرجوع علي أحدهما وجوه. أقواها الأول (1). ويرجع الغابن علي الأجنبي (2).

---------------

(1) لا ينبغي الإشكال في جواز رجوع المغبون علي الغابن في المقام، لضمانه للعين بضمان المعاوضة. وضمان المتلف لها لايمنع من ذلك، إذ غاية الأمرأن يكون نظير تعاقب الأيدي.

وأما رجوعه علي المتلف فهو يبتني علي أن ذمة المتلف هل تنشغل بالعين، ودفعه للبدل لتفريغ ذمته منها، أو تنشغل بالبدل رأساً، كما تنشغل بثمنها لو اشتراها. فإن قلنا بالثاني تعين عدم رجوعه عليه، لعدم الموجب لملكه للبدل المذكور في ذمته، بل لا يملكه إلا الغابن الذي أتلف ماله عليه. وإن قلنا بالأول تعين جواز رجوعه عليه، لأن العين وإن كانت في ذمته قبل الفسخ للغابن، إلا أنها بعد الفسخ تصير للمغبون، ويكون المقام نظير تعاقب الأيدي.

اللهم إلا أن يقال: كون العين في ذمته للغابن ليس بمعني كونها باقية في ملكه، كما تبقي لو سرقها ولم تتلف، بل بمعني وجوب الخروج عن عبدتها له بسبب إتلافها عليه، وذلك لا يجري في حق المغبون بعد عدم ملكه لها حين الفسخ.

ولذا كان المرتكز عرفاً براءة ذمة المتلف بإبراء الغابن، ولا كذلك الحال في تعاقب الأيدي، حيث لا يكفي في براءة ذمة صاحب اليد المتأخرة إبراء صاحب اليد السابقة، بل لابد فيها من إبراء المالك أو دفع البدل له ولو من قبل أحدهم.

وبذلك يظهر أن أقوي الوجوه هو الأول، ثم الثالث. وأن الثاني أضعفها، حيث لا منشأ له مع ثبوت ضمان المعاوضة في حق الغابن. فلاحظ.

(2) أما مع رجوع المغبون علي الغابن فظاهر، إما لكونه متلفاً لماله، أو بملاك رجوع صاحب اليد السابقة إذا غرم علي صاحب اليد اللاحقة في تعاقب الأيدي. وأما مع عدم رجوع الغابن عليه فرجوعه علي المتلف يبتني علي بقاء ما في ذمة المتلف

ص: 389

(390)

وكذا الحكم لو تلف ما في يد المغبون، ففسخ بعد التلف (1). فإنه إن كان التلف بفعل الغابن لم يرجع علي المغبون بشيء، وإن كان بآفة سماوية أو بفعل المغبون أو بفعل أجنبي رجع علي المغبون بقيمة يوم التلف، ورجع علي الأجنبي إن كان هو المتلف. وحكم تلف الوصف بالموجب للأرش حكم تلف العين (2).

(الخامس): خيار التأخير (3).

---------------

علي ملك الغابن وعدم انتقاله بالفسخ إلي ملك المغبون، كما هو الظاهر، علي ما تقدم التعرض له آنفاً.

(1) لعدم الفرق بين الصورتين في منشأ الضمان، ومنشأ تحديد القيمة التي يلزم الخروج بدفعها في الخروج عن عهدة التالف. وبذلك يظهر جريان الوجوه السابقة هنا أيضاً.

(2) لظهور أن منشأ ضمان الوصف بالأرش في المقام هو منشأ ضمان العين بدفع البدل، لأنه من شؤونها، فهو نظير ضمان أجزائها. ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه. وإن كان اللازم مزيداً من التأمل في أصل المسألة بعد خلوها عن النصوص، وانحصار المرجع فيها بالمرتكزات العرفية، التي قد تختلط. ومن الله عز وجل نستمد العون والتسديد. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(3) بلا خلاف محقق معتد به أجده فيه. بل حكي الإجماع عليه مستفيضاً أو متواتراً. كذا في الجواهر. والأصل فيه النصوص. كصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)

قال: (قلت له: الرجل يشتري من الرجل المتاع، ثم يدعه عنده، فيقول: حتي آتيك بثمنه. قال: إن جاء فيما بينه وبين ثلاثة أيام، وإلا فلا بيع له)(1) ، وصحيح علي بن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 390

يقطين: (أنه سأل أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يبيع البيع ولا يقبضه صاحبه ولا يقبض الثمن. قال: فإن الأجل بينهما ثلاثة أيام، فإن قبض بيعه، وإلا فلا بيع بينهما)(1) ، وغيرها.

وقد يستشكل فيه بأن نفي البيع في النصوص ظاهر في بطلانه. وحمله علي نفي لزومه وثبوت الخيار فيه مخالف للظاهر، فلا مجال له إلا بقرينة، وهي مفقودة.

ومن ثم كان ظاهر ما عن الإسكافي من التعبير بلسان النصوص البناء علي البطلان. وقد يظهر من المبسوط، حيث قال: (وروي أصحابنا أنه إذا اشتري شيئاً بعينه بثمن معلوم، وقال للبايع: أجيئك بالثمن، ومضي، فإن جاء في هذه الثلاثة كان البيع له، وإن لم يجئ في هذه المدة بطل البيع)، ونحوه في المهذب. وعن الكفاية: ولعله الأقرب. وجزم به في الحدائق، عملاً بظاهر الأخبار المذكورة. ولم يستبعده المحقق الأردبيلي.

هذا وقد حاول صاحب الجواهر وشيخنا الأعظم (قدس سره) تتميم دلالة النصوص علي الخيار بفهم الأصحاب منها ذلك، وزاد في الجواهر أنه المناسب للإرفاق بالبايع. وإليه يرجع ما في مفتاح الكرامة من أن علة الحكم هو دفع الضرر عنه.

وما ذكروه بظاهره مندفع بما هو المعلوم أن فهم الأصحاب إنما ينفع إذا كشف عن أن ذلك هو المفهوم عرفاً من الكلام، أو عن اطلاعهم علي قرينة خفيت علينا. ولا طريق للجزم بأحد الأمرين ولاسيما بعدما سبق من المبسوط. كما أن المناسبة للإرفاق بالبايع ودفع الضرر عنه لا تكفي ما لم يظهر من النصوص التعليل بذلك، ولاشاهد فيها عليه.

وبذلك يظهر اندفاع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أنه لا أقل من الشك، فيرجع للاستصحاب، وما في الجواهر من التمسك بأصالة الصحة وعدم المبطل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الخيار حديث: 3.

ص: 391

لوضوح أنه مع الظهور لا أهمية للشك، ولا مجال للأصل.

ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وأشار إليه في الجواهر من اشتمال أكثر النصوص علي نفي البيع بالنسبة إلي المشتري، وذلك إنما يمكن في اللزوم حيث يمكن ثبوته للبايع دون المشتري، بخلاف الصحة.

للإشكال فيه بأن الاستدلال المذكور موقوف علي ظهور النصوص في المفهوم،

الراجع لثبوت البيع في حق البايع ومن المعلوم أنها لا تنهض بذلك، بل غايته الإشعار الذي لا ينهض بالحجية، بل يجب رفع اليد عنه بما في صحيح ابن يقطين المتقدم المتضمن لنفي البيع بينهما معاً.

ومن الغريب ما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من لزوم رفع اليد عن الصحيح المذكور بالنصوص الأخر الظاهرة في التفريق بينهما.

هذا وقال سيدنا المصنف (قدس سره) في حاشيته القديمة علي المكاسب: (فالعمدة في إثبات الحكم من هذه النصوص هو ما أشرنا إليه من أن قوله (عليه السلام): لا بيع له إن كان المراد منه السالبة بانتفاع الموضوع تم الإشكال. إلا أنه خلاف ظاهر القضية السلبية، إذ ظاهرها أنه لا بيع للمشتري، بمعني أنه ليس له السلطنة علي البيع المذكور بوجه. وذلك موجب لكونه تحت سلطنة البايع فقط، لأنه لولا هذه النصوص تحت سلطنتهما معاً، فإذا بطلت أحدهما [إحداهما. ظ] استقلت الأخري. ولازم ذلك اللزوم من طرف المشتري والجواز من طرف البايع. ومن ذلك يظهر الحال في قوله: لا بيع بينهما، فإنه لا مقتضي لحمله علي نفي الذات فتنتفي النسبة التي هي السالبة بنفي الموضوع، ليتم القول بالبطلان، بل هو محمول علي نفي النسبة فقط عن الذات، فيكون المراد أنه لا بيع مشترك بينهما، ولا ينفي اختصاصه بأحدهما، كما لا يخفي علي المتأمل).

وما ذكره (قدس سره) لا يناسب التركيب اللفظي للجملة، وإنما يتجه لو كان التعبير هكذا: فلا يكون البيع له، أو لا يكون البيع بينهما. ولكن مع ذلك فظهور الجملة المذكورة فيما ذكره (قدس سره) قريب جداً، لما أشار إليه في الجواهر، وأوضحه في مفتاح

ص: 392

الكرامة، من المقابلة في الشرطية بين المفهوم والمنطوق، لظهور أن المستفاد منها أن البايع لو جاء بالثمن قبل الثلاثة فالبيع لازم له، لا أنه صحيح في حقه في الجملة ولو بنحو الجواز. حيث يظهر من ذلك أن النصوص واردة لبيان معيار لزوم البيع للمشتري وعدمه، لا معيار صحة البيع في نفسه وبطلانه.

وكأنه لكون اللزوم الحقي من شؤون البيع ولوازمه الظاهرة ارتكازاً، بحيث ينصرف النفي والإثبات له. ومنه البيعة المبتنية علي كمال التوثق بين الطرفين.

وذلك هو المناسب للمرتكزات العرفية، بلحاظ أن قبض البايع للثمن من حقوقه، فيكون تحلفه منشأ لثبوت حق الخيار له في البيع، لتدارك ضرره، لا سبباً لبطلان البيع تعبداً. وقد يشعر بذلك صحيح زرارة من فرض ترك المشتري المبيع عند البايع حتي يأتيه بثمنه، حيث يظهر منه كون البايع بصدد قبض الثمن وكون المبيع وثيقة عنده، ويكون تأخير الثمن مخالفاً لرغبة البايع وحقه في التعجيل بقبضه للثمن. وقوله (عليه السلام) في صحيح ابن يقطين: (فإن الأجل بينهما ثلاثة أيام) حيث قد يظهر منه أن الأجل مستحق بينهما، وليس مجعولاً شرعاً عليهما تعبداً، شرطاً في بقاء صحة المعاملة.

ويؤكد ذلك أنه ورد التعبير بنظير ذلك فيما يفسد ليومه، مع ظهور نص آخر في ثبوت الخيار فيه، وعليه فتوي الأصحاب. مضافاً إلي أن للمتابعين ارتكازاً اشتراط تأجيل قبض الثمن أكثر من ثلاثة أيام، مع أنه لو كان القبض في الثلاثة من شروط صحة البيع كان الشرط المذكور مخالفاً للحكم الشرعي، ويحتاج تصحيحه لدليل تعبدي خاص. ولعل ذلك كله هو منشأ فهم الأصحاب الخيار من النصوص. وعليه يبتني ما تقدم من دعوي ورودها مورد الإرفاق بالبايع.

هذا مضافاً إلي أن شيوع الابتلاء بالمسألة يمنع عادة من خطأ المشهور فيها. ولاسيما مع مخالفة العامة في ذلك فيما حكاه غير واحد وحكمهم بلزوم البيع، فإن خروج المشهور عن حكمهم إلي حكم آخر مخالف للنصوص الواردة في المسألة من

ص: 393

(394) (394)

أبعد البعيد. بل قد يصلح ذلك بنفسه للكشف عن كون المراد بالنصوص ما فهموه منها، وإن كان فيما سبق كفاية.

وأما ما سبق من المبسوط والمهذب فمن القريب جداً أن يكون مرادهما بالبطلان هو البطلان في فرض عدم رضا البايع إعمالاً للخيار، كما يناسبه ذكر المبسوط لذلك في فصل بيع الخيار والعقود التي يدخلها الخيار ولا يدخلها، وذكر المهذب لذلك في ذيل أحكام الخيار وذكر الشيخ النصوص المذكورة في التهذيب في سياق نصوص الخيار، وتصريحه في الاستبصار بدلالتها علي الخيار، وفتواه بالخيار في النهاية والخلاف واستدلاله عليه في الأخير عليه بإجماع الفرقة وأخبارهم. وأما الإسكافي فحيث عبر بعبارة النصوص، وقد عرت ظهورها في الخيار، فلا مجال لنسبة الخلاف له.

هذا وقد يستدل علي الخيار بقاعدة نفي الضرر. لكن من الظاهر أن النصوص إن دلت علي الخيار فهي مغنية عن القاعدة. وإن دلت علي بطلان البيع فهي مقدمة عليها، لأنها أخص.

نعم لو فرض إجمال النصوص وترددها بين الوجهين فقد يستدل علي الخيار بوجوه:

الأول: الإجماع الذي تقدم استفاضة نقله أو تواتره. وفيه: أنه إذا لم ينهض

- بتفسير النصوص بالوجه الذي أشرنا إليه آنفاً - لا ينهض بنفسه بالحجية بعد ظهور استناد الأصحاب للنصوص المذكورة. ولاسيما بعدما سبق من المبسوط والتهذيب،

وبعد ظهور حال قدماء الأصحاب في الفتوي بمفاد النصوص التي يتداولونها بينهم، حيث لا طريق لتحديد فتواهم مع فرض إجمال النصوص، فضلاً عما إذا فرض ظهورها في البطلان.

الثاني: قاعدة نفي الضرر. قال في التذكرة: (لأن الصبر أبداً مضر بالبايع. وقد قال (عليه السلام): لا ضرر ولا ضرار. فوجب أن يضرب له أجل يتمكن فيه من التخلص من الضرر، فضرب له الثلاثة).

ص: 394

(395)

وفيه أولاً: أن المفروض عدم كون البيع ضررياً، وإلا لزم الخيار فيه من أول الأمر علي كلام تقدم في الاستدلال لخيار الغبن، وإنما حصل الضرر من تأخير المبيع عند البايع المستلزم لوجوب حفظه عليه، وضمانه له لو تلف، لأن كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه. ومن عدم انتفاعه بالثمن، لعدم قبضه له.

ومن الظاهر أن تأخير المبيع عند البايع كان برضاه، فهو مُقدِم علي الضرر المذكور في الجملة. ولو بلغ حداً خارجاً عما كان يتوقعه فلا مجال لإعمال القاعدة في لزوم البيع، إذ ليس مفادها تشريع أحكام يتدارك بها الضرر. بل رفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر، وهو في المقام وجوب حفظ المبيع، وضمانه لو تلف،

وليس بناؤهم علي الأول في سائر موارد الأمانات. بل يظهر من نصوص مجهول المالك ونحوها عدم ارتفاع الحكم المذكور. ووجوب حفظ المال لصاحبه علي كل حال. غاية الأمر في المقام وجوب مراجعته مع معرفته، ورفع الأمر للحاكم الشرعي مع امتناعه من أخذه كما لا مجال للثاني، لأنه في نفسه حكم ضرري، فدليله أخص من القاعدة فيقدم بإطلاقه عليها، من دون تنهض برفعه.

ومن ذلك يظهر الحال في قبض الثمن، حيث لا مجال لإعمال القاعدة في البيع من أجله، لما سبق من عدم ورودها لتشريع أحكام يتدارك بها الضرر. بل غاية الأمر الترافع للحاكم الشرعي مع تيسر الوصول للمشتري أو أخذ البيع مقاصة بشروطها.

وثانياً: أن ذلك لا يقتضي تحديد الخيار بالشروط المذكورة في كلمات الأصحاب، خصوصاً مضي ثلاثة أيام، بل وصول الأمر حد الضرر العرفي، كما لا يخفي.

الثالث: الاستصحاب. حيث يكون المتيقن من النصوص بطلان البيع بعد الأيام الثلاثة إذا فسخ المشتري، ويشك في بطلانه مع عدم فسخه، فتستصحب آثار البيع حينئذ، كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره)، وأشار إليه غيره ممن تمسك بالأصل في المقام.

ص: 395

(396)

ويتحقق فيما إذا باع سلعة ولم يقبض الثمن (1)

---------------

وفيه: أن استصحاب المذكور وإن جري في نفسه بدواً، إلا أنه أولاً: إنما يقتضي مجرد صحة البيع قبل الفسخ وبطلانه بعده، من دون أن يقتضي ثبوت حق الخيار.

وثانياً: أنه بعد فرض إجمال النصوص فالمرجع عموم نفوذ العقود والبيع والتجارة ونحوها، حيث يكون المتيقن في الخروج عنها حال ما بعد الفسخ دون ما قبله، ومع العموم المذكور لا حاجة للاستصحاب، بل تكون حاكمة عليه.

(1) من الظاهر أن البيع بطبعه عرفاً يقتضي التسليم والتسلم من الطرفين ما لم يشترط خلاف ذلك. ولازم ذلك ثبوت الخيار لكل منهما بتخلف الآخر عما ينبغي عليه من ذلك. إما لرجوع ذلك إلي الشرط الضمني، فيكون الخيار المذكور من صغريات خيار تخلف الشرط، أو لكون الخيار بنفسه ثابتاً، تبعاً للمرتكزات العقلائية، علي ما سبق الكلام فيه عند الاستدلال علي خيار الغبن.

ولعله علي ذلك يبتني ما ذكره الشيخ في النهاية في باب البيع بالنقد والنسيئة من أنه لو تعذر الثمن في وقته جاز للبايع استرجاع المبيع من دون نقصان، وما في المبسوط في فصل تفريق الصفقة من أن المشتري إذا كان معسراً كان للبايع الفسخ. وفي الدروس: (وفي بعض كلام الشيخ أن للبايع الفسخ متي تعذر الثمن. وفيه قوة). بل في الباب المذكور من المبسوط أنه لو كان الثمن غائباً وجب إحضاره فان تأخر كان للبايع فسخ البيع. ويمكن أن يستدل علي ذلك في الجملة بمعتبر أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) [أبي عبد الله]: (قال: إن بعت رجلاً علي شرط فإن أتاك بمالك، وإلا فالبيع لك)(1). فإنه يظهر من غير واحد الاستدلال به لشرط الخيار أو بيع الخيار، كما أشرنا إليه عند الكلام فيهما. وهو في غير محله، ضرورة أن الخيار فيهما إنما يكون بإرجاع البايع الثمن للمشتري، والمفروض في الحديث أن الخيار يكون بمجرد عدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب الخيار حديث: 2.

ص: 396

إتيان المشتري للبايع بماله. وذلك إنما يكون في شرط تأخير تسليم المشتري الثمن للبايع، فيدل الحديث علي أنه مع اشتراط تأجيل الثمن يثبت الخيار للبايع إذا تأخر المشتري عن الأجل.

وحينئذ نقول: من الظاهر أن شرط تأجيل الثمن لصالح المشتري، لا لصالح البايع، فهو راجع إلي أن للمشتري أن يؤخر الثمن إلي الأجل المحدد. ووجوب تعجيله عند حلول الأجل ليس مقتضي الشرط - نظير ما لو اشترط عليه البايع أن يخيط ثوبه

ليكون الخيار الذي تضمنه الحديث من أفراد تخلف الشرط المصرح به، بل لأنه مقتضي طبيعة البيع بعد فرض الخروج عنها في مدة الأجل. فيدل الحديث علي ثبوت الخيار بتخلف المشتري عما يقتضيه البيع بطبعه من التعجيل بتسليم الثمن، وينفع في المقام.

وكيف كان فقد خرجت عن ذلك في الجملة نصوص المقام، فاللازم النظر فيها، والاقتصار في الخروج عن ما سبق علي ما تنهض به مما هو مخالف له.

وهي صحيحا زرارة وعلي بن يقطين المتقدمان. ومعتبر إسحاق بن عمار عن عبد صالح: (قال من اشتري بيعاً فمضت ثلاثة أيام ولم يجيء فلا بيع له)(1) ، وخبر عبد الرحمن بن الحجاج قال: (اشتريت محملاً، فأعطيت بعض ثمنه وتركته عند صاحبه، ثم احتبست أياماً، ثم جئت إلي بايع المحمل لآخذه، فقال: قد بعته. فضحكت. ثم قلت: لا والله لا أدعك أو أقاضيك. فقال لي: ترضي بأبي بكر بن عياش ؟ قلت: نعم. فأتيته. فقصصنا عليه قصتنا. فقال أبو بكر: بقول من تريد أن أقضي بينكما، بقول صاحبك أو غيره ؟ قال: قلت: بقول صاحبي. قال: سمعته يقول: من اشتري شيئاً فجاء بالثمن ما بينه وبين ثلاثة أيام، وإلا فلا بيع له)(2).

ومقتضي إطلاق الأخير كون تمام موضوع التفصيل في الخيار وعدمه بين ما بعد الثلاثة أيام وما قبلها هو تأخير الثمن. لأن مورد قضاء ابن عياش وإن كان هو عدم قبض بعض الثمن مع ترك المبيع عند البايع، إلا أنه لا إشارة لشيء من ذلك

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الخيار حديث: 4، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الخيار حديث: 4، 2.

ص: 397

في حديثه عن الإمام (عليه السلام). لكن لا مجال للتعويل علي الحديث بعد ضعف سنده، لعدم صحة الطريق إلي ابن الحجاج، وعدم ثبوت وثاقة ابن عياش.

نعم يظهر مما تقدم من المبسوط والمهذب نظرها إليه. لكن لو تم عندهما سنده فلا وجه لاقتصارها علي مضمونه وإهمالهما لغيره ولاسيما صحيح علي بن يقطين.

كما أن معتبر إسحاق قد أنيط التفصيل المذكور فيه بمجيء المشتري وعدمه، من دون بيان الجهة التي يكون المجيء من أجلها وذلك موجب لإجماله. فلم يبق إلا الصحيحان المتقدمان.

وهما وإن اشتركا في فرض رضا البايع بتأخير الثمن في الجملة مع بقاء المبيع عنده، إلا أنهما يختلفان في أمرين:

الأول: أن مورد التفصيل في صحيح بن علي بن يقطين هو عدم قبض المشتري للمبيع. أما صحيح زرارة فقد تضمن ترك المشتري المبيع عند البايع بانتظار إحضار الثمن، ومن الظاهر أن ترك المشتري للمبيع عند البايع أعم من عدم قبضه له. وحينئذ يكون مقتضي إطلاقه ثبوت التفصيل المذكور ولو مع قبضه للمبيع وتركه له عند البايع وثيقة للثمن، أو أمانة لأن أخذه له بعد دفع الثمن أسهل عليه.

الثاني: أن معيار التفصيل في صحيح زرارة هو الإتيان بالثمن وعدمه دون أخذ المبيع وعدمه، لأن قوله (عليه السلام) في الجواب: (إن جاء...) حيث لا يراد به مطلق المجيء، بل ما يترتب عليه، فالظاهر منه المجيء بالثمن، لأنه المصرح به في السؤال. بل هو المصرح به في الجواب علي رواية الكافي، حيث قال فيه: (إن جاء بثمنه...). وإن لم يخل طريقه عن ضعف.

أما معيار التفصيل في صحيح علي بن يقطين فهو قبض المبيع وعدمه، بناء علي ما هو الظاهر من أن فاعل قبض في قوله (عليه السلام): (فإن قبض بيعه) ضمير يرجع إلي صاحبه، وهو المشتري، وأن البيع بمعني المبيع، كما هو وارد في الروايات، ويناسبه قوله في السؤال: (يبيع البيع ولا يقبضه صاحبه). وأما احتمال أن (بيعه) بالتشديد،

ص: 398

ويراد به البايع، ويكون الشرط هو قبضه الثمن، فهو لو أمكن لغوياً لا يناسب سياق الكلام، إذ بعد أن سبق في السؤال فرض عدم قبضه للثمن فالعدول في بيان ذلك عن عبارة السؤال إلي العبارة المذكورة تكلف يكاد يكون مستهجناً. ولو كان لاحتاج للتنبيه من نَقَلَة الحديث جيلاً بعد جيل، فإغفالهم ذلك شاهد بجري الجواب علي ما يناسب سياق السؤال، وهو ما ذكرنا.

هذا والصحيحان المذكوران وإن اختلفا في حدود الخيار، إلا أن الظاهر عدم تعدد الخيار في موردهما، ليقتصر في كل خيار علي موضوعه الذي تضمنه الصحيح الوارد فيه، من دون ملزم بالجمع بين الصحيحين، بل هما يشيران إلي خيار واحد في المقام، كما فهمه الأصحاب. إذ من البعيد جداً تعدد الخيار وانفراد كل منهما ببيان أحد الخيارين وإهمال الآخر مع تحقق موضوعه في مورده. ومن هنا لابد من الجمع بين الصحيحين في تحديد الخيار وتحديد مورد التفصيل المذكور ومعياره، حسبما يقتضيه الجمع العرفي بينهما.

والظاهر العمل في موضوع التفصيل بين الخيار وعدمه علي صحيح زرارة، فيكون موضوعه هو ترك المبيع عند البايع سواء قبضه المشتري أم لا. ولا ينافيه صحيح علي بن يقطين، لأن عدم قبض المشتري للمبيع لم يذكر فيه قيداً في كلام الإمام (عليه السلام)،

وإنما ذكر في كلام السائل، وهو لا ينهض بالتقييد. وبذلك يظهر الإشكال فيما يظهر من المشهور من اعتبار عدم قبض المشتري للمبيع.

نعم عبر بتركه عند البايع في المراسم. بل قد يظهر من النهاية، فإنه وإن عبر بعدم قبض المبيع، إلا أنه فصل بعد ذلك بين قبضه وعدمه، حيث لا يبعد أن يكون ذلك منه قرينة علي أن مراده بعدم القبض في صدر كلامه عدم أخذ المشتري للمبيع.

قال (قدس سره): (وإذا باع الإنسان شيئاً ولم يقبض المتاع ولا قبض الثمن، كان العقد موقوفا إلي ثلاثة أيام. فإن جاء المبتاع في مدة ثلاثة أيام كان البيع له، وإن مضي ثلاثة أيام كان البايع أولي بالمتاع. فإن هلك المتاع في هذه الثلاثة أيام ولم يكن قبضه إياه كان

ص: 399

من مال البايع دون مال المبتاع. وإن كان قبضه إياه ثم هلك في مدة الثلاثة أيام كان من مال المبتاع دون البايع. وإن هلك بعد الثلاثة أيام كان من مال البايع علي كل حال، لأن الخيار له بعد انقضاء الثلاثة أيام). وقد يحمل علي ذلك ما في الشرايع من التعبير بعدم تسليم المبيع.

وأما معيار التفصيل المذكور فقد سبق اختلاف الصحيحين فيه، حيث جعل في صحيح زرارة إتيان المشتري بالثمن، وفي صحيح ابن يقطين قبضه للمبيع.

وقد يجمع بينهما (تارة): بالاكتفاء في لزوم البيع بأحد الأمرين من قبض المشتري للمبيع واقباضه للثمن، كما يظهر من الوسيلة. (وأخري): بالاكتفاء في الخيار بأحد الأمرين،

نظير ما يذكر فيما لو تعدد الشرط واتحد الجزاء، حيث وقع الخلاف بينهم في الجمع بين الشرطيتين بمفاد الواو أو بمفاد (أو)، كما هو الظاهر.

لكن الظاهر اختصاص ذلك بما إذا لم يصرح في كلا الشرطين بمفهومها، أما مع التصريح المذكور - كما في المقام - فلا مجال لكلا الوجهين، لقوة ظهور كل من الشرطيتين في إناطة الجزاء بالشرط الذي تضمنته وجوداً وعدماً. ومن هنا كان الأقرب في المقام هو إلغاء خصوصية كل من الشرطين، بلحاظ وجود جهة جامعة بينهما مسببة عنهما عرفاً، وهي حلّ المشكلة التي سببها المشتري للبايع والتي سببت الإرفاق به يجعل الخيار له.

وبعبارة أخري: النصوص واردة في حالة شائعة الحصول يتعرض البايع فيها لمشكلة غير متوقعة، نتيجة تساهله مع المشتري وتسامحه معه. وقد تضمنت وضع حدّ لمشكلته المذكورة بجعل الخيار إذا لم تحل تلك المشكلة.

وبذلك يكون لزوم البيع منوطاً وجوداً وعدماً بمراجعة المشتري للبايع، وحله لتلك المشكلة، إما بدفعه الثمن وأخذه للمبيع، أو دفعه للثمن وإقناعه ببقاء المبيع عنده، أو قبضه للمبيع وإقناعه بتأجيل الثمن أو إبرائه منه أو نحو ذلك. ول

ص: 400

(401)

يكفي دفعه للثمن من دون مراجعته في المبيع، ولا أخذه للمبيع من دون مراجعته في الثمن.

ولعل ذلك هو المنصرف من إطلاق المجيء في معتبر إسحاق بن عمار. ولا أقل من كونه المفهوم منه عرفاً بعد ملاحظة الصحيحين.

نعم لو كان المشتري قد قبض المبيع وتركه عند البايع ففي توقف لزوم البيع علي مراجعته في المبيع إشكال، بل منع، بل يكفي مراجعته في الثمن. لخروجه عن مفاد الصحيحين، لقصور صحيح زرارة عن إثبات الخيار بعد إناطته فيه بعدم قبض الثمن، وقصور صحيح علي بن يقطين عنه بعد كون موضوع الخيار فيه عدم قبض المبيع.

وبذلك يكون المتيقن من الصحيحين حلّ مشكلة ضمان البايع تلف المبيع وتأخير الثمن، دون مشكلة حفظ المبيع للمشتري في فرض استئمانه عليه بعد قبضه.

هذا وما ذكرنا في معيار التفصيل بين اللزوم وعدمه هو الظاهر في الجملة من جامع الشرايع حيث أطلق القبض من دون قصر له علي الثمن. وكذا ممن أطلق عدم مجيء المشتري، كما في النهاية - فيما تقدم من كلامه - والمراسم والسرائر. بل قد يظهر ممن لم يذكر أحد الأمرين من مجيئه بالثمن وقبضه للمبيع، وإنما اقتصر علي أن البيع لازم ثلاثة أيام، ثم يثبت الخيار للبايع، كما في الغنية والنافع.

وبذلك يظهر الإشكال في اقتصار كثير منهم علي الإتيان بالثمن وعدمه. حيث لا وجه له بعد ما سبق في صحيح علي بن يقطين من إناطة لزوم البيع وعدمه بقبض المشتري للبيع وعدمه، وما سبق منا في وجه الجمع بين الصحيحين. فلاحظ والله سبحانه وتعالي العالم.

بقي في المقام أمور:

الأول: أن ثبوت الخيار للبايع يبتني ارتكازاً علي الإرفاق به، ليتخلص من

ص: 401

(402)

مشكلته التي سببها له المشتري. وذلك يوجب انصراف إطلاق صحيح علي بن يقطين عما إذا كان عدم التقابض مستنداً للبايع نفسه، لامتناعه منه عصياناً أو تعذره عليه لسبب طارئ، كما ذكر ذلك في الجملة شيخنا الأعظم (قدس سره). بل ظاهر قوله (عليه السلام) في صحيح ابن يقطين: (فإن الأجل بينهما ثلاثة أيام، فإن قبض بيعه، وإلا فلا بيع له) أن البايع هو الذي يؤجل المشتري وينتظر قبضه للمبيع، وذلك يناسب فرض استناد القبض وعدمه للمشتري، دون البايع.

أما صحيح زرارة فالأمر فيه أظهر، لصراحته في استناد التأخير للمشتري، وأن المعيار في الخيار وعدمه علي تماديه فيه بعد الثلاثة ومبادرته لإقباض الثمن قبلها. ومثله في ذلك معتبر إسحاق بن عمار وخبر عبد الرحمن بن الحجاج.

وبذلك يظهر قصور النصوص عن صورة امتناع البايع من القبض أو الإقباض حتي بناء علي ظهورها في بطلان البيع. نعم لو انحصر الوجه في قصورها بقرينة الإرفاق فلا موضوع لها بناء علي البطلان.

الثاني: حيث كان مقتضي الجمع بين الصحيحين كون ذكر القبض من أجل حلّ مشكلة البايع التي سببها له المشتري، ولذا سبق الاكتفاء باقتناع البايع بعدم أحد القبضين، فالظاهر الاكتفاء بالقبض من دون إذن من يكون المقبوض عنده إذا حلت به المشكلة، كما لو كان العوضان أو أحدهما عيناً خارجية لا يحتاج تعيينها إلي إذن من هي عنده، بخلاف ما إذا كان الثمن كلياً، حيث لا يتعين المقبوض منه لأن يكون هو الثمن إلا بإذن المشتري. وكذا الحال في المبيع بناء علي عمومه في المقام للكلي، علي ما يأتي الكلام فيه في المسألة التاسعة والثلاثين إن شاء الله تعالي. هذا كله إذا لم يتقابضا من أول الأمر، ثم حصل القبض من دون إذن. أما إذا حصل القبض من أول الأمر لأحد العوضين من دون إذن، فإن كان مع دفع العوض الآخر تمت المعاملة، ولا موضوع للخيار. وإن كان من دون دفع العوض الآخر فالظاهر خروجه عن مورد النصوص والرجوع فيه للقاعدة، نظير ما يأتي.

ص: 402

(403) (403)

الثالث: حيث سبق أن مقتضي القاعدة هو الخيار مع عدم التسليم والتسلم، وأن المخرج عنها نصوص المقام فاللازم البناء علي الخيار في كل مورد تقصر عنه النصوص المذكورة بلا حاجة إلي مضي ثلاثة أيام. كما لو قبض المشتري المبيع ولم يدفع الثمن، بحيث لم يرض البايع بتأخير دفع الثمن أصلاً. نعم مقتضي إطلاق خبر عبد الرحمن بن الحجاج الانتظار ثلاثة أيام. لكن سبق عدم نهوضه بالاستدلال.

أما لو لم يقبض المشتري المبيع أيضاً لكن لم يرض البايع بالتأخير رأساً فالظاهر قصور صحيح زرارة عنه، لأن المنصرف منه رضا البايع بتأخير الثمن ولو من أجل التوثق له بترك المبيع عنده، كما هو شايع الحصول بين المتبايعين، ولو لم يرض البايع بذلك كان المناسب التنبيه لذلك في السؤال، كما لعله ظاهر.

بل لا يبعد انصراف صحيح علي بن يقطين لذلك أيضاً، إذ لو ابتني عدم القبض رأساً علي إرغام البايع وعدم رضاه كان المناسب جداً التنبيه له، لأنه أدخل ارتكازاً في تزلزل البيع أو بطلانه. كما أنه لو رضي البايع بعد البيع بالتأخير إلي أمد معين فالظاهر قصور النصوص عنه أيضاً، لأن عدم التنبيه في السؤال لذلك ظاهر في عدمه، وأن موضوع السؤال هو الخروج عن مقتضي البيع بالتأخير من قبل المشتري، لا الخروج عما اتفقا عليه من أمد التأخير.

الرابع: أطلق الأصحاب تحديد خيار التأخير بثلاثة أيام. وفي المختلف عن المقنع أن خيار التأخير في الجارية إلي شهر. ولم نعثر عليه في المقنع، كما صرح بعدم العثور عليه غير واحد، وفي مفتاح الكرامة: (ولم أجده فيما عندنا من نسخه). نعم في صحيح علي بن يقطين: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل اشتري جارية، وقال: أجيئك بالثمن. فقال: إن جاء فيما بينه وبين شهر، وإلا فلا بيع له)(1). ومقتضي إطلاقه ثبوت الأجل المذكور للخيار في الجارية حتي مع قبض المبيع، ونسب في الوسائل للصدوق روايته بسند آخر عن أبي عبد الله (عليه السلام).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الخيار حديث: 6.

ص: 403

ولم يسلم المبيع (1). فإنه يلزم البيع ثلاثة أيام، فإن جاء المشتري بالثمن فهو أحق بالسلعة، وإلا فللبايع فسخ البيع (2). ولو تلفت السلعة كانت من مال البايع (3)، سواء أكان التلف في الثلاثة (4)

---------------

لكن من القريب أن يكون ذلك من كلام الصدوق نفسه بعد رواية له بمضمون آخر بالسند المذكور، كما فهمه منه في الحدائق و الحدائق ومفتاح الكرامة وغيرهما. فيكون ذلك فتوي منه (قدس سره) بمضمون صحيح ابن يقطين، وعملاً منه به. كما يظهر من الدروس والحدائق ومفتاح الكرامة.

كما أنه ذكر في الاستبصار أن حديث ابن يقطين إما أن يحمل علي استحباب ذلك للبايع، أو علي اختصاص ذلك بالجواري، ونسب ذلك للرواية في جامع الشرايع.

وفي كفاية ذلك في العمل بالصحيح بعد ظهور إعراض الأصحاب عنه إشكال ولعله لذا ذكر في الدروس أن الرواية نادرة. وأما ما في المختلف من الإشكال في الحديث بالمنع من صحة السند فلم يتضح وجهه.

(1) يعني: لم يسلمه أصلاً، بحيث لا يتحقق القبض المسقط للضمان، كما يظهر من تتمة كلامه (قدس سره). لكن سبق أنه يكفي عدم أخذ المشتري للمبيع وتركه عند البايع ولو بعد قبضه له.

(2) مما سبق يظهر أن المعيار في لزوم البيع وعدمه تصفية الأمر مع البايع في أمر المبيع والثمن معاً.

(3) يعني: في مفروض كلامه (قدس سره) وهو عدم قبض المشتري له أما لو قبضه وتركه عنده فلا ضمان.

(4) كما في النهاية والسرائر وجامع الشرايع والنافع ونكت الشرايع والعلامة في جملة من كتبه والدروس وغيرها. ونسبه في الدروس ومحكي غيره للأكثر، وفي جامع المقاصد و عن غاية المراد أنه المشهور. والوجه فيه ما يأتي في أواخر الفصل

ص: 404

(405)

أم بعدها (1)، حال ثبوت الخيار وبعد سقوطه (2).

---------------

السابع من أن تلف المبيع قبل قبض المشتري له من مال البايع. وبه يخرج عما تقتضيه القاعدة من كونه من مال مالكه، وهو المشتري.

وفي المقنعة والانتصار والخلاف والغنية والمراسم وعن غيرها أنه من مال المشتري. وظاهر الانتصار والخلاف وصريح الغنية الإجماع عليه. وعلله في المقنعة بوقوع العقد بينهما عن تراض، وزاد في التنقيح و المسالك: (والتأخير لمصلحته).

لكن الإجماع المدعي لا ينهض بالخروج عما دل علي أن التلف قبل القبض من مال البايع. ولاسيما بعد خلاف من عرفت. وما ذكره في المقنعة لا يزيد علي بيان مقتضي القاعدة الأولية، التي يجب الخروج عنها بذلك. وما في التنقيح و المسالك استحسان محض لا ينهض دليلاً في نفسه، فضلاً عن أن يخرج به عما سبق.

هذا وقد صرح غير واحد بكفاية تمكين البايع المشتري من قبض المبيع في سقوط ضمان تلف المبيع عن البايع وتحمل المشتري له في المقام. وهو يبتني علي إلحاق التمكين من المبيع بقبضه في سقوط ضمانه عن البايع، و يأتي الكلام في ذلك في أواخر الفصل السابع إن شاء الله تعالي.

(1) إجماعاً ادعاه غير واحد، وفي الرياض والجواهر أنه بلغ حدّ الاستفاضة أو التواتر. والوجه فيه ما سبق من أن التلف قبل القبض من مال البايع.

(2) أشار بذلك إلي أنه لا مجال لتوهم عموم قاعدة أن التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له لخيار التأخير، المستلزم لكون تلفه في المقام في زمن الخيار من المشتري. لما يأتي في الفصل الخامس من اختصاص ذلك ببعض الخيارات، وليس منها المقام.

هذا و لو فرض قبض المشتري له فالمتعين كون تلفه من ماله حتي بعد الثلاثة و ثبوت الخيار للبايع. إذا لم يعمل خياره بالفسخ.

خلافاً لما سبق من النهاية من أنه يكون من مال البايع، لأن الخيار له. حيث

ص: 405

(مسألة 36): الظاهر أن قبض بعض الثمن كلا قبض. وكذا قبض بعض المبيع (1).

---------------

يظهر منه، أن ثبوت الخيار له سبب لثبوت الضمان عليه.

إذ لم يتضح المنشأ لذلك بعد أن كان مقتضي القاعدة أن تلف الشيء من مال صاحبه، كما نبه لذلك المحقق في نكت النهاية. بل أشتهر بينهم أن في التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له، وإن كان الظاهر اختصاصه ببعض الخيارات، وعدم شموله للمقام، كما سبق.

اللهم إلا أن يكون مراد الشيخ (قدس سره) صورة إعمال الخيار وفسخ البيع، فيتجه حينئذ تلفه من ماله، لأنه ملكه.

(1) كما صرح به غير واحد، وفي مفتاح الكرامة: (بلا خلاف فيما أجد)، وفي الجواهر: (بلا خلاف). والذي ينبغي أن يقال: إن أريد بذلك قبض البعض دون البعض من أول الأمر فالظاهر خروجه عن موضوع التفصيل المذكور في الصحيحين. ولا أقل من خروجه عن المتيقن منهما. فإن كان التأخير من دون رضا البايع أصلاً دخل فيما سبق في الأمر الثالث. وإن كان برضاه في الجملة فمع عدم الزيادة عما هو المتوقع له حسبما يظهر من إذنه للمشتري في التأخير يتعين عدم الخيار له. أما مع الزيادة عنه فالقاعدة وإن كانت تقتضي ثبوت الخيار له، إلا أنه يشكل ثبوت الخيار له إذا كانت المدة دون الثلاثة أيام، لقرب استفادة اللزوم حينئذ من صحيح زرارة بالأولوية العرفية.

وإن أريد بذلك عدم قبض شيء من العوضين من أول الأمر بنحو يدخل في موضوع التفصيل، ثم إقباض البعض دون البعض فالظاهر عدم الاجتزاء بذلك، وثبوت الخيار بعد الثلاثة، لظهور الشرطية الأولي في النصوص في أن موضوعها هو قبض تمام أحد العوضين، فيكون نقيضها الذي هو موضوع الشرطية الثانية المتضمنة

ص: 406

(407)

وإن كان فيه وجوه (1).

(مسألة 37): المراد بالثلاثة أيام الأيام البيض. ويدخل فيه الليلتان المتوسطتان، دون غيرهما. ويجزي في اليوم الملفق، كما تقدم في مدة خيار الحيوان (2).

(مسألة 38): يشترط في ثبوت الخيار عدم اشتراط تأخير تسليم أحد العوضين (3)، وإلا فلا خيار.

---------------

للخيار هو عدم قبض تمامه ولو مع قبض بعضه. وعليه يبتني فهم ابن عياش من كلام الإمام (ع) وقضائه في قضية المحمل التي تضمنها خبر ابن الحجاج المتقدم.

(1) قال شيخنا الأعظم: (وفي كون قبض بعض المبيع كلا قبض، لظاهر الأخبار، أو كالقبض، لدعوي انصرافها إلي صورة عدم قبض شيء منه، أو تبعيض الخيار بالنسبة إلي المقبوض وغيره استناداً - مع تسليم الانصراف المذكور - إلي تحقق الضرر بالنسبة إلي غير المقبوض، وجوه). ولم يشر (قدس سره) إلي شيء من هذه الوجوه في قبض بعض الثمن، بل جزم بكونه كلا قبض لظاهر الأخبار. وقد عرفت حقيقة الحال.

(2) لعين ماتقدم هناك، فإنهما من باب واحد.

(3) فقد اشترط عدم تأجيل تسليم الثمن جماعة كثيرون، وصرح بعضهم بعدم اشتراط تأجيل تسليم المبيع أيضاً. وظاهر الجميع المفروغية عن ذلك. ولعله لذا ادعي الإجماع عليه غير واحد. وإلا فظاهر معاقد الإجماعات المستفيضة هو ثبوت خيار التأخير مع عدم الشرط المذكور، لا اختصاصه به.

وكيف كان فالوجه فيه هو انصراف النصوص إلي خروج التأخير عن مقتضي البيع الحاصل، ولا يشمل ما إذا كان التأخير مقتضي البيع المذكور تبعاً للشرط المأخوذ فيه.

ص: 407

(مسألة 39): لا إشكال في ثبوت الخيار المذكور فيما لو كان المبيع شخصياً (1).

---------------

مضافاً في الثمن لما هو المعلوم من النص والفتوي من جواز البيع نسيئة، وفي المبيع - بناء علي شمول نصوص خيار التأخير للمبيع الكلي - لما هو المعلوم من النص والفتوي أيضاً من جواز بيع السلف.

وبذلك يتعين ثبوت الخيار بمضي المدة المشروطة، من دون أن يناط بالثلاثة، لا من حين البيع، ولا من حين مضي المدة المشروطة، كما هو الحال في سائر موارد تخلف الشرط. مضافاً في الثمن إلي معتبر أبي الجارود عن أبي جعفر [أبي عبد الله]: (قال: إن بعت رجلا علي شرط فإن أتاك بمالك، وإلا فالبيع لك)(1) ، بناء علي ما سبق في أوائل الكلام في خيار الشرط وفي بيع الخيار من وروده فيما نحن فيه، لا في الموردين المذكورين. وقد تقدم في أول الكلام في موضوع خيار التأخير ما ينفع في المقام.

هذا ولو اشترط تأخير تسليم بعض أحد العوضين فهو أيضاً خارج عن نصوص المقام. ولا إشكال معه في ثبوت الخيار بتأخير تسليم ما اشترط تأخيره عن وقته.

وأما مع عدم المبادرة بتسليم القسم الآخر، فالظاهر جريان ما سبق في قبض البعض من التفصيل بين كون التأخير برضا البايع في الجملة، وما إذا لم يكن برضاه رأساً، فيثبت الخيار في الثاني رأساً، ويتوقف ثبوت الخيار في الأول علي مضي المدة التي ظهر منه الرضا بالتأخير إليها، فإن نقصت عن ثلاثة أيام انتظر ثلاثة أيام، لعين ما سبق هناك من الوجه.

(1) كما هو المتيقن من فتاواهم ومعاقد أجماعاتهم. وهو مورد صحيح زرارة وخبر عبد الرحمن بن الحجاج، والمتيقن من صحيح علي بن يقطين ومعتبر إسحاق بن عمار.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب الخيار حديث: 2.

ص: 408

(409)

وفي ثبوته إذا كان في الذمة قولان (1). و الأحوط وجوباً عدم الفسخ إل

---------------

(1) فقد يستفاد من إطلاق جماعة ثبوت الخيار فيه. بل نسب لجواهر القاضي التصريح بثبوت الخيار فيه، لأنه جعل موضوع المسألة ما إذا باع شيئاً غير معين بثمن معين وادعي الإجماع علي الحكم. لكن من القريب زيادة كلمة: (غير)، كما استظهره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره، لظهوره في تحديد موضوع الخيار، ولا يحتمل اشتراط عدم التعيين فيه، بحيث لا يصح في المعين. بل ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أن ما وجده من نسخة الجواهر خال عن كلمة (غير).

وكيف كان فقد يظهر الاختصاص بالشخصي مما في الكلام غير واحد من فرض شراء شيء بعينه أو معيناً، أو فرض كون المبيع مرئياً، أو تركه عند البايع، أو تفريع حكم تلف المبيع، أو التفريق بين ما يفسد ليومه وغيره، ونحو ذلك مما يظهر منه كون مورد الخيار هو العين الشخصية دون الذمية الكلية. ومن ثم يشكل استفادة العموم من إطلاقهم. بل صرح بالاختصاص بالشخصي في محكي المهذب البارع وغاية المرام.

هذا والظاهر اختصاص صحيح زرارة بالشخصي، حيث فرض فيه ترك المبيع عند البايع، المناسب لكونه في حوزته، وتحت سيطرته، وذلك لا يكون في الكلي، بل غاية ما يمكن فيه عدم أخذه من البايع بأخذ فرد منه.

وأما حديثا علي بن يقطين وإسحاق بن عمار فقد قرب شيخنا الأعظم (قدس سره) قصورهما عن الكلي، بسبب اشتمالهما علي لفظ البيع المراد به المبيع، حيث لا يصدق ذلك علي الشيء قبل البيع إلا بلحاظ عرضه للبيع، والذي لا يكون إلا في الشخصي.

لكنه غير ظاهر، لعدم وضوح أبتناء إطلاق البيع علي المبيع في المقام علي صدق المبيع عليه قبل البيع بلحاظ عرضه له، بل هو يبتني علي تكلف مغفول عنه، ولذا لا يصحح ذلك إطلاق المبيع علي ما يعرض للبيع قبل أن يباع، بل الظاهر أبتناء الإطلاق

ص: 409

المذكور في ذلك وفيما نحن فيه علي علاقة الأؤل و المشارفة، بلحاظ أنه بالبيع يصير مبيعاً، نظير قولنا: من قتل قتيلاً.

فالعمدة في وجه قصور الحديثين وغيرهما أن الظاهر انصراف إطلاق نسبة البيع والشراء للشيء في كونه شخصياً، بحيث يصدق عنوانه قبل البيع، كما أشار لذلك في الجملة شيخنا الأعظم وبعض الأعاظم (قدس سره). وذلك لا يكون في الكلي، بل هو أمر اعتباري، لا ينتزع عنوانه إلا بعد تعلق البيع به. والتعميم للكلي في كثير من الموارد إنما يكون بقرينة، خارجية أو بإلغاء خصوصية الشخصي عرفاً. ولا مجال لذلك في المقام بعد احتمال خصوصية الشخصي، بلحاظ مؤنة حفظه علي البايع، وتحمله لدركه إذا لم يقبض. ومن ثم يشكل البناء علي عموم موضوع الخيار للكلي في المقام.

نعم لو كان موضوعه مجرد عدم قبض الثمن - كما هو مقتضي خبر عبد الرحمن بن الحجاج - اتجه عمومه للكلي، ولو لإلغاء خصوصية الشخصي عرفاً في ذلك. لكن سبق المنع من ذلك.

هذا وقد ألحق شيخنا الأعظم (قدس سره) بالشخصي الكلي في المعين، كصاع من صبره. لكن حيث كان وجه الاختصاص بالشخصي هو اختصاص النصوص به، أو انصرافها له، فلا مجال لإلحاق الكلي في المعين به. نعم لو كان الوجه فيه هو لزوم الضرر علي البايع بحفظ المبيع للمشتري، وضمانه عليه لو تلف، اتجه إلحاقه به. إلا أنه يظهر ضعف الوجه المذكور ما سبق. ثم أن قصور نصوص المقام عن بيع الكلي في الذمة لا ينافي ثبوت الخيار بعد ثلاثة أيام. لما سبق من أن مقتضي البيع بطبعه التقابض، وأن الخروج عن مقتضاه موجب الخيار.

نعم قد يدعي أن مقتضي ذلك الخيار حتي قبل الثلاثة إذا زاد التأخير عما استفيد من البايع الإذن فيه. إلا أن يستفاد اللزوم فيه من نصوص المقام بإلغاء خصوصية مواردها، أو بالأولوية العرفية، كما هو غير بعيد. وحينئذٍ لايترتب علي اختصاص نصوص المقام بالمبيع الشخصي أثر عملي.

ص: 410

(411)

برضا الطرفين (1).

---------------

(1) يعني: بعد الثلاثة، لفرض احتمال قصور موضوع خيار التأخير عنه. لكن ذلك يبتني علي أن المرجع مع قصوره هو عموم لزوم العقد. أما بناء علي ما سبق منا من أن البيع بطبعه يقتضي التقابض، وأنه مع خروج أحد المتبايعين عن ذلك يثبت الخيار للآخر إلا مع رضاه بالتأخير، وأن نصوص خيار التأخير قد خرجت عن ذلك بالتحديد بثلاثة أيام، فالمتعين الرجوع إلي ما يفهم من إذن البايع بالتأخير.

فإن لم يفهم منه ما زاد علي الثلاثة فمقتضي الاحتياط المذكور هو توقف نفوذ الفسخ في الثلاثة علي رضا الطرفين. أما بعد الثلاثة فيستقل البايع بالفسخ، عملاً بالقاعدة بعد قصور ما تضمنته النصوص من اللزوم عن ذلك.

وإن فهم منه ما زاد عليها تعين عدم جواز الفسخ للبايع، لقصور حكم العقلاء بالخيار حينئذ. إلا أن يبلغه بعدوله قبل أن يترتب من المشتري علي إذن البايع بالتأخير ما يمنعه من المبادرة. أما نصوص المقام فهي قاصرة عن الفرض المذكور حتي في الشخصي، كما تقصر عما إذا لم يرض بالتأخير رأساً، علي ما سبق، وينحصر الأمر بالقاعدة.

بقي في المقام أمور:

الأول: أنه قد يشترط في هذا الخيار شرطان آخران غير ما تقدم.

أحدهما: أن لا يشترط البيعان لهما أو لأحدهما الخيار، كما في السرائر، أولا يكون لأحدهما خيار كما عن التحرير. ولو كان مراده ما يعم الخيار لهما معاً فالظاهر قصور مراده عن خيار المجلس - ولو يكون مبد الثلاثة أيام عنده من حين التفرق

لثبوته في البيع غالباً، فلو كان مانعاً لزم ندرة ثبوت خيار التأخير، وهو مما تأباه النصوص وكلمات الأصحاب.

وكيف كان فقد يستدل عليه بانصراف النصوص إلي ما إذا لم يكن التأخير

ص: 411

بحق، نظير ما تقدم في اشتراط تأخير التسليم. وحينئذ تقصر عن مورد الخيار، لما ذكره في التذكرة في أحكام الخيار من أنه لا يجب علي المتبايعين التسليم في زمن الخيار. الذي قد يستدل عليه بأن دليل الخيار مخصص لوجوب الوفاء بالعقد، وإذا لم يجب الوفاء بالعقد لم يجب القيام بما يقتضيه من التسليم.

وفيه مع اختصاصه بمن له الخيار، فهو لا ينفع إلا فيما إذا كان الخيار للمشتري في المقام -: أنه بعد فرض صحة العقد وترتب بمضمونه يتعين التسليم لملكية البايع للثمن، فلا يجوز حبسه عنه، و ملكية المشتري للمبيع، فلا يستحق علي البايع حفظه له. ولاسيما بناء علي ماسبق من أن التسليم والتسلم مقتضي الشرط الضمني في البيع، حيث يستحقهما عليه البايع بمقتضي الشرط المذكور بعد فرضه صحة البيع.

ومجرد ثبوت الخيار للمشتري لا ينافي ذلك. غاية الأمر أن له رفع منشأ الاستحقاق بفسخ البيع، أما مع عدم فسخه له، وثبوت الاستحقاق، فاللازم العمل عليه، ولا يكون التأخير بحق، لتقصر نصوص المقام عنه.

مضافاً إلي ما أورده غير واحد علي ما في التحرير من أن لازمه عدم ثبوت خيار التأخير في الحيوان، مع ظهور اتفاقهم علي ثبوته فيه، وإن وقع الكلام في أن مدة التأخير في الجارية شهر أو ثلاثة أيام، علي ما سبق.

هذا وقد قرب في الجواهر اشتراط عدم الخيار للبايع مستدلاً بالأصل. وقد يريد به أصالة لزوم العقد المستفاد من عمومات اللزوم، أو استصحاب أثر العقد وعدم ارتفاعه بالفسخ. وسبقه لذلك في مفتاح الكرامة. قال: (لأن خيار التأخير شرع لدفع ضرره، وقد اندفع بغيره. ولدلالة النصوص وفتاوي الأصحاب علي كون البيع لازماً قبل مضي الثلاثة، فينتفي الخيار فيها مطلقاً خيار شرط كان أو غيره. وليس المراد باللزوم نفي خصوص خيار التأخير، لأن التأخير سبب لثبوت أصل الخيار، والحكم لا يتقيد بالسبب).

وفيه: أنه لا مجال للأصل بأي معني أريد مع إطلاق نصوص المقام. علي أنه

ص: 412

(413)

سبق أن مقتضي الأصل الخيار للبايع بتخلف المشتري عن القبض والإقباض بالمقدار الذي لم يأذن به البايع.

وأما دفع الضرر فهو لم يؤخذ في الأدلة علة لثبوت الخيار، ليدور مداره وجوداً و عدماً، بل هو علي تقدير ملاحظته حكمة غير مطردة، ولذا يثبت الخيار مع عدم لزوم الضرر علي البايع من التأخير. مع أن الخيار المفروض ثبوته للبايع لا يمنع من حصول الضرر من التأخير، بل هو سبب للتخلص منه، ولا محذور في تشريع خيارين يتلخص بهما من الضرر المفروض.

وأما ظهور النصوص والفتاوي في اللزوم قبل مضي الثلاثة فهو إنما يقتضي بدواً التنافي بين إطلاق نصوص المقام وإطلاق دليل الخيار المفروض للبايع. وليس تقديم إطلاق دليل الخيار المذكور بأولي من تقديم إطلاق نصوص المقام. بل الأولي عرفاً في رفع التنافي بين الإطلاقين هو الحمل علي اللزوم من حيثية التأخير، كما عليه العمل في سائر موارد الخيارات المتعددة.

مع أن المراد بخيار البايع المفروض إن كان هو الخيار قبل مضي الثلاثة فلا مجال للوجه الأول المتقدم من مفتاح الكرامة. لظهور أن اندفاع ضرر التأخير قبل الثلاثة بالخيار المفروض لا ينافي ثبوت الضرر بالتأخير بعد الثلاثة، واندفاعه بخيار التأخير. وإن كان هو الخيار بعد مضي الثلاثة فلا مجال للوجه الثاني، لظهور أن ثبوته لا ينافي اللزوم قبل الثلاثة.

هذا و قد احتمل في الدروس جريان خيار التأخير بعد الثلاثة من حين البيع إذا كان الخيار للمشتري وحده، وبعد الثلاثة من حين انتهاء زمان الخيار إذا كان الخيار لهما. ومما تقدم يظهر أن المتعين البناء علي الأول. وأما الثاني فهو خروج عن ظاهر النصوص، أو كالصريح منها من أن الثلاثة من حين البيع، والالتزام بخروج المورد عن موضوع النصوص أهون من ذلك. بل مما سبق يظهر أن اللازم البناء علي عموم النصوص له والعمل فيه بظاهرها من أن الثلاثة من حين البيع. غايته أنه قد

ص: 413

يلزم اجتماع خيارين للبايع، وليس هو محذوراً.

ثانيهما: تعدد المتعاقدين، لأن النص مختص بصورة التعدد. وفيه: أن النصوص إنما تضمنت تعدد البايع والمشتري اللذين وظيفتهما القبض والإقباض، وذلك يمكن فرضه مع وحدة الوكيل عنهما في إجراء الصيغة.

نعم قد لا يصدق مع إتحاد الوكيل عنهما في تولي المعاملة الاستقلال بها، وكذا الولي عليهما. وحينئذ إن كان العوضان بيده فلا موضوع للخيار، لتحقق القبض بمجرد إجراء عقد البيع. وإلا فالنصوص وإن قصرت عنه لفظاً، إلا أن إلغاء خصوصية موردها عرفاً من هذه الجهة قريب جداً، كما هو الحال في سائر أدلة أحكام البيع، ومنه ما يتعلق بما نحن فيه من تحمل البايع تلف المبيع قبل قبضه.

الثاني: هل تبدأ الثلاثة أيام من حين وقوع العقد، أو من حين التفرق ؟ نسب في مفتاح الكرامة لجماعة من الأعيان الثاني، لتعبيرهم بالتفرق والمضي ونحوهما حيث يناسب ذلك كونها هي الموضوع للتأجيل.

لكن كلام جملة منهم لا ينهض به، لأنهم عبروا بعدم القبض أيضاً، والقيض متفرع علي العقد. والإنصاف أن النظر في مجموع كلماتهم شاهد بعدم توجههم لذلك.

وكيف كان فظاهر صحيح علي بن يقطين ومعتبر إسحاق بن عمار وخبر عبد الرحمن بن الحجاج أن مبدأها البيع والشراء، لتفريع ضرب الأجل فيها عليهما.

وقد يظهر من صحيح زرارة أن مبدأها التفرق، لتفريع ضرب الأجل فيه علي قوله: (فيقول: حتي آتيك بثمنه).

لكن القول المذكور من المشتري قد يكون سابقاً علي التفرق مقارناً للشراء المفروض في كلام السائل. مع أنه يتعين تنزيله علي أن ضرب الأجل بلحاظ الشراء المفروض، جمعاً مع بقية النصوص التي يقوي ظهورها في ذلك، لعدم الإشارة فيه

ص: 414

(415) (415)

(مسألة 40): يختص هذا الخيار في البيع (1)، ولا يجري في غيره.

(مسألة 41): ما يفسده المبيت مثل بعض الخضر والبقول و اللحم في بعض الأوقات يثبت الخيار فيه عند دخول الليل (2). ويختص هذا الحكم

---------------

للتفرق. خصوصاً بعد أن كان الشراء هو منشأ استحقاق القبض والإقباض، اللذين يظهر من النصوص الاهتمام بتحديد أمدهما وحلّ المشكلة الحاصلة بتركهما.

نعم بناء علي ما سبق من مفتاح الكرامة من أن ظهور النصوص في لزوم البيع في مدة الثلاثة تلزم بقصورها عما لو كان هناك خيار للبايع فقد ذكر في مفتاح الكرامة أنه يتعين حمل الثلاثة في نصوص المقام علي ما بعد التفرق. لكن سبق ضعف المبني المذكور.

الثالث: صرح غير واحد أنه لو قبض الثمن فظهر مستحقاً فهو كما لو لم يقبضه، ولو كان بعضه مستحقاً فهو كما لو قبض البعض. ووجهه ظاهر، لعدم صلوح المستحق لأن يكون ثمناً. نعم لو أجاز صاحب الحق القبض المذكور قبل فسخ البيع تعين للثمينة من حين القبض، بناء علي ما هو الظاهر من الكشف، ومن حين الإجازة، بناء علي النقل. وحينئذ تترتب أحكامه.

أما لو كان الثمن معيباً فالظاهر صحة القبض وترتب أثره، كما صرح به غير واحد أيضاً. لصدق عنوان الثمن - من الدرهم والدينار ونحوهما - عليه. وجواز امتناعه عن قبضه ومطالبته بتبديله بعد قبضه ليس لعدم صدق الثمن عليه، بل لبناء العقلاء علي ذلك، أو لكون الصحة شرطاً ضمنياً فيه. فلاحظ.

(1) وفي مفتاح الكرامة أنه قضية كلام الأصحاب. بل الظاهر المفروغية عن ذلك. لاختصاص النصوص بالبيع. والمرجع في غيره القواعد التي قد تقتضي اللزوم وقد تقتضي الخيار من دون تحديد بثلاثة أيام، علي اختلاف الموارد.

(2) هذا الخيار في الجملة معروف عند الأصحاب، وفي كشف الرموز أنه ل

ص: 415

يعرف فيه خلافاً، وعن المهذب البارع وغاية المرام والمقتصر أن الأصحاب قد عملوا بالرواية التي تضمنته، وادعي في الغنية الإجماع عليه.

والعمدة فيه صحيح بن يعقوب بن يزيد عن محمد أبي حمزة أو غيره عمن ذكره عن أبي عبد الله و [أو] أبي الحسن (عليه السلام): (في الرجل يشتري الشيء الذي يفسد من يومه، ويتركه حتي يأتيه بالثمن. قال: إن جاء فيما بينه وبين الليل بالثمن، وإلا فلا بيع له)(1).

وذكر في الوسائل رواية الصدوق بسنده عن ابن فضال عن ابن رباط عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (العهدة فيما يفسد من يومه مثل البقول والبطيخ والفواكه يوم إلي الليل)(2). لكن الظاهر أنه من كلام الصدوق (قدس سره) نفسه بعد رواية بالسند المذكور، نظير ما تقدم عند الكلام في استثناء الجارية من عموم خيار التأخير.

فالعمدة الحديث الأول المنجبر ضعفه بظهور عمل الأصحاب به، لشيوع الفتوي منهم بالخيار المذكور، وانحصار الدليل عليه بهذا الحديث.

ومنه يظهر اختصاص هذا الخيار بصورة عدم قبض الثمن، وعموم ترك المبيع فيه عند البايع لصورة قبض المشتري له، نظير ما تقدم في صحيح زرارة من نصوص خيار التأخير.

هذا وقد حاول بعض مشايخنا (قدس سره) - بالنظر إلي مبناه من عدم انجبار ضعف السند بعمل الأصحاب - توجيه الخيار المذكور بالقاعدة، لما سبق من أن البيع بطبعه يقتضي التسليم والتسلم، فعدم حصولهما من المشتري يوجب الخيار للبايع، إلا إذا كان التأخير بإذنه، وإذنه في المقام لا تشمل صورة تعرض المبيع للتلف، فيتعين ثبوت الخيار له.

لكن ذلك وإن كان متيناً في نفسه، إلا أنه لا يقتضي تحديد الخيار بدخول الليل،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 11 من أبواب الخيار حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 11 من أبواب الخيار حديث: 1، 2.

ص: 416

بل بخصوص مضي المدة التي يستفاد من البايع الترخيص في التأخير لها، وكثيراً ما تكون قبل دخول الليل. كما قد تكون بعده ولو لجهل البايع بحال المبيع.

ومن هنا فالظاهر انحصار مدرك الخيار بحدوده المذكورة في كلام الأصحاب بالحديث المذكور. وأما الاستدلال عليه بقاعدة نفي الضرر فيظهر ضعفه مما سبق في الاستدلال بها علي خيار التأخير.

هذا ولو حمل اليوم في الحديث المذكور وعبارات الأصحاب (رضوان الله تعالي عليهم) علي خصوص النهار - كما هو معناه لغة - لم يكن في الخيار فائدة للبايع، لفرض فساد المبيع. ولعله لذا جعل في الدروس وجامع المقاصد موضوع هذا الخيار ما يفسده المبيت. وكأنه لحملهما اليوم في الحديث المتقدم علي ما يعم الليل، لشيوع ذلك في استعمالات العرف، فيتعين الحمل عليه بقرينة ما سبق، الراجع لمناسبة الحكم والموضوع.

هذا وقد قال في التنقيح: (والتحقيق أن الفساد ليومه ليس ضابطاً، بل إلي أن يشرف علي الهلاك). لكن دليله علي الخيار إن كان هو الحديث المتقدم فهو لا يناسب ذلك. وإن كان هو دليل نفي الضرر فقد سبق الإشكال فيه.

علي انه كما يمكن اندفاع الضرر بالخيار يمكن اندفاعه بولاية البايع عند إشراف المبيع علي التلف علي بيع المبيع، أو تقبله لنفسه بقيمة المثل، واستخراج الثمن الذي يستحقه، من الثمن الثاني، فإن نقص عما يستحقه طالب المشتري بباقيه، وإن زاد عليه حفظ الزائد له.

بل لا يبعد البناء علي الولاية المذكورة من باب الحسبة في نظائر المقام، كالوديعة واللقطة ونحوهما. و يناسبه موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة، كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يقوم ما فيها ثم يؤكل، لأنه يفسد وليس له بقاء. فإن جاء طالبها غرموا له الثمن. فقيل يا أمير المؤمنين (عليه السلام):

ص: 417

لا يدري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي. فقال: هم في سعة حتي يعلموا)(1).

بل مقتضي التعليل فيه بأنه يفسد وليس له بقاء التعدي عن مورده لنظائره، ومنه المقام، لولا الخروج عنه بالحديث المتقدم، بناء علي ما سبق من نهوضه بالاستدلال.

نعم التعليل ارتكازاً إنما يصلح تعليلاً لإبداله في حق مالكه بالعوض. من دون أن ينهض بتعيين المشتري، بل يعم ارتكازاً غير الواجد لو تيسر. كما لا يمنع من الزيادة علي قيمة المثل لو وجد الباذل، بل مقتضي ولاية الحسبة تحري الزيادة حينئذ، كما لعله ظاهر.

وبذلك يظهر أنه لا مجال للتعدي في هذا الخيار عن مورد الحديث المتقدم، كما صدر من بعضهم. ففي التذكرة: (لو كان مما يصبر يومين احتمل أن يكون له الخيار إلي الليل، والي اليومين عملاً بأصالة العقد ولزومه). وفي الدروس: (و الأقرب اطراد الحكم في كل ما يسارع إليه الفساد عند خوف ذلك، ولا يتقيد بالليل). ووافقه في ذلك غيره. حيث لا مجال لشيء من ذلك بعد أن كان مقتضي القاعدة في ملك الغير إذا تعرض للفساد ما سبق.

غاية الأمر أنه إذا ابتني التأخير من المشتري علي الخروج عن مقتضي البيع بالوجه غير المأذون فيه من قبل البايع كان للبايع الفسخ أيضاً.

والحاصل: أن مقتضي القاعدة الأولية هو جواز الفسخ للبايع في كل مورد خرج فيه المشتري عن مقتضي طبيعة البيع من القبض والإقباض. ولا يخرج عن ذلك إلا في مورد الحديث المتقدم، فليس له الفسخ فيه إلا إلي الليل.

فإن لم يفسخ في مورد الحديث المذكور أو لم يكن له الفسخ، لخروجه عن مورد الحديث المتقدم، أو لرضاه بالتأخير ولو جهلا بحال المبيع، كان له - بمقضي ولاية الحسبة - تقبل المبيع لنفسه بقيمة المثل، أو بيعه علي غيره بالقيمة المذكورة أو أكثر إن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 23 من أبواب اللقطة حديث: 1.

ص: 418

(419)

تيسر، ويستخرج حقه من الثمن إذا لم يكن قد قبضه، فإن زادت القيمة علي الثمن حفظ الزيادة للمشتري، وإن نقصت طالب المشتري بباقي الثمن.

نعم إذا لم يكن المشتري قد قبض المبيع فحيث لايكون تلفه عليه لامجال لولاية الحسبة في حق البايع، لعدم كون التصرف المذكور صلاحاً في حق المشتري غالباً. غاية الأمر أنه قد يقطع بعدم رضا الشارع بتلف المبيع وضياع ماليته، فيجوز للبايع التصرف فيه - بالبيع أو غيره - بما هو الأصلح للمشتري. فلاحظ.

وكيف كان فلا مجال للفسخ في غير مورد الحديث المتقدم، لمجرد مشابهته له في التعرض للفساد. فإنه بالقياس أشبه.

كما لا مجال لاستفادة حكمه من النص بعد عدم تضمن النص التعليل الذي ينهض بالعموم، بل غايته الإيماء، كما في مفتاح الكرامة، وهو لا يبلغ الظهور الحجة، بخلاف مقتضي التعليل المستفاد من موثق السكوني.

بقي في المقام أمور:

الأول: قال في الدروس: (ويكفي في الفساد نقص الوصف وقلة الرغبة). وقد وافقه فيه غير واحد ممن تأخر عنه وقد قرب شيخنا الأعظم (قدس سره) ذلك بأن مورد النص والفتوي الخضر والفواكه والبقول، وهذه لا تضيع بالمبيت ولا تهلك.

وما ذكره وإن تم في فتوي الأصحاب، إلا أنه لا يتم في النص، بناء علي ما تقدم منا - ويظهر منه (قدس سره) - من انحصاره بالحديث المتقدم، دون مانسبه في الوسائل للصدوق.

نعم لا يبعد حمل الفساد في الحديث علي ما يعم ذلك، لأنه الشايع الابتلاء. ولاسيما مع فهم قدماء الأصحاب منه ذلك، وهم الأقرب للعرف الحاصل في عهد النص. فلاحظ.

هذا ولا ينبغي الإشكال في قصوره عن فوت السوق. وما يظهر من الشهيد في

ص: 419

(420) (420)

بالمبيع الشخصي (1).

---------------

الدروس من التردد في عموم الحكم له في غير محله. نعم لو كان دليل الحكم هو لزوم الضرر اتجه عموم الحكم له. لكن سبق المنع من ذلك.

الثاني: إذا تلف المبيع قبل قبض المشتري له - كما هو الظاهر منهم في تحرير موضوع الخيار - كان من مال البايع، لنظير ما تقدم في خيار الثلاثة أيام. ولعل عدم تعرض كثير منهم لذلك لاكتفائهم بما ذكروه هناك.

لكن في مجمع البرهان: (يثبت له الخيار بين الصبر حتي يتلف ويأخذ الثمن من المشتري والفسخ...) وظاهره أن تلفه لو لم يفسخ من مال المشتري. ولم يتضح وجهه.

نعم لو قبضه المشتري، ثم تركه عند البايع - بناء علي ما أشرنا إليه آنفاً من عموم النص لذلك - لكن حيث سبق أن اللازم بمقتضي ولاية الحسبة تقبله بقيمة المثل أو بيعه، فاللازم ضمان البايع له. إلا أن لا يكون مفرطاً بتركه حتي تلف. فلاحظ.

الثالث: لو كان المشتري قد دفع الثمن للبايع وترك المبيع عنده خرج ذلك عن مورد النص، وتعين الرجوع لمقتضي القاعدة التي سبق منا التعرض لها.

نعم لا يبعد عدم جواز الفسخ للبايع قبل الليل لو كان المستفاد منه الرضا بالتأخير مدة قليلة تنقضي قبل دخول الليل، لأن القاعدة وإن اقتضت جواز الفسخ له حينئذ كما سبق، إلا أن من القريب إستفادة المنع منه من النص بالأولوية العرفية. أما لو لم يرض بتركه عنده رأساً فالظاهر أن له المبادرة بالفسخ رأساً سواء دفع له الثمن أم لا، لخروجه عن مورد النص، نظير ما سبق في خيار الثلاثة أيام.

(1) كما صرح به شيخنا الأعظم (قدس سره) والظاهر عدم الإشكال فيه. لأن المستفاد عرفاً من النص كون جعل الخيار لتلافي محذور لزوم الفساد، وهو إنما يلزم في الشخصي. وقد ألحق (قدس سره) به الكلي في المعين. لكن الظاهر انصراف النص عنه، كم

ص: 420

(421)

(مسألة 42): يسقط هذا الخيار (1) بإسقاطه بعد الثلاثة (2). وفي سقوطه بإسقاطه قبلها وباشتراط سقوطه في ضمن العقد إشكال (3).

---------------

تقدم في خيار التأخير ثلاثة أيام، وتقدم ما ينفع في المقام.

(1) يعني: خيار التأخير في الثلاثة. أما خيار ما يفسد ليومه فيظهر المعيار في سقوطه مما يأتي في خيار التأخير. غاية الأمر أنه إذا سقط فاللازم إعمال ولاية الحسبة في المبيع علي النحو المتقدم.

(2) قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (بلا إشكال و لا خلاف) ويظهر من مفتاح الكرامة والجواهر المفروغية عنه، قالا فيهما: (كما هو شأن الحقوق). ولا ينبغي الإشكال في كونه من الحقوق وإن لم يصرح بذلك في النصوص، لأن المستفاد منها كون ثبوته للإرفاق بالبايع، المناسب لجعل الخيار حقاً له.

بل حيث كان لزوم البيع في حق المتبايعين حقياً راجعاً إلي أن لكل منهما الحق في منع الآخر من الفسخ وإن كان لهما الاتفاق علي الفسخ بالتقايل، فسلب حق المشتري في التمسك بالبيع - كما تضمنته نصوص المقام - راجع إلي انفراد البايع بالحق فيه. فلاحظ.

(3) أما إسقاطه قبل انقضاء الأيام الثلاثة فقد صرح في مفتاح الكرامة بعدم ترتب الأثر عليه، وحكاه في الجواهر عن بعض الأساطين.

واحتمل ترتب الأثر عليه في خيارات الشيخ علي كاشف الغطاء والجواهر وغيرهما، لتقدم السبب الذي هو العقد. وزاد شيخنا الأعظم (قدس سره) فحوي جواز اشتراط سقوطه في متن العقد.

لكن العقد موضوع للخيار لا سبب له، وليس سببه إلا التأخير عن الثلاثة المفروض عدم حصوله. علي أنه لو فرض كون العقد سبباً في الجملة، إلا أن المفروض عدم حصول الخيار بعد الذي هو موضوع الإسقاط، فإسقاطه إسقاط لما لم يجب.

ص: 421

وأما ما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من أن فعلية الخيار وإن كانت عند الثلاثة، ولكن مبدأه، وهو استحقاق مطالبة الثمن في كل آن موجود من حين العقد، فمرجع إسقاطه إلي اجتيازه عن حقه الثابت بالعقد.

فهو لا يرجع إلي محصل ظاهر. إذ المراد بمبدأ الخيار إن كان هو أول وجوده فهو لا يناسب اعترافه بأن فعليه الخيار عند الثلاثة. مع ظهور مباينة استحقاق مطالبة الثمن للخيار. وإن كان المراد بمبدأ الخيار سببه فلو سلم ذلك، إلا أن من الظاهر أن إسقاط الخيار لا يرجع إلي إسقاط حق المطالبة بالثمن، ليكون تأخير الثمن بحق، ويخرج عن مورد نصوص الخيار.

نعم ذكر السيد الطباطبائي (قدس سره) أن مرجع إسقاط الخيار في المقام إلي إسقاطه بعد وجوده بمضي الثلاثة. وغاية ما يلزم هو التعليق في الإسقاط، ولا محذور فيه بعد انحصار دليل مبطلية التعليق بالإجماع القاصر عن المقام.

لكن سبق في آخر المسألة الثالثة والعشرين أن ذلك قد يتجه في العقود، لثبوت عموم النفوذ فيها، ولا مجال له في الإسقاط ونحوه من الإيقاعات، لعدم ثبوت عموم يقتضي نفوذها، بل لابد في البناء علي نفوذها من الاقتصار علي المتيقن، وهو غير صورة التعليق. فراجع.

وأما الفحوي التي ذكرها شيخنا الأعظم (قدس سره) فهي في غاية المنع، كما يظهر مما يأتي، وسبق عند الكلام في سقوط خيار المجلس بالإسقاط.

وأما سقوطه باشتراط سقوطه في ضمن العقد فهو المصرح به في الدروس وجامع المقاصد ومفتاح الكرامة وخيارات الشيخ علي كاشف الغطاء والجواهر ومحكي كنز الفوائد وتعليق الإرشاد وغيرها. بل نقل شيخنا الأعظم (قدس سره) عن بعضهم دعوي الإجماع عليه. لعموم نفوذ الشروط.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من الإشكال في ذلك بناء علي عدم صحة الإسقاط قبل مضي الأيام الثلاثة بأن الشرط لا ينهض بشرعية إسقاط ما لا يقبل

ص: 422

والظاهر عدم سقوطه ببذل المشتري الثمن بعد الثلاثة قبل فسخ البايع (1)

---------------

الإسقاط بدون الشرط.

ففيه: أن المشروط في المقام ليس هو سقوط الخيار فعلاً، ليلزم منه محذور إسقاطه قبل الثلاثة، وهو سقوط ما لم يجب، بل سقوطه معلقاً علي تحقق موضوعه، وهو مضي الثلاثة، فهو يسقط بالشرط في مرتبة متأخرة عن تحقق موضوعه الموجب لثبوته إقتضاء.

غاية الأمر أنه لا دليل علي نفوذ الإسقاط المعلق ابتداءً، كما سبق. أما اشتراط السقوط معلقاً فيكفي فيه عموم نفوذ الشروط، لصراحة النصوص في عموم نفوذها لصورة كون المشروط أمراً معلقاً علي أمر لم يحصل بعد. كما يظهر بالرجوع لما سبق عند الكلام في اشتراط سقوط خيار المجلس في العقد.

(1) كما احتمله في الدروس والمسالك والروضة وظاهر جامع المقاصد، وجعله الأظهر في الرياض والمستند، وجزم به في الجواهر وخيارات الشيخ علي كاشف الغطاء ومحكي مصابيح السيد الطباطبائي. بل ربما يدعي أنه ظاهر الأكثر، لأنهم لم يتعرضوا لسقوطه بذلك، مع كونه مورد الحاجة والعمل.

وكيف كان فقد استند الأكثر للاستصحاب. ويظهر ضعفه مما تقدم غير مرة من أنه لا مجال لاستصحاب حكم المخصص، بل المرجع عموم العام، وهو في المقام عموم لزوم العقود.

وزاد في الجواهر الإطلاق. وهو قريب جداً، لأن إطلاق نفي البيع في النصوص بعد أن لم يحمل علي بطلانه، بل علي سلب سلطنة المشتري عليه، المستلزم لانحصار السلطنة عليه بالبايع، فمقتضي إطلاقه عدم رجوع سلطنة المشتري عليه ببذل الثمن أو غيره.

ودعوي تنزيل الإطلاق علي مورد الضرر، وانصرافه عن صورة ارتفاعه.

ص: 423

ولا بمطالبة البايع المشتري بالثمن (1). نعم الظاهر سقوطه بأخذه الثمن

---------------

ممنوعة بعد عدم الإشارة في النصوص لذلك. غاية الأمر أن منصرف النصوص ثبوت الخيار إرفاقاً بالبايع، وهو لا يقتضي التقييد المذكور.

هذا وقد صرح في التذكرة والقواعد بسقوط الخيار بذلك. قال في الأول: (لزوال المقتضي لثبوته، وهو التضرر بالتأخير). لكن سبق أن الضرر ليس هو الدليل علي الخيار. ولو كان دليلاً فقصوره عن المورد لا ينافي العموم، تبعاً للإطلاق الذي تقدم تقريبه.

(1) كما في التذكرة والقواعد والمسالك والروضة وغيرها. وصريح المسالك والروضة عدم سقوط الخيار به وإن كان قرينة علي الرضا بالعقد. لكنه في غاية الإشكال. لظهور قوله (عليه السلام) في صحيح علي بن رئاب الوارد في خيار الحيوان: (فإن أحدث المشتري فيما اشتري حدثاً قبل الثلاثة فذلك رضا منه فلا شرط له)(1) في مسقطية الرضا للخيار. وهو وإن ورد في خيار الحيوان، إلا أن إلغاء خصوصية قريب جداً. ولاسيما مع ظهور تفريع نفي الشرط علي الرضا في التعليل، فإن مقتضي إرتكازيته عدم الفرق في ذلك بين الخيارات. وقد تقدم في المسألة الثامنة والعشرين في مسقطات خيار الغبن ما ينفع في المقام.

نعم يتجه منع دلالة المطالبة بالثمن علي الرضا بالعقد. لإمكان كون الغرض منه استكشاف البايع حال المشتري مع احتفاظه بحقه في الفسخ ولاسيما أن المشتري قد لا يستجيب له، ويبقي ضرر الصبر علي البايع لو رضي بالبيع وفقد حق الخيار.

ومن ثم يتعين البناء علي عدم السقوط به، لا للاستصحاب، كما هو صريح بعض من سبق وظاهر آخرين، بل للإطلاق بالوجه المتقدم.

ومورد كلامهم المطالبة بعد الثلاثة أيام أما المطالبة قبلها فلا منشأ لتوهم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 424

(425)

منه بعنوان الجري علي المعاملة (1)، لا بعنوان العادية أو الوديعة. ويكفي ظهور الفعل (2) في ذلك (3) ولو بواسطة بعض القرائن.

(مسألة 43): في كون هذا الخيار علي الفور أو التراخي قولان (4) أقواهما الأول.

---------------

سقوط الخيار بها.

(1) لدلالته حينئذ علي الرضا بالعقد. نعم يختص ذلك بما إذا كان عالماً بثبوت الخيار له، إذ مع جهله بثبوته يكون الجري علي مقتضي العقد لاعتقاد لزومه عليه، لا لرضاه به.

(2) وهو أخذ الثمن.

(3) هذا إنما يكفي ظاهراً مع الشك، أو في مقام التشاح والخصومة. ولا يكفي واقعاً لو لم يصادف الرضا، كما لعله ظاهر.

(4) ونسب القول بالتراخي للشهيد في قواعده والسيد الطباطبائي (قدس سره) في مصابيحه وظاهر التذكرة. و يظهر من جامع المقاصد التردد فيه. وفي الجواهر وخيارات الشيخ علي كاشف الغطاء أنهما لم يجدا هنا قائلا بالفورية. وإن جنح لها في الثاني وللتراخي في الأول، وذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه لا يخلو من قوة.

وكيف كان فالظاهر التراخي، بناء علي ما سبق من ظهور نصوص المقام في إطلاق الخيار. وبه يخرج عن عموم لزوم العقود، الذي سبق أنه المرجع مع الشك دون استصحاب الخيار. بل يصعب الجمع بين الفورية وعدم سقوط الخيار بإحضار المشتري الثمن بعد الثلاثة، ولا بمطالبة البايع له بالثمن بعدها، كما صدر من سيدنا المصنف (قدس سره).

نعم قد يراد بالفورية مالا ينافي عدم سقوطه مع العذر في عدم المبادرة بالنحو الذي تقدم في خيار الغبن. لكنه أمر آخر.

ص: 425

(426)

(السادس): خيار الرؤية (1). ويتحقق فيما لو رأي شيئاً ثم اشتراه

---------------

كما أنه لا يبعد انصراف إطلاق النص عما إذا لم يمكن رجوع المبيع بنفسه للبايع، كما لو خرج عن ملك المشتري. نظير ما تقدم في خيار الغبن وإن اختلفا بأن دليل الخيار هناك بناء العقلاء، وهنا إطلاق النص. فلاحظ.

(1) ثبوت الخيار المذكور في الجملة مفروغ عنه بين الأصحاب (رضوان الله تعالي عليهم) وفي خيار الشيخ كاشف الغطاء: (ودليل هذا الخيار الإجماع المحصل

- علي الظاهر - فضلاً عن المنقول. وفي الحدائق أنه محل وفاق، وفي غيرها: وهو إجماعي. ونفي عنه الخلاف في الرياض. وفي الكفاية ومجمع البرهان: كأنه لا خلاف فيه). وذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أن عليه الإجماع المحقق والمستفيض.

ويدل عليه من النصوص صحيح جميل بن دراج: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشتري ضيعة، وقد كان يدخلها ويخرج منها. فلما أن نفذ المال صار إلي الضيعة فقلبها [ففتشها] ثم رجع فاستقال صاحبه، فلم يقله. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إنه لو قلب منها [قلبها] ونظر [منها] إلي تسعة [تسع] وتسعين قطعة، ثم بقي منها قطعة ولم يرها، لكان له في ذلك خيار الرؤية)(1). وهو وإن ورد في مورد خاص، إلا أن التعبير بخيار الرؤية ظاهر في ثبوت الخيار بالرؤية لكل من اشتري ولم ير المبيع، كما هو صريح ما رواه العامة عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: (من أشتري شيئاً لم يره فهو بالخيار إذا رآه)(2).

وقد يستدل أيضاً بصحيح زيد الشحام: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشتري سهام القصابين قبل أن يخرج السهم. فقال: لا تشتر شيئاً حتي تعلم أين يخرج السهم. فإن اشتري شيئاً فهو بالخيار إذا خرج)(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الخيار حديث: 1.

(2) سنن الدار قطني ج: 3 ص: 5، 4 حديث: 8، 10. والسنن الكبري ج: 5 ص: 268.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الخيار حديث: 2.

ص: 426

(427)

فوجده علي خلاف ما رآه (1) أو اشتري موصوفاً غير مشاهد، فوجده علي

---------------

لكنه لم يتضمن ثبوت الخيار بسبب الرؤية، بل بسبب تعين المبيع بعد إشاعته فإنه لا يراد به شراء السهم المشاع، إذ لا إشكال في جواز شرائه، ولأنه لا يوصف بالخروج، وإنما يراد به شراء المعين قبل تعيينه بنحو من التعليق، نظير شراء الثمرة قبل ظهورها، غايته أن التعليق في شراء الثمرة علي وجودها بعد العدم، وهنا علي تعين السهم بعد إشاعته. وحينئذ فالحديث يدل علي ثبوت الخيار بعد تعين السهم.

وبذلك يظهر حال ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن الصحيح إذا لم يرد في شراء المشاع فهو وارد في شراء المردد الباطل.

إذ شراء المردد الباطل إنما يكون مع تميز السهام في أنفسها، ووقوع البيع علي أحدها المردد، نظير شراء أحد العدلين، وطلاق إحدي الزوجتين. أما مع عدم تميزها بعد، وشراء ما سوف يتميز للبايع، فهو من شراء المعين معلقاً علي تعيينه، كما ذكرنا. ولا محذور فيه عقلاً. والصحيح ينهض بإثبات صحته، وأن فيه الخيار. غايته أن الخيار فيه ليس خيار الرؤية، بل خيار آخر مشابه له. وينحصر الدليل علي خيار الرؤية بصحيح جميل. وكفي به دليلاً في المقام، مؤيداً بالنبوي المتقدم.

وبذلك يظهر حال معتبر عبد الأعلي بن أعين: (نبئت عن أبي جعفر أنه كره بيعين: اطرح وخذ علي غير تقليب، وشراء ما لم تر)(1) ونحوه غيره(2). حيث يتعين حمله علي الكراهة، أو الإرشاد إلي عدم لزوم البيع وثبوت الخيار فيه.

(1) إن كان المراد بذلك الرؤية حين البيع مع الخطأ في المرئي، كما لو رأي الثوب فتخيله أبيض فبان أسمر، أو رأي بيتاً فتخيله واسعاً فبان ضيقاً، فلا وجه لثبوت الخيار، ولا ينهض به صحيح جميل، لظهوره في عدم الرؤية أصلاً لبعض

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 18 من أبواب الخيار حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 18 من أبواب الخيار حديث: 2، باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 14.

ص: 427

الضيعة، كظهور النبوي في عدم الرؤية أصلاً للمبيع.

ولعله إلي ذلك يرجع ما ذكره في الخلاف من أنه إذا اشتري جارية رأي شعرها جعداً ثم وجده سبطاً لم يكن له الخيار. معللاً بأنه لا دليل علي كونه عيباً. لظهور أن التعليل المذكور إنما ينهض بنفي خيار العيب. ولا يمنع من ثبوت خيار الرؤية إذا تحقق موضوعه.

نعم قد يتجه الخيار مع استناد الخطأ لإيهام حال المبيع بغش أو نحوه، بحيث يكون الأقدام عرفاً مبنياً علي الحال التي أوهمها المبيع، لتخلف الوصف المتوهم. أما إذا كان لمحض الخطأ من المشتري فلا منشأ للخيار.

وإن كان المراد به الرؤية السابقة علي المبيع، بأن يكون ظهور المبيع علي خلاف ما رآه لتغير المبيع في تلك المدة. فإن كان المفروض في ذلك الغفلة وعدم احتمال التغير، فكأن الوجه في اعتبار الرؤية حينئذ هو لزوم العلم بالعوضين الرافع للغرر، الذي سبق في أوائل الفصل الثالث أنه المعروف بين الأصحاب، المدعي عليه الإجماع في كلام غير واحد، منهم لعموم النهي عن بيع الغرر. وسبق منا المنع منه.

وهو المناسب لصحيح جميل والنبوي المتقدمين، لصراحتهما في صحة بيع ما لم ير، وإن ثبت بعد الرؤية الخيار. كما قد يستفاد أيضاً من صحيح زيد الشحام، لأنه إذا صح بيع السهم قبل خروجه فصحته بعد خروجه قبل العلم بصفاته إن لم يكن أولي عرفاً فلا أقل من كونه مثله.

وأشكل من ذلك ما لو كان المراد صورة الالتفات والشك في تغير المبيع عما كان عليه حين الرؤية السابقة. لظهور أن الرؤية المذكورة - مع عدم الإشارة في الحديثين لها، بل ظهورهما في عدم اعتبارها في صحة البيع - لا تنفع في رفع الجهل بحال المبيع حين البيع بناء علي مانعيته من صحة البيع. ولا مجال لاستصحاب بقاء المبيع علي حاله، لأن موضوع الأثر - بناء علي اعتبار العلم بحال المبيع حين البيع - ليس هو بقاء الحال السابق، بل العلم بحال المبيع الرافع للغرر، وهو غير حاصل بالاستصحاب.

ص: 428

كما أنه لم يتضح بناء العقلاء علي أصالة عدم تغيره عن حاله، ليرجع البناء المذكور إلي ارتفاع الغرر عرفاً مع الرؤية السابقة. وقد تقدم نظير ذلك في المسألة السابعة من فصل شروط العوضين.

ولعله لذا يظهر من الأصحاب انحصار الأمر مع عدم الرؤية الرافعة للجهل بالمبيع بالوصف الرافع له. قال في التذكرة: (يجب ذكر وصف المبيع أو مشاهدته عند علمائنا أجمع... ولا يكفي ذكر الجنس، بل لابد من ذكر النوع... ولا يكفي ذكرهما عندنا إلا مع ذكر الصفات الرافعة للجهالة...) بل قد يظهر من بعضهم إنه لابد من رؤية العين الحاضرة. ولا يكفي الوصف إلا في الغائبة.

علي أنه لا يخلو عن إشكال أيضاً.

أولاً: لأن الوصف إنما يرفع الغرر - المفروض مبطليته للمبيع - إذا أوجب العلم أو الوثوق بمطابقته للواقع، مع أنهم لم يعتبروا ذلك.

ودعوي: أن ابتناء البيع علي الوصف لما كان يوجب الخيار للمشتري يخرج البيع عن كونه غررياً. مدفوعة بأن ذلك - مع توقفه علي ابتناء البيع علي الوصف، كما يأتي، وعلي التفات المشتري لثبوت الخيار بتخلف الوصف - وإن تم في نفسه كما ذكرنا نظيره في خيار الغبن، إلا أنه لا يتم علي مبناهم من لزوم العلم بالعوضين، لأنه يقتضي جواز شراء المجهول من دون وصف بشرط الخيار لو لم يعجب المشتري، أو لم يكن واجداً للوصف الخاص، أو نحو ذلك، ولا يظهر منهم البناء علي ذلك، بل لابد عندهم من العلم بحال العوضين، أو وصفهما بما ينبغي العلم به من حالهما.

ثانياً: لما سبق من عدم الدليل علي مانعية الغرر بنحو يقتضي العلم بحال العوضين. وهو المناسب أيضاً للحديثين المتقدمين، لعدم الإشارة فيها للوصف بالنحو المذكور. بل صحيح جميل كالصريح في ذلك، كما سيأتي توضيحه.

نعم قال الشيخ (قدس سره) في الخلاف مستدلاً علي صحة البيع بالوصف مع خيار الرؤية: (وأيضاً روي عنهم (عليه السلام) أنهم سئلوا عن بيع الجرب الهروية، فقالوا: لا بأس

ص: 429

به إذا كان لها بارنامج، فإن وجدها كما ذكرت، وإلا ردها)(1). ومقتضاه توقف صحة بيع المجهول علي وصف المبيع، وأن الخيار إنما يثبت مع الخروج عنه. ومقتضاه رجوع خيار الرؤية إلي خيار تخلف الوصف.

لكن الحديث المذكور لا أثر له في كتب الحديث، ولا في كلمات الفقهاء في مقام الاستدلال، عدا التذكرة وبعض من نقل عنه فيما تيسر لنا العثور عليه. ومن القريب أن يكون قد أخذه من الخلاف وإلا فمن البعيد جداً أن يكون في المتناول من كتب الحديث إلي عصر العلامة (قدس سره)، ثم يختفي بعد ذلك ومن هنا لا ينهض بالاستدلال بعد ضعفه في نفسه بالإرسال، وعدم إنجباره بعمل الأصحاب.

بل لا يخلو في نفسه عن الريب بسبب عدم وجوده في كتب الحديث، خصوصاً التهذيبين كتابي الشيخ نفسه. ولاسيما أن كتاب التهذيب في أصله كالشرح لكتاب المقنعة، و قد تضمن الكتاب المذكور وغيره حكم بيع المتاع في أعدال محزومة وجرب مشدودة.

مضافاً إلي أن الحديث المذكور لا يناسب صحيح جميل، لما سبق من أنه كالصريح في عدم الوصف، ومع ذلك لم يحكم فيه ببطلان البيع للجهل بالمبيع، بل بخيار الرؤية لا غير، لعدم سبقها من المشتري. بل تسمية الخيار في الصحيح وكلمات الفقهاء يناسب كون منشئه عدم الرؤية لا مخالفة الوصف الذي يتعهد به البايع.

وربما يجمع بينهما بحمل قولهم: (إذا كان لها بارنامج...) علي أنه جملة مستقلة لبيان حكم موافقة ما في الجراب للبارنامج ومخالفته له، لا شرطاً لقولهم: (لا بأس به)، ويكون نتيجة ذلك أن بيع مالم يُرَ يصح مطلقاً، إلا أنه إذا لم يوصف ثبت الخيار للمشتري برؤيته، كما في صحيح جميل، وإذا وصف فالخيار لا يثبت برؤية المبيع مطلقاً، بل إذا كان مخالفاً للوصف، كما تضمنه الحديث المذكور، ويكون البيع لازماً مع رؤية المبيع والعلم به حال البيع، ومع مطابقته للوصف إذا لم ير. والأمر سهل بعد

********

(1) الخلاف ج: 3 ص: 6. كتاب البيوع مسألة: 10.

ص: 430

ما سبق من وهن الحديث في نفسه.

وبالجملة: ما جري عليه جمهور الأصحاب من اعتبار العلم بحال المبيع وصفاته الدخيلة في الرغبة فيه أو في ماليته، أو وصفه كذلك، لا يناسب صحيح جميل جداً.

ومن ثم كان الصحيح عاضداً لإطلاقات النفوذ التي عولنا عليها وعلي بعض المؤيدات الأخر في الخروج عما جروا عليه، علي ما سبق في أوائل الفصل الثالث.

وبذلك يظهر أن خيار الرؤية يقصر عن صورة وصف المبيع، لقصور دليله

- وهو الصحيح عنه - وحينئذ. فالمرجع في صورة الوصف هو القاعدة.

ومن الظاهر أن مقتضي عموم نفوذ العقود ولزومها هو صحة البيع وعدم الخيار مع مطابقة المبيع في واقعة للوصف. وإنما يثبت الخيار مع مخالفته له. لكنه ليس خيار الرؤية الذي تضمنه الصحيح كما يظهر منهم، بل هو خيار تخلف الوصف.

وليس دليله الصحيح، بل بناء العقلاء بعد انصراف عمومات اللزوم عن صورة تخلفه وهو يثبت حتي مع رؤية المبيع إذا كانت الصفة لا تظهر بالرؤية، سواء كانت دخيلة في المالية أم لم تكن.

عم لابد في ثبوت الخيار بتخلف الوصف من ابتناء البيع علي الوصف عرفاً، لصدوره من البايع أو من يقوم مقامه عند البيع، بحيث يرجع لتعهده به للمشتري، و يكون إقدام المشتري مبنياً عليه.

أما إذا لم يبتن البيع علي الوصف، إما لصدوره من الأجنبي، أو من البايع في غير مقام البيع، بل لمحض بيان حال المبيع لغرض آخر. وحينئذ يتعين ثبوت خيار الرؤية بتخلف الوصف، بل حتي مع عدم تخلفه إذا لم يعجب المبيع المشتري عند رؤيته له. لإطلاق الصحيح.

وما سبق من ظهوره في فرض عدم الوصف إنما هو في الوصف الذي يبتني

ص: 431

عليه البيع، لشدة الحاجة للتنبية عليه لو كان حاصلاً، لدخله ارتكازاً في الجهة المسؤولة عنها، فعدم التنبيه عليه في السؤال كالصريح في عدمه.

أما الوصف الذي لا يبتني عليه البيع فهو غير دخيل في الجهة المسؤول عنها، ولا يدل عدم التعرض له علي عدم حصوله، بل يكون عدم الاستفصال في الجواب موجباً لظهوره في العموم لصورة وجوده وعدمه. غاية الأمر أن الوصف المذكور قد يكون سبباً في رفع الغرر عن البيع عرفاً بالمعني المانع من صحته عندهم، كما لو كان الواصف ثقة، وقد لا يكون كذلك.

كما أن الوصف الواقع للغرر - بالمعني المذكور عندهم - هو خصوص المشتمل علي الصفات الدخيلة في مالية المبيع. أما الوصف الذي هو موضوع خيار تخلف الوصف فهو لا يختص بذلك، كما تقدم ويأتي، بل يعم كل وصف يبتني عليه البيع.

والذي تحصل من جميع ما تقدم أن في المقام خيارين:

الأول: خيار الرؤية. والمعيار فيه عدم رؤية المشتري للمبيع سواء لم يوصف أصلاً، وكان البيع غررياً عندهم، أم وصف وصفاً لا يبتني عليه البيع، سواء ارتفع به الغرر لكون الواصف ثقة، أم لم يرتفع.

الثاني: خيار تخلف الوصف والمعيار فيه تخلف الوصف الذي يبتني عليه البيع سواء كان الوصف رافعاً للغرر أم لم يكن رافعاً له، لعدم الوثوق بالواصف أو لعدم استكماله للصفات الدخيلة في المالية، وسواء كان الوصف دخيلاً في مالية الشيء أم يكن دخيلاً فيها.

أما المشهور فقد جعلوا الخيار واحداً، وهو خيار الرؤية لكنهم شرطوا في صحة البيع الذي يكون موضوعاً للخيار أن لا يكون غررياً، واكتفوا في رفع الغرر بالوصف المشتمل علي ما يكون دخيلاً في المالية من دون أن يعتبروا فيه ثقة الواصف. وأطلقوا ثبوت الخيار بتخلف الوصف الذي يبتني عليه البيع.

ص: 432

(433)

وبذلك يظهر اختلاط الأمر علي الأصحاب (تارة): من حيثية اختلاط خيار الرؤية بخيار تخلف الوصف. (وأخري): من حيثية اختلاط الوصف الرافع للغرر - بالمعني المانع عندهم من صحة البيع - بالوصف الذي يبتني عليه البيع ويكون تخلفه موجباً لثبوت خيار تخلف الوصف. فلاحظ.

بقي في المقام أمران:

الأول: أن خيار الرؤية هل يرجع إلي ثبوت الخيار للمشتري إذا لم يقتنع بالمبيع عند الرؤية، لظهوره علي خلاف ما كان يتوقعه عندما أقدم علي شرائه، أو علي مجرد ثبوت الخيار له إذا لم ير المبيع سابقاً، بحيث يشمل ما إذا وجد المبيع علي ما كان يتوقعه عند الشراء، أو خيراً منه، إلا أنه عدل عن البيع لسبب آخر، ككساد السوق، أو تجدد حاجته للنقد، أو غير ذلك من الدواعي ؟

من الظاهر أن مورد صحيح جميل يناسب الأول. وهو مقتضي مناسبة الحكم والموضوع، لوضوح أن رؤية المبيع التي يكون عدمها سبباً لثبوت الخيار، و حصولها غاية له، إنما تكون دخيلة في الإقتناع بالمبيع واستيضاح حاله، ولا دخل لها في الدواعي الأخري.

إلا أن ذلك وحده لا يكفي دليلاً علي اختصاص الخيار بذلك، لإمكان كون الجهة المذكورة حكمة لجعل الخيار، لا علة يدور الأمر مدارها وجوداً وعدماً. ولاسيما مع عدم تيسر تشخيصها بنحو قاطع للنزاع نوعاً، بل هي أمر يختص بمعرفته المشتري، فمع إناطة الأمر بها يتعرض الخيار لأن يستغله المشتري من دون حق، كما يكون إعماله للخيار مثاراً للنزاع والشقاق، وهو بعيد عما يعهد من ذوق الشارع الأقدس.

نعم لم يتضح عموم دليل الخيار بعد عدم رواية النبوي من طرقنا، لينهض بالحجية ولو بضميمة انجبار ضعف سنده بعمل الأصحاب، فيتجه الاستلال بإطلاقه علي العموم.

وأما صحيح جميل، فلا إطلاق له، لعدم وروده في مقام تشريع الخيار المذكور،

ص: 433

(434) (434)

خلاف الوصف (1) فإن للمشتري الخيار (2)

---------------

بل لبيان أن الرؤية المانعة من ثبوت الخيار هي الرؤية المبنية علي الاستقصاء التام بعد الفراغ عن تشريع الخيار مع عدم الرؤية.

ولاسيما مع ماأشرنا إليه من أنه مورده يناست الأول. ومن هنا يصعب البناء علي العموم، وإن كان قريباً جداً. فلاحظ.

الثاني: أنه بعد أن سبق أن في المقام خيارين، لكل منهما موضوعه فتارة: ينفرد أحد الخيارين في المورد دون الآخر، كما إذا لم ير المبيع ولم يوصف، أو اقتصر في تحديد المبيع علي الوصف، كما في الأعدال المحزومة، أو رؤي ووصف بصفة لا تظهر بالرؤية، حيث يثبت في الأول خيار الرؤية وحده، وفي الأخيرين خيار تخلف الوصف وحده إذا صادف تخلفه.

وأخري: يجتمع الخياران من جهتين، كما إذا لم ير المبيع ولم يذكر الوصف لتحديده به، بل لمجرد مطلوبيته فيه، مع إيكال تحديده من بقية الجهات لنظر المشتري، حيث يتعين حينئذ ثبوت خيار الرؤية بعد فرض عدم تعويل المشتري في تحديده علي الوصف. كما يثبت خيار تخلف الوصف لو لم يصادف الواقع. فلاحظ.

(1) مما سبق يظهر أن ذلك مورد خيار تخلف الوصف، لا خيار الرؤية. إلا أن لا يبتني البيع علي الوصف، فيكون مورد خيار الرؤية. لكن الظاهر خروجه عن مورد كلامهم.

(2) كما في المبسوط والخلاف والوسيلة والغنية والمراسم - في البيع بالوصف

والشرايع والتذكرة وغيرها بل هو المعروف بين الأصحاب المدعي عليه الإجماع في الغنية.

لكن عبر في المقنعة عند التعرض للبيع بالوصف بأن البيع مع تخلف الوصف يكون مردوداً، وفي باب بيع الأعدال المحزومة أنه يكون باطلاً، و نحوه في المراسم،

ص: 434

بين الفسخ والإمضاء (1).

(مسألة 44): لا فرق في الوصف الذي يكون تخلفه موجباً للخيار بين وصف الكمال الذي يزيد به المالية وغيره إذا تعلق غرض للمشتري به (2). سواء كان علي خلاف الرغبة العامة مثل كون العبد أمياً لا كاتباً ولا قارئاً أم كان مرغوباً به عند قوم ومرغوباً عنه عند قوم آخرين، مثل اشتراط كون القماش أصفر لا أسود.

---------------

وعبر في النهاية في الباب المذكور بأنه يكون مردوداً.

وقد يحمل ما في النهاية والمراسم علي إرادة الخيار بقرينة ما سبق من المبسوط والخلاف والمراسم. بل قد يحمل علي ذلك ما في المقنعة. وإلا فالبطلان يبتني علي أحد أمرين:

الأول: كون الوصف قيداً في البيع، بحيث لا بيع بدونه. ومرجعه إلي التعليق المبطل للبيع رأساً. وهو - مع خروجه عن محل الكلام - لا يناسب حكمهم بالصحة مع تحقق الوصف.

الثاني: كون الوصف مقوماً للبيع، بحيث يكون تخلفه مستلزماً عرفاً لعدم تحقق المبيع الذي هو أحد ركني البيع. ولا مجال لذلك في غالب الصفات المذكورة في كلماتهم، بل هي من سنخ الدواعي التي يبتني عليها البيع، والتي يوجب تخلفها الخيار عرفاً. وقد سبق ما ينفع في المقام في المسألة السابعة والعشرين من مقدمة كتاب التجارة عند الكلام في حكم الغش. فراجع.

(1) الظاهر أن المراد بالإمضاء مجرد ترك الفسخ، كما يظهر مما يأتي في المسألة الآتية. وقد تقدم في تعريف الخيار ما ينفع في المقام.

(2) لما سبق من أن الخيار المذكور هو خيار تخلف الوصف، وأن المعيار فيه تخلف الوصف الذي يبتني عليه العقد مهما كان حال الوصف. نعم إذا لم يبتن البيع

ص: 435

(436)

(مسألة 45): الخيار هنا بين الفسخ والرد وبين ترك الفسخ وإمساك العين مجاناً. وليس لذي الخيار المطالبة بالأرش لو ترك الفسخ (1). كم

---------------

علي الوصف، بل كان ذكر البايع له لمجرد تنصله عن تحمل تبعته، فلا يثبت بتخلفه خيار تخلف الوصف، كما سبق. وحينئذٍ إن كان المبيع مرئياً فلا خيار، وإن لم يكن مرئياً تعين ثبوت خيار الرؤية، كما سبق.

وكأن ما في التذكرة وعن التحرير وظاهر غيرهما من عدم الخيار إذا ظهر فوق الصفة يبتني علي فرض عدم ابتناء البيع علي خصوصية الصفة. لكن عدم ثبوت خيار تخلف الوصف حينئذ لا ينافي ثبوت خيار الرؤية في فرض عدمها، كما هو محل كلامهم. ولعل هذا من موارد اختلاط خيار الرؤية بخيار تخلف الوصف عليهم.

ومما سبق يظهر أن المعيار في خيار تخلف الوصف علي تعلق غرض المشتري بالوصف حين البيع، بحيث ابتني منه الشراء عليه، وإن أعرض عنه بعد ذلك حين انكشاف الحال.

(1) كما عن التحرير، وهو ظاهر الأصحاب، لعدم تعرضهم لذلك. خلافاً للسرائر فخير المشتري بين الفسخ والأرش، وقال: (لا يجبر علي واحد من الأمرين).

ولم يتضح الوجه في ذلك، لا بالنظر إلي دليل خيار الرؤية، ولا إلي بالنظر دليل خيار تخلف الوصف. وثبوت ذلك في العيب في الجملة لا ينهض دليلاً في المقام.

نعم في حديث إسماعيل بن مرار عن يونس: (في رجل اشتري جارية علي أنها عذراء فلم يجدها عذراء؟ قال: يرد عليه فضل القيمة إذا علم أنه صادق)(1).

لكن لم يتضح منه أنه رواية عن معصوم بل قد يكون فتوي ليونس. ومجرد ذكر المشايخ له في كتب أحاديث المعصومين صلوات الله عليهم لا يكفي في ذلك

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب العيوب حديث: 1.

ص: 436

أنه لا يسقط الخيار ببذل البايع الأرش (1)، ولا بإبدال العين بعين أخري واجدة للوصف (2).

---------------

بعد ظهوره نفسه في نقل كلام يونس كما تقدم نظير ذلك في أواخر الفصل الثالث من كتاب الصوم.

مع أنه مختص بالبكارة التي قد يكون نقصها عيباً في الجارية، يستوجب الأرش عند تعذر الرد بسبب الدخول بها، كما هو منصرف الحديث، لأن المعهود من طريق وجدانها غير عذراء هو الدخول. فلاحظ.

(1) كما صرح بذلك شيخنا الأعظم (قدس سره). ولم أعثر عاجلاً علي من ذهب إلي سقوط الخيار بذلك أو احتمله. ومن ثم كان ظاهرهم عدم ذكرهم لذلك عدم البناء عليه، لشدة الحاجة للتنبيه عليه لو كان بناؤهم عليه.

وكيف كان فالصحيح المتضمن لخيار الرؤية ظاهر في إنحصار الأمر بالخيار والفسخ. وإن شئت قلت: مقتضي إطلاقه ثبوت الخيار و لو مع بذل الأرش.

وأما خيار تخلف الوصف الثابت ببناء العقلاء فمرجعه ارتكازاً إلي نقص في العقد يمنع من لزومه، ولا أثر في رفعه لبذل الأرش.

(2) الكلام فيه هو الكلام في سابقه فتوي ودليلاً.

هذا وفي الدروس: (ولو شرط البايع إبداله إن لم يظهر علي الوصف فالأقرب الفساد). ويظهر أن شيخنا الأعظم (قدس سره) فهم منه إرادة تحقق البدلية بنحو شرط النتيجة، وترتب الإبدال عملاً عليها. وحينئذ يتجه فساده.

لأن البدلية إن كانت بين الثمن والبدل رجعت إلي أن تخلف الوصف موجب لانفساخ البيع الواقع علي الفاقد للوصف، وصيرورة الثمن علي تقدير إنفساخه بإزاء البدل الواجد للوصف.

وإن كانت بين المبيع والبدل رجعت إلي أن تخلف الوصف لا يوجب انفساخ

ص: 437

(438)

(مسألة 46): كما يثبت الخيار للمشتري عند تخلف الوصف يثبت للبايع عند تخلف الوصف (1) إذا كان قد رأي المبيع سابقاً فباعه بتخيل أنه

---------------

البيع الواقع علي فاقد الوصف، بل بدلية واجد الوصف للمبيع الفاقد له.

وكل منهما راجع إلي شرط النتيجة الذي لا مجال له في أمثال المقام مما لا يرجع إلي مجرد الاستحقاق، بل إلي نحو من المعاملة تابعة لأسبابها من دون أن ينهض الشرط بها.

وأما الإشكال فيه (تارة) بالتعليق (وأخري): بجهالة البدل الموجبة للغرر.

فهو غير مهم بعد أن كان الدليل علي مبطلية التعليق هو الإجماع، والمتيقن منه التعليق في أصل المعاملة، دون مضمون الشرط، بل مقتضي عموم نفوذ الشرط عدم مانعية التعليق في مضمونه، نظير اشتراط الضمان علي تقدير التلف.

كما أن جهالة البدل - لو كانت محذوراً - إنما تلزم إذا أريد به فرد معين مجهول، أما إذا أريد به الكلي - كما هو ظاهر كلام الشهيد (قدس سره) - فلا جهالة فيه.

فالعمدة في الإشكال ما سبق من عدم الدليل علي صحة شرط النتيجة في أمثال المقام، إذ لابد من كون المشروط أمراً مشروعاً في نفسه، وتحقق النتائج بنفسها من دون أن تستند إلي أسبابها المعهودة غير ثابت شرعاً.

كما أن مراده بالفساد إن كان هو فساد الشرط فالوجه فيه ما تقدم. وإن كان هو فساد العقد فهو يبتني علي أن فساد الشرط موجب لفساد العقد.

هذا ولكن ظاهر كلام الشهيد المتقدم هو اشتراط الإبدال بنحو شرط الفعل، الراجع لاستحقاق المشتري علي البايع بتخلف الوصف الإبدال، دون الفسخ.

ولا محذور في ذلك، بل مقتضي عموم نفوذ الشروط صحته، ولزوم العمل عليه. ومعه لا منشأ لتوهم فساد العقد، كما لا يخفي.

(1) كما صرح به في الجملة في الشرايع والقواعد والتذكرة واللمعة وغيرها، و في مفتاح: (وقد تضمن كلامهم هذا ثبوت الخيار للبايع) وفي الحدائق أنه المتفق عليه

ص: 438

بينهم، وفي شرح القواعد لكاشف الغطاء دعوي الإجماع المحصل والمنقول عليه.

وقد ظهر مما سبق أن الخيار المذكور في كلماتهم في المقام يرجع إلي خيارين: خيار تخلف الوصف، وخيار الرؤية.

أما خيار تخلف الوصف، فلا ينبغي الإشكال في ثبوته للبايع إذا ابتني البيع منه علي الوصف، بحيث يبتني البيع منه علي سلامة الوصف له، بعين ملاك ثبوته للمشتري إذا ابتني الشراء منه علي سلامة الوصف له. ومثلهما في ذلك ثبوت الخيار لهما في تخلف وصف الثمن إذا ابتني رضا البايع بالبيع علي سلامته له، أو ابتني رضا المشتري بالشراء علي سلامته له. كما لعله ظاهر.

وأما خيار الرؤية فقد ظهر مما سبق أن موضوعه مجرد عدم رؤية المشتري للمبيع حين البيع إذا لم يبتن البيع علي وصف خاص فيه، سواءً وصف وصفاً لا يبتني عليه البيع أم لم يوصف، وأن المعيار فيه مجرد عدم قناعة المشتري بالمبيع حين رؤيته. وثبوت ذلك للبايع مع عدم رؤيته للمبيع حين البيع يحتاج إلي دليل بعد اختصاص دليله وهو صحيح جميل بالمشتري.

نعم أشار غير واحد إلي احتمال عموم الصحيح لهما. قال في الحدائق: (وربما احتمل بعض الأصحاب في صحيحة جميل أن يكون التفتيش من البايع بأن يكون البايع باعه بوصف المشتري. وحينئذ فيكون الجواب عاماً بالنسبة إليهما علي تقدير هذا الاحتمال. إلا أن الظاهر بعده غاية البعد عن سياق الخبر المذكور. ومع تسليمه فثبوت كون الجواب عاماً أيضاً محل خفاء وإشكال). ووافقه في ذلك غيره، وهو عين الصواب.

نعم قد يدعي استفادة ذلك من الصحيح بإلغاء خصوصية مورده عرفاً. لكنه لا يخلو عن إشكال بعد كون وظيفة المشتري عرفاً التعرف علي المبيع، لأنه غريب عليه نوعاً، بخلاف البايع، الذي يكون المبيع تحت يده، ومن شأنه التعرف عليه.

ومثله التعدي عن المبيع للثمن لو كان شخصياً في حق كلا المتبايعين لأن

ص: 439

(440)

علي ما رآه، فتبين خلافه، أو باعه بوصف غيرهفانكشف خلافه (1).

(مسألة 47): المشهور أن هذا الخيار علي الفور (2). وهو الأقرب.

---------------

الجميع من باب واحد لو فرض التعدي عن مورد النص. فلاحظ.

(1) وكذا لو باعه بوصفه بنفسه له خطأ.

(2) فقد صرح بذلك جماعة كثيرون. وفي الرياض والجواهر أنه الأشهر، وفي مفتاح الكرامة أنه المشهور، وفي الحدائق أنه ظاهر الأصحاب. قال في التذكرة: (كل موضع يثبت الخيار - إما مع الوصف عندنا، أو مطلقاً عند المجوزين - فإنما يثبت عند رؤية المبيع علي الفور، لأنه خيار الرؤية، فيثبت عندها). وهو راجع إلي أن المراد بالرؤية حدوثها، وأن إضافة الخيار لها من إضافة الشيء لظرفه وزمانه.

وكلاهما لا يخلو عن إشكال، خصوصاً الثاني. إذ قد تكون من إضافة الشيء إلي سببه أو الكاشف عنه أو غير ذلك، حيث يكفي في صحة الإضافة أدني ملابسة لها.

فالعمدة في وجه الفورية هو لزوم الاقتصار في الخروج عن عموم لزوم العقود علي المتيقن، نظير علي ماتقدم غير مرة وفي الرياض أن الأجود التراخي. قال: (لإطلاق النص والاستصحاب. إلا إذا استلزم الضرر، فيلزم بالاختيار).

لكن سبق غير مرة أنه لا مجال للاستصحاب في مثل المقام من موارد العموم.

وأما الإطلاق فيشكل ثبوته في المقام أولاً: لأن الحكم في الصحيح بثبوت الخيار إنما يتكفل ببيان أصل ثبوته، من دون نظر لأمده، ليكون مقتضي إطلاقه وعدم بيان الأمد له استمراره.

وثانياً: لما سبق من أن الصحيح ليس وارداً لبيان تشريع خيار الرؤية، لينعقد له إطلاق في ذلك، بل لبيان عموم موضوعه لصورة عدم استقصاء الرؤية لتمام أجزاء المبيع بعد الفراغ عن أصل ثبوته بسبب عدم الرؤية السابقة، من أن يتضمن تحديده.

ص: 440

هذا وعن نهاية الأحكام احتمال ما عن بعض العامة من امتداد الخيار هنا بامتداد مجلس الرؤية، لأنه خيار ثبت بمقتضي العقد من غير شرط، فيتقيد بالمجلس كخيار المجلس.

وهو - كما تري - ممنوع صغروياً وكبروياً. لأنه مشروط بعدم الرؤية، وليس كخيار المجلس ثابتاً في كل بيع. ولأن تحديد خيار المجلس باستمرار المجلس ثابت بنصوصه، وليس كذلك في المقام. فحمله علي خيار المجلس قياس صرف.

ودعوي: أن إضافة الخيار للرؤية من باب إضافة الشيء لظرفه، نظير إضافة الخيار للمجلس.

كما تري! أولاً: لعدم ثبوت ذلك، لما سبق من أنه يكفي في الإضافة أدني ملابسة بل إضافة خيار المجلس للمجلس لم ترد في النصوص، وإنما وردت في كلمات الفقهاء.

وثانياً: لأن الظرف - وهو زمان الرؤية - قد يراد به زمان حدوث الرؤية، لا زمان بقائها. والإنصاف أن ظهور ضعف الاحتمال المذكور يغني عن إطالة الكلام في مناقشتة. والحاصل أنه لا محيص عن القول بالفورية في الجملة.

نعم لا ينبغي الإشكال في عدم سقوط الخيار بترك الفسخ للجهل بثبوته، لعدم مناسبته لمورد السؤال، حيث فرض فيه جهل المشتري بالحكم، ولذا طلب من البايع أن يقيله، فلو كان ذلك مانعاً من بقاء الخيار كان علي الإمام (عليه السلام) التنبيه لعدم انتفاعه بالخيار بسبب عدم تعجيله بالفسخ.

بل لا يبعد قضاء الإطلاق المقامي بالفورية العرفية الراجعة إلي عدم التأخير تشهياً من دون عذر، علي غراء ما سبق في خيار الغبن. لاحتياج التقييد بما زاد علي ذلك للتنبيه.

وأظهر من ذلك خيار تخلف الوصف. لانحصار دليله ببناء العقلاء وسيرتهم

ص: 441

(442)

(مسألة 48): يسقط هذا الخيار بترك المبادرة إلي الفسخ بعد الرؤية (1)، وبإسقاطه بعد الرؤية (2)، بل قبلها (3)، وبالتصرف بعد الرؤية إذا كان دال

---------------

الإرتكازية، وهي لا تقتضي غير ذلك. فلاحظ.

(1) لأن ذلك مقتضي الفورية التي سبق البناء عليها. ويبتني تحديد ذلك علي ما سبق في تحديد الفورية.

(2) بلا ريب، كما في الجواهر، وأرسله شيخنا الأعظم (قدس سره) إرسال المسلمات. والوجه فيه ظاهر بعد كون الخيار المذكور حقاً للمشتري، كما هو ظاهر صحيح جميل الذي هو دليل خيار الرؤية، ومقتضي المرتكزات العقلائية التي هي دليل خيار تخلف الوصف.

(3) حيث سبق أن في المقام خيارين فلا ينبغي الإشكال في سقوط خيار تخلف الوصف بالإسقاط قبل الرؤية التي ينكشف بها تخلف الوصف، لقضاء المناسبات الارتكازية - التي هي دليل الخيار المذكور - بأن منشأ الخيار ثبوتاً هو تخلف الوصف، ولا دخل لظهوره بالرؤية أو غيرها إلا في مقام الإثبات، فيكون الإسقاط في المقام إسقاطاً لما وجب علي تقدير مصادفته تخلف الوصف واقعاً.

غاية الأمر أنه لا يعلم بتحقق موضوع الإسقاط حينه. وهو ليس محذوراً يمنع من ترتب الأثر عليه لو صادف تحقق موضوعه وهو الخيار.

ولعل ذلك هو الوجه في بناء سيدنا المصنف (قدس سره) علي صحة الإسقاط، لإبتناء خيار تخلف الرؤية عنده علي فرض الوصف أو الرؤية السابقة، وظهور الاختلاف بعد الرؤية. وكأنه لذلك قرب السيد الطباطبائي (قدس سره) في حاشيته أن الرؤية كاشفة عن الخيار، لا سبب أو شرط له.

وأما خيار الرؤية فقد يستشكل في إسقاطه قبل الرؤية بأنه من إسقاط ما لم يجب، لعدم فعلية الخيار قبل الرؤية، فالرؤية سبب للخيار لا كاشفة عنه، كما هو الحال

ص: 442

في خيار تخلف الوصف. وقد يناسبه ما في التذكرة قال: (إذا اختار إمضاء العقد قبل الرؤية لم يلزم، لتعلق الخيار بالرؤية).

وقد دفع ذلك في الجواهر وخيارات الشيخ علي بكفاية تحقق سبب الخيار

- وهو العقد - في صحة الإسقاط، نظير ما تقدم من غير واحد في خيار التأخير. وبناه شيخنا الأعظم (قدس سره) - لو تم أن الخيار يحدث بالرؤية، لا أنه يظهر بها - علي أن الرؤية سبب للخيار أو شرط له، فعلي الثاني ينفذ الإسقاط لتحقق السبب. قال: (ولا يخلو عن قوة). لكن يظهر ضعف الجميع مما سبق في نظائره من توقف صحة الإسقاط علي فعلية الخيار، ولا يكفي تحقق سببه.

ومثله في ذلك ما ذكره السيد الطباطبائي (قدس سره) في حاشيته من أن الإسقاط في المقام معلق علي تمامية موضوع الخيار و فعليته، بدعوي عدم الدليل علي امتناع التعليق في المقام. لما سبق غير مرة من عدم الدليل علي نفوذ الإسقاط المعلق بعد كون الإسقاط من الإيقاعات التي لا عموم يقتضي نفوذها.

نعم قد يقرب استفادة ثبوت الخيار بنفس العقد من الصحيح. قال السيد الطباطبائي (قدس سره) في حاشيته: (وأما الخبر فلأن المراد من قوله (عليه السلام) في صحيحة جميل: لكان له فيها خيار الرؤية. لكان له الخيار الجائي من قبل الرؤية أي من جهة فقدها، لا أن الرؤية سبب له. وما ذكرناه وإن كان بعيداً عن العبارة، إلا أنه قريب بملاحظة المقام، إذ المناسب أن يكون سبب الخيار عدم الرؤية، لا هي نفسها. ومقتضي ذلك ثبوته قبل الرؤية. ولا يلزم فعلية الرؤية بعد ذلك أيضاً. فلو فرض أيضاً عدم رؤية المبيع بعد ذلك أصلاً، وقد فرض تخلف الوصف نلتزم بالخيار الواقعي. فالرؤية طريق لا موضوع، ولا جزؤه. فتدبر).

لكنه (قدس سره) - بعد اعترافه ببعد ما ذكره عن عبارة الصحيح - إنما وجهه بما يناسب رجوع الخيار المذكور إلي خيار تخلف الوصف، وأن المعيار في ثبوت الخيار واقع

والسلطنة علي إعماله وتخلفه وإن لم تتحقق الرؤية أصلاً. وهو خروج عن مفروض

ص: 443

علي الالتزام بالعقد (1). وكذا قبل الرؤية إذا كان كذلك (2). وفي جواز اشتراط سقوطه في ضمن العقد وجهان (3) أقواهما ذلك، فيسقط به.

---------------

كلامنا من التباين بين الخيارين.

فالأولي في تقريب دلالة الصحيح علي ثبوت الخيار بمجرد العقد أن لم يتضمن تعليق ثبوت الخيار علي الرؤية، بل إطلاق ثبوت الخيار للمشتري مع عدم الرؤية السابقة. وإضافة الخيار للرؤية قد يكون بلحاظ أن إعماله لا يكون إلا بعد الرؤية، لا من أجل كشفها عن تخلف الوصف أو عدمه، بل من أجل أنه يعتبر في إلزام المشتري بالبيع اقتناعه بالمبيع عن رؤية له، ولا يكفي فيه اقتناعه به حين البيع من دون رؤية. وعلي ذلك يكون حق الخيار فعلياً بمجرد العقد، فيصح إسقاطه، ولا يكون إسقاطاً لما لم يجب.

(1) لما سبق في المسألة الثامنة والعشرين والثانية والأربعين في مسقطات خياري الغبن والتأخير من أن الرضا بالعقد مسقط للخيار. وبذلك يظهر سقوطه بالرضا ولو من دون تصرف. نعم التصرف إنما يدل علي الرضا بالعقد مع العلم بثبوت الخيار. أما بدونه فقد يكون لاعتقاد صاحبه بإلزامه بالعقد ولزومه عليه، كما تقدم في نظير المقام.

(2) بناء علي ما سبق من فعلية ثبوت الخيار بمجرد العقد من دون أن يتوقف علي الرؤية. خلافاً لما يظهر مما سبق من التذكرة معللاً بتعلق الخيار بالرؤية. إذ فيه أن المراد بتعلقه بها إن كان هو توقف ثبوته عليها فهو ممنوع، كما سبق، وإن كان هو توقف إعماله عليها فهو لا ينافي سقوطه بالرضا بالعقد قبلها. فلاحظ.

(3) ففي التذكرة والدروس وجامع المقاصد والمسالك وغيرها فساد الشرط. وقد ينسب لظاهر الأكثر، لأنهم ذكروا في غير واحد من الخيارات سقوطه باشتراط السقوط ولم يذكروا ذلك هنا. بل صرح غير واحد ببطلان البيع بذلك. وقد سبق في

ص: 444

خيار الغبن استدلال الشهيد في الدروس علي البطلان في الخيارين بلزوم الغرر. قال في جامع المقاصد: (لأن الوصف قائم مقام الرؤية، فإذا شرط عدم الاعتداد به كان المبيع غير مرئي ولا موصوف).

لكن اشتراط سقوط الخيار لا يرجع إلي عدم الاعتداد بالوصف، ولا ينافي كاشفيته في الجملة عن حال المبيع التي هي المعيار عندهم في رفع الغرر.

ومثل ذلك ما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن الرافع للغرر في المقام هو تعهد البايع بوجود الوصف وابتناء الالتزام بالبيع عليه، ومع إسقاط الخيار لا يتحقق ذلك. وهذا بخلاف البراءة من العيوب، فإن الرافع للغرر من حيثية العيب، ليس هو تعهد البايع بعدمه، بل أصالة الصحة والسلامة، وهي تجري مع البراءة من العيوب.

إذ فيه - بعد تسليم بناء العقلاء علي أصالة الصحة والسلامة مع البراءة من العيوب من قِبَل البايع الذي هو المرجع في أمر المبيع -: أن أصالة الصحة لا تزيد في الكشف عن حال المبيع عن إخبار البايع بالوصف. وبناء البيع علي الوصف إن أريد به جريان البيع اعتماداً علي وجوده فهو لا ينافي اشتراط سقوط الخيار بتخلفه. وإن أريد به عدم إلزام المشتري نفسه بالبيع عند تخلفه فهو وإن كان منافياً لاشتراط سقوط الخيار، إلا أنه أمر آخر لا دخل له في ارتفاع الغرر وصحة البيع، وإلا لم يصح البيع مع البراءة من العيوب، لوضوح أنه لا مجال معها لعدم إلزام المشتري نفسه بالمبيع علي تقدير وجود العيب.

وأما الإشكال في اشتراط سقوط الخيار في العقد بأنه إسقاط لما لم يجب، لأن الخيار إنما يثبت بالعقد، أو بعد الرؤية. فيظهر اندفاعه مما سبق في خيار التأخير وغيره من رجوعه إلي اشتراط سقوط الخيار معلقاً علي تمامية موضوعه، وفي المرتبة اللاحقة لثبوته.

ولذا لعله استشكل في محكي التحرير في بطلان الشرط المذكور وإبطاله. بل في محكي النهاية والمفاتيح تقريب صحة الشرط المذكور. وهو ظاهر مفتاح الكرامة

ص: 445

(مسألة 49): مورد هذا الخيار بيع العين الشخصية، ولا يجري في بيع الكلي (1). فلو باع كلياً موصوفاً ودفع إلي المشتري فرداً فاقداً للوصف

---------------

وخيارات الشيخ علي والجواهر.

هذا كله علي مبناهم في الغرر. أما بناء علي ما سبق منا فالأمر أظهر. وقد تقدم في مسقطات خيار المجلس ما ينفع في المقام. فراجع.

بقي شيء: وهو أنه لو تلف المبيع بعد قبضه قبل الرؤية، فالظاهر ارتفاع موضوع الخيار فيكون بحكم سقوطه.

أما لو تلف المبيع الموصوف بعد قبضه، فإن علم بتخلف الوصف أشكل بقاء الخيار. لانحصار دليله ببناء العقلاء ومرتكزاتهم، ولم يتضح عمومها لصورة تلف المبيع أو تعذر إرجاعه، نظير ما سبق في خيار الغبن.

وبذلك يظهر عدم الأثر للشك في تخلف الوصف في مثل ذلك، ليقع الكلام في أن مقتضي الأصل تخلف الوصف أو عدمه. فلاحظ.

(1) أما خيار الرؤية فظاهر. لاختصاص دليله ببيع الشخصي. ولأن الرؤية إنما يمكن فرضها في الشخصي. أما الكلي فلا يكون موضوعاً لها، وإنما يمكن رؤية الفرد المدفوع وفاءاً عنه، فإن طابقه فلا خيار، وإن لم يطابقه لم يصلح لأن يكون وفاءً.

وبذلك يظهر حال خيار تخلف الوصف. لأنه حيث كان الوصف مقسماً للكلي، وفاقد الوصف لا ينطبق علي المبيع، فلا مجال للخيار، بل يتعين التبديل.

نعم قد يؤخذ الوصف شرطاً زائداً علي المبيع الكلي، كما لو باعه حنطة بمواصفات خاصة، واشترط عليه أن تكون من المزرعة الخاصة. وحينئذٍ يتعين انطباقه علي المدفوع الفاقد الوصف، وحصول الوفاء بتسليمه. غايته أن للمشتري المطالبة بالإبدال تنفيذاً للشرط، فإن تعذر أو امتنع كان له خيار تخلف الشرط، لا خيار تخلف الوصف، نظير ما إذا باعه الثوب واشترط أن يخيطه له.

ص: 446

(447)

لم يكن للمشتري الخيار، وإنما له المطالبة بالفرد الواجد للوصف (1). نعم لو كان المبيع كلياً في المعين كما لو باعه صاعاً من هذه الصبرة الجيدة، فتبين الخلاف كان له الخيار (2).

(السابع): خيار العيب (3). وهو فيما لو اشتري شيئاً فوجد فيه

---------------

(1) مما سبق يظهر أن المطالبة بالفرد الواجد للوصف (تارة): لعدم تحقق الوفاء بالفاقد له، وإن كان له الرضا به بدلاً عنه. (وأخري): لعدم قيام البايع بالشرط وإن تحقق الوفاء بالمدفوع الفاقد للوصف.

وفي الأول لو امتنع البايع أو تعذر عليه تسليم الواجد للوصف يلحقه تعذر المبيع أو الامتناع من تسليمه. وفي الثاني يثبت بذلك الخيار كان للمشتري. لكنه خيار تخلف الشرط، لا خيار تخلف الوصف.

(2) لكنه ليس خيار الرؤية، لقصور دليله عنه. بل خيار تخلف الوصف في الكلي المبيع منه، الثابت بعين ملاك تخلفه في الشخصي الموصوف.

بقي شيء: وهو أن الظاهر اختصاص خيار الرؤية بالبيع، وعدم جريانه في غيره من العقود. لاختصاص دليله به. نعم خيار تخلف الوصف يجري في جميع العقود المبنية علي الوصف بعين ملاك جريانه في البيع.

وما ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) من جريان خيار الرؤية في غير البيع يبتني مسلك المشهور من اختلاط خيار الرؤية بخيار تخلف الوصف. والحمد لله رب العالمين.

(3) هذا الخيار في الجملة متسالم عليه عند الأصحاب، بل عند المسلمين فيما يظهر من الفروع التي ذكروها. ويظهر من جملة من النصوص المفروغية عنه. وقد ذكر غير واحد أن مقتضي الأصل في المبيع السلامة والصحة. وبذلك يستغني عن وصف الصحة لرفع الغرر المانع عندهم من صحة البيع. لكن من الظاهر أن الأصل المذكور ليس شرعياً تعبدياً، بل غاية ما يدعي بناء العقلاء عليه. وفي عموم بنائهم علي ذلك

ص: 447

(448)

عيباً. فإنه يتخير بين الفسخ والإمساك بالأرش (1). ولا فرق بين المشتري

---------------

إشكال خصوصاً مع شيوع وجود المعيب، أو تبري البايع من العيب. نعم ذلك غير مهم بناء علي ما سبق منا من عدم عموم مانعية الجهل بحال المبيع من صحة البيع.

(1) كما في المقنعة والنهاية والمراسم والوسيلة والسرائر والشرايع والنافع وجملة من كتب العلامة والدروس وغيرها. بل هو المعروف بين الأصحاب، و نفي شيخنا الأعظم (قدس سره) الخلاف فيه، بل استظهر هو وغيره الإجماع عليه. وفي الجواهر: (إجماعاً محصلاً ومحكياً مستفيضاً صريحاً وظاهراً).

ولا ينبغي الإشكال في ثبوت الخيار للمشتري بالفسخ والرد. لما هو المعلوم من خروج المعيب عن الوضع الطبيعي، وذلك موجب للخيار عرفاً، نظير ما تقدم في خيار الغبن. بل يظهر من النصوص الكثيرة المفروغية عنه. ففي معتبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): (قال: أيما رجل اشتري شيئاً وبه عيب أو عوار لم يتبرأ إليه ولم يبين له، فأحدث فيه بعد ما قبضه شيئاً، ثم علم بذلك العوار وبذلك الداء، أنه يمضي عليه البيع. ويرد عليه بقدر ما نقص من ذلك الداء والعيب من ثمن ذلك لو لم يكن به)(1) ، وصحيح جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليه السلام): (في الرجل يشتري الثوب أو المتاع، فيجد فيه عيباً. فقال: إن كان الشيء قائماً بعينه رده علي صاحبه وأخذ الثمن. وإن كان الثوب قد قطع أو خيط أو صبغ يرجع بنقصان العيب)(2) ونحوهما غيرهما، كما يظهر بمراجعة الباب السادس عشر من أبواب الخيار، و أبواب العيوب من الوسائل وغيرها.

نعم في صحيح الحسن بن عطية عن عمر بن يزيد: (قال: كنت أنا وعمر بالمدينة، فباع عمر جراباً هروياً، كل ثوب بكذا وكذا، فأخذوه فاقتسموه، فوجدوا ثوباً فيه عيب. فقال عمر: أعطيكم ثمنه الذي بعتكم به، فقالوا: لا، ولكنا نأخذ منك

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الخيار حديث: 2، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الخيار حديث: 2، 3.

ص: 448

قيمة الثوب. فذكر ذلك عمر لأبي عبد الله (عليه السلام). فقال: يلزمه ذلك)(1). وقد يظهر منه عدم الاقتصار في حق المشتري علي الفسخ، بل له إلزام البايع بقيمة المبيع لو كان صحيحاً.

لكنه مع غرابته، وعدم خلوه من الاضطراب في المتن قد رواه في الفقيه عن عمر بن يزيد نفسه. وفيه (فذكرت ذلك لأبي عبد الله (عليه السلام) فقال: يلزمهم ذلك)(2).

وهو صريح في انحصار حقهم بالفسخ، من دون أن يكون لهم المطالبة بقيمته لو كان صحيحاً. ولأجله قد يحمل الأول علي انه يلزم عمر بن يزيد ما عرضه عليهم، لا ما طلبوه منه ولاسيما أن المحكي عن نسخ التهذيب روايته هكذا: (يلزمهم ذلك). وقد تقدم بعض الكلام في الحديث في المسألة الثالثة في شروط العوضين.

أما الأرش فقد استدل عليه في التذكرة بأن العقد قد تضمن جعل الثمن في مقابل السليم، فإذا كان المبيع معيباً فقد فات جزء منه، فكان للمشتري المطالبة بما يقابله من الثمن، وهو الأرش.

ويندفع بأن وصف السلامة - كسائر الأوصاف المأخوذة في المبيع وكالشروط

لا يكون مقابلاً بجزء من الثمن، وإن كان دخيلا في زيادته، وليس المقابل به إلا المبيع بنفسه وتخلف وصف السلامة لا يوجب نقص جزء منه. ولذا لا يكون تخلف سائر الأوصاف موجباً للأرش عندهم إلا ما سبق من السرائر.

ودعوي: أن عدم ثبوت الأرش بتخلف غير السلامة من الأوصاف إنما هو لخروجها عن مقتضي القاعدة بالإجماع، فلا يمنع من العمل بالقاعدة في تخلف وصف السلامة.

ممنوعة، لعدم وجود إجماع تعبدي في المقام. ولاسيما بعدما سبق من السرائر في خيار الرؤية، علي ما أشرنا إليه آنفاً. وإنما ذهب من ذهب لذلك تبعاً لارتكاز عدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الخيار حديث: 1.

(2) من لا يحضره الفقيه ج: 3 ص: 13.

ص: 449

مقابلة الوصف بجزء من الثمن.

ومثلها دعوي: أن عدم مقابلة الوصف بجزء من الثمن وإن كان هو مقتضي القاعدة بدواً، إلا أن المستفاد من حكم الشارع بثبوت الأرش، عند تعذر الرد كون وصف السلامة مقابلاً بجزء من الثمن بنظر الشارع الأقدس، فيحق للمشتري المطالبة به ابتداء.

لاندفاعها بأن حكم الشارع بثبوت الأرش عند تعذر الرد قد لا يبتني علي ذلك، بل علي تدارك النقص الحاصل للمشتري بسبب تعذر ردّ المبيع، ولا موضوع له مع إمكان الرد. كيف ؟! ولازم ذلك استحقاق الأرش ابتداء، وكونه جزءاً من الثمن بحيث لا يملكه البايع من أول الأمر. غاية الأمر أن يترتب علي ذلك استحقاق المشتري أيضاً للخيار، لتبعض الصفقة. وهو بعيد عن مساق كلامهم. ومن هنا لا مجال لتوجيه أخذ الأرش بمقتضي القاعدة.

كما لا مجال للاستدلال عليه بالنصوص المتقدمة ولا غيرها مما عثرنا عليه، كما اعترف به غير واحد، وإنما تدل هي علي ثبوته عند تعذر الرد، لحدث يحدث عند المشتري في المبيع، ولا عموم فيها لغير ذلك.

بل حديث جميل المتقدم ظاهر في انحصار الأمر بالرد مع بقاء المبيع علي حاله. ومثله في ذلك معتبر علي بن أسباط عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): (سمعته يقول: الخيار في الحيوان ثلاثة أيام للمشتري، وفي غير الحيوان أن يتفرقا. وأحداث السنة ترد بعد السنة...)(1) ، ومرسل دعائم الإسلام عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (من استوجب صفقة بعد افتراق المتبايعين فوجد فيها عيباً لم يبرأ منه البايع فله الرد)(2).

لظهور الاقتصار فيهما علي الرد في الانحصار به وعدم التخيير بينه وبين الأرش. ولاسيما مع سياقه في الأول في سياق خيار الحيوان. وقد يستفاد ذلك من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب 2 من أبواب العيوب حديث: 4.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 12 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 450

غيرها مما ورد في فروع العيوب. خصوصاً مع انصراف الخيار والشرط والعهدة في النصوص لخصوص الرد.

نعم في الرضوي: (فإن خرج في السلعة عيب وعلم المشتري فالخيار إليه، إن شاء رد، وإن شاء أخذه، أورد عليه بالقيمة أرش العيب)(1). وهو كالصريح في التخيير، بناء علي ما عن بعضهم من أن الصحيح فيه: (وإن شاء أخذه ورد عليه بالقيمة أرش العيب).

لكن تكرر منا غير مرة أنه لم يثبت كونه رواية عن المعصوم (عليه السلام). مع أن من القريب أن يكون ما سبق فيه من التعبير ب - (أو) هو الصحيح، ويكون إشارة للتفصيل بين ما إذا أحدث المشتري في المبيع قبل العلم بالعيب حدثاً يمنع من الرد وما إذا لم يحدث، وأنه في الثاني يتخير المشتري بين رد المبيع وأخذه لا غير، وفي الأول يكون له الأرش دون الرد.

ولاسيما أنه قد ذكر هذا الكلام بعد قوله: (وروي في الرجل يشتري المتاع فيجد به عيباً يوجب الرد، فإن كان المتاع قائماً بعينه رد علي صاحبه، وإن كان قد قطع أو خيط أو حدث [حدثت] فيه حادثة رجع فيه بنقصان العيب علي سبيل الأرش)(2) ، فيكون الكلام المتقدم إشارة للتفصيل الذي تضمنته هذه الرواية التي سبق منه ذكرها.

والحاصل: أنه لا مجال لإثبات التخيير المذكور من النصوص، بل هي ظاهرة في عدمه، و أن الأرش يختص بصورة ما إذا لم يبق المبيع قائماً بعينه.

ومن هنا صرح غير واحد بأن العمدة في دليل التخيير ابتداء بين الرد والأرش هو الإجماع المتقدمة دعواه ممن سبق. وبه ترفع اليد عن القاعدة المعتضدة بالنصوص المتقدمة الظاهرة في انحصار حق المشتري بالخيار والفسخ.

لكن في نهوض الإجماع المذكور بالحجية إشكال أولاً: لأنه يصعب أن يتحصل

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 12 من أبواب الخيار حديث: 3.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 12 من أبواب الخيار حديث: 3.

ص: 451

لنا إجماع تعبدي في مقابل النصوص بعد روايتهم لها وتداولها بينهم في مقام الاستدلال، من دون تنبيه منهم إلي قصورها عن إثبات الأرش، وأن دليله الإجماع. بل سبق من التذكرة الاستدلال عليه بما عرفت ضعفه من أن الثمن في مقابل السليم، فإذا ظهر عيب كان قد فات جزء من المبيع، فكان للمشتري المطالبة بما يقابله من الثمن. كما قد يبتني ذهاب ابن إدريس في السرائر له علي ما سبق منه في خيار التأخير الرؤية من استحقاق الارش بمخالفة الوصف، بدعوي أبتناء البيع علي وصف السلامة لباً. ولعل ذلك أو نحوه هو المنشأ لذهاب غير واحد للتخيير المذكور في المقام دون الإجماع المدعي.

وثانياً: لأنه لا مجال لدعوي الإجماع بعد ظهور حال الكليني والصدوق (قدس سرهما) في العمل بصحيح جميل الذي سبق ظهوره في انحصار الأمر بالرد مع بقاء المبيع بحاله، لذكر الكليني له في باب الرجل يبيع البيع ثم يوجد فيه عيب، وذكر الصدوق له في باب البيوع. وكذلك الشيخ في التهذيب، حيث ذكره في أوائل باب العيوب الموجبة للرد ولعل ذلك حال من سبقهم ممن لم يتصد لتجريد الفتاوي، وإنما تعرف فتاواهم من طريق رواياتهم التي يعتمدونها.

مضافاً إلي أنه قد اقتصر علي الرد في غير موضع من المبسوط في فصل أن الخراج بالضمان. بل قال فيما لو يعلم المشتري بعيب في المبيع حتي باعه: (فإنه لا يمكنه الرد، لزوال ملكه، ولا يجب أيضاً له الأرش، لأنه لم ييئس من رده علي البايع)، وذكر نحو ذلك في أباق العبد وهبته. ثم قال فيما لو رضي المشتري الثاني بالعيب: (وأما المشتري الأول فإنه لا يرجع بأرش العيب، لأنه لا دليل عليه وهو إجماع). وهو كالصريح في أن الأرش لا يثبت للمشتري رأساً، بل إذا تحمل هو ضرر العيب بدفعه الارش للمشتري الثاني.

نعم ذكر في المبسوط والخلاف انه لو اشتري شيئين صفقة وظهر عيب في أحدهما لم يكن له رده وحده، وكان مخيراً بين الأرش ورد الجميع. ومن ثم قد ينسب

ص: 452

له فيهما التخيير بين الرد والأرش مطلقاً، بدعوي عدم الفرق بين عيب بعض المبيع وعيب تمامه، ويكون موافقاً لما سبق منه في النهاية، وعليه جمهور الأصحاب.

لكن ذلك منه قد يبتني علي أن استحقاق الأرش ليس للتخيير بينه وبين الرد ابتداء، بل لتعذر رد المعيب وحده، فراراً عن محذور تبعض الصفقة علي البايع، ليناسب ما سبق منه فيهما من أن استحقاق الأرش موقوف علي تعذر الرد. وهو المناسب لما ذكره في المبسوط فيما إذا باع المشتري بعض المبيع ثم وجد به عيباً، حيث قال: (فإنه لا يجوز له رد النصف الذي باعه، لأنه زال ملكه، ولا رد النصف الذي في ملكه، لأن فيه إفساد المبيع علي صاحبه بتبعيض الصفقة والشركة، ولا يجوز أن يرجع بالأرش، لأنه لم ييئس من رد الجميع).

غاية الأمر أن ذلك منه يبتني علي الغفلة عن أنه يكفي في القدرة علي رد المعيب المانعة عنده من الرجوع بالأرش القدرة علي رد الشيئين معاً بناء علي جوازه بها، علمها يأتي الكلام في المسألة الستين. وهو راجع إلي التباس الأمر عليه في ذلك، لا إلي ذهابه لتخيير المشتري بين الرد والأرش، وإلا فمن الصعب جداً تجاهل جميع ما سبق منه مما يشهد بعدم ذهابه للتخيير.

ومنه يظهر أنه لا مجال لنسبة التخيير المذكور لابن زهرة في الغنية لمجرد موافقته للمبسوط والخلاف في الفرع السابق.

وأشكل من ذلك ما نسب له وللخلاف من دعوي الإجماع علي التخيير بين الرد والأرش في الفرع المذكور. مع أن ملاحظة مساق كلامهما تشهد بأن الإجماع المدعي لهما ليس علي التخييز المذكور، بل علي أنه ليس للمشتري إرجاع المعيب وحده.

كما أنه قال في المبسوط أيضاً: (إذا اشتري شيئاً وقبضه، ثم وجد به عيباً كان عند البايع، وحدث عنده عيب آخر، لم يكن له رده. إلا أن يرضي البايع بأن يقبلها ناقصة، فيكون له ردها، ولا يكون له أن يرجع بأرش العيب عند الفقهاء. وكذلك عندي. وقيل: إن له الأرش، لأن أرش العيب كان ثابتاً له، وإنما سقط حكم الرد

ص: 453

بحدوث العيب عنده، فلما رضي البايع باسترجاعه لم يسقط حق الأرش، لأنه يحتاج إلي دليل) وعلي ذلك جري في الخلاف مستدلاً عليه بإجماع الفرقة وأخبارهم، من دون أن يشير للقول الآخر.

وقد يستفاد من قوله في المبسوط: (لأن أرش العيب كان ثابتاً له...) اتفاقه مع القائلين - الذين أشار إليهم - بالتخيير بين الأرش والرد قبل حدوث العيب الآخر عند المشتري، وإنما يخالفهم في فرض حدوث العيب الآخر، فهو يري سقوط الأرش إذا رضي البايع بالمعيب، وهم لا يرون سقوطه.

لكنه لا يتناسب مع كلامه في الفروع السابقة. بل هو بعيد جداً، لما ذكره عنهم من أنه لا منشأ لسقوط الأرش بعد ثبوته.

ومن هنا يتعين إبتناء ما تضمنته الفقرة المذكورة علي مبناهم من التخيير، وإن كان هو (قدس سره) مخالفاً لهم فيه. فيكون ذلك شاهداً علي ما سبق منا من أن القول بالتخيير لم يصل حدّ الإجماع الملزم، ولذا خالفهم.

أو يكون مراده هو أن الأرش قد ثبت بتجدد العيب عنده، حيث تضمنت النصوص أن به يسقط الرد ويثبت الأرش، فسقوط الأرش و رجوع الرد برضا البايع باسترجاع المعيب يحتاج إلي دليل. ولعل هذا هو الأظهر من كلامه، ويأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي بعد الكلام في مسقطات الرد. فلا يدل علي موافقته للمشهور

والحاصل: أنه لا ينبغي الإشكال في كون مذهب الشيخ (قدس سره) في المبسوط

- بل في الخلاف - هو الاقتصار علي الرد في أول الأمر.

وعلي ذلك جري ابن البراج في المهذب، فإنه اقتصر علي الرد في غير مورد ووافق الشيخ في كثير مما ذكره في المبسوط، ومنه تعليله أخذ الأرش في بعض الفروع بتعذر الرد. وكذا في جواهره لأنه علل فيه ثبوت الأرش للمشتري فيما إذا اشتري عبدين معيبين ومات أحدهما بأنه يتعذر عليه رد المبيع بتمامه.

ص: 454

(455)

والبايع. فلو وجد البايع عيباً في الثمن (1) كان له الخيار المذكور (2).

---------------

وقد يظهر ذلك مما يأتي عن ابن الجنيد من أنه لا يكفي التبرؤ من العيوب إجمالاً في إسقاط الرد، لظهوره في أن العيب لا يقتضي غير الرد.

وربما كان ذلك هو ظاهر كل من اقتصر علي الحكم بثبوت الخيار مع العيب من دون تنبيه للارش، لما سبق من انصراف الخيار لخصوص استحقاق الفسخ والرد.

ومع ذلك كيف يمكن دعوي الإجماع علي التخييز بين الرد والأرش ؟! ولاسيما أنه لم ينسب التصريح بالإجماع من القدماء إلا للشيخ و ابن زهرة في الخلاف والغنية في مسألة ما إذا كان العيب في بعض المبيع، وقد سبق وهن النسبة المذكورة كما أنه يظهر من الدروس أن ما سبق من الشيخ في إباق العبد وهبته مخالف للمشهور، لا للإجماع.

وبالجملة: لا مجال للتعويل علي دعوي الإجماع المذكورة في كلماتهم بنحو تنهض بالحجية والاستدلال، فضلاً عن الخروج بها عن ظاهر النصوص المتقدمة.

ومن هنا يتعين البناء علي تخيير المشتري بين الرضا بالمبيع ورده بالفسخ من دون أن يكون له المطالبة بالأرش، وفاقاً لمن سبق.

(1) يعني إذا كان شخصياً. أما إذا كان كلياً فلا وجه لثبوت الخيار، بل يتعين جواز المطالبة بالتبديل لا غير، كما صرح بذلك في التذكرة والمختلف.

(2) كما صرح به في الجملة في التذكرة والمختلف والمسالك وغيرها. قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (والظاهر أنه مما لا خلاف فيه).

لكن المراد بذلك إن كان تخيير البايع بين الإمساك والرد - كما هو ظاهر التذكرة والمختلف - فهو حسن، لما سبق من أن الخيار بالمعني المذكور ثابت بحكم العرف ارتكازاً، ولا يفرق فيه بين المبيع و الثمن. بل قد يكون ذلك سبباً في فهم العموم للثمن من النصوص بإلغاء خصوصية مواردها عرفاً.

ص: 455

(456)

(مسألة 50): يسقط هذا الخيار (1) بأمور:

(الأول): الالتزام بالعقد بمعني اختيار عدم الفسخ (2). ومنه

---------------

بل قد يدعي أنه مقتضي إطلاق بعض النصوص كقوله (عليه السلام): (ترد الجارية من أربع خصال، من الجنون والجذام والبرص والقرن...)(1) وقوله (عليه السلام): (يرد المملوك من أحداث السنة)(2) وغيرهما. لشموله لما إذا كان ثمناً.

لكنه لايخلو عن إشكال، لعدم ورود النصوص المذكورة في مقام تشريع الخيار، بل لبيان تحقق موضوع الخيار أو أمده بعد الفراغ عن مشروعيته، فلابد في استفادة عموم مشروعيته بنحو يشمل الثمن من دليل آخر. فالعمدة ما سبق.

وعن أبي الصلاح إطلاق أنه ليس للبايع الرد، بل له المطالبة بالتبديل. ولعله يبتني علي غلبه كون الثمن كلياً، وإلا فلا وجد له في نفسه، فضلاً عن الخروج به عما ذكرنا.

وإن كان المراد هو تخييره بين الرد والأرش، كما يظهر من المسالك وغيره فقد سبق أن التخيير المذكور مخالف للقاعدة، ولظاهر النصوص الواردة في المشتري. وأن دليله ينحصر بالإجماع لو تم. ولو تم الإجماع في المشتري فدون إثبات عموم معقده للبايع خرط القتاد، بعد أن لم يعرف القول بالعموم له من أحد قبل الشهيد في المسالك.

(1) الظاهر أن المراد به سقوط حق الفسخ دون الأرش بقرينة ما يأتي في المسألة الثانية والخمسين.

(2) كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) ولا ينبغي الإشكال في ذلك بناء علي ما سبق منا من أن الثابت بالعيب خصوص حق الفسخ والرد دون الأرش. سواءً رجع ذلك إلي إسقاط الحق أم إلي الرضا بالمبيع والعقد. لما تكرر ما من قبول الحق وللإسقاط.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1، 2.

ص: 456

التصرف في المبيع تصرفاً يدل علي اختيار عدم الفسخ (1).

---------------

ولما سبق في خياري الغبن والرؤية من أن المستفاد من بعض النصوص عموم سقوط الخيار بالرضا بالمبيع والعقد.

أما بناء علي ما عليه المشهور من أن الثابت بالعيب التخيير بين الأرش والفسخ فمن الظاهر رجوع ذلك إلي حق واحد، ولم يتضح مشروعية التبعيض في إسقاط الحق الواحد. كما لم يتضح إطلاق لزوم البيع الخياري بالرضا بالمبيع والعقد، إذ لا دليل عليه إلا صحيح علي بن رئاب الوارد في خيار الحيوان. غاية الأمر التعدي منه إلي ما يماثله مما يكون فيه الخيار بالفسخ تمام الحق الثابت. أما إذا كان الخيار المذكور بعض الحق الثابت فهو أمر تعبدي، ويشكل جداً فهم العموم له.

وبذلك يظهر الإشكال في إسقاط خصوص الأرش دون الرد. غاية الأمر أن دليل الأرش لما لم يكن متحصلاً لنا فهو لو ثبت - بالإجماع أو نحوه - فالمتيقن منه صورة عدم إسقاطه. أما الخيار بالفسخ فهو لما كان ثابتاً بإطلاق بعض النصوص فلابد في البناء علي سقوطه من دليل.

(1) الظاهر الاكتفاء بالظهور العرفي للتصرف في ذلك. غاية الأمر أنه يكفي في مقام الإثبات، أما مقام الثبوت فهو تابع لتحقق الرضا بالعقد واقعاً.

هذا ومقتضي إطلاق جماعة أن التصرف بعد العلم بالعيب مانع من الرد مطلقاً، من دون أن يشترطوا فيه الدلالة علي الرضا بالبيع وعدم إرادة الفسخ. بل قال في المختلف: (إذا تصرف المشتري بعد العلم بالعيب سقط الرد إجماعاً). وكأنه لدعوي دلالة التصرف علي الرضا مطلقاً، أو لفهم ذلك من نصوص خيار الحيوان.

لكن الأول ممنوع. مضافاً إلي ما ذكرنا آنفاً من الإشكال في كفاية الرضا في سقوط الرد في المقام بناء علي التخيير ابتداء بين الرد و الأرش. ومثله الثاني. لاختصاص نصوص خيار الحيوان به. مضافاً إلي ما سبق هناك من اختصاصها ببعض التصرفات.

ص: 457

فراجع.

وأشكل من ذلك ما في التذكرة. قال: (تصرف المشتري كيف كان يسقط الرد بالعيب السابق عند علمائنا. وبه قال أبو حنيفة. لأن تصرفه فيه رضا منه علي الإطلاق، ولولا ذلك كان ينبغي له الصبر والثبات حتي يعلم حال صحته وعدمها. ولقول الباقر (عليه السلام): أيما رجل اشتري شيئاً وبه عيب أو عوار لم يتبرأ إليه ولم يبرأ، فأحدث فيه بعد ما قبضه شيئاً انه يمضي عليه البيع... وقال الصادق (عليه السلام): أيما رجل اشتري جارية فوقع عليها، فوجد بها عيباً، لم يردها، ورد البايع عليه قيمة العيب). وكلامه كالصريح في العموم لكل تصرف، والعموم لصورة الجهل بالعيب.

وحينئذ يشكل بظهور أن التصرف مع الجهل بالعيب لا يدل علي الرضا بالعقد علي الاطلاق ليشمل صورة وجود العيب. وأما أنه ينبغي له الصبر حتي يعلم الحال فهو لا يتجه مع الغفلة و اعتقاد عدم العيب.

بل حتي مع الالتفات واحتمال العيب، بناء علي ما ذكروه من أصالة السلامة، وأن عليها المعول في رفع الغرر المانع من صحة البيع. وإلا كان اللازم الاكتفاء في سقوط الرد بالقبض من دون حاجة للتصرف. بل اللازم الاكتفاء في عدم ترتب حكم العيب - من الرد والأرش - بمجرد إجراء العقد، لأن الإقدام عليه مع احتمال العيب رضا به علي الإطلاق لولا أصالة السلامة.

وأما حديث الإمام الباقر (عليه السلام) فقد تضمن منع المشتري من الرد مع إحداثه في المبيع شيئاً، وذلك لا يصدق بمجرد التصرف، بل بتأثيره فيه أثراً يتغير به عما كان عليه.

ودعوي: أن الحدث إن لم يصدق عرفاً بمطلق التصرف فلا أقل من لزوم الحمل عليه في المقام، بضميمة ما ورد في خيار الحيوان. ففي صحيح علي بن رئاب: (فإن أحدث المشتري فيما اشتري حدثاً قبل الثلاثة الأيام فذلك رضا منه فلا شرط. قيل له: وما الحدث ؟ قال: إن لامس أو قبّل أو نظر منها إلي ما كان يحرم عليه فذلك، رضا منه فلا شرط)(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 458

وفي صحيح الصفار: (كتبت إلي أبي محمد (عليه السلام) في الرجل اشتري من رجل دابة، فأحدث فيها حدثاً من أخذ الحافر أو أنعلها أو ركب ظهرها فراسخ له أن يردها في الثلاثة الأيام التي له فيها الخيار بعد الحدث الذي يحدث فيها أو الركوب الذي يركبها فراسخ ؟ فوقع (عليه السلام): إذا أحدث فيها حدثاً فقد وجب الشراء إن شاء الله)(1) بناء علي ما سبق هناك من عموم الحدث في الجواب فيه للركوب فراسخ.

فإن تطبيق الحدث الصحيحين علي الملامسة والتقبيل والنظر إلي ما يحرم عليه قبل الشراء والركوب فراسخ شاهد بعدم اختصاصه شرعاً بما يوجب تغير العين.

مدفوعة بأنه لا قرينة علي كون تطبيق الحدث علي الأمور المذكورة في الصحيحين مبنياً علي خروج الشارع الأقدس في مفهوم الحدث عن المعني العرفي إلي معني يختص هو به، ليحمل عليه في سائر موارد استعماله للحدث، ومنها المقام. بل المتيقن مجرد استعماله للحدث في الصحيحين بنحو يعم الأمور المذكورة ولو توسعاً ومجازاً. وذلك لا يقتضي خروجه عن المعني العرفي للحدث في المقام وغيره من موارد إطلاقه في كلامه.

ولاسيما مع كون ما ذكرنا في معني حديث الإمام الباقر (عليه السلام) وهو المناسب لما تضمنه حديث جميل المتقدم من جواز الرد مع قيام الشيء بعينه، والمنع منه مع قطع الثوب أو خياطته أو صبغه. بل الاقتصار في حديث جميل علي الثوب دون المتاع قد يكون من أجل أن الثوب غالباً يتعرض لمثل ذلك، والمتاع كثيراً ما ينتفع به من دون أن يتغير عما هو عليه.

كما أن ذلك هو المناسب أيضاً لما تضمن رد الجارية إذا لم تحض ستة أشهر(2). لما هو المعلوم حصول التصرف في المملوك هذه المدة الطويلة ولو بالاستخدام.

وأما حديث الإمام الصادق (عليه السلام) فهو مختص بالوطء الذي يظهر من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الخيار حديث: 2.

(2) راجع. وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب العيوب، رد المملوك من أحداث السنة باب: 2.

ص: 459

(460) (460)

(الثاني): تلف العين (1).

(الثالث): خروجها عن الملك (2) ببيع أو عتق أو هبة أو نحو ذلك.

---------------

أحاديث كثيرة(1) خصوصيته. ولعله لكونه من سنخ الجناية. ولذا يثبت به العقر مع الحبل. كما استفاضت به النصوص(2). ولا وجه مع ذلك للتعدي منه لبقية التصرفات. بل حيث كان الوطء مسبوقاً نوعاً ببعض التصرفات - كالتقبيل واللمس ونحوهما - فإسناد سقوط الرد للوطء ظاهر في عدم سقوطه بالتصرفات المذكورة ومعه لا مجال للتعدي من الوطء لكل تصرف، كما نبه لذلك بعض مشايخنا (قدس سره).

(1) الظاهر عدم الإشكال فيه بينهم واستظهر شيخنا الأعظم (قدس سره) الإجماع عليه. والعمدة فيه أنه لا موضوع معه للرد.

نعم قد يحتمل بقاء موضوع الفسخ بناء علي ما سبق غير مرة من أن موضوع الفسخ هو العقد، لا عين العوضين، فمع تلف المبيع لا يرتفع موضوع الخيار والفسخ، غاية الأمر أن ينتقل للبدل مع التلف.

لكن لا مجال للبناء علي ذلك في المقام أولاً: لعدم الإطلاق لدليل خيار العيب بنحو يشمل صورة تلف العين. لعدم العثور علي نص ينهض بتشريع أصل الخيار، لينظر في إطلاقه بنحو يشمل صورة تلف العين، بل أكثر النصوص قد تضمنت الفروع المترتبة علي الخيار بعد الفراغ عن أصل بثبوته. ولاسيما مع اشتمال أكثرها علي الكفاية عن الفسخ برد المبيع المختص بصورة وجوده.

وثانياً: لأن المستفاد من نصوص مانعية الحدث في المبيع من الفسخ عدم مشروعية الفسخ مع التلف بالأولوية العرفية. ومجرد إمكان التفكيك بينهما عقلاً لا ينافي ذلك، لعدم توقف الأولوية العرفية علي التلازم الحقيقي أو العقلي.

(2) كما صرح بذلك غير واحد. وقد تقدم في كلام المبسوط وغيره ما يناسب

********

(1) راجع. وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب العيوب.

(2) راجع. وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب العيوب.

ص: 460

ذلك. والظاهر انه داخل فيما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من صيرورته كالتالف الذي استظهر الإجماع فيه. والعمدة فيه ما سبق في التلف.

نعم صرح في غير موضع من المبسوط وغيره بأنه لو رجع إليه كان له الرد. بل ليس له الأرش، حتي يتعذر رجوعه إليه وييئس منه، وفي المقنعة والنهاية أن التدبير والهبة لا يمنعان من الرد، لأن له الرجوع فيهما.

ولا يخفي أن التلف والخروج عن الملك لم تتضمنها النصوص، وإنما استفيد امتناع الفسخ معهما تبعاً لما تضمنته من أنه يشترط في الفسخ بقاء المبيع بحاله من دون حدث فيه، بحيث يمكن إرجاعه للبايع، كما سبق. وحينئذ قد يدعي أن مقتضي ذلك سقوط حق الفسخ وتعين الأرش بخروج المبيع عن ملك المشتري، ومع سقوط حق الرد والفسخ فعوده بعود المبيع لملكه يحتاج لدليل.

ولعله لذا قال في المختلف بعد نسبة ذلك وغيره للمبسوط: (وهذه الإحكام التي ذكرها الشيخ رحمه الله منافية لأصول المذهب المقررة).

اللهم إلا أن يقال: المفهوم عرفاً من ذلك ليس هو سقوط الرد تعبداً، بحيث لا ملاك فيه، بل اضطراراً من أجل تعذر الرد، و ذلك لا يناسب سقوط الرد رأساً، بل مراعي ببقاء تعذره، فمع تجدد القدرة عليه يتعين مشروعية الفسخ.

لكنه لا يخلو عن إشكال. لما يأتي في أحكام الأرش من أن سقوط الرد بهذه الأمور لم يتضمنه دليل خاص، وإنما استفيد مما دل علي اعتبار بقاء المبيع بحاله، وعدم بقاء المبيع بحاله قد لا يرجع لنقص فيه يتعذر معه الرد، بل قد يوجب زيادة فيه لا تمنع من الرد في حق البايع، ولا تكون إضراراً به وذلك ملزم بالعمل بإطلاق تلك الأدلة. غاية الأمر أن يكون تعذر الرد حكمة لا علة يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً.

هذا كله في التصرف اللازم. أما غير اللازم فلا يتضح كونه موجباً لسقوط الرد حين وقوعه بعد أن فرض إمكان الرجوع فيه، حيث يمكن معه إرجاع العين للبايع بعد الفسخ ولو بفسخ التصرف الجائز قبله. وقد سبق أن الخيار يتعلق بالعقد

ص: 461

(462) (462)

(الرابع): التصرف الخارجي في العين الموجب لتغيير العين (1)، مثل تفصيل الثوب وصبغه وخياطته ونحوها.

(الخامس): التصرف الاعتباري إذا كان كذلك (2)، مثل إجارة العين ورهنها.

---------------

لا بالعين، ليدعي امتناع بقاء حق الخيار مع صحة التصرف الجائز. فلاحظ.

(1) الظاهر عدم الخلاف فيه، لأنه المصرح به في الكلام غير واحد، والمتيقن مما ذكره جماعة من سقوط الرد بإحداث المشتري حدثاً في المبيع أو تصرفه فيه علي اختلاف عباراتهم. بل يستفاد من غير واحد دعوي الإجماع عليه.

والعمدة فيه قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة المتقدم: (فأحدث فيه بعد ما قبضه شيئاً)(1) ، وفي حديث جميل: (إن كان الشيء قائماً بعينه رده علي صاحبه وأخذ الثمن، وإن كان الثوب قد قطع أو خيط أو صبغ يرجع بنقصان العيب)(2). وقد تقدم في المسقط الأول ما ينفع في المقام.

(2) حيث لا يعقل أن يكون التصرف الاعتباري موجباً لتغير العين، لعدم السنخية بينهما، تعين أن يكون مراده (قدس سره) بذلك ما يوجب اختلاف الرغبة في العين أو النقص فيها، بقرينة المثالين المذكورين في كلامه.

وينحصر الوجه فيه في استفادته من حديثي زرارة وجميل عرفاً، بضميمة ما هو المرتكز من أن مانعية الأمور المذكورة فيها من الرد للإرفاق بالبايع، وعدم إلزامه بقبول العين مع اختلاف حالها عما كانت عليه حين البيع.

وفي رجوع حق الفسخ و الرد بارتفاع أثر التصرف المذكور بمثل انقضاء مدة الإجارة وفكّ الرهن أو فسخ العقدين وعدمه، وجهان مبنيان علي ما تقدم في رجوع المبيع لملك المشتري بعد خروجه عنه. فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الخيار حديث: 2، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الخيار حديث: 2، 3.

ص: 462

(463)

(السادس): حدوث عيب فيه (1).

---------------

(1) كما صرح به جماعة من الفقهاء والمتأخرين، وفي الجواهر: (بلا خلاف أجده فيه)، وفي الخلاف وعن شرح الإرشاد للفخر الإجماع عليه. وفي المبسوط: (إذا باع عبداً وقطع طرف من أطرافه عند المشتري، ثم وجد به عيباً قديماً، سقط حكم الرد إجماعاً، ووجب الأرش).

وقد يستدل له بأن إلزام البايع بالرد حينئذ ضرر عليه، كما أن إلزام المشتري بقبول المبيع مجاناً مع اشتماله علي العيب السابق ضرر عليه أيضاً، فيتعين جبر ضرر المشتري حينئذ بالأرش.

وفيه - مع أن إلزامه بالمعيب مجاناً قد لا يكون ضرراً عليه، لعدم زيادة الثمن علي قيمة المعيب -: أنه كما يمكن تدارك ضرر المشتري بأرش العيب السابق يمكن تدارك ضرر البايع في إلزامه بالرد بأرش العيب اللاحق. كما حكي في الخلاف عن بعض العامة إلزام المشتري بذلك، وعن بعضهم التخيير بين الأمرين.

ومن هنا لا يبعد استفادة الأصحاب ذلك من حديثي زرارة وجميل، كما يناسبه الاستدلال عليه في الخلاف بأخبار الفرقة. والوجه في ذلك: أن معتبر زرارة وإن تضمن إحداث المشتري، إلا أن مناسبة الحكم والموضوع قاضية بأن الموضوع هو الحدث بنفسه، الذي هو نتيجة الإحداث منه، مع إلغاء خصوصية الإحداث المذكورة، لما هو الظاهر من أن منشأ المانعية من الرد هو الإرفاق بالبايع، لا عقوبة المشتري، بعد ظهور كون المشتري قد تصرف في ملكه من دون أن يكون متعدياً في تصرفه، أوحدث العيب قهراً عليه.

وأما حديث جميل فهو وإن تضمن اشتراط حق الفسخ ببقاء الشيء قائماً بعينه، وهو قد يصدق مع بعض أفراد العيب كالمرض، إلا أن المفهوم منه عرفاً كون الموضوع هو بقاءه بحاله، بحيث لا يتغير عما كان عليه عند البايع عرفاً. وأما ما عن

ص: 463

بعد قبضه من البايع (1)، ففي جميع هذه الموارد ليس له فسخ العقد. نعم

---------------

غير واحد من الاستدلال عليه بأنه لما كان مضموناً عليه كان بمنزلة إحداثه فيه حدثاً فهو بالقياس أشبه. والعمدة ما ذكرنا.

لكن في المقنعة: (فإن لم يعلم بالعيب حتي حدث فيه عيب آخر كان له أرش العيب المتقدم، دون الحادث، إن اختار ذلك، وإن اختار الرد كان له ذلك ما لم يحدث فيه هو حدثاً علي ما ذكرناه). وهو صريح في أن العيب إذا لم يكن بفعل المشتري لم يمنع من الرد. ويظهر الإشكال فيه مما سبق.

وأشكل منه ما يظهر منه من عدم ثبوت أرش العيب المذكور للبايع علي المشتري، لعدم تنبيهه علي ثبوت الأرش مع شدة الحاجة للتنبيه عليه لو كان ثابتاً عنده. إذ لا وجه له بعد كون المبيع مضموناً علي المشتري بضمان المعاوضة. نظير ما تقدم في أوائل المسألة التاسعة والعشرين عند الكلام في فروع خيار الغبن. ولذا قرب في الجواهر جبره بالأرش بناء علي أن له الرد.

(1) أما لو كان قبل قبض المشتري له فلا يسقط به الرد قطعاً، كما في الجواهر وعن المهذب البارع، وبلا خلاف، كما عن مجمع البرهان والكفاية، بل إجماعاً، كما في كشف الرموز والروضة.

وقد علله غير واحد بأنه مضمون علي البايع. لكن ذلك وحده لا يكفي في عدم سقوط الرد. لأن مقتضي ضمانه علي البايع تحمله لدركه ولو بدفع الأرش للمشتري، وهو لا يستلزم بقاء حق الفسخ و الرد.

نعم قد يدعي أن العيب المذكور بنفسه سبب للخيار، واستحقاق الفسخ،

فكيف يكون مانعاً من الرد بالعيب السابق علي العقد؟!.

لكن من الظاهر قصور معتبر زرارة عن إثبات الخيار بالعيب المذكور، لكون المفروض فيه وقوع الشراء علي المعيب.

ص: 464

وأما حديث جميل فهو وإن تضمن وجدان العيب في المبيع الشامل لما إذا حصل بعد العقد قبل القبض، إلا أنه شامل أيضاً لما إذا حدث العيب عند المشتري. وليس البناء علي عموم الحديث له وخروجه عنه تخصيصاً بأولي عرفاً من حمل الحديث علي فرض وقوع الشراء علي المعيب، بل الأقرب الثاني لأنه المنسبق من تعقيب وجدان العيب فيه علي الشراء. ومثله غيره من النصوص الواردة في العيوب، المتضمنة وجدان الثاني العيب بعد الشراء(1).

نعم قد يوجه ثبوت الخيار فيه بأن البيع لما كان يبتني ارتكازاً علي سلامة المبيع وعلي التسليم والتسلم، فمرجع ذلك إلي أنه يبتني علي تسليم المبيع سالماً، فمع تخلف ذلك بتعيب المبيع قبل القبض يتعين ثبوت الخيار.

كما قد يوجه ثبوت الأرش به بأنه مقتضي ما تضمن أن تلف المبيع قبل القبض من مال البايع، الذي يراد به أن دركه عليه من الثمن، لا بدفعه بدله من المثل أو القيمة. ومرجعه عملاً إلي انفساخ البيع. فإن ذلك كما يقتضي تحمل البايع لدرك المبيع بالنحو المذكور مع تلفه بتمامه يقتضي تحمل درك النقص الحاصل فيه مما يوجب نقص ماليته، وذلك بدفع الأرش.

وقد تكون ارتكازية ذلك كله منشأ لإلحاقه بمورد نصوص خيار العيب، وهو العيب السابق علي البيع، بحيث يفهم عرفاً أن موضوع الخيار حقيقة هو الأعم من العيب السابق علي العيب والمتخلل بينه وبين القبض، وأنهما بحكم واحد وتمام الكلام في ذلك في المسألة الرابعة من الفصل السابع في التسليم والقبض إن شاء الله تعالي.

لكن ذلك كله لو تم - كما هو غير بعيد - لا ينهض بنفسه دليلاً علي عدم مانعية العيب الحادث بين البيع والقبض من الرد بالعيب السابق علي البيع الذي هو محل الكلام بعد اختلاف منشأ الخيار. غايته عدم ترتب الأثر العملي لذلك بعد ثبوت الخيار بسبب العيب الحادث. كما أنه يقتضي ثبوت الأرش من عي الثمن بمجرد

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب العيوب.

ص: 465

حدوث العيب المذكور من دون أن يتوقف علي تعذر الرد به.

نعم عن بعض مشايخنا (قدس سره) أن ثبوت الخيار بالعيب الحادث بعد القبض وإن لم يلازم عقلاً عدم مانعيته من الرد، إلا أنه ملازم لذلك عرفاً، بحيث ينصرف ما يتضمن مانعية حدوث العيب من الرد عن العيب الموجب بنفسه لاستحقاق الرد. لكنه لا يخلو عن خفاء بعد تعدد الجهة، لتعدد الخيار بسبب تعدد العيب، وليس غريباً علي العرف بمرتكزاتهم أن يكون العيب المذكور سبباً بنفسه للخيار، ومانعاً من الرد بسبب الخيار السابق. ولعل الأولي في تقريب عدم مانعيته في المقام من الرد بالعيب السابق أنه وإن سبق تقريب عموم مانعية الحدث من الرد لما إذا لم يكن بفعل المشتري، إلا أن معتبر زرارة كالصريح في اختصاص الحدث المانع بما إذا كان بعد قبض المشتري للمبيع. وبه يخرج عن حديث جميل لو فرض عمومه لما إذا كان الحدث قبل القبض ولم ينصرف لخصوص ما كان بعد القبض، كما هو غير بعيد، وإلا لزم عمومه لما إذا كان بفعل البايع نفسه. فلاحظ.

هذا ولو كان حدوث الحدث والعيب بعد القبض وفي مدة الخيار، بحيث يكون مضموناً علي البايع، كما لو كان المبيع حيواناً وكان الحدث في الأيام الثلاثة، فلا إشكال عدم مانعيته من الرد في مدة الخيار المفروض - كالأيام الثلاثة - إما للخيار المفروض، أو لخيار العيب الثابت بالعيب السابق علي العقد.

أما بعد انقضاء مدة الخيار المفروض كالأيام الثلاثة في الحيوان فاستحقاق الرد بالعيب السابق يبتني علي مانعية العيب المتجدد من الرد بالعيب المذكور وعدمها. ولا إشكال في دخول العيب المتجدد في إطلاق حديثي زرارة وجميل، لفرض كونه بعد القبض. وهو يقتضي مانعيته من الرد.

إلا أن يتم ما سبق من غير واحد من عدم مانعية العيب المضمون علي البايع من الرد بالعيب السابق. وقد سبق المنع من ذلك. وربما يأتي في فصل أحكام الخيار ما ينفع في المقام. فلاحظ.

ص: 466

(467)

يثبت له الأرش (1).

---------------

(1) بلا إشكال ظاهر، ولا خلاف. بل يمكن تحصيل الإجماع عليه. إما لأنه أحد طرفي التخيير بسبب العيب، كما هو المشهور، فيتعين بعد فرض امتناع الرد، أو لأنه بدل عن الرد بعد تعذره، كما هو الظاهر تبعاً لظاهر النصوص، علي ما سبق.

بقي في المقام أمور:

الأول: بناء علي المشهور فلا يفرق في ثبوت الأرش بين إحداث المشتري الحدث في المبيع قبل علمه بالعيب وبعده، كما هو مقتضي إطلاق بعضهم وصريح كثير منهم، معللاً في كلام غير واحد بأن إقدامه علي التصرفات المذكورة بعد علمه إنما يدل علي رضاه بالمبيع وعدم إرادة الفسخ، ولا يدل علي رضاه بالعيب، بحيث يسقط حقه في الأرش، فلا موجب لسقوطه بعد كونه أحد طرفي التخيير.

ولم يعرف الخلاف في ذلك إلا من ابن حمزة، حيث قال في الوسيلة: (وإن علم بالعيب ثم تصرف فيه لم يكن له الرد ولا الأرش). ومقتضاه أنه لا يبقي له الأرش إلا إذا أخذه قبل التصرف، أو التزم به وأسقط الرد، بناء علي نفوذ التبعيض في طرفي التخيير، علي ما سبق الكلام فيه.

وكيف كان فهو لا يناسب مبناه من التخيير بين الرد والأرش من أول الأمر، كما نبه لذلك غير واحد، وساقوا التعليل المتقدم رداً عليه.

أما بناء علي المختار من أن الثابت من أول الأمر هو حق الفسخ والرد لا غير، وأن الأرش إنما يثبت عند تعذر الفسخ بأحد الأسباب المتقدمة فهل يختص الأرش بما إذا فعل المشتري أحد الأمور المتقدمة عن جهل بالعيب، أو يعم ما إذا أقدم عليها عالماً به ؟ الظاهر أو المتيقن ممن ذهب إلي ذلك هو الاختصاص بحال الجهل. وهو مورد معتبر زرارة. وكذا حديث جميل، لظهور قوله (عليه السلام) فيه: (إن كان الثوب قائماً بعينه...) في التفصيل بين موردي الرد والأرش، بلحاظ حال المبيع عند وجدان العيب. فل

ص: 467

(468)

يعم مورد الأرش فيه ما إذا كان المبيع عند وجدان العيب قائماً بعينه ثم أحدث فيه المشتري حدثاً بعد ذلك. وكذا الحال في أكثر النصوص المتضمنة للأرش في الجارية الموطوءة(1). للترتيب فيها بين الوطء ووجدان العيب، بنحو يقتضي تأخر وجدان العيب عن الوطء.

نعم في معتبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): (قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) لا يرد التي ليست بحبلي إذا وطأها، وكان يضع له من ثمنها بقدر عيبها)(2) ، ونحوه غيره.

لكنها واردة لبيان امتناع الرد مع الوطء وثبوت الأرش بدله، لا لبيان ثبوت الأرش، ليكون لها إطلاق يشمل صورة الوطء بعد العلم بالعيب.

علي أن من القريب ورود القيود المذكورة في معتبر زرارة الأول لموضوع الأرش مورد التحديد، فتدل علي انتفاء الأرش بانتفائه، بنحو تصلح للخروج عن إطلاق هذه النصوص لة تم. ومن هنا يتعين الاقتصار في استحقاق الأرش علي صورة ما إذا كان إحداث الحدث قبل العلم بالعيب.

الثاني: تقدم من المبسوط والخلاف أن حدوث العيب في المبيع إنما يمنع من الرد ويوجب الأرش إذا لم يرض البايع برد المبيع، أما مع رضاه به فلا يستحق المشتري الأرش عليه. وهو ظاهر المهذب.

وكأنهما فهما من دليل مانعية العيب من الرد وسببيته للأرش ابتناءه علي الإرفاق بالبايع في عدم إلزامه بقبول المعيب مع تجدد عيب آخر فيه، ثم الإرفاق بالمشتري في عدم تحمله نقص العيب وتعويضه بالأرش، فإذا رضي البايع بقبول المعيب مع العيب المتجدد ارتفع موضوع الإرفاق به، كما يرتفع موضوع الإرفاق المذكور بالمشتري، لرجوع حقه في الفسخ.

لكن ذلك قد يتجه لو كان هناك دليل يتضمن مانعية العيب بخصوصيته من

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب العيوب.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب العيوب حديث: 5.

ص: 468

(469)

الرد. أما حيث كان الدليل هو الحديثين المتقدمين المتضمنين لكون المانع من الرد هو إحداث الحدث وعدم بقاء المبيع بحاله، ومن الظاهر أن الحدث يعم ما إذا كان سبباً في عيب المبيع ونقصه أو كماله وزيادته أو مجرد اختلاف الرغبة فيه، وحينئذٍ لابد من كون الحكم المذكور تعبدياً من أجل حل المشكلة من دون أن يبتني علي الإرفاق بالوجه المتقدم. ويتعين العمل بإطلاق دليله القاضي بثبوت الأرش ولو مع رضا البايع بقبول المعيب. و قد سبق احتمال كون ذلك هو مراد من حكي في المبسوط مخالفته له في المسألة. فراجع.

الثالث: سبق من المبسوط أيضاً أن المشتري لو لم يعلم بالعيب في المبيع حتي باعه لم يكن له الرجوع علي البايع الأول بالإرش إذا رضي المشتري بالعيب ولم يرجع عليه بالأرش، ونحوه في المهذب مدعياً الإجماع عليه.

وكأنه للبناء علي الاقتصار في استحقاقه للأرش علي ما إذا كان العيب سبباً لتضرره بدفع الأرش للمشتري الثاني. لكنه خروج عن إطلاق نصوص المسألة من دون دليل.

اللهم إلا أن لا يكون دليله عندهما في المقام هو النصوص، لدعوي عدم كون بيع المعيب إحداثاً فيه، ولا منافياً لقيامه بعينه، ليكون استحقاق الأرش مقتضي النص. بل الوجه عندهما في الرجوع علي البايع الأول بالأرش هو الضرر الحاصل عليه بدفع الأرش للمشتري الثاني، فإذا لم يدفع هو الأرش لا ضرر عليه.

لكن تقدم منا أن الظاهر عموم النص في المقام بنحو ينهض باستحقاقه الأرش. كما أنه قد تكرر غير مرة أن قاعدة نفي الضرر لا تنهض بتشريع حكم يتدارك به الضرر. ولاسيما إذا كان موجباً للإضرار بالغير، كالبايع الأول في المقام.

مضافاً إلي أن الضرر إن حصل للمشتري الأول فهو بتخلف وصف السلامة عليه، لا بدفعه الأرش للمشتري الثاني. وإلي أنه قد لا يتضرر مالياً بقبول المعيب، لعدم تجاوز الثمن الذي اشتراه به قيمته وهو معيب. وإلي أن الأرش الذي يدفعه قد

ص: 469

(470) (470)

(مسألة 51): يسقط الأرش دون الرد فيما لو كان العيب لا يوجب نقصاً في المالية (1)، كالخصاء في العبيد إذا اتفق تعلق غرض نوعي به،

---------------

يختلف عن الأرش الذي يستحقه، لاختلاف الثمن في البيعين.

(الرابع): من الظاهر اختصاص نصوص الأرش بما إذا كان المعيب هو المبيع، أما إذا كان المعيب هو الثمن الشخصي فقد يظهر مما سبق منهم في الرد عموم الحكم له. وينحصر الوجه فيه بإلغاء خصوصية المبيع عرفاً، وفهم عدم الفرق في حكم البيع بين المثمن والثمن وهو غير بعيد. فلاحظ.

(1) كما صرح به غير واحد بل لا ينبغي الإشكال فيه، وإن ذكره في الدروس احتمالاً. إذ لا موضوع للأرش حينئذ. فهو في الحقيقة ليس من موارد سقوطه، بل لا يثب رأساً.

وربما يدعي كونه موضوعاً للأرش، في القيمة وذلك بملاحظة النقيصة الحاصلة في القيمة بسبب العيب، من دون أن تجبر بالزيادة الحاصلة بسببه لإلغائها, وقد يستدل له بإطلاق قوله (عليه السلام) في حديث جميل: (يرجع بنقصان العيب)(1).

لكن الظاهر منه النقصان بالإضافة إلي قيمة تمام المبيع الفعلية، لا إلي قيمته في فرض إلغاء الزيادة الحاصلة فيه بسبب العيب، وهو كالصريح من قوله (عليه السلام) في معتبر زرارة: (ويرد عليه بقدر ما نقص من ذلك الداء والعيب من ثمن ذلك لو لم يكن به).

نعم قد يقال: يتعين إلغاء الزيادة الحاصلة إذا كانت ناشئة من ترتب بعض المنافع المحرمة، أو من كون إحداث العيب بنفسه محرماً، كما قد يقال في خصاء العبد، حيث قد يكون منشأ الرغبة فيه هو استخدامه بإدخاله علي النساء من دون أن يتحجبن منه. كما أنه قيل بحرمته بنفسه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب الخيار حديث: 3.

ص: 470

وذلك بدعوي: أن زيادة القيمة الناشئة من فعل محرم في الشيء، أو من ترتب منفعة محرمة عليه، ملغية شرعاً، فلا يجبر بها نقص القيمة المسبب عن العيب.

لكن ذلك لو تم صغروياً فهو - مع عدم اطراده - ممنوع كبروياً، لتبعية المالية والقيمة للطلب والرغبة العامة من الشيء، ولا دخل للشارع الأقدس بها. كما أن تحريم سبب زيادة القيمة أو المنفعة المترتبة عليه لا تستلزم إلغاء الشارع الأقدس للزيادة المذكورة، بحيث لا تصلح لجبر النقص عرفاً بنظره، لينفع في المقام.

غاية الأمر أن اختصاص المنفعة الظاهرة للشيء بالمحرمة يوجب حرمة بيعه، لكون أكل المال في مقابله أكلاً له بالباطل، علي ما تقدم في المسألة الثامنة من مقدمة كتاب التجارة. وهو أمر آخر.

هذا وفي الدروس: (لو زادت قيمة المعيب عن الصحيح - كما في الخصي - احتمل سقوط الأرش وبقاء الرد لا غير. ويشكل مع حصول مانع من الرد، لحدوث عيب أو تصرف، فإن الصبر علي المعيب ضرار، والرد ضرار).

لكن من الظاهر أنه مع تزاحم الضررين لا مجال لإعمال قاعدة نفي الضرر، ويتعين الرجوع لعموم ما تضمن مانعية الحدث من الرد.

ودعوي: قصور العموم المذكور عن المورد، لاختصاص نصوصه بالعيب الموجب لنقص المالية، حيث تضمنت الرجوع بأرش العيب، بل يتعين البناء علي جواز الرد، عملاً بعموم دليله، ولو كان هو بناء العقلاء. غاية الأمر أنه يجبر ضرر البايع بالأرش.

مدفوعة بقضاء المناسبات الارتكازية بإلغاء خصوصية المورد المذكور، وأن ذكر الأرش لجبر الضرر المالي الحاصل للمشتري، فمع عدمه لا أرش، لا لتوقف مانعية الحدث من الرد علي كون العيب موجباً لنقص المالية، لعدم التناسب بينهما ارتكازاً.

ص: 471

بحيث صارت قيمة الخصي تساوي قيمة الفحل (1). وإذا اشتري ربوياً بجنسه فظهر عيب في أحدهما قيل: لا أرش (2)، حذراً من الربا. لكن الأقوي جواز أخذ الأرش (3).

---------------

بل قد يكون العيب المذكور موجباً لزيادة المالية، كما تقدم عن الدروس، فهو أحري بأن يلزم المشتري بالصبر عليه بسبب الحدث الذي حصل للمبيع عنده.

وأشكل من ذلك ما عن بعض متأخري المتأخرين من احتمال عدم الرد بالعيب المذكور ابتداء لأصالة اللزوم. حيث لا مجال للأصل المذكور مع عموم دليل خيار الرد بالعيب، ولو كان هو بناء العقلاء، علي ما ذكرناه آنفاً.

وربما أيد بمرسل السياري عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: (كل ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب)(1).

ودعوي: أن كونه عيباً لا يستلزم عموم الرد به. مدفوعة بأن شيوع استحقاق الرد بالعيب موجب لظهوره في سوقه لبيان استحقاق الرد به. فلاحظ.

(1) بل قد تزيد عليه، كما تقدم من الدروس.

(2) كما في المبسوط والمهذب والغنية وجامع الشرائع والتذكرة والقواعد والدروس وجامع المقاصد وعن التحرير والإيضاح وغيرهما.

(3) كما حكاه في جامع الشرايع عن بعض أصحابنا فيما لو تجدد عند المشتري عيب يمنع من الرد قال: (لأن الأرش منفصل عن البيع). وإليه يرجع ما حكاه في التذكرة عن الشافعية كأحد وجوه ثلاثة في الفرض المذكور.

قال: (الثالث: أن يرجع المشتري بأرش العيب القديم، كما في غير هذه الصورة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 472

والمماثلة في مال الربا إنما تشترط في ابتداء العقد، وقد حصلت، والأرش حق ثبت بعد ذلك لا يقدح في العقد). قال في التذكرة بعد ذلك: (وهذا الوجه عندي لا بأس به). وهو متين جداً، فإن الإرش ليس جزءاً من الثمن، وإنما ثبت بحكم الشارع الأقدس تداركاً لضرر المشتري. كما تقدم توضيحه.

وبذلك يظهر جواز أخذ الأرش حتي مع عدم حدوث المانع من الرد، بناء علي المشهور من تخيير المشتري ابتداء بين الرد والأرش. ولا وجه مع ذلك للتفصيل بينهما، كما قد يظهر من التذكرة.

نعم قال شيخنا الأعظم (قدس سره) بعد تقرير ذلك: (هذا ولكن يمكن أن يدعي أن المستفاد من أدلة تحريم الربا وحرمة المعاوضة إلا مثلاً بمثل - بعد ملاحظة أن الصحيح والمعيب جنس واحد - أن وصف الصحة في أحد الجنسين كالمعدوم، لا يترتب علي فقده استحقاق عوض. ومن المعلوم أن الأرش عوض وصف الصحة عرفاً وشرعاً. فالعقد علي المتجانسين لا يجوز أن يصير سبباً لاستحقاق أحدهما علي الآخر زائداً علي ما يساوي الآخر...).

وظاهره أن امتناع الأرش في المقام ليس لكونه جزءاً من الثمن، بل لظهور نصوص الربا في أن وصف الصحة لا يقابل بالمال، ولا يترتب علي فقده استحقاق عوض، فيكون ذلك مخصصاً لنصوص الأرش في المقام.

ولكنه في غاية المنع، إذ بعد الاعتراف بما سبق من عدم مقابلة الصفات ومنها وصف الصحة بجزء من الثمن في الربويين وغيرهما، يكون موضوع المعاوضة في الربويين العوضين بأنفسهما، فلابد من عدم زيادة أحدهما علي الآخر في المقدار، لئلا يلزم الربا. ولا يكفي في جبر الناقص منهما اشتماله علي صفة كمال غير موجودة في الآخر بعد أن لم تكن الصفة بمقتضي وضع المعاوضة مقابلة بجزء من الثمن.

وهذا وحده لا يرجع إلي إلغاء مالية الصفة في الربويين، بحيث لا تقابل بالمال، بنحو يكون مخصصاً لعمومات الأرش في المقام. وإلا لزم عدم ضمان الصفة

ص: 473

في الربويين بالإتلاف وغيره من أسباب الضمان، مع ظهور عدم بنائهم علي ذلك، بل يقطع ببطلانه.

وأما الفرق بينه وبين المقام بما ذكره في جامع المقاصد في رد ما سبق من التذكرة من أن أخذ الأرش إنما كان لفوات مقابله من المبيع، فتبقي المعاوضة علي المعيب وما بقي من الثمن بعد الأرش.

فهو راجع إلي الالتزام بكون الصفة جزءاً من المبيع والأرش جزاً من الثمن، وليس غرامة خارجة عنه. وهو خروج عما قرره شيخنا الأعظم (قدس سره) وسبقه إليه في التذكرة، وذكرنا أنه الحق الحقيق بالقبول.

ومثله دعوي: أن المستفاد من أدلة الربا المنع من الزيادة في الربويين، سواء كانت مقتضي نفس المعاوضة، لزيادة أحد المعوضين علي الآخر أم تبعاً لها كالأرش في المقام، فإنه وإن لم يكن جزءاً من أحد العوضين، إلا أن استحقاقه ناشئ من بيع المعيب ومترتب عليه.

لاندفاعها باختصاص أدلة الربا بالأول. ولا دليل علي تعميمه للثاني.

ثم إن المانعين من أخذ الأرش في المقام حيث كان يلزمهم عدم أخذه حتي مع حدوث عيب في المبيع عند المشتري، وكان صبر المشتري علي المعيب بالعيب السابق علي العقد ضرراً عليه، فقد حاولوا حلّ المشكلة بوجوه مختلفة لا يسعنا إطالة الكلام فيها بعد أن كنا في غني عنها بما سبق من جواز أخذ الأرش.

هذا وقد قال في التذكرة: (وإذا أخذ الأرش قيل: يجب أن يكون من غير جنس العوض، لئلا يلزم ربا الفضل. والأقرب أنه يجوز أن يكون من جنسهما، لأن الجنس لو امتنع أخذه لامتنع أخذ غير الجنس، لأنه يكون بيع مال الربا بجنسه مع شيء آخر) وما ذكره (قدس سره) متين جداً. والقول الآخر محكي عن العامة.

بقي شيء: وهو أنه قد سبق منا عند الكلام في المسقط الأول للرد الكلام في

ص: 474

(475) (475)

(مسألة 52): يسقط الرد والأرش بأمور:

(الأول): العلم بالعيب قبل العقد (1).

(الثاني): تبرؤ البايع من العيوب (2)،

---------------

سقوط الأرش بالإسقاط بناء علي التخيير من أول الأمر بينه وبين الرد. أما إسقاطه بعد تعينه، لحدوث أحد موانع الرد، فلا إشكال في سقوطه به كسائر الحقوق. وكان المناسب لسيدنا المصنف (قدس سره) وغيره التنبيه لذلك. وربما كان تركهم ذلك لوضوحه.

(1) كما هو صريح وظاهر جماعة كثيرة من الأصحاب. وفي الجواهر: (بلا خلاف أجده) بل نفي الخلاف فيه في الرياض. وقال شيخنا الأعظم (قدس سره): (بلا خلاف ولا إشكال). والظاهر أنه مفروغ عنه عندهم.

والوجه فيه قصور دليل الأمرين عن ذلك. أما بناء العقلاء فظاهر. وأما النصوص فهي بين ما يختص بصورة الجهل، وما لا إطلاق فيه، لعدم وروده لبيان ثبوت خيار العيب وتشريع أحكامه، بل لبيان بعض ما يتعلق به مع الفراغ عن أصل ثبوته، نظير معتبر زرارة المتقدم المتضمن مانعية الوطء من الرد.

مضافاً إلي قوله (عليه السلام) في معتبر زرارة المتقدم: (أيما رجل اشتري شيئاً وبه عيب وعوار لم يتبرأ إليه ولم يبين له...). لقوة ظهوره في عدم ترتب الأثر علي العيب مع بيانه أو التبرؤ منه، لظهوره في ورود القيود التي تضمنها مورد التحديد.

(2) كما صرح به جمهور الأصحاب، وفي الخلاف والغنية والتذكرة الإجماع عليه. وقد استدل عليه بوجوه:

الأول: ما في التذكرة قال: (ولأن خيار العيب إنما يثبت لاقتضاء مطلق العقد السلامة، فإذا صرح بالبراءة فقد ارتفع الإطلاق).

لكن هذا إنما يتجه فيما إذا ثبت الخيار ببناء العقلاء من دون أن ترد فيه نصوص خاصة، كما في خيار الغبن. أما مع ورود النصوص فيه - كما في المقام - فاللازم النظر

ص: 475

في مفادها. والظاهر عدم ثبوت الإطلاق في النصوص بنحو يشمل صورة البراءة من العيوب، لورود أكثرها في فروع الخيار المذكور بعد الفراغ عن أصل ثبوته.

نعم لا يبعد ورود حديث جميل لبيان سببية العيب للخيار. إلا أن من القريب جداً ظهور السؤال فيه في عدم البراءة من العيوب. وإلا كان من المناسب جداً تنبيه السائل لذلك، لقوة احتمال دخله في الحكم ارتكازاً. ولا أقل من انصراف إطلاق الجواب عن صورة البراءة. ولو بضميمة ما سبق من التذكرة من الوجه الارتكازي. فلاحظ.

الثاني: النصوص الخاصة، كمعتبر زرارة بالتقريب المتقدم في مانعية العلم بالعيب من الخيار. وقريب منه مرسل دعائم الإسلام عن أبي عبد الله (عليه السلام)(1). ومعتبر جعفر بن عيسي: (كتبت إلي أبي الحسن عليه السلام: جعلت فداك المتاع يباع فيمن يزيد، فينادي عليه المنادي. فإذا نادي عليه برء من كل عيب فيه. فإذا اشتراه المشتري ورضيه ولم يبق إلا نقد الثمن فربما زهد، فإذا زهد فيه ادعي فيه عيوباً، وأنه لم يعلم بها، فيقول المنادي: قد برئت منها فيقول المشتري: لم أسمع البراءة منها. أيصدق فلا يجب عليه الثمن، أم لا يصدق فيجب عليه الثمن ؟ فكتب عليه الثمن)(2).

الثالث: رجوعه إلي اشتراط سقوط تبعة العيب، نظير اشتراط سقوط الخيار في سائر الموارد، فينفذ بمقتضي عموم نفوذ الشروط. ويظهر مما سبق في اشتراط سقوط خيار الرؤية اندفاع محذور الغرر الذي هو من موانع صحة البيع عندهم. بقي أمور..

الأول: الظاهر الاكتفاء بالبراءة قبل إيقاع العقد إذا ابتني العقد عليها. كما هو مقتضي معتبر جعفر بن عيسي. ولعموم أدلة الشروط للشرط الضمني. ولأنه الشايع بين الناس، خصوصاً فيمن يزيد، فيكون ظاهر إطلاق معتبر زرارة الاكتفاء به.

الثاني: ظاهر جمهور الأصحاب وصريح كثير منهم كفاية التبرؤ من العيوب

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 12 من أبواب الخيار حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل ج: 12 باب: 8 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1.

ص: 476

إجمالاً من دون تفصيل لها، فضلاً عن الإعلام بها. وهو معقد الإجماعات المتقدمة. وحكي في السرائر عن بعض أصحابنا أن ذلك لا يكفي في إسقاط الرد. قال في المختلف: (وهو قول ابن الجنيد).

وقال ابن البراج في المهذب: (لا يجوز لأحد أن يبيع غيره شيئاً معيباً حتي يبين العيب للمشتري ويطلعه عليه. وقد ذكرنا في كتابنا (الكامل) أنه إذا تبرأ البايع إلي المشتري من جميع العيوب لم يكن له الرد. فكان ذلك كافياً ومغنياً عن ذكر العيوب علي التفصيل. والذي ذكرناه ههنا من تبيين العيب للمشتري وإطلاعه عليه علي التفصيل أحوط. والذي ينبغي أن يكون العمل عليه...). وقد يظهر التوقف من الدروس، لاقتصاره علي بيان أن الاكتفاء بالبراءة إجمالاً هو الأشهر.

ويدفعه عموم نفوذ الشروط وإطلاق معتبر زرارة. بل هو كالصريح من حديث جعفر بن عيسي. كما أنه المعهود من طريقة الناس في البراءة من العيوب. ولاسيما أن البايع أو المتصدي للبيع - خصوصاً في مثل من يزيد - قد لا يحيط بالعيوب، أو لا يتيسر له استقصاؤها، كما لعله ظاهر.

نعم في مرسل دعائم الإسلام عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه قال في رجل باع دابة أو سلعة، فقال: برئت إليك من كل عيب. قال: لا يبرئه ذلك، حتي يخبره بالعيب الذي تبرأ منه، ويطلعه عليه)(1). لكنه لا ينهض في نفسه بالاستدلال، فضلاً عن أن يخرج به عما سبق.

الثالث: قال في الدروس: (هل يدخل العيب المتجدد بعد العقد وقبل القبض أو في زمن خيار المشتري ؟ فيه نظر. من العموم. ومن أن مفهومه التبري من الموجود حال العقد. ولو صرح بالبراءة من المتجدد صح). وقريب منه في المسالك.

ولا يبغي الإشكال في انصراف إطلاق البراءة للعيب الحاصل عند العقد دون المتجدد، كما استقر به في التذكرة وغيره. لكن في الجواهر بعد أن تعرض لحكم

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 5 من أبواب العيوب حديث: 2.

ص: 477

بمعني اشتراط عدم رجوع المشتري عليه بالثمن أو الأرش (1).

---------------

البراءة من العيب المتجدد قال: (ثم علي الصحة فالظاهر شمول إطلاق البراءة من العيوب لها. وإن كان المنساق إلي الذهن العيوب الموجودة حال العقد). ومقتضاه أن الانصراف المذكور بدوي لا يعتد به في الخروج عن الإطلاق. وهو غريب.

هذا وفي التذكرة: (لو شرط البراءة من العيوب الكائنة والتي تحدث جاز عندنا، عملاً بعموم: المؤمنون عند شروطهم... لا يقال: التبري مما لم يوجد يستدعي البراءة مما لم يجب، وهو باطل. لأنا نقول: التبري إنما هو من الخيار الثابت بمقتضي العقد، لا من العيب).

أقول: سبق غير مرة أن اشتراط سقوط الخيار ليس من اشتراط سقوط ما لم يجب، بل هو راجع إلي اشتراط سقوطه معلقاً علي ثبوته، وفي مرتبة متأخرة عنه. كما تقدم أن التعليق في مثل ذلك لا محذور فيه بعد عموم نفوذ الشروط وعدم قيام الإجماع علي بطلان التعليق في متعلق الشرط، بل المتيقن منه بطلان التعليق في أصل العقد. ويأتي إن شاء تعالي في المسألة السادسة والخمسين عند الكلام في العيب الحادث بعد العقد قبل القبض ما ينفع في المقام.

(1) ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أن الأنسب بمعني البراءة عدم ضمان العيب بمال، ومرجع ذلك إلي سقوط الأرش، دون الفسخ. وكأن سيدنا المصنف (قدس سره) أقره علي المعني الذي ذكره للبراءة، وحاول تعميمه للفسخ بلحاظ أن فيه رجوعاً علي البايع بالثمن. لكن الرجوع بالثمن لما كان متفرعاً علي الفسخ، فهو ليس من سنخ ضمان العيب بالمال.

فالأولي منع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن الأنسب بمعني البراءة خصوص عدم ضمان العيب بالمال، بل هي عبارة عن التنصل من تبعة العيب، فيعم حق الفسخ والأرش معاً، لظهور أن ثبوت حق الفسخ للمشتري نحو من التبعة علي

ص: 478

البايع بسبب العيب، لما فيه من سلب حقه في لزوم العقد وسلب سلطته عليه. وقد اعترف قدس سره بأن ذلك هو الأظهر في العرف. وإن كان ذلك منه (قدس سره) لا يخلو عن تدافع، إذ مع الاعتراف بأن ذلك هو الأظهر في الصرف كيف يكون الأول هو الأنسب بمعني البراءة ؟!.

وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في عموم البراءة لغة وعرفاً لحق الفسخ والأرش معاً، سواء كان العيب سبباً للتخيير بينهما - كما هو المشهور - أم للترتيب بينهما، كما هو المختار.

مع أن ذكره (قدس سره) للمعنيين المذكورين وللمعني الثالث - وهو البراءة من خصوص الخيار الذي هو بمعني الفسخ - إن كان لمجرد بيان فروض غير عملية، فهو خال عن الفائدة. بل قد لا يناسب ظاهر كلامه.

وإن كان لبيان ترتب الأثر علي كل منها ثبوتاً لو كان هو المقصود للبايع، مع الكلام فيما هو الظاهر منها الذي يكون عليه العمل في مقام الإثبات. فهو في غاية الإشكال بناء علي المشهور من التخيير بين الفسخ والأرش من أول الأمر. لظهور وحدة الحق ولا يتضح مشروعية التبعيض في إسقاطه، ليصح اشتراط التبعيض في سقوطه، نظير ما تقدم في المسقط الأول للخيار وحده. إلا أن يرجع الشرط المذكور إلي اشتراط عدم إعمال أحد طرفي التخيير مع ثبوتهما معاً، لا اشتراط سقوطه وحده. لكنه خلاف ظاهر البراءة.

وأما بناء علي المختار من الترتيب بين الفسخ والأرش، فقد يتجه اشتراط سقوط الأرش. لإمكان إسقاطه في ظرف ثبوته، فيصح اشتراط سقوطه معلقاً علي تحقق موضوعه، علي ما سبق في نظائر المقام.

أما اشتراط سقوط الفسخ وحده الذي هو المعني الثالث الذي ذكره، فلا يخلو عن إشكال. لظهور نصوص الأرش في تفرع ثبوته علي تعذر الرد، بنحو يظهر في كونه هو الثابت بالأصل لولا التعذر، ولا إطلاق لها ينهض بثبوت الأرش في فرض

ص: 479

(480)

(الثالث): تأخير اختيار الفسخ والإمساك بالأرش، لأن الأقوي أن الخيار هنا علي الفور، فإذا لم يبادر إليه سقط (1). وكذا الحكم في أمثاله.

-

سقوط الرد بشرط أو غيره. كما لا دليل آخر علي ثبوته حينئذ من سيرة أو إجماع، كما لعله ظاهر. فلاحظ.

(1) فقد صرح بسقوط الرد بتركه بعد العلم بالعيب في المبسوط والوسيلة والغنية، مدعياً في الأخير أن الخيار علي الفور بلا خلاف.

بل نسب شيخنا الأعظم (قدس سره) له سقوط الأرش أيضاً. وهو يبتني علي أن مذهبه التخيير بين الرد والأرش ابتداء. لكن لا شاهد علي ذلك بعد إطلاقه الخيار، الظاهر في خصوص الرد، وعدم ذكره للأرش إلا في فرض حصول العيب عند المشتري، ولو في بعض المبيع، نظير ما تقدم من الشيخ (قدس سره) في المبسوط.

هذا وقد صرح جماعة بأن الخيار هنا علي التراخي، وفي المسالك والحدائق أنه المعروف من مذهب الأصحاب من دون خلاف يعرف.

وقد يستدل له بإطلاق النصوص. ولا يخلو عن إشكال، لأنها واردة في بيان أحكام الخيار وفروعه بعد الفراغ عن أصل ثبوته، حتي حديث جميل، لوروده لبيان توقف جواز الرد علي بقاء المبيع علي حاله، لا لتشريع الخيار، ليكون مقتضي إطلاقه التراخي. ولاأقل من كون ذلك هو المتيقن منه. وحينئذ يتعين الرجوع لعموم اللزوم في المقام، بناء علي ما تقدم في نظائره من أن المرجع في مثل ذلك عموم العام، دون استصحاب حكم المخصص.

وأما الأرش فالكلام فيه (تارة): علي القول بالتخيير بينه وبين الأرش. (وأخري): علي القول بالترتيب بينهما.

أما علي التخيير فإن كان دليله ما سبق من التذكرة من أن لوصف الصحة جزءاً من الثمن، فالمتعين كونه علي التراخي، لرجوعه إلي بقاء جزء من الثمن في ملك

ص: 480

المشتري، ومن الظاهر أن خروجه عن ملكه وسقوط حقه فيه يحتاج إلي سبب، ولا دليل علي سببية عدم المبادرة للمطالبة لذلك، بل يتعين استصحابه.

وإن كان دليله الإجماع المدعي فالمتيقن منه صورة المبادرة للمطالبة به، بحيث يكون الزمان الأول قيداً في الحق الثابت، فمع عدم المبادرة لذلك يشك في تحقق موضوع الحق، فلا مجال لاستصحابه، فالشك في الحقيقة ليس في سقوط الحق بعد ثبوته ليستصحب، بل في انتهاء أمد الحق وارتفاع موضوعه بنحو يمنع من استصحابه.

نعم بناء علي التسامح العرفي في موضوع الاستصحاب يتعين استصحابه، فيقال: كان له المطالبة بالأرش فهو كما كان. ولعله عليه يبتني ظهور كلام بعض من ذهب للفور في سقوط الرد بعدم المبادرة له دون الأرش. لكن المبني المذكور ضعيف، علي ما أوضحناه في الأصول.

وأما بناء علي الترتيب فقد يدعي أن مقتضي إطلاق نصوص ثبوت الأرش بتعذر الرد ثبوته ولو مع التراخي في الفسخ، وسقوط الرد. لكنه ممنوع، لأن النصوص المذكورة بين ما لا إطلاق له، لوروده في بيان مانعية بعض الأمور من الرد - كالوطء

من دون أن يكون وارداً في مقام بيان تشريع الأرش بتعذر الرد، وما هو وارد في فرض عدم العلم بالعيب إلا بعد حدوث المانع من الرد، ومن الظاهر أن التراخي المسقط للرد إنما يكون بعد العلم بالعيب.

مع أن فرض حصول المانع من الرد في هذه النصوص موجب لظهورها في فرض بقاء حق الرد إلي حصول المانع، لا سقوط الرد قبل حصوله، بسبب عدم المبادرة للفسخ، حيث لا موضع عرفاً للمانعية حينئذ.

نعم لو لم يعلم بالعيب حتي حصل المانع من الرد فظاهر نصوص الأرش استحقاق المشتري له بنحو يبقي وإن لم يبادر للمطالبة به، وعدم سقوطه إلا بالإسقاط

ثم إن الفور بالإضافة إلي الفسخ في المقام عرفي في مقابل إمكان التأخير تشهياً ل

ص: 481

(482)

(مسألة 53): المراد من العيب ما كان علي خلاف مقتضي الخلقة الأصلية (1)، سواء أكان نقصاً، مثل العور والعمي والصمم والخرس

---------------

لعذر، علي نحو ما تقدم في خياري الغبن والرؤية، لأنه علي غرارهما في كونه ارتكازياً مع احتياج الفور الحقيقي لعناية في مقام العمل فإغفال التنبيه عليه في النصوص شاهد بعدمه. فلاحظ.

(1) كما هو مقتضي ما في الشرايع من أن كل ما كان من أصل الخلقة، فزاد أو نقص، فهو عيب، وقريب منه في النافع والدروس واللمعة وغيرها. وإليه يرجع ما في التذكرة والقواعد وغيرهما من أنه الخروج عن المجري الطبيعي.

قال في مفتاح الكرامة تعقيباً علي ما في القواعد: (هذا الضابط مجمع عليه في الجملة، كما في مجمع البرهان والظاهر الاتفاق عليه، كما في الرياض. وقد طفحت عباراتهم علي اختلاف يسير ستعرفه).

وقد ذكر غير واحد أن الأصل فيه ما رواه الكليني بسنده عن السياري قال: (روي عن أبي ليلي أنه قدم إليه رجل خصماً له، فقال: إن هذا باعني هذه الجارية، فلم أجد علي ركبها(1) حين كشفتها شعراً، وزعمت أنه لم يكن لها قط. قال: فقال له ابن أبي ليلي: إن الناس يحتالون لهذا بالحيل حتي يذهبوا به، فما الذي كرهت ؟ قال: أيها القاضي إن كان عيباً فاقض لي به. قال: اصبر حتي أخرج إليك، فإني أجد أذي في بطني، ثم دخل وخرج من باب آخر، فأتي محمد بن مسلم الثقفي، فقال له: أي شيء تروون عن أبي جعفر (عليه السلام) في المرأة لا يكون علي ركبها شعر، أيكون ذلك عيباً؟ فقال محمد بن مسلم: أما هذا نصاً فلا أعرفه، ولكن حدثني أبو جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلي الله عليه وآله) أنه قال: كل ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب. فقال له ابن أبي ليلي: حسبك. ثم رجع إلي القوم فقضي لهم بالعيب)(2).

********

(1) الركَب بالفتح العانه أو منبت الشعر فيها. وعن الخليل أنه يختص بالمرأة.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب العيوب حديث: 1.

ص: 482

لكن يشكل الاستدلال بالحديث المذكور.

أولاً: لضعفه في نفسه ولو بالإرسال. ودعوي: انجباره بعمل الأصحاب، لرجوع ما ذكره جمهورهم في تحديد العيب لمضمونه. مدفوعة بقرب ابتناء جريهم علي مضمونه علي كون المنظور لهم بدواً مطابقته لمعني العيب عرفاً، كما صرح بذلك بعضهم. ولاسيما مع عدم تعرض غير واحد ممن ديدنهم تحرير الفتاوي من القدماء لتحديد معني العيب، بنحو يظهر في إيكالهم له للعرف.

وثانياً: لعدم ظهوره في تحديد العيب بذلك، بل في مجرد تطبيقه عليه، بنحو يجتمع مع كون العيب أعم من ذلك. ولاسيما أن العيب لا يختص بالمخلوقات الإلهية، بل يحصل في المصنوعات البشرية أيضاً.

كما أنهم قد عدوا من جملة العيوب استحقاق القتل أو القطع - بالردة أو الجناية

والاستسعاء في الدين والزنا والسرقة والخيانة وشراب المسكر، وادعي الاجماع علي بعضها.

كما ادعي الإجماع علي كون الإباق عيباً. وهو مقتضي صحيح أبي همام: (سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: يرد المملوك من أحداث السنة... فقال له محمد بن علي: فالإباق ؟ قال: ليس الإباق من ذا، إلا أن يقيم البينة أنه كان أبق عنده)(1) مع وضوح عدم خروج ذلك كله عن مقتضي الطبيعة، بل تحتاج السلامة من كثير منها للتربية الحسنة أوالتأديب، أو نحوها.

وثالثاً: لأن المراد بالزيادة والنقص في الحديث إن كان خصوص ما يكون في أصل الخلقة لزم قصور العيب فيه عن النقص والزيادة الطارئتين، ولزم صدق العيب علي سقوط الغلفة بالولادة بحيث لا يحتاج معه للختان، وزيادة اللبن والصوف في ا لحيوان عن المتعارف. وكذا زيادة الشعر في الرأس والحاجبين وأهداب العينين في الإنسان إذا كان بالنحو المقبول، بل الموجب للجمال والوضاءة. وكذا مثل زيادة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب العيوب حديث: 2.

ص: 483

الذكاء وقوة السمع والبصر والقوة البدنية وإن لم يستلزم مشاكل ومتاعب بحيث توجب الرغبة عن المتصف بها نوعاً.

وإن كان المراد بها الأعم مما يكون في أصل الخلقة أو يطرأ بعد ذلك، لزم

- مضافاً إلي ما سبق - صدق العيب علي مثل الختان وتقليم الأظفار والأخذ من الشعر أو الصوف أو الحافر بالنحو المتعارف. وكذا تعليم الإنسان وتدجين الحيوان وتدريبه بالنحو الأصلح في الانتفاع به.

وكل ذلك مما لا يمكن الالتزام به في نفسه، ويصعب دعوي فهمه من الحديث المذكور جداً. بل يصعب البناء علي إطلاق الحديث بنحو يشمل مثل زيادة بعض الأسنان أو نقصها أو وجود قليل من الثالول أو خروج بعض أظافر الرجل عن الوضع الطبيعي أو نحوها مما لا يعد شيناً عرف

وبذلك يظهر ضعف ما في الرياض من أن ما ذكره الأصحاب من تحديد العيب كما يشهد به الحديث المذكور يشهد به العرف. لظهور أن العرف يأبي كثيراً مما سبق أنه مقتضي الجمود علي عبارة الحديث.

ومن هنا لا يبعد انصراف الزيادة والنقص في الحديث لما يكون شيناً ومرغوباً عنه عرفاً، فلا يكون الحديث مسوقاً لبيان صدق العيب بكل زيادة ونقيصة، بل لبيان أن العيب يكون بالنقص يكون بالزيادة، بعد الفراغ عن كون كل منهما مرغوباً عنه عرفاً.

نعم قد لا يناسب ذلك فهم ابن أبي ليلي من الحديث، لأنه لو كان يدرك أن عدم نبات الشعر علي ركب الجارية شيناً فيها موجباً لصدق العيب لقضي به ولم يحتج لمراجعة محمد بن مسلم. فتوقفه عن القضاء بالعيب قبل سماع الحديث وقضائه به بعده لابد أن يبتني علي فهمه تحديد العيب بذلك، لا مجرد تعميمه للزيادة والنقيصة بعد الفراغ عن كون العارض عيباً.

بل قد يدعي أنه خلاف ما فهمه محمد بن مسلم (رضوان الله تعالي عليه) من الحديث، حيث قد يظهر منه أنه كان يري الواقعة من صغريات الكبري التي تضمنه

ص: 484

الحديث، يكفي فيها، وإن لم يكن عنده فيها نص خاص.

لكن ذلك وحده لا يكفي في الجمود علي عبارة الحديث بعد ملاحظة ما ذكرنا. ولاسيما مع احتمال كون توقف ابن أبي ليلي في القضاء بالعيب ليس ناشئاً عن توقفه في صدق العيب في الواقعة بعد كشف عدم نبات الشعر عن نقص في مزاج الجارية وطبيعتها، بل عن احتماله قصور حكم العيب عن مثل هذا العيب الذي نتيجته رفع مؤنة إزالة الشعر المرغوب عن بقائه، لتدارك هذا النقص بمثل هذه الفائدة. فكانت فائدة الحديث في حقه عموم حكم العيب مع صدقه وعدم ارتفاعه بمثل هذا التدارك.

كما أنه لم يتضح من الحديث بناء علي محمد بن مسلم (رضوان الله تعالي عليه) علي كون المورد من صغريات الكبري المذكورة.

وكيف كان فلا مجال للجمود علي عبارة الحديث في تحديد العيب، بل لابد من الرجوع فيه للعرف. والمعيار فيه علي الخروج عن الوضع الطبيعي بالنحو الموجب للشين في موضوعه، والنقص فيه، والرغبة عنه نوعاً. وربما يأتي ما ينفع في محل الكلام.

هذا وقد قيده في التذكرة والقواعد ومحكي التحرير بما إذا أوجب ذلك نقص المالية. بل في الجامع: (العيب ما نقص من الثمن عند التجارة [التجار]) ثم قال بعد كلام طويل: (وكل ما زاد عن الخلقة المعتادة أو نقص عنها فهو عيب). وظاهر الأول تحديد مفهومه، وظاهر الثاني بيان بعض مصاديقه. وكيف كان فقد صرح بعدم توقف صدق العيب علي ذلك في المسالك ومحكي الميسية وهو مقتضي إطلاق جمهور الأصحاب المطابق لعموم الحديث المتقدم - بناء علي نهوضه بالاستدلال - والمناسب لما عليه العرف.

بل التقييد المذكور لا يناسب ما صرح به العلامة وغيره من أن الخصاء والجب عيبان وإن كانا موجبين لزيادة المالية، بل في المسالك الاتفاق علي ذلك، وظاهر التذكرة

ص: 485

(486)

والعرج ونحوها (1)، أم زيادة، مثل الإصبع الزائدة واليد الزائدة. أما إذا لم يكن علي خلاف مقتضي الخلقة الأصلية، لكنه خلاف الغالب - مثل كون الأرض مورداً لنزول العساكر، وكون الفرس غير ممرن علي السير - ففي كونه عيباً بحيث يثبت به الأرش (2) إشكال. وإن كان هو الأظهر (3).

(مسألة 54): إذا كان العيب موجوداً في أغلب أفراد ذلك الصنف مثل الثيبوبة في الإماء فالظاهر عدم جريان حكم العيب عليه (4).

---------------

الإجماع علي استحقاق الرد بهما.

ولعله لذا قال في جامع المقاصد: (كان عليه أن يقيده بقوله: غالباً، ليندرج فيه الخصاء والجب، فإنهما يزيدان في المالية، مع أنهما عيبان يثبت بهما الرد قطعاً...).

(1) ومنه النقص في الطبيعة بنحو لا يستلزم نقصاً في عضو، مثل المرض ونحوه من جهات الشذوذ المزاجي المرغوب عنها نوعاً.

(2) ظاهره المفروغية عن ثبوت خيار الفسخ فيه. ولم يتضح وجهه. إذ مع صدق العيب عليه يتعين ثبوت حق الفسخ والأرش فيه، ومع عدم صدقه لا منشأ لثبوت حق الفسخ فيه بعد عدم اشتراط عدمه صريحاً، والغلبة وحدها لا تقتضي الاشتراط الضمني ما لم ترجع لأصالة السلامة من العيوب. فلاحظ.

(3) كما يناسبه ما ذكره غير واحد من أن من العيوب كون الضيعة والدار منزلاً للجيوش، وثقل الخراج، وعدم الختان في الكبير، ونحو ذلك. وهو لا يناسب ما سبق منهم في تحديد العيب. وإنما يبتني علي ما ذكرناه من أن المعيار فيه الصدق العرفي.

(4) قد صرح بعدم ثبوت الخيار بالثيبوبة في المبسوط وجامع الشرايع. وكذا في التذكرة، لكن في غير الصغيرة. بل صرح بعدم كونها عيباً في الشرايع والنافع والقواعد والإرشاد ومحكي التحرير. وهو مقتضي ما في الوسيلة من عدم ذكره في عيوب الأمة.

ص: 486

وفي الخلاف أن كونها عيباً يحتاج إلي دليل.

وفي الرياض أن المشهور عدم كونها عيباً، وعن الكفاية نسبته للأكثر، وعن التحرير أنه لا يعلم فيه خلافاً. بل صرح بنفي الخلاف في كشف الرموز وفي المسالك: (هكذا أطلق الأصحاب والأكثر من غيرهم) وعن إيضاح النافع أن عليه الفتوي.

هذا ولا ينبغي الإشكال في كونها عيباً بالنظر لمعيار العيب عندهم، بل حتي بناء علي ما ذكرناه في معياره، لكونها خروجاً عن مقتضي الخلقة الأصلية، موجباً عرفاً لنحو من النقص المرغوب عنه نوعاً.

وما عن إيضاح النافع من أن البكارة صفة كمال في غير العاجز، كأنه يبتني علي النظر لمقام الانتفاع بالجارية والاستمتاع بها، لا بالنظر إليها بنفسها الذي هو المعيار في صدق العيب عرفاً.

ولعله لذا احتمل أو مال لكونها عيباً في المسالك، وقربه في التنقيح، وجزم به في الروضة. وهو ظاهر المهذب، حيث حكم مع الثيبوبة بالأرش. وربما كان منشأ عدم حكمه بالرد أن المعهود ظهورها بالوطء المانع منه.

نعم قد يقرب عدم ثبوت الخيار بها مع فرض كونها عيباً بابتناء خيار العيب ارتكازاً علي اشتراط عدمه ضمناً، تبعاً لأصالة السلامة، وذلك إنما يتجه إذا لم يغلب وجود العيب في المبيع، إذ مع غلبته لا مجال لأصالة السلامة لتغني عن التصريح باشتراطه. ولعل ذلك هو المنشأ لحكم من سبق بعدم ثبوت الخيار بالثيبوبة. بل لعل ذلك هو المنشأ لاختلاط الأمر علي من منع من كونها عيباً، كما يناسبه ما سبق من التذكرة من التفصيل بين الصغيرة والكبيرة، وإلا فلا منشأ للتفصيل في صدق العيب بينهما. وإلي ما ذكرنا يرجع توجيه التفصيل المذكور في المسالك والروضة.

ومقتضي ذلك أنه مع اشتراط البكارة صريحاً فمع تخلفها يثبت حكم العيب من الرد أو الأرش، إذ بعد أن كانت الثيبوبة عيباً، فعدم ترتب حكم العيب عليها مع الإطلاق - لعدم اشتراط السلامة منها ضمناً، بسبب غلبة وجودها - يستلزم ترتب

ص: 487

حكمه مع اشتراطها صريحاً.

وعلي ذلك جري في ظاهر الاستبصار والوسائل وصريح كشف الرموز وجامع الشرايع والتذكرة والمختلف والتنقيح وجامع المقاصد والمسالك والروضة ومحكي التحرير وتعليق الإرشاد. وفي الدروس والمسالك أنه المشهور.

وقال في المبسوط: (وإن شرط أن تكون بكراً فخرجت ثيباً روي أصحابنا أنه ليس له الخيار، وله الأرش). والظاهر أنه يشير بذلك إلي ما سبق في أوائل الكلام في خيار الرؤية من حديث إسماعيل بن مرار عن يونس: (في رجل اشتري جارية علي أنها عذراء فلم يجدها عذراء. قال: يرد عليه فضل القيمة إذا علم أنه صادق)(1). والظاهر أن المفروض فيه وطء الجارية، لأنه المنصرف من قوله: (فلم يجدها)، وحيث كان الوطء مانعاً من الرد بالعيب تعين الأرش. فلا ينهض بإثبات عدم استحقاق الرد مع عدم الوطء، لينافي ما تقدم من مقتضي القاعدة. ولعل ذلك هو مراد بعض من اقتصر علي الرد، ولم يذكر الارش.

إلا أنه صرح بعدم ثبوت الأرش حينئذ في الإرشاد واللمعة. معللاً في الثاني بأن البكارة صفة كمال، نظير ما تقدم عن إيضاح النافع، وتقدم ضعفه. نعم سبق هناك الإشكال في كون حديث يونس رواية عن المعصوم. ومن ثم تكفي القاعدة بالتقريب المتقدم.

نعم في معتبر سماعة: (سألته [سألت أبا عبد الله] عن رجل باع جارية علي أنها بكر فلم يجدها علي ذلك. قال: لا ترد عليه ولا يوجب [يجب] عليه شيء. إنه يذهب في حال مرض أو أمر يصيبها)(2). وبنحو ذلك عبر في النهاية ومحكي الكامل للقاضي ابن البراج. وجمع في الاستبصار بينه وبين حديث يونس بحمله علي أنه لا يجب عليه شيء معين، وإن وجب عليه الأرش الذي يختلف باختلاف الجواري. لكنه مخالف لظاهره جداً.

********

(1) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب العيوب حديث: 1، 2.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب العيوب حديث: 1، 2.

ص: 488

(489)

(مسألة 55): لا يشترط في العيب أن يكون موجباً لنقص المالية (1). نعم لا يثبت الأرش إذا لم يكن كذلك، كما تقدم.

(مسألة 56): كما يثبت الخيار بالعيب الموجود حال العقد، كذلك يثبت بالعيب الحادث بعده قبل القبض، فيجوز رد العين به (2). وفي جواز أخذ الأرش قولان (3)

---------------

والمتعين بمقتضي التعليل فيه حمله علي ما إذا لم يحرز فقد البكارة في الجارية، إما لأن المراد بها عدم سبق الوطء، لأن ذلك هو المهم عرفاً، دون بقاء الغشاء، أو لأن المراد بها فقد الغشاء مع احتمال حصوله عند المشتري، بسبب تعرض الجارية عنده لما تضمنه الحديث من السبب.

وحينئذ يدل علي المفروغية عن ثبوت شيء في الجملة لو علم بفقد البكارة بالوطء عند البايع، الذي سبق أنه مقتضي القاعدة، ويكون عاضداً في الجملة للقاعدة بالتقريب المتقدم. كما يظهر عدم مخالفة من عبر بمضمونه للمشهور.

وبذلك يظهر الحال في غير الثيبوبة من العيوب لو كان هو الغالب في إفراد صنف المبيع الذي هو مورد كلام سيدنا المصنف (قدس سره). وأنه يتعين عدم جريان حكم العيب عليه إلا مع اشتراط السلامة منه صريحاً. فلاحظ.

(1) كما يظهر مما سبق في تحديد معني العيب منا ومنهم.

(2) قطعاً كما عن المهذب البارع، وبلا خلاف كما في مجمع الفائدة وعن الكفاية، وإجماعاً، كما في كشف الرموز وبيع الحيوان من الروضة. وفي الجواهر: (قطعاً، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه، فضلاً عن محكيه). وقد سبق الكلام في وجهه عند الكلام في سقوط الرد بحدوث العيب عند المشتري من المسألة الخمسين. فراجع.

(3) فقد خير بينه وبين الرد في النهاية والنافع والمختلف والتذكرة، وفي بيع الحيوان من الإرشاد واللمعة والتنقيح وعن غيرها. وترد في استحقاق الأرش في

ص: 489

هذا إذا كان حدوثه بأمر سماوي (1) أما إذا كان بفعل المشتري فلا أثر له (2). ولو كان بفعل غيره رجع علي الجاني (3) بالأرش (4)، ولا خيار علي الأحوط (5).

---------------

الشرايع وظاهر القواعد وأحكام العيب من الإرشاد والدروس وعن غيرهما. وجزم بعدم استحقاق الأرش في المبسوط والخلاف والسرائر وكشف الرموز وعن غيرها، ونفي الخلاف فيه في الخلاف والسرائر.

وقد سبق منّا في المسألة الخمسين توجيه ثبوت الأرش بما تضمن أن تلف المبيع قبل قبضه من مال بايعه، وأن تمام الكلام في ذلك في المسألة الثالثة من فصل أحكام التسليم والقبض.

(1) ويلحق به ما إذا لم يكن العيب مضموناً علي المتلف أو من يقوم مقامه، كما لو كان بفعل حيوان لا يضمن صاحبه درك ما أتلفه.

(2) لأنه مضمون عليه. وما دلّ علي ثبوت الخيار بعدم التسليم رأساً، أو ما يعم عدم تسليم السالم من العيب، يقصر عما إذا كان عدم التسليم ناشئاً من المشتري نفسه، لإتلافه للعين أو إنقاصه لها، علي ما يأتي في محله إن شاء الله تعالي.

(3) عملاً بمقتضي القاعدة من رجوع المالك علي المتلف. نعم لو فسخ ورد المعيب علي البايع كان للبايع الرجوع بالأرش علي المتلف.

(4) المراد بالأرش هنا هو فرق مابين الصحيح والمعيب بحسب القيمة السوقية، لأنه مقتضي القاعدة في الضمان، وليس هو الفرق بينهما بالنسبة إلي الثمن، فإن ذلك يختص بالرجوع علي البايع في مورد خيار العيب، تبيعاً لاختصاص

دليله به.

(5) يأتي منه (قدس سره) في المسألة الثالثة من فصل احكام التسليم والقبض أن الأظهر ثبوت الخيار له. وهو مقتضي الوجه المتقدم منا في المسألة الخمسين. ويأتي تمام

ص: 490

(491)

(مسألة 57): يثبت خيار العيب في الجنون والجذام والبرص والقرن إذا حدثت بعد العقد إلي انتهاء السنة من تاريخ حدوث الشراء (1).

---------------

الكلام فيه هناك إن شاء الله تعالي.

(1) صرح بذلك في الثلاثة الأول في المقنعة والنهاية والغنية والوسيلة والسرائر والجامع والتذكرة والإرشاد والقواعد والدروس وغيرها. وفي الخلاف والغنية والسرائر دعوي الإجماع عليه. ونسبه في المبسوط إلي رواية أصحابنا.

ويقتضيه صحيح أبي همام: (سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: يرد المملوك من أحداث السنة من الجذام والجنون والبرص. قلت: كيف يرد من أحداث السنة ؟ قال: هذا أول السنة، فإذا اشتريت مملوكاً به شيء من هذه الخصال ما بينك وبين ذي الحجة ردته علي صاحبه. فقال له محمد بن علي: فالإباق ؟ قال: ليس الإباق من ذا، إلا أن يقيم البينة أنه كان أبق عنده)(1) ، وغيره مما يأتي بعضه.

نعم قال الكليني: (وروي الوشا أن العهدة في الجنون وحده إلي سنة)(2).

لكن لا مجال للخروج به عن النصوص الكثيرة المتضمنة لغير الجنون المعول عليها عند الأصحاب. ولاسيما مع ضعفه في نفسه، واحتمال كون لفظ (وحده) من الكليني (قدس سره)، لبيان اقتصار رواية الرشا علي الجنون، إلا من الإمام لبيان انحصار الحكم بالجنون. ولا أقل من الجمع بينه وبين بقية النصوص بحمله علي ذلك.

وفي صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: عهدة البيع في الرقيق ثلاثة أيام إن كان بها خبل أو برص أو نحو هذا. وعهدته سنة من الجنون. فما بعد السنة فليس بشيء)(3). ولذا توقف في مجمع الفائدة في البرص لاعتضاد الصحيح بالأصل وأدلة لزوم البيع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب العيوب حديث: 2، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب العيوب حديث: 2، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب الخيار حديث: 7.

ص: 491

لكن يوهنه ظهور إعراض الأصحاب عنه، وكثرة النصوص الأول المعول عليها عندهم. مضافاً إلي اشتماله علي الحبل بالحاء المهملة، كما في الوسائل، أو علي الخبل بالخاء المعجمة كما في الكافي والتهذيب. والأول لاإشكال ظاهراً في عدم تحديده بثلاثة أيام، كما يظهر من النصوص الكثيرة(1) المشهورة رواية وفتوي. والثاني مردد بين الجنون وفساد البدن والأعضاء. وعلي الأول يلزم اضطراب الحديث، وعلي الثاني - كما هو الظاهر - لا يتضح وجه عطف البرص عليه، ثم قوله (عليه السلام): (أو نحو هذا)، لظهوره في تشابه الأمور المتعاطفة وتقاربها. ومن ثم لا يبعد كون (البرص) مصحف (المرض) كما احتمله في الحدائق والجواهر بعد تشابهما في الكتابة، لأن ذلك هو الأنسب بالتعاطف. فتأمل.

كما قد يستشكل في الجذام بأنه موجب لانعتاق العبد، ومع انعتاقه لا موضوع للرد. ويندفع بأن ذلك لو تم إنما يقتضي تخصيص عموم مانعية حدوث الحدث من الفسخ بنصوص المقام. ولا محذور في ذلك. فلاحظ.

وأما القرن فقد ذكره في الجامع والدروس والمسالك، وعن التحرير نسبته إلي أبي علي. واقتصره في الشرايع علي ذكر الرواية به وبالثلاثة الأول بنحو يظهر في عمله بها، كما هو ظاهر الكليني أيضاً، بل قد يستظهر من الشيخ في التهذيب، حيث أودع النصوص المذكورة في الباب المناسب لها، ولم يعقب عليها بما يدل علي ردها. بل ادعي في المسالك الشهرة علي الأربعة. وإن استشكل عليه في مفتاح الكرامة بقلة من ذكر الرابع.

وكيف كان فيقتضيه معتبر علي بن أسباط عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في حديث قال: (وأحداث السنة ترد بعد السنة. قلت: وما أحداث السنة ؟ قال: الجنون والجذام والبرص والقرن. فمن اشتري فحدث فيه هذه الأحداث فالحكم أن يرد علي صاحبه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب العيوب.

ص: 492

إلي تمام السنة من يوم اشتراه)(1) ونحوه معتبر ابن فضال(2) ومعتبر محمد بن الحميد عن محمد بن علي عنه (3)(عليه السلام).

وقد استشكل فيه في مجمع الفائدة بعدم وقوعه في مقطوع الصحة، وعدم ظهور القول به.

ويندفع الأول بأن مراده بذلك إن كان هو عدم نهوض هذه النصوص بإثباته، لعدم القطع بصحتها. ففيه: أنه يكفي اعتبارها في نفسها. ولاسيما مع تعاضدها في أنفسها لتعددها. بل قد يظن لأجلها باشتمال في صحيح أبي همام علي القرن، كما رواه في الوسائل عن الشيخ، وإن لم نجده في التهذيب كذلك، بل رواه - كما في الكافي - مشتملاً علي الثلاثة الأول لا غير.

وإن كان مراده بذلك أن صحيح أبي همام يعارض النصوص المذكورة، ويسقطها عن الحجية، لأن خلوه عن القرن ظاهر في عدم كونه من أحداث السنة. ففيه: أن ذلك وإن كان مسلماً، إلا أنه يتعين تقديم النصوص المذكورة عليه، بملاك تقديم النص علي الظاهر. وأما الثاني فيدفعه أن ذلك لم يصل حدّ الهجر المسقط لها عن الحجية بعد عمل من عرفت بالنصوص المذكورة.

هذا وقد صرح في المقنعة بأن وطء الجارية في السنة مانع من الرد وموجب للأرش، كما صرح في الوسيلة بذلك في العيب، وفي الغنية بعد أن ذكر الرد بالعيوب الثلاثة قال: (إذا لم يمنع من الرد مانع). وفي الشرايع: (هذا الحكم يثبت مع عدم الإحداث، فلو أحدث ما يغير عينه أو صفته ثبت الأرش وسقط الرد). وعمم ذلك في السرائر والقواعد والدروس وغيرها لمطلق التصرف، وفي الجامع: (ما لم يتصرف فيه المشتري أو يحدث عنده عيب آخر).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب العيوب حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج 12 باب: 3 من أبواب الخيار حديث: 1، 7.

(3) وسائل الشيعة ج 12 باب: 3 من أبواب الخيار ذيل حديث حديث: 2.

ص: 493

(494)

(مسألة 58): كيفية أخذ الأرش أن يقوم المبيع صحيحاً، ثم يقوم معيباً، وتلاحظ النسبة بينهما، ثم ينقص من الثمن المسمي بتلك النسبة (1).

---------------

ولا ينبغي التأمل في أن نصوص المقام واردة لبيان تعميم العيب في هذه الأمور للسنة فيكون مقتضاها جريان جميع أحكامه، ومنها سقوط الرد بالمسقطات المتقدمة، علي الكلام في حدودها وتفاصيلها. فلاحظ.

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب (رضوان الله تعالي عليهم). وقد سبق إلي إيضاحه في المبسوط. قال: (وإذا اشتري أمة فوطأها، ثم ظهر لها بعد ذلك عيب، لم يكن له ردها، وكان له الأرش، سواء كانت بكراً أو ثيباً. وطريق ذلك أن تقوّم الجارية صحيحة فإذا كانت تساوي ألفاً، ثم قومت معيبة، فإذا قيل: تسعمائة، فقد علمنا أنه نقص عشر قيمتها، فيرجع بعشر ثمنها. وإنما قلنا يرجع بما نقص من الثمن دون القيمة، لأنه لو رجع بما نقص من القيمة، لأدي أن يجتمع للمشتري الثمن والمثمن جميعاً، وهو إذا اشتري رجل من رجل جارية تساوي ألفي درهم بألف درهم، ووجد بها عيباً نقص نصف قيمتها، وهو ألف درهم، وحدث عنده عيب آخر يمنع من ردها، فإنه لو رجع بما نقص من العيب من القيمة لوجب أن يرجع بنصف الألفين درهم، فيحصل عنده الثمن، - وهو ألف درهم - والمثمن. وهذا لا يجوز. ويخالف ذلك إذا غصب جارية فافتضها، فإنه يلزمه ما نقص من قيمتها إجماعاً، لأنه لا يؤدي إلي إجماع البدل والمبدل). وجري علي ذلك غير واحد ممن تأخر عنه.

لكن إجتماع البدل والمبدل للمشتري إنما يلزم إذا كان رجوع فرق القيمة مقتضي نفس المعاوضة، كما هو الحال بناء علي أن ثبوت الأرش مقتضي نفس عقد البيع، لمقابلة وصف السلامة أو جميع الأوصاف التي يبتني عليها البيع بجزء من الثمن، حيث يتعين توزيع الثمن علي الصفة المفقودة وبقية المبيع، وبقاء شيء من الثمن للبايع مقابل ما سلم من المبيع للمشتري لئلا يجتمع له الثمن والمثمن.

ص: 494

إلا أنه سبق ضعف المبني المذكور، وأن ثبوت الأرش حكم شرعي تعبدي من أجل تدارك ضرر المشتري. وحينئذ لا مانع من استيعابه لمقدار الثمن، بل زيادته عليه، كما هو الحال لو تعدي البايع فأحدث في المبيع بعد قبضه المشتري ما ينقص من قيمته، حيث يتعين ضمانه للمشتري أرش النقص وإن استوعب الثمن أو زاد عليه.

ومن هنا يتعين النظر في دليل الأرش. والجمود علي عبارة النصوص تقتضي وجوب فرق القيمة السوقية، كما هو مفاد التعبير في جملة منها بقيمة العيب(1) ، أو بقدره(2) ، و قوله (عليه السلام) في معتبر طلحة بن زيد: (تقوم وهي صحيحة وتقوم وبها الداء، ثم يرد الباع علي المبتاع فضل ما بين الصحة والداء)(3) ، وقريب منه غيره.

وكذا قوله (عليه السلام) في معتبر زرارة المتقدم: (ويرد عليه بقدر ما نقص من ذلك الداء والعيب من ثمن ذلك لو لم يكن به)(4).

أما ما في الجواهر من ظهوره في المعني المشهور، وإلا لم يكن وجه للتقييد بالثمن. ففيه: أن ظاهر الثمن فيه، هو القيمة السوقية، لا الثمن الشخصي الذي وقع عليه البيع، إذ هو كالصريح في فعلية إنقاص العيب بوجوده الواقعي للثمن، الملزم بحمل الثمن فيه علي جنس الثمن المساوق للقيمة، دون الثمن الشخصي الذي وقع عليه البيع، فإنه لم ينقص بالعيب فعلاً، وإنما من شأنه أن ينقص لو علِم بالعيب.

ومن ثم كان حال المعتبر المذكور حال بقية النصوص المتقدمة في أن الجمود علي عبارته يقتضي وجوب فرق القيمة السوقية. بل هو الظاهر مما تضمن إطلاق نقصان العيب(5). أو عنوان الأرش(6). ولا أقل من حمله عليه بقرينة ما سبق.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب العيوب حديث: 6، 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب العيوب حديث: 1، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب العيوب حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الخيار حديث: 2.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الخيار حديث: 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب العيوب حديث: 7.

ص: 495

لكن النصوص المذكورة كما تضمنت ذلك تضمنت عنوان الردّ للأرش(1) بنحو يظهر في كون الأرش بعضاً من الثمن الذي أخذه البايع أو استحقه بل هو المصرح به في قوله (عليه السلام) في صحيح ابن سنان: (ويوضع عنه من ثمنها بقدر عيب إن كان فيها)(2) وقوله (عليه السلام) في معتبر زرارة: (وكان يضع له من ثمنها بقدر عيبها)(3) ، سواء كان المراد به أنه بعض من عينه أم بعض من مقداره، حيث لا يصدق عنوان الرد إلا بذلك، ولا يصدق فيما لو كان المردود أكثر من الثمن، مع أن الأرش لو كان هو فرق العيب بحسب القيمة السوقية فقد يزيد علي الثمن.

وليس حمل التعبير المذكور في هذه النصوص علي غير هذه الصورة، لندرتها، بأولي من حمله علي فرض كون الثمن في بيع المبيع بقدر القيمة السوقية، لأن ذلك مقتضي الأصل في البيع، علي ما سبق في خيار الغبن. حيث يتطابق حينئذٍ الأرش الذي ذكره الأصحاب مع فرق العيب بحسب القيمة السوقية.

بل الثاني هو الأقرب، بل المتعين، بلحاظ قضاء المناسبات الارتكازية بأن حكم الشارع بالأرش وإن كان علي خلاف مقتضي القاعدة، لما سبق من عدم ابتناء البيع علي مقابلة الصفة بالمال، بل هي من سنخ الداعي لزيادة الثمن المبذول بإزاء العين، إلا أنه يبتني علي مراعاة الداعي المذكور، وتدارك خسارة المشتري في البيع بسببه، ومن الظاهر أن خسارة المشتري بعد أن لم تكن مترتبة علي فعل البايع بإتلاف الصفة، ليكون تداركها بدفع قيمة الصفة السوقية، بل علي تخيل وجود الصفة في المبيع الذي سبب زيادة الثمن، فتداركها إنما يكون بدفع الزيادة المذكورة، سواء كانت مساوية لقيمة الصفة السوقية، أم مخالفة لها بالزيادة أو النقيصة، وهي عين الأرش الذي ذكره الأصحاب.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الخيار حديث: 2، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب العيوب حديث: 2، 3، 4، 6، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من الأبواب المذكورة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب العيوب حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب العيوب حديث: 57.

ص: 496

ولعل ارتكازية ذلك، ونهوضه بتفسير مفاد النصوص تمنع من نسبة الخلاف في معني الأرش ممن عبر بعبارة النصوص، أو تستفاد فتواه بمضمونها من رواية لها، كما في المقنعة والنهاية وعن الصدوقين. وإلا فمن البعيد جداً التزامهم بما يقتضيه الجمود علي التعبير المذكور. بل جزم غير واحد بعدم إرادتهم ذلك. ومن ثم استظهر شيخنا الأعظم (قدس سره) عدم الإشكال والخلاف في المسألة غاية الأمرأن المنظور لغير واحد هو استبعاد بنائهم علي جواز اجتماع البدل والمبدل للمشتري، لا ما ذكرنا من الوجه.

بقي شيء: وهو أنه هل يجب دفع الأرش من عين الثمن، أو لا يتعين ذلك، بل له دفعه من غيره ؟ قد يكون مقتضي الجمود علي التعبير بالرد في كلام غير واحد هو الأول. وأظهر من ذلك مثل ما تقدم من المبسوط من الرجوع بجزء من الثمن أو أن الأرش جزء منه. نسبته إليه نسبة التفاوت بين الصحيح والعيب، كما في الشرايع والقواعد والإرشاد وغيرها. وإن صرح بعض من عبر بذلك بعدم التقيد بعين الثمن، كما في التذكرة.

والذي ينبغي أن يقال: إن كان منشأ استحقاق الأرش ما تقدم من التذكرة وغيره - من أن العقد قد تضمن جعل الثمن في مقابل السليم، فإذا فات وصف السلامة، فقد فات جزء من المبيع، وكان للمشتري المطالبة بما يقابله من الثمن - فالمتعين دفع الأرش من عين الثمن، كما في تبعض الصفقة.

أما بناء علي ما سبق من عدم تمامية ذلك، وأن ثبوت الأرش حكم شرعي تعبدي من أجل تدارك ضرر المشتري فقد قرب شيخنا الأعظم (قدس سره) عدم وجوب دفعه من عين الثمن قال: (لأصالة عدم تسلط المشتري علي شيء من الثمن، وبراءة ذمة البايع من جوب دفعه...) كما قرب وجوب دفعه من النقدين، لأنهما الأصل في ضمان المضمونات، بنحو يظهر منه وجوب ذلك حتي لو كان الثمن من غير النقدين.

لكن لو تم الأصل الذي أصله في نفسه فلابد من رفع اليد عنه بنصوص

ص: 497

الأرش المشار إليها آنفاً، المتضمنة عنوان الرد. وأما ما ذكره (قدس سره) من حمله علي الغالب من كون الثمن من النقدين، وحمل الرد علي الرد باعتبار النوع، لا باعتبار الشخص. فهو مخالف للظاهر.

وأظهر من ذلك قوله (عليه السلام) في صحيح ابن سنان: (ويوضع عنه من ثمنها بقدر عيب إن كان فيها)(1) ، وقوله (عليه السلام) في معتبر زرارة المتقدم: (وكان يضع له من ثمنها بقدر عيبها)(2). وإن حاول هو وبعض من عقب كلامه حملهما علي ما لا ينافي ذلك بتكلف يظهر لمن راجع كلامهم.

ومن هنا يتعين دفع الأرش من عين الثمن مع وجوده وإمكان تبعيضه. وفي غير ذلك يتعين دفع بدل جزء الثمن المساوي للأرش من المثل أو القيمة. وذلك هو الأنسب بالمرتكزات العرفية من دفع الأرش من النقدين مع كون الثمن من غيرهما.

ودعوي: أن مقتضي ذلك شركة المشتري في الثمن، وثبوت حقه فيه بنحو الإشاعة، بحيث تترتب أحكامها من عدم جواز التصرف في الثمن، وعدم القسمة، إلا برضا المتبايعين معاً.

مدفوعة بأنه لا ظهور للنصوص في ذلك، بل في استحقاق المشتري المطالبة بالأرش، ووجوب دفعه من الثمن علي البايع، بنحو يظهر في إنفراد البايع بالسلطنة علي تعيينه ودفعه، من دون أن ينافي ملكه لتمام الثمن بمقتضي العقد، فهو يشبه صورة بيع الكلي في المعين، كصاع من صبرة.

نعم إنما يتجه ذلك لو كان منشأ استحقاق الأرش هو كون وصف السلامة مقابلاً بالثمن، حيث يستلزم ذلك عدم ملك البايع لتمام الثمن ابتداءً، وبقاء جزء منه - وهو ما يقابل وصف السلامة - في ملك المشتري. وهو خروج عن مفروض الكلام، وعن مبني المسألة في المقام. فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب العيوب حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب العيوب حديث: 5.

ص: 498

فإذا قوم صحيحاً بثمانية، ومعيباً بأربعة، وكان الثمن أربعة ينقص من الثمن النصف، وهو اثنان، وهكذا. ويرجع في معرفة قيمة الصحيح والمعيب (1) إلي أهل الخبرة (2). ولابد من التعدد والعدالة (3).

---------------

(1) موضوع الأثر هو نسبة قيمة المعيب لقيمة الصحيح، فالرجوع لأهل الخبرة في الحقيقة في ذلك، لا في معرفة نفس القيمتين.

(2) كما هو الحال في سائر الأمور الحدسية.

(3) كما في الدروس وجامع المقاصد. وزادا الذكورة وعدم التهمة.، وأقرهما علي ذلك في مفتاح الكرامة وخيارات الشيخ علي. بدعوي: أن المقام من باب الشهادة.

لكنه إنما يكون منها فيما إذا رجع إلي الإخبار عن أمر حدسي ملحق بالحسي، كما لو كان الأخبار عن القيمة المعروفة عند أهل البلد بين المعيب والصحيح.

أما إذا رجع إلي الإخبار عن أمر حدسي يبتني علي الاجتهاد والحدس، نتيجة الممارسة في تحديد نقص العيب ونسبة قيمة المعيب للصحيح - كما لعله مفروض كلام الأصحاب - فالرجوع فيه للمقومين يبتني علي الرجوع لأهل الخبرة الذي يكفي فيه الأمانة والوثوق، ويقصر عنه عموم لزوم البينة. وربما يكون ذلك هو ظاهر الأصحاب قبل الشهيد، لعدم إشارتهم للشروط المذكورة مع تعرضهم لصورة اختلاف المقومين.

نعم استدل سيدنا المصنف (قدس سره) في حاشيته القديمة علي المكاسب للزوم التعدد بما في صحيح أبي ولاد عن أبي عبد الله (عليه السلام) الوارد في تعدي المستأجر. وفيه: (فقلت له: أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني ؟ قال: نعم قيمة بغل يوم خالفته. قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز؟ فقال: عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترده عليه. فقلت: من يعرف ذلك ؟ قال: أنت وهو. إما أن يحلف هو علي القيمة،

ص: 499

(500)

(مسألة 59): إذا اختلف أهل الخبرة في قيمة الصحيح والمعيب، فإن اتفقت النسبة بين قيمتي الصحيح والمعيب علي تقويم بعضهم مع قيمتها علي تقويم البعض الآخر فلا إشكال (1)، كما إذا قوم بعضهم الصحيح بثمانية والمعيب بأربعة، وبعضهم الصحيح بستة والمعيب بثلاثة، فإن التفاوت علي كل من التقويمين يكون بالنصف. وإذا اختلفت النسبة، كما إذا قوم بعضهم الصحيح بثمانية والمعيب بأربعة، وبعضهم الصحيح بثمانية والمعيب بستة ففيه وجوه (2)،

---------------

فيلزمك. فإن رد اليمين عليك فحلفت علي القيمة لزمه ذلك. أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا، فيلزمك...)(1).

لكنه ليس وارداً في الشهادة علي مقدار نقص العيب، ونسبة قيمة المعيب للصحيح، التي تحتاج إلي الحدس والتخمين وإعمال النظر، بل في الشهادة علي قيمة البغل حين اكتراه، وهي قد تكون ظاهرة بسبب شيوع بيع البغال في تلك العصور، وتكون في حق المطلع علي وضع السوق من الظهور بحيث تلحق بالأمور الحسية، وليست مبنية علي الحدس والتخمين، كما هو ظاهر فرض الشهادة في الصحيح. وهو خارج عن محل الكلام. ومن هنا لا مخرج عما سبق. فلاحظ. والله سبحانه وتعالي العالم.

(1) لما أشرنا إليه آنفاً من أن مورد الأثر هو نسبة قيمة المعيب لقيمة الصحيح المفروض اتفاقهم فيها. ومعه لا أهمية لاختلافهم في تعيين القيمتين في أنفسهما. نعم لو كان الأرش هو قيمة العيب السوقية لترتب الأثر علي الخلاف المذكور.

(2) قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (لو تعارض المقومون، فيحتمل تقديم بنية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب أحكام الإجارة حديث: 1.

ص: 500

الأقل، للأصل. وبنية الأكثر، لأنها مثبتة. والقرعة، لأنها لكل أمر مشتبه. والرجوع إلي الصلح، لتشبت كل من المتبايعين بحجة ظاهرية، والمورد غير قابل للحلف، لجهل كل منهما بالواقع. وتخيير الحاكم، لامتناع الجمع وفقد المرجح. لكن الأقوي ما عليه المعظم من وجوب الجمع بينهما بقدر الإمكان، لأن كلاً منهما حجة شرعية...).

ولا ينبغي الإشكال في ضعف الوجوه الأُول. فالأول بما ذكره هو (قدس سره) في بقية كلامه من عدم نهوض الأصل بترجيح الدليلين المتعارضين، لتأخره عنهما رتبة. بل غاية الأمر أن يكون مرجعاً بعد تساقطهما.

والثاني بأن البينة النافية إن شهدت بالنقيصة ونفي الزيادة - كما هو المفروض في المقام - فلا وجه لتقديم بينة الإثبات عليها بعد تكاذبهما. وإن شهدت باستحقاق الناقص من دون نفي للزيادة، لعدم ظهور الحال لها، فلا موضوع لتقديم بينة الإثبات، لعدم التعارض بينهما، بل تنفرد بينة الإثبات بالحجية.

كما يندفع الثالث بعدم ثبوت عموم وجوب الرجوع للقرعة في كل أمر مشتبه، كما تقدم تفصيل الكلام في ذلك في المسألة التاسعة والثلاثين من مقدمة كتاب التجارة في فروع جوائز الظالم.

ومثله الرابع، ضرورة امتناع حجية كلتا البينتين مع تكاذبهما، فيكون المورد من موارد فقد الحجة لكل منهما، والرجوع للأصل المقتضي للأقل، كما يأتي.

وكذا الخامس، فإن التخيير وإن قيل به في تعارض الأخبار الواردة في الأحكام الكلية، إلا أن التحقيق عدم ثبوته فيها، فضلاً عن الأمارات الواردة في الموضوعات، ومنها البينات المتعارضة في المقام، بل المتعين فيها التساقط، كما سبق. وعليه عملهم نوعاً، إلا فيما إذا دل دليل خاص علي تحديد الوظيفة بوجه آخر.

وأما السادس الذي نسبه للمعظم - وهو العمل علي أوسط القيم - فقد ذكره في المقنعة والنهاية والشرائع والنافع والتذكرة والقواعد والدروس واللمعتين وجامع المقاصد والمسالك ومحكي التحرير والميسية وجملة ممن تأخر عنهم. قال في مفتاح

ص: 501

الكرامة: (وقد أهمله الباقون).

وقد استدل عليه شيخنا الأعظم (قدس سره) بأن فيه جمعاً بين التقويمين بالعمل بكل منهما في بعض موضوع التقويم. قال (قدس سره): (فإذا قومه أحدهما بعشرة فقد قوم كلاً من نصفه بخمسة، وإذا قومه الآخر بثمانية فيد قوم كلاً من نصفه بأربعة، فيعمل بكل منهما في نصف المبيع) وذكر أن ذلك أولي من طرحهما معاً، لقاعدة أن الجمع بين الدليلين أولي من الطرح.

وفيه: أن مرجع القاعدة المذكورة إلي جعل أحد الدليلين مفسراً للمراد من الآخر، لا إلي العمل بهما في بعض مدلولهما مع فرض التكاذب بينهما. وهي لا تتم في الأول في غير مورد الجمع العرفي، فضلاً عن الثاني.

ومثله الاستدلال بقاعدة العدل والإنصاف المستفادة من الحكم بالتنصيف في درهم الودعي المردد بين شخصين(1) ، والدرهم الذي تداعاه شخصان(2) ، وما إذا أقام كل من المتداعيين في شيء البينة علي أنه له(3) ، وفي بعضها حكم بالتبعيض بنسبة عدد الشهود(4). إذ هي لو تمت مختصة بما إذا لم يترجح أحد الطرفين بأمارة أو أصل يقضي بكون الشيء بتمامه له، كما في المقام.

واستدل في الجواهر بخبر عبد الله بن عمر قال: (كنا بمكة، فأصابنا غلاء في الأضاحي، فاشترينا بدينار، ثم بدينارين، ثم بلغت سبعة، ثم لم توجد بقليل ولا كثير، فرفع هشام المكاري رقعة إلي أبي الحسن (عليه السلام) فأخبره بما اشترينا ثم لم نجد بقليل ولا كثير. فوقع: انظروا إلي الثمن الأول والثاني والثالث، ثم تصدقوا بمثل ثلثه(5).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 12 من أبواب الصلح حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 9 من أبواب الصلح حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 10 من أبواب الصلح حديث: 1، وسائل الشيعة ج: 18 باب: 12 من أبواب أحكام الدعوي حديث: 2، 3، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 12 من أبواب أحكام الدعوي حديث: 2، 3، 4.

(5) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 58 من أبواب الذبح حديث: 1.

ص: 502

وأقوال (1).

---------------

قال (قدس سره): (وقد عمل به الأصحاب في محله).

وفيه أولاً: أن الجمع فيه بين القيم الواقعية المختلفة لاختلاف العرض والطلب باختلاف الزمان، والمدعي في المقام هو الجمع بين القيم الظاهرية، تبعاً لاختلاف أنظار المقومين بعد فرض التكاذب بينهم. وما ذكره (قدس سره) في بقية كلامه من أن اختلاف القيم في المقام لعله يرجع لاختلاف الرغبات خروج عن محل الكلام.

وثانياً: أن ما تضمنه الخبر حكم تعبدي بإجزاء الجمع بالنحو المذكور واقعاً، والجمع المدعي في المقام ظاهري يجتزأ به ظاهراً في فرض الجهل بالقيمة الواقعية، وهما مختلفان سنخاً، فلا مجال لاستفادة الثاني من دليل الأول.

بل لا مجال للتعدي عن مورد الأول لما يسانخه، كما لو ضمن الشيء بمثله، ثم اختلفت قيمة المثل تبعاً لاختلاف العرض والطلب حتي فقد وتعين دفع قيمته بدله. ومن هنا لا يتضح الدليل علي الوجه المذكور.

نعم قد يدرك المطلع علي اختلاف المقومين أن اختلافهم نتيجة إغراق كل منهم في ملاحظة الجهة الوجبة لزيادة القيمة أو نقصها، وأن القيمة الحقيقية هي القيمة المتوسطة. لكن ذلك - مع عدم اطراده - يرجع إلي الاجتهاد في تحديد القيمة نتيجة اختلاف المقومين. وهو خارج عن ظاهر مفروض كلام الأصحاب.

(1) لم يتضح وجود قول آخر غير القول بالعمل علي المتوسط الذي تقدم من جماعة. غاية الأمر إهمال الآخرين التعرض لصورة اختلاف المقومين، كما تقدم من مفتاح الكرامة.

نعم أشاروا للاختلاف بين ما ذكره المشهور وما نسب للشهيد (قدس سره) في طريقة الجمع بين التقويمين وتحديد المتوسط بينهما بما لا يهمنا التعرض له بعد ظهور ضعف القول بالعمل علي أوسط القيم.

ص: 503

(504)

والذي تقتضيه القواعد سقوط التقويمين (1)، والبناء علي الأقل، عملاً بالأصل (2). والأحوط التصالح.

(مسألة 60): إذا اشتري شيئين بثمنين صفقة، فظهر عيب في أحدهما كان له الخيار بين الإمساك وأخذ الأرش وبين رد المعيب (3) وحده (4).

---------------

(1) الظاهر بناء العقلاء علي ترجيح الأكثر خبرة من المقومين إذا كان قوة خبرته بمقدار معتد به، علي ما ذكرناه في مباحث التقليد، فإن المقامين من باب واحد. ولا يكون التساقط إلا مع فقد الترجيح بذلك.

كما أن التساقط إنما يكون فيما يختلف فيه المقومون، وهو تحديد الأرش بما يذكره كل منهم، دون ما يتفقون عليه، وهو عدم زيادته عن أعلي القيم وعدم نقصه عن أدناها.

(2) لظهور أنه بعد ملكية البايع لتمام الثمن فتردد ما يجب دفعه عليه بسبب العيب بين الأقل والأكثر من صغريات الدوران بين الأقل والأكثر غير الارتباطيين الذي لا إشكال في كونه من موارد جريان البراءة. نعم بناء علي مقابلة وصف السلامة بجزء الثمن وعدم ملكية البايع مع تخلفه لما يقابله من الثمن يكون المورد من موارد اشتباه الحق، ويتعين الصلح.

بل قد يكون مقتضي الأصل هو الأكثر. لملكية المشتري لتمام الثمن قبل البيع، ويشك في مقدار ما خرج منه عن ملكه، فيقتصر فيه علي الأقل.

(3) بناء علي مختاره (قدس سره) من أن حكم العيب هو التخيير بين الرد والأرش. أما بناء علي المختار من الترتيب بينهما فليس له إلا الرد. إلا أن يحدث أحد الموانع المتقدمة منه، فيكون له الأرش.

(4) لتعدد المبيع بتعدد الثمن عرفاً، والارتباطية بينهما شرط خارج عنها.

ص: 504

فإن اختار الثاني كان للبايع الفسخ في الصحيح (1). وكذا إذا اشتري شيئين بثمن واحد. لكن ليس له رد المعيب وحده (2)، بل إما أن يردهما معاً،

---------------

(1) تقدم منه (قدس سره) نظير ذلك في المسألة الرابعة والثلاثين في فروع خيار الغبن. ومما تقدم هناك يظهر أن فسخ البايع مشروط بابتناء البيعين علي الارتباطية، حيث يكون فسخ المشتري في المعيب موجباً لتخلف الشرط الضمني في حق البايع، فله الفسخ بخيار تخلف الشرط. بل سبق تقريب ثبوت خيار تبعض الصفقة للمشتري أيضاً. وذلك يجري هنا. والظاهر أن فرض الصفقة في البيعين راجع إلي الارتباطية المذكورة.

(2) كما في المقنعة والنهاية والمبسوط والخلاف والمهذب والغنية والسرائر والشرايع والنافع وما تأخر عنها. ونفي في الرياض ظهور الخلاف فيه. وفي الجواهر: (بلا خلاف أجده فيه). بل تقدم في أول الكلام في خيار العيب من الخلاف والغنية دعوي الإجماع عليه.

وقد يستدل عليه بوجوه:

الأول: أن في تبعيض الصفقة ضرراً علي البايع. وما في الجواهر من إمكان جبره بثبوت الخيار له في رده. لا يخلو عن إشكال، لظهور الأدلة في نفي الحكم الضرري، وهو في المقام نفس تبعض الصفقة.

اللهم إلا أن يدعي انصراف قاعدة نفي الضرر عن مثل هذا الضرر الذي يتسلط المضرور علي إزالته بالفسخ. نظير ما تقدم في الاستدلال بالقاعدة لخيار الغبن.

مع أن الضرر غير مطرد، إذ قد لا يكون الفصل بين المبيعين موجباً لنقص قيمة المعيب أو قلة الرغبة فيه. غاية الأمر أن تبعض الصفقة مخالف لمبني المعاملة، الذي هو كالشرط الضمني فيها، فيوجب الخيار للبايع من أجل ذلك.

الثاني: ما في الجواهر من تعلق حق الخيار بالمجموع، لا في كل جزء منه.

ص: 505

والظاهر رجوعه إلي أن المستفاد عرفاً من الأدلة وحدة حق الخيار، وتعلقه بمجموع المبيع، لا تعدده، بحيث ينحل بانحلال أجزائه.

وفيه: أن ذلك وإن كان مسلماً، إلا أن موضوع الخيار لما كان هو بيع المعيب فهو إنما يقتضي وحدة الخيار وعدم مشروعية الفسخ في بعض المعيب. وذلك إنما يقتضي عدم مشروعية الفسخ في البعض إذا صدق علي المجموع عرفاً أنه معيب ولو لكون المعيب جزءاً منه، كالحيوان الذي يشل عضو منه، والدار التي يهدم بعض غرفها، والثوب الذي يخرق أحد كميه. أما إذا كان المبيع أموراً متعددة عرفاً، والمعيب أحدهما - كما هو محل الكلام - فموضوع الخيار الواحد ذلك المعيب بتمامه، فلا يشرع الفسخ في بعضه، أما المجموع فلا وجه لدخوله في موضوع الخيار الواحد المفروض بعد عدم صدق المعيب عليه بمجموعه بسبب عيب البعض. كما ذكر ذلك في الجملة بعض مشايخنا (قدس سره).

الثالث: أن لزوم تبعض الصفقة من الفسخ وإن لم يناف قيام المبيع بعينه الذي هو الشرط في جواز الفسخ، لأنه أمر مسبب عن الفسخ ومتأخر عنه رتبة، إلا أن المستفاد عرفاً من اشتراط قيام المبيع بعينه عرفاً هو لزوم رجوع المبيع للبايع علي النحو الذي خرج منه ووقع عليه البيع، وهو لا يتحقق مع تبعض الصفقة.

الرابع: ما سبق منا في المسألة الرابعة عشرة من فروع بيع الشرط من امتناع فسخ العقد الواحد في بعض مضمونه، والمفروض في المقام وحدة العقد وبيع المجموع صفقة واحدة.

وهو لو تم يمتنع رد المعيب وحده حتي لو رضي البايع، إلا أن يرجع إلي التصالح بينهما علي المعاوضة بين المعيب وما يخصه من الثمن، كما يظهر مما سبق هناك. والحاصل أن المشتري لا يستحق رد المعيب وحده.

ولاسيما مع ما تكرر منا من عدم ثبوت إطلاق لأدلة خيار العيب عدا قوله (عليه السلام)

ص: 506

في حديث جميل المتقدم: (إن كان الشيء قائماً بعينه رده علي صاحبه وأخذ الثمن)(1). وهو مختص أو منصرف لأخذ الثمن الذي وقع عليه البيع، لا ما يعم بعضه مما يخص المعيب. نظير ما ورد من أن من اشتري صفقة بثمن ثم قوّم كلاً منها بما يخصه من الثمن لم يجز له بيع بعضها مرابحة علي ما قومه إلا أن يبين للمشتري أنه قوّمه(2).

ودعوي: أنه لو تم عدم جواز فسخ العقد في المعيب وحده لبعض الوجوه السابقة، إلا أنه لا مجال للبناء علي جواز الفسخ في المجموع بعد عدم صدق المعيب عليه بسبب عيب البعض، كما تقدم في تعقيب الوجه الثاني، لأن موضوع الخيار في النصوص هو بيع المعيب وشرائه، ولا يعم بيع وشراء ما فيه معيب.

مدفوعة بأن قصور نصوص المقام عن المورد بمقتضي الجمود عليها لا ينافي فهم العموم منها تبعاً للمناسبات الارتكازية. ولا أقل من كون الفسخ في المقام مقتضي الوجه الارتكازي لثبوت خيار العيب، وهو أن سلامة المبيع شرط ضمني في البيع يقتضي تخلفه الخيار، علي ما سبق التعرض له في أول الكلام في خيار العيب. لظهور أن الشرط هو سلامة تمام المبيع، بنحو يكفي في تخلفه كون بعض المبيع معيباً.

إن قلت: مقتضي ذلك عدم ثبوت خيار الحيوان في الأيام الثلاثة لو بيع صفقة مع غيره، لكونه خياراً تعبدياً لا دليل عليه إلا النصوص، وهي مختصة بالحيوان، ولا تعم غيره إذا بيع معه، فإذا تم عدم جواز فسخ العقد في بعض مضمونه تعين عدم جواز رده وحده بما يخصه من الثمن.

قلت: لا محذور في البناء علي ذلك. ولاسيما بعد انصراف بيع الحيوان وشرائه إلي بيعه وحده، وظهور الخيار المجعول فيه في الخيار في البيع بتمامه.

إلا أن يقوم إجماع تعبدي علي جواز إرجاعه بما يخصه من الثمن، فيكون معاوضة قهرية لا فسخاً للبيع في بعض مضمونه. نظير أخذ الشريك بالشفعة. لكن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الخيار حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 21 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 1، 5.

ص: 507

(508)

أو يختار الأرش (1).

(مسألة 61): إذا اشترك شخصان في شراء شيء، فوجداه معيباً، فليس لأحدهما أن يرد حصته (2)، بل إما أن يرداه جميعاً أو يأخذ الأرش.

---------------

لا طريق لإحراز الإجماع بالنحو المذكور بنحو ينهض بالحجية. فلاحظ.

(1) أما بناء علي استفادة ثبوت الخيار في المورد من إطلاق نصوص المقام فظاهر. وأما بناء علي استفادته منها تبعاً أو من بناء العرف - كما هو الظاهر - فلقرب إلغاء خصوصية المورد في أدلة الأرش، بحيث يستفاد منها عموم تدارك ضرر المشتري في العيب بالأرش. وإن كان الأحوط التصالح في المقام. فلاحظ.

(2) كما في المقنعة والنهاية وبيع المبسوط وفي المهذب والوسيلة والشرايع والنافع والجامع والإرشاد والمختلف والدروس وعن بيع التحرير وغيره. وفي المختلف والمسالك وعن إيضاح النافع والمفاتيح أنه المشهور.

واستشكل فيه في القواعد. ولم يستبعد في التذكرة جواز انفراد أحدهما بالرد، وجعله وجهاً في المسالك، والأصح في جامع المقاصد، وفي بيع الخلاف أنه قوي، بل جزم به في كتاب الشركة منه ومن المبسوط، وفي السرائر والإيضاح وعن غيرهما.

قال في بيع الخلاف - بعد أن حكم بعدم جواز انفراد أحدهما بالرد -: (وإن قلنا: له الرد بعموم الأخبار، لأنه عليه السلام لم يفصل كان قوياً). وكأنه لصدق كونه مشترياً.

لكن ذلك وحده لا يكفي بعد اختصاص النصوص برد المعيب الظاهر في رده بتمامه. مضافاً إلي الوجوه السابقة. بل الأمر هنا أظهر، لعدم صدق رد المعيب. كما لا تصدق موضوعات جميع الخيارات كالمجلس والحيوان وغيرها. وخلافهم هنا لا يناسب اتفاقهم في المسألة السابقة.

هذا وربما يفرق بين جهل البايع بالشركة، وعلمه بها، كما هو مقتضي ما في

ص: 508

التذكرة من تعليل ما سبق منه بقوله: (إذا البايع أخرج العبد إليهما مشقصاً، فالشركة حصلت باختياره، فلم تمنع من الرد...). ولعله لذا لم يستبعده في جامع المقاصد ومجمع الفائدة، واستحسنه في المسالك ومحكي المفاتيح.

وفيه: أن علم البايع بالشركة في البيع لا يستلزم إقدامه علي حصول الشركة له بفسخ أحدهما دون الآخر، إذ قد يكون جاهلاً بالعيب، أو كان يري - باجتهاده أو تقليده - أنه ليس لهما الاختلاف في الفسخ وعدمه، أو يعتقد أنهما لا يختلفان فيهما. علي أن ذلك إنما يقتضي اندفاع محذور الضرر، دون بقية الوجوه المتقدمة في المسألة السابقة في وجه المنع من التبعيض في فسخ العقد.

ثم إن محكي باب الشركة من التحرير أنه لو اشتري أحد الشريكين بمال الشركة معيباً جهل المشتري بعيبه وعلم البايع أن الثمن من مال الشركة فلهما الاختلاف في الرد والأرش. قال: (وهذا التفصيل عندي جيد، لأن البايع عالم بأنه مال شركة، وأحد الشريكين غائب و الآخر حاضر، فهو في قوة عقدين).

لكنه كما تري فإن وحدة العقد تابعة لوحدة الصفقة، ولا دخل لوحدة المشتري وتعدده فيها، فضلاً عن غياب أحد المشتريين وحضور الآخر.

إلا أن يكون الحاضر غير مأذون من الغائب في الشراء، فلا ينفذ الشراء في النصف المشاع. والظاهر خروجه عن مفروض كلامهم. فلاحظ.

بقي في المقام أمران:

الأول: ذكر في الدروس أنه حيث يمتنع الرد من أحدهما مع امتناع الآخر فله الأرش. وهو قد يتجه بناء علي التخيير في العيب بين الرد والأرش، لرجوع مطالبته بالأرش إلي اتفاقهما علي عدم الرد، وحيث كان الأرش حينئذ بينهما كان له المطالبة بحصته منه، ويبقي الآخر مخيراً بين إسقاط حقه فيه ومطالبته بحصته منه.

أما بناء علي الترتيب الرد والأرش فلا مجال لمطالبته بالأرش مع بقاء المبيع قائم

ص: 509

(510)

(مسألة 62): لو زال العيب قبل ظهوره للمشتري ففي سقوط الخيار إشكال (1). وإن كان الأظهر سقوط الرد وثبوت الأرش.

---------------

بعينه وعدم حصول أحد موانع الرد فيه، لعدم تحقق موضوعه حينئذ.

الثاني: إنهم وإن اختلفوا - كما سبق - في جواز رد أحد الشريكين دون الآخر إلا أنه لا يظهر الخلاف منهم في أنه لو ورث اثنان خيار العيب فلابد من اتفاقهما علي الرد أو الأرش. وكأنه لوحدة البيع والخيار الموروث، وعدم المجال لشيء من الوجوه التي ذكرت دليلاً لجواز انفراد أحد الشريكين بالرد في حصته، كما يظهر بملاحظتها. ويأتي تمام الكلام في ذلك في المسألة الأولي من الفصل الخامس إن شاء الله تعالي.

(1) قال في التذكرة: (لو كان معيباً عند البايع، ثم زال العيب بعد البيع، ثم قبضه وقد زال عيبه، فلا رد، لعدم موجبه، وسبق العيب لا يوجب خياراً، كما لو سبق علي العقد وزال قبله. بل مهما زال العيب قبل العلم أو بعده قبل الرد سقط حق الرد).

وقد يستفاد ذلك مما ذكره جماعة من أن التصرية في الشاة ونحوها إذا زالت - بتغير المرعي أو هبة من الله تعالي - سقط الرد. ولاسيما مع تعليله في المبسوط وغيره بزوال العيب، وما في جامع المقاصد والمسالك من أن زوال العيب قبل العلم به بحكم زوال التصرية.

وظاهر جامع المقاصد والمسالك التوقف. وقد يستفاد ممن توقف في مسألة التصرية، كما في التنقيح الرائع. بل في الخلاف بعد أن حكم بسقوط الخيار في التصرية، وتعرض للقول بعدم السقوط، قال: (وعندي أن هذا الوجه قوي لمكان الخبر).

ثم قال: (دليلنا علي أن ليس له الرد هو أنه إنما كان له الرد لمكان العيب، فلما زال خيار العيب زال خيار الرد، لأنه تابع له. وإذا قلنا له الرد، فلمكان الخبر، لأنه لم يفصل بين أن تزول التصرية وأن لا تزول). ومن الظاهر أن نظير ذلك يجري في المقام.

ص: 510

و لو جري فيه لجري في الرد والأرش معاً، لأنهما معاً تابعان للعيب.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في أن مقتضي إطلاق النصوص عدم سقوط حكم العيب بارتفاعه بعد البيع، لدلالتها علي أن موضوع الأحكام هو العيب الحاصل عند البيع لا عند إعمال تلك الأحكام من الردأ وأخذ الأرش، كما هو صريح قوله (عليه السلام)

في معتبر زرارة: (أيما رجل اشتري شيئاً وبه عيب وعوار لم يتبرأ إليه ولم يبين له، فأحدث فيه بعد ما قبضه شيئاً، ثم علم بذلك العوار وبذلك الداء أنه يمضي عليه البيع ويرد عليه...)، وظاهر النصوص الكثيرة المتضمنة لوجدان العيب بعد البيع، كقوله في حديث جميل: (في الرجل يشتري الثوب أو المتاع فيجد فيه عيباً...)، ونصوص الجارية التي يوجد فيها عيب بعد وطئها(1). لظهور أنه لا يراد به كل عيب يري حينئذ، بل خصوص ما يعلم حصوله عند البيع.

نعم المتيقن من هذه النصوص ما يبقي إلي حين الاطلاع عليه ورؤيته، ولا يشمل ما ارتفع قبل أن يعلم بحصوله عند البيع.

لكنها - مع عمومها لما إذا ارتفع العيب بعد وجدانه والعلم به وقبل الرد وأخذ الأرش - لا ظهور لها في اشتراط بقاء العيب إلي حين العلم به، فلا يرفع بها اليد عن إطلاق معتبر زرارة المتضمن أن وجود العيب حين البيع هو موضوع الأحكام واقعاً. ونظير ذلك يجري في التصرية. ولذا سبق من الخلاف الاستدلال علي بقاء الخيار بإطلاق الخبر.

ومنه يظهر ضعف ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن ظاهر أدلة الرد هو رد المتلبس بالعيب حين الرد. نعم لو كان منشأ الرد هو لزوم الضرر من الصبر علي المعيب اتجه ما ذكره. لكن منشأه النصوص، وهي ظاهرة فيما ذكرنا.

وأشكل من ذلك ما ذكره من التفصيل بين الرد، فيرتفع لما سبق، والأرش فلا يرتفع، لأنه استقر بالعقد، فيحتاج براءة ذمة البايع منه إلي دليل.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 12 باب: 4، 5 من أبواب العيوب.

ص: 511

إذ فيه: أن الأرش لم يستقر بالعقد، بل غاية الأمر أن للمشتري المطالبة به كما له المطالبة بالرد. وحينئذ بناء علي المشهور من التخيير بين الرد والأرش فموضوعهما واحد وهما ثابتان تخييراً، ولا منشأ لاستقرار أحدهما دون الآخر.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من الفرق بينهما بأن المناسبات الارتكازية قاضية بأن منشأ جواز الرد هو الإرفاق بالمشتري، وبلحاظ تضرره بالصبر علي المعيب، فينصرف عما إذا زال العيب. أما منشأ ثبوت الأرش فهو تدارك الضرر المالي الحاصل بالمعاملة، وهو لا يزول بزوال العيب، بل هو نفع متجدد بعد العقد، نظير الهبة المستقلة.

ففيه أولاً: أنه لم يتضح كون منشأ جواز الرد ذلك، بل من القريب كون منشئه مخالفة الشرط الضمني، وهو شرط السلامة، أو خروج المعاملة عن مقتضي الوضع الطبعي في المعاملات نظير ما سبق في خيار الغبن.

وثانياً: أن ذلك لو تم إنما ينهض بالفرق لو كان لكل من الرد والأرش دليل يخصه، حيث يمكن دعوي انصراف أحد الدليلين عن صورة الارتفاع العيب دون الآخر. أما حيث كان الدليل واحداً فلا مجال للتفكيك في انصرافه بين الأمرين.

بل حيث سبق عدم نهوض النصوص بالتخيير، وأن دليل جواز المطالبة بالأرش ينحصر بالإجماع لو تم، فالمتيقن من الإجماع صورة بقاء العيب.

وأما بناء علي المختار من الترتيب بينهما فموضوع الأرش هو العيب الموجب للرد وحدوث الحدث في المبيع، فإذا فرض كون المراد بالعيب الموجب للرد هو الباقي دون الزائل فلا يتم موضوع الأرش، بل حيث كان المستفاد من النصوص عرفاً كون حدوث الحدث من سنخ المانع فهو فرع وجود المقتضي للرد ببقاء موضوعه، إذ مع ارتفاع مقتضيه لارتفاع موضوعه قبل ذلك لا يبقي موضوع لمانعية المانع عرفاً.

نعم قد يقال: إن ارتفاع العيب بعد البيع وإن لم يسقط حكمه علي خلاف ما سبق منهم. إلا أنه مانع من الرد، لعدم بقاء المبيع بعينه وتغيره عند المشتري عما كان

ص: 512

(513) (513)

عليه حين البيع، إذ لا يعتبر في التغير المانع من الرد أن يكون للأدون.

وبعبارة أخري: بعد أن لم تتضمن النصوص مانعية حدوث العيب في المبيع من الرد، وإنما تضمن أكثرها مانعية إحداث الحدث فيه، وفرض التعدي من الإحداث للحدوث، فكما لا يعتبر في الإحداث أن يكون موجباً لنقص في المبيع، بل يعم ما إذا أوجب زيادته، كذلك لا يعتبر في الحدوث أن يكون موجباً لنقصه، بل يعم ما إذا أوجب زيادته، كما في المقام. فلاحظ. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

نعم هذا قد يكون ارتفاع الأمر الحاصل عند البيع كاشفاً عن عدم كونه عيباً، بل هو حالة طبيعية نتيجة عوامل خارجية طارئة، كالجهد الموقت نتيجة العمل المتواصل. بل لا يبعد ذلك في مثل الحمي القصيرة الأمد نتيجة الاستبراد ونحوه مما لا يرجع إلي نقص في البدن، وإن عدها في التذكرة والقواعد عيباً.

لكن ذلك راجع إلي انكشاف عدم تحقق ثبوت الخيار من أول الأمر، لعدم تحقق موضوعه، لا إلي ارتفاعه بعد ثبوته، كما هو محل الكلام.

بقي في المقام خيارات أخر لم يتعرض لها سيدنا المصنف (قدس سره)، وإن سبق منه ومنا بعض ما يتعلق بها:

الأول: خيار تخلف الشرط. وقد تقدم منا بعض الكلام فيه عند الكلام في اشتراط عدم فسخ العقد من جملة مسقطات خيار المجلس. ويأتي تمام الكلام فيه عند الكلام في أحكام الشرط إن شاء الله تعالي.

الثاني: خيار تخلف الوصف. والمراد بالوصف ما يبتني العقد علي وجوده حينه، سواءً كان وصفاً لأحد العوضين، كالكتابة في العبد والجودة في الثوب، أم حالاً في العقد، ككون بيع الشيئين صفقة واحدة.

والظاهر مفروغيتهم عن ثبوته، كما يشهد به أدني ملاحظة لكلماتهم.

وينحصر الوجه فيه بسيرة العقلاء الارتكازية بما هم عقلاء. وقد تقدم في أول

ص: 513

(514)

الكلام في مقدمة كتاب التجارة لزوم العمل عليها ما لم يثبت الردع عنها.

ولكن يظهر من بعض مشايخنا (قدس سره) أن مرجع أخذ الوصف في العقد إلي اشتراط الخيار بتخلفه، نظير ما ذكره في خيار تخلف الشرط. ويظهر الحال فيه مما يأتي في أحكام الشرط إن شاء الله تعالي.

الثالث: الخيار فيما إذا خرجت المعاملة عن الوضع الطبيعي، كما في موارد الغش والغبن وعدم تعجيل التسليم ونحوها.

وقد تقدم في خيار الغبن من غير واحد أن منشأ الخيار في ذلك هو الخروج عن مقتضي الشرط الضمني الارتكازي. فيكون من صغريات خيار تخلف الوصف المشروط، ويجري فيه ما يجري فيه.

لكن تقدم منا الإشكال في ذلك. وأن الظاهر بناء العقلاء علي ثبوت الخيار في الموارد المذكورة ابتداء، لا بتوسط الاشتراط الضمني. فراجع.

انتهي الكلام في أقسام الخيار شرحاً لكتاب (منهاج الصالحين) لسيدنا الجد الأستاذ مرجع الطائفة آية الله العظمي السيد محسن الطباطبائي الحكيم (قدس سره) عصر الجمعة الثامن والعشرين من شهر شوال سنة ألف وأربعمائة وثمان وعشرين للهجرة النبوية. علي صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكي التحية. في النجف الأشرف، ببركة الحرم المشرف، علي مشرفه أفضل الصلاة والسلام. بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه. نجل سماحة آية الله (السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم) دامت بركاته. والحمد لله علي تيسيره وتسهيله. ونسأله التسديد والتوفيق وصلاح الأحوال وحسن المآل. إنه أرحم الراحمين وولي المؤمنين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 514

فهرست تفصيلي

(5)الفصل الثالث: في شروط العوضين5

(5)في اشتراط كون المبيع عيناً سواء كان موجوداً في الخارج أم في الذمة5

(7)في اشتراط كون الثمن مالاً سواء كان عيناً أم منفعة أم عملاً أم حقاً7

(9)في اشتراط كون العوضين معلومي المقدار المتعارف تقديره به عند البيع9

(15) في الاستدلال بالنصوص علي اعتبار اشتراط العلم بالعوضين والاشكال في ذلك15

(22)في حكم البيع بحكم المشتري22

(24)(الأول): في بيع المكيل والموزون قبل الكيل أو الوزن24

(26)(الثاني): وقوع المعاملة بالكيل أو الوزن المعلوم عند أحدهما دون الآخر26

(27)الكلام في اشتراط التقديربما بتعارف التقدير به27

(32)(الأول): ان التقدير بما يتعارف تارة يكون مع اعراض الآخر وأخري يكون في طوله32

(37)(الثاني): الإندار للظروف37

(40)(الثالث): اعتبار كيل أو وزن كل جنس لوحده لا مع جنس آخر40

(41)البيع بالمشاهدة مع عدم الوزن أو الكيل41

(43)في كفاية إخبار البائع بالقدر43

(45)عدم اعتبار عدالة البائع مع تصديقه بإخباره بما في يده45

ص: 515

(48) لو تبين الخلاف بالنقيصة رجع المشتري علي البائع بها48

(54)لو تبين الخلاف بالزيادة كانت الزيادة للبائع54

(55)اشتراط معرفة مقدار ماكان القدر دخيلاً في قيمته55

(58)علي بلد المعاملة58

(61)أخذ الوزن شرطاً في المكيل أو العكس61

(63)الكلام في لزوم معرفة الأوصاف التي تختلف القيمة باختلافها63

(67)الكلام في كون كل من العوضين ملكاً67

(69)الكلام في كون كل من العوضين طلقاً69

(70)الكلام في عدم جواز بيع العين المرهونة70

(72)الكلام في جواز بيع العين المرهونة مع إذن الراهن أو إجازته أو فك الرهن72

(76)عدم جواز بيع الوقف76

(80)(منها): أن يخرب بحيث لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه80

(91)في جواز بيع الوقف إذا سقط عن الانتفاع عرفاً91

(92)الكلام في جواز بيع الوقف إذا اشترط الواقف بيعه عند حدوث أمر92

(97)الكلام في جواز بيع الوقف إذا تغير عنوان الوقف الخاص97

(99)الكلام في جواز بيع الوقف إذا استلزم بقاؤه الخراب المسقط له عن المنفعة المعتد بها عرفاً99

(106)(الأولي): أن يكون بيع الوقف أعود علي الموقوف عليهم106

(109)(الثانية): أن يحدث للموقوف عليهم ما يمنع الشرع من صلتهم109

(109)(الثالثة): أن يلحق الموقوف عليهم حاجة شديدة109

(111)عدم جريان ما ذكر من موارد جواز بيع الوقف في المساجد وأنه لا يجوز بيعها بحال111

(113)(الأول): الكلام فيما ذكره كاشف الغطاء في جواز إجارة الأوقاف العامة بما لا ينافي

(113)الآداب اللازمة لها بما فيها المساجد113

(113)(الثاني) أن ما يجري في المساجد يجري في المشاهد المشرفة113

ص: 516

(114)الكلام في لزوم مراجعة الحاكم الشرعي عند بيع الوقف114

(115)الكلام في تبيديل الوقف عند بيعه بوقف آخر115

(119)الكلام في خراب بعض الوقف وجواز بيعه وصرف ثمنه في المقدار العامر119

(121)الكلام في عدم جواز بيع الأمة إذا كانت ذات ولد ولو كان حملاً121

(122)الكلام في جواز بيع الأمة إذا مات ولدها122

(124)الكلام في الأراضي الخراجية124

(127)الكلام في عدم الفرق بين الأراضي التي فيها آثار مملوكة للبائع وعدمها127

(129)الكلام في عدم التصرف بالأراضي الخراجية ولو بغير البيع إلا بإذن الحاكم الشرعي129

(133)الكلام في عدم ملك الأرض التي ماتت وكانت عامرة حين الفتح حتي بالإحياء133

(134)الكلام في ملك الأرض الخراجية إذا أحييت بعد موتها134

(141)الكلام في عدم الفرق بين أن يكون المحيي مسلماً أو كافراً141

(142)الكلام في بقاء الأرض علي ملك المحيي حتي إذا خربت142

(145)الكلام في جواز زرع الأرض الخراجية بلا إذن من مالكها145

(151)الأرض الخراجية لها151

(152)حين الفتح أم لا؟152

(153)الكلام في اشتراط القدرة علي تسليم كل من العوضين153

(154)(الأول) بالنبوي المتتضمن للنهي عن الغرر والاشكال عليه154

(155)(الثاني): بما ورد عن النبي عن بيع ما ليس عنده. والاشكال عليه155

(156)(الثالث): بان لازم البيع تسليم كل من المتبايعين ما انتقل منه. والاشكال عليه. 156

(156)(الرابع): بأن الغرض من البيع انتفاع كل منهما بما يعيد إليه وهو لا يتم إلا بالتسليم. 156

(156)والاشكال عليه156

(157)(الخامس): بأن بذل الثمن علي غير المقدور سفه. والاشكال عليه157

(157)(السادس): بأنه يلزم ان لا يعد مالاً عرفاً. والاشكال عليه157

(159)اختيار الوجه في اعتبار الاستدلال علي القدرة علي التسليم159

ص: 517

(160)فيما يظهر من جملة من النصوص كفاية احراز سلامة بعض المبيع160

(162)مع عدم احراز بعضه162

(164)الإشكال فيه164

(169)الكلام في عدم الفرق في اعتبار القدرة علي التسليمبين العلم بها والجهل169

(170)الكلام في صحة المعاملة لو كان المشتري قادراً علي تحصيل المبيع170

(171)لايعتبر في القدرة قدرة المالك ولا الوكيل اذا كان المشتري قادراً علي تحصيل العين171

(172)يجوز بيع العبد الآبق مع الضميمة172

(173)لو مات الآبق قبل القدرة عليه173

(174)لو ظهر الآبق مستحقاً للغير أو مخالفاً للوصف قبل الإباق اتجه التقسيط174

(174)لو تلفت الضميمة قبل قبضها وقبل تحصيل الآبق بطل البيع174

(175)اعتبار كون الضميمة ذات قيمة معتد بها175

(177)الفصل الرابع: في الخيارات177

(177) الاستدلال علي أصالة اللزوم في العقود177

(178)الاستدلال بقوله تعالي:? ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم? والكلام فيه178

(179)الاستدلال بقوله تعالي:? وأحل الله البيع وحرم الربا والكلام فيه179

(180)الاستدلال بما تضمن استحباب إقالة النادم180

(180)الاستدلال بالنبوي: (الناس مسلطون علي أموالهم) 180

(181)الاستدلال بما تضمن جعل الغاية في خيار المجلس الافتراق181

(184)في تعريف الخيار والفرق بين الحق والحكم184

(185)تعريفه بأنه ملك فسخ العقد أو ملك اقرار العقد أو إزالته185

(187)الأول: خيار المجلس187

(188)المعيار في المجلس وان التفرق مسقط للخيار188

ص: 518

(192)(الأول): في الحائل وانه هل يبطل معه الخيار أم لا192

(193)(الثاني): في الاكراه مع التفرق وانه هل يبطل معه الخيار أم لا193

(197)(الثالث): فيما لو مات أحد المتعاقدين في المجلس هل يبطل الخيار أم لا197

(198)الكلام فيما لو كان المباشر الوكيل فهل الخيار للمالك أم لهما أم للوكيل198

(204)اختصاص هذا الخيار بالبيع ولايجري في غيره من المعاوضات204

(204)من مسقطات خيار المجلس اشتراط سقوطه في العقد204

(210)(الأول): في أن رجوع اشتراط السقوط إلي اشتراط عدم الخيار210

(210)(الثاني): في أن الشرط إذا رجع إلي شرط الفعل هل يقتضي مجرد وجوب العمل أم لا؟210

(215)(الثالث): في أن الشرط لايترتب عليه الأثر إلا إذا وقع في ضمن العقد دون ما إذا وقع قبله، والكلام فيه215

(215)في سقوط الخيار بإسقاطه بعد العقد. 215

(217)الثاني: خيار الحيوان. 217

(217)في موضوع خيار الحيوان217

(218)الكلام في التعميم لكل ذي حياة وعدمه218

(219)الكلام في اختصاص هذا الخيار ببيع المعين أو شموله للكلي219

(221)مدة خيار الحيوان ثلاثة أيام221

(222)مبدأ حساب المدة زمان العقد222

(225)الكلام في عدم تداخل خيار الحيوان مع خيار المجلس225

(227)مسقطات خيار الحيوان اشتراط سقوطه في متن العقد واسقاطه بعده وبالتصرف بالحيوان227

(232)بقي شيء. في أنه لا إشكال في مسقطية الرضا بالبيع. 232

(233)الكلام في ثبوت هذا الخيار للبائع233

(239)اختصاص خيار الحيوان بالبيع239

(239)الكلام في تلف الحيوان قبل القبض239

(241)حدوث العيب في الحيوان241

(241)الثالث: خيار الشرط. 241

ص: 519

(247)عدم اختصاص خيار الشرط بأحد المتعاقدين247

(251)الكلام في سعة خيار الشرط251

(252)(الأول): أن يراد به بقاؤه مدة مبهمة252

(253)(الثاني): أن يراد بقاؤه مدة العمر253

(253)(الثالث): أن يراد بقاؤه أبداً253

(259)عدم جواز اشتراط الخيار في الايقاعات259

(263)الكلام في اشتراط الخيار في العقود الجائزة263

(265)الكلام في صحة الخيار في جميع العقود اللازمة عدا النكاح265

(266)الكلام في صحة جعل الخيار في عقد الضمان266

(268)الكلام في عدم صحة جعل الخيار في الصدقة والهبة268

(272)اشتراط الخيار في مدة معينة في حال رد الثمن بنفسه أو بدله مع تلفه272

(280)(الأول): الاكتفاء برد المثل مع التمكن من رد العين280

(281)(الثاني): لو لم يقبض البائع الثمن من المشتري كان له الفسخ في المدة281

(283)الكلام في جواز اشتراط الفسخ في بعض المبيع برد بعض الثمن283

(289)إذا تعذر الوصول للمشتري جاز تمكين وليه من الثمن289

(291)الكلام في نماء المبيع ونماء الثمن291

(292)الكلام في التصرف بالعين تصرفاً ناقلاً أو تلفها292

(296)إذا كان الثمن المشروط ديناً في ذمة البائع296

(297)في شراء الولي ببيع الخيار وارتفاع حجر المولي عليه297

(299)الكلام في انتقال الخيار بالموت للورثة299

(300)الكلام في اشتراط الخيار في الفسخ برد الثمن إلي البائع300

(301)الكلام في اشتراط رد البدل مع وجود العين301

(302)في سقوط الخيار بانقضاء المدة وباسقاطه بعد العقد302

(303)الرابع: خيار الغبن303

ص: 520

(304)(الأول): قوله تعالي: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم والكلام فيه304

(306)(الثاني): قوله تعالي: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل والكلام فيه306

(308)(الثالث): ما ورد عن النبي (ص) من إثبات الخيار تلقي الركبان. والكلام فيه308

(309)(الرابع): النصوص الواردة في حكم الغبن. والكلام فيه309

(311)(الخامس): قاعدة نفي الضرر. والكلام فيه311

(316)(السادس): ماذكره بعض الأعاظم? في منية الطالب. والكلام فيه316

(320)الكلام في عدم ثبوت هذا الخيار للمغبون إذا كان عالماً بالحال320

(324)الكلام في عدم ثبوت هذا الخيار للمغبون إذا كان مقدماً علي المعاملة علي كل حال324

(325)الكلام في التفاوت القيمي الموجب للخيار325

(329)ثبوت خيار الغبن من حين العقد أم من حين ظهوره329

(331)هل للمغبون مطالبة الغابن بالتفاوت وترك لفسخ331

(334)(الأول): إسقاطه بعد العقد334

(336)(الثاني): اشتراط سقوطه في متن العقد336

(339)(الثالث): تصرف المغبون بائعاً كان أو مشترياً339

(345)في الرجوع بالمثل أو القيمة مع الفسخ وتلف العين345

(351)الكلام في لزوم ارجاع العين لو رجعت إلي الغابن قبل الفسخ351

(356)الكلام في الصفات الحادثة علي العين إذا كانت لها مالية356

(361)الكلام في الزيادة الحادثة علي العين361

(369)الكلام في امتزاج العين بغيرها369

(373)الكلام في خلط العين بجنس آخر373

(377)خيار الغبن علي الفور377

(379)الكلام في تأخير الخيار مع الجهل بالحال379

(380)جواز تأخير الفسخ لغرض عقلائي380

(383)الكلام في جريان الخيار في بعض المبيع383

(384)الكلام في تلف العين وضمانها بقيمة زمان التلف أو زمان الفسخ أو زمان الأداء384

(389)الكلام في رجوع الغابن علي الأجنبي إذا كان متلفاً389

ص: 521

(390)الخامس: خيار التأخير390

(394)الكلام في الاستدلال علي صحة خيارات التأخير بالاجماع394

(394)الكلام في الاستدلال علي صحة خيارات التأخير بقاعدة نفي الضرر394

(395)الكلام في الاستدلال علي صحة خيارات التأخير بالاستصحاب395

(396)مورد خيار التأخير396

(401)(الأول): ابتناء الخيار للبائع علي الإرفاق به401

(402)(الثاني): الاكتفاء بالقبض من دون إذن من هي عنده علي تفصيل فيه402

(403)(الثالث): جريان الخيار من كل مورد تقصر عنه النصوص بلا قيد ثلاثة أيام403

(403)(الرابع): التحديد بالثلاثة أيام403

(405)تلف السلعة من مال البائع405

(407)ثبوت الخيار بشرط عدم اشتراط التأخير407

(409)الكلام في ثبوت الخيار إذا كان البيع ذمياً409

(411)(الأول): ما يشترط في خيار التأخير411

(413)(الثاني): هل تبدأ الثلاثة أيام من حين العقد أو من حين التفرق ؟413

(415)(الثالث): لو ظهر الثمن مستحقاً415

(415)في حكم ما يفسده المبيت415

(419)(الأول): في معيار الفساد419

(420)(الثاني): إذا تلف المبيع قبل قبض المشتري420

(420)(الثالث): لو ترك المشتري المبيع عند البائع بعد دفع ثمنه له420

(421)في مسقطات خيار التأخير421

(425)الكلام في أن خيار التأخير علي الفور أو التراخي425

(426)السادس: خيار الرؤية426

(427)الكلام في خيار معيار الرؤية وأن في المقام خيارين427

ص: 522

(433)(الأول): في المراد بخيار الرؤية433

(434)(الثاني): إمكان انفراد خيار الرؤية عن خيار الوصف واجتماعهما434

(434)عدم الفرق بين أنواع الأوصاف المتخلفة في ثبوت الخيار434

(436)الكلام في الخيار بين الرد والإمساك دون الأرش436

(438)الكلام في ثبوت الخيارللبائع438

(440)الكلام في كون خيار الرؤية علي الفور أو التراخي440

(442)في مسقطات خيار الرؤية442

(447)السابع: خيار العيب447

(448)في حكم خيار العيب448

(455)في ثبوت خيار العيب للبائع455

(456)(الأول): الالتزام بالعقد والكلام فيه456

(460)(الثاني): تلف العين بالعقد والكلام فيه460

(460)(الثالث): خروجهما عن الملك والكلام فيه460

(462)(الرابع): التصرف الخارجي في العين والكلام فيه462

(462)(الخامس): التصرف الاعتباري والكلام فيه462

(463)(السادس): حدوث عيب فيها والكلام فيه463

(467)(الأول): عدم الفرق في حد ث المشتري الموجب للأرش بين قيل العلم بالعيب وبعده467

(468)(الثاني): الكلام فيما إذا رضي البائع والمبيع فهل يبقي الأرش أم لا؟468

(469)(الثالث): الكلام فيما إذا لم يعلم المشتري بالعيب ثم باعه هل له الرجوع علي البائع ؟469

(470)(الرابع): الكلام فيما إذا كان العيب الثمن الشخصي470

(470)موارد سقوط الأرش دون الرد470

(475)(الأول): العلم بالعيب قبل العقد475

(475)(الثاني): تبرؤ البائع من العيوب475

(480)(الثالث): تأخير اختيار الفسخ والإمساك بالأرش علي كلام فيه480

ص: 523

(482)الكلام في المراد من العيب482

(486)الكلام فيما إذا كان العيب موجوداً في أغلب ذلك الصنف486

(489)الكلام في العيوب الحادثة بعد العقد489

(491)الكلام في عيوب السنة491

(494)الكلام في كيفية أخذ الأرش494

(500)الكلام فيما لو اختلف أهل الخبرة في التقويم500

(504)الكلام فيما إذا ظهر عيب ببعض المبيع504

(508)الكلام في عيب المبيع المشترك واختيار أحد الشريكين الفسخ508

(510)الكلام في زوال العيب قبل ظهوره للمشتري510

(513)(الأول): خيار تخلف الشرط513

(513)(الثاني): خيار تخلف الوصف513

(514)(الثالث): الخيار فيما خرجت المعاملة عن الوضع الطبيعي514

ص: 524

المجلد 4

اشارة

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

الطبعة الاولي

1427ه - 2006م

ص: 1

اشارة

مصباح المنهاج

ص: 2

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

ص: 3

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

الطبعة الاولي

1427ه - 2006م

ص: 4

الجزء الرابع

(5)

تذنيب

في أحكام الشرط (1)

(مسألة 63): كما يجب الوفاء بالعقد اللازم يجب الوفاء بالشرط

---------------

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وآله الطاهرين ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين.

(1) المراد بالشرط هنا ما يتضمن جعل شيء من فعل خارجي يفعله المشروط عليه، كخياطة الثوب، أو أمر وضعي يثبت عليه، كملكية ثمرة شجرته واستحقاق الخيار في عقده. لأن ذلك هو القابل للإمضاء بأدلة الشروط الآتية.

أما الأمور التي يبتني عليها من دون أن تكون كذلك فهي: تارة: تكون شرطاً في ترتب مضمون العقد، بحيث يكون المضمون منوطاً بها ومعلقاً عليها نظير تعليق العتق والتمليك علي موت المالك في التدبير والوصية التمليكية. وأخري: يكون العقد بنفسه مبنياً علي تحققها من دون أن يكون مضمونه معلقاً عليها، نظير الداعي لإيقاع العقد.

والأول لا يصلح للإمضاء بنفسه وحده، لكونه طرفاً في النسبة التي يتضمنها العقد، من دون أن يكون بنفسه نسبة قابلة للإمضاء.

نعم، يمكن إمضاء العقد الذي يتضمن النسبة التي يكون الشرط طرفاً لها.

لكن ثبت عدم إمضائه نوعاً. للإجماع علي بطلان التعليق، إلا في موارد خاصة.

ص: 5

الكلام في الشروط

المجعول فيه (1)، كما إذا باعه فرساً بثمن معين واشترط عليه أن يخيط

---------------

أما الثاني فهو غير قابل للإمضاء، لعدم اقتضاء الاشتراط جعله، بل هو مفروض الوجود خارجاً حين العقد.

فإن طابق فرضه الواقع، وإلا لم ينقلب الواقع عما هو عليه. غاية الأمر أن يثبت الخيار بتخلفه.

نعم بناءً علي أن منشأ ثبوت الخيار هو رجوع اشتراط الوصف إلي اشتراط الخيار بتخلفه كما سبق من بعض مشايخنا (قده) فالشرط القابل للإمضاء ليس هو الوصف المشروط في المعاملة، بل الخيار المشروط بتخلفه تبعاً لاشتراطه، وهو الذي يدخل في محل الكلام، لأن الخيار حق قابل للجعل والإمضاء. لكن تقدم منّا في أواخر المسألة الثالثة في فروع خيار المجلس المنع من ذلك. فراجع.

(1) بلا إشكال ظاهر، ويظهر من كلماتهم المفروغية عنه. ويقتضيه ما يستفاد من النصوص الكثيرة من عموم نفوذ الشرط(1). فإن الشرط ضمن العقد متيقن من العموم المذكور. وقد سبق منّا في أول كتاب التجارة تمام الكلام في تحديد الشرط الذي هو موضوع العموم. فراجع.

بل الظاهر نهوض عموم لزوم الوفاء بالعقود به، كما أشار إليه في الجواهر، لأنه جزء مضمون العقد، وإن كان خارجاً عن البيع والإجارة ونحوهما من الخصوصيات الزائدة علي العقد.

ومنه يظهر الإشكال فيما في الجواهر من استفادته من مثل قوله تعالي: (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ)(2). إلا أن يدعي استفادته منه تبعاً.

فتأمل.

هذا ومقتضي عموم نفوذ الشرط وجوب الوفاء به في ضمن العقد الجائز أيضاً. ومجرد جواز فسخ العقد لا ينافي وجوب الوفاء بالشرط الواقع في ضمنه مادام العقد لم

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الخيار، وج: 15 باب: 20، 40 من أبواب المهور، وج: 16 باب: 4، 11 من أبواب المكاتبة وغيرها.

(2) سورة النساء الآية: 29.

ص: 6

(7)

له ثوباً، فإن البائع يملك علي المشتري الخياطة بالشرط (1)، فيجب عليه

---------------

يفسخ، كما تقدم عند الكلام في اشتراط سقوط خيار المجلس.

(1) بناءً علي ما سبق منّا في المسألة الثالثة من الفصل السابق من أن مفاد أدلة نفوذ الشرط ليس مجرد وجوب العمل علي طبق الشرط تكليفاً - كما سبق من بعض مشايخنا (قده) - بل استحقاق المشترط للأمر المشروط، ووجوب العمل عليه تابع لاستحقاقه، كوجوب وفاء الدين. لأن الشرط عرفاً كالعقد يبتني علي جعل الحق، فيكون مفاد دليل نفوذه إمضاء ذلك. ولذا كان للمشترط إسقاط شرطه، ولم يكن ذلك منافياً لأدلة نفوذه. كما كان له إجبار المشروط عليه علي تنفيذ الشرط. بخلاف ما لو كان حكماً تكليفياً محضاً، علي ما يأتي توضيحه في المسألة الرابعة والستين إن شاء الله تعالي.

ومثله في الإشكال ما في اللمعة والتنقيح من عدم وجوب فعل الأمر المشروط علي المشروط عليه، وأن فائدة الشرط هو لزوم الخيار بتخلفه لا غير.

إذ فيه: أن ذلك إن كان لدعوي أن مفاد الاشتراط مجرد جعل الخيار علي تقدير عدم تحقق الأمر المشروط، من دون أن يتضمن جعل الأمر المشروط علي الشارط وإلزامه به. فهو خروج عن محل الكلام وعن ظاهر الاشتراط. بل هو لا يناسب ما ذكراه تبعاً للأصحاب من اعتبار كون الأمر المشروط مقدور أو سائغاً. لظهور أنه لا محذور في اشتراط الخيار وجعله بتخلف الأمر غير المقدور أو غير السائغ.

وإن كان لدعوي: أن مفاد الشرط وإن كان هو جعل الأمر المشروط علي المشروط عليه، إلا أن ذلك لا يكفي في إلزامه به شرعاً، لعدم وجوب طاعة المشروط عليه للمشترط.

ففيه: أنه يكفي في إلزامه به شرعاً بضميمة ظهور أدلة نفوذ الشرط في إمضائه. بل صريح بعضها، كموثق إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه: «إن علي بن أبي

ص: 7

خياطة ثوب البائع ويشترط في وجوب الوفاء بالشرط أمور: منها: أن لا يكون مخالفاً للكتاب والسنة (1)، بأن لا يكون الشرط

---------------

طالب (عليه السلام) كان يقول:

من شرط لامرأته شرطاً فليف لها به، فإن المسلمين عند شروطهم، إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً» (1) .

وأما ما عن بعض تحقيقات الشهيد (قده) من أن الشرط قد علق عليه العقد، والمعلق علي الممكن ممكن، وهو معني قلب اللازم جائزاً.

ففيه: أولاً: أن العقد غير معلق علي الشرط.

وإلا بطل، لما هو المعلوم من إجماعهم علي مبطلية التعليق للعقود. مضافاً إلي ما هو المعلوم من عدم توقف ترتب مضمون العقد علي تحقق الشرط لا في المقام ولا في غيره. إلا أن يريد تعليق لزومه عليه، بمعني ثبوت الخيار بتخلفه، فيرجع لما تقدم من بعض مشايخنا (قده).

وثانياً: أن ذلك يقتضي جواز العقد تبعاً لجواز الشرط، دون العكس، فلا ينافي استحقاق المشترط للأمر المعلق عليه، ووجوبه علي المشروط عليه، تبعاً لمفاد الشرط ودليل إمضائه شرعاً.

(1) كما صرح به غير واحد والظاهر الإجماع عليه، لظهور بعض كلماتهم في المفروغية عنه. ويستدل عليه بوجهين: الأول: أن نفوذ الشرط إن كان مع بقاء الحكم الذي تضمنه الكتاب أو السنة لزم التنافي بين الجعلين.

وإن كان مع ارتفاعه فهو مناف لإطلاق دليل الحكم الذي تضمنه الكتاب والسنة. ودعوي: أن ذلك مقتضي الجمع بين إطلاق أدلة تلك الأحكام وإطلاق أدلة نفوذ الشرط، لظهور أن نفوذ الشرط من سنخ الحكم الثانوي، ومن المعلوم أن أدلة الأحكام الثانوية مقدمة علي أدلة الأحكام الأولية، وحاكمة عليها حكومة عرفية.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 4 من أبواب المهور حديث: 45.

ص: 8

(9)

مدفوعة بأن الحكومة المذكورة إنما تتم في الأحكام الثانوية التي تكون موضوعاتها خارجة عن اختيار المكلف نوعاً، كالضرر والحرج والاضطرار والإكراه والغفلة والجهل والنسيان ونحوها، حيث تكون أدلتها حاكمة عرفاً علي أدلة الإلزام الأولي. ولاسيما مع ورودها مورد التسهيل والامتنان.

وهذا بخلاف ما إذا كان موضوع الحكم الثانوي تابعاً للناس، بحيث يكون بإرادتهم أو جعلهم، كالنذر والعهد واليمين، والوصية والوقف والعقد والشرط والصلح وأمر الوالدين والزوج والتماس المؤمن ونحوها، حيث لا مجال للبناء علي حكومة دليله علي أدلة الأحكام الأولية، بل الأمر بالعكس ارتكازاً، لما هو المعلوم من ابتناء الأحكام الأولية علي مصالح غير مدركة للإنسان، فلو بني علي تحكيم مثل هذه العناوين الثانوية عليها لزم فتح باب الفوضي والتلاعب بأحكام الدين واضمحلاله. وإلي هذا يرجع قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن قيس: «فقضي في ذلك أن شرط الله قبل شرطكم»(1) ونحوه مرسل العياشي(2).

بل النصوص المتضمنة لعدم نفوذ ذلك الشرط المخالف للكتاب والسنة والمتضمنة عدم طاعة المخلوق في معصية الخالق ونحوها تبتني علي المفروغية عن ذلك، لعدم تحقق المخالفة والمعصية إلا في فرض بقاء الحكم الأولي علي إطلاقه بحيث يشمل مورد الشرط وطاعة المخلوق.

ومن الظاهر ارتكازية مضمونها، حيث يكشف ذلك عن ارتكازية ما ذكرناه من تقديم أدلة الأحكام الأولية في مثل ذلك.

وبذلك يظهر أن الأدلة وإن قامت في كثير من موارد هذا القسم علي تقديم عموم الحكم الأولي، إلا أن ارتكازية ذلك تقتضي البناء عليه حتي في الموارد الخالية عن الأدلة الخاصة. والظاهر مفروغية الأصحاب عن ذلك بحسب مرتكزاتهم البدوية، وإن لم يتعرضوا لذلك بتوضيح.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 14 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 20 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه حديث: 6.

ص: 9

نعم ثبت تقديم الحكم الثانوي في بعض موارد هذا القسم علي الحكم الأولي، كما في نذر الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات وغيرهما.

لكن ليس لتقديم عموم الحكم الثانوي علي عموم الحكم الأولي، بل للنصوص الخاصة، حيث تكون هي المخصصة لعموم الحكم الأولي في الموارد المذكورة.

ومثله ما قد يدعي من جريان حكم تعارض العامين من وجه من التساقط مع عدم المرجح. كما يناسبه ما عن النراقي في العوائد من أن المرجح في مثل اشتراط شرب الخمر هو الإجماع، وما لم يكن فيه مرجح يعمل فيه بالقواعد والأصول. إذ يظهر وهنه مما سبق من قضاء المرتكزات بتحكيم عمومات الأحكام الأولية. فلاحظ.

الثاني: النصوص الكثيرة المتضمنة لعدم نفوذ الشرط المخالف للكتاب والسنة. كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: المسلمون عند شروطهم، إلا كل شرط خالف كتاب الله عز وجل، فلا يجوز»(1) ، وصحيحه الآخر: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشروط في الإماء لا تباع ولا توهب. قال: يجوز ذلك، غير الميراث، فإنها تورث، لأن كل شرط خالف الكتاب باطل»(2). وصحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام): «أنه قضي في رجل تزوج امرأة، وأصدقته هي، واشترطت عليه أن بيدها الجماع والطلاق. قال: خالفت السنة، ووليت حقاً ليست بأهله.

فقضي أن عليه الصداق وبيده الجماع والطلاق.

وذلك السنة»(3) ، ونحوه مرسل ابن بكير(4).

وهو المناسب لما ورد من بطلان اشتراط بائع المملوك أن ولاءه له(5) حيث كان ثبوت الولاء للمعتق مستفاداً من السنة الشريفة.

وقد يستفاد من غيره.

هذا ولا يبعد أن يكون المراد من الكتاب ولو في بعض هذه النصوص كل ما كتبه الله تعالي، لا خصوص القرآن المجيد، كما استظهره شيخنا الأعظم (قده) في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الخيار حديث: 2، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الخيار حديث: 2، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 29 من أبواب المهور حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة باب: 42 من أبواب مقدمات الطلاق وشروطه حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 52 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 2.

ص: 10

الجملة. ولا أقل من إلغاء خصوصيته، للقطع بعدم الفرق بين أحكامه تعالي، كما عن بعض مشايخنا (قده). بل هو مقتضي إطلاق قوله (عليه السلام): «شرط الله قبل شرطكم».

ثم إن بعض النصوص قد تضمن أمرين آخرين: الأول: اشتراط موافقة الكتاب في صحة الشرط، كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سمعته يقول: من اشترط مخالفاً لكتاب الله فلا يجوز له، ولا يجوز علي الذي اشترط عليه.

والمسلمون عند شروطهم مما وافق كتاب الله»(1).

وقد يستفاد من معتبره عنه (عليه السلام): «في رجل قال لامرأته: إن نكحت عليك أو تسريت فهي طالق.

قال: ليس ذلك بشيء.

إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: من اشترط شرطاً سوي كتاب الله فلا يجوز ذلك له ولا عليه»(2).

قال شيخنا الأعظم (قده): «ولا يبعد أن يكون المراد بالموافق عدم المخالفة، نظراً إلي موافقة ما لم يخالف كتاب الله بالخصوص لعموماته المرخصة للتصرفات الغير المحرمة في النفس والمال. فخياطة البائع مثلاً موافق للكتاب بهذا المعني». وفيه: أولاً: أنه لم يتضح وجود عموم كتابي يقتضي عموم الحل في غير النكاح بلحاظ المنكوحة.

وثانياً: أن ذلك إنما يقتضي أن كل شرط غير مخالف فهو موافق. لا أن الموافقة بمعني عدم المخالفة، كما نبه لذلك سيدنا المصنف (قده). ويظهر الأثر لذلك عند الشك، حيث يكون المرجع فيه أصالة عدم المخالفة، لا أصالة عدم الموافقة.

ومنه يظهر حال ما عن بعض الأعاظم وبعض مشايخنا (قدس سرهما) من أن الأثر إنما يظهر فيما إذا كان المراد من الكتاب خصوص القرآن المجيد.

أما حيث كان المراد مطلق ما كتبه الله تعالي، فلا واسطة في البين، لاستيعاب أحكامه عز وجل للوقائع، فكل ما لا يخالف يكون موافقاً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الخيار حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 38 من أبواب المهور حديث: 2.

ص: 11

إذ هو لو تم إنما يقتضي التلازم خارجاً بين الموافقة وعدم المخالفة، لا الاتحاد المفهومي، بحيث يراد بالموافقة عدم المخالفة، كي يكون المرجع عند الشك هو أصالة عدم المخالفة.

فالعمدة في المقام: أن الشرط حيث يتضمن استحقاق المشترط علي المشروط عليه فهو جعل مباين للأحكام الشرعية الأولية التكليفية والوضعية، ولا يكون موافقاً لشيء منها.

إلا أن يكون مؤكداً لها، كاشتراط الزوجة الإنفاق.

وحيث يعلم بعدم إرادة خصوص ذلك، فالمتعين حمل الموافقة علي خصوص عدم المخالفة.

ولعله المناسب للجمع بين صدر صحيح عبد الله بن سنان المتقدم وذيله.

حيث قد يكون ظهور الصدر في أن المعيار في صحة الشرط علي عدم المخالفة قرينة علي حمل ما في الذيل من شرطية الموافقة علي ذلك.

بل هو المتعين بلحاظ ما سبق.

ولاسيما مع استفاضة النصوص الظاهرة في أن المعيار فيه علي عدم المخالفة.

الثاني: أنه يعتبر في نفوذ الشرط أن لا يكون محرماً للحلال أو محللاً للحرام.

ففي موثق إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه: «إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يقول: من شرط لامرأته شرطاً فليف لها به، فإن المسلمين عند شروطهم، إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً»(1). وهو بظاهره لا يخلو من إشكال.

إذ الشرط بطبعه محرم للحلال ومانع منه، لأنه يتضمن الإلزام بالأمر المشروط والمنع من تركه مع جواز تركه لولا الشرط. كما أنه لو فرض تعلقه بالحرام فهو ملزم به لا مسوغ له ومحلل. وحمل التحليل في الحديث علي ما يعم ذلك لا يخلو عن تكلف.

ومن هنا كان الظاهر رجوعه لمفاد النصوص المشهورة المتضمنة لمانعية المخالفة للحكم الشرعي من نفوذ الشرط، حيث يشيع عرفاً التعبير بذلك عن المخالفة للحكم الشرعي والخروج عليه.

ولا أقل من لزوم حمله علي ما ذكرناه بقرينة النصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 4 من أبواب المهور حديث: 4.

ص: 12

(13)

مخالفة الشرط للحكم الشرعي الاقتضايي

علي خلاف الحكم الشرعي الاقتضائي (1) كما إذا استأجره للعمل في نهار

---------------

المشهورة.

ومن جميع ما سبق يظهر أن المعيار في هذا الشرط هو عدم مخالفته للحكم الشرعي، كما تضمنته النصوص الكثيرة.

وما قد يوهم أمراً آخر راجع إليه أو محمول عليه.

(1) بعد الفراغ عن مانعية مخالفة الحكم الشرعي من صحة الشرط، وبعد ما هو المعلوم من أن الشرط يقتضي تبدل حكم الأمر المشروط، واختلاف عمل المكلف بالإضافة إليه.

وقع الكلام بينهم في تمييز الشروط المخالفة للحكم الشرعي عن غيرها.

وقد ذكر شيخنا الأعظم (قده) أن الحكم الشرعي إن ثبت لموضوعه في نفسه مجرداً عن ملاحظة عنوان زائد طارئ عليه لم يكن الشرط منافياً ومخالفاً له.

وإن ثبت له بنحو الإطلاق، لا بقيد التجرد عن العناوين الثانوية الطارئة تعين منافاة الشرط ومخالفته له.

وقد رتب علي ذلك أن الأحكام التكليفية غير الإلزامية من القسم الأول، وغالب الأحكام الإلزامية من القسم الثاني.

وفيه: أولاً: أن مقتضي إطلاق أدلة جميع الأحكام ثبوتها لموضوعاتها ولو مع طروء العناوين الثانوية.

ولذا كان تقديم حكم العنوان الثانوي مبنياً علي الجمع العرفي بين دليله ودليل الحكم الأولي، لا علي قصور دليل الحكم الأولي عن مورد العنوان الثانوي رأساً، من دون فرق في ذلك بين الأحكام الإلزامية وغيرها.

وثانياً: أن المراد بالعنوان الثانوي إن كان هو كل عنوان زائد علي الذات يمكن ثبوتاً أن يرفع حكمها الأولي فالموضوع دائماً معرض لشيء من هذه العناوين ولو مثل رغبة المكلف أو بعض متعلقيه في مخالفته.

فإذا فرض أن الحكم الأولي ثابت للذات بما هي مع قطع النظر عن ثبوت العناوين الثانوية لها لزم عدم إحراز فعليته من الإطلاق، لعدم الدافع لاحتمال ارتفاعه بطروء العناوين المختلفة.

ص: 13

وإن كان المراد بالعنوان الثانوي خصوص العناوين التي ثبت رفعها للأحكام الأولية كالحرج والضرر والشرط ونحوها رجع كلامه (قده) إلي أن الحكم الذي يرتفع بالشرط لا يكون الشرط مخالفاً له، والحكم الذي لا يرتفع به يكون الشرط مخالفاً له.

وهي قضية بديهية أشبه بالقضية بشرط المحمول، لا تصلح لأن تكون ضابطاً عملياً في مقام الشك.

ومن هنا لا يرجع ما ذكره (قده) إلي محصل ينفع في مقام العمل، ويرجع إليه عند الشك.

أما سيدنا المصنف (قده) فقد أشار هنا إلي وجه آخر في ضابط المخالفة للكتاب وذكره في درسه لكتاب المضاربة، كما ذكره في حاشيته القديمة، ونسبه لأستاذه المعاصر.

وحاصله: أن الحكم الشرعي إن كان ناشئاً عن ثبوت المقتضي له كان الشرط المخالف له مخالفاً للكتاب، فيفسد، لمزاحمته بمقضي الحكم الشرعي.

وإن كان ثبوته لمجرد عدم ثبوت المقتضي لغيره من الأحكام الشرعية لم يكن الشرط المخالف له مخالفاً للكتاب، لعدم مزاحمة مقتضي نفوذ الشرط بمقتضي آخر.

وقد ذكر في درسه لكتاب المضاربة أن المرجع في التمييز بين القسمين هو المرتكزات العرفية، لاستفادة حجيتها بالإطلاق المقامي لأدلة بطلان الشرط بمخالفة الكتاب، لأن ورودها في مقام بيان الحكم العملي مع عدم شرحها لمعني المخالفة ظاهر في التحويل علي العرف في معناها وتشخيصها.

والمرتكزات المذكورة تقضي بكون الأحكام الإلزامية ناشئة عن مقتض يقتضيها، بخلاف الأحكام غير الإلزامية، فإنها ناشئة عن عدم المقتضي للإلزام.

ويشكل أولاً: بأن مخالفة الشرط للحكم الشرعي إنما تكون بمخالفته لمقتضاه عملاً، من دون نظر إلي منشأ ثبوت الحكم، وأنه ثبت لوجود المقتضي له، أو لعدم المقتضي لخلافه.

فجعل المعيار في المخالفة وعدمها علي ثبوت المقتضي للحكم وعدم ثبوت المقتضي له غير ظاهر المنشأ، فضلاً عن أن يستفاد من الإطلاق المقامي الإرجاع للعرف في تشخيصه.

ص: 14

وثانياً: بأنه لم يتضح بناء العرف بمرتكزاتهم علي أن الأحكام غير الإلزامية ناشئة عن عدم المقتضي للإلزام، لا عن وجود المقتضي لعدم الإلزام ولو مثل مصلحة التسهيل علي المكلفين.

وثالثاً: بأن لازم ذلك عدم صحة شرط ترك المستحب أو فعل المكروه.

إذ لا إشكال في كون الاستحباب والكراهة ناشئين عن المقتضي، كما اعترف (قده) بذلك.

لكنه قال: «ثم إنه لا ضير في الالتزام ببطلان الشرط إذا اقتضته قاعدة الأخذ بظاهر الأدلة بلا وحشة في ذلك أصلاً، وإن لم أجد من صرح به.

بل لعل ظاهرهم خلافه».

وهو كما تري مما تأباه المرتكزات العرفية التي جعلها (قده) المعيار في تشخيص المخالفة للكتاب بمقتضي الإطلاقات المقامية.

ولعل الأولي أن يقال: لما كان مبني الشرط والعقد علي التصرف بجعل الحقوق الملزمة بين أطرافها فلابد من قصور المخالفة للحكم الشرعي المانعة من نفوذهما عن المخالفة المترتبة علي السلطنة التي جعلها الشارع الأقدس للأطراف، فتمليك الإنسان لماله وعمله وإن كان مخالفاً بدواً لحكمهما الثابت لهما قبل العقد والشرط، إلا أنه حيث كان مستنداً للسلطنة التي جعلها الشارع له علي نفسه وماله فلابد من قصور المخالفة للحكم الشرعي المانعة من نفوذهما عن مثل هذه المخالفة، وإلا لم يبق لنفوذ العقد والشرط مورد.

بل ليست هي مخالفة عرفاً بعد استنادها للشارع نفسه.

ولذا لا يكون الوقف والوصية والعهد والنذر واليمين ونحوها مخالفة للحكم الشرعي، وإن كانت سبباً لتبدله.

ويتعين اختصاص المخالفة المذكورة بما إذا قصرت السلطنة شرعاً عن موضوع العقد والشرط بسبب الحكم الشرعي.

وعلي ذلك فالحكم التكليفي إن كان إلزامياً فحيث كان مانعاً من سلطنة المكلف علي مخالفته ولو بإطلاقه تعين عدم صحة الشرط والعقد المخالفين له.

ص: 15

شهر رمضان بشرط أن يفطر (1)، أو زوجه أمته بشرط أن يكون ولدها

---------------

إلا أن يقوم الدليل الخاص علي نفوذهما، فيكون دالاً علي تقييد إطلاق الحكم الإلزامي في مورد الشرط والعقد وقصوره، بحيث لا يوجب قصور سلطنة المكلف، ولا يكونان مخالفين للحكم الشرعي.

وإن لم يكن إلزامياً فحيث لا يكون مانعاً من سلطنة المكلف يتعين نفوذ الشرط والعقد في مورده.

إلا أن يدل دليل خاص علي عدم نفوذهما، فيكشف عن قصور السلطنة في مورد الحكم غير الإلزامي، ويكونان مخالفين للحكم الشرعي.

وهكذا الحال في الحكم الوضعي، فما كان منه تابعاً للسلطنة كتمليك المال والعمل ينفذ فيه الشرط والعقد.

إلا أن يقوم الدليل الخاص علي عدم نفوذهما، فيكشف عن قصور السلطنة عليه في مورده، ويكون الشرط والعقد مخالفين للحكم الشرعي.

وما لم يكن تحت السلطنة كالميراث والولاء، ونتائج العقود والإيقاعات التابعة لأسبابها، ككون الشيء مبيعاً والمرأة مطلقة يكون العقد والشرط المتعلقان به مخالفين للحكم الشرعي، فلا ينفذان.

إلا أن يقوم الدليل الخاص علي نفوذهما، فيكشف عن كونه مورداً للسلطنة، فلا يكون العقد والشرط المتعلقان به مخالفين للحكم الشرعي.

هذا ما يظهر لنا فعلاً وعليه لا حاجة للتطويل في بعض الصغريات التي وقع الكلام فيها بسبب ورود النصوص الخاصة أو تعارضها فيها.

بل يوكل الكلام فيها لمواردها المناسبة من الفقه.

فلاحظ.

والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

(1) مما سبق يظهر الوجه في بطلان هذا الشرط.

ومثله ما إذا اشترط عليه عملاً مجهداً يتعذر عليه الصوم معه من دون مسوغ للإفطار.

فإن العمل المذكور وإن كان تحت سلطنة من عليه الشرط بالذات، إلا أن وجوب الصوم عليه مستلزم لخروجه

ص: 16

(17)

منافاة الشرط لمقتضي العقد

رقاً (1)، وأمثال ذلك مما دلّ دليل الحكم الشرعي علي كونه اقتضائياً، فإن الشرط علي خلاف مثل هذا الحكم باطل.

ومنها: أن لا يكون منافياً لمقتضي العقد (2)، كما إذا باعه بشرط أن لا يكون له ثمن، أو آجره الدار بشرط أن لا يكون لها أجرة (3).

---------------

عن سلطنته تبعاً لخروج الإفطار عن سلطنته، فيكون الشرط مخالفاً للحكم بوجوب الصوم شرعاً.

(1) يعني: إذا كان الزوج حراً.

للنصوص الكثيرة المتضمنة تبعية الولد للحر من أبويه(1).

نعم ذهب جماعة لصحة الشرط المذكور، لدعوي دلالة النصوص الخاصة عليه.

وهي لو تمت مخصصة لعموم التبعية المتقدم.

وتمام الكلام في محله.

(2) كما هو المصرح به في كلام جماعة كثيرة، وفي الغنية «ومن الشروط ما هو فاسد بلا خلاف... نحو أن يشترط ما يخالف مقتضي العقد»، وادعي شيخنا الأعظم (قده) الإجماع عليه.

(3) ملاحظة كلمات الأصحاب (رضوان الله عليهم) تشهد بأن مرادهم بالشرط المنافي لمقتضي العقد هو المنافي لما يترتب عليه شرعاً، كشرط عدم بيع المبيع، أو عدم هبته، أو ضمان البائع له لو غصبه غاصب، أو عدم عتق العبد، أو عدم وطء الجارية، أو غير ذلك مما يقتضي العقد خلافه لولا الشرط.

وقد وقع الكلام بينهم في صغريات ذلك، حيث لا إشكال عندهم ظاهراً في جواز شرط عدم بعض ما يجوز بمقتضي العقد، كشرط عدم الانتفاع بالمبيع مدة معينة.

وقد اضطربت كلماتهم في تحديد ذلك والفرق بين الصغريات.

ومما سبق يظهر دخول ذلك في الشرط السابق، وهو الشرط المخالف للكتاب والسنة، كما يظهر من بعض كلماتهم أيضاً.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 30 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

ص: 17

ومنها: أن يكون مذكوراً في ضمن العقد (1)

---------------

كما أنه قد يكون نظر بعضهم إلي أن اشتراط عدم ترتيب الآثار المهمة المقصودة نوعاً من العقد يرجع إلي عدم قصد العقد وإن ذكر اللفظ الدال عليه، فهو عقد صوري لا حقيقي، نظير ما قد يدعي من أن العقد المتضمن للحيل الشرعية في الربا ونحوه صوري.

وعقد النكاح علي من هي غير قابلة للاستمتاع، أو لا يقصد منها ذلك، وإنما يراد به المحرمية المسوغة للنظر، صوري، ونحو ذلك.

لكن لا مجال للبناء علي ذلك، بل يمكن قصد مضمون العقد حقيقة في جميع ذلك.

وغاية ما يلزم في المقام مخالفة الشرط لحكم العقد شرعاً.

فيجري فيه الضابط المتقدم.

والأمر المباين له الذي يصلح أن يكون شرطاً في مقابله هو الأمر المخالف لمفهوم العقد وما يقومه عرفاً، كاشتراط عدم الثمن في البيع، وعدم الأجرة في الإجارة، وعدم ملكية المبيع إلي غير ذلك، كما جري عليه سيدنا المصنف (قده).

والوجه في اشتراطه ظاهر، حيث لا يمكن الجمع بين الالتزام بمضمون العقد والالتزام بمضمون الشرط، للتنافي بينهما المانع من صحتهما معاً، لما فيه من الجمع بين المتنافيين، ولا مجال للبناء علي صحة خصوص أحدهما، لعدم المرجح.

وبذلك يتعين بطلان العقد أيضاً، لخلل في الإنشاء.

ولعله لذا قال في الجواهر: «نعم لا ريب في بطلان منافي مقتضي العقد، بمعني عوده عليه بالنقص، كاشتراط عدم الملك في المبيع».

(1) كما يظهر مما تقدم في مقدمة كتاب التجارة عند الكلام في الاستدلال بعموم نفوذ الشرط علي عموم نفوذ العقد.

حيث سبق هناك أن الظاهر توقف صدق الشرط علي ابتناء الالتزام به من أحد الطرفين علي التزام الآخر بشيء آخر.

فلا يصدق علي الالتزام الابتدائي من أحد الطرفين للآخر من دون أن يبتني علي التزام الآخر

ص: 18

(19)

اشراط كونه مذكوراً في ضمن العقد

صريحاً (1)، أو ضمناً (2)، كما إذا قامت القرينة علي كون العقد مبنياً عليه ومقيداً به، إما لذكره قبل العقد، أو لأجل التفاهم العرفي، مثل اشتراط استحقاق التسليم حال التسليم (3).

فلو ذكر قبل العقد ولم يكن العقد مبنياً عليه عمداً أو سهواً لم يجب الوفاء به.

ومنها: أن يكون مقدوراً عليه (4).

بل لو علم عدم القدرة لم يمكن

-

بشيء.

ولا أقل من كون ذلك هو المتيقن منه، وإن ورد إطلاقه في بعض الاستعمالات علي الشرط الابتدائي.

فراجع.

(1) كما هو المتيقن من الأدلة وفتاوي الأصحاب (رضوان الله عليهم).

(2) كما قواه في الجواهر.

وهو ظاهر جواهر القاضي والمختلف في فروع اشتراط سقوط خيار المجلس.

وعليه قد يحمل ما في الخلاف من إطلاق الاكتفاء في سقوط الخيار المذكور باشتراطه قبل العقد.

لعموم حكم العرف بنفوذ الشرط للشرط المذكور.

وصدق الشرط عليه عرفاً، فيشمله عموم نفوذ الشروط.

وقد تقدم في ذيل الكلام في سقوط خيار المجلس باشتراط سقوطه ما ينفع في المقام.

فراجع.

(3) تقدم عند الاستدلال علي ثبوت خيار الغبن تقريب أن الاستحقاق المذكور ليس من جهة الشرط الضمني، بل هو حكم عرفي ارتكازي، فيتعين العمل عليه بعد أن لم يثبت ردع الشارع عنه.

(4) يعني علي الأمر المشروط.

والظاهر عدم الإشكال فيه.

وبه صرح غير واحد، بنحو يظهر من بعض كلماتهم المفروغية عنه.

من دون فرق بين تعذره، كالصعود للسماء، وإمكانه كحمل الدابة.

والوجه فيه ظاهر، لأن المصحح عرفاً لانشغال ذمة الإنسان بالشيء وملكية الغير له عليه هو وجوب تحقيقه له أو استحقاقه المطالبة به، فمع تعذره عليه لا مجال للملكية المذكورة التي هي مفاد الشرط.

وبذلك يظهر قصور عموم نفوذ الشرط لما إذا كان مقدوراً عليه ثم تجدد العجز عنه.

ص: 19

نعم يمكن ترتب الأثر علي الشرط المتعذر رأساً أو بعد سبق القدرة عليه حين الاشتراط، لا من حيثية نفوذه وملكية المشترط له علي المشروط عليه، كما هو مفاد أدلة نفوذ الشرط، بل من حيثية حكم العرف بثبوت الخيار في العقد الذي يقع الشرط فيه، حيث لا فرق فيه بين أنحاء التخلف ومناشئه بعد فرض ابتناء العقد عليه.

وأما ما يظهر من بعض كلماتهم من دعوي الإجماع علي لغوية الشرط مع خروجه عن القدرة، بحيث قد يظهر في عدم ترتب الأثر عليه رأساً حتي مثل الخيار بتخلفه.

فلا مجال للتعويل عليه.

لعدم وضوح حصول الإجماع الحجة في مثل هذه الفروع التي لم يتضح توجه للأصحاب لها، بحيث تعرف فتواهم فيها في العصور السابقة علي تحرير الفتاوي، حيث كان الأصحاب يكتفون في بيان الفتوي علي رواية النصوص.

ولاسيما بعدما في المبسوط وعن جواهر القاضي من أنه لو اشتري الدابة علي أنها تحمل ثبت الخيار إذا لم تحمل، وما يظهر من التذكرة من أنه لو باعه شيئاً بشرط أن يبيعه علي زيد بيعاً تاماً بإيجاب وقبول، فامتنع زيد من شرائه، كان للبائع الفسخ.

ولو تم الإجماع فلا يتضح كونه إجماعاً تعبدياً، بل من القريب اعتمادهم علي المرتكزات العقلائية.

وهو راجع إلي لزوم التعويل علي المرتكزات المذكورة بعد النظر في حدودها سعة وضيقاً.

فإذا لم تقض المرتكزات بلغوية الشرط من حيثية ثبوت الخيار بتخلفه تعين البناء علي ذلك.

ومثلها دعوي بطلان البيع، لكونه غررياً بسبب الجهل بحصول الشرط لو لم يكن تحت قدرة المشروط عليه.

لما سبق عند الكلام في اعتبار العلم بالعوضين وفي اعتبار القدرة علي تسليمها من منع عموم النهي عن بيع الغرر.

ويأتي عند الكلام في مانعية جهالة الشرط من صحته ما ينفع في المقام.

ص: 20

(21)

اشراط القدرة علي الشرط

إنشاء الالتزام به (1).

قيل: ومنها: أن لا يلزم منه محال.

ومثل له بما إذا باعه وشرط عليه أن يبيعه عليه (2).

لكن التمثيل غير ظاهر.

ولو صح

---------------

(1) لابتناء الالتزام به علي التعهد بتحقيقه الذي هو فرع القدرة عليه.

لكن ذلك لا يمنع من الالتزام به تبعاً للبناء علي القدرة عليه مكابرة، ولو لغفلة من له الشرط عن كونه غير مقدور للمشروط عليه، فيترتب عليه حكم العرف بثبوت الخيار في العقد وإن لم يكن موضوعاً لدليل وجوب الوفاء بالشرط.

نعم لو لم يبتن الالتزام به علي القدرة عليه، بل ابتني علي الإقرار بخروجه عن القدرة كان لاغياً، ولم يترتب عليه أثر أصلاً.

إلا أن يرجع الالتزام به إلي محض الالتزام بثبوت الخيار في العقد بتخلفه، فيتعين ترتب ذلك.

(2) قال في التذكرة: «لو باعه شيئاً بشرط أن يبيعه إياه لم يصح... وإلا جاء الدور، لأن بيعه له يتوقف علي ملكيته له المتوقفة علي بيعه، فيدور».

وكأنه يريد أن بيع المشتري له ثانياً يتوقف علي ملكيته له بالبيع الأول، وملكيته له بالبيع المذكور تتوقف علي حصول الشرط، وهو البيع ثانياً.

وهو كما تري، لأن صحة البيع الأول لا تتوقف علي حصول الشرط.

غاية الأمر أن يكون تخلف الشرط موجباً للخيار في البيع الأول وجواز فسخه.

وإلي ذلك يرجع ما في جامع المقاصد، حيث قال: «وفيه نظر، لأن الموقوف علي حصول الشرط هو اللزوم، لا الانتقال».

وربما حمل كلامه علي معني آخر لا يخلو عن تكلف وإشكال لا مجال لإطالة الكلام فيه.

وقد تعرض شيخنا الأعظم (قده) وبعض الأعاظم فيما حكي عنه لذلك.

فراجع.

وفي الدروس: «ولو شرط بيع المبيع علي البائع بطل، لا للدور، بل لعدم قطع نية الملك».

وكأنه راجع إلي دعوي عدم قصد البيع حينئذٍ، لتشبث البائع بالمبيع.

وفيه:

ص: 21

كان اشتراط القدرة كافياً عنه (1).

نعم ربما يستفاد بطلان الشرط في المثال المذكور من بعض الروايات (2)، لكن لا لما ذكر.

---------------

أن تشبث البائع بالمبيع في المقام لا يرجع إلي قصد عدم إخراجه من ملكه، لينافي قصده للبيع، بل إلي قصد عوده إليه ببيع جديد بعد خروجه عنه بالبيع الأول، وهو موقوف علي قصد البيع.

فهو نظير البيع بشروط الخيار للبائع.

(1) لم يتضح الوجه في ذلك. لظهور أن المراد باشتراط القدرة هو القدرة علي الأمر المشروط، ومن لزوم المحال هو لزوم المحال من نفوذ الشرط، لا من نفس الاشتراط، ولا من الأمر المشروط، بحيث يكون خارجاً عن القدرة، بل متعذراً في نفسه

(2) كما في الحدائق. والنصوص المذكورة هي صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):

«سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم إلي أجل، ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد، أيحل ؟ قال: إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس» (1) .

ورواه عنه في قرب الإسناد، إلا أنه قال في السؤال:

«سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم ثم اشتراه بخمسة دراهم أيحل».

وخبر يونس الشيباني: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

الرجل يبيع البيع، والبائع يعلم أنه لا يسوي والمشتري يعلم أنه لا يسوي. إلا أنه يعلم أنه سيرجع فيه فيشتريه منه.

قال: فقال: يا يونس إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قال لجابر بن عبد الله: كيف أنت إذا ظهر الجور وأورثهم الذل ؟ قال: فقال له جابر: لا بقيت إلي ذلك الزمان. ومتي يكون ذلك بأبي أنت وأمي ؟ قال: إذا ظهر الربا.

يا يونس وهذا الربا.

فإن لم تشتره رده عليك ؟.

قال: قلت: نعم. قال: فلا تقربنه، فلا تقربنه»(2).

وخبر الحسين بن المنذر: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يجيئني الرجل، فيطلب العينة، فأشتري له المتاع مرابحة، ثم أبيعه إياه، ثم أشتريه منه مكاني.

قال: إذا كان بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع وكنت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب العقود حديث: 6، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب العقود حديث: 6، 5.

ص: 22

أنت بالخيار إن شئت اشتريت وإن شئت لم تشتر فلا بأس، قلت: إن أهل المسجد يزعمون أن هذا فاسد...»(1).

فإن مقتضي مفهوم صحيح علي بن جعفر كون اشتراط البيع الثاني مانعاً من صحة البيع الأول.

وهو ظاهر خبر يونس الشيباني، لأن ردّ البيع الأول علي تقدير عدم تحقق البيع الثاني يبتني علي كون البيع الثاني شرطاً في البيع الأول ولو ضمناً.

ومثله خبر الحسين بن المنذر، لأن فرض كونهما بالخيار في البيع الثاني ظاهر في عدم اشتراطه في البيع الأول.

وأما ما في الجواهر من أن مقتضي المفهوم في الأول والثالث حصول البأس مع الشرط المذكور، وهو لا يستلزم الحرمة التكليفية، فضلاً عن الوضعية الراجعة للفساد.

فهو في غاية المنع، فإن ظاهر نفي البأس في المعاملات هو الصحة، فيكون مقتضي المفهوم هو الفساد.

بل هو كالصريح من ذيل خبر الحسين، حيث تعرض فيه لحكم العامة بالفساد.

لكن صحيح علي بن جعفر وارد في فرض اختلاف الثمن في البيعين بنحو يؤدي إلي الزيادة بسبب الاختلاف في النقد والنسيئة بين البيعين بنحو يشبه الربا.

وعليه يحمل ما في قرب الإسناد، حيث يصلح الصحيح للقرينية علي ذلك، وعلي أن الاختلاف بينهما حصل بسبب النقل بالمعني.

ولاسيما مع غلبة كون ذلك هو المنشأ غالباً للاختلاف بين الثمنين.

كما أن ذلك هو الظاهر من خبر يونس، بقرينة تطبيق الربا عليه، حيث لا منشأ له إلا ذلك.

فلم يبق إلا إطلاق خبر الحسين بن المنذر.

وهو لا يخلو عن ضعف في السند، لعدم ثبوت وثاقة الحسين بن المنذر.

مع أن من القريب حمله علي ما تضمنه الحديثان الأولان، لأن الداعي لمثل هذين البيعين نوعاً هو إعانة المشتري الأول في أخذ النقد المعجل، وكسب المشتري الثاني الزيادة المؤجلة بين الثمنين.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب العقود حديث: 4.

ص: 23

قيل: ومنها: أن لا يكون مجهولاً (1)،

---------------

بل قد يكون ذلك مقتضي الجمع بينه وبين خبر يونس الشيباني، لإشعار أو ظهور تطبيق الربا فيه، في أن المانع ليس مطلق اشتراط البيع في البيع، بل خصوص ما يؤدي منه إلي مشابهة الربا بسبب الفرق بين الثمنين.

ومن هنا لا مجال للبناء علي عموم مانعية اشتراط البيع في البيع.

وتمام الكلام في ذلك في فصل النقد والنسيئة، حيث يأتي من سيدنا المصنف (قده) التعرض لحكم الشرط المذكور في المسألة الرابعة من الفصل المذكور.

(1) فقد صرح المحقق والعلامة وجماعة بمانعية الجهالة المؤدية إلي جهالة أحد العوضين، وعن أبي العباس نسبته إلي علمائنا.

ونفي في الجواهر الإشكال فيه.

لما ورد من النهي عن بيع الغرر(1) ، قال: «الشامل لمحل الفرض قطعاً».

وقد مثل (قده) له باشتراط تأجيل أحدهما مدة مجهولة.

لكن سبق منّا عند الكلام في اعتبار العلم بالعوضين، واعتبار القدرة علي تسليمهما الإشكال في عموم النهي عن بيع الغرر، بل المنع منه، وأن المتيقن منه غير ذلك.

نعم ذكروا في بيع النسيئة وبيع السلف لزوم تعيين الأجل.

والكلام فيه موكول إلي محله.

وأما الجهالة التي لا تؤدي إلي جهالة أحد العوضين كما لو باعه داره واشترط عليه أن ينزل فيها إذا ورد البلد فقد يدعي مانعيتها أيضاً، للنهي عن بيع الغرر.

ودعوي: اختصاص الغرر المنهي عنه بالعوضين، دون الشرط وإن كان له دخل في زيادتهما ونقصهما، لأنه من سنخ الداعي، من دون أن يكون جزءاً منهما.

ممنوعة، لعدم الوجه في التخصيص بالعوضين بعد نسبة الغرر للبيع نفسه، ولا

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 40 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، مستدرك الوسائل ج: 3 باب: 33 من أبواب التجارة حديث: 1.

ص: 24

(25)

إشكال في دخل الشرط في البيع وإن لم يكن دخيلاً في العوضين.

ومثله ما ذكره سيدنا المصنف (قده) من انصراف النهي تبعاً للارتكاز العرفي لخصوص العوضين، لأنهما المقصودان بالأصل في المعاملة.

إذ لا منشأ ظاهر للانصراف المذكور بعد كون الشرط من شؤون البيع.

بل قد يكون أهم من العوضين.

فالعمدة في الإشكال في الاستدلال المذكور ما سبق من منع عموم النهي المزبور.

وأشكل منه ما قد يظهر منهم من مانعية الجهالة من صحة الشرط في جميع العقود، وعدم اختصاصها بالشرط في البيع.

إذ لا وجه له إلا دعوي عموم النهي عن الغرر، وعدم اختصاصه ببيع الغرر.

وقد عرفت المنع من عموم النهي عن بيع الغرر، فضلاً عن النهي مطلق الغرر، وإن ورد مرسلاً في كتاب الضمان من الخلاف وبعض كتب الفقه المتأخرة.

ولاسيما مع ما ذكره بعضهم من عدم العثور عليه في مصادر الحديث، وأن الموجود فيها هو النهي عن بيع الغرر.

وأما نسبة روايته للصدوق فكأن المراد به ما رواه في كتاب معاني الأخبار مسنداً عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): «أنه نهي عن المنابذة والملامسة وبيع الحصاة.

المنابذة يقال: إنها.

.

.

وهذه بيوع كان أهل الجاهلية يتبايعونها، فنهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عنها، لأنها غرر كلها»(1).

لكن من الظاهر أن ذيل الكلام المتقدم تعليل من الصدوق (قده) لنهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عن البيوع المذكورة لا من تتمة حديث النبي (صلي الله عليه وآله وسلم).

نعم قد يستفاد العموم المذكور من التعليل في مثل حديث ابن مسعود: «قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر»(2).

لكنه مع ضعفه، كرواية الصدوق المتقدمة لا مجال للبناء علي عمومه، كما يظهر مما تقدم في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 13.

(2) مسند أحمد ج: 1 ص: 388. سنن البيهقي ج: 5 ص: 340. المعجم الكبير للطبراني ج: 10 ص: 209.

ص: 25

وأن لا يكون معلقاً (1) وفيه نظر لعدم دليل ظاهر عليه وأن كان أحوط.

-

النهي عن بيع الغرر.

بل يظهر منه أنه أولي بالمنع، لأنه أعم منه وأوسع.

هذا وقد منع في الجواهر من صحة الشرط المجهول إذا كان لا يؤول للعلم.

قال (قده): «لأنه مثار النزاع، ولم يعهد نظيره في الشرع.

بل المعلوم خلافه».

لكن لا مجال للبناء علي عموم مانعية الأول.

والثاني لا ينهض بالاستدلال.

علي أنه لا يناسب ما ذكره هو تبعاً للأصحاب من جواز اشتراط الإمام علي أهل الذمة ضيافة من يمرّ بهم من المسلمين.

قال في الجواهر: «كما صرح به غير واحد.

بل في المسالك: هذا هو المشهور في الأخبار والفتاوي.

وهو الذي شرطه النبي (صلي الله عليه وآله وسلم).

بل لا أجد فيه خلافاً، كما اعترف به في المنتهي، بل عن التذكرة الإجماع عليه.

وهو الحجة بعد الأصل...».

ومع ذلك كيف يدعي العلم بعدم صحة الشرط في المقام ؟! ولاسيما مع يأتي من دلالة النصوص عدم مانعية التعليق من صحة الشرط، مع ظهور أن التعليق علي غير معلوم الحصول الذي هو مورد النصوص مستلزم للجهالة.

نعم لا مجال للبناء علي صحة الشرط المبهم المردد الذي لا يتعين مفهوماً ولا مصداقاً، كاشتراط ملكية منفعة إحدي العينين، حيث لا تقرر ولا وجود للمبهم واقعاً، ليكون موضوعاً للإلزام والالتزام والملكية، كما تكرر منا في نظائر المقام.

(1) كما يظهر مما تقدم في مبحث بيع الخيار من الجواهر من منع الاستدلال بعموم نفوذ الشرط علي صحة البيع بشرط الخيار برد الثمن، ونسب أيضاً للمحقق الثاني.

وكأنه للإجماع علي مبطلية التعليق في العقود والإيقاعات عدا الوصية والتدبير.

بل بناء علي أن للشرط قسطاً من الثمن يرجع التعليق إلي أصل البيع، لأن الثمن ركن فيه.

لكن تكرر منا ضعف المبني المذكور، وخروج الشرط عن العوضين.

مع أن

ص: 26

(27)

الدليل علي مبطلية التعليق لما كان منحصراً بالإجماع فاللازم الاقتصار فيه علي المتيقن، وليس منه الشرط التابع لما يقع فيه من عقد أو إيقاع وإن كان له قسط من الثمن، فضلاً عما إذا لم يكن.

هذا مضافاً إلي ظهور بعض النصوص في جواز ذلك، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): «في الرجل يقول لعبده: أعتقك علي أن أزوجك ابنتي.

فإن تزوجت عليها أو تسريت فعليك مائة دينار.

فأعتقه علي ذلك، وتسري أو تزوج.

قال: عليه شرطه»(1).

وصحيح علي بن رئاب عن أبي الحسن موسي (عليه السلام) قال: «سئل وأنا حاضر عن رجل تزوج امرأة علي مائة دينار علي أن تخرج معه إلي بلاده.

فإن لم تخرج معه فإن مهرها خمسون ديناراً إن أبت أن تخرج معه إلي بلاده.

قال: إن أراد أن يخرج بها إلي بلاده الشرك فلا شرط له عليها في ذلك، ولها مائة دينار التي أصدقها إياها.

وإن أراد أن يخرج بها إلي بلاد المسملين ودار الإسلام فله ما اشترط عليها...»(2) ، وصحيح سليمان بن خالد المتقدم في المسألة الثالثة الوارد في مكاتبة أعانها ابن زوجها في مكاتبتها علي أن ليس لها الخيار علي أبيه إذا ملكت نفسها(3) وغيرها(4).

هذا كله إذا كان المعلق هو أصل الاشتراط المتضمن لاستحقاق الأمر المشروط.

أما إذا كان الاشتراط فعلياً والتعليق في الأمر المشروط، كاستقبال زيد علي تقدير مجيئه من السفر كما لعله الظاهر من أمثلتهم فلا منشأ للإشكال فيه، بل هو نظير تعليق الأمر الموكل فيه، الذي لا إشكال فيه عندهم.

وقد تقدم في مبحث بيع الخيار ما ينفع المقام.

بقي شيء.

وهو أنه صرح غير واحد بأن من شروط صحة الشرط أن يكون مما فيه غرض للعقلاء.

فعن التذكرة: «لو شرط ما لا غرض للعقلاء فيه، ولا يزيد به

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 37 من أبواب المهور حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 40 من أبواب المهور حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 11 من أبواب كتاب المكاتبة حديث: 1.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من أبواب المهور.

ص: 27

امتناع المشروط عليه من فعل الشرط

(مسألة 64): إذا امتنع المشروط عليه من فعل الشرط كان للمشروط له إجباره عليه (1).

---------------

المالية، فإنه لغو لا يوجب الخيار».

وقال شيخنا الأعظم (قده): «والوجه في ذلك أن مثل ذلك لا يعد حقاً للمشروط له حتي يتضرر بتعذره، فيثبت له الخيار، أو يعتني به الشارع، فيوجب الوفاء به، ويكون تركه ظلماً».

وقد يرجع إليه ما ذكره بعض المحققين وسيدنا المصنف (قدس سرهما) في حاشيته القديمة علي المكاسب من انصراف عموم الوفاء بالعقود والشروط عن مثل ذلك.

لكنه غير ظاهر، بل هو في غاية المنع.

وأما ما ذكره بعض المحققين من أن اعتبار العقلاء بما هم عقلاء للعقد والحق لا يتحقق مع عدم الغرض العقلائي، وإلا كان خلفاً.

ومع عدم تحقق الاعتبار العقلائي للعقد والحق لا يكون في البين حق بنظر العقلاء، ليكون موضوعاً للإمضاء الشرعي المستفاد من دليل إمضاء الشرط.

ففيه: أن عدم تعلق غرض للعقلاء بالأمر المشروط، لا ينافي اعتبارهم للعقد، كما لا ينافي صيرورته حقاً عندهم بسبب العقد والشرط النافذ بمقتضي سلطنة المتعاقدين من ذلك، ولا يلزم الخلف، وإنما يلزم الخلف من فرض تعلق غرضهم به بدون الشروط.

فالمقام نظير التصرف غير المعتد به بنظر العقلاء بمال الغير الذي يكون بنظرهم تعدياً عليه بسبب سلطنته علي ماله.

ومن هنا لا مجال للبناء علي لغوية الشرط المذكور، كما صرح بذلك بعض مشايخنا (قده).

وهو المناسب لإهمال سيدنا المصنف (قده) الإشارة لذلك فضلاً عن الفتوي به هنا، حيث يقرب جداً عدوله عما تقدم منه.

(1) كما صرح به غير واحد.

وهو ظاهر بناءً علي ما سبق منا من أن مقتضي الاشتراط استحقاق المشروط له الأمر المشروط علي المشروط عليه، لوضوح أن

ص: 28

(29)

لصاحب الحق المطالبة بحقه، والإجبار عليه، لقصور سلطنة من عليه الحق عن الامتناع عن أداء الحق، لمنافاته لثبوت الحق عليه، وثبوت سلطنة من له الحق علي استيفاء حقه، فله استيفاؤه ولو بالإجبار بعد سقوط سلطنة من عليه الحق عن الامتناع عن أدائه.

وبذلك يظهر ضعف ما في التذكرة، حيث قال فيما لو اشترط بائع العبد عتقه: «إذا أعتقه المشتري فقد وفي... وإن امتنع أجبر عليه إن قلنا: إنه حق لله تعالي.

وإن قلنا: إنه حق للبائع لم يجبر...».

وأشكل منه ما عن غاية المرام للصيمري، حيث قال: «وعلي القول بأنه حق لله يكون المطالبة للحاكم.

ويجبره مع الامتناع.

ولا يسقط بإسقاط البائع.

وعلي القول بكونه للبائع يكون المطالبة له.

ويسقط بإسقاطه، ولا يجبر المشتري...».

إذ فيه: أن جواز المطالبة للبائع بالشرط فرع سلطنته عليه، ومع سلطنته عليه لا سلطنة للمشتري علي الامتناع، فيتعين جواز إجباره عليه.

ولذا التزم فيما لو كان حقاً لله تعالي بأن للحاكم المطالبة والإجبار معاً.

ودعوي: أن المطالبة والإجبار مع كونه حقاً لله تعالي من باب الأمر بالمعروف، لرجوع كونه حقاً لله عز وجل إلي كونه واجباً شرعياً كسائر التكاليف الشرعية التي يجب الأمر بها مع مخالفة المكلف لها.

مدفوعة: أولاً: بأن الأمر بالمعروف لا يختص بالحاكم.

كما لا يختص بحقوق الله تعالي، بل يعمّ حقوق الناس، لوجوب أدائها شرعاً.

وثانياً: بأن الأمر بالمعروف له شروطه، ومنها تنجز التكليف في حق المأمور، وهو لم يشترط ذلك في المقام.

فإطلاقه الإجبار وتخصيصه بالحاكم لابد أن يبتني علي كون استحقاق الله تعالي له ليس لمجرد تكليفه به، بل هو حكم وضعي، نظير استحقاق الناس، وعلي أن الحاكم يقوم مقام الله تعالي في استيفاء حقه.

وأشكل من ذلك ما ذكره من أن العتق المشروط إذا قلنا بأنه حق للعبد يكون

ص: 29

هو المطالب للمشتري به، ومع امتناعه يرافعه للحاكم، ليجبره عليه.

حيث لم يتضح الوجه في الفرق بين العبد والمشتري بعد فرض استحقاقهما للعتق في جواز المطالبة والإجبار من طريق الحاكم للعبد دون المشتري.

نعم استدل في جامع المقاصد للقول بعدم إجبار البائع للمشتري علي الشرط بأن للبائع طريقاً آخر، وهو الفسخ.

وهو كما تري، فإن الفسخ لا يكون استيفاء لحقه في الشرط، بل هو استيفاء لحق آخر مترتب علي فوت الحق المذكور، وهو حق الخيار، فلا وجه لاقتصاره عليه، ومنعه من استيفاء حقه في الشرط.

ولعله لذا لم يعول في جامع المقاصد علي الوجه المذكور، واستوجه أن للبائع الإجبار علي الشرط، كما عرفت أنه المتعين بناءً علي ما سبق من استحقاق الشارط للشرط.

أما بناءً علي عدم استحقاقه له وأن وجوب قيام المشروط عليه بالشرط تكليف ابتدائي لا يترتب علي استحقاق أحد له عليه، كوجوب وفائه بيمينه فقد أشرنا إلي وجوب المطالبة به بملاك الأمر بالمعروف علي كل أحد بشروطه من دون خصوصية للمشترط.

وأما خصوصية المشترط في المطالبة والإجبار فلا يتضح الوجه فيها بعد عدم استحقاقه للشرط، ومجرد تعلق غرضه به أو انتفاعه به لا يصحح له المطالبة به، فضلاً عن الإجبار عليه، بل هو كمن يُنذر أو يُحلف علي دفع المال له، حيث ليس له المطالبة، فضلاً عن الإجبار للناذر والحالف علي دفع المال له إلا من باب الأمر بالمعروف.

ودعوي: أن لمن له الحكم في الأحكام الخاصة نحو من الامتياز يقتضي جواز مطالبته بتطبيقه والجري عليه والإجبار علي ذلك، كما فيمن تجنب نفقته من الأقارب.

وأظهر من ذلك الزوج بالإضافة إلي جهات الاستمتاع بالزوجة، مع عدم كون ذلك من الحقوق، لعدم قابليته للإسقاط.

مدفوعة: بأنه لا منشأ للامتياز المذكور بعد عدم تميزه عن غيره بالاستحقاق.

ومجرد عود نفعه إليه لا يقتضي ذلك، كما تقدم في النذر والحلف بل حتي اشتراط عتق

ص: 30

العبد المبيع والصدقة علي فقير خاص لا يقتضي ثبوت الحق لنفس العبد وذلك الفقير، بحيث يكون لهما المطالبة به والإجبار وإن كانا ينتفعان به.

بل هما حق للمشترط لا غير، وهو الذي يختص بالمطالبة والإجبار.

وأما الإنفاق والاستمتاع فهما من الحقوق ارتكازاً.

ومجرد عدم قابليتهما للإسقاط لو تم قد يبتني علي كون الحق فيهما انحلالياً، بحيث يكون لكل آن حقه، فلا مجال لإسقاط الحق رأساً، لأنه إسقاط لما لم يجب، وإسقاطه في كل آن مساوق لعدم المطالبة به فيه، الذي يجوز قطعاً، وإن كان الحق يتجدد في الآن اللاحق.

علي أن البناء علي خصوصية هذين الحقين ونحوهما في عدم قابليتهما للإسقاط، للدليل الخاص، أهون من البناء علي عدم كونها من الحقوق.

حيث لا إشكال بنظر العقلاء والمتشرعة في كون التخلف عنهما عدوان في حق الطرف الآخر، ولا يتمحض في كونه معصية للشارع الأقدس، كشرب الخمر وترك الصلاة.

ومثلها دعوي: أن الإجبار مأخوذ في نفس الأمر المشترط، وأن مفاد الشرط عرفاً هو الفرض والتحتم والإرغام والإجبار.

وحينئذ فدليل الإمضاء كما يقتضي نفوذ الشرط من حيثية لزوم الفعل علي المشروط عليه يقتضي نفوذه من حيثية إرغام الشارط له عليه.

إذ فيها أن المراد بالإرغام والإجبار إن كان مجرد كونه مفروضاً علي المشروط عليه، بحث ليس له التخلف عنه فهو عين الإلزام التكليفي.

وإن كان هو أمراً زائداً علي ذلك يرجع إلي أن من حق الشارط إلزامه وإجباره فهو اعتراف بأن الشرط يتضمن جعل شيء زائد علي التكليف.

مع أن ذلك تحكم في مفاد الاشتراط.

كيف والشارط قد يغفل عن فرض تخلف المشروط عليه عن القيام بالشرط، ليحتاج إلي الإرغام والإجبار، أو يحتمله ويعلم من نفسه العجز عن إرغامه وإجباره، فكيف يشترطهما مع ذلك ؟!.

والالتزام باختلاف مفاد الشرط باختلاف أفراد الشرط، من حيثية الالتفات

ص: 31

فإذا تعذر إجباره كان للمشروط له الخيار في الفسخ (1) وليس له الخيار مع

---------------

لفرض التخلف والقدرة علي الإجبار، مما لا يظن بأحد الالتزام به.

ولاسيما أن لازمه عدم جواز الإجبار في حق الغافل عن فرض التخلف، وفي حق من كان يعتقد حين الاشتراط تعذر الإجبار عليه، ويختص جواز الإجبار بالملتفت لفرض التخلف المحتمل للقدرة علي الإجبار.

وهو أبعد.

ومن هنا لا يتضح وجه جواز الإجبار بناءً علي تمحض الشرط في الإلزام بالفعل، نظير اليمين المستلزم لتمحض دليل النفوذ في الحكم التكليفي لا غير.

(1) الذي يبدو بأدني ملاحظة لكلمات الأصحاب المفروغية عن ثبوت الخيار بتخلف الشرط في الجملة، من دون أن يظهر منهم التصدي لوجهه إلا تبعاً للكلام في فروعه، كعمومه لصورة القدرة علي الإجبار وعدمه.

وكيف كان فقد يستدل عليه بوجوه: الأول: ظهور الإجماع عليه.

لكن لا مجال لإحراز كونه إجماعاً تعبدياً في المقام، بحيث يرجع إلي الإطلاع علي دليل شرعي تعبدي خفي علينا.

وغاية ما يمكن دعواه في المقام أن تسالمهم عليه من دون أن يشيروا لدليل ذلك يكشف عن وضوح المرتكزات العقلائية القاضية به لهم، فالمعيار علي المرتكزات المذكورة.

الثاني: قاعدة نفي الضرر، بلحاظ أن في لزوم البيع مع تخلف الشرط ضرراً علي الشارط.

وربما ينسب لشيخنا الأعظم (قده).

لكنه غير ظاهر مما اطلعت عليه من كلامه، حيث قال: «فإن الخيار إنما شرع بعد تعذر الإجبار دفعاً للضرر».

ولا يبعد كون المراد بالضرر فيه هو ضرر تخلف الشرط، ويكن مراده بذلك بيان سبب تشريع الخيار بعد المفروغية عن تشريعه، لا الاستدلال عليه.

وكيف كان فلا مجال للوجه المذكور، لعدم اطراد كون تخلف الشرط مستلزماً لكون البيع ضررياً.

ومجرد كونه تخلفاً لما أقدم عليه البائع لا يستلزم الضرر.

ص: 32

امتناع المشروط عليه من فعل الشرط

مضافاً إلي ما قد يقال من أن الرافع للزوم البيع هو الضرر الحاصل منه، كما في الغبن، علي كلام سبق، والضرر في المقام ليس حاصلاً من نفس البيع، بل من تخلف الشرط بعده، فهو نظير الضرر الحاصل من تصرف البائع في المبيع بعد قبض المشتري له.

اللهم إلا أن يقال: الضرر في المقام لو حصل يستند للزوم العقد بمجموعه في حق الشارط، فيتعين ارتفاعه، وليس هو كالضرر الحاصل من أمر أجنبي عن العقد.

فلاحظ.

الثالث: ما يظهر من السيد الطباطبائي (قده) في حاشيته من رجوع الاشتراط في العقد إلي تعليق لزوم البيع في حق المشترط بتحقق الشرط، وأنه لو لم يتحقق لم يلزم البيع عليه.

وهو راجع إلي اشتراط الخيار بتخلف الشرط، فيكون الدليل علي ثبوته أدلة الخيار المذكور، ومنها عمومات نفوذ الشرط.

وعلي ذلك جري بعض مشايخنا (قده) فيما يظهر من تقرير درسه.

لكن سبق منا عند الكلام في اشتراط عدم فسخ العقد في تتمة الكلام في اشتراط سقوط خيار المجلس أن مفاد الاشتراط يتمحض في جعل الشرط حقاً للشارط علي المشروط عليه بنحو يلزم به من دون نظر لحكم تخلفه.

ولذا سبق أنه لا يلزم التهافت ارتكازاً من اشتراط عدم فسخ العقد، مع أنه لا موضوع معه للخيار عند التخلف.

كما يقع الشرط في العقود التي يعلم المتعاقدان بعدم ثبوت الخيار فيها كالنكاح، مع ظهور أن مفاد الاشتراط فيها لا يختلف عنه في غيرها.

ومن هنا لا يكون ارتباط الشرط بالعقد إلا بلحاظ الارتباطية بينهما في مقام الجعل والإنشاء والإلزام والالتزام، من دون أن يناط العقد بالشرط، لا بلحاظ أصل مضمونه، ولا بلحاظ لزومه.

نعم قد يتوجه المتعاقدان حين الاشتراط إلي إرادة شرط الخيار بتخلف الشرط فقط من دون إلزام بالشرط وجعل علي المشروط عليه، نظير ما تقدم في اشتراط غير

ص: 33

التمكن من الإجبار (1).

-

المقدور، أو مع إلزامه به وجعله عليه.

لكن ذلك خارج عن مقتضي الاشتراط بطبعه، ويحتاج إلي مؤنة خاصة.

ومن هنا كان الظاهر انحصار الوجه في اطراد ثبوت الخيار بتخلف الشرط ببناء العقلاء.

لابتناء لزوم العقود عندهم علي قيام جميع الأطراف بمقتضاها، ومع تخلف أحد الأطراف عن ذلك لا يكون العقد ملزماً للآخرين، بل لهم رفع اليد عنه الراجع لفسخه، وحيث كان الشرط جزءاً من مضمون العقد، ولذا سبق الاستدلال علي نفوذه بعموم نفوذ العقود، تعين بنظرهم جواز الفسخ بتخلفه.

كما أن دليل نفوذ العقد شرعاً وإن كان مطلقاً، إلا أن مفاده لما كان ارتكازياً فهو ينصرف إلي خصوص موارد نفوذه ارتكازاً.

والظاهر أن ما ذكرناه هنا يجري في تخلف الوصف، حيث يظهر منهم المفروغية عنه من دون أن يتعرض المشهور لدليله.

وحينئذ يمكن الاستدلال عليه بالوجوه المتقدمة، ومنها ما ذكرناه، وهو الأظهر، لأن الوصف وإن لم يكن جزءاً من العقد، بل هو كالداعي المقارن، إلا أن ابتناء العقد عليه يقتضي ثبوت الخيار بتخلفه تبعاً للمرتكزات العقلائية، فيجري فيه ما سبق.

نعم قد تقوم القرينة فيه علي ابتناء ذكره علي اشتراط الخيار بتخلفه زائداً علي مفاد التوصيف، ولا إشكال حينئذ في كون خيار تخلفه من صغريات شرط الخيار، نظير ما سبق في الشرط.

(1) كما يظهر من الروضة وعن كفاية السبزواري وعوائد النراقي، ومال إليه في الجواهر، وجزم به شيخنا الأعظم (قده).

وكأنه للاقتصار علي المتيقن في الخروج عن عموم لزوم العقد، كما ذكر ذلك سيدنا المصنف (قده) في حاشيته القديمة.

وفي التذكرة: «لو باعه شيئاً بشرط أن يبيعه آخر، أو يقرضه بعد شهر أو في

ص: 34

الحال، لزمه الوفاء بالشرط.

فإن أخل به لم يبطل البيع.

لكن يتخير المشتري بين فسخه للبيع وبين إلزامه بما شرط».

وقد حاول شيخنا الأعظم (قده) توجيهه بأن فسخ المشروط له مع امتناع المشروط عليه من إنفاذ العقد علي وجهه الذي وقع عليه بفعل الشرط بمنزلة التقايل.

لكن لا وجه للتنزيل المذكور بعد ابتناء التقايل علي اتفاق الطرفين علي الفسخ غير الحاصل في المقام، لعدم استلزام امتناع المشروط عليه من تنفيذ الشرط الرضا بفسخ العقد من أصله.

ولعله لذا لم يعرج (قده) علي ذلك، وذهب إلي توقف الخيار علي تعذر الإجبار.

هذا وقد بني السيد الطباطبائي وبعض مشايخنا (قدس سرهما) جواز الفسخ مع القدرة علي الإجبار علي ما سبق منهما في وجه الخيار من أن لزوم العقد معلق علي تحقيق المشروط عليه للشرط.

لكن إن كان المدعي أن المعلق عليه هو عدم تحقيقه للشرط باختياره لزم ثبوت الخيار مع تحقيقه له عن إكراه وإجبار، ولا يظهر منهم البناء عليه.

وإن كان تحقيقه له في أول أزمنة استحقاقه لزم ثبوت الخيار لو تأخر وإن حققه بعد ذلك.

والذي ينبغي أن يقال: الشرط إن لم يكن موقتاً أصلاً، فإن قلنا بعدم صحته خرج عن محل الكلام، وإن قلنا بصحته فلا ينبغي الإشكال في عدم ثبوت الخيار، وعدم جواز الإجبار عليه، لعدم تعدي المشروط عليه في عدم فعله مهما طال الزمان.

ولعله خارج عن محل كلامهم.

وإن كان موقتاً فلا مجال للإجبار عليه قبل الوقت من أجل تحقيقه أول الوقت، لعدم مخالفته المشروط عليه بعد، وعدم تعديه علي الشارط، ليسوغ له الإجبار عليه.

غاية الأمر أنه قد يجوز إجباره من باب الأمر بالمعروف بشروطه، وهو خارج عن محل الكلام.

ص: 35

أما بعد حلول وقته فإن حققه في أول الوقت اختياراً أو عن إكراه فلا إشكال ظاهراً في عدم الخيار فيما هو الغالب ولعله محل الكلام من كون المشروط هو مطلق الفعل، لا المقيد بالاختيار.

أما لو لم يحققه في أول الوقت فقد تحقق موضوع الخيار، وهو مخالفة الشرط بالإضافة إلي الوقت، فيتعين ثبوت الخيار.

والقدرة علي الإجبار إنما تقتضي إمكان تحقق ذات الشرط، دون خصوصية الوقت المشروط، فلا وجه لمنعها من ثبوت الخيار.

نعم لو كان الوقت مأخوذاً بنحو تعدد المطلوب كما هو الغالب فللشارط غض النظر عن التأخير الذي حصل والمطالبة بتحقيق الشرط، بل الإجبار عليه، لأنه بعض حقه، وله إعمال الخيار الثابت له بسبب فوت الوقت.

هذا مضافاً إلي أن ذلك مقتضي سيرة المتشرعة، بل مطلق العقلاء، تبعاً لمرتكزاتهم التي عليها المعول في ثبوت الخيار.

لما هو الظاهر من توقف الإجبار غالباً علي مؤنة ليس بناؤهم علي تحملها إلا مع اهتمامهم بالحفاظ علي العقد وتحصيل الشرط ولو بعد الوقت.

ومن ذلك يظهر عدم الفرق بين كون الشرط أجنبياً عن العوضين، وكونه من شؤونهما، كالمبادرة بالتسليم والتسلم.

وأما ما يظهر من شيخنا الأعظم (قده) من خصوصية الثاني في تعين الإجبار.

قال (قده): «لأن كلاً منهما قد ملك ما في يد الآخر، ولا يخرج عن ملكه بعدم تسليم صاحبه، فيجبران علي ذلك».

ففيه: أن عدم خروج كل منهما عن ملك من دخل في ملكه بالمعاملة بامتناع الآخر عن تسليم ما عنده لا ينافي ثبوت الخيار لفوت المبادرة بالتسليم المشروطة ضمناً أو صريحاً، وبعد الفسخ يرجع كل منهما لمن كان له قبل المعاملة.

إلا أن يبتني كلامه (قده) علي فرض عدم اشتراط المبادرة بالتسليم صريحاً،

ص: 36

(37)

اذا لم يتمكن المشروط عليه من فعل الشرط

(مسألة 65): إذا لم يتمكن المشروط عليه من فعل الشرط كان للمشروط له الخيار في الفسخ (1).

وليس له المطالبة بقيمة الشرط (2)، سواء كان عدم التمكن لقصور فيه.

كما لو اشترط عليه صوم يوم فمرض فيه، أو كان لقصور في موضوع الشرط، كما لو اشترط عليه خياطة ثوب

---------------

وإنكار اشتراطه ضمناً.

فيخرج عن محل الكلام.

ويأتي الكلام فيه في الفصل السابع إن شاء الله تعالي.

(1) لما سبق.

لكن سبب الخيار عدم تحقق الشرط، سواءً تعذر أم أمكن ولم يحققه المشروط عليه حتي خرج وقته.

بل سبق الاكتفاء في الخيار بعدم المبادرة لتحقيق الشرط بحلول وقته.

(2) تعرض شيخنا الأعظم (قده) لاحتمالين في المقام: الأول: ثبوت الأرش بتخلف الشرط.

وهو فرق ما بين الثمن مع الشرط والثمن بدونه، لكن بنسبته إلي الثمن الذي تضمنه البيع.

قال في التذكرة فيما لو بيع العبد بشرط العتق: «لو قتله المشتري أو مات أو تلف سواءً كان بتفريطه أو لا لم يجب شراء غيره.

لكن يرجع البائع بما يقتضيه شرط العتق، فيقال: كم قيمته لو بيع مطلقاً، وبشرط العتق ؟ فيرجع البائع بالنسبة من الثمن فإذا قيل: إنه يساوي مائة بغير شرط وتسعين بشرط العتق.

زيد علي الثمن تسعة».

ونحوه ما عن الصيمري في شرط التدبير لو امتنع المشتري عن تنفيذ الشرط.

وعليه في الجملة جري السيد الطباطبائي (قده) في حاشيته.

بدعوي: أن للشرط قسطاً من الثمن لباً، فعدم سلامته يوجب الأرش لتبعض الصفقة.

نعم خصه بما إذا انكشف تعذر الشرط من أول الأمر، حيث ينكشف عدم ملكية الشارط له بالعقد، فيبقي له ما يقابله من الثمن، كما في سائر موارد تبعض الصفقة.

أما إذا كان مقدوراً ثم طرأ التعذر بعد البيع فقد ملك الشارط الشرط، ولم

ص: 37

تتبعض الصفقة له، فتعذره بعد ذلك يقتضي ضمان المشروط عليه للشرط بقيمته مهما بلغت، إلا بناءً علي أن التعذر بمنزلة تلف المبيع قبل قبضه يوجب انفساخ البيع فيه، فتتبعض الصفقة ويثبت للشارط الأرش.

وفيه: أن المعاملة متقومة بالمضمون المنشأ، وحيث كان الشرط خارجاً عن طرفي المعاوضة المنشأة فلا وجه لتقسيط الثمن عليه.

ومجرد كونه موجباً لزيادة الثمن لا يوجب تقسيط الثمن عليه بعد عدم مقابلته به.

ولاسيما أن الشرط قد يوجب نقص الثمن، كما هو مورد كلام العلامة والصيمري (قدس سرهما)، وضمانه بالأرش يرجع إلي فرض زيادة الثمن، مع أنها غير مقصودة قطعاً.

غاية الأمر أن المبيع لو بيع بلا شرط لزاد ثمنه.

لكنه لم يبع كذلك ولم يزد ثمنه.

نعم لو رجع الشرط إلي اشتراط الإجارة، كما لو كان ثمن الثوب عشرة، وأجرة الخياطة خمسة، ورجع بيع الثوب علي أن يخيطه بخمسة عشر إلي بيع الثوب بعشرة والاستئجار علي الخياطة بخمسة وإيقاعهما صفقة واحدة اتجه ذلك.

لكنه خروج عن محل الكلام من فرض اشتراط العمل إلي فرض الإجارة عليه.

مع أن اللازم ضمان الأجرة التي وقع الاتفاق عليها، لا الأرش بالمعني المتقدم الذي قد يزيد أو ينقص.

وبالجملة: لا مجال للبناء في محل الكلام علي ضمان الأرش بعد فرض خروج الشرط عن موضوع المعاوضة.

وثبوته في العيب مع خروج وصف السلامة عن موضوع المعاوضة للدليل الخاص لا يقتضي ثبوته في المقام.

ولاسيما أن الشرط قد يوجب نقص الثمن، فضمانه بالأرش يستلزم كونه أمراً زائداً علي الثمن يجب علي المشتري دفعه للبائع، وليس هو نظيراً للأرش في العيب، بل نظير ما لو باعه السالم بثمن المعيب بتخيل كونه معيباً، فإن ضمان وصف السلامة بالأرش يرجع إلي لزوم دفع المشتري للبائع فرق ما بين السالم والمعيب بنسبته من الثمن زيادة عليه، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك.

وبذلك يظهر الإشكال فيما تقدم

ص: 38

من العلامة وعن الصيمري.

وأشكل منه ما تقدم عن الصيمري من ثبوت الأرش المذكور بامتناع المشروط عليه من فعل الشرط، لا بتعذر الشرط.

إذ لا وجه لضمان الشرط بالبدل مع إمكانه، بل يتعين استحقاقه لا غير، وعدم الانتقال للبدل إلا باتفاق جديد.

الثاني: ضمان الشرط بقيمته الواقعية.

قال في التذكرة: «لو شرط علي البائع عملاً سائغاً تخير المشتري بين الفسخ والمطالبة به أو بعوضه إن فات وقته وكان مما يتقوم... ولو لم يكن مما يتقوم تخير بين الفسخ والإمضاء مجاناً».

وقال أيضاً: «لو كان الشرط علي المشتري... تخير البائع بين الفسخ والإمضاء بقيمة الفائت إن كان مما له قيمة، وإلا مجاناً».

لكن ذلك منه (قده) لا يناسب ما سبق في شرط العتق من ثبوت الأرش.

لظهور أن العتق إن كان له قيمة فما ذكره هنا يقتضي ضمانه بقيمته لا بالأرش.

وإن لم يكن له قيمة كما هو الظاهر فما سبق منه من ضمان العتق بالأرش لا يناسب ما ذكره هنا من الإمضاء فيما لا قيمة له مجاناً.

وكيف كان فقد يوجه أصل الضمان بأنه مقتضي ملكية العمل علي المشروط عليه بمقتضي الشرط، بناء علي ما سبق من عدم تمحض الشرط في التكليف، والرجوع للقيمة بأنها الأصل في الضمان بعد تعذر تسليم المملوك القيمي.

وفيه: أولاً: أنه لا يتم فيما لو تعذر الشرط رأساً، كما لو شرط عليه أن يعلّم عبده الكتابة في شهر رمضان فمات العبد في شعبان، أو شرط عليه أن يصوم يوماً معيناً فمرض فيه.

لظهور انكشاف عدم ملكية الشرط في ذمة المشروط عليه.

وثانياً: أن المتيقن من بناء العقلاء علي الضمان للأعمال والمنافع هو مورد الاستيفاء.

ولم يتضح بناؤهم عليه في غير ذلك، وبمجرد التعذر.

ولعله لذا كان بناؤهم علي أنه إذا تعذر العمل المستأجر عليه بعد القدرة عليه تنفسخ الإجارة، ويرجع الثمن، من دون أن يضمن العمل بقيمته.

ص: 39

فتلف (1).

وفي الجميع له الخيار لا غير.

-

وذلك وإن أمكن أن يكون نظير تلف المبيع قبل قبضه الموجب لانفساخ البيع يبتني علي عدم استقرار المعاوضة إلا بالتسليم، إلا أنه لا طريق معه لإحراز بناء العرف والعقلاء علي ضمان الأعمال بالقيمة عند التعذر.

وثالثاً: أن الشرط وإن اقتضي استحقاق الأمر المشروط الذي هو نحو من الملكية، إلا أن الأمر المستحق هو الأمر المشروط بما هو بخصوصيته، لا بلحاظ ماليته، ليتعين حفظ ماليته عند تعذر خصوصيته.

وهذا بخلاف المعاوضات، حيث تبتني علي ملكية العوض بما هو مال مقابل بالمال.

وقد يرجع إلي ذلك ما عن بعض الأعاظم (قده) في المقام.

وهو محتاج إلي مزيد من التأمل.

(1) وسواء كان تعذر الشرط قهراً أم بسبب الشارط أم بسبب المشروط عليه ولو تقصداً.

غايته أن المشروط عليه يكون معتدياً في الصورة الأخيرة.

ثم إن سيدنا المصنف (قده) لم يتعرض لكثير من الفروع المتعلقة بأحكام الشرط.

فيحسن بنا التعرض لما هو المهم منها في ضمن مسائل.

المسألة الأولي: بعد ما تقدم في المسألة الثالثة والستين من وجوب الوفاء بالشرط وتحقيقه من قبل المشروط عليه، فالمتعين عدم جواز تصرف المشروط عليه تصرفاً يمنع من تنفيذ الشرط، لما فيه من تعجيز نفسه عن امتثال التكليف بالوفاء بالشرط.

لكن التصرف إذا كان خارجياً فلابد من وقوعه تبعاً لسببه التكويني، كما إذا شرط عليه أن يلبس الثوب فأحرقه.

أما إذا كان اعتبارياً كما إذا باعه أرضاً واشترط عليه أن يوقفها مسجداً أو يبيعها لزيد أو نحو ذلك فهل يقع التصرف ويحرم كالتصرف الخارجي، أو لا يقع لمنافاته للشرط؟ الظاهر وقوعه بناء علي تمحض وجوب الوفاء بالشرط في التكليف.

إذ غاية

ص: 40

(41)

عدم جواز تصرف المشروط عليه ما يمنع من فعل الشرط

الأمر حرمة التصرف المذكور.

وهي لا تقتضي الفساد في المعاملة علي التحقيق.

أما بناءً علي ما تقدم من رجوع وجوب الوفاء بالشرط إلي كونه حقاً للشارط، يجب إنفاذه وأداؤه، فالظاهر عدم صحة التصرف، كما ذهب إليه شيخنا الأعظم (قده).

لقصور سلطنة المشروط عليه عنه بعد منافاته للشرط الذي هو حق الشارط.

وعن بعض مشايخنا (قده) (قده) نفوذ التصرف الواقع علي العين، لأن الحق متعلق بالعقد، وليس هو كحق الرهانة متعلقاً بالعين، ليكون التصرف فيها منافياً للحق الثابت فيها.

وفيه: أن الأمر المشروط الذي يستحقه الشارط وإن كان هو التصرف الخاص المتعلق بالعين من بيع أو وقف أو غيرها، لا نفس العين، إلا أن تعلق التصرف المستحق بالعين يجعلها موضوعاً للحق، بحيث لا يمكن إطلاق السلطنة عليها بنحو تشمل التصرف المانع من تحقق التصرف المستحق بالشرط، فإن المهم في المقام هو قصور السلطنة عليه.

وإلا فتعلق حق الرهانة بالعين ليس من جهة استحقاقه لها، بل من جهة استحقاقه استيفاء دينه منها بنحو يمنع من إطلاق السلطنة عليها، بحيث تشمل التصرف المانع من ذلك.

والحاصل: أنه يتعين البناء علي عدم نفوذ التصرف المنافي لمقتضي الشرط بناءً علي ما سبق منّا من كون الشرط موجباً لاستحقاق الشارط الأمر المشروط.

نعم حيث كان المانع من نفوذ الشرط منافاته لحق الشارط، ولسلطنته علي حقه، تعين صحته إذا وقع بإذن الشارط، أو أجازه بعد وقوعه، لأنه من صغريات عقد الفضولي الذي ينفذ بالإجازة، لأن المعيار فيه منافاة التصرف لسلطنة الغير وإن لم يكن مالكاً، ويكفي فيه إجارته.

خلافاً للمحقق التستري (قده)، فخصه بما إذا كان التصرف منافياً لسلطة المالك، وأنه هو الذي ينفذ بالإجازة.

أما إذا كان منافياً لسلطنة غير المالك كالمرتهن والشارط في المقام فيقع التصرف باطلاً، ولا تصححه الإجازة.

وقد تقدم تفصيل

ص: 41

الكلام في ذلك في المسألة التاسعة من فصل شروط العوضين.

فراجع.

المسألة الثانية: إذا تخلف الشرط وقد تغيرت العين أو تلفت فهل يسقط الخيار، نظير ما تقدم في العيب، أو يثبت ويتعين مع الفسخ الانتقال للبدل من المثل أو القيمة مع تلف العين، ورجوع العين مع ضمان نقصها أو ثبوت حق الآخر فيها مع تغيرها بنقص أو زيادة، علي نحو ما تقدم منهم في خيار الغبن.

وقد تقدم في خيار الغبن أن تلف العين لا يوجب ارتفاع موضوع الخيار، لأن موضوع الخيار هو العقد، لا العين.

غاية الأمر أن أدلة خيار الغبن تقصر عن صورة تلف العين أو تغييرها.

وقد يجري ذلك في المقام، لما سبق من أن دليل الخيار في المقام هو بناء العقلاء، والمتيقن منه صورة عدم تغير العين، فضلاً عن تلفها.

وكذا لو قيل بأن الخيار المذكور من صغريات شرط الخيار، لرجوع الاشتراط إلي اشتراط الخيار بتخلف الشرط، حيث يقرب فيه انصراف اشتراط الخيار إلي صورة عدم تغير العين.

لكن حيث لم يتضح لنا رجوع الشرط إلي اشتراط الخيار فلا يتيسر لنا تشخيص حدود الخيار المشترط.

نعم قد يتضح رجوع الاشتراط إلي ذلك بقرائن زائدة علي مفاد الاشتراط، كما تقدم.

وكذا لو ابتني الاشتراط علي خروج الشرط عن القدرة.

حيث سبق لغوية الشرط بمعني الإلزام والالتزام، وأنه قد يتمحض الاشتراط فيه في اشتراط الخيار بتخلف الشرط.

وحينئذ يكون الخيار المشترط تابعاً سعة وضيقاً للقرائن المحيطة بالمعاملة.

وأما حكم العرف بثبوت الخيار بتخلف الشرط فيصعب البناء علي اختصاصه بصورة بقاء العين علي حالها فيما لو كانت العين عند المشروط عليه، حيث يتيسر له منع الخيار بتغيير العين أو إتلافها ثم مخالفة الشرط.

وفي ذلك إضرار بالشارط.

لكن في كفاية ذلك في البناء علي عموم الخيار إشكال.

ص: 42

(43)

لصاحب الشرط اسقاط شرطه

ثم إنه لو تعذر الشرط وقد خرجت العين عن ملك المشروط عليه بتصرف ناقل من بيع أو هبة أو نحوهما.

فإن قلنا بقصور خيار تخلف الشرط عن صورة تغير العين أو تلفها تعين سقوطه في المقام، لأنه بحكم التلف في تعذر رجوع العين بحالها للبائع.

أما إذا قلنا بعدم سقوطه بذلك فالمتعين الرجوع للبدل، وليس له إلزام المشتري بإرجاع العين لو أمكنه ذلك نظير ما تقدم منهم في خيار الغبن فضلاً عن أن يرجعها هو بفسخ العقد الثاني، لعدم كونه متعلقاً به.

نعم لو كان منشأ خيار تخلف الشرط هو اشتراط الخيار بتخلفه لقرائن خاصة محيطة بالكلام علي ما سبق أمكن رجوع الاشتراط المذكور للمنع من التصرف الناقل في العين قبل تحقيق الشرط، أو علي تقدير عدم تحقيقه، وحينئذ يكون التصرف المذكور منافياً للشرط، فيتوقف نفوذه علي إذن صاحب الشرط أو إجازته، لما تقدم في المسألة السابقة.

المسألة الثالثة: لصاحب الشرط إسقاط شرطه بناءً علي ما سبق من أنه لا يتمحض في التكليف، بل هو حق للشارط، إذ لصاحب الحق التنازل عن حقه ارتكازاً إلا أن يثبت بدليل خاص عدم سقوط الحق بالإسقاط، فيكون رادعاً عن مقتضي الارتكاز المذكور أما بناءً علي تمحض الشرط في التكليف فسقوطه بالإسقاط مناف لإطلاق دليل الإمضاء.

ودعوي: أن موضوع التكليف المستفاد من الإمضاء لما كان هو الشرط فبقاؤه تابع لبقاء الشرط.

ومع فرض إسقاطه وارتفاعه فلا موضوع للتكليف بالشرط، ليكون ارتفاع التكليف منافياً لإطلاق دليله.

مدفوعة بأن موضوع الإمضاء هو الاشتراط بالمعني المصدري، كما هو الحال في إمضاء العقد واليمين والنذر وغيرها، وإلا فالعناوين المذكورة لا بقاء لها، ليكون هو موضوع الإمضاء والأحكام.

وليست هي كالطهارة والنجاسة والملكية والرقية والحرية ونحوها مما يكون له بقاء بالمعني الاسم المصدري، ويكون هو موضوع

ص: 43

الأحكام.

ومن الظاهر أن إسقاط الشرط لا يقتضي ارتفاع الاشتراط بالمعني المصدري، ليرتفع به موضوع الإمضاء، ومع بقاء موضوع الإمضاء، يكون ارتفاع التكليف بالإسقاط منافياً لإطلاقه.

فلاحظ.

هذا وقد استثني في التذكرة والإيضاح والدروس وعن غيرها شرط العتق، فلا يسقط بإسقاط المشتري، وإن كان حقاً له، لأنه حق لله تعالي أيضاً، كما في الإيضاح، أو له تعالي وللعبد، كما في التذكرة والدروس.

وبه صرح في جامع المقاصد.

قال: «والتحقيق في ذلك أن العتق فيه معني القربة والعبادة، وذلك حق لله تعالي، وزوال الحجر، وهو حق العبد، وفوات المالية علي الوجه المخصوص للقربة، وهو حق للبائع».

لكن الموجب لكون الشرط حقاً للبائع ليس هو خسارته لبعض المال من أجله أو انتفاعه به بلحاظ كونه قربياً، بل هو تضمن الاشتراط استحقاقه، وإمضاء ذلك شرعاً، وهو مختص بالبائع، ولا يجري في حق الله سبحانه وإن كان عبادة له، ولا في حق العبد وإن كان ينتفع به.

علي أن جهات القربة والجهات التي ينتفع بها غير المشترط كثيرة، لا يظهر منهم البناء علي تعدد المستحقين لها مع الشرط.

وما الفرق بين العتق ومثل بناء المسجد والمدرسة وصلاة النيابة وتدريس بعض الناس وغير ذلك ؟! وهل يمكن البناء مع اشتراطها علي عدم سلطنة المشترط علي إسقاط الشرط؟!.

والحاصل: أنه يتعين البناء علي عموم سقوط الشرط بالإسقاط بعد كونه حقاً للمشترط.

نعم إذا لم يوجب حقاً للمشترط يتجه عدم سقوطه بالإسقاط، كما نبه لذلك شيخنا الأعظم (قده) قال: «للمشروط إسقاط شرطه إذا كان مما تقدم يقبل الإسقاط، لا مثل اشتراط مال العبد وحمل الدابة».

والوجه في ذلك: أن الإسقاط لا يرفع نفوذ الشرط، كالفسخ، بل يرفع الشرط المملوك في فرض نفوذ الشرط، وذلك إنما يتجه فيما إذا كان مفاد الشرط

ص: 44

(45)

جزيية الشرط من مضمون العقد وعدم انحلاله

متعلقاً بالمشروط عليه، بحيث يقتضي نحواً من الثقل عليه والمسؤولية، كالعمل والعين الذمية وحق الخيار في عقده ونحو ذلك، حيث يرجع الإسقاط إلي رفع الثقل والمسؤولية عنه.

أما إذا كان مفاده ملكية المشترط لعين خارجية، فلا مجال لإسقاطها بعد ملكيتها، لعدم ابتناء ملكيتها علي مسؤولية شخص بها، لترتفع تلك المسؤولية بالإسقاط.

فلاحظ.

المسألة الرابعة: تقدم في المسألة العشرين من فصل شروط المتعاقدين في حكم ما إذا باع الإنسان ماله مع مال غيره أن العقد لا ينحل حقيقة إلي عقود متعددة بانحلال أجزاء مضمونه.

ومقتضي ذلك قصور عموم نفوذ العقد عن تمام مضمون العقد إذا لم ينفذ في بعضه.

كما تقدم في أول الكلام في أحكام الشرط أن الشرط جزء من مضمون العقد.

ومقتضي ذلك أن يكون فساد الشرط مانعاً من عموم النفوذ للعقد المشتمل عليه.

كما لا مجال للاستدلال علي نفوذ البيع وحده في المقام بما دلّ علي نفوذ خصوص البيع.

فإن الشرط وإن كان خارجاً عن البيع، إلا أن دليل نفوذ البيع بخصوصيته ينحصر بقوله تعالي: (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)(1) ، وهو ظاهر في نفوذها علي النحو الذي وقع عليه الرضا بها، ومن الظاهر أن الرضا بالتجارة في المقام إنما كان مع الشرط، فمع فرض عدم نفوذ الشرط لا مجال لنفوذ البيع وحده.

وأما قوله تعالي: (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (2) فقد سبق في أول كتاب التجارة عدم ثبوت الإطلاق له، لعدم وروده في مقام تشريع نفوذ البيع، بل لاستنكار تشبيه الربا به بعد الفراغ عن حليته في نفسه وحرمة الربا في نفسه.

فراجع.

علي أنه لو تم إطلاقه فهو ينصرف إلي حليته علي النحو الذي وقع عليه، فإذا وقع مبنياً علي الشرط لا مجال للبناء علي صحته مع بطلان الشرط.

وبالجملة: لا مجال

********

(1) سورة النساء الآية: 29.

(2) سورة البقرة الآية: 275.

ص: 45

في المقام للبناء علي نهوض عمومات النفوذ بإثبات صحة العقد مع بطلان الشرط.

نعم تقدم في المسألة المذكورة أن صحة العقد في بعض مضمونه من الأحكام العرفية الارتكازية التي عليها المعول ما لم يثبت الردع عنها.

ولا ينبغي الإشكال في ذلك في المقام فيما إذا كان بطلان الشرط لعدم القدرة عليه إذا أوقع بتخيل القدرة عليه ولو من أحد الطرفين، بحيث تم القصد إلي بناء العقد عليه وربطه به.

إذ ليس بناؤهم في مثله علي بطلان العقد لو انكشف التعذر، بل غايته ثبوت الخيار، كما تقدم من المبسوط ومحكي جواهر القاضي وغيرهما.

أما إذا ابتني العقد علي عدم القدرة علي الشرط، فحيث كان الشرط لاغياً ارتكازاً، إذ لا معني للالتزام بما هو غير مقدور.

فإن رجع الشرط إلي عدم قصدهما للعقد تعين عدم وقوعه.

وإن رجع إلي لغوية الشرط وحده مع القصد لإيقاع العقد مجرداً عنه تعين صحة العقد ولزومه وإن لم يحصل الشرط.

وإن رجع إلي مجرد اشتراط الخيار بتخلفه تعين العمل علي ذلك.

وأظهر من ذلك ما إذا كان بطلان الشرط لعدم ذكره في ضمن العقد صريحاً ولا ضمناً.

لرجوعه في الحقيقة إلي إطلاق العقد، من دون أن يبتني علي الشرط.

ولا إشكال حينئذ في صحة العقد ولزومه.

وأما إذا كان لمخالفته للكتاب والسنة فيكفي في البناء علي صحة العقد النصوص الواردة في من اشترط الولاء لغير المعتق(1) ، أو باع الجارية واشترط أنها لا تورث(2) ، وما ورد في الشروط الفاسدة في النكاح(3) ، وفي المكاتبة(4).

لظهور بعضها وصراحة أكثرها في صحة العقد الذي وقع فيه الشرط.

********

(1) راجع: وسائل الشيعة ج: 14 باب: 52 من أبواب المهور.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 15 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1.

(3) راجع: وسائل الشيعة ج: 15 باب: 10، 20، 29، 38، 39، 40 من أبواب المهور، وباب: 13 من أبواب مقدمات الطلاق وشروطه.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 15 من أبواب كتاب المكاتبة.

ص: 46

(47)

بطلان الشرط بالفسخ او التقايل

نعم إذا كان بطلان الشرط لمخالفته لمقتضي العقد بالمعني المتقدم فلا ينبغي الإشكال في بطلان العقد معه، لخلل في إنشائه، كما تقدم عند الكلام في بطلان الشرط المخالف لمقتضي العقد.

ومثله ما إذا أوجب الشرط محذوراً شرعياً في العقد نفسه، كاشتراط الزيادة في الربويين.

وما ألحق به، مثل ما تقدم في من باع شيئاً بثمن واشترط علي المشتري أن يبيعه عليه بثمن آخر، حيث يظهر من نصوصه المتقدمة بطلان البيع الأول لإلحاقه بالربا.

لكنه خارج عن محل الكلام، لظهور أن الكلام في استناد فساد العقد لفساد الشرط، دون مثل المقام مما كان فساد العقد مستنداً للشرط نفسه مع قطع النظر عن فساد.

هذا وظاهر نصوص الشرط المخالف للكتاب والسنة المتقدمة إليها الإشارة عدم الخيار في العقد بتخلف الشرط لا ببطلانه.

لأن الاقتصار فيها علي بطلان الشرط وجواز مخالفته، من دون تنبيه لتدارك ضرر تخلفه علي صاحبه بالخيار، ظاهر في عدم ثبوت الخيار.

ولاسيما مع ظهورها في المفروغية عن ترتيب آثار العقد من دون تنبيه لاحتمال فسخه.

ومع كون الخيار قد يؤدي مؤدي الشرط الفاسد، كما في اشتراط الطلاق.

المسألة الخامسة: لما كان الشرط من شؤون العقد، ففسخ العقد بالتقايل أو بالخيار لابد أن يستلزم بطلان الشرط.

وعلي هذا جري الأصحاب من غير خلاف يعرف، بل الظاهر مفروغيتهم عنه.

لكن استجدت في عصورنا الشروط الجزائية المبنية علي اشتراط خسارة مالية علي من يتخلف عن مقتضي العقد بتأخير تسليم الثمن أو نحوه أو علي من يفسخه.

ولا إشكال في الأول، إذ بعد عدم فسخ العقد يتعين نفوذ الشرط تبعاً له.

وإنما يقع الكلام في الثاني، حيث قد يدعي أن فسخ العقد مستلزم لبطلان الشرط تبعاً له،

ص: 47

فكيف يترتب أثره بالفسخ ؟!.

لكن الظاهر صحة الشرط المذكور، لأن الفسخ الذي يكون موضوعاً للشرط في ذلك ليس هو فسخ العقد بتمامه، كما في التقايل، أو شرط الخيار إلي أمد معين، الذي قد يجعل حتي في مثل هذه العقود، بل فسخ بعض مضمونه بعد بقاء العقد الذي يجعل فيه الشرط.

فإذا باعه الدار مثلاً، واشترط له الخيار إلي شهر، وأنه فسخ بعد الشهر كان عليه عشرون مثقالاً من الذهب، رجع العقد إلي أمور: الأول: يبيع الدار بالثمن الخاص.

الثاني: اشتراط الخيار في العقد بتمامه إلي شهر للمشتري.

الثالث: اشتراط الخيار في خصوص البيع بعد الشهر له أيضاً، لكن مع دفع عشرين مثقالاً من الذهب علي تقدير الفسخ.

وحينئذ إذا فسخ المشتري في ضمن الشهر بطل العقد بتمامه بما في ذلك الشرط، لارتفاع موضوعه.

وكذا إذا تقايلا في العقد، لما سبق من أن الشرط من جملة العقد.

أما إذا فسخ المشتري بعد الشهر، فالفسخ المجعول له ليس هو فسخ العقد بتمامه، ليبطل معه الشرط، كما لو تقايلا حينئذ، بل هو فسخ خصوص البيع منه.

ولا مانع مع ذلك من لزوم الشرط بعد عدم فسخ العقد بتمامه، بل هو المتعين، عملاً بعموم لزوم الشرط.

ودعوي: أن ذلك لا يناسب ما سبق منّا عند الكلام في بيع الشرط من امتناع التبعيض في فسخ العقد الواحد.

مدفوعة بأن ذلك إنما يتم إذا ابتني العقد علي الارتباطية، كما في بيع جملة بجملة، أو البيع والشرط من دون تصريح بالتفكيك، أما مع تعدد المضمون، والتصريح بالتفكيك بينهما في نفس العقد، فلا محذور في ذلك، لعدم منافاته لوضع العقد.

بل الحال في المقام أظهر، لأن أحد المضمونين مترتب علي فسخ الآخر، فيكون التبعيض

ص: 48

مقتضي نفس العقد.

وإن شئت قلت: العقد المذكور مما لا يستنكره العرف، تبعاً لمرتكزاتهم، وليس هو كلزوم العمل بالشرط مع فسخ العقد من أصله، فلا منشأ لقصور أدلة الإمضاء عنه.

فلاحظ.

والله سبحانه وتعالي العالم.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 49

ص: 50

(51) (51)

الفصل الخامس/ في احكام الخيار (1)

اشارة

وفيه مسائل:

---------------

(1) لم يشر سيدنا المصنف (قده) إلي الكلام في أن ترتب أثر العقد وتبادل العوضين في الملكية هل يكون بنفس العقد أو بانقضاء زمن الخيار.

والظاهر مفروغيته تبعاً للمشهور عن الأول.

خلافاً للشيخ في بعض كلماته في المبسوط والخلاف وابن سعيد في الجامع، وحكي عن ابن الجنيد، وتبعهم في الجملة بعض متأخري المتأخرين.

وإن كانت كلمات الشيخ لا تخلو عن اضطراب.

وكذا كلام ابن سعيد، حيث حكم بأن نماء المبيع للمشتري، وهو لا يتناسب مع بقائه علي ملك البائع.

ولا يسعنا فعلاً استقصاء الأقوال ومتابعة كلماتهم، وقد أطال في ذلك في مفتاح الكرامة.

وإنما المهم تحقيق أصل الحكم.

ومن الظاهر أن مقتضي عموم نفوذ العقد والتجارة عن تراض هو حصول الملك بنفس العقد.

وهو المنساق من أدلة الخيار، لأن إعماله ارتكازاً بفسخ البيع والرجوع فيه، وهو فرع نفوذه وترتب الأثر عليه.

ويؤكد ذلك النصوص المتضمنة سقوط الخيار ولزوم البيع بالتصرف،

ص: 51

لظهورها في المفروغية جواز التصرف وترتيب أثر الملك في زمن الخيار، لا أن الملك لا يحصل والتصرف لا يحل حتي يلزم البيع بالرضا بالعقد أو إسقاط الخيار في مرتبة سابقة علي التصرف.

وكذا النصوص الدالة علي أنه إذا اشتري شخص من آخر شيئاً جاز له أن يبيعه منه، بنحو يظهر منه بيعه رأساً، كصحيح بشار بن يسار: «سألت أبا عبد الله عن الرجل يبيع المتاع بنساء فيشتريه من صاحبه الذي يبيعه منه.

قال: نعم لا بأس به.

فقلت له: اشتري متاعي.

فقال: ليس هو متاعك ولا بقرك ولا غنمك»(1) وخبر الحسين بن المنذر: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يجيئني الرجل فيطلب العينة، فأشتري له المتاع مرابحة ثم أبيعه إياه ثم أشتريه منه مكاني.

قال: إذا كان بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع، وكنت أنت بالخيار إن شئت اشتريت وإن شئت لم تشتر فلا بأس»(2).

لقوة ظهورهما في تحقق الملك وترتب آثاره بالشراء من دون حاجة إلي مضي زمان خيار المجلس أو سقوطه.

وأظهر من ذلك ما في معتبر إسحاق بن عمار المتقدم في بيع الدار ببيع الخيار: «قلت: فإنها كانت فيها غلة كثيرة فأخذ الغلة، لمن تكون الغلة ؟ فقال: الغلة للمشتري.

ألا تري أنها لو احترقت لكانت من ماله»(3).

وفي معتبر معاوية بن ميسرة الوارد في ذلك أيضاً: «قال أبو الجارود: فإن الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين.

قال: هو ماله.

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): أرأيت لو أن الدار احترقت من مال من كانت تكون ؟ الدار دار المشتري»(4).

نعم في صحيح عبد الله بن سنان: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشتري الدابة أو العبد ويشترط إلي يوم أو يومين، فيموت العبد والدابة أو يحدث فيه حدث، علي من ضمان ذلك ؟ فقال: علي البائع حتي ينقضي الشرط ثلاثة أيام ويصير المبيع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب العقود حديث: 3، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب العقود حديث: 3، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب الخيار حديث: 1، 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب الخيار حديث: 1، 3.

ص: 52

للمشتري»(1).

فإن مقتضي ذيله عدم ملك المشتري للمبيع إلا بعد انقضاء الشرط، الذي يراد به زمن الخيار.

ويناسبه بقية النصوص الآتية في المسألة الخامسة المتضمنة لضمان البائع للمبيع في مدة الخيار.

لكن ضمان البائع المبيع في مدة الخيار لا يستلزم بقاءه علي ملكه، خصوصاً بناء علي ما يأتي من اختصاص ذلك بالحيوان الذي يبتني الخيار فيه علي إعطاء الفرصة للمشتري في اختبار حاله، حيث قد يكون لذلك دخل في تحمل البائع لدرك المبيع.

وأما صحيح ابن سنان فالمتعين حمله علي إرادة الملك المستقر غير المبني علي الخيار والاختبار، بقرينة ما سبق.

ولاسيما بعد مطابقته للمرتكزات التي هي كالقرينة المتصلة الصالحة لتفسير الصحيح، وبعد عدم ورود الصحيح لبيان مالك الحيوان، بل لبيان الضامن له، حيث يسهل حينئذ حمله علي التوسع في استعمال اللام في المقام.

ومن ذلك يظهر الإشكال فيما في الحدائق وعن الكفاية من موافقة المشهور في خيار الشرط، عملاً بالنصوص المتقدمة، والتوقف أو الميل لعدم ملك المشتري للمبيع في مدة خيار الحيوان، من أجل النصوص المذكورة.

إذ فيه مع عدم ظهور القول بالتفصيل المذكور بين الأصحاب: أن ذلك إنما يتجه إذا كان ترتب الملكية علي العقد تعبدياً محضاً، أما حيث كان مطابقاً للمرتكزات الصالحة للقرينية علي تعيين المراد من النصوص فلا مجال لذلك.

ولاسيما مع ظهور جملة من نصوص المشهور المتقدمة في التنبيه للجهة الارتكازية، والردع عن مخالفتها، حيث يصعب جداً الجمود علي مواردها، بل جعلها قرينة علي تفسير صحيح ابن سنان بما سبق أهون كثيراً. فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الخيار حديث: 2.

ص: 53

كون الخيار من الحقوق

(مسألة 1): الخيار حق من الحقوق (1).

فإذا مات من له الخيار انتقل إلي وارثه (2) ويحرم منه من يحرم من إرث المال بالقتل أو الكفر أو الرق

---------------

(1) كما هو المرتكز عرفاً.

ويناسبه ظهور الاتفاق علي سقوطه بالإسقاط، وما يأتي من اتفاقهم علي أنه يورث.

مضافاً إلي ما سبق عند الكلام في خيار الشرط من أن قبول العقود نوعاً ومنها البيع للتقايل شاهد بكون اللزوم فيها حقياً.

حيث يناسب ذلك كون خياري المجلس والحيوان من الحقوق، حفاظاً علي السنخية بين الحكم السابق علي الغاية واللاحق لها في أدلتهما.

ومثلهما في ذلك خيار التأخير، لأن مفاد الشرطية في نصوصه إناطة في لزوم البيع بعدم تأخير التسليم والتسلم ثلاثة أيام، وحيث كان المراد بالمنطوق فيها هو اللزوم الحقي تعين كون المراد بالمفهوم المصرح به فيها هو الجواز الحقي أيضاً.

وهو المناسب أيضاً لنسبة خياري الحيوان والرؤية في النصوص للمشتري باللام الظاهرة في الملك والحق.

ومثلها في ذلك خيار الشرط، لما سبق من أن مفاد الاشتراط جعل الحق.

كما أن ذلك هو المتعين في بقية الخيارات.

لانحصار الدليل عليها ببناء العقلاء، تبعاً لمرتكزاتهم، وهي تقضي بثبوت الخيار الحقي، دون الحكمي.

والحاصل: أنه لا ينبغي الإشكال في كون الخيارات المتقدمة من الحقوق بعد النظر في أدلتها، ولو بضميمة المرتكزات العرفية الصالحة للقرينية علي تفسير الأدلة اللفظية.

(2) بلا شبهة، كما في المسالك، وبلا كلام، كما عن إيضاح النافع، وبلا خلاف، كما في الرياض.

وظاهر التذكرة الإجماع عليه، بل هو صريح في الغنية في خياري المجلس والشرط.

ص: 54

(55)

وقد يستدل عليه بالنبوي: «ما ترك الميت من حق فهو لوارثه».

لكنه لم يرو مسنداً في كتب الحديث لأصحابنا، بل مرسلاً في غير واحد من الكتب الفقهية.

ولعل أصله ما روي مسنداً في بعض كتب الحديث العامية(1).

علي أنه لم يتضح كون المراد بالحق فيه الحق بالمعني المعروف بين الفقهاء، فإنه مصطلح حادث.

ومثله صحيح أيوب بن عطية الحذاء: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول: أنا أولي من كل مؤمن من نفسه.

ومن ترك مالاً فللوارث.»(2)

لظهور أن الحق في المقام لا يصدق عليه المال عرفاً.

نعم لا يبعد إلغاء خصوصية المال عرفاً، والتعدي لكل مملوك.

بل قد يستفاد من إطلاق قوله تعالي: (وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَي بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ)(3) ، والإطلاقات المقامية لأدلة الميراث إذ بعد عدم تحديد الموروث يكون المرجع فيه العرف، وهو لا يفرق بين المال وغيره مما هو من سنخ المملوك.

نعم لابد من إحراز بقاء حق الخيار، لبقاء موضوعه بعد الموت.

إذ مع عدم إحراز ذلك لا يحرز موضوع الميراث، وهو الشيء القابل للانتقال، والذي يصدق عليه أنه مما ترك الميت.

وقد سبق أنه لا مجال للبناء علي ذلك في خيار المجلس، لعدم صدق الاجتماع الذي هو موضوع الخيار مع الموت وإن لم يصدق الافتراق، ومقتضي عمومات اللزوم انتهاء أمد الخيار، ولزوم البيع.

ودعوي قيام اجتماع الوارث مقام اجتماع الموروث.

ممنوعة بعد ظهور الأدلة في أن المدار علي اجتماع المتبايعين.

ومجرد الحكم شرعاً بقيام الوارث مقام الموروث في ملكية ما يملك لا يقتضي قيامه في تحقق موضوع الأمر المملوك.

********

(1) مسند أحمد ج: 2 ص 453، سنن ابن ماجة ج 2 ص 914، 2738.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب ميراث ولاء ضمان الجريرة والإمامة حديث: 14.

(3) سورة الأنفال الآية: 75، سورة الأحزاب الآية: 6.

ص: 55

ويحجب عنه ما يحجب عن إرث المال (1).

ولو كان العقد الذي فيه الخيار متعلقاً بمال يحرم منه الوارث كالحبوة المختصة بالذكر الأكبر، والأرض التي لا ترث منها الزوجة ففي حرمان ذلك الوارث من أرث الخيار وعدمه

---------------

ومثله في ذلك خيار الرؤية إذا مات المشتري قبل الرؤية، لعدم الدليل علي قيام رؤية الوارث مقام رؤية المشتري المورث في سببيتها للخيار.

نعم إذا تحققت الرؤية من المشتري فلم يعجبه المبيع، وتحقق موضوع الخيار، ثم مات قبل إعماله بنحو لا ينافي في الفورية بالنحو المتقدم في تحديد الخيار المذكور فالظاهر بقاء موضوع الخيار، لعدم التقييد في دليله بإعمال المشتري له، وإنما يعمله لأنه المالك، فإذا انتقل الخيار للوارث كان هو الذي يعمله.

ومثله خيار الحيوان في ضمن الأيام الثلاثة فإن موضوعه بمقتضي نصوصه بيع الحيوان، من دون خصوصية في إعمال من انتقل إليه بالبيع.

وكذا خيار التأخير، فإن منشأه ارتكازاً خروج المشتري عن وظيفته إزاء البيع، وهو حاصل في حق الوارث.

وكذا الحال في بقية الخيارات الثابتة ببناء العقلاء، كخيار الغبن وتخلف الوصف والشرط.

فإنها موجبة ارتكازاً لنقص في العقد يخرجه عن اللزوم، من دون خصوصية في اعماله لشخص من يعمل الخيار.

نعم خيار الشرط حيث كان تابعاً لجعل المتعاقدين، فالمدار في بقائه سعة الخيار المجعول لهما، بحيث لا يؤخذ في بقائه حياة المشترط، ولا في إعماله شخصه، وهو يختلف باختلاف القرائن المحيطة بالشرط.

غاية الأمر أن سعة الخيار مقتضي إطلاق الاشتراط، والتقييد يحتاج إلي مؤنة زائدة.

(1) لإطلاق أدلة المنع عن الميراث والحجب عنه بعد فرض كون المقام من صغريات الميراث.

ص: 56

أقوال (1)، أقربها حرمانه إذا كان منتقلاً من الميت.

فلو باع الميت أرضاً وكان له الخيار لم ترث منه الزوجة، ولو كان قد اشتري أرضاً وكان له الخيار ورثت منه كغيرها من الورثة.

---------------

(1) المحتمل في المقام بدواً وجوه أربعة: الأول: إرث المحروم من إرث ذلك المال للخيار، سواءً كان ذلك المال منتقلاً للميت أم منتقلاً عنه.

وهو مقتضي إطلاق الأكثر.

وبه صرح في الجواهر وبعض من تأخر عنه ووجهه: أن الخيار لما كان قائماً بالعقد وراجعاً للسلطنة علي حله، وفرض كونه حقاً مستقلاً باقياً بعد الموت، فهو مشمول لإطلاقات الميراث القاضية بميراث الشخص المذكور في غير المال المزبور.

الثاني: عدم إرثه للخيار مطلقاً.

وقد يظهر من جامع المقاصد الميل إليه.

وقد يوجه بأنه حيث لا يرث المال فلا يرث الخيار المتعلق به.

وهو كما تري، لأن الحق المتعلق بالمال غير المال.

مع أنه سبق أن حق الخيار متعلق بالعقد، لا بالمال المفروض كونه لا يورث.

ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم (قده) من أن الخيار علاقة لصاحبه فيما انتقل عنه تقتضي رجوعه عليه بعد إحراز سلطنته علي ما انتقل إليه.

والوارث المذكور لا علاقة له بالمال المذكور إذا كان قد انتقل عن الميت، ولا سلطنة له عليه إذا كان قد انتقل إلي الميت، لفرض كونه محروماً منه.

إذ يظهر اندفاعه مما سبق من أن الخيار حق قائم بالعقد.

وأخذ العلقة والسلطنة علي العوضين فيه لا شاهد له.

بل هو لا يناسب ما ذكروه من ثبوت الخيار في الفسخ مع تلف أحد العوضين، أو خروجه عن ملك من دخل له بالعقد.

مضافاً إلي أن عدم ملكية الوارث المذكور للمال المزبور لا ينافي سلطنته عليه في فرض انتقاله للميت بالعقد، وعلقته به في فرض انتقاله عن الميت به.

غايته أن

ص: 57

السلطنة تكون محدودة بالمقدار الذي يقتضيه ثبوت الخيار.

وعن بعض مشايخنا (قده) الاستدلال له بأن الدليل علي ميراث الخيار لما كان هو الإجماع، فالمتيقن منه ما إذا كان الوارث له وارثاً للمال.

وفيه: أولاً: أنه لو تم انحصار الدليل علي الميراث بالإجماع فمرجع ذلك إلي أن الإجماع هو الدليل علي كون الخيار حقاً باقياً بعد الموت فلابد أن ينتقل للوارث.

أما تعيين الوارث فهو تابع لأدلة الميراث، ومقتضي إطلاقها إرث الوارث المذكور منه.

وثانياً: أنه لا متيقن في البين بناء علي ما يأتي من اعتبار اتفاق الورثة في إعمال الخيار، وعدم الاكتفاء بإعمال بعضهم فيه.

إذ الاكتفاء حينئذ في إعمال الخيار باتفاق باقي الورثة دون الشخص المذكور يحتاج إلي دليل بعد احتمال ميراثه للخيار معهم.

اللهم إلا أن يقرب ذلك بأصالة عدم إرثه للخيار.

لكنه لا يخلو عن إشكال إذ هو ليس بأولي من استصحاب عدم استقلال بقية الورثة به.

ولعله لذا ذهب (قده) في فتواه للوجه الأول.

الثالث: ما ذكره سيدنا المصنف (قده) من التفصيل بين ما إذا كان المال الذي يحرم منه الوارث المذكور قد انتقل بالبيع عن الميت وما إذا كان قد انتقل له، فلا يرث الخيار في الأول، ويرثه في الثاني.

وهو ظاهر القواعد، وجعله الأصح في الإيضاح، وقواه شيخنا الأعظم (قده).

لدعوي: أن المال المذكور إذا انتقل للميت فالوارث المذكور وإن كان لا يرث منه، إلا أن للميت حقاً في ثمنه بسبب الخيار، حيث يكون له تملكه بالفسخ، ولا مانع من انتقال هذا الحق للوارث المذكور بعد عدم حرمانه من ميراث الثمن.

أما إذا انتقل هذا المال عن الميت، فالميت وإن ثبت له الحق المذكور فيه، لفرض ثبوت الخيار له، إلا أن هذا الحق لا ينتقل للوارث المذكور بعد حرمانه من ميراث هذا المال.

وفيه: أن سلطنة من له الخيار علي تملك ما خرج عن ملكه بسبب الخيار ليست من الحقوق الفعلية المملوكة القابلة للميراث، بل هي منتزعة من قضية تعليقية ترجع

ص: 58

إلي سلطنته علي فسخ العقد الثابتة له بمقتضي استحقاقه للخيار، ومقتضي إطلاق أدلة الميراث ثبوت هذا الحق للمحروم من المال مطلقاً.

مضافاً إلي ما يأتي من أن سلطنة الوارث ليست علي إرجاع ما خرج عن الميت للوارث، بل علي إرجاعه للميت، ويمكن ثبوت السلطنة المذكورة للوارث المحروم.

وحينئذٍ إن توقف انتقال حق الخيار للوارث علي إمكان رجوع كل من المالين إلي ملك مالك الآخر قبل الفسخ تعين عدم إرث الوارث المحروم للخيار في الصورتين معاً، وإن لم يتوقف علي ذلك كما هو الظاهر تعين إرثه له فيهما أيضاً.

ومثله ما ذكره سيدنا المصنف (قده) في حاشيته القديمة من أن النظر في أدلة الخيار إلي بيان سلطنة صاحب الخيار علي استرداد ما خرج عن ملكه بالعقد الذي هو موضوع الخيار، وحيث يتسلط الوارث المذكور علي ذلك فيما لو كان المال المحروم منه قد خرج عن ملك الميت بالعقد، ويتسلط عليه فيما لو دخل في ملك الميت، لعدم حرمانه من الثمن، تعين عدم ميراثه في الأول وميراثه في الثاني.

وفيه: أولاً: أن نظر أدلة الخيار إلي الاسترداد بحيث تكون مقيدة بإمكانه في غاية المنع، لأن غرض صاحب الخيار كما قد يكون هو استرداد ما خرج عنه لرغبته فيه، قد يكون هو رده لما أخذه بالعقد لرغبته عنه، وقد يكون الغرض كلا الأمرين، وقد لا يكون لشيء منهما، بل لمجرد رغبته عن مضمون العقد، لحصول الحيف عليه، كما قد يحصل في الغبن، والجامع بين الصور الثلاث هو الأخير، والكل من سنخ الداعي من دون أن يكون قيداً في الفسخ، ولا في دليل الخيار.

وثانياً: أن فسخ الوارث المذكور وغيره من الورثة أو الفسخ معه لا يقتضي استرداده المال لنفسه، ولا رده عليه رأساً، بل الاسترداد والرد علي الميت، لأن ذلك هو مقتضي الفسخ بعد كونه هو طرف العقد المفسوخ.

ولذا تكون قسمة المال الراجع بين الورثة علي سهام الميراث، ولا يقسم بينهم بالسوية نتيجة اشتراكهم في سبب الملك، وهو الفسخ المسبب عن ملكهم جميعاً للخيار من دون تفاضل فيه، لبساطته

ص: 59

حكم ما اذا تعدد الوارث للخيار

(مسألة 2): إذا تعدد الوارث للخيار فالظاهر أنه لا أثر لفسخ بعضهم بدون انضمام الباقين إليه لا في تمام المبيع (1)

---------------

وعدم قبوله للقسمة.

وعلي ذلك لا فرق بين الوارث المذكور وغيره من الورثة بعد اشتراكهم جميعاً في الاسترداد والرد بالفسخ علي الميت بالمباشرة لا عليهم رأساً، وثبوت حكم الميراث لهم إنما يكون بعد فرض دخول المال في ملك الميت.

فلاحظ.

الرابع: عكس التفصيل السابق.

وقد يوجه بما قد يستفاد من جامع المقاصد من أن فسخ الوارث المذكور في فرض انتقال المال المذكور للميت مستلزم لتصرفه في مال لا حق له فيه، ولا يلزم ذلك في فرض انتقال المال المذكور عن الميت، لأنه يشترك مع بقية الورثة في الثمن.

وفيه: أنه لا محذور في تصرفه في مال بقية الورثة بسبب الفسخ بعد قضاء إطلاق أدلة الميراث باشتراكه معهم في إرث حق الخيار.

ومن هنا لا مخرج عن الوجه الأول.

(1) كما صرح بذلك غير واحد.

لفرض وحدة الخيار، فإذا صار بالميراث حقاً لجميع الورثة تعين عدم استقلال كل منهم بالسلطنة عليه، بحيث ينفسخ العقد بفسخه، أو يلزم برضاه، أو يسقط الخيار بإسقاطه له.

إلا أن يدل علي ذلك دليل خاص، كما جروا عليه في حق القصاص وحق القذف وحق الشفعة، علي كلام فيها موكول إلي محله.

ودعوي: أن ثبوت الحق الواحد لهم يرجع إلي ثبوته للطبيعة المتشخصة بكل منهم، فأيهم سبق للفسخ أو الإمضاء كان مؤثراً، ولم يبق موضوع لفسخ الآخرين، أو إمضائهم.

مدفوعة بأن ذلك خلاف ظاهر أدلة الميراث، خصوصاً بلحاظ ميراث المال المعلوم عدم استقلال كل منهم به.

ومنه يظهر ضعف ما في الجواهر من أنه يقدم الفاسخ منهم علي الملزم، عملاً

ص: 60

(61)

ولا في حصته (1).

إلا إذا رضي من عليه الخيار فيصح في حصته (2).

-

بالنبوي المتقدم: «ما ترك الميت من حق فهو لوارثه» بعد إمكان تعدد من له الخيار.

إذ فيه: أن ذلك إنما يتم إذا رجع تعدد من له الخيار إلي تعدد حق الخيار، بحيث يثبت لكل منهم خيار مستقل عن خيار الآخر، لسلطنة كل منهم علي إعمال خياره من دون أن يمنع من سلطنة الآخر علي خياره ولا يوجب سقوطه، كما هو الحال في المتبايعين في خيار المجلس.

ولا مجال له في المقام بعد فرض وحدة الخيار الموروث وتعدد الوارث المستحق له، حيث لا وجه لاستقلال كل منهم بالسلطنة عليه، فضلاً عن تقديم الفاسخ منهم علي الملزم مع التقارن أو مطلقاً.

(1) لظهور بساطة الحق وعدم قابليته للقسمة، وليس هو كالمال، فلابد في ثبوته للورثة من ثبوته لهم بنحو المجموعية، لا بنحو الانحلال والتوزيع.

ويأتي الكلام في ذلك.

(2) يظهر منه (قده) في حاشيته القديمة توجيهه بناءً علي انحلال البيع الواحد إلي بيوع متعددة بحسب الحصص بأن تعدد البيوع مستلزم لتعدد الخيار وانحلاله بحسب الحصص أيضاً، فيرث كل منهم الخيار في حصته.

غاية الأمر ثبوت التلازم بين أبعاض الخيار الواحد في مقام الإعمال إرفاقاً بمن عليه الخيار، فإذا رضي بالتفكيك أمكن استقلال كل منهم بإعمال الخيار في حصته.

لكن سبق في المسألة الرابعة عشرة من الفصل السابق المنع من انحلال البيع عرفاً إلي بيوع متعددة بحسب الحصص، وأن ترتيب أثر الصحة مع تبعض الصفقة حكم عرفي لا يبتني علي ذلك.

ولو غض النظر عن ذلك فظاهر دليل الخيار وحدة الخيار وتعلقه بمجموع البيع.

وبعبارة أخري: ليس الخيار كالبيع، لأن البيع تابع لقصد المتبايعين، فقد يدعي المدعي قصدهما له بنحو الانحلال، وأما الخيار فهو تابع للجعل الشرعي المستفاد من

ص: 61

أدلته، ولا ريب في ظهورها في وحدته.

علي أنه لو فرض تعدد الخيار تبعاً للحصص، فحيث كان الخيار مبايناً للأعيان فلا دليل علي استقلال كل منهم بالخيار الثابت في حصته، بل مقتضي القاعدة اشتراكهم في كل خيار يفرض، فلا يمكن إعماله إلا برضا الكل.

نعم أشار (قده) لتوجيه صحة الفسخ في الحصة بأن الفسخ المذكور إذا لم يبتن علي إعمال الخيار، لما سبق، أمكن أن يرجع للتقايل.

وهو لا يخلو عن وجه، حيث لا يبعد مشروعية التقايل مع الوارث، لأن ملكيته ارتكازاً بقاء لملكية المورث، نظير ما تقدم من الاكتفاء بإجازته لبيع الفضولي الواقع في حياة المورث.

وإن تقدم من سيدنا المصنف (قده) التوقف في ذلك.

نعم صحة التقابل حينئذ تبتني علي ما سبق الكلام فيه من إمكان التفكيك في الفسخ بين أجزاء المبيع.

وأظهر من ذلك ما إذا رجع رضاه إلي التصالح بينهما علي المعاوضة بين الحصة وما يخصها من الثمن، حيث لا إشكال فيه حتي بناءً علي امتناع التبعيض في الفسخ.

هذا وما ذكره سيدنا المصنف (قده) هنا قد لا يناسب ما تقدم منه في المسألتين الستين والواحدة والستين من الفصل السابق من إطلاق عدم التبعيض في الفسخ.

وإن كان ما هنا قد يناسب ما تقدم منه في المسألة الرابعة عشرة منه.

غاية الأمر أنهما يفترقان بأن الكلام هناك في خصوص خيار الشرط التابع لجعل المتعاقدين المتفاسخين، والكلام هنا في جميع الخيارات غير التابعة لجعل المتفاسخين حتي خيار الشرط منها، لأنه تابع لجعل المورث، دون الوارث الفاسخ.

ودعوي: أن ملكيتهم للعين لما كانت مترتبة علي ملك الميت فهي بحكم تلف العين، نظير ما إذا خرجت العين عن ملك صاحب الخيار ببيع أو هبة أو نحوهما، حيث لا مجال لرجوعها بالفسخ، بل يتعين الانتقال لبدلها.

مدفوعة بأن ملكية الوارث ارتكازاً بقاء لملكية المورث، وليست ملكية جديدة كملكية المشتري.

ولذا لا ريب بعد النظر في سيرة العقلاء ومرتكزاتهم في أن من باع

ص: 62

(63)

اثر فسخ الورثة بالخيار

(مسألة 3): إذا فسخ الورثة بيع مورثهم فإن كان عين الثمن موجوداً دفعوه إلي المشتري، وإن كان تالفاً أو بحكمه (1) أخرج من تركة الميت (2) كسائر ديونه، فإن لم يكن له تركه سوي المبيع تعلق به (3)، فيباع ويوفي منه.

فإن لم يف بتمام الثمن بقي في ذمته، ولا يجب علي الورثة وفاؤه (4).

---------------

عيناً بشرط الخيار برد الثمن يستحق العين بنفسها إذا رد الثمن في مدة الخيار علي الورثة.

ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه.

ومن ذلك يظهر الحال فيما إذا لم يكن الخيار للميت كما هو محل الكلام، بل كان الخيار عليه، فإن من له الخيار إذا فسخ بعد موت من عليه الخيار يأخذ عين ماله من الورثة إذا كانت موجودة.

هذا ولا ريب في مشروعية الفسخ لهم إذا لم يكن علي الميت دين.

أما إذا كان عليه دين فقد يشكل فسخهم، لتقدم الدين علي الميراث.

ودعوي: أن تقديم الدين في الآية الشريفة إنما كان علي ميراث المال دون ميراث الحقوق، بل مقتضي إطلاق دليل ميراثه ثبوته ولو مع الدين، بل وإن أضر به، كما لو كان الدين مستغرقاً للتركة وكان الفسخ موجباً لنقصها.

مدفوعة بأنه لو تم إطلاق دليل ميراث الحق، فمن القريب جداً فهم عدم الخصوصية عرفاً لميراث المال في تقديم الدين عليه، وأن الدين باعتبار لزومه علي الميت في حياته مقدم علي الميراث المبتني علي أولوية الوارث بما يتركه الميت بعده.

فلاحظ.

(1) كما إذا كان قد انتقل عن ملك الميت أو الورثة ببيع أو نحوه.

(2) لأنه مضمون علي الميت بضمان المعاوضة، فيخرج من تركته، كسائر ديونه.

(3) لأنه بدل تركة الميت، فيلحقه حكم التركة.

(4) لعدم الدليل علي ذلك بعد عدم كونهم طرفاً في المعاوضة، ليكون مضموناً

ص: 63

(مسألة 4): لو كان الخيار لأجنبي (1) عن العقد فمات فإن كان المقصود من جعل الخيار له مباشرته للفسخ أو كونه بنظره لم ينتقل إلي وارثه (2)،

---------------

عليهم بضمانها، كما لا سبب آخر لضمانهم غير ضمان المعاوضة.

ومجرد فسخهم للبيع لا يكون سبباً لضمانهم.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قده) وجهاً لضمانهم من أنهم كما يقومون مقام الميت في الفسخ وفي أخذ المبيع يقومون مقامه في ضمان الثمن.

فلا مجال للبناء عليه، لأن قيامهم مقام الميت في الفسخ ناشئ من إرثهم لحق الخيار منه، وقيامهم مقامه في أخذ المبيع ناشئ من إرثهم للمال.

أما الديون فهم لا يقومون مقام الميت فيها، بل تتعلق بالتركة لا غير، ومع قصور التركة لا يلزمون بها.

نعم لابد من صحة الفسخ في نفسه مع عدم وفاء الثمن.

أما إذا لم يصح فهو خارج عن محل الكلام.

وذلك كما في البيع بشرط الخيار بردّ الثمن، المعبر عنه ببيع الشرط، حيث لا يصح الفسخ فيه إلا مع ردّ الثمن.

بل لا يبعد ذلك في جميع موارد اشتراط الخيار للبائع.

إذ من القريب جداً أخذ ردّ الثمن ولو بعد الفسخ شرطاً ضمنياً، بحيث لا يصح الفسخ مع عدم ترتب الردّ عليه.

وعموم الشرط لما إذا تعذر ردّ الثمن يحتاج إلي عناية.

بل يبعد ذلك أيضاً في الخيارات الشرعية، كخيار المجلس، وأنها مبنية علي جعل حقّ الخيار بنحو لا يفوت علي الآخر ماله.

وإلا فمن البعيد جداً البناء علي بقاء خيار المجلس مثلاً إذا سرق الثمن من البائع قبل الافتراق وليس له بدل عنه.

ويحتاج الأمر لمزيد من التأمل.

(1) بناء علي ما سبق منه (قده) وصرح به جماعة من إمكان جعل خيار الشرط الأجنبي.

لكن تقدم منّا عند الكلام في خيار الشرط المنع من ذلك.

فلا موضوع لهذه المسألة.

فراجع.

(2) لعدم قابلية الخيار حينئذ للبقاء بعد الميت، ليكون موروثاً.

نعم لابد من

ص: 64

(65)

الكلام في خيار الأجنبي اذا مات

وإن جعل مطلقاً انتقل إليه (1).

(مسألة 5): إذا تلف المبيع في زمان الخيار في بيع الحيوان فهو من مال البائع (2).

وكذا إذا تلف قبل انتهاء مدة الخيار في خيار الشرط إذا كان

---------------

رجوع القصد المذكور إلي تقييد الخيار، لا إلي مجرد الداعي لجعله مع إطلاق الخيار المجعول.

(1) إذ بعد فرض قابلية الخيار للميراث، لكونه من جملة ما تركه الميت، يتعين انتقاله للوارث.

(2) كما هو المتيقن من الكبري الآتية في كلماتهم، من دون ظهور خلاف منهم فيها.

بل نفي الإشكال والخلاف فيه شيخنا الأعظم (قده)، ويظهر من الجواهر دعوي الإجماع بقسميه عليه.

لصحيح عبد الله بن سنان: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشتري الدابة أو العبد، ويشترط إلي يوم أو يومين، فيموت العبد والدابة ويحدث فيه الحدث، علي من ضمان ذلك ؟ فقال علي البائع حتي ينقضي الشرط ثلاثة أيام، ويصير المبيع للمشتري»(1).

كذا رواه في الكافي.

وزاد في التهذيب: «شرط له البائع أو لم يشترط.

قال: وإن كان بينهما شرط أياماً معدودة فهلك في يد المشتري قبل أن يمضي الشرط فهو من مال البائع»(2).

والفقرة الأولي من الزيادة صريحة في خيار الحيوان.

وهي وإن لم تثبت، لظهور الكافي في عدم وجودها، وإلا فمن البعيد عدم روايته لها لو كان قد اطلع عليها، لوضوح دخلها في معني الحديث، فيلزم التعارض بين الكافي والتهذيب في هذه الفقرة الموجب للتساقط، إلا أن دلالة الحديث علي خيار الحيوان لا تتوقف عليها،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الخيار حديث: 2.

(2) التهذيب ج: 7 ص 24 حديث: 103.

ص: 65

الخيار للمشتري (1)، أما إذا كان للبائع أو تلف في زمان خيار المجلس بعد

---------------

لظهور أن السؤال فيه لما كان عن شرط الخيار اليوم واليومين، فتحديد ضمان البائع في الجواب بثلاثة أيام ظاهر في إرادة خيار الحيوان دون خيار الشرط.

ولاسيما مع التصريح في الفقرة الثانية التي ذكرها في التهذيب بحكم خيار الشرط من دون تحديد خاص بمقدار الأيام، حيث يظهر منه تصدي الإمام (عليه السلام) لبيان حكم الخيارين معاً، وعدم الاقتصار علي بيان حكم أحدهما.

ويؤيده في خيار الحيوان خبر الحسن بن علي بن رباط عمن رواه أو عن زرارة عنه (عليه السلام): «قال: إن حدث بالحيوان حدث قبل ثلاثة أيام فهو من مال البائع»(1).

(1) الظاهر عدم الخلاف فيه، كما صرح بذلك شيخنا الأعظم (قده)، وكلامهم فيه علي نحو ما تقدم في خيار الحيوان.

ويقتضيه ذيل صحيح ابن سنان المتقدم من التهذيب(2) ، وموثق عبد الرحمن بن أبي عبد الله: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشتري أمة بشرط من رجل يوماً أو يومين، فماتت عنده، وقد قطع الثمن، علي من يكون الضمان ؟ فقال: ليس علي الذي يشتري ضمان حتي يمضي شرطه [بشرطه]»(3) ، وخبر الحسن بن زيد عنه (عليه السلام): «قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في رجل اشتري عبداً بشرط ثلاثة أيام فمات العبد في الشرط، قال: يستحلف بالله ما رضيه وهو بريء من الضمان»(4).

وهما وإن وردا في مورد خيار الحيوان، إلا أن ظاهر الشرط فيهما هو شرط الخيار، لأن النصوص وإن تضمنت التعبير عن خيار الحيوان بالشرط، إلا أنه لا ينسب للشراء، بحيث يكون شرطاً فيه، كما تضمنه الحديثان، بل يقوم بنفسه.

نعم هما مختصان بالثلاثة أيام فما دون، فالتعميم لما زاد عليهما يبتني علي فهم

********

(1) تهذيب الأحكام ج: 7 ص: 24 حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب الخيار حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الخيار حديث: 1، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الخيار حديث: 1، 4.

ص: 66

القبض (1) ففي كونه من مال البائع إشكال (2).

-

عدم الخصوصية، وهو في غاية الإشكال بعد ثبوت خيار الحيوان في الأيام المذكورة، لاحتمال اختصاص ضمان البائع بالأيام الثلاثة، التي قد ينفرد فيها خيار الحيوان وقد يجتمع مع خيار الشرط.

فالعمدة في العموم صحيح ابن سنان.

ويأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالي.

(1) أما إذا كان التلف قبل القبض فلا إشكال في كونه من مال البائع، لأن كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه، علي ما يأتي الكلام فيه في الفصل السابع إن شاء الله تعالي.

ومن ذلك يظهر عدم اختصاص ذلك بخيار المجلس، بل يجري في خيار الشرط إذا كان التلف قبل القبض أيضاً.

(2) لا إشكال في أن مقتضي القاعدة كون التلف من مال المشتري بناءً علي ما سبق من دخوله في ملكه بالعقد قبل انقضاء الخيار.

لأن ضمان غير المالك يحتاج إلي دليل.

بل لا يبعد ذلك حتي بناءً علي عدم دخوله في ملكه قبل انقضاء الخيار، لأنه قد ضمنه بضمان اليد نظير المقبوض بالسوم، أو بضمان المعاوضة نظير ما إذا حصل الفسخ بعد التلف.

وإن شئت قلت: إن المستفاد من الأدلة ضمان صاحب اليد لما تحت يده إذا لم يكن مستأمناً، ولا استئمان في المقام، لابتناء القبض علي البيع، لا علي الاستئمان.

هذا وقد يدعي أنه لابد من الخروج عن مقتضي القاعدة المتقدم فيما إذا كان للبائع وحده خيار الشرط، لما شاع بينهم من أن التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له.

بل في مفتاح الكرامة: «إن قولهم: التلف في مدة الخيار ممن لا خيار له قاعدة لا خلاف فيها».

وهو لو تم جري في خيار المجلس إذا اختص بالبائع، لاشتراط سقوطه في حق المشتري، أو لإسقاطه له بعد العقد.

لكن لم يتضح الوجه في القاعدة المذكورة.

ولا مجال للاستدلال عليها بالإجماع،

ص: 67

أولاً: لعدم ثبوته.

ومجرد استظهار عدم الخلاف منهم، لظهور كلام جملة منهم في البناء عليها من دون ظهور خلاف له، لا يكفي في إحراز الإجماع.

وثانياً: لعدم وضوح كون الإجماع لو تم تعبدياً ينهض بالاستدلال، لقرب استناده للنصوص السابقة مع تتميم دلالتها ببعض الوجوه الاجتهادية أو نحوها.

خصوصاً مع الاضطراب في كلماتهم في المقام وما يتعلق به من أن حصول الملكية بالعقد أو بانقضاء زمان الخيار، كما يظهر بملاحظتها.

ولا يسعنا تعقيبها.

نعم قد يستدل عليها بالنصوص المتقدمة بضميمة أحد أمور: الأول: التعدي عن مواردها لعدم القائل بالفرق، كما في الرياض ومفتاح الكرامة.

ويظهر الجواب عنه مما تقدم في الاستدلال بالإجماع.

ولاسيما أن مقتضي إطلاق النصوص المذكورة عموم الضمان علي البائع لما إذا اشترط الخيار للطرفين، والقاعدة المدعاة لا تناسب ذلك.

الثاني: أن مقتضي إطلاق قوله (عليه السلام) في موثق عبد الرحمن المتقدم: «حتي يمضي شرطه [بشرطه]»، وقوله (عليه السلام) في صحيح عبد الله بن سنان المتقدم: «ينقضي الشرط ثلاثة أيام ويصير المبيع للمشتري» عموم الحكم لكل خيار، لصدق الشرط عليه، كما يظهر من استعماله في النصوص.

وفيه: أن ظاهر الأول إرادة خصوص خيار الشرط، لأنه المتقدم في الجواب.

ولا أقل من كونه المتيقن منه بسبب ذلك.

والثاني كالصريح في خيار الحيوان، لأنه المناسب لتحديده بثلاثة أيام، كما تقدم.

علي أن هذين الوجهين مختصان بالمشتري.

الثالث: لزوم إلغاء خصوصية موارد النصوص والتعدي لجميع الخيارات، لقوله (عليه السلام) في صحيح ابن سنان المتقدم: «ويصير المبيع للمشتري».

إذ بعد أن ثبت تملك المشتري للمبيع بالعقد، فلابد من حمل الفقرة المذكورة علي إرادة لزوم ملكيته، بحيث ليس له فسخ العقد، فيكون ظاهر الفقرة المذكورة توقف ضمان الشخص للمبيع علي لزوم البيع في حقه، وأنه مع عدم لزومه عليه يكون في ضمان من لزم

ص: 68

عليه البيع. وفيه: أولاً: أنه لا ظهور للصحيح في سوق الفقرة المذكورة لتعليل عدم ضمان المشتري، ليتجه التمسك بعمومها في التعدي عن مورد الصحيح، بل لمجرد بيان توقف ضمان المشتري للمبيع في المورد علي لزوم ملكيته.

ولاسيما مع عدم ظهور منشأ عرفي للتعليل بذلك.

وثانياً: أن التعليل لو تم يقتضي بقاء ضمان المال في ملك مالكه قبل البيع حتي تلزم ملكية الآخر، سواء لزم البيع في حق مالكه الأول، أم لم تلزم، لثبوت الخيار له أيضاً.

وهو لا يناسب المدعي لهم من أن الضمان في زمن الخيار علي خصوص من لا خيار له، بحيث يظهر منهم أنه مع ثبوت الخيار للطرفين فكل منهما ضامن لما صار له بالعقد وإن لم تلزم ملكيته له.

والحاصل: أن النصوص المتقدمة لا تنهض بإثبات القاعدة المذكورة بعمومها، كما لا ينهض بذلك الإجماع.

بل يتعين الاقتصار علي موارد النصوص والرجوع في غيرها لما تقتضيه القاعدة من ثبوت الضمان علي من ملك المضمون بالعقد ولو مع ثبوت الخيار له.

كما يناسب ذلك ويؤكده ما في حديثي إسحاق بن عمار ومعاوية بن ميسرة الواردين في بيع الدار بشرط الخيار للبائع برد الثمن.

ففي الأول: «قلت: فإنها كانت فيها غلة كثيرة فأخذ الغلة لمن تكون الغلة ؟ فقال: الغلة للمشتري. ألا تري أنها لو احترقت لكانت من ماله»(1) وفي الثاني: «قال أبو الجارود فإن ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين.

قال: هو ماله.

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): أرأيت لو أن الدار احترقت من مال من تكون.

الدار دار المشتري»(2) لظهورهما في المفروغية عن أن كلاً من الغلة والضمان يجري علي طبق القاعدة من تبعيتهما للملكية الفعلية من دون دخل للزوم وعدمه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب الخيار حديث: 1، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب الخيار حديث: 1، 3.

ص: 69

بقي في المقام أمران: الأول: أن الظاهر المفروغية عن أن الضمان في المقام ليس بالقيمة الواقعية مع بقاء البيع بحاله، بل يكون بالثمن، ويرجع إلي انفساخ البيع، نظير ضمان المبيع قبل القبض.

وهو المناسب لقوله (عليه السلام) في صحيح ابن سنان: «ويصير المبيع للمشتري» حيث يستفاد منه عرفاً أن ضمان البائع له بملاك بقاء علقته به، فتكون خسارته عليه مثل سائر أمواله، لا أنه يكون من مال المشتري ويتحمل البائع دركه.

وأظهر من ذلك قوله (عليه السلام) في مرسل الحسن المتقدم: «فهو من مال البائع».

بل السؤال في النصوص عن الضامن، لا عن أصل الضمان، ظاهر في المفروغية عن الضمان بالمعني المذكور مع تردده بين البائع والمشتري.

إذ لو أريد به الضمان بمعني تحمل الدرك مع بقاء البيع بحاله، فحيث لا معني له في حق المشتري، لكان المناسب السؤال عن ضمان البائع وعدمه، لا عن تعيين الضامن.

ولأجل ذلك ينصرف الضمان في الجواب لذلك.

فلاحظ.

الثاني: إن النصوص المتقدمة قد تضمنت موت الحيوان وحدوث الحدث فيه.

والمنصرف من موته موته بنفسه تبعاً لوضعه المزاجي، دون ما إذا كان لأمر خارج عن مقتضي طبعه ومزاجه، كما لو غرق أو سقط عليه جدار، فضلاً عما إذا كان بفعل أحد المتبايعين أو بفعل غيرهما.

وذلك هو المنصرف من الحدث، فيراد به مثل المرض، والكسر الناشئ من عثرته، دون ما إذا حدث ذلك بسبب خارج عنه.

وحينئذٍ لا مجال للبناء علي عموم ضمان البائع لغير مورد النصوص، خصوصاً مع قرب ابتناء ذلك علي أن خيار الحيوان إنما شرع من أجل أن يظهر للمشتري في موته حال الحيوان ومدي سلامته في نفسه، حيث يناسب ذلك اختصاص ضمان البائع له بما إذا كان الحدث والنقص فيه راجعاً لشؤونه المزاجية، دون ما خرج عن ذلك.

بل يتعين فيه الرجوع إلي ما تقتضيه القاعدة من تلفه من مال المشتري.

غايته أن للمشتري الرجوع علي المتلف حتي البائع إذا هو رضي بالحيوان، ولم يفسخ بخيار

ص: 70

الحيوان الثابت له.

ومن هنا يشكل تعميم ذلك في خيار الشرط لغير الحيوان بعد اختصاص النصوص به، حيث يصعب إلغاء خصوصيته عرفاً بعد احتمال ابتناء الحكم علي ما ذكرنا.

بل لا يبعد لأجل ذلك اختصاص خيار الشرط الذي يكون الضمان فيه علي البائع بالخيار المجعول من أجل التعرف علي حال الحيوان، دون المجعول من أجل أمر آخر، كاحتمال الاستغناء عن الحيوان، أو العجز عن القيام بشؤونه.

وإن كان الخروج لأجل ذلك عن إطلاق النصوص في غاية الإشكال.

لكن الأمر قد يهون بلحاظ أن خيار الشرط لما كان تابعاً لجعل المتعاقدين فكثيراً ما تتحكم القرائن المحيطة بالعقد والشرط في تعيين من عليه الضمان في مدته.

فلاحظ.

ص: 71

ص: 72

(73) (73)

الفصل السادس/ فيما يدخل في المبيع

اشارة

(مسألة 1): من باع شيئاً دخل في المبيع ما يقصد المتعاملان دخوله فيه، دون غيره (1).

ويعرف قصدهما بما يدل عليه لفظ المبيع (2) وضعاً أو

---------------

(1) لظهور كون البيع وجميع العقود من الأمور القصدية، فتكون خصوصياتها المأخوذة فيها تابعة للقصد.

نعم إذا دلّ دليل تعبدي علي دخول أمر غير مقصود تعين العمل عليه.

(2) لا ينبغي الإشكال في ذلك، والظاهر الاتفاق عليه.

نعم مقتضي الجمود علي العبارة المذكورة عدم دخول ما خرج عن لفظ المبيع مطلقاً.

لكن لا مجال لذلك إذا استفيد دخوله تبعاً، نتيجة تعارف دخوله، بحيث يحتاج عدم دخوله للتنبيه الخاص، كما يأتي من سيدنا المصنف (قده) التعرض لذلك.

فإن عدم التنبيه علي خروجه وعدم تبعيته يوجب ظهور كلام المتبايعين في دخوله، وهو كاف في البناء علي دخوله، وإن لم يشمله لفظ المبيع لغة ولا عرفاً، إذ لا خصوصية للفظ المبيع في تحديد مراد المتبايعين، وإنما المهم ظهور كلامهما في تحديد مرادهما.

وربما يأتي التنبيه لبعض صغريات ذلك.

ص: 73

بالقرينة العامة (1) أو الخاصة، فمن باع بستاناً دخل فيه الأرض والشجر والنخل (2) والطوف (3) والبئر (4) والناعور (5) والحضيرة ونحوها مما

---------------

(1) من أظهر أفراد القرينة العامة العرف الذي يعيشه المتبايعان.

لكن في المسالك أن العرف الشرعي مقدم علي العرف.

وفي الحدائق: «الواجب هو حمل اللفظ علي الحقيقة الشرعية إن وجدت، وإلا فعلي عرفهم (عليهم السلام)، لأنه مقدم علي عرف الناس إن ثبت، وإلا فعلي ما هو المتعارف في ألسن المتخاطبين والمتبادر في محاوراتهم».

وهو كما تري ضرورة أن المهم لما كان هو تشخيص مراد المتعاقدين فظاهر الإطلاق المقامي لكلامهما هو جريهما علي العرف الذي يعيشانه.

وتقديم العرف الشرعي أو الحقيقة الشرعية إنما هو لتشخيص المراد من كلام الشارع ومن يعيش عرفه، لا مطلقاً.

نعم ورد التحديد التعبدي في بعض المفاهيم التشكيكية، كالقديم والكثير وغيرهما.

لكنه لو تم مختص بمورده، كالوصايا والنذور في فرض عدم وجود عرف في تحديدها.

وقد يأتي نظيره في المقام.

(2) بلا خلاف ولا إشكال، كما في الجواهر وهو المقطوع به من معني البستان.

(3) بلا ريب، كما في الجواهر.

وأطلق في الشرائع دخول الأبنية التي فيه.

وهي وإن لم تؤخذ في مفهوم البستان، إلا أنها في ظرف وجودها فيه تعدّ جزءاً منه عرفاً.

ولا أقل من دخولها تبعاً، بحيث يحتاج عدم شمول البيع لها للتنبيه.

وقد سبق كفاية ذلك في المقام.

(4) الكلام فيه هو الكلام في الأبنية، بل لعله أظهر.

(5) لا ينبغي الإشكال في خروجه عن لفظ البستان بسبب قابليته للنقل.

فلابد في وجه دخوله من دعوي التبعية عادة.

ولا يتيسر لنا إحراز ذلك، خصوصاً بعد أن هجر استعماله في هذه الأيام، وأبدل بوسائل السقي الكهربائية، التي كان الظاهر عدم

ص: 74

هو من أجزائها أو توابعها (1).

أما من باع أرضاً فلا يدخل فيها الشجر والنخل الموجودان (2) وكذا لا يدخل الحمل في بيع الأم (3) ولا الثمرة في

---------------

دخولها في بيع البساتين.

(1) كما يظهر الوجه فيه مما سبق.

(2) كما ذكره غير واحد.

بل قد يظهر من الجواهر عدم الخلاف فيه.

وهو غير بعيد لو كان من شأن الموجود القلع.

أما لو كان من شأنه البقاء فعدم دخوله يستلزم بقاء حق للبائع في الأرض من أجل خدمة الموجود فيها والانتفاع بنمائه.

وهو يحتاج إلي عناية قد يكون معها عدم التنبيه لخروجه قرينة علي دخوله في بيع الأرض تبعاً.

وإن كان الغالب وجود القرائن العامة أو الخاصة حين البيع والشاهدة بأحد الأمرين.

(3) علي الأظهر الأشهر، بل المشهور.

بل ربما أدعي عدم الخلاف فيه، بل في السرائر الإجماع عليه.

كذا في الجواهر.

لكن في الوسيلة أنه يكون للمشتري إلا إذا شرط البائع.

وهو ظاهر المحكي عن ابن الجنيد.

بل في المبسوط وعن المهذب وجواهر القاضي أنه لا يجوز للبائع اشتراطه لنفسه، لأنه يجري مجري عضو من أعضائه.

ولا يتضح الوجه في ذلك، فإن إلحاق الحمل بالأعضاء أشبه بالقياس.

ولاسيما أن الدليل علي عدم جواز استثناء الأعضاء في الجملة هو الإجماع لو تم، وأن الشيخ (قده) نفسه صرح في النهاية بجواز بيع أبعاض الحيوان.

وقال في موضع آخر منها: «وإذا باع الإنسان بعيراً أو بقراً أو غنماً واستثني الرأس والجلد كان شريكاً للمبتاع بمقدار الرأس والجلد».

وفي المبسوط وفي الخلاف وإن منع من الاستثناء المذكور، إلا أنه ذكر أنه لو حصل يكون البائع شريكاً بالنسبة، ونحوه في المهذب.

ومثله الاستدلال له بموثق السكوني عن جعفر عن آبائه (عليهم السلام): «في رجل أعتق أمة وهي حبلي فاستثني ما في بطنها.

قال: الأمة حرة، وما في بطنها حر، لأن ما في

ص: 75

بيع الشجرة (1).

نعم إذا باع نخلاً فإن كان التمر مؤبراً فالتمر للبائع وإن لم

---------------

بطنها منها»(1). إذ فيه: أنه لو تم العمل به في مورده فالمنع من الاستثناء في العتق لا يستلزم المنع منه في البيع.

علي أن بعض النصوص قد تضمن عدم إلحاق الحمل السابق علي تدبير الحامل بها في التدبير(2).

ومن هنا لا ينبغي الإشكال في جواز استثناء الحمل في البيع.

ولعله لذا حمل في السرائر كلام الشيخ في المبسوط علي أنه بيان لمذهب الشافعي لا لمذهبه نفسه، وأن ذلك اشتبه علي ابن البراج، فظنه مذهباً للشيخ نفسه، فتابعه فيه، وأن مذهب الشيخ عدم إلحاق الحمل وبقاءه في ملك البائع كما ذكره في بقية كتبه، وادعي في السرائر إجماع أصحابنا عليه.

وأما إلحاق الحمل بالمبيع فلا مجال له بلحاق اللفظ، لمباينة الحمل لأمه قطعاً.

وكذا بلحاظ التبعية مع عدم تعارف إلحاقه.

لكن قد تختلف الأعراف والأزمنة في ذلك.

وإن كان الظاهر تعارف إلحاقه في عصورنا.

ولذا يعد الحمل مزية في الحيوان المبيع.

بل لما كان الاستثناء يقتضي نحو حق للبائع في المبيع، فإطلاق البيع قد يوجب ظهوره في استقلال المشتري بالمبيع، بنحو يكون قرينة علي الإلحاق، ويحتاج الاستثناء للقرينة المخرجة عن مقتضي الإطلاق، نظير ما تقدم في الشجر والنخل عند بيع الأرض.

فلاحظ.

(1) كما صرح به غير واحد، بل قد يدعي عدم الخلاف فيه، بل قد يظهر من بعضهم الإجماع عليه.

وإن كانت كلمات بعضهم لا تناسب ذلك.

ومقتضي إطلاق بعضهم وصريح آخرين عدم الفرق بين نضجها وعدمه وبدو صلاحها وعدمه.

وهو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 69 من أبواب كتاب العتق حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 5 من أبواب كتاب التدبير حديث: 2، 3.

ص: 76

يكن مؤبراً فهو للمشتري (1).

ويختص هذا الحكم ببيع النخل (2)، إما بنقل النخل بغير البيع، أو بيع غير النخل من سائر الشجر، فالثمر فيه للبائع مطلقاً وإن لم يكن مؤبراً (3).

هذا إذا لم تكن قرينة علي دخول الثمر في بيع الشجر أو الشجر في بيع الأرض أو الحمل في بيع الدابة، أما إذا قامت القرينة علي

---------------

المتعين بلحاظ حاق اللفظ، لمباينة الثمرة للشجرة قطعاً.

أما بلحاظ التبعية فهو موقوف علي عدم تعارف الإلحاق وعدم قيام القرينة عليه.

ولا يتيسر لنا إحراز ذلك، خصوصاً إذا لم يحن جني الثمرة، لما أشرنا إليه فيما سبق من أن إطلاق المبيع قد يظهر في استقلال المشتري بالمبيع، بحيث لا يبقي فيه حق للبائع بسبب النماء أو نحوه من التوابع، بنحو قد يكون قرينة علي الإلحاق.

(1) كما صرح به جمهور الأصحاب، وتكررت فيه دعوي الإجماع.

لغير واحد من النصوص، كصحيح غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من باع نخلاً قد أبره فثمره للبائع، إلا أن يشترط المبتاع.

ثم قال: قضي به رسول الله (1)(صلي الله عليه وآله وسلم)، وغيره.

لظهور القيد فيها في الاحتراز، ودلالته علي المفهوم.

وبذلك يخرج عن مقتضي الإطلاق المتقدم لو تم.

إلا أن تقوم العادة علي الإلحاق بحيث تكون قرينة علي اشتراط الثمرة ضمناً.

ومنه يظهر ضعف ما في الوسيلة من جعل المعيار في التفصيل علي بدو الصلاح وعدمه.

(2) لاختصاص النص به.

ولا وجه معه لما يظهر من جملة كلماتهم من الخلاف في بعض فروع ذلك.

ولا يسعنا استقصاؤها.

(3) بناء علي ما سبق منه (قده) وسبق الكلام فيه.

ومثل ذلك ما إذا لم يكن من شأن الشجر التأبير.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 32 من أبواب الخيار حديث: 3.

ص: 77

ذلك، وإن كانت هي المتعارف عمل عليها وكان جميع ذلك للمشتري (1).

(مسألة 2): إذا باع الشجر وبقي الثمر للبائع واحتاج إلي السقي جاز للبائع سقيه (2)، وليس للمشتري منعه.

وكذلك إذا لم يحتج إلي السقي

---------------

(1) كما يظهر مما سبق.

بقي شيء.

وهو أن ما سبق إنما يجري فيما إذا علم المتبايعان حال البيع بواقع المبيع.

ولو جهل المشتري الحال وعلم به البائع، ولم يقصد ولو إجمالاً بيع الحمل مع الدابة أو بيع الشجر مع الأرض أو الثمر مع الشجر، فالمتعين مع إمكان إزالة الشيء التابع هو إزالته، لأن مقتضي البيع تسليم المبيع غير مشغول بشيء.

ولا يمنع من ذلك لزوم الضرر علي البائع من القلع والإزالة، لاستناد الضرر للبائع نفسه بسبب إقدامه علي البيع من دون استثناء للتابع.

أما مع تعذر القلع والإزالة فالمتعين ثبوت الخيار للمشتري.

لكون ذلك عيباً في المبيع وخارجاً عن مقتضي البيع.

ولو رضي بالبيع فهل له أخذ الأجرة من البائع إن كان للإشغال أجرة عرفاً، لاحترام منفعة العين التي اشتراها، أو لا، لعدم استناد إشغال العين للبائع بعد فرض تعذر القلع والإزالة ؟ لا يخلو الثاني عن قوة.

أما لو جهلا معاً بوجود التابع فالمتعين ثبوت الخيار للمشتري إن امتنع البائع من الإزالة ولو للزوم الضرر منها عليه، لعين ما سبق.

بل لا يبعد ثبوت الخيار للبائع أيضاً، لتخلف الوصف المشترط ضمناً في البيع.

إلا أن يكون التابع من شأنه أن يزال، بحيث لا يكون خلو المبيع منه حين البيع مورداً للغرض، كي يكون مشروطاً ضمناً في البيع، فيتعين لزوم البيع في حقهما معاً، ووجوب التخلية والإزالة علي البائع.

فلاحظ.

(2) قال في الجواهر: «لأنه من حقوقها المستحقة له باستحقاق تبقيتها».

والذي ينبغي أن يقال: استحقاق الإبقاء إن كان مستفاداً من دليل تعبدي كما تقدم في النخل

ص: 78

لم يجب علي البائع سقيه (1) وإن أمره المشتري بذلك (2).

نعم لو تضرر أحدهما بالسقي والآخر بتركه ففي تقديم حق البائع أو المشتري وجهان، بل قولان أرجحهما الثاني (3).

-

المؤبر فظاهر الدليل هو الإبقاء بالوجه المتعارف الذي يستتبع الانتفاع بالثمرة، فإذا كان يتوقف علي السقي كان مقتضي الدليل جوازه مطلقاً.

وإن كان مستفاداً من ظهور حال المتبايعين حين العقد، بحيث يكون من سنخ الشرط الضمني، فهو تابع لما يستفاد من الشرط المذكور، والغالب ابتناؤه علي الوجه المتعارف.

فإن احتاجت الثمرة لما زاد عن المتعارف، لطارئ غير متوقع في الطقس أو نحوه، تعين جريان حكم تزاحم الحقين الذي تقدم في المسألة الثلاثين في حكم فسخ البائع المغبون مع تصرف المشتري في العين بمثل الزرع فراجع.

(1) لعدم المنشأ لوجوبه عليه.

(2) لعدم المنشأ لوجوب استجابة البائع للمشتري.

غاية الأمر أن للمشتري أن يسقي الشجر بنفسه.

نعم لو رجع عدم بيع الثمر إلي اشتراط بقاء الشجر تحت يد البائع إلي حين جني الثمر، وإيكال استصلاح الشجر ورعايته له، تعين عليه سقي الشجر إذا احتاج إلي السقي.

كما أنه لو رجع ذلك إلي اشتراط صيرورة الثمر تحت يد المشتري، واستصلاحه له إلي حين جنيه، تعين سقي المشتري للشجر إذا توقف عليه صلاح الثمر.

(3) كما يظهر من الشرائع.

وفي الجواهر: «كما عن الفاضل والشهيدين، بل نسبه ثانيهما إلي الأشهر.

لأن البائع هو الذي أدخل الضرر علي نفسه، بتسليطه عليه».

وفيه: أنه لم يسلطه عليه مطلقاً، بل مع بقاء الثمرة له بنحو يقتضي أن له استصلاحها ومنع الإضرار بها.

ص: 79

استثناء النخلة في بيع البستان

(مسألة 3): إذا باع بستاناً واستثني نخلة مثلاً فله الممر إليها والمخرج منها (1)

---------------

ومثله ما قد يدعي من قصور قاعدة نفي الضرر في حق البائع بعد لزوم الضرر في حق المشتري من إعمالها، فيكون المرجع قاعدة السلطنة علي الشجر في حق المشتري.

إذ فيه: أن ظاهر حال المتبايعين مع علمهما بوجود الثمر، وعدم بيعه مع الشجر تبعاً له، هو بقاؤه إلي حين جنيه مع خدمته في المدة المذكورة بالوجه المتعارف، وذلك يوجب قصور قاعدة السلطنة في حق المشتري علي الشجر، واستحقاق البائع سقي الشجر لصلاح الثمر بسبب الشرط المذكور.

ولا مجال لإعمال قاعدة نفي الضرر في حق المشتري، لأنه قد أقدم علي الضرر بإقدامه علي البيع بالوجه المذكور.

وبذلك يظهر جواز السقي للبائع حتي لو لم يلزم من تركه الضرر عليه، بل كانت فائدته زيادة جودة الثمرة، لأنه أمر يستحقه بمقتضي الشرط المذكور، وسقوط قاعدة نفي الضرر في حق المشتري بإقدامه علي الشراء، كما ذكرنا.

ولعله لذا احتمل في الدروس تقديم حق البائع.

نعم لو زادت حاجة الثمرة للسقي عن المتعارف لطارئ غير متوقع جري حكم تزاحم الحقين بالنحو المتقدم في المسألة الثلاثين في حكم فسخ البائع المغبون مع تصرف المشتري نظير ما تقدم قريباً.

(1) كما في الشرائع والقواعد والدروس وغيرها.

ولا ينبغي الإشكال فيه، لأنه المستفاد من الإطلاق عرفاً بعد كون المقصود بقاء النخلة وعدم قلعها والانتفاع بها، كما هو مفروض كلامهم ظاهراً.

وأما منع البائع من ذلك وقيام المشتري بخدمة الشجرة ودفع ثمرتها للبائع فهو يحتاج إلي عناية، ولا يفهم من الإطلاق.

مضافاً إلي موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال قضي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)

ص: 80

(81)

ومدي جرائدها (1)

---------------

في رجل باع نخلاً واستثني عليه نخلة، فقضي له رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بالمدخل إليها والمخرج منها ومدي جرائده»(1).

كذا رواه فيما تحت أيدينا من الكافي والتهذيب.

ورواه في الوسائل عنهما هكذا: «واستثني غلة نخلات»(2).

فيدل علي المطلوب بفهم عدم الخصوصية أو بالأولوية العرفية.

(1) كما صرح به من تقدم. ولا مجال للاستدلال عليه بفهم العرف، من إطلاق مقام العقد بالتقريب المتقدم. لعدم وضوح بنائهم عليه بعد عدم اطراد توقف الانتفاع بالشجرة عليه.

نعم يقتضيه موثق السكوني المتقدم مؤيداً بمرسل عقبة بن خالد: «أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قضي في هوائر [هذا.

يب] النخل أن تكون النخلة والنخلتان للرجل في حائط الآخر، فيختلفون في حقوق ذلك.

فقضي فيها أن لكل نخلة من أولئك النخل من الأرض مبلغ جريدة من جرائدها حين يعدها [حتي بعدها]»(3).

لكن في صحيح الصفار: «كتبت إليه يعني الحسن بن علي العسكري عليهما السلام في رجل باع بستاناً له فيه شجر وكرم، فاستثني شجرة منها، هل له ممر إلي البستان إلي موضع شجرته التي استثناها؟ وكم لهذه الشجرة التي استثناها إلي حولها بقدر أغصانها أو بقدر موضعها التي هي ثابتة [نابتة.

يب] فيه ؟ فوقع: له من ذلك علي حسب ما باع وأمسك.

فلا يتعدي الحق في ذلك إن شاء الله»(4) وهو صريح في عدم ثبوت تحديد تعبدي بقدر خاص، وأن الأمر في ذلك تابع لقصدهما حين البيع.

ومن هنا لا يبعد الجمع بينه وبين ما سبق بقصر ما سبق علي النخل كما هو مورد كلام

********

(1) الكافي ج: 5 ص: 295، تهذيب الأحكام ج: 7 ص: 144.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب أحكام العقود حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 10 من أبواب كتاب إحياء الأموات حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب أحكام العقود حديث: 1.

ص: 81

ما يدخل في بيع الدار

وعروقها من الأرض (1).

وليس للمشتري منع شيء من ذلك.

(مسألة 4): إذا باع داراً دخل فيها الأرض والبناء الأعلي والأسفل (2)

---------------

من سبق، والعمل علي الصحيح في غيره من الشجر، الذي لو لم يكن هو الظاهر من الشجر عرفاً فلا أقل من لزوم الحمل عليه جمعاً مع ما سبق.

(1) لملازمة ذلك غالباً لبقائها والانتفاع بها المفروض ابتناء الاستثناء للشجرة عليه، فيكون ذلك هو الظاهر من حال المتبايعين عند البيع.

بل لا يبعد استفادة إبقاء ما زاد علي ذلك تبعاً.

إلا أن تبلغ الزيادة حداً خارجاً عن المتعارف، مع عدم إضرار قطعه بالشجرة.

ثم إن ظهور حال المتبايعين إنما يقتضي استحقاق البائع العبور وامتداد العروق من أجل الانتفاع بالنخل والشجر واستصلاحهما ونحو ذلك، دون ملكية الأرض بالمقدار المذكور مع النخل والشجر فإذا يبس النخل والشجر وصارا حطباً من شأنه أن يقلع لا يكون مالكهما مستحقاً لإبقائهما، ولا مالكاً للأرض التابعة لهما، ولا مستحقاً للعبور فيها والانتفاع بها، لارتفاع الحق بارتفاع موضوعه.

والنصوص المتقدمة لا تأبي الحمل علي ذلك، لقرب جريها علي ما يناسب الظهور المذكور.

ويناسب ذلك ما ورد في قضية سمرة بن جندب حين امتنع من الاستئذان من صاحب الحائط عند العبور لعذقه، من ترخيص النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) صاحب الحائط في قلع العذق ورميه إليه لأنه مضار(1).

حيث يظهر من ذلك انقطاع علاقة سمرة بالحائط بذلك، وعدم بقاء حقه في أرضه بالمقدار الذي يقتضيه العبور وفي مدي جرائد العذق.

(2) بلا خلاف ولا إشكال. كذا في الجواهر.

والوجه فيه أن الجميع جزء من الدار عرفاً، فيحتاج خروج بعضه عن المبيع إلي قرينة.

********

(1) الكافي ج: 5 باب: 32 ص 292-294.

ص: 82

(83)

إلا أن يكون الأعلي مستقلاً من حيث المدخل والمخرج فيكون ذلك قرينة علي عدم دخوله (1).

وكذا يدخل في بيع الدار السراديب والبئر والأبواب والأخشاب الداخلة في البناء (2)، وكذا السلم المثبت (3).

بل لا يبعد

---------------

ولا ينافي ذلك ما في مكاتبة الصفار إلي أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام): «في رجل اشتري من رجل بيتاً في داره بجميع حقوقه، وفوقه بيت آخر هل يدخل البيت الأعلي في حقوق البيت الأسفل أم لا؟ فوقع (عليه السلام):

«ليس له إلا ما اشتراه باسمه وموضعه إن شاء الله» (1) ، ونحوها أو عينها مكاتبته الأخري(2).

فإنهما واردتان في البيت الذي في ضمن الدار، ولا إشكال في عدم كون البيت إلا علي جزءاً من البيت الأسفل.

مع أنهما لم تتضمنا عدم دخول البيت الأعلي في المبيع، بل إيكال دخوله وعدمه إلي قصدهما حين البيع، فلا ينافي استظهار قصدهما الدخول في المقام من الإطلاق.

(1) لا يتضح الوجه في قرينته.

بل غاية ما يدعي تعدد البيتين عرفاً، بنحو لا مجال لاستفادة دخوله من الإطلاق.

أو خروج الأعلي عن المتيقن، بحيث يكون عنوان المبيع مجملاً، ويحتاج تحديد المبيع إلي قرينة من عادة أو نحوها.

ولعله لذا قال في الشرائع: «إلا أن يكون الأعلي مستقلاً بما تشهد العادة بخروجه.

مثل أن يكون مساكن متعددة».

(2) لأنها جزء من الدار عرفاً في حال وجودها.

وبه صرح بعضهم في الجملة.

(3) لا ينبغي الإشكال في ذلك إذا كان بناء.

بل وكذا إذا كان خشبياً مثبتاً ببناء.

وأما إذا كان مثبتاً بمسامير ونحوهما مما يقلع من دون تخريب للبناء فلا يخلو عن إشكال.

وأشكل منه ما إذا لم يكن مثبتاً، بل موضوعاً في المحل المناسب للصعود بنحو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 31 من أبواب أحكام العقود حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 31 من أبواب أحكام العقود حديث: 1، 2.

ص: 83

دخول ما فيها من نخل وشجر (1) وأسلاك كهربائية وأنابيب الماء ونحو ذلك مما يعد من توابع الدار (2)، حتي مفتاح الغلق (3)، فإن ذلك كله داخل في المبيع إلا مع الشرط.

-

الاستمرار.

أما إذا كان من شأنه النقل فلا إشكال في عدم دخوله، ويحتاج إلحاقه إلي قرينة.

(1) كما في المبسوط والمهذب، معللاً فيها بأنه من حقوقها.

ولا يخلو عن غموض.

فالعمدة في ذلك أنه وإن لم يكن جزءاً منها، إلا أنه من توابعها عرفاً، بحيث يفهم دخوله من الإطلاق.

ولاسيما إذا لم يكن من شأنه القلع، لنظير ما تقدم في بيع الأرض من أن بقاءه علي ملك البائع يستلزم ثبوت حق له في الدار من أجل استصلاح النخل والشجر وأخذ ثمره، وهو خلاف إطلاق البيع، بل يحتاج إلي عناية يقطع بعدمها من الإطلاق.

ومنه يظهر ضعف ما يظهر من الغنية من توقف ذلك علي أن يبيعها بحقوقها.

وأضعف منه إطلاق غير واحد عدم الدخول، بل في الجواهر عدم الخلاف فيه.

وفي التذكرة: «ولو كان وسطها أشجار لم تدخل عندنا».

وظاهر بعضهم وصريح آخرين عدم الدخول حتي لو بيعت بحقوقها.

وفي الجواهر بعد أن قرب عدم الدخول حتي لو بيعت الدار بحقوقها قال: «ودعوي: كونه من الحقوق.

ممنوعة في الغالب.

بل لو فرض ذلك في بعض الأشجار والزرع المقصود منها نزهة الدار وحسنها كان خارجاً عن محل النزاع، ويكون من قبيل الدخول بالقرائن، بل لا يحتاج فيه للتصريح بالحقوق».

ولم يتضح الوجه في خروجه عن محل النزاع بعد كونه هو الشايع في شجر الدار.

(2) كما يظهر مما سبق.

(3) كما في الشرائع وغيره.

ولا ينبغي الإشكال فيه، لأن وضع اليد عليه من

ص: 84

(مسألة 5): الأحجار المخلوقة في الأرض والمعادن المتكونة فيها تدخل في بيعها (1)، بخلاف الأحجار المدفونة فيها (2) والكنوز المودعة فيها (3) ونحوها، فإنها خارجة.

-

شؤون وضع اليد علي الدار.

وكذا غير الدار مما له باب وغلق ومفتاح.

(1) لأنها تابعة لها بنحو قد تعد جزءاً منها عرفاً.

(2) كما صرح به غير واحد.

وكأنه لخروجها عنها وعدم تبعيتها لها.

لكن في اطراد ذلك إشكال، حيث قد تعد من أجزائها عرفاً أو توابعها فيما إذا كان من شأنها البقاء فيها.

بل حتي في غير ذلك في بعض الأحوال.

ويجري ذلك في غير الأحجار وحتي في الأمور المثبتة بغير الدفن، كالمغاسل الشايعة في عصورنا.

والمتبع في خصوصيات ذلك العرف والعادة.

فلاحظ.

(3) بلا إشكال لخروجها عنها وعدم تبعيتها لها.

ص: 85

ص: 86

(87) (87)

الفصل السابع/ في التسليم والقبض

اشارة

(مسألة 1): يجب علي المتبايعين تسليم العوضين عند انتهاء العقد (1) إذا لم يشترطا التأخير، ولا يجوز لواحد منهما التأخير مع

---------------

(1) يظهر منهم المفروغية عن ذلك.

وهو المتعين لوجهين: الأول: ملكية كل منهما لما تحت يد الآخر، فيحرم عليه منعه منه، وإبقاؤه عنده من غير إذنه.

بل يكون بذلك ضامناً له بضمان اليد، لكون يده عدوانية، فيجب عليه الخروج عن الضمان بتسليمه له.

نعم ذلك يختص بما إذا كان ما خرج عن ملكه بالعقد تحت يده أو في ذمته، أما في غير ذلك، فلا موضوع للوجوب المذكور، حيث لا حبس منه يقتضي العدوان والضمان، ليجب الخروج عنه.

الثاني: أن مبني البيع، بل جميع المعاوضات عرفاً، علي التسليم والتسلم، والتخلف عن ذلك تخلف عن مقتضي المعاوضة لا يتحقق معه الوفاء بها، اللازم في العقود، بل في الشروط أيضاً، بناءً علي ما سبق في أوائل كتاب التجارة من عمومها لكل التزام من شخص لآخر يبتني علي التزام له في مقابله، حتي لو كان بالالتزامين قوام العقد الواحد من دون زيادة علي مضمونه، كالتزام البائع بالثمن للمشتري في

ص: 87

مقابل التزام المشتري له بالثمن، ولا يعتبر فيه أن يكون زائداً علي مضمون العقد، ليقصر عن محل الكلام.

وهذا الوجه يعمّ ما إذا كان العوض خارجاً عن يد من خرج عن ملكه بالعقد، فيجب عليه بمقتضي العقد السعي لتسليمه لصاحبه.

هذا والمشهور عدم الترتيب بين البائع والمشتري في التسليم.

وبه صرح في السرائر والشرائع والمختلف والتذكرة والدروس وكثير غيرها، وحكاه في المختلف عن ابن الجنيد.

وفي الجواهر: «لا أجد فيه خلافاً بين المتأخرين» والوجه فيه عدم الترتيب بينهما في استحقاق ما عند الآخر.

خلافاً للشيخ في الخلاف والمبسوط، فحكم بوجوب التسليم علي البائع أولاً، ثم علي المشتري.

ووافقه في الغنية ومحكي جواهر القاضي.

وقد علله في المبسوط بأن الثمن تابع للمبيع.

وقريب منه في الغنية.

وقد يرجع إليه ما في الخلاف، قال: «دليلنا علي ما قلنا أن الثمن إنما يستحق علي المبيع، فيجب أولاً تسليم المبيع فيستحق الثمن، فإذا سلم المبيع استحق الثمن».

وإلا فمن المعلوم أن الثمن يستحق بالعقد، لا بتسليم المبيع.

وكيف كان فهذا المقدار من التبعية لا يقتضي تقديم التسليم.

نعم احتمل في مجمع البرهان ومفتاح الكرامة توجيه كلامهم بأن المتعارف بين الناس والمتداول بين التجار وغيرهم هو تسليم المبيع قبل تسلم الثمن.

لكن لم يتضح التعارف المذكور، فضلاً عن بلوغه حداً يوجب انصراف إطلاق البيع إلي ذلك، بحيث يكون شرطاً ضمنياً يجب العمل عليه.

ومثله الاستدلال بمعتبر عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في رجل اشتري متاعاً من رجل وأوجبه، غير أنه ترك المتاع عنده ولم يقبضه، قال: آتيك غداً إن شاء الله.

فسرق المتاع من مال من يكون ؟ قال: من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتي

ص: 88

يقبض المتاع ويخرجه من بيته، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتي يرد إليه ماله»(1).

بدعوي: أنه قد فرّع وجوب تسليم الثمن علي استلام المبيع، فلا يجب قبله.

إذ فيه: إنه لم يتضمن ترتيب وجوب تسليم الثمن علي استلام المبيع، بل ترتيب ضمان الثمن علي ذلك، وحيث لا يراد بضمان الثمن استحقاقه إذ لا ريب في استحقاقه بمجرد العقد، تعين كون المراد به لزومه علي نحو الإطلاق بحيث لا يمكن التخلص منه، علي خلاف ما كان عليه قبل قبض المبيع، حيث كان معرضاً لأن يتخلص منه بتعذر استلام المبيع لسرقة أو نحوها، في مقابل احتمال لزومه حتي لو تعذر تسليم المبيع من دون تفريط من البائع، لكون تلفه من مال المشتري لا من مال البائع، فهو أجنبي عما نحن فيه.

ومن ثم كان الظاهر ما عليه المشهور من عدم ثبوت الترجيح بينهما، بل المتعين مع التشاح الإقباض منهما معاً.

ثم إنه قال في المبسوط: «هذا إذا كان كل واحد منهما باذلاً، فأما إذا كان أحدهما غير باذل أصلاً، وقال: لا أسلم ما علي، أجبره الحاكم علي البذل، فإذا حصل البذل حصل الخلاف في أيهما يدفع علي ما بيناه».

ولكن لا دليل علي وجوب البذل قبل التسليم زائداً علي وجوب التسليم، سواء أريد به الأمر النفسي وهو البناء علي التسليم أم تهيئة العوض مقدمة للتسليم، بل الذي تقتضيه المعاملة هو التسليم لا غير، فيكون هو الواجب.

وحينئذ إذا فرض عدم وجوب التسليم علي المشتري قبل تسلمه المبيع فلا وجه لإجباره علي البذل، بل لابد من إجباره علي تسليم الثمن، لكن بعد تسلمه المبيع، لا قبله.

غاية ما يدعي هو جواز امتناع البائع من تسليم المبيع حتي يتوثق من تحصيل الثمن.

لكن ذلك لا يقتضي إجبار المشتري علي بذل الثمن.

بل عدم الاستجابة لطلبه من البائع تسليم المبيع بحيث يجبر الحاكم البائع عند الترافع إلا بعد أن يقوم هو بتوثيق البائع بتسليمه الثمن بعد تسلمه المبيع منه علي أنه لم يتضح الوجه في ذلك بعد فرض

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 89

الإمكان إلا برضا الآخر فإن امتنعا أجبرا (1).

ولو امتنع أحدهما

---------------

عدم ابتناء المبيع علي التسليم والتسلم، بل علي تسليم البائع أولاً ثم تسليم المشتري، فإن استحقاق البائع حينئذٍ التوثق يحتاج إلي دليل.

نظير ما يأتي فيما إذا اشترط أحدهما تأخير التسليم، حيث لا يظهر منهم البناء علي توقف وجوب التسليم علي الآخر علي توثقه من تسلم حقه في وقته.

فلاحظ.

(1) كما صرح بذلك غير واحد.

وفي الجواهر: «كما في كل ممتنع عما وجب عليه».

ولا يخفي أنه بعد استحقاق كل منهما علي الآخر التسليم فامتناع كل منهما عن ذلك إن لم يصل حدّ الترافع للحاكم، فهو لا يزيد علي محرم يكون موضوعاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي قد يصل إلي ولاية الحسبة علي الإجبار علي فعل الواجب وترك الحرام.

وهو لو تمت شروطه يقتضي بدواً أمر كل منهما بالتسليم أو إجباره عليه.

ومقتضي ذلك إجبار من يمكن إجباره وإن تعذر إجبار الآخر.

لكن يظهر منهم المفروغية عن أن لكل منهما الامتناع من التسليم توثقاً لحقه، وأنه لا يجب عليه التسليم مع امتناع الآخر منه، كما يناسبه ما تقدم من المبسوط، بل في الجواهر أنه لا ينبغي الإشكال في فهم ذلك منهم.

وقد استشكل فيه في مجمع البرهان بأنه لما كان مقتضي العقد ملكية كل منهما لما عند الآخر، فاللازم عدم جواز حبس كل منهما لما عنده من أجل أن يقبض حقه، وجواز أخذ كل منهما حقه من غير إذن الآخر له إذا أمكنه علي أي وجه كان، لأن ذلك هو مقتضي الملك.

ومنع أحدهما حق الآخر وظلمه له لا يستلزم جواز الظلم للآخر ومنعه من حقه.

وفي الحدائق أنه جيد.

وفيه: أولاً: أن مقتضي العقد وإن كان هو تملك كل منهما لما عند الآخر، إلا إنا أشرنا آنفاً إلي أنه يقتضي زائداً علي ذلك تسليم ما عنده للآخر وإن لم يكن تحت يده، بحيث يسعي لتحصيله ثم تسليمه.

وحينئذ لا ينبغي الإشكال في عدم بناء العرف

ص: 90

علي التسليم مطلقاً، بل علي التسليم والتسلم، فلا يعد الحبس عندهم من أجل التسلم تعدياً، ولا خروجاً عن مقتضي العقد.

وقد يظهر من المحقق المذكور الاعتراف بذلك في آخر كلامه.

وثانياً: أنه لو غض النظر عن مقتضي العقد فحبس حق الغير مجازاة ومقاصة أمر مقبول عرفاً وشرعاً، وهو من رد الاعتداء بالمثل الذي دل عليه مثل قوله تعالي: (فَمَنِ اعْتَدَي عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَي عَلَيْكُمْ) (1).

ولذا يجوز في مثل المقام لو تعذر عليه حبس أحد العوضين حبس مالاً آخر للطرف الآخر مقاصة.

نعم لا يجري ذلك مع تعذر تسليم أحد العوضين علي من عنده، فلا يكون معتدياً، ليجوز الاعتداء عليه بالمثل، بل ينحصر الأمر حينئذ بالوجه الأول.

هذا ولكن الظاهر أن محل كلامهم في المقام ليس هو الإجبار بملاك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إجبار الحاكم في فرض الترافع والخصومة عنده.

وحينئذ لا يتصور الترافع منهما معاً من أجل طلب تسليم كل منهما مع بذل كل منهما وحضورهما للتسليم.

بل غاية الأمر أن يكون الترافع حينئذ من أجل طلب البدأة بالتسليم، والمفروض أن جواب الحاكم حينئذ عدم المرجح لأحدهما بل الواجب عليهما التسليم والتسلم معاً من دون أن يصل الأمر إلي الإجبار.

وأما مع امتناعهما معاً من التسليم فلا مجال لسماع دعوي كل منهما بعد عدم كونه في مقام أداء ما عليه، وعدم قيامه بمقتضي العقد، وجواز مجازاة كل منهما للآخر بالمثل.

ومن هنا لا يتضح توجيه فرض جبرهما معاً، بل ليس في المقام إلا بيان الحاكم لكل منهما عدم استحقاقه سبق التسلم، أو جبرهما معاً علي التسليم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي سبق استظهار خروجه عن مورد كلامهم

-

(1) سورة البقرة الآية: 194.

ص: 91

مع تسليم صاحبه أجبر الممتنع (1).

ولو اشترط أحدهما تأخير التسليم إلي مدة معينة جاز (2)، وليس لصاحبه الامتناع عن تسليم ما

---------------

(1) قطعاً، لتعديه بعدم تسليمه حينئذ.

بل يكفي في جبره علي التسليم بذل الآخر، بحيث يقع التسليم منهما معاً، كما يظهر مما تقدم.

ثم إنه لا يظهر منهم البناء علي ثبوت الخيار للباذل إذا امتنع الآخر من التسليم، لعدم الإشارة منهم لذلك، بل قد يظهر من بعض كلماتهم المنع منه، ولا يسعنا استقصاؤها.

نعم صرح في المبسوط بثبوت الخيار له مع إعسار الآخر.

وربما يظهر من بعضهم موافقته.

وقد يستفاد ثبوته مع تعذر الإجبار ولو مع عدم الإعسار، لعدم وضوح خصوصية الإعسار، بل من القريب أن يكون المدار عند هؤلاء علي تعذر تحصيل حقه، كما قد يظهر من بعض كلماتهم.

لكن حيث تقدم منا ومنهم ابتناء البيع علي التسليم والتسلم رأساً، فيكون عدم التسليم عقيب البيع بالنحو المتعارف لتعذره، أو للامتناع منه عصياناً خروجاً عن مقتضي البيع، ومخالفة للشرط الضمني الذي يتضمنه، فيتعين ثبوت الخيار بذلك، لنظير ما تقدم في أحكام الشروط من ثبوت الخيار بتخلف الشرط ولو مع إمكان الإجبار.

وهو المناسب لما في الروضة في بيع النسيئة، حيث ذكروا أنه مع تعيين وقت تسليم الثمن يثبت الخيار للبائع بتخلف التسليم عنه، قال: «ولو قيل بثبوته مع الإطلاق أيضاً لو أخل به عن أول وقته كان حسناً، للإخلال بالشرط».

وقد تقدم منا التعرض لذلك عند الكلام في خيار التأخير.

فراجع.

(2) قطعاً لعموم نفوذ الشرط.

وفي اعتبار ضبط المدة كلام تقدم في أواخر الكلام في شروط صحة الشرط.

هذا إذا كان العوض شخصياً، أما إذا كان كلياً فالكلام في وجوب ضبط المدة موكول إلي الكلام في بيع النسيئة والسلف.

ص: 92

عنده (1) حينئذٍ.

كما يجوز أن يشترط البائع لنفسه سكني الدار أو ركوب

---------------

(1) كما صرح به غير واحد والظاهر المفروغية عنه عندهم، لأنه حيث كان مقتضي العقد التسليم من الطرفين، فالخروج عن ذلك في حق المشترط لا يقتضي الخروج عنه في حق الآخر.

بل قد يكون تركه اشتراط التأخير مع اشتراط صاحبه له ظاهراً في التزامه بتعجيل التسليم، بحيث يكون مؤكداً لمقتضي العقد.

نعم لو صادف عدم تسليمه عصياناً أو لعذر حتي حلّ الأجل، فلا ينبغي الإشكال في عدم وجوب تسليم المؤجل إذا لم يكن الطرف الآخر في مقام التسليم، لأن تأجيله لا يقتضي رفع اليد عما يقتضيه العقد من تسليم الطرف الآخر.

وهل يجب علي الطرف الآخر التسليم إذا امتنع صاحب المؤجل من تسليمه للمؤجل بعد حلول الأجل، أو لا، بل له الامتناع حينئذ من التسليم.

حتي يستلم ماله المفروض حلول أجله ؟ صرح بالأول في التذكرة.

وكأنه لأن رضاه بالتأجيل يرجع إلي رفعه اليد عما يقتضيه العقد من تسلمه لحقه من صاحب الأجل، والتزامه بالتسليم وإن لم يستلم.

لكنه في غاية المنع، لأن رضاه بالتأجيل إنما يقتضي رفعه اليد عن تعجيل التسلم، لا عن أصل التسلم ولو بعد الأجل، فمع فرض امتناع صاحب المؤجل عن التسليم بعد حلول الأجل يكون خارجاً عن مقتضي العقد، فللطرف الآخر الامتناع من التسليم إلا مع التسلم حينئذٍ، عملاً بمقتضي العقد، ومقاصة لصاحبه في حبس حقه.

وعلي ذلك جري بعض مشايخنا فيما حكي عنه.

بل لو كان قد دفع ما عنده بعد العقد، ثم حلّ الأجل ولم يدفع له الطرف الآخر المؤجل كان له استرجاع ما دفعه مع بقاء عينه وحبسه عليه حتي يستوفي حقه، جرياً علي مقتضي العقد، نظير ما يأتي في آخر المسألة.

كما أن له فسخ العقد، لخروج صاحبه عن مقتضاه، كما تقدم في فرض امتناع أحد الطرفين عن التسليم.

ص: 93

الدابة أو زرع الأرض أو نحو ذلك من الانتفاع بالمبيع مدة معينة (1).

-

(1) كما ذكر الأولين في الشرائع والقواعد.

وفي الجواهر: «بلا خلاف ولا إشكال في أصل جواز ذلك»، ويقتضيه عموم نفوذ الشروط.

وفي الجواهر: «وظاهر المصنف عدم استحقاق التسليم عليه حينئذ.

ولعله لاقتضاء العرف.

وإلا فلا منافاة بين استحقاق الركوب والسكني ووجوب التقابض».

وما ذكره متين في نفسه.

وإن كان الظاهر أن القرائن المحيطة بالعقد تتحكم في تعيين أحد الأمرين.

وفي لزوم ضبط مدة الانتفاع ما أشرنا إليه من الكلام في لزوم ضبط مدة تأخير التسليم.

بقي في المقام أمران: الأول: قال في المبسوط: «فأما القبض الصحيح فضربان.

أحدهما: أن يسلم القبض باختياره، فيصح القبض.

والثاني: أن يكون الثمن مؤجلاً أو حالاً إلا أن المشتري أوفاه.

فإذا قبضه المشتري بغير اختيار البائع صح القبض.

فأما إذا كان الثمن حالاً، ولم يوفه الثمن، ثم قبض المبيع بغير اختيار البائع لم يصح القبض، وكان للبائع مطالبته برد المبيع إلي يده، لأن له حق الحبس والتوثق به إلي أن يستوفي الثمن».

وقريب منه في التذكرة ويظهر من شيخنا الأعظم (قده) وغيره الجري علي ذلك.

ولا ينبغي الإشكال في جواز استرداده له بناءً علي ما سبق من أن له المجازاة بالمثل.

لكن ذلك لا ينافي صحة القبض وترتب آثاره من خروج المبيع عن ضمان البائع، بحيث لو تلف لم يبطل البيع، وكان تلفه من مال المشتري.

كما يترتب عليه آثار القبض الصحيح، كجواز بيع المقبوض فيما لا يجوز بيعه قبل القبض.

وأما ما سبق من ابتناء البيع علي التسليم والتسلم، فهو إنما يقتضي جواز امتناع البائع من التسليم إذا امتنع المشتري من التسليم.

بل لا يبعد لأجله جواز استرداده ما سلم، لا عدوان المشتري باستلام المبيع، فضلاً عن عدم ترتب أثر القبض علي

ص: 94

تسلمه.

وبعبارة أخري: يكون المشتري باستلام المبيع من دون إذن البائع ولا تسليم الثمن معتدياً بعدم تسليم الثمن لا غير، من دون أن يكون معتدياً بأخذ المبيع أيضاً، فضلاً عن عدم صحة القبض وعدم ترتب الأثر عليه.

وجواز استرجاع المشتري للمبيع حينئذ مقاصة بالمثل، أو لكون مقتضي البيع التسليم والتسلم معاً، لا ينافي جواز قبض المشتري له وتمسكه به.

نظير جواز أخذ المغصوب منه مال الغاصب مقاصة، حيث لا يستلزم عدوان الغاصب باستيلائه علي ماله وتصرفه فيه، بل يختص عدوانه باستيلائه علي مال المغصوب منه لا غير.

نعم يختص ذلك بقبض العوض الشخصي.

أما الكلي فلابد في صحة قبضه من إذن من يؤخذ منه، لعدم تعينه إلا بذلك.

ولا يسقط اعتبار إذنه إلا فيما إذا كان معتدياً بحبسه، حيث قد يقوم الحاكم مقامه، ويكتفي بإذنه، بناء علي ولايته علي الممتنع ولو من باب ولاية الحسبة.

ومع تعذر الرجوع إليه قد يسقط اعتبار الاستئذان.

وللكلام في ذلك مقام آخر.

الثاني: قال شيخنا الأعظم (قده): «ثم إذا ابتدأ أحدهما بالتسليم إما لوجوبه عليه كالبائع علي قول الشيخ أو لتبرعه بذلك أجبر الآخر علي التسليم.

ولا يحجر عليه فيما عنده من العوض، ولا في مال آخر، لعدم الدليل».

والوجه في ذلك ظاهر بناءً علي ما سبق منّا في الوجه الأول.

أما بناءً علي ما تقدم منهم هناك فهو إنما يتم فيما إذا ابتني تسليم الأول علي رفع اليد عما يقتضيه البيع من التسليم والتسلم.

أما إذا ابتني علي العمل عليه وتمسكه بحقه في التسلم فخروج الطرف الآخر عن ذلك يقتضي ثبوت الحق له في استرجاع ما دفع، نظير ما إذا كان القبض بغير إذنه.

فلاحظ.

ص: 95

(مسألة 2): التسليم والقبض فيما لا ينقل (1) هو التخلية برفع المانع

---------------

(1) قد اضطربت كلماتهم في تحديد القبض وذكر له في كلام غير واحد معان مختلفة باختلاف الأمور المقبوضة، كما يظهر بمراجعة كلام شيخنا الأعظم (قده) وغيره ومنه ما ذكره سيدنا المصنف (قده) من الاختلاف في معناه بين الأمور المنقولة وغيرها.

ولعل بعض ذلك راجع إلي تحديد موضوع الأحكام الشرعية المذكورة للقبض، لا علي تحديد مفهومه العرفي.

وقد يكون منه ما ذكره سيدنا المصنف (قده) من أخذ الإذن في التصرف مع التخلية في غير المنقول، لما هو المعلوم من عدم دخل الإذن في مفهوم القبض، ولذا يتحقق القبض من الغاصب.

وقد تقدم من المبسوط جعل الإذن في القبض شرطاً في صحة القبض في الجملة، لا في مفهومه.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال.

.

أولاً: في أنه ليس للقبض معني شرعي ولا متشرعي في قبال معناه العرفي، لعدم المنشأ لاحتمال ذلك، فضلاً عن البناء عليه.

وثانياً: في أن مفهومه العرفي لا يختلف باختلاف متعلقه، بل غاية الأمر أن يختلف ما يتحقق به باختلاف متعلقه، أو حتي في المتعلق الواحد، نظير ما ذكره سيدنا المصنف (قده) من حصوله في الثوب بأخذه ولبسه، لو تم.

ومن هنا كان الظاهر أن المراد به عرفاً هو أخذ الشيء والاستيلاء عليه.

بل لا يبعد كون أصله لغة هو الاستيلاء علي الشيء بالكف، بحيث تنضم عليه الأصابع، إلا أن شيوع استعماله فيما لا يمكن فيه ذلك أوجب التوسع في مفهومه، وإرادة مطلق الأخذ والاستيلاء منه، كما ذكرنا.

من دون فرق في ذلك بين المنقول وغيره.

ولذا لو كان المنقول في ضمن غير المنقول كالمتاع في الدار كفي في قبضه قبض غير المنقول بالاستيلاء عليه، لأن قبضه والاستيلاء عليه قبض واستيلاء علي ما فيه.

نعم تحديد معني القبض عرفاً أو شرعاً إنما ينفع فيما إذا كان بعنوانه مأخوذاً

ص: 96

(97)

شرعاً في أدلة الأحكام التي ذكرها الفقهاء له.

مع أنه ليس كذلك، لاختلاف مفاد الأدلة المذكورة.

ولا ملزم بإرجاعها لمعني واحد وحمل بعضها علي الآخر بعد إمكان اختلاف موضوعات تلك الأحكام.

ومجرد ذكر جماعة من الفقهاء لها في باب التسليم والقبض لا ينهض بذلك بعد إمكان تسامحهم في التبويب، أو التباس الأمر عليهم.

ولاسيما أن التبويب أمر مستحدث للفقهاء عند تدوين الفتاوي المتحصلة من النصوص، بعد أن كانت سيرتهم علي بيان فتاواهم من طريق النصوص التي يعتمدونها ويثبتونها، وبعد تعرض التبويب منهم للاختلاف والتطوير، وبعد ظهور عدم دقتهم في التبويب في كثير من الموارد.

وعلي ذلك يتعين تحديد موضوع كل حكم من تلك الأحكام بحياله واستقلاله تبعاً لدليله.

وأول هذه الأحكام هو وجوب التسليم علي كل من المتبايعين الذي تقدم التعرض له والاستدلال عليه.

وقد تقدم الاستدلال عليه بوجهين: الأول: حرمة حبس مال كل منهما علي الآخر ووضع يده عليه.

وهو لا يقتضي إلا حرمة حبس العوض ووضع اليد عليه.

ويكفي في الخروج عن ذلك بذله لصاحبه وتمكينه منه، سواء قبضه الآخر أم لم يقبضه.

كما أنه يقصر عما إذا لم يكن العوض تحت يد من خرج عن ملكه بالبيع، فضلاً عما إذا كان تحت يد غيره، وإن كان قادراً علي أخذه وتسليمه لمن دخل في ملكه.

الثاني: ابتناء البيع علي التسليم والتسلم.

والظاهر أن الذي يقتضيه البيع في حق كل منهما، ويكون هو المشروط ضمناً فيه، هو تمكين صاحبه من ماله الذي حصل عليه بالعقد، لا إقباضه له.

نعم لابد من التمكين منه بالمباشرة، بحيث لا يحتاج إلي مؤنة، ولو كانت هي قطع المسافة.

وأما القبض والأخذ فهو يجب علي صاحبه الذي صار له بالعقد، بحيث ليس له تركه عنده وتحميله مسؤولية حفظه.

ولو امتنع من

ص: 97

اذا تلف المبيع بافة سماوية قبل القبض

عنه والأذن لصاحبه في التصرف (1).

أما في المنقول فلابد فيه من الاستيلاء عليه علي نحو خاص فيحصل في الثوب بأخذه وبلبسه (2)، وفي الدابة بركوبها وأخذ لجامها (3)، وفي الدرهم والدينار بأخذه.

(مسألة 3): إذا تلف المبيع بآفة سماوية أو أرضية قبل قبض المشتري انفسخ البيع، وكان تلفه من مال البائع (4)، ورجع الثمن إلي المشتري.

-

الأخذ كان للأول إجباره، ليتخلص من تبعة ضمانه، أو الخيار لخروج صاحبه عن مقتضي العقد، الذي سبق أنه موجب للخيار.

وأما بقية الأحكام المذكورة للقبض فتحديد موضوعاتها تابع لأدلتها التي يتعين الكلام في مفادها عن التعرض لتلك الأحكام إن شاء الله تعالي.

(1) مما سبق يتضح عدم دخل الإذن في القبض بما له من معني عرفي.

ولا في التسليم الواجب بمقتضي البيع، بل يكفي التمكين منه وعدم المنع، بحيث يقدر علي أخذه من دون خوف مانع.

(2) الظاهر عدم صدق قبض الثوب بلبسه إذا لم يتحقق منه الأخذ والاستيلاء، كما لو كان المئزر بيد شخص متمسك به، وفسح المجال لآخر ليأتزر به من دون أن يتركه ويتخلي عنه، حيث لا يصدق قبضه في حق اللابس، بل في حق المتمسك به بيده.

(3) الظاهر عدم صدق قبض الدابة مع كل منهما إذا لم يتحقق به الأخذ والاستيلاء، كما إذا ركب الدابة مع استيلاء غيره عليها بأن يكون لجامها بيد الغير بنحو يكون هو المسيطر عليها والمتحكم فيها.

أو أخذ لجام الدابة من أن يسيطر عليها، لشرودها أو كونها تحت سيطرة شخص آخر راكب لها أو محتضن لها أو نحو ذلك.

(4) بلا خلاف أجده فيه، كما في الجواهر، وإجماعاً كما في الخلاف والسرائر وكشف الرموز وجامع المقاصد والروضة وظاهر التذكرة، كما نفي الريب فيه في جامع المقاصد.

وفي مرآة العقول أنه مقطوع به في كلام الأصحاب.

وقال شيخنا

ص: 98

(99)

الأعظم (قده): «إجماعاً مستفيضاً، بل محققاً».

ولا يظهر الخلاف منهم في ذلك إلا في مورد خيار التأخير، حيث تقدم من المفيد وجماعة أن التلف في الأيام الثلاثة من مال المشتري.

وتقدم ضعفه.

وكيف كان فيقتضيه النبوي: «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه»(1) ، وحديث عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في رجل اشتري متاعاً من رجل وأوجبه، غير أنه ترك المتاع عنده ولم يقبضه، قال: آتيك غداً إن شاء الله، فسرق المتاع من مال من يكون ؟ قال: من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتي يقبض المتاع ويخرجه من بيته، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتي يرد إليه ماله»(2).

وخبر خالد بن حجاج الكرخي في حديث طويل عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: كل طعام اشتريته من بيدر أو طسوج، فأتي الله عز وجل عليه، فليس للمشتري إلا رأس ماله.

وما اشتري من طعام موصوف ولم يسمّ فيه قرية ولا موضعاً فعلي صاحبه أن يؤديه»(3).

لكن ضعف النبوي مانع من التعويل عليه وإن وصفه شيخنا الأعظم (قده) بالمشهور بعد عدم ذكره في مجاميع الحديث التي يرجع إليها الأصحاب، وإنما حكي عن عوالي اللآلي إرساله عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم).

ولاسيما مع عدم شيوع استدلال الفقهاء به بنحو يظهر منهم التعويل عليه في المقام، ويكون جابراً له.

ومجرد موافقة فتواهم له لا تكفي في جبره، كما تقدم غيره.

فالعمدة في المقام حديث عقبة، مؤيداً بخبر خالد بن الحجاج.

لاعتبار حديث عقبة في نفسه، إذ ليس في سنده من لم ينص علي توثيقه غير محمد بن هلال وعقبة بن خالد، ويكفي في وثاقتهما كونهما من رجال أسانيد كتاب كامل الزيارات.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 9 من أبواب الخيار حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب الخيار حديث: 1.

(3) من لا يحضره الفقيه ج: 3 ص 131 من أبواب البيوع حديث: 10.

ص: 99

ولاسيما مع ظهور اعتماد الأصحاب عليهما، واعتضادهما بالإجماع المدعي في مثل هذه المسألة الشائعة الابتلاء، التي يمتنع عادة خفاء حكمها علي الأصحاب.

هذا وعن بعض مشايخنا (قده) الاستدلال بسيرة العقلاء، بدعوي بنائهم علي عدم استحقاق البائع المطالبة بالثمن مع تلف المبيع وتعذر تسلمه.

وقد يتجه ذلك فيما إذا كان عدم التسليم لتقصير البائع.

أما إذا لم يستند له، بل لعدم تصدي المشتري للقبض، فلا يتضح منهم البناء علي عدم استحقاق المطالبة بالثمن، خصوصاً إذا طلب البائع منه القبض، مع أنه لا يظهر منه ولا من غيره البناء علي الخروج عن الضمان حينئذ، إذ غاية ما ذكروا علي كلام بينهم هو الاكتفاء في الخروج عن الضمان بالتخلية غير الحاصلة بذلك.

ومن هنا ينحصر في دليل المسألة بما سبق.

بقي في المقام أمران: الأول: أن المفروغ عنه بينهم في المقام أن ضمان البائع هنا ليس بمعني تحميله درك خسارة المشتري بتلف المبيع من ماله، وذلك بدفع قيمته الواقعية له مع بقاء البيع بحاله بحيث يستحق البائع الثمن، بل هو راجع إلي عدم استحقاق الثمن علي المشتري، كما لو تلف المبيع من ماله قبل أن يخرج عنه بالبيع، المساوق لانفساخ البيع.

وهو كالصريح من قوله (عليه السلام) في حديث عقبة: «فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتي يرد عليه ماله».

لإناطته وجوب دفع الثمن علي المشتري بما إذا أخرج البائع المبيع عن بيته، وظهوره في أن مرجع كون المبيع في ضمان البائع إلي عدم استحقاقه لثمنه بل هو صريح خالد بن حجاج.

كما أن ذلك هو مقتضي التعبير في حديث عقبة وفي النبوي بأن التلف والسرقة تكون من مال البائع، فكأن التالف والمسروق ماله، مع أنه لو كان علي البائع ضمان قيمة المبيع للمشتري لكان تلفه من مال المشتري وإن وجب ضمانه علي البائع.

ص: 100

(101)

في معني ضمان البايع

بل السؤال في حديث عقبة عمن يتحمل خسارة المال شاهد بالمفروغية عن ثبوت الضمان، والسؤال عن تعيين الضامن، وذلك لا يكون إلا في الضمان بمعني تحمل خسارة المال، لا في الضمان بمعني تحمل الدرك مع بقاء البيع بحاله، بحيث يستحق البائع الثمن، لظهور أنه لا معني لتحمل المشتري درك ماله، بل المناسب حينئذ السؤال عن ضمان البائع لا غير.

نظير ما تقدم في أواخر الفصل الخامس عند الكلام في ضمان البائع للمبيع في مدة خيار الحيوان والشرط فراجع.

ومن هنا عبر سيدنا المصنف وجماعة بانفساخ البيع.

نعم النص لم يتضمن انفساخ البيع، وإنما تضمن أن الخسارة علي البائع، وأن المشتري لا يكون ملزماً بدفع الثمن له.

وهو إنما يستلزم لغوية نفوذ البيع فيما إذا انحصر أثر صحته ونفوذه بوجوب دفع الثمن، كما في تلف المبيع حقيقة، بحيث لا يبقي منه شيء قابل لأن يملك.

ولا دليل علي انفساخ البيع في غير ذلك، مثل سرقة المبيع التي هي مورد حديث عقبة، بحيث ليس للمشتري مطالبة السارق، أو الانتظار برجاء تحصيل المبيع.

غاية الأمر أن يكون له الإعراض عن البيع وفسخه، كما في الشرائع فيما لو غصب المبيع، لعدم تحقق مقتضاه وهو التسليم، وله الانتظار برجاء تحصيل المبيع.

كما أن له حينئذ التصرف فيه بما لا يتوقف علي القبض كالعتق ونحوه كما في المسالك والجواهر فيما لو غصب المبيع.

ويتعين عليه حينئذ دفع الثمن للبائع، لعدم فوت المبيع عليه، كما لو قبضه.

ولا أقل من خروجه عن مفاد النص، خصوصاً حديث عقبة الذي هو عمدة الأدلة في المقام.

ومنه يظهر الإشكال فيما في التذكرة.

قال: «ووقوع الدرة في البحر قبل القبض كالتلف ينفسخ به البيع.

وكذا انفلات الطير والصيد المتوحش... ولو أبق العبد قبل القبض، أو ضاع في انتهاب العسكر، لم ينفسخ البيع، لبقاء المالية ورجاء العود».

حيث ظهر مما سبق أنه لا دليل في جميع ذلك علي انفساخ البيع بحيث يخرج المبيع عن

ص: 101

ملك المشتري.

كما أنه لم يتضح أن المعيار عنده في التفصيل علي تعذر تحصيل المبيع واقعاً ولو مع اعتقاد أو رجاء تحصيله، بحيث لو لم يتيسر بعد ذلك انكشف انفساخ البيع من أول الأمر، المستلزم لانكشاف عدم نفوذ تصرف البائع في الثمن لو كان تحت يده، بل يكون فضولياً.

أو أن المعيار فيه علي اليأس من تحصيله، بحيث لو صادف تحصيله بعد ذلك كان ملكاً للبائع ولا ينكشف عدم انفساخ البيع.

وعلي الثاني فالمعيار علي يأس المشتري، أو يأس البائع أو يأسهما معاً، أو يأس عامة الناس.

الثاني: وقع الكلام بينهم في أنه هل يعتبر في الخروج عن الضمان أخذ المشتري للمبيع واستيلاؤه عليه، أو يكفي فيه تخلية البائع بين المشتري والمبيع، بحيث يقدر علي أخذه وإن لم يأخذه فعلاً، وحيث سبق توقف القبض علي الأخذ والاستيلاء، وعدم الاكتفاء فيه بالتخلية، فلابد في البناء علي الاكتفاء بالتخلية من نهوض الأدلة بالاكتفاء بها في الخروج عن الضمان، وعدم توقفه علي القبض.

فنقول: لا ينبغي الإشكال في أن ضمان البائع في المقام مخالف للقاعدة بعد صحة البيع في نفسه، وخروج المبيع عن ملكه إلي ملك المشتري، فاللازم الاقتصار فيه علي المتيقن.

وحيث سبق أن العمدة في أدلة المسألة حديث عقبة فاللازم النظر في مفاده.

ومقتضي قوله (عليه السلام): «حتي يقبض المتاع ويخرجه من بيته» اعتبار كل من قبض المشتري للمتاع وإخراج البائع له من بيته وحوزته.

ولا يعرف منهم البناء علي ذلك، بل يظهر منهم حمل الجمع بينهما علي التأكيد، وأن المعتبر أحدهما لا غير، وذكر الآخر لملازمته له ولو غالباً، من دون أن يكون دخيلاً في انتقال الضمان.

وهو المناسب لقوله (عليه السلام): «فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتي يرد إليه ماله».

حيث يظهر منه أن المعيار علي إخراج المال من بيته وحوزته، ويكون قرينة علي أن ذكر قبض المشتري في الفقرة الأولي تبعاً له للتلازم بينهما غالباً، لا لكونه دخيلاً معه.

ص: 102

(103)

الكلام في معني الخروج عن الضمان

ودعوي: أنه قد لا يكون إهمال القبض في الفقرة الثالثة لعدم دخله بنفسه، بل للاكتفاء بذكره في الفقرة الأولي.

مدفوعة بأن حمل الجمع بينهما في الفقرة الأولي علي التأكيد أو نحوه بقرينة الفقرة الثانية أقرب عرفاً من حمل تركه في الفقرة الثانية علي الاختصار اعتماداً علي ذكره في الفقرة الأولي، لمناسبة الدخول في الحوزة للضمان، ولأن التكرار والتأكيد في الاستعمالات أشيع من الاختصار.

ومن ثم تكون الفقرة الثانية عرفاً كالشارحة المفسرة للفقرة الأولي.

هذا كله بناءً علي ورود احتمال اعتبار اجتماع الأمرين معاً.

أما بناءً علي ما يظهر منهم من أن المعتبر أحد الأمرين لا غير، فالمتعين البناء علي المعتبر في انتقال الضمان هو إخراج البائع للمبيع عن حوزته، دون قبض المشتري له، لأن ذكر الأمرين في الفقرة الأولي، والاقتصار علي الأول في الثانية، كالصريح في أن الموضوع الحقيقي هو الأول دون الثاني، وأن ذكر الثاني في الفقرة الأولي تبعاً للتلازم بين الأمرين غالباً.

إن قلت: لازم ذلك بقاء المبيع في ضمان البائع إذا لم يخرجه من بيته حتي مع قبض المشتري له، ولا يظن من أحد البناء علي ذلك.

قلت: الظاهر من إخراجه من بيته في الحديث الكناية عن خروجه عن حوزته وسيطرته، بحيث لا يكون مستولياً عليه كما كان مستولياً قبل بيعه وبعده حينما رضي ببقائه عنده.

ومع قبض المشتري له يكون المستولي عليه هو المشتري دون البائع وإن كان المشتري بعد عند البائع ولم يخرج عن بيته.

ومثل ذلك ما إذا قبضه المشتري ثم أودعه عند البائع، فإنه وإن صار حينئذ في حوزة البائع وتحت سيطرته، إلا أن ذلك ليس بقاء لسيطرته عليه عند البيع برضاه واستمراراً لها، ليبقي في ضمانه، بل هو أخذ جديد بعد أن خرج عن ضمانه، ولزم له الثمن علي المشتري، والعود المذكور بعنوان الأمانة التي ثبت عدم الضمان بها.

وإنما يظهر أثر ما ذكرناه فيما لو جاء المشتري، فأخرج البائع المبيع عن حوزته، وخلي بينه وبين المشتري، فامتنع المشتري عن قبضه.

فإنه بناءً علي اعتبار القبض في

ص: 103

انتقال الضمان يتعين بقاء المبيع في عهدة البائع، ويكون تلفه من ماله.

وبناءً علي ما ذكرنا يخرج المبيع عن عهدة البائع، ويكون تلفه من مال المشتري، ويستحق عليه البائع الثمن.

نعم ليس له إخراج المبيع عن حوزته وتركه معرضاً للتلف إذا لم يكن بوسع المشتري أخذه وحفظه، لجهله بذلك أو عجزه عن الوصول إليه وأخذه أو حفظه.

حيث يكون البائع مفرطاً به حينئذ، ويتعين ضمانه له بالثمن أو بقيمته الحقيقية.

هذا كله إذا رضي البائع بترك المبيع عنده من أول الأمر، كما هو المنصرف أو المتيقن من حديث عقبة.

أما إذا امتنع من أول الأمر من ذلك، وطلب من المشتري أخذه فلم يأخذه وأبقاه عنده من دون رضاه، فالمتعين كون تلفه من مال المشتري، عملاً بالقاعدة المشار إليها آنفاً بعد عدم المخرج عنها حينئذ.

ودعوي: أن المستفاد من حديث عقبة بيان الضابط العام للخروج عن الضمان من دون اختصاص بمورد الحديث.

ممنوعة، لعدم الشاهد علي ذلك بعد بيان الضابط المذكور فيه في جواب السؤال عن مورده، لا ابتداءً.

وإنما قد يتجه ذلك في مثل النبوي المتضمن لبيان الضابط في ذلك ابتداءً.

إلا أنه سبق عدم نهوضه بالاستدلال.

نعم سبق أن للبائع الفسخ حينئذٍ، لخروج المشتري عن مقتضي العقد.

لكن إذا لم يفسخ فإن كان التلف من غيره من دون تفريط منه تعين عدم ضمانه له أصلاً، وإن كان التلف مستنداً له تعين ضمانه للمبيع بقيمته الحقيقية، عملاً بالقاعدة.

أما إذا لم يستند إليه لكن كان بتفريط منه، لعدم صونه له وتحفظه عليه، فلا يخلو الأمر عن إشكال.

وإن كان الأنسب بالقواعد عدم ضمانه، لا بالثمن، لخروجه عن مفاد حديث عتبة، ولا بقيمته الحقيقية، لعدم الموجب لضمانه.

ومجرد عدم تحفظه عليه لا دليل علي سببيته للضمان بعد أن لم يكن أميناً عليه، لعدم رضاه ببقائه عنده.

ودعوي: أنه وإن لم يكن أمانة مالكيتة، إلا أنه أمانة شرعية بعد عدم أخذ مالكه له، فلا يجوز التفريط به، ويتعين معه الضمان، نظير اللقطة ومجهول المالك ومال

ص: 104

الغائب وغيرها.

مدفوعة: بأن الأمانة الشرعية هي ما يثبت اهتمام الشارع بها، بحيث يكلف غير المالك بحفظها.

ولا مجال لإحراز ذلك في المقام بعد تسامح المالك في ماله وامتناعه من قبضه.

بخلاف اللقطة ونحوها مما سبق.

ولاسيما أن الأمور المذكورة قد استولي عليها آخذها ولو غفلة عن عدم كونها له، ولم يتعد صاحبها بجعلها عنده، كما في المقام.

كما أنه لا دليل علي مضمنية اليد للبائع بعد عدم استيلائه علي مال الغير من دون إذنه، بل حين كان المال تحت يده في أول الأمر كان له، وبعد أن خرج عن ملكه لم يحبسه عن صاحبه، بل تركه صاحبه عنده عدواناً عليه من دون عذر.

ويجري ذلك في كل مال تركه صاحبه عند غيره من دون رضا ذلك الغير.

فلاحظ.

وإن شئت قلت: بعد أن لم يكن مقتضي البيع التسليم، بل مجرد البذل والتمكين، كما سبق، فحيث كان حديث عقبة مختصاً بصورة رضا البائع ببقاء المبيع عنده، وظاهراً في الاكتفاء في خروجه عن ضمانه بخروجه عن حوزته، فاللازم الاقتصار في الضمان علي مفاده وعدم التعدي عنه.

وبذلك يظهر أنه لا يكفي في خروج البائع عن الضمان التخلية بين المشتري والمبيع وتمكينه منه، بل لابد معه من إخراج البائع له عن حوزته بوجه سائغ، بحيث لا يكون عرفاً مفرطاً في المبيع، لقدرة المشتري علي أخذه.

فلاحظ.

هذا ومن الظاهر أنه لو كان الدليل في المقام هو النبوي فمقتضاه أن المعيار هو قبض المشتري، وعدم كفاية التخلية.

ودعوي: أن ضمان البائع مع التخلية وامتناع المشتري من القبض ضرر علي البائع.

مدفوعة بأن الحكم بضمان البائع ضرري علي كل حال، فدليله أخص من قاعدة نفي الضرر مطلقاً، ولا مجال مع ذلك لتحكيم قاعدة نفي الضرر عليه، بل يتعين التمسك بإطلاق دليله، لأن إطلاق دليل الخاص مقدم علي إطلاق دليل العام.

ص: 105

موارد تحقق القبض

وكذا إذا تلف الثمن قبل قبض البائع (1).

ولو تعذر الوصول إليه كما لو سرق أو غرق أو نهب أو أبق العبد أو أفلت الطائر أو نحو ذلك فهو

---------------

نعم قد يدعي انصراف النبوي عن صورة امتناع المشتري من القبض.

أو لزوم الجمع بينه وبين حديث عقبة بحمل ذكر القبض في النبوي علي مجرد ملازمته لمعيار رفع الضمان، وهو الخروج عن حوزة المشتري من دون أن يكون هو المعيار في رفعه.

وإن كنا في غني عن إطالة الكلام في ذلك بعدما سبق من عدم نهوض النبوي بالاستدلال.

وأما خبر خالد بن حجاج فهو وارد في مقام التفريق بين الكلي في المعين والكلي المطلق، وأن الثاني يجب أداؤه علي كل حال، والأول يضمن بالثمن من دون تعرض لأمد الضمان، وأنه يرتفع بالقبض أو التخلية أو غيرهما، لينفع فيما نحن فيه.

(1) كما في التذكرة.

وقال في المبسوط: «إذا اشتري من رجل عبداً بثوب وقبض العبد ولم يسلم الثوب فباع العبد صح بيعه... وإذا باعه وسلمه المشتري ثم تلف الثوب الذي في يد البائع انفسخ البيع، ولزمه قيمة العبد لبايعه، لأنه لا يقدر علي رده...» ونحوه ما في كلام جماعة كثيرة.

وهو ظاهر في مفروغيتهم عن جريان الحكم المذكور في الثمن.

ولذا استظهر شيخنا الأعظم (قده) عدم الخلاف في ذلك.

وقد بناه بعض مشايخنا (قده) علي كون الدليل في المقام سيرة العقلاء، لعدم الفرق فيها بين العوضين.

لكن سبق الإشكال في الاستدلال بالسيرة.

ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم (قده) من إمكان استفادته من قوله (عليه السلام) في حديث عقبة: «فإذا أخرجه من بيته فالمتباع ضامن لحقه حتي يرد إليه ماله».

وفي مفتاح الكرامة أن فيه إيماء للتعميم.

وكأنه لحمل الضمان فيه علي المعني الذي هو محل الكلام وهو كون تلفه من ماله، فيدل علي المطلوب.

إذ فيه: أنه لا ظهور للضمان في المعني المذكور.

بل لا مجال للبناء علي إرادته في

ص: 106

(107)

بحكم التلف (1).

ولو أمر المشتري البائع بتسليمه إلي شخص معين، فقبضه، كان بمنزلة قبض المشتري (2).

وكذا لو أمره بإرساله إلي بلده

---------------

المقام، لأن مقتضاه أن تلف الثمن لا يكون من مال المشتري إلا بعد أن يخرج البائع المبيع من حوزته، فلو تلف قبل ذلك كان من مال البائع، ولا يظن منه ولا من غيره البناء علي ذلك.

ومن ثم كان الظاهر من هذه الفقرة بيان أن المشتري لا يكون مسؤولاً بالثمن وملزماً به علي كل حال إلا بعد إخراج البائع المبيع عن حوزته، أما قبل إخراج البائع المبيع عن حوزته فالمشتري قد لا يلزم بالثمن، لتلف المبيع.

وكذا ما عن بعضهم من عموم النبوي للثمن، لصدق المبيع عليه.

إذ فيه مع ما سبق من عدم نهوض النبوي بالاستدلال في المقام: أن المبيع إن لم يكن مختصاً بالمثمن فلا ريب في انصرافه إليه.

ومن هنا كان الظاهر ابتناء ذلك علي فهمه من النص بإلغاء خصوصية المبيع عرفاً، كما هو غير بعيد، لعدم الفرق بين المتعاقدين ارتكازاً في نحو علاقتهما بالعوضين، وتعهد أحدهما للآخر به، بنحو يغفل عرفاً عن خصوصية أحدهما في الأدلة، كما يناسبه ظهور مفروغية الأصحاب عن العموم من دون أن يتصدوا لبيان وجهه.

(1) كما صرح به غير واحد، بنحو يظهر منهم المفروغية عنه.

ولا ينبغي الإشكال فيه، خصوصاً بناءً علي ما سبق من أن عمدة الأدلة في المسألة حديث عقبة بن خالد، لوروده في سرقة المتاع.

نعم تقدم عند الكلام في حقيقة الضمان في المقام أنه إنما يكون بحكم التلف في كون خسارته علي البائع وعدم وجوب دفع المشتري الثمن له، من دون أن ينفسخ المبيع به.

فراجع.

(2) بلا إشكال ظاهر.

لأن قبض الوكيل بمنزلة قبض الموكل، بل هو قبضه.

وأما بناءً علي ما سبق من أن المعيار في انتقال الضمان الخروج عن حوزة المشتري فالأمر أظهر.

ص: 107

أو غيره، فأرسله، كان بمنزلة قبضه (1)، ولا فرق بين تعيين المرسل معه

---------------

هذا إذا رجع ذلك إلي توكيل الشخص المذكور في القبض عنه.

أما إذا لم يرجع إلي ذلك فالكلام فيه هو الكلام الآتي في الأمر بإرساله المبيع.

(1) لم يتضح الوجه في ذلك، لعدم صدق القبض عليه عرفاً.

نعم هو يشارك قبضه في تحمله المسؤولية عرفاً.

لكن ذلك لا يكفي بعد فرض دلالة الدليل علي اعتبار القبض في انتقال الضمان، من دون أن يدل علي كون العلة في ذلك تحمله للمسؤولية.

ودعوي: رجوعه إلي توكيل البائع في القبض عنه ثم إرساله.

ممنوعة، لاحتياج ذلك إلي مؤنة زائدة علي الأمر بالإرسال غير مفروضة في محل الكلام.

ومثلها دعوي رجوعه إلي توكيله في اختيار من يقبض عنه.

ولاسيما أن الرسول لا يقصد القبض عن المرسل إليه، بل مجرد إيصال المبيع إليه، نظير الرسول في إيصال الهدية.

ولذا لا يظن بأحد البناء علي ترتب بقية آثار القبض بذلك، كجواز بيع ما يحرم بيعه قبل قبضه لو فرض البناء علي ذلك في بعض الموارد.

ودعوي: رجوع الأمر بالإرسال إلي إسقاط حق الضمان، ولو من أجل تعرض المبيع مع الإرسال للتلف، المناسب لعدم رضا البائع بالإرسال وعدم طلب المشتري ذلك منه لولا الإسقاط المذكور.

مدفوعة: أولاً: بعدم كفاية ذلك في ظهور حال المشتري في الإسقاط.

وكما يكون المبيع معرضاً للتلف مع الإرسال يكون معرضاً له مع إبقائه عند البائع، الذي لا إشكال في عدم ابتناء طلبه علي إسقاط الضمان.

ومجرد أقوائية احتمال التلف مع الإرسال منه مع الإبقاء عند البائع مع عدم إطراده لا يكفي في الفرق بينهما.

وثانياً: بعدم وضوح كون الضمان مع عدم القبض من الحقوق القابلة للإسقاط،

ص: 108

بل ظاهر دليله كونه حكماً شرعياً، لا سلطنة عليه لغير الشارع.

ولذا قال في التذكرة: «لو أبرأ البائع المشتري البائع من الضامن لم يبرأ.

وحكم العقد لا يتغير».

ونحوه في الدروس.

وعليه جري شيخنا الأعظم (قده).

نعم لو كان دليل الضمان منحصراً ببناء العقلاء وسيرتهم الارتكازية اتجه عدم ثبوته مع طلب الإرسال، لقصور السيرة عن ذلك قطعاً.

لكن سبق المنع من الاستدلال بها، فضلاً عن انحصار الدليل عليه بها.

ومن هنا كان الظاهر انحصار الوجه فيه بما سبق منا من أن عمدة الدليل في الحكم هو حديث عقبة، وأن مفاده كون المعيار في انتقال الضمان ليس هو القبض، بل إخراج البائع المبيع عن حوزته، لتحقق ذلك في المقام، من دون أن يكون مفرطاً بالمبيع بإخراجه عن حوزته بعد كونه بأمر المشتري.

ومثله في جميع ما تقدم ما إذا أمر المشتري البائع ببيعه عنه، أو إنفاقه في مصارف خاصة، كدفع الطعام للفقراء، وفرش الفراش في المسجد، ونحو ذلك.

(1) لعدم المنشأ للفرق بينهما بعد اشتراكهما في العمل بقول المشتري وعدم تحقق القبض عنه فيهما معاً.

نعم مع تعيين المرسل معه قد يكون الشخص المعين وكيلاً عن المشتري في القبض عنه.

لكنه أمر زائد علي الأمر بالإرسال معه غير مفروض في محل الكلام.

(2) ففي التذكرة والقواعد والدروس والإيضاح وغيرها أنه لا يتعين انفساخ البيع وبقاء الثمن للمشتري، بل يتخير المشتري بين فسخ البيع وأخذ الثمن، وعدم فسخه والرجوع علي المتلف بالبدل.

ولا ينبغي الإشكال في عدم جريان حكم تلف المبيع قبل قبضه في الفرض بناءً علي ما سبق من أن الدليل في المسألة حديث عقبة.

لظهور قصوره عن ذلك، فيرجع فيه للقاعدة.

واستفادته منه بإلغاء خصوصية مورده

ص: 109

أو الأجنبي (1) الذي يمكن الرجوع إليه في تدارك خسارته (2)، بل يصح العقد وللمشتري الرجوع علي المتلف بالبدل (3) من مثل أو قيمة وهل له الخيار في فسخ العقد لتعذر التسليم ؟ إشكال.

والأظهر ذلك (4).

وإذا حصل

---------------

غير ظاهرة الوجه.

أما لو كان الدليل في المسألة النبوي فيتوقف قصوره عن صورة إتلاف البائع علي انصرافه عنها، وعهدته علي مدعيه.

ولعله لذا ذهب إلي عموم الحكم له في المبسوط والشرائع، واحتمله في الجواهر.

للإطلاق.

(1) فقد صرح من تقدم بعدم تعين انفساخ البيع هنا أيضاً، بل يتعين التخيير بالوجه المتقدم.

وسبقهم إليه في المبسوط.

ويتضح الوجه في قصور حكم تلف المبيع عن الفرض مما سبق، لظهور حديث عقبة أو انصرافه إلي صورة تعذر تدارك السرقة باسترجاع المبيع من السارق أو أخذ عوضه.

واحتمل في الجواهر عموم الحكم له للإطلاق.

ويظهر حاله مما سبق.

(2) أما إذا لم يمكن الرجوع إليه في ذلك فهو بحكم التلف السماوي، لأن حديث عقبة وارد في السرقة التي هي فعل الأجنبي، لا في التلف، وحيث لا إشكال في إلحاق التلف الأرضي أو السماوي به، فإلحاق إتلاف الأجنبي الذي لا يمكن تدارك خسارته أولي منه.

(3) لقاعدة الضمان بالتلف بعد فرض كون المبيع باقياً في ملك المشتري.

(4) كما هو مقتضي ما تقدم منهم من تخيير المشتري بين الرجوع علي البائع بالثمن والرجوع علي المتلف بالبدل.

ويظهر من المبسوط تعليله باجتماع السببين سبب الانفساخ وهو تعذر التسليم المقتضي لعدم استحقاق البائع الثمن، وسبب الضمان وهو الإتلاف المقتضي للرجوع علي المتلف بالبدل.

قال: «ويكون القبض في القيمة قائماً مقام القبض في المبيع، لأنها بدله».

ص: 110

وهو لا يخلو من تدافع، إذ المراد بتعذر التسليم الذي هو موضوع الانفساخ عندهم إن كان هو تعذر تسليم المبيع بعينه تعين انفساخ العقد، وضمان المتلف للبائع، وإن كان هو تعذر تسليم الأعم من المبيع وبدله تعين عدم انفساخ البيع، لعدم تعذر تسليم الأعم مع إمكان الرجوع علي المتلف، بل يرجع علي المتلف لا غير، لكونه متلفاً لماله بعد فرض عدم انفساخ البيع.

وعلي كلا الوجهين لا مجال للتخيير المذكور.

مضافاً إلي الإشكال علي الشيخ نفسه بأن وجه التخيير المذكور لو جري مع إتلاف الأجنبي لجري مع إتلاف البائع، حيث يمكن الرجوع عليه بالبدل، ويكون قبض المشتري للبدل منه بمنزلة قبض المبيع، مع أنه التزم معه بانفساخ البيع لا غير، لاستحالة التقبيض.

ومن هنا يتعين توجيه التخيير المذكور بعد ما سبق منّا من خروج المورد عن مفاد النص، الراجع لعدم انفساخ البيع بأن الرجوع علي المتلف من أجل إتلافه لماله، كما سبق، وفسخ البيع لثبوت الخيار بتخلف التسليم الذي يراد به تسليم المبيع بعينه، لابتناء البيع علي تسليمه، بحيث يكون شرطاً ضمنياً يثبت الخيار بتخلفه.

كما ذكرناه آنفاً.

وهو المناسب لما سبق منا في خيار التأخير عن الشيخ نفسه من جواز الفسخ للبائع مع إعسار المشتري وتعذر الثمن، كما سبق عن الشيخ نفسه، بل حتي مع التأخير في إحضاره.

فراجع.

ومن ذلك يظهر ضعف ما في الجواهر من أنه لو فرض قصور النص في المقام وعدم انفساخ البيع فالمتعين لزوم البيع والمطالبة بالبدل لا غير، لعدم ثبوت سببية تعذر تسليم المبيع للخيار.

قال: «وخبر ضرار يدفعه ما وضعه الشارع من الضمان لمن أتلف مال غيره».

حيث ظهر مما ذكرنا أن الخيار ليس لحديث نفي الضرر، بل لتخلف مقتضي البيع.

هذا ولو كان المشتري هو المتلف للمبيع فقد صرحوا باستقرار المبيع وعدم انفساخه، وفي كلام غير واحد أنه بمنزلة القبض.

قال في المبسوط: «ولهذا نقول: إن

ص: 111

للمبيع نماء، فتلف الأصل قبل قبض المشتري، كان النماء للمشتري (1)،

---------------

المشتري إذا اعتق قبل القبض فإنه ينفذ عتقه، ويكون ذلك قبضاً».

لكنه ليس قبضاً قطعاً.

كما لا دليل علي تنزيله منزلة القبض شرعاً.

فالعمدة قصور النص عن صورة إتلاف المشتري عتقه أو بيعه.

أما حديث عقبة الذي هو العمدة فظاهر.

وأما النبوي فلما ذكره في الجواهر من وروده مورد الإرفاق بالمشتري بنحو لا يناسب عمومه لما إذا كان التلف أو نحوه مستنداً إليه.

نعم إذا خدعه البائع وأوهمه فأتلف المبيع بتخيل أنه شيء آخر، فإن كان إتلافه مع قبضه كما لو قدم له الطعام، فأكله بتخيل كونه هدية تعين عدم انفساخ البيع.

وإن كان إتلافه من دون قبض كما لو أشعل الفتيل فاحترق النفط المبيع فحيث كان دليل المسألة حديث عقبة، وهو قاصر عن ذلك، يتعين عدم انفساخ البيع أيضاً.

أما لو كان الدليل النبوي فلا مجال للبناء علي قصوره، لأن وروده مورد الامتنان في حق المشتري لا يمنع من شموله للمقام بعد كون المشتري مغروراً.

إلا أن يفرض انصرافه لا من جهة قرينة الامتنان.

وعلي كل حال لو فرض عدم انفساخ البيع، ولزوم الثمن علي المشتري، فلا مانع من البناء علي رجوعه علي الغار الخادع له بالمثل أو القيمة في هذه الصورة وصورة القبض.

لما دلّ علي عموم ضمان الغار الخادع، وقد تقدم في المسألة التاسعة عشرة من الفصل الثاني في شروط المتعاقدين.

فراجع.

(1) كما في الشرائع، وفي الجواهر أنه لا خلاف فيه بناءً علي أن الملك بالعقد.

وهو المتعين، لأن الظاهر أن الانفساخ إنما يكون من حين التلف.

بل سبق منا أنه لا دليل علي الانفساخ.

غاية الأمر أنه مع التلف لا يجب دفع الثمن، وذلك لا ينافي بقاء بقية آثار صحة العقد إذا تحقق موضوعها، ومنها ملكية النماء.

فلاحظ.

ص: 112

(113)

حدوث العيب قبل القبض

ولو حدث في المبيع عيب قبل القبض كان للمشتري الرد (1).

وفي ثبوت الأرش له قولان كما تقدم (2).

---------------

(1) كما تقدم منه (قده) في المسألة السادسة والخمسين من الفصل الرابع في الخيار، وأشرنا هناك إلي وجهه.

وهو أنه كما يكون مقتضي البيع تسليم المبيع، كذلك مقتضاه تسليمه سالماً علي النحو الذي كان عليه حين البيع.

(2) في المسألة السادسة والخمسين من الفصل الرابع في الخيار.

ومما تقدم في المسألة الخمسين من الفصل المذكور يظهر عدم ابتنائه علي استفادة ذلك من نصوص خيار العيب، لظهورها في العيب الحاصل حين البيع، بل علي ما تقدم في مسألتنا هذه من أن تلف المبيع قبل قبضه من مال البائع، وأنه حيث لا يراد به ضمان البائع للمبيع بالمثل أو القيمة، بل عدم استحقاقه الثمن علي المشتري المساوق عملاً لانفساخ البيع، فهو كما يقتضي تحمل البائع لدرك المبيع بالنحو المذكور مع تلفه بتمامه يقتضي تحمله درك النقص الحاصل فيه مما يوجب نقص ماليته.

واستفادة ذلك عرفاً من النص الوارد في المقام قريبة جداً، لأن النص المذكور وإن ورد في تلف تمام المبيع دون جزئه، فضلاً عن وصفه الذي لا يقابل بجزء من الثمن، إلا أن المستفاد عرفاً من الحكم بأن تلف المبيع قبل القبض من مال البائع عموم ذلك للنقص الوارد عليه بلحاظ أجزائه وصفاته، فبعد فرض كون الصفة ذات مالية، فتحمل البائع لنقصها وصيرورتها في ماله بالنحو الذي يكون مع تلف المبيع بتمامه مستلزم لأن ينقص من الثمن بنسبة قيمة الوصف لقيمة العيب، وهو عين الأرش الثابت في مورد خيار العيب.

فلاحظ.

نعم يختلف عنه بأمور: الأول: أن استحقاق الأرش هنا يكون هو اللازم بدواً، ويكون من عين الثمن، لعدم سلامة بعض المبيع، نظير مورد تبعض الصفقة، بخلافه هناك، حيث

ص: 113

(مسألة 4): لو باع جملة فتلف بعضها قبل القبض انفسخ البيع بالنسبة إلي التالف، ورجع إليه (1) ما يخصه من الثمن (2).

وكان له الخيار

---------------

سبق ملك البائع لتمام الثمن، لعدم مقابلة وصف الصحة والسلامة بشيء منه، وإنما يثبت الأرش بحكم الشارع تعبداً، إما تخييراً بينه وبين الفسخ، كما هو المشهور، أو عند حصول أحد موانع الرد، كما هو المختار.

الثاني: أنه يتعين هنا البناء علي تخيير المشتري بين الاكتفاء بالأرش الثابت له بدواً والفسخ في تمام البيع، لما سبق.

وهذا بخلاف الأرش هناك، حيث سبق أن المشتري لا يستحقه إلا أن يختاره، كما هو المشهور، أو إلا أن يتعذر الرد، كما هو المختار.

الثالث: أن المشتري إذا اختار الأرش كان للبائع الخيار لتبعض الصفقة في حقه بالإضافة إلي الثمن.

بخلاف الأرش في خيار العيب، حيث يظهر من سكوت نصوصه عن الخيار عدم ثبوته.

هذا ولو كان حدوث العيب بفعل البائع، أو بفعل أجنبي يمكن الرجوع إليه، تعين عدم تبعض الثمن، بل ضمان العيب بنسبته للمبيع بلحاظ قيمته الواقعية عملاً بالقاعدة بعد قصور النص في المقام عن ذلك، نظير ما تقدم في إتلاف العين.

كما يكون للمشتري الخيار، لعدم تحقق مقتضي البيع، وهو تسليم المبيع سالماً.

أما لو كان حدوثه بفعل المشتري فلا يمنع من استحقاق البائع لتمام الثمن، لقصور النص في المقام عنه.

كما لا خيار حينئذٍ، لعدم خروج البائع عن مقتضي العقد بعد استناد تعذر تسليم المبيع سالماً للمشتري نفسه.

(1) يعني: إلي المشتري.

(2) كما صرح بذلك جماعة بنحو يظهر من بعضهم المفروغية عنه، ونفي الخلاف والإشكال فيه شيخنا الأعظم (قده).

وقد علل في كلام غير واحد بصدق المبيع علي التالف، فيدخل في إطلاق النص.

ص: 114

(115)

الكلام في تفريغ المبيع

في الباقي (1).

(مسألة 5): يجب علي البائع تفريغ المبيع عما كان فيه (2) من متاع أو غيره، حتي إنه لو كان مشغولاً بزرع حان وقت حصاده وجب إزالته منه (3)، ولو كان للزرع عروق تضر بالانتفاع بالأرض أو كان في الأرض

---------------

لكن المبيع عرفاً هو الجملة التي يقع عليها العقد، وانحلالها إلي أجزائها لا يوجب تعدد البيع ولا المبيع عرفاً، كما تقدم نظيره مكرراً.

ومن هنا لا مجال لدعوي عموم النص، خصوصاً حديث عقبة الذي تقدم أنه عمدة الدليل في المسألة.

ومن ثم يتعين ابتناؤه علي ما تقدم في العيب، فإن تم، وإلا تعين العمل فيه علي مقتضي القاعدة من استحقاق البائع الثمن بتمامه، وعدم ضمانه للتالف مع عدم التفريط منه، ومع تفريطه يضمنه ببدله من المثل أو القيمة.

(1) كما صرح به غير واحد.

لتبعض الصفقة عليه في المبيع.

والظاهر ثبوت الخيار للبائع أيضاً، لتبعض الصفقة عليه في الثمن، نظير ما تقدم في العيب.

نعم الظاهر عدم ثبوت الخيار المذكور في حق كل منهما لو كان هو المتلف.

(2) كما صرح بذلك غير واحد بنحو يظهر منهم المفروغية عنه.

لأن ذلك مقتضي البيع، إذ لما كان الغرض من البيع نوعاً انتفاع المشتري بالمبيع علي أي وجه أراد، وانتفاع البائع بالثمن كذلك، وكان إشغال أحدهما مانعاً من ذلك، فكما كان مقتضي إطلاق البيع تسليم لكل منهما كان مقتضاه تسليمهما مفرغين، ولا يخرج عن ذلك إلا بقرينة خاصة.

ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه.

ومنه يظهر جريان ذلك في الثمن لو كان مما من شأنه الإشغال.

ولعل عدم تعرضهم لذلك فيه لغلبة كونه من النقد الذي لا يقبل ذلك.

(3) كما في الشرائع.

لعين ما سبق.

ص: 115

حجارة مدفونة وجب إزالتها (1) وتسوية الأرض (2)، ولو كان شيء لا يمكن فراغ المبيع منه إلا بتخريب شيء من الأبنية وجب أصلاحه وتعمير

---------------

(1) كما في الشرائع، وفي المسالك أنه لا ريب فيه.

لكن لم يتضح اقتضاء إطلاق البيع الإزالة، خصوصاً في عروق الزرع التي ليس من شأن البائع الانتفاع بها بل قد يكون مقتضي إطلاق البيع إعراض البائع عنها، وإقدام المشتري علي الرضا بالنقص المذكور.

والمحكّم في ذلك قرائن الأحوال.

(2) كما في الشرائع.

قال في الجواهر: «لوجوب تسليم المبيع إليه متمكناً من الانتفاع به».

وهو كما تري، إذ مع عدم تسوية الأرض يمكن للمشتري الانتفاع بها ولو بأن يسويها هو.

ولذا لو كانت الحفر في الأرض حين البيع لم يجب علي البائع تسويتها.

ولعل الأولي تعليل الحكم بأنه نقص أدخله علي الأرض، فيجب عليه تداركه.

وإن كان ذلك يشكل أيضاً.

.

أولاً: بأن تدارك النقص لا يكون بتسوية الحفر، بل بدفع أرشه، وهو فرق ما بين التام والناقص، كما صرح به في المسالك وذكره في الدروس فيما لو لزم من التفريغ هدم حائط.

نظير ما لو أمرض الدابة أو فتق الخياطة، حيث يجب دفع الأرش المذكور، لا مداواة الدابة وإرجاع الخياطة.

وقد تقدم منا نظير ذلك في المسألة الثلاثين من الفصل الرابع في الخيار.

فراجع.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قده) من إلحاق بعض صور تغيير حال المبيع بالمثلي فيجب إرجاعه علي ما كان.

وإلحاق بعض صوره بالقيمي فيجب الأرش.

فلم يتضح وجهه ولعله لذا قال بعد ذلك: «ولو ألحق مطلقاً بالقيمي كان له وجه».

نعم إذا لم يكن الحدث في الملك موجباً لعيب فيه يتدارك بقيمة فقد يكون مقتضي العدل لزوم إزالة أثره إذا أمكن، فمن نقل متاع شخص من مكان لآخر يجب عليه إرجاعه لمكانه الذي كان فيه، ومن نشر ثوباً لغيره كان مطوياً يجب عليه طيه كما كان.

ص: 116

البناء (1).

ولو كان الزرع لم يحن وقت حصاده جاز لمالكه إبقاؤه إلي وقته (2)،

---------------

وثانياً: بأن التدارك بأي وجه كان إنما يجب إذا لم يكن ملك المالك للعين التي حصل النقص فيها مبنياً علي حصول النقص المذكور، كما هو الحال فيمن زرع في ملك غيره عمداً أو خطأ، وفيما إذا فسخ من له الخيار بيع الأرض بعد زرع المشتري فيها كما تقدم في فروع خيار الغبن.

ولا مجال للبناء عليه في مثل المقام، حيث أقدم المشتري علي شراء الأرض المزروعة علي أن للزارع أو عليه قلع زرعه بنحو يوجب حدوث الحفر فيها، فإن إقدامه علي الشراء مستلزم لرضاه بتعرضها لذلك، ولا وجه معه لتحمل البائع درك الحدث الذي يحدث فيها.

إلا أن يشترط ذلك صريحاً حين العقد، فيتعين العمل علي الشرط.

نعم لو لم يكن الحدث متوقعاً، بحيث يبتني البيع عليه، تعين تحمل دركه، علي الكلام المتقدم فيه.

كما لو كانت الدار المبيعة مشغولة بمتاع يتخيل إمكان خروجه منها من دون تخريب فيها توقفه علي التخريب.

غاية الأمر أنه قد يثبت الخيار حينئذٍ للمشتري، لعدم تسلمه للمبيع علي النحو الذي يقتضيه البيع وقد أقدم هو عليه.

بل لا يبعد ثبوت الخيار للبائع أيضاً لو طلب المشتري الدرك، لخروج ذلك عما أقدم عليه وابتني عليه البيع.

(1) يظهر الحال فيه مما سبق.

(2) كما صرح به غير واحد.

قال في الجواهر: «وإن لم يكن قد أحصد وجب الصبر إلي أوانه.

نعم للمشتري الخيار إن لم يكن المشتري عالماً به للضرر».

وسبقه إلي ذلك في المسالك.

وفيه: أن إقدام البائع علي بيع الأرض بنحو الإطلاق من دون اشتراط تأخير الزرع إلي أوان حصاده ملزم له بتحمل ضرر إزالة الزرع قبل أوانه.

ولذا صرح بعض مشايخنا (قده) بوجوب إزالة ما لم يحن وقت حصاده.

نعم إذا كان هو أيضاً جاهلاً بوجود الزرع فحيث لا

ص: 117

البيع قبل القبض

وعليه الأجرة (1).

(مسألة 6): من اشتري شيئاً ولم يقبضه فإن كان مما لا يكال ولا يوزن جاز بيعه قبل قبضه (2).

وكذا إذا كان مما يكال أو يوزن، وكان البيع

---------------

إقدام منه علي تحمل الضرر يتجه إعمال قاعدة نفي الضرر في حقه.

نعم للمشتري الخيار وإن لم يتضرر بتأخير حصاد الزرع، لظهور المبيع علي خلاف ما أقدم عليه.

فإن اختار الفسخ فسخ، وإلا وجب عليه انتظار الزرع، دفعاً لضرر البائع.

فإن أضرّ به أيضاً الانتظار جري حكم تزاحم الضررين الذي تقدم في المسألة الثلاثين من الفصل الرابع في أحكام الخيار.

ومثل ذلك ما إذا اعتقد البائع خطأ بلوغ الزرع وأنه قد آن حصاده، أو اشترط بقاءه مدة معينة لاعتقاد بلوغ الزرع فيها فلم يبلغ.

لعدم إقدامه علي الضرر أيضاً، لتقصر قاعدة الضرر عن الجريان في حقه.

هذا كله إذا كان مقتضي إطلاق البيع هو الإزالة.

أما إذا لم يكن كذلك، خرج عن محل الكلام، كما لو كان علمهما بعدم بلوغ الزرع قرينة علي اشتراط إبقائه إلي أوان بلوغه بعد فرض عدم دخوله في بيع الأرض تبعاً.

وقرائن الأحوال كثيراً ما تتحكم في ذلك.

(1) مما سبق يظهر الحال في ذلك، فإنه مع علم البائع بحال الزرع وجهل المشتري به يتعين حصده وإزالته.

إلا أن يرضي المشتري ببقائه مجاناً أو بأجرة.

ومع علمهما بحاله، بحيث يكون قرينة علي ابتناء البيع علي إبقائه، يتعين إبقاؤه مجاناً، نظير ما سبق فيما لو بيعت الأرض دون الشجر الذي فيها.

إلا أن تشرط الأجرة عند البيع ولو ضمناً.

(2) كما صرح به جمهور الأصحاب.

وفي التحرير والدروس الإجماع عليه، بل في الجواهر: «إجماعاً بقسميه».

ويقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح أبي حمزة عن

ص: 118

(119)

أبي جعفر (عليه السلام):

«سألته عن رجل اشتري متاعاً ليس فيه كيل ولا وزن أيبيعه قبل أن يقبضه ؟ قال: لا بأس» (1) وصحيح الحلبي: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوم اشتروا بزاً، فاشتركوا فيه جميعاً ولم يقسموه، أيصلح لأحد منهم بيع بزه قبل أن يقبضه ؟ قال: لا بأس به.

وقال: إن هذا ليس بمنزلة.

إن الطعام يكال»(2) ، وغيرهما مما يأتي بعضه.

ويأتي بعض ما يتعلق بذلك.

هذا وفي التذكرة عن بعض علمائنا المنع من بيع ما لم يقبض مطلقاً.

وإن تمت النسبة فكأنه لإطلاق ما تضمن النهي عن بيع ما لم يقبض، كموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: بعث رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) رجلاً من أصحابه والياً، فقال له: إني بعثتك إلي أهل الله يعني: أهل مكة فانههم عن بيع ما لم يقبض، وعن شرطين في بيع، وعن ربح ما لم يضمن»(3).

لكن لابد من الخروج عنه بما تقدم وغيره من النصوص الكثيرة الدالة علي جواز بيع ما لم يقبض في الجملة(4) ، ويأتي بعضها، بنحو يلزم بتخصيصه، أو حمله علي الكراهة.

وربما استدل عليه بما تضمن النهي عن بيع ما ليس عندك(5).

لكن مقتضاه عدم جواز بيع الغائب وإن كان قد قبض ولا بيع السلف ولا بيع الكلي معجلاً إذا لم يكن عنده منه شيء، وحيث لا مجال للبناء علي ذلك تعين حمل المضمون المذكور علي النهي عن بيع ما لم يملك، علي ما تقدم عند الكلام في القدرة علي التسليم من شروط العوضين.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 8، 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 8، 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب أحكام العقود حديث: 6.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب أحكام العقود حديث: 12، وباب: 10 من أبواب أحكام العقود حديث: 2.

ص: 119

برأس المال (1).

---------------

(1) كما صرح في الجملة في التحرير والمسالك.

وهو داخل في إطلاق من أجاز البيع قبل القبض.

لصحيح منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: إذا اشتريت متاعاً فيه كيل أو وزن فلا تبعه حتي تقبضه.

إلا أن توليه. فإذا لم يكن فيه كيل ولا وزن فبعه»، ونحوه بل عينه معتبره عنه (1)(عليه السلام)، وصحيح علي بن جعفر عن أخيه: «أنه سأل أخاه موسي بن جعفر (عليهما السلام) عن الرجل يشتري الطعام أيصلح بيعه قبل أن يقبضه ؟ قال: إذا ربح لم يصلح حتي يقبض.

وإن كان يوليه فلا بأس.

وسألته عن الرجل يشتري الطعام أيحل له أن يولي منه قبل أن يقبضه ؟ قال: إذا لم يربح عليه شيئاً فلا بأس، فإن ربح فلا بيع حتي يقبضه»(2) ، وصحيح معاوية بن وهب: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه.

فقال: ما لم يكن كيل أو وزن فلا تبعه حتي تكيله أو تزنه.

إلا أن توليه الذي قام عليه»(3) ، وغيرها.

وبذلك يظهر الإشكال فيما في المبسوط والخلاف والمهذب والوسيلة وغيرها من إطلاق عدم جواز بيع الطعام قبل أن يقبض مدعياً في الأولين الإجماع عليه وإطلاق جواز بيع غير الطعام قبل القبض.

حيث يظهر منهم: أولاً: أن المعيار في التفصيل علي الطعام وغيره، لا علي المكيل والموزون وغيرهما.

ثانياً: إطلاق المنع من البيع مع عدم القبض ولو مع التولية وعدم الربح.

وكلاهما لا يناسب النصوص المتقدمة.

وإن ذكر في الجواهر أنهما معاً هما المعروفان بين القائلين بالمنع.

ثم إن مقتضي صحيحي منصور ومعاوية وغيرهما اختصاص الجواز بالتولية، فلا يجوز البيع مع المرابحة والمواضعة، بل ولا المساومة مطلقاً برأس المال كان البيع أم بربح أم بوضيعة.

ومقتضي ذيل صحيح علي بن جعفر عموم الجواز لجميع صور عدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 12، 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 9، 11.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 9، 11.

ص: 120

أما لو كان بربح ففيه قولان (1)، أحوطهما المنع إذا باعه علي غير البائع،

---------------

الربح من المساومة وغيرها.

ومقتضي الجمع بينه وبينها تحكيم الثاني، لأن السؤال فيه عن التولية، والعدول في الجواب إلي عدم الربح، موجب لقوة ظهوره في عدم خصوصية التولية في الجواز.

نعم في خبر أبي بصير: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشتري طعاماً ثم باعه قبل أن يكيله.

قال: لا يعجبني أن يبيع كيلاً أو وزناً قبل أن يكيله أو يزنه.

إلا أن يوليه كما اشتراه إذا لم يربح فيه أو يضع. وما كان من شيء عنده ليس بكيل ولا وزن فلا بأس أن يبيعه قبل أن يقبضه»(1).

ومقتضاه إلحاق الوضيعة بالربح في المنع.

وصدره وإن تضمن اشتراط الكيل والوزن، إلا أن ذيله شاهد بأن ذكر الكيل والوزن من أجل ملازمتهما للقبض، فيكون مما نحن فيه.

كما أن قوله (عليه السلام): «لا يعجبني» وإن لم يكن ظاهراً في الحرمة، إلا أنه إما أن يحمل عليها بقرينة النصوص الظاهرة فيها، أو تحمل علي الكراهة من أجله وأجل غيره مما يأتي الكلام فيه، وإلا فاحتمال اختلاف الحكم لاختلاف الموضوع من جهة إضافة الوضيعة غير وارد عرفاً.

فلم يبق إلا ضعف سنده، لأن في طريقه علي بن أبي حمزة البطائني، فإنه وإن تكرر منا أن الظاهر رواية الأصحاب عنه قبل انحرافه، لمباينتهم له بعد ذلك، إلا أن ذلك قد لا يجري في مثل هذه الرواية، حيث كان الراوي عنه فيها القاسم بن محمد الجوهري الذي هو واقفي مثله وإن كان ثقة.

وإن كان المظنون قوياً أن رواية أصحابنا إنما كانت لرواياته وكتبه التي عرفت عنه قبل انحرافه حتي لو كانت بتوسط أمثاله من الواقفة، لشدة موقفهم ضده بعد ذلك. فلاحظ.

(1) فالمنع هو المستفاد ممن سبق علي اختلافهم في عموم المنع وخصوصه.

وفي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 16.

ص: 121

المقنعة أنه مكروه من دون أن يفسد به البيع.

كما صرح بالكراهية في النهاية والشرائع والدروس واللمعة وغيرها، وفي الجواهر: «بل هو المشهور بين متأخري الأصحاب نقلاً وتحصيلاً».

وكأن ذلك للجمع بين النصوص المتقدمة ونصوص أخر يستفاد منها الجواز، كخبر خالد بن حجاج: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أشتري الطعام من الرجل، ثم أبيعه من رجل آخر قبل أن أكتاله، فأقول: ابعث وكيلك حتي يشهد كيله إذا قبضته.

قال: لا بأس»(1) ، وخبر جميل بن دراج عنه (عليه السلام): «في الرجل يشتري الطعام ثم يبيعه قبل أن يقبضه. قال: لا بأس، ويوكل الرجل المشتري منه بقبضه وكيله.

قال: لا بأس»(2).

ومعتبر الحلبي عنه (عليه السلام): «سألته عن الرجل يشتري الثمرة، ثم يبيعها قبل أن يأخذها. قال: لا بأس به إن وجد بها ربحاً فليبع»(3).

وهو المناسب لقوله (عليه السلام) في خبر أبي بصير المتقدم: «لا يعجبني»، ولصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): «أنه قال في الرجل يبتاع الطعام ثم يبيعه قبل أن يكال.

قال: لا يصلح له ذلك»(4) ، ونحوه أو عينه صحيح الآخر(5).

لكن الثلاثة الأخيرة لا ظهور لها في الكراهة، بحيث يخرج بها عن ظهور النصوص الأول في الحرمة، بل قوله (عليه السلام): «لا يصلح» إلي الحرمة أقرب.

غاية الأمر أنها لا تأبي الحمل علي الكراهة لو دل عليه دليل خاص، وليس ذلك محل للكلام.

كما أن معتبر الحلبي وارد في شراء الثمرة، والظاهر منه شراؤها وهي علي الشجر، ولاسيما بملاحظة سياق الحديث في الفقيه، وهي حينئذ من غير المكيل والموزون.

ولا أقل من عدم إحراز كونها من المكيل أو الموزون، لتكون مما نحن فيه.

فلم يبق إلا خبر خالد وجميل، لأن الطعام من المكيل والموزون.

وقد ذكر شيخنا الأعظم (قده) أن حملهما علي التولية جمعاً مع النصوص الأول أولي من حمل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 6، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 6، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 5، 3.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب أحكام العقود حديث: 5، 3.

ص: 122

تلك النصوص لأجلهما علي الكراهة.

ولم يتضح وجه الأولوية.

ولاسيما أن البيع برأس المال من دون زيادة ولا نقيصة أو من دون ربح وإن لم يكن نادراً، إلا أن التقييد به يحتاج إلي عناية، لأن طبيعة البيع في التجارة يبتني علي الاسترباح، فحمل إطلاق البيع في الخبرين علي خصوص صورة عدم الربح بعيد في نفسه، وليس كذلك حمل النهي علي الكراهة.

إلا أن يستبعد في خصوص المقام بلحاظ كثرة النصوص المتضمنة للنهي عن البيع قبل القبض وإن اختلفت في الإطلاق والتقييد، وظهور الاهتمام في بعضها بالحكم المذكور.

ومن هنا كان كلا الجمعين بعيداً في نفسه، وإن لم يبلغ حدّ التعذر عرفاً.

مضافاً إلي ضعف الخبرين سنداً، فالخروج بهما عن ظهور نصوص المنع في الحرمة لا يخلو عن إشكال، كما نبه لذلك في المسالك.

وإن كان ذلك قد يهون بلحاظ ظهور حال الكليني في الاعتماد علي خبر جميل، وظهور حال الصدوق في الفقيه الاعتماد علي خبر خالد بن حجاج، لذكرهما لهما في الباب المناسب، مع بنائهما علي صحة أخبار كتابيهما.

كما أن الصدوق في المقنع وإن أفتي أولاً بتحريم بيع الطعام قبل القبض، إلا أنه قال بعد ذلك: «وروي في حديث أنه لا بأس أن يشتري الطعام ثم يبيعه قبل أن يقبضه» حيث يظهر منه التراجع عن الفتوي المذكورة من أجل الحديث المذكور ولو بالتوقف في المسألة.

كما عرفت من الشيخين في المقنعة والنهاية الفتوي بالكراهة، ولا يبعد كفاية ذلك في جبر ضعف الخبرين.

ولاسيما مع شهرة التعويل عليهما من عصر المحقق إلي عصورنا.

هذا وقد أضاف شيخنا الأعظم (قده) لما سبق أن الحمل علي الكراهة يستلزم ارتفاع الكراهة في التولية بمقتضي نصوص استثنائها، قال: «مع أن الظاهر عدم الخلاف في الكراهة فيها أيضاً بين أرباب هذا القول وإن كانت أخف».

ص: 123

أما إذا باعه علي البائع فالظاهر جوازه مطلقاً (1).

وكذا إذا ملك شيئاً

---------------

وكأنه يشير إلي مثل الشهيد، حيث قال في الدروس: «الأقرب الكراهية في بيع المكيل والموزون.

وتتأكد في الطعام.

وآكد منه إذا باعه بربح».

لكن الجمع بين النصوص بتأكد الكراهة شايع بين الفقهاء، وهو مقبول عرفاً.

وبعبارة أخري: إن حمل النهي في النصوص علي التحريم تعين الجمع بينها بالتخصيص، ولا يبقي دليل علي الكراهة في مورد التخصيص.

أما إذا حمل علي الكراهة بقرينة الخبرين فلا ملزم بالتخصيص، بل يتعين إبقاء النصوص علي إطلاقها والجمع بينها باختلاف مراتب الكراهة.

ومن هنا لا ينهض ما ذكره باستبعاد الكراهة.

والعمدة ما سبق.

(1) فقد استظهر شيخنا الأعظم (قده) أن محل الخلاف هنا هو بيع غير المقبوض علي غير البائع، كما يستفاد من ذكر القائلين بالجواز في السلف والقائلين بالتحريم هنا.

وفي التذكرة أن القائلين بجواز بيع ما لم يقبض علي غير البائع قالوا بجواز بيعه علي البائع، والقائلين بالمنع من بيعه علي غير البائع اختلفوا في جواز بيعه علي البائع.

وقد يستدل علي الجواز: تارة: بانصراف إطلاقات المنع عن بيعه علي البائع.

وأخري: بما تضمن جواز بيع ما يسلف فيه علي بايعه إذا لم يكن عنده حين حلول أجله(1).

ويندفع الأول بأن الانصراف لو تم بدوي ليس له منشأ ارتكازي، فلا مجال لرفع اليد به عن الإطلاق.

والثاني بأن للسلف أحكامه الخاصة به، فيصعب إلغاء خصوصية مورده خصوصاً في مثل هذا الحكم التعبدي المخالف للقاعدة.

نعم يتعين استثناء بيع أحد الشركاء حصته في المبيع لشريكه.

لموثق سماعة: «سألته عن الرجل يبيع الطعام أو الثمرة وقد كان اشتراها ولم يقبضها. قال: لا حتي

********

(1) راجع: وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب السلف.

ص: 124

(125)

جواز البيع قبل القبض فيما ملك بغير الشراء

بغير الشراء كالميراث والصداق فإنه يجوز بيعه قبل قبضه (1).

كما لا يبعد

---------------

يقبضها. إلا أن يكون معه قوم يشاركهم، فيخرجه بعضهم من نصيبه من شركته بربح أو يوليه بعضهم فلا بأس»(1).

وهو صريح في الاستثناء المذكور.

ولا يتضح لنا فعلاً الوجه في إهمالهم التعرض لذلك.

وربما يستثني أيضاً تشريك المشتري لغيره فيما اشتراه لخبر إسحاق المدائني: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القوم يدخلون السفينة يشترون الطعام فيتساومون بها، ثم يشتريه رجل منهم، فيسألونه فيعطيهم ما يريدون من الطعام، فيكون صاحب الطعام هو الذي يدفعه إليه ويقبض الثمن.

قال: لا بأس.

ما أراهم إلا وقد شركوه...»(2).

فإنه كالصريح في أن الذي يشتريه رجل واحد، ثم يبيع بعضه عليهم قبل أن يقبضه، وإنما يقبضونه من البائع الأول.

لكنه مع الإشكال في سنده، لعدم توثيق إسحاق، مطلق قابل للحمل علي عدم ربح المشتري الأول عليهم.

بل هو قريب جداً، حيث يقرب في مورده كون شراء الأول مقدمة لإشراكهم معه.

وحينئذ يتعين تحكيم ما تضمن المنع من الربح مع البيع قبل القبض، والاقتصار علي الاستثناء الأول لا غير.

فتأمل.

(1) بلا خلاف أجده، بل ربما ظهر من بعضهم الإجماع عليه. كذا في الجواهر.

والوجه فيه عمومات نفوذ العقود والتجارة بعد اختصاص النصوص السابقة بالشراء.

نعم تقدم إطلاق النهي عن بيع ما لم يقبض في موثق عمار.

لكن من القريب حمله علي خصوص ما ملك بالشراء بقرينة النصوص المصرحة باختصاص المنع بالمكيل والموزون وبما إذا كان البيع بربح، حيث لا يكون الكيل والوزن شرطاً في غير الشراء، ولا يكون الربح إلا معه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب أحكام العقود حديث: 15، 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب أحكام العقود حديث: 15، 7.

ص: 125

هذا وقد استثني في التنقيح ما إذا كان الموروث قد ملكه بالشراء ولم يقبضه.

وقد استشكل فيه في مفتاح الكرامة بظهور النصوص المانعة في منع المشتري من بيع ما لم يقبضه، لا بيع غيره ممن يترتب ملكه علي شرائه، كالوارث، والزوجة إذا كان المشتري قد أصدقها ما اشتراه قبل قبضه، والمختلعة إذا كان المشتري قد جعل ما اشتراه عوض خلعها قبل قبضه، بناءً علي ما يأتي من جواز ذلك.

ولعله لذا قوّي في الإيضاح وغيره الجواز، وظاهر القواعد التردد والإشكال، وإن كان ظاهر التذكرة المفروغية عن عموم المنع لذلك.

وكيف كان فما ذكره في مفتاح الكرامة وإن كان متيناً في الجملة، إلا أن المناسبات الارتكازية قاضية بأن الملكية المتفرعة علي الملكية السابقة لا تقتضي سلطنة زائدة علي ما اقتضته الملكية السابقة، خصوصاً ملكية الوارث التي هي ارتكازاً بقاء لملكية المورث، لا مباينة لها مترتبة عليها.

ولاسيما مع إطلاق النهي عن بيع ما لم يقبض في موثق عمار، فإنه وإن سبق حمله علي خصوص ما ملك بالشراء، إلا أن من القريب عمومه لبيع غير المشتري ممن تترتب ملكيته علي ملكيته إذا لم يتحقق القبض الذي هو من توابع الشراء الأول.

ومن هنا يشكل استفادة البناء علي عدم اعتبار القبض في المقام ممن أطلق عدم اعتبار القبض في صحة بيع ما ملك بغير الشراء كالميراث.

لقرب كون نظرهم للقبض الذي يقتضيه السبب المملك كالميراث من دون نظر للقبض الذي يقتضيه الشراء السابق علي السبب المملك.

وكيف كان فما ذكره في التنقيح لا يخلو عن وجه وعليه جري شيخنا الأعظم (قده).

وإن كان محتاجاً لمزيد من التأمل.

نعم يشكل ما ذكره أيضاً من أنه لو اشتري من مورثه، ثم مات البائع قبل قبضه، والمشتري وارث لجميع ماله، فإنه أيضاً يجوز بيعه قبل قبضه، لأنه بحكم المقبوض.

إذ لم يتضح الوجه في كون الميراث بمنزلة القبض.

ولاسيما أن المال المذكور لم يورث، لسبق ملكه بالشراء، وإنما الموروث غيره.

فلاحظ.

ص: 126

اختصاص المنع حرمة أو كراهة بالبيع (1) فلا بأس بجعله صداقاً أو أجرة قبل قبضه.

-

(1) كما نسبه لظاهر الأصحاب في التنقيح، وقال: «وكاد يكون إجماعاً»، وجعله الأقرب في التذكرة، وهو الظاهر من جامع المقاصد، ونفي الإشكال فيه في الجواهر.

وهو المتعين، عملاً بعمومات الصحة بعد اختصاص أدلة المنع بالبيع.

لكن في المبسوط المنع من الإجارة والمكاتبة، لأنهما نوع من البيوع.

ويشكل أولاً: بمباينتهما للبيع عرفاً.

وثانياً: بأن ما يشبه المبيع فيهما هو المنفعة والعبد، وهما ليسا طعاماً، ولا مكيلاً ولا موزوناً، فيخرجان عن موضوع المنع من بيع ما لم يقبض.

ومثله ما يظهر منه في كتاب الحوالة ومن غيره من تعميم موضوع المنع لمطلق المعاوضة، حيث لا يتضح وجهه بعد اختصاص النصوص بالبيع.

إلا أن يدعي إلغاء خصوصيته عرفاً، وفهم العموم من النصوص.

فتأمل.

بقي في المقام أمور: الأول: إن الظاهر عموم محل الكلام لما إذا كان المبيع كلياً، فيكره أو يحرم علي المشتري بيعه قبل قبضه، لأن الكلي وإن امتنع قبضه بنفسه، إلا أن قبض الفرد منه وفاء له يصحح نسبة القبض له عرفاً، بحيث يكون مشمولاً لنصوص المقام.

الثاني: هل يجري المنع حرمة أو كراهة في الثمن، فيمنع من بيعه قبل قبضه إن كان مكيلاً أو موزوناً، أو لا؟ قد يقال بالثاني، لاختصاص نصوص المنع بالمبيع.

لكن لا يبعد إلحاق الثمن به عرفاً، كما جروا عليه في كثير من الموارد، ومنها ما تقدم من أن تلفه قبل القبض من مال المشتري، لنظير ما تقدم هناك.

فراجع.

الثالث: أن المعيار هنا علي القبض، الذي عرفت أنه الأخذ، لأنه هو الذي تضمنته النصوص السابقة.

نعم تضمن بعض النصوص المنع من بيع المكيل قبل كيله،

ص: 127

كما تقدم في صحاح الحلبي ومعاوية بن وهب ومحمد بن قيس وموثق عبد الرحمن بن أبي عبد الله وخبر أبي بصير.

وقد يظهر من بعضهم حملها علي توقف القبض في المكيل والموزون شرعاً علي كيله أو وزنه، بحيث لا يترتب شيء من أحكام القبض بدونه.

لكن النصوص المذكورة لا ظهور لها في ذلك.

وغاية ما تدل عليه هو توقف جواز بيع المكيل والموزون علي كيله أو وزنه، إما وحده أو مع القبض، من دون أن يكون مأخوذاً في حقيقة القبض شرعاً في هذا الحكم، فضلاً عن سائر أحكام القبض.

وحينئذ يقع الكلام في أن المعتبر هو القبض فقط، وأن ذكر الكيل والوزن في النصوص المذكورة عرضاً لملازمتهما له في المكيل والموزون، من دون أن يكونا شرطين بأنفسهما، أو أن المعتبر كلا الأمرين، أو أن المعتبر هو الكيل والوزن فقط، بحيث لو تحققا جاز البيع قبل القبض.

وقد يستظهر الأخير من صحيح معاوية بن وهب، لأن اقتصار الإمام (عليه السلام) في الجواب علي الكيل والوزن بعد تعرض السائل للقبض وحده ظاهر في أن المعيار في جواز البيع عليهما، دون القبض.

لكن لا مجال للبناء علي ذلك بلحاظ النصوص الكثيرة المقتصرة علي القبض علي اختلافها في العموم والخصوص.

ولاسيما ما تضمن منها تصريحاً أو تلويحاً التفصيل بين المكيل والموزون وغيرهما، كصحيح الحلبي المتقدم الوارد في شراء البز وغيره، إذ لا موضوع للتفصيل المذكور لو كان المعتبر هو الكيل والوزن فقط.

ومن هنا يدور الأمر بين الوجهين الأولين.

ولا يبعد أن يكون الأقرب هو الوجه الأول بلحاظ كثرة النصوص المقتصر فيها علي القبض.

بل صحيح معاوية بن وهب بعد تعذر العمل بظاهره من كون المعتبر هو الكيل والوزن فقط، لما سبق، فحمله علي كون ذكر الكيل والوزن لملازمتهما للقبض المذكور

ص: 128

في السؤال، ليكون الجواب مطابقاً للسؤال، أقرب من حمله علي اعتبار كلا الأمرين، لما يستلزمه من عدم مناسبة الجواب للسؤال، حيث اقتصر فيه علي بيان أمر غير المسؤول عنه مع إهمال الأمر المسؤول عنه من دون إثبات ولا نفي.

وهو مخالف لطريقة أهل اللسان في المحاورات.

علي أنه لا فرق بين الوجهين عملاً بعد ملازمة القبض للكيل والوزن في المكيل والموزون، ليكون الكلام في تعيين أحدهما مثمراً.

ودعوي: ظهور الثمرة فيما لو كان كيل المبيع أو وزنه سابقين علي بيعه، حيث يتوقف بيع المشتري له علي قبضه له فقط علي الوجه الأول، ولابد فيه معه من إعادة كيله أو وزنه علي الثاني.

مدفوعة بأن نصوص المقام المتضمنة للكيل والوزن تنصرف للكيل والوزن الذين يقتضيهما البيع الأول، بنحو يقتضي الاكتفاء بالكيل والوزن السابقين في الفرض المذكور.

فلاحظ.

الرابع: ذكر في الدروس فيما لو كان لشخص علي آخر طعاماً، أنه لو دفع إليه المدين مالاً ليشتري له طعاماً ثم يقبضه لنفسه وفاء عن دينه، ابتني علي الخلاف في المقام.

وهو كما تري، لأن وفاء الدين ليس بيعاً، ليقع الكلام في توقفه علي القبض.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قده) من أن عموم المنع لتشخيص الكلي قبل القبض وإن لم يناسب ظاهر النص والفتوي، ولاسيما بلحاظ النصوص المفصلة بين التولية وغيرها، إلا أنه لا يبعد عن سياق مجموع الأخبار.

فهو في غاية المنع.

نعم في صحيح الحلبي: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أسلفه دراهم في طعام، فلما حل طعامي عليه بعث إليّ بدراهم، وقال: اشتر لنفسك طعاماً واستوف حقك.

قال:

أري أن تولي ذلك غيرك، ولا تتولي أنت شراءه»(1).

ونحوه موثق عبد الرحمن بن أبي عبد الله:

«إلا أنه (عليه السلام) قال: يكون معه غيره يوفيه ذلك» (2) .

لكن لم يتضح منهما كون المانع هو عدم قبض المبيع، إذ لو كان هو المانع كفي أن يقبضه الدائن عن صاحب الدراهم أولاً ثم يقبضه لنفسه، بل لعل المانع من مباشرته

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 12 من أبواب السلف حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 12 من أبواب السلف حديث: 1، 2.

ص: 129

ذلك بنفسه رفع التهمة عنه.

مضافاً إلي ما في صحيح يعقوب بن شعيب عنه (عليه السلام): «وسألته عن الرجل يكون له علي الآخر أحمال رطب أو تمر، فيبعث إليه فيقتضيه، ثم يعجز الذي له، فيبعث إليه بدنانير، فيقول:

اشتر بهن واستوف بقية الذي لك.

قال: لا بأس إذا ائتمنه» (1) .

ورواه في الوسائل في ذيل صحيح الحلبي المتقدم بنحو يوهم أنه منه حيث يتعين لأجله حمل الأولين علي الكراهة.

هذا وفي المقام فروع أخري ذكر جماعة من الأصحاب ابتناءها علي الخلاف المتقدم أطال شيخنا الأعظم (قده) الكلام فيها لا يسعنا استقصاؤها.

ويظهر الكلام فيها مما سبق من اختصاص النهي ببيع المبيع قبل قبضه، دون غيره من أقسام المعاوضة، فضلاً عن النقل والاستيفاء، ودون بيع المملوك بغير البيع، فضلاً عن الاستيفاء به.

فلاحظ.

والحمد لله رب العالمين.

********

(1) تهذيب الأحكام ج: 7 ص 42 حديث: 180.

ص: 130

(131) (131)

الفصل الثامن/ في النقد والنسيية

اشارة

(مسألة 1): من باع ولم يشترط تأجيل الثمن كان الثمن حالاً (1).

-

(1) الظاهر المفروغية عنه بين الأصحاب، ونفي الخلاف فيه في الغنية والحدائق والرياض.

وعليه يبتني ما تقدم في أول الكلام في القبض من وجوب تسليم العوضين علي كلا المتبايعين عند انتهاء العقد مع عدم اشتراط التأخير.

ويقتضيه ما تقدم هناك من ابتناء البيع علي التسليم والتسلم، وغير ذلك.

مضافاً إلي ما استدل به في الحدائق من موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في رجل اشتري من رجل جارية بثمن مسمي، ثم افترقا.

فقال: وجب البيع والثمن.

إذا لم يكونا اشترطا فهو نقد»(1).

وبذلك يظهر أن اشتراط التعجيل يكون مؤكداً لمقتضي العقد، من دون أن يترتب عليه أثر آخر، كما صرح بذلك غير واحد.

ودعوي: أن مقتضي اشتراط التعجيل ثبوت الخيار للبائع بالتخلف عنه، ولا كذلك مع الإطلاق.

ممنوعة، لما تقدم هناك من ثبوت الخيار مع الإطلاق أيضاً، بلحاظ تخلف الشرط الضمني المستفاد مع الإطلاق.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب أحكام العقود حديث: 2.

ص: 131

فللبائع المطالبة به بعد انتهاء العقد (1) كما يجب عليه أخذه إذا دفعه إليه المشتري، وليس له الامتناع من أخذه (2).

وإذا اشترط تأجيل الثمن يكون

---------------

نعم قد يراد باشتراط التعجيل المنع من التأخير بالنحو الذي قد يتعارف في بعض الأزمنة أو الأمكنة، بحيث يكون مقتضي الإطلاق جواز التأخير بالمقدار المذكور وعدم كون البيع حالاً.

فيخرج عن محل الكلام من اقتضاء الإطلاق حلول الثمن.

كما قد يرجع إلي عدم الإذن في التأخير، دفعاً لاحتمال الرضا بالتأخير مع كون البيع حالاً الذي قد يتعارف أيضاً.

فلا يكون مؤكداً لمقتضي الإطلاق، بل أمراً زائداً عليه.

فلاحظ.

(1) لأنه قد ملكه بالعقد، وله المطالبة بملكه، ويحرم حبسه عليه.

وفي وجوب دفعه إليه حين دفعه للمبيع، أو بعده، كلام تقدم في المسألة الأولي من الفصل السابع.

كما أنه يتعين البناء علي وجوب دفعه ولو مع المطالبة به إذا لم يرجع عدم المطالبة إلي الإذن في تأخير الدفع، كما لو نسي البائع المعاملة، أو سقطت سلطنته بإغماء أو جنون، أو مات وجهل الوارث بملكية المورّث للثمن الذي عند المشتري.

لحرمة حبس الحق عن صاحبه من دون إذن منه، لمنافاة ذلك لسلطنته عليه.

(2) كما هو ظاهر الأصحاب، حيث ذكروا ذلك في غير موضع، منها ما إذا حل الأجل في المؤجل، وفي الجواهر هناك: «بلا خلاف أجده فيه»، وفي الرياض الإجماع عليه.

وقد يستدل عليه بعموم نفي الضرر، لأن حفظ الثمن الشخصي علي المشتري، وبقاء انشغال ذمته بالثمن الكلي، ضرر عليه.

لكن ذلك لو تم إنما يقتضي ارتفاع الحكم الضرري، وهو في المقام وجوب الحفظ علي المشتري وانشغال ذمته المذكورين، لا وجوب أخذ الثمن علي البائع الذي

ص: 132

هو حكم يتدارك به الضرر المذكور.

فالعمدة ما أشرنا إليه في ذيل الكلام في تحديد مفهوم القبض من المسألة الثانية من الفصل السابع من أن مقتضي العقد هو القبض من الطرفين، بحيث يكون الامتناع عنه خروجاً عن مقتضي العقد وتخلفاً عن مقتضي الشرط الضمني الذي يتضمنه ارتكازاً.

ولذا يستحق الطرف الآخر به الخيار، ويكون له الفسخ.

هذا ولو امتنع من أخذ الثمن ولم يفسخ المشتري.

فإن كان الثمن شخصياً فتلفه مع عدم التفريط من المشتري يكون من مال البائع، إذ لو تم إلحاق الثمن بالمبيع في كون تلفه قبل القبض من مال من كان له قبل البيع كما تقدم في المسألة الثالثة من الفصل السابع فالمتيقن من ذلك ما إذا كان بقاؤه عنده بإذنه، أما إذا لم يكن بإذنه فالمتعين الرجوع فيه للقاعدة القاضية بكون تلفه من مال من صار إليه بالبيع، كما تقدم منا في المسألة المذكورة، وصرح به هنا غير واحد، ونفي في الجواهر وجدان الخلاف فيه في الجملة.

وقد استدل عليه بأن ضمانه له حينئذ ضرر عظيم.

لكن تقدم منّا هناك عدم نهوض قاعدة نفي الضرر بذلك، وأن العمدة في المقام القاعدة، كما ذكرنا.

نعم وقع الكلام منهم في وجوب تسليمه للحاكم مع تيسره، لأنه ولي الممتنع.

لكن يشكل: أولاً: بعدم الدليل علي وجوب تكلف المشتري إقناع البائع باستلام الثمن بنفسه لو أمكن، فضلاً عن تسليمه لوكيله أو وليه، بل الواجب هو بذله له والحضور لتسليمه إياه لا غير.

وثانياً: بعدم الدليل علي ولاية الحاكم علي أخذ حق الممتنع وحفظه، لعدم وضوح اهتمام الشارع الأقدس بحفظ حق الممتنع من أخذ حقه.

بل يشكل جواز دفعه للحاكم وجواز أخذ الحاكم له بعد عدم إذن صاحبه بذلك.

وغاية ما يدعي هو ولايته علي أخذ الحق منه، لاهتمام الشارع بحفظ الحقوق،

ص: 133

نسيئة لا يجب علي المشتري دفعه قبل الأجل (1) وإن طالبه به البائع (2).

ولا يجب علي البائع أخذه إذا دفعه إليه المشتري قبله (3).

إلا أن تكون

---------------

وسقوط حرمة الممتنع بامتناعه من أداء الحق الذي عليه.

ومن هنا يتعين البناء علي جواز ترك المشتري الثمن المعين عنده إذا امتنع الباع من أخذه.

بل يظهر مما تقدم هناك أنه لا ملزم بالبناء علي وجوب حفظ المشتري له وعدم تفريطه به بعد أن كان البائع معتدياً بتركه عنده من دون رضاه، ممتنعاً من أخذه منه مع بذله له، لعدم كونه أمانة مالكية ولا شرعية.

فراجع.

وإن كان الثمن كلياً فحيث لا يتعين إلا بقبض البائع، فلا مجال لاستقلال المشتري بتعيينه وعزله، وحيث كان بقاؤه في ذمته ضرراً عليه، وعدوان من البائع، يتعين عليه إذا لم يصبر علي الضرر المذكور أن يعلم البائع بأنه إذا أصرّ علي الامتناع فسوف يرجع للحاكم في تعيين الثمن وتشخيصه لعله يضطر إلي تولي ذلك بنفسه، فإن أصر علي الامتناع أو تعذر إخباره بذلك رجع المشتري للحاكم من أجل أن يقوم مقام البائع الممتنع في تعيين الحق وعزله، وتفريع ذمته منه.

فإذا تم تعيينه وعزله أخبر البائع إذا تيسر له لعله يأخذه فإن امتنع جري عليه ما سبق في الثمن الشخصي.

ثم إن جميع ما ذكرنا يجري في حق البائع إذا امتنع المشتري من أخذ المبيع.

بل يجري في حق كل ممتنع بلا حق من أخذ حقه، كالدائن والمستودع وصاحب العارية وغيرهم.

فلاحظ.

(1) لعدم استحقاقه عليه بمقتضي الشرط.

(2) لأن البائع وإن استحق الثمن وملكه بالعقد، إلا أنه لا يستحق تعجيله بمقتضي الشرط، فلا تكون مطالبته بحق، لتتعين الاستجابة له.

(3) بلا خلاف أجده بيننا، كما في الجواهر، وإجماعاً، كما في الرياض.

وفي القواعد بعد أن حكم بعدم وجوب دفع الدين المؤجل قبل الأجل قال: «فإن تبرع

ص: 134

لم يجب أخذه وإن انتفي الضرر».

وظاهر جامع المقاصد الإجماع عليه، لاقتصاره علي نسبة الخلاف للعامة.

ولا ينبغي الإشكال، في عدم دخل الضرر وعدمه في ذلك، إذ لا يجب الاقتصار في تمسك صاحب الحق بحقه علي ما إذا لزم من تنازله عنه الضرر عليه.

نعم ينبغي الكلام في مقامين: الأول: أن الأجل المشترط والدين ونحوهما حق يقبل الإسقاط، كسائر الحقوق أو لا يقبله.

صرح بالثاني في القواعد قال: «لو أسقط المديون أجل الدين الذي عليه لم يسقط، وليس لصاحبه المطالبة في الحال».

قال في جامع المقاصد: «لأن ذلك قد ثبت بالعقد اللازم.

.

.

فلا يسقط بمجرد الإسقاط.

ولأن في الأجل حقاً لصاحب الدين، ولهذا لا يجب عليه قبوله قبل الأجل.

أما لو تقايلا في الأجل، فإنه يصح».

وهو كما تري! لاندفاع الأول بأن ثبوت الأجل بالعقد اللازم لا ينافي كونه حقاً يقبل الإسقاط كسائر الشروط، كما يقبل الثمن الإسقاط والإبراء إذا كان ديناً وإن كان ثابتاً بالعقد اللازم.

لما سبق في المسألة الثالثة من الفصل الرابع وغيرها من أن مبني العقود والشروط علي جعل الاستحقاقات بين أطرافها، ووجوب الوفاء بها متفرع علي ذلك، وليس هو حكماً شرعياً ابتدائياً خارجاً عن سلطنة المتعاقدين.

بل هو لا يناسب ما ذكره (قده) من إمكان تقايلهما في الأجل، لأن التقايل لو تم متفرع علي كون لزوم العقد والشرط حقياً لا حكمياً، وإذا كان حقياً كان قابلاً للإسقاط.

كما سبق عند الكلام في خيار الشرط.

نعم يشكل التقايل في الأجل وحده بناءً علي ما سبق منا في المسألة الرابعة عشرة من الفصل المذكور من امتناع فسخ بعض مضمون العقد.

فراجع.

إلا أن يرجع للإسقاط من كل منهما فيصح، إذ لا مانع من إسقاط بعض مضمون العقد إذا كان حقاً، نظير إبراء الذمة من الثمن، لأن إسقاطه لا يرجع إلي

ص: 135

فسخ العقد بالإضافة إليه بل إلي التصرف فيه في فرض ثبوته بالعقد ونفوذ العقد فيه.

واندفاع الثاني بأنه لو تم ثبوت حق لصاحب الدين في الأجل فذلك لا يقتضي وحدة الحق فيه لهما بحيث لا ينفذ فيه تصرف كل منهما إلا منضماً للآخر، نظير الحق الموروث لأكثر من واحد بل تعدد الحق فيه، مع انفراد كل منهما بحقه وبالسلطنة عليه، نظير خيار المجلس الثابت للمتبائعين معاً، وما إذا اشترط الخيار في العقد لهما معاً.

وحينئذ إذا أسقط المدين في مفروض الكلام حقه في الأجل دون الدائن سقط حقه فيه، وصار للدائن الحق في مطالبته بالدين في الحال وإن لم يسقط حقه في الأجل، بحيث له الامتناع من أخذ الدين قبله.

الثاني: أنه بعد فرض كون الأجل حقاً قابلاً للإسقاط فهل هو في المقام حق للمشتري وحده أو للبائع وحده، أو لهما معاً؟ لا ينبغي الإشكال في إمكان كل من الوجوه الثلاثة ثبوتاً.

ولا أثر في ذلك لكونه صلاحاً لأحدهما أو لكليهما، لا حين البيع ولا بعد ذلك، وإنما المعيار في ذلك قصد المتعاقدين، وكيفية جعل الشرط بينهما، لتبعية الاستحقاق للعقد والشرط المتقومين بالقصد.

وأما في مقام الإثبات فقد يظهر من سيدنا المصنف (قده) أن مقتضي الإطلاق والظهور الأولي للعقد هو كونه حقاً لهما معاً، لظهور الإطلاق في أن الشرط شرط لكل منهما علي الآخر، وأن اختصاص الاشتراط بالمشتري يحتاج إلي قرينة خاصة.

لكن قد يدعي أن انتفاع المشتري نوعاً بالأجل دون البائع يوجب انصراف اشتراطه إلي كونه شرطاً له علي البائع، دون العكس، ودون كونه شرطاً لكل منهما علي الآخر.

ولعله لذا ذكر بعض مشايخنا (قده) أنه يجب علي البائع أخذ الثمن لو دفعه إليه المشتري، إلا أن تقوم قرينة علي كون التأجيل حقاً للبائع أيضاً.

وهو قريب جداً لولا احتمال أن يكون اشتراط المشتري للأجل يحمل البائع علي ترتيب أموره بنحو يتسق مع الشرط المذكور، ويحمله علي جعل الشرط لهما معاً.

ص: 136

إلا أن يقال: الاحتمال المذكور لا ينافي ظهور حال الشرط حين العقد في كونه شرطاً للمشتري فقط، بحيث يحتاج اشتراكهما فيه للقرينة.

بل لا إشكال في ذلك إذا كان الاشتراط بلسان أن للمشتري التأجيل.

ولعله خارج عن فرض التردد بين الوجهين في المتن.

وكيف كان فلابد في فرض كون الشرط للمشتري وحده من البناء علي وجوب أخذ البائع للثمن لو بذله المشتري، عملاً بمقتضي البيع من التسليم والتسلم بعد عدم كون الأجل شرطاً ولاحقاً له.

ومنه يظهر ضعف ما في الرياض من أن مقتضي الأصل عدم وجوب الأخذ عليه، من دون مخرج عنه من نص أو إجماع.

إذ فيه: أنه لا مجال للأصل بعد ابتناء البيع علي التسليم والتسلم، وعدم كون الشرط مخرجاً عنه في حقه.

ومثله ما في الجواهر من لزوم الخروج عن ذلك بالإجماع المدعي علي عدم وجوب الأخذ علي البائع في المقام.

إذ فيه: أنه لا مجال للاستدلال بالإجماع في مثل هذه الفروع التي لم ترد فيها النصوص، ولم يشع الابتلاء بها، بحيث يحرز فيها سيرة متصلة بعصور المعصومين (صلوات الله عليهم)، تكشف مذهبهم، فإن الشايع في فرض تنازل المشتري عن الأجل قبول البائع بالثمن وعدم امتناعه من أخذه ولو لأنه في صالحه، وليس الشايع حينئذ امتناعه من ذلك، لتنعقد به سيرة تكشف عن رأي الإمام يستند لها المجمعون.

ولم تحرر هذه الفروع إلا في عصر تحرير الفتاوي.

والظاهر أن ذهاب المفتين للمنع محض اجتهاد منهم لا يكشف عن رأي المعصومين (صلوات الله عليهم)، ولا ينشأ عن إطلاعهم علي دليل تعبدي مخرج عما تقتضيه القاعدة.

كما تكرر منا التنبيه لذلك في كثير من موارد دعوي الإجماع في مثل هذه الفروع الحديثة التحرير.

فلاحظ.

ص: 137

القرينة علي كون التأجيل حقاً للمشتري دون البائع.

ويجب أن يكون الأجل معيناً لا يتردد فيه بين الزيادة والنقصان (1)، فلو جعل الأجل قدوم زيد أو (الدياس) أو الحصاد أو جذاذ الثمر أو نحو ذلك بطل العقد (2).

ولو

---------------

(1) كما صرح به المفيد (قده) في المقنعة وكثير ممن تأخر عنه، ونفي الخلاف فيه غير واحد، وفي الجواهر «بلا خلاف أجده، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه»، وفي مجمع الفائدة: «وأما دليل كون الأجل مضبوطاً فكأنه الإجماع مستنداً إلي لزوم الغرر المنفي بالخبر... ولأنه قد يؤول إلي النزاع والتشاجر...».

لكن الإجماع لو تم لا ينهض بالاستدلال، كما يظهر مما ذكرناه آنفاً، وتكرر منا غير مرة.

ودليل الغرر وإن أمكن إرجاعه إلي النهي عن خصوص بيع الغرر، لفرض كون الشرط في المقام في البيع، بل من شؤون الثمن الذي هو أحد العوضين، كما يظهر بمراجعة ما تقدم عند الكلام في مانعية الجهالة من صحة الشرط، ويأتي ما يناسبه، إلا أنه سبق منا المنع من الاستدلال به كبروياً وصغروياً، كما يظهر بمراجعة المسألة الثانية من الفصل الثالث، والمسألة العاشرة من الفصل الرابع.

وأما أنه يؤول إلي النزاع والتشاجر فهو ممنوع كبروياً وصغروياً، كما لعله ظاهر.

نعم ورد اعتبار ضبط الأجل في بيع السلف(1) الذي يتقوم بتأجيل المبيع.

وهو وإن أمكن أن يختص بأحكامه، إلا أن من القريب جريان حكمه المذكور في بيع النسيئة الذي يتقوم بتأجيل الثمن، لقرب فهم عدم الفرق بين الثمن والمثمن وإلغاء خصوصيتهما في مثل ذلك، كما تقدم نظيره في غير مورد.

وإن كان في كفاية ذلك في الاستدلال في المقام إشكال.

(2) قطعاً، كما في الجواهر.

وبه صرح المفيد في المقنعة وكثير ممن تأخر عنه، وفي مفتاح الكرامة: «وهذا فرع ما تقدم، فلا خلاف فيه».

وكأنه لا مجال لاحتمال بطلان

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب السلف.

ص: 138

(139)

لو باع شيياً بثمن نقداً وباكثر نسيية

كانت معرفة الأجل محتاجة إلي الحساب مثل أول الحمل أو الميزان أو عيد اليهود فالظاهر البطلان (1).

نعم لو كان الأجل أو الشهر القابل مع التردد في الشهر الحالي بين الكمال والنقصان فالظاهر الصحة (2).

(مسألة 2): لو باع شيئاً بثمن نقداً وبأكثر منه مؤجلاً بأن قال: بعتك الفرس بعشرة نقداً وبعشرين إلي سنة فقبل المشتري فالمشهور البطلان (3)

---------------

الشرط المتضمن لاستحقاق التأجيل، دون أصل البيع، بل يكون حالاً.

لسريان الغرر للبيع نفسه، لكون الشرط من شؤونه، كما سبق عند الكلام في مبطلية الجهالة للشرط من أحكام الشروط.

ولاسيما بعد كون التأجيل من شؤون أحد العوضين الذين هما ركنا البيع.

كما أنه لو كان الدليل في المقام هو نصوص بيع السلف فهي ظاهرة في بطلان البيع، لا بطلان خصوص شرط التأجيل.

(1) كما هو مقتضي ما في مفتاح الكرامة من تقييد الصحة بما إذا علما ذلك.

والوجه فيه الجهالة المانعة بمقتضي الأدلة السابقة.

لكن قال في الجواهر: «وقد يناقش فيه باحتمال الاكتفاء فيه بانضباطه في نفسه، كأوزان البلدان مع عدم معرفة المصداق.

فله شراء وزنة مثلاً بعيار بلد مخصوص وإن لم يعرف مقدارها.

إلا أن للنظر فيه مجالاً».

وكأن وجه النظر أن المفروض في المقام اعتبار العلم، لا اعتبار الانضباط.

والاكتفاء بالانضباط في الوزن غير المعلوم لأحد المتعاقدين لدليل خاص به كما سبق التعرض له في محله لا يقتضي الاكتفاء به هنا.

نعم لو كان الدليل الإجماع فقد يدعي أن المتيقن منه غير الفرض.

فلاحظ.

(2) لما هو المعلوم من شيوع التقدير في العصور السابقة بالأشهر القمرية.

(3) كما في الحدائق، وفي الرياض أنه الأشهر، بل عليه عامة من تأخر، وفي مجمع الفائدة أنه ظاهر الأكثر.

وبالبطلان الظاهر أو الصريح في لغوية البيع، وعدم ترتب

ص: 139

الأثر عليه رأساً صرح في المبسوط والوسيلة والسرائر والإرشاد والتذكرة والإيضاح والتنقيح وكشف الرموز واللمعتين ومحكي التحرير وغيرها.

واستدل له بوجهين: الأول: ما تضمن النهي عن بيع الغرر، بلحاظ الجهالة بالثمن.

ويشكل بما تكرر منا من عدم ثبوت عموم النهي عن بيع الغرر.

مضافاً إلي أن الجهل بالثمن قد يستلزم الغرر مع كون البيع علي نحو واحد حالاً فقط أو نسيئة فقط، دون محل الكلام، حيث يكون كل من الثمنين معلوماً في الحال الذي جعل فيه ومناسباً له، فلا غرر في حق البائع، لمناسبة الثمن للمبيع علي الحالين، ولا في حق المشتري، لأنه يختار ما يناسبه.

الثاني: ما تضمن النهي عن شرطين في بيع، أو بيعين في بيع، أو صفقتين في واحدة.

كموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في حديث:

«إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بعث رجلاً إلي أهل مكة، وأمره أن ينهاهم عن شرطين في بيع» (1) ، ومعتبر سليمان بن صالح عنه (عليه السلام)

«قال: نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عن سلف وبيع، وعن بيعين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن»(2) ، ونحوه خبر الحسين بن زيد(3) ، والنبوي: «لا تحل صفقتان في واحدة»(4).

قال في الجواهر بعد أن ذكر الثاني: «المفسر بذلك أو بما يشمله».

وظاهره كون محل الكلام متيقناً من المضمون المذكور.

ولم يتضح الوجه في ذلك.

ولاسيما مع ما في المبسوط، قال: «ونهي النبي عن بيعتين في بيعة.

وقيل: إنه يحتمل أمرين أحدهما: أن يكون المراد به إذا قال: بعتك هذا الشيء بألف درهم نقداً وبألفين نسيئة بأيهما شئت خذه... والآخر أن يقول: بعتك عبدي هذا بألف علي أن تبيعني دارك هذه بألف...».

وبذلك تكون النصوص المذكورة مجملة لا تنهض بالاستدلال في المقام.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب أحكام العقود حديث: 3، 4، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب أحكام العقود حديث: 3، 4، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب أحكام العقود حديث: 3، 4، 5.

(4) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 2 من أبواب أحكام العقود حديث: 2.

ص: 140

وقيل يصح بأقل الثمنين وأكثر الأجلين (1).

وفيه رواية (2).

-

ولعل الأولي في وجه البطلان هو تردد البيع بين الحال والنسيئة، فلا يصح فعلاً، لامتناع وجود المردد ولو اعتباراً.

نعم يمكن صحته معيناً بأحد الوجهين معلقاً علي اختيار المشتري له.

لكنه يستلزم التعليق المبطل للبيع، بل لجميع العقود عند الأصحاب.

(1) كما يظهر من النهاية حيث قال: «فإن ذكر المتاع بأجلين ونقدين مختلفين، بأن يقول: ثمن هذا المتاع كذا عاجلاً وكذا آجلاً، ثم أمضي البيع، كان له أقل الثمنين وأبعد الأجلين».

وبه صرح في الدروس.

وعن البشري أن العمل بالرواية الدالة علي ذلك قريب ونحوه عن الكفاية.

وقد يظهر من الشرائع الميل إليه، ومن المختلف احتماله، ومن النافع التردد، كما هو ظاهر القواعد.

والقول بذلك هو الظاهر من المقنعة والغنية ومحكي كلام القاضي، للحكم فيها بثبوت أقل الثمنين وأبعد الأجلين.

ولا ينافيه ما في المقنعة من عدم جواز المعاملة المذكورة، وما في الغنية ومحكي كلام القاضي من بطلان المعاملة المذكورة.

حيث يتعين حمل الأول علي الحرمة التكليفية، أو الوضعية الراجعة إلي عدم نفوذ المعاملة علي الوجه الذي وقعت عليه.

وعليها يحمل البطلان في الأخيرين.

(2) ففي صحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من باع سلعته فقال: إن ثمنها كذا وكذا يداً بيد، وثمنها كذا وكذا نظرة، فخذها بأي ثمن شئت، وجعل [واجعل.

يب] صفقتهما واحدة، فليس له إلا أقلهما وإن كانت نظرة.

قال: وقال (عليه السلام):

من ساوم بثمنين أحدهما عاجلاً والآخر نظرة فليسم أحدهما قبل الصفقة»(1).

وفي معتبر السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام): «أن علياً (عليه السلام) قضي في رجل باع بيعاً واشترط شرطين: بالنقد كذا، وبالنسيئة كذا، فأخذ المتاع علي ذلك

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب أحكام العقود حديث: 1.

ص: 141

الشرط.

فقال: هو بأقل الثمنين وأبعد الأجلين.

يقول: ليس له إلا أقل النقدين إلي الأجل الذي أجله بنسية»(1).

وما في كلام غير واحد من الإشكال فيهما بضعف سند الأول، لاشتراك محمد بن قيس بين الثقة وغيره، وسند الثاني بضعف السكوني والنوفلي الراوي عنه.

مدفوع بأن محمد بن قيس في الحديث الأول هو الثقة، لرواية عاصم بن حميد عنه، علي ما نبه لذلك غير واحد.

كما أن السكوني في الحديث الثاني وإن كان عامياً، إلا أنه يستفاد من كلام الشيخ (قده) في العدة توثيقه.

مضافاً إلي أنه هو والنوفلي من رجال تفسير القمي وكامل الزيارات.

ومثله ما في المختلف من احتمال الحديثين الحمل علي عقد البيع بالثمن الأقل نقداً، وبعد ذلك جعل البائع للمشتري تأخير الثمن بزيادة.

إذ فيه: أن الاحتمال المذكور مخالف لظاهر الحديثين أو صريحهما.

ولاسيما أن تأخير الدين بالزيادة لا يترتب عليه الأثر أصلاً، لا من حيثية ثبوت الزيادة، ولا من حيثية تأخير الدين، بل يبقي الدين معجلاً، والحديثان صريحان في تأجيل الثمن الأقل.

وكذا ما في الرياض من حمل الصحيح علي إرادة الإيجاب فقط من البيع، وفرض تلف المبيع، فيكون مرجع ذلك إلي أن الإيجاب المذكور لا يتم به العقد غايته أنه يقتضي ضمان المبيع بأقل الثمنين لا بالمثل أو القيمة.

فإنه مخالف لظاهره أو صريحه، بل لا يناسب قوله فيه: «وجعل صفقتهما واحدة».

لظهور أن الصفقة إنما تكون بين المتبايعين.

كما أن حمله علي خصوص فرض تلف المبيع من أبعد البعيد.

مع أنه لا وجه حينئذٍ لتأجيل الثمن الأقل.

وأما ما في ذيل الصحيح من الأمر بتسمية أحدهما قبل الصفقة الظاهر في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب أحكام العقود حديث: 2.

ص: 142

توقف ترتب أثر المعاملة علي ذلك.

فهو لا ينافي الحكم الذي تضمنه صدره، لأن الحكم الذي تضمنه الصدر راجع إلي عدم صحة البيع علي الوجه الذي وقع عليه، وترتب الأثر عليه علي خلاف ما وقع عليه.

ويكون المتحصل من الصدر والذيل سواءً كانا حديثاً واحداً أم حديثين أن صحة البيع وترتب أثره علي الوجه الذي يوقع عليه موقوف علي تعيين أحد الوجهين قبل الصفقة، فإن جمعا في صفقة واحدة لم يصح البيع علي الوجه الذي وقع عليه، لكنه لا يلغو رأساً، بل يترتب عليه الأثر علي خلاف ما وقع عليه، فيكون بأقل الثمنين وأبعد الأجلين.

وبذلك يجمع بين الحديثين والنصوص المتقدمة في الاستدلال للقول بالبطلان لو تم الاستدلال بها.

نعم ذلك مخالف لقاعدة السلطنة القاضية بعدم صحة المعاملة وعدم ترتب الأثر عليها علي خلاف الوجه الذي وقعت عليه.

لكنه لا يكفي في طرح الحديثين، إذ هو لا يزيد علي تخصيص العموم الشايع في الأدلة.

لكن قال في المختلف: «ويمكن أن يقال: إنه رضي بالثمن الأقل، فليس له الأكثر في البعيد، وإلا لزم الربا، إذ تبقي الزيادة في مقابلة تأخير الثمن لا غير، فإذا صبر إلي البعيد لم يجب له أكثر من الأقل».

وقال في الدروس: «والأقرب الصحة ولزوم الأقل.

ويكون التأخير جائزاً من جهة المشتري لازماً من طرف البائع.

لرضاه بالأقل فالزيادة ربا.

ولأجلها ورد النهي.

وهو غير مانع من صحة البيع».

وظاهرهما كون لزوم الثمن في الأقل مع الأجل الأبعد مطابقاً للقاعدة، لتحقق الرضا به، وكون الزيادة ربا يبطل اشتراطه.

وهو كما تري!.

أولاً: لعدم الرضا بالأقل علي كل حال، بحيث يكون هو الثمن لا غير، ويجب بمقتضي عقد البيع، وتكون الزيادة عليه ربا، بل الأقل هو الثمن في فرض التعجيل لا غير، وفي فرض التأخير فالأكثر هو الثمن، من دون أن تكون الزيادة شرطاً ربوياً خارجاً عن مقتضي العقد.

ص: 143

وثانياً: لأن الثمن لو كان هو الأقل علي كل حال، بحيث يكون استحقاق الزيادة في مقابل التأخير ربا، ومن أجله ورد النهي، للزم البناء علي وجوب التعجيل، عملاً بمقتضي القاعدة بعد فرض بطلان اشتراط الزيادة في مقابل التأخير.

غاية الأمر أنه لو أخر المشتري تسليم الثمن الأقل عصياناً، أو برضا البائع، لم يجب عليه الزيادة، كما نسبه في كشف الرموز للراوندي.

لكنه لا يناسب ما سبق من الدروس.

ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من مخالفة ذلك للقاعدة، وإن لزم البناء عليه من أجل الحديثين.

ومثله في الإشكال ما عن ابن الجنيد، حيث قال كما في المختلف: «وقد روي عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): أنه قال: لا تحل صفقتان في [بيعة] واحدة.

وذلك أن تقول: إن كان بالنقد فبكذا، وإن كان بالنسيئة فبكذا وكذا.

ولو عقد البائع للمشتري كذلك وجعل الخيار إليه لم أختر للمشتري أن يقوم علي ذلك.

فإن فعل واستهلكت السلعة لم يكن للبائع إلا أقل الثمنين، لإجازته البيع به، وكان للمشتري الخيار في تأخير الثمن الأقل إلي المدة التي ذكرها البائع بالثمن الأوفر من غير زيادة علي الثمن الأقل».

إذ فيه مضافاً إلي ما سبق في تعقيب كلام الدروس -: أن البيع إن صح بالنحو الذي ذكره فلماذا لم ير للمشتري أن يقوم بذلك ؟ وإن لم يصح فاللازم أن يضمن المشتري المبيع مع التلف بالمثل أو القيمة كما في سائر موارد المقبوض بالعقد الفاسد، لا بالثمن المسمي في البيع المذكور.

وإن كان نظره في ذلك الحديثين المتقدمين فحملهما علي خصوص حال التلف بعيد جداً، كما سبق.

بقي شيء، وهو أنه قد يظهر من النهاية والوسيلة والسرائر وغيرها عدم الفرق في محل الكلام بين الترديد بين الحال والمؤجل والترديد بين قصير الأجل وطويله.

وهو صريح المقنعة والتذكرة والمختلف والقواعد والدروس وغيرها.

بل اقتصر في الغنية علي التمثيل بالثاني، بنحو يظهر في المفروغية عن عدم الفرق بينهما.

وهو في محله لو كان المرجع في المقام القاعدة، إما للبناء علي البطلان رأساً، أو

ص: 144

(145)

الكلام في جواز تاخير الثمن الحال

(مسألة 3): لا يجوز تأجيل الثمن الحال، بل مطلق الدين، بأزيد منه (1)، بأن يزيد فيه مقداراً ليؤخره إلي أجل.

وكذا لا يجوز أن يزيد في

---------------

لدعوي اقتضائها الصحة بأقل الثمنين وأبعد الأجلين، كما سبق من الدروس.

أما بناءً علي الصحة بأقل الثمنين وأبعد الأجلين خروجاً عن مقتضي القاعدة من أجل الحديثين المتقدمين كما سبق منّا تبعاً لجماعة فمن الظاهر اختصاص الحديثين بالأول، ولا مخرج عن مقتضي القاعدة في الثاني.

ولعله لذا جزم بالبطلان فيه في الشرائع والنافع، مع ميله أو تردده في الصحة في الأول، كما سبق.

بل عن التحرير أنه يبطل قولاً واحداً، وإن لم يناسب ما سبق منهم.

نعم قد يدعي استفادة الصحة فيه من الحديثين بإلغاء خصوصية موردهما عرفاً، أو تعميم الحكم له بتنقيح المناط.

وكلاهما في غاية الإشكال.

(1) بلا إشكال ظاهر.

ولعل عدم ذكر بعضهم له لوضوحه.

قال في الجواهر: «لأنه ربا محرم كتاباً وسنة وإجماعاً.

فلا يجوز، سواء وقع علي جهة البيع أو الصلح أو الجعالة.

ولو اشترط في عقد آخر فسد وأفسد، إذ هو لا يحلل الحرام».

وفي صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) وصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أنهما قالا في الرجل يكون عليه الدين إلي أجل مسمي، فيأتيه غريمه فيقول: أنقدني من الذي لي كذا وكذا وأضع لك بقيته.

أو يقول: انقد لي بعضاً وأمد لك في الأجل فيما بقي عليك.

قال: لا أري بأساً ما لم يزدد علي رأس ماله شيئاً.

يقول الله: (لَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)»(1).

هذا والمتيقن من ذلك ما إذا كانت الزيادة في مقابل التأجيل بنحو الصلح أو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 7 من أبواب أحكام الصلح حديث: 1.

ص: 145

الثمن المؤجل ليزيد في الأجل (1).

ويجوز عكس ذلك، بأن يعجل المؤجل بنقصان منه (2) علي وجه الصلح أو الإبراء (3)، ولا يصح علي وجه بيع

---------------

الجعالة كما هو مقتضي إطلاق الصحيح المتقدم.

وكذا إذا كان المؤجل مقابل المعجل بنحو البيع في الربوي، لأنه وإن لم يكن قرضاً ربوياً، إلا أنه ربا في البيع.

ومثله ما إذا كان بنحو الصلح المعاوضي بين المعجل والمؤجل، بناءً علي عموم الربا لجميع المعاوضات وعدم اختصاصه بالبيع.

أما إذا لم يكن ربوياً، كالمعدود ومنه النقود في عصورنا فقد يشكل حرمة البيع، فضلاً عن الصلح المعاوضي، بخروجه عن الربا في القرض، لفرض عدم دفع الزيادة في مقابل التأجيل.

وعدم حرمة البيع والمعاوضة مع الزيادة في غير الربويين.

اللهم إلا أن يقال: البيع المذكور إذا كان أحد العوضين أو كلاهما مؤجلاً يؤدي مؤدي القرض الربوي، فمن البعيد جداً مشروعيته، وإلا لورد التنبيه له في النصوص، كما ورد التنبيه لكثير من الطرق التي يتخلص بها من الربا.

وإن كان في كفاية ذلك في الاستدلال علي الحرمة إشكال.

فلاحظ.

(1) لعين ما سبق.

(2) بلا خلاف أجده فيه.

كذا في الجواهر.

ويقتضيه الصحيح المتقدم ومرسل أبان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن الرجل يكون له علي الرجل دين، فيقول له قبل أن يحل الأجل: عجل لي النصف من حقي علي أن أضع عنك النصف، أيحل ذلك لواحد منهما؟ قال: نعم»(1).

(3) كما ذكره في الجواهر.

ويقتضيه إطلاق الحديثين المتقدمين، وإطلاقات الجعالة فيما إذا كان الإبراء أو البراءة من الدين في مقابل التعجيل، وعمومات الصلح فيما إذا كان بعض الدين في مقابل التعجيل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 7 من أبواب أحكام الصلح حديث: 2.

ص: 146

(147)

الأكثر المؤجل بالأقل الحال، لأنه ربا (1).

وكذا يجوز في الدين المؤجل أن ينقد بعضه قبل حلول الأجل علي أن يؤجل له الباقي إلي أجل آخر.

(مسألة 4): إذا اشتري شيئاً نسيئة يجوز شراؤه منه (2) قبل حلو

---------------

(1) هذا إنما يتم فيما إذا كان المال المدين به ربوياً.

وكذا الحال في الصلح المبني علي التعاوض بين الأقل المعجل والأكثر المؤجل، بناء علي عموم الربا لجميع المعاوضات.

أما إذا لم يكن المال المدين به ربوياً لعدم كونه من المكيل والموزون فلا وجه لحرمته.

وإذا كان يشبه القرض الربوي مع الزيادة كما تقدم، فهو لا يشبهه مع النقيصة، لتجري الشبهة السابقة في جوازه.

فلاحظ.

(2) كما في المقنعة والنهاية والمبسوط والسرائر وكثير مما تأخر عنها.

ونفي الخلاف فيه في الرياض، كما استظهر ذلك في مجمع الفائدة، وقال: «فكأن دليله الإجماع...».

ويقتضيه عمومات صحة العقود والتجارة، وخصوص بعض النصوص، كصحيح بشار بن يسار: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يبيع المتاع بنساء، فيشتريه من صاحبه الذي يبيعه منه.

قال: نعم، لا بأس به.

فقلت له: أشتري متاعي ؟! فقال: ليس هو متاعك ولا بقرك ولا غنمك»(1) ، ومعتبر أبي بكر الحضرمي: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لي علي الرجل الدراهم فيقول: بعني بيعاً [متاعاً.

يب] أقضيك، فأبيعه المتاع، ثم أشتريه منه وأقبض مالي.

قال: لا بأس»(2).

وإليه يرجع صحيحه: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجل تعيّن ثم حلّ دينه، فلم يجد ما يقضي، أيتعين من صاحبه الذي عينه ويقضيه ؟ قال: نعم»(3).

فإن الظاهر أن المراد بالتعين الذي تضمنه هذا الحديث وغيره هو بيع المال

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب أحكام العقود حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب أحكام العقود حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب أحكام العقود حديث: 1، 2.

ص: 147

الأجل أو بعده (1)، بجنس الثمن أو بغيره (2)، مساوياً له أو زائداً عليه أو

---------------

مؤجلاً ثم شراؤه بالأقل حالاً، كما يحمل عليه حديثه الأول.

وفي صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر (عليه السلام):

«سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم إلي أجل، ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد أيحل ؟ قال: إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس»(1).

ورواه بسنده عنه في قرب الإسناد، إلا أنه قال: «سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم، ثم اشتراه بخمسة دراهم، أيحل ؟»، ونحوها غيرها.

نعم في موثق عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أنه قال: لا تقبض مما تعين.

يقول: لا تعينه ثم تقبضه ممالك عليه»(2).

وربما قيل بمنافاته لما سبق لكن النهي فيه ليس عن البيع المذكور، بل عن أن يستوفي حقه مما حصل بيد الطرف الآخر من ذلك البيع، فلا ينافي صحة البيع في نفسه، كما تضمنته النصوص السابقة.

علي أن حمل هذا الصحيح علي الكراهة أهون من حمل بعض تلك النصوص علي استيفاء حقه من مال آخر.

فلاحظ.

(1) كما صرح به بعضهم، وهو مقتضي إطلاق الآخرين، بل قد يكون بيعه قبل حلول الأجل متيقناً من إطلاقهم.

نعم في المراسم: «فإن باع ما ابتاعه إلي أجل قبل حلول الأجل فبيعه باطل وإن باعه بعده وإن لم يوف ثمنه جاز ذلك».

قال في مفتاح الكرامة بعد أن حكي ذلك: «فليتأمل فإني لم أجد أحداً نقل عنها الخلاف في ذلك».

وكيف كان فيدفعه مضافاً إلي عمومات الصحة إطلاق النصوص السابقة.

بل لعله المتيقن من بعضها، لعدم تأدي الغرض بدونه.

(2) كما صرح جماعة.

ويقتضيه مضافاً إلي عمومات الصحة إطلاق النصوص السابقة.

بل لعل البيع بجنس الثمن متيقن منها.

كما أن البيع بغير الجنس أولي بالصحة،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب أحكام العقود حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب أحكام العقود حديث: 9.

ص: 148

ناقصاً عنه (1)، حالاً كان البيع الثاني أو مؤجلاً (2).

إلا إذا أشترط البائع علي المشتري في البيع الأول أن يبيعه عليه بعد شرائه، أو شرط المشتري علي البائع في البيع الأول أن يشتريه منه، فإن المشهور البطلان (3) لكن الأظهر صحة

---------------

لأنه أبعد عن مشابهة الربا.

(1) كما صرح به في الجملة غير واحد.

ويقتضيه ما سبق.

(2) كما صرح به في المقنعة والنهاية وغيرهما.

ويقتضيه مضافاً إلي عمومات الصحة إطلاق بعض النصوص السابقة.

نعم في صحيح منصور بن حازم: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون له علي الرجل طعام أو بقر أو غنم أو غير ذلك، فأتي المطلوب الطالب ليبتاع منه شيئاً.

قال: لا يبيعه نسياً.

فأما نقداً فليبعه بما شاء»(1).

لكنه أجنبي عما نحن فيه من فرض تعدد البيع، وظاهر في اعتبار كون البيع الواحد نقداً إذا كان المشتري مديناً للبائع.

ولا يظهر منهم العمل به.

فلاحظ.

(3) بل عن الكفاية: «لا أعلم فيه خلافاً»، ونسبه للأصحاب في الرياض، ونفي خلافهم فيه، واستظهر في مجمع الفائدة ومحكي المفاتيح الاتفاق عليه.

وبه صرح الشيخ (قده) في المبسوط وجماعة كثيرة.

نعم أطلق جواز البيع في المقنعة والنهاية والسرائر.

لكن قد يكون مرادهم جواز أصل البيع من دون نظر للشرط، وإلا فمن البعيد بناؤهم علي جواز الشرط، إهمالاً للنصوص المانعة منه، من دون أن ينصوا علي ذلك، مع تعرضهم للتعميم من الجهات المتقدمة.

وكيف كان فيقتضيه صحيح علي بن جعفر المتقدم، وخبر الحسين بن المنذر:

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب أحكام العقود حديث: 8.

ص: 149

العقد (1).

---------------

«قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يجيئني الرجل فيطلب العينة، فأشتري له المتاع مرابحة ثم أبيعه إياه، ثم أشتريه منه مكاني.

قال: إذا كان الخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع، وكنت أنت بالخيار إن شئت اشتريت وإن شئت لم تشتر، فلا بأس...»(1) ، وخبر يونس الشيباني: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يبيع البيع والبائع يعلم أنه لا يسوي، والمشتري يعلم أنه لا يسوي، إلا أنه يعلم أنه سيرجع فيه فيشتريه منه.

قال: فقال: يا يونس إن رسول الله 8 قال لجابر بن عبد الله: كيف أنت إذا ظهر الجور، وأورثهم الذل.

قال: فقال جابر: لا بقيت إلي ذلك الزمان.

ومتي يكون ذلك بأبي أنت وأمي ؟ قال: إذا ظهر الربا.

يا يونس وهذا الربا.

فإن لم تشتره رده عليك ؟ قال: قلت: نعم.

قال: فلا تقربنه.

فلا تقربنه»(2).

(1) لعل ذلك منه (قده) للإشكال في الاستدلال المتقدم.

.

أولاً: لعدم ثبوت صحة الأخبار المذكورة بنظره الشريف.

أما الخبران فلعدم ثبوت وثاقة الحسين بن منذر، ولا يونس الشيباني، بل ولا الراوي عنه في هذا الخبر، وهو صالح بن عقبة، وإن كان هو ثقة بناءً علي ما تكرر منا من وثاقة رجال تفسير القمي وكامل الزيارات.

وأما صحيح علي بن جعفر فلإرسال صاحب الوسائل له، وعدم ذكر سنده له.

وهو وإن ذكر في خاتمة الوسائل أسانيده إلي الكتب التي يروي عنها، إلا أن الأسانيد المذكورة مبنية علي الرواية بالإجازة لمحض التبرك بذكر السند من دون تعيين نسخة خاصة تروي بألفاظها.

كما لم يتضح اعتماد الأصحاب علي النصوص المذكورة، بعد اقتصار بعضهم في وجهه علي لزوم الدور، وبعضهم علي عدم قطع نية الملك، من دون إشارة لهذه النصوص، كما تقدم عند الكلام في شروط صحة الشرط.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب أحكام العقود حديث: 4، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب أحكام العقود حديث: 4، 5.

ص: 150

وثانياً: باختلاف الأخبار في معيار المنع، حيث صرح في الأول بالشرط وهو ظاهر الثاني، أما الثالث فقد تضمن رجوع المشتري في البيع الأول ورده للمبيع، وبينه وبين الشرط عموم من وجه.

لكن ظاهر صاحب الوسائل أن كتاب علي بن جعفر الذي ينقل عنه هو الكتاب الذي رواه عنه بطرقه التي ذكرها في الخاتمة، لا نسخة أخري منه منقطعة السند، إما لاشتهار الكتاب في عصره، أو لأن الأسانيد التي ذكرها تتضمن إسناده لعلي بن جعفر.

كما أن من القريب جداً استناد القدماء للنصوص المذكورة بعد روايتها في كتب الحديث التي هي في متناولهم.

بل من القريب أن يكون تحريرهم للمسألة بفروعها ناشئ من ورود النصوص المطلقة والمفصلة.

ومما سبق يتضح اندفاع الوجه الثاني، إذ بعد صحة حديث علي بن جعفر يتعين كون المعيار في البطلان علي الشرط، دون ما تضمنه خبر الشيباني.

مع أن القريب تنزيل خبر الشيباني علي الشرط بقرينة الحديثين الأولين.

هذا وقد يكون نظره (قده) في البناء علي صحة العقد هو استظهاره من هذه النصوص النهي عن الشرط، دون العقد المتضمن له، فيكون المرجع في صحة العقد هو عمومات الصحة والنصوص الأول المطلقة، مع البناء منه علي عدم مبطلية الشرط المحرم أو المخالف للكتاب والسنة للعقد، ويكون توقفه في صحة الشرط وبطلانه لاحتمال حمل النهي عن الشرط علي النهي التكليفي غير المستلزم للفساد، أو للتوقف في نهوض النصوص بالاستدلال، لما سبق.

لكن ظاهر النصوص المذكورة هو النهي عن البيع المشتمل علي الشرط، لا عن الشرط نفسه.

ولاسيما بلحاظ تطبيق الربا عليه في خبر الشيباني، وظاهر النهي المذكور هو الوضعي الراجع للفساد، كما هو الحال في جميع موارد النهي عما يراد منه ترتيب أثر صحته.

فلاحظ.

ص: 151

وفي صحة الشرط إشكال (1).

-

(1) يتضح مما سبق منشأ إشكاله (قده)، كما يتضح اندفاعه.

بقي في المقام أمران: الأول: أن المتيقن من النصوص الناهية عن البيع مع الشرط ما إذا كان نتيجة البيعين ربح يشبه الربا ويؤدي غرضه، كما يظهر بملاحظة حديثي علي بن جعفر.

بل هو كالصريح من تطبيق عنوان الربا في خبر يونس الشيباني.

بل لا يبعد حمل إطلاق خبر الحسين بن المنذر عليه، لأنه الغرض النوعي من أمثال هذه المعاملة.

مضافاً إلي الإشكال في سنده.

وقد تقدم عند الكلام في شروط صحة الشرط من مباحث الشروط تمام الكلام في ذلك.

الثاني: أن جواز بيع المبيع لبايعه من دون شرط لا يختص بما إذا كان البيع الأول نسيئة، بل يعم ما إذا كان حالاً.

لعمومات الصحة.

مضافاً إلي إطلاق معتبر أبي بكر الحضرمي.

أما بطلانه مع الشرط فعمدة دليله صحيح علي بن جعفر، وهو وإن اختص بما إذا كان البيع الأول نسيئة والثاني حالاً، إلا أن من القريب إلغاء خصوصية ذلك، وفهم العموم منه لجميع صور اشتراط البيع في البيع.

ولاسيما بملاحظة التعليل في خبر الشيباني، الذي هو المنصرف في وجه المنع ومنشئه.

ولعله لذا كان ظاهر المبسوط العموم.

فلاحظ.

ص: 152

(153) (153)

إلحاق فيه

في المساومة والمرابحة والمواضعة والتولية

القول في المساومة والمرابحة والمواضعة والتولية (مسألة 1): التعامل بين البائع والمشتري تارة: يكون بملاحظة رأس المال الذي اشتري به البائع السلعة، وأخري: لا يكون كذلك (1) والثاني يسمي مساومة.

وهذا هو الغالب المتعارف.

والأول تارة: يكون بزيادة علي رأس المال، وأخري: بنقيصة عنه، وثالثة: بلا زيادة ولا نقيصة.

والأول يسمي مرابحة، والثاني مواضعة، والثالث يسمي تولية.

(مسألة 2): لابد في جميع الأقسام الثلاثة من ذكر الثمن تفصيلاً فلو قال بعتك هذه السلعة برأس مالها وزيادة درهم أو بنقيصة درهم أو بلا زيادة ولا نقيصة لم يصح (2) حتي يقول: بعتك هذه السلعة بالثمن الذي

---------------

إما لإهمال رأس المال مع وجوده أو لعدم وجود رأس المال، كما لو كان البائع قد ملك المبيع من دون معاوضة، كالهبة والميراث والمملوك بالحيازة. كما صرح به غير واحد. وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه. بل في التذكرة: لو كان المشتري جاهلاً برأس المال بطل إجماعاً». وهو يبتني علي ما تقدم منهم من لزوم العلم بقدر العوضين. وتقدم الكلام في وجهه في المسألة الثانية من الفصل الثالث في شروط العوضين. ومنه يظهر أن ذكر رأس المال في عقد البيع إنما

ص: 153

اشتريتها به وهو مائة درهم بزيادة درهم مثلاً (1)، أو نقيصته، أو بلا زيادة ولا نقيصة.

(مسألة 3): إذا قال البائع بعتك هذه السلعة بمائة درهم وربح درهم في كل عشرة، فإن عرف المشتري أن الثمن مائة وعشرة دراهم صح البيع (2).

-

يجب مع جهلهما أو جهل أحدهما به، ولا حاجة لذكره مع علمهما به.

(1) لكن في معتبر ميسر بياع الزطي: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا نشتري المتاع بنظرة، فيجيء الرجل فيقول: بكم تقوم عليك ؟ فأقول: بكذا وكذا، فأبيعه بربح.

فقال: إذا بعته مرابحة كان له من النظرة مثل ما لك.

قال: فاسترجعت فقلت: هكذا [هلكنا.

يب].

فقال: مما؟ فقلت: لأن ما في الأرض ثوب إلا أيبعه مرابحة، فيشتري مني ولو وضعت من رأس المال حتي أقول: بكذا وكذا.

فلما رأي ما شق عليّ قال: أفلا أفتح لك باباً يكون لك فيه فرج ؟ قل: قد قام علي بكذا وكذا وأبيعكه بزيادة كذا وكذا.

ولا تقل بربح»(1).

وظاهره أن المرابحة ذات الأحكام الخاصة لا تنعقد إلا أن تذكر الزيادة علي رأس المال بعنوان الربح.

نعم لا يظهر من الأصحاب الالتفات لذلك، بل في الحدائق: «والظاهر أنه لا قائل به».

وفي كفاية ذلك في الخروج عن ظاهر النص إشكال.

ولاسيما مع توجه المتعاقدين لذلك من أجل الجمع بين نتيجة المرابحة وهي ابتناء الثمن علي رأس المال والتخلص من لازمها، وهو اشتراك البيعين في الأجل.

فلاحظ.

(2) للعلم بمقدار الثمن حين البيع المعتبر عندهم في صحته.

ومنه يظهر اعتبار علم المشتري والبائع معاً بذلك، وعدم الاكتفاء بعلم المشتري.

ولعل اكتفاء سيدنا المصنف (قده) بعلم المشتري للمفروغية عن علم البائع بذلك.

هذا وفي المقنعة: «ولا يجوز أن يبيع الإنسان شيئاً مرابحة مذكورة بالنسبة إلي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب أحكام العقود حديث: 1.

ص: 154

أصل المال، كقولهم: أبيعك هذا المتاع بربح العشرة واحداً أو اثنين وما أشبه ذلك.

ولا بأس أن يقول: ثمن هذا المتاع علي كذا وأبيعك إياه بكذا، فيذكر أصل المال والربح، ولا يجعل لكل عشرة منه شيئاً».

وقريب منه في النهاية وعن أبي الصلاح وابن البراج، وعن المراسم أنه لا يصح.

ومقتضي إطلاقهم عدم صحة ذلك حتي مع العلم بقدر المجموع حين البيع.

وقد يستدل لهم بصحيح العلاء: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يبيع البيع، فيقول: أبيعك دوازده، أو ده يازده.

قال: لا بأس إنما هذه المراوضة.

فإذا جمع المبيع جعله جملة واحدة»(1).

لظهوره في أن نسبة الربح لرأس المال إنما يصح قبل العقد مقدمة لتعيين الثمن، ولا يصح حين العقد وقطع البيع، بل يتعين ذكر الثمن بمجموعه.

لكن مقتضي ذيله أن المتعين حين العقد هو ذكر الثمن جملة واحدة من دون تعرض لرأس المال، كما يكون في بيع المساومة.

فيرجع إلي النهي عن بيع المرابحة وتعيين المساومة، كما هو ظاهر صحيح الحلبي عنه (عليه السلام): «قال: قدم لأبي متاع من مصر، فصنع طعاماً ودعا له التجار، فقالوا: نأخذه منك بده دوازده.

قال لهم أبي: وكم يكون ذلك ؟ قالوا في عشرة آلاف ألفين.

فقال لهم أبي: فإني أبيعكم هذا المتاع باثني عشر ألفاً.

فباعهم مساومة»(2).

وقريب منه صحيح الحلبيين في متاع لأبي عبد الله (عليه السلام)، إلا أنه ترك قوله: «فباعهم مساومة»(3) ، ومعتبر محمد: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): إني لأكره بيع عشرة بإحدي عشرة، وعشرة باثني عشر، ونحو ذلك.

ولكن أبيعك بكذا وكذا مساومة.

قال:

وأتاني متاع من مصر، فكرهت أن أبيعه كذلك وعظم علي، فبعته مساومة» (4) ، ومعتبر المدائني:

«قال أبو عبد الله (عليه السلام): إني أكره البيع بده يازده ودوازده، ولكن أبيعه بكذا وكذا» (5) .

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب أحكام العقود حديث: 5، 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب أحكام العقود حديث: 5، 1.

(3) من لا يحضره الفقيه ج: 12 ص 135 حديث: 589. التهذيب ج: 7 ص 54 حديث: 234.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب أحكام العقود حديث: 4، 2.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب أحكام العقود حديث: 4، 2.

ص: 155

ولكنه مكروه (1).

---------------

وحينئذ يتعين حمل النهي في صحيح العلاء علي الكراهة، للنصوص الكثيرة الدالة علي جواز المرابحة(1).

نعم لو كان النهي فيه عن خصوص هذه الصيغة في بيع المرابحة فلا قرينة علي حمله علي الكراهة.

لكنه ليس كذلك.

(1) كما في المبسوط والغنية والشرائع وكثير غيرها.

ونسب للمشهور، بل في الخلاف وظاهر التذكرة الإجماع عليه.

واستدل له بالنصوص المتقدمة.

لكنها ظاهرة كما سبق في كراهة المرابحة في مقابل المساومة، دون خصوص هذه الصورة من المرابحة من بين صورها، كما نبّه لذلك في الحدائق.

وقد اعترف به في الرياض، حيث قال: «وهو كذلك لولا المخالفة لفهم الطائفة».

وفي الجواهر: «وإن لم أجد به قائلاً».

وفي مفتاح الكرامة: «وقد تشعر أخبار الباب بكراهية المرابحة مطلقاً، لا خصوص الكراهية في موضع المسألة.

لكنه مخالف للإجماع المعلوم والمنقول.

وخبر علي بن سعيد».

لكن التعويل في الخروج عن ظاهر النصوص علي فهم الأصحاب لا يخلو عن إشكال، بل منع، خصوصاً في الأحكام غير الإلزامية، لشيوع اضطرابهم في أدلتها علي أن كلام الشيخ في الخلاف والمبسوط لا يأبي الحمل علي العموم.

وأما حديث علي بن سعيد فهو: «سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن رجل يبتاع ثوباً، فيطلب مني [منه.

يب] مرابحة، تري ببيع المرابحة بأساً إذا صدق في المرابحة وسمي ربحاً دانقين أو نصف درهم ؟ فقال: لا بأس»(2).

لكن تسمية الربح بالنحو المذكور إن لم يشمل تسميته بنحو النسبة لرأس المال الذي هو محل الكلام فنفي البأس يمكن حمله علي نفي الحرمة، ولو بضميمة النصوص المتقدمة.

فلا ينافي كراهة المساومة مطلقاً.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14، 13، 21، 24، 25 وغيرها من أبواب أحكام العقود.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب أحكام العقود حديث: 1.

ص: 156

وإذا لم يعرف المشتري ذلك حال البيع لم يصح (1) وإن كان يعرفه بعد الحساب.

وكذلك الحكم في المواضعة إذا قال: بعتك بمائة درهم مع خسران درهم في كل عشرة، فإن المشتري إذا عرف أن الثمن تسعون صح البيع (2)، وإن لم يعرف ذلك بطل البيع وإن كان يعرفه بعد الحساب.

-

(1) قال في المختلف: «ولو أخبره برأس المال وزاد في كل عشرة درهماً، ولم يعلما وقت العقد كمية الثمن احتمل البطلان للجهالة.

والصحة لإمكان العلم، فإنه يستخرج بالحساب.

والأقوي البطلان، لاشتراط العلم بالثمن وقت العقد».

لكن ترك التنبيه لذلك في كلام جماعة قد يظهر في عموم الصحة مع الكراهة لذلك.

بل هو كالصريح من التذكرة، حيث ذكر في وجه الكراهة أنه قد لا يعلم قدر الثمن حالة العقد، ويحتاج في معرفته إلي الحساب.

وعليه جري بعض مشايخنا (قده).

ولعله لأن المعتبر عنده في صحة البيع أن لا يكون غررياً، والجهل في المقام لا يوجب الغرر بنظره.

ومما سبق منا في شروط العوضين يتضح الإشكال في الاستدلال علي اعتبار العلم في العوضين بالنهي عن بيع الغرر كبروياً وصغروياً.

وحيث كان عمدة الدليل علي اعتبار العلم هو الإجماع لو تم فلا مجال للبناء عليه في أمثال المقام بعد ظهور الخلاف.

(2) وأما الكراهة فإن كان موضوعها خصوص نسبة الربح لرأس المال في المرابحة كما سبق من المشهور فتعديها لنسبة الوضيعة لرأس المال، يحتاج لتنقيح المناط أو إلغاء الخصوصية عرفاً.

وكلاهما مورد للإشكال، خصوصاً الأول.

وإن كان موضوعها مطلق المرابحة كما سبق منّا فتعديها للمواضعة قريب جداً، لظهور النصوص السابقة في أن البديل المطلوب هو المساومة لا غير.

نعم قد يتوقف في عمومها للتولية، بلحاظ ما في صحيح العلاء من كون المطلوب ذكر الثمن جملة واحدة، وهو حاصل مع التولية.

إلا أن يستفاد العموم لها

ص: 157

الكلام في البيع مرابحة اذا كان الشراء بالثمن الموجل

(مسألة 4): إذا كان الشراء بالثمن المؤجل وجب علي البائع مرابحة أن يخبر بالأجل (1) فإن أخفي تخير المشتري بين الرد والإمساك بالثمن (2)، علي إشكال في كونه حالاً أو مؤجلاً بذلك الأجل (3).

---------------

من بقية النصوص.

فلاحظ.

(1) كما في الغنية والنافع والتذكرة والقواعد والإرشاد.

وهو الظاهر ممن علل الخيار بالتدليس، لوضوح حرمة التدليس.

لكن التدليس إنما يحصل إذا لم يثبت الأجل للمشتري، أما إذا ثبت له فلا تدليس في ترك الإخبار بالأجل حين البيع، بل في قبض الثمن معجلاً، فيكون هو المحرم.

(2) كما في المبسوط والخلاف والغنية والتذكرة والقواعد والإرشاد وغيرها، وفي الرياض: «وهو الأشهر بين الطائفة، سيما متأخيرهم».

وهو الذي تقتضيه القاعدة، وعليه العمل، في جميع موارد تخلف ما بني عليه العقد، وهو في المقام ظهور الثمن في المرابحة في التعجيل.

لكن الظهور المذكور إنما يقتضي ثبوت الخيار إذا لم يثبت الأجل للمشتري، حيث يلزم ما يشبه زيادة الربح للبائع.

أما إذا ثبت له الأجل علي ما يأتي الكلام فيه فهو أصلح للمشتري مما أقدم عليه.

ومعه لا وجه للخيار.

(3) قال في النهاية: «ومن اشتري شيئاً بنسيئة فلا يبعه مرابحة.

فإن باعه مرابحة كان للمبتاع من الأجل مثل ماله» ونحوه في الوسيلة.

وحكاه في المختلف عن ابن الجنيد والقاضي، وقد يظهر من الكليني.

كما يظهر من غير واحد التوقف.

ووجه القول المذكور صحيح هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في الرجل يشتري المتاع إلي أجل.

قال: ليس له أن يبيعه مرابحة إلا إلي الأجل الذي اشتراه إليه.

وإن باعه مرابحة ولم يخبره كان للذي اشتراه من الأجل مثل ذلك»(1) ، ومعتبر أبي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب أحكام العقود حديث: 2.

ص: 158

(159)

محمد الوابشي: «سمعت رجلاً يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشتري متاعاً بتأخير سنة، ثم باعه من رجل آخر مرابحة، أله أن يأخذ منه ثمنه حالاً والربح ؟ قال: ليس عليه إلا مثل الذي اشتري.

إن كان نقد شيئاً فله مثل ما نقد.

وإن لم يكن نقد شيئاً آخر فالمال عليه إلي الأجل الذي اشتراه إليه.

قلت له: فإن كان الذي اشتراه منه ليس علي [بملي.

يب] مثله.

قال: فليستوثق من حقه إلي الأجل الذي اشتراه»(1) ، ومعتبر ميسر بياع الزطي المتقدم في المسألة الثانية.

وقد حملها في المختلف علي ما إذا باعه بمثل ما اشتراه وأخفي عنه النسيئة ولم يشترط النقد، قال: «فإنه والحال هذه يكون له من الأجل مثل ما كان للبائع علي إشكال».

لكن لا شاهد عليه من النصوص المتقدمة.

بل مقتضي صحيح هشام عدم صحة بيعه مرابحة نقداً، بل لا يصح بيعه مرابحة إلا إلي الأجل الذي اشتراه إليه.

ومقتضي ذلك وإن كان هو التنافي بين قصد النقد وقصد المرابحة حينئذ بنحو يستلزم بطلان البيع، إلا أنه يلزم الخروج عن ذلك بالنصوص المتقدمة والحكم بصحته مرابحة إلي الأجل الذي له.

وهي كما تشمل ما إذا كان النقد مقتضي إطلاق البيع تشمل ما إذا نص المتبائعان حين البيع علي النقد، من دون قرينة علي التخصيص بالأول.

بل مقتضي هذه النصوص أنه لا يكفي في صحة بيعه نقداً إخبار البائع للمشتري بأنه قد اشتراه مؤجلاً، بل لابد أن يخرج البيع عن المرابحة بذكر الزيادة بعنوان كونها زيادة، لا بعنوان كونها ربحاً، كما تضمنه معتبر ميسر بياع الزطي.

ومثله ما في السرائر من ردّ النصوص المذكورة بأنها خبر واحد وضعه الشيخ في كتابه ورجع عنه في مبسوطه.

إذ فيه: أنه لا مجال لإهمال هذه النصوص بعد اعتبارها في نفسها وتعددها وظهور عمل من سبق بها وتعويلهم عليها.

ولعل الشيخ قد عدل عما في المبسوط لما في النهاية من أجل هذه النصوص، دون العكس.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب أحكام العقود حديث: 3.

ص: 159

(مسألة 5): إذا اشتري جملة صفقة بثمن لم يجز له بيع أفرادها مرابحة بالتقويم (1)

---------------

ومجرد مخالفتها للقواعد لا يكفي في التوقف عن العمل بها بعد ذلك، كما سبق من بعضهم، فضلاً عن ردها والفتوي علي خلافها، كما سبق من غير واحد.

بقي في المقام أمران: الأول: إن من القريب جداً جريان نظير ذلك في المواضعة والتولية، لاشتراكها في ملاحظة رأس المال في الثمن، وظهور هذه النصوص في أن للأجل دخلاً في حساب الربح والخسارة علي رأس المال.

إلا أن يكون اقتصار النصوص علي المرابحة مع شيوع غيرها، خصوصاً التولية، موجباً لظهورها في خصوصية المرابحة في الحكم المذكور.

ولاسيما حديثي هشام وميسر، لتضمنهما بيان الحكم من قبل الإمام ابتداء، بخلاف حديث الوابشي المتضمن لذكر الإمام (عليه السلام) ذلك جواباً عن حكم المرابحة.

وحينئذ يتعين الرجوع في المواضعة والتولية للقاعدة المتقدمة.

الثاني: أن ظاهر النصوص المتقدمة هو لزوم البيع في حق المشتري مع ثبوت الأجل له، كما تقدم أن وجه الخيار يقصر عن الفرض المذكور.

ومن هنا لا مجال لاحتمال ثبوت الأجل له مع الخيار، كما يظهر من سيدنا المصنف (قده).

بل لابد إما من البناء علي ثبوت الخيار له بين الفسخ والقبول بالمرابحة نقداً، كما تقدم من غير واحد، أو لزوم البيع عليه مع الأجل، كما تقدم من آخرين، وسبق أنه المتعين، أو الترديد بين الوجهين احتياطاً، كما جري عليه غير واحد علي ما سبق.

(1) صرح به جمهور الأصحاب.

وفي الجواهر: «علي المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعاً»، بل في الخلاف الإجماع عليه.

ويقتضيه مضافاً إلي ظهور نسبة

ص: 160

(161)

الثمن للشيء في كونه مقابلاً به في شرائه النصوص.

كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): «في الرجل يشتري المتاع جميعاً، ثم يقوم كل ثوب بما يسوي حتي يقع علي رأس ماله، يبيعه مرابحة ثوباً ثوباً؟ قال: لا حتي يبين أنه إنما قومه»(1).

وقريب منه صحيحه الآخر(2) ومعتبر أبي حمزة(3).

هذا وعن ابن الجنيد والقاضي جواز البيع مرابحة بما يخصه من الثمن فيما لا تفاضل فيه من نوع واحد.

وكأنه لعدم احتياج تعيين ما يخصه من الثمن إلي التقويم.

واستشكل فيه في المختلف بأن الأغراض تتفاوت بالقلة والكثرة، وتتفاوت بذلك الأثمان، فيجب الإخبار بالحال، لئلا تقع الخيانة.

لكن الصفقة توجب نقصان الثمن غالباً فيما لا تفاضل فيه، لا زيادته، ليلزم الخيانة.

فالأولي في الجواب عن ذلك بعد خروج محل الكلام عن مورد النصوص المتقدمة أن الثمن عرفاً هو المأخوذ عوضاً في عقد البيع، وهو المجموع، دون ما يخص أجزاء المبيع منه.

نعم قد تقوم القرينة العامة أو الخاصة علي عدم إرادة الثمن بالمعني المذكور عند البيع مرابحة، كما في بيع المفرد ممن يعلم أنه يشتري الجملة في عصورنا.

وأظهر من ذلك ما إذا عيّن في البيع لكل جزء من الصفقة ما يخصه، كما لو باعه عشرة ثياب كل ثوب بدينار.

حيث لا إشكال حينئذ في جواز بيع كل منها مرابحة بما يخصه، كما في التنقيح.

إلا أن يكون لاجتماع الصفقة دخل في زيادة الثمن، كما لو تفاضلت الثياب في الفرض، فكانت خمسة جيدة قيمة كل منها اثنا عشر درهماً، وخمسة رديئة قيمة كل منها ثمانية دراهم، فاشتراها صفقة كل واحد بعشرة دراهم.

حيث لا يجوز بيع الرديء بعشرة من دون إعلام بالحال، لأنه تدليس.

وهو خارج عن مفروض كلام التنقيح.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب أحكام العقود حديث: 1، 2، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب أحكام العقود حديث: 1، 2، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب أحكام العقود حديث: 1، 2، 5.

ص: 161

اذا تبين كذب البايع في اخباره براس المال

إلا بعد الإعلام (1).

(مسألة 6): إذا تبين كذب البائع في إخباره برأس المال كما إذا أخبر أن رأس ماله مائة وباع بربح عشرة، وكان في الواقع رأس المال تسعين صح البيع (2)، وتخير المشتري بين فسخ البيع وإمضائه بتمام الثمن المذكور في العقد (3)، وهو مائة وعشرة.

---------------

(1) فقد صرح جمهور الأصحاب بجوازه، وفي التذكرة دعوي الإجماع عليه.

لكن في السرائر: «هذا ليس بيع المرابحة، لأن بيع المرابحة موضوعه في الشرع أن يخبر بالثمن الذي اشتراه به، وهذا ليس كذلك».

فإن أراد بذلك عدم صحة البيع المذكور كما قد يظهر من الروضة فيدفعه النصوص المتقدمة وغيرها.

وإن أراد بذلك عدم وقوعه مرابحة وإن صح كما هو صريح النافع فهو لو تم نزاع لفظي، كما في المختلف.

علي أنه لا يخلو عن إشكال، لخروجه عن ظاهر النصوص المتقدمة وكلام الفقهاء في الفروع المختلفة المبنية علي التقويم دون الثمن الحقيقي، ويأتي بعضها، كما نبّه لذلك في الجواهر.

بقي شيء.

وهو أن ذلك يجري في المواضعة والتولية، كما صرح به في القواعد والتنقيح.

ويظهر الوجه فيه مما سبق من عدم صدق الثمن بالتقويم.

بل قد يستفاد من النصوص المتقدمة إلغاء خصوصية موردها عرفاً.

(2) بلا خلاف علي الظاهر، كما مفتاح الكرامة والجواهر، بل استظهر في الأول الإجماع عليه.

وهو يبتني علي أن تخلف عنوان أحد العوضين المأخوذ حين البيع لا يوجب بطلانه إذا لم يكن مقوماً له، نظير ما إذا باعه العبد علي أنه كاتب فبان غير كاتب.

وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في مبحث حرمة الغش من المكاسب المحرمة وغيره.

(3) كما في الشرائع والقواعد والتذكرة والمختلف والإرشاد والدروس واللمعتين والمسالك وغيرها، ونسبه في مفتاح الكرامة للفاضلين ومن تأخر عنهما.

ص: 162

(163)

واستدل بأن البيع وقع علي الثمن المذكور في العقد، فثبت.

غاية الأمر أن للمشتري الخيار، للغش، أو تخلف الوصف الذي بني عليه العقد.

هذا وعن ابن الجنيد أنه لو أقرّ البائع أو قامت البينة علي أن الثمن أقل لزم الأقل وما يناسبه من الربح دون الأكثر المذكور في العقد.

وهو الصريح من المبسوط والخلاف مع اعتراف البائع بالغلط، بل يظهر من مساق كلامهما العموم لغير الغلط أيضاً.

ويبدو منهما أن ذلك ملازم لفرض كون البيع مرابحة، لابتناء المرابحة علي كون الثمن هو رأس المال الحقيقي مع ما يناسبه من الربح، والمفروض أن رأس المال هو الأقل.

كما قد يظهر من الخلاف التفصيل بين ما إذا قال: بعتك بمائة وعشرة، وما إذا قال: بعتك برأس مالي وزيادة العشرة واحداً، مع الجزم في الثاني بثبوت الأقل.

والذي ينبغي أن يقال: المورد من صغريات ما إذا اختلف العنوانان المأخوذان في موضوع العقد، كما لو باعه هذا العبد الكاتب، فبان غير كاتب، أو باعه هذا الفرس فبان حماراً، أو زوجه بنته الكبري زينب، فظهر أن الكبري هند والصغري زينب.

.

.

إلي غير ذلك، حيث يتعين عندهم تقدم العنوان المقصود بالأصل المقوم لموضوع العقد عرفاً، وترتب الأثر عليه لو سلم، كما في العبد في المثال الأول، وبطلان العقد لو لم يسلم، كما في الفرس في المثال الثاني.

علي ذلك فأخذ المائة دينار مثلاً علي أن تكون هي رأس المال الذي ينسب إليه الربح ثمناً في المرابحة إن رجع إلي كون المقصود بالأصل في الثمنية هي المائة دينار، وكونها رأس المال صفة زائدة مقصودة غير مقومة للموضوع كالكتابة في العبد في المثال السابق تعين صحة العقد وثبوت المائة وما يناسبها من الربح، وهو العشرة في المثال دون رأس المال الحقيقي.

وإن رجع إلي كون المقصود بالأصل هو رأس المال، وكونه المائة دينار صفة زائدة، كان موضوع العقد هو رأس المال الحقيقي وما يناسبه من الربح، دون المائة دينار وما يناسبها.

والظاهر الأول في المقام وفي جميع أخذ المقادير معياراً في المعاوضات.

ولذا

ص: 163

تقدم في المسألة الثالثة من الفصل الثاني أنه لو تبين خطأ البائع في إخباره بمقدار المبيع تعين مع النقيصة تبعض الصفقة للمشتري ورجوع ما يقابلها من الثمن له، ومع الزيادة بقاؤها في ملك البائع وشركته في المبيع بنسبتها.

ومجرد ابتناء البيع علي ملاحظة رأس المال، لا ينافي ذلك، حيث هو لا يزيد عن ملاحظة شخص المبيع المقدر في موضوع العقد، بل ابتناء المبيع علي خصوصية شخصه أظهر.

غاية الأمر أن يثبت به الخيار كما في سائر الأمور التي يبتني عليها العقد من دون أن تكون ركناً فيه.

وأما خصوصية المرابحة فهي غير مقومة للبيع، بل قوامه المعاوضة بين الطرفين، والخصوصية المذكورة يبتني عليها البيع كما يبتني علي كثير من الأمور الخارجة عنه مما يوجب تخلفه الخيار دون البطلان.

علي أنها لو كانت مقومة له تعين البطلان، لتنافي مضمون العقد بملاحظة ما ذكرنا من تقومه بالثمن المعين أيضاً.

أما وقوع العقد علي الثمن الآخر فلا يتضح وجهه بعد عدم ملاحظته في البيع.

ولذا لا يظن بأحد البناء علي أنه لو باعه بمائة مثلاً علي أنها الثمن الذي باع بمثله علي زيد، يكون الثمن تسعين لو كان قد باع علي زيد بها.

فلاحظ.

بقي في المقام أمران: الأول: قال في التذكرة: «وإذا ثبت الخيار فلو قال البايع: لا تفسخ فإني أحط الزيادة سقط الخيار».

وقد تقدم من بعضهم نظيره في خيار الغبن.

وكأنه لارتفاع الضرر بناء علي أنه الدليل علي الخيار في المقام.

لكنه ليس كذلك، ضرورة أن البيع مع الزيادة قد لا يكون ضررياً.

بل منشأ الخيار هو خروج عقد البيع عما ابتني عليه، الموجب ارتكازاً لخلل فيه مانع من لزومه، وبذل الزيادة لا يخرج عقد البيع عن ذلك.

الثاني: لو ظهر خطأ البائع بالنقيصة، وأن الثمن أكثر مما عينه، تعين البناء علي صحة البيع مع ثبوت الخيار للبائع.

لعين ما سبق.

غايته أنه لا يقبل منه دعوي ذلك،

ص: 164

(165)

كيفية معرفة راس مال السلعة

(مسألة 7): إذا اشتري سلعة بثمن معين مثل مائة درهم ولم يعمل فيها شيئاً كان ذلك رأس مالها، وجاز له الإخبار بذلك (1).

أما إذا عمل في السلعة عملاً، فإن كان بأجرة جاز ضم الأجرة إلي رأس المال، فإذا كانت الأجرة عشرة جاز له أن يقول: بعتك السلعة برأس مالها مائة وعشرة (2) وربح كذا، وإن

---------------

لمنافاته لإقراره.

بل قد لا تكفي البينة إذا احتمل خطؤها، حيث لا تسمع البينة مع الإقرار.

فينحصر الأمر بما إذا علم بخطأ الإقرار المسقط له عن الحجية، أو فرض إقرار المشتري بالزيادة، حيث يتساقط الإقراران بالتعارض لو فرض تشاحهما.

ويكون المرجع استصحاب أثر العقد وعدم بطلانه بالفسخ أو ما يخرج عنه من بينة أو نحوها.

فلاحظ.

(1) قطعاً، لأنه الثمن الحقيقي الذي عليه المدار في المرابحة وأختيها.

(2) كما في المختلف والدروس، وحكاه في المبسوط قولاً ومنع منه، كما منع منه في التذكرة وجامع المقاصد وظاهر الوسيلة والشرائع والقواعد والإرشاد وغيرها.

ومبني الخلاف أن رأس المال هل يختص بالثمن أو يعم المؤن المصروفة في صلاح الشيء وما يزيد قيمته ؟ قال في الجواهر: «والظاهر اختلاف ذلك باختلاف الأمكنة والأزمنة».

لكن من البعيد جداً صدق رأس المال علي ذلك حقيقة وصدقه مجازاً يحتاج إلي قرينة، وهي التي تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة.

هذا وقد صرح غير واحد ممن منع من التعبير برأس المال بأنه يجوز حينئذ بيعه مرابحة، لكن يقول: قد تقوم علي بكذا أو نحو ذلك.

وقد يشكل بخروجه عن وضع المرابحة، لابتناء المرابحة علي إضافة الربح إلي الثمن دون غيره.

ويظهر الجواب عنه مما تقدم في المسألة الخامسة.

ص: 165

كان العمل بنفسه وكان له أجرة لم يجز له أن يضم الأجرة إلي رأس المال (1)، بل يقول: رأس المال مائة، وعملي يساوي كذا (2)، وبعتكها بما ذكر وربح كذا (3).

وإذا اشتري معيباً فرجع علي البائع بالأرش كان الثمن ما بقي

---------------

وأظهر من ذلك ما إذا اقتصر علي ثمن الشراء، وذكر أجرة العمل مع الربح، كما لو قال: اشتريته بكذا وخطته مثلاً بكذا وأبيعه بربح كذا، حيث يرجع ذلك إلي أن الربح علي الثمن الحقيقي كل من أجرة الخياطة والربح المجعول.

فترتفع الشبهة، كما يأتي نظيره من الجواهر.

(1) كما صرح به جماعة، بل الظاهر عدم الإشكال فيه.

قال في الجواهر: «إذ لا ريب في الكذب...».

ومثله ما إذا عمل فيه غيره مجاناً، كما نبّه له غير واحد.

(2) إن رجع ذلك إلي بيان قيمة العمل لزم الاقتصار علي أجرة المثل.

وتعين ثبوت الخيار للمشتري لو ظهر أقل، وللبائع لو ظهر أكثر، لتخلف ما ابتني عليه البيع.

وإن رجع إلي بيان ما يقترحه في مقابل العمل لم يجب الاقتصار علي أجرة المثل، ولا موضوع للخيار، كما نبّه لذلك في الجملة في الجواهر.

(3) كما صرح به غير واحد.

قال في الجواهر: «وقد يشكل بخروجه عن وضع المرابحة، الذي يعتبر فيه ذكر ما يغرمه البائع علي المبيع من حيث التجارة، والفرض عدم الغرامة هنا.

ويندفع بمنع اعتبار الاقتصار علي ذلك فيها.

لإطلاق الأدلة الذي لا ريب في شموله للفرض الذي هو زيادة في الربح في الحقيقة عند التحليل، وإن جعله صورة في مقابل العمل، كما هو واضح».

وقد أشار بذلك إلي نظير ما ذكرناه آنفاً في فرض التصريح بأجرة العمل.

بقي شيء.

وهو أن ذلك قد يجري في غير أجرة العمل في المبيع من النفقات المتعارفة في شؤون التجارة، كأجرة النقل والحراسة وأجرة المكان الذي يحفظ فيه ونحو ذلك، كما نبه له غير واحد.

وإن كان الظاهر توقف ذلك علي تعارف إضافته،

ص: 166

بعد الأرش (1).

ولو أسقط البائع بعض الثمن تفضلاً منه، أو مجازاة علي الإحسان لم يسقط ذلك من الثمن، بل رأس المال هو الثمن في العقد (2).

---------------

بحيث يكون كالقرينة العامة علي دخوله عند الإخبار بأنه قام عليه بكذا، أو التنبيه لإضافته صريحاً.

فلاحظ.

(1) كما في المبسوط والشرائع والتذكرة وغيرها.

لأن الثمن الحقيقي وإن كان هو المجموع بناءً علي ما سبق من استحقاق الأرش تعبداً بحكم الشارع، من دون أن يكون جزءاً من الثمن إلا أنه ينصرف في مثل المقام إلي خصوص ما بقي له بعد الأرش.

هذا ولو لم يأخذ الأرش الذي استحقه لتعذر أخذه عليه لم يبعد صحة الإخبار بالثمن الذي وقع عليه البيع، لعدم سلامة شيء منه له.

أما لو أسقط تفضلاً فإشكال.

والأحوط أن يخبر بالعيب وأنه لم يأخذ أرشه.

نعم لو لم يعلم المشتري بالعيب أو تخيل حدوثه عنده، ثم باعه مرابحة بالثمن الذي وقع عليه العقد، والتفت بعد ذلك للعيب ورجع بالأرش علي البائع لم يجب عليه إرجاع مقداره للمشتري، لعدم التدليس منه، وصحة عقد المرابحة علي الثمن الذي وقع عليه.

غاية الأمر أنه يجري حكم العيب في حق المشتري الثاني.

ونظير ذلك ما إذا عيب المبيع بعد الشراء، فأخذ الأرش أو لم يأخذه، حيث لا يجوز الإخبار بثمن الشراء من دون تنبيه إلي أن الشراء كان قبل حدوث العيب كما نبه لذلك في المبسوط والتذكرة والدروس وغيرها.

لأن المنصرف من الإخبار بالثمن في المرابحة وأختيها هو ثمن المبيع علي النحو الذي هو عليه حين بيعه ثانياً، دون ثمن شرائه قبل تغيره وطروء النقص أو الزيادة عليه.

ولذا سبق إضافة أجرة العمل، حيث يذكر تقومه عليه بالمجموع من ثمنه الحقيقي والأجرة.

(2) كما في الشرائع والقواعد والتذكرة والمختلف حاكياً له عن والده والدروس وغيرها.

لأنه إحسان مستقل عن البيع لا أثر له في تعيين الثمن.

ص: 167

وفصل في المبسوط وظاهر الخلاف والغنية بين الإسقاط قبل لزوم العقد والإسقاط بعد لزومه، فيستثني من الثمن في الأول دون الثاني.

وصرح غير واحد بابتناء ذلك علي حصول النقل بالعقد كما سبق أو بمضي زمان الخيار.

لكنه غير ظاهر فإن توقف الملك علي مضي زمن الخيار لا ينافي كون الثمن هو تمام ما وقع عليه العقد، ولا يقتضي خروج المقدار الذي أسقطه عن كونه ثمناً، كما نبّه لذلك في مفتاح الكرامة وغيره.

نعم الإبراء من الثمن فرع ملكية البائع له، فلا يصح في زمن الخيار بناء علي عدم حصول الملك فيه.

فلاحظ.

وأشكل من ذلك ما حكاه في المختلف عن ابن البراج من أن هبة الثمن بتمامه للمشتري لا تمنعه من بيعه مرابحة بتمام الثمن أما مع هبة بعض الثمن له أو إسقاطه عنه فلا يبعد مرابحة إلا بالباقي.

إذ هو خال عن المنشأ.

نعم لو كان إسقاط البعض في زمن الخيار أو بعده إرضاء للمشتري من أجل أن لا يرجع بالبيع لم يبعد انصراف الثمن في المرابحة وأختيها عن المقدار الذي أسقط.

وكذا إذا تعارف إسقاط بعض الثمن عند تسليمه، بحيث يعد من شؤون المعاملة وتوابعها.

بقي شيء.

وهو أن ما سبق في المسائل الثلاث الأخيرة كما يجري في المرابحة يجري في المواضعة والتولية، لأنها علي نهج واحد في نحو ارتباطها بالثمن، كما نبه لذلك بعضهم في الجملة.

ولعل عدم تنبيه سيدنا المصنف (قده) لذلك لوضوحه.

ص: 168

(169) (169)

الفصل التاسع/ الربا

اشارة

وهو قسمان (1): الأول: ما يكون في المعاملة.

الثاني: ما يكون في القرض.

-

(1) لا إشكال في عموم حرمة الربا للقليل والكثير، كما يظهر بملاحظة الكتاب المجيد والسنة الشريفة وإجماع المسلمين.

وقد ينافي ذلك قوله تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(1).

حيث يقرب ظهور التقييد في الآية الشريفة في الحصر، فإن مناسبة كون الربا أضعافاً مضاعفة للتحريم يوجب إشعار التقييد به أو ظهوره في قصر التحريم عليه، حيث لا يظهر وجه التقييد به غير ذلك.

ولاسيما أن الآية قد تضمنت أصل التحريم، لا تأكيده وتشديده، ليكون القيد مناسباً لشدة التحريم من دون أن ينافي عموم أصل التحريم لفاقد القيد.

نظير قوله تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَي ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ

********

(1) سورة آل عمران الآية: 130.

ص: 169

سَعِيرًا)(1).

حيث يكون التقييد باليتيم مناسباً لشدة التحريم الذي يظهر من الآية الشريفة، من دون أن ينافي عموم تحريم أكل مال الغير ظلماً.

ومن هنا يظهر من المفسرين وغيرهم حمل القيد علي بيان ما قد يؤول إليه الربا من التضاعف بطول المدة، أو غير ذلك مما هو خلاف الظاهر جداً، ولا مسوغ له لولا قيام الضرورة علي عموم حرمة الربا.

ولعل الأقرب بعد ملاحظة جميع الآيات الواردة في الربا والمقارنة بينهما هو البناء علي أن تشريع تحريم الربا ابتني علي التدرج، فشرع في أول الأمر تحريم أكل الربا إذا كثر وتضاعف نتيجة طول المدة، بحيث يجحف بالمأخوذ منه، كما تضمنته الآية الشريفة، لأن ذلك أحري بتقبل الناس للتحريم، ثم عمم التحريم لجميع صنوف الربا وأفراده.

كما قد يناسبه قوله تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَي مَيْسَرَةٍ...)(2).

فإن الآية الأولي من هذه الآيات الشريفة كالصريحة في تعميم التحريم للباقي من الربا، لا في تشريع أصل تحريم الربا.

كما أن سياق الآيات يناسب نزولها لبيان حكم المتورط في الربا، لا للنهي عن إيقاعه ابتداءً، وإن كان ذلك يستفاد منها تبعاً.

ويناسب ذلك أن لسان الآيات الشاملة لجميع أقسام الربا لا يناسب تشريع تحريمه، بل تأكيد تحريمه والتشجيع علي تركه، والتشديد في الإنكار علي من يقوم به.

وذلك بطبيعته متأخر عن تشريع التحريم.

فلاحظ قوله تعالي: (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ

********

(1) سورة النساء الآية: 10.

(2) سورة البقرة الآية: 278-280.

ص: 170

تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)(1) ، وقوله عز وجل: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْْ جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَيَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَي اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)(2).

هذا ما يظهر لنا بلحاظ ألسنة الآيات الشريفة، وإن لم يتيسر لنا عاجلاً العثور علي شاهد له من النصوص، ولا من التاريخ، ولا من كلام المفسرين.

والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

ومنه نستمد التوفيق والتسديد.

بقي شيء.

وهو أن الظاهر مفروغية الأصحاب عن اختصاص التحريم بالقسمين المذكورين، كما يشهد به الرجوع لكلماتهم في تعريفه.

ويقتضيه عمومات الصحة وأصالة البراءة من الحرمة التكليفية بعد اختصاص النصوص والفتاوي المانعية بهذين القسمين.

ودعوي: أن الربا لما كان هو الزيادة لغة، فمقتضي الإطلاقات المانعة عنه العموم لكل زيادة ولو في غير القسمين المذكورين.

فلابد في إثبات الجواز فيما خرج عن القسمين من الدليل المخرج عن الإطلاقات المذكورة.

مدفوعة بأن وضوح ابتناء المعاملات علي المماكسة والاسترباح يمنع من انعقاد الظهور للإطلاقات المذكورة في العموم لكل زيادة، ويلزم بحملها علي زيادة خاصة، فتكون مجملة من هذه الجهة، أو يكون ذلك قرينة علي كون المراد بها الزيادة المعهودة، والمتيقن منها ما يكون في هذين القسمين لا غير.

ثم إنه لا إشكال في حرمة القسمين منه تكليفاً، كما هو مقتضي النهي عن الربا في الكتاب المجيد والسنة المستفيضة أو المتواترة، بنحو يظهر في خصوصية الربا في

********

(1) سورة الروم الآية: 39.

(2) سورة البقرة الآية: 275-276.

ص: 171

الكلام في الربا المعاملي

التحريم زائداً علي حرمة أكل مال الغير اللازم من بطلان المعاملة، كما يظهر من مثل صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: درهم ربا [عند الله.

يب] أشد من سبعين زنية كلها بذات محرم»(1) ، وغيره.

ومنه ما تضمن سوق التحريم في حق الآكل والدافع والكاتب والشاهدين في مساق واحد(2) ، مع وضوح أنه لا موضوع فيه لتحريم أكل مال الغير في حق من عدا الأول.

كما لا إشكال في حرمة كلا القسمين منه وضعاً بمعني بطلان المعاملة، لا من جهة النهي التكليفي المذكور.

لما هو التحقيق من عدم اقتضاء النهي في المعاملة الفساد.

بل لصراحة الأدلة في عدم استحقاق الزيادة.

كقوله تعالي: (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)(3) ، وما ورد من وجوب رد الربا إلي أهله في الجملة(4) ، وغير ذلك.

نعم قد يقع الكلام في أن البطلان هل يختص بالزيادة، أو يسري للمعاملة بتمامها.

حيث قد يدعي أن الربا لما كان هو الزيادة لغة فتحريمه وضعاً إنما يقتضي عدم استحقاقها، ولا ملزم بالبناء علي بطلان المعاملة بتمامها.

فمن اشتري مناً من الحنطة الجيدة بمنين منّ الحنطة الرديئة، ملك من الحنطة الجيدة مقابل منّ من الحنطة الرديئة، ومن اشتري مناً من الحنطة الجيدة بمن من الحنطة الرديئة بشرط أن يطحن الرديئة ملك الحنطة الجيدة بالحنطة الرديئة، ولم يجب عليه طحن الرديئة، لحرمة الشرط وبطلانه، بناءً في الأخير علي ما هو الظاهر من أن الشرط الفاسد لا يفسد العقد.

لكن النظر في نصوص المقام يشهد بأن موضوع النهي ليس هو الزيادة فقط، بل المعاملة المشتملة عليها المتضمنة للبيع أو التبديل أو نحوهما.

والتعبير عنها بالربا في بعض الأدلة إما أن يبتني علي تسمية السبب بالمسبب عرفاً أو شرعاً، أو إطلاقه عليه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب أحكام العقود حديث: 1، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب أحكام العقود حديث: 1، 4.

(3) سورة البقرة الآية: 279.

(4) راجع: وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الربا.

ص: 172

(173)

أما الأول: فهو بيع أحد المثلين بالآخر مع زيادة عينية في أحدهما (1)،

---------------

توسعاً.

وعدم كون الشرط الفاسد مفسداً إنما يجري فيما إذا كان المحذور في الشرط نفسه، كاشتراط الولاء أو عدم الميراث في البيع، دون ما إذا كان المحذور في المعاملة نفسها، بحيث يخرجها الشرط من معاملة مشروعة إلي معاملة غير مشروعة، كما في المقام.

وأشكل من ذلك بيع الربويين مع الزيادة العينية.

فإن صحة البيع من دون زيادة مما لا مجال له بعد عدم القصد إليه، ولا يقاس بتبعض الصفقة، لابتناء تبعض الصفقة علي تحليل المعاملة ومقابلة كل جزء من المبيع بما يناسبه من الثمن، فإذا صح البيع في بعض المبيع دون بعض ثبت من الثمن ما يقابل ما صح فيه البيع، وسقط ما يقابل الآخر.

أما في المقام فالمدعي هو صحة البيع في تمام أحد العوضين وبعض الآخر.

كما نبّه لذلك كله في الجواهر.

فلاحظ.

نعم لا يبعد جريان ذلك في القرض الربوي، حيث لا يبعد انحلال المعاملة إلي أمرين: القرض المقتضي لتملك المال المقترض في مقابل المثل، واشتراط الزيادة، فيصح القرض، ويملك المال المقترض في مقابل المثل، ويكون المحرم تكليفاً ووضعاً هو اشتراط الزيادة.

لأن ظاهر الأدلة أو المتيقن منها هو النهي عن اشتراط الزيادة، وحرمة الشرط وبطلانه لا يقتضي بطلان العقد في مثل ذلك، كما تقدم في مبحث الشروط.

فلاحظ.

(1) بلا إشكال ظاهر بملاحظة النصوص والفتاوي.

ففي صحيح عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث أنه قال: «يا عمر قد أحل الله البيع وحرم الربا.

بع واربح ولا تربه.

قلت: وما الربا؟ قال: دراهم بدراهم مثلين بمثل، وحنطة بحنطة مثلين بمثل»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الربا حديث: 2.

ص: 173

كبيع منّ من الحنطة بمنّين، أو منّ من الحنطة بمنّ ودرهم (1)، أو زيادة

---------------

(1) إذ الظاهر عدم الإشكال ولا الخلاف في عموم حرمة الزيادة العينية لما إذا كانت من غير الجنس، كما في هذا المثال.

لظهور غير واحد من النصوص في انحصار الصحة مع اتحاد الجنس بما إذا كان العوضان متماثلين في المقدار، لا في مجرد مانعية زيادة أحد الجنسين في المقدار علي الآخر.

ففي صحيح أبي بصير وغيره عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«قال: الحنطة والشعير رأس برأس لا يزداد واحد منهما علي الآخر» (1) ، وفي صحيح الحلبي عنه (عليه السلام) قال:

«لا يباع مختومان من شعير بمختوم من حنطة، ولا يباع إلا مثلاً [مثل] بمثل.

والتمر [الثمن] مثل ذلك...» (2) ونحوهما غيرهما.

ومن الظاهر عدم صدق المماثلة في المقدار مع الزيادة العينية ولو من غير الجنس.

نعم قد ينافي ذلك ما في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألته عن رجل يأتي بالدراهم إلي الصيرفي فيقول له: آخذ منك المائة بمائة وعشرين أو بمائة وخمسة، حتي يرواضه علي الذي يريد.

فإذا فرغ جعل مكان الدراهم الزيادة ديناراً أو ذهباً، ثم قال له: قد زاددتك [راددتك.

يب] البيع، وإنما أبايعك علي هذا، لأن الأول لا يصلح، أو لم يقل ذلك وجعل ذهباً مكان الدراهم.

فقال: إذا كان آخر [إجراء.

يب] البيع علي الحلال فلا بأس بذلك...»(3).

لظهوره في الاقتصار في الجنس الآخر وهو الذهب علي الزيادة مع التماثل بين الدراهم.

لكن لابد من طرحه أو حمله علي عدم الاقتصار في الذهب علي الزيادة، كما يظهر بملاحظة النصوص والفتاوي في الطرق التي يتخلص بها من الربا.

وفي صحيح محمد: «سئل عن السيف المحلي والسيف الحديد المموه بالفضة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب الربا حديث: 3، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب الربا حديث: 3، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب الصرف حديث: 3.

ص: 174

(175)

حكمية (1) كبيع منّ من حنطة نقداً بمنّ من حنطة نسيئة.

وهل يختص

---------------

نبيعه بالدراهم فقال: نعم، وبالذهب [بع بالذهب].

وقال: إنه يكره أن تبيعه بنسية.

وقال: إذا كان الثمن أكثر من الفضة فلا بأس»(1) ونحوه غيره(2).

(1) الزيادة الحكمية.

.

تارة: يراد بها الزيادة في أحد العوضين بنفسه أو بعمل فيه من دون زيادة في ملكية من صار إليه زائدة علي ملكيته له، ككون احد العوضين جيداً نوعاً أو مطبوخاً أو مطحوناً أو مغسولاً.

ولا إشكال في عدم مانعية الزيادة المذكورة، وخروجها عن محل الكلام فيجوز، بل يجب.

مثلاً بيع الحنطة الجيدة بالحنطة الرديئة مثلاً بمثل، وبيع الحنطة بالدقيق مثلاً بمثل، ونحو لذلك.

وأخري: يراد بها الزيادة في ملكية أحد المتعاقدين بسبب الشرط له علي الآخر كما إذا تبايعا مناً من الحنطة بمن منها، واشتراط تأجيل الثمن أو التصدق بأحد العوضين أو طحنه أو غزله إلي غير ذلك.

فالزيادة في المقام ليست في أحد العوضين، بل فيما يملكه أحد المتبايعين نتيجة الشرط الذي تضمنه البيع.

ويظهر من غير واحد مانعية ذلك ودخوله في الربا.

بل في الجواهر أنه لا خلاف محقق معتد به في ذلك.

وكأنه أشار بنفي الخلاف المحقق إلي ما في الخلاف من كراهة بيع المتماثلين في المقدار من جنس واحد نسيئة، وما في المبسوط من أن الأحوط أن يكون يداً بيد، حيث قال في الدروس: «وأوّل كلامه بإدارة التحريم، لأن المسألة إجماعية».

ولاسيما مع ما في النهاية من عدم جواز بيع غير الربويين كالحيوان والثياب مع اتحاد الجنس متماثلاً نسيئة، ونحوه في المراسم، وسبقه إلي ذلك في المقنعة.

بل مقتضي إطلاق كلامه العموم لصورة التفاصيل، كما هو صريح الخلاف، وكذا الغنية في الحيوان.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 1، وباب: 20 من أبواب الربا حديث: 1.

ص: 175

وكأنه أشار بنفي الخلاف المعتد به إلي ما في السرائر في مسألة بيع درهم بدرهم مع اشتراط صياغة خاتم أو غير ذلك، حيث قال في توجيه الفتوي بالجواز: «إن الربا هو الزيادة في العين إذا كان الجنس واحداً، وههنا لا زيادة في العين... ويمكن أن يحتج بصحته بقوله تعالي: (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا).

وهذا بيع، والربا المنهي عنه غير موجود ههنا، لا حقيقة لغوية ولا حقيقية عرفية شرعية».

وهو صريح في اختصاص الزيادة بالعينية.

نعم ردّ عليه غير واحد بعموم الربا للزيادة الحكمية.

ولعله لذا لم يعتد في الجواهر بخلافه.

هذا والنظر في كلماتهم يشهد بخصوصية النسيئة عندهم في المنع، لا من جهة لزوم الربا، ولذا عمم غير واحد المنع لغير الربويين، كما تقدم منهم آنفاً، ويناسبه بعض النصوص.

ويأتي الكلام في ذلك عند الكلام في شرطية الكيل والوزن في تحقق الربا في المعاملة إن شاء الله تعالي.

وأما ما سبق من غير واحد من عموم الزيادة الربوية للزيادة الحكمية، بل قد يظهر من بعضهم المفروغية عنه، فإن كان الوجه فيه صدق الربا بالزيادة المذكورة، لأن الربا مطلق الزيادة، فقد سبق منّا أن الربا وإن كان هو الزيادة لغة، إلا أنه لا مجال لحمل أدلته علي الإطلاق المذكور، بل لابد من حملها علي خصوص زيادة معهودة تستفاد من النصوص أو غيرها من الأدلة التعبدية، والمتيقن منه هي الزيادة العينية.

ولاسيما مع ما تقدم من عدم مانعية الزيادة الحكمية القائمة بنفس العوضين، كالجودة والرداء والصنعة ونحوها، لصعوبة الفرق بينهما ارتكازاً.

ومع أن الزيادة مع الشرط لو كانت معياراً في الربا كالزيادة العينية لكان المناسب مقابلتها للزيادة العينية في أحد العوضين، فيجوز مثلاً بيع منّ من الحنطة بشرط طحنه بمنين منها من دون شرط، ولا يظهر منه البناء علي ذلك.

بل هو مخالف لإطلاق النصوص المتضمنة اعتبار المماثلة مع اتحاد الجنس.

وأما ما يظهر من بعض كلماتهم من المفروغية عنه، أو دعوي الإجماع عليه، فهو

ص: 176

لا ينهض دليلاً في المقام بعد قرب ابتنائه علي ما عرفت الإشكال فيه من استفادته من إطلاق أدلة الربا أو من كلامهم في النسيئة.

ولاسيما مع ما سبق من السرائر، ومع ما ذكره في النهاية وتبعه جماعة من أنه يجوز أن يبيع درهم بدرهم ويشترط معه صياغة خاتم أو غير ذلك من الأشياء.

نعم يظهر من غير واحد خروج ذلك عن القاعدة، لحديث أبي الصباح الكناني: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يقول للصائغ: صغ لي هذا الخاتم، وأبدل لك درهماً طازجاً بدرهم غلة.

قال: لا بأس»(1).

لكن ذلك لا يناسب مساق ما سبق من النهاية وغيره، حيث لم يتقيد بمورد الحديث ولا بمفاده.

لظهور أن مفاد الحديث جعل البيع في مقابل الصياغة، نظير الجعالة عليها، لا جعل الصياغة شرطاً في البيع كما هو موضوع ما سبق من النهاية وغيره.

ونبه لذلك في الدروس.

كما أن مورد الحديث خصوص صياغة الخاتم ومورد كلام النهاية وبعض من وافقه الأعم.

ومثله ما في الجواهر من الاستدلال عليه بالنصوص.

قال: «وفي صحيح عبد الرحمن: إن الناس لم يختلفوا في النسيء أنه الربا، كما في خبره الآخر: جاء الربا من قبل الشروط، وإنما تفسده الشروط».

وقد أشار بالأول إلي صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألته عن السيوف المحلاة فيها الفضة تباع بالذهب إلي أجل مسمي.

فقال: إن الناس لم يختلفوا في النساء [النسيء] أنه الربا، وإنما اختلفوا في اليد باليد...»(1).

وهو كما تري وارد في اختلاف الجنس، لفرض كون الحلية فضة، والسيف حديداً وثمن الكل ذهباً، ولا ربا مع ذلك.

ومن ثم لا يخلو عن إجمال.

ولا أقل من كون تطبيقه مع النسيء تعبدياً، لخصوصية في النسيء، كما أشرنا إليه، فلا يتعدي منه(2)

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب الصرف حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 1.

ص: 177

لسائر الشروط.

علي أنه معارض بنصوص آخر تتضمن الجواز ومن ثم سبق أن للنسيئة خصوصية في المقام، ويأتي الكلام فيها.

وأما الثاني فلم نعثر علي ما يناسبه إلا صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يقترض من الرجل الدراهم فيرد عليه المثقال، أو يستقرض المثقال فيرد عليه الدراهم.

فقال: إذا لم يكن شرط فلا بأس...»(1) ، وخبر لابن الحجاج: «سألته عن الرجل كانت لي عليه مائة درهم عدداً قضانيها مائة وزناً.

قال: لا بأس ما لم يشترط.

قال: وقال: جاء الربا من قبل الشروط.

إنما يفسده الشروط»(2) ، ونحوهما غيرهما.

وهي واردة في الدين الربوي المبني علي الزيادة العينية أو ما يعم الوصف، الذي لا إشكال في دوران الربا فيه مدار الشرط، وهو غير ما نحن فيه من البيع في الربويين المتضمن لشرط خارج عن العوضين مع فرض التماثل بينهما.

ومن هنا يشكل البناء علي عموم الزيادة الموجبة للربا في المعاملة للزيادة الحكمية الحاصلة من الشرط.

ولاسيما مع ورود جواز ذلك في الجملة في الدين، حيث ورد جواز إقراض المال واشتراط وفائه في موضع آخر غير الذي اقترض فيه(3).

بل في صحيح الحلبي: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عن الرجل يستبدل الكوفية بالشامية وزناً بوزن، فيقول الصيرفي: لا أبدل لك حتي تبدل لي يوسفية بغلة وزناً بوزن.

فقال: لا بأس به»(4).

فإنه صريح في جواز الشرط في المعاوضة بين الربويين.

ومثله ما تقدم في حديث أبي الصباح بناءً علي كونه مما نحن فيه أو ملحق به حكماً.

وفي صحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في حديث: «وكره أن يباع التمر بالرطب عاجلاً بمثل كيله إلي أجل، من أجل أن الرطب ييبس، فينقص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب الصرف حديث: 7، 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب الصرف حديث: 7، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب الصرف حديث: 7.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب الصرف حديث: 1.

ص: 178

تحريمه بالبيع أو يجري في غيره من المعاوضات ؟ قولان (1).

والأظهر

---------------

من كيله»(1).

فإنه مشعر أو ظاهر في جواز النسيئة في الربويين إذا لم يختلفا في الرطوبة والجفاف.

نعم إذا كان الشرط عملاً له مالية كالخياطة، أو تمليكاً لمال، كما لو باع منّاً من الحنطة الجيدة بمنّ من الحنطة الردئية واشترط علي المشتري أن يعطيه درهماً، لم يبعد منافاته للمماثلة عرفاً.

ولعله إلي ذلك يرجع ما ذكره السيد الطباطبائي (قده) من الاقتصار علي شرط الزيادة العينية أو ما بمنزلتها.

فلاحظ.

ثم إنه لو فرض البناء علي العموم المذكور فمقتضاه عدم تحقق الربا مع الشرط من الطرفين، كما لو باع زيد عمراً منّاً من القطن بمنّ منه، واشترط زيد علي عمر أن يندف القطن الثمن، واشترط عمرو علي زيد أن يغزل القطن المثمن.

لكون الزيادة الحكمية في حق كل منهما مقابلة بالزيادة الحكمية في حق الآخر، من دون فرق بين تساوي الأمرين المشروطين في القيمة واختلافها.

لاختلاف الجنس وعدم كونهما من المكيل ولا الموزون.

لكن قال السيد الطباطبائي (قده): «لكنه مشكل، خصوصاً مع تفاوتهما كثيراً».

ولم يتضح وجهه.

ثم إنه إنما يتعين المنع من البيع نسيئة في مفروض الكلام بناءً علي تحقق الزيادة الحكمية إذا كان تأجيل الثمن حقاً لأحدهما فقط.

أما إذا كان حقاً لهما معاً كما سبق فرضه في المسألة الأولي من الفصل الثامن فالمتعين الجواز، نظير ما ذكرناه فيما إذا كان الشرط من الطرفين.

بل هو أولي بالجواز.

(1) فقد صرح بالتعميم في الشرائع والإيضاح والدروس وجامع المقاصد وغيرها.

وهو الظاهر من الشيخ والقاضي.

وصرح بالاختصاص بالبيع في السرائر والمختلف.

وقد يظهر من كل من ذكر أن الربا قسمان في البيع وفي الدين.

وتردد في

********

(1) من لا يحضره الفقيه ج: 3 ص 178. ويأتي تمام الكلام في متنه ومصادره في أواخر المسألة الحادية عشرة.

ص: 179

اختصاصه بما كانت المعاوضة فيه بين العينين (1)، سواء أكانت بعنوان

---------------

ذلك في القواعد في كتابي الصلح والغصب، وكذا في محكي كتاب الصلح من التذكرة.

(1) كما هو ظاهر المعاوضة في كلام من عمم.

وهو الظاهر من إطلاق قوله (عليه السلام) في صحيح عمر بن يزيد المتقدم في بيان الربا: «دراهم بدراهم مثلين بمثل، وحنطة بحنطة مثلين بمثل»(1).

وقريب منه ما تقدم في صحيح أبي بصير وغيره(2).

وفي صحيح منصور: «سألته عن الشاة بالشاتين والبيضة بالبيضتين قال: لا بأس ما لم يكن كيلاً أو وزناً»(3) ، ونحوها غيرها.

لظهور الباء في المعاوضة بين الشيئين من دون تقييد بالبيع.

ومجرد كون البيع هو الشايع لا يكفي في التقييد.

وأظهر من ذلك ما تضمن التعبير بالاستبدال، كصحيح سيف التمار: «قلت لأبي بصير: أحب أن تسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل استبدل قوصرتين فيهما بسر مطبوخ بقوصرة فيها تمر مشقق.

قال: فسأله أبو بصير عن ذلك.

فقال: هذا مكروه.

فقال أبو بصير: ولِمَ يكره ؟ فقال: إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يكره أن يستبدل وسقاً من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر، لأن تمر المدينة أدونهما.

ولم يكن علي (عليه السلام) يكره الحلال(4)» وغيره.

لظهور أن الاستبدال أعم من البيع المبني علي كون أحد العوضين ملحوظاً بالأصل والآخر عوضاً عنه وثمناً له.

بل هو كالصريح من ذيل صحيح الحلبي المتقدم، وفيه: «وسئل عن الرجل يشتري الحنطة فلا يجد صاحبها إلا شعيراً أيصلح له أن يأخذ اثنين بواحد؟ قال: لا، إنما أصلهما واحد...»(5) وقريب منه صحيح هشام بن سالم(6).

لظهور أنه لا يرجع إلي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الربا حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب الربا حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الربا حديث: 5.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الربا حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب الربا حديث: 4، 1.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب الربا حديث: 4، 1.

ص: 180

البيع أم بعنوان الصلح (1)، مثل صالحتك علي أن تكون هذه العشرة التي لك بهذه الخمسة التي لي، أما إذا لم تكن المعاوضة بين العينين كالصلح في مثل صالحتك علي أن تهب لي تلك العشرة وأهب لك هذه الخمسة (2)،

---------------

بيع أحدهما بالآخر، بل إلي الوفاء عن الحنطة بالشعير.

وصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «سألته عن الرجل يدفع إلي الطحان الطعام، فيقاطعه علي أن يعطي لكل عشرة أرطال اثني عشر دقيقاً.

قال: لا.

قلت: فالرجل يدفع السمسم إلي العصار يضمن له لكل صاع أرطالاً [مسماة] قال: لا»(1).

لظهور أن الضمان المذكور ليس بيعاً.

وبذلك يخرج عن عمومات الصحة التي اعتمد عليها القائل بالاختصاص بالبيع.

(1) أم بعنوان آخر كالإبدال والمقاطعة اللذين تضمنهما صحيحا الحلبي ومحمد بن مسلم المتقدمان.

إلا أن يريدوا بالصلح ما يعم ذلك.

(2) فإن المقابلة بين الهبتين لا بين المالين الموهوبين بنحو تحقق المعاوضة بينهما.

لكن منع في الشرائع والجواهر من هبة الربوي بشرط هبة ما يزيد عليه من جنسه.

قال في الجواهر: «إذا الظاهر كون ذلك من الهبة المعوضة».

وهو لو تم يجري في مفروض المتن من المصالحة علي الهبتين.

وفيه: أنه لا محذور في الهبة المعوضة بالزائد، لأنهما معاملتان لا معاملة واحدة ربوية.

ولذا صرح هو تبعاً للشرائع بجواز تعويض هبة الربوي بهبة الزائد من جنسه من غير شرط، مع أنه هبة معوضة قطعاً.

ومن هنا لم يتضح وجه البطلان مع الشرط، ليجري نظيره في التصالح علي الهبتين، الذي هو مفروض المتن.

ودعوي: رجوع الفرضين ونحوهما إلي المعاوضة بين العينين لبّاً لتحقق غرضها بها وإن لم تكن منها لفظاً وصورة.

مدفوعة بابتناء حرمة الربا علي التعبد المحض،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب الربا حديث: 3.

ص: 181

أما الأول: فهو بيع أحد المثلين بالآخر مع زيادة عينية في أحدهما (1)، كبيع منّ من الحنطة بمنّين، أو منّ من الحنطة بمنّ ودرهم (1)، أو زيادة حكمية (1) كبيع منّ من حنطة نقداً بمنّ من حنطة نسيئة.

وهل يختص تحريمه بالبيع أو يجري في غيره من المعاوضات ؟ قولان (1).

والأظهر اختصاصه بما كانت المعاوضة فيه بين العينين (1)، سواء أكانت بعنوان البيع أم بعنوان الصلح (1)، مثل صالحتك علي أن تكون هذه العشرة التي لك بهذه الخمسة التي لي، أما إذا لم تكن المعاوضة بين العينين كالصلح في مثل صالحتك علي أن تهب لي تلك العشرة وأهب لك هذه الخمسة (2)، والإبراء في مثل أبرأتك عن الخمسة التي لي عليك بشرط أن تبرئني عن العشرة التي لك علي (1) ونحوها فالظاهر الصحة (2).

-

فاللازم الجمود علي مفاد الأدلة فيه.

ولاسيما مع ما صرحت به النصوص الآتية من الجواز في بعض الفروض المشاركة لذلك في الجهة المذكورة.

فلاحظ.

(1) قد يشكل المثال المذكور بعدم نفوذ الشرط في الإبراء، لكونه إيقاعاً.

نعم يمكن فرض التصالح علي الابرائين، بحيث يبرءان معاً بمجرد الصلح بلا حاجة إلي إبراء بعده.

(2) للعمومات بعد خروجه عن المعاوضة بين الربويين، فلا يدخل في الأدلة المتقدمة.

مضافاً إلي بعض ما ورد في الصلح.

كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في رجلين اشتركا في مال فربحا فيه وكان في المال دين، وعليهما دين، فقال أحدهما لصاحبه: أعطني رأس المال، ولك الربح وعليك التوي. فقال: لا بأس إذا اشترطا.

فإذا كان شرط يخالف كتاب الله فهو رد إلي كتاب الله عز وجل»(1) ، وصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «أنه قال في رجلين كان لكل منهما طعام عند صاحبه، ولا يدري كل واحد منهما كم له عند صاحبه، فقال كل واحد منهما لصاحبه: لك ما عندك، ولي ما عندي.

فقال: لا بأس إذا تراضيا وطابت أنفسهما»(2).

لظهوره في مجرد ملكية كل منهما لما عنده من دون معاوضة بينهما.

نعم لو كان التعبير هكذا: ما لي عندك بما لك عندي، لكان من المعاوضة.

وكذا ما تضمن جواز الصلح عن الدين بأقل منه(3).

فإن الظاهر رجوع المصالحة إلي إسقاط بعض الدين من أجل تعجيل ما يصالح عليه، لا إلي المعاوضة بين الدين والمعجل، ليدخل في القسم الأول، الذي تقدم المنع منه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 4 من أبواب كتاب الصلح حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 5 من أبواب كتاب الصلح حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 5، 6 من أبواب كتاب الصلح حديث: 1.

ص: 182

(183) (183)

شروط تحقق الربا/ الأول: اتحاد الجنس

اشارة

(مسألة 1): يشترط في تحقق الربا في المعاملة أمران: الأول: اتحاد الجنس (1)

---------------

(1) فيجوز التفاضل مع الاختلاف في الجنس في الجملة بلا خلاف ولا إشكال نصاً وفتوي، وعموماً وخصوصاً.

كذا في الجواهر.

ويقتضيه النبوي: «إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم»(1) ، وموثق منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن البيضة بالبيضتين.

قال: لا بأس به.

والثوب بالثوبين.

قال: لا بأس به.

والفرس بالفرسين.

فقال: لا بأس به.

ثم قال: كل شيء يكال أو يوزن فلا يصلح مثلين بمثل إذا كان من جنس واحد.

فإذا كان لا يكال ولا يوزن فلا بأس به، اثنين بواحد»(2).

وموثق سماعة أو صحيحه: «سألته عن الطعام والتمر والزبيب.

فقال: لا يصلح منه اثنان بواحد.

إلا أن يصرفه نوعاً إلي نوع آخر.

فإذا صرفته فلا بأس اثنين بواحد وأكثر [من ذلك.

فقيه]»(3).

ومثله ما تضمن اشتراط الجواز باختلاف الشيئين، كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في حديث: «الكيل يجري مجري واحد.

قال: ويكره قفيز لوز بقفيزين.

ولكن صاع حنطة بصاعين تمر، وصاع تمر بصاعين زبيب إذا اختلف.

هذا والفاكهة اليابسة تجري مجري واحداً...»(4) وغيره(5).

لظهور أنه لا يراد به مطلق الاختلاف، إذ لا يخلو منه شيئان، بل الاختلاف في الجنس، كما هو المنسبق عرفاً، وتشهد به الأمثلة التي تضمنتها بعض هذه النصوص.

وكذا ما تضمن تعليل عدم جواز التفاضل بين الحنطة والشعير بأن أصلهما واحد، كما في صحيح الحلبي المتقدم وغيره(6).

مضافاً إلي النصوص الواردة في

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 12 من أبواب الربا حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الربا حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب الربا حديث: 5، 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب الربا حديث: 5، 3.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9، 13 من أبواب الربا.

(6) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب الربا.

ص: 183

والذات عرفاً (1)

---------------

الفروض المختلفة لتعدد الجنس، كالزيت بالسمن، والتمر بالحنطة(1).

(1) لأن ذلك هو المفهوم من نصوص المقام ولو بضميمة إطلاقها المقامي.

والظاهر أن ذلك هو مراد الكل سواء من عبر بالحقيقية النوعية، أم من عبر بما يتناوله لفظ خاص، كما نبه لذلك غير واحد.

حيث لا يراد بالأول النوع المنطقي، لما هو المعلوم وصرح به بعض المناطقة من تعسر الاطلاع علي حقائق الأشياء تعسراً يلحق بالتعذر، ولأن ذلك عرف خاص للمناطقة متأخر عن عصر صدور النصوص.

كما لا يراد بالثاني مطلق الاشتراك في اسم واحد، بنحو يشمل مثل الطعام والفاكهة والطير، بل خصوص اللفظ الحاكي عن حقيقة الشيء عرفاً.

ويؤكد ذلك ما ورد في الحنطة والشعير، حيث يظهر من مجموع نصوصهما أن جريان حكم الجنس الواحد عليهما تعبدي مغفول عنه عرفاً لولا التنبيه عليه وعلي تعليله بوحدة أصلهما.

هذا ومع الشك في الاتحاد والتعدد، فإن كان لعدم وضوح حال الطرفين وأن الخلاف بينهما يبلغ حد الاختلاف في النوع أو لا، فهو راجع في الحقيقة إلي الشبهة المفهومية الراجحة للشبهة الحكمية، للشك في أن المراد باتحاد الجنس وعدم اختلافه هل يشمل مثل الاشتراك الذي بينهما، وهو راجع إلي إجمال المخصص لعمومات الصحة وتردده بين الأقل والأكثر، والمتعين معه الاقتصار علي الأقل في التخصيص، والرجوع في الزائد للعمومات.

وإذا كان للجهل بحقيقة الطرفين بنحو الشبهة الموضوعية كما لو تردد أحد العوضين بين دقيق الحنطة ودقيق الذرة، أو بين دبس التمر وعصير العنب فمقتضي

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب الربا.

ص: 184

(185)

الكلام في اتحاد الجنس في الربا

وإن اختلفت الصفات (1)، فلا يجوز بيع منّ من الحنطة الجيدة بمنين من الرديئة، ولا بيع منّ من الأرز الجيد كالعنبر بمنين منه أو من الرديء، كالحويزاوي (2)، أما إذا اختلفت الذات فلا بأس (3) كبيع من من الحنطة بمنين من الأرز.

-

استصحاب عدم كون البيع ربوياً بنحو العدم الأزلي صحة البيع.

ودعوي: ظهور بعض النصوص كصحيح الحلبي المتقدم في أن الشرط في الجواز والصحة هو الاختلاف في الجنس، ومقتضي استصحاب عدم كون المبيعين مختلفين بنحو العدم الأزلي هو كون البيع ربوياً محرماً وباطلاً.

مدفوعة بظهور بعض النصوص الأخر كموثق منصور بن حازم المتقدم في أن الشرط في الحرمة والبطلان هو اتحاد الجنس، ومقتضي استصحاب عدمه أزلاً كون البيع حلالاً وصحيحاً، وبعد تساقطهما لعدم المرجح يكون المرجع استصحاب عدم كون البيع ربوياً، كما ذكرنا.

(1) مراده (قده) ما يعم اختلاف الأصناف من الجنس الواحد، كما يظهر بملاحظة مثاليه ودليل المسألة.

(2) بلا إشكال ظاهر بعد فرض اتحاد الجنس.

وهو المتيقن من الفتاوي ومن إطلاق نصوص المنع، ضرورة أن الداعي غالباً للزيادة مع اتحاد الجنس هو اختلاف الصفات، وأهمه ما يرجع للجودة والرداءة.

مضافاً إلي خصوص النصوص الواردة في ذلك كصحيح سيف التمار وغيره مما ورد في التمر(1) وما ورد في الحنطة والدقيق(2).

(3) لا إشكال فيه في الجملة.

والنصوص به مستفيضة إن لم تكن متواترة، وقد تقدم، ويأتي بعضها أيضاً.

وإنما الكلام في إطلاق جواز البيع وتقييده.

حيث لا خلاف

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الربا.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الربا.

ص: 185

فتوي ونصوصاً في جوازه نقداً.

وأما النسيئة فقد قال في الجواهر: «فإن كان كل من العوضين من الأثمان فهو صرف لا تجوز فيه، كما تعرفه في محله.

وإن كان أحدهما منه والآخر من العروض فلا خلاف أجده في جواز التماثل والتفاضل، بل الإجماع بقسميه عليه، إذ هو إما نسيئة أو سلم.

وكل منهما مجمع علي جوازه، بل لعله من الضروريات المستغني عن الاستناد إلي إطلاق الأدلة ونحوه».

وقريب منه كلام غيره.

وأما إن كانا من العروض فقد صرح المفيد بعدم جواز النسيئة، ووافقه في المراسم والمهذب والتحرير، وهو المحكي عن ابن أبي عقيل وابن الجنيد.

وتردد في ظاهر الشرائع والقواعد والإرشاد، وفي محكي غاية المرام والمفاتيح.

وصرح بالجواز في المبسوط والنهاية(1) والخلاف والوسيلة والغنية والسرائر والنافع وكشف الرموز والتذكرة والمختلف واللمعتين وغيرها كثير وقد يظهر من الدروس ناسباً إياه للشيخ والمتأخرين، وعن الكفاية أنه المشهور بين المتأخرين.

كما صرح جماعة ممن ذهب إلي الجواز بالكراهة، وفي الغنية والسرائر ومحكي التذكرة الإجماع عليها، بل يظهر من السرائر الإجماع علي الجواز أيضاً.

ثم إن جمعاً من الأصحاب جعلوا مورد النزاع الربويين المختلفين في الجنس.

لكن المفيد عمم المنع في النسيئة لجميع صور بيع العروض بالعروض.

قال بعد أن منع من بيع المكيل والموزون مع اختلاف الجنس نسيئة: «ولا بأس ببيع ما لا يكال ولا يوزن واحد باثنين وأكثر من ذلك نقداً، ولا يجوز نسيئة، كثوب بثوبين وبعير ببعيرين وشاة بشاتين ودار بدارين ونخلة بنخلتين يداً بيد نقداً، وإن باع ذلك نسيئة كان البيع باطلاً...

وتباع الأمتعة والعقارات بالذهب والفضة نقداً ونسيئة، ولا يباع بعضها ببعض نسيئة».

********

(1) وإن كان ذلك لا يناسب ما صرح به في النهاية نفسها من جواز التفاضل في اللحوم المختلفة الجنس نقداً وعدم جوازه نسيئة. ويأتي ذكر كلامه في المسألة الثالثة. ونحوه ما صرح به في المبسوط في الأدهان. فراجع.

ص: 186

كما أنه ذكر في الدروس أن الخلاف المتقدم يجري في المعدود مع التفاضل، من دون أن يخصه بمن ذهب إلي أن المعدودات من الربويات، وفي الوسيلة منع من بيع المعدودات مع اتحاد الجنس متماثلاً ومتفاضلاً مع اتحاد الجنس نسيئة، مع أنها غير ربوية عنده ولذا جاز فيها التفاضل نقداً.

بل تقدم من الخلاف جواز بيع المكيل والموزون مع اختلاف الجنس متفاضلاً نسيئة علي كراهية، كما صرح بجواز بيع المعدودات بعضها ببعض متماثلاً ومتفاضلاً نقداً ونسيئة، ومع ذلك كله قال: «الثياب بالثياب والحيوان بالحيوان.

ولا يجوز بيع بعضه ببعض نسيئة متماثلاً ولا متفاضلاً، ويجوز ذلك نقداً».

وبنحو ذلك صرح في النهاية، وفي الغنية في الحيوان.

وبذلك يظهر أن المنع من بيع النسيئة عندهم لا يختص بالربويات، وأن هذه المسألة بمبحث بيع النسيئة أنسب منها بمبحث الربا.

وقد يستدل للمنع بالنبوي: «إنما الربا في النسيئة»(1) ، وصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام)، وفيه: «وقال: إذا اختلف الشيئان فلا بأس مثلين بمثل يداً بيد»(2) ، وصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: ما كان من طعام مختلف أو متاع أو شيء من الأشياء يتفاضل فلا بأس ببيعه مثلين بمثل يداً بيد.

فأما نظرة فلا يصلح»(3) ، وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام) في حديث: «قال وسئل عن الزيت بالسمن اثنين بواحد.

قال: يداً بيد لا بأس به»(4) ، وصحيح عبد الله بن سنان: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عن رجل أسلف زيتاً علي أن يأخذ منه سمناً.

قال: لا يصلح»(5) ، وصحيحه الآخر: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا ينبغي إسلاف السمن بالزيت، ولا الزيت بالسمن»(6) ، وموثق سماعة أو صحيحه عنه (عليه السلام): «قال: المختلف مثلان بمثل يداً

********

(1) تهذيب الأحكام ج: 1 ص: 84 حديث: 68.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الربا حديث: 1.

(3و4و5و6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب الربا حديث: 2، 4، 6، 10.

ص: 187

بيد لا بأس»(1).

وما عن علي بن إبراهيم عن رجاله عمن ذكره قال في حديث طويل: «وما عد أو لم يكل ولم يوزن فلا بأس به اثنان بواحد يداً بيد ويكره نسيئة»(2) ، بناءً علي روايته عن المعصوم، وإن لم يبعد خلافه كما يناسبه ما في بعض فقرات الحديث بطوله فراجعه.

وصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: البعير بالبعيرين والدابة بالدابتين يداً بيد ليس به بأس»(3) ، وموثق عبد الرحمن بن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العبد بالعبدين والعبد بالعبد والدراهم.

قال: لا بأس بالحيوان كله يداً بيد»(4) وغيرها.

ثم إن المستفاد من مجموع هذه النصوص النهي عن النسيئة في بيع العروض بالعروض من دون خصوصية للربويين، لورود بعضها في غير الربويين وعموم فرض اختلاف الجنس في بعضها لغير الربويين.

غايته أن ذلك لا يشمل ما إذا كان أحد العوضين من الأثمان لما سبق من الجواهر.

هذا ولكن النبوي لا ينهض بالاستدلال، إذ هو مع عدم روايته من طرقنا لا يخلو عن إجمال، لظهوره في انحصار الربا بالنسيئة، مع تظافر النصوص بأن معيار الربا الزيادة في أحد العوضين في الجملة من دون أن يتوقف علي النسيئة.

وأما بقية النصوص فهي بين ما اقتصر فيه علي تقييد الترخيص بما إذا كان البيع يداً بيد، وما تضمن التعبير بالكراهة أو أنه لا يصلح أو لا ينبغي.

والاستدلال بالأول يبتني علي ظهور القيد في المفهوم، وبالثاني يبتني علي حمل التعابير المذكورة علي الحرمة.

لكن ظهور القيد في المفهوم وإن كان قريباً في المقام، إلا أن المفهوم يفس

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب الربا حديث: 9.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب الربا حديث: 12، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب الربا حديث: 6. كذا روي في الكافي والفقيه والتهذيب. ورواه في الاستبصار هكذا: «ولا بأس بالحيوان كله يداً بيد ونسيئة». والظاهر أنه خطأ. ولا أقل من سقوط رواية الشيخ في التهذيبين بالتعارض. ويكون العمل علي رواية الكافي والفقيه.

ص: 188

القسم الثاني، فالعمدة في الاستدلال هو القسم المذكور.

والتعابير المذكورة فيه قد تكون أقرب إلي الحرمة منها إلي الكراهة، إلا أنه قد يوهن الاستدلال بها علي الحرمة بلحاظ قوة ظهور نصوص شروط الربا في قصر الحرمة علي موردها مع الجواز بدونها.

ولاسيما مع ما في حديث إسحاق بن عمار قال: أظنه عن عبد الله بن جذاعة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السيف المحلي بالفضة يباع بنسية.

قال: ليس به بأس، لأن فيه الحديد والسير»(1).

مع قوة ظهوره في عدم خصوصية النسيئة في المنع، وأن المدار في الجواز علي ارتفاع محذور الربا.

مضافاً إلي أمور: الأول: ورود الترخيص في النسيئة في بعض موارد البيع غير الربوي، مع ما سبق من ورود الكراهة.

ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «وقال: لا بأس بالثوب بالثوبين يداً بيد ونسيئة إذا وصفتهما»(2).

وقريب منه صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا بأس بالثوب بالثوبين إذا وصفت الطول والعرض»(3).

لأن الوصف إنما يحتاج إليه في النسيئة والسلف.

وقد تضمن غير واحد من النصوص الترخيص في بيع السيف المحلي نسيئة(4) ، مع النهي عنه في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج(5) المتقدم عند الكلام في الزيادة الحكمية، والتعبير بالكراهة فيها في حديث آخر(6).

كما أن موثق عبد الرحمن المتقدم وإن تضمن تقييد التفاضل في الحيوان بما إذا كان يداً بيد بنحو يشمل ما إذا كان مع أحد العوضين دراهم، إلا أن في صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر (عليه السلام): «سألته عن الحيوان بالحيوان بنسية وزيادة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب الربا حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الربا حديث: 5.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف.

(5و6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 1، 4.

ص: 189

دراهم ينقد الدراهم ويؤخر الحيوان قال: إذا تراضيا فلا باس»(1).

الثاني: قوة احتمال التقية في هذه النصوص، كما يناسبه ما تقدم في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج من قوله (عليه السلام): «إن الناس لم يختلفوا في النساء [النسيء] أنه الربا»(2).

وما في معتبر سعيد بن يسار: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن البعير بالبعيرين يداً بيد ونسيئة.

فقال: نعم لا بأس إذا سميت الأسنان جذعين أوثنيين.

ثم أمرني فخططت علي النسيئة»(3).

وفي التهذيبين: «ثم قال: خط علي النسيئة».

فإن الجواب فيه كالصريح في حكم النسية، فلا يظهر الوجه في الأمر بالخط عليها إلا التقية.

ولاسيما بلحاظ ما في الفقيه: «ثم أمرني فخططت علي النسيئة، لأن الناس يقولون: لا.

فإنما فعل ذلك للتقية».

وإن لم يبعد كون قوله: «فإنما فعل ذلك للتقية» من كلام الصدوق (قده).

الثالث: أن قولهم (عليهم السلام) في النصوص السابقة: «يداً بيد» ظاهر في اعتبار التقابض في المجلس.

والظاهر عدم القائل به منا.

وإن كانت بعض كلماتهم قد تظهر في ذلك، لكن لا يبعد كون المراد لهم النقد في مقابل النسيئة، كما تناسبه بقية كلماتهم، نعم قد يناسبه ما يأتي من الغنية.

ومن هنا يصعب الخروج بهذه النصوص عن ظهور النصوص الكثيرة في أن المعيار في الحرمة والحل علي تحقق شروط الربا وعدمه.

ولاسيما مع ظهور اضطراب الأصحاب في المسألة.

وبذلك يظهر الحال في صحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام):

«قال: لا تبع راحلة عاجلاً بعشر ملاقيح من أولاد جمل في قابل»(4).

فإن النهي وإن كان ظاهراً في الحرمة، إلا أن حمله علي الكراهة أو التقية بلحاظ ما سبق قريب جداً.

مع قرب أن يراد بالملاقيح ما في بطون الأمهات من الأجنة، لأنه أحد معانيه، بل لعله الأقرب في المقام،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب الربا حديث: 17.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الصرف حديث: 1.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب الربا حديث: 7، 5.

ص: 190

(191)

الثاني: ان يكون العوضان من المكيل او الموزون

الثاني: أن يكون كل من العوضين من المكيل أو الموزون (1).

فإن كانا مما يباع بالعد كالبيض والجوز فلا بأس (2)، فيجوز بيع بيضة بيضتين وجوزة بجوزتين.

-

ويكون منشأ النهي عدم إحراز سلامة الثمن، فيخرج عما نحن فيه.

فلاحظ.

(1) كما صرح به غير واحد.

وفي الجواهر أنه المشهور شهرة عظيمة.

بل في ظاهر مجمع البيان الإجماع عليه.

ويشهد به النصوص المستفيضة، كصحيح زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن»(1) ، ونحوه موثق عبيد بن زرارة(2) ، وموثق منصور بن حازم: «سألته عن الشاة بالشاتين والبيضة بالبيضتين.

قال: لا بأس ما لم يكن كيلاً أو وزناً(3)»، ونحوها غيرها(4).

هذا وظاهر الأصحاب المفروغية عن عدم اشتراط صحة البيع في الربويين مع عدم التفاضل بالتقابض في المجلس في غير الصرف، لعدم تعرض الأكثر لذلك، بل صرح بعدمه في القواعد والتذكرة، وظاهر الثاني الإجماع عليه.

لكن صرح في الغنية باعتبار التقابض في المجلس في كل مكيل وموزون، بل ظاهره الإجماع عليه.

وهو غريب، لعدم الشاهد عليه من النصوص ولا من كلمات الأصحاب.

وقد يكون نظره إلي ما سبق في فرض اختلاف الجنس، وتعميمه لصورة اتحاد الجنس بتنقيح المناط أو الأولوية.

إلا أنه سبق الإشكال في ذلك في مورد النصوص والفتاوي، فضلاً عن تعميمه لمحل الكلام.

(2) خلافاً لما في المقنعة والمراسم من أن المعدود بمنزلة المكيل والموزون، وهو المحكي عن ابن الجنيد، وقد يستدل لهم.

.

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الربا حديث: 1، 3، 5.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16، 17 من أبواب الربا.

ص: 191

الحنطة والشعير من جنس واحد

(مسألة 2): الحنطة والشعير في باب الربا جنس واحد (1)، فلا يباع

---------------

تارة: بعموم النهي عن الربا، لأنه مطلق الزيادة.

ويظهر الجواب عنه مما سبق في أول الكلام في الربا من إجمال العموم المذكور.

علي أنه لو تم فلابد من الخروج عنه وتخصيصه بما تقدم.

وأخري: بصحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثوبين الرديين بالثوب المرتفع، والبعير بالبعيرين.

فقال: كره ذلك علي (عليه السلام) فنحن نكرهه، إلا أن يختلف الصنفان.

قال: وسألته عن الإبل والبقر والغنم أو أحدهن [أحد هو] في هذا الباب.

قال: نعم نكرهه»(1) ، وصحيح ابن مسكان عنه (عليه السلام): «أنه سئل عن الرجل يقول: عاوضني بفرسي وفرسك وأزيدك.

قال: لا يصلح.

ولكن يقول: أعطني فرسك بكذا وكذا، وأعطيك فرسي بكذا وكذا»(2).

وفيه: أنه لا مجال للخروج بهما عن النصوص الكثيرة المستفيضة المتقدم بعضها والصريحة في الجواز مطلقاً أو يداً بيد فلابد من حملهما علي الكراهة أو طرحهما.

علي أن ذلك ليس من المعدود.

ومنه يظهر ضعف ما في الفقيه، حيث أفتي بمضمون الثاني.

ولاسيما مع ما تقدم في صحيح علي بن جعفر من التصريح بالجواز في مورده بالخصوص.

(1) كما هو ظاهرا لفقيه.

وبه صرح الشيخان وجماعة كثيرة ممن تأخر عنهما.

بل هو المعروف بين الأصحاب المدعي عليه الإجماع في الخلاف وظاهر الغنية أو صريحها، وعن شرح الإرشاد للفخر أن عليه الفتوي، ونسبه في المبسوط لرواية أصحابنا.

والنصوص به مستفيضة، كصحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سئل عن الرجل يبيع الرجل الطعام الأكرار، فلا يكون عنده ما يتم له ما باعه، فيقول له:

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الربا حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب الربا حديث: 16.

ص: 192

(193)

منّ من حنطة بمنين من الشعير، وإن كانا في باب الزكاة جنسين (1)، فلا يضم أحدهما إلي الآخر في تكميل النصاب، فلو كان عنده نصف نصاب

---------------

خذ مني مكان كل قفيز حنطة قفيزين من شعير حتي تستوفي ما نقص من الكيل.

قال: لا يصلح، لأن أصل الشعير من الحنطة...»(1) وصحيحي الحلبي وأبي بصير المتقدمين عند الكلام في عموم الزيادة الربوية لغير الجنس وغيرهما.

وعن ابن أبي عقيل وابن الجنيد أنهما جنسان، مع اعتراف الأول بورود بعض الأخبار بما يناسب القول الأول، ووافقهما في السرائر محتجاً باختلافهما حساً ونطقاً، مدعياً أن النصوص المذكورة أخبار آحاد لا توجب علماً ولا عملاً.

وقد جري في ذلك علي مذهبه في خبر الواحد.

وقد ثبت في محله ضعفه.

علي أن استفاضة النصوص المذكورة ووثاقة رواتها توجب العلم بمضامينها.

وما أكثر ما أفتي هو في مسائل لا تبلغ نصوصها ذلك القدر.

(1) كما هو ظاهر وصريح غير واحد في المقام، بل هو المقطوع به منهم بلحاظ عدم تنبيههم لذلك في الزكاة.

وهو مقتضي الجمع بين عدهما في نصوص الزكاة صنفين فيها من الأصناف التسعة، وظاهر نصوص تحديد النصاب في كل صنف منها.

ولاسيما صحيح زرارة: «قلت لأبي جعفر وابنه (عليهما السلام): الرجل له الغلة الكثيرة من أصناف شتي، أو مال ليس فيه صنف تجب فيه الزكاة، هل عليه في جميعه زكاة واحدة ؟ فقال: لا إنما تجب عليه إذا تمّ، فكان يجب في كل صنف منه الزكاة يجب عليه في جميعه في كل صنف منه الزكاة.

فإن أخرجت أرضه شيئاً قدر ما لا تجب فيه الصدقة أصنافاً شتي لم تجب فيه زكاة واحدة»(2).

بل هو كالصريح من موثق ابن بكير عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: وأما ما أنبتت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب الربا حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 2 من أبواب زكاة الغلات حديث: 1.

ص: 193

حنطة ونصف نصاب شعير لم تجب فيهما الزكاة.

والظاهر أن العَلَس ليس من جنس الحنطة، والسلت ليس من جنس الشعير (1).

-

الأرض من شيء من الأشياء فليس فيه زكاة إلا في أربعة أشياء: البر والشعير والتمر والزبيب. وليس في شيء من هذه الأربعة الأشياء شيء حتي تبلغ خمسة أوساق...»(1).

ولا ينافي ذلك ما في نصوص المقام من جريان الربا بينهما معللاً بأن أصلهما واحد، لأن الاكتفاء بوحدة الأصل في الربا لا تستلزم الاكتفاء بها في الزكاة.

(1) قد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ذلك، كما اختلفت فيه كلمات اللغويين.

ولعل الأظهر في كلماتهم أن العَلَس قسم من الحنطة، والسُلت قسم من الشعير.

لكن ليس بحيث يبلغ حد الحجية.

كما لا يتسني لنا إحراز الاتحاد أو التباين عند العرف، لعدم شيوع الابتلاء بهما وإن كان المنقول في كتب اللغة في هيئتها يناسب التباين بينهما وبين الحنطة والشعير عرفاً، وأن الاتحاد بينهما وبين الحنطة والشعير إنما هو بلحاظ المعني اللغوي.

نعم قد يستفاد التباين من بعض النصوص المتضمنة للتعاطف بينهما وبين الحنطة والشعير في تعداد ما يزكي من الحبوب مما يحمل علي الاستحباب أو التقية(2).

وكيف كان فالمتعين عدم إلحاقهما بالحنطة والشعير حكماً ولو بسبب الشك في عموم الحنطة والشعير لهما، كما يظهر مما سبق منّا عند الكلام في اشتراط الجنس في ربا المعاوضة.

نعم لا يبعد استفادة التحريم في كل مورد يعلم فيه باتحاد الشيئين في الأصل، عملاً بعموم التعليل في نصوص الحنطة والشعير، أو استفادة ذلك بالأولوية العرفية، كما هو الحال فيما يعرف عندنا بالدنان مع الرز، حيث إن المسموع أن نبات الرز إذا قلّ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 1 من أبواب زكاة الغلات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة حديث: 3، 4، 10.

ص: 194

(195)

الكلام في اختلاف اللحوم والألبان مع اختلاف الحيوان

(مسألة 3): اللحوم والألبان والأدهان تختلف باختلاف الحيوان (1) فيجوز بيع حقه من لحم الغنم بحقتين من لحم البقر وكذا الحكم في لبن الغنم بلبن البقر فإنه يجوز بيعها مع التفاضل.

-

ماؤه وعطش صار دناناً.

وإن كان الظاهر أن العلس مع الحنطة والسُلت مع الشعير ليس من هذا القبيل.

(1) أما اختلاف اللحوم بذلك فقد صرح به الشيخان في المقنعة والنهاية والخلاف والمبسوط، وجري عليه جماعة كثيرة ممن تأخر عنهما، ونفي الخلاف فيه في الجواهر، وفي الغنية والتذكرة الإجماع عليه.

قال في الجواهر: «الاشتراك في اسم اللحم لا يقتضي الاتحاد، كالاشتراك في اسم الحيوان».

لكن القياس في غير محله، لوضوح اختلاف حقائق الحيوانات عرفاً، وليس كذلك الحال في لحومها وعظامها بل وحدة حقيقة اللحم وحقيقة العظم عرفاً قريبة جداً.

ونظير ذلك الأشجار المختلفة حقيقة عند العرف، حيث يصعب البناء علي تعدد حقيقة الخشب أو الحطب المأخوذ منها عرفاً.

وبعبارة أخري: لما كان المعيار في وحدة الحقيقة وتعددها هو العرف، فتعدد حقائق بعض الأمور عند العرف لا يستلزم تعدد حقائق أجزائها ومكوناتها بنظرهم، بل اشتراك بعض أجزائها في حقيقة واحدة غير بعيد عندهم.

نعم قد يتجه اختلاف لحم الحيوان البري مع لحم السمك المعهود لنا في الجنس عرفاً.

كما أن ما ذكرناه في لحم الحيوان البري إذا لم يبلغ حدّ اليقين باتحاد الجنس عرفاً فلا يمنع من التفاضل، لما سبق من أنه يجوز التفاضل مع الشك في الاتحاد.

وأشكل من ذلك ما في التذكرة قال: «أعضاء الحيوان الواحد كلها جنس واحد مع لحمه، كالكرش والكبد والطحال والقلب والرئة، والأحمر والأبيض واحد.

وكذا

ص: 195

الشحوم كلها بعضها مع بعض ومع اللحم جنس واحد، لأن أصلها واحد، وتدخل تحت اسمه».

وعن حواشي الشهيد أن اللحم والكبد والقلب والكرش كله واحد.

إذ فيه: أن الظاهر تباينها عرفاً.

ومجرد وحدة حقيقة الحيوان لا يستلزم وحدة حقيقة أجزائه.

ولذا لا ريب في اختلاف حقيقة اللحم والعظم، فضلاً عن الشعر والصوف.

وأما تعليل جريان الربا في الحنطة والشعير بأن أصلهما واحد، فلا يراد به وحدة المركب منهما، لينفع فيما نحن فيه، بل وحدة أصل كل منهما، بحيث يرجع أحدهما للآخر وهو غير معلوم في المقام.

ولعله لما ذكرنا حكم في المبسوط والتحرير والدروس بأن اللحم والشحم مختلفان.

بل في المبسوط أن الإلية والشحم الذي في الجوف جنسان.

وإن قرب في الدروس أنهما جنس واحد.

ولعل الأقرب الأول.

نعم لا يبعد كون الكرش من سنخ اللحم ودخولهما في حقيقة واحدة عرفاً.

هذا ومراده (قده) من الأحمر والأبيض إن كان هو قسمي اللحم فالظاهر عدم اشتمال حيوان واحد علي القسمين، وإنما يكون كل منهما في حيوان مباين لحيوان آخر في الحقيقة، والالتزام بوحدة حقيقتهما لا يناسب ما ذكره هو وغيره من اختلاف اللحوم باختلاف حيواناتها.

أما بناءً علي ما ذكرناه من قرب عدم اختلافها بذلك فمن القريب عدم اختلاف الأبيض مع الأحمر منها في الحقيقة بنظر العرف.

وإن لم يبعد اختلاف لحم السمك المعهود لنا عن لحم الحيوان البري، كما سبق.

فلاحظ.

وأما اختلاف أجناس الألبان باختلاف جنس الحيوان الذي ينتجها فهو الذي صرح به الشيخان في المقنعة والمبسوط والخلاف، وجري عليه جماعة كثيرة ممن تأخر عنهما.

وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه»، وفي الغنية والتذكرة الإجماع عليه.

ولعل الإشكال فيه أظهر.

قال في الجواهر: «وقد يحتمل اتحاد الجنس في بعضها وإن اختلف اللحمان».

ص: 196

(197)

التمر بانواعه جنس واحد

(مسألة 4): التمر بأنواعه جنس واحد (1)، والحبوب كل واحد منها

---------------

بل يظهر من الشيخ في النهاية أن اللبن بجميع أصنافه جنس واحد، وليس كاللحم.

قال: «ولا بأس ببيع اللبن والسمن والزبد كله مثلاً بمثل، ولا يجوز نسيئة، والتفاضل فيه لا يجوز نقداً ولا نسيئة.

واللحمان إذا اتفق أجناسها جاز بيع بعضها مثلاً بمثل يداً بيد.

ولا يجوز ذلك نسيئة، ولا يجوز التفاضل فيها لا نقداً ولا نسيئة.

وإذا اختلف أجناسها جاز التفاضل فيها نقداً، ولا يجوز نسيئة، مثل رطل من لحم الغنم برطلين من لحم البقر نقداً، ولا يجوز نسيئة».

وأما اختلاف أجناس الدهون باختلاف أجناس الحيوان المأخوذة منه فهو المصرح به في التذكرة والقواعد، وقد يظهر من المبسوط.

بل قد يظهر من بعضهم المفروغية عنه.

لنظير ما سبق في اللحم واللبن.

والأمر فيها أشكل، بل اتحاد حقيقتها عرفاً قريب جداً.

وإن صعب الجزم به.

(1) بلا خلاف أجده فيه.

كذا في الجواهر.

وهو المطابق لما عليه العرف، المعتضد بإطلاق صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: لا يباع مختومان من شعير بمختوم من حنطة، ولا يباع إلا مثلاً بمثل.

والتمر مثل ذلك»(1) ، وموثق سماعة: «سألته عن الطعام والتمر والزبيب.

فقال: لا يصلح شيء منه اثنان بواحد.

إلا أن يصرفه نوعاً إلي نوع آخر»(2) ، وفي صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «ويكره قفيز لوز بقفيزين، وقفيز تمر بقفيزين...»(3).

ومثله ما ورد في الرطِب والجاف، كالرطب والتمر والعنب والزبيب(4).

وأظهر من ذلك ما تضمن المنع من التفاضل في التمر تبعاً للاختلاف في الجودة والرداءة(5) ، لأن الغالب في الاختلاف في جودة التمر ورداءته هو

********

(1) الكافي: ج: 5 ص 187، التهذيب: ج: 7 ص 94. وأخرجه في وسائل الشيعة مختلف النسخة ج: 12 باب: 8 من أبواب الربا حديث: 4.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب الربا حديث: 5، 3.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب الربا.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الربا.

ص: 197

جنس، فالحنطة (1) والأرز والماش والذرة والعدس وغيرها كل واحد جنس (2)، والفلزات من الذهب والفضة والصفر والحديد والرصاص وغيرها كل واحد منها جنس برأسه (3).

-

اختلاف صنفه.

هذا وفي المبسوط: «والتمر والبلح جنسان، فكل جنسين يجوز التفاضل فيهما يداً بيد، والنسيئة علي ما مضي من الكراهية».

وهو غريب جداً.

بل لا يناسب ما في النهاية من عدم جواز بيع البسر بالتمر متفاضلاً، إذ الفرق بين البلح والبسر لو تم لا يعتد به عرفاً.

وما أبعد ما بينه وبين ما في التذكرة من أن الطلع كالثمرة في الاتفاق وإن اختلفت أصولهما، وطلع الفحل كطلع الإناث.

وإن كان ما في التذكرة لا يخلو عن إشكال أيضاً، لأن الطلع مبدأ تكون التمر من دون أن يكون مبدأ وجود حقيقته عرفاً، بخلاف البلح والتمر.

اللهم إلا أن يستفاد التحريم فيه من التعليل في الحنطة والشعير بأن أصلهما واحد.

نظير ما تقدم في الدنان والرز عند الكلام في اتحاد العَلس والسُلت مع الحنطة والشعير.

فلاحظ.

هذا ومن بعض ما سبق يظهر جريان حكم الجنس الواحد علي ثمرة الكرم من حين تصير حصرماً حتي تصير زبيباً.

وأما قبل أن تصير حصرماً فيجري فيها ما سبق في الطلع.

وإن كان الظاهر عدم صلوحها لأن ينتفع بها، لتباع وزناً أو كيلاً.

(1) ويلحق بها الشعير شرعاً، كما سبق.

وسبق أيضاً الكلام في اتحاد العَلس والسُلت مع الحنطة والشعير.

(2) الظاهر عدم الإشكال فيه.

لمطابقته لمقتضي العرف.

(3) بلا إشكال ظاهر.

لعين ما سبق.

ص: 198

(199)

الكلام في اجناس الحيوانات

(مسألة 5): الضأن والمعز جنس واحد (1)، والبقر والجاموس جنس واحد (2)، والإبل العراب والبخاتي جنس واحد (3).

والطيور كل صنف يختص باسم فهو جنس واحد في مقابل غيره (4)، فالعصفور غير الحمام (5)، وكل ما يختص باسم من الحمام جنس في مقابل غيره (6)، فالفاختة والحمام

---------------

(1) بلا خلاف أجده فيه.

كذا في الجواهر.

وفي الغنية والتذكرة الإجماع عليه.

ولا يخلو عن إشكال.

ومجرد عموم لفظ الغنم والشاة لهما لا يكفي في ذلك ما لم يحكم العرف بوحدة حقيقتهما.

والإنصاف أن المعز أقرب عرفاً لمثل الغزال منه للضان، مع عدم الإشكال ظاهراً في مباينة مثل الغزال للضان.

ومجرد اشتراك المعز والضان في كونهما أهليين لا يكفي في اتحاد حقيقتهما عرفاً.

(2) كما هو المعروف بينهم المدعي عليه الإجماع في الغنية والتذكرة.

وقد يشهد له العرف الذي هو المرجع في المقام، علي إشكال.

(3) كما صرح به جماعة، ونفي الخلاف فيه في الجواهر، وادعي الإجماع عليه في الغنية والتذكرة.

ولا يتضح وجهه بعد النظر في اختلاف تركيبهما، فإن الفرق بينهما أظهر من الفرق بين الحمار والفرس، مع عدم الإشكال ظاهراً في اختلاف نوع الأخيرين وحقيقتهما عرفاً.

ومجرد اشتراكهما في اسم الإبل وفي نوع الانتفاع بهما في بلادهما في الجملة لا يكفي في اتحاد حقيقتهما عرفاً.

ولاسيما مع قرب كون المنسبق والمفهوم من إطلاق الإبل هو العراب، وعدم فهم البخاتي منه إلا بتقييده بالخراساني، نظير الماء المضاف.

فلاحظ.

(4) لا مجال للبناء علي ذلك بعمومه، لأن بعض الأسماء قد تخص بعض أصناف الجنس الواحد عرفاًً.

(5) بلا إشكال ظاهر.

لمطابقته لمقتضي العرف.

(6) مما سبق يظهر حال الكبري المذكورة، فإن تحديد الجنس تابع للعرف

ص: 199

المتعارف جنسان (1) والسمك جنس واحد علي قول (2) وأجناس علي قول آخر (3) وهو أقوي.

(مسألة 6): الوحشي من كل حيوان مخالف للأهلي (4) فالبقر الأهلي

---------------

لا للاسم.

(1) كما في الشرائع وعن التحرير وفي المبسوط والتذكرة والدروس أنها جنس واحد، قال في التذكرة: «لشمول اسم الحمام لها وتقاربها في المنافع».

وهو كما تري ليس معياراً في الوحدة والتعدد.

بل المعيار نظر العرف، وهو قاض بالتعدد.

وكذا الحال في أنواع الطيور الصغيرة والكبيرة، كالقبرة والزرزور، والصقر والغراب وغيرها.

(2) اختاره في التذكرة والقواعد وغيرها.

وفي الأول: «لشمول اسم السمك للكل.

والاختلاف بالعوارض لا يوجب الاختلاف في الحقيقة».

ويظهر الإشكال في الأول مما سبق.

وفي الثاني بأن الاختلاف بينها ليس بالعوارض بل بالخصوصيات التابعة للذات.

(3) اختاره في المبسوط والخلاف والشرائع والتحرير وغيرها.

وقد يظهر من بعض كلماتهم أن الوجه فيه اختصاص كل منها باسم ويظهر الإشكال فيه مما سبق أيضاً، فإن الأصناف من كل جنس تختلف باسم يخص أحدها.

كأصناف الحيوان والتمر والعنب وغيرها.

ومن هنا يتعين الرجوع للعرف في التفريق بين الخصوصيات الموجبة لاختلاف الجنس والخصوصيات الزائدة عليها مما يوجب اختلاف أصناف الجنس الواحد.

والإنصاف إن اختلاف أقسام السمك ليس أشد من اختلاف الضان عن المعز، والجاموس عن البقر.

ومن ثم يصعب الجزم بأحد الأمرين.

نعم تقدم أنه مع الشك يجري حكم اختلاف الجنس عملاً بعمومات الصحة.

(4) كما صرح به في الشرائع، ويظهر من بعض كلماتهم.

بل ظاهر التذكرة

ص: 200

يخالف الوحشي (1) فيجوز التفاضل بين لحميهما، وكذا الحمار الأهلي والوحشي (2)، والغنم الأهلي والوحشي (3).

-

الإجماع علي الكبري المذكورة.

لكن لا طريق لإثبات ذلك، لأن الفرق بالأهلية والوحشية ليس معياراً في تعدد الحقيقة عرفاً، بل هو من سنخ الحالات الخارجة عن الذات.

وعلي ذلك يتعين الرجوع للعرف في الصغريات علي اختلافها.

(1) كما صرح به جماعة، وفي الغنية وجامع المقاصد وظاهر التذكرة الإجماع عليه.

والذي يظهر من كلام اللغويين وغيرهم أن البقر الوحشي نوع من الظباء الكبيرة، كالمهاة والوعل واليحمور والأيل.

وعليه لا إشكال في مخالفتها للبقر الأهلي في الجنس عرفاً.

(2) كما هو مقتضي عموم معقد إجماع التذكرة المتقدم.

ولم يتضح الوجه فيه.

لأن تقارب هيئتها تناسب وحدة حقيقتهما عرفاً.

بل لا إشكال في أن الفرق بينهما أقل من الفرق بين الضان والماعز والإبل العراب والبخاتي، بل حتي بين البقر والجاموس.

(3) الظاهر أن حاله حال سابقه أو قريب منه.

ثم إن الأثر للنزاع في اختلاف الحيوانين في الجنس يظهر بناءً علي ما سبق منهم من تبعية اللحم واللبن والدهن في الجنس لحيوانه، حيث لا يجوز التفاضل بين لحميهما ولبنيهما ودهنيهما في البيع.

ولذا تعرضوا لحال الحيوانات من أجل بيان حال الأمور المذكورة.

وقد تقدم منا الكلام في المبني المذكور.

هذا إذا كان البيع بين اللحمين الخالصين، أما إذا كان اللحم مشتملاً علي أو العظم أو الشحم أو غيرهما، فالأثر المذكور يتوقف علي وحدة جنس تمام ما يحويه الحيوان وقد تقدم الكلام في ذلك.

ولا يظهر الأثر في بيع نفس أحد الحيوانين بالآخر إلا فيما إذا كان الحيوان بنفسه يباع كيلاً، أو وزناً كما هو الشايع في السمك.

وربما حصل في عصورنا في بعض

ص: 201

المعيار في الجنس الواحد

(مسألة 7): المشهور أن كل أصل مع ما يتفرع عنه جنس واحد (1)، وكذا الفروع بعضها مع بعض.

ولا يخلو من إشكال.

والأظهر أن تفرع الفرع إن كان من قبيل تبدل الصفة فهما جنس واحد، كالحنطة والدقيق

---------------

الحيوانات الأخر إذا بلغ حداً يكون معه الحيوان من المكيل الموزون عرفاً.

فلاحظ.

(1) كما في القواعد والتذكرة.

ويظهر من المقنعة والمبسوط والنهاية وغيرها الجري عليه في الجملة قال في التذكرة: «الأصل مع كل فرع له واحد.

وكذا فروع كل أصل واحد.

وذلك كاللبن الحليب مع الزبد والسمن والمخيض واللباء والشيراز والأقط والمصل والجبن والترجين والكشك والكامخ، والسمسم مع الشيرج والكُسب مع الراشي، وبزر الكتان مع حبه، والحنطة مع الدقيق والخبز علي اختلاف أصنافه من الرقاق الفرن وغيرهما ومع الهريسة، والشعير مع السويق، والتمر مع السيلان والدبس والخل منه والعصير منه، والعنب مع دبسه وخله، والعسل مع خله، والزيت مع الزيتون، وغير ذلك.

عند علمائنا أجمع.

فلا يجوز التفاضل... ولا فرق في ذلك بين أن يباع الأصل مع نوعه، أو بعض فروعه مع البعض».

قال في الجواهر: «مؤيداً ذلك كله بعدم العثور علي خلاف في شيء من القاعدة المزبورة وفروعها إلا ما عن الأردبيلي...».

لكن ذلك لا يكفي في تأييد الإجماع المدعي بعد عدم التعرض للكبري المذكورة في كلام كثير منهم، خصوصاً القدماء.

غاية الأمر أنهم تعرضوا لبعض صغرياتها، كاللبن مع السمن والزبد، والحنطة والشعير مع الدقيق ومع السويق، والتمر مع دبسه، والعنب والزبيب مع عصيرهما، وغير ذلك، مع نحو من الاضطراب والتردد في بعض الصغريات.

قال في المبسوط: «ويجوز بيع خلّ الزبيب بخلّ العنب مثلاً، ولا يجوز متفاضلاً.

وقال قوم: لا يجوز بيعه أيضاً مثلاً بمثل، لأن في خلّ الزبيب ماء.

وهو قوي».

ص: 202

(203)

وهو كما تري، لأن وجود الماء في خلّ الزبيب يقتضي جواز التفاضل فضلاً عن التماثل، لأن وجود الضميمة من غير الجنس في أحد العوضين مانع من حصول الربا نصاً وفتوي.

كما إنه منع من بيع الحنطة بالفالوذق المتخذ من النشاء متماثلاً.

ثم قال: «أما الفالوذق فيجوز بيعه بالحنطة والدقيق متفاضلاً ما لم يؤد إلي التفاضل في الجنس، لأن فيه غير النشاء».

ومقتضي التعليل عدم جواز بيعه بحنطة أقل مما فيه من النشاء.

وعلي كل حال فهو لا يناسب ما ذكره أولاً، لعدم الفرق في الربا بين كون أحد الصنفين ثمناً ومثمناً.

علي أن الإجماع لا ينهض بالاستدلال في المقام، لما هو المعلوم من استناد المجمعين في تطبيق كبري الاتحاد في الجنس علي الصغريات إلي اجتهادهم رأساً، أو إلي فهمهم ذلك من النصوص الواردة في المقام، وكلاهما غير حجة.

ومثل ذلك الاستدلال علي الكبري المذكورة بعموم تعليل جريان حكم الجنس الواحد علي الحنطة والشعير بأن الشعير من الحنطة، أو بأن أصلهما واحد(1).

إذ فيه: أنه لا يتضح عموم التعليل لبعض صغريات الكبري المذكورة، مثل الجبن مع الحليب الذي هو بعض منه، والفالوذج مع الدقيق المشتمل علي زيادة عليه، بل الظاهر أو المتيقن منه ما يرجع إلي تحول أحد الشيئين للآخر، الذي يكون في مثل اللبن الرائب مع الحليب، والذي يكون وضوح اتحاد الجنس فيه عرفاً مغنياً عن الاستدلال عليه بالتعليل المذكور.

وعلي ذلك يتعين النظر فيما تقتضيه القواعد العامة والنصوص الخاصة.

فنقول: سبق أن المعيار في وحدة الجنس ليس هو الاتحاد في الاسم، بل النظر

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب الربا حديث: 1، 2، 4.

ص: 203

العرفي كما يظهر مما سبق عند الكلام في اللحوم وغيرها أنه لا مانع عند العرف من اشتمال الجنس الواحد علي أجزاء مختلفة في الجنس، كاللحم والعظم في الحيوان.

وعلي ذلك فالفرع إن بقي حافظاً لأجزاء الأصل، كاللبن الرائب مع الحليب والراشي مع السمسم والدقيق النيء والمحمص مع حبه فالجنس محفوظ عرفاً.

ولابد من التماثل.

بل لا يبعد ذلك في العجين والخبز مع الحب أو الدقيق، لعدم الاعتداد عرفاً بالأجزاء المائية، خصوصاً في الخبز.

وكذا الحال في الفرعين إذا اشتركا في جزء واحد من أجزاء الأصل، كالجبن واللبن الرائب المجفف، الذي هو المراد من الشيراز فيما تقدم من التذكرة، والدهن والزبد، والمائين الذين يفرزان عند التجبين وتجفيف اللبن الرائب.

وإن فقد الفرع بعض أجزاء الأصل بوجه معتد به كالجبن واللبن الرائب المجفف مع الحليب، والدبس مع التمر، والعصير مع العنب، والنشاء مع أصله تعين جريان حكم الضميمة في أحد العوضين الربويين في المعاوضة بين الأصل والفرع، فيجوز التفاضل بينهما إذا نقص ما في الأصل من الجزء المشترك عن الفرع، ليكون الجزء الآخر من الأصل في مقابل الزيادة من الجزء المشترك في الفرع، علي ما يأتي في المسألة الثالثة عشرة إن شاء الله تعالي.

ولو كان الفرع مشتملاً علي إضافة جنس آخر كالفالوذج مع أصله فالأمر بالعكس، حيث يتعين الزيادة في الأصل عند المعاوضة بينه وبين الفرع، لتكون مقابل الجنس الآخر الذي يشتمل عليه الفرع.

ويجري نظير ذلك في الفرعين، كالدبس مع خله، حيث لا يصير الدبس خلّاً إلا بإضافة الماء وبعض الأجزاء إليه.

ولو كان كلا الفرعين مشتملاً علي إضافة أجزاء أجنبية عن الأصل، كالفالوذج وخبز اللحم، جاز التفاضل مطلقاً، لوجود الضميمة في كلا العوضين، علي ما يأتي في المسألة المذكورة إن شاء الله تعالي.

هذا ما تقتضيه القاعدة.

أما النصوص الخاصة فقد تضمن كثير منها النهي عن التفاضل بين الحنطة

ص: 204

والدقيق _(1).

وهو يناسب ما سبق ولا ينافيه.

نعم ورد في بعضها النهي عن التفاضل بين السويق والدقيق(2).

وقد اقتصر غير واحد من اللغويين في تفسير السويق علي أنه أمر معروف.

وذكر بعضهم أنه الناعم من دقيق الحنطة والشعير، وفي مجمع البحرين: «والسويق دقيق مقلو من الحنطة والشعير».

وعلي ذلك فهو مناسب لما سبق أيضاً.

نعم لو كان المراد به ما يضاف إليه شيء يحسّن طعمه ويسهل أكله من عسل أو غيره فقد ينافي ما سبق، حيث تكون الضميمة في أحد العوضين بمقتضي القاعدة رافعة لمحذور الزيادة في الآخر الذي هو من جنسه.

وقد يظهر ذلك من صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «قلت له: ما تقول في البر بالسويق ؟ فقال: مثلاً بمثل لا بأس.

قلت: إنه يكون له ريع أو يكون له فضل.

فقال: أليس له مؤنة ؟ فقلت له: بلي.

قال: هذا بذا»(3).

حيث قد يراد بذلك أنه مع التعاوض بينهما مثلاً بمثل يكون الدقيق أكثر من دقيق السويق في الحقيقة، لأن السويق يزيد حجمه أو وزنه بما يضاف إليه من عسل أو نحوه.

لكن الصحيح نفسه قد تضمن تعليل الحكم بما يناسب كون الزيادة في الدقيق في مقابل المؤنة في السويق الناشئة من إضافة الشيء الأجنبي له، أو من كلفة صنعه، وهو يناسب جواز الزيادة في العوض الآخر وإن كان من الجنس نفسه.

ومن ثم لا يخلو الصحيح عن إجمال أو إشكال.

فلا مجال للخروج به عن مقتضي القاعدة.

ولاسيما مع احتمال عدم الاعتداد بما يضاف له عرفاً لقلته.

غاية الأمر الاقتصار به علي مورده.

كما أنه ورد في صحيح محمد بن مسلم الآخر عنه (عليه السلام): «قلت: فالرجل يدفع السمسم إلي العصار يضمن له لكل صاع أرطالاً [مسماة] قال: لا»(4).

وهو أيضاً لا

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الربا.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الربا حديث: 1، 4.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الربا حديث: 1، 3.

ص: 205

والسويق، وكالحليب واللبن والجبن (1).

وإن كان من قبيل تولد شيء من

---------------

ينافي في ما سبق، لأن المضمون إن كان هو الراشي فهو عين السمسم عرفاً كما سبق، وإن كان هو الدهن فحيث كان هو جزءاً من السمسم فلابد من إحراز عدم زيادة الدهن الذي في السمسم المدفوع عن الدهن المضمون، وكثيراً ما لا يتيسر ضبط ذلك.

علي أنه لم يتضح عموم الصحيح للوجهين معاً أو اختصاصه بالثاني.

إذ لعل المعهود من وظيفة العصار عند الإمام (عليه السلام) والسائل أحد الوجهين أو خصوص الأول، وعليه اتكل السائل فلم يذكر الأمر المضمون، فيكون مجملاً مردداً بينهما.

نعم في معتبر أبي الربيع: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تري في التمر والبسر الأحمر مثلاً بمثل.

قال: لا بأس.

قلت: فالبختج والعنب مثلاً بمثل.

قال: لا بأس»(1).

والبختج هو ماء العنب المطبوخ.

ومقتضي القائدة المتقدمة عدم اعتبار التماثل فيه، لأن البختج في واقعه جزء من العنب، حيث يفقده قشره وحبه بالعصر.

وذلك يقتضي جواز زيادة البختج علي العنب في المعاوضة، مع أن ظاهر الحديث عدم جوازه، لأن التقييد بالمماثلة وإن ورد في كلام السائل، إلا أنه بسبب ارتكاز اعتبار المماثلة في الربويين، فعدم ردع الإمام (عليه السلام) عن ذلك ظاهر في إقراره.

لكن في كفاية ذلك في استفادة الإقرار إشكال.

مع احتمال خصوصية المورد، لعدم الاعتداد عرفاً بالقشر والحب في المعاوضة.

ومن ثم يشكل الخروج عن مقتضي القاعدة المتقدمة.

فلاحظ.

(1) مما سبق يتضح أن الجبن واللبن المجفف متقومان بأحد جزئي الحليب والجزء الآخر هو الماء الذي ينفصل عند التجبين والتجفيف، وهما مختلفا الجنس عرفاً، وللثاني وجوده المعتد به في المعاوضة، فالمعاوضة بين الجبن والحليب مثلاً كالمعاوضة بين العسل والحليب الممزوج بالعسل، حيث لا مجال للبناء علي وجوب التماثل بينهما

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب الربا حديث: 2.

ص: 206

شيء فهما جنسان (1)، كالحليب والزبد والسمن.

ومن الأول السمسم والراشي، ومن الثاني السمسم والشيرج.

وكذا الحكم في الفروع بعضها مع بعض فالزبد والمخيض جنسان (2)، والسمن والزبد جنس واحد، والبسر والرطب والتمر جنس واحد، والتمر والخل جنسان (3).

والأحوط استحباباً العمل علي المشهور.

-

لاشتراكهما في العسل.

(1) لا إشكال في ذلك كبروياً، بحسب القاعدة، ويتجه العمل عليه في مثل بيع السمك ببيوضه لولا احتمال عموم التعليل في المنع من المعاوضة بين الحنطة والشعير مع التفاضل بأن أصل الشعير من الحنطة.

أما الصغريات التي ذكرها (قده) فلا تخلو عن إشكال، فإن الزبد والسمن جزء من الحليب عرفاً وكذا الشيرج مع السمسم وسائر الزيوت مع ما تستخرج منه.

ومجرد عدم تميزها عن بقية أجزاء الشيء الذي تستخرج منه في الحيز أو في اللون لا يجعلها من سنخ المتولد المباين لما تولد منه جنساً بنظر العرف.

ونظيرها في ذلك العسل مع الحليب الممزوج به لو تيسر فرزه عنه.

(2) ما سبق في الجبن واللبن مع الحليب يجري هنا، كما يظهر مما سبق في السمن والزبد من عدم مباينتهما للحليب، بل هما جزء منه.

نعم المخيض المنزوع منه الزبد مباين للزبد والسمن.

(3) مما سبق يظهر الإشكال في ذلك إذا كان للأجزاء التمرية في الخل وجود معتد به عرفاً، كما هو غير بعيد حيث يتعين حينئذ البناء علي اشتراك كل منهما في بعض أجزاء التمر، وانفراد كل منهما بجزء يختص به.

ويجري عليه حكم وجود الضميمة في كلا العوضين، الذي يجوز معه التفاضل، كما سبق، ويأتي في المسألة الثالثة عشرة إن شاء الله تعالي.

نعم يتجه ذلك لو لم يحمل الخل أجزاء تمرية، بل تكون خلّيته لمجرد

ص: 207

حكم اختلاف الشيء في حال موزوناً وفي حال مكيلاً

(مسألة 8): إذا كان الشيء مما يكال أو يوزن وكان فرعه لا يكال ولا يوزن جاز بيعه مع أصله بالتفاضل (1)، كالصوف الذي هو من الموزون والثياب المنسوجة منه التي ليست منه، فإنه يجوز بيعها به مع التفاضل.

وكذلك القطن والكتان والثياب المنسوجة منهما.

---------------

التفاعل بالتمر.

وأظهر من ذلك الدبس مع خله حيث يتعين جريان حكم وجود الضميمة في أحد العوضين لو كان التعاوض بينه وبين الدبس، ولو كان التعاوض بينه وبين التمر جري حكم وجود الضميمة في كلا العوضين، كما يظهر مما سبق.

نعم يتجه تعدد الجنس لو كان التحول في الخل موجباً لتبدل الحقيقة وتعددها عرفاً، لا بمعني الاستحالة، بل بمعني آخر.

اللهم إلا أن يستفاد من عموم التعليل في الحنطة والشعير بأن أصلهما واحد عدم ترتب الأثر علي اختلاف الحقيقة في مثل ذلك.

فتأمل جيداً.

(1) فقد صرح في النهاية والسرائر والنافع والتذكرة بجواز بيع الثوب بالغزل مع التفاضل.

ومقتضي تعليله في السرائر والتذكرة بعدم كون أحد العوضين ربوياً عموم الجواز لكل ما إذا خرج بالصنعة عن المكيل والموزون، كما هو مقتضي إطلاق الوسيلة والقواعد وصريح الرياض.

ويقتضيه عمومات الصحة بعد ظهور أدلة اشتراط الكيل والوزن في الربا في لزوم كون العوضين معاً مكيلين أو موزونين.

مضافاً إلي صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بيع الغزل بالثياب المنسوجة والغزل أكثر وزناً من الثياب.

قال: لا بأس»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 11 من أبواب الربا حديث: 1.

ص: 208

(209)

(مسألة 9): إذا كان الشيء في حال موزوناً أو مكيلاً وفي حال أخري ليس كذلك لم يجز بيعه بمثله متفاضلاً في الحال الأولي وجاز في الحالة الثانية (1).

-

وقد تضمن الكبري المذكورة مرسل علي بن إبراهيم(1) ، بناء علي روايته عن المعصوم.

وإن لم يبعد خلافه، كما سبق في ذيل الكلام في اشتراط اتحاد الجنس في الربا.

هذا وحيث سبق أن الصحة مقتضي العمومات تعين عمومها لعكس الفرض، وهو ما إذا كان الفرع مكيلاً أو موزوناً والأصل غير مكيل ولا موزون، كالجوز مع لبه.

وكذا إذا كان أحد الفرعين مكيلاً أو موزوناً دون الآخر، كالخبز الذي يباع في عصورنا عدداً مع الدقيق أو البرغل الذين يباعان وزناً.

(1) لاختلاف الحالتين في تحقق الربا المحرم وعدمه.

وقد تقدم نظير ذلك في المسألة الثانية من الفصل الثالث عند الكلام في عدم جواز بيع المكيل والموزون جزافاً.

ويترتب علي ذلك وعلي المسألة السابقة جواز بيع الجنس المذكور في الحالة التي لا يكون فيها مكيلاً ولا موزوناً بجنس مثله في الحالة التي يكون فيها مكيلاً أو موزوناً، كبيع الثمرة علي الشجرة بجنسها موزوناً في السوق وإن لزم التفاضل بينهما.

نعم قد ينافي ذلك ما ورد في بيع الأشياء المحلاة بالذهب أو الفضة من اعتبار كون الذهب أو الفضة أكثر من الحلية، كموثق أبي بصير: «سألته عن السيف المفضض يباع بالدراهم.

فقال: إذا كانت فضته أقل من النقد فلا بأس»(2) وغيره.

لكن لم يتضح أن الحلية في مثل ذلك تباع جزافاً.

علي أن من القريب خصوصية الذهب والفضة، لكونهما من الأثمان المبنية علي الضبط، وبيعهما جزافاً حالة شاذة،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب الربا حديث: 12.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 8.

ص: 209

الكلام في بيع لحم الحيوان به حياً

(مسألة 10): الأحوط عدم جواز بيع لحم حيوان بحيوان حي بجنسه (1)،

---------------

وليسا كغيرهما مما من شأنه أن يباع جزافاً في بعض الأحوال.

فلاحظ.

(1) فقد منع منه في المبسوط والخلاف والمهذب والغنية والوسيلة والشرائع والدروس وغيرها، وهو المتيقن ممن يأتي منهم إطلاق المنع من بيع الغنم باللحم من دون تقييد منهم بكونه من جنسه.

وفي التذكرة وعن غاية المرام أنه المشهور.

بل في الخلاف والغنية الإجماع عليه، وقد يظهر من محكي إيضاح النافع.

وفي المختلف بعد أن حكي عن ابن إدريس الجواز قال: «وابن إدريس قوله محدث لا يعول عليه، ولا يثلم في الإجماع».

وفي الدروس أنه شاذ.

واستدل له بعد الإجماع المذكور بموثق غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه (عليه السلام): «أن علياً (عليه السلام) كره بيع اللحم بالحيوان»(1) ، والنبوي: «أن النبي نهي عن بيع اللحم بالحيوان»(2) ، ومرسل دعائم الإسلام عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أنه نهي عن بيع اللحم بالحيوان»(3).

لكن ضعف الأخيرين مانع من التعويل عليهما.

فلم يبق إلا حديث غياث.

والاستدلال به مبني علي حمل الكراهة علي الحرمة ولو بضميمة ما تضمن أن علياً (عليه السلام) لا يكره الحلال(4).

هذا وقد ذهب إلي الجواز في السرائر والنافع وكشف الرموز والتذكرة والتحرير ومحكي المفاتيح، ومال إليه في التنقيح ومحكي الكفاية.

وهو ظاهر الوسائل، مع تصريح جماعة منهم بالكراهة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 11 من أبواب الربا حديث: 1

(2) المستدرك للحاكم ج: 2 ص 35، الموطأ ج: 2 ص 655 وغيرهما.

(3) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 10 من أبواب الربا حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الربا حديث: 1.

ص: 210

(211)

وكأنه لقوة عمومات الصحة بعد عدم تحقق شروط الربا، لكون أحد العوضين غير موزون بنحو يهون لأجلها إهمال حديث غياث، خصوصاً بناءً علي عدم العمل بأخبار الآحاد كما هو مبني ابن إدريس أو حمله علي الكراهة، كما يظهر من النافع وغير واحد ممن بعده، حيث حكموا بها.

وأما ما تضمن أن علياً (عليه السلام) لا يكره الحلال فلا مجال للبناء علي عمومه، إذ لا إشكال في أنه صلوات الله عليه يكره الحلال المكروه، فيكون مجملاً، ويقتصر فيه علي مورده، وهو غير مسألتنا.

لكن في كفاية ذلك في حمل حديث غياث علي الكراهة المصطلحة إشكال.

ولاسيما بعد ذهاب جماعة من قدماء الأصحاب وأعيانهم إلي الحرمة، بنحو يظهر في فهمهم لها من الحديث، أو معروفيتها عندهم ولو من غيره.

ولعله لذا كان ظاهر القواعد والإرشاد وغيرهما التردد.

هذا وفي المختلف بعد أن قرب المنع، واستدل بالإجماع وحديث غياث، قال: «ولو قيل بالجواز في الحيوان الحي دون المذبوح، جمعاً بين الأدلة كان قوياً».

ووافقه في التفصيل المذكور في جامع المقاصد والمسالك والروضة ومحكي تعليق الإرشاد.

وهو كما تري! لظهور أن الجمع المذكور تبرعي.

مع أنه ليس في المقام دليلان متعارضان في المنع والجواز، بل ليس إلا القاعدة المقتضية للجواز، والإجماع والحديث المقتضيان للمنع عنده.

والقاعدة كما تقتضي الجواز في الحي، لعدم كونه موزوناً تقتضيه في المذبوح، إما لعدم كونه موزوناً، وتعارف بيعه جزافاً، كما هو الظاهر، وإما لاشتماله علي أجناس مختلفة.

ولا أقل من اللحم والعظم والجلد والصوف أو الشعر، فجوز بيعه بلحم أكثر من لحمه، وتكون الزيادة في اللحم في مقابل بقية الأجناس، كما يجوز بيعه بلحم وعظم مطلقاً، لارتفاع محذور الربا بالضميمة.

ولو غض النظر عن ذلك فلا تقتضي القاعدة المنع من البيع مطلقاً، بل مع التفاضل لا غير.

ص: 211

بل بغير جنسه أيضاً (1) كبيع لحم الغنم ببقرة وإن كان الأظهر الجواز في الجميع.

(مسألة 11): إذا كان للشيء حالتان حالة رطوبة وحالة جفاف، كالرطب يصير تمراً والعنب يصير زبيباً والخبز اللين يكون يابساً، يجوز بيعه جافاً بجاف منه ورطباً برطب منه متماثلاً (2)، ولا يجوز

---------------

أما الإجماع والحديث، فالمتيقن منهما الحيوان الحي، بل هما مختصان به.

وتعميم المنع للمذبوح لو تم إنما يكون لاستفادته منهما تبعاً بتنقيح المناط أو الأولوية العرفية.

وتنزيلهما علي خصوص المذبوح من أبعد البعيد، بل هو متعذر، خصوصاً في الإجماع، كما لعله ظاهر.

(1) فإن المنع فيه هو مقتضي إطلاق المنع من بيع الغنم باللحم في المقنعة والنهاية والمراسم، وحكي عن ابن الجنيد.

وهو مقتضي إطلاق النصوص المتقدمة.

نعم صرح جماعة بالجواز فيه، بل قطع به بعضهم، وفي الغنية والتنقيح وظاهر الخلاف الإجماع عليه.

بل يظهر من بعضهم حمل إطلاق من أطلق علي ما إذا اتحد الجنس.

وكأنه لابتناء الحكم عندهم في النصوص والفتاوي علي تجنب محذور الربا أو ما يشبهه، الذي لا مجال له مع اختلاف الجنس.

لكنه غير ظاهر بعد عدم لزوم الربا في المورد، لعدم كون أحد العوضين من الموزون.

بل يشكل فيه اتحاد الجنس عرفاً بعد تقوّم الحيوان عرفاً بالحياة.

مضافاً إلي ما سبق منّا في المسألة الثالثة من الإشكال في تعدد الجنس في اللحم عرفاً تبعاً لتعدد جنس الحيوان المأخوذ منه.

فلاحظ.

(2) عند علمائنا كما عن نهاية الأحكام، وقطعاً كما في التحرير.

ويشهد به النظر في كلمات الأصحاب.

وهو المتيقن من النصوص الكثيرة الدالة علي جواز بيع أحد

ص: 212

(213)

متفاضلاً (1).

وأما بيع الرطب منه بالجاف متماثلاً ففيه إشكال (2)،

---------------

فردي الجنسين بالآخر مثلاً بمثل(1).

(1) قطعاً.

وبه صرح جماعة بنحو يظهر في المفروغية عنه.

لأنه ربا.

(2) فقد اختلف في ذلك الأصحاب بل اختلف كلام بعضهم أو اضطرب فقد منع في المبسوط من بيع الخبز اللين باليابس مع التماثل والتفاضل، ووافقه في ذلك في المهذب، كما عد في المبسوط مما لا يجوز بيع بعضه ببعض الرطب بالتمر والعنب بالزبيب، والخبز اليابس بالخبز اللين، ثم ذكر أنه يجوز بيع الرطب بالتمر إذا كان موضوعاً علي الأرض ولم يبق في النخل.

وقال في النهاية: «ولا يجوز أيضاً بيع الرطب بالتمر مثلاً بمثل، لأنه إذا جف نقص»، وقال في موضع آخر: «ولا يجوز بيع البسر بالتمر متفاضلاً».

وظاهره جواز بيعه مثلاً بمثل، وقال في موضع ثالث منها: «ولا يجوز بيع العنب بالزبيب إلا مثلاً بمثل.

وتجنبه أفضل».

وأطلق في الخلاف جواز بيع الخبر بالخبز مثلاً بمثل بنحو قد يظهر في العموم لبيع اليابس بالرطب.

كما صرح باختصاص المنع ببيع الرطب بالتمر، دون العنب بالزبيب وبقية الثمار الرطبة بيابسها.

ومثله في ذلك ما في الغنية والشرائع والنافع وكشف الرموز، وكذا في نكت النهاية محاولاً توجيه الاختلاف المتقدم من النهاية.

وصرح في الاستبصار بحمل النصوص المانعة من بيع التمر بالرطب علي الكراهة دون الحظر.

وصرح في السرائر بالجواز في التمر والرطب، فضلاً عن غيرهما، حيث ادعي الإجماع علي الجواز فيه.

كما ذهب إلي عموم المنع العلامة في جملة من كتبه وفي التنقيح وظاهر الدروس وصريح اللمعتين والمسالك وظاهر جامع المقاصد وغيرها، وحكي عن ابن أبي عقيل وابن الجنيد وابن البراج وغيرهم.

وذكر غير واحد أنه المشهور.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8، 9 من أبواب الربا.

ص: 213

هذا ومن الظاهر أن ظاهر النصوص العامة المانعة من التفاضل بين العوضين في الجنس الواحد هو التفاضل بينهما حين المعاوضة، من دون نظر لما يؤول إليه كل منهما بعدها بنفسه أو بطارئ خارجي.

ولازم ذلك جواز المعاوضة بين الجاف والرطب مع التماثل في المقدار.

وأما النصوص الخاصة فهي علي طائفتين: الأولي: صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: لا يصلح التمر اليابس بالرطب من أجل أن التمر يابس، والرطب رطب، فإذا يبس نقص»(1) ، وموثق داود بن سرحان عنه (عليه السلام): «سمعته يقول: لا يصلح التمر بالرطب.

إن الرطب رطب والتمر يابس، فإذا يبس الرطب نقص»(2) ، وخبر داود الأبزاري عنه (عليه السلام): «سمعته يقول: لا يصلح التمر بالرطب، إن التمر يابس والرطب رطب»(3).

والثانية: موثق سماعة أو صحيحه: «سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن العنب بالزبيب.

قال: لا يصلح إلا مثلاً بمثل.

قال: والتمر بالرطب مثلاً بمثل»(4) ، ومعتبر أبي الربيع: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تري في التمر والبسر الأحمر مثلاً بمثل ؟ قال: لا بأس.

قلت فالبختج والعنب مثلاً بمثل ؟ قال: لا بأس»(5).

وهو وإن ورد في البسر لا في الرطب.

إلا أن عموم التعليل في الطائفة الأولي شامل له.

إذا عرفت هذا فقد اعتمد المانعون علي الطائفة الأولي.

ولو تم الاستدلال بها

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب الربا حديث: 1، 6، 7.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب الربا حديث: 3.

كذا رواه في التهذيب ج: 7 ص: 97 والاستبصار ج: 3 ص: 92.

وظاهر الوسائل روايته في الكافي كما فيهما لأن الموجود في الكافي طبعة دار الكتب الإسلامية: «قلت والتمر والزبيب.

قال: مثلاً بمثل».

ج: 5 ص: 190.

والظاهر التصحيف فيه، لاختلاف التمر والزبيب جنساً.

وقد يظهر من الكليني الالتفات لغرابة الحديث، لأنه قال بعد ذلك: «وفي حديث آخر بهذا الإسناد قال: «المختلف مثلان بمثل يداً بيد لا بأس».

ومن هنا كانت رواية الكافي المذكورة مورداً للريب، فلا يرفع بها اليد عن رواية التهذيبين. ولاسيما مع بُعد الخطأ فيها، لأنها وردت في الاستبصار في باب بيع الرطب بالتمر.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب الربا حديث: 5.

ص: 214

فاللازم البناء علي العموم لكل رطب ويابس، عملاً بعموم التعليل.

ولا مجال لما في السرائر من أنه من القياس الباطل.

ومثله ما سبق منه من دعوي الإجماع علي الجواز في غير الرطب والتمر، حيث لا مجال له بعد ما تقدم في نقل أقوالهم.

ويأتي تمام الكلام في ذلك.

أما المجيزون فقد اعتمدوا علي الطائفة الثانية، وحملوا من أجلها الطائفة الأولي علي الكراهة، وعمدتها موثق سماعة الوارد في الرطب والتمر اللذين هما مورد التعليل في الطائفة الأولي.

وقد استشكل فيه في كشف الرموز بجهالة السائل.

ويندفع بأنه لا يقدح في الاستدلال بعد إخبار سماعة به جازماً، حيث يمكن استناده في إخباره للحس أو الحدس القريب منه.

ومثله ما في الوسائل وغيره من احتمال كون المراد بقوله (عليه السلام): «لا يصلح إلا مثلاً بمثل» المماثلة في الصنف يعني: لا يصلح إلا بيع العنب بالعنب وبيع الزبيب بالزبيب، فيرجع إلي عدم جواز الاختلاف في الرطوبة والجفاف.

بل في مجمع الفائدة أن ذلك هو الأظهر.

إذ فيه: أن الشائع في النصوص إطلاق المماثلة بلحاظ المقدار.

ولو كان المراد ذلك لكان المناسب: أن يقول: لا.

فإنه أخصر وأوضح.

علي أن ذلك لا مجال له في ذيل الحديث المتضمن لحكم التمر والرطب.

هذا ويظهر من الشرائع ترجيح الطائفة الأولي لكونها أشهر.

وفيه: أولاً: أنه لم يثبت مرجحية الأشهرية، بل الثابت هو ترجيح المشهور المجمع علي روايته علي الشاذ النادر، وذلك غير حاصل في المقام.

وثانياً: أن الترجيح فرع استحكام التعارض، ولا مجال له مع إمكان الجمع العرفي، كما هو الحال في المقام حيث يسهل حمل الكراهة وعدم الصلاح في الطائفة الأولي علي الكراهة المصطلحة بقرينة الطائفة الثانية.

ص: 215

ودعوي: أن ذلك لا يناسب التعليل في الطائفة المذكورة بلزوم اختلاف المقدار بسبب الجفاف الراجع إلي لزوم الربا المعلوم حرمته.

مدفوعة بأن التعليل المذكور لا يرجع إلي لزوم الربا حقيقة، لما هو المعلوم من نصوص شرح الربا في المعاملة أن المعيار فيه التفاضل الفعلي حين المعاملة غير الحاصل في المقام، لا التفاضل التقديري بلحاظ الطوارئ، ولذا لا إشكال في المقام في عدم جواز الزيادة في الرطب بحيث يساوي الجاف إذا جف.

بل مرجع التعليل إلي حصول ما يشبه الربا، ولا دليل علي النهي عنه ومانعيته من صحة البيع إلا هذه النصوص التي يمكن حملها علي الكراهة بقرينة الطائفة الثانية.

علي أن مقتضي عموم التعليل عدم جواز المعاوضة مع جفاف العوضين معاً أو رطوبتهما كذلك، إذا كان من شأن أحدهما أن يجف بمرتبة زائدة علي جفاف الآخر، بحيث يلزم التفاضل بينهما تقديراً.

ولا يمكن البناء علي ذلك، لعدم انضباطه.

وأما ما في الجواهر من أنه إذا لم يعلم وقت البيع بحصول التفاضل بعد ذلك فلا مخرج عما يقتضي الصحة من النصوص وغيرها بعد عدم التفاضل حين البيع.

ففيه: أنه بعد فرض تقديم التعليل علي النصوص الظاهرة في الاكتفاء بالصحة بعدم التفاضل حين البيع، والبناء علي اعتبار عدم التفاضل مطلقاً ولو بعد البيع، فلابد من إحراز ذلك، ولا طريق لإحرازه غالباً لعدم الانضباط، كما ذكرنا.

ولو فرض إحرازه بالأصل، لدعوي أن مقتضي الاستصحاب بقاء التساوي وعدم حصول التفاضل بعد البيع.

فغايته البناء علي صحة المعاملة ظاهراً حين البيع مع إناطة صحتها واقعاً بعدم حصول التفاضل واقعاً، ولا يظن منهم البناء عليه، بل هو خلاف المقطوع به بعد النظر في النصوص والفتاوي ومرتكزات المتشرعة وعملهم.

ومن هنا قد يدعي إجمال التعليل والاقتصار فيه علي مورده، وهو التمر والرطب، كما سبق من الخلاف والشرائع وغيرهما وإن كان كلامهم لا ينهض بتوجيهه، لأنهم

ص: 216

أغفلوا التعليل، ولم يشيروا للإشكال فيه.

بل عموم التعليل المذكور لا يناسب ما سبق منهم من اعتبار التماثل بين الشيء وفرعه، كالحليب والأقط وغيرها.

وإن سبق الإشكال فيه.

وكيف كان فالتعليل المذكور لا يمنع من حمل الطائفة الأولي علي الكراهة بقرينة الطائفة الثانية، بل يتعين البناء علي ذلك جمعاً بين الطائفتين.

هذا وفي صحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في حديث:

«وكره أن يباع التمر بالرطب عاجلاً بمثل كيله إلي أجل، من أجل أن الرطب ييبس، فينقص من كيله» (1) .

وظاهره تعجيل التمر وتأجيل الرطب.

وحيث كان المراد به أن الرطب ينقص بعد التسليم فلا خصوصية في ذلك للتأجيل، وهو خلاف ظاهر الحديث.

نعم لو كان المراد به تعجيل الرطب وتأجيل التمر أمكن عرفاً خصوصية التأجيل بلحاظ أن التفاضل وإن لم يحصل عند البيع، إلا أنه يحصل حين انتفاع من صار له التمر بالتمر واستفادته منه، لأن الرطب المقبوض سابقاً ينقص حينئذ.

لكن حمل الصحيح علي تعجيل الرطب خلاف ظاهره.

ومن هنا لا يخلو مفاد الصحيح عن إشكال.

وعلي كل حال فهو إن حمل علي الأول كان مفاده مناسباً للطائفة الأولي فيجري فيه ما سبق فيها.

وإن حمل علي الثاني أمكن تخصيصه للطائفة الثانية لكن لا شاهد علي حمله عليه، لينظر في تخصيصه لها.

والحاصل: أن المتعين جواز المعاوضة بين الجاف والرطب في متحد الجنس مع التماثل في المقدار.

ثم إنه لا فرق في ذلك بين الرطوبة الذاتية كما في الرطب والعنب والعرضية كما في الجاف المبلول أو الموضوع في جوّ رطب عملاً في الأول بالعمومات والطائفة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب الربا حديث: 2.

كذا رواه في من لا يحضره الفقيه ج: 3 ص: 178.

ورواه في تهذيب الأحكام ج: 7 ص: 96 هكذا: «من أجل أن التمر ييبس فينقص من كيله».

والظاهر أنه تصحيف.

وإن كان هو الذي أثبته في الوسائل، ورواه عن الصدوق والشيخ معاً.

ص: 217

كيفية التخلص من الربا

والأظهر الجواز علي كراهة.

ولا يجوز بيعه متفاضلاً حتي بمقدار الزيادة، بحيث إذا جف يساوي الجاف (1).

(مسألة 12): إذا كان الشيء يباع جزافاً في بلد (2)، وكيلاً (3) في آخر، فلكل بلد حكم نفسه (4)، وجاز بيعه متفاضلاً في الأول، ولا يجوز في الثاني.

-

الثانية، وفي الثاني بالعمومات وحدها.

نعم إذا كان البلل مبايناً عرفاً لموضوعه كالماء المنضوح عليه من دون أن ينفذ فيه ويعد جزءاً منه فالمتعين المنع، لعدم التساوي في المقدار عرفاً.

فلاحظ.

(1) بلا إشكال ظاهر، وفي التحرير إطلاق الاتفاق علي عدم جواز التفاضل.

ويناسبه النظر في كلماتهم، حيث أطلق المانعون المنع من بيع الجاف بالرطب، وقيده المجوزون بصورة التماثل.

كما أنه مقتضي النصوص العامة الدالة علي اشتراط التماثل مع اتحاد الجنس، والطائفة الثانية المصرحة بذلك.

وكذا الطائفة الأولي منها، لأنها أطلقت المنع من بيع الرطب بالتمر، ومرجع التعليل فيها بعد الإطلاق المذكور إلي عموم التفاضل المانع من المعاوضة في الجنس الواحد للتفاضل الشأني بسبب إمكان جفاف الرطب، لا إلي اختصاص التفاضل المانع بالتفاضل بحسب ما يستقر عليه وضع العوضين.

كما لعله ظاهر.

بقي شيء.

وهو أنه ادعي في التحرير الاتفاق علي عدم جواز بيع الرطب بالتمر نسيئة.

ولم أعثر عاجلاً علي خصوصية التمر والرطب في ذلك والمذكور في كلماتهم مانعية شرط التأجيل مطلقاً، إما لكونه مستلزماً للزيادة الحكمية، أو حتي في غير الربويين.

وقد تقدم الكلام في الأمرين في أوائل الفصل.

فراجع.

(2) وكذا لو كان معدوداً في بعض البلدان.

(3) أو موزوناً.

(4) لأن مقتضي الإطلاق المقامي لنصوص اعتبار الكيل والوزن في تحقق الربا

ص: 218

(219)

هو الرجوع للعرف الذي تقع فيه المعاوضة أو البيع، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.

وقد تقدم نظير ذلك في المسألة الخامسة من الفصل الثالث في شروط العوضين، وتعرضنا هناك لكلماتهم هنا في مبحث الربا.

وعقبنا عليها بما يناسب المقام.

وبذلك يظهر حال البلد الواحد إذا اختلف الحال فيه باختلاف الأزمنة.

(1) قال في الجواهر بعد أن ذكر أمثلة الفروض المذكورة: «ولا خلاف بيننا في الجميع، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكي منه مستفيض جداً إن لم يكن متواتراً».

وتقتضيه عمومات صحة العقد والبيع بعد قصور أدلة الربا عن ذلك، لظهورها في فرض كون كل من فردي الجنس الواحد تمام العوض، بحيث يكون التعاوض بين كل منهما بمفرده.

مضافاً إلي النصوص المستفيضة، كصحيح عبد الرحمن بن الحجاج قال في حديث يتضمن النهي عن صرف الدراهم الجيدة بدراهم رديئة مع التفاضل: «فقلت له: أشتري ألف درهم وديناراً بألفي درهم.

فقال: لا بأس بذلك.

إن أبي كان أجرأ علي أهل المدينة مني، فكان يقول هذا، فيقولون: إنما هذا الفرار.

لو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم، ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار.

وكان يقول لهم:

نعم الشيء الفرار من الحرام إلي الحلال» (1) ، وصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: لا بأس بألف درهم ودرهم بألف درهم ودينارين إذا دخل فيها ديناران أو أقل أو أكثر فلا بأس به».(2)

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الصرف حديث: 1، 4.

ص: 219

موارد جواز الربا

(مسألة 14): لا ربا بين الوالد وولده (1)، فيجوز لكل منهما بيع

---------------

ومقتضي إنكار المخالفين علي ذلك بأنه الفرار الاعتراف بعدم حصول حدود الربا فيه مع حصول فائدته، وهو كاف في البناء علي حليته، إذ لا منشأ للبناء علي حرمة ما يحصل به فائدة الحرام إلا القياس المرفوض.

ولاسيما أن تحريم الربا المعاملي حكم تعبدي صرف لا يظهر وجهه للعقلاء ولا للعرف، فيتعين الوقوف عند حدوده المستفادة من الأدلة التعبدية.

(1) إجماعاً محكياً مستفيضاً إن لم يكن متواتراً صريحاً وظاهراً.

بل يمكن تحصيله.

كذا في الجواهر وعده في الانتصار من متفردات الطائفة.

ولم يعرف الخلاف فيه إلا من المرتضي في الموصليات، عملاً بعموم الكتاب، مع حمل النصوص الآتية علي النفي بداعي النهي، نظير قوله تعالي: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ)(1) ، كما صرح بذلك في الانتصار، ثم قال فيه: «ثم لما تأملت ذلك رجعت عن هذا المذهب، لأني وجدت أصحابنا مجمعين علي نفي الربا بين من ذكرناه، وغير مختلفين فيه في وقت من الأوقات، وإجماع هذه الطائفة حجة، ويخص بمثله ظواهر الكتاب».

ويشهد به مضافاً إلي ذلك النصوص، كخبر عمرو بن جميع، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

ليس بين الرجل وولده ربا، وليس بين السيد وعبده ربا» (2) ، وخبر زرارة أو محمد بن مسلم الآتي.

ولا يقدح ضعف سندهما بعد ظهور اعتماد الأصحاب عليهما، خصوصاً في مثل هذه المسألة التي كان حكمها مخالفاً لعموم أدلة حرمة الربا، وانفردت به الطائفة عن غيرها، حيث لا يمكن عادة انفرادهم حينئذ إلا تعويلاً علي أدلة واضحة قوية.

ومجرد عدم نصهم علي وثاقة بعض رجال أسانيد نصوص المسألة لا ينافي قوتها

********

(1) سورة البقرة الآية: 197.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب الربا حديث: 1.

ص: 220

(221)

الآخر مع التفاضل (1).

وكذا بين المولي ومملوكه (2)، وبين الرجل

---------------

في نفسها، ولو بسبب تسالمهم علي روايتها وعلي العمل بها في مثل هذا الحكم المهم العملي من الصدر الأول وفي عصور الأئمة (صلوات الله عليهم).

بل الإنصاف أن اعتمادهم علي هذه النصوص وتسالمهم علي العمل بها في هذا الحكم المهم المخالف للقاعدة كاشف عن وثاقة أسانيد بعضها، لما هو المعلوم من طريقتهم من عدم العمل بخبر غير الثقة.

ولاسيما مع أن السيد المرتضي مع عدم تعويله علي أخبار الآحاد لم يطرح هذه النصوص، بل حاول تأويلها بما سبق، وإن كان بعيداً في نفسه، بل يمتنع حمل النصوص عليه عرفاً بالنظر لقرائن الأحوال، كما يظهر بأدني ملاحظة لها وتدبر فيها.

ومن ثم لا ينبغي التوقف في الحكم.

(1) كما هو مقتضي إطلاق جماعة وصريح آخرين.

لإطلاق معاقد الإجماعات والنصوص.

ولم يعرف الخلاف فيه إلا من ابن الجنيد، حيث قال كما في المختلف: «لا ربا بين الوالد وولده إذا اخذ الوالد الفضل.

إلا أن يكون له وارث، أو عليه دين».

وهو خال عن الدليل بعد ما سبق.

وقد رماه غير واحد بالشذوذ.

(2) إجماعاً بقسميه.

كذا في الجواهر.

وعدّه في الانتصار من متفردات الإمامية علي نحو ما سبق في الوالد وولده.

ويقتضيه مضافاً إلي ما سبق آنفاً صحيح علي بن جعفر المروي في الفقيه: «أنه سأل أخاه موسي بن جعفر عن رجل أعطي عبده عشرة دراهم علي أن يؤدي العبد كل شهر عشرة دراهم أيحل ذلك ؟ قال: لا بأس»(1).

وزاد في صحيحه المروي في كتابه: «وسألته عن رجل أعطي رجلاً مائة درهم يعمل بها علي أن يعطيه خمسة دراهم أو أقل أو أكثر هل يحل ذلك ؟ قال: هذا الربا محضاً»(2).

ولعل عدم تعرض الشهيدين له في اللمعتين لعدم ملكيته ولو بنظرهما، فهو

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب الربا حديث: 6، 7.

ص: 221

وزوجته (1)، وبين المسلم والحربي (2)

---------------

خارج عن عموم حرمة الربا موضوعاً، ولا حاجة لذكره، وإلا فمن البعيد خلافهما في ذلك.

ومقتضي إطلاق النص والفتوي جواز أخذ الفاضل لكل منهما نظير ما سبق.

لكن في معتبر الجعفريات عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام): «قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ليس بيننا وبين خدامنا ربا، نأخذ منهم ألف درهم، ولا نعطيهم»(1).

إلا أن الخروج به عن إطلاق النصوص السابقة وإطلاق معاقد الإجماعات لا يخلو عن إشكال.

وإن كان ذلك غير مهم بعد خروج المسألة في عصورنا عن مورد العمل.

(1) إجماعاً أيضاً بقسميه.

كذا في الجواهر.

وعده في الانتصار من متفردات الإمامية علي نحو ما سبق.

ويقتضيه خبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: ليس بين الرجل وولده ولا بينه وبين عبده ولا بين أهله ربا...»(2) كذا رواه في الكافي.

ورواه في التهذيب عن زرارة ومحمد بن مسلم عنه(3) وفي الاستبصار عن زرارة عن محمد بن مسلم عنه (4)(عليه السلام)، ومرسل الفقيه: «قال الصادق (عليه السلام): ليس بين المسلم وبين الذمي ربا، ولا بين المرأة وبين زوجها ربا»(5).

ويجري فيهما ما سبق من أن مقتضي إطلاق النص والفتوي جواز أخذ الفاضل لكل منهما.

(2) إجماعاً بقسميه أيضاً إذا أخذ المسلم الفضل.

كذا في الجواهر.

ويقتضيه خبر عمرو بن جميع عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا نأخذ منهم ألف درهم بدرهم، ونأخذ منهم، ولا نعطيهم»(6).

نعم في خبر زرارة أو محمد بن مسلم المتقدم: «قلت: فالمشركون بيني وبينهم

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 7 من أبواب الربا حديث: 2.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب الربا حديث: 3، 4.

(4) الاستبصار ج: 3 ص 71.

(5و6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب الربا حديث: 5، 1.

ص: 222

(223)

عدم الفرق في الولد بين الذكر والأنثي

إذا أخذ المسلم الزيادة (1).

(مسألة 15): لا فرق في الولد بين الذكر والأنثي (2) والخنثي (3) علي الأقوي، ولا بين الصغير والكبير (4)، ولا بين الصلبي وولد الولد (5)، ولا

---------------

ربا؟ قال: نعم.

قلت: فإنهم مماليك.

قال: إنك لست تملكهم.

إنما تملكهم مع غيرك، أنت وغيرك فيهم سواء...».

لكن لابد من حمله علي الذميين، أو الكراهة، أو علي النفي المطلق، كما في الأقسام السابقة، فلا ينافي جواز أخذ الفضل منهم مع حرمة إعطائهم.

كل ذلك للجمع مع الخبر السابق والإجماع المتقدم.

(1) كما صرح بذلك جماعة.

وادعي عليه الإجماع في الخلاف والسرائر.

ويقتضيه مضافاً إلي ذلك خبر عمرو بن جميع المتقدم.

ومنه يظهر الإشكال في إطلاق نفي الربا بيننا وبينهم في كلام جماعة، بل هو صريح أو كالصريح من المهذب.

(2) كما نص عليه في التذكرة وجامع المقاصد.

وهو مقتضي إطلاق غيرهما، لعموم الولد لهما.

ومن ثم كان الوجه فيه إطلاق النصوص ومعاقد الإجماعات المتقدمة.

وفي الجواهر: «الأحوط الاقتصار علي الذكر، لأنه المنساق عرفاً».

وهو ممنوع.

إلا أن يريد به الانصراف البدوي غير المعتد به.

(3) لما سبق من عدم اختصاص الولد بالذكر، ليشك في انطباقه عليه في فرض كونه مشكلاً، بل حيث كان يعمّ غيره فهو صادق علي الخنثي قطعاً.

(4) قطعاً لإطلاق النصوص ومعاقد الإجماعات.

(5) كما صرح به في الدروس.

وهو ظاهر من أطلق.

لإطلاق النصوص ومعاقد الإجماعات، حيث يصدق الولد عليه حقيقة.

وتردد فيه في المسالك ومحكي الكفاية، بل قرّب ثبوت تحريم الربا بينهما في التذكرة والتنقيح وجامع المقاصد والروضة ومحكي تعليق الإرشاد وإيضاح المنافع والميسية، اقتصاراً في الخروج عن عموم التحريم علي المتيقن، وهو الولد الأدني.

لكن لا مجال لذلك مع إطلاق دليل التخصيص، كما سبق.

ص: 223

في المملوك بين القن والمدبر (1) والذكر والأنثي ولا في الزوجة بين الدائمة

---------------

وأما ما في التذكرة من أن صدق الولد عليه مجاز، فهو غريب جداً.

نعم لا مجال لتعميم الجواز لولد الرضاع وإن احتمله بعض من تقدم.

لعدم صدق الولد عليه لغة ولا عرفاً.

ولذا لا يطلق الولد عليه إلا مقيداً بالرضاع، كالماء بالإضافة إلي الماء المضاف.

وتعميم حكم الولد له شرعاً في النكاح لا يكفي في الإلحاق به في غيره.

وأما ما يظهر من المسالك من أنه يشترك مع ولد الولد في منشأ احتمال الإلحاق بالولد، وهو إطلاق اسم الولد عليهما، ولذا يجري عليهما حكم الولد في النكاح.

فهو غاية المنع، لصدق الولد علي ولد الولد لغة وعرفاً، وعدم صدقه علي ولد الرضاع، وجريان حكم الولد عليه في النكاح تعبدي شرعي يقتصر فيه علي مورده، كما ذكرنا.

(1) كما صرح جماعة بذلك، وبالتعميم لأم الولد.

وهو مقتضي إطلاق النصوص ومعاقد الإجماعات.

وكذلك الحال في المكاتب إذا لم يتبعض.

لكن استظهر في التحرير والمسالك حرمة الربا معه، وهو المحكي عن نهاية الأحكام.

ومال إليه في الجواهر، لأن المنساق غيره.

ثم قال: «لا أقل من الشك فتبقي حرمة الربا علي عمومها».

وهو كما تري إذ لا إشكال في العموم له، والانسياق لغيره لو تم لا يخرج عن الانصراف البدوي غير المعتد به.

كما لا مجال للتمسك بعموم حرمة الربا مع الشك بعد إطلاق الدليل المخصص وشموله لمورد الشك.

كما سبق في نظيره.

هذا وقد صرح جمع كثير من الأصحاب أولهم ابن الجنيد فيما حكي عنه باختصاص الحل بما إذا كان العبد ملكاً للشخص بتمامه ولم يكن له شريك فيه.

قال في المختلف بعد أن حكي ذلك عن ابن الجنيد: «وباقي أصحابنا أطلقوا.

ومقصودهم ذلك أيضاً، إذ المشترك ليس عبداً».

ص: 224

والمتمتع بها (1) وليست الأم كالأب (2) فلا يصح الربا بينها وبين الولد.

---------------

ولا ينبغي الإشكال في خروجه عن ظاهر النصوص وإلحاقه به لفهم عدم الخصوصية عرفاً، فيجوز لجميع مواليه الاشتراك معه في الربا الواحد.

لا يخلو عن إشكال.

ولو تمّ فلا مجال للبناء علي جواز انفراد كل منهم بالربا معه، لعدم صحة إضافته لكل منهم بانفراده.

كما أشرنا إلي ذلك في خبر زرارة المتقدم.

وأظهر من ذلك المبعض، لعدم صدق العبد أو المملوك عليه.

والتبعيض في الربا الواحد، كما قيل في زكاة الفطرة ونحوها يحتاج إلي دليل.

فلا مخرج عن عموم حرمة الربا فيه.

فلاحظ.

(1) كما في الدروس وجامع المقاصد والمسالك والروضة وعن تعليق الإرشاد والميسية وغيرها.

وقد يستفاد من إطلاق الأكثر.

وفي الحدائق والرياض أنه مذهب الأكثر، وعن الكفاية أنه المشهور.

وكأنه لإطلاق النصوص ومعاقد الإجماعات.

وذهب لتحريم الربا مع المتمتع بها في التذكرة ومجمع البرهان ومحكي إيضاح النافع، ومال إليه في الرياض، وتردد فيه في التنقيح ومحكي غاية المرام.

قال في التذكرة: «لأن التفويض في مال الرجل إنما يثبت في حق الدائم، فإن للزوجة أن تأخذ من مال الرجل المأدوم».

وهو كما تري لو تم لا ينهض بالاستدلال في المقام بل هو بالمقياس أشبه.

ومثله ما في الرياض من منع صدق الزوجة عليها حقيقة.

فإن غريب جداً.

فالعمدة في المقام أن كون الزوجية معياراً في الحلية إنما تضمنه مرسل الصدوق.

أما خبر زرارة أو محمد بن مسلم فقد تضمن عنوان الأهل.

ولا يتضح صدقه علي المتمتع بها.

ويلزم مع ضعف الخبرين الاقتصار علي المتيقن منهما، كما هو اللازم في معقد الإجماع.

وحينئذ يتعين الرجوع في غيره لعموم حرمة الربا.

فلاحظ.

(2) كما صرح به في التنقيح والروضة ومحكي إيضاح النافع والميسية وغيرها.

ص: 225

كما لا فرق بين ربا البيع وربا القرض (1).

(مسألة 16): الأحوط عدم جواز الربا بين المسلم والذمي (2).

وأما الربا في القرض فيأتي حكمه في كتاب القرض إن شاء الله تعالي.

-

وهو ظاهر كل من اقتصر علي ذكر الأب.

ويقتضيه عموم تحريم الربا بعد اختصاص النصوص المحللة ومعاقد الإجماعات بالأب.

(1) يعني: مع جميع من سبق، كما صرح به بعضهم.

لإطلاق النصوص ومعاقد الإجماعات المتقدمة.

وقد تقدم في صحيح علي بن جعفر جواز القرض مع العبد.

بل لعل ربا القرض هو المتيقن من الإطلاقات.

لكن لا بنحو يقتضي قصر الإطلاقات عليه.

(2) فالمنع هو الأشهر، بل المشهور نقلاً وتحصيلاً، بل عليه عامة المتأخرين إلا النادر.

كذا في الجواهر.

وهو المناسب لأكثر معاقد الإجماعات، حيث تضمنت نفيه في الحربي، بنحو ينساب اختصاص الحل به.

وكذا خبر عمرو بن جميع المتقدم(1).

ونقل في السرائر والمختلف عن المفيد جواز الربا معه وإن لم نعثر عليه في المقنعة، كما صرح بذلك غير واحد أيضاً.

وهو مختار الصدوق في المقنع وظاهر الفقيه، وحكاه في المختلف عن الصدوق الأول، كما حكي عن إيضاح النافع، بل هو معقد إجماع المرتضي في الانتصار، حيث اقتصر علي الذمي، وجعله من متفردات الإمامية.

ويشهد له مرسل الصدوق المتقدم: «قال الصادق (عليه السلام): ليس بين المسلم وبين الذمي ربا، ولا بين المرأة وبين زوجها ربا»(2).

لكن معقد الإجماع المذكور لا يناسب الفتاوي، ولا الأدلة، لظهور أن غير الذمي هو المتيقن من أدلة الحلّ، ولو لأنه الأولي بالحل من الذمي.

وأما نصوص المسألة بما فيها المرسل فضعف سندها مانع من التعويل لولا ظهور اعتماد الأصحاب عليها.

وذلك يقتضي الاقتصار علي المتيقن من مفادها، نظير ما تقدم في الزوجة المت

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب الربا حديث: 2، 5.

ص: 226

(227)

(مسألة 17): الأوراق النقدية لما لم تكن من المكيل والموزون لا يجري فيها الربا (1)، فيجوز التفاضل في البيع بها.

لكن في النفس منه شيء (2) فالأحوط ضم جنس آخر إلي الأقل (3) ولو كان من الدراهم في بيع الدنانير العراقية أو القران في التومان (4).

ومنه يظهر أن تنزيل الأوراق لا بأس به مع الاحتياط المذكور (1).

وأما ما يتعارف في زماننا من إعطاء سند بمبلغ من الأوراق النقدية من دون أن يكون في ذمته شيء، فيأخذه آخر (2)، فينزله عند شخص ثالث بأقل منه، فالظاهر أن مرجعه إلي توكيل من بإمضائه السند للشخص الآخر في إيقاع المعاملة في ذمته (3) علي مقدار مؤجل بأقل منه (4).

وحينئذ يكون حكمه حكم التنزيل المتقدم في الاحتياط المذكور (1) والظاهر أن هذا هو المسمي باصطلاح الفرس (سفته).

-

بها.

وهو يقتضي الاقتصار علي مفاد خبر عمرو بن جميع المقتصر فيه علي أهل الحرب.

بل قد يظهر من اقتصار المشهور علي الحربي عدم التعويل علي المرسل.

وقد قرب في الحدائق كما حكي عن غيره ورود المرسل لبيان خروج الذميين عن شروط الذمة، فيجوز الربا معهم لصيرورتهم حربيين.

ولا بأس به جمعاً مع خبر عمرو بن جميع المشعر أو الظاهر في اختصاص الحل بالحربي.

والأمر سهل بعدما عرفت، وبعد عدم الابتلاء بالذميين في عصورنا.

فلاحظ.

(1) يعني ربا البيع والمعاوضة الذي نحن فيه.

(2) قد تنشأ الشبهة في الأيام السابقة القريبة يوم كانت النقود الورقية مقابلة رسمياً بالذهب والفضة.

أما هذه الأيام حين لم يبق من الأمرين شيء فلا منشأ لذلك.

نعم تقدم منا في المسألة الثالثة من الفصل الثامن نحو من الإشكال في التفاضل في غير المكيل والموزون إذا كانت الزيادة في أحد العوضين مع تأجيله، لأنه يؤدي مؤدي القرض الربوي.

فراجع.

(3) ليتخلص به من الربا، كما تقدم في المسألة الثالثة عشرة.

(4) إنما يتخلص من شبهة الربا بذلك يوم كان للدرهم العراقي والقران وجود في قبال الدينار والتومان، نظير الدرهم والدينار حيث كان الدرهم من الفضة والدينار من الذهب، ولا يصلح ذلك للتخلص اليوم، حيث لا يراد من الدرهم والقران إلا جزء من الدينار والتومان.

ص: 227

لا بأس به مع الاحتياط المذكور (1).

وأما ما يتعارف في زماننا من إعطاء سند بمبلغ من الأوراق النقدية من دون أن يكون في ذمته شيء، فيأخذه آخر (2)، فينزله عند شخص ثالث بأقل منه، فالظاهر أن مرجعه إلي توكيل من بإمضائه السند للشخص الآخر في إيقاع المعاملة في ذمته (3) علي مقدار مؤجل بأقل منه (4).

وحينئذ يكون حكمه حكم التنزيل المتقدم في الاحتياط

---------------

(1) الظاهر أن المراد بتنزيل الأوراق ما تعارف في عصورنا من دفع الدائن وثيقة الدين الذي له علي المدين (المسماة بالكمبيالة) وتسجيلها له، ليقبض بها الدين الذي تضمنته من المدين لنفسه بعد أن يعجل بدفع مبلغ من المال أقل من الدين المذكور للدائن.

ومرجعه إلي بيع الدين الذي له علي الغير بأقل منه نقداً معجلاً، ودفع الضميمة من غير الجنس مع النقد المعجل للتخلص من شبهة الربا التي أشار إليها (قده).

(2) وهو الشخص الذي يتضمن السند كونه دائناً من دون أن يكون دائناً واقعاً.

وهو ما يسمي في عرفهم بالمجاملة.

(3) يعني: مع الشخص الثالث وإن لم يكن معيناً، بل يوكل تعيينه للوكيل الذي يتضمن السند كونه دائناً.

(4) ولازمه صيرورة المعجل الأقل ملكاً لموقع السند فإن أخذه الشخص الذي يتضمن السند كونه دائناً علي أنه قرض لم يجب عليه دفع تمام ما تضمنه السند، لأنه أكثر، فيلزم ربا القرض، وحيث كان مسؤولاً بدفعه بتمامه حسبما تعارف عندهم فلا يصححه إلا شراؤه النقد المعجل من الموقع علي السند بتمام ما تضمنه السند إلي أجله مع الضميمة بناء علي ما ذكره (قده) من الحاجة إليها.

وكان المناسب له (قده) التنبيه علي ذلك.

علي أنه لا يظهر لنا وجه إرجاع المعاملة المذكورة إلي ذلك.

ولاسيما أن الطرف الثالث قد لا يعلم بعدم ثبوت شيء في ذمة موقع السند، بل يتخيل شراءه لدين محقق،

ص: 228

(229)

المذكور (1) والظاهر أن هذا هو المسمي باصطلاح الفرس (سفته).

-

فتبطل المعاملة، لعدم وجود أحد العوضين.

ولو علم بالواقع المذكور فقد لا يقصد إجراء المعاملة بالوجه الذي ذكره سيدنا المصنف (قده)، بل مجرد إقراض من يتضمن السند كونه دائناً للمبلغ الأقل بأكثر منه، ويكون الشخص الذي تضمن السند كونه مديناً بمنزلة الكفيل للدين، حيث يكون ملزماً بدفع المبلغ الذي يتضمنه السند إذا لم يدفعه المقترض له.

وحينئذ ترجع المعاملة إلي القرض الربوي المحرم الباطل، ولا تنفع في تحليله الضميمة.

نعم يمكن إرجاع المعاملة المذكورة إلي الوجه الذي ذكره سيدنا المصنف (قده) إذا اتفق الأطراف الثلاثة علي ذلك.

إلا أنه يحتاج إلي عناية خاصة.

(1) وهو ضم جنس آخر للأقل.

بقي في المقام أمران: الأمر الأول: في وجوب إرجاع المال الربوي لصاحبه حيث سبق في أول هذا الفصل أن المعاوضة الربوية كما تحرم تكليفاً تحرم وضعاً وتبطل، فمقتضي القاعدة أنه يجب علي آخذ الربا رده علي صاحبه أو من يقوم مقامه كالوارث سواءً كان الآخذ هو المرابي، أم من انتقل إليه منه، كمستوهبه منه ومشتريه ووارثه.

وسواء تميز مال الربا، أم اختلط بغيره.

ولو تلف المال الربوي كان مضموناً علي من وقع في يده.

أما لو جهل صاحبه جري عليه حكم مجهول المالك مع تميزه، أو اختلاطه، أو تلفه وانشغال الذمة به.

هذا ما تقتضيه القاعدة، ودلت عليه الأدلة النقلية الواردة في الربا في الجملة.

وعليها العمل والفتوي من دون خلاف ظاهر، إلا في موارد يحسن التعرض لها.

وربما كان عدم تعرض سيدنا المصنف (قده) لها لعدم بنائه عليها.

وإن لم يبعد بناؤه علي الأخير، وعدم تعرضه له لكونه مغفولاً عنه.

ص: 229

الأول: قال في النهاية بعد أن شدد في حرمة الربا: «فمن ارتكب الربا بجهالة ولم يعلم أن ذلك محظور فليستغفر الله تعالي في المستقبل.

وليس عليه فيما مضي شيء.

ومتي علم أن ذلك حرام ثم استعمله فكل ذلك محرم عليه، ويجب عليه رده علي صاحبه...» وهو كالصريح في عدم وجوب الرد مع الجهل.

وعليه جري في النافع وظاهر كشف الرموز وفي الدروس والحدائق والرياض وعن المقنع وفقه القرآن للراوندي وإيضاح النافع وآيات الأحكام للأردبيلي.

ويظهر أيضاً من الكليني والصدوق في الكافي والفقيه، لذكرهما النصوص الدالة علي ذلك في الباب المناسب له.

قال في مفتاح الكرامة: «وكأنه ميل إليه في التحرير وحواشي الشهيد».

وظاهر القواعد والوسائل التردد.

وقد خالف في ذلك في السرائر والتذكرة والمختلف والإيضاح والتنقيح وكنز العرفان وجامع المقاصد ومحكي نهاية الأحكام وغيرها.

بل حمل في السرائر ما سبق من الشيخ (قده) في النهاية علي إرادة نفي العقاب بالجهل لا غير، مع وجوب الرد.

وإن كان ذلك خلاف ظاهر كلامه المتقدم.

ويدل علي الأول من الكتاب المجيد قوله تعالي: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَيَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَي اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(1).

وحمله علي نفي العقاب مخالف لظاهره، ولظهور اللام في الملك أو الاختصاص، دون العفو.

غاية الأمر أنه قد يعمم للعفو ونفي العقاب توسعاً في تطبيق الاختصاص الذي هو مفاد اللام، بلحاظ تشبيه عدم عقاب الإنسان علي الشيء بكونه له من أجل التفضل في ذلك عليه.

وأما ما في بعض التفاسير من ورود ذلك في ربا الجاهلية.

فهو لو تم لا ينافي العموم لما نحن فيه.

وليس هو كقوله تعالي: (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء

********

(1) سورة البقرة الآية: 275.

ص: 230

إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ)(1).

للفرق بينهما بأن الاستثناء في الآية الثانية قد ورد بعد عموم النهي بلحاظ حال ما قبل تشريع التحريم، فيعم النهي من لم يصله التحريم، أما في الآية الأولي فالملحوظ أفراد المكلفين بنحو الانحلال، فكل من جاءته الموعظة ووصله التحريم له ما سلف، ومقتضاه العموم لمن وصله التحريم بعد مدة طويلة.

وحمل مجيء الموعظة علي أصل تشريع التحريم لا علي وصوله له مخالف للظاهر.

ولاسيما بلحاظ ترتيب الانتهاء عليه، لوضوح أن الانتهاء إنما يترتب علي وصول التحريم، لا علي تشريعه.

ومثله دعوي: أن ذلك لا يناسب قوله تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)(2).

لدلالته علي عدم استحقاق المرابي بعد التوبة لغير رأس المال.

لاندفاعها بأن الجمود علي سياق هاتين الآيتين الشريفتين يقتضي كون التوبة المفروضة بعد تعمد أخذ الربا بعد التحريم، فيخرج عن موضوع الآية الأولي.

ولو فرض عموم التوبة هنا تعين حمله علي ذلك جمعاً مع تلك الآية.

علي أن من القريب كون المنظور ما يستحقه المرابي بعد التوبة علي المدين من دون نظر إلي ما إذا استوفي دينه وأخذ الربا معه، كما قد يناسبه قوله تعالي بعد ذلك: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَي مَيْسَرَةٍ...)(3).

وأما النصوص ففي صحيح الحلبي: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): كل ربا أكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة.

وقال: لو أن رجلاً ورث من أبيه مالاً وقد عرف أن في ذلك المال ربا، ولكنه قد اختلط في التجارة بغيره حلال

********

(1) سورة النساء الآية: 22.

(2) سورة البقرة الآية: 278-279.

(3) سورة البقرة الآية: 280.

ص: 231

[حلالاً] كان حلالاً طيباً فليأكله.

وإن عرف منه شيئاً أنه ربا فليأخذ رأس ماله.

وليرد الربا.

وأيما رجل أفاد مالاً كثيراً قد أكثر فيه الربا، فجهل ذلك ثم عرفه بعد، فأراد أن ينزعه، فما مضي فله ويدعه فيما يستأنف»(1).

ورواه الصدوق مرسلاً.

وفي حديث أبي الربيع: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أربي بجهالة، ثم أراد أن يتركه.

قال: أما ما مضي فله، وليتركه فيما يستقبل»(2).

وفي صحيح محمد بن مسلم: «دخل رجل علي أبي جعفر (عليه السلام) من أهل خراسان قد عمل الربا حتي كثر ماله.

ثم إنه سأل الفقهاء: فقالوا: ليس يقبل منك شيء إلا أن ترده إلي أصحابه.

فجاء إلي أبي جعفر (عليه السلام) فقص عليه قصته.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام): مخرجك من كتاب الله (فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَيَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَي اللهِ) والموعظة التوبة»(3).

فإن السؤال فيه عن وجوب الإرجاع يوجب ظهور الاستدلال بالآية الشريفة في إرادة عدم الإرجاع منها، لا مجرد عدم العقاب لو فرض عدم ظهور الآية في نفسها في ذلك.

نعم مقتضي إطلاق التوبة فيه العموم لما إذا كان العمل بالربا عن علم بالحرمة.

لكن يتعين حمله علي ما إذا كان عن جهل بها بقرينة النصوص السابقة.

مضافاً إلي ما عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسي عن أبيه: «إن رجلاً أربي دهراً من الدهر فخرج قاصداً أبا جعفر الجواد (عليه السلام) فقال له: مخرجك من كتاب الله يقول الله: (فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَيَ فَلَهُ مَا سَلَفَ).

والموعظة هي التوبة فجهله بتحريمه ثم معرفته به.

فما مضي فحلال، وما بقي فليستحفظ»(4).

كما ينهض هذان الحديثان بتأكيد ما سبق من ظهور الآية الشريفة في المطلوب.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الربا حديث: 2. ورواه عن أبي المعزا. إلا أن الموجود في الكافي عن أبي المعزا عن الحلبي.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الربا حديث: 4، 7، 10.

ص: 232

ويصلح ما قبلهما بتأييد ذلك.

وقد يستفاد أيضاً من صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي (عليه السلام): «سألته عن رجل أكل ربا لا يري إلا أنه حلال.

قال: لا يضره حتي يصيبه متعمداً فهو ربا»(1).

فإن قصر الربا فيه علي صورة التعمد ظاهر في قصر أحكامه ومنها حرمة المال ووجوب رده علي صاحبه علي صورة أكله مع العلم بحرمته.

ويبدو أن مخالفة ذلك للقواعد أوجب إحجام غير واحد عن الخروج بما سبق عنها، ومحاولتهم حمله علي خلاف ظاهره أو التشبث ببعض الوجوه الظاهرة الوهن لرده، كما يظهر بملاحظة كلماتهم في المقام.

ولا يسعنا استقصاؤها بعدما سبق بل يتعين العمل علي ذلك والخروج به مقتضي القواعد، فإن الخروج عنه غير عزيز.

هذا وفي كشف الرموز: «ويمكن أن يقال: إن من ادعي اليوم في الإسلام جهالة تحريم الربا لا يسمع منه.

فيحمل الفتوي والنص علي أول الإسلام».

وهو كما تري أولاً: لأن الجهل بالأحكام الظاهرة شايع بين العامة وغير المتفقهين.

وقد ورد أمر التجار بالتفقه وإلا وقعوا في الربا(2).

وكيف يمكن حمل النصوص الواردة عن الصادقين ومن بعدهما من الأئمة (صلوات الله عليهم) وفتاوي مثل الشيخ (قده) ومن بعده علي خصوص أول الإسلام ؟!.

وثانياً: لأن كثيراً من فروع الربا وصغرياته مغفول عنها أو مورد الاختلاف بين الفقهاء، فينفع الحكم المذكور فيها.

وقد يظهر ذلك من صحيح علي بن جعفر المتقدم.

نعم يظهر من الآية الشريفة والنصوص المذكورة توقف حِلّ ما مضي من الربا مع الجهل بالحرمة علي العزم علي ترك الربا والتوبة منه.

فكأنه وارد مورد التشجيع علي التوبة.

وكلام غير واحد لا يأبي ذلك، لتعرضهم للاستغفار أو الانتهاء المناسبين

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الربا حديث: 9.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب آداب التجارة.

ص: 233

للتوبة.

وإطلاق غيرهم لو تم محمول علي ذلك أو مستدرك عليه.

ومثله ما يظهر مما عن الراوندي في فقه القرآن من اختصاص الحِلّ بمن تعذر عليه العلم بحرمة الربا.

أما من كان قادراً علي العلم فلم يعلم وأكله بجهالته فيجب عليه الرد.

إذ هو تحكم في إطلاق الأدلة المتقدمة من دون وجه ظاهر.

ومجرد تقصيره في الفحص لا يكفي في التقييد.

علي أنه قد لا يكون مقصراً بسبب الغفلة المطلقة.

الثاني: من ورث مالاً فيه الربا.

فإنه وإن قلّ منهم التعرض لذلك بالعنوان المذكور، إلا أنه قد يستفاد من سياق كلام كثير منهم، واستدلالهم بالنصوص المتضمنة لحكمه، أو روايتهم لها، حيث تضمنت التفصيل بين ما إذا علم المال بعينه وما إذا اختلط بغيره واشتبه، كما في صحيح الحلبي المتقدم.

وفي صحيحه الآخر عنه (عليه السلام): «قال: أتي رجل أبي (عليه السلام) فقال: إني ورثت مالاً، وقد علمت أن صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي، وقد عرفت أن فيه ربا، واستيقن ذلك، وليس يطيب لي حلاله لحال علمي فيه.

وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا: لا يحل أكله.

فقال أبو جعفر (عليه السلام): إن كنت تعلم بأن فيه مالاً معروفاً ربا وتعرف أهله فخذ رأس مالك، ورد ما سوي ذلك.

وإن كان مختلطاً فكله هنيئاً، فإن المال مالك.

واجتنب ما كان يصنع صاحبه.

فإن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قد وضع ما مضي من الربا وحرم ما بقي.

فمن جهل وسعه جهله حتي يعرفه.

فإذا عرف تحريمه حرم عليه، ووجب [وجبت] عليه العقوبة إذا ركبه كما يجب علي من يأكل الربا»(1)

ومقتضي الصحيحين أن المراد بمعرفة الربا بعينه ليس معرفة خصوص الزيادة الربوية، بل المال الذي تضمنته المعاملة الربوية المشتمل علي الربا، فيجب ردّ مقدار الزيادة الربوية منه، وله رأس المال.

ويستفاد من ذلك وجوب رد الزيادة الربوية لو تميزت بنفسها بالأولوية العرفية.

كما أنهما لم يتضمنا حكم ما إذا تميز المال الربوي ولم يعرف صاحبه.

أما الثاني

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الربا حديث: 3.

ص: 234

فظاهر، لأنه تضمن تقييد وجوب الرد مع تميز المال بما إذا عرف أهله، وتقييد جواز الأكل بما إذا اختلط.

وأما الأول فهو وإن لم يتضمن تقييد وجوب الرد بما إذا عرف أهله، إلا أن وجوب الرد موقوف علي معرفة صاحب المال، فلا يحتاج معه للتقييد.

ولا أقل من عدم ظهوره في العموم للصورة المذكورة.

وحينئذٍ يتعين الرجوع فيها للقواعد القاضية بحرمة أكل المال، وجريان حكم مجهول المالك عليه، من وجوب الفحص عن مالكه، ثم التصدق به مع اليأس عن ذلك.

هذا وقد قال ابن الجنيد - كما في المختلف -: «ومن اشتبه عليه الربا لم يكن له أن يقدم عليه إلا بعد اليقين بأن ما يدخل فيه حلال.

فإن قلد غيره أو استدل فأخطأ، ثم تبين له أن ذلك ربا لا يحل، فإن كان معروفاً رده علي صاحبه، وتاب إلي الله تعالي.

وإن اختلط بماله حتي لا يعرفه، أو ورث مالاً كان يعلم أن صاحبه يربي، ولا يعلم الربا بعينه فيعز له، جاز له أكله والتصرف فيه إذا لم يعلم فيه الربا».

وما ذكره في صدر كلامه من عدم جواز الإقدام مع اشتباه الربا عليه متين جداً، عملاً بما دل علي وجوب الفحص عن الأحكام، خصوصاً ما أشرنا إليه آنفاً مما ورد في التجارة حذراً من الربا(1).

ولاسيما في المعاملات التي يكون مقتضي الأصل فيها عدم ترتب الأثر.

كما أن الظاهر قصور النصوص السابقة المتضمنة حلّ المال الربوي مع الإقدام عليه بجهالة، واختصاصها أو انصرافها لصورة الغفلة عن الحرمة أو اعتقاد الحلية.

فاللازم الرجوع لمقتضي القاعدة المتقدم.

وكذا الحال فيما ذكره في ذيل كلامه في حكم من ورث مالاً فيه الربا من تقييد الحِل بما إذا اختلط المال، كما يظهر مما سبق.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب التجارة.

ص: 235

إنما الإشكال فيما ذكره في حكم من أربي بجهالة من التفصيل بين تعيين المال واختلاطه، حيث لا وجه مع إطلاق الآية الشريفة والنصوص السابقة.

ولا مجال لتحكيم نصوص من ورث مالاً ربوياً عليها بعد اختلاف الطائفتين مورداً.

ولاسيما مع قضاء المناسبات الارتكازية بابتناء الحكم فيها علي العفو تشجيعاً علي التوبة، وابتناء التفصيل مع الميراث علي التسهيل والتخفيف من أجل اختلاط الحرام بالحلال.

الثالث: ما إذا كان دافع الربا غير محترم المال أو ممن يدين بدين يقضي بحلية الربا.

حيث يتعين حينئذ جواز أكل المال الربوي، لعدم حرمة مال الأول، وإلزاماً للثاني بما يلزمه به دينه، لما دلّ علي أن من دان بدين لزمته أحكامه(1).

نعم يحرم إيقاع المعاملة الربوية معه تكليفاً ووضعاً فلا تصح المعاملة ولا يملك الآخذ المال بالعقد الربوي.

لعموم أدلة حرمة الربا من الجهتين.

ومجرد عدم احترام مال دافعه، أو جواز إلزامه بما ألزم به نفسه، لا يستلزم تخصيص العموم المذكور في حقه، بحيث يجوز إيقاع المعاملة الربوية معه تكليفاً ووضعاً.

لعدم ابتناء حرمة إيقاع المعاملة الربوية المتضمنة لأخذ الزيادة من الغير علي احترامه، لتسقط بسقوط حرمته في نفسه، أو إلزاماً له بمقتضي دينه.

بل المعاملة محرمة في نفسها، كحرمة الكذب والزنا.

غاية الأمر أنه بعد إيقاع المعاملة عصياناً يجوز إلزامه بمضمونها بأخذ المال منه بسبب سقوط حرمته بأحد الوجهين، والموجب لتملك المال هو أخذه بعد العقد، لا العقد بنفسه كما لو كان صحيحاً.

فلاحظ.

والله سبحانه وتعالي العالم.

والحمد لله رب العالمين.

الأمر الثاني: في عدم انسجام حرمة الربا مع الوضع المعاصر.

يتردد الحديث هذه الأيام عن أن تحريم الربا إنما يتجه يوم كان الربا وسيلة لاستغلال حاجة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 30 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه، وج: 17 باب: 4 من أبواب ميراث الأخوة والأجداد.

ص: 236

(237)

محاولات تبرير الربا في العصر الحاضر ودفعها

المقترض، وجمع الثروة علي حساب الآخرين، من دون جهد يبذله المقرض يستحق به أخذ المال.

فهو أداة للظلم والاستئثار وامتصاص جهد الضعيف وإنهاكه حتي ينتهي الأمر بتدميره.

ولا مبرر لتحريمه في العصر الحديث، حيث ابتني عليه الاقتصاد العالمي، وأصبح من ضروريات المجتمع الإنساني في تنظيم علاقاته الاقتصادية، التي بها يقوم كيانه، وتبتني عليها مصالحه.

بل أصبح الربا وسيلة لإنعاش المحرومين، إذ يستثمرون القرض الربوي في رفع مستواهم الاقتصادي، وتهيئة فرص العمل والإنتاج، من أجل النهوض بالبلاد والعباد وسدّ حاجتهما، وبناء اقتصادهما علي الوجه الأكمل.

فالإصرار علي حرمة الربا مع ذلك لا يتناسب مع كون الإسلام صالحاً للتطبيق، ونظامه وافياً بحلّ مشاكل الإنسان والمجتمع، ونظم أمرهما، في كل عصر، ومع جميع المستجدات.

والحديث المذكور يصدر.

.

تارة: ممن يحاول عزل الإسلام عن المجتمع الإنساني، وبيان عدم صلوحه للاستمرار في تنظيم وضع الإنسان المعاصر وحل مشاكله، وعجزه عن مجاراة التطور والتجديد.

وأخري: ممن يحاول الدفاع عن الإسلام بدعوي: أن الربا المحرم شرعاً لا يشمل مثل ذلك مما يبتني عليه نظام الاقتصاد العالمي، ويكون سبباً لإنعاش المحرومين، ورفع مستوي اقتصاد البلاد والعباد.

ومن هنا يحسن بنا الكلام مع القسمين في مقامين: المقام الأول: مع من يحاول عزل الإسلام عن المجتمع نتيجة أحكامه التي لا تتناسب مع الوضع المعاصر، ومنها الحكم بعموم تحريم الربا.

ومن الظاهر أن نظام الربا المقر عالمياً الآن عام لا يفرق بين الدين الذي ينتفع به المقترض وينعش اقتصاده وينتظم به أمر حياته بنحو يفضل عنده ما يستطيع به وفاء دينه، ويخرجه من مأزق التورط في دفع الفوائد باستمرار، والدين الذي يضطر له المقترض لسد ضرورته ثم

ص: 237

يتورط في مأزق الاستمرار في استحقاق الفوائد بنحو لا يستطيع الخروج منه، بل تزيد ديونه ويتحول معه الربا إلي وسيلة لاستغلال الضعيف وامتصاص جهده وإنهاكه وتكبيله بالقيود.

فالربا اليوم كالربا السابق صالح للوجهين.

ويزيد عليه بأمرين: الأول: أنه قد استحكم في نظم الاقتصاد العالمي بنحو يصعب التخلص منه والخروج عنه.

وإن ظهرت قريباً محاولات لإيجاد بديل، نرجو لها النجاح والتوفيق.

الثاني: أنه قد حفّ بمرغبات ومشجعات تستغل المحتاج والجاهل، وتدفعهما للتوحل فيه والتورط به.

ويكفي في استيضاح ذلك النظر في ديون الدول الفقيرة التي تحولت إلي قيود خانقة لها ولشعوبها، تجعلها أسيرة للدول الدائنة، وأداة لاستغلالها وخضوعها لها اقتصادياً وسياسياً.

ولولا فتح هذا الباب والتشجيع عليه لقنع الضعيف مالياً بما عنده وبما يعينه به ذوو الإحسان والمواساة من الهبات والقروض الحسنة، ورتب أوضاعه بما يتناسب مع ذلك ثم يحاول تحسين وضعه بجدّه وكدّه المضاعف من دون أن يتورط بالقرض الربوي الذي يوهمه بالغني والقدرة المالية، ويغفله عن فقره الذي يحمله علي الاقتصاد والقناعة ويدفعه للكد والعمل، ويجنبه كثيراً من سلبيات التوسع في الإنفاق ومضاعفاته الخطيرة.

ثم يكبله القرض الربوي بالقيود المنهكة بنحو قد يفقده حريته، ويجعله أسيراً للدائن.

وإذا قلنا: إن الإسلام صالح للتعايش مع التجديد والتطور وحلّ مشاكل المجتمع في ضوئهما فمرادنا بذلك أنه يستطيع لو فسح له المجال معالجة مشاكل المجتمع بحلول يضعها هو في ضوء تعاليمه ومفاهيمه، وبمراعاة أهدافه وأولوياته.

ولا نريد به أن الإسلام يعترف بالمعالجات والحلول الواردة من الخارج بسلبياتها ومفارقاتها، ويتكيف معها بالتنازل عن تعاليمه ومفاهيمه، وإغفال أولوياته وأهدافه.

فإن ذلك عين الانهزام والذوبان في خضم التحول العالمي الخطير.

بل يبقي الإسلام مصراً علي موقفه منكراً لذلك حفاظاً علي حدوده، وليبقي

ص: 238

أمل المحرومين والمتضررين من الأوضاع العالمية المتدهورة التي انعكست بسلبياتها حتي علي شعوب المخططين لها، كما حصل في الأزمة الاقتصادية التي ظهرت أخيراً، وبدا تأثيرها السلبي جلياً علي كثير من الشعوب والدول.

ونتيجة لإصرار الإسلام وموقفه المنكر يبقي الكل بانتظار الفرج الإلهي بظهور المصلح الأكبر الإمام المنتظر عجل الله تعالي فرجه الشريف، ليطبق الإسلام القويم بحدوده وأحكامه علي أتم وجه، بعيداً عن التحريف والتشويه والمفارقات والسلبيات.

هذا وقد يحاول بعض أهل المعرفة والاقتصاد في الدفاع عن الربا الاستثماري الذي يشيع عالمياً، وهو ما يدفعه المقترض من الفوائد علي القرض الذي يستغله ويستثمره ويجني أرباحه.

ولاسيما أن المقترض قد يجني أرباحاً طائلة، فلا وجه لاستئثاره بها من دون أن يشاركه فيها صاحب المال الذي أقرضه.

لكن الربا الاستثماري المذكور إن كان علي القرض الذي يضطر له المقترض، ليستثمره ويجني به من الربح ما يقيم به أوده ويسدّ به حاجته في معاشه ومعاش عائلته، فما الفرق بينه وبين الربا غير الاستثماري علي القرض الذي يضطر له المقترض لسدّ حاجته وحاجة عائلته وضروراتهم المعاشية من طعام ولباس وسكن ودواء ونحو ذلك ؟! ولِمَ يكون الأول مقبولاً دون الثاني مع اشتراكهما في كونهما مورداً للحاجة أو الاضطرار؟!.

وإن كان علي القرض الذي يستثمره المقترض لتكديس الأرباح.

فهو الوسيلة الجهنمية التي ظهرت نتيجة التطور العالمي الخطير ليسحب رؤوس الأموال وتكديسها لصالح الشركات والدول الكبري، من أجل فرض سيطرتها الاقتصادية علي العالم، والتحكم فيه، كما نراه عياناً، وتتجرع منه الدول والشعوب الضعيفة الأمرين.

ولو تسني منعه لاتجه أصحاب الأموال لاستثمار أموالهم في بلادهم بأنفسهم، أو بالتعاون مع من لا مال له، إما بنحو المضاربة المبنية صريحاً علي توزيع الربح بين

ص: 239

صاحب المال والعامل، من دون أن يضمن العامل شيئاً من رأس المال ليمنعه فقره من المشاركة في الاستثمار، أو بنحو الاستبضاع ونحوه مما يبتني علي استثمار عمل العامل بأجر مقطوع من دون أن يضمن من رأس المال أيضاً، حيث يساعد ذلك علي القضاء علي البطالة.

ولصارت رقعة استثمار الأموال في البلاد أوسع، وتوزعت الثروات من دون أن تتكدس في مواقع القوة، ولصالح جماعة محدودة تسيطر بسبب التنسيق بينها تدريجياً علي الاقتصاد العالمي وتتحكم فيه وفي السياسة العالمية تبعاً له، كما حصل فعلاً.

نعم مع توزيع الثروات والاستثمار قد تكون الأرباح بمجموعها أقل كمية من الأرباح الحاصلة مع حصر الاستثمار في مواقع القوة، لضعف الخبرات والقدرات من جهة، ولتصاعد نسبة الأرباح مع تضاعف رؤوس الأموال من جهة أخري.

لكن ما الذي يجنيه المجتمع الإنساني من كثرة الأرباح إذا انحصرت بفئة قليلة ؟! ولاسيما أن هذه الفئة همها مصالحها ولو علي حساب المجتمع.

حيث قد تسلك من أجل أن تجني الأرباح الهائلة طرقاً جهنمية مدمرة، كإثارة الحروب، والتشجيع علي الفساد والترف والتبذير والسرف وغير ذلك.

والحاصل: أن الربا الاستثماري إن أخذ من المضطر للاسترباح، من أجل سدّ ضرورته فلا مبرر له، كغيره من أفراد الربا.

وإن أخذ من غير المضطر له ممن يحاول تكديس الأرباح فهو وإن بدا وكأنه مبرر أو مستحسن، إلا أنه من وراء ذلك أداة لسحب رؤوس الأموال وتكديسها في مواقع القوة، لفرض سيطرتها علي الاقتصاد والسياسة العالميين، وحرمان المناطق الضعيفة من الاستفادة بأموالها واستثمارها لصالحها، وما يستتبع ذلك من دفع عجلة العمل في تلك المناطق، واستثمار الطاقات البشرية الكثيرة العاطلة عن العمل.

والإنصاف أن ما انتهي إليه المجتمع الإنساني اليوم من أوضاع مأساوية نتيجة الوسائل الجهنمية التي تخطط لها وتنفذها رؤوس الأموال من أجل تكديس

ص: 240

الأرباح يمنع المتبصر من الركون للطروحات التي يجري عليها العمل الآن، فضلاً عن الاستحسان لها والدفاع عنها، مهما حاولوا تجميلها وتحسين صورتها.

لأن وراء الأكمة ما وراءها.

فكيف بمثل الربا مما أجمعت الأديان السماوية علي تحريمه وتشديد الإنكار عليه.

وبذلك يظهر أن عدم انسجام الإسلام مع الوضع المعاصر والتطور الذي حصل فيه ليس لعجز الإسلام عن تنظيم شؤون الإنسان المعاصر وحلّ مشاكله، بل لتكبيل المجتمع الإنساني من قبل القوي المتنفذة فيه والمسيطرة عليه بأنظمة جهنمية تجعله في دوامة من الشقاء، وتسير به نحو الدمار لا يقرها الإسلام، ولا يسعه القبول بها، والتنسيق معها.

المقام الثاني: مع من يحاول الدفاع عن الإسلام بالمنع من عموم تحريم الربا، وقصره علي خصوص بعض الأقسام أو الحالات التي تكون مضرة بالمجتمع الإنساني.

من الظاهر.

.

أولاً: أن أحكام الإسلام لا تخضع للتعديل والتحوير بما يتناسب مع الظروف المستجدة، بل للإسلام الخاتم للأديان أحكامه الثابتة التي شرعت لتسير بالمجتمع الإنساني نحو الرفاه والسعادة في الدنيا والآخرة مادام يعمر هذه الأرض ويعيش فيها.

وليس الاجتهاد المشروع في الإسلام عند الإمامية الذين استضاؤوا بنور أهل البيت (صلوات الله عليهم) وجروا علي نهجهم إلا استفراغ الوسع في التعرف علي الحكم الشرعي وأخذه من مصادر المعرفة الأصيلة والحفاظ عليه، بعيداً عن التحوير والتطبيع مع الأوضاع المستجدة والمؤثرات الخارجية.

وهو مدعاة فخر هذه الطائفة واعتزازها، حيث حافظت علي الأحكام الشرعية بحدودها هذه المدة الطويلة مع فقد رعاية المعصوم بالمباشرة منذ أحد عشر قرناً، وإن كان يرعاها من وراء ستر رقيق.

كما أنه يقتصر في الاجتهاد المذكور وفي آلية الوصول للحكم الشرعي علي

ص: 241

الطرق التقليدية التي جري عليها السلف الصالح في عصور المعصومين (صلوات الله عليهم) وبتوجيه منهم (عليهم السلام).

وهي تعتز بالتمسك بها وعدم الخروج عنها.

ولا يكون التطوير والتحوير إلا في الموضوعات الشرعية، أو الأحكام الولايتية في حدود الولاية الثابتة شرعاً، حسب اختلاف الأنظار والاجتهادات.

والخلط بين ذلك وبين تطوير الحكم الشرعي، أو طرق الاجتهاد خطأ فظيع يقع فيه أنصاف المتعلمين، ولا يدركه إلا ذوو الاختصاص، وينظرون إليه بأسف بالغ.

وثانياً: أنه لا يفترض أن تتضح للناس علل الأحكام الشرعية وملاكاتها، ليتسني لهم تعميم الأحكام وتخصيصها تبعاً لها، بل يتعين تطويع الحكم للدليل الشرعي، والبناء عليه بعد فرض تحقق موضوعه الذي تضمنه دليله وفق الضوابط المأخوذة من ذلك الدليل.

وبعد ذلك نقول: من الظاهر أن أدلة الربا بقسميه المتقدمين عامة لفظاً.

وهي كما تشمل الربا في صدر الإسلام تشمل الربا في العصر الحاضر.

ومجرد قيام نظام الاقتصاد العالمي علي الربا في عصورنا، لا يوجب قصور أدلة الربا عنه.

ولاسيما مع ظهور سلبيات هذا النظام، كما أشرنا إلي بعضها في المقام الأول.

وغاية ما يمكن أن يدعي قصور الأدلة الشرعية عن بعض ما ظهر في العصر الحديث من أنواع الفوائد.

وما قد يحسن النظر فيه مما يتعلق بذلك دعويان تطرحان بصورة ومبررات قد تقبل بحسب النظر البدوي، نحاول عرضهما بوجه أقرب للحوار الحوزوي منه للمصطلحات الاقتصادية الحديثة.

الدعوي الأولي: خروج الفوائد البنكية عن موضوع الربا.

وذلك بالنظر للتضخم المالي المستمر، حيث تضعف القوة الشرائية للنقد بسبب ذلك، فإذا كانت الفائدة معقولة بنحو تناسب التضخم الحاصل بمعدلاته المتوقعة، فهي ليست ربحاً في الحقيقة، بل موازنة لرأس المال بماله من قوة شرائية وضماناً له بلحاظ ذلك، وإن

ص: 242

زادت عليه صورة.

ومن الظاهر أن ذلك لو تم لا يختص بالفوائد البنكية، بل يجري في كل فائدة مناسبة للتضخم الحاصل بغض النظر عن أطراف المعاملة.

لكنها تشكل أولاً: بعدم انضباط ذلك، بحيث يمكن تحديده مسبقاً عند الاقتراض، لخضوعه لعدة عوامل لا يمكن الإحاطة بها بل قد يستند لعوامل متعمدة من قِبَل أصحاب القرار لمصالح اقتصادية تؤدي إلي ارتفاع القوة الشرائية للعملة النقدية أو انخفاضها عند حاجتهم لذلك.

كما أن من المعلوم عدم ابتناء الفوائد البنكية وغيرها علي ملاحظة هذه الجهة والتقيد بها.

وثانياً: بأن الملحوظ قديماً وحديثاً في التعامل في البيع والشراء والاقتراض وغيرها علي حجم النقد المتعامل به وكميته العددية، لا علي قيمته الشرائية، بحيث يختلف المقدار المستحق عند الدفع عما عيّن عند إيقاع المعاملة، تبعاً لاختلاف قوته الشرائية.

ولذا لا يكتفي بالأقل عند ارتفاع قوة النقد الشرائية، مع أن ضبط نسبة اختلاف القوة الشرائية حين الدفع أيسر نسبياً من ضبطها حين إيقاع المعاملة.

ومن ثم يحتاج استحقاق الفائدة وتحديد مقدارها إلي شرط مسبق، ولا يقتضيه إطلاق المعاملة.

بل يجري ذلك حتي في غير النقد من المواد الاستهلاكية والخدمية، كالطعام واللباس والعقار والأجهزة وغيرها، لظهور أنها تتعرض دائماً لزيادة ماليتها وقلتها نتيجة العوامل المختلفة الدخيلة في العرض والطلب.

ونتيجة لذلك تكون الكمية هي المعيار في الربح والخسارة عرفاً، دون القوة الشرائية وزيادة المالية وحينئذ يكون صدق الربا تابعاً لذلك لا غير.

علي أن أدلة الربا لم تتضمن عنوان الربح، لتجري الشبهة المتقدمة فيه، بل عنوان الزيادة والتفاضل في مقابل التساوي والتمالك، ومن الظاهر صدق الزيادة بذلك، وإن فرض عدم صدق الربح للشبهة المتقدمة.

ص: 243

وثالثاً: بأن ذلك لا يختص بالعصر الحديث، بل هو أمر معرق مع الزمن، ومنه عصر صدور أدلة تحريم الربا، الذي عليه المعول في تحديد مراد الشارع الأقدس والمعايير المنظورة له في الربح والخسارة والتساوي والتماثل والزيادة والتفاضل.

ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام في ذكر الشواهد عليه.

وإن كان يحسن ذكر بعضها.

ففي حديث يونس بن يعقوب عن أبي الحسن الأول (عليه السلام): «سمعته يقول: إني كفنت أبي في ثوبين شطويين كان يحرم فيهما وفي قميص من قمصه، وعمامة كانت لعلي بن الحسين، وفي برد اشتريته بأربعين ديناراً، لو كان اليوم أربعمائة دينار»(1).

بل تضمنت النصوص المستفيضة تعرض النسبة بين الدينار والدرهم للاختلاف(2).

وقد يكون فاحشاً.

ففي حديث عبد الملك بن عتبة الهاشمي: «سألت أبا الحسن موسي (عليه السلام) عن رجل يكون له عند الرجل الدنانير أو خليط له يأخذ مكانها ورقاً في حوائجه، وهي يوم قبضها سبعة وسبعة ونصف بدينار، وقد يطلبها الصيرفي وليس الورق حاضراً، فيبتاعها له الصيرفي بهذا السعر سبعة وسبعة ونصف، ثم يجيء يحاسبه وقد ارتفع سعر الدينار، فصار باثني عشر كل دينار، هل يصلح له ذلك ؟ وإنما هي بالسعر الأول يوم قبض منه الدراهم، فلا يضره كيف كان السعر.

قال: يحسبها بالسعر الأول فلا بأس به»(3).

بل يأتي في أوائل الكلام في شروط الصرف بعض النصوص المتضمنة شراء الدينار بستة وعشرين درهماً.

ولذا ورد النهي عن البيع بدينار غير درهم، معللاً بأنه لا يعلم كم الدينار من الدرهم(4) ، وفي بعضها: «فلعل الدينار يصير بدرهم»(5).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 15.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3، 4، 9 من أبواب الصرف وغيرها.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الصرف حديث: 4.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب أحكام العقود.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب أحكام العقود حديث: 2.

ص: 244

ومن المعلوم جريان الربا المحرم بمقتضي أدلته في جميع ذلك بلحاظ الكم لا بلحاظ القيمة الشرائية ومقدار المالية.

وعليه كان العمل في عصر صدور النصوص.

والحاصل: أن أدلة الربا ظاهرة بل صريحة في أن المعيار فيه الزيادة بلحاظ الكمّ الذي هو المعيار فيه عند العرف في عصر الشارع الأقدس وفي جميع العصور.

وأما المعايير الاقتصادية الحديثة التي يجري عليها ذوو الاختصاص فهي غريبة علي العرف وعن مفاد الأدلة.

الدعوي الثانية: أن الربا وإن صدق في المقام، إلا أن الأدلة لا تنهض بعموم حرمة الربا بنحو يشمل أقسام بعض الربا الشايع في عصورنا، لأن الربا إنما شرع بلحاظ كونه ظلماً موجباً لفساد المال وتعطيل التجارات وغير ذلك من المحاذير المهمة، وبذلك يقصر عن مثل الربا الاستثماري الذي يدفعه المنتفع بالقرض والمستثمر له في أرباح طائلة، حيث لا يكون أخذ الفائدة منه ظلماً عند العرف، ولا موجباً لتعطيل التجارات، بل هو موجب للتشجيع عليها، ولا فساداً للمال، بل هو نماء له... إلي غير ذلك.

لكنه يشكل بأن عنوان الظلم والفساد ونحوها مما تقدم قد ورد ذكرها أو ذكر بعضها في موردين: الأول: قوله تعالي: (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)(1).

وقد يدعي أن التعبير المذكور يوحي بأن الربا المحرم هو الذي يكون ظلماً بنظر العرف، لما فيه من الإنهاك للمقترض، فيقصر عما لا يكون كذلك، كما في محل الكلام.

لكنه يندفع بأن الآية الشريفة لم ترد مورد التعليل للتحريم، ليفترض صدقه في مرتبة سابقة علي التحريم، ليدعي حمله علي الظلم العرفي بالوجه المتقدم، وقصر التحريم علي مورده، كما في سائر موارد التعليل للحكم، حيث لابد من صدق العلة

********

(1) سورة البقرة الآية: 279.

ص: 245

في مرتبة سابقة علي الحكم المعلل.

وإنما تضمنت تطبيق عنوان الظلم علي الربا في موردها ويتعين حينئذ حمله علي الظلم بمعناه الحقيقي، وهو أخذ غير الحق.

إذ بعد فرض تحريم الربا علي الإطلاق، كما في الآية الشريفة، وعدم استحقاق المقرض للزيادة علي المال الذي أقرضه، يكون أخذه للزيادة بعد التوبة ظلماً منه، في جميع أقسام الربا، من دون ملزم بالتقييد، كما يكون منعه من رأس ماله ظلماً له بعد عدم الموجب لخروجه عن ملكه.

الثاني: ما رواه الصدوق (قده) بأسانيده عن محمد بن سنان عن الإمام الرضا (عليه السلام) فيما كتب من جواب مسائله، وفيه: «وعلة تحريم الربا بالنسيئة لعلة ذهاب المعروف وتلف الأموال ورغبة الناس في الربح، وتركهم القرض، والقرض صنايع المعروف.

ولما في ذلك من الفساد والظلم وفناء الأموال»(1).

وقد يدعي أن سوق هذه الأمور بما فيها الظلم والفساد مساق التعليل ملزم بالبناء علي فرض تحققها في رتبة سابقة علي التحريم، بأن يراد تحققها عرفاً، فمع فرض عدم تحققها في بعض الأقسام بنظر العرف يتعين عدم تحريمه.

لكن الحديث كما تري قد تضمن التعليل بجهات كثيرة يعلم بعدم ملازمتها لجميع أفراد الربا في القرض، بحيث يكون تحريمه منوطاً بفعلية ترتبها.

فلابد من كون التعليل بها بلحاظ شأنية ترتبها، بمعني أن فتح باب الربا في القرض قد يؤدي إلي هذه الأمور، فيكون تحريمه احتياطاً ودفعاً لاحتمال حصولها، وهو ما يصطلح عند أهل الاستدلال بالحكمة، التي لا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً، ولا تمنع من عموم الحكم تبعاً لعموم أدلته.

هذا مضافاً إلي أمور: أحدها: أن صدق الظلم والفساد عرفاً علي الربا إنما هو بلحاظ أن المقترض

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب الربا حديث: 1.

ص: 246

قد يخطئ في تقدير الأمور، فيحسب حين الاقتراض قدرته علي الوفاء والتخلص من تراكم الفوائد، ويظهر خطؤه بعد ويعجز عن ذلك، وتتراكم عليه الفوائد حتي تنهكه أو تدمره، كما هو المناسب لعطف فناء الأموال علي الظلم في الحديث السابق.

وذلك إنما يجري مع إطلاق أمد استحقاق الفوائد، أما مع تحديده بأمد معين فلا يلزم ذلك.

وإلا فما الفرق عند العرف بالنظر إلي العواقب بين أن يبيع البضاعة بمائة نقداً مثلاً، ويشترط زيادة خمسين إن أجلها إلي خمسة أشهر، من دون أن تزيد لو تأخر عن ذلك، وأن يبيعها بمائة وخمسين نسيئة إلي خمسة أشهر، بحيث يكون الأول ظلماً دون الثاني.

بل الأول أخف علي المدين، إذ لو تيسر له في الأول تعجيل الوفاء لقلت المؤنة عليه، بخلاف الثاني.

ومن المعلوم حرمة الربا مطلقاً حتي في أمثال الفرض المذكور مما يحدد فيه الأمد، بحيث لا يكون ظلماً عرفاً.

ومنه ما سبق في المسألة الثالثة من الفصل الثامن من عدم جواز تأجيل الدين بزيادة عليه، وما تضمنته النصوص الكثيرة التي تقدم بعضها في المسألة الرابعة من الفصل المذكور من محاولة من حلّ دينه التخلص من الربا ببيع شيء ثم شراؤه رأساً ليفي الدين بأحد الثمنين ويكون الثمن الآخر ديناً عليه وإن زاد علي دينه الأول، وهو المعبر عنه في النصوص بالعينة(2) ، حيث يظهر منها المفروغية عن عدم جواز تأخير الدين إلي أجل محدود بزيادة فيه.

وذلك يكشف إما عما ذكرنا من كون التعليل في الحديث المتقدم حكمة، لا علة يدور التحريم مدارها وجوداً وعدماً، أو عن أن تطبيق الظلم علي الربا تعبدي، لا عرفي، فيمكن تعميمه علي جميع أقسام الربا، بل يتعين، عملاً بإطلاق الحديث.

وثانيها: أن الحديث المتقدم كما تضمن التعليل بالظلم تضمن التعليل بترك الناس القرض الذي هو صنايع المعروف.

بل لا يبعد كون المراد بالفساد هو دفع الزيادة من دون مقابل عيني، بقرينة قوله (رحمه الله) قبل ذلك في تعليل منع الربا المعاملي:

-

********

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب العقود.

ص: 247

«لأن الإنسان إذا اشتري الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهماً، وثمن الآخر باطلاً، فبيع الربا وشراؤه وكس علي كل حال علي المشتري وعلي البائع.

فحرم الله عز وجل علي العباد الربا لعلة فساد الأموال، كما حظر علي السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوف عليه من فساده حتي يؤنس منه رشد».

كما لا يبعد كون المراد بقوله (عليه السلام) فيما تقدم: «ورغبة الناس في الربح» هو ذهاب رغبتهم في الاتجار والاسترباح، واتكالهم في تكثير الأموال علي الربا.

وذلك كله موجود في جميع أقسام الربا، لظهور أن آخذ المال بالربا وإن كان قد يستثمره في الاتجار، إلا أن دافع المال يترك الاتجار به، ويتكل علي فوائده الربوية، فيتعين عموم الحرمة لها وإن لم يصدق عليها الظلم عرفاً، إذ يكفي في التحريم ثبوت بعض علله، ولا يلزم ثبوت جميعها.

وثالثها: أن من يحاول استفادة تحليل بعض أقسام الربا ينظر إما إلي الربا الذي يدفعه من يقترض من أجل الإعمار وإنعاش البلاد والعباد، أو إلي الربا الاستثماري الذي يستغل فيه المقترض القرض للاتجار والاستثمار وتحصيل الأرباح وتكديسها.

وكلا القسمين قد يلزم منهما الظلم عرفاً بالمعني المتقدم، لخطأ حسابات المقترض، وعجزه أخيراً عن وفاء الدين وأداء فوائده حتي يتكبل بالقيود، كما يشيع قروض الدول الضعيفة للإعمار، فضلاً عن أفراد الناس.

وقد يحصل في بعض البنوك التي تشجع ذوي المال علي إيداع أموالهم عندها، وأخذ فوائدها، من أجل استثمار تلك الأموال وتنميتها لصالح أصحابها، حيث قد تعجز أخيراً، فتعلن عن إفلاسها.

هذا كله مضافاً إلي أن الربا في عصورنا هو الربا في العصور السابقة، وإذا كان البعض يحاول أن يبرز الربا المعاصر أو بعض أقسامه بصورة مبررة أو جميلة فذلك موجود بواقعه سابقاً، وإن لم يتصد أحد لتبريره أو تجميل صورته.

ومع ذلك أصر الشارع الأقدس علي عموم حرمة الربا بحدوده الشرعية،

ص: 248

حسبما يفهمه العرف من أدلته، درءاً للفساد، وإهمالاً للمبررات أو المشجعات.

وذلك وحده كاف في الإعراض عنها وعدم التعريج عليها لمن يهمه التعرف علي وجهة نظر الشارع الأقدس، والوقوف عند أحكامه وحدوده.

والله سبحانه وتعالي من وراء القصد.

ونسأله التوفيق والتسديد.

وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 249

ص: 250

(251) (251)

الفصل العاشر / في بيع الصرف

اشارة

وهو بيع الذهب أو الفضة بالذهب أو الفضة.

ولا فرق بين المسكوك منهما وغيره (1).

(مسألة 1): يشترط في صحة بيع الصرف التقابض قبل الافتراق (2)

---------------

(1) كما هو مقتضي إطلاق الذهب والفضة في الوسيلة والغنية.

وقد يظهر الاختصاص بالأول من التعبير بالدراهم والدنانير أو النقدين في كلام بعضهم، ومن التعبير بالأثمان في كلام جماعة، لأن المسكوك من الذهب والفضة كسائر السلع لا خصوصية له في الثمنية.

وما في مفتاح الكرامة من عموم الأثمان لغير المسكوكين غير ظاهر.

ولاسيما مع ما في التذكرة وغيره من أنه إنما سمي صرفاً لأن الصرف لغة هو الصوت وهو يحصل بتقليب العوضين هنا.

نعم قد يستفاد العموم من مساق كلامهم والفروع التي ذكروها، بحيث يفهم منها عدم خصوصية النقدين.

والعمدة في المقام عموم بعض النصوص المتضمنة لحكم الصرف، كما يأتي إن شاء الله تعالي.

(2) كما في المقنعة والنهاية والمبسوط والوسيلة والغنية وجمهور من تأخر عنها.

ونفي الخلاف فيه في الغنية والسرائر والتحرير، كما صرح بالاتفاق عليه ممن عدا

ص: 251

الصدوق في كشف الرموز والتنقيح.

ويشهد به النصوص الكثيرة، كصحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يبتاع رجل فضة بذهب إلا يداً بيد، ولا يبتاع ذهباً بفضة إلا يداً بيد»(1).

وصحيح منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: إذا اشتريت ذهباً بفضة أو فضة بذهب فلا تفارقه حتي تأخذه منه.

وإن نزا حائطاً فانز معه»(2).

وصحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألته عن الرجل يشتري من الرجل الدراهم بالدينار فيزنها وينقدها ويحسب ثمنها كم هو ديناراً، ثم يقول: أرسل غلاماً معي حتي أعطيه الدنانير.

فقال: ما أحب أن يفارقه حتي يأخذ الدنانير فقلت: إنما هم في دار واحدة وأمكنتهم قريبة بعضها من بعض.

وهذا يشق عليهم.

فقال: إذا فرغ من وزنها وانتقادها [وإنقادها] فليأمر الغلام الذي يرسله أن يكون هو الذي يبايعه ويدفع إليه الورق، ويقبض منه الدنانير حيث يدفع إليه الورق»(3).

وموثق حنان بن سدير: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنه يأتيني الرجل ومعه الدراهم، فأشتريها منه بالدنانير، ثم أعطيه كيساً فيه دنانير أكثر من دراهمه، فأقول: لك من هذه الدنانير كذا وكذا ديناراً ثمن دراهمك، فيقبض الكيس مني ثم يرده عليّ، ويقول: أثبتها لي عندك.

فقال: إن كان في الكيس وفاء بثمن دراهمه فلا بأس»(4).

وكذا ما تضمن وجوب قبض ما يقابل الحلية من ثمن السيف المحلي(5).

وما في مجمع البرهان من أن يداً بيد كأنه كناية عن النقد في مقابل النسيئة لا عن التقابض.

غريب جداً.

ولاسيما أن بعض النصوص وإن اشتمل علي التعبير المذكور، إلا أن باقيها صريح في التقايض.

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب الصرف حديث: 3، 8، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الصرف حديث: 1.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 3، 6 وغيرها.

ص: 252

(253)

ومثله دعوي: أن اشتمال بعض النصوص علي قوله (عليه السلام): «ما أحب» مشعر أو ظاهر في الكراهة.

إذ ليس المراد بذلك إلا حديثين: الأول: صحيح عبد الرحمن بن الحجاج.

وتتمته شاهدة بحمله علي الوجوب.

الثاني: صحيح الحلبي: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل ابتاع من رجل بدينار، وأخذ بنصفه بيعاً وبنصفه ورقاً.

قال: لا باس.

وسألته هل يصلح أن يأخذ بنصفه ورقاً أو بيعاً ويترك نصفه حتي يأتي بعد، فيأخذ به ورقاً أو بيعاً.

فقال: ما أحب أن أترك منه شيئاً، حتي آخذه جميعاً، فلا تفعله»(1).

وهو أجنبي عن محل الكلام وإن كان ظاهرهم عدّه من نصوص المسألة، إذ ليس المفروض فيه شراء الورق بالنصف الآخر من الدينار، وتأجيل قبض الورق، بل ترك النصف الآخر عند البائع ديناً عليه، حتي ينظر بعد ذلك ما يشتري به منه، والذي لا يكون محبوباً له (عليه السلام) هو ذلك، لا ترك الورق عنده بعد شرائه بالنصف دينار الذي هو محل الكلام.

ولو فرض جدلاً كون الأخير هو المراد من الصحيح فحمل «ما أحب» علي الحرمة بقرينة النصوص الأخر أهون بكثير عرفاً من حمل تلك النصوص علي الكراهة بقرينته.

نعم في موثق عمار: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يبيع الدراهم بالدنانير نسيئة قال: لا بأس»(2) ، وقريب منه خبراه(3) ، وموثقه الآخر عنه (عليه السلام): «عن الرجل هل يحل له أن يسلف دنانير بكذا وكذا درهماً إلي أجل ؟ قال: نعم.

لا بأس.

وعن الرجل يحل له أن يشتري دنانير بالنسيئة ؟ قال: نعم إن الذهب وغيره في الشراء والبيع سواء»(4) ، وخبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: لا بأس أن يبيع الرجل الدنانير نسية بمائة أو أقل أو أكثر»(5) ، وخبر محمد بن عمر [عمرو]: «كتبت إلي أبي الحسن

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الصرف حديث: 9، 11.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الصرف حديث: 10، 12.

(4و5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الصرف حديث: 14، 13.

ص: 253

الرضا (عليه السلام): إن امرأة من أهلنا أوصت أن يدفع إليك ثلاثين ديناراً.

وكان لها عندي فلم يحضرني.

فذهبت إلي بعض الصيارفة.

فقلت: اسلفني دنانير علي أن أعطيك ثمن كل دينار ستة وعشرين درهماً، فأخذت منه عشرة دنانير بمائتين وستين درهماً.

وقد بعثتها إليك.

فكتب إليّ: وصلت الدنانير»(1).

وربما يجمع بين الطائفتين بوجوه: الأول: ما في التهذيبين من حمل النسيئة في الطائفة الثانية علي أنها صفة للدنانير، لا حالاً للبيع، ويكون المراد أن من كان له علي غيره دنانير نسيئة جاز أن يبيعها عليه في الحال بدراهم ويأخذ الثمن عاجلاً.

وهو كما تري! إذ لو أمكن ذلك في موثق عمار الأول وخبر زرارة فهو متعذر في بقية النصوص.

الثاني: ما في مجمع الفائدة من حمل الطائفة الثانية علي النسيئة بشرط القبض قبل التفرق.

قال: «إذ النسيئة لا يستلزم عدم القبض في المجلس».

وهو كما تري! بعيد جداً، لأنه حمل علي الفرد النادر.

وعدم التلازم عقلاً بين النسيئة وعدم القبض في المجلس، لا ينافي التلازم بينهما عرفاً، بحيث يستفاد من دليل جواز النسيئة عدم وجوب التقابض.

ولاسيما مع قوله (عليه السلام) في موثق عمار الثاني: «إن الذهب وغيره في الشراء والبيع سواء».

الثالث: حمل الطائفة الأولي علي خصوص بيع النقد وأنه لابد فيه من التقابض مع النسيئة.

وفيه أن نصوص الطائفة الأولي مسوقة عرفاً لعدم جواز بيع النسيئة.

ولذا لا يكون الجمع عرفياً.

خصوصاً بلحاظ ما سبق في موثق عمار الثاني من عدم الفرق بين والذهب وغيره في البيع والشراء، فإن مقتضاه عدم وجوب التقابض حتي في بيع النقد، كما في غير الذهب.

علي أن التفصيل المذكور لما كان مغفولاً عنه فلا يحتمل ثبوته في مثل هذه المسألة الشايعة الابتلاء.

الرابع: حمل الطائفة الأولي علي الكراهة بقرينة الثانية، كما ذكره في مجمع الفائدة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الصرف حديث: 15.

ص: 254

أيضاً، وهو المتبع نوعاً في الجمع بين دليلي المنع والترخيص.

لكن يأبي ذلك بعض نصوص الطائفة الأولي، كصحيحي عبد الرحمن بن الحجاج ومنصور بن حازم، وما سبق في موثق عمار من الطائفة الثانية من عدم الفرق بين الذهب وغيره في الشراء والبيع.

ومن هنا كان الظاهر استحكام التعارض بين الطائفتين.

وحينئذ يتعين تقديم الأولي، لأنها أكثر رواة وأشهر رواية.

لرجوع الطائفة الثانية إلي ثلاث رواة، والمعتبر منها روايتان لعمار فقط.

مضافاً إلي ظهور الإعراض عنها من قدماء الأصحاب.

غاية الأمر أنه قد يظهر من الصدوق (قده) في الفقيه العمل بموثق عمار الأول، لأنه ذكره في أول باب الصرف.

لكنه ذكر أيضاً موثق حنان بن سدير المتقدم في نصوص لزوم التقابض.

علي أن من الظاهر شيوع الابتلاء بالحكم المذكور في العصور السابقة جداً، وهو مستلزم عادة لظهور الحكم فيه وعدم خفائه علي المشهور.

بل يظهر من بعض النصوص مفروغية السائل عن وجوب التقابض، وإنما يسأل عن فروع ذلك، كموثق حنان بن سدير المتقدم ونحوه مما ورد في قبض أكثر من الحق(1) ، وصحيح إسحاق بن عمار: «سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يأتيني بالورق فأشتريها منه بالدنانير، فأشتغل عن تعيير وزنها وانتقادها وفضل ما بيني وبينه فيها، فأعطيه الدنانير وأقول: إنه ليس بيني وبينك بيع، فإني قد نقضت هذا الذي بيني وبينك من البيع، وورقك عندي قرض، ودنانيري عندك قرض، حتي تأتيني من الغد، وأبايعه.

قال: ليس به بأس»(2) وذلك مناسب لشهرة الحكم بوجوب التقابض وشيوع العمل عليه.

ومن ثم يتعين العمل بالطائفة الأولي، والإعراض عن الطائفة الثانية، ورد

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الصرف.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب الصرف حديث: 5.

ص: 255

علمها لأهلها (صلوات الله عليهم)، لكونها مورداً للريب.

والله سبحانه وتعالي العالم.

بقي في المقام أمور: الأول: قال في التذكرة: «لو تعذر عليهما التقابض في المجلس، وأرادا الافتراق لزمهما أن يتفاسخا العقد بينهما.

فإن تفرقا قبله كان ذلك ربا، وجري مجري بيع مال الربا بعضه ببعض نسيئة.

ولا يغني تفرقهما، لأن فساد العقد إنما يكون به شرعاً.

كما أن العقد مع التفاضل فاسد ويأثمان به».

ولا يتضح الوجه في رجوع اشتراط التقابض في الصرف إلي صدق الربا المحرم تكليفاً بدونه.

ولو تم فهما لم يقدما علي الربا بعد عزمهما علي التقابض، وإنما يصير العقد ربوياً قهراً عليهما، ولا دليل علي وجوب الفسخ حذراً من صيرورة العقد ربوياً، لظهور أدلة الربا في حرمة إيقاع العقد الربوي، لا في حرمة إبقاء العقد فراراً من صيرورته ربوياً.

ونظيره في ذلك ما لو فرض حرمة إيقاع عقد الصرف تكليفاً مع عدم التقابض، بحيث يكون الحرام نفس إيقاع العقد فإنه لو أقدما علي ذلك عمداً أو جهلاً فلا دليل علي وجوب التقابض عليهما، فضلاً عن وجوب الفسخ بتعذره.

وأما صحيح إسحاق المتقدم فهو لا يدل علي وجوب الفسخ.

ومجرد فعل إسحاق لذلك وإقرار الإمام (عليه السلام) له لا يدل علي جوبه.

ولاسيما مع قرب كون مراد السائل بالفسخ مجرد تنبيه صاحبه إلي بطلان المعاملة، وأن قبض كل منهما لما أخذه بنحو القرض، لا جرياً علي المعاملة، ويكون إقرار الإمام من أجل ذلك، وبيان أن القبض بنية القرض غير ضائر وإن كان المقصود إيقاع المعاملة بعد ذلك، وإن المدار في البطلان علي إيقاع المعاملة، لا علي القصد لإيقاعها بعد ذلك.

الثاني: أن أكثر نصوص المقام وارد في بيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب، ولا يشمل بيع الفضة بالفضة والذهب بالذهب وهو مقتضي ما في الدروس من أن الصرف بيع أحد النقدين بالآخر.

لكن مقتضي تعبير غير واحد عن الصرف ببيع

ص: 256

الأثمان بالأثمان عمومه لذلك ووجوب التقابض فيه.

بل هو صريح الغنية والجامع والقواعد، ويظهر من مفتاح الكرامة المفروغية عنه.

ويشهد به ما ورد في بيع السيف المفضض من لزوم قبض ثمن فضته(1) حيث يصلح قرينة علي عموم حكم الصرف لما إذا اتحد جنس العوضين.

وقد يستفاد من بقية نصوص المقام تبعاً.

فتأمل.

الثالث: الظاهر كفاية التقابض بقبض أكثر من الحق، بحيث يتعين كل من العوضين في المقبوض، ويملكه صاحبه بنحو ملك الكلي في المعين.

ويستفاد ذلك من النهاية والتذكرة والقواعد وظاهر السرائر والدروس.

ويشهد به موثق حنان بن سدير المتقدم وصحيح أبي بصير: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): آتي الصيرفي بالدراهم أشتري منه الدنانير، فيزن لي أكثر من حقي، ثم ابتاع منه مكاني بها دراهم.

قال: ليس به بأس، ولكن لا تزن أقلّ من حقك»(2) وغيرهما.

الرابع: صرح غير واحد من غير إشكال منهم بكفاية قبض الوكيل.

وهو في محله، لابتناء الوكالة علي قيام الوكيل مقام الأصيل.

كما صرحوا أيضاً بأنه لابد من قبض الوكيل قبل افتراق المتبايعين لعموم اعتبار كون التقابض قبل الافتراق.

ولخصوص صحيح عبد الرحمن بن الحجاج المتقدم.

نعم في موثق عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«سألته عن بيع الذهب بالدراهم، فيقول: أرسل رسولاً فيستوفي لك ثمنه فيقول: هات وهلم، ويكون رسولك معه» (3) .

كذا رواه في الوسائل عن الكليني والشيخ، وهو الموجود في الكافي.

ولا يخلو عن اضطراب.

لعدم وضوح الجواب فيه.

لكن الموجود في التهذيب هكذا: «قال: يقول: هات وهلم، ويكون رسولك معه».

وظاهره الاكتفاء بملازمة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 3، 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب الصرف حديث: 2.

ص: 257

فلو لم يتقابضا حتي افترقا بطل البيع (1).

ولو تقابضا في بعض المبيع صح فيه وبطل في غيره (2).

ولو باع النقد مع غيره بنقد صفقة واحدة ولم يتقابضا

---------------

رسول البائع ووكيله في القبض للمشتري، وعدم مفارقته له حتي يستوفي الثمن منه بل في الجواهر أنه قد يدعي صدق كون البيع يداً بيد حينئذٍ.

لكن الظاهر عدم صدق ذلك حقيقة.

وأما الموثق فهو لا يناسب صحيح عبد الرحمن بن الحجاج المتقدم.

والجمع بينهما بالحمل علي الكراهة كما في الجواهر في غاية الإشكال، لقوة ظهور الثاني في الوجوب، وانحصار طريق تصحيح المعاملة بتوكيل الرسول في إجراء المعاملة.

ولعله لذا احتمل في مرآة العقول حمل الموثق علي أن الرسول هو الذي يوقع عقد البيع، و إن اعترف بأنه خلاف ظاهره.

ومن هنا يشكل الخروج بالموثق عن عموم اعتبار التقابض قبل التفرق.

ولاسيما مع ظهور جري الأصحاب علي ذلك، لرجوعه إلي هجر الموثق.

ولذا ذكر في الجواهر أنه لا ينبغي الجرأة بما سبق علي مخالفة الأصحاب.

فلاحظ.

(1) كما عبر بذلك غير واحد.

وقد يظهر منه حصول البطلان بعد الصحة قبل التفرق.

لكن مقتضي ما يأتي في المسألة السادسة هو عدم صحة البيع رأساً، وأن القبض شرط في نفوذ البيع وصحته، فيكون المراد بالبطلان هنا تعذر صحته بعد أن كان قابلاً للصحة بالتقابض.

ويأتي الكلام في ذلك هناك إن شاء الله تعالي.

(2) بلا خلاف فيهما، كما في الجواهر.

وبه صرح في الشرائع والنافع والتذكرة والقواعد والإرشاد والدروس وغيرها.

وكأنه لتحقق الشرط في المقبوض دون غيره، كما في سائر موارد تبعض الصفقة الذي تقدم غير مرة من أنه من الأحكام العرفية.

وأخذ القبض شرطاً في المجموع بنحو الارتباطية يحتاج إلي عناية لا تنهض بها النصوص، فإن الأمر فيها صريحاً أو ظاهراً بالتقابض في الكل قد يكون لبيان توقف صحة المعاملة في تمام مضمونها علي ذلك من دون أن ينافي الصحة في البعض وحده

ص: 258

حتي افترقا صح في غير النقد وبطل في النقد (1).

-

مع التقابض فيه.

وأما دعوي ظهور ذيل صحيح الحلبي المتقدم فيمن اشتري بدينار فأخذ بنصفه بيعاً وبنصفه ورقاً في بطلان المعاملة رأساً.

فيظهر ضعفها مما سبق من أن الصحيح أجنبي عما نحن فيه.

مع أنه كسائر النصوص المتضمنة لاعتبار قبض المجموع قابل للحمل علي بيان اعتبار ذلك في صحة المعاملة في تمام مضمونها.

هذا وقد صرح في التذكرة واللمعة وغيرهما بثبوت خيار تبعض الصفقة لهما في الباقي، كسائر موارد تبعض الصفقة.

نعم استثني في اللمعة من ذلك ما إذا كان أحدهما مفرطاً في تأخير القبض فلا خيار له.

ومقتضاه عدم الخيار لهما معاً إذا كان بتفريط منهما معاً، كما في المسالك والروضة وغيرهما، وفي الجواهر: «كما هو واضح».

واستدل عليه في الرياض باستناد الضرر الموجب للخيار إلي المفرط، فيكون التفريط قادماً عليه، فلا موجب لخياره.

وفيه - مع اختصاصه بما إذا علم المفرط في الإقباض ببطلان المعاملة فيما لم يقبض -: أن ثبوت خيار تبعض الصفقة ليس لقاعدة نفي الضرر، لتقصر عن صورة التفريط بلحاظ ورودها مورد الامتنان، بل للخروج عما أقدم عليه الشخص حين المعاملة.

والتفريط في الإقباض بعد ذلك لا ينافي الإقدام علي تمامية الصفقة حين المعاملة.

نعم لو رجع التفريط في الإقباض إلي الرضا بتبعض الصفقة تعين سقوط الخيار، كما لعله ظاهر.

(1) لنظير ما سبق.

بل لعل الأمر فيه أظهر، لعدم التبعيض في الشرط.

كما في الصورة الأولي، ليجري ما سبق من احتمال منافاته لظهور النصوص في لزوم التقابض في الكل.

بل غاية الأمر تخلف الشرط في النقد فيختص البطلان به.

ويأتي إن شاء الله تعالي في المسألة الثانية عشرة بيان مقدار ما يجب التقابض فيه.

ص: 259

الكلام في اشراط التقابض في الصلح

(مسألة 2): لو فارقا المجلس مصطحبين وتقابضا قبل الافتراق صح البيع (1).

(مسألة 3): لا يشترط التقابض في الصلح الجاري في النقدين، بل تختص شرطيته بالبيع (2).

-

(1) كما صرح به غير واحد، ونفي في الجواهر الخلاف فيه.

والنظر في بعض كلماتهم يشهد بالمفروغية عنه.

ويقتضيه صحيحا عبد الرحمن بن الحجاج ومنصور بن حازم المتقدمان.

(2) كما هو مقتضي أخذهم البيع في مفهوم الصرف وتحريرهم للمسألة بعنوان بيع النقدين وبيع الأثمان من دون تنبيه منهم فيما تيسر لنا من الفحص للتعميم.

ولاسيما مع تعرضهم في الربا للكلام في العموم لغير البيع.

إلا أن يكون عدم تنبيههم لذلك في الصرف لاكتفائهم بما ذكروه في الربا، لظهور كلام بعضهم في أن الكلام في الصرف من تتمة الكلام في الربا ومن فروعه.

وكيف كان فنصوص اعتبار التقابض مختصة بالبيع.

لكن من القريب إلغاء خصوصية البيع عرفاً، والعموم لجميع أنحاء المعاوضة والمبادلة.

ولاسيما بلحاظ صحيح إسحاق بن عمار: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تكون للرجل عندي الدراهم الوضح، فيلقاني فيقول: كيف سعر الوضح اليوم ؟ فأقول له: كذا.

فيقول: أليس عندك كذا وكذا ألف درهم وضحاً؟ فأقول: بلي، فيقول لي: حولها دنانير بهذا السعر، وأثبتها لي عندك.

فما تري في هذا؟ فقال لي: إذا كنت قد استقصيت له السعر يومئذ فلا بأس بذلك.

قلت: إن لم أوازنه ولم أناقده، إنما كان كلام مني ومنه.

فقال: أليس الدراهم من عندك والدنانير من عندك ؟ قلت: بلي.

قال: فلا بأس بذلك»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الصرف حديث: 1.

ص: 260

(261)

(مسألة 4): لا يجري حكم الصرف علي الأوراق النقدية، كالدينار العراقي والنوط الهندي والتومان الإيراني والدولار والباون ونحوها من الأوراق المستعملة في هذه الأزمنة استعمال النقدين، فيصح بيع بعضها ببعض وإن لم يتحقق التقابض قبل الافتراق (1).

كما أنه لا

---------------

إذ من الظاهر أن تحويل الدراهم إلي دنانير ليس بيعاً مبنياً علي تعويض المثمن بالثمن، بل مبادلة محضة بين الدراهم والدنانير، من دون نظر للمثمن منهما والثمن، ومع ذلك انتبه السائل إلي عدم تحقق التقابض الذي هو الشرط في الصرف، وذلك يكشف عن أن المرتكز له عموم الشرط المذكور للمبادلة المذكورة، وعدم اختصاصه بالبيع، ولم يردعه الإمام (عليه السلام) عن ذلك، بل نبه إلي عدم الحاجة للشرط المذكور بسبب كون كلا طرفي المبادلة عند شخص واحد، فهو نظير الوكيل في تولي كلا طرفي المعاملة.

وقريب من ذلك صحيح عبيد بن زرارة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون لي عنده دراهم، فآتيه فأقول: حولها دنانير من غير أن أقبض شيئاً.

قال: لا بأس.

قلت: يكون لي عنده دنانير فآتيه فأقول: حولها دراهم وأثبتها عندك، ولم أقبض منه شيئاً قال: لا بأس»(2) فإن قول السائل: «من غير أن أقبض شيئاً» وقوله: «ولم أقبض منه شيئاً» مشعران أو ظاهران في عموم اعتبار القبض للتحويل المذكور، وإلغاء خصوصية البيع فيه.

ومن ثم يقرب عموم الشرط المذكور لجميع أفراد المعاوضة والمبادلة وعدم اختصاصه بالبيع، كما هو المناسب لما يأتي في المسألة السابعة من أن تبديل أحد النقدين بالآخر صرف يجب فيه التقابض.

(1) بلا إشكال ظاهر.

لعدم كونهما ذهباً ولا فضة.

بل ولا دراهم ودنانير وإن

-

********

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الصرف حديث: 2.

ص: 261

بيع الدين بنقد اخر

(مسألة 5): إذا كان له في ذمة غيره دين من أحد النقدين، فباعه عليه بنقد آخر وقبض الثمن قبل التفرق صح البيع، ولا حاجة إلي قبض المشتري ما في ذمته (2)، ولو كان له دين علي زيد، فباعه علي عمرو بنقد وقبضه من

---------------

أطلق عليهما اسمهما، لأن الدينار والدرهم في اللغة والعرف في عهد الشارع الأقدس هما الذهب والفضة المسكوكان للتعامل بهما.

وإطلاقهما علي الأوراق النقدية عرف حادث لا عبرة به، ولا يوجب الدخول في موضوع الأدلة.

وحتي في أوائل عهد إنشاء النقود المذكورة حينما كانت تقابل بالمسكوكات الذهبية والفضية لم تكن من سنخ الوثيقة للمسكوكات المذكورة، بحيث يكون التعامل في الحقيقة بنفس تلك المسكوكات، بل كانت صالحة للإبدال بها، مع قيام المالية بالأوراق النقدية بنفسها، وتكون هي الموضوع للتعامل، وحيث لم تكن ذهباً ولا فضة تعين عدم التقابض فيها.

ولو فرض كونها من سنخ الوثيقة، مع كون موضوع التعامل في الحقيقة هو المسكوكات، تعين اعتبار التقابض في المسكوكات بنفسها، ولا يجتزأ بالتقابض في الأوراق النقدية، كما لعله ظاهر.

(1) حيث يظهر مما سبق خروجها عن موضوع أدلتها، وهو الذهب والفضة المسكوكان للتعامل بهما.

(2) الأصحاب بين من لم يتعرض لبيع ما في ذمة الغير عليه، واكتفي بذكر التحويل الآتي في المسألة السابعة، والذي هو مورد النصوص، ومن نزل التحويل علي البيع، ولم أعثر عاجلاً علي من جمع بينهما.

ولا ينبغي الإشكال في عدم رجوع التحويل للبيع، لما أشرنا إليه في المسألة الثالثة من تمحض التحويل في التبديل، وابتناء البيع زائداً علي ذلك علي فرض كون

ص: 262

(263)

أحد طرفي المعاملة هو الأصل في النقل والآخر عوضاً عنه وثمناً له.

وحيث وردت النصوص في التحويل فظاهر سيدنا المصنف الرجوع في البيع للقاعدة القاضية بوجوب التقابض قبل الافتراق.

ولذا يظهر منه وجوب قبض الثمن هنا قبل الافتراق.

وكأن اكتفاءه (قده) بذلك وعدم اعتباره لقبض المشتري للمثمن بعد تعيينه، لكون انشغال ذمته به بمنزلة قبضه له.

لكن ذلك إن رجع إلي دعوي كونه قبضاً حقيقياً بنظر العرف فهو في غاية المنع.

وإن رجع إلي كونه بمنزلة القبض فهو يحتاج إلي دليل.

وأما استفادة ذلك مما ورد في هبة ما في الذمة، حيث يظهر نفوذها من دون حاجة للقبض، مع أن القبض شرط في صحة الهبة.

فلا مجال له.

.

أولاً: لأن ثبوت ذلك في الهبة لا يقتضي ثبوته في غيرها، ومنه المقام.

وثانياً: لرجوع هبة ما في الذمة إلي الإبراء الذي لا يحتاج للقبض، ولذا ورد لزوم الهبة المذكورة(1).

نعم قد يستفاد ذلك من قوله في صحيح عبيد الله بن زرارة الوارد في التحويل والمتقدم في المسألة الثالثة: «من غير أن أقبض شيئاً»، وقوله فيه: «ولم أقبض منه شيئاً».

لظهورهما في مفروغية السائل عن عدم الحاجة لإقباض الدائن للمدين، وإنما السؤال عن الحاجة لإقباض المدين للدائن، وما ذلك إلا لأن انشغال ذمة المدين بمنزلة قبضه.

وكذا الحال في صحيح إسحاق بن عمار المتقدم هناك، بناءً أن المراد بالموازنة والمناقدة فيه خصوص الوزن للمدين وإنقاده الراجع لإقباضه، دون التقابض بينهما معاً.

مضافاً إلي قوله (عليه السلام) في صحيح إسحاق:

«أليس الدراهم من عندك والدنانير من عندك ؟».

فإنه حيث كان وارداً مورد التعليل فهو ظاهر في عموم سقوط التقابض في التبادل بين النقدين مع كون كلا العوضين فيه عند شخص واحد، من دون أن يختص ذلك بالتحويل بعد ما سبق في المسألة الثالثة من ظهور النصوص المذكورة في ارتكاز عموم وجوب التقابض لجميع أنحاء التبادل بين النقدين.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب كتاب الهبات حديث: 1.

ص: 263

اذا باع ما اشراه نقداً قبل القبض

عمرو، ووكل عمرو زيداً علي قبض ما في ذمته (1) ففي صحته بمجرد التوكيل إشكال (2) بل لا يبعد عدم الصحة حتي يقبضه (3) زيد ويعينه في مصداق بعينه (4).

(مسألة 6): إذا اشتري منه دراهم معينة بنقد ثم باعها عليه قبل قبضها لم يصح البيع (5) الثاني، فإذا قبض الدراهم بعد ذلك قبل التفرق

---------------

نعم مقتضاه عدم اعتبار قبض البائع للثمن أيضاً في المقام.

فاللازم البناء علي ذلك، خلافاً لما يظهر من سيدنا المصنف (قده).

(1) يعني: قبضه عن عمرو، بنية ما في ذمته له.

(2) لما سبق من عدم كون انشغال ذمة الشخص بالشيء قبضاً له، ليمكن توكيله في أن ينوي باستمراره القبض عن عمرو المشتري، كما لا يجري فيه التعليل المتقدم في صحيح إسحاق بن عمار.

(3) يعني عن عمرو قبل تفرق عمرو عن البائع.

(4) ليتحقق بذلك القبض عرفاً.

(5) كما في النهاية ونكتها والشرائع والنافع والتذكرة والقواعد والتحرير والمختلف والدروس وعن إيضاح النافع وغيرها.

وهو المشهور، كما في الحدائق والجواهر وعن الكفاية.

وقد استدل له في نكت النهاية بعدم ترتب الأثر علي البيع الأول قبل القبض، فلم يملك المشتري الدراهم ليصح منه بيعها.

وهو يبتني علي أن مرجع اشتراط التقابض في الصرف إلي عدم ترتب الأثر علي العقد قبله.

أما لو قيل بصحة العقد حين وقوعه وترتب أثره عليه وحصول الملك به، إلا أنه يبطل بالتفرق قبل القبض، فالمتعين صحة البيع الثاني حين وقوعه، فإذا تمّ

ص: 264

(265)

التقابض في البيع الأول بعد ذلك لم يبطل، وإلا بطل.

ولا يبعد ظهور النصوص في الأول.

خصوصاً مثل قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن قيس المتقدم:

«لا يبتاع رجل فضة بذهب إلا يداً بيد، ولا يبتاع ذهباً بفضة إلا يداً بيد» (1) .

لظهور النهي عن البيع من دون تقابض في عدم ترتب الأثر عليه، لا في بطلانه بالتفرق بعد ترتب الأثر عليه.

وبذلك يظهر ضعف ما في التنقيح من ردّ ما سبق من نكت النهاية من أنه سبق منه أن المبيع يملك بالعقد، وبطلانه في المقام قبل التفرق لا ينافي حصول الملك المتزلزل الذي يصح معه البيع الثاني، حيث يظهر مما سبق أن البناء علي حصول الملك بالعقد إنما يتجه في غير الصرف، وأنه لا مجال للبناء علي حصول الملك المتزلزل فيه قبل القبض، بحيث يبطل بالتفرق قبله بعد صحته.

هذا وقد استدل في المختلف للشيخ مع قطع النظر عما سبق بأنه (قده) يذهب إلي عدم جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضه.

وهو لو تم وجه آخر.

وقد تقدم الكلام فيه جوازاً ومنعاً، وعموماً وخصوصاً، في المسألة السادسة من الفصل السابع.

فراجع.

كما استدل له أيضاً بصحيح إسحاق بن عمار: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يجيئني بالورق يبيعها يريد بها ورقاً عندي، فهو اليقين أنه ليس يريد الدنانير، ليس يريد إلا الورق، فلا يقوم حتي يأخذ ورقي.

فأشتري منه الدراهم بالدنانير، فلا تكون دنانيره عندي كاملة، فاستقرض له من جاري، فأعطيه كمال دنانيره.

ولعلي لا أحرز وزنها.

فقال: أليس تأخذ وفاء الذي له ؟ قلت: بلي.

قال: ليس به بأس»(2).

فإنه وإن ورد لبيان الاجتزاء بالقبض ولو مع عدم الوزن، واحتمال كون المقبوض أكثر من الحق، إلا أنه ظاهر في مفروغية السائل عن وجوب إقباض الثمن وهو الدنانير قبل بيعها ثانياً، وتقرير الإمام (عليه السلام) له علي ذلك، وأنه لابد من إحراز

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب الصرف حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الصرف حديث: 3.

ص: 265

صح البيع الأول وبطل الثاني (1)، وإذا لم يقبضها حتي افترقا بطل الأول

---------------

كون الدنانير المدفوعة له تفي بمقدار حقه.

وقريب منه صحيح أبي بصير المتقدم في ذيل الكلام في وجوب التقابض في الصرف.

فلاحظ.

ثم إنه لو تم ما سبق من التنقيح من حصول الملك قبل التقابض، وصحة المعاملة الثانية، فمقتضي القاعدة تعذر تصحيح البيع الأول، لتعذر التقابض فيه بسبب البيع الثاني، وخروج العوض عن ملك من ملكه بالبيع الأول، ويتعين صحة البيع الثاني بالتقابض فيه، وضمان المشتري الأول للبائع الدراهم التي اشتراها منه، نظير ما إذا فسخ ذو الخيار بعد بيع أحد العوضين.

لكن يظهر من السرائر صحة البيعين معاً، بل هو صريح التنقيح، حيث قال: «وصح البيع الأول أيضاً، لأنه وإن لم يقبض الدراهم، لكن قبض عوضها، وهو الدنانير، هو قبض العوض كقبض المعوض».

وفيه: أنه لم يتضح الوجه في التنزيل المذكور بعد ظهور النصوص في اعتبار قبض كل من العوضين بنفسه، لا ما يعمّ بدله.

(1) حيث تقدم منه (قده) بطلانه حين وقوعه فلابد من كون مراده من بطلانه بعد التقابض في البيع الأول، هو بقاؤه علي البطلان وتعذر تصحيحه.

ولعله ناظر إلي ما في جامع المقاصد من كون العقد فضولياً، فيبتني علي مسألة من باع مال غيره ثم ملكه.

بل في المسالك: «وينبغي القول بالصحة مطلقاً إذا تقابضا قبل التفرق.

وغاية ما يحصل في البيع الثاني أن يكون فضولياً، فإذا لحقه القبض صح».

وكأنه يذهب إلي أن من باع مال غيره ثم ملكه نفذ عليه بيعه، غايته أنه يحتاج إلي التراد في القبض، ليتم التقابض للبيع الثاني.

لكن سبق منّا ومن سيدنا المصنف (قده) أنه من باع مال غيره ثم ملكه لم ينفذ بيعه السابق حتي لو أجازه.

ولعله هو الوجه فيما ذكره (قده) هنا.

بل قد يشكل في كون

ص: 266

(267)

والثاني (1).

(مسألة 7): إذا كان له دراهم في ذمة غيره، فقال له حولها دنانير في ذمتك، فقبل المديون، صح ذلك وتحول ما في الذمة إلي دنانير وإن لم يتقابضا.

وكذا لو كان له دنانير في ذمته فقال له حولها دراهم وقبل المديون، فإنه يصح وتتحول الدنانير إلي دراهم (2).

وكذلك الحكم في الأوراق النقدية

---------------

المقام من صغريات ما إذا باع الفضولي ثم ملك، إذ لا معني لبيع ملك الإنسان عليه، فيتعين بطلان البيع رأساً وعدم قابليته للتصحيح حتي لو قلنا بصحة بيع الفضولي إذا ملك بالإجازة أو بدونها.

اللهم إلا أن يقال: إن المفروض في محل الكلام تحقق القصد للبيع ثانياً بسبب الغفلة عن عدم ترتب أثر البيع الأول قبل القبض.

وحيث لم يكن وجه القول بصحة بيع من باع ثم ملك ظاهراً لنا فلا يتيسر لنا تحديده والنظر في شموله لمثل المقام مما يكون فيه البيع بيعاً علي المالك واقعاً.

فلاحظ.

(1) قطعاً، لعدم التقابض في الأول، ولما سبق من عدم الملك حين البيع في الثاني.

(2) كما عبر بنظير ذلك في النهاية والنافع وحكي عن ابن الجنيد.

والأصل في ذلك صحيحا إسحاق بن عمار وعبيد بن زرارة المتقدمان في المسألة الثالثة.

وهما صريحان في عدم اعتبار التقابض، وقد سبق تعليل ذلك في الأول بأن كلا العوضين من شخص واحد.

كما أنه سبق في المسألة المذكورة أن تحويل أحد النقدين للآخر ليس بيعاً، فلا وجه لما يظهر من الشرائع وغيره من حمل النص علي البيع.

وأشكل من ذلك ما في الدروس وغيره من حمل النصوص والفتوي علي البيع وعلي توكيل الشخص للصيرفي في القبض عنه، وما في ذمته مقبوض له.

فإنه تكلف لا شاهد له، بل الظاهر سوق التعليل في صحيح إسحاق لبيان عدم الحاجة للتقابض، فلا يناسب فرض تحقق التقابض بالتوكيل.

ص: 267

الكلام في اقباض المبيع او الثمن

إذا كانت في الذمة فيجوز تحويلها من جنس إلي آخر (1).

(مسألة 8): لا يجب علي المتعاملين بالصرف إقباض المبيع أو الثمن (2)، حتي لو قبض أحدهما لم يجب عليه إقباض صاحبه، ولو كان

---------------

غاية الأمر البناء علي عدم وجوب التقابض في الفرض إما لخروجه عن الصرف، أو تخصيصاً لعموم وجوب التقابض فيه من أجل الصحيحين.

لكن في السرائر منع من ذلك، وصرح ببطلان المعاملة المذكورة مع التفرق قبل التقابض، بل نفي الخلاف في ذلك واستشهد له بما في باب السلم من المبسوط، حيث ذكر جواز التقايل في السلم، وأنه لو حصل وقد تلف الثمن لزم البائع مثله للمشتري ثم قال: «فإن تراضيا بقبض بدله من جنس آخر، مثل أن يأخذ الدراهم بدل الدنانير أو الدنانير بدل الدراهم أو يأخذ عرضا [عوضا] آخر كان جائزاً.

فإن أخذ الدنانير بدل الدراهم، أو الدراهم بدل الدنانير وجب أن يقبضها في المجلس قبل أن يفارقه، لأن ذلك صرف».

لكن إذا توجه منه (قده) البناء علي البطلان، لغفلته عن الصحيحين المتقدمين، أو لعدم تعويله علي أخبار الآحاد، فلا يتجه منه نفي الخلاف في ذلك بعد وجود الصحيحين المذكورين وعمل الشيخ (قده) في النهاية بهما.

ومجرد خروج الشيخ عن ذلك في المبسوط لا يكفي في نفي الخلاف.

علي أنه في غير محله بعد ورود الصحيحين.

(1) بلا إشكال ظاهر.

لأن ذلك وإن خرج عن مفاد الصحيحين، إلا أنه مقتضي عمومات الصحة بعد خروجه عن الصرف، كما سبق في المسألة الرابعة.

(2) لأن الإقباض إنما يجب مع نفوذ البيع عملاً بمقتضاه.

أما حيث كان نفوذ البيع متوقفاً علي الإقباض تخصيصاً لعمومات النفوذ كما سبق في المسألة السادسة فلا ملزم بالإقباض، لعدم نفوذ البيع بعد.

ص: 268

(269)

للمبيع أو الثمن نماء قبل القبض كان لمن انتقل عنه (1)، لا لمن انتقل إليه.

(مسألة 9): الدراهم والدنانير المغشوشة إن كانت رائجة في المعاملة بها يجوز خرجها وإنفاقها والمعاملة بها (2)، سواء أكان غشها مجهولاً أم

---------------

نعم لو اشترطا حين العقد الإقباض لم يبعد وجوبه عملاً بالشرط، لأن عدم نفوذ العقد من حيثية البيع بسبب التقابض لا ينافي نفوذه من حيثية الشرط، كما لا ينافي نفوذ الشرط بنفسه.

وحينئذ إن حصل التقابض قبل التفرق نفذ البيع أيضاً.

وإن تفرقا قبله كان التفرق محرماً تكليفاً، لمنعه من تحقق التقابض المستحق بالشرط، وتعذر معه تصحيح البيع، كما يرتفع موضوع الشرط، لأن المراد به التقابض المصحح للبيع، والمفروض تعذره بالتفرق.

فتأمل.

(1) يعني لمن من شأن البيع أن ينتقل عنه.

لعدم انتقاله عنه بعد، لما سبق في المسألة السادسة من عدم خروجه عن ملكه قبل التقابض، فيتبعه النماء ومن ذلك يظهر أن المعيار في ذلك عدم حصول التقابض منهما معاً.

ولا يكفي في انتقال النماء قبض ذي النماء وحده.

كما قد توهمه عبارة المتن.

وإن كان الظاهر أن المراد بها ما ذكرنا.

هذا وفرض النماء في مثل الذهب والفضة غير متصور.

نعم يمكن فرض المنفعة ذات المالية، كما لو تزين بهما إنسان قبل تفرق المتبايعين، حيث يكون أجر التزين المذكور بناء علي ما سبق لمن كان مالكاً لما يتزين به قبل البيع.

(2) كما في الاستبصار والشرائع والتذكرة والمختلف والدروس وغيرها، وأدعي الإجماع عليه في المختلف.

وفي الجواهر: «بلا خلاف، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه، فضلاً عن محكيه.

للسيرة القطعية».

ويشهد به النصوص.

كصحيح أبي العباس البقاق: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الدراهم المحمول عليها.

فقال: إذا أنفقت ما يجوز بين أهل البلد فلا بأس.

وإذا

ص: 269

معلوماً، وسواء أكان مقدار الغش معلوماً أم مجهولاً (1).

وإن لم تكن رائجة فلا يجوز إنفاقها والمعاملة بها إلا بعد إظهار حالها (2).

-

أنفقت ما لا يجوز بين أهل البلد فلا»(1) ، ومعتبر محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):

«جاءه رجل من سجستان، فقال له: إن عندنا دراهم يقال لها: الشاهية [الشامية] يحمل علي الدرهم دانقين.

فقال: لا بأس به إذا كانت يجوز [يجوز ذلك]» (2) .

وقريب منه خبر حريز(3).

وفي صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أشتري الشيء بالدراهم، فأعطي الناقص الحبة والحبتين.

قال: لا حتي تبينه.

ثم قال: إلا أن يكون نحو هذه الدراهم الأوضاحية التي تكون عندنا عدداً»(4).

وهو وإن ورد في الناقص لا في المغشوش بجنس آخر، إلا أن النقص نحو من الغش.

علي أن الغش بجنس آخر إنما يرغب عنه لرجوعه إلي نقص الجنس المطلوب بالأصل.

ومنه يظهر الإشكال في إطلاق النهاية عدم جواز إنفاق الدراهم المحمول عليها إلا بعد بيان حالها.

إلا أن يحمل علي ما إذا لم تكن رائجة، لأنها هي تحتاج إلي بيان حالها عرفاً.

(1) كما هو مقتضي إطلاق من سبق، بل صريح بعضهم في الجملة.

ويقتضيه إطلاق النصوص السابقة، بل هو كالصريح من صحيح عبد الرحمن المتقدم، لأن ابتناء الدراهم علي العدد يناسب عدم انضباط الوزن بها.

(2) كما صرح به من سبق.

وهو المتيقن من إطلاق النهاية المتقدم.

وفي الجواهر: «بلا خلاف، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه، فضلاً عن محكيه.

لما فيه من الغش المحرم نصاً وإجماعاً».

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب الصرف حديث: 9، 6.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب الصرف حديث: 10، 7.

ص: 270

(271)

مضافاً إلي صحيح علي بن رئاب لا أعلمه إلا عن محمد بن مسلم: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): «الرجل يعمل الدراهم يحمل عليها النحاس مرة أو غيره ثم يبيعها.

قال: إذا بين [ذلك] فلا بأس(1)»، وصدر صحيح عبد الرحمن بن الحجاج المتقدم بالتقريب المتقدم، ومعتبر جعفر بن عيسي: «كتبت إلي أبي الحسن (عليه السلام): ما تقول جعلت فداك في الدراهم التي أعلم أنها لا تجوز بين المسلمين إلا بوضيعة تصير إلي من بعضهم بغير وضيعة بجهلي به، وإنما آخذه علي أنه جيد.

أيجوز أن آخذه وأخرجه من يدي علي حدّ ما صار إلي من قبلهم ؟ فكتب: لا يحل ذلك...»(2).

وبذلك يجمع بين إطلاق ما تضمنته النصوص السابقة مفهوماً أو منطوقاً من عدم جواز إنفاق ما لا يجوز بين أهل البلد، وإطلاق صحيح محمد بن مسلم: «سألته عن الدراهم المحمول عليها: قال: لا بأس بإنفاقها»(3).

بقي في المقام طائفتان من النصوص: الأولي: معتبر عمر بن يزيد: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن إنفاق الدراهم المحمول عليها: فقال: إذا جازت الفضة المثلين فلا بأس»(4) ، ومعتبره الآخر عنه (عليه السلام): «في إنفاق الدراهم المحمول عليها.

فقال: إذا كان الغالب عليها الفضة فلا بأس بإنفاقها»(5).

ولا يظهر من الأصحاب التعويل عليها في التحديد المذكور، سواء أريد به تحديد جواز التعامل في الجملة في مقابل تحريم التعامل رأساً، أم تحديد جواز التعامل من دون إعلام بالحال في مقابل لزوم الإعلام بالحال.

وقد حملها في الجواهر علي أن الجائز في ذلك الوقت ما كان كذلك.

لكن لا شاهد علي ذلك.

ومن ثم يتعين الوقوف عندها، ورد علمها لقائلها (عليه السلام).

الثانية: معتبر المفضل بن عمر الجعفي: «كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فألقي

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب الصرف حديث: 2، 8، 1.

(4و5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب الصرف حديث: 3، 4.

ص: 271

بين يديه دراهم، فألقي إلي درهماً منها، فقال: أيش هذا؟ فقلت: ستوق.

فقال: وما الستوق ؟ فقلت: طبقتين فضة، وطبقة من نحاس، وطبقة من فضة.

فقال: اكسرها، فإنه لا يحل بيع هذا ولا إنفاقه»(1).

ومعتبر موسي بن بكر:

«كنا عند أبي الحسن (عليه السلام) وإذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر إلي دينار فأخذه بيده ثم قطعه بنصفين، ثم قال لي: ألقه في البالوعة حتي لا يباع شيء فيه غش» (2) .

لكن ما تضمنه الثاني من الإلقاء في البالوعة يناسب عدم المالية في الدينار المذكور، لعدم اشتماله علي شيء من الذهب، وتسميته بالدينار لمحض المشابهة، وإلا لزم التبذير المحرم.

ومثل النقد المذكور ينحصر التعامل به بالغش، نظير النقود الورقية المزيفة في عصورنا، فيحرم تعريضه لأن يتعامل به، نظير آلات الفساد.

وعلي ذلك يحمل قوله (عليه السلام): «حتي لا يباع شيء فيه غش».

ولعل كسره من أجل ذلك، من دون يكون واجباً في نفسه، لأن فعله (عليه السلام) أعم من ذلك.

وربما يحمل الأول علي ذلك أيضاً، ولو بقرينة النصوص السابقة المصرحة بالجواز، بأن يكون هذا النوع من الدراهم ليس من شأنه أن يتعامل به بما يناسب ماليته القائمة بالفضة ولو مع بيان حاله، بل من شأنه أن يغش به، وينفق بما أنه فضة بتمامه.

فهو وإن كان له مالية في نفسه، إلا أنه يتمحض عرفاً في كونه أداة للغش.

نظير النحاس المطلي بالرصاص لينفق علي أنها دراهم، والفضة المطلية بماء الذهب التي من شأنها أن تنفق علي أنها دنانير، حيث لا تمنع ماليته من تمحضه في كونه أداة الغش عرفاً.

وهذا بخلاف ما سبق من جواز التعامل به مع بيان حاله أو مع رواجه في نفسه، فإنه وإن أمكن الغش به، نظير ما سبق في مكاتبة جعفر بن عيسي، إلا أنه ليس متمحضاً عرفاً لذلك، بل هو صالح للوجهين، فلا يكون تعريضه لأن يتعامل به

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب الصرف حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يتكسب به حديث: 5.

ص: 272

(273)

(مسألة 10): لا يجوز تصريف الريال العراقي بأربعة دراهم عراقية إلا مع ضمّ شيء إلي الريال أو إليهما معاً، ليتخلص من الربا، فإن الريال يساوي ثلاثة دراهم تقريباً.

فينبغي الالتفات إلي ذلك عند تصريف المسكوكات من الفضة أو الذهب أو النحاس إلي أبعاضها، مثل تصريف الليرة العثمانية والمجيدي والروبية إلي أرباعها أو أنصافها.

وكذا أمثالها من المسكوكات فإنه لا يجوز مع التفاضل بين الأصل وأبعاضه، كما هو الغالب.

وإن كان المنع المذكور في بعضها لا يخلو من نظر (1).

---------------

محرماً، كسائر الأمور التي قد تستعمل في الحرام من دون أن تتمحض فيه، وتكون آلة له عرفاً.

ولعل ما ذكرنا أولي من حمل معتبر المفضل علي كراهة التعامل بالدراهم المذكورة، أو استحباب كسرها والمنع من التعامل بها، جمعاً بينه وبين النصوص السابقة الصريحة في الجواز في الجملة.

فلاحظ.

(1) للإشكال فيها من جهتين: الأولي: أنها كثيراً ما تكون من المعدود عرفاً.

إلا أن يستشكل في خصوص الذهب والفضة، لأنهما من سنخ الأثمان المبنية علي الضبط، وبيعهما جزافاً حالة شاذة، نظير ما تقدم التنبيه له في المسالة التاسعة من الفصل السابق.

الثانية: أن أجزاء المسكوكات المذكورة قد يغلب فيها الخليط، بحيث لا تعد عرفاً فضة أو ذهباً، بل ممزوجاً منها ومن الخليط، وتكون الفضة فيها أو الذهب أقل من الفضة والذهب في السكة الكاملة، كالريال.

بل خرجت أخيراً الدراهم العراقية ونحوها في البلاد الأخري عن كونها فضة إلي معدن آخر مباين له، بحيث يرتفع الإشكال من أصله، لاختلاف الجنس.

ص: 273

(مسألة 11): يكفي في الضميمة التي يتخلص بها من الربا الغش الذي يكون في الذهب والفضة المغشوشين (1) إذا كان الغش له قيمة في

---------------

نعم توقف صرفها بالمسكوكات الفضية بسبب ذلك، وفقدت نسبتها إليها، وخرجت المسكوكات الفضية والذهبية عن كونها عملة يتعامل بها إلي كونها سلعة تباع وتشري.

(1) كما في التذكرة.

قال: «صرفاً للخالص إلي الغش والغش إلي الخالص».

ويستفاد ذلك من غير واحد ممن جعل الغش من الضميمة المانعة من الربا.

والذي ينبغي أن يقال: الخليط إن كان مستهلكاً في المغشوش بحيث لا وجود له في مقابله عرفاً.

غايته أن يوجب حسن ما يخلط به أو رداءته، كالنحاس الذي يخلط بالذهب علي عيارات مختلفة فهو لا يوجب تعدد الجنس، ولا يصلح لأن يكون ضميمة مانعة من الربا، كما صرح بذلك بعض مشايخنا (قده).

لعدم تعدد الجنس بذلك عند العرف الذي هو المرجع في المقام.

فلا يجوز مثلاً التفاضل بين الذهب من عيار واحد وعشرين والذهب من عيار اثنين وعشرين.

وهو المناسب لما في القواعد من أنه لا اعتبار بالذهب اليسير في جوهر الصفر، ولا بالفضة في جوهر الرصاص.

ولما في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في الأسرب يشتري بالفضة.

قال:

إذا كان الغالب عليه الأسرب فلا بأس به» (1) ، وخبر معاوية بن عمار أو غيره عنه (عليه السلام): «سألته عن جوهر الأسرب وهو إذا خلص كان فيه فضة أيصلح أن يسلم الرجل فيه الدراهم المسماة ؟ فقال: إذا كان الغالب عليه أسلم الأسرب فلا بأس بذلك»(2).

وبذلك يظهر الإشكال فيما في المبسوط في بعض الفروع من عدم الفرق بين

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب الصرف حديث: 1، 2.

ص: 274

(275)

الكلام في الضميمة التي يتخلص بها من الربا

حال كونه غشاً (1).

ولا يكفي أن يكون له قيمة علي تقدير التصفية (2)، فإذا كان الطرفان مغشوشين كذلك صح مع التفاضل (3).

وإذا كان أحدهما مغشوشاً دون الآخر جاز التفاضل إذا كانت الزيادة في الخالص (4)، ولا

---------------

كون الغش مستهلكاً وعدمه.

إلا أن يريد بالاستهلاك مع آخر.

فراجع.

وكذا الحال إذا لم يكن الخليط مستهلكاً في المغشوش، إلا أنه كان تابعاً من دون أن يكون جزءاً من أحد العوضين، لعدم النظر إليه في المعاملة.

أما إذا لم يكن مستهلكاً في نفسه وكان ملحوظاً في المعاوضة فهو صالح لأن يكون ضميمة يتخلص به من الربا، سواء كان متميزاً عما غش فيه، كالدراهم التي تكون طبقة من فضة أو ذهب وطبقة من نحاس، أم ممتزجاً به، بحيث لا يصدق علي المجموع عرفاً أنه جنس واحد جيد أو رديء، بل هو مركب من الجنسين معاً.

(1) مما سبق يظهر أن المعيار في الصحة كون جزءاً من أحد العوضين منظوراً إليه في المعاوضة، ولا يعتبر كونه ذا مالية، لما تكرر منا من عدم اعتبار المالية في العوضين.

اللهم إلا أن يقال: المنصرف من نصوص الضميمة خصوص ما كان له مالية.

أما غيره فهو وإن أمكن أن يكون طرفاً في المعاوضة بنفسه، إلا أنه لا يصلح لأن يكون ضميمة رافعة لمحذور الربا.

فتأمل.

(2) لأن المعيار في المعاوضة صلوح العوضين حينها لأن يكون طرفاً في المعاوضة.

(3) لأن وجود الضميمة في الطرفين رافع لمحذور التفاضل، لعدم كون الأقل هو تمام العوض وحده.

بل مع الضميمة علي ما تقدم في المسألة الثالثة عشرة من الفصل السابق.

(4) لتكون الزيادة المذكورة مقابل الغش في الطرف الآخر.

ص: 275

بيع الآلات المحلاة بالذهب

يصح إذا كانت الزيادة في المغشوش (1).

لكن في تحقق الفرض نظر (2).

(مسألة 12): الآلات المحلاة بالذهب يجوز بيعها بالذهب إذا كان أكثر من الذهب المحلي (3) بها وإلا لم يجز، نعم لو بيع السيف المحلي بالسيف

---------------

(1) حيث يلزم الزيادة علي الخالص من جنسه ومن غير جنسه وهو الغش، فيلزم الربا المحرم.

(2) لغلبة عدم القيمة ولا الاعتداد بالغش حين الغش به، بل هو من سنخ الوسخ الذي من شأنه الإتلاف والحرق بالتيزاب ونحوه.

(3) كما صرح به غير واحد.

لتكون الزيادة في الذهب الثمن مقابل نفس الآلة المحلاة المفروض كونها غير ذهب أما لو كان الذهب بقدر الحلية لزم الزيادة من غير الجنس في المبيع المثمن.

مضافاً إلي النصوص الخاصة الواردة في ذلك، كموثق أبي بصير:

«سألته عن السيف المفضض يباع بالدراهم فقال: إذا كانت فضته أقل من النقد فلا بأس وإن كانت أكثر فلا يصلح» (1) ، وغيره.

نعم في خبر منصور الصيقل عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«قلت له: السيف أشتريه وفيه الفضة تكون الفضة أكثر وأقل قال: لا بأس به» (2) .

وقد يظهر في فرض كون الفضة التي في السيف أكثر من الفضة في الثمن.

لكن لابد من رفع اليد عنه كما يأتي من الاستبصار أو حمله علي ما لا ينافي القاعدة والنصوص الأخر من كون البيع بغير الفضة أو بها مع الضمية كما في الوسائل.

ولاسيما أن في خبر منصور الآخر عنه (عليه السلام): «سألته عن السيف المفضض يباع بالدراهم.

فقال: إذا كانت فضته أقل من النقد فلا بأس، وإن كانت أكثر فلا يصلح»(3).

ومن ثم حمل الأول في الاستبصار علي وهم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 8.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 9، 7.

ص: 276

(277)

الراوي عن منصور.

بقي في المقام أمور: الأول: أنه ورد في خبر إبراهيم بن هلال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

جام فيه فضة وذهب أشتريه بذهب أو فضة.

فقال:

إن كان يقدر علي تخليصه فلا، وإن لم يقدر علي تخليصه فلا بأس» (1) .

وهو مع ضعف سنده لا يناسب النصوص الكثيرة المتقدم بعضها، حيث لم يشر فيها لشيء من ذلك.

كما لم يظهر العمل به من الأصحاب.

نعم ذكر في الشرائع والدروس وغيرهما التفصيل بين إمكان النزع وعدمه من أجل اعتبار معرفة الوزن إذا كان مجهولاً، وأنه لا يعفي عن جهالة وزنه إلا إذا تعذر نزعه ولو لكونه مضراً به.

وهو أجنبي عن مفاد الخبر المتقدم.

لظهوره في عدم جواز البيع مع إمكان النزع مطلقاً تعبداً، لا من جهة معرفة الوزن.

كما أن ما ذكروه من محذور جهالة الوزن لا يفرق فيه بين إمكان النزع وعدمه.

مع أنه مندفع بإطلاق النصوص المتقدمة.

مضافاً إلي تعارف بيع الحلية في هذا الحال من دون وزن، وقد سبق في محله أن اعتبار معرفة الوزن يختص بما تعارف وزنه حال البيع.

نعم مقتضي ذلك خروجه عن كونه ربوياً لولا النصوص السابقة.

وقد تقدم في المسألة التاسعة من الفصل السابق احتمال خصوصية الذهب والفضة في ذلك.

فراجع.

ومثله ما ذكره الشيخ وجماعة من أن المصوغ من الجنسين إن أمكن تخليص أحدهما من الآخر قبل بيعه بالنقدين وجب، وإلا جاز بيعه بهما، علي اختلاف بينهم بين من أطلق ومن يظهر منه أن الحاجة لتخليص أحدهما من الآخر من أجل معرفة وزن كل منهما.

فإنه أيضاً أجنبي عن مفاد الخبر المتقدم، لظهور الخبر في المحلي بأحد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 5.

ص: 277

الأمرين لا في المصوغ منهما، كما هو مورد كلامهم.

كما أنه لا دليل عليه آخر.

غاية الأمر أنه يتعين التحفظ من الربا باختلاف الجنس أو جعل الضميمة مع الأقل.

الثاني: قد يظهر من ذكر الأصحاب ذلك في مبحث الصرف كونه من صغرياته، فيجب فيه التقابض في المجلس، ولا تشرع فيه النسيئة.

بل هو المصرح به في كلام غير واحد في الجملة.

وقد يستدل له بصحيح محمد بن مسلم: «سئل عن السيف المحلي والسيف الحديد المموه بالفضة نبيعه بالدراهم.

فقال: نعم وبالذهب.

وقال: إنه يكره أن تبيعه نسية.

وقال: إذا كان الثمن أكثر من الفضة فلا بأس»(1) ، بناءً علي حمل الكراهة فيه علي الحرمة.

وصحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألته عن السيوف المحلاة فيها الفضة تباع بالذهب إلي أجل.

فقال: إن الناس لم يختلفوا في النساء [النسيء] أنه الربا، وإنما اختلفوا في اليد باليد»(2).

لكن ظاهر الثاني أن المانع من النسيء الربا، لا وجوب التقابض في الصرف.

وقد تقدم عند الكلام في الزيادة الحكمية في الربا أنه لا يخلو عن إجمال.

كما أن حمل الكراهة في الأول علي الحرمة لا يخلو عن إشكال.

ولاسيما بعدما تقدم في الفصل السابق عند الكلام في بيع العروض بالعروض من الكلام في النسيئة.

فراجع.

فالأولي الاستدلال لذلك بصحيح ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«قال: لا بأس ببيع السيف المحلي بالفضة بنساء [نسياً] إذا نقد ثمن فضته.

وإلا جعل ثمنه طعاماً ولينسه إن شاء» (3) وقريب منه صحيح أبي بصير(4).

لكنهما صريحان في الاكتفاء بنقد خصوص ما يقابل الحلية كما يأتي من الاستبصار.

وبه صرح في النافع، وقد ينصرف إليه إطلاق الآخرين لأن الصرف خصوص ما يقابل الحلية.

ولعله لذا قال في الرياض: «بلا خلاف في الظاهر».

وكيف

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 4، 1.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 6، 2.

ص: 278

كان فبهذين الصحيحين يخرج عن ظهور الصحيحين الأولين لو تم الاستدلال بهما في المنع من النسيئة في تمام الثمن.

نعم في صحيح إسحاق بن عمار قال: أظنه عن عبد الله بن جذاعة:

«سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السيف المحلي بالفضة يباع بنسية.

قال: ليس به بأس، لأن فيه الحديد والسير» (1) .

وقد حمله في الاستبصار علي ما إذا نقد مثل ما فيه من الفضة، جمعاً مع النصوص المتقدمة.

كما احتمل في الوسائل حمله علي ما إذا كان البيع بغير النقدين.

لكن كلا الحملين لا يناسب التعليل فيه بأن فيه الحديد والسير، لظهوره في أن الضميمة تخرج المورد عن الصرف المعتبر فيه التقابض، كما تخرجه عن الربا المعتبر فيه التماثل في المقدار.

ومن ثم قد يكون الأقرب حمل ما تقدم من النصوص لأجله علي الاستحباب.

وإن لم يخل عن إشكال، لقوة ظهور الصحيحين السابقين في تطبيق الصرف في مقدار الحلية، ومن المعلوم وجوب التقابض في الصرف.

ولاسيما مع ضعف سنده بالإرسال وعدم ظهور انجباره بعمل الأصحاب.

بل قد يكون ظاهرهم الإعراض عنه.

ومن هنا لا مجال للخروج عن مقتضي الصحيحين من وجوب التقابض في المقدار المقابل للحلية.

كما أنه يستفاد منهما ولو لإلغاء خصوصية موردهما عرفاً جريان ذلك في جميع موارد الصرف بلحاظ أبعاض المعاملة، كما استظهره في الرياض، فيجب التقابض في خصوص الأجزاء النقدية من الذهب أو الفضة في المعاملة، بحيث يقبض الأقل منها في أحد الطرفين بتمامه، ويقبض بقدره من الآخر، ولا ينقص عن ذلك.

بل من القريب أن يكون ذلك مقتضي عموم بعض نصوص وجوب التقابض في الصرف، كقول أمير المؤمنين (عليه السلام) المتقدم: «لا يبتاع رجل فضة بذهب إلا يداً بيد،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 10.

ص: 279

المحلي جاز مطلقاً وإن كانت الحلية في أحدهما أكثر من الحلية في الآخر (1).

(مسألة 13): الكلبتون المصنوع من الفضة لا يجوز بيعه بالفضة إلا إذا كانت أكثر منه وزناً والمصنوع من الذهب لا يجوز بيعه بالذهب إلا إذا

---------------

ولا يبتاع ذهباً بفضة إلا يداً بيد»(1).

فتأمل.

الثالث: ظاهر الأصحاب، بل صريح الدروس والروضة، لزوم العلم بزيادة مجانس الحلية في الثمن عليها، لتكون الزيادة في مقابل ذي الحلية الذي هو من جنس آخر، ومع عدم العلم بذلك يجب اشتمال الثمن علي جنس آخر.

كل ذلك للتحفظ من الربا.

وهو مقتضي اشتراط كون الثمن أكثر في النصوص المتقدمة، حيث يلزم إحراز الشرط.

كما أنه كالصريح من النصوص الواردة في بيع المختلط من الجنسين في لزوم بيعه بالجنسين(2).

وكذا صحيح عبد الرحمن بن الحجاج المتقدم: «سألته عن السيوف المحلاة فيها الفضة تباع... فقلت له: يبيعه بدراهم نقد.

فقال: كان أبي يقول: يكون معه عرض أحب إلي.

فقلت له: إذا كانت الدراهم التي تعطي أكثر من الفضة التي فيه.

فقال: وكيف لهم بالاحتياط في ذلك ؟ قلت: فإنهم يزعمون أنهم يعرفون ذلك.

فقال: إن كانوا يعرفون ذلك فلا بأس.

وإلا فإنهم يجعلون معه العرض أحب إلي»(3).

فإن الظاهر أن حبهما (عليهما السلام) لجعل الجنس الآخر للتحفظ من الربا.

لكن مع ذلك اكتفي في اللمعة بغلبة الظن مطلقاً أو تعذر العلم.

ولم يتضح وجهه.

(1) لارتفاع محذور الربا بوجود الضميمة في الطرفين، وهي في المقام السيف

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب الصرف حديث: 3.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 20 من أبواب الربا، وباب: 11 من أبواب الصرف.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الصرف حديث: 1.

ص: 280

(281)

اذا اشري ذهباً او فضة ثم وجدها جنساً اخر

كان أكثر منه وزناً (1).

(مسألة 14): إذا اشتري فضة معينة بفضة أو بذهب، وقبضها قبل التفرق، فوجدها جنساً آخر رصاصاً أو نحاساً أو غيرهما بطل البيع (2).

وليس له المطالبة بالإبدال (3).

ولو وجد بعضها كذلك بطل البيع فيه، وصح في الباقي (4).

وله حينئذ رد الكل لتبعض

---------------

الذي هو من الحديد، وما قد يتبعه من الخشب والقراب والحمائل.

نعم يجب التقابض علي النحو المتقدم.

(1) لتكون الزيادة في مقابل الضميمة، وهي الخيوط في الكلبتون.

(2) بلا خلاف ولا إشكال، كما في الجواهر.

لتخلف عنوان المبيع المقوم له.

ومنه يظهر وقوع البيع باطلاً، وبالوجدان المذكور يظهر ذلك، لا أنه هو المبطل للبيع.

(3) كما صرح به غير واحد.

لعدم تناول المبيع للبدل بعد فرض المبيع شخصياً معيّناً.

بل لا يشرع لأجل ذلك الإبدال.

إلا أن يرجع إلي إيقاع بيع آخر علي البدل.

(4) كما هو صريح الشرائع والإرشاد والمختلف والتحرير والمسالك والروضة وظاهر القواعد والتذكرة والدروس.

لتبعض البيع بتبعض المبيع، نظير ما إذا باع ما يملك وما لا يملك، حيث سبق في المسألة العشرين من الفصل الثاني الكلام في وجه تبعض الصفقة في مثل ذلك.

فراجع.

لكن يظهر من المبسوط والوسيلة أن البيع صحيح بتمامه، وأن لمن دخل عليه النقص الرد، كما لو ظهر أحد العوضين من الجنس نفسه مشتملاً علي عيب كالخشونة في الفضة.

ولم يتضح وجهه.

ولاسيما مع تصريحهما ببطلان البيع في الجملة فيما لو ظهر تمام المبيع من جنس آخر.

ص: 281

الصفقة (1) وإن وجدها فضة معيبة كان بالخيار بين الرد (2) والإمساك بالأرش (3).

ولا فرق بين كون الثمن من جنس المبيع

---------------

ومثله ما يظهر من اللمعة من أنه مع اتحاد العوضين في الجنس كما هو أحد فرضي المتن لو ظهر بعض المبيع مخالفاً في الجنس يبطل البيع من أصله، وأن تبعض الصفقة يختص بما إذا اختلف العوضان في الجنس، كما هو أحد فرضي المتن أيضاً.

وكأن الوجه فيه ما أشار إليه في مفتاح الكرامة وغيره من أن الجزء المخالف في الجنس حيث لا يدخل في المبيع ينصرف الثمن بتمامه للباقي، فيلزم التفاضل في الجنس الواحد بين العوضين، وهو ربا محرم باطل.

وفيه: أنه لا وجه لانصراف الثمن بمجموعه للباقي بعد عدم القصد المعاملي لذلك، بل ليس المقصود إلا جعل الثمن بتمامه مقابل المجموع بما في ذلك الجزء المخالف في الجنس، وبطلان البيع في الجزء المذكور يستلزم بطلانه في الجزء المقابل له من الثمن، فيكون المقابل للباقي من المبيع ما عداه، ولا يلزم التفاضل الموجب للربا الباطل.

غاية الأمر أن يلزم خيار تبعض الصفقة، كما يأتي، لعدم سلامة المبيع بتمامه.

(1) فإنه من أسباب الخيار، كما تقدم غير مرة، وتقدم الكلام في وجهه في المسألة المذكورة.

(2) لثبوت الخيار بسبب العيب.

ولو كان العيب في بعض المبيع فقد صرح في الشرائع بأنه ليس له الاقتصار في الرد عليه، بل له رد الكل لا غير.

وصريح المبسوط والوسيلة والتذكرة أن له الاقتصار علي رد البعض.

قال في الجواهر: «وإن كان ظاهرهم في بحث العيب الإجماع علي عدمه».

وقد تقدم الكلام في ذلك في المسألة الستين من الفصل الرابع في فروع خيار العيب.

(3) بناءً علي مختاره (قده) من التخيير بينهما في مورد العيب.

لكن تقدم منا في خيار العيب أن المتعين معه بدواً الخيار بين الرد والإمساك لا غير، فإن تعذر الرد

ص: 282

وغيره (1) وكون أخذ الأرش قبل التفرق وبعده (2).

وإذا اشتري فضة في الذمة بفضة أو بذهب، وبعد القبض وجدها جنساً آخر رصاصاً أو نحاساً أو غيرهما، فإن كان قبل التفرق جاز للبائع إبدالها (3)، فإذا قبض البدل قبل التفرق صح البيع.

وإن وجدها جنساً آخر بعد التفرق

---------------

لبعض الأسباب المتقدمة هناك كان له الأرش.

(1) أشار بذلك إلي ما سبق في المسألة الواحدة والخمسين من الفصل الرابع في فروع خيار العيب من المبسوط وغيره بل لعله المعروف بين الأصحاب من سقوط الأرش مع اتحاد الجنس، لئلا يلزم الربا، حيث ينقص الأرش من الثمن، فيلزم التفاضل بين الجنسين.

وقد سبق من سيدنا المصنف (قده) ومنا المنع من ذلك، لعدم كون الأرش جزءاً من الثمن في المعاملة، ليلزم التفاضل، وإنما يستحق بعد ذلك بأمر خارج عن المعاملة.

وقد تقدم هناك تفصيل الكلام في ذلك.

فراجع.

(2) لأنه بعد خروج الأرش عن الثمن فعدم قبضه في المجلس لا يوجب بطلان البيع في الصرف.

لكن كلمات الأصحاب قد اضطربت في المقام جداً، فإنه بعد أن ذكر غير واحد منهم كما سبق اختصاص استحقاق الأرش بما إذا اختلف الجنسان، فقد صرح جمع منهم بأنه يجوز أخذه من الأثمان قبل التفرق، أما بعده فلابد من أخذه من غير الأثمان، وأنه لو أخذ منها بطل فيما يقابله، علي اختلاف منهم في حكم أخذه من جنس المعيب أو من الجنس الآخر.

وقد أطالوا في ذلك، كما يظهر بالرجوع لمفتاح الكرامة والجواهر ولا يسعنا استقصاء كلماتهم، لعدم الثمرة لذلك بعد ما سبق.

(3) بلا خلاف ولا إشكال ظاهر.

نعم لا يجب عليه ذلك، لما سبق في المسألة الثامنة من عدم وجوب الإقباض علي المتبايعين في الصرف تكليفاً، وإن توقفت عليه صحته.

وما في كلام غير واحد أن للمشتري المطالبة بالإبدال، لا ينافي عدم وجوب الاستجابة له.

ص: 283

بطل البيع (1).

ولا يكفي الإبدال في صحته (2).

وإذا وجدها فضة معيبة فالأقوي أن المشتري مخير بين رد المقبوض وإبداله (3) والرضا به من

---------------

(1) بلا خلاف ولا إشكال ظاهر، لعدم التقابض المعتبر في صحة بيع الصرف.

ومن الظاهر أن بطلان البيع إنما يكون بمجرد التفرق، ووجدان المقبوض جنساً آخر كاشف عن ذلك، وليس هو الموجب للبطلان، كما تقدم في نظيره.

(2) إذ لا يتحقق به التقابض قبل تفرق المتبايعين المعتبر في الصرف.

نعم يمكن تجديد البيع حين دفع البدل.

(3) له ذلك قبل التفرق قطعاً، كما في الشرائع، وبه صرح غير واحد.

لعدم المانع منه بعد فرض عدم بطلان البيع، لعدم التفرق، وابتناء البيع علي السلامة من العيب.

وأما بعد التفرق فهو المصرح به في المبسوط والخلاف والوسيلة والتذكرة والإرشاد وغيرها، وفي الجواهر أنه المشهور بين من تعرض له.

والوجه فيه صحة البيع، لحصول التقابض قبل التفرق، لكون المعيب من أفراد المبيع، غايته أن له الإبدال، لبناء العقلاء علي ذلك، ولو لابتناء البيع علي وصف السلامة، وإن لم يكن مقوماً للمبيع، نظير الشرط، والتفرق لا يمنع منه بعد فرض صحة البيع.

لكن تردد في ذلك في الشرائع والقواعد والإيضاح وعن غيرها، بل منع في الدروس من الإبدال.

وقد يظهر منه توجيهه بأن مرجع الإبدال إلي تعيين المبيع في البدل بعد أن كان متعيناً في المبدل، والمفروض أن البدل لم يقبض في مجلس العقد، فيلزم من الإبدال بطلان العقد.

وفيه: أن المبيع لما كان كلياً في الذمة فدفع الفرد عنه لا يقتضي تعين المبيع به، بحيث يكون هو المبيع، لعدم انقلاب البيع عما وقع عليه.

غايته أن يكون المدفوع أداء للمبيع لكفاية أدائه عرفاً، ويجب في الصرف إقباضه قبل التفرق، لأن المراد بالقبض

ص: 284

دون أرش (1).

---------------

اللازم فيه ما يعمّ ذلك.

وحينئذٍ فاعتبار التقابض في الصرف لما كان مخالفاً للقاعدة، لزم الاقتصار فيه علي المتيقن، وهو في المقام قبض المبدل، حيث صدق به التقابض قبل التفرق.

واعتبار التقابض في البدل مع ذلك لا شاهد عليه، بل مقتضي عمومات الصحة عدمه.

وبذلك يظهر أنه لو التفت للعيب قبل التفرق، وأراد الإبدال لم يجب الإبدال وقبض البدل قبل التفرق، لتحقق الشرط بقبض المبدل ونفوذ البيع بذلك، بلا حاجة لقبض البدل.

وأضعف من ذلك ما في الإيضاح من أنه لو قلنا بجواز الإبدال بعد التفرق تعين القبض في مجلس الرد.

إذ فيه مضافاً إلي ما ذكرنا من عدم الدليل علي توقف صحة البيع علي قبض البدل: أن مجلس الرد في مفروض كلامه بعد التفرق عن مجلس العقد، ونصوص الصرف إنما تضمنت وجوب قبض المبيع قبل التفرق عن مجلس العقد لا غير.

(1) كما يظهر من عدم التعرض له في الخلاف والمبسوط والوسيلة، والوجه فيه: أن ثبوت الأرش مع العيب مخالف للقاعدة، وينحصر الوجه فيه بنصوص خيار العيب، وظاهرها أو المتيقن منها ما إذا كان المبيع شخصياً، أما إذا كان كلياً وظهر العيب في المقبوض الشخصي فاللازم الاقتصار فيه علي ما تقتضيه القاعدة من الإبدال دون الفسخ علي ما يأتي فضلاً عن الأرش.

إلا أن يتعذر الإبدال أو يمتنع منه البائع، فيقتصر علي الفسخ، كما يأتي.

ومنه يظهر الإشكال فيما في التذكرة والقواعد والتحرير والدروس وغيرها من ثبوت الأرش مع اختلاف جنس الثمن والمثمن، وعدم ثبوته مع اتحادهما في الجنس، لشبهة لزوم الربا التي تقدم دفعها.

ص: 285

وليس له فسخ العقد من أصله (1).

ولا فرق بين كون الثمن من جنس المبيع وغيره (2)، ولا بين كون ظهور العيب قبل التفرق وبعده (3).

-

نعم قد يقال: لو حدثت في المعيب المقبوض أحد موانع الرد المتقدمة في خيار العيب تعين امتناع الإبدال والفسخ ولزم الأرش، لفهمه من نصوص خيار العيب بضميمة إلغاء خصوصية موردها عرفاً.

لكنه لا يخلو عن إشكال، بل منع.

بل مقتضي القاعدة هو الإبدال أو الفسخ مع جريان حكم تصرف ذي الخيار قبل الفسخ فيما وصل إليه، بناء علي ما تقدم منهم في خيار الغبن.

نعم حيث تقدم منّا الإشكال فيه أيضاً فينحصر الأمر بالصلح.

فلاحظ.

(1) كما في المختلف والتذكرة، وهو ظاهر عدم ذكر الفسخ في التحرير واللمعة.

حيث لا وجه له بعد عدم كون المعيب هو المبيع وإمكان تحصيل السليم بالإبدال حتي مع التفرق.

خلافاً للخلاف والمبسوط والوسيلة والقواعد والإرشاد.

وقد يوجه بأن المبيع يتعين بالمقبوض المفروض كونه معيباً.

ويظهر اندفاعه مما سبق من أن تسليم الفرد وإن كفي في تسليم المبيع الكلي، إلا انه لا يقتضي تعينه به، وانقلاب المبيع عما وقع عليه العقد.

نعم لو امتنع البائع من التبديل ولو لتعذره عليه تعين جواز الفسخ، لعدم القيام بمقتضي العقد من تسليم السليم.

ولعله لذا ذهب في الدروس لجواز الفسخ بعد التفرق، لأنه سبق منه عدم جواز الإبدال حينئذ.

(2) لما سبق من أن عدم استحقاق الأرش لاختصاص أدلته بما إذا كان المبيع معيناً، لا من أجل لزوم الربا، ليختص بما إذا اتحد العوضان في الجنس.

(3) لما سبق من إمكان الإبدال في الحالين.

ص: 286

(287)

استبدال ما في الذمة بثمن اخر

(مسألة 15): لا يجوز أن يشتري من الصائغ أو غيره خاتماً أو غيره من المصوغات من الفضة أو الذهب بجنسه مع زيادة (1) بملاحظة أجرة الصياغة، بل إما أن يشتريه بغير جنسه، أو بأقل من مقداره من جنسه مع الضميمة، ليتخلص من الربا.

(مسألة 16): لو كان له علي زيد دنانير كالليرات الذهبية وأخذ منه دراهم كالروبيات فإن كان الأخذ بعنوان الاستيفاء ينقص من الليرات في كل زمان أخذ فيه بمقدار ما أخذ بسعر ذلك الزمان (2)، فإذا كان الدين خمس ليرات، وأخذ منه في الشهر الأول عشر روبيات، وفي الثاني عشراً، وفي الثالث عشراً، وكان سعر الليرة في الشهر الأول خمس عشرة روبية، وفي

---------------

(1) بلا خلاف ولا إشكال، كما في الجواهر.

إذ لا تكون الزيادة أجرة للصياغة بعد فرض تحقق الصياغة، بل لابد من أن تكون جزءاً من أحد العوضين، فيلزم التفاضل مع اتحاد الجنس، وبه يتحقق الربا.

لكن في الخلاف: «إذا باع خاتماً من فضة بدراهم أكثر مما فيه من الفضة كان ذلك جائزاً».

وهو غريب.

إلا أن يكون المفروض في كلامه اشتمال الخاتم علي غير الفضة، كالحجر الكريم، كما يناسبه ما في المبسوط من اشتراط كون الفضة الثمن أكثر من فضة الخاتم.

نعم لو اشتري غير مصوغ من دون تفاضل جاز دفع الزيادة أجرة لصياغته بلا إشكال.

(2) كما في النهاية والوسيلة والتذكرة والقواعد والدروس وغيرها.

والظاهر عدم الإشكال فيه.

إذ مع تحقق الوفاء به يتعين كونه بسعر حال الوفاء.

مضافاً إلي صحيح إسحاق بن عمار: «سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يكون لي عليه المال، فيقبضني بعضاً دنانير وبعضاً دراهم، فإذا جاء يحاسبني ليوفيني يكون قد تغير سعر

ص: 287

الثاني اثنتي عشرة روبية، وفي الثالث عشر روبيات، نقص من الليرات ثلثا ليرة في الشهر الأول وخمسة أسداس في الثاني وليرة تامة في الثالث وإن كان الأخذ بعنوان القرض كان ما أخذه ديناً عليه لزيد وبقي دين زيد عليه (1).

وفي جواز احتساب أحدهما دينه وفاءً عن الآخر إشكال (2)، كالإشكال في

-

الدنانير، أي السعرين أحسب له، الذي كان يوم أعطاني الدنانير، أو سعر يومي الذي أحاسبه [يوم أحاسبه]؟ قال: سعر يوم أعطاك الدنانير، لأنك حبست منفعتها عنه»(1) ومعتبر يوسف بن أيوب عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال في الرجل يكون له علي الرجل دراهم، فيعطيه دنانير ولا يصارفه، فتصير الدنانير بزيادة أو نقصان، قال: له سعر يوم أعطاه»(2).

وقد يستفاد من غيرهما.

(1) بلا إشكال ظاهر، حيث لا منشأ لاحتمال التهاتر قهراً، ليقع الكلام في وقت التهاتر، وفي السعر الذي يكون التهاتر بلحاظه.

بل يظهر من بعض النصوص المفروغية عن عدم التهاتر، كصحيح عبيد بن زرارة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون له عند الصيرفي مائة دينار، ويكون للصيرفي عنده ألف درهم، فيقاطعه عليها.

قال: لا بأس»(3).

لصراحته في أن المقاطعة معاملة متأخرة عن انشغال ذمة كل منهما لصاحبه بماله، وعدم حصول التهاتر قبل ذلك.

ونحوه غيره.

وأما التعليل في صحيح إسحاق المتقدم بأنه حبس منفعتها عنه فلابد من حمله علي بيان وجه تحديد سعر الوفاء في فرض قصد الوفاء وتحققه به، كما هو مورده، لا مطلقاً ولو مع قصد القرض دون الوفاء.

فلاحظ.

(2) يبدو ممن تعرض للمسألة رجوعها إلي التصارف بين الدينين الذي هو عندهم من صغريات البيع، والمفروض في كلام سيدنا المصنف (قده) أنه ليس بيعاً،

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الصرف حديث: 2، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الصرف حديث: 3.

ص: 288

جواز بيع دين أحدهما بدين الآخر (1).

نعم تجوز المصالحة بينهما علي إبراء كل منهما صاحبه مما له عليه (2).

-

لأنه تعرض لبيع أحدهما بالآخر بعد ذلك.

وهو المتعين، لأن الوفاء عرفاً مباين للبيع.

وحينئذ ينحصر الوجه في الإشكال بعد النظر في كلماتهم بعدم التقابض في المقام.

لكنه يندفع أولاً: بأنه لا يناسب ما سبق منه (قده) من اختصاص حكم الصرف ووجوب التقابض بالبيع المفروض خروج المقام عنه.

وثانياً: بما تقدم في المسألة الخامسة من ظهور بعض النصوص في المفروغية عن عدم الحاجة لقبض المدين ما في ذمته وعليه جري سيدنا المصنف (قده) نفسه.

وثالثاً: بما تقدم في معتبر عبيد بن زرارة، لظهوره في عدم الحاجة للتقابض في المقاطعة المذكورة وهي عين الاحتساب المفروض في المقام.

ولعله لذا قرّب بعض مشايخنا (قده) صحة الاحتساب.

نعم لابد من تراضيهما معاً به، والظاهر أنه المفروض في المقام.

(1) لما تضمن عدم جواز بيع الدين بالدين(1) ، بعد كون المتيقن منه ما إذا كان كل من العوضين ديناً قبل البيع، وشمول إطلاقه المذكور لما إذا كان المتبائعان صاحبي الدينين.

ولعل توقفه (قده) عن الجزم بالمنع لاحتمال انصراف الإطلاق عن الصورة المذكورة، أو لاحتمال شمول إطلاق المقاطعة في معتبر عبيد للبيع، فيكون مخرجاً عن مقتضي إطلاق المنع من بيع الدين بالدين لو تم.

لكن لا مجال للأول.

والثاني لا يخلو عن إشكال.

إلا أن يفهم منه العموم، ولو بإلغاء خصوصية المقاطعة.

وهو أيضاً لا يخلو عن إشكال.

(2) من دون فرق بين أن يكون الصلح علي الإبراء بعد الصلح الذي هو فعل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 5 من أبواب الدين والقرض حديث: 1.

ص: 289

بيع درهم بدرهم بشرط صياغة خاتم

(مسألة 17): إذا أقرض زيداً نقداً معيناً من الذهب أو الفضة، أو أصدق زوجته مهراً كذلك، أو جعله ثمناً في الذمة مؤجلاًَ أو حالاً، فتغير السعر لزمه النقد المعين (1)، ولا اعتبار بالقيمة وقت اشتغال الذمة.

(مسألة 18): لا يجوز بيع درهم بدرهم بشرط صياغة خاتم مثلاً (2).

ويجوز أن يقول له صغ لي هذا الخاتم وأبيعك درهماً بدرهم علي أن يكون البيع جعلاً لصياغة الخاتم (3) كما يجوز أيضاً أن يشتري منه

---------------

لكل منهما، وأن يكون علي براءة كل منهما من دينه بالصلح الذي نظير شرط النتيجة.

كل ذلك لعمومات الصلح والعقود من دون ملزم بالخروج عنها.

(1) بلا إشكال ظاهر، كما هو الحال في الذميات من العروض.

لابتناء المعاملات عرفاً علي ذلك، كما يشهد به سيرتهم.

وفي معتبر إسحاق بن عمار: «قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام): الرجل يكون له علي الرجل الدنانير فيأخذ منه الدراهم، ثم يتغير السعر.

قال: فهي له علي السعر الذي أخذها يومئذ.

وإن أخذ الدنانير وليس له دراهم عنده فدنانيره عليه يأخذها برؤوسها متي شاء»(1) لما تقدم في أوائل الفصل السابق منه (قده) ومن جماعة من تحقق الربا بالزيادة الحكمية.

وتقدم من الشيخ في النهاية جواز الشرط المذكور، ووافقه جماعة، وهم بين من خص ذلك بشرط الصياغة، ومن تعدي لغيره، كما يظهر من النهاية.

ويظهر من غير واحد ابتناء ذلك علي النص الآتي مع الاقتصار علي مورده، أو التعدي عنه، لإلغاء خصوصية مورده.

لكن سبق أن النص أجنبي عن ذلك، وأن جواز الشرط المذكور يبتني علي اختصاص الزيادة الموجبة للربا بالزيادة العينية.

دون الحكمية.

فراجع.

(3) كما تضمنه حديث أبي الصباح الكناني: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الصرف حديث: 3.

ص: 290

(291)

مثقال فضة مصوغاً خاتماً بمثقال غير مصوغ علي أن تكون الصياغة قيداً للمبيع (1).

-

الرجل يقول للصائغ: صغ لي هذا الخاتم، وأبدل لك درهماً طازجاً بدرهم غلة.

قال: لا بأس»(1).

علي أن مقتضي القاعدة صحة ذلك، حيث لا يلزم محذور الربا حتي بناءً علي حصوله بالزيادة الحكمية بمثل الشرط، لما أشرنا إليه من عدم كون الصياغة شرطاً في البيع، بحيث تلزم به، وتكون زيادة في أحد العوضين، بل البيع هو الذي يلزم بسبب الصياغة، لكونه جعلاً عليها.

والفرق بينهما كالفرق بين الدين بشرط هبة أمر زائد من المدين للدائن، والهبة بشرط الدين، حيث يلزم الربا في الأول دون الثاني.

وبذلك يظهر عدم توقف الحكم المذكور علي صحة سند الحديث، ليستشكل فيها بعدم ثبوت وثاقة محمد بن الفضيل الواقع في سنده لو تم.

كما يظهر جواز التعدي عن مورد الحديث المتقدم في العمل وتعميمه لغير صياغة الخاتم، وفي الإبدال وتعميمه لكل إبدال بين متجانسين مختلفين بالصفات والخصوصيات.

(1) بأن يكون المبيع كلياً مقيداً بالصياغة حيث لا يلزم الزيادة العينية، ولا الحكمية، لأن الذي يقابل بالعوض هو الفضة حال كونها مصوغة لا الفضة بنفسها مع اشتراط صياغتها زائداً علي ذلك.

وأظهر من ذلك ما إذا كان المبيع هو الفضة المشخصة المصوغة، فالمقام نظير ما إذا باعه تمراً جيداً شخصياً أو كلياً بتمر مماثل له وزناً.

نعم لا بد من التقابض قبل التفرق، وكون المقبوض هو المصوغ فعلاً، لا الفضة غير المصوغة علي أن تصاغ بعد ذلك، لعدم تحقق قبض المبيع بقبضها، لفقدها لقيده.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب الصرف حديث: 1.

ص: 291

(مسألة 19): لو باع عشر روبيات بليرة ذهبية إلا عشرين فلساً صح بشرط أن يعلما قيمة الليرة من الفلوس (1) وإن لم يعلما مقدار نسبة العشرين فلساً إلي الليرة (2).

-

(1) لتحقق العلم بقدر الثمن حينئذٍ بناء علي اعتباره في صحة البيع علي ما تقدم الكلام فيه في شرط العوضين.

(2) من الظاهر أنه مع معرفة قيمة الليرة إلي الفلوس فاستثناء مقدار معين من الفلوس مستلزم لمعرفة نسبة المقدار المستثني من الليرة، وإن لم يتيسر تحديده بكسر عشري أو مئوي لدقته، ولا دليل علي لزوم إمكان الإشارة بالنحو المذكور.

نعم في خبر وهب عن جعفر (عليه السلام) عن أبيه:

«أنه كره أن يشتري الرجل بدينار إلا درهم وإلا درهمين نسبة، ولكن يجعل ذلك بدينار إلا ثلثاً وإلا ربعاً وإلا سدساً أو شيئاً يكون جزءاً من الدينار» (1) .

وهو مع ضعف سنده ليس وارداً لبيان وجوب ذكر النسبة التفصيلية بالكسر العشري، بل لبيان عدم جواز الاقتصار علي استثناء الدرهم من الدينار في النسيئة.

ولعله لاحتمال تبدل نسبة الدرهم للدينار، فيلزم الجهل بالثمن أو التردد فيه، كما تضمن ذلك موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام): «في رجل يشتري السلعة بدينار غير درهم إلي أجل.

قال: فاسد، فلعل الدينار يصير بدرهم»(2).

ولا يمنع من استثناء الدرهم من الدينار مع معرفة النسبة بينهما وتحديدها ولو من طريق آخر غير النسبة العشرية.

ومثلهما في ذلك خبر حماد عنه (عليه السلام):

«قال: يكره أن يشتري الثوب بدينار غير درهم، لأنه لا يدري كم الدينار من الدرهم [الدراهم من الدنانير]» (3) ونحوه خبر

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 23 من أبواب الصرف حديث: 3، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 23 من أبواب الصرف حديث: 1.

ص: 292

(293)

عدم جواز بيع المصوغ من الذهب والفضة باحدهما الا مع الزيادة

(مسألة 20): المصوغ من الذهب والفضة معاً لا يجوز بيعه بأحدهما بلا زيادة (1)، بل إما أن يباع بأحدهما مع الزيادة أو يباع بهما معاً أو بجنس آخر غيرهما.

-

آخر عنه (1)(عليه السلام)، فإنهما وإن لم يختصا بالنسيئة، إلا أن التعليل فيهما يقصر عن صورة تحديد مقدار الدينار من الدرهم ولو بغير النسبة العشرية.

نعم لو فرض في محل الكلام تعرض نسبة الليرة للفلوس للاختلاف، ولم يرجع استثناء مقدار من الفلوس من الليرة لباً لتحديد المقدار المستثني من الليرة، لإمكان تعرض المقدار المذكور للاختلاف ولو باختلاف زمان التسليم عن زمان إيقاع العقد تعين المنع عنه للجهالة أو التردد، وللنصوص السابقة، خصوصاً موثق السكوني.

ولعل إطلاق جماعة المنع من استثناء الدرهم من الدينار بلحاظ ذلك.

وإلا فكثيراً ما تكون النسبة بينهما معلومة للمتبائعين، فلا وجه للمنع مع تحديدها بوقت خاص وانضباطها.

فلاحظ.

(1) يعني: علي المقدار الموجود منه فقط في المبيع.

فإذا اشتمل المبيع علي مثقالين من الذهب ومثقالين من الفضة لم يجز بيعه مثلاً بمثقالين من الذهب فقط حيث يلزم زيادة الفضة في المبيع من دون مقابل.

أما إذا بيع بلا زيادة علي مجموع المصوغ بأن بيع في الفرض بأربعة مثاقيل من الذهب، فلا إشكال فيه، حيث تكون الزيادة في الذهب علي المثقالين مقابل الفضة الموجودة فيه، وهو داخل في قوله (قده): «بل إما أن يباع بأحدهما مع الزيادة».

هذا وقد تقدم في المسألة الثالثة عشرة الكلام في وجوب تخليص أحد الصنفين من الآخر لو أمكن كما تقدم وجوب إحراز عدم التفاضل في الجنس الواحد.

فراجع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 23 من أبواب الصرف حديث: 4.

ص: 293

الكلام في تراب الصاغة

(مسألة 21): التراب الذي يجتمع عند الصايغ وفيه الأجزاء من الذهب والفضة وغيرهما يتصدق به عند المالكين (1) لها سواء أكان

---------------

(1) كما في الشرائع والنافع والتذكرة والقواعد والإرشاد والدروس واللمعة وغيرها.

وفي الجواهر: «بل قيل: إنه لا خلاف فيه».

معللاً في كلام غير واحد منهم بجهل أربابه.

وقد يستدل له بعموم وجوب التصدق بمجهول المالك المستفاد من النصوص المتفرقة التي تقدم التعرض لها في مبحث جوائز السلطان من مسائل المكاسب المحرمة.

مضافاً إلي خصوص معتبر علي الصائغ: «سألته عن تراب الصواغين.

وإنا نبيعه.

قال: أما تستطيع أن تستحله من صاحبه ؟ قال: قلت: لا.

إذا أخبرته اتهمني.

قال: بعه.

قلت: بأي شيء نبيعه ؟ قال: بطعام.

قلت: فأي شيء أصنع به ؟ قال: تصدق به، إما لك وإما لأهله [لأهلك]...»(1) وقريب منه خبره عن أبي عبد الله (عليه السلام).

وقد تقدم عند الكلام في جوائز السلطان التعرض لما ذكره في الجواهر من الإشكال في الاستدلال بالمعتبر بأن ظاهره جواز الصدقة مع تعذر استحلال المالك لخوف التهمة، مع أن خوف التهمة لا يبيح التصرف في مال الغير.

وتقدم دفعه بأنه لابد من حمل الاستحلال فيه علي استحلال المالك قبل العمل له، لما قد يسقط من ذهبه أو فضته، لأن ذلك هو الذي يتيسر، دون الاستحلال حين جمع التراب، لما هو المعلوم من طول مدة تجمع التراب عند الصاغة، والجهل بأصحابه بسبب ذلك، خصوصاً مع ظهور قوله (عليه السلام): «إما لك وإما لأهله» في احتمال كون الأجزاء المذكورة ملكاً للصائغ نفسه.

كما أن ذلك هو الموجب للتهمة بحصول التسامح من الصائغ في المال وتفريطه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الصرف حديث: 2

ص: 294

(295)

للجزء مالية عند العرف أم لم يكن (1).

والأحوط مع معرفة صاحبه بعينه الاستئذان منه في ذلك (2).

ولا يبعد اطراد الحكم المذكور في الخياطين

---------------

به من أجل الاستحلال، بخلاف الاستحلال في التراب بعد وقوع شيء مما له فيه، فإنه طبيعي جداً، ولا يكون مثاراً للتهمة.

علي أنه لا موجب للاستحلال، بل يدفع التراب له بعد فرض العلم بكون ما فيه مالاً له، إذ لا موجب لخروج المال عن ملكه، ولا لاستقلال الصائغ بالتصرف فيه حينئذ.

وقد تقدم تمام الكلام في الحديث هناك بما لا يسعنا إعادته.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في وجوب التصدق بالمال في فرض الجهل بصاحبه.

كما أنه يكفي التصدق بثمنه بعد بيعه، علي ما تضمنه الحديثان وغيرهما من نصوص مجهول المالك.

نعم لابد من عدم إحراز إعراض المالك، لغفلته عن سقوط شيء من ماله في التراب، وعدم توقعه له.

أما لو توقع ذلك فظاهر سكوته عن المطالبة به إعراضه عنه، فيجوز للصايغ تملكه والاستقلال بالتصرف فيه، ولا يجب عليه التصدق به.

هذا كله فيما كان عليه وضع تراب الصاغة سابقاً حسبما يظهر من الحديثين ومن كلمات الأصحاب.

أما اليوم فالظاهر ملك الصايغ لما في التراب، وأن البناء علي تحمل الصايغ درك الساقط، وتسليمه ذهب الغير أو فضته كاملاً.

فيخرج عن محل الكلام.

(1) لقلته.

حيث لا يوجب ذلك خروجه عن ملكه، ولا عن سلطنته بعد ملكه له، وعدم إعراضه عنه.

(2) بل هو المتعين في فرض عدم إحراز إعراضه.

كما يتعين حينئذ الاستئذان لو عرف بعض المالكين بعينه.

كل ذلك لعدم الموجب لخروجه عن ملك صاحبه، ولا لسقوط اعتبار إذنه في التصرف فيه.

ص: 295

والنجارين والحدادين ونحوهم فيما يجتمع عندهم من الأجزاء المنفصلة من أجزاء الثياب والخشب والحديد (1).

ولا يضمنون شيئاً من ذلك وإن كان له مالية عند العرف إذا كان المتعارف في عملهم انفصال تلك الأجزاء (2).

إلا إذا علم الرضا من المالكين بالتصرف فيها فيجوز ذلك (3)، أو علم منهم المطالبة بها فيجب ردها لهم (4).

-

بل لا ينبغي الإشكال في وجوب استئذان أطراف الشبهة المحصورة مع معرفتهم بأجمعهم، عملاً بمقتضي العلم الإجمالي.

وكذا استئذان بعضهم مع معرفته.

لعموم حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه بعد خروج المورد عن المتيقن من نصوص مجهول المالك.

وحينئذ لو لم يرض البعض بالتصدق يجري حكم المال المردد بين شخصين إذا تعذر الاحتياط فيه.

(1) بل لا ينبغي الإشكال في ذلك في فرض عدم إحراز الإعراض.

لما سبق.

(2) مجرد التعارف لا يكفي في عدم الضمان إذا لم يعلم صاحب المال به ولم يتوقعه.

أما مع علمه به أو توقعه له فظاهر إقدامه عليه إذنه فيه، فيرتفع به الضمان.

كما أن الظاهر من تركه وعدم مطالبته به حينئذ إعراضه عنه، فيجوز لصاحب العمل تملكه، والاستقلال بالتصرف فيه بلا حاجة للتصدق.

(3) يعني: التصرف بأنحائه، ولا يجب التصدق حينئذٍ.

(4) يعني: مع تعيينهم.

أما مع الجهل بهم فيجب التصدق بها.

ويكفي في ذلك الشك في الإعراض، من دون ظهور حال في تحققه من المالك، لأصالة عدم الإعراض.

فيجب حينئذٍ مراجعته فيه مع الإمكان، لحرمة ماله، والتصدق به مع تعذر ذلك، لنصوص مجهول المالك.

والله سبحانه وتعالي العالم.

ومنه نستمد التوفيق والتسديد.

وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 296

(297) (297)

الفصل الحادي عشر/ السلف

اشارة

ويقال له السَّلَم (1) أيضاً.

وهو ابتياع كلي مؤجل (2) بثمن حال، عكس النسيئة.

ويقال للمشتري المسلم (بكسر اللام)، والبائع المسلم إليه، وللثمن المسلم، وللمبيع المسلم فيه (بفتح اللام) في الجميع (3).

(مسألة 1): يجوز في السلف أن يكون المبيع والثمن من غير النقدين (4)

---------------

(1) كما يظهر من النصوص وكلمات الأصحاب.

وفي موثق سماعة: «سألته عن السلم وهو السلف في الحرير والمتاع...»(1).

بل إطلاق السلم عليه أشيع في النصوص والفتاوي.

(2) وليس منه بيع الشخصي ولو اشترط تأجيل تسليمه، ولا بيع الكلي الحال ولو تأخر تسليمه برضا المتبايعين من دون شرط.

لخروجهما عن الظاهر أو المتيقن من معني السلف في النص والفتوي.

(3) يعني: في البائع والثمن والمبيع.

كما يقال للمشتري: المسلِف بكسر اللام.

(4) كما هو مقتضي ما في المبسوط والخلاف من جواز كون الثمن من سنخ المكيل أو الموزون أو المذروع أو غيرها مما يكفي فيه المشاهدة، كالجوهرة.

وبه صرح في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب السلف حديث: 8.

ص: 297

الشرائع والمختلف وغيرهما، وفي المختلف أنه المشهور، وفي الناصريات تعقيباً علي ما ذكره الناصر من أن المال إذا كان عرضاً لم يصح سلم قال: «هذا غير صحيح.

ويجوز عندنا أن يكون رأس المال في السلم عرضاً من ثمن سائر المكيلات والموزونات.

ويجوز أن يسلم المكيل في الموزون والموزون في المكيل.

وما أظن في ذلك خلافاً بين الفقهاء.

والدليل علي صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتردد.

.

.

».

وقد استدل له بعد عمومات الصحة بخبر وهب عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام): «قال: لا بأس بالسلف ما يوزن فيما يكال، وما يكال في ما يوزن»(1).

بدعوي: انجباره بالشهرة.

وإن لم يخل عن إشكال، لقرب استناد المشهور للعمومات المذكورة.

لكن عن أبي عقيل: «لا يجوز السلم إلا بالعين والورِق، ولا يجوز بالمتاع».

ولم يتضح الوجه فيه عدا ما تقدم عند الكلام في اعتبار اتحاد الجنس في الربا من النصوص المقتصرة في جواز بيع المختلفين علي ما إذا كان يداً بيد، كما يناسبه النصوص الناهية عن بيع أحدهما بالآخر نسيئة، بإلغاء خصوصية الثمن في المنع من التأجيل.

وقد تقدم هناك ما ينفع في المقام، لأنهما من باب واحد.

فراجع.

وعن ابن الجنيد: «لا يسلم في نوع من المأكول في نوع منه إذا اتفق جنساهما من الكيل والوزن والعدد، وإن اختلفت أسماؤهما، كالسمن في الزيت.

لأنه كالصرف نسيئة».

ولم يتضح وجه القياس، فضلاً عن حجيته.

نعم في صحيح عبد الله بن سنان: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن [في] رجل أسلف زيتاً علي أن يأخذ منه سمناً.

قال: لا يصلح»(2).

وفي صحيحه الآخر: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا ينبغي للرجل إسلاف السمن بالزيت، ولا الزيت بالسمن»(3).

وهما مختصان بالزيت والسمن.

فيقرب حملهما علي الكراهة بلحاظ مشابهة الزيت للسمن، فكأنهما جنس واحد.

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 7 من أبواب السلف حديث: 1، 2، 3.

ص: 298

مع اختلاف الجنس، أو عدم كونهما أو أحدهما من المكيل والموزون (1).

كما يجوز أن يكون أحدهما من النقدين والآخر من غيرهما، ثمناً كان (2) أو

---------------

ولاسيما بلحاظ المفروغية ظاهراً عن عدم جريان الربا فيهما، مؤيداً بخبر علي بن جعفر أو معتبره عن أخيه موسي بن جعفر (عليه السلام): «سألته عن رجل اشتري سمناً، ففضل له فضل، أيحل أن يأخذ مكانه رطلاً أو رطلين زيت ؟ قال: إذا اختلفا وتراضيا فلا بأس»(1).

ولو فرض فهم خصوصية الإسلاف في النهي أمكن الخروج عنه بما تقدم عند الكلام في اعتبار اتحاد الجنس من جواز النسيئة مع اختلاف الجنس، لعموم بعض نصوصه للسلف، ولقرب إلغاء خصوصية النسيئة في الباقي وتعميمه عرفاً للسلف.

نعم لو فرض فهم خصوصية الإسلاف في خصوص الزيت والسمن لم ينفع ذلك في الخروج عنه.

لكنه بعيد جداً.

ومثل قوله: «لا أختار أن يكون الثمن فرجاً يوطأ».

محتجاً بأنه قد يتطرق الفسخ إلي العقد، بسبب تعذر المسلم فيه، فيصادف الفسخ الحبل، وهو يوجب انتقال أم الولد.

إذ فيه: أن ذلك مع عدم اطراده لا ينهض بالمنع من البيع والخروج عن عموم أدلة الصحة، بل غاية الأمر رجوع أم الولد للمشتري حينئذٍ، أو رجوع قيمتها، لتعذر خروجها عن ملك أبي الولد، كما هو الظاهر.

(1) وإلا لزم الربا مع التفاضل، بل حتي مع التساوي بناءً علي عموم الزيادة الربوية للزيادة الحكمية، وهي الأجل.

وقد تقدم الكلام في ذلك.

(2) بناءً علي ما تقدم آنفاً من جواز كون العروض ثمناً في السلف.

********

(1) وسائل الشيعة ج 12 باب: 12 من أبواب الربا حديث: 11.

ص: 299

يشرط في السلف امور/ الأول: ضبط الأوصاف

اشارة

مثمناً.

ولا يجوز أن يكون كل من الثمن والمثمن من النقدين (1) اختلفا في الجنس أو اتفقا.

(مسألة 2): يشترط في السلف أمور: الأول: أن يكون المبيع مضبوط الأوصاف التي تختلف القيمة باختلافها (2)، كالجودة والرداءة والطعم والريح واللون وغيرها، كالخضر والفواكه والحبوب والجوز واللوز والبيض والملابس والأشربة والأدوية

---------------

(1) لما تقدم في الفصل السابق من لزوم التقابض في الصرف قبل التفرق.

لكنه يقصر عما إذا كان الأجل قصيراً بحيث يحل قبل التفرق، كما نبه لذلك في المسالك.

وعما إذا رضيا بعد العقد بتعجيل تسليم المبيع وتسلمه ولو من أجل تصحيح العقد.

نعم ذكر في الجواهر أن المستفاد من نصوص الصرف عدم جواز الأجل في النقدين زائداً علي وجوب التقابض قبل التفرق.

وكأنه لاشتمال بعض نصوصه علي اشتراط كون البيع يداً بيد(1).

فإن المستفاد منها عرفاً النهي عن التأجيل، كما يظهر من بعض النصوص أيضاً(2).

وقد تقدم نظير ذلك عند الكلام في وجوب التقابض في الصرف.

فلاحظ.

(2) لم يتعرض كثير من الأصحاب لهذا الشرط صريحاً، وإنما يستفاد من ذكرهم للشرط الثاني، فالكلام فيه يتفرع علي ما يأتي هناك.

وهو المناسب لما في الشرائع من أن كلما يختلف لأجله الثمن فذكره لازم.

وكأنه يبتني علي ما تقدم في المسألة السابعة من فصل شروط العوضين من لزوم ذكر الجنس والصفات التي تختلف القيمة باختلافها.

وقد تقدم الاستدلال له

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب الصرف حديث: 3، 6، 7.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب الربا حديث: 2، وباب: 17 من أبواب الربا حديث: 1، 7، 9، 14.

ص: 300

(301)

منهم بالنهي عن بيع الغرر.

بل ذلك هو الظاهر من تتمة كلام سيدنا المصنف (قده).

لكنه لو تم هناك لا مجال له هنا، للفرق بينهما بأنه مع اختلاف صفات المبيع الشخصي الموجبة لاختلاف المالية يكون الجهل بها مستلزماً للجهل بمقدار ماليته، فبيعه وشراؤه حينئذٍ يستلزم الغرر والخطر بلحاظ بعض مراتب المالية، كما تقدم في محله.

أما مع اختلاف أفراد الكلي في الصفات الموجبة لاختلاف المالية فالإقدام علي بيعه من دون وصف وتقييد لا يستلزم الغرر، لأن مالية القدر المشترك لا تردد فيها، بل هي مساوية لمالية أقل أفراده، إذ لا أثر لوجود الفرد الأعلي بعد عدم وجوب دفعه.

مضافاً إلي أمرين: الأول: أن استقصاء الصفات الموجبة لاختلاف مالية الأفراد كثيراً ما يستلزم عزة الوجود بالنحو الموجب لبطلان السلف.

ولاسيما مع كثرة الأفراد المبيعة.

ومجرد إمكان رضا البائع بدفع الأفضل، والمشتري بأخذ الأقل، لا يكفي في تصحيحه بعد خروجهما عن المبيع، وعدم استحقاقهما بالبيع.

الثاني: أن ذلك لا يناسب الاقتصار في النصوص الكثيرة علي وصف الطول والعرض في الثياب، والأسنان في الحيوان، وأرض الحيوان عند بيع جلده، مع وضوح دخل أمور أخر في مقدار ماليتها.

وأشكل من ذلك ما في الإرشاد من لزوم ذكر الأوصاف التي تختلف الأغراض بتفاوتها.

إذ هو أبعد عن النصوص المذكورة وأولي بعزة الوجود، لأن الأغراض قد تتعلق بأوصاف لا دخل لها في المالية.

مضافاً إلي عدم الدليل عليه، حتي شبهة النهي عن الغرر، لما هو معلوم من اختصاص الغرر عندهم بالجهل بمقدار المالية.

وكأنه لما ذكرنا قال في القواعد: «ويجب أن يذكر الوصف الدال علي الحقيقة، كالحنطة مثلاً، ثم يذكر كل وصف تختلف به القيمة اختلافاً ظاهراً لا يتغابن به الناس بمثله في السلم».

علي أنه لا يخلو عن إشكال.

إذ هو مع عدم الدليل عليه غير ظاهر الانطباق

ص: 301

علي شيء من الأوصاف، لظهور أنه مع أخذ الوصف لا يتسامح فيه آخذه غالباً، بحيث يرضي بتركه مجاناً، ومع عدم أخذه فيه لا يرضي البائع غالباً بالالتزام به مجاناً.

إلا أن يريد بما لا يتغابن به خصوص الأوصاف التي يهتم الناس غالباً بذكرها ولا يهملونها عند إيقاع معاملة السلف علي الموصوف بها.

دون غيرها مما لا يهتمون غالباً بضبطه والتنبيه عليه عند إيقاع المعاملة المذكورة.

لكنه مع عدم وضوح انضباطه يبقي محتاجاً للدليل، إذ لا منشأ للبناء علي وجوب متابعة الناس في سيرتهم الغالبية الناشئة من تعلق أغراضهم ومصالحهم، بحيث يلزم بها من لا مصلحة له في الجري عليها.

وليست هي كالسيرة الارتكازية التابعة لمرتكزاتهم الفطرية التي أودعها الله تعالي في نفوسهم مع قطع النظر عن الأغراض والمصالح، التي تكرر منّا لزوم العمل عليها ما لم يثبت ردع الشارع الأقدس عنها.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في أن مقتضي عمومات صحة البيع ونفوذ العقد عدم لزوم ذكر الوصف، فمع الاقتصار علي الجنس يجب علي البائع تسليمه وإن كان بأقل الأفراد قيمة، كما يجب عليه مع الوصف مهما كثر تسليم أي فرد من أفراد واجد الوصف وإن كان هو الأقل قيمة.

نعم لا ينبغي الإشكال في اعتبار ذكر المقدار كالكيل والوزن والعدد والمساحة فيما يقدر بها.

إذ بعد عدم معلومية إرادة المسمي فلابد من التقدير بها، دفعاً للتردد الممتنع في المبيع والثمن ونحوهما مما يكون مورداً للحق والملك.

بل قد تضمنت النصوص لزوم تقدير الطعام بالكيل.

ومن القريب جداً إلغاء خصوصيته عرفاً والتعدي لجميع المقادير في المقدرات بها.

ويأتي تمام الكلام في ذلك عند التعرض للشرط الرابع إن شاء الله تعالي.

وأما ما لا يقدر بها، بل يباع بالمشاهدة كالثياب والحلل والحيوان وغيرها فقد تقدم أن النصوص تضمنت لزوم ذكر بعض الأوصاف في بعضها، وهي

ص: 302

(303)

الثاني: ذكر الجنس والوصف

وآلات السلاح وآلات النجارة والنساجة والخياطة وغيرها من الأعمال والحيوان والإنسان وغير ذلك، فلا يصح فيما لا يمكن ضبط أوصافه، كالجواهر واللئالي والأراضي والبساتين وغيرها (1) مما لا ترتفع الجهالة والغرر فيها إلا بالمشاهدة.

الثاني: ذكر الجنس والوصف الرافع للجهالة (2).

-

الطول والعرض في الثياب، والأسنان في الحيوان، وأرض الحيوان عند بيع جلده.

ومن القريب جداً أن يستفاد منها لزوم ضبط المبيع ووصفه في الجملة بالنحو الرافع للاختلاف الفاحش، والذي يكون معرضاً للتشاح والتخاصم مع تركه.

ولا ملزم بما زاد عن ذلك بعد ما سبق من أن مقتضي عمومات الصحة عدم وجوبه.

وقد أطال الأصحاب (رضي الله عنهم) في فروع ذلك بما لا مجال لمتابعتهم فيه بعد ما سبق.

(1) لم يتضح تعذر الضبط في جميع ذلك بحيث يختلف عن الأمور السابقة ليمتنع السلف فيه بناءً علي ما سبق.

نعم في خبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): «سألته عن السلف في اللحم.

قال: لا تقربنه، فإنه يعطيك مرة السمين ومرة التاوي ومرة المهزول.

اشتره معاينة يداً بيد.

وسألته عن السلف في روايا الماء.

فقال: لا تقربنها، فإنه يعطيك مرة ناقصة ومرة كاملة.

ولكن اشترها معاينة يداً بيد، فإنه [فهذا] أسلم لك وله»(1).

لكنه مع ضعفه ظاهر في أن المانع ليس هو عدم الانضباط بل التعرض للتلاعب في مقام التسليم، ويمكن حصوله في جميع ما تضمنت النصوص جواز السلف فيه.

مع أن ظاهر ذيله كون النهي إرشادياً حذراً من التلاعب المذكور، لا من أجل عدم صحة السلف في ذلك.

(2) مقتضي ما سبق منه (قده) في الشرط الأول كون المراد بذلك لزوم ذكر

********

(1) وسائل الشيعة ج 13 باب: 2 من أبواب السلف حديث: 1.

ص: 303

الثالث: قبض الثمن قبل التفرق

الثالث: قبض الثمن قبل التفرق (1).

ولو قبض البعض صح فيه،

---------------

الأوصاف التي تختلف القيمة باختلافها.

(1) كما في المبسوط والخلاف والوسيلة والسرائر والشرائع وغيرها، بل هو المعروف بين الأصحاب، المدعي عليه الإجماع في الغنية والتذكرة والمسالك، وقد يظهر من الدروس ومحكي المهذب البارع، للحكم فيهما بأن قول ابن الجنيد بجواز التأخير ثلاثة أيام متروك.

قال في الخلاف: «دليلنا أنا أجمعنا أنه متي قبض الثمن صح العقد، ولم يدل دليل علي صحته قبل قبض الثمن، فوجب اعتبار ما قلناه».

وقريب منه في المختلف.

وهو كما تري! إذ يكفي في الدليل علي الصحة مع عدم القبض العمومات.

وقال في التذكرة: «لأنه عقد لا يجوز فيه شرط تأخير العوض المطلق، فلا يجوز فيه التفرق قبل القبض، كالصرف ولأن المسلم فيه دين في الذمة، فلو أخر تسليم رأس المال عن المجلس لكان ذلك في معني بيع الكالئ بالكالئ، لأن تأخير التسليم ينزل منزلة الدينية في الصرف وغيره.

ولأن الغرر في المسلم فيه احتمل للحاجة، فيجبر ذلك بتأكيد العوض الثاني بالتعجيل، لئلا يعظم الغرر في الطرفين».

والكل كما تري! لابتناء الأول علي المفروغية عن عدم جواز اشتراط تأخير تسليم الثمن.

وكأنه لأنه يكون من بيع الكالئ بالكالئ.

يعني الدين بالدين.

لكن المتيقن من ذلك ما إذا كان العوضان معاً ديناً قبل العقد، دون ما إذا صار أحدهما أو كلاهما ديناً بالعقد كما في المقام.

مع أن امتناع شرط التأجيل في الثمن لو تم لا يستلزم امتناع تأخير تسليمه من دون شرط.

وثبوت ذلك في الصرف للنص الخاص لا يستلزم ثبوته في المقام.

ومنه يظهر الحال في الثاني.

وأما الثالث فهو أشبه بالاستحسان منه بالاستدلال.

مع أن تأخير الثمن أدفع

ص: 304

(305)

للغرر الحاصل بتأجيل المثمن، كما لعله ظاهر.

ومن هنا ذكر غير واحد أن الدليل في المسألة الإجماع.

وقد يؤيد بظهور اتفاق العامة والخاصة علي عدم جواز اشتراط تأخير الثمن، وإنما الخلاف في وجوب تعجيل التسليم قبل التفرق أو جواز التأخير عنه إلي ثلاثة أيام، كما يظهر مما عن ابن الجنيد، حيث قال: «ولا أختار أن يتأخر الثمن الذي يقع به السلم أكثر من ثلاثة أيام»، أو أكثر من ذلك، كما عن مالك.

وهو يناسب اطلاعهم علي خصوصيته للسلم في ذلك، وحيث كان ما عن ابن الجنيد خالياً عن الدليل فمن القريب ابتناؤه علي وجه اعتباري لا يعول عليه.

لكن في كفاية ذلك في تحقق الإجماع الحجة إشكال.

ولاسيما مع عدم إشارة الشيخ له في الخلاف وإنما اقتصر علي الأصل، مع كثرة استدلاله بالإجماع فيه.

بل لم يذكر في النهاية اشتراط تسليم الثمن، ولا ذكره المفيد في المقنعة.

ومع قرب احتمال أن يكون منشأ دعواه أن السلم والسلف لغة مأخوذان من التسليم، فمع عدمه لا تكون المعاملة سلفاً ولا سلماً.

حيث قد يوجب ذلك وضوح بطلان العقد بنظر بعضهم، لعدم تحقق ركنه، بنحو يناسب تحقق الإجماع عليه.

نظير ما يأتي في الشرط الخامس من أخذ تأجيل المبيع في مفهوم السلف، وحكم جماعة ببطلان العقد مع عدم تأجيله.

مع أن الظاهر حينئذٍ صحته بيعاً وإن لم يكن سلفاً، للقصد إلي البيع، وعنوان كونه سلفاً غير مقوم له، فتخلفه لا يوجب بطلانه.

بل مرجعه في المقام إلي عدم قصد السلف علي حقيقته، بل بلحاظ بعض خواصه، وهو اشتراط تأخير المبيع.

ومن هنا يصعب التعويل علي الإجماع المدعي في البناء علي شرطية قبض الثمن وعدم تأجيله في صحة العقد وترتب الأثر عليه.

ولعله لذا توقف فيه في الحدائق ومحكي البشري.

غاية الأمر أنه لا يصح سلفاً، بحيث تترتب آثاره لو اختص بشيء من الآثار، بل يقع بيعاً مجرداً عن خصوصية السلف.

نعم في مرسل دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد (عليهما السلام): «أنه قال في رجل

ص: 305

أسلم علي عشرة أقفزة من طعام بعشرة دنانير، فدفع خمسة دنانير علي أن يدفع الخمسة الباقية.

قال: ليس له إلا خمسة حسب ما دفع»(1).

وهو نص في اشتراط تسليم الثمن في صحة المعاملة.

لكنه ضعيف في نفسه، ولم يتعرض له الأصحاب في المقام، فضلاً عن أن يستدلوا به، ويعتمدوا عليه، لينجبر بعملهم به.

فلاحظ.

والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

بقي في المقام أمران: الأول: مقتضي العقد حصول الملك للعوضين حين وقوعه من دون أن يتوقف علي قبض الثمن، لكن تقدم في المسألة السادسة من الفصل السابق أن ظاهر بعض نصوص التقابض في الصرف توقف ترتب مضمون العقد وحصول الملك علي التقابض فلا يحصل الملك ولا تترتب آثاره قبله.

أما هنا فحيث كان الدليل علي التقابض هو الإجماع لو تم فالمتيقن منه توقفه عليه في الجملة، ولو لكون تخلفه موجباً لبطلان العقد وخروج العوضين عن الملك بعد حصوله، تبعاً لصحة العقد وترتب الأثر عليه حين وقوعه.

ولا طريق لحمل المقام علي الصرف كما قد يظهر من الجواهر بعد اختلاف دليليهما.

وما ذكرنا هو المنساق من كلمات كثير منهم هنا، حيث رتبوا البطلان علي التفرق قبل قبض الثمن، بنحو يظهر في ترتبه عليه لا انكشافه به.

بل ذلك صريح التذكرة في بعض فروع المسألة.

وعلي ذلك تترتب آثار الملك في كل من العوضين، كالتهاتر فيه، وجواز الحوالة عليه.

وكذا انعتاق العبد لو كان ثمناً وكان ينعتق علي المشتري.

وحينئذٍ لا يحتاج للقبض، لخروج العوض عن الملك لو كان ثمناً بالأمور المذكورة من التهاتر

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 10 من أبواب السلف حديث: 1.

ص: 306

وبطل في الباقي (1).

-

والانعتاق وغيرهما.

ويخرج الفرض عن المتيقن من الإجماع علي وجوب قبض الثمن.

فلاحظ.

الثاني: قال في التذكرة: «لو كان رأس المال منفعة عبد أو دار مدة معينة صح، وكان تسليم تلك المنفعة بتسليم العين».

ونحوه في القواعد.

قال في جامع المقاصد: «وهذا وإن لم يكن تسليماً للخدمة والسكني حقيقة فهو في حكم التسليم، إذ الممكن من تسليمها ليس شيئاً زائداً علي ذلك».

لكنه إنما يتم لو ورد النص بجواز جعلها ثمناً في السلم، حيث يكشف ذلك عن اكتفاء الشارع الأقدس في تصحيح العقد بذلك، دفعاً للغوية النص المذكور.

أما حيث لا نص بذلك فدليل وجوب تسليم الثمن لو تم صالح لتخصيص العمومات القاضية بصحة جعلها ثمناً في السلف إلا مع استيفائها قبل التفرق.

فالعمدة في المقام: أنه لا إطلاق لدليل اعتبار قبض الثمن حقيقة، بحيث يمنع من جعل الثمن منفعة، لينهض بتخصيص العمومات المذكورة، بل يتعين البناء علي جواز جعلها ثمناً وإن تعذر قبضها.

لكن مقتضي ذلك عدم شرطية قبضها حتي بتسليم العين.

إلا أن يدعي الإجماع علي لزوم ذلك.

ولا يخلو عن إشكال.

(1) كما في الشرائع والنافع والتذكرة والقواعد وغيرها.

لنظير ما تقدم في الصرف.

ويؤيده مرسل دعائم الإسلام المتقدم عند الكلام في اعتبار قبض الثمن.

وحينئذٍ يجري ما تقدم هناك من ثبوت خيار تبعض الصفقة، كما صرح به غير واحد.

وما تقدم هناك من الكلام في التفصيل فيه بين التفريط وعدمه جارٍ هنا.

فراجع.

هذا ولكن صرح في المبسوط بالبطلان في الجميع.

قال: «وإذا أسلم مائة درهم في كر من طعام، وشرط أن يجعل خمسين في الحال وخمسين درهماً إلي أجل، أو عجل خمسين وفارقه، لم يصح السلم في الجميع.

وإن شرط خمسين نقداً وخمسين ديناً له في

ص: 307

ولو كان الثمن ديناً في ذمة البائع فالأقوي الصحة (1)

---------------

ذمة المسلم إليه فلا يصح في الدين، ويصح في النقد».

ولم يتضح الوجه الذي اعتمده في عدم التبعيض في الفرض الثاني الذي هو المتيقن من محل الكلام، وهو ما إذا عجل خمسين وفارقه من دون شرط التأجيل مع التزامه بتبعضها في الفرض الثالث.

وأما عدم تبعضها في الفرض الأول وهو ما إذا شرط تأجيل البعض فهو المصرح به في السرائر والقواعد والتذكرة والتحرير واللمعة وجامع المقاصد.

وقد وجهه غير واحد بأن للتأجيل دخل في زيادة الثمن، فما يقابل المعجل أكثر مما يقابل المؤجل، وحيث كانت النسبة بينهما مجهولة، لزم جهالة مقدار المبيع الذي هو في مقابل المعجل.

وفيه مع أن النسبة قد لا تكون مجهولة: أنه لا يعتبر في تبعض الصفقة العلم حين العقد بالنسبة بين ما يصح العقد فيه وما لا يصح.

ولذا احتمل الصحة وتبعض الصفقة في الدروس والروضة.

وأما ما في الجواهر من احتمال كون الشرط في السلم استحقاق قبض جميع الثمن قبل التفرق، وهو غير قابل للتبعيض، لا مجرد فعلية القبض القابلة له.

فلا شاهد له، بل يدفعه عموم أدلة الصحة في العقود.

فلاحظ.

(1) كما في الشرائع والنافع وشروحه وكشف الرموز والتنقيح والرياض والتحرير وعن محكي إيضاح النافع.

بل حكاه في شروح النافع المتقدمة عن الشيخ (قده)، وإن لم نتحققه.

وهو مقتضي عمومات الصحة.

مضافاً إلي معتبر اسماعيل بن عمر: «أنه كان له علي رجل دراهم، فعرض عليه الرجل أن يبيعه بها طعاماً إلي أجل، فأمر إسماعيل يسأله [من سأله.

يب].

فقال: لا بأس بذلك.

فعاد عليه إسماعيل فسأله عن ذلك، وقال: إني كنت أمرت فلاناً فسألك

ص: 308

عنها.

فقلت: لا بأس.

فقال: ما يقول فيها من عندكم ؟ قلت: يقولون فاسد.

فقال: لا تفعله، فإني أوهمت»(1).

وهو صريح في المطلوب.

ولابد من حمل تراجعه (عليه السلام) عن ذلك علي التقية.

ولاسيما مع سبقه بالسؤال عن فتوي العامة.

ثم إن ظاهرهم المفروغية عن عدم الحاجة لتعيين الدين ثم قبضه، ولو لما ذكر غير واحد من أنه بمنزلة المقبوض، وإن عرفت الإشكال فيه في المسألة الخامسة من الفصل السابق، وأن الدليل عليه النصوص المختصة بالصرف.

نعم قد يستفاد من تلك النصوص العموم للمقام، لظهورها في المفروغية عن عدم الحاجة إلي القبض المناسب لكون ذلك ارتكازياًَ لا يفرق فيه بين جميع موارد الحاجة إلي القبض.

مضافاً إلي أن الدليل في السلف علي وجوب القبض لما كان هو الإجماع فالمتيقن منه غير المقام.

لكن صرح بالإشكال والتوقف في التذكرة والقواعد، وهو ظاهر الإيضاح.

بل قد تقدم من المبسوط المنع من جعل الدين ثمناً.

ونحوه في الخلاف والسرائر والمختلف والدروس واللمعة وجامع المقاصد وعن غيرها.

ونسبه في المسالك للأكثر، وهو الأشهر كما في الرياض، والمشهور كما في الحدائق.

لأنه من بيع الدين بالدين الذي ورد النهي عنه في معتبر طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: لا يباع الدين بالدين (2) »، ومرسل دعائم الإسلام قال: «عن رسول الله صلي الله عليه وآله أنه نهي عن الكالئ بالكالئ.

وهو بيع الدين بالدين»(3).

وأضاف إلي ذلك في الرياض صحيح منصور بن حازم: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون له علي الرجل طعام أو بقر أو غنم أو غير ذلك، فأتي المطلوب

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 8 من أبواب السلف حديث: 1، 2.

(3) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 15 من أبواب الدين والقرض حديث: 1.

ص: 309

الطالب ليبتاع منه شيئاً.

قال: لا يبيعه نسيئاً.

فأما نقداً فليبعه بما شاء»(1).

ولم يتضح وجه الاستدلال به، فإن النظر في النصوص الواردة في هذا الباب تناسب كون المراد به أن المطلوب لم يكن عنده ما يوفي الطالب ما له عليه من الطعام أو البقر أو الغنم، فأراد أن يشتري منه شيئاً نسيئة ثم يبيعه إياه نقداً، ويشتري بثمنه ما يوفيه، وهو المعبر عنه في النصوص بالعينة.

وهو أجنبي عما نحن فيه.

وقد حاول في الجواهر توجيه الاستدلال به بما اعترف بأنه غير تام.

ولعله لذا أمر في الرياض بعد ذكر الصحيح بالتأمل.

وأما ما تضمن النهي عن بيع الدين بالدين فهو كما ذكر غير واحد ظاهر في فرض كون كلا العوضين ديناً قبل البيع.

وحمله علي ما إذا صارا معاً ديناً بالمعاملة بنحو تقتضي المعاملة التأجيل فيهما، كما في تأجيل ثمن السلف، أو صار أحدهما ديناً بها بحيث تقتضي تأجيله والآخر ديناً قبلها كما في المقام.

مخالف للظاهر ومحتاج للدليل.

وأشكل من ذلك حمله علي الأعم من الكل، كما لا يبعد رجوع كلام من استدل به في المقام وفي مسألة عدم جواز تأجيل الثمن في السلف إلي ذلك، حيث يقرب الاتفاق علي شموله للمعني الذي ذكرناه، فالاستدلال به في الموردين المذكورين لابد أن يبتني علي حمله علي الأعم.

ووجه الإشكال فيه: أنه راجع لاستعماله في أكثر من معني، لعدم الجامع بين المعاني المذكورة عرفاً.

ودعوي: وجود الجامع بينها، بأخذ عنوان الدين بنحو يعم المتلبس به فعلاً والمتلبس به في المستقبل.

مدفوعة: بأن أخذ العنوان بالنحو المذكور يقتضي العموم لما إذا كان العوض كلياً معجلاً، لأنه يصير بالعقد ديناً في الذمة إلي حين التسليم، ولا إشكال في قصور بيع الدين بالدين عنه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب أحكام العقود حديث: 8.

ص: 310

(311)

فلابد في إرادة ما نحن فيه والسلف الذي يؤجل فيه الثمن من قصر الدين الذي يترتب علي العقد علي خصوص ما إذا اقتضي العقد تأجيله بحيث يشترط فيه ذلك، ولا جامع عرفي بين الدين الفعلي واشتراط التأجيل.

ومن هنا لا مخرج عما سبق.

ثم إنه صرح غير واحد ممن ذهب إلي الجواز بالكراهة.

وقد يوجه تارة: بأنه يشبه بيع الدين بالدين.

وأخري: بالخروج عن شبهة الخلاف.

والأول أشبه بالاستحسان منه بالاستدلال.

والثاني لا يقتضي الكراهة الحقيقية، بل حسن الاحتياط، كما هو ظاهر.

هذا كله إذا أخذ الدين بنفسه ثمناً، أما إذا أطلق الثمن بعنوان كلي، كمائة درهم، فقد صرح في اللمعة والروضة والمسالك بجواز المحاسبة عليه من الدين الذي للمشتري علي البائع.

بل في الأخيرين أنه إنما يحتاج للمحاسبة مع اختلافهما في الجنس أو الوصف، أما مع اتفاقهما فيهما فالمتعين حصول التهاتر القهري بينهما.

لكن في الدروس: «ويلزم منه كون مورد العقد ديناً بدين.

ويشكل صحته».

وهو كما تري! لفرض كون الثمن هو الكلي الصادق علي غير الدين.

والتهاتر القهري بين الدينين مع الاتفاق في الجنس والوصف حكم عقلائي شرعي ليس من سنخ المعاملة والمعاوضة.

ويؤيد ما ذكرنا في معتبر علي بن جعفر عن أخيه موسي (عليه السلام): «سألته عن السلم في الدين.

قال: إذا قال: اشتريت منك كذا وكذا بكذا وبكذا فلا بأس»(1).

فإنه إن حمل علي كون الثمن الذي تضمنه العقد نفس الدين كان دليلاً علي الجواز في مسألتنا بنحو يغني عن التهاتر القهري، وإن حمل علي كون الثمن المذكور كلياً ينطبق علي الدين كما هو مقتضي الجمود علي حاق العبارة كان مما نحن فيه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 8 من أبواب السلف حديث: 3.

ص: 311

إذا كان الدين حالاً، لا مؤجلاً (1).

وأما المحاسبة بينهما مع الاختلاف فهي ليست بيعاً، ليكون من بيع الدين بالدين، بل هي نحو من الصلح.

علي أن جوازها منصوص عليه في معتبر عبيد بن زرارة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون له عند الصيرفي مائة دينار، ويكون للصيرفي عنده ألف درهم، فيقاطعه عليها.

قال: لا بأس»(1).

نعم استشكل في ذلك كله في الجواهر بعدم وضوح ملكية ثمن السلف قبل القبض، ليكون مورداً للتهاتر ومورداً للمحاسبة.

وقد يشير إلي ذلك ما في المسالك من أنه معاوضة علي ثمن السلم قبل قبضه.

لكنه قال في دفع ذلك: «ومثل هذا التقاص والتحاسب استيفاء، لا معاوضة».

وهو كما تري! إذ لا ريب في عدم كونهما قبضاً حقيقياً يتحقق به شرط السلم.

بل يتوقف تحققهما علي ملكية الطرفين للدينين، ولا موضوع لهما مع عدم ملكية أحدهما.

فالعمدة في دفع ما ذكره في الجواهر ما تقدم في ذيل الكلام في وجوب قبض الثمن في السلف من أن الظاهر ملكية العوضين فيه بالعقد، والمتيقن من دليل وجوب القبض وهو الإجماع لو تم بطلان العقد بالتفرق قبل القبض بعد صحته وترتب الملكية عليه.

ويؤيد ذلك ظهور جملة من كلماتهم ومنها ما سبق في عدم توقف حصول الملك علي القبض.

ولو فرض حمله علي الصرف في توقف الملك علي القبض فقد سبق أنه لا حاجة للتقابض في الصرف إذا كان كلا العوضين في ذمة شخص واحد.

فلاحظ.

(1) إذ لو كان مؤجلاً يلزم بيع ما يصير ديناً بالبيع بما هو دين قبل البيع مع كونهما معاً مؤجلين.

وقد منع منه (قده) في المسألة السابعة من كتاب الدين.

والكلام في ذلك موكول لكتاب الدين.

ولو تم أمكن التخلص من ذلك بجعل الثمن كلياً

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 4 من أبواب الصرف حديث: 3.

ص: 312

(313)

الخامس: تعيين اجل مضبوط

الرابع: تقدير المبيع ذي الكيل أو الوزن أو العد بمقداره (1).

الخامس: تعيين أجل مضبوط للمسلم فيه بالأيام أو الشهور أو السنين أو نحوها.

ولو جعل الأجل زمان الحصاد أو الدياس أو الحضيرة بطل البيع (2).

ويجوز فيه أن يكون قليلا كيوم ونحوه وأن يكون كثيراً

---------------

معجلاً، ثم المحاسبة عليه بالدين المؤجل، بناءً علي ما سبق آنفاً.

ولا مجال للتهاتر هنا، لعدم جريانه مع الاختلاف في الأجل.

(1) كما هو ظاهر السرائر وحكي عن ابن الجنيد.

ويظهر الوجه فيه مما تقدم في الشرط الثاني.

وتقدم أنه يجب ذكر المساحة فيما يتقدر بها.

وربما يريد (قده) بالمعدود ما يعمّ ذلك.

هذا ولكن في المبسوط: «وكل ما أنبتته الأرض لا يجوز السلم فيه إلا وزناً.

.

.

ويجوز السلف في الجوز والبيض وزناً.

وكذا في اللوز والفستق والبندق وزناً وكيلاً ولا يجوز عدداً».

كما منع في الخلاف من السلف عدداً في الجوز والبيض والبطيخ.

وصرح بعدم جواز السلف في المعدودات عدّاً في الغنية والشرائع والنافع وغيرها.

وخصه في التذكرة والمختلف بما يدخل منها تحت الوزن.

ويظهر من القواعد أن المعيار في المنع والجواز علي كثرة التفاوت وقلته.

ولعله الأنسب بما تقدم في الشرط الثاني.

فلاحظ.

(2) بلا خلاف أجده بيننا، كما في الجواهر، وعن المفاتيح نفي الخلاف فيه.

وادعي الإجماع عليه في الخلاف والغنية وظاهر التذكرة ومجمع الفائدة ومحكي الكفاية.

وعن نهج الحق أنه مذهب الإمامية.

ويقتضيه النصوص الكثيرة الظاهرة في اعتبار كون الأجل معلوماً، كموثق سماعة أو صحيحه: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السلم وهو السلف في الحرير والمتاع

ص: 313

كعشرين سنة (1).

-

الذي يصنع في البلد الذي أنت به.

قال: نعم إذا كان إلي أجل معلوم»(1).

فإنه حيث كان المتعارف ضبط مقادير الزمن بالأيام والشهور والسنين كان ظاهر اعتبار العلم بالأجل لزوم ضبطه بها وإن اختلفت قليلاً في القدر، بخلاف غيرها من الأحداث الزمانية المرددة الوقت.

مضافاً إلي معتبر غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا بأس بالسلم كيلاً معلوماً إلي أجل معلوم، ولا تسلمه إلي دياس ولا إلي حصاد»(2) ، ونحوه مرسلا دعائم الإسلام(3).

وقد استدل غير واحد مضافاً إلي ذلك بلزوم الغرر.

ويظهر الإشكال فيه مما تقدم في المسألة الأولي من الفصل الثامن في النقد والنسيئة.

(1) كما صرح بذلك في الجملة غير واحد، وفي المختلف أنه المشهور، وادعي في الخلاف الإجماع عليه.

ويقتضيه مضافاً إلي عمومات الصحة إطلاق نصوص المقام، ومنها ما تقدم.

وعن ابن الجنيد أنه لابد أن يكون ثلاثة أيام فصاعداً.

قال في المختلف: «احتج ابن الجنيد بأن الأجل لابد وأن يكون له وقع في الثمن، وأقله ثلاثة أيام.

والجواب المنع في المقدمتين».

وعنه أيضاً: «لا أختار أن يبلغ بالمدة ثلاث سنين، لنهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عن بيع السنين».

لكن النبوي مع عدم وضوح دلالته علي المدعي غير مروي من طرقنا، بل من طرق العامة(4).

نعم في معتبر أحمد بن محمد: «قلت لأبي الحسن (عليه السلام) إني أريد الخروج إلي الجبال

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب السلف حديث: 4، 5.

(3) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 3 من أبواب السلف حديث: 1، 2.

(4) عن سنن أبي داود ج: 3 ص: 67 رقم الحديث: 3374. سنن ابن ماجة ج: 2 ص: 747 رقم الحديث: 2218. سنن النسائي ج: 7 ص: 294.

ص: 314

[الجبل].

فقال: ما للناس بد من أن يضطربوا سنتهم هذه.

فقلت له: جعلت فداك إنا إذا بعناهم نسية كان أكثر للربح.

قال: فبعهم بتأخير سنة.

قلت: بتأخير سنتين ؟ قال: نعم.

قلت: بتأخير ثلاث ؟ قال: لا»(1) ، وصحيح أحمد بن محمد بن أبي نصر المروي عن قرب الإسناد: «أنه قال لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إن هذا الجبل قد فتح علي الناس منه باب رزق.

فقال: إن أردت الخروج فاخرج، فإنها سنة مضطرب، وليس للناس بد من معاشهم، فلا تدع الطلب.

فقلت: إنهم قوم ملاء ونحن نحتمل التأخير، فنبايعهم بتأخير سنة ؟ قال: بعهم.

قلت: سنتين ؟ قال: بعهم.

قلت: ثلاث سنين ؟ قال: لا يكون لك شيء أكثر من ثلاث سنين»(2).

لكن لا يظهر من الأصحاب (رضي الله عنهم) التعويل علي الحديثين في موردهما وهو النسيئة فضلاً عن التعدي منه للسلف، حتي الإسكافي، لظهور ما تقدم عنه في تعويله علي النبوي لا عليهما.

علي أن النظر في الحديثين يشهد بوحدة الواقعة التي تضمناها، لوحدة الراوي والمروي عنه وخصوصيات السؤال، وليس الاختلاف بينهما إلا في التعبير بسبب النقل بالمعني.

ولا يظهر من الثاني النهي التعبدي الراجع للبطلان، بل المتيقن منه الإرشاد لتعرض المال للضياع بالتأخير ثلاث سنين، ومع ذلك لا مجال للتعويل علي الأول الظاهر في النهي التعبدي بسبب التعارض بينهما في بيان الواقعة الواحدة.

مضافاً إلي أن شيوع الابتلاء بالمسألة المذكورة لا يناسب خفاء حكمها علي جمهور الأصحاب، وتسالمهم علي الخطأ فيه.

ومن هنا لا مخرج عما سبق.

وعلي ذلك قد يدعي أنه لا مانع من طول الأجل في النسيئة والسلف بنحوٍ يوثق أو يعلم بأنهما لا يعيشان إليه، كألف سنة، كما في المسالك ومفتاح الكرامة وعن غيرهما.

قال في المسالك في مبحث النقد والنسيئة: «للعموم، ولأن الوارث يقوم مقامهما.

لكن يحل بموت المشتري».

وهو يشير بذلك إلي ما ذكروه من أن المدين إذا

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب أحكام العقود حديث: 1، 2.

ص: 315

مات حل دينه.

اللهم إلا أن يكون علمهما بذلك مانعاً من قصدهما اشتراط الأجل الخاص.

إلا أن يرجع لقصد اشتراط التأجيل حتي بعد الموت المستلزم لمخالفة الشرط للحكم الشرعي الموجبة لبطلانه.

علي أن في شمول العموم لذلك إشكالاً، حيث لا يبعد انصرافه عما يعلم بعدم إدراكهما له.

فلاحظ.

بقي في المقام أمور: الأول: الظاهر أن تأجيل المبيع مأخوذ من مفهوم السلف عرفاً.

وما في كلام غير واحد من كونه شرطاً فيه قد يرجع إلي ذلك.

ويشهد به صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ليس عنده، فيشتري منه حالاً.

قال: ليس به بأس.

قلت: إنهم يفسدونه عندنا.

قال: وأي شيء يقولون في السلم ؟ قلت: لا يرون به بأساً يقولون هذا إلي أجل، فإذا كان إلي غير أجل وليس عند صاحبه فلا يصح.

قال: فإذا كان إلي غير أجل كان أجود [أحق].

..»(1) وقريب منه صحيحه الآخر(2).

بل نصوص اشتراط تعيين الأجل ظاهرة في أنها مسوقة لبيان اعتبار تعين الأجل وتحديده بعد الفراغ عن أصل أخذه في العقد، كما يظهر بسبرها.

وكأنه لأجل ذلك قيل بالبطلان لو كان المبيع حالاً، كما في النهاية والخلاف والسرائر وعن ابن أبي العقيل، بل في الخلاف دعوي الإجماع عليه.

لكن عدم صحته سلفاً لا ينافي صحته بيعاً معجلاً مع قصد التعجيل، لعموم صحة البيع.

ومجرد التعبير بالسلف أو السلم لا يمنع من ذلك، لرجوعه للتسامح في التعبير، وهو غير مانع من صحة العقد علي النحو الذي وقع عليه وقصد.

وإلي ذلك يرجع ما ذكره غير واحد وإن كان ظاهر بعضهم أنه سلم حال.

ولا يأباه كلام الشيخ في المبسوط، حيث قال: «والسلم لا يكون إلا مؤجلاً، ولا يصح أن يكون حالاً.

وإن

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب أحكام العقود حديث: 1، 3.

ص: 316

كان الشيء موجوداً في الحال، فإنه لا يكون سلماً».

نعم لفظ السلم والسلف لما كان ظاهراً في التأجيل فإرادة الحلول منه تحتاج إلي عناية وقرينة، وبدونهما يكون ظاهر اللفظ إرادة التأجيل إلي أجل غير معين، فيبطل العقد.

وهو أمر آخر غير اشتراط الأجل في صحة العقد.

الثاني: ظاهر النصوص والفتاوي اشتراط تعيين المدة من حيثية المنتهي من دون نظر لتحديدها من حيثية المبدأ، لأن الأجل عرفاً هو منتهي المدة، لا تمامها، ومقتضي ذلك صحة العقد مع الجهل بزمان وقوعه إذا عين زمان الاستحقاق، كما لو أسلفه إلي عيد الفطر مع تردد زمان العقد بين أول شعبان ونصفه، أو مع خطئهما في تعيين زمان وقوعه.

نعم لو كان الوجه في اعتبار تعيين الأجل هو النهي عن بيع الغرر، فقد يتجه اعتبار تحديد المدة من حيثية المبدأ أو المنتهي معاً، حيث قد يكون ذلك دخيلاً في القيمة.

لكن سبق عدم نهوض ذلك بالاستدلال.

فلاحظ.

الثالث: صرح غير واحد بجواز التوقيت بشهور الروم والفرس.

وحيث كان المعيار هو العلم بالأجل فاللازم إناطة الجواز فيها وفي الأشهر العربية بتعارف التوقيت بها، بحيث يكون معلوماً عرفاً، وهو يختلف باختلاف الأمكنة والأعراف والأشخاص.

وكأن ما ذكره الشيخ في المبسوط من لزوم إسنادها إلي سنة هجرية ناشئ من عدم شيوع معرفة عدد سنيها في عصره (قده)، وإن شاع معرفة مواعيدها من السنة الهجرية بسبب ارتباط الفصول والزراعة بها.

أما في عصورنا وبلادنا فلا مجال لذلك، لمعروفية التوقيت بالسنين الرومية وشهورها.

بل قد يكون التوقيت في بعض الأعراف والأمكنة من بلادنا بالشهور والسنين العربية مهجوراً بحيث لا يوجب العلم بالأجل عرفاً، ولا يجزي في المقام.

ص: 317

السادس: امكان الدفع عند حلول الأجل

السادس: إمكان تعهد البائع بدفعه وقت الحلول (1) وفي البلد الذي

---------------

(1) إذ مع تعذر التعهد من البائع لا يتحقق شرط التسليم المعتبر في السلف.

ومن ثم كان هذا الشرط مستغني عنه بما تقدم من بيان معني السلف، وتوقف صحته علي تعيين الأجل المشروط، وإنما ذكره سيدنا المصنف (قده) لبيان عدم اشتراط كون المبيع عام الوجود حين الأجل.

لكن يظهر من بعض مشايخنا (قده) أن الشرط ليس إمكان التعهد بل القدرة علي نفس الأمر المتعهد به.

حيث قال: «السادس: إمكان دفع ما تعهد البائع دفعه وقت الحلول.

.

.

».

وهو المناسب لما في الدروس وعن الكفاية من اشتراط القدرة علي التسليم عند الأجل، وما في القواعد من إمكان وجوده حينه.

وقد جرينا علي ذلك سابقاً.

ورتبنا عليه التفصيل فيما لو تعذر التسليم بحلول الأجل بين ما إذا انكشف عجزه عن التسليم رأساً، وما إذا انكشف قدرته عليه ولو بالقدرة علي تحصيله قبل الأجل أو الاحتفاظ به إلي حين حلوله، وإن تعذر عليه بعد ذلك، لتقصيره بالتفريط به أو لخطئه في التقدير.

وأنه ينكشف بطلان السلف رأساً في الصورة الأولي، وصحته في الثانية وترتب الآثار الآتية عليه.

وتوضيح الكلام في ذلك: أنه لا إشكال في إمكان انشغال ذمة الإنسان وضعاً بما يتعذر عليه أداؤه، كما في الدين وموارد الضمان، وليس هو كالتكليف بالشيء يلغو مع تعذر أدائه، لتقومه بالعمل.

وحينئذٍ حيث كان السلف من صغريات البيع وكان مفاد البيع ملكية المبيع علي البائع في مقابل ملكية الثمن علي المشتري أمكن عقلاً صحته مع تعذر أداء المسلم فيه في وقته.

ومن هنا قد يوجه البطلان مع التعذر في المقام بوجوه: الأول: أخذ القدرة علي التسليم شرطاً في صحة البيع، فمع فرض تعذر التسليم في الوقت المأخوذ في السلم يلزم بطلان العقد بتعذر شرط صحته.

ص: 318

(319)

لكن تقدم في المسألة الخامسة عشرة من الفصل الثالث في شروط العوضين عدم وضوح الدليل علي شرطية القدرة علي التسليم، بحيث يتوقف عليه صحة البيع، بل غايته لزوم الخيار بالتخلف فيما إذا ابتني البيع علي التسليم والتسلم حالاً.

أما في مثل المقام فظاهر الأدلة كفاية تعهد من له الأجل بالتسليم في الأجل(1).

ولذا ليس بناؤهم علي بطلان بيع النسيئة إذا تعذر تسليم الثمن في وقته، مع أن القدرة علي التسليم عندهم شرط في كلا العوضين، كما هو ظاهرهم في المقام أيضاً، علي ما يأتي في المسألة الثامنة إن شاء الله تعالي.

الثاني: أن بيع السلف لا يبتني علي مجرد تمليك المبيع بالعوض، ليتجه ما تقدم من إمكان انشغال الذمة بما يتعذر أداؤه، بل علي تسليم المبيع في الوقت المحدد زائداً علي ذلك، فمع تعذر أدائه في وقته لا مجال لصحة العقد ونفوذه، لتعذر القيام بمقتضاه، فيلغو جعله، كالتكليف بما يتعذر القيام به.

وفيه: أن ابتناء بيع السلف علي تسليم المبيع في الوقت المحدد ليس لكونه مقوماً للعقد والبيع، بحيث يكون ركناً فيه يبطل ببطلانه، بل هو راجع إلي اشتراط ذلك زائداً علي العقد.

ومن الظاهر أن بطلان الشرط لعدم القدرة عليه لا يوجب بطلان العقد، بل ثبوت الخيار فيه.

ومجرد توقف صحة العقد في المقام علي الشرط المذكور لما تقدم من اعتبار تعيين الأجل لا يجعله ركناً في العقد يبطل ببطلانه.

ولذا ليس بناؤهم علي ذلك في النسيئة إذا عجز المشتري عن أداء الثمن في الأجل، مع أنهما علي نهج واحد.

بل سبق أنه ظاهرهم في المقام أيضاً.

الثالث: صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يجيئني يطلب المتاع، فأقاوله علي الربح ثم أشتريه فأبيعه منه.

قال: أليس إن شاء أخذ وإن شاء ترك ؟ قلت: بلي.

قال: فلا بأس به.

قلت: فإن من عندنا يفسده.

قال: ولِمَ؟

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 5 من أبواب السلف وغيرها.

ص: 319

قلت: قد باع ما ليس عنده.

قال: فما يقول في السلم قد باع صاحبه ما ليس عنده.

قلت: بلي.

قال: فإنما صلح من أجل أنهم يسمونه سلماً؟! إن أبي كان يقول: لا بأس ببيع كل متاع تجده في الوقت الذي بعته فيه»(1).

بتقريب أن مقتضي إطلاق ذيله اعتبار وجود المبيع في الوقت الذي يتعهد البائع تسليمه فيه حالاً كان أو مؤجلاً الراجع لاعتبار القدرة علي تسليمه فيه.

وفيه: أن مقتضي الجمود علي حاق عبارة الذيل المذكور فعلية وجدان البائع للمبيع حين البيع، لكن بقرينة المورد والنقض في كلام الإمام (عليه السلام) ببيع السلم يتعين حمله علي اعتبار فعلية القدرة علي المبيع حين البيع، لا حين تعهد البائع بالتسليم، فيختص ببيع الحال الذي هو مورد السؤال.

ومجرد نقض الإمام (عليه السلام) علي العامة ببيع السلف لا يقتضي عموم الذيل له، ليتعين حمل وقت البيع فيه علي الوقت الذي يتعهد البائع بتسليم المبيع فيه.

فهو نظير ما في صحيح عبد الرحمن الآخر عنه (عليه السلام): «قال: لا يسمي له أجلاً إلا أن يكون بيعاً لا يوجد، مثل العنب والبطيخ وشبهه في زمانه، فلا ينبغي شراء ذلك حالاً»(2).

علي أنه لو تم الدليل بدواً علي اعتبار قدرة البائع في السلف علي تسليم المبيع في وقته فلابد من الخروج عنه بالنصوص المتضمنة أنه مع تعذر تسليم البائع المبيع عند حلول الأجل يجوز أخذ بدله من متاع آخر مع التراضي(3) ، والمتضمنة أن له انتظاره(4).

فإنها كالصريحة في عدم بطلان البيع، ولم يفصل فيها بين ما إذا كان تعذر التسليم طارئاً بعد القدرة عليه، وما إذا كان من أول الأمر، بحيث انكشف عجز البائع عن القيام بمقتضي عقد السلف.

بل في صحيح زرارة: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل اشتري طعام قرية

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب أحكام العقود حديث: 3، 1.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 11 من أبواب السلف حديث: 5، 6، 8، 11.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 11 من أبواب السلف حديث: 14.

ص: 320

بعينها، قال: لا بأس.

إن خرج فهو له، وإن لم يخرج كان ديناً عليه»(1).

فإنه وإن لم يصرح فيه بالسلف، إلا أن بيع الثمر قبل خروجه ينحصر بوجهين: الأول: بيعه من دون أن يبتني علي التسليم، كما يأتي في بيع الثمار سنة واحدة.

الثاني: بيع السلف.

وحيث لا مجال لحمله علي الأول، لأنه لو صح يكون تلفه من مال المشتري، ولا يبقي ديناً علي البائع، فيتعين حمله علي الثاني.

وهو حينئذٍ صريح في فرض انكشاف عجز البائع عن تسليم المبيع في وقته، لفرض عدم وجوده، ومع ذلك لم يحكم فيه بانكشاف بطلان البيع واستحقاق المشتري الثمن، بل ببقاء المبيع وهو طعام القرية المذكورة ديناً علي البائع يدفعه في السنين اللاحقة، المستلزم لصحة البيع.

فتأمل.

ومن هنا يتعين عدم اعتبار القدرة علي تسليم المبيع في صحة السلف واقعاً.

نعم مع علم المتبايعين حين العقد بتعذر تسليم المبيع في وقته، أو بخروجه عن قدرة البائع، وإن كان قد يتيسر له صدفة يتعذر منهما القصد لاشتراطه التسليم في الوقت، فيلغو الشرط الذي هو المقوم للسلف، ولا يتيسر منهما القصد لذلك إلا مع البناء علي قدرة البائع عليه عادة ولو مع ندرة وجوده، لما هو المعلوم من بناء العقلاء وسيرتهم علي عدم التعويل في مقام العمل علي احتمال طروء الموانع غير المحتسبة.

وكأنه إلي هذا يرجع ما ذكره سيدنا المصنف (قده) وما ذكره جماعة من اعتبار كون المبيع مأمون الانقطاع حين الأجل.

بل لا يبعد رجوع كلام من اعتبر القدرة أيضاً إلي ذلك، وأن مرادهم اعتقاد تحقق القدرة علي التسليم بحلول الأجل، لا القدرة الواقعية، ولذا لم يظهر منهم عند الكلام فيما لو عجز البائع عن التسليم في الوقت التفصيل الذي أشرنا إليه آنفاً اللازم للقول باعتبار القدرة الواقعية.

بقي شيء.

وهو أنه يكفي في إمكان قصد المتبايعين للشرط تعهد البائع بالتسليم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب السلف حديث: 1.

ص: 321

شرط التسليم فيه إذا كان قد شرط ذلك (1).

سواء أكان عام الوجود أم نادره (2) فلو لم يمكن تعهد البائع به لعجزه عنه (3) ولو لكونه في سجن

-

في الأجل حتي مع علمه بالعجز عنه مع عدم علم المشروط له بذلك.

والظاهر الاكتفاء بذلك في صحة السلف.

لعموم أدلة نفوذ العقد، وإطلاق كثير من نصوص المقام، مثل ما تضمن جواز السلف إلي أجل معلوم وكيل معلوم(1) ، وما تضمن جوازه مع ضمان البائع للمبيع في الأجل(2) ، ونحوها.

(1) وإذا لم يشترط بلداً خاصاً لزم إحراز قدرته علي تسليمه في البلد الذي يقتضيه الإطلاق، ويأتي الكلام فيه في المسألة الآتية.

(2) أشار (قده) بذلك إلي ما ذكره جماعة من لزوم كونه عام الوجود أو غالب الوجود عند حلول الأجل، كما في المبسوط والشرائع والنافع وموضع من التذكرة وعن نهج الحق، بل عنه أن ذلك مذهب الإمامية، ونفي الخلاف فيه في التحرير.

وهو المناسب لكلام كثير منهم حتي من لم يذكر الشرط المذكور أو اكتفي بالقدرة أو إمكان الوجود.

وعلي ذلك قال في التحرير: «فلا يجوز السلم في الفواكه إذا جعل الأجل وقت تعذرها.

وكذا لا يجوز إذا جعله إلي محل لا يعم وجودها فيه، كوقت أول العنب فيه أو آخر وقته»، ونحوه كلام غيره.

لكن لم يتضح وجهه.

إلا أن يرجع إلي ما أشرنا إليه من فرض ابتناء العقد علي عدم إحراز قدرة البائع عليه عادة وإن أمكن قدرته عليه صدفة، حيث لا يتأتي من المتبايعين القصد لاشتراط التسليم، كما سبق.

(3) المعيار في تعذر الشرط اعتقادهما العجز، لا العجز الواقعي.

كما أنه سبق أنه يكفي في تعذر القصد إلي الشرط العلم بخروجه عن قدرة البائع بحيث لا يقع

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3، 6 من أبواب السلف.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 5 من أبواب السلف.

ص: 322

(323)

الكلام في اقتضاء العقد وجوب التسليم في مكان المطالبة

أو في بيداء لا يمكنه الوصول إلي البلد الذي اشترط التسليم فيه عند الأجل بطل.

(مسألة 3): إطلاق العقد يقتضي وجوب تسليم المسلم فيه في مكان المطالبة (1)،

---------------

تحت اختياره وإن كان قد يقدر عليه صدفة.

(1) لم يتضح الوجه في اقتضاء الإطلاق ذلك.

نعم هو مقتضي سلطنة المشتري علي ماله، فله المطالبة به في أي مكان شاء، ولا يجوز حبسه عنه.

وقد يكون ذلك هو مراد سيدنا المصنف (قده)، بأن يرجع كلامه إلي أنه ليس في إطلاق العقد ما يقتضي الخروج عن مقتضي السلطنة.

وهو المناسب لما يأتي منه (قده) من عدم وجوب تعيين مكان التسليم في العقد، إذ لو فرض أن مقتضي الإطلاق هو التسليم في مكان المطالبة لم يبق موضوع لذلك، حيث يتضمن العقد بإطلاقه مكان التسليم.

ثم إنه لو تم ذلك فكما يقتضي وجوب التسليم علي البائع عند مطالبة المشتري في أي مكان كان، كذلك يقتضي وجوب الاستلام والقبض علي المشتري عند بذل البائع في أي مكان كان، لما سبق في أوائل الفصل الثامن في النقد والنسيئة إلي أنه ليس لصاحب الحق الامتناع من أخذ حقه إذا بذله له من عليه الحق.

هذا ويظهر من مساق جملة من كلمات الأصحاب (رضي الله عنهم) أن مقتضي الإطلاق التسليم في بلد العقد إذا لم تكن هناك قرينة صارفة عن ذلك، ونسب إلي ظاهر كلامهم في مجمع الفائدة.

بل هو المصرح به في القواعد والتذكرة والمختلف والتحرير والإرشاد واللمعة ومحكي غاية المرام وغيرها.

وفي مفتاح الكرامة أن عباراتهم قد طفحت بذلك، ونسبه في الإيضاح لنص الأصحاب.

وإن كان ظاهر الإيضاح وجامع المقاصد عدم البناء علي ذلك.

بل هو لا يناسب ما يأتي من جماعة من وجوب تعيين موضع التسليم في العقد.

نعم في المسالك أنه لو لم نقل بوجوب ذلك تعين موضع العقد.

ص: 323

فأي مكان طالب فيه وجب تسليمه إليه فيه (1).

إلا أن تقوم قرينة علي تعيين غيره فيعمل عليها.

والأقوي عدم وجوب تعيينه في العقد (2)، إلا إذا اختلفت الأمكنة في صعوبة التسليم فيها ولزوم الخسارة المالية بحيث يكون الجهل بها غرراً فيجب تعيينه حينئذ (1).

-

وكيف كان فمن القريب جداً كون مقتضي الإطلاق هو موضع العقد.

إذ بعد اختلاف الأغراض في ذلك، واختلاف مؤن النقل كثيراً بنحو لا يناسب الرضا بالإطلاق، المستلزم لجواز المطالبة في أي موضع اختاره المشتري ووجوب الاستلام في أي موضع اختاره البائع، يتعين انصراف الإطلاق إلي موضع خاص، ووقوع العقد في موضع موجب لرجحانه علي غيره بنحو ينصرف الإطلاق إليه بعد ما سبق من عدم كون المراد منه إيكال الأمر للمشتري.

(1) هذا إنما يتجه إذا كان ظرف (فيه) متعلقاً بقوله: «وجب».

لما سبق من أن مقتضي قاعدة السلطنة جواز مطالبة الإنسان بماله في أي موضع شاء وعدم جواز حبسه عنه.

أما إذا كان متعلقاً بقوله: «تسليمه إليه» فلا وجه له.

فإذا طالب فيه في مكان ثم انتقل منه لمكان آخر أو كان له وكيل فيه كفي تسليمه له في المكان الثاني خروجاً عن حرمة حبس المال عن صاحبه.

وليس له المطالبة بتسليمه في المكان الأول، لعدم المنشأ لاستحقاقه ذلك، ليطالب به، ويستجاب له.

وكذا الحال في حق المشتري لو عرض عليه البائع الاستلام.

نعم إذا كان مقتضي الإطلاق التسليم في بلد المطالبة اتجه وجوب التسليم فيه حتي مع فرض الانتقال عنه.

لكن سبق عدم المنشأ لذلك.

فلاحظ.

(2) كما في السرائر والشرائع والإرشاد وجامع المقاصد وظاهر اللمعة.

بل قد يستفاد من كل من لم يذكره في شروط السلف، كما في النهاية والنافع وغيرهما.

ونفي الخلاف فيه في السرائر.

وقد يستدل له بعدم تعرض نصوص السلف لاشتراط ذلك.

ص: 324

وصرح بوجوب ذكره في الخلاف والغنية والدروس، مدعياً في الغنية الإجماع عليه.

وفي المبسوط: «ويجب أن يذكر موضع التسليم.

وإن كان لحمله مؤنة وجب ذكره، وإن لم يكن به مؤنة لا يجب ذلك، وكان ذكره احتياطاً» وظاهره أن ذكر موضع التسليم إنما يجب إذا كان لحمله مؤنة.

وقريب منه في الوسيلة، وفي التحرير: «وهو عندي جيد».

وظاهر التذكرة والقواعد والمختلف والتنقيح وجوب ذكره إذا قامت القرينة علي عدم إرادة مقتضي الإطلاق، الذي هو عندهم موضع العقد.

والذي ينبغي أن يقال: بناءً علي أن الإطلاق يقتضي مكاناً معيناً فلا وجه لوجوب ذكر موضع التسليم، لإغناء الإطلاق عن ذكره من دون فرق بين ما إذا كان حمله أو نقله محتاجاً لمؤنة وعدمه، لإقدام البائع بمقتضي الإطلاق علي تحمل المؤنة.

ومعه لا وجه للتنازع، الذي قد يستدل به لوجوب ذكر موضع التسليم.

إذ هو فرع عدم الإقدام علي الأمر الذي لا يرغب فيه.

وإن علم بعدم إرادة الإطلاق، أو قامت القرينة علي ذلك، لزم تعيين موضع التسليم.

لأن ذلك إن رجع إلي قصد كل منهما أمراً خاصاً، فمع عدم اتفاقهما في المراد يلزم عدم التطابق بين الإيجاب والقبول المبطل للعقد.

وإن رجع إلي الإهمال والغفلة عن تحديد المراد لزم إبهام التسليم المستحق وعدم تحديده واقعاً، وهو مبطل للمعاملة، لامتناع استحقاق المبهم.

ومجرد عدم تعرض النصوص لذلك لا يكفي في البناء علي عدمه بعد قرب صلوح الإطلاق لتعيين مكان التسليم، وغلبة التعيين منهما له عند عدم إرادة مقتضي الإطلاق.

فهو نظير عدم تعرض النصوص لوجوب تعيين الثمن في السلف، حيث لا ينهض شاهداً بعدم وجوب تعيينه.

وبذلك يظهر أن أقوي الأقوال المتقدمة هو الأخير.

ص: 325

المعيار في الشهر المضروب اجلاً

يكون الجهل بها غرراً فيجب تعيينه حينئذ (1).

(مسألة 4): إذا جعل الأجل شهراً أو شهرين، فإن كان وقوع المعاملة في أول الشهر فالمراد الشهر الهلالي (2)، وإن كان في أثناء الشهر فالمراد من الشهر ثلاثون يوماً، ومن الشهرين ستون يوماً، وهكذا (3).

---------------

(1) كأنه لئلا يكون البيع غررياً.

لكن تقدم منّا غير مرة المنع من عموم النهي عن بيع الغرر كبروياً.

كما أنه لو فرض أن مقتضي الإطلاق هو التسليم عند المطالبة فالبائع قد أقدم علي مثل هذا التردد وعين الثمن المناسب له، كما لو صرح بذلك، أو صرح بموضع خاص تختلف مؤنة النقل إليه زيادة ونقيصة تبعاً لاختلاف العوامل المتوقعة من حرّ أو برد أو مطر أو غيرها، وكما تختلف قيمة نفس المبيع المعين في الوقت المعين ومؤنة تحصيله علي البائع باختلاف العوامل المتوقعة كثيراً.

ولا يظن منهم البناء علي مانعية التردد في جميع ذلك من صحة البيع من أجل لزوم الغرر.

(2) الكلام في ذلك بعد الفراغ عن كون المراد بالأشهر في أجل السلف هي الأشهر الهلالية، بسبب شيوع إرادتها والتوقيت بها في البلاد الإسلامية في العصور السابقة.

أما في عصورنا فقد شاع التوقيت بالأشهر الشمسية.

وحينئذٍ يجري فيها نظير الكلام الآتي في الأشهر العربية.

إذا عرفت هذا فما ذكره سيدنا المصنف (قده) من أنه إذا وقعت المعاملة في أول الشهر يتعين الشهر الهلالي دون العددي وهو الثلاثين هو المصرح به في كلام غير واحد، ونفي الخلاف فيه في مفتاح الكرامة، وظاهر خلافهم الآتي المفروغية عنه.

وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه.

بل ظاهرهم أنه المعني الحقيقي للشهر.

بل هو المراد مما في التذكرة من أن الشهر الشرعي ما بين الهلالين.

إذ من المعلوم عدم الحقيقة له شرعاً».

وما ذكره متين جداً.

(3) كما احتمله في القواعد، ولم يستبعده في المختلف.

وقد وجهه السيد عميد

ص: 326

(327)

الدين الأعرجي علي ما في بعض نسخ كنز الفوائد بأن الشهر حقيقة في عدة ما بين هلالين أو ثلاثين يوماً.

وقد تعذر المعني الأول، لأن تتمة كل شهر من الشهر الذي يليه هو المتبادر، فلا يتم شهر هلالي، ويتعين الرجوع للعدد.

وفي الشرائع أن الأشبه هو الرجوع للأشهر الهلالية التامة، ويتم المنكسر ثلاثين يوماً بعدها فإذا كان الأجل ثلاثة أشهر مثلاً ووقع العقد في أثناء الشهر يكون الأجل الشهرين الهلاليين اللذين بعده، وثلاثين يوماً ملفقة من الشهر الذي وقع فيه العقد والشهر الرابع.

وعليه جري في التذكرة والتحرير والإيضاح والدروس والمسالك والروضة وغيرها، ونسبه في المسالك للأكثر.

قال في التذكرة: «لأن الشهر الشرعي هو ما بين الهلالين، إلا أن في الشهر المنكسر لابد من الرجوع إلي العدد، لئلا يؤخر أمد الأجل عن العقد».

لكن تأخير أمد الأجل عن العقد ممكن في نفسه، وقد التزم الأصحاب بنظيره في خيار الحيوان لو وقع العقد ليلاً، وفي حساب مدة الحيض والنفاس لو حاضت المرأة أو ولدت ليلاً، للبناء علي أن المراد بالأيام فيها ما يقابل الليل.

وهو راجع في الحقيقة إلي زيادة الأجل.

نعم هو مخالف للظاهر، بل لا ينبغي الإشكال في عدم البناء عليه في المقام، للقطع بعدم قصد المتعاقدين له.

لكن الخروج عنه بما سبق من التذكرة من التلفيق بعيد في نفسه، لأنه مستلزم لتتميم الشهر الأول المنكسر من الشهر الأخير المنفصل عنه، مع أن الظاهر عرفاً تتميم الشهر المنكسر من الشهر المتصل به، كما تقدم من السيد الأعرجي.

وأما دعوي: أنه يلزم الخروج عن ذلك من أجل الحفاظ علي الشهر الهلالي مهما أمكن.

فهي مندفعة بأنه لا يتضح كون الحفاظ علي الشهر الهلالي أهم من الحفاظ علي تتميم الشهر مما يليه ويتصل به.

وأما ما ذكره في المسالك وغيره من أنه لو وقع العقد في نصف الشهر مثلاً ومضي بعد ذلك شهران هلاليان يصدق عرفاً أنه مضي من الأجل شهران ونصف

ص: 327

حتي لو كانت الأشهر الثلاثة ناقصة، حيث يشهد ذلك ببناء العرف علي الرجوع للشهر الهلالي مهما أمكن، لا للشهر العددي في الجميع.

فهو وإن كان مسلماً، إلا أنه لو مضي في الفرض المذكور نصف من الشهر الثاني يصدق عرفاً أيضاً أنه مضي شهر واحد، لا أنه مضي نصفا شهرين من دون أن يتم شهر، وهذا يشهد أيضاً ببناء العرف علي تتميم الشهر الأول المنكسر من الشهر المتصل به، لا من الشهر المنفصل عنه بالشهرين الهلاليين.

مضافاً إلي الإشكال في القول المذكور بأنه يبتني علي التفريق بين الأشهر، حيث يراد في واحد منها العددي وفي الباقي الهلالي، مع أنها مسوقة في كلام المتعاقدين - الذي عليه المعول في تحديد المراد بالأجل - في مساق واحد.

ومن هنا كان الوجه الأول أوفق بالسياق من هذا الوجه، لما فيه من حمل الشهور علي معني واحد.

وإن شئت قلت: بعد فرض تعذر حمل الشهور في كلام المتعاقدين بأجمعها علي الهلالية الذي هو الأصل الأولي فحملها بأجمعها علي الأشهر العددية كما هو مقتضي الوجه الأول أولي عرفاً من التفكيك بينها كما هو مقتضي هذا الوجه لأنها مسوقة في كلام المتعاقدين في مساق واحد.

نعم مقتضي الوجه الأول أنه لو وقع العقد في اليوم الثاني من الشهر وكان الأجل عشرة أشهر مثلاً لم يتم الأجل إلا في اليوم السادس أو السابع أو الثامن من الشهر الحادي عشر، لنقص ما يقرب من نصف الأشهر المذكورة، مع إباء العرف ذلك جداً.

مضافاً إلي الإشكال في الوجهين معاً بأن تحديد المراد من الشهر في المقام تابع لقصد المتعاقدين ولو ارتكازاً، وليس هو أمراً تعبدياً، كتحديد زمان خيار العيب وأقل الحيض وأكثره ونحو ذلك.

وحينئذٍ حيث سبق الاتفاق علي أنه لو وقع العقد في أول الشهر فالمرجع هو الأشهر الهلالية، لزم اختلاف مراد المتعاقدين من الشهر باختلاف وقت إيقاع العقد، وهو من أبعد البعيد.

ص: 328

ولاسيما أن الفرق بين أول الشهر وأثنائه قد يكون قليلاً جداً، كأول الليلة ونصفها، بل قد يدعي صدق الأثناء بمضي ساعة أو ساعتين منها، مع أن المتعاقدين قد يغفلان عن تحديد وقت العقد ومضي المدة المذكورة حين وقوعه، ليتجه اختلاف مقصودهما من الشهر باختلاف وقت إيقاع العقد.

مع أن ذلك لو جري في الشهر جري في السنة، لأن السنة الهلالية اثنا عشر شهراً هلالياً، تبدأ بمحرم وتنتهي بذي الحجة.

فإذا تعذر حساب السنة كاملة لوقوع العقد في أثناء السنة كيف يكون الحساب، خصوصاً إذا وقع في أثناء شهر هلالي منها، فهل تحسب شهورها عددية أو هلالية أو مختلفة ؟!.

ومن هنا كان التحقيق عدم تمامية مبني كلا الوجهين، وهو اختلاف المراد من الشهر عرفاً، تبعاً لاختلاف وقت العقد، وأنه قد يكون عددياً وقد يكون هلالياً، إذ الظاهر أن الشهر عرفاً ليس إلا الهلالي، كما أن الشهر الفارسي يبتني علي البروج، والشهر الغربي يبتني علي تقسيم مصطلح خاص، وإن كانت الأشهر فيها بأجمعها تختلف في عدد الأيام.

غاية الأمر أن الأصل في الشهر الهلالي أن يكون ثلاثين يوماً، ولا يبني علي النقص فيه إلا بظهور الهلال قبل إكمال الثلاثين يوماً.

وهو أمر آخر غير الاختلاف في المراد من الشهر.

نعم بناء العرف في مقام التوقيت علي الاكتفاء بالتلفيق مع حصول الأمر المؤقت في أثناء الوحدة الزمانية، كالساعة واليوم والأسبوع والشهر والسنة وغيرها، فيتمم الناقص ما بعده بمقدار ما نقص منه.

وهذا بخلاف مقام التوصيف، حيث لابد من قصر الوصف علي تمام المدة أو بعضها علي اختلاف الحال.

فإذا استمر الحر من نصف شهر رجب إلي نصف شهر رمضان صح أن يقال: استمر الحر شهرين.

أما إذا أريد بيان الأشهر الحارة فلا يقال: شهران من هذه السنة حاران، بل الحار هو شهر واحد وهو شعبان ونصفي شهرين وهما رجب ورمضان، كما ذكرنا نظير ذلك

ص: 329

في خيار الحيوان.

وعليه جري الأصحاب هناك في كثير من أبواب الفقه.

وعلي ذلك يتعين أن يكون الأجل في المقام بالشهر الهلالي لا غير، سواء وقع العقد في أول الشهر أم في أثنائه.

غايته أنه في الصورة الثانية يتمم الشهر الذي وقع فيه العقد مما بعده بمقدار ما نقص منه، وهكذا الحال في بقية الشهور مهما كثرت، ولا يكون شيء منها عددياً، فإذا كان الأجل شهراً واحداً أو شهرين أو شهوراً ووقع العقد في اليوم الخامس من الشهر ينتهي باليوم الخامس من الأشهر اللاحقة مهما كان عدد الشهور وإن صادف نقص بعضها أو كثير منها.

والظاهر أن عمل العرف علي ذلك في المقام ونحوه، ومنه الإجارة.

وبه تشهد النصوص في الجملة ففي حديث الفضيل بن عياض: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحج الأكبر، فإن ابن عباس كان يقول: يوم عرفة.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: الحج الأكبر يوم النحر.

ويحتج بقوله عز وجل: (فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) وهي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر.

ولو كان الحج الأكبر يوم عرفة لكان أربعة أشهر ويوماً»(1) ، ونحوه في تحديد أشهر السياحة التي تضمنتها الآية الشريفة غيره(2).

وإلي ذلك انتهي أخيراً في المبسوط.

قال: «وإن قال: إلي خمسة أشهر جاز أيضاً.

.

.

فإن لم يكن مضي من الهلال شيء عدّ خمسة أشهر.

وإن كان قد مضي من الهلال شيء حسب ما بقي ثم عدّ ما بعده بالأهلة، سواء كانت ناقصة أو تامة، ثم أتم الشهر الأخير بالعدد ثلاثين يوماً، لأنه فات الهلال.

وإن قلنا: إنه يعد مثل ما فات من

********

(1) الكافي ج: 4 ص: 290 كتاب الحج باب الحج الأكبر والأصغر حديث: 3.

(2) الكافي ج: 4 ص: 290 كتاب الحج باب أشهر الحج حديث: 3. من لا يحضره الفقيه ج: 2 ص: 278 باب أشهر الحج وأشهر السياحة والأشهر الحرم حديث: 4. وراجع بحار الأنوار ج: 21 باب نزول سورة براءة.

ص: 330

(مسألة 5): إذا جعل الأجل جمادي أو ربيعاً حمل علي أولهما (1) من

---------------

الشهر الهلالي كان قوياً».

ومال إليه في الجواهر، وجري عليه بعض مشايخنا (قده).

وذكره في الشرائع أولاً، وإن عدل عنه وجعل الأشبه الثاني كما تقدم.

وقد يستفاد ممن أطلق أن المعيار في الأشهر هي الهلالية، كما في اللمعة.

بقي شيء.

وهو أن التتميم من الشهر اللاحق ليس بلحاظ الكسر المشاع كالنصف والثلث، بل بلحاظ عدد الأيام، فإذا وقع العقد في آخر اليوم الخامس عشر من الشهر، وكان ذلك الشهر تاماً فلا يتم الشهر الملفق إلا بمضي اليوم الخامس عشر من الشهر اللاحق حتي لو كان اللاحق ناقصاً يتم نصفه قبل ذلك، لأن ذلك هو المفهوم، وعليه العمل عرفاً.

(1) كما في المبسوط والشرائع والتحرير والإرشاد والإيضاح والدروس، ومال إليه في جامع المقاصد، وفي الإيضاح أن الأصحاب نصوا علي ذلك.

لكن تردد فيه في القواعد.

بل ظاهر التذكرة المنع.

وقد يوجه بالاشتراك بينهما لفظاً، والمشترك لا يتعين لأحد معانيه إلا بالقرينة.

ودعوي: أن الأجل لما علق علي الاسم المعين فهو يصدق بالأول.

مدفوعة بأن الأجل لم يعلق علي الاسم، بل علي المسمي، والمفروض تعدده المستلزم لتردد المراد.

لكن منع في الجواهر من الاشتراك اللفظي.

قال: «ضرورة أنهما من المشترك المعنوي، إذ معني الأول كل ثلاثين بين صفر وجمادي في كل سنة، والثاني كل ثلاثين بين ربيع الثاني ورجب في كل سنة».

فإن تم ذلك كان مقتضي الإطلاق هو حصول الأجل بالأول منهما، لتحقق عنوان المطلق به.

وما في الجواهر من عدم رجوعه بعد التأمل إلي محصل يعتمد عليه.

غريب جداً.

نعم الظاهر عدم تماميته، وأن الاشتراك في المقام لفظي، لعدم التفات العرف

ص: 331

تلك السنة (1).

وحلّ بأول جزء من ليلة الهلال (2).

وإذا جعله الجمعة أو الخميس حمل علي الأول من تلك السنة (3).

وحل بأول جزء من نهار

---------------

للجامع الذي ذكره، فضلاً عن أن تكون التسمية بلحاظه.

فالعمدة في المقام هو الانصراف عرفاً للأول في المقام ونظائره مما يستوي فيه أطراف الترديد في الاشتهار والابتلاء في مقام العمل.

وقد يكون منشؤه غلبة كون الأول هو الأسبق في التسمية مدة من الزمن، بحيث انفرد بها من دون أن يحتاج إلي التمييز، وصار هو المفهوم من الإطلاق، بخلاف ما بعده، حيث يحتاج للتمييز من أول الأمر.

وصارت هذه الغلبة هي المنشأ في فهم الأول من الإطلاق دائماً حتي في مثل ما نحن فيه مما لم يكن الأول أسبق في التسمية.

فلاحظ.

(1) الظاهر عدم الإشكال فيه بينهم.

لما يأتي عند الكلام فيما لو جعل الأجل الجمعة أو الخميس.

(2) لدخول الشهر بها عند العرف الذي عليه المعول في تحديد مفاهيم الألفاظ.

وفي خبر عمر بن يزيد: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أن المغيرية يزعمون أن هذا اليوم لهذه الليلة المستقبلة.

فقال: كذبوا.

هذا اليوم لليلة الماضية.

إن أهل بطن نخلة حيث رأوا الهلال قالوا: قد دخل الشهر الحرام»(1).

نعم يكون تعارف مزاولة الأعمال ومنها التجارية في النهار قرينة علي حمل الأجل علي إرادة اليوم الأول من الشهر، وفي الوقت الذي يتعارف مزاولة العمل فيه.

(3) بلا خلاف أجده.

كذا في الجواهر، وفي الإيضاح أن الأصحاب نصوا علي ذلك، وعليه جري في التذكرة والقواعد مع توقفهما في سابقه كما تقدم.

وكأنه للإطلاق، حيث لا ريب في الاشتراك اللفظي هنا.

لكنه يتجه إذا جيء بهما نكرتين، كما إذا قيل: إذا جاء يوم جمعة أو خميس حل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 7 باب: 8 من أبواب أحكام شهر رمضان حديث: 7.

ص: 332

(333)

الكلام في جواز بيع ما اشراه سلفاً قبل حلول الأجل

اليوم المذكور (1).

(مسألة 6): إذا اشتري شيئاً سلفاً لم يجز له بيعه قبل حلول الأجل (2)،

-

الأجل.

وهو مع ندرته في المحاورات خارج عن مفروض كلامهم.

وأما مع التعريف فإنما يتم الإطلاق إذا كانت اللام للجنس، وهو بعيد جداً، بل الظاهر أنها للعهد الشخصي.

وحينئذٍ يرجع المدعي إلي أن العهد ينصرف للأقرب.

والوجه فيه: أن المتعاملين بعد أن كانا في مقام تحديد الأجل بالعهد، فإن كان بينهما عهد خاص نحو الفرد القريب أو غيره فالعمل عليه، وإن لم يكن بينهما عهد نحو فرد معين كما هو محل الكلام فالقرب جهة صالحة لترجيح القريب ذهناً بنحو ينصرف العهد إليه، وإلا لم يحصل التحديد.

ولاسيما مع عدم وجود حدّ للبعد صالح لأن يعهد، حيث لا نهاية للأفراد البعيدة.

ومن ذلك يظهر الوجه في انصراف الشهر كمحرم وربيع وجمادي الأولي أو الثانية إلي الأقرب، لأن قرينة التحديد تلزم بإرادة فرد معين، والقرب جهة صالحة للترجيح الموجب للانصراف.

فلاحظ.

(1) لأن عناوين أجزاء الأسبوع أسماء للأيام عرفاً.

وإرادة الليالي تحتاج إلي إضافة الليلة للعنوان، فيقال: ليلة الجمعة مثلاً.

(2) كما في النهاية والمراسم والغنية والسرائر والشرائع والنافع والتذكرة والقواعد والدروس وغيرها.

واقتصر في المقنعة علي المنع من بيعه علي بائعه قبل حلول الأجل بزيادة أو نقصان، من دون تعرض لبقية فروض المسألة.

كما اقتصر في المبسوط علي المنع من بيعه علي غير البائع، حيث قال: «إذا أسلف في شيء فلا يجوز أن يشرك فيه غيره، ولا أن يوليه».

وقريب منه في الخلاف.

بل صرح في الوسيلة بجواز بيعه علي البائع قبل الأجل.

هذا ولا ينبغي الإشكال في أن مقتضي العمومات صحة البيع، ولابد في

ص: 333

الخروج عنها من دليل.

وأما ما يظهر من الرياض من احتمال كون الأجل شرطاً في ملكية المشتري الأول للمبيع، لا في استحقاقه للمطالبة به فقط، ومع عدم ملكيته له لا يصح بيعه له.

ففيه: أن ملكية العوضين بالعقد من الوضوح بحد يغني عن إطالة الكلام فيه.

ومن هنا يتعين النظر في دليل المنع.

وقد يستدل عليه: تارة: بعدم القدرة علي التسليم حين البيع.

بل ولا عند حلول الأجل، لأنه تابع لاختيار البائع الأول، لا لاختيار البائع الثاني.

وأخري: بأنه من بيع ما لم يقبض.

وثالثة: بالنبوي:

«من أسلم في شيء فلا يصرفه إلي غيره» (1) ، والآخر: «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلي غيره»(2).

ورابعة: بالإجماع.

قال في الجواهر: «للإجماع المحكي في التنقيح وظاهر الغنية وجامع المقاصد وغيرها وعن كشف الرموز، إن لم يكن محصلاً.

بل لعله كذلك.

ولا يقدح ظاهر ما في الوسيلة...

بعد سبقه بالإجماع ولحوقه به، فضلاً عن خلاف بعض متأخري المتأخرين».

ويندفع الأول مع اختصاصه بالبيع علي غير البائع بأن القدرة علي التسليم حين البيع لو كانت شرطاً فهي شرط في المبيع إذا ابتني البيع علي تعجيل التسليم، دون ما إذا ابتني علي الانتظار إلي حلول الأجل، كما هو محل الكلام.

وأما القدرة علي التسليم عند حلول الأجل فيكفي فيها الوثوق بتسليم البائع الأول، كما صح بيع السلف نفسه بوثوقه بقدرته علي تسليم المبيع في وقته.

كما يندفع الثاني بأن مقتضاه المنع من البيع قبل القبض، لا قبل حلول الأجل.

مضافاً إلي أنه يختص بالمكيل والموزون علي تفصيل وكلام تقدما في أحكام القبض من الفصل السابع.

كما تقدم أنه يختص عند سيدنا المصنف (قده) بالبيع علي غير البائع.

********

(1) سنن الدارقطني ج: 3 ص: 45 رقم الحديث: 187.

(2) السنن الكبري ج: 6 ص: 30.

ص: 334

فراجع.

وأما الثالث فيشكل بأن النبويين المذكورين مع انصرافهما عن البيع علي البائع غير مرويين من طرقنا، بل من طرق العامة.

ولم يتعرض لهما أصحابنا في مقام الاستدلال علي المدعي.

وذكر الشيخ لهما في الخلاف والمبسوط قد يكون للاحتجاج علي المخالف في الحكم من العامة كما هو دأبه كثيراً من دون أن يتضح تعويله عليهما، ليدعي انجبارهما بعمله.

ولاسيما مع استدلاله بوجوه أخر قد يكون تعويله عليها.

نعم قد يظهر من التنقيح الاستدلال بنهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عن السلم قبل حلوله.

ولا يبعد رجوعه إلي النبويين المذكورين.

إلا أنه لا مجال لدعوي الانجبار بعمله وحده.

ويندفع الرابع بأنه لا يظهر من الغنية دعوي الإجماع علي محل الكلام من حرمة بيع السلف قبل حلول الأجل، بل علي ما ذكره بعد ذلك من جواز بيعه بعد حلول الأجل، حيث قال بعد أن ذكر ذلك: «بدليل إجماع الطائفة وظاهر القرآن ودلالة الأصل.

إلا أن يكون المسلم فيه طعاماً، فإن بيعه قبل قبضه لا يجوز إجماعاً».

كما أن جامع المقاصد لم يتضمن دعوي الإجماع في المقام، بل لم يعلق فيه علي عبارة القواعد أصلاً.

وإنما علق علي حكمه بجواز البيع بعد حلول الأجل بقوله: «سيأتي أن في بعض الصور خلافاً».

واستفادة دعواه الإجماع فيما نحن فيه من ذلك كما تري!.

نعم نسب في الرياض لظاهر المحقق الثاني والأردبيلي في شرحيهما علي الإرشاد دعوي الإجماع.

ولا يحضرني الأول، وليس في الثاني إلا قوله: «فكأن دليله الإجماع.

.

.

» وهو كدعوي الإجماع صريحاً في كشف الرموز والتنقيح لا يكفي في إثبات الإجماع بنحو معتد به.

بل لا مجال للتعويل علي دعوي الإجماع والاستدلال بها في مثل هذه المسألة غير الشائعة الابتلاء، ولم ترد فيها النصوص، ليعلم رأي القدماء ومعاصري الأئمة (عليهم السلام)

ص: 335

لا علي البائع ولا علي غيره، بجنس الثمن الأول أو بغيره، مساوياً أو أكثر أو أقل (1).

أما بعد حلول الأجل فيجوز بيعه علي البائع أو غيره إذا كان بغير جنس الثمن (2).

كما يجوز بيعه علي غير البائع بجنس الثمن بزيادة

---------------

فيها من ذكرهم لها، كما تكرر منّا في نظائر المقام.

ولاسيما مع ما سبق من المقنعة والمبسوط والخلاف والوسيلة، ومع ما في المبسوط من الاستدلال بنهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عن بيع ما لم يقبض، الذي تقدم حاله، وما في الخلاف من الاستدلال بالأصل وأن الصحة تحتاج إلي دليل، من دون أن يشير للإجماع، مع ما هو المعلوم من سيرته من الإكثار من الاستدلال به فيه، وكذا ما في المهذب من جعل المعيار القبض، المناسب لكون دليله النهي عن بيع ما لم يقبض، ومع عدم تعرض بعضهم للحكم المذكور، كابن سعيد في الجامع.

.

.

إلي غير ذلك مما قد يجده المتتبع.

وبالجملة: لا تنهض دعاوي الإجماع المتقدمة بالخروج به عن العمومات القاضية بالصحة.

نعم لابد من كون الأمر المسلف فيه مما يجوز بيعه قبل قبضه، علي ما تقدم الكلام فيه في أحكام القبض من الفصل السابع.

(1) كأن الوجه في التعميم إطلاق الفتاوي ومعاقد الإجماع المدعي، والتصريح في بعضها بالتعميم من بعض الجهات.

(2) كأنه لعموم أدلة الصحة.

وتقدم من المهذب إطلاق عدم جواز بيعه قبل القبض.

وهو المناسب لما تقدم من المبسوط من الاستدلال للمنع من بيعه قبل حلول الأجل بالمنع من بيع ما لم يقبض.

لكن تقدم في أواخر الفصل السابع في التسليم والقبض اختصاص احتمال ذلك بالمكيل والموزون إذا لم يبع تولية أو إذا بيع بربح.

مع أنه لا مجال له إذا بيع علي البائع.

إما مطلقاً كما تقدم من سيدنا

ص: 336

المصنف (قده) أو في خصوص المقام، لصحيح عيص بن القاسم عن أبي عبد الله

(عليه السلام): «سألته عن رجل أسلف رجلاً دراهم بحنطة، حتي إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ووجد عنده دواب ومتاعاً ورقيقاً، يحل له أن يأخذ من عروضه تلك بطعامه ؟ قال: نعم يسمي كذا وكذا بكذا وكذا صاعاً» (1) ، وخبر علي بن جعفر أو معتبره عن أخيه (عليه السلام): «وسألته عن رجل له علي آخر كر من حنطة أيصلح أن يأخذها بكيلها شعيراً أو تمراً؟ قال: إذا تراضيا فلا بأس»(2).

وهو وإن لم يصرح فيه بالسلف، إلا أن أظهر أفراد دين العروض هو السلف.

كما أنه وإن لم يصرح فيهما ببيع الحنطة بالعروض، إلا أنه أيضاً من أظهر أفراد إطلاق المبادلة فيهما.

بحيث لو كان البيع محرماً كان اللازم عرفاً التنبيه للمنع منه.

ومن هنا يتعين الخروج بهما عن عموم النهي عن بيع ما لم يقبض حتي بناءً علي عمومه للبيع علي البائع نفسه.

نعم قد يعارض الحديثان بالنصوص الآتية المتضمنة أنه ليس للمشتري إلا رأس ماله.

ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالي.

كما أن الظاهر صدق الربح إذا بيع بغير الجنس وكان الثمن أكثر قيمة من ثمن الشراء.

ومن هنا قد يشكل إطلاق سيدنا المصنف (قده) هنا، حيث لا يناسب ما تقدم منه هناك من التوقف في جواز بيع المكيل والموزون قبل القبض علي غير البائع بربح.

بل تقدم منّا الإشكال حتي في بيعه بوضيعة، واحتمال اختصاص جواز البيع قبل القبض بالتولية التي هي البيع برأس المال.

ومن هنا يشكل بيع المكيل والموزون في المقام علي غير البائع بغير الجنس إذا كانت قيمته دون الثمن أيضاً.

بل ربما يشكل مطلقاً، لعدم صدق التولية به وإن كان مساوياً للثمن قيمة.

فراجع وتأمل جيداً.

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب السلف حديث: 6، 13.

ص: 337

أو نقيصة (1).

أما علي البائع فالظاهر أيضاً جوازه مطلقاً (2)، وإن كان

---------------

(1) مما تقدم آنفاً يظهر الإشكال في إطلاق ذلك.

حيث سبق منه (قده) الإشكال في جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضه إذا كان بربح.

بل سبق منّا الإشكال في بيعه حينئذٍ حتي إذا كان بوضيعة.

(2) عملاً بعمومات الصحة.

ولو فرض تخصيصها في المكيل والموزون بما دلّ علي عدم جواز بيعه قبل قبضه بربح أو إلا تولية علي ما تقدم الكلام فيه في أواخر الفصل السابع في التسليم والقبض تعين الخروج عنه في المقام بالنصوص الخاصة الواردة فيه.

كمعتبر الحسن بن علي بن فضال: «كتبت إلي أبي الحسن (عليه السلام): الرجل يسلفني في الطعام، فيجيء الوقت وليس عندي طعام، أعطيه بقيمته دراهم ؟ قال: نعم»(1).

ومعتبر الصفار عن محمد بن عيسي عن علي بن محمد وقد سمعته من علي قال: «كتبت إليه: رجل له علي رجل تمر أو حنطة أو شعير أو قطن، فلما تقاضاه قال: خذ بقيمة ما لك عندي دراهم، أيجوز له ذلك أم لا؟ فكتب: يجوز ذلك عن تراض منهما إن شاء الله»(2).

وصحيح أبان عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«في الرجل يسلم الدراهم في الطعام إلي أجل، فيحل الطعام، فيقول: ليس عندي طعام، ولكن انظر ما قيمته فخذ مني ثمنه. فقال: لا بأس بذلك» (3) .

وهي وإن لم يصرح فيها بالبيع إلا أنه متيقن منها، لأنه أظهر أفراد المبادلة بين المالين، كما سبق نظيره.

نعم تضمنت جملة من النصوص أنه ليس له إلا رأس ماله، كصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): «سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك إلي أجل مسمي.

قال: لا بأس.

إن لم يقدر الذي عليه الغنم علي جميع ما عليه أن يأخذ صاحب الغنم

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب السلف حديث: 8، 11، 5.

ص: 338

نصفها أو ثلثها أو ثلثيها، ويأخذ رأس مال ما بقي من الغنم دراهم»(1).

وصحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل أعطي رجلاً ورقاً في وصيف إلي أجل مسمي.

فقال له صاحبه: لا نجد لك وصيفاً، خذ مني قيمة وصيفك اليوم ورقاً.

فقال: لا يأخذ إلا وصيفه أو ورقه الذي أعطاه أول مرة، لا يزاد عليه شيئاً»(2).

وموثق عبد الله بن بكير: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أسلف في شيء يسلف الناس فيه من الثمار، فذهب زمانها [ثمارها] ولم يستوف سلفه.

قال: فليأخذ رأس ماله أو لينظره»(3).

وصحيح يعقوب بن شعيب: «سألت أبا عبد الله [أبا جعفر] (عليه السلام) عن الرجل يسلف في الحنطة والثمرة مائة درهم، فيأتي صاحبه الذي له، فيقول: والله ما عندي إلا نصف الذي لك، فخذ مني إن شئت بنصف الذي لك حنطة وبنصفه ورقاً.

فقال: لا بأس إذا أخذ منه الورق كما أعطاه»(4).

وصحيح محمد بن قيس الآخر عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: قال أمير المؤمنين: من اشتري طعاماً أو علفاً إلي أجل فلم يجد صاحبه وليس شرطه إلا الورق، وإن قال: خذ مني بسعر اليوم ورقاً فلا يأخذ إلا شرطه طعامه أو علفه.

فإن لم يجد شرطه وأخذ ورقاً لا محالة قبل أن يأخذ شرطه فلا يأخذ إلا رأس ماله (لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)»(5).

وهو لا يخلو عن اضطراب في المتن، إلا أنه يدل بمجموعه علي المطلوب.

نعم هكذا رواه في التهذيب ورواه في الاستبصار هكذا: «من اشتري طعاماً أو علفاً فإن لم يجد شرطه وأخذ ورقاً لا محالة قبل أن يأخذ شرطه فلا يأخذ إلا رأس ماله (لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)» (6) وهو وإن كان غير خال عن الاضطراب أيضاً، إلا أنه

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب السلف حديث: 1، 9، 14.

(4و5) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب السلف حديث: 16، 15.

(6) الاستبصار ج: 3 ص: 75.

ص: 339

أجنبي عما نحن فيه، لعدم تضمنه البيع لأجل، بل ظاهر الإطلاق فيه البيع الحال.

وقد يتجه حينئذٍ بطلان البيع بتعذر التسليم، نظير التلف قبل القبض، فيتعين عدم جواز بيع المشتري المبيع حينئذٍ علي البائع، لعدم ملكيته له.

غاية الأمر أنه لا يناسب ذكره له في باب تعذر المبيع عند حلول الأجل في السلف.

لكن في كفاية ذلك في ترجيح رواية التهذيب إشكال.

فالعمدة النصوص الأول.

وهي كما تمنع من بيعه بجنس الثمن بزيادة أو نقيصة تمنع من بيعه بغير جنس الثمن.

بل لا يبعد ظهورها في عدم جواز البيع مطلقاً، وأن استحقاق رأس المال يرجع لانحصار الأمر بفسخ البيع، لا لإيقاع بيع جديد بقدره.

لكن لا يبعد ورود هذه النصوص لبيان أن ما يستحقه المشتري عند تعذر التسليم في الأجل ليس إلا الفسخ الموجب لرجوع رأس ماله له أو الانتظار، وليس له المطالبة بالبدل والقيمة الفعلية.

ولا ينافي ذلك ما تضمنته الطائفة الأولي من جواز دفع بدله بتراض منهما من جنس الثمن أو من غيره بعد فرض انشغال ذمة البائع به وعدم بطلان بيع السلف بالتعذر، ولذا يجوز للمشتري الانتظار كما تضمنه موثق ابن بكير من هذه الطائفة.

ولا أقل من إمكان الجمع بينهما عرفاً بذلك.

ودعوي: أن ذلك لا يناسب مثل صحيحي محمد بن قيس الأول ويعقوب بن شعيب المتضمنين عرض البائع نفسه علي المشتري أخذ الثمن، لظهورهما في عدم جواز أخذ سعر وقت الأداء حتي لو رضي البائع بذلك، بل ليس له أن يأخذ إلا رأس المال.

مدفوعة بإمكان حمل ذلك علي ما إذا ابتني عرض البائع أخذ الثمن علي توهم وجوب ذلك عليه، من أجل وجوب تفريغ ذمته من المبيع، إما بدفعه بنفسه، أو بدفع بدله.

فلا ينافي جواز أخذ البدل من دون أن يبتني علي ذلك، بل لمجرد رضاهما بالتبديل بعد فرض عدم استحقاق المشتري إلا الفسخ أو الانتظار.

ص: 340

ولو فرض تعذر الجمع بالوجه المذكور في بعض النصوص تعين الجمع بحمل الطائفة الثانية علي كراهة أخذ البدل الفعلي أو استحباب الاقتصار علي أخذ رأس المال، كما قد يناسبه صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) المروي في الكافي والتهذيب، وفيه:

«قلت: أرأيت إن أوفاني بعضاً وعجز عن بعض، أيصلح لي أن آخذ بالباقي رأس مالي ؟ قال: نعم ما أحسن ذلك» (1) .

وأما ما في التهذيبين من الجمع بينهما بحمل الطائفة الأولي علي دفع رأس المال فهو بعيد جداً، بل متعذر عرفاً.

ولا أقل من كون الجمع بأحد الوجهين الأولين أقرب عرفاً، فيكون متعيناً.

هذا وفي معتبر علي بن جعفر:

«سألته عن رجل له علي آخر تمر أو شعير أو حنطة، أيأخذ بقيمته دراهم ؟ قال: إذا قومه دراهم فسد، لأن الأصل الذي يشتري به دراهم، فلا يصلح دراهم بدراهم» (2) .

وصرح في التهذيب بأنه يفتي بمضمونه.

قال: «لأنه يكون قد باع دراهم بدراهم، وربما كان فيه زيادة أو نقصان، وذلك ربا».

وقد يرجع إليه ما في النهاية من أنه يجوز أن يأخذ القيمة إذا لم تزد علي رأس المال.

لكن التعليل لا يخلو عن إشكال، لفرض تعدد المعاملة، فلا يلزم الربا.

بل لا ريب نصاً وفتوي في جواز بيع الشيء علي شخص بنقد، ثم شراؤه منه بنقد من جنسه بتفاضل.

فلابد من التصرف في التعليل بحمله علي أنه يشبه بيع الدراهم بالدراهم.

وحينئذٍ يسهل حمل النهي علي الكراهة، فيتعين جمعاً مع النصوص الأول، إذ حمل النصوص علي خصوص المساواة لرأس المال بعيد جداً، بل متعذر عرفاً.

هذا تمام الكلام في المسألة.

وقد اضطربت فيها كلمات الأصحاب (رضي الله عنهم) وكثرت أقوالهم.

ولا يسعنا التعقيب عليها بعد ما تقدم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 5 من أبواب السلف حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب السلف حديث: 12.

ص: 341

اذا دفع المبيع خالياً من الصفة

الأحوط العدم إذا كان بزيادة أو بنقيصة (1).

والظاهر أنه لا إشكال في جواز أخذ قيمته بعنوان الوفاء (2)، بلا فرق بين النقدين وغيرهما، ولو شرط عليه أن يدفع بدله أكثر من ثمنه إذا لم يدفعه نفسه لم تبعد صحة الشرط (3).

(مسألة 7): إذا دفع البائع المسلم فيه دون الصفة أو أقل من المقدار لم يجب علي المشتري القبول (4).

ولو رضي بذلك صح وبرئت ذمة

---------------

(1) كأنه للخروج عن معتبر علي بن جعفر والخلاف المتقدم من الشيخ (قده).

وإلا فلو كان للخروج عن النصوص الكثيرة المتضمنة أن له رأس ماله تعين الاحتياط بالامتناع حتي عن البيع بغير الجنس.

(2) لم يتضح الوجه في ذلك مع إطلاق النصوص المانعة حتي معتبر علي بن جعفر.

فإذا بني علي العمل بها تعين المنع من أخذ غير رأس المال بأي وجه فرض.

(3) عملاً بعموم نفوذ الشرط بعد ما تقدم منه (قده) ومنّا من البناء علي جواز الأمر المشروط.

ولا ينافيه ما تقدم من حمل النصوص المانعة من أخذ غير رأس المال علي عدم استحقاق المشتري له.

لأن عدم استحقاقه له بمقتضي بيع السلف بطبعه لا ينافي استحقاقه بمقتضي الشرط الذي تضمنه، كما يستحقه بالمعاملة الجديدة التي تضمنت النصوص الأولي جوازها.

(4) أما دفع ما هو دون الصفة فهو المصرح به في كلام غير واحد.

ولا ينبغي الإشكال فيه، لمخالفته للشرط.

مضافاً إلي ظهور المفروغية عنه في النصوص، كصحيح الحلبي: «سئل أبو عبد الله (عليه السلام) في الرجل يسلم في وصف [وصفاً.

يب] أسناناً معلومة ولون معلوم، ثم يعطي دون شرطه أو فوقه.

فقال: إن كان عن طيبة نفس منك ومنه فلا بأس»(1) ، ونحوه غيره.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 9 من أبواب السلف حديث: 1.

ص: 342

(343)

وأما إذا كان دون القدر.

فإن أريد بذلك وفاء تمام المبيع كما هو ظاهر مفروض كلام سيدنا المصنف (قده) فلا إشكال في عدم وجوب القبول أيضاً، إذ لا موجب لتبعض الحق.

وكذا إذا أريد به وفاء مقداره من المبيع وكان المشروط في السلف ولو ضمناً تسليم المبيع جملة واحدة، لمخالفة الشرط.

أما إذا لم يشترط ذلك فالمتعين وجوب القبول.

إلا أن يمتنع من دفع الباقي، فقد صرح غير واحد بأن له الفسخ في الجميع، ونفي في الجواهر وجدان الخلاف فيه.

لتبعض الصفقة.

لكن في صحيح سليمان بن خالد: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يسلف في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك إلي أجل مسمي.

قال: لا بأس.

إن لم يقدر الذي عليه الغنم علي جميع ما عليه يأخذ صاحب الغنم نصفها أو ثلثها أو ثلثيها، ويأخذ رأس مال ما بقي من الغنم دراهم.

..»(1) ، ونحوه صحيح الحلبي علي اضطراب فيه(2).

ومقتضي الجمود علي لسانهما انحصار الوظيفة عند عجز البائع عن الكل في التبعيض وعدم جواز الفسخ في الكل.

من دون فرق بين اشتراط تسليم الكل صريحاً، واستفادته من الإطلاق بمقتضي فرض الصفقة.

وحملهما علي بيان جواز التبعيض، كي لا ينافي جواز الفسخ في الكل لتبعض الصفقة، يحتاج إلي قرينة.

اللهم إلا أن يقال: بعد البناء تبعاً للنصوص علي أن له الانتظار، وله بيع ما يستحقه علي البائع بما يتفقان عليه من الثمن، يتعين حمل التبعيض في الصحيحين علي الجواز، فلا ينافي ثبوت خيار تبعض الصفقة.

فتأمل جيداً.

وكيف كان فلا يجري احتمال عدم الخيار المذكور مع قدرة البائع علي دفع الباقي وامتناعه منه، لقصور الصحيحين عنه.

********

(1) تهذيب الأحكام ج: 7 ص: 32.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب السلف حديث: 1.

ص: 343

البائع (1).

وإذا دفعه علي الصفة والمقدار وجب عليه القبول (2).

وإذا دفع فوق الصفة، فإن كان شرط الصفة راجعاً إلي استثناء ما دونها فقط وجب

---------------

ثم إن كان امتناع البائع من دفع الباقي لتعذره عليه وعجزه عن دفعه فقد تضمنت بعض النصوص السابقة وغيرها أن له أن يسترجع ما يقابله من رأس المال.

وإن كان مع قدرته عليه ولو بشرائه ثم دفعه له فقد يشكل التبعيض وأخذ ما يقابله من رأس المال، بل إما أن يفسخ في الكل أو ينتظر في الباقي، لما سبق في المسألة الرابعة عشرة من الفصل الرابع في الخيارات من عدم مشروعية التبعيض في فسخ العقد.

وقصور نصوص المقام عن إثبات مشروعيته، لعدم وضوح ابتنائها علي الفسخ في البعض مع التعذر، بل قد يبتني علي استحقاق استرجاع ما يقابله من رأس المال تعبداً من دون فسخ، ولا مجال لذلك مع عدم التعذر، لقصور النصوص عنه.

اللهم إلا أن يستفاد العموم لذلك من ترك الاستفصال في صحيح يعقوب بن شعيب المتقدم، لأنه قوله: «ما عندي إلا نصف الذي لك» شامل لما إذا كان قادراً علي شرائه.

فلاحظ.

(1) بلا إشكال ظاهر.

أما مع اختلاف الصفة فللنصوص المتقدمة.

مضافاً إلي أن صفة الجودة حق للمشتري بسبب الشرط الذي تضمنه عقد السلف، فله التنازل عن حقه وإسقاطه.

وأما مع النقص فلرجوعه إلي إسقاط بعض الدين الذي لا إشكال في نفوذه، فإن السلف من أفراد الدين.

ومنه يظهر أنه لو أسقط حقه في الصفة أو في بعض المبيع قبل القبض سقط، وليس له الرجوع في ذلك وإلزام البائع بالحفاظ علي الصفة أو المقدار.

(2) بلا إشكال ظاهر ولا خلاف.

ويظهر الوجه فيه مما تقدم في المسألة الأولي من الفصل الثامن في النقد والنسيئة، لأن المسألتين من باب واحد.

ص: 344

(345)

اذا حلّ الأجل ولم يتمكن البايع من الدفع

القبول أيضاً (1)، وإن كان راجعاً إلي استثناء ما دونها وما فوقها لم يجب القبول (2).

ولو دفع إليه زائداً علي المقدار لم يجب القبول (3).

(مسألة 8): إذا حلّ الأجل ولم يتمكن البائع من دفع المسلم فيه تخير المشتري بين الفسخ والرجوع بالثمن بلا زيادة ولا نقيصة (4) وبين أن ينتظر إلي أن يتمكن البائع من دفع المبيع إليه في وقت آخر (5).

ولو تمكن من دفع بعضه

---------------

(1) لرجوعه إلي تسليم المبيع من دون مخالفة للشرط.

(2) لخروجه عن الشرط، كما لو دفع الأردأ.

(3) لعدم المنشأ له.

وحينئذٍ إن أمكن التبعيض في القبض وجب قبض مقدار الحق لما سبق.

أما إذا تعذر فله الامتناع من قبض الكل، لأن بيع السلف إنما يقتضي بإطلاقه قبض المبيع بعينه، لا مشاعاً بنحو يستلزم الشركة.

(4) من الظاهر أن ذلك مقتضي الفسخ، فهو كالتأكيد له.

(5) قال في مفتاح الكرامة: «ولا ينفسخ العقد إجماعاً منّا.

لأن مورد العقد إنما هو الذمة».

وهو ظاهر علي ما سبق من أن التسليم في الأجل شرط خارج عن المبيع، لأنه المفهوم عرفاً، ولذا كان قابلاً للإسقاط عندهم.

أما بناء علي أنه قيد فيه فلا مجال لانشغال الذمة بغيره، لأنه أمر غير المبيع، ويلغو انشغال الذمة به، إلا أن يرجع إلي المسؤولية بماليته، نظير انشغال الذمة بالأعيان بعد التلف في موارد ضمانها.

ومن هنا فقد يدعي بطلان العقد حينئذٍ، نظير تلف المبيع قبل قبضه.

فتأمل.

لكن حيث سبق ضعف المبني المذكور فالمتعين ما ذكروه من عدم انفساخ العقد.

مضافاً إلي ما تضمن من النصوص تخيير المشتري بين الانتظار واسترجاع رأس المال علي ما يأتي الكلام فيه.

ص: 345

ثم إن المعروف بين الأصحاب هو التخيير المذكور، لتخلف الشرط.

مضافاً إلي موثق ابن بكير المتقدم: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أسلف في شيء يسلف الناس فيه من الثمار، فذهب زمانها [ثمارها.

يه] ولم يستوف سلفه.

فقال: فليأخذ رأس ماله أو فلينظره»(1) ، وصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): «قال: لا بأس بالسلم في الحيوان إذا سميت الذي تسلم فيه فوصفته.

فإن وفيته وإلا فأنت أحق بدراهمك»(2).

وقد يستفاد مما تقدم في التبعيض من أن له أن يسترجع ما يقابل الباقي من رأس المال، فإن بعضها وإن كان ظاهراً في صورة رضا الطرفين كما نبّه له في الجواهر إلا أن مقتضي إطلاق الباقي عدم اعتبار رضا البائع، كصحيح عبد الله بن سنان المتقدم، وفيه: «أيصلح أن آخذ بالباقي رأس مالي ؟ قال: نعم، ما أحسن ذلك»(3) ، وقوله (عليه السلام) في صحيح سليمان بن خالد: «إن لم يقدر الذي عليه الغنم علي جميع ما عليه يأخذ صاحب الغنم نصفها أو ثلثها أو ثلثيها، ويأخذ رأس مال ما بقي من الغنم دراهم.

.

.

»(4) وغيرهما.

وهي وإن وردت في التبعيض، إلا أنه يستفاد منها ما نحن فيه بالأولوية العرفية، أو بفهم عدم الخصوصية.

كما أنها وإن لم تكن نصاً في الفسخ كما تقدم إلا أنها متفقة معه عملاً.

ومن ذلك يظهر ضعف ما في السرائر من منع الفسخ ولزوم الانتظار، محتجاً بعموم نفوذ العقد ولزومه.

ثم إن المفروض في كلام سيدنا المصنف (قده) وإن كان هو صورة عجز البائع عن التسليم، إلا أن الظاهر العموم لما إذا كان قادراً عليه وامتنع منه حتي مرت مدة يصدق معها مخالفته للشرط.

فإن مجرد إمكان مطالبته بالتسليم في الفرض الثاني لا ينافي استحقاق الخيار لتخلف الشرط، كما يظهر مما تقدم في المسألة الرابعة والستين

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب السلف حديث: 14، 17، 2.

(4) تهذيب الأحكام ج: 7 ص: 32.

ص: 346

وعجز عن دفع الباقي كان له الخيار في الباقي بين الفسخ فيه والانتظار (1).

وفي جواز فسخه في الكل حينئذ إشكال (2).

نعم لو فسخ في البعض جاز للبائع الفسخ في الكل (3).

---------------

من مباحث الشرط من الفصل الرابع.

فراجع.

(1) أما الفسخ فيه فلعدم تسليمه.

لكن سبق أن يبتني علي إمكان تبعيض العقد الواحد في الفسخ، وهو ممنوع.

فالعمدة النصوص الكثيرة المتضمنة أن له أخذ رأس مال ما بقي.

وهي مطابقة للفسخ عملاً وإن لم تصلح أن تكون دليلاً عليه، كما تقدم.

وأما الانتظار فهو مقتضي القاعدة عند عدم قبض الدين.

مضافاً إلي موثق ابن بكير.

وهو وإن ورد في تعذر تسليم الكل، إلا أنه يستفاد منه حكم صورة تعذر تسليم البعض بفهم عدم الخصوصية، أو بالأولوية العرفية.

(2) فقد تقدم منهم أن له الفسخ في الكل لتبعض الصفقة.

وكأن الإشكال فيه بلحاظ ما سبق من احتمال مخالفته لصحيحي سليمان بن خالد والحلبي ومعتبر معاوية.

فراجع.

وقد تقدم أنهما مختصان بما إذا عجز البائع عن تسليم الكل، كما هو مورد كلام سيدنا المصنف (قده).

ومن هنا فلا إشكال في ثبوت خيار تبعض الصفقة للمشتري مع قدرة البائع علي تسليم الباقي وامتناعه، كما تقدم.

فراجع.

(3) كما في التحرير والدروس وجامع المقاصد والمسالك والروضة وغيرها.

وفي التنقيح أنه محتمل.

وقيده فيه وفي الدروس وجامع المقاصد والمسالك والروضة ومحكي غيرها بما إذا لم يكن مفرطاً بالتبعيض.

لكن لم يتضح الوجه في ثبوت الخيار حتي مع عدم التفريط منه، لأن الإقدام علي وحدة الصفقة في الثمن تبتني علي وحدة الصفقة في المبيع، فإذا لم تتم الصفقة في

ص: 347

وجود المبيع في غير البلد الذي يجب التسليم فيه

(مسألة 9): لو كان المبيع موجوداً في غير البلد الذي يجب التسليم فيه، فإن تراضيا بتسليمه في موضع وجوده جاز (1).

وإلا فإن أمكن نقله إلي بلد التسليم وجب نقله علي البائع (2)، إلا أن يتوقف علي بذل مال يعجز عنه أو يضر بحاله، فيجري الحكم المتقدم من الخيار بين الفسخ والانتظار (3).

-

المبيع لا يكون تبعض الصفقة في الثمن مخالفاً للشرط الضمني.

ولذا لا يظن منهم البناء علي أنه لو تعذر علي البائع التعجيل بتسليم المبيع، فتأخر المشتري عن تسليم الثمن يكون للبائع الخيار، لعدم تعجيل تسليم الثمن.

علي أن اقتصار صحيحي سليمان بن خالد والحلبي ومعتبر معاوية المتقدمة علي بيان التبعيض من دون تنبيه لخيار البائع يوجب ظهوره في عدمه.

بل هو مقتضي إطلاقها، سواء حملت علي جواز التبعيض في حق البائع أم علي وجوبه، لأن مقتضي إطلاقها ثبوته للمشتري سواء رضي البائع أم لا، بل أراد الفسخ.

ومن الغريب توقف سيدنا المصنف (قده) في ثبوت خيار تبعض الصفقة للمشتري وجزمه بثبوته للبائع، مع أنه هو الأبعد عن المرتكزات، والأولي بأن يحتاج للتنبيه عليه في النصوص المتقدمة بسبب ذلك، ولما عرفت من كون عدم ثبوته مقتضي إطلاقها.

ولعله لذا سكت غير واحد ممن صرح بثبوته للمشتري عن التنبيه لثبوته للبائع، كما في المبسوط والشرائع والقواعد.

بل صرح بعدمه في التذكرة ومحكي إيضاح النافع، معللاً في الأول بأن التبعيض جاء من قبل البائع.

فلاحظ.

(1) لرجوعه إلي تنازل المشتري عن شرط موضع التسليم والذي هو حق قابل للإسقاط ولأن يصالح عليه.

ومنه يظهر جواز اتفاقهما علي التسليم في موضع ثالث.

(2) مقدمة لتحقيق الشرط المفروض نفوذه.

(3) أما مع العجز عن مؤنة النقل فظاهر، لرجوعه إلي العجز عن التسليم

ص: 348

(349)

المشروط، ويدخل في موضوع الأدلة السابقة.

وكذا الحال لو كان موجوداً في البلد لكن عجز عن شرائه، أو كان المانع من التسليم في الموضع المشروط أمراً غير العجز عن المال.

وأما مع كون مؤنة النقل مضرة به فكأنه لقاعدة نفي الضرر.

لكن لا مجال لها إذا لزم من عدم التسليم الإضرار بالمشتري.

لما هو المعلوم من أن ورودها مورد الامتنان مستلزم لقصورها عما إذا لزم من إعمالها الإضرار بالغير.

وأما إذا لم يلزم الإضرار بالمشتري، فقد سبق في الاستدلال لخيار الغبن بقاعدة نفي الضرر احتمال قصور القاعدة عن صورة الإقدام علي الضرر الحاصل بالإقدام علي المعاملة التي يترتب عليها الضرر وإن لم يكن متوقعاً.

بل لا ينبغي الإشكال في قصورها عما إذا كان متوقعاً، كما يمكن فرضه في المقام فيما لو احتمل البائع حين العقد حاجته لنقل المبيع مع المؤنة المذكورة.

ومنه يظهر الحال لو لزم من التسليم المشروط ضرر آخر غير الضرر المالي من دون أن يصل إلي حدّ العجز عرفاً.

هذا وقد أطلق بعض مشايخنا (قده) وجوب النقل علي البائع مع إمكانه وتعارف نقله إلي بلد التسليم.

ولم يتضح الوجه في دخل التعارف في المقام.

نعم قد يراد بذلك ما إذا كان عدم التعارف راجعاً إلي تعارف تنازل المشتري وعدم تكليفه للبائع بالنقل والرجوع معه إلي حكم التعذر.

حيث قد يوجه برجوع ذلك لباً إلي تقييد اشتراط التسليم في الموضع الخاص بصورة تعارف النقل إليه.

لكن ذلك إن رجع إلي دعوي تقييد خصوصية موضع التسليم مع إطلاق اشتراط التسليم فاللازم البناء معه علي وجوب التسليم في غير الموضع المذكور، لا جريان حكم تعذر التسليم من الفسخ أو الانتظار كما ذكره (قده).

بل مقتضي ذلك وجوب القبول علي المشتري، لوجوب قبض صاحب الحق لحقه بعد فرض استحقاقه لأصل التسليم.

دون خصوصية الموضع.

فلاحظ.

ص: 349

وإن رجع إلي دعوي تقييد اشتراط أصل التسليم فالظاهر أن المأخوذ في مفهوم السلف عرفاً والمعتبر في صحته شرعاً هو اشتراط التسليم في الأجل المعين بنحو الإطلاق، كما يظهر بسبر النصوص.

ولاسيما مثل صحيح عبد الله بن سنان: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل أيصلح له أن يسلم في الطعام عند رجل ليس عنده زرع ولا طعام ولا حيوان، إلا أنه إذا جاء الأجل اشتراه فوفاه ؟ قال: إذا ضمنه إلي أجل مسمي فلا بأس به»(1).

وموثق سماعة: «سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن السلم في الحيوان.

قال: أسنان معلومة وأسنان معدودة إلي أجل لا بأس به»(2) ، وغيرهما.

والتخيير بين استرجاع الثمن والانتظار عند عدم التسليم ليس مأخوذاً في عقد السلف، بل هو حكم مترتب عليه بعد صحته وتمامية أركانه وشروطه، فلا يترتب مع فرض عدم تعذر التسليم.

ومن هنا لا يخلو التقييد المذكور عن إشكال.

فلاحظ.

والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

ومنه نستمد العون والتوفيق.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 5 من أبواب السلف حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب السلف حديث: 7.

ص: 350

(351) (351)

الفصل الثاني عشر/ بيع الثمار

اشارة

(مسألة 1): لا يجوز بيع ثمرة النخل والشجر قبل ظهورها عاماً واحداً (1) بلا ضميمة.

-

(1) قال في الجواهر: «إجماعاً بقسميه، بل المحكي منهما [منه.

ظ] متواتراً كالنصوص.

ولذا نسبه بعضهم إلي الضرورة».

وفي مفتاح الكرامة: «وأما بيعها قبل الظهور عاماً واحداً فعدم جوازه مما لا ريب فيه.

وقد تواتر أو كاد يكون متواتراً نقل الإجماع عليه.

إذ نقل في الغنية والسرائر والتذكرة والتحرير والمختلف والإيضاح وشرح الإرشاد للفخر وتلخيص التلخيص والدروس والتنقيح وغاية المرام وتعليق الإرشاد والروضة.

ونفي عنه الخلاف في غاية المراد والمسالك».

وهو المناسب لما تقدم منّا في المسألة الخامسة عشرة من الفصل الثالث عند الكلام في اعتبار القدرة علي التسليم من أن المستفاد من مجموع النصوص عموم اعتبار إحراز سلامة شيء من المبيع يكون الثمن في مقابله لو لم يسلم باقيه.

مضافاً إلي النصوص الواردة في المقام، كموثق أبي بصير أو صحيحه: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تشتر النخل حولاً واحداً حتي يطعم.

وإن شئت أن تبتاعه سنتين فافعل»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 10.

ص: 351

ونحوه صحيح سليمان بن خالد(1) ، علي ما رواه في الاستبصار(2) ورواه في التهذيب هكذا: «لا تشتر النخل حولاً واحداً حتي يطعم.

وإن كان يطعم.

وإن شئت أن تبتاعه سنتين فافعل»(3).

وهو لا يخلو عن اضطراب مسقط له عن الحجية.

ولاسيما مع عدم الإشارة إليه في الوسائل، حيث يظهر منه اتفاق التهذيبين علي ما هو المروي في الاستبصار.

ومعتبر أبي بصير عنه (عليه السلام): «سئل عن النخل والثمرة يبتاعها الرجل عاماً واحداً قبل أن يثمر.

قال: لا حتي تثمر، وتأمن ثمرتها من الآفة...»(4).

وصحيح يعقوب بن شعيب: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن شراء النخل.

فقال: كان أبي يكره شراء النخل قبل أن تطلع ثمرة السنة، ولكن السنتين والثلاث...(5).

ونحوهما غيرها.

لكن مال للجواز في مجمع الفائدة ومحكي الكفاية، بل صرح بالجواز في الحدائق.

حملاً لنصوص المنع علي الكراهة أو التقية، لصحيح بريد: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرطبة تباع قطعتين أو ثلاث قطعات.

قال: لا بأس.

قال: وأكثرت السؤال عن أشباه هذا.

فجعل يقول: لا بأس به.

فقلت: أصلحك الله استحياء من كثرة ما سألته وقوله: لا بأس به إن من يلينا يفسدون هذا كله.

فقال: أظنهم سمعوا حديث رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في النخل.

ثم حال بيني وبينه رجل فسكت.

فأمرت محمد بن مسلم أن يسأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في النخل.

فقال أبو جعفر (عليه السلام):

خرج رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فسمع ضوضاء.

فقال: ما هذا؟ فقيل له: تبائع الناس بالنخل، فقعد النخل العام.

فقال (صلي الله عليه وآله وسلم): أما إذا فعلوا فلا تشتروا النخل العام حتي

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 9.

(2) الاستبصار ج: 3 ص: 85.

(3) تهذيب الأحكام ج: 7 ص: 88.

(4و5) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 12، 8.

ص: 352

يطلع فيه الشيء.

ولم يحرمه»(1).

وصحيح الحلبي: «سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن شراء النخل والكرم والثمار ثلاث سنين أو أربع سنين.

فقال: لا بأس.

تقول: إن لم يخرج هذه السنة أخرج في قابل.

وإن اشتريته في سنة واحدة فلا تشتره حتي يبلغ.

.

.

وسئل عن الرجل يشتري الثمرة المسماة من أرض فتهلك ثمرة تلك الأرض كلها.

فقال: قد اختصموا في ذلك إلي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، فكانوا يذكرون ذلك.

فلما رآهم لا يدعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتي تبلغ الثمرة ولم يحرمه، ولكن فعل ذلك من أجل خصومتهم»(2).

ونحوه صحيح عبد الله بن سنان عنه (عليه السلام): «قلت له: الرجل يبيع الثمرة المسماة...» إلي آخر ما تقدم في صحيح الحلبي.

وصحيح ربعي: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن لي نخلاً بالبصرة، فأبيعه وأسمي الثمن، وأستثني الكر من التمر أو أكثر، أو العدد من النخل.

فقال: لا بأس.

قلت: جعلت فداك بيع السنتين.

قال: لا بأس.

قلت: جعلت فداك إن ذا عندنا عظيم.

قال: أما إنك إن قلت ذاك لقد كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أحلّ ذلك فتظالموا [فتظلموا.

يب] فقال (عليه السلام):

لا تباع الثمرة حتي يبدو صلاحها» (3) .

هذا وفي الجواهر أن صحيحي الحلبي وربعي محتملان للبيع سنتين بعد الظهور قبل بدو الصلاح، وصحيح بريد لابد من تأويله بإرادة بدو الصلاح فيه من الطلوع، أو حمل العام فيه علي ما كان في ضمن العامين أو طرحه.

وقريب منه كلام غيره.

والذي ينبغي أن يقال: لا ينبغي التأمل في أن حديث النبي في النخل واحد، وأن اختلاف ألفاظه نتيجة النقل بالمعني.

بل هو كالصريح من صحيح بريد، لأن الإمام (عليه السلام) ذكر له أن منشأ منع العامة من البيع المذكور هو حديث النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، ثم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 2 وذيله.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 4.

ص: 353

بينه لمحمد بن مسلم من دون أن يشير لحديث آخر له (صلي الله عليه وآله وسلم).

وحينئذٍ فإرادة البلوغ أو بدو الصلاح من الطلوع في صحيح بريد وإن كان ممكناً، بأن يراد منه الطلوع حتي يصل إلي أحد الأمرين.

بل هو قريب بلحاظ الجمع مع بقية الصحاح، إلا أنه إنما يحسن إذا كان بيعهم قبل نهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) كان قبل الطلوع أصلاً، أما إذا كان بيعهم بعد الطلوع قبل بدو الصلاح أو البلوغ فلا يحسن التعبير المذكور.

كما أن ذلك هو المناسب لما في الصحيح المذكور من قولهم: «فقعد النخل العام»، لظهوره في عدم إثماره رأساً، لا في تلف الثمرة بعد طلوعها.

ويترتب علي ذلك أن مقتضي الجمع بين الصحاح المتقدمة هو أنهم كانوا يبيعون الثمرة قبل طلوعها، فلما تخاصموا نهاهم النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عن البيع قبل البلوغ أو بدو الصلاح.

وحيث اتفقت الصحاح علي أن نهيه (صلي الله عليه وآله وسلم) ليس تحريمياً لزم كون بيعهم السابق علي النهي قبل الطلوع رأساً صحيحاً في نفسه.

وبذلك يظهر المنع من حمل الصحاح أو بعضها علي السنتين، إذ بعد إشارتها لواقعة واحدة يتعين البناء علي عمومها للبيع عاماً واحداً، كما هو صريح صحيح بريد.

بل هو المستفاد من بقية الصحاح، لظهورها في أن منشأ الشبهة هو عدم سلامة الثمرة المبيعة المستتبع للتخاصم والتظلم.

ولاسيما مع ظهور قوله في صحيح ربعي: «قلت: جعلت فداك بيع السنتين» في كون السؤال السابق عليه عن بيع السنة الواحدة.

وظهور أن ذكره (عليه السلام) لتحليل النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) للرد علي استعظام العامة، ومن الظاهر أن البيع سنة واحدة أولي باستعظامهم.

ومن هنا لا ينبغي الإشكال في أن مقتضي هذه الصحاح هو حلّ البيع المذكور.

نعم قد يتوقف في ذلك من أجل الإجماع المدعي في كلام من تقدم.

ويظهر من الحدائق عدم ثبوته عنده بلحاظ تعقيب الشيخ (قده) علي أخبار المسألة، ومحاولته الجمع بينها.

قال في التهذيب: «قال محمد بن الحسن: الأصل في هذا أن الأحوط أن

ص: 354

لا تشتري الثمرة سنة واحدة إلا بعد أن يبدو صلاحها.

فإن اشتريت فلا تشتري إلا بعد أن يكون معها شيء آخر.

فإن خاست كان رأس المال فيما بقي.

ومتي اشتري من غير ذلك لم يكن البيع باطلاً، لكن يكون فاعله قد فعل مكروها.

وقد صرح بذلك في الأخبار التي قدمناها أبو عبد الله (عليه السلام)، ومنها حديث الحلبي، وأن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) نهي عن ذلك لأجل قطع الخصومة الواقعة بين الصحابة، ولم يحرمه.

وكذلك ذكر ثعلبة بن يزيد(1) ، وزاد فيه أنه إنما نهاهم ذلك العام بعينه، دون سائر الأعوام.

وفي حديث يعقوب بن شعيب أن أبي (عليه السلام) كان يكره ذلك، ولم يقل: كان يحرمه.

وعلي هذا الوجه لا تنافي بين الأخبار».

ونحوه في الاستبصار.

لكن قد يستشكل في ذلك كما في كلام غير واحد: تارة: بأن مراده (قده) ما بعد طلوع الثمرة قبل بدو صلاحها.

وأخري: بأن ما ذكره لمجرد الجمع بين النصوص ودفع التنافي بينها، من دون أن يكون في مقام الفتوي.

وثالثة: بأن فتواه بذلك لو تمت فهي شاذة لا تقدح في الإجماع.

والكل كما تري.

إذ الأول لا يناسب استدلاله بحديث بريد الذي عرفت حاله، ولا بحديث يعقوب بن شعيب الذي كان موضوع الكراهة فيه الشراء قبل الطلوع، كما تضمن تعليل الفرق بين السنة والسنتين بقوله (عليه السلام): «إن لم يحمل هذه السنة حمل في السنة الأخري».

والثاني لا يناسب مساق كلامه (قده)، حيث بدأ بالفتوي، ثم استدل عليها.

مع أنه لا فائدة في الجمع بين النصوص بما لا يقول هو به، فكيف يحمل كلامه عليه ؟!.

وإن شئت قلت: حمل كلامه هذا علي مجرد الجمع بين الأخبار أبعد بكثير من حمله علي العدول عما أفتي به في النهاية والمبسوط من عدم جواز بيع الثمرة سنة واحدة قبل بدو الصلاح.

وأما الثالث فلم يتضح وجهه بعد كون دعاوي الإجماع التي وصلت إلينا

********

(1) مراده (قده) بحديث ثعلبة هو حديث بريد، لاضطراب السند عنده. فليلحظ. منه عفي عنه.

ص: 355

في جواز بيع الثمار عامين

ويجوز بيعها عامين فما زاد (1)،

---------------

متأخرة عنه، وأسبقها من ابن زهرة في الغنية المعلوم إكثاره من دعوي الإجماع، ووهن كثير منها، ثم من ابن إدريس بعد البناء منه علي حمل ما سبق من التهذيبين علي صورة طلوع الثمرة قبل بدو صلاحها الذي سبق الإشكال فيه.

وربما يكون ذلك هو منشأ دعوي الإجماع من غيره.

نعم ادعي الإجماع في المبسوط علي عدم جواز البيع قبل بدو الصلاح بشرط التبقية.

بل قد يظهر منه الإجماع علي ذلك عند جميع المسلمين، مع الإجماع عندنا أيضاً إذا كان مطلقاً لا بشرط القطع ولا التبقية.

لكنه لا يناسب ما يأتي من الصدوق من جواز البيع بمجرد الطلوع.

مضافاً إلي ظهور حال الكليني في العمل بصحاح بريد والحلبي وربعي، وظهور حال الصدوق في العمل بصحيح الحلبي، ومع الاقتصار في المقنعة علي كراهة البيع قبل بدو الصلاح من دون تنبيه لحرمة البيع قبل الطلوع.

بل من البعيد جداً إهمال الأصحاب (رضي الله عنهم) الصحاح المذكورة، بل يقرب عملهم بها وإن اختلفوا في تحديد مفادها.

مع قرب كون استحكام مقتضي القاعدة في نفوسهم من بطلان بيع غير الموجود حَمَلهم علي تنزيل هذه النصوص علي صورة طلوع الثمرة أو بدو صلاحها.

وكيف يعتمد حينئذٍ علي دعاوي الإجماع المذكورة، والخروج بها عما يقتضيه الجمع بين النصوص حتي يطعن في فتوي الشيخ (قده) بالشذوذ.

فلاحظ.

والله سبحانه وتعالي العالم.

(1) كما في المقنع وظاهر الفقيه، ويظهر الميل له من الشرائع، بل صرح به في التذكرة أولاً، ثم قال: «ويحتمل قوياً المنع.

.

.

»، وأخذ في الاستدلال عليه وفي المسالك والروضة أنه قوي إن لم يقم الإجماع علي خلافه.

ص: 356

(357)

ولعله يشير إلي ما في السرائر، حيث قال: «وكذا لا يجوز بيعها قبل أن تطلع سنتين بغير خلاف بيننا وبين المخالفين، وإنما يجوز عندنا خاصة بيعها إذا طلعت قبل بدو الصلاح سنتين.

.

.

وقد يشتبه علي كثير من أصحابنا ذلك ويظنون أنه يجوز بيعها سنتين وإن كانت فارغة ولم تطلع بعد وقت العقد.

وهذا بخلاف ما يجدونه في تصانيف أصحابنا وخلاف إجماعهم وأخبار أئمتهم وفتاواهم، لأنهم أجمعوا علي أن الثمرة إذا لم يبد صلاحها فلا بأس ببيعها سنتين من غير كراهة.

.

.

».

وكأنه فهم الإجماع من تحرير كثير منهم الكلام في صورة عدم بدو الصلاح.

وهو كما تري لا يكفي في استفادة إجماعهم علي المنع من البيع قبل بدو الصلاح، خصوصاً مع الاعتراف منه باشتباه كثير منهم وظنهم الجواز قبل الطلوع، ومع ما سبق من الصدوق، كما نبّه لذلك غير واحد.

وكيف كان فيشهد بالجواز ما تقدم من صحيحي يعقوب بن شعيب والحلبي وموثق أبي بصير أو صحيحه وصحيح سليمان بن خالد علي رواية الاستبصار دون ما تقدم من التهذيب.

فراجع.

مضافاً إلي صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر (عليه السلام): «وسألته عن شراء النخل سنتين أيحل ؟ قال: لا بأس، يقول: إن لم يخرج العام شيئاً أخرج العام القابل إن شاء الله»(1).

وذهب جماعة إلي عدم جواز بيعها إلا بعد ظهور الثمرة أو بدو صلاحها في العام الأول.

وفي الجواهر أنه المشهور نقلاً وتحصيلاً بين المتأخرين.

تعويلاً علي القاعدة، لكونه معدوماً، فضلاً عن الغرر والجهالة.

ولمعتبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سئل عن النخل والثمرة يبتاعها الرجل عاماً واحداً قبل أن يثمر.

قال: لا.

حتي تثمر وتأمن ثمرتها من الآفة.

فإذا أثمرت فابتعها أربعة أعوام [إن شئت.

التهذيبين] وإن شئت مع ذلك العام أو أكثر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 21.

ص: 357

من ذلك أو أقل»(1).

وخبر أبي الربيع: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: إذا بيع الحائط فيه النخل والشجر سنة واحدة فلا يباعن حتي تبلغ ثمرته.

وإذا بيع سنتين أو ثلاثاً فلا بأس ببيعه بعد أن يكون فيه شيء من الخضرة [الخضر.

خ]»(2).

وأما الاستدلال له بإطلاق ما تضمن النهي عن بيع النخل أو بيع الثمرة حتي تزهو أو يعقد أو غير ذلك(3) فلا مجال له، لأن مقتضاه عدم جواز بيعها أكثر من سنة واحدة، لأن الثمرة لا تطلع فضلاً عن أن تزهو في الأكثر.

فهو نظير ما صرح به في خبر محمد بن شريح: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشتري ثمرة نخل سنتين أو ثلاثاً، وليس في الأرض غير ذلك النخل.

قال: لا يصلح إلا سنة.

ولا تشتره حتي يبين صلاحه.

قال: وبلغني أنه قال في ثمر الشجر: لا بأس بشرائه إذا صلحت ثمرته.

فقيل له: وما صلاح ثمرته ؟ قال: إذا عقد بعد سقوط ورده»(4).

ولابد من الخروج عن جميع ذلك بالنصوص السابقة بأجمعها.

فيقيد الإطلاق المتقدم بما إذا بيعت عاماً واحداً، ثم العمل بظهوره في التحريم، كما سبق منهم، أو حمله علي الكراهة أو التقية، علي ما سبق الكلام فيه.

وهو المتعين في خبر محمد بن شريح.

وأما معتبر أبي بصير فقد يشكل باشتماله علي اعتبار الأمن من الآفة الذي هو متأخر عن بدو الصلاح، فيلزم حمله علي الاستحباب.

كما أن خبر أبي الربيع قد يشكل بعدم خلوّ الخضرة فيه عن الإجمال.

ولو غض النظر عن ذلك فلابد من الخروج عنهما وعن القاعدة بالنصوص الأول المتضمنة لجواز بيعها أكثر من سنة.

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 12، 7.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 2، 5، 6، 14، 15، 16، 17.

(4) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 13.

ص: 358

(359)

في جواز بيع الثمار عاماً واحداً مع الضميمة

وعاماً واحداً مع الضميمة (1) علي الأقوي.

وأما بعد ظهورها، فإن بدا

---------------

وإذا أمكن حمل بعضها علي ما إذا أطعم في السنة الأولي من السنتين فلا مجال له فيما تضمن التعليل بأنه إن لم يحمل في هذه السنة حمل في قابل، إذ هو كالصريح في شرائه قبل أن يحمل.

وحينئذٍ يتعين تخصيص القاعدة، وحمل الحديثين المتقدمين علي الاستحباب أو التقية.

أو تجريد معتبر أبي بصير عن المفهوم، وحمل الخضرة في خبر الربيع لو تم سنده علي أمر غير طلوع الثمرة.

فلاحظ.

(1) كما عن الكفاية.

لكن أطلق في السرائر والتحرير والدروس المنع من بيعها مع الضميمة.

وفصل في التذكرة بين ما إذا كانت الضميمة هي المقصودة بالأصل وما إذا كانت مقصودة بالتبع، فجوّز في الأول، ومنع في الثاني.

وفي المسالك أنه المشهور.

وهو يبتني علي ما ذكروه في شروط العوضين من اغتفار الجهالة في التابع، دون ما هو المقصود بالأصل.

لكن المقام ليس من ضم المجهول للمعلوم، بل من ضم ما يحرز سلامته إلي ما لا يحرز، وقد سبق عند الكلام في اشتراط القدرة علي التسليم اقتصارهم فيه علي بيع العبد الآبق مع الضميمة.

وحيث تقدم منّا هناك عموم الجواز، فيتعين البناء عليه هنا.

ولاسيما مع استفاضة النصوص بذلك في بيع الثمار، كصحيح يعقوب بن شعيب:

«قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا كان الحائط فيه ثمار مختلفة فأدرك بعضها فلا بأس ببيعها جميعاً» (1) ، وموثق سماعة أوصحيحه: «سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها؟ فقال: لا، إلا أن يشتري معها شيئاً من غيرها رطبة أو بقلاً، فيقول: أشتري منك هذه الرطبة وهذا النخل وهذا الشجر بكذا وكذا، فإن لم تخرج

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب بيع الثمار حديث: 1.

ص: 359

صلاحها، أو كان البيع في عامين أو مع الضميمة جاز بيعها بلا إشكال (1).

-

الثمرة كان رأس مال المشتري في الرطبة والبقل»(1) ، وغيرهما.

ومنه ما سبق في حديثي أبي بصير وأبي الربيع المتقدمين والمتضمنين جواز بيع الثمرة أكثر من سنة إذا أثمرت في السنة الأولي أو كانت فيها خضرة، حيث تكون ثمرة السنة الأولي هي الضميمة.

بل ما تقدم من التعليل في حديث سماعة مطابق للتعليل المتقدم في تلك المسألة، بنحو يستفاد منه العموم، وكون الحكم المذكور علي طبق القاعدة.

(1) أما مع بدو الصلاح فقد كاد يكون ضرورياً، كما في مفتاح الكرامة.

ويقتضيه قوله (صلي الله عليه وآله وسلم) في صحيح ربعي المتقدم: «لا تباع الثمرة حتي يبدو صلاحها» وخبر محمد بن شريح المتقدم.

ويأتي الكلام في تحديد بدو الصلاح.

وعليه يحمل الإطعام والبلوغ في غير واحد من النصوص السابقة، أو علي الاستحباب أو التقية أو النهي لدفع الخصومة من دون تحريم، كما صرح به صحيحي الحلبي وعبد الله بن سنان.

كما يتعين لأجل ذلك حمل قوله (عليه السلام) في معتبر أبي بصير السابق: «حتي تثمر وتأمن ثمرتها من الآفة» علي الاستحباب أو التقية.

وأما مع كون البيع في أكثر من عام فهو المعروف بينهم، ونفي الخلاف فيه في كشف الرموز، بل ادعي الإجماع عليه فيما تقدم من السرائر وفي الخلاف والغنية والتذكرة والتنقيح وظاهر المبسوط ومحكي المهذب البارع.

نعم قد يظهر الخلاف فيه ممن لم يذكره في مسوغات البيع قبل الظهور أو قبل بدو الصلاح، كما في الإرشاد.

وكيف كان فيقتضيه إطلاق ما تضمن جواز بيعه أكثر من سنة، سواء بقي علي إطلاقه كما سبق منّا ومن بعضهم أم حمل علي ظهور الثمرة في السنة الأولي، كما تقدم من السرائر وغيره، وتقدم الاستدلال له ببعض النصوص.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب بيع الثمار حديث: 1.

ص: 360

وأما مع الضميمة فهو المصرح به في كلامهم، وادعي عليه الإجماع في التذكرة والتنقيح.

وقد يناسبه ما في المبسوط من نفي الخلاف في جواز بيعها مع أصولها حينئذٍ.

لكن في الجواهر أنه منسوب للأكثر.

ولم يعرف المخالف في ذلك.

إلا أن يستفاد ممن أطلق عدم جواز بيعها قبل بدو صلاحها.

لكنه منصرف لبيعها وحدها.

وكيف كان فيقتضيه مضافاً إلي القاعدة النصوص المتقدمة في بيعها قبل ظهورها مع الضميمة.

ولا مجال لجريان شبهتهم المتقدمة في عدم جواز ضم المعلوم للمجهول إذا كان المجهول مقصوداً بالأصل، لفرض وجود الثمرة وعدم الجهل بها.

غاية الأمر أنه ورد النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.

لكنه لو تم منصرف إلي بيعها وحدها.

ولا أقل من لزوم حمله علي ذلك لأجل النصوص المتقدمة.

بقي في المقام أمران: الأول: أن الأصحاب ذكروا أيضاً جواز بيعها بشرط القطع في الحال، وادعي الإجماع عليه في المبسوط والخلاف والغنية والسرائر وكشف الرموز والتذكرة وغيرها.

وهو مقتضي عمومات النفوذ بعد قصور نصوص المقام عن الفرض المذكور، لأن المنساق منها كون المنع من أجل عدم إحراز ترتب الغرض الداعي للشراء، وهو الانتفاع بالثمرة فيما يقصد منها نوعاً، والمفروض في المقام عدم كون الداعي للشراء ذلك، بل الانتفاع بها بوجه آخر يترتب علي حال الشراء.

فلاحظ.

الثاني: قال في القواعد: «لو بيعت علي مالك الأصل أو باع الأصل واستثني الثمرة فلا يشترط إجماعاً».

ومراده عدم اشتراط بدو الصلاح.

والوجه في عدم اشتراطه مع استثناء الثمرة أن دليل اشتراطه لو تم وارد في بيع الثمرة، لا في بيع الأصول.

وأما مع بيع الثمرة علي مالك الأصل فلم يتضح الوجه فيه مع إطلاق دليل اشتراطه لو تم فضلاً عن دعوي الإجماع عليه.

ولاسيما مع ما في المبسوط والخلاف من عموم المنع له تبعاً لعموم الأخبار.

ص: 361

أما مع انتفاء الثلاثة فالأقوي الجواز (1)

---------------

(1) كما تقدم من الشيخ في التهذيبين، سواء حمل كلامه علي ما قبل ظهور الثمرة كما تقدم منّا أم علي ما بعده، كما يظهر منهم.

وبه صرح في السرائر والتذكرة والقواعد والمختلف والإيضاح والدروس واللمعتين والتنقيح وجامع المقاصد والمسالك وعن غيرها.

وإليه قد يرجع ما في المقنعة من كراهة بيعها قبل بدو صلاحها.

وهو مقتضي القاعدة علي مباني الأصحاب، لعدم ورود شبهة الغرر بعد فرض وجود المبيع ورؤيته.

واحتمال تلفه بعد ذلك لا يمنع من صحة المعاملة، كسائر موارد احتمال تعرض المبيع للتلف أو السرقة أو نحوهما، كما نبّه له في السرائر.

مضافاً إلي ما في صحيح ربعي المتقدم من نهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من أجل خصومتهم، بل مع التصريح في صحيحي بريد والحلبي بأنه لم يكن تحريمياً.

ومن أجله يتعين حمل البلوغ في الثاني علي بدو الصلاح بعد ما سبق من وحدة الواقعة.

وهو المستفاد أيضاً من صحيح يعقوب بن شعيب، سواء حملت الكراهة فيه علي الكراهة المصطلحة كما سبق من التهذيبين أم علي التحريم، لظهوره في ارتفاع النهي بالطلوع.

وبذلك يظهر حال النصوص الأخر المتضمنة للبلوغ كصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «وسألته عن شراء النخل سنة واحدة أيصلح ؟ قال: لا يشتري حتي يبلغ»(1) ، وصدر صحيح الحلبي وخبر أبي الربيع المتقدمين.

حيث يتعين حمل البلوغ فيها علي بدو الصلاح، أو حملها علي الكراهة أو التقية.

كما يتعين الحمل علي أحد الوجهين في النصوص الناهية عن البيع قبل بدو الصلاح، علي الكلام الآتي في تحديده.

وأما ما تضمن النهي عن البيع قبل الإطعام كصحيحي سليمان بن خالد وأبي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 22.

ص: 362

بصير المتقدمين فإن حمل الإطعام فيها علي الطلوع بلحاظ كون الطالع من شأنه أن يطعم كان أسبق من بدو الصلاح، فيشهد بعدم اعتبار بدو الصلاح في جواز البيع، كما هو المدعي.

وإن حمل علي فعلية الإطعام بكون الثمرة صالحة للأكل، كان متأخراً عن بدو الصلاح، وتعين حمله علي الاستحباب أو التقية من أجل نصوص بدو الصلاح وغيرها.

هذا وقد صرح بعدم جواز البيع حينئذٍ وبطلانه في المبسوط والنهاية والمهذب والغنية والوسيلة والشرائع والنافع وغيرها، وهو المحكي عن ابن الجنيد وأبي الصلاح والتلخيص، وقد يرجع إليه ما في المقنع من عدم جواز بيع الثمرة حتي تبلغ.

ونسبه في المسالك والروضة للأكثر، بل في المبسوط والخلاف والغنية الإجماع عليه.

عملاً بالنصوص الناهية عن البيع قبل بدو الصلاح.

ويظهر ضعفه مما سبق.

وأشكل منه ما في المراسم من كراهة البيع قبل بدو الصلاح، لكن لو خاست الثمرة نقص من الثمن ما كان في مقابل التالف منها، ولم يبق للبائع إلا بقدر ما سلم منها.

ونسبه في كشف الرموز للمفيد في المقنعة أيضاً، واختاره، مدعياً أنه مقتضي الجمع بين النصوص الواردة بالمنع والناطقة بالجواز.

إذ فيه: لم يتضح وجه الجمع بذلك، لكون المنساق من جميع النصوص هو البيع المبتني علي سلامة تمام الثمن للبائع، وانقطاع علقته بالمبيع، فهو مخالف لجميع نصوص المقام، من دون أن يشهد له شيء.

علي أن المفيد إنما صرح بذلك في البيع قبل الظهور، لا قبل بدو الصلاح، بل اقتصر في البيع قبل بدو الصلاح علي الحكم بالكراهة، كما سبق.

وما في كلام غير واحد من حمل الظهور في كلامه علي بدو الصلاح غير ظاهر الوجه.

نعم هو خال عن الدليل أيضاً، ومخالف لجميع النصوص، لما سبق.

بقي شيء.

وهو أن مقتضي القاعدة جواز البيع بمجرد ظهور عنوان الثمرة من تمر أو عنب أو غيرهما.

بل وإن كان تحوله للثمرة من سنخ تحول الحقيقة لحقيقة أخري، نظير تحول البيضة إلي دجاجة، كالطلع والتمر في المقام.

ص: 363

مع الكراهة (1).

-

نعم لو كان الظاهر أمراً مبايناً لمبدأ تكوينها عرفاً كالورد الذي تنعقد الثمرة بعد سقوطه فلا مجال لتصحيح البيع بمقتضي القاعدة، لأن المبيع إن كان هو الموجود لزم عدم استحقاق ما يخلفه.

وإن كان هو الثمرة فهي غير موجودة فعلاً، لتكون طرفاً في المعاوضة.

كما أنه لو تم الإجماع علي عدم جواز بيع الثمرة قبل طلوعها.

فقد يراد به لزوم صدق الثمرة عليه حين البيع، وعدم كفاية ظهور مبدأ التكوين إذا لم يصدق عليه الثمرة، فيكون مخصصاً للقاعدة.

نعم لا يبعد قصوره عما لو صدق عنوان الثمرة بإطلاقه، وإن لم يصدق بخصوصيته المطلوبة، بل يكون داخلاً فيما نحن فيه من الكلام في جواز بيع الثمرة بعد طلوعها قبل بدو صلاحها.

فلاحظ.

(1) كما تقدم من الشيخ في التهذيبين وبه صرح غيره ممن ذهب إلي الجواز.

وهو مقتضي النصوص المانعة عن البيع قبل بدو الصلاح بعد رفع اليد عن ظهورها في التحريم.

وكذا صحيح يعقوب بن شعيب بناء علي حمله علي الكراهة المصطلحة.

وحملها علي التقية وإن كان ممكناً، إلا أنه خلاف الأصل بعد إمكان الجمع العرفي بالحمل علي الكراهة الشرعية المصطلحة.

وكذا حمله علي النهي الإرشادي أو الولايتي الشخصي لدفع الخصومة.

ومجرد ظهور بعض النصوص المتقدمة في ذلك لا يكفي في حمل غيره من النصوص عليه.

ثم إنه مما سبق يظهر أن الأفضل الانتظار حتي يؤمن علي الثمرة من الآفة كما هو مقتضي معتبر أبي بصير المتقدم.

فلاحظ.

بقي شيء.

وهو بعض نصوص المسألة وكلمات الأصحاب وإن اختصت بثمرة النخل.

إلا أنه يبدو من جملة كلماتهم عدم الفرق بينها وبين ثمرة سائر الأشجار، كما هو مقتضي جعل موضوع المسألة بيع الثمار بإطلاقها أو مع التصريح بالتعميم، كما في

ص: 364

(365)

المعيار في بدو الصلاح

(مسألة 2): بدو الصلاح في التمر احمراره أو اصفراره (1)، وفي غيره

---------------

المقنعة والنهاية والمبسوط والوسيلة والمهذب والسرائر والجامع وغيرها.

وفي التحرير: «الشجر والنخل في الحكم سواء» وصرح بأن الخلاف في بعض فروع بيع ثمر النخل يجري في ثمر بقية الأشجار في التذكرة والإيضاح وجامع المقاصد.

والوجه في ذلك الإطلاق، بل التصريح بالعموم في صحيحي الحلبي ويعقوب بن شعيب وخبر أبي بصير وجملة من نصوص البيع مع الضميمة.

بل يظهر من صحيحي بريد والحلبي الواردين في نهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عن بيع ثمرة النخل قبل الطلوع أو البلوغ إلغاء خصوصية النخل، وأن المعيار مطلق الثمرة.

ومن هنا لا ينبغي الإشكال في العموم في جميع الأحكام المتقدمة، ولا يخرج عنه إلا بدليل.

(1) كما في النهاية والمبسوط والسرائر والنافع والتذكرة والتحرير والدروس واللمعتين والمسالك وظاهر جامع المقاصد، وفيه أنه المشهور، وفي النافع والقواعد أنه الأشهر.

وفي الجواهر أنه المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً شهرة عظيمة.

لمعتبر الوشا: «سألت الرضا (عليه السلام) هل يجوز بيع النخل إذا حمل ؟ قال: لا يجوز بيعه حتي يزهو.

قلت: وما الزهو جعلت فداك ؟ قال: يحمر ويصفر وشبه ذلك»(1) ، ورواه الصدوق بطريق صحيح، إلا أنه أسقط قوله: «وشبه ذلك».

وحديث علي بن أبي حمزة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشتري بستاناً فيه نخل ليس فيه غيره [غير بسرٍ] بسراً أخضراً.

قال: لا حتي يزهو.

قلت: وما الزهو؟ قال: حتي يتلون»(2) ويؤيدهما ما في حديث المناهي عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): «ونهي أن يبتاع الثمار حتي تزهو.

يعني تصفر أو تحمر»(3).

وهي كما تري إنما تتضمن تفسير الزهو بذلك، لا تفسير بدو الصلاح به.

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 1، 5، 14.

ص: 365

نعم في حديث القاسم بن سلام عنه (صلي الله عليه وآله وسلم): «أنه نهي عن المخاضرة.

وهو أن يبتاع الثمار قبل أن يبدو صلاحها وهي خضر بعد»(1) ، لظهوره في حصول بدو الصلاح بارتفاع الإخضرار، وهو عبارة أخري عن تبدل لونها للصفرة والحمرة ونحوهما.

لكنه مع ضعف سنده ظاهر في كون التفسير من الراوي.

فالعمدة في المقام أن ما تضمن بدو الصلاح من النصوص ينحصر بصحيح ربعي وخبر محمد بن شريح المتقدمين.

والأول لا يظهر في النهي التعبدي بعد التصريح فيه بأن النهي فيه كان من أجل تظلمهم، ولاسيما مع التصريح في صحيحي بريد والحلبي بأن النهي لم يكن تحريمياً، بضميمة ما سبق من وحدة الواقعة في الصحاح الثلاث.

والثاني ضعيف في نفسه، مخالف لما تطابقت عليه النصوص والفتاوي من جواز البيع أكثر من سنة.

ومن هنا يقرب أن يكون بدو الصلاح في كلام الفقهاء مشيراً لما تضمنت النصوص الأخر التحديد به، من دون أن يكون بنفسه حداً ليقع الكلام في شرحه.

وحيث تقدم ذكر الزهو في النصوص السابقة مع شرحها له بالتلون توجه منهم تحديد بدو الصلاح بذلك، وتنزيل ما تضمن الإطعام والبلوغ عليه، أو علي ما لا ينافيه، كما سبق عند الكلام في جواز البيع قبل بدو الصلاح.

هذا وفي صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن بيع النخل أيحل إذا كان زهواً؟ قال: إذا استبان البسر من الشيص حلّ بيعه وشراؤه»(2).

وقد يظهر في اعتبار أمر آخر غير الزهو.

لكن الظاهر أن استبانة البسر من الشيص أسبق من الزهو، فيكون ظاهراً في كفاية ذلك في الحلّ، ويتعين لأجله حمل نصوص الزهو علي الاستحباب.

نعم رواه في البحار هكذا: «وسألته عن بيع النخل.

قال: إذا كان زهواً واستبان البسر من الشيص حلّ شراؤه»(3).

ومقتضاه اعتبار الأمرين معاً.

وفي المطبوع من

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 15، 17.

(3) بحار الأنوار ج: 10 ص: 257.

ص: 366

انعقاده بعد تناثر ورده (1).

-

كتاب علي بن جعفر: «قال: إذا كان زهواً أو استبان البسر من الشيص حلّ شراؤه»(1).

ومن ثم لا مجال للخروج به عما سبق.

هذا وقد ذكر بعض مشايخنا (قده) أن بدو الصلاح أن يصير قابلاً للأكل عادة وإن كان في أول أوان أكله.

وكأنه اعتمد علي ما تضمن الإطعام بعد حمله علي فعلية الإطعام.

لكنه لو تم لزم رفع اليد عنه بنصوص المقام، وحمله علي الاستحباب، لأن الظاهر أن التلون أسبق من ذلك.

ولا يتضح الوجه في إهماله لنصوص المقام بعد أن كان فيها الصحيح.

ومثله ما نقل قولاً في المقام وإن لم يعرف قائله من أن بدو الصلاح هو الأمن علي الثمرة من الآفة.

فإنه وإن كان يشهد له قوله (عليه السلام) في معتبر أبي بصير المتقدم: «لا.

حتي تثمر وتأمن ثمرتها من الآفة».

إلا أن من الظاهر أن الأمن علي الثمرة من الآفة متأخر عن بدو الصلاح والزهو بالمعني المتقدم، فلابد من حمله علي الاستحباب من أجل نصوص المقام.

وكذا ما في الشرائع من أن بدو الصلاح هو الاحمرار أو الاصفرار أو أن يبلغ مبلغاً يؤمن عليه العاهة، سواء أريد به التردد أم التخيير.

إذ لا وجه للتردد مع اعتبار دليل الاحمرار والاصفرار، وتعين الجمع بالاستحباب، كما تقدم.

ولا للتخيير مع ظهور كون بدو الصلاح حسبما يظهر من صحيح ربعي حداً عرفياً معروفاً وليس أمراً تشكيكياً ذا مراتب.

فلاحظ.

(1) قد اختلفت كلمات الأصحاب كثيراً في بدو الصلاح في غير التمر.

فقيل: هو انعقاد الحب، وقيل: هو ذلك مع تناثر الورد، وقيل: هو البلوغ.

علي اختلاف بينهم في أن ذلك في الشجر أو في الشجر والسنبل.

********

(1) مسائل علي بن جعفر ص: 122.

ص: 367

وفي المبسوط: «وبدو الصلاح يختلف بحسب اختلاف الثمار، فإن كانت الثمرة مما تحمر أو تسود أو تصفر فبدو صلاحها فيها الحمرة أو السواد أو الصفرة، وإن كانت مما تبيض فهو أن يتموه، وهو أن ينمو فيه الماء الحلو ويصفر لونه.

وإن كان مما لا يتلون مثل التفاح والبطيخ فبأن يحلو أكله، وإن كان مثل البطيخ فبأن يقع فيه النضج، لأن له نضجاً كنضج الرطب.

وقد روي أصحابنا أن التلون يعتبر في ثمرة النخل خاصة.

فأما ما يتورد فبدو صلاحه أن ينتشر الورد وينعقد.

وفي الكرم أن ينعقد الحصرم.

وإن كان مثل القثاء والخيار الذي لا يتغير طعمه ولا لونه، فإن ذلك يؤكل صغاراً، فبدو صلاحه فيه أن يتناهي عظم بعضه».

هذا وقد سبق أن مقتضي القاعدة جواز بيع الثمرة من دون ضميمة بمجرد طلوعها بحيث يكون هناك شيء له وجود يشار له عرفاً وإن لم يصدق عليه الثمرة، بل كان مبدأ لتكوينها، حتي علي ما جروا عليه من المنع عن بيع الغرر.

فاللازم البناء علي ذلك في المقام ما لم يثبت النهي عنه، واعتبار شيء زائد علي ذلك.

وقد ثبت ذلك في التمر، كما تضمنته نصوص الزهو السابقة.

أما في غيره فلم يرد إلا ما تقدم في خبر محمد بن شريح عن أبي عبد الله (عليه السلام) من قوله: «وبلغني أنه قال في ثمر الشجر: لا بأس بشرائه إذا صلحت ثمرته.

فقيل له: وما صلاح ثمرته ؟ قال: إذا عقد بعد سقوط ورده(1)».

وما في موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن الكرم متي يحل بيعه ؟ قال: إذا عقد وصار عروقاً».

كذا في الكافي.

وفي التهذيب: «قال: إذا عقد وصار عقوداً.

والعقود اسم الحصرم بالنبطية»(2).

أما الأول فهو ضعيف السند، وخصوصاً هذه الفقرة منه، لظهور كلام الراوي في عدم سماعه لها بنفسه من الإمام (عليه السلام)، بل قد بلغته عنه، فهي مرسلة منه عنه (عليه السلام).

مع أن ظاهره إرادة انعقاد الثمرة الملازم لسقوط الورد، وهو أول انعقادها وظهورها،

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 13، 6.

ص: 368

(مسألة 3): يعتبر في الضميمة المجوزة لبيع التمر قبل بدو صلاحه أن تكون مما يجوز بيعها منفردة (1)،

---------------

لا بعده بمدة طويلة بعد أن تنمو نمواً معتداً به، فإنه ليس انعقاداً، بل يكون بعد الانعقاد.

ومن الظاهر أن الانعقاد المذكور عبارة أخري عن ظهور الثمرة وبدو تكوينها الذي سبق أن اعتباره مقتضي القاعدة من دون حاجة للنص.

وأما الثاني فهو وإن تم سنده، إلا أنه سبق الاختلاف في متنه، فعلي رواية الكافي يكون ظاهراً في اعتبار بروز الشعب في زهره، بحيث يبدأ تكون العنقود له، وبه يكون مبدأ انعقاد حبه.

وعلي رواية التهذيب يكون المراد بلوغه حداً يصير حصرماً.

لكن الثاني موقوف علي أن يكون التفسير من الإمام (عليه السلام)، وهو غير ظاهر، بل بعيد.

فإن تعبيره بالحصرم رأساً أولي.

بل يكاد يقطع بعدمه بملاحظة رواية الكافي، حيث يبعد جداً حذفه للتفسير المذكور لو كان جزءاً من الرواية، بخلاف الاختلاف في رسم الكلمة الواحدة فإنه أمر مألوف شائع.

ولا أقل من عدم ثبوت كون التفسير المذكور من الإمام، وحينئذٍ لا يكون حجة.

بل هو لا يخلو عن بعد في نفسه، حيث لا يظهر الوجه لتعبير الإمام (عليه السلام) بالنبطية ما لم تكن الكلمة شائعة في العرف بحيث لا تحتاج للتفسير.

ومن هنا لا يبعد حمل رواية التهذيب علي بدء انعقاد الحب، فتقارب رواية الكافي.

ولاسيما بملاحظة ما في المنجد من أن عقد الزهر انضمام أجزائه بحيث يصير ثمراً، وهو راجع إلي بدء ظهور الثمرة الذي عرفت أنه مقتضي القاعدة، نظير ما تقدم في خبر محمد بن شريح.

هذا وأما ما عدا ذلك كالخضر فالمتعين الرجوع فيه للقاعدة التي سبق تحديد مفادها.

ولا ملزم باعتبار بدو الصلاح فيه، ليقع الكلام في تحديده.

فلاحظ.

(1) بأن تكون ذات قيمة معتد بها، كما تقدم منه (قده) نظير ذلك في بيع الآبق

ص: 369

وكونها مملوكة للمالك (1)، وكون الثمن لها وللمنضم علي الإشاعة (2).

ولا يعتبر فيها أن تكون متبوعة (3) علي الأقوي، فيجوز كونها تابعة (4).

-

مع الضميمة، وتقدم الوجه فيه، فإن المقامين من باب واحد.

ومنه يظهر عدم الوجه لتنظر صاحب الجواهر فيه.

(1) كما ذكره في الجواهر بدواً، وإن تنظر فيه أخيراً.

وهو المنصرف من نصوص المقام.

بل هو صريح موثق سماعة أوصحيحه: «سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها؟ فقال: لا.

إلا أن يشتري معها شيئاً من غيرها رطبة أو بقلاً، فيقول: أشتري منك هذه الرطبة وهذا النخل وهذا الشجر بكذا وكذا، فإن لم تخرج الثمرة كان رأس مال المشتري في الرطبة والبقل.

..»(1).

ونحوه سبق في مبحث القدرة علي التسليم في مثل بيع الآبق مع الضميمة، لأنهما علي نهج واحد.

(2) كما ذكره في الجواهر بدواً، وإن تنظر فيه أخيراً أيضاً.

وهو المستفاد من النصوص انصرافاً أو ظهوراً.

ولاسيما ما تضمن التعليل بأنه إن لم يخرج كان رأس المال في الضميمة، إذ هو كالصريح في وحدة رأس المال فيهما معاً، إذ لو لم يكن بنحو الإشاعة كان لكل منهما رأس ماله، ولم يبق في مقابل رأس مال الثمرة شيء.

(3) خلافاً لما سبق من التذكرة.

وتقدم وجهه ودفعه عند الكلام في جواز بيع الثمرة قبل ظهورها عاماً واحداً مع الضميمة.

(4) كأغصان الشجر الحاصلة للثمرة.

والوجه فيه إطلاق الشيء في حديث سماعة المتقدم.

مضافاً إلي عموم التعليل الذي تضمنه هو وبعض النصوص المتقدمة عند الكلام في اشتراط القدرة علي التسليم في العوضين.

ومنه يظهر الجواز فيما إذا كانا معاً مقصودين بالأصل من دون تبعية.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب بيع الثمار حديث: 1.

ص: 370

(371)

جواز بيع التمر مع ظهور بعضه

(مسألة 4): يكفي في الضميمة في تمر النخل مثل السعف والكرب والشجر اليابس الذي في البستان (1).

(مسألة 5): لو بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها مع أصولها جاز (2) بلا إشكال.

(مسألة 6): إذا ظهر بعض ثمر البستان جاز بيع المتجدد في تلك السنة معه وإن لم يظهر (3)،

---------------

(1) يظهر وجهه مما سبق.

ومنه يظهر عدم خصوصية التمر.

ولعله (قده) ذكره لمجرد التمثيل.

(2) كما في الشرائع والنافع والتذكرة وغيرها.

وفي التذكرة والتنقيح الإجماع عليه.

ويقتضيه إطلاق دليل جواز البيع مع الضميمة.

ولاسيما مع كون الضميمة في المقام هي المبيعة أصالة، والثمرة تابعة عرفاً، كحمل الدابة.

مضافاً إلي صحيح غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من باع نخلاً قد أبره فثمره للبائع، إلا أن يشترط المبتاع.

ثم قال: قضي به رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)» (1)، ونحوه غيره.

(3) صرح غير واحد بالاكتفاء في جواز بيع جميع الثمرة بظهور بعضها أو بدو صلاحه، علي الخلاف في معيار الجواز.

بل هو المدعي عليه الإجماع صريحاً في الخلاف والمسالك، وظاهراً في الغنية والتذكرة.

ويقتضيه مضافاً إلي ما سبق من عموم جواز البيع مع الضميمة النصوص الخاصة، كصحيح يعقوب بن شعيب، قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إذا كان الحائط فيه ثمار مختلفة فأدرك بعضها فلا بأس ببيعها جميعاً» (2).

-

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 32 من أبواب أحكام العقود حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب بيع الثمار حديث: 1.

ص: 371

اتحد الجنس أم اختلف (1)، اتحد البستان أم تكثر (2) علي الأقوي.

-

ومعتبر إسماعيل بن الفضل عنه (عليه السلام): «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بيع الثمرة قبل أن تدرك.

قال: إذا كان له في تلك الأرض بيع له غلة قد أدركت فبيع ذلك كله حلال»(1).

وصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): «قال: تقبل الثمار إذا تبين لك بعض حملها سنة، وإن شئت أكثر.

وإن لم يتبين لك ثمرها فلا تستأجر»(2).

وحديث علي بن أبي حمزة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشتري بستاناً فيه نخل وشجر منه ما قد أطعم ومنه ما لم يطعم.

قال: لا بأس فيه إذا كان فيه ما قد أطعم...»(3)

ويحمل علي شراء ثمر البستان بقرينة الجواب.

(1) للعموم المتقدم، وإطلاق بعض النصوص المتقدمة، وخصوص صحيح يعقوب بن شعيب منها.

وبه يخرج عما يأتي في موثق عمار، ويتعين حمله علي الكراهة.

(2) كما جعله في النافع الأشبه، وجزم به في كشف الرموز والمختلف والدروس والتنقيح والمسالك ومحكي غيرها.

للعموم المتقدم.

وقد يستدل له أيضاً بمعتبر إسماعيل المتقدم، بدعوي شمول قوله (عليه السلام): «في تلك الأرض» لما إذا تعددت البساتين.

ولا يخلو عن إشكال، حيث لا يبعد كون مصحح العهد والإشارة مناسبة الأرض للثمرة المفروضة في السؤال، بلحاظ كونها بستاناً لها.

فالعمدة العموم المتقدم.

لكن في المبسوط: «وإن كان بستانان، فبدا صلاح الثمرة في أحدهما، ولم يظهر في الآخر، لم يجز بيع ما لم يبن صلاحه، لأن لكل بستان حكم نفسه، سواء كان من جنس ما ظهر صلاحه أم من غير جنسه.

وفيه خلاف».

وعليه جري في الخلاف ويظهر منه دعوي الإجماع عليه.

وقد يظهر من الاستبصار إيضاً، لأنه احتمل حمل موثق عمار الآتي علي ما إذا كانت الأنواع المختلفة في أماكن متفرقة.

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب بيع الثمار حديث: 2، 4، 3.

ص: 372

هذا ويظهر من المختلف والدروس أن دليله علي التفصيل المذكور هو موثق عمار المذكور عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سئل عن الفاكهة متي يحل بيعها؟ قال: إذا كانت فاكهة كثيرة في موضع واحد فأطعم بعضها فقد حل بيع الفاكهة كلها.

فإذا كان نوعاً واحداً فلا يحل بيعه حتي يطعم.

فإن كان أنواع متفرقة فلا يباع شيء منها حتي يطعم كل نوع منها واحدة، ثم تباع تلك الأنواع»(1).

وقد حمله في المختلف علي ما إذا تعددت العقود.

وجعله في الدروس معارضاً بصحيح إسماعيل بن الفضل المتقدم.

ويشكل الأول بأن الحمل المذكور تبرعي لا شاهد عليه، بل هو مخالف للظاهر جداً.

والثاني بما سبق من الإشكال في عموم صحيح إسماعيل لما إذا تعددت البساتين.

مع أنه لو تم له إطلاق يقتضي ذلك تعين حمله علي وحدة البستان، جمعاً مع موثق عمار لو تمت دلالته علي المنع من الضميمة إذا تعددت البساتين.

فالعمدة في المقام عدم ظهور الموثق في التفصيل بين وحدة البستان وبين تعدده، بل بين وحدة نوع الفاكهة وتعدده.

غايته أن التفصيل المذكور يكون مستدركاً علي إطلاق الجواز الذي تضمنه صدره، ويتعين كونه تعقيباً عليه كالشرح له، كما احتمل ذلك في مفتاح الكرامة.

بل هو المتعين وإن استلزم نحواً من الاضطراب في متنه.

وهو غير عزيز في النصوص.

ولا مجال لحمله علي تعدد البساتين، كما تقدم احتماله من الاستبصار، لعدم المنشأ فيه لاحتمال ذلك.

ومن هنا يتعين حمله علي الكراهة، جمعاً مع صحيح يعقوب بن شعيب الصريح في جواز الضميمة مع تعدد الأنواع، كما أشرنا إليه آنفاً.

وأما ما سبق من المبسوط من أن لكل بستان حكم نفسه، فلا شاهد له ليخرج به عن الجواز مع الضميمة.

ومن هنا يتعين البناء علي عموم الجواز في المقام، عملاً بالعموم المذكور.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب بيع الثمار حديث: 5.

ص: 373

(مسألة 7): إذا كانت الشجرة تثمر في السنة الواحدة مرتين ففي جريان حكم العامين عليهما إشكال (1).

(مسألة 8): إذا باع الثمرة سنة أو سنتين أو أكثر ثم باع أصولها علي شخص آخر لم يبطل بيع الثمرة (2)، بل تنقل الأصول إلي المشتري مسلوبة المنفعة في المدة المعينة (3).

وله الخيار في الفسخ مع الجهل (4).

ولا يبطل

---------------

(1) حيث قد يوجه الإلحاق بإلغاء خصوصية السنة عرفاً، وفهم أن المدار علي تعدد الإنتاج بنحو يبعد تخلف الإنتاجين معاً.

ولعله لذا جري عليه بعض مشايخنا (قده).

كما قد يوجه عدمه باحتمال خصوصية السنة في غلبة عدم التخلف مع التعدد.

وهو المتعين.

فالمقام نظير إلحاق تعدد البستان بتعدد السنة، لأن التخلف معه أبعد من التخلف في البستان الواحد، الذي لا مجال له قطعاً.

(2) بلا إشكال ظاهر.

لعدم الموجب للبطلان بعد إمكان اختلاف مالك الأصل مع مالك الثمرة، ولذا أمكن بيعها وحدها، كما هو المفروض في المقام.

(3) لأن ذلك هو الذي يملكه البائع وله السلطنة علي بيعه.

والمراد بالمنفعة ما يعم النماء، كما هو ظاهر.

(4) لأنه نحو من النقص في المبيع ينافيه إطلاق البيع عرفاً.

ولا مجال للبناء علي ثبوت الأرش له تخييراً مع الفسخ، أو بشرط تغير وضع البستان، كما سبق في خيار العيب.

لعدم كون ذلك عيباً عرفاً.

بل يتعين له الفسخ وإرجاع العين، أو جريان حكم تغيير العين في غير العيب من موارد الخيار.

فلاحظ.

ثم إن ذلك إنما يتجه إذا كانت الثمرة من سنخ المنفعة المملوكة تبعاً من دون أن تكون مقابلة بجزء من الثمن، كما لو لم تكن موجودة حين البيع.

أما إذا كانت موجودة حين البيع ولو بوجود مبدأ تكوينها.

فإن قصد بيع الأصول وحدها أو حكم شرعاً

ص: 374

(375)

تلف التمر قبل القبض

بيع الثمرة بموت بائعها، بل تنتقل الأصول إلي ورثة البائع بموته مسلوبة المنفعة (1).

وكذا لا يبطل بيعها بموت المشتري، بل تنتقل إلي ورثته (2).

(مسألة 9): إذا اشتري ثمرة فتلفت قبل قبضها، انفسخ العقد، وكانت الخسارة من مال البائع (3)، كما تقدم ذلك في أحكام القبض، وتقدم أيضاً إلحاق السرقة ونحوها بالتلف، وحكم ما لو كان التلف من البائع والمشتري والأجنبي.

-

بذلك كما في بيع النخل بعد التأبير، علي ما تقدم عند الكلام فيما يدخل في المبيع فلا موجب للخيار.

وإن كانت جزءاً من المبيع كان من صغريات مسألة بيع ما يملك وما لا يملك، حيث يتوزع الثمن علي الأصل والثمرة.

فإن أجاز مالك الثمرة نفذ البيع في الكل، وكان له ما يخصها من الثمن.

وإن لم يجز نفذ البيع في خصوص الأصل بما يخصه من الثمن، ورجع ما يقابل الثمرة للمشتري، وكان له الخيار، لتبعض الصفقة.

(1) لنظير ما سبق.

(2) بلا إشكال ظاهر، لأنها وإن لم تكن مملوكة للمورث حين موته، لعدم وجودها، إلا أنها مستحقة له بالبيع، فينتقل الحق لوارثه.

(3) كما ذكره في المبسوط فيما إذا كانت الثمرة علي رؤوس الشجر، وفي الشرائع فيما إذا كانت الثمرة قد بدا صلاحها، وفي التذكرة فيما إذا كانت طالعة وإن لم يبد صلاحها.

لكن المتيقن من ذلك ما إذا بيعت بعد وجودها صالحة للقطف.

وكذا إذا بيعت قبل ذلك، وكان البيع مبتنياً علي تعهد البائع بتسليمها صالحة للأكل.

وأما إذا ابتني البيع علي عدم تعهد البائع بذلك كما هو الشائع في بيع الثمار في محل

ص: 375

الكلام فالظاهر عدم ضمان البائع بتلفها قبل القبض إذا تسبب عن نقص داخلي فيها كالمرض أو خارجي طبيعي، كالزوابع والأمطار والحر والبرد ونحوها مما يتعارف تعرض الثمرة له وتلفها به.

وكذا لا ضمان بعدم ظهور الثمرة حينئذٍ، ولا بعدم بلوغها ونضجها حتي تتلف.

كل ذلك لعدم ابتناء البيع علي التسليم والتسلم حينئذٍ، بل علي إقدام البائع علي الخطر، فيقصر دليل ضمان البائع للمبيع قبل قبضه عن ذلك، كما يظهر بالرجوع لمبحث التسليم والقبض.

وكذا إذا كان التلف مستنداً للمشتري علي ما سبق هناك أيضاً.

وأما إذا كان مستنداً للبائع فلا إشكال في جواز رجوع المشتري عليه بالمثل أو القيمة، عملاً بالقاعدة، بناءً علي ما سبق في مبحث القبض والتسليم من قصور دليل انفساخ البيع بالتلف قبل القبض عن ذلك.

وكذا إذا كان المتلف هو الأجنبي وكانت الثمرة تحت يد البائع أمانة وكان مفرطاً في تمكين الأجنبي من ذلك.

كما يجوز للمشتري الرجوع بذلك علي المتلف نفسه.

وفي جواز رجوعه بالثمن المسمي علي البائع إشكال، لانحصار الوجه فيه هناك كما سبق بابتناء البيع علي اشتراط التسليم، فيثبت الخيار بتخلفه، ولا يجري ذلك هنا، لعدم ابتناء البيع فيه علي ذلك بعد ما هو المعلوم من تعرض المبيع هنا لعدم الوجود أو التلف.

إلا أن يدعي ابتناؤه علي التسليم في فرض سلامة الثمرة وصلوحها للقطف.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لعدم وضوح كونه شرطاً يبتني البيع عليه مع قطع النظر عن وجوب تسليم مال الغير إليه شرعاً.

واللازم الرجوع في ذلك للعرف المعاملي الخاص بهذه المعاملة.

فلاحظ.

ص: 376

(377)

في استثناء ثمرة شجرات

(مسألة 10): يجوز لبائع الثمرة أن يستثني ثمرة شجرات أو نخلات بعينها (1)، وأن يستثني حصة مشاعة (2)، كالربع والخمس، وأن يستثني مقداراً معيناً (3)، كمنّ ووزنة.

لكن في الصورتين الأخيرتين لو خاست

---------------

(1) بلا خلاف ولا إشكال، بل الإجماع بقسميه عليه.

كذا في الجواهر.

ويقتضيه مضافاً إلي عمومات النفوذ والصحة صحيح ربعي المتقدم: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن لي نخلاً بالبصرة، فأبيعه وأسمي الثمن، وأستثني الكر من التمر أو أكثر، أو العدد من النخل.

فقال: لا بأس.

..»(1).

نعم لابد من تعيين النخل المستثني وعدم إبهامه، كما في المقنعة والنهاية والتذكرة وغيرها، بل في التذكرة الإجماع عليه.

لامتناع الإبهام في الأمر المستحق.

وأما ما في الجواهر من التعليل بالجهالة فهو إنما يتجه مع تعيينه واقعاً والجهل به حين العقد، كما لو استثني الشجر المغروس قبل عشر سنين المجهول لهما أو لأحدهما حين العقد، والظاهر عدم إرادتهم ذلك، بل ما ذكرنا من الإبهام.

(2) بلا خلاف ولا إشكال، بل الإجماع بقسميه عليه، كما في الجواهر.

والوجه فيه عمومات الصحة والنفوذ.

(3) كما هو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة، كما في الجواهر، بل في الخلاف وظاهر التذكرة الإجماع عليه.

ويقتضيه صحيح ربعي المتقدم، وصحيحه الآخر عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في الرجل يبيع الثمرة، ثم يستثني كيلاً وتمراً.

قال: لا بأس به.

قال: وكان مولي له عنده جالساً، فقال المولي: إنه ليبيع ويستثني أوساقاً يعني أبا عبد الله (عليه السلام).

قال: فنظر إليه ولم ينكر ذلك من قوله»(2).

هذا وفي المقنعة والمبسوط والنهاية والسرائر بعد الحكم بالجواز أن استثناء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 15 من أبواب بيع الثمار حديث: 1.

ص: 377

الثمرة وزع النقص علي المستثني والمستثني منه علي النسبة (1).

وطريق

---------------

الحصة المشاعة أحوط.

وعلله في المبسوط بأن في الأول خلافاً.

وفي المختلف نسب الخلاف لأبي الصلاح.

لكن عن الكافي لأبي الصلاح الحكم بالجواز.

وكيف كان فلا يتضح الوجه في المنع إلا ما عن بعض العامة مما لا مجال للخروج به عما تقتضيه الأدلة الشرعية العامة والخاصة المتقدم التعرض لها.

(1) كما في المقنعة والنهاية والشرائع والنافع والتذكرة والقواعد والتحرير والإرشاد والدروس واللمعتين وجامع المقاصد والمسالك وغيرها، وفي الجواهر: «لا أجد فيه خلافاً بينهم».

ومقتضي إطلاق بعض من تقدم جريان ذلك حتي في الصورة الأولي.

ومن البعيد جداً بناؤهم علي ذلك، لتميز المبيع عن المستثني خارجاً، فلا منشأ لتحميل التلف من أحدهما علي الآخر، ولذا قد يظهر من المسالك والجواهر حمل المراد من الإطلاق المذكور علي الصورتين الأخيرتين لا غير.

هذا ولا ينبغي الإشكال في التوزيع في الصورة الثانية، لأن الظاهر ابتناء استثناء الجزء المشاع عرفاً علي اشتراك الجزئين المشاعين في السلامة والتلف وغيرهما من الطوارئ.

علي أن من القريب كون الاستثناء في المقام إنما هو من الثمرة الناضجة الصالحة للاستعمال، لأنها مورد غرض المستثني، كما يأتي في الصورة الثالثة.

أما في الصورة الثالثة فقد يظهر منهم ابتناء التوزيع علي حمل المستثني علي الإشاعة، وأنه راجع إلي استثناء جزء مشاع من الثمرة نسبته لمجموعها بقدر نسبة الأرطال لمجموع الثمرة في واقعها لو سلمت، كالربع أو السدس أو العشر أو غيرها، فيتعين جريان حكم الإشاعة المتقدم.

ومن هنا ذكر في الدروس أنه قد يفهم من هذا التوزيع تنزيل شراء صاع من الصبرة علي الإشاعة.

وكأنه لاشتراك الصاع من الصبرة والمستثني في المقام في كونهما

ص: 378

قدراً معيناً من مجموع خارجي موجود أو مقدر الوجود، فحيث فهمت الإشاعة في المقام تعين البناء عليها هناك.

لكن لا ينبغي الإشكال في أنه ليس المراد من بيع الصاع من الصبرة الإشاعة، لابتنائها علي عناية يعلم بعدم قصد المتبايعين لها.

ومن هنا يتعين حمله علي الكلي في المعين.

وتمام الكلام في محله.

ومن هنا ذكر في الروضة أنه يبقي في المقام السؤال عن الفرق بين المقامين.

وقد أطال شيخنا الأعظم (قده) وجماعة ممن عقب علي كلامه في بيان ذلك بما لا يسعنا استقصاؤه، فضلاً عن التعقيب عليه.

نعم الظاهر أنه لا فرق بين المقامين في عدم الإشاعة، لما سبق من ابتناء الإشاعة علي عناية يعلم بعدم قصد المتبايعين لها، بل هما معاً من الكلي في المعين.

بل لو فرض انحصار الوجه في التوزيع بالبناء علي الإشاعة، تعين البناء علي عدم التوزيع بعدم قصد المتبايعين لها.

إلا أن الظاهر عدم انحصار الأمر بها، لأن ثبوت الحق المالي في العين يقتضي بطبعه ورود النقص عليه تبعاً لورود النقص عليها، كما في الوصية والزكاة وغيرهما.

وذلك حكم عرفي أشبه بقاعدة العدل والإنصاف.

فيجري ذلك في المقام.

وإنما لا يجري في البيع لعدم ابتناء البيع علي مجرد استحقاق المبيع وهو الكلي في المقام بل علي تعهد البائع به زائداً علي ذلك، ولذا لا يمنع البائع من بيع بعض الصبرة اكتفاء بالتعهد المذكور.

ومن الظاهر أن النقص لا يمنع من تنفيذ التعهد المذكور بعد بقاء موضوعه.

ولذا لو كان استحقاقه من غير طريق البيع كالوصية لحقه النقص إذا تجاوز الثلث بعد حصول النقص.

كما أنه لو لم يبتن الاستثناء في المقام علي قصور المبيع عن المستثني، بل علي تعهد المشتري للبائع بالمقدار المستثني، نظير الشرط مع كون المبيع تمام الثمرة تعين عدم دخول النقص.

لكنه أمر غير الاستثناء، ويحتاج إلي عناية، وهو خارج عن محل الكلام.

هذا ما يظهر لنا عاجلاً في وجه الفرق.

ص: 379

في استثناء ثمرة شجرات

نعم الظاهر أن ذلك إنما يتم إذا كان التلف بعد بلوغ الثمرة وصلوحها للقطف والأكل.

وقد يناسبه ما في بعض كلمات من سبق من التعبير بهلاك الثمرة.

أما إذا رجع إلي حصول الآفة المانعة من ظهور الثمرة في بعض الأشجار أو من بلوغها ونضجها، أو حصول ما يوجب سقوطها قبل نضجها كالأعاصير فالظاهر عدم استثنائها.

لابتلاء الثمار نوعاً بذلك، بحيث يفوت منها مقدار لا يستهان به، مع غفلة العرف عن توزيعها علي الثمرة المستثناة.

ولاسيما مع ما يأتي من توقف معرفة مقدار النقص الوارد علي المستثني علي تخمين مقدار الفائت من الثمرة، مع ما هو المعلوم من تعرض التخمين للخلاف، خصوصاً مع غلبة اختلاف مقدار الناتج مع عدم الآفة باختلاف السنين، حيث يستوجب ذلك كثيراً من المشاكل ليس بناء العرف عليها في المقام، ولا علي الإقدام علي المعاملة نوعاً لو كانت مستلزمة لها.

وحينئذٍ يكون السكوت عن التنبيه للتوزيع مع ذلك في الصحيحين ظاهر في عدمه.

هذا مضافاً إلي قرب كون مورد الصحيحين، بل قصد المتبايعين نوعاً، هو الاستثناء من الثمرة البالغة الصالحة للأكل، لا من الثمرة الشأنية التي يقع البيع عليها، فلا موضوع للتوزيع إلا بعد البلوغ.

وأما ما في الجواهر عن التذكرة هنا من أنه لو صرح بإرادة الاستثناء مما يسلم من الثمرة أمكن بطلان البيع.

فلم يتضح الوجه فيه.

ومجرد الجهل بمقدار السالم لا يكفي في البطلان، إذ هو كالجهل بمقدار الثمرة المتوقعة لو لم تصبها علة، فإن الجهل في بيع الثمار مغتفر قطعاً.

علي أن الموجود في التذكرة لا ظهور له في ذلك.

قال: «أما لو استثني مائة رطل مثلاً من الثمرة ومما يتخلف منها احتمل بطلان البيع».

وإن كان هو لا يخلو عن غموض.

إلا أن يريد بذلك الاستثناء من كل من السالم والتالف، لبيان أن ذلك وإن

ص: 380

(381)

الكلام في بيع الثمرة مع الأصول

معرفته (1) تخمين الفائت (2) بالثلث أو الربع مثلاً، ثم تنسب الأرطال (3) إلي المجموع، ويسقط منها بالنسبة.

فإن كان الفائت الثلث يسقط منها الثلث، وإن كان الربع يسقط الربع، وهكذا.

(مسألة 11): يجوز بيع ثمرة النخل وغيره في أصولها بالنقود وبغيرها (4)، كالأمتعة والحيوان والطعام، وبالمنافع والأعمال وغيرها، كغيره

-

رجع عملاً للتوزيع، إلا أنه يحتمل بطلانه، للغوية الاستثناء من التالف.

وهو مع عدم خلوه عن الإشكال غير ما نسبه له في الجواهر، وأجنبي عن المقام.

ومثله دعوي: أن ذلك لا يناسب كلماتهم في المقام.

إذ هي لو تمت لا تنفع في الخروج عما عليه العرف، وأكده الصحيحان، لعدم بلوغ ذلك منهم حدّ الإجماع التعبدي الصالح للاستدلال، بل من القريب جداً ابتناؤه علي الاجتهاد غفلة عما عليه العرف.

فلاحظ.

والله سبحانه وتعالي العالم.

(1) يعني: في الصورة الثالثة.

أما في الثانية فالمتعين استحقاق البائع مقدار الجزء المشاع من الثمرة السالمة، كما هو ظاهر.

(2) يعني: مع اتفاق الطرفين ولو بعد الرجوع لأهل الخبرة، الذي هو نحو من الصلح بينهما.

ومع التشاح والتنازع لابد من رفع الأمر للحاكم الشرعي.

والظاهر أن الأصل مع البائع، لتبعية الثمرة للأصول في الملكية، فيقتصر في الخروج عنها علي المتيقن بسبب البيع.

(3) يعني: إذا كان المستثني محدداً بالرطل.

(4) بلا خلاف ولا إشكال، كما في مفتاح الكرامة والجواهر.

لعمومات الصحة والنفوذ.

ولا فرق بين أن يبيعه بطعام من جنسه وأن يبيعه بغيره، لعدم لزوم الربا بعد كون الثمر علي الشجر ليس من المكيل ولا من الموزون، كما تقدم نظيره في المسألة الثامنة والتاسعة من الفصل التاسع في الربا.

ص: 381

نعم في موثق سماعة أو صحيحه: «سألته عن الزرع، فقلت: جعلت فداك رجل زرع زرعاً مسلماً كان أو معاهداً أنفق فيه نفقة، ثم بدا له في بيعه لنقله [لنقلة.

يب] ينتقل من مكانه أو لحاجة.

قال: يشتريه بالورق، فإن أصله طعام»(1) ، وقريب منه موثقه الآخر أو صحيحه(2).

ومناسبة التعليل تقتضي حمله علي صورة اتحاد الجنس.

وإلا كان مجملاً.

ودعوي: أن الزرع مباين للطعام، ولم يفرض في السؤال أنه صار فيه الحب الذي هو الطعام.

مدفوعة بأن التعليل قد يبتني علي جريان الربا فيما إذا رجع الجنسان إلي أصل واحد، كما ورد نظيره في الحنطة والشعير.

وإن كان من البعيد جداً تعميم الأصل لمثل ذلك، كيف ولازمه عدم جواز بيع التبن بالطعام، ولا بيع خشب الشجر الذي أصله البذر بثمره.

ومن هنا لا يخلو التعليل عن غموض.

هذا مضافاً إلي النصوص المصرحة بجواز بيعه، كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: «قال: لا بأس أيضاً أن يشتري زرعاً قد سنبل وبلغ بحنطة»(3) ، وصحيحه الآخر: «قال أبو عبد الله (عليه السلام) في رجل قال لآخر: بعني ثمرة نخلك هذا الذي فيها بقفيزين من تمر أو أقل أو أكثر يسمي ما شاء فباعه.

فقال: لا بأس به.

وقال: التمر والبسر من نخلة واحدة لا بأس به.

فأما أن يخلط التمر العتيق و [أو.

في] البسر فلا يصلح.

والعنب والزبيب مثل ذلك»(4).

وقد يستفاد من غيرهما.

ومن هنا يتعين حمل حديثي سماعة علي الكراهة، كما قد يناسبه صحيح يعقوب بن شعيب: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون له علي الآخر مائة كر تمر، وله نخل، فيأتيه فيقول: اعطني نخلك هذا بما عليك.

فكأنه كرهه»، ونحوه صحيح

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 13 من أبواب بيع الثمار حديث: 3، 4، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 6 من أبواب بيع الثمار حديث: 1.

ص: 382

(383)

الكلام في المزابنة

من أفراد البيع.

نعم لا تجوز المزابنة (1).

وهي بيع ثمرة النخل - تمراً كانت

---------------

الحلبي(1).

ويأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالي.

(1) لا إشكال نصاً وفتوي في حرمة المزابنة والمحاقلة.

ودعوي الإجماع علي ذلك مستفيضة، وإنما الكلام في تحديدهما.

قال في المبسوط: «بيع المحاقلة والمزابنة محرم بلا خلاف، وإن اختلفوا في تأويله.

فعندنا أن المحاقلة بيع السنابل التي انعقد فيها الحب واشتد بحب من ذلك السنبل.

ويجوز بيعه من جنسه علي ما روي في بعض الأخبار.

والأحوط أن لا يجوز بحب من جنسه علي كل حال، لأنه لا يؤمن أن يؤدي إلي الربا.

والمزابنة هي بيع التمر علي رؤوس النخل بتمر منه.

فأما بتمر موضوع علي الأرض فلا بأس به.

والأحوط أن لا يجوز ذلك لمثل ما قلناه في بيع السنبل سواء».

وهو كالصريح في اختصاص المحاقلة والمزابنة عندنا بما إذا كان الثمن من عين المثمن، وإن الاحتياط بالتعميم لشبهة الربا، لا لعموم المزابنة والمحاقلة.

وقريب منه في المهذب وكذا في الوسيلة والنافع لكن مع البناء علي عموم التحريم.

واقتصر في النهاية علي تحريم الأول، وصرح بجواز الثاني، من دون أن يشير للاحتياط المذكور.

وعليه جري في التذكرة وحكي عن الراوندي وأبي الصلاح وابن البراج في الكامل.

وعلي ذلك جري في الخلاف في المحاقلة تعريفاً وتحريماً مع التصريح بالتحليل في البيع بحنطة من غير ذلك السنبل، مدعياً ورد رواية أصحابنا به، وإن نبّه لخلاف بعضهم.

مستنداً في التحليل للأصل بعد قصور إجماع أصحابنا عنه.

أما المزابنة فقد قال في تعريفها: «بيع الثمر علي رؤوس الشجر بثمر موضوع علي الأرض.

وهو محرم بلا خلاف.

ومن أصحابنا من قال: إن المحرم هو أن يبيع ما

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 6 من أبواب بيع الثمار حديث: 2 وذيله.

ص: 383

علي الرؤوس من النخل بتمر منه، فأما بتمر آخر فلا بأس به.

والخبر الذي قدمناه يدل علي ذلك».

لكن أطلق في المقنعة تحريم بيع الثمرة في رؤوس النخل وتحريم بيع الزرع بالحنطة، ثم قال: «وهذه هي المحاقلة التي نهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عنها وحظرها في شريعة الإسلام» وقريب منه في المراسم وأصر علي العموم في السرائر، ونسبه لجماعة من أصحابنا، كما صرح بالعموم في الغنية والشرائع ونكت النهاية وكشف الرموز والمختلف والتحرير والقواعد والإرشاد علي ما في بعض نسخه والدروس واللمعتين والتنقيح وجامع المقاصد والمسالك وعن غيرها، وفي مفتاح الكرامة أنه المشهور المعروف، وفي الجواهر أنه المشهور نقلاً وتحصيلاً.

ويدل عليه صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عن المحاقلة والمزابنة.

قلت: وما هو؟ قال: أن يشتري حمل النخل بالتمر والزرع بالحنطة»(1).

وقريب منه موثقه، إلا أنه قال فيه:

«المحاقلة النخل بالتمر، والمزابنة السنبل بالحنطة...» (2) .

وعن أبي عبيدة القاسم بن سلام بأسانيد عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): «أنه نهي عن بيع المحاقلة والمزابنة.

فالمحاقلة بيع الزرع وهو في سنبله بالبر، والمزابنة بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر»(3).

لكن الظاهر أن التفسير ليس منه (صلي الله عليه وآله وسلم)، فلا ينفع في المقام.

فالعمدة الأولان.

نعم هما معارضان بصحيحي الحلبي المتقدمين.

وحيث يتعذر الجمع بينها بالكراهة، للإجماع علي حرمة المزابنة والمحاقلة، تعين إما البناء علي التساقط والاقتصار علي المتيقن من المزابنة والمحاقلة، وهو الأخص.

أو حمل حديثي عبد الرحمن علي العهد، فإن التمر والحنطة وإن لم يتقدما بلفظهما، إلا أنهما تقدما بمعناهما عند ذكر حمل النخل والزرع.

وحينئذٍ يكونان أخص من صحيحي الحلبي لو تم عمومهما لما إذا كان

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 13 من أبواب بيع الثمار حديث: 1، 2، 5.

ص: 384

الثمن ثمر النخل وحنطة الزرع المبيعين، ولم ينصرفا عن ذلك بلحاظ ارتكاز التباين بين الثمن والمثمن.

ويؤيد ذلك أو يعضده صحيح الحسن بن علي، يعني الوشا: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل اشتري من رجل أرضاً جرباناً معلومة بمائة كر علي أن يعطيه من الأرض.

فقال: حرام.

فقلت: جعلت فداك فإني أشتري الأرض بكيل معلوم وحنطة من غيرها.

قال: لا بأس بذلك»(1).

بناء علي عدم الجمود علي لفظه من شراء نفس الأرض، لعدم المنشأ لاحتمال التحريم في شرائها بزرع منها، ليقع السؤال عنه، وعدم بناء الأصحاب علي حرمته، ليناسب الجواب، حيث قد يصلح ذلك قرينة علي حمله علي شراء زرع الأرض.

وموثق الكناني: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)، يقول: إن رجلاً كان له علي رجل خمسة عشر وسقاً من تمر، وكان له نخل، فقال له: خذ ما في نخلي بتمرك.

فأبي أن يقبل.

فأتي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، فقال: يا رسول الله لفلان عليّ خمسة عشر وسقاً من تمر، فكلمه يأخذ ما في نخلي بتمره، فبعث النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) إليه، فقال: يا فلان خذ ما في نخله بتمرك.

فقال: يا رسول الله لا يفي، وأبي أن يفعل.

فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) لصاحب النخل: اجذذ نخلك، فجذه، فكاله، فكان خمسة عشر وسقاً.

فأخبرني بعض أصحابنا عن ابن رباط، ولا أعلم إلا أني قد سمعته منه أن أبا عبد الله (عليه السلام) قال: إن ربيعة الرأي لما بلغه هذا عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: هذا ربا.

قلت: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين.

قال: صدقت»(2).

وهو وإن لم يصرح فيه بالبيع، إلا أن سكوت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) من بعده، وعدم تنبيههما إلي أنه يجب أن لا يقع علي وجه البيع، موجب لظهوره في عموم الجواز لما إذا وقع علي وجه البيع، لأنه الوجه الشائع، فينفع في المطلوب.

وعلي ذلك

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 12 من أبواب بيع الثمار حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 6 من أبواب بيع الثمار حديث: 3.

ص: 385

يصلح الحديثان شاهدين علي حمل حديثي عبد الرحمن علي العهد.

نعم في موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: رخص رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في العرايا بأن يشتري بخرصها تمراً.

قال: والعرايا جمع عرية.

وهي النخلة تكون للرجل في دار رجل آخر، فيجوز له أن يبعها بخرصها تمراً.

ولا يجوز ذلك في غيره»(1).

ومقتضي إطلاقه كون الثمن في العرية مطلق التمر لا خصوص التمر منها.

كما أن مقتضي ذيله اختصاص الترخيص بها، والمنع من ذلك في غيرها.

لكن يمكن بقرينة النصوص السابقة حمل إطلاق التمر فيه علي خصوص التمر منها، لكون ذلك هو المعهود في العرية، والمناسب للغرض من بيعها، وهو تجنب دخول مالك النخلة لدار من هي في داره من دون أن يحرم من ثمرها.

علي أن من البعيد جداً كون التفسير وما بعده من الإمام (عليه السلام)، حيث لا يعهد منهم (عليهم السلام) إرجاع الجمع للمفرد، وإنما ذلك نهج مستحدث للمؤلفين، فيقرب كونه من بعض من هو في سلسلة السند قد أثبته في كتابه تعقيباً علي الحديث وشرحاً له.

فلا يكون ما تضمنه الذيل من اختصاص الترخيص بالعرية حجة.

ولعل وجه التنبيه للترخيص في العرية شيوع الابتلاء بها، فورد السؤال عنها من أجل شبهة الربا، وورد الترخيص فيها لذلك من دون أن ينافي عموم الترخيص لغيرها.

ثم إنه مما تقدم يظهر أنه لا مجال لشبهة الربا الذي يظهر من غير واحد كونها منشأ الحرمة.

ومن ثم لو تمت الحرمة فهي مخالفة للقاعدة يقتصر فيها علي مفاد أدلتها.

كما أن بيع ثمرة النخل بتمر منها وإن كان هو المتيقن من المزابنة المتفق علي تحريمها، إلا أنه قد ينافيه قوله في ذيل صحيح الحلبي الثاني المتقدم: «التمر والبسر من نخلة واحدة فلا بأس به».

بدعوي ظهوره في جواز بيع البسر بالتمر من نخلة واحدة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 14 من أبواب بيع الثمار حديث: 1.

ص: 386

لكنه لا يخلو عن إجمال، لعدم وضوح كون المراد بيع أحدهما بالآخر، ولاسيما مع احتمال كونه كلاماً مستقلاً للإمام (عليه السلام)، لا من تتمة الكلام الأول المسوق جواباً عن السؤال عن البيع.

بل لعل المراد كون أحد العوضين مخلوطاً منهما.

كما قد يناسبه قوله: «فأما أن يخلط التمر العتيق والبسر فلا يصلح».

علي أنه لا مجال للتعويل عليه بعد ظهور اتفاق النص والفتوي علي حرمة المزابنة وكون ذلك هو المتيقن منها.

بقي شيء.

وهو أنه قد يدعي امتناع بيع حمل النخل بثمرة منها في نفسه، لاتحاد الثمن والمثمن، فيكون النهي عنه مطابقاً للقاعدة، ويتعدي منه لغيره من موارد بيع حمل الشجر والزرع بثمر منه.

لكن من الظاهر أن بيع الثمر في نفسه لا يبتني علي تملك الثمر حين البيع، حيث قد لا يكون موجوداً فلابد أن يبتني علي التمليك معلقاً علي وجود الثمر، ولا يكون أثر البيع حين وقوعه إلا ثبوت الحق في الأصول بنحو يقتضي ملكية الثمرة حين ظهورها.

وحينئذٍ يمكن فرض ذلك في بيع الثمرة بثمرة منها فيما لو اختلف زمان ملكية الثمن مع زمان ملكية المثمن، كما لو كان الثمر المبيع غير ظاهر أصلاً، وكان الثمر الثمن هو الثمر بعد جذاذه، حيث يرجع البيع إلي ثبوت حق في الأصول يقتضي ملكية المشتري للثمر بمجرد ظهوره، في مقابل حق للبائع في الثمر يقتضي جذ قسم منه وتملكه بعد الجذ.

وأما لو بيع الثمر بعد ظهوره قبل نضجه أو بعده، فيرجع إلي ملكية المشتري للثمر فعلاً في مقابل ثبوت حق للبائع فيه يقتضي جذ قسم منه وتملكه بعد الجذ.

نعم ثبوت صحة البيع المذكور يتوقف علي شمول عموم صحة البيع لذلك.

وهو لا يخلو عن إشكال، لأن البيع المعهود عرفاً هو البيع المقتضي لملكية المتبايعين كلا من العوضين فعلاً الموقوف علي تباين العوضين.

كما إن إطلاقات جواز بيع الثمار قد تنصرف لما هو المتعارف المعهود من بيعها

ص: 387

أو رطباً أو بسراً أو غيرها (1) - بالتمر، دون الرطب والبسر أو غيرهما (2)،

---------------

بثمن مباين لها، فيتوقف تصحيح بيعها بجزء منها علي الدليل الخاص، ويتعين البناء علي البطلان بدونه.

اللهم إلا أن يتمسك لصحته بعموم نفوذ العقود، وإن قصرت عنه إطلاقات البيع أو بيع الثمار.

فإنه عقد عرفي قد سبق إمكان صحته في نفسه، فيكفي العموم المذكور في البناء علي صحته.

وأظهر من ذلك ما إذا رجعت المعاملة إلي الاتفاق بين الطرفين علي أن يكون الزائد من الثمرة علي المقدار المتفق عليه لغير صاحب الشجر في مقابل خدمته أو خدمة الثمرة بقطفها في أوانها وتسليم المقدار المتفق عليه منها لصاحب الشجر، من دون أن يتكلف هو ذلك.

فلاحظ.

والله سبحانه وتعالي العالم.

(1) إذ بعد البناء علي عموم المزابنة عملاً بحديثي عبد الرحمن المتقدمين فموضوع المنع في صحيحه هو بيع حمل النخل الشامل لجميع ذلك.

وعليه يحمل المنع عن بيع النخل في موثقه.

ولو كان البيع في المقام قبل ظهور الثمر تعين بطلانه تعدياً عن مورد الصحيح، لفهم عدم الخصوصية أو بالأولوية العرفية.

بل قد يستفاد من إطلاق الموثق.

هذا بناءً علي جواز بيع الثمر قبل طلوعه في غير المقام، أما بناءً علي عدم جوازه فالأمر أظهر.

فلاحظ.

(2) لاختصاص الصحيحين بالتمر فالتعدي لغيره يبتني علي كون علة التحريم الربا، أو فهم عدم الخصوصية.

والأول قد سبق المنع منه.

والثاني لا يخلو عن إشكال.

نعم مقتضي إطلاق سيدنا المصنف (قده) جواز بيع ثمرة النخل بغير التمر حتي إذا كان من نفس الثمرة.

وهو لا يناسب ما يأتي منه من المنع من بيع ثمر غير النخل

ص: 388

(389)

الكلام في العموم لغير النخل

سواء من ثمره أم من غيره (1)، في الذمة أم معيناً في الخارج (2).

وفي عموم المنع لثمر غير النخل إشكال.

والأظهر الجواز (3)، إلا إذا كان بيعها بمقدار

---------------

بثمر منه.

فإن وجهه عنده (قده) ينحصر بما سبق الكلام فيه من محذور اتحاد الثمن والمثمن، وهو يجري في المقام.

ومن ثم لا يبعد عدم إرادته (قده) ذلك من الإطلاق.

(1) مما سبق يظهر الإشكال في عموم المنع لما إذا كان من غيره، بل الأظهر فيه الجواز.

(2) كما هو مقتضي إطلاق التمر في الحديثين.

(3) لقصور الحديثين عنه، والتعدي عن موردهما يبتني إما علي إلغاء خصوصية النخل والتمر عرفاً وفهم العموم لبيع كل ثمر في شجره بثمر من جنسه منفصل عنه، أو علي لزوم الربا من البيع المذكور.

والأول مخالف لظاهر النص جداً بعد وروده في مقام التحديد.

كما لا مجال للثاني علي ما سبق.

ومن هنا ذكر في التذكرة أن العموم هو المتعين لو كان لوجه في منع المزابنة والمحاقلة هو لزوم الربا والاقتصار علي النصوص هو المتعين لو لم يكن الوجه في المنع ذلك.

لكن صرح بعموم المنع في الدروس واللمعتين وجامع المقاصد والمسالك ومحكي شرح الإرشاد والميسية، وفي الروضة أنه المشهور.

وينحصر الوجه فيه بشبهة الربا، أو التعدي عن مورد حديثي عبد الرحمن، أو المنع من بيع الرطب بالجاف.

وقد عرفت عدم جريان الأول، والمنع من الثاني، كما سبق في المسألة الحادية عشرة من الفصل التاسع في الربا المنع من الثالث.

مع أنه لو تم فالظاهر اختصاصه بالمكيل والموزون، ورجوعه لمحذور الربا الذي سبق عدم جريانه في المقام.

وما يظهر من جامع المقاصد وغيره من كونه محذوراً مستقلاً عن محذور لزوم الربا غريب جداً.

ص: 389

منها فالأظهر عدم جوازه (1).

(مسألة 12): يجوز أن يبيع ما أشتراه من الثمر بثمن زائد علي ثمنه الذي اشتراه به أو ناقص أو مساو، سواء أباعه قبل قبضه أم بعده (2).

-

علي أن ذلك يختص ببيع الرطب بالجاف أو العكس ولا يجري في بيع الجاف بالجاف والرطب بالرطب.

مع أن الظاهر منهم عموم المنع في المقام لذلك.

(1) كما في الجواهر.

وكأنه لوجوب التباين بين الثمن والمثمن الذي تقدم الكلام فيه آنفاً.

(2) بلا خلاف ولا إشكال، كما في الجواهر، وفي المسالك أن المسألة محل وفاق.

ويقتضيه عموم أدلة الصحة والنفوذ بعد عدم كون المبيع من المكيل والموزون، ليجري فيه ما سبق في المسألة السادسة من الفصل السابع من الكلام في بيعه قبل قبضه.

مضافاً إلي النصوص، كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن الرجل يشتري الثمرة ثم يبيعها قبل أن يأخذها.

قال: لا بأس به.

وإن وجد ربحاً فليبع»(1).

وقريب منه صحيح محمد بن مسلم(2).

بناء علي ما هو الظاهر، وجري عليه الأصحاب، من انصراف بيع الثمرة إلي بيعها في أصولها.

ولا أقل من كون ذلك هو المتيقن، أو لزوم حمله عليه بقرينة النصوص المانعة من بيع المكيل والموزون قبل قبضه.

ومعتبر إبراهيم الكرخي: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) قلت له: إني كنت بعت رجلاً نخلاً كذا وكذا نخلة بكذا وكذا درهماً، والنخل فيه تمر، فانطلق الذي اشتراه مني، فباعه من رجل آخر بربح، ولم يكن نقدني ولا قبضته.

فقال: لا بأس بذلك.

أليس كان قد ضمن لك الثمن ؟ قلت: نعم.

قال: فالربح له»(3) ، بناء علي حمل بيع النخل فيه علي بيع ثمره، كما هو غير بعيد.

وصرح في النافع بكراهة البيع المذكور.

وفي مفتاح الكرامة: «ولم نجد له

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 7 من أبواب بيع الثمار حديث: 2، 3، 1.

ص: 390

(391)

الكلام في بيع الزرع قبل ظهوره

(مسألة 13): لا يجوز بيع الزرع قبل ظهوره (1).

ويجوز الصلح

---------------

موافقاً».

وربما استدل له بإطلاق النهي عن بيع ما لم يقبض.

لكن ظاهره في باب القبض اختصاص كراهة بيعه بالمكيل والموزون.

(1) يظهر منهم المفروغية عنه جرياً علي ما تقدم منهم في بيع ثمر الشجر.

لكن من الظاهر الفرق بأن ثمر الشجر لا وجود له قبل ظهوره، فيرجع بيعه إلي ملكيته معلقاً علي ظهوره.

وهو وإن كان ممكناً في بيع الثمار في الجملة كما تقدم إلا أنه مخالف للقاعدة التي سبق منّا التنبيه لها في أول الكلام في بيع الثمار، وتقدم تفصيل الكلام فيها عند الكلام في اعتبار القدرة علي التسليم من لزوم إحراز سلامة بعض المبيع عند البيع، فينحصر وجه الجواز فيه في النصوص المتقدمة، علي الكلام السابق في دلالتها أولاً، وفي مخالفتها للإجماع ثانياً.

أما في المقام فلا مجال للقاعدة المذكورة، لأن الزرع قبل ظهوره علي وجه الأرض بل وإن كان بذراً بعد لم ينفلق له وجود عرفي صالح للتملك فعلاً، كما أن له مالية بلحاظ توقع نموه.

غايته أنه معرض للخطر، وهو ليس محذوراً، كما سبق عند الكلام في بيع الثمرة بعد ظهورها قبل بدو صلاحها.

والذي يشبه بيع الثمرة قبل ظهورها هو بيع ثمرة الزرع من الحب ونحوه قبل ظهورها، بحيث ينفرد المبيع بها من دون أن يكون الزرع في جملة المبيع، ولا مملوكاً للمشتري.

وهو خارج عن مفروض كلامهم من بيع الزرع نفسه.

علي أنه يشهد بجوازه معتبر زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في زرع بيع وهو حشيش ثم سنبل.

قال: لا بأس إذا قال: ابتاع منك ما يخرج من هذا الزرع، فإذا اشتراه وهو حشيش، فإن شاء أعفاه، وإن شاء تربص به»(1).

حيث تضمن جواز شراء الحب قبل ظهوره وظهور السنبل.

نعم هو مختص بما إذا ظهر الزرع الذي ينتج

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب بيع الثمار حديث: 9.

ص: 391

عليه.

كما يجوز بيعه تبعاً للأرض لو باعها معه (1).

أما بعد ظهوره فيجوز

---------------

الحب، ولا يعم شراؤه قبل ذلك.

اللهم إلا أن يقال: ظاهر الحديث شراء نفس الحشيش، حيث صرح بذلك في السؤال والجواب، ولاسيما مع التصريح بأن له أن يعفيه الذي يراد به جزّه وهو حشيش، إذ هو كالصريح في ملكية المشتري للحشيش قبل ظهور الزرع فيه.

فيتعين حمل الشرط فيه علي كون المراد هو شراء الحشيش بنحو له إبقاؤه حتي يسنبل وينتج الحب، فالحب غير الموجود حين البيع ليس هو تمام المبيع، كما هو محل الكلام، بل ناتج المبيع الموجود فعلاً وهو الحشيش.

فلاحظ.

وكيف كان فمما سبق يظهر ضعف الاستدلال لحرمة شراء البذر بلزوم الغرر، كما في الجواهر.

نعم قد يستدل لحرمة شرائه البذر والزرع قبل ظهوره علي وجه الأرض بمعتبر المعلي بن خنيس: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أشتري الزرع ؟ قال: إذا كان قدر شبر»(1).

لكن لا مجال للبناء علي اشتراط بلوغ الحد المذكور بعد إطلاق النصوص الكثيرة بجواز شراء الزرع وظهور جري الأصحاب عليها من دون تقيد بهذا الحد، حيث يتعين حمله علي الاستحباب أو غيره مما لا ينافي الإطلاق المذكور، كما أشار إلي ذلك في الجواهر.

فلم يبق في المقام إلا ظهور الإجماع الذي يصعب التعويل عليه في الثمرة قبل ظهورها كما سبق فضلاً عن المقام.

ولعله لذا كان ظاهر بعض مشايخنا (قده) التوقف في المسألة.

فلاحظ.

(1) قال في الجواهر: «وفي الصلح وجه، كالوجه لو شراه تبعاً للأرض».

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب بيع الثمار حديث: 4.

ص: 392

بيعه مع أصله (1)، بمعني بيع المقدار الظاهر مع أصوله الثابتة.

فإن شاء

---------------

وكأن وجه الصلح خروجه عن المتيقن من الإجماع المدعي، لأن كلامهم في البيع.

إلا أن يفهم منه العموم.

لكنه في غاية الإشكال، بل المنع.

وأما البيع تبعاً للأرض فلا ينبغي الإشكال في جوازه.

لما سبق من جواز بيع ما لا يحرز سلامته مع الضميمة، خصوصاً إذا كانت الضميمة هي المقصودة بالأصل، كما في المقام.

بل الظاهر قيام سيرة المتشرعة علي ذلك، لشيوع وجود البذر المقصود وغير المقصود حين بيع الأرض الزراعية فيها، مع بناء المتبايعين علي انقطاع علقة البائع بها.

(1) قال في الجواهر: «وأما شراء الزرع قبل أن يسنبل فلا إشكال، بل ولا خلاف معتد به، في جواز شرائه مع اشتراط التبقية أو القصل أو بدونهما».

ويقتضيه مضافاً إلي عمومات الصحة النصوص المستفيضة، كصحيح الحلبي: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا بأس بأن يشتري زرعاً أخضر، ثم تتركه حتي تحصده إن شئت أو تعلفه [تقلعه. صا] من قبل أن يسنبل وهو حشيش...»(1).

وصحيح بكير بن أعين: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أيحل شراء الزرع الأخضر؟ قال: نعم لا بأس به»(2) ، ونحوه صحيح زرارة: «وقال: لا بأس أن تشتري الزرع والقصيل أخضر، ثم تتركه إن شئت حتي يسنبل ثم تحصده.

وإن شئت أن تعلف دابتك قصيلاً فلا بأس به قبل أن يسنبل.

فأما إذا سنبل فلا تعلفه رأساً [تقطعه رأساً رأساً.

صا] فإنه فساد»(3) ، وغيرها.

هذا ولم يعرف الخلاف في ذلك إلا ما نسب للصدوق في باب المزارعة من المقنع من منع بيع الزرع قبل السنبل إلا مع القصل يعلفه للدواب.

لكن ملاحظة كلامه بتمامه لا تشهد بذلك.

قال (قده): «وسئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن شراء القصيل يشتريه الرجل فلا يقصله ويبدو له في تركه حتي يخرج سنبله شعيراً

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب بيع الثمار حديث: 1، 2، 3.

ص: 393

المشتري فصله، وإن شاء أبقاه (1).

-

أو حنطة، وقد اشتراه من أصله، وعلي أربابه خراج.

فقال: إن كان اشترط حين اشتراه إن شاء قطعه قصيلاً وإن شاء تركه كما هو حتي يصير سنبلاً، وإلا فلا ينبغي له أن يتركه حتي يكون سنبلاً.

ولا يجوز أن يشتري زرع الحنطة والشعير وهو حشيش إلا أن يشتريه للقصيل تعلفه الدواب».

وصدره يشهد بأن المراد بذيله خصوص صورة ما إذا لم يشترط أن له الإبقاء، لا مطلقاً، بحيث لا يجوز شراؤه إلا للقصل، كما هو ظاهر ما نسب له.

وكيف كان فقد يستدل للقول المذكور كما في مفتاح الكرامة بمعتبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن الحنطة والشعير أشتري زرعه قبل أن يسنبل وهو حشيش.

قال: لا، إلا أن يشتريه لقصيل يعلفه الدواب، ثم يتركه إن شاء حتي يسنبل»(1).

لكن كلام الصدوق المتقدم لا يناسب ذيل الحديث.

ومن هنا كان من القريب حمل الزرع فيه علي نفس الحب، لبيان أنه لا يجوز شراؤه قبل انعقاده، وأنه يمكن تحصيل نتيجة ذلك بشراء الأصل وهو قصيل يصلح لعلف الدواب، ثم يتركه حتي يسنبل وينعقد الحب فيه، فيكون الحب له، لأنه نماء ملكه.

نظير ما ذكره (قده) في حديث معاوية بن عمار: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا تشتر الزرع ما لم يسنبل.

فإذا كنت تشتري أصله فلا بأس بذلك.

..»(2).

وعلي كل حال لا مجال للخروج عن النصوص الكثيرة المتقدمة بمعتبر أبي بصير، بل لابد إما من طرحه، أو حمله علي ما ذكرنا، أو علي الاستحباب كما في مفتاح الكرامة أو غير ذلك.

(1) لا ينبغي الإشكال في جواز الإبقاء مع اشتراطه، وفي وجوب القلع مع

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب بيع الثمار حديث: 10، 5.

ص: 394

اشتراطه.

وإنما الإشكال مع عدم الشرط.

ففي السرائر والتحرير أنه يجب علي البائع الإبقاء، وفي مفتاح الكرامة أنه ظاهر إطلاق الفتاوي وجملة من النصوص.

وكأنه يريد صحيحي الحلبي وزرارة المتقدمين والمصرح فيهما بتخيير المشتري بين الإبقاء حتي يسنبل وعلف الدواب به، ومعتبر سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: لا بأس بأن يشتري زرعاً أخضر.

فإن شئت تركته حتي تحصده، وإن شئت فبعه حشيشاً»(1).

وبذلك يخرج عما تقتضيه القاعدة من وجوب قبض المبيع وأخذه، وعدم إشغال أرض البائع به، لابتناء البيع علي ذلك.

لكن يظهر مما تقدم من المقنع عدم جواز إبقائه إلا مع الشرط، عملاً بموثق سماعة أو صحيحه الذي أشار إليه في صدر كلامه: «سألته عن شراء القصيل يشتريه الرجل فلا يقصله، ويبدو له في تركه حتي يخرج سنبله شعيراً أو حنطة، وقد اشتراه من أصله.

وما كان علي أربابه من خراج فهو علي العلج.

قال: إن كان اشترط حين اشتراه إن شاء قطعه وإن شاء تركه كما هو حتي يكون سنبلاً.

وإلا فلا ينبغي له أن يتركه حتي يكون سنبلاً»(2).

وزاد في بعض طرقه: «فإن فعل فإن عليه طسقه ونفقته، وله ما خرج منه»(3).

وفي مفتاح الكرامة أنه ظاهر في الكراهة دون التحريم.

وهو كما تري، فإن (لا ينبغي) إن لم تكن ظاهرة في التحريم، فلا أقل من عدم ظهورها في الكراهة، بل هي صالحة للوجهين، ويتعين حملها علي التحريم هنا بلحاظ ظهور صدر الحديث في السؤال عن الجواز، فتعليقه علي الشرط حين الشراء ظاهر في الحرمة مع عدم الشرط.

ولاسيما مع ما سبق من ابتناء البيع علي الإسراع بأخذ المبيع وتفريغ أرض البائع منه.

ومثله ما في الجواهر من لزوم حملها علي الكراهة، لما هو المعلوم من النص والفتوي من أن للمشتري الإبقاء مع عدم اشتراط القطع صريحاً أو ضمناً.

إذ فيه: أن حمل النصوص المتقدمة علي قيام القرينة حين العقد علي كون شراء

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب بيع الثمار حديث: 6، 7، 8.

ص: 395

فإن أبقاه حتي يسنبل كان له السنبل (1)،

---------------

الزرع الأخضر من أجل الحصول علي ناتجه الراجع لاشتراط الإبقاء ضمناً أقرب عرفاً من حمل حديث سماعة علي الكراهة.

بل لعل ذلك هو منصرف النصوص المذكورة بدواً، حيث يقرب جداً ورودها من أجل الشبهة في شراء الحب قبل ظهوره وانعقاده، فيراد التخلص من ذلك بشراء نفس الزرع الذي من شأنه أن ينتجه.

ومن هنا لا مخرج عن ظاهر حديث سماعة المطابق لمقتضي القاعدة، والمعتضد بحديث زرارة الذي سبق الكلام فيه عند الكلام في حرمة بيع الزرع قبل ظهوره.

فراجع.

وأما الفتوي فهي ليست من الوضوح بحيث تبلغ حدّ الإجماع التعبدي الصالح لإثبات الحكم الشرعي، لقلة من صرح بذلك، وقرب انصراف إطلاق غيرهم إلي صورة ظهور حال المتبايعين في فرض شراء الزرع من أجل ما ينتجه، نظير ما تقدم في النصوص التي هي دليلهم.

ولاسيما مع ما سبق من المقنع.

ومع ما في المقنعة والنهاية والشرائع والنافع من أنه إذا باع الزرع قصيلاً كان علي المشتري قطعه.

وحمله كما في السرائر والجواهر علي صورة اشتراط القطع خالٍ عن الشاهد.

فلاحظ.

(1) لأنه نماء ملكه.

ومجرد تعديه في إبقائه لو لم يكن مشروطاً بناءً علي ما سبق لا يمنع من جريان قاعدة تبعية النماء للأصل في الملكية.

مضافاً إلي ما سبق في حديث سماعة.

غايته أن للبائع إرغامه علي الإزالة.

بل قد يكون له الإزالة بنفسه لو تعذر عليه إرغامه.

كما لا يبعد أن يكون للبائع الفسخ، لخروج المشتري عن مقتضي العقد، نظير ما إذا امتنع المشتري من استلام المبيع.

ص: 396

وعليه أجرة الأرض (1).

وإن فصله قبل أن يسنبل فنمت الأصول الثابتة في الأرض حتي سنبل كان له أيضاً (2)، وعليه أجرة

---------------

نعم في الجواهر أن ظاهر الأصحاب عدم الخيار مع اشتراط القطع صريحاً، مع أنه أولي بالخيار من المقام.

لكن لو تم ظهور كلامهم في ذلك فلا مجال للخروج به عما تقتضيه القاعدة.

ودعوي: ظهور بعض النصوص في عدم الخيار، لعدم التنبيه فيها له.

ممنوعة.

إذ ليس في النصوص ما تضمن حكم اشتراط القصل.

وحديث سماعة إنما ورد في فرض كون القصل مقتضي إطلاق العقد، وهو ناظر لحكم النماء مع المخالفة، وأنه يصير للمشتري، لا لبيان تمام الوظيفة عند المخالفة، ليكون عدم التنبيه فيه للخيار موجباً لظهوره في عدمه.

فتأمل.

(1) لم يتضح الوجه في ذلك إذ الإبقاء إن كان مستحقاً بالشرط أو تعبداً من أجل النصوص المتقدمة فلا وجه لضمان الأجرة.

ولاسيما مع عدم التنبيه لذلك في النصوص، وهو مما يحتاج للتنبيه.

وإنما يتجه ثبوت الأجرة مع جواز الإبقاء فيما إذا كان إشغال الأرض غير مستحق علي صاحبها من دون أن يكون المشغل لها معتدياً، كما تقدم في خيار الغبن من فرض إشغال الأرض المبيعة قبل الفسخ.

وكذا إذا زرع الأجنبي الأرض باعتقاد استحقاقه لذلك، ونحوهما.

نعم لو ابتني اشتراط الإبقاء علي إبقائه بأجرة لا مجاناً تعين استحقاق الأجرة.

لكنه محتاج إلي عناية خاصة.

ولا يبعد خروجه عن مفروض كلام سيدنا المصنف (قده).

(2) كما في التذكرة والقواعد والدروس.

وكأنه لأنه نماء ملكه.

لكن من الظاهر أن إبقاء الأرض مشغولة بالأصول بحيث تصلح للاستنماء مخالف لظهور اتفاق

ص: 397

الأرض (1) علي الأحوط.

-

المتبايعين حين العقد.

وحينئذٍ إذا ابتني إبقاؤها علي إذن صاحب الأرض، لإعراض المشتري عنها وتركه لها تعين ملكية صاحب الأرض لها بوضع يده علي الأرض وما فيها، فيكون نماؤها له، لا للمشتري.

وإذا ابتني علي إغفال صاحب الأرض أو إرغامه فالنماء وإن كان للمشتري حينئذٍ، إلا أن لصاحب الأرض قلعها قبل ظهور الحب وبعده، حيث لا حرمة لعرق ظالم.

وإذا لم يقلعها حينئذٍ ورضي ببقائها أو غفل عنها حتي أنتجت فلا يبعد استحقاق الأجرة لكن لا يبعد خروجه عن مفروض كلام سيدنا المصنف (قده).

وإذا ابتني علي اتفاقهما علي الإبقاء من أجل الاستنماء للمشتري تعين علي البائع الصبر، ويكون استحقاقه للأجرة تابعاً لكيفية اتفاقهما علي الإبقاء، وأنه مجاناً أو بأجرة.

والظاهر خروجه أيضاً عن مفروض كلام سيدنا المصنف (قده).

نعم لو كان الإبقاء غفلة من المشتري أو قهراً عليه أو نحوهما من الأعذار من دون إعراض عن الأصول، ولا إرغام للمالك، ولا اتفاق معه، فصادف نموها كان النماء له، وتعين علي المالك الصبر إذا لم يلزم عليه الضرر بذلك، لعدم كون المشتري معتدياً حينئذٍ علي تفصيل تقدم في المسألة الثلاثين من الفصل الرابع في الخيارات.

ولعل ذلك هو المنظور لسيدنا المصنف (قده).

(1) لإشغاله لها بملكه واستيفاء منفعتها بذلك.

ومجرد وجوب الصبر علي البائع دفعاً لضرر المشتري، أو جواز القلع له علي ما تقدم في الصورة الرابعة والثانية لا يسقط حرمة ماله، وهو منفعة الأرض.

وليس هو كاستحقاق الإبقاء بالشرط أو تعبداً.

ومن هنا لم يتضح وجه توقف سيدنا المصنف (قده) واكتفاؤه بالاحتياط.

ومما ذكرنا يظهر استحقاقه الأجرة بالإبقاء حتي لو لم يطالب بها غفلة عن حقيقة الحال.

وأنها لا تسقط إلا إذا رضي بإبقائه مجاناً.

ص: 398

ويجوز بيعه لا مع أصله، بل قصيلاً (1) إذا كان قد بلغ أو أن قصله، أو قبل ذلك علي أن يبقي حتي يصير قصيلاً (2) أو قبل ذلك (3).

فإن قطعه ونمت الأصول حتي صارت سنبلاً كان السنبل للبائع (4)، وإن لم يقطعه كان لصاحب الأرض قطعه (5).

وله إبقاؤه والمطالبة بالأجرة (6).

فلو

-

(1) كما في التذكرة والقواعد والدروس وغيرها.

لعمومات النفوذ والصحة.

والمراد به كون المبيع هو الزرع الظاهر دون أصله.

(2) يعني: باع الزرع قبل أن يصير قصيلاً علي أن يبقي حتي يصير قصيلاً ثم يقصله، من دون أن تكون الأصول داخلة في المبيع.

(3) يعني: علي أن له قطعه قبل أن يصير قصيلاً، إما تنازلاً عن شرطه وإبقاءه حتي يصير قصيلاً، أو لأن المشترط حين البيع هو قطعه قبل أن يصير قصيلاً.

(4) كما في التذكرة والقواعد والدروس وغيرها.

لأنه نماء الأصول المفروض بقاؤها في ملكه.

(5) كما في النهاية والشرائع والنافع مع ما سبق منها من إطلاق وجوب القطع علي المشتري والسرائر وغيرها.

لكن المتيقن من ذلك ما إذا كان المشتري معتدياً في عدم قطعه والخروج عن مقتضي الشرط، كما أشرنا إليه آنفاً في فرض شراء الأصول وعدم قلعها.

أما إذا لم يكن معتدياً فلابد من استئذانه، فإن تعذر تعين استئذان الحاكم الشرعي وملاحظة مصلحة المشتري لئلا يضر به القطع، لعدم المصرف له.

ومع تزاحم الضررين يجري ما سبق في المسألة الثلاثين من الفصل الرابع في الخيارات.

(6) كما في الشرائع والدروس.

وعليه اقتصر في التذكرة، ولم يذكر أن للبائع القطع.

لنظير ما سبق في فرض شراء الأصول وعدم قلعها.

ولم يتضح وجه الفرق بين الموردين بنحو يكون منشأ لتوقف سيدنا المصنف (قده) هناك وجزمه باستحقاق الأجرة هنا.

ص: 399

أبقاه فنمي حتي سنبل فالوجه اشتراك البائع والمشتري فيه (1).

وفي كونهما علي السوية إشكال (2)، والأحوط التصالح (3).

وكذا الحال لو اشتري نخلاً، لكن هنا لو اشتري الجذع بشرط القلع، فلم يقلعه ونمي كان النماء للمشتري لا غير (4).

---------------

(1) كما في التذكرة وغيره.

لأنه عرفاً نماء المجموع المركب من الأصول المملوكة للبائع والزرع المملوك للمشتري.

(2) لعدم وضوح مقدار تأثير كل من الأصول والقصيل في حصول السنبل.

وعدم إطلاق لدليل الشراكة هنا، ليحمل علي التساوي.

(3) كما جزم به في التذكرة.

وهو المتعين بعد ما سبق، لعدم وضوح حلّ آخر للإشكال الحاصل في المقام.

(4) كما في المقنع والنهاية والسرائر والتذكرة وعن ابني الجنيد والبراج، وغيرهم.

ونفي الخلاف فيه في السرائر، كما نفي الريب فيه في الجواهر.

واستدل له بمعتبر هارون بن حمزة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشتري النخل يقطعه للجذوع، فيغيب الرجل، فيدع النخل كهيئته لم يقطع، فيقدم الرجل وقد حمل النخل.

فقال: له الحمل يصنع به ما شاء.

إلا أن يكون صاحب النخل كان يسقيه ويقوم عليه»(1).

وقريب منه معتبره الآخر، إلا أن فيه: «هو له، إلا أن يكون صاحب النخل ساقاه وقام عليه»(2).

كذا في الوسائل عن التهذيب.

لكن في الطبعة الحديثة من التهذيب: «هو له، إلا أن يكون صاحب الأرض سقاه وقام عليه»(3).

ورواه هكذا في التذكرة والمختلف.

ولا مجال للاستدلال عليه بالقاعدة بدعوي: أن الحمل نماء النخل الذي اشتراه،

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 9 من أبواب بيع الثمار حديث: 1، 2.

(3) تهذيب الأحكام ج: 7 ص: 90.

ص: 400

كما قد يظهر من الشرائع، حيث جعله نظير شراء الزرع بشرط القطع.

لاندفاعها بأن ذلك إنما يتم في شراء النخل بتمامه مع أصوله، أما شراؤه ليقطعه جذوعاً فظاهره شراء الجذع دون الأصل الذي يقوم عليه، بل يبقي الأصل في ملك البائع، نظير شراء الزرع الظاهر دون أصوله، الذي سبق أن النماء معه يكون مشتركاً بين البائع والمشتري.

فالحكم مخالف للقاعدة، وينحصر الدليل عليه بالحديثين.

هذا وفي النهاية: «فإن كان صاحب الأرض ممن قام بسقيه ومراعاته كان له أجرة المثل».

واستظهر في الجواهر كون ذلك هو المراد من الاستثناء في الحديثين.

بل في السرائر نسب ذلك للرواية.

وقيده كالتحرير بما إذا كان المشتري قد طلب ذلك منه، وإلا فهو متبرع لا أجرة لعمله، وإنما له أجرة الأرض لو أخر قطعه بغير إذنه.

وكأنه طرح منه للرواية، لعدم عمله بأخبار الآحاد، أو تنزيل لها علي مقتضي القاعدة، كما جري عليه في الجواهر أولاً، ثم قال: «اللهم إلا أن يدعي عدم الحاجة هنا إلي الإذن باعتبار احتياج صاحب الأرض السقي لبستانه، والفرض تضرره بشرب النخل المزبور الماء.

فتأمل جيداً».

لكنه كما تري! فإن تضرره بذلك لو تم لا يقتضي استحقاقه أجرة المثل لسقي النخل والقيام عليه.

بل غاية الأمر استحقاق قيمة الماء الذي شربه النخل.

علي أنه لا يخلو أيضاً عن إشكال، لأنه هو الذي أقدم علي الضرر المذكور من دون أن يستند للمشتري.

ومثله ما في المختلف، قال: «وليس في كلام الشيخ ولا الرواية ذكر التبرع، فتحمل علي ما إذا كان العمل بإذنه، أو تحمل الأجرة علي أجرة الأرض، لا العمل».

لظهور أن كلا الحملين بعيد في نفسه، فإن فرض غيبة صاحب النخل يناسب إهماله له، وعدم الاتفاق مع صاحب الأرض علي سقيه.

كما أن فرض سقي النخل والقيام عليه يناسب أجرة العمل لا أجرة الأرض.

بل أجرة الأرض لو استحقت فهي تستحق وإن لم يعمل، لأنها تستند إلي إبقاء المشتري للنخل في الأرض، وإشغاله لها به.

ص: 401

وأوهن من ذلك حمل الرواية كما في التذكرة علي جريان عقد المساقاة بين المشتري والبائع.

فإن ظهور وهنه يغني عن إطالة الكلام فيه.

ودعوي: أن ذلك هو الظاهر من الخبر الثاني علي رواية الوسائل.

ممنوعة، فإن الظاهر وحدة مرجع الضميرين في قوله (عليه السلام): «ساقاه وقام عليه»، وحيث كان مرجع الثاني هو الشجر تعين كونه هو مرجع الأول، وتعين حمل المساقاة علي السقي.

ولاسيما مع مناسبة ما تضمنه من فرض ترك المشتري للنخل لإهماله له.

ومع ظهور وحدة الواقعة في الحديثين، والاختلاف في ألفاظهما بسبب النقل بالمعني، والأول صريح في إرادة سقي النخل.

علي أن ما في الوسائل لم يثبت بعد ما سبق من الطبعة الحديثة للتهذيب وغيرها.

فالعمدة في المقام أنه لا ظهور للرواية في ثبوت أجرة المثل، بل في ملكية صاحب الأرض للحمل إذا كان قد تعاهد النخل وسقاه.

لأن المستثني منه هو ملكية صاحب الجذوع للحمل، فيكون مقتضي الاستثناء عدم ملكيته له إذا كان صاحب الأرض قد سقي النخل وقام عليه، فعدم ذكر المالك له حينئذٍ ظاهر في كون صاحب الأرض هو المالك له، لأنه حصل بجهده.

وإلا كان الجواب غير مستوفٍ لحكم السؤال، وهو مخالف للظاهر جداً.

ومخالفة ذلك للقاعدة لا يمنع من العمل بالرواية، لأنها أخص منها، فتكون مخصصة لها.

ودعوي: ظهور إعراض الأصحاب عنها.

ممنوعة، لأن ظاهر الكليني العمل بالرواية.

بل عبارة الصدوق (قده) في المقنع تطابق لسانها، وكلام ابني الجنيد والبراج لا يحضرنا، وحكاية العلامة في المختلف موافقتهما للشيخ لا مجال للتعويل عليها بعد أن نقل ذلك عن الصدوق أيضاً.

علي أنه لم يتضح من الشيخ (قده) الإعراض عن الرواية، بل لعل ذلك منه يبتني علي الاجتهاد في مفادها بسبب أنس ذهنه الشريف بالقاعدة، كما هو الظاهر من السرائر.

فلاحظ.

والله سبحانه وتعالي العالم.

ص: 402

(403)

الكلام في المحاقلة

(مسألة 14): يجوز بيع الزرع محصوداً (1).

ولا يشترط معرفة مقداره بالكيل أو الوزن (2).

بل تكفي فيه المشاهدة (3).

(مسألة 15): لا تجوز المحاقلة.

وهي بيع سنبل الحنطة أو الشعير بالحنطة (4).

-

(1) كما ذكره الأصحاب بنحو يظهر من بعضهم المفروغية عنه، ونفي الخلاف فيه في مفتاح الكرامة.

ويقتضيه مضافاً إلي عمومات النفوذ والصحة موثق إسماعيل بن الفضل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في حديث: «وسألته عن بيع حصاد الحنطة والشعير وسائر الحصائد.

فقال: حلال، فليبعه بما شاء(1)».

(2) لأنه ليس من المكيل والموزون في هذا الحال، كما لو كان قبل الحصاد.

(3) بل لابد منها بناء علي ما ذكروه من اعتبار العلم بالعوضين، علي ما سبق الكلام فيه في فصل شروط العوضين، وفي مبحث خيار الرؤية.

وإن سبق منّا في الموضعين الإشكال في ذلك.

فراجع.

(4) تقدم في المسألة الحادية عشرة الكلام في المحاقلة من حيثية اختصاصها بما إذا كان الثمن من عين المثمن أو عمومها لما إذا كان من غيره.

أما من حيثية جنس المثمن فكلمات الأصحاب (رضي الله عنهم) تختلف بين التعبير ببيع السنبل بحنطة، وببيع الزرع بالحنطة، وببيع السنبل بجنس من جنسه، وببيع الزرع بالحب.

.

.

إلي غير ذلك.

والنظر في النصوص وكلمات الأصحاب يقضي باعتبار اتحاد الجنس بين الثمن والمثمن فيها، لذكر المحاقلة فيها في سياق المزابنة التي هي بيع حمل النخل بالتمر، ولأن الأصحاب حرروا الخلاف فيهما معاً في اعتبار كون الثمن فيها من عين المثمن أو يكفي كونه من جنسه، من دون أن يظهر منهم احتمال العموم لغير الجنس مما يصدق عليه الحب مثلاً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 9 من أبواب إحياء الموات حديث: 2.

ص: 403

المذكور غشير ظاهر مع عموم السنبل للدخن والأرز وغيرهما، كما نبّه له في المسالك.

ولو تم فما سبق في وجه اعتبار اتحاد الجنس في المحاقلة صالح لحمل الزرع والسنبل في الحديثين علي خصوص سنبل الحنطة.

وأشكل من ذلك قوله في الجواهر بعد ذلك: «وما ذاك إلا لاتحاد الجنس هنا كما في الربا.

بل يستفاد منه حينئذٍ أيضاً بيع سنبل الحنطة بالشعير، بل والشعير بالشعير، فتتم دلالة الخبرين علي الصور الأربع».

وقد يرجع إليه ما في التحرير من أن المحاقلة

ومجرد التعبير عن المثمن بالزرع أو السنبل في النصوص وكلماتهم، وعن الثمن بالحنطة أو الحب في كلماتهم، لا يوجب التوقف في ذلك، كالتعبير في بعض كلماتهم عن المزابنة ببيع الثمرة بالتمر، حيث لا يتوهم منه إرادة بيع أي ثمرة بالتمر.

ولذا لا إشكال ظاهراً في جواز بيع سنبل الحنطة بمثل العدس والماش، مع تعبير بعضهم كما سبق أيضاً عنها ببيع الزرع بالحب.

كما أنه قد عرف في التذكرة المحاقلة ببيع الزرع بالحب، ثم قال: «قد عرفت أن المحاقلة هي بيع الحنطة في سنبلها بالحنطة الصافية.

.

.

» إلي غير ذلك مما يشهد بما ذكرنا.

وحينئذٍ حيث تقدم في حديثي عبد الرحمن اللذين هما عمدة الدليل في المسألة، كما سبق التعبير عن الثمن بالحنطة، تعين كون المراد بالمثمن فيهما زرع الحنطة وسنبلها.

ولاسيما بناء علي ما سبق منّا من أن مقتضي الجمع بين الحديثين وصحيحي الحلبي حمل الألف واللام في الحنطة علي العهد، وأن المراد بحنطته، كما هو ظاهر.

لكن في الجواهر أن الذي يظهر بتتبع نصوص المقام وغيره أن إطلاق الزرع والسنبل فيها منصرف إلي الشعير والحنطة.

ولعله لأن المتعارف في ذلك الزمان والمكان فلا ريب في شمول لفظ الزرع والسنبل في حديثي عبد الرحمن لسنبل الحنطة والشعير، فيكون مقتضاهما أن بيع سنبل الحنطة والشعير بالحنطة محاقلة.

وكأن هذا هو المنشأ لما ذكره سيدنا المصنف (قده) من تعميم المبيع لسنبل الشعير.

وفيه: أن الانصراف

ص: 404

بيع الزرع بحنطة أو شعير، بأن تكون (أو) في كلامه للترديد والتعميم، والمراد بيع الزرع سواء كان للحنطة أم للشعير بالحنطة أو الشعير، وفي الجواهر أنه حكي عن ابن المتوج.

بخلاف ما لو كانت للتقسيم بأن يكون المراد بيع زرع الحنطة بالحنطة وزرع الشعير بالشعير، فلابد أن يبتني علي أمر آخر.

وكيف كان فيرد عليه أن عموم الحكم للحنطة والشعير للوجه الذي ذكره أولاً يبتني علي ظهور السنبل أو الزرع في العموم لهما وإن اختلفا في الجنس.

ولذا لو فرض ظهور السنبل أو الزرع في الأعم منهما تعين كون بيع الأعم بالحنطة محاقلة وإن اختلف الجنس.

وقضية اتحاد الجنس إن رجعت إلي أن علة تحريم المحاقلة هي اتحاد الجنس، كما في الربا.

فهي كما تقتضي التعميم للصور الأربع تقتضي التعميم لجميع الثمار، فيحرم بيع الثمرة في أصولها بثمرة من جنسها منفصلة عن الأصول.

ولذا سبق أنه لو كان ملاك تحريم المزابنة الربا تعين التعدي لجميع الثمار.

مع أنه (قده) صرح بقصور الحديثين عن ذلك، وعدم الدليل عليه من غيرهما.

وإن رجعت إلي دعوي جريان حكم الحنطة في المقام علي الشعير، كما جري حكمها عليه في الربا وإن لم تكن العلة في المقام هي لزوم الربا.

فهي أشبه بالقياس.

وعلي كلا الوجهين لا يكون الاستدلال بها مبتنياً علي تقريب استفادة العموم من الحديثين بالوجه المتقدم، بل هي وجه قائم بنفسه.

وبالجملة: لا مخرج عما ذكرنا من ابتناء المحاقلة كالمزابنة علي اتحاد الجنس في الثمن والمثمن، وأن اختصاص الثمن في الحديثين بالحنطة ملزم بحمل المثمن فيهما علي سنبلها وزرعها لا غير.

نعم لو فرض إلغاء خصوصيتي النخل والتمر والسنبل والحنطة عرفاً، والتعدي لبيع كل ثمر في أصوله بثمر منفصل عن الأصول منه أو من جنسه تعين عموم المنع لجميع الثمار، وكذا لو كان منشأ التحريم في المزابنة والمحاقلة هو لزوم

ص: 405

سواء أكانت منه أو في الذمة أم موضوعة علي الأرض (1).

وكذا بالشعير علي الأحوط (2).

والأظهر جواز بيع الزرع قبل أن يسنبل بالحنطة (3)، فضلاً عن الشعير.

وكذا بيع سنبل غير الحنطة والشعير من الحبوب بحب

---------------

الربا، كما ذكرناه آنفاً.

غايته أنه علي الثاني يحرم بيع سنبل الحنطة بالشعير وبالعكس، لما سبق من أنهما جنس واحد في الربا، وعلي الأول لا يحرم ذلك.

لكن لا مجال لكلا الوجهين، لأن الأول لا يناسب ظهور النصوص في شرح العنوانين وتحديدهما، وحملها علي مجرد التمثيل مخالف لظاهرها جداً.

كما سبق أنه لا مجال للثاني، لعدم تحقق شرط الربا وهو الكيل والوزن في أحد العوضين.

(1) تقدم الكلام في التعميم المذكور في المسألة الحادية عشرة.

(2) لعله لاحتماله (قده) تمامية ما سبق من الجواهر من جريان حكم اتحاد الجنس في المقام بناء علي التقريب الثاني له، والذي سبق منّا أنه أشبه بالقياس.

أو لأن من البعيد جداً عدم جواز بيع سنبل الشعير بحنطة وجواز بيعه بالشعير، وحينئذٍ يقرب جريان حكم اتحاد الجنس هنا.

فتأمل.

(3) كما في التذكرة، معللاً بأنه حشيش وليس مطعوماً، ونحوه في مفتاح الكرامة.

وقد ينافي ذلك إطلاق بعضهم كما سبق تعريف المحاقلة بأنها بيع الزرع بالحنطة.

لكن في المسالك: «ويظهر من كلامهم الاتفاق علي أن المراد به السنبل، وإن عبروا بالأعم».

وكيف كان فحديثا عبد الرحمن قد اختلفا، ففي صحيحه أنه بيع الزرع، وفي موثقه أنه بيع السنبل، ومن القريب أن يكونا حديثاً واحداً والاختلاف بينهما بسبب النقل بالمعني، فيتعين الاقتصار في مفادهما علي المتيقن، وهو السنبل.

بل حتي لو كانا حديثين، فحيث كانا واردين في مقام التحديد وشرح المفهوم، لا مجرد بيان الحكم كانا متعارضين، وتعين أيضاً الاقتصار في مفادهما علي المتيقن.

ص: 406

(407)

الكلام في بيع بعض الخضر قبل ظهورها

من جنسه (1) في الذمة أو موضوعة علي الأرض، ولا يجوز بحب منه (2).

(مسألة 16): الخضر كالخيار والباذنجان والبطيخ لا يجوز بيعها قبل ظهورها (3).

-

كما أنه لو كان علة تحريمها لزوم الربا لم تجر في المقام، لأن الزرع قبل أن يسنبل حشيش وليس من جنس الحنطة عرفاً.

(1) تقدم أن تحريمه يبتني إما علي إلغاء خصوصية السنبل والحنطة والتعميم لبيع كل ثمر في أصوله بثمر من جنسه منفصل عن الأصول أو علي أن علة تحريم المحاقلة لزوم الربا، وأنه لا مجال لكلا الأمرين.

نظير ما تقدم في تعميم حكم المزابنة لغير النخل من الشجر.

(2) كأنه لوجوب التباين بين الثمن والمثمن، الذي تقدم الكلام فيه في ذيل الكلام في المزابنة.

كما أنه تقدم منه (قده) نظيره هناك.

(3) كما صرح به غير واحد، بل هو المعروف بينهم واستظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه، وفي مفتاح الكرامة الإجماع عليه.

نعم قد يظهر من إطلاق الوسيلة الجواز، حيث قال: «ويجوز أيضاً بيع الرطبة وأمثالها الجزة الأولي أو الثانية أو الثالثة أو جميعاً».

فإن ظاهرهم أن المراد بالجزة الأولي جزة ما هو الموجود، فيكون المراد بما بعدها جزة ما لم يوجد بعد.

كما أنه صرح في المقنعة والمراسم بكراهة بيع ما لم يبدو صلاحه من الخضروات.

وصريح الأول وظاهر الثاني عدم فساد البيع المذكور.

فإن كان مرادهما ببدو الصلاح انعقاد الثمرة وتناثر الورد كما يأتي من السرائر كانا مخالفين في المسألة.

وإن كان مرادهما به أمراً زائداً علي ذلك كما يأتي من المبسوط كانا موافقين للمشهور.

وكيف كان فالوجه في المنع عدم إحراز سلامة شيء من المبيع، وقد سبق عند الكلام في اعتبار القدرة علي التسليم اعتباره في صحة البيع.

وأما بناءً علي ما ذكروه

ص: 407

من أن مقتضي القاعدة اعتبار القدرة علي تسليم تمام المبيع فالأمر أظهر.

وزاد علي ذلك في الجواهر بأن المبيع معدوم.

لكن ذلك إنما يكون محذوراً إذا ابتني البيع علي ملكية المبيع فعلاً، وهو غير مراد في المقام، بل المراد ملكيته علي تقدير وجوده، كما هو المراد في كثير من صور بيع الثمرة التي جوزها الأصحاب.

وحيث كان ذلك ممكناً في نفسه أمكن تصحيحه في المقام بالعمومات لولا ما سبق.

ومن ثم كان هو العمدة في المقام.

وقد استدل مضافاً إلي ذلك بوجهين: الأول: فحوي النصوص المتقدمة المتضمنة للمنع من بيع ثمر النخل والأشجار قبل ظهورها، كما في الجواهر.

لكن المراد بالفحوي إن كان هو فهم المنع هنا بضميمة الأولوية فلم يتضح منشؤها في المقام.

وإن كان هو فهمه بإلغاء خصوصية مواردها عرفاً، وفهم أن المنع بلحاظ عدم وجود المبيع وعدم إحراز سلامته، فهو غير بعيد، وإن كان محتاجاً لمزيد من التأمل.

الثاني: موثق سماعة أو صحيحه: «وسألته عن ورق الشجر هل يصلح شراؤه ثلاث خرطات أو أربع خرطات ؟ قال: إذا رأيت الورق في شجره فاشتر منه ما شئت من خرطة»(1).

لظهوره في عدم جواز شرائه قبل ظهور شيء منه.

وبه يقيد إطلاق بعض نصوص الجواز، كصحيح بريد: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرطبة تباع قطعتين أو ثلاث قطعات.

فقال: لا بأس.

..»(2).

نعم الاستدلال به موقوف علي التعدي عن مورده وهو ورق الشجر للخضر، كما تقدم في نصوص ثمر النخل والشجر.

فالوجهان راجعان في الحقيقة إلي فهم العموم من النصوص الواردة في الموارد المتفرقة، وكلما كانت الموارد أكثر كان فهم العموم منها أيسر.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 4 من أبواب بيع الثمار حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب بيع الثمار حديث: 1.

ص: 408

ويجوز بعد ظهورها (1)

---------------

هذا ولكن ذلك لو تم كما هو غير بعيد فهو كما يقتضي استفادة العموم من النصوص المذكورة يقتضي حملها علي الكراهة لم تم حمل بعضها عليها، كما تقدم تقريبه في نصوص ثمر النخل والشجر.

ولاسيما بملاحظة صحيح بريد المتقدم، لما تضمنه ذيله من عدم كون نهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عن بيع النخل قبل طلوعه تحريمياً، مع ظهوره في عدم الفرق بين الرطبة والنخل، لجعله (عليه السلام) فيه نهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) المذكور منشأ لشبهة المنع في الرطبة، ودفعها بعدم كونه تحريمياً.

فلاحظ.

ثم إن الظاهر أن محل الكلام في الخضر هو بيع نفس الخضرة والثمرة قبل ظهورها دون الأصول.

أما لو بيعت الأصول حينئذٍ فلا ينبغي الإشكال في الجواز كما تقدم في الزرع، لعمومات الصحة والنفوذ من دون مخرج عنها، لاختصاص ما تقدم لو تم ببيع الثمرة نفسها، كما هو ظاهر.

(1) كما هو مقتضي إطلاق جماعة.

وإليه قد يرجع ما في السرائر من عدم جواز بيعه قبل بدو صلاحه، لأن مراده من بدو الصلاح فيما يتورد انعقاده وانتثار ورده.

أما في النهاية والوسيلة فقد اعتبر في جواز بيعها بدو صلاحها، ولم يتضح منهما المراد من بدو الصلاح فيها.

وما في النهاية من أن بدو الصلاح هو الانعقاد وتناثر الورد إنما ذكره في ثمر الفواكه، لا في كل ما يتورد، بل تقدم في المسألة الثانية من المبسوط أن بدو صلاح المعتبر في صحة بيع القثاء والخيار مما لا يتغير طعمه ولا لونه، بل يؤكل صغاراً أن يتناهي عظم بعضه، وفي مثل البطيخ أن ينضج ويحلو ويطيب أكله.

نعم تقدم هناك أنه لا ملزم بذلك، بل يتعين البناء علي جواز بيع الثمرة بمجرد ظهورها في غير ما ورد النهي عنه بالخصوص، ومنه المقام.

ولعله لذا أطلق جماعة كما سبق، وقد تقدم احتماله فيما سبق من المقنعة والمراسم.

بل صرح في التذكرة بعدم

ص: 409

مع المشاهدة (1) لقطة واحدة أو لقطات (2).

والمرجع في تعيين اللقطة عرف الزراع (3).

ولو كانت الخضرة مستورة - كالشلجم والجزر ونحوهما - لم يجز بيعها (4).

-

اعتبار ما زاد علي الظهور من تغير لون أو طعم أو غيرهما، وفي الدروس والروضة ومحكي شرح الإرشاد للكركي وغيرها بعدم اعتبار تناهي العظم فيها.

(1) بناءً علي ما تقدم منهم من اعتبار العلم بالعوضين، نظير ما سبق في المسألة الرابعة عشرة.

اللهم إلا أن يرفع اليد عنه في خصوص المقام بما تضمن الاكتفاء في جواز المعدوم من الثمرة بالضميمة، وأنه يكفي العلم بسلامة بعض المبيع، حيث يناسب ذلك عدم اعتبار المشاهدة لتمام الموجود، بل يكفي العلم بوجود شيء صالح للبيع.

ويأتي عند الكلام في بيع المستور كالجزر ما ينفع في المقام.

فلاحظ.

(2) كما صرح به الأصحاب بنحو يظهر منهم التسالم عليه.

ويقتضيه ما تقدم من القاعدة.

مضافاً إلي النصوص المتقدمة الواردة في بيع الثمرة مع الضميمة، وموثق سماعة المتقدم المتضمن بيع ورق الشجر خرطات، وقريب منه غيره، حيث لا يبعد استفادة العموم منها بإلغاء خصوصية مواردها.

(3) والظاهر أنه المراد من العرف في الدروس والروضتين والمسالك وغيرها.

والوجه فيه ظاهر.

نعم لابد من التفات المتبايعين لمقتضي العرف المذكور ولو ارتكازاً.

وإلا تعين بطلان البيع إذا اختلف قصدهما، لعدم التطابق بين الإيجاب والقبول.

كما أنه إذا اتفقا علي ضابط آخر تعين العمل عليه.

(4) قال في التذكرة: «إذا كان المقصود مستوراً في الأرض لم يجز بيعه إلا بعد قلعه، كالجزر والثوم والبصل.

.

.

للجهالة لانتفاء المشاهدة والوصف».

وقريب منه في القواعد والتحرير، بل حكاه في الدروس عن جماعة.

لكن حكي فيه عن ابن الجنيد الجواز، واختاره تحكيماً للعرف.

ولم يتضح

ص: 410

نعم يجوز الصلح عليها (1) علي الأظهر.

ولو كان ورقه بارزاً وأصله

---------------

الوجه في الرجوع للعرف في الأحكام.

إلا أن يرجع لسيرة المتشرعة المستمرة من عهد المعصومين (صلوات الله عليهم)، والكاشفة عن حكمهم علي طبقها.

وليس من السهل إثبات ذلك.

فالعمدة في المقام: أنه لو سلم عموم مانعية الجهالة، إلا أن المستفاد من النصوص عدم مانعيتها من بيع الثمار إذا أدرك بعضها، فضلاً عما إذا بيع ما هو المدرك وحده.

ولاسيما بملاحظة التعليل في موثق سماعة أو صحيحه: «سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها؟ قال: لا، إلا أن يشتري معها شيئاً من غيرها رطبة أو بقلاً، فيقول: أشتري منك هذه الرطبة وهذا النخل وهذا الشجر بكذا وكذا، فإن لم تخرج الثمرة كان رأس المال المشتري في الرطبة والبقل»(1).

بل هو مقتضي إطلاق صحيح يعقوب بن شعيب: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا كان الحائط فيه ثمار مختلفة فأدرك بعضها فلا بأس ببيعها جميعاً»(2).

فإن مقتضاه جواز بيع البستان بإدراك مثل هذه الثمار، وهو يقتضي جواز بيعها وحدها بالأولوية العرفية.

نعم لابد من العلم بإدراكها إذا بيع المقصود المستور منها وحده، أما إذا بيع الزرع بتمامه مع أصله فلا ملزم بذلك.

ومجرد عدم كون الورق في مثل الجزر والشلجم مقصوداً بالأصل لا يمنع من بيع الكل بعد كون الكل مقصوداً بنفسه ولو بلحاظ توقع بلوغه وإمكان الانتفاع بالورق ولو بوجه غير مقصود.

(1) لإطلاق أدلة نفوذ الصلح، وعدم الملزم باعتبار المشاهدة أو مانعية الجهالة فيه، إلا بلحاظ عموم النهي عن الغرر، وعدم اختصاصه ببيع الغرر، وهو غير ثابت،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب بيع الثمار حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب بيع الثمار حديث: 1.

ص: 411

مستوراً كالبصل جاز بيعه (1) والصلح عليه.

(مسألة 17): إذا كانت الخضرة مما يجز كالكراث والنعناع واللفت (2) ونحوها يجوز بيعها بعد ظهورها جزة وجزات، ولا يجوز بيعها قبل ظهورها (3).

والمرجع في تعيين الجزة عرف الزراع، كما سبق.

وكذا

---------------

كما تقدم في مباحث الشرط عند الكلام في مانعية الجهالة من صحة الشرط.

(1) من الظاهر أن الثمار المذكورة ذات أوراق ظاهرة، ولا يختص ذلك بالبصل.

نعم قد يتميز البصل بأن الظاهر منه مقصود كالأصل المستور.

قال في التحرير بعد الحكم بعدم جواز بيع ما المقصود منه مستور: «ولو كان الظاهر مقصوداً كالبصل فالظاهر جوازه منفرداً ومع أصوله.

وكذا لو كان معظم المقصود مستوراً علي إشكال».

لكن من الظاهر أن البصل إذا تكامل نموه يجف الظاهر منه، ولا ينتفع به، فلا يكون مقصوداً.

مع أن مشاهدة بعض المبيع والعلم به لا يكفي عندهم، بل لابد من مشاهدته بتمامه، لأنه هو الرافع للغرر عندهم.

فالتفصيل غير ظاهر الوجه.

ولا مخرج عما تقدم.

(2) صرح غير واحد من اللغويين بأن اللفت هو الشلجم.

نعم ذكر بعض المتأخرين منهم أن الشلجم نوع من اللفت صالح لتغذية الحيوانات، فقد يكون مراد سيدنا المصنف (قده) ذلك، وأنه يجز ورقه مرة بعد أخري لعلف الحيوانات.

(3) يظهر الحال فيها مما تقدم في الخضر، فإن الكلام فيهما علي نهج واحد.

بل النصوص قد وردت هنا، ومنها صحيح بريد المتقدم ومعتبر معاوية بن ميسرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيه: «قلت: فالرطبة يبيعها هذه الجزة وكذا بكذا جزة بعدها؟ قال: لا بأس به.

ثم قال: قد كان أبي يبيع الحناء كذا وكذا خرطة»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 4 من أبواب بيع الثمار حديث: 3.

ص: 412

(413)

الكلام في كيفية بيع المشرك بين اثنين

الحكم فيما يخرط، كورق الحناء والتوت، فإنه يجوز بيعه بعد ظهوره خرطة وخرطات (1).

(مسألة 18): إذا كان نخل أو شجر أو زرع مشتركاً بين اثنين جاز أن يتقبل أحدهما حصة صاحبه بعد خرصها بمقدار معين، فيتقبلها بذلك المقدار (2).

فإذا خرص حصة صاحبه بوزنة مثلاً جاز أن يتقبلها

---------------

(1) الكلام فيه كما في سابقه.

ويستفاد الحكم فيه من معتبر ميسرة المتقدم هناك وموثق سماعة المتقدم عند الكلام في بيع الخضر.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب، ونفي في مفتاح الكرامة الخلاف فيه إلا من الحلي في السرائر.

للنصوص الكثيرة، كصحيح يعقوب بن شعيب: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في الرجلين يكون بينهما النخل، فيقول أحدهما لصاحبه: إما أن تأخذ هذا النخل بكذا وكذا كيل مسمي، وتعطيني نصف هذا الكيل إما زاد أو نقص، وإما أن آخذه أنا بذلك.

قال: نعم لا بأس به»(1).

وموثق محمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): «سألته عن الرجل يمضي فأخرص عليه في النخل.

قال: نعم.

قلت: أرأيت إن كان أفضل مما يخرص عليه الخارص أيجزيه ذلك ؟ قال: نعم»(2).

وقريب منهما صحيح محمد بن عيسي عن بعض أصحابه عن أبي الحسن (3)(عليه السلام).

إلا أنه تضمن اعتبار بلوغ الثمر.

وصحيح يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) الوارد في المزارعة والمتضمن مزارعة النبي (صلي الله عليه وآله) يهود خيبر، وفيه: «فلما بلغ الثمر أمر عبد الله بن رواحة فخرص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 10 من أبواب بيع الثمار حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 14 من أبواب المزارعة حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 10 من أبواب بيع الثمار حديث: 4.

ص: 413

عليهم النخل، فلما فرغ منه خيّرهم، فقال: قد خرصنا هذا النخل بكذا وكذا صاعاً، فإن شئتم فخذوه وردوا علينا نصف ذلك، وإن شئتم أخذناه وأعطيناكم نصف ذلك.

فقالت اليهود: بهذا قامت السماوات والأرض»(1).

ونحوه في قضية خيبر صحيحا الحلبي(2) وأبي الصباح(3) ، ومعتبر الجعفريات(4) ، وما عن أمالي أبي علي بسنده عن سليمان بن بلال عن الإمام الرضا (5)(عليه السلام)، وما عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسي عن محمد بن مسلم عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله (6)(عليه السلام).

ومن هذه النصوص يظهر أن المعيار هو الاشتراك في الثمر، سواء كان للاشتراك في الأصول أم لمثل المزارعة والمساقاة.

لاختصاص بعض النصوص بالأول، كصحيح يعقوب بن شعيب الأول، وبعضها بالثاني، كنصوص خيبر، وإطلاق بعضها، كموثق محمد بن مسلم.

كما أن أكثر هذه النصوص وإن اختص بالنخل، إلا أن ورود بعضها في المزارعة يقتضي العموم للزرع والشجر، كما ذكره في مفتاح الكرامة وغيره وسبق من سيدنا المصنف (قده).

بل لا يبعد إلغاء خصوصية مواردها عرفاً.

ولاسيما بملاحظة صحيح يعقوب بن شعيب الثاني، حيث ورد في المزارعة، واستشهد الإمام (عليه السلام) فيه بخرص النخل في خيبر.

كما أن ما فيه وفي غيره من أن السماوات قامت بذلك يناسب العموم، لرجوعه إلي صحة المعاملة ارتكازاً، لابتنائها علي الإنصاف، المناسب لعدم الفرق بين الموارد، كما لعله ظاهر.

هذا وقد تعرض في السرائر لنصوص خيبر، وما يأتي من الأصحاب في تعقيبها من أنه لو تلفت الثمرة لم يلزم المخروص عليه شيء.

ثم استشكل فيها بأن ذلك إن

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 10 من أبواب بيع الثمار حديث: 5، 2، 3.

(4و5و6) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 12 من أبواب المزارعة حديث: 1، 2، 3.

ص: 414

بتلك الوزنة زادت عليها في الواقع أو نقصت عنها أو ساوتها (1).

---------------

كان بيعاً فهو محاقلة ومزابنة، وكلاهما باطل، وإن كان صلحاً علي أن يكون بغلة من تلك الأرض فهو غرري باطل، لعدم كونه مضموناً، وإن كان بغلة في الذمة لزم وكان لازماً وإن هلكت الثمرة، وهو خارج عن مفروض كلامهم.

ثم قال: «فليلحظ ذلك فهو الذي تقتضيه أصول مذهبنا، وتشهد به الأدلة.

فلا يرجع عنها بأخبار الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً وإن كررت في الكتب».

وهو كما تري! بعد كثرة هذه النصوص، وعمل الأصحاب بها.

وإذا التزم برد مثلها لم يبق له أخبار يبني عليها فقهه.

بل هي أكثر وأظهر من نصوص النهي عن المزابنة والمحاقلة والغرر.

ومن هنا لا ينبغي الإشكال في المسألة.

(1) كما هو ظاهرهم في المقام، بل صرح به غير واحد، كما في النهاية والوسيلة والتحرير.

وهو ظاهر النصوص، لابتناء الخرص علي ذلك، بل هو صريح موثق محمد بن مسلم المتقدم، وما يأتي في مرسل محمد بن عيسي.

كما أن ظاهرهم أيضاً بل صريح الوسيلة هو لزوم العقد، فليس لأحدهما الرجوع عنه ولو قبل ظهور الحال، فإنهم وإن عبروا بالجواز، إلا أنه لبيان مشروعية العقد المذكور، ومع مشروعيته يتعين لزومه.

وكيف كان فاللزوم هو المنساق من نصوص المقام، لما ذكرنا من أنه الأصل في العقود.

ولاسيما ما تضمن نفوذه وإن لم يطابق الخرص الواقع، كالموثق والمرسل.

ومن هنا لا مجال لما في التذكرة من الإشكال في لزوم المعاملة المذكورة، بل ظاهر التنقيح ومحكي إيضاح النافع والميسية الجزم بعدمه، وكلام المسالك لا يخلو عن اضطراب.

فإنه خروج عن ظاهر النصوص من دون وجه.

نعم في ذيل مرسل محمد بن عيسي المتقدم له الإشارة: «قلت: إنه يجيء بعد ذلك فيقول: إن الحرز لم يجئ كما حرزت وقد نقص.

قال: فإذا زاد يرد عليكم ؟

ص: 415

والظاهر عدم الفرق بين كون الشركاء اثنين أو أكثر (1)، وكون المقدار المتقبل به منها وفي الذمة (2).

نعم إذا كان منها فتلفت الثمرة

---------------

قلت: لا.

قال: فلكم أن تأخذوه بتمام الحرز.

كما أنه إن زاد كان له كذلك إن نقص كان عليه».

ومقتضاه أنه يمكن وقوع المعاملة بنحو يبتني علي تدارك النقص.

لكنه مع ضعفه يرجع إلي عدم وقوع العقد الملزم بين الطرفين، وبقاء الأمر كما لو لم يقع العقد.

(1) كما في مفتاح الكرامة.

فإن بعض النصوص وإن تضمن الشركة بين اثنين، إلا أن نصوص خيبر قد تضمنت الشركة بين المسلمين واليهود، وإذا أمكن إرجاع حصة المسلمين لواحد، بلحاظ أن المالك هو الجهة من دون أن يملكوا أشخاصهم فلا مجال لذلك في اليهود، لملكية العاملين في الأرض بأشخاصهم.

هذا مضافاً إلي إلغاء خصوصية وحدة الشريك وتعدده عرفاً، خصوصاً بلحاظ ما تضمنته نصوص خيبر من أن السماوات والأرض قامت بذلك، لما تقدم من رجوع ذلك إلي أن المعاملة مقبولة ارتكازاً بلحاظ ابتنائها علي الإنصاف، ومن الظاهر أنه لا خصوصية في ذلك لعدد الشركاء.

وليس ذلك مثل حق الشفعة التعبدي الذي يمكن فيه خصوصية عدد الشركاء.

(2) قد يظهر مما ذكره جماعة كثيرة، بل نسبه في جامع المقاصد للأصحاب، من أن التلف بآفة سماوية أو أرضية يقع علي الجميع، أن المفروض في المقام كون الخرص بحصة من الثمرة نفسها، لا في الذمة.

نعم في الروضة أن ذلك مشروط بما إذا التقبيل علي الإشاعة، ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالي.

وكيف كان فالعموم للصورتين مقتضي عموم صحيح يعقوب بن شعيب الأول وموثق محمد بن مسلم المتقدمين المستفاد من ترك الاستفصال فيهما.

وأما قضية خيبر فهي قضية في واقعة صالحة للوجهين.

ص: 416

فلا ضمان علي المستقبل (1)، بخلاف ما لو كان في الذمة، فإنه باق علي

---------------

اللهم إلا أن يقال: المتيقن من السيرة في أمثال ذلك هو كونه من نفس الثمرة.

بل لعل ذلك هو المعهود منها، وليس فائدة الخرص إلا تعيين الحصة بالقدر الخاص لا غير، لأن ذلك هو مفاد الخرص.

ولذا ليس بناء الطرفين ظاهراً علي دفع الحصة من غير الثمرة.

ولاسيما مع اختلاف الأصناف في الجودة والرداءة كثيراً.

ومن هنا يشكل استفادة العموم لكون الخرص بما في الذمة من حديثي يعقوب بن شعيب ومحمد بن مسلم المتقدمين، لقرب الإشارة فيهما للمعاملة المعهودة الشائعة بين الناس.

وينحصر الوجه في صحة الخرص بما في الذمة بالعمومات، بناء علي ما سبق في المزابنة والمحاقلة من أن المتيقن منهما ما إذا كان الثمن جزءاً من المثمن، أو علي ما هو الظاهر من النص والفتوي من اختصاصهما بالبيع، وعدم جريانهما في غيره من المعاملات كالصلح، ومنه ما نحن فيه.

(1) كما صرح به في الوسيلة والقواعد والإرشاد والدروس واللمعة، ونسب للنهاية، وإن كان كلامه لا يخلو عن غموض.

وفي جامع المقاصد أن الأصحاب ذكروا ذلك.

وتردد في التذكرة وعن تعليق الإرشاد الاستشكال فيه.

وفي المسالك والروضة أنه غير واضح الوجه.

قال في الروضة: «وتوجيهه بأن المتقبل لما رضي بحصة معينة في العين صار بمنزلة الشريك.

فيه أن العوض غير لازم كونه منها وإن جاز ذلك فالرضا بالقدر، لا به مشتركاً.

إلا أن ينزل علي الإشاعة».

لكن من القريب كون مفروض كلامهم أن المقدار المستحق من الثمرة نفسها، كما يظهر مما سبق.

نعم كونه علي الإشاعة بعيد جداً، لاحتياج الإشاعة مع تعيين المقدار المستحق بغير الشقص إلي عناية، نظير ما سبق في المسألة العاشرة في صورة

ص: 417

ضمانه (1).

والظاهر أنه معاملة مستقلة (2)، لا بيع ولا صلح.

ويكفي فيها كل لفظ دال علي المقصود (3).

-

الاستثناء، ولقرب ابتناء الخرص علي استقلال آخذ الثمرة بالتصرف بها.

وذلك يناسب استحقاق المقدار المعين في الثمرة بنحو الكلي في المعين.

ويتعين كون الوجه في ثبوت النقص عليه ما سبق منّا في صورة الاستثناء من بناء العرف علي ورود النقص علي الحق الثابت في العين تبعاً للنقص الوارد عليها.

غاية الأمر أن ذلك لا يجري في المبيع لابتنائه علي تعهد البائع بتسليم المبيع للمشتري زائداً علي استحقاقه له، أما الخرص في المقام، فلا يبتني علي ذلك، لتمحضه في تعيين المقدار المستحق.

فلاحظ.

(1) لعدم الموجب لدخول النقص عليه بعد تعلقه بالذمة وانقطاع علقة صاحبه بالعين التي لحقها، فهو نظير ما لو باع حقه من الثمرة أو استبدله بشيء من غير جنس الثمرة.

(2) ففي المسالك أنه معاوضة مستقلة.

لكن لم يتضح كونها معاوضة، بل مفادها محض الاتفاق علي تعيين مقدار الحق.

فهي معاملة مستقلة، كما نسبه في مفتاح الكرامة لظاهر الأصحاب.

وهي أشبه بالصلح، وإن لم يتضح كونها منه، والأمر سهل.

ولا إشكال في عدم كونها بيعاً، فلا تجري عليها أحكامه.

نعم قد تشبهه أو ترجع إليه إذا كانت الحصة في الذمة، لا في العين.

فلاحظ.

(3) كما هو مقتضي إطلاق نصوص المقام وعموم نفوذ العقود.

وقد يرجع إليه ما في مزارعة جامع المقاصد من أنه لابد من إيجاب وقبول بلفظ الصلح أو التقبيل أو ما أدي هذا المعني.

لكن عن الميسية أنه لابد من وقوعها بلفظ التقبيل.

ولم يتضح الوجه فيه بعد ما سبق.

وأما ما في مفتاح الكرامة من أنه المتيقن في الخروج عن استصحاب بقاء

ص: 418

(419)

الكلام في حق المارة

بل تجري فيها المعاطاة (1)، كما في غيرها من العقود.

(مسألة 19): إذا مرّ الإنسان (2)

---------------

الملك علي ما كان عليه.

ففيه: أنه يكفي في الخروج عن الاستصحاب المذكور الإطلاق والعموم المتقدمين، كما هو الحال في جميع العقود.

(1) لما سبق من الإطلاق والعموم.

لكن سبق من جامع المقاصد أنه لابد من اللفظ.

وقد يظهر من غيره.

بل في الجواهر أنه لا ريب في اعتبار الصيغة في لزومها.

وكأنه مبني علي الخلاف المعروف في المعاطاة.

(2) هذا الحكم في الجملة قد ذكره جماعة من الأصحاب (رضوان الله تعالي عليهم) وفي الجواهر أنه المشهور بينهم نقلاً وتحصيلاً، ويظهر من المسالك ندرة الخلاف فيه قبل عصر المحقق (قده).

بل ادعي الإجماع عليه في الخلاف وفي أطعمة السرائر وفي مكاسبها، وإن قال في الأخير: «ولا يعتد بخبر شاذ أو خلاف من يعرف اسمه ونسبه».

ويقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر (عليه السلام): «سألته عن الرجل يمر علي ثمرة، فيأكل منها.

قال: نعم.

قد نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أن تستر الحيطان برفع بنائها»(1) ، وصحيح ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«سألته عن الرجل يمر بالنخل والسنبل والثمر، فيجوز له أن يأكل منها من غير إذن صاحبها من ضرورة أو غير ضرورة ؟ قال: لا بأس» (2) ، وصحيح يونس عن بعض رجاله عنه (عليه السلام): «سألته عن الرجل يمر بالبستان وقد حيط عليه أو لم يحط عليه هل يجوز له أن يأكل من ثمره، وليس يحمله علي الأكل من ثمره إلا الشهوة، وله ما يغنيه عن الأكل من ثمره ؟ وهل له أن يأكل من جوع ؟ قال: لا بأس أن يأكل ولا يحمله ولا يفسده»(3) ، وصحيح عبد الله بن سنان

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 8 من أبواب بيع الثمار حديث: 2، 3، 5.

ص: 419

عنه (عليه السلام): «قال: لا بأس بالرجل يمر علي الثمرة ويأكل منها، ولا يفسد.

قد نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله) أن تبني الحيطان بالمدينة لمكان المارة...»(1) ، وغيرها(2).

وحكي في المسالك عن المرتضي في المسائل الصيداوية المنع.

لكن في كشف اللثام أنه احتاط فيها.

وهو المناسب لما في مفتاح الكرامة من أن المنقول من عبارتها قوله: «الأحوط والأولي أن لا يأكل».

وكيف كان فقد قرب المنع في متاجر المختلف والتنقيح وجامع المقاصد، وحكي عن حواشي المحقق الثاني الثلاثة وعن الفاضل الميسي.

وقد يظهر الميل إليه من الروضة.

كما يظهر من الإرشاد وأطعمة المختلف والتحرير والدروس ومحكي التلخيص التردد فيه.

وفي الإيضاح بعد أن أشار إلي وجه الجواز قال: «والأولي عصمة مال المسلم».

وقد يستدل للمنع بعموم حرمة مال المسلم، وصحيح علي بن يقطين: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يمر بالثمرة من الزرع والنخل والكرم والشجر والمباطخ وغير ذلك من الثمر، أيحل له أن يتناول منه شيئاً ويأكل بغير إذن صاحبه ؟ وكيف حاله إن نهاه صاحبه [صاحب الثمرة أو أمره القيم فليس له.

وكم الحد الذي يسعه أن يتناول منه ؟ قال: لا يحل له أن يأخذ منه شيئاً»(3).

وصحيح مروك عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قلت له: رجل يمر علي قراح الزرع ويأخذ منه السنبلة.

قال: لا.

قلت: أي شيء سنبلة ؟! قال: لو كان كل من يمر به يأخذ سنبلة كان لا يبقي شيء»(4).

وما عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسي عن ابن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام)

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 8 من أبواب بيع الثمار حديث: 12.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 6 باب: 17 من أبواب زكاة الغلات. وج: 13 باب: 8 من أبواب بيع الثمار، وج: 18 باب: 23 من أبواب حد السرقة.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 8 من أبواب بيع الثمار حديث: 7، 6.

ص: 420

أنه قال: «وليس للرجل أن يتناول من ثمرة بستان أو أرض إلا بإذن صاحبه، إلا أن يكون مضطراً.

قلت: فإنه يكون في البستان الأجير والمملوك.

قال: ليس له أن يتناوله إلا بإذن صاحبه»(1).

لكن عموم حرمة مال المسلم قابل للتخصيص، والنصوص الأول كافية في تخصيصه.

وأما النصوص الأخيرة فلا مجال للخروج بها عن النصوص الأول مع كثرتها واشتهارها، وظهور عمل الأصحاب بها، خصوصاً في مثل هذه المسألة الشائعة الابتلاء والمخالفة للقاعدة ولما عليه المخالفون من المنع، حيث يبعد جداً، بل يمتنع عادة خطأ المشهور فيها.

ومن هنا قد يحمل صحيح علي بن يقطين علي الكراهة كما في الاستبصار جمعاً مع النصوص الأول.

ولعله أولي مما فيه أيضاً وفي التهذيب من حمله علي أخذه الثمرة وحملها معه من دون أن يأكلها.

لما يستلزمه من عدم استيفاء الجواب للسؤال.

نعم يقرب ذلك في حديث مروك، لأن السؤال فيه عن الأخذ، لا عن الأكل.

ولاسيما مع ظهور ذيل الحديث في أن منشأ السؤال الاستهوان بالسنبلة لقلتها، لا لحلية الأخذ في نفسه.

كما يقرب حمل حديث ابن مسلم إما علي غير من يمرّ علي الثمرة، أو علي الأخذ من دون أكل، أو علي كراهة الأكل للمار.

وقد يناسب الأخير استثناء الاضطرار، حيث لا يبعد كون المراد به الاضطرار العرفي الذي يكفي فيه الحاجة بنحو معتد به، المعلوم عدم كفايته في الترخيص في التصرف في مال الغير بغير إذنه لو كان المراد به الأخذ من دون أكل، أو الأكل لغير المار.

ولاسيما مع عدم التنبيه فيه للضمان، مع وضوح أن الاضطرار لا يرفع الضمان فيما من شأنه أن يضمن.

ومن هنا يقرب جداً حمله علي النهي عن الأكل للمار مع عدم الاضطرار العرفي.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 5 من أبواب بيع الثمار حديث: 4.

ص: 421

بشيء من النخل (1)

---------------

وحينئذٍ لا مجال للبناء علي الحرمة مع عدم الاضطرار المذكور، عملاً بظاهر النهي في الحديث.

لإباء النصوص الأول له جداً، خصوصاً ما تضمن منها نهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) عن بناء الحيطان من أجل المارة، بل هو خلاف صريح حديثي ابن أبي عمير ويونس.

وعليه يكون المتحصل من ذلك أنه يكره الأكل لغير المحتاج حاجة معتداً بها.

وعلي ذلك أيضاً يحمل صحيح مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد (عليه السلام): «أنه سئل عما يأكل الناس من الفاكهة والرطب مما هو لهم حلال.

فقال: لا يأكل أحد إلا من الضرورة.

ولا يفسد إذا كان عليها فناء محاط.

ومن أجل الضرورة نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أن يبني علي حدائق النخل والثمار بناء، لكي يأكل منها كل أحد»(1).

ويظهر الوجه فيه مما سبق.

هذا وأما ما في المختلف من الجمع بين النصوص بحمل نصوص الجواز علي ما إذا علم بشاهد الحال إباحة المالك لذلك.

فهو مع كونه جمعاً تبرعياً خالياً عن الشاهد بعيد جداً لا يناسب مساق النصوص المذكورة، ولا ما سبق في وجه لزوم العمل بها.

ولاسيما أن من جملة النصوص التي استدل بها للجواز خبر محمد بن مروان: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أمر بالثمرة فآكل منها.

قال: كل ولا تحمل.

قلت: جعلت فداك إن التجار اشتروها ونقدوا أموالهم.

قال: اشتروا ما ليس لهم»(2).

فإنه صريح في ثبوت الحق في الثمرة للمار، وعدم سلطنة المالك بنحو يقتضي منعه من الأكل.

(1) وعليه اقتصر في أطعمة الشرائع وفي متاجر النافع وأطعمته وحكي عن الحائريات للشيخ.

ولم يتضح الوجه فيه بعد إطلاق الثمر في بعض النصوص

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 8 من أبواب بيع الثمار حديث: 10، 4.

ص: 422

أو الشجر (1) أو الزرع (2) جاز أن يأكل من ثمره بلا إفساد (3) للثمر (4)

---------------

والتصريح في بعضها بالعموم لغير النخل.

هذا وقد اقتصر في باب بيع الثمار من النهاية علي الفواكه، وهو المحكي عن ابن البراج، ومن البعيد أن يريدا بها خصوص ثمرة غير النخل، لأن حيطان النخل هي الشائعة في عصور المعصومين (صلوات الله عليهم)، والمصرح بها في جملة من النصوص.

ولاسيما أن الرطب عدّ من الفاكهة في بعض النصوص(1).

ولا أقل من أن يستفاد منه الجواز في ثمرة النخل، بل في جميع الثمار بالأولوية العرفية، لأن الفاكهة أولي بأن يستغني عنها ويمنع من الأخذ منها عرفاً.

فتأمل.

(1) وقد اقتصر في مكاسب القواعد علي ثمر النخل والفواكه، كما حكي عن غيره.

وقد يظهر في الاقتصار علي النخل والشجر.

وكأنه لانصراف الثمرة إليهما، دون الزرع الأخضر.

لكنه غير ظاهر.

(2) التعميم للثلاثة هو المصرح به في بيع الثمار من الشرائع والتذكرة واللمعة وغيرها، وهو مقتضي إطلاق البستان أو الثمار أو نحوها في المقنع والمبسوط ومكاسب النهاية وجماعة كثيرين.

وعن المقتصر أن الأصحاب لم يفرقوا بين النخل وغيره من الشجر وغيره من المباطخ والزرع.

وعن المهذب البارع: «إن أكثر الأصحاب لم يفرقوا بين النخل وغيره».

وهو المتعين بالنظر للنصوص المتقدمة وغيرها.

(3) بلا خلاف أجده فيه، كما في الجواهر.

بل إجماعاً، كما في القواعد وعن نهاية الأحكام.

ويأتي الكلام في وجهه إن شاء الله تعالي.

(4) الإفساد له قد يراد به أحد وجوه: الأول: الإفساد لا بسبب الأكل عبثاً بالثمرة، كقطفها قبل وقتها، أو شقها أو ثقبها.

ولا ينبغي الإشكال في حرمته، لعموم احترام مال المسلم، وحرمة التبذير،

********

(1) بحار الأنوار ج: 66 ص: 122.

ص: 423

ونحو ذلك، من دون مخرج عنه من نصوص المقام وغيرها.

بل تقدم في حديث يونس قوله (عليه السلام): «ولا يحمله ولا يفسده».

وقوله (عليه السلام) في صحيح مسعدة بن زياد: «ولا يفسد إذا كان عليها فناء محاط» بناء علي أن المراد به إفساد الثمرة.

لكن من القريب أن يكون المراد به إفساد السياج من أجل الوصول للثمرة والأكل منها، فيكون أجنبياً عما نحن فيه.

الثاني: الإفساد بسبب الأكل، كأكل بعض الثمرة وترك بعضها فيفسد.

ومقتضي العمومات المتقدمة تحريمه من دون أن تنهض نصوص المقام بالترخيص فيه، لأن حلية الأكل لا تستلزم حلية الإفساد، إلا إذا كان ملازماً له نوعاً، وليس هو كذلك في المقام.

بل الظاهر عموم النهي عن الإفساد في حديث يونس المتقدم له.

وإن كان هو غير مهم بعد كفاية العمومات المتقدمة في المطلوب.

الثالث: الإفساد بنفس الأكل، قال في الرياض: «بأن يكون منه كثيراً، بحيث يؤثر فيها أثراً بيّناً.

ويصدق معه مسماه عرفاً.

ويختلف ذلك بكثرة الثمرة والمارة وقلتهما جداً».

لكن في صدق الإفساد بذلك إشكال بل منع، لأن الإفساد عرفاً هو الخروج بالشيء عما وضع له بحيث لا ينتفع به، وهو غير حاصل بذلك.

ومقتضي إطلاق النصوص المتقدمة جوازه.

ولاسيما بلحاظ ما في ذيل كلامه المتقدم من اختلافه بكثرة الثمرة والمارة وقلتهما، لظهور أنه مع استناده لكثرة المارة فكل واحد منهم لا يتحقق منه الإفساد بالمعني الذي ذكره.

والبناء علي حرمة الأكل علي الجميع لاستناد الإفساد الواحد لهم بمجموعهم لا يناسب النصوص المتقدمة جداً.

كيف ولازمه قصرها علي الثمار الواقعة في الطريق التي تقل فيها المارة.

مضافاً إلي أن ظاهر النصوص والفتاوي إرادة الفساد في ثمرة الشجر التي يكون المرور عليها والتي يجوز الأكل منها، لا ثمرة البستان بتمامه، ومن الظاهر قلة الثمرة التي تقع علي الطريق فيؤثر أكل القليل من الناس فيها أثراً بيّناً.

ص: 424

أو الأغصان أو الشجر (1) أو غيرها (2).

والظاهر جواز الأكل وإن كان قاصداً له من أول الأمر (3).

نعم لو كان لمقصده طريقان فرجح العبور من الطريق الذي يمر بالشجر لأجل الأكل ففي جواز الأكل حينئذ

---------------

ومن هنا يتعين حمل الإفساد في النص والفتوي علي المعنيين الأولين.

ودعوي: أن وضوح التحريم فيهما لا يناسب التنبيه عليه في النص والفتوي.

مدفوعة بأنه قد يكون سبب التنبيه تعارف تسامح المارة من عامة الناس فيهما.

نعم قد يدعي انصراف الأكل المرخص فيه للقليل الذي يتعارف من الإنسان حال مروره سداً للحاجة أو الشهوة، دون الإكثار والتملي.

وهو لو تم يقتضي تحريم الإكثار حتي لو لم يتحقق به الإفساد بالمعني المتقدم.

فلاحظ.

(1) كما ذكره في الجملة غير واحد.

ولا ينبغي الإشكال فيه بالنظر للعمومات، سواء كان الإفساد ملازماً للأكل أم لم يكن.

ومجرد جواز الأكل في الأول لا يستلزم جواز الإفساد بعد أن لم يكن ملازماً له نوعاً، ليستفاد من دليل جواز الأكل جوازه تبعاً، نظير ما سبق في إفساد نفس الثمرة.

(2) كالسياج، لما سبق من العمومات.

وتقدم عند الكلام في إفساد الثمرة قرب إرادته من صحيح مسعدة بن زياد.

(3) كما يظهر من الجواهر.

وهو الذي يقتضيه إطلاق النصوص والفتاوي.

قال في مفتاح الكرامة: «ثم إن اشتراط عدم القصد مما لا ريب فيه.

وإن ترك التصريح به جماعة من القدماء فهو مستفاد من تعبيرهم بالمرور، ومقطوع به من كلام غيرهم ومن النصوص المبيحة.

.

.

».

هذا والكلام.

.

تارة: في اعتبار عدم كون تمام المقصود بقطع المسافة هو الوصول للثمرة من دون أن يكون هناك مقصود آخر وراءها.

وأخري: في أنه بعد الفراغ عن ذلك فهل يعتبر عدم القصد قبل المرور علي

ص: 425

الثمرة للأخذ منها حين الوصول إليها.

أما الأول فالظاهر عدم الإشكال فيه بالنظر للنصوص والفتاوي، لأن ظاهر المرور بالشيء أو عليه عدم كونه هو المقصود بالأصل الذي إليه ينتهي القاصد، بل هو الواقع في طريق المقصد، فالمرور علي المكان مساوق للعبور عليه، لا للوصول إليه.

ولا أقل من كون ذلك هو المتيقن من المرور في خصوص المقام، خصوصاً بلحاظ ما تضمن نهي النبي (صلي الله عليه وآله) عن بناء الحيطان أو رفعها من أجل المارة، حيث لا إشكال في كون المراد به العابرين عليها في مقاصدهم.

وأما قوله (عليه السلام) في صحيح عبد الله بن سنان المتقدم: «لا بأس بالرجل يمر علي الثمرة ويأكل منها، ولا يفسد».

فالظاهر منه ليس هو نفي البأس عن كل من المرور والأكل، ليكون ظاهره إطلاق جواز الأكل ولو مع عدم المرور، إذ لا منشأ لتوهم ثبوت البأس في المرور، ليكون مسوقاً لدفعه، بل هو نفي البأس عن خصوص الأكل المتعقب للمرور، فالواو في المقام ليست عاطفة، بل حالية، والمرخص فيه هو مدخولها فقط، فلا يكون له إطلاق يشمل أكل غير المار.

فلاحظ.

نعم يأتي في موثق السكوني أن من سرق الثمار في كمه فما أكل منه فلا إثم عليه.

ومقتضي إطلاقه جواز الأكل لكل من يصل إلي الثمرة وإن كان قاصداً لها غير عابر عليها إلي مقصد آخر.

لكن لا يظهر منهم البناء علي ذلك.

وحينئذٍ قد يحمل علي من يسرق حال مروره وعبوره.

فلاحظ.

وأما الثاني فقد يناسبه ما في الشرائع من تقييد المرور بالاتفاق، قال: «إذا مرّ الإنسان بشيء من النخل أو شجر الفواكه أو الزرع اتفاقاً جاز أن يأكل».

وقد يرجع إليه ما في النافع والقواعد من مانعية القصد.

فإن الجمود عليه وإن كان يقتضي اعتبار عدم القصد للعبور علي الأمور المذكورة، إلا أنه حيث لا منشأ لاحتمال ذلك، بل يقطع بعدم إرادته، فقد يحمل علي اعتبار عدم القصد للأكل منها.

لكن لا يبعد كون المراد لهما المعني الأول الراجع إلي عدم كونها مقصداً بالأصل،

ص: 426

إشكال (1).

وأشكل منه ما لو لم يكن له مقصد إلا الأكل (2).

وكذا إذا كان للبستان جدار أو حائط (3)،

---------------

بل لابد من وقوعها في طريق المقصد، كما يظهر من بعض شراح كلامهما، فيخرج عما نحن فيه.

نعم في شرح القواعد لكاشف الغطاء اعتبار عدم القصد لخصوص تلك الثمرة ولو في أثناء الطريق.

وقد يظهر في المطلوب.

لكنه خروج عن إطلاق النصوص والفتاوي المتضمنة لعنوان المرور من دون وجه.

ومجرد خروجه مع القصد المذكور عن المتيقن من دليل الجواز لو تم لا يكفي في المنع منه بعد الإطلاق المذكور، كما في الجواهر.

ومن ثم كان ما ذكره سيدنا المصنف (قده) هو المتعين.

(1) بل يظهر من الرياض المنع منه.

لكن لم يتضح الوجه فيه بعد إطلاق النص والفتوي، لصدق المرور بلا إشكال.

(2) إن كان المراد به كون الوصول للثمرة تمام المقصد، بحيث ينتهي السير عندها، فالمتعين المنع من جواز الأكل، كما سبق.

وإن كان المراد به كون الغرض من قصد ما بعد الثمرة هو استحلال الثمرة وأكلها، من دون أن يكون له غرض آخر في الوصول للمكان المذكور، فقد يتجه الإشكال في جواز الأكل بانصراف المرور في النصوص والفتاوي إلي ما إذا تعلق له غرض بالوصول للمنتهي، ويكون تحليل الأكل من سنخ الفائدة المترتبة علي ذلك، لا أن تكون هي تمام المطلوب.

(3) إن كان السياج مانعاً من الوصول إلي الثمرة، بحيث يتوقف الوصول إليها علي اختراقه فالاختراق المذكور يحرم في نفسه لحرمة الدخول في أرض الغير إذا كانت محجوبة غير مكشوفة.

فلو عصي ودخل حتي مرّ بالثمرة لم يبعد حرمة الأكل، لانصراف المرور في النصوص والفتاوي عن المرور العدواني المنهي عنه.

ص: 427

أو علم بكراهة المالك (1).

---------------

نعم لو أذن له صاحب البستان في العبور حتي مرّ بالثمرة تعين جواز الأكل.

إلا أن يكون الإذن في العبور مقيداً بعدم الأكل، فيشكل الأكل حينئذٍ، لاستلزامه حرمة العبور.

أما إذا لم يكن السياج مانعاً من الوصول للثمرة، لإشرافها علي الطريق تعين جواز الأكل عملاً بإطلاق النصوص والفتاوي بعد تحقق المرور السائغ غير العدواني.

ودعوي: لزوم الخروج عنه بقوله (عليه السلام) في صحيح مسعدة بن زياد المتقدم: «لا يأكل أحد إلا من الضرورة، ولا يفسد إذا كان عليها فناء محاط».

مدفوعة بأنه لو تم وروده فيمن يمر بالثمرة، علي ما سبق الكلام فيه، إلا أنه لم يتضح رجوع الشرط للنهي عن الأكل في غير حال الضرورة، بل سبق قرب رجوعه للإفساد، لبيان أنه لا يجوز إفساد السياج من أجل الوصول للثمرة.

ولا أقل من احتمال ذلك بنحو يمنع من الخروج به عن الإطلاق.

فلاحظ.

(1) فعن المهذب البارع المنع مع العلم أو الظن بكراهة المالك.

لكن من الظاهر دلالة نصوص المقام علي عدم حرمة المال من هذه الجهة.

ولذا لا يعتبر إذن المالك.

بل تقدم أن صريح حديث محمد بن مروان ثبوت الحق للمار في الثمرة، بنحو يمنع من سلطنة المالك علي المنع.

وحينئذٍ فالمنع مع العلم بكراهة المالك لا يناسب إطلاق النصوص.

ولاسيما أن المدعي إن كان هو مانعية كراهة المالك وعدم تنجزها إلا بالعلم، لزم حرمة الأكل واقعاً مع ثبوتها من دون أن يعلم بها، ولزم حمل النصوص علي الحل الظاهري لا الواقعي، وهو مخالف لظاهرها جداً.

وإن كان هو مانعية الكراهة الواقعية من الحل بشرط العلم بها، أو مانعية القطع

ص: 428

وإذا حمل معه شيئاً حرم ما حمل (1)، ولم يحرم ما أكل (2).

---------------

بها وإن لم يصادف الواقع، فهو بعيد في نفسه لا نعهد له نظيراً في فروع الفقه.

كما لا شاهد له من القواعد، لأن القاعدة إنما تقتضي شرطية الرضا أو الإذن في جواز الأكل.

ومن هنا لا مخرج عن الإطلاق.

ومن ذلك يظهر جواز الأكل حتي مع نهي المالك، كما لعله ظاهر.

(1) بلا إشكال ظاهر، بل هو مقطوع به بين الطائفة، كما في الرياض.

ويقتضيه مضافاً إلي العمومات النهي عنه صريحاً في بعض النصوص المتقدمة وغيرها.

(2) لإطلاق النصوص المرخصة في الأكل.

لكن يظهر من المسالك وعن غير واحد من المتأخرين عنه شرطية عدم الحمل في حلّ الأكل، بحيث لو حمل حرم ما أكل.

ونسبه في الرياض لظاهر الأصحاب.

وكأنه لحمل النهي عن الحمل في النصوص علي مانعيته من حلّ الأكل.

وهو غير ظاهر، كما صرح به غير واحد.

كيف ؟! ولو كان مسوقاً لبيان الشرطية لم يدل علي الحرمة التكليفية، لعدم الجامع بينهما، مع عدم الإشكال ظاهراً في دلالته عليها.

ولو فرض إجمال النهي في النصوص المذكورة، وصلوحه للوجهين، فهو إنما يمنع من استفادة إطلاق حلّ الأكل منها، ولا يمنع من العمل بإطلاق بقية نصوص الحل، لعدم ثبوت المقيد لها.

هذا مضافاً إلي موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: قضي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) في من سرق الثمار في كمه فما أكل منه فلا إثم عليه، وما حمل فيعزر ويغرم قيمته مرتين»(1) ، بناءً علي حمله علي ما إذا مرّ بها، لعدم بنائهم ظاهراً علي جواز الأكل لغير المار.

وإن كان الأمر أظهر من ذلك.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 8 من أبواب بيع الثمار حديث: 1.

ص: 429

الكلام في العرية

(مسألة 20): يستثني من حرمة المزابنة (1) بيع العرية (2).

وهي النخلة الواحدة (3) لشخص في دار غيره أو بستانه (4)

---------------

(1) تقدم في المسألة الحادية عشرة تحديد المزابنة والدليل علي حرمة بيعها.

فراجع.

(2) حيث لا إشكال في جوازه، وفي الجواهر أنه لا خلاف فيه بيننا، بل وبين سائر المسلمين عدا أبي حنيفة، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكي منه في أعلي مراتب الاستفاضة.

ويقتضيه موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: رخص رسول الله في العرايا بأن تشتري بخرصها تمراً.

قال: والعريا جمع عرية.

وهي النخلة تكون للرجل في دار رجل آخر، فيجوز له أن يبيعها بخرصها تمراً، ولا يجوز ذلك في غيره»(1).

وفي خبر القاسم بن سلام بسنده عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): «أنه رخص في العرايا»(2).

(3) كما صرح به جماعة كثيرة، وعن بعض شراح القواعد أنه لم يجد فيه مخالفاً.

لكن التقييد بالوحدة لم يرد في موثق السكوني، وإنما هو مقتضي إفراد النخل فيه.

ومن هنا يقرب التعدي للأكثر إلغاءً لخصوصية الوحدة عرفاً.

إلا أن تكون مخالفة الحكم للقاعدة عندهم تلزم بالاقتصار علي المتيقن، خصوصاً مع ما تقدم عند الكلام في المزابنة من قرب عدم كون التفسير في الموثق من المعصوم، فيلزم الاقتصار فيها علي المتيقن من كلمات الأصحاب وأهل اللغة، وهي النخلة الواحدة.

(4) كأنه للاعتماد علي تعريف بعض أهل اللغة لها بالأعم من الدار والبستان وثوقاً بالتعريف المذكور، ولو بسبب ذكر جماعة من الفقهاء له، ودعوي الإجماع عليه في الغنية.

وبه يخرج عن خصوصية الدار في موثق السكوني، ولو لإهماله بلحاظ ما

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 14 من أبواب بيع الثمار حديث: 1، 2.

ص: 430

(431)

ويشق عليه دخوله عليها (1)، فيبيعها منه بخرصها تمراً من غيرها، أو كلياً في الذمة (2).

ويجوز له حينئذٍ أعطاؤه من تمرها (3).

-

سبق من قرب عدم كونه من المعصوم.

ولا مجال لما عن المهذب البارع من التعميم لغير الدار والبستان، كمعصرة الغير وخانه وبزارته ودباسته.

لخروجه عن المتيقن بعد فرض كون الترخيص المذكور مخالفاً للقاعدة.

بل الإنصاف أن التعدي للبستان أيضاً خروج عن المتيقن.

ولعله لذا اقتصر بعضهم علي الدار.

(1) الظاهر أن المشقة تكون هي الداعي نوعاً للبيع، من دون أن تكون قيداً في معني العرية، أو في الترخيص في بيعها بالنحو المذكور.

(2) ولا يكون بخرصها تمراً منها بناء علي لزوم التباين بين الثمن والمثمن علي ما سبق الكلام فيه في ذيل الكلام في المزابنة والمحاقلة.

وإنما يكون ذلك مستثني بناء علي عموم المزابنة والمحاقلة المنهي عنهما لبيع ثمر النخل والشجر بجنسه، أما بناء علي جوازه واختصاص المزابنة والمحاقلة ببيعه بثمر منه كما تقدم منّا فلا يكون مستثني، بل يكون علي طبق القاعدة، ولا تكون العرية مستثناة إلا إذا رجعت إلي بيع ثمر النخلة بخرصها تمراً منها، كما تقدم منّا هناك احتماله في موثق السكوني، جمعاً مع نصوص جواز بيع الثمرة بجنسها، وتقدم أيضاً احتمال إبقائه علي ظاهره في عموم الثمن للجنس مع عدم ابتناء الترخيص فيه علي الاستثناء.

فراجع.

(3) لأن الوفاء منه لا يجعله ثمناً، ليلزم اتحاد الثمن والمثمن، بل ثمنية الثمن تابعة لجعله في العقد، والمفروض أن المجعول ثمناً في العقد هو الكلي لا الشخصي المدفوع وفاء.

ص: 431

هذا ولو اشترط الوفاء من تمرها، فإن رجع إلي تقييد الثمن به رجع إلي كون الثمن منها.

وإن رجع إلي كونه شرطاً زائداً في المعاملة مع إطلاق الثمن، فلا يلزم المحذور المذكور، ويتجه صحته.

إلا أن يكون الحكم مخالفاً للقاعدة ومستثني منها، فيجب الاقتصار فيه علي المتيقن، وهو غير صورة الشرط المذكور، لانصراف الموثق عنه.

فلاحظ.

والله سبحانه وتعالي العالم.

ص: 432

(433) (433)

الفصل الثالث عشر / في بيع الحيوان

اشارة

(مسألة 1): يجوز استرقاق الكافر الأصلي (1) إذا لم يكن معتصماً

---------------

(1) بلا خلاف، كما في الجواهر.

ويظهر بسبر كلماتهم المفروغية عنه.

وكفي بذلك دليلاً في مثل هذه المسألة الشائعة الابتلاء من صدر الإسلام إلي عصورنا القريبة.

مضافاً إلي دلالة النصوص عليه في الجملة.

كصحيح رفاعة النخاس: «قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إن الروم يغزون علي الصقالبة والروم فيسرقون أولادهم من الجواري والغلمان، فيعمدون إلي الغلمان فيخصونهم، ثم يبعثون بهم إلي بغداد إلي التجار، فما تري في شرائهم، ونحن نعلم أنهم قد سرقوا، وإنما أغاروا عليهم من غير حرب كانت بينهم ؟ قال: لا بأس بشرائهم.

إنما أخرجوهم من الشرك إلي دار الإسلام»(1).

وحديث زكريا بن آدم عن الإمام الرضا (عليه السلام) وفيه: «وسألته عن سبي الديلم يسرق بعضهم من بعض، ويغير المسلمون عليهم بلا إمام، أيحل شراؤهم ؟ قال: إذا أقروا لهم بالعبودية فلا بأس بشرائهم»(2).

ونحوه معتبر المرزبان بن عمران(3).

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 50 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه حديث: 2.

ص: 433

وصحيح العيص: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوم مجوس خرجوا علي ناس من المسلمين في أرض الإسلام هل يحلّ قتالهم ؟ قال: نعم وسبيهم»(1).

وغيرها.

هذا وقوله (عليه السلام) في صحيح رفاعة: «إنما أخرجوهم من الشرك إلي دار الإسلام» غير ظاهر في التعليل الذي يدور الحكم مداره وجوداً أو عدماً، ليقصر الحكم عما إذا كان الكافر في بلاد الإسلام أو لم يخرجه الآخذ عن دار الكفر، ويكون مقتضاه أنه لا يملك بالحيازة والاستيلاء إلا بعد وصوله إلي دار الإسلام.

بل المتيقن ورود ذلك لبيان أن الحكم المذكور سبب لخيره وتقريب وسائل الهداية له.

نعم حديثا زكريا والمرزبان ظاهران في توقف جواز الشراء علي إقرار المبيع للبائع بالعبودية، وعدم كفاية استيلائه عليه وقهره له، بحيث يكون تحت يده.

لكنه راجع إلي مقام الإثبات من دون أن ينافي حصول الملك بالقهر والاستيلاء ثبوتاً، فيخرج عن محل الكلام.

وربما يأتي الكلام في ذلك.

هذا وظاهر النصوص المتقدمة أن الملك والاسترقاق لا يحصل بمجرد وضع اليد، بل بالقهر والاستيلاء، لأن ذلك هو الظاهر من السرقة والمعهود في الغزو اللذين تضمنتهما النصوص.

وهو الظاهر من السبي في كلام غير واحد.

بل الظاهر المفروغية عن ذلك.

وهو المتعين بعد كونه المتيقن من أدلة المقام وهي الإجماع والنصوص حيث يتعين الرجوع في غيره لاستصحاب عدم حصول الملك.

ثم إنه ورد في بعض النصوص أن المشركين في أنفسهم مماليك(2).

ولو تم العمل بظاهره من كونهم فعلاً مماليك، ولم يحمل علي أنه قابل لأن يملك، فهو إنما يدل علي كونهم مماليك لعموم المسلمين، ولا ينافي توقف اختصاص شخص المسلم بملكه علي استيلائه عليه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 50 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب الربا حديث: 3.

ص: 434

(435)

الكلام في شروط الاسرقاق

بعهد (1) أو ذمام (2) سواء أكان في دار الحرب أم في دار الإسلام (3)،

---------------

(1) بلا خلاف، كما في الجواهر.

ويناسبه التقييد في كلام بعضهم بالحربي.

بل يظهر منهم المفروغية عنه.

لمنافاته للعهد المفروض إمضاؤه.

ولخروجه عن المتيقن من دليل الاسترقاق.

هذا ولا يبعد الاكتفاء بالعهد الشخصي، كما لو أذن أولياء أمور المسلمين ممن ثبت إمضاء تصرفهم للكافر في دخول بلاد الإسلام علي أن لا يهاج ولا يعتدي عليه ولا يستملك.

بل لا يبعد ذلك في الدول الكافرة، حيث كانت هي طرف التعاهد والتعاقد مع المسلمين قديماً.

وحينئذٍ يجري ذلك في عصورنا، كما لو أخذ عدم استملاك الأفراد شرطاً من قبل الدول الكافرة في فسح المجال لدخول أفراد المسلمين لبلادها، أو التجنس بجنسيتها أو نحو ذلك.

ومنه ما إذا اشترط العمل بقانون البلاد وعدم الخروج عنه.

(2) الكلام فيه هو الكلام في سابقه.

مضافاً إلي ما في ذيل حديث زكريا بن آدم المتقدم: «وسألته عن أهل الذمة أصابهم جوع فأتاه رجل بولده، فقال: هذا لك أطعمه وهو لك عبد.

فقال: لا تبتع حراً، فإنه لا يصلح لك، ولا من أهل الذمة»(1).

فإن الجواب فيه وإن تضمن النهي عن الابتياع، إلا أن السؤال لم يتضمن ذلك، بل مجرد دفع الولد للعجز عن نفقته.

ومن هنا لا يبعد أن يستفاد منه التلازم في المقام بين عدم جواز الابتياع وعدم جواز الاسترقاق.

ولا أقل من استفادة ذلك بضميمة ظهور المفروغية عن عدم الفصل بين الأمرين.

فلاحظ.

(3) كما هو مقتضي إطلاق الأصحاب.

وقد وردت النصوص بالأمرين، وقد تقدم بعضها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1.

ص: 435

وسواء أكان بالقهر والغلبة أم بالسرقة أم بالغيلة (1).

ويسري الرق في أعقابه (2) وإن كان قد أسلم (3).

-

(1) تقدم آنفاً أنه لابد في الاسترقاق والتملك من قهر المملوك والاستيلاء عليه.

ومن هنا لا يبعد أن يكون مراد سيدنا المصنف (قده) من التقسيم بيان مناشئ الاستيلاء المذكور، وأنه تارة: يكون بمواجهة وقهر في حرب أو نحوها.

وأخري: بسرقته من أهله من دون مقاومة منه ولا منهم.

وثالثة: يكون بخديعته واستدراجه حتي يقع تحت السيطرة، فإن الخديعة من معاني الغيلة.

(2) بلا خلاف كما في الجواهر.

ويظهر منهم المفروغية عنه، تبعاً للسيرة المستمرة التي هي أقوي من قاعدة تبعية النماء للأصل في الملك التي قد استدل بها في المقام، لعدم العموم أو الإطلاق لدليل القاعدة المذكورة، بل هي من القواعد العقلائية، وعموم حكم النماء فيها لولد الإنسان الذي هو بطبعه حرّ لا يخلو عن غموض.

وليس هو كالحيوان من شأنه أن يملك، ويكون بنظرهم نماء للأم تابعاً لها.

نعم يمكن استفادته من النصوص المتضمنة لتبعيته للحر من أبويه(1) ، لظهورها في المفروغية عن رقيته مع رقبة أبويه معاً.

بل هو مقتضي المفهوم في صحيح ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن الرجل الحر يتزوج بأمة قوم، الولد مماليك أو أحرار؟ قال: إذا كا أحد أبويه حراً فالولد أحرار»(2).

مضافاً إلي النصوص الكثيرة في الموارد المتفرقة.

(3) بلا خلاف كما في الجواهر.

ويظهر منهم المفروغية عنه.

وهو المقطوع به من السيرة، وتشهد به في الجملة النصوص الواردة في عتق العبد الصالح(3) ، والمؤمن(4) ،

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 30 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 30 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 5.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 28 من أبواب كتاب العتق.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب كتاب العتق.

ص: 436

أما المرتد الفطري والملي فلا يجوز استرقاقهما علي الأقوي (1).

ولو قهر

---------------

ومنها ما ورد في الكفارة من الآيات والنصوص الكثيرة.

(1) كما صرح به غير واحد، وهو مقتضي التقييد في الشرائع والقواعد والتذكرة وغيرها الكفر بالأصلي.

وفي الجواهر: «لأصالة الحرية بعد اختصاص الفتاوي والنصوص ولم بحكم التبادر في غيره».

لكن لو سلم اختصاص النصوص بالكافر الأصلي، إلا أن التعدي لغيره بإلغاء خصوصيته قريب جداً بعد كون المتبادر منها سقوط حرمته، لعدم الإسلام العاصم له.

ووجوب قتل المرتد الأصلي لا ينافي جواز استرقاقه قبله.

نعم لو جاز تملكه لبقي رقاً حتي بعد توبته، ولو كان البناء علي ذلك لظهر، لكونه مورداً للعمل.

بل ورد في التاريخ أن معقل بن قيس لما أرسله أمير المؤمنين (عليه السلام) لقتال الخريت الخارجي وقتله، وأسر جماعته وفيهم مرتدين ونصاري قد نقضوا العهد، عرض علي المرتدين الإسلام فمن أسلم أطلقه، وقتل رجلاً منهم لم يسلم، ولم يسترق إلا النصاري، فاشتراهم مصقلة بن هبيرة وأعتقهم ودفع بعض المال، ولما طولب بالباقي هرب إلي معاوية(1) ، في قضية مشهورة.

بل قد يقال: إن وجوب قتل المرتد الفطري وإن لم يناف جواز استرقاقه، إلا أنه قد يستفاد من أدلة وجوب قتله وبقية أحكامه المذكورة هو أن ذلك تمام ما يترتب علي الارتداد الفطري من الأحكام، ولا يوجب ذلك استرقاقه زائداً علي ذلك، كما لم يوجب الارتداد الملي ذلك زائداً علي أحكامه التي تضمنتها أدلته.

لكن في معتبر أبي الطفيل: «أن بني ناجية قوماً كانوا يسكنون الأسياف، وكانوا قوماً يدعون في قريش نسباً وكانوا نصاري، فأسلموا ثم رجعوا عن الإسلام فبعث أمير المؤمنين (عليه السلام) معقل بن قيس التميمي، فخرجنا معه.

فلما انتهينا إلي القوم جعل

********

(1) الكامل في التاريخ ج: 3 ص: 369.

ص: 437

حربي حربياً آخر فباعه ملكه المشتري (1) وإن كان أخاه أو زوجته أو ممن ينعتق عليه، كأبيه وأمه.

وفي كونه بيعاً حقيقة وتجري عليه أحكامه إشكال وإن كان أقرب (2).

-

بيننا وبينه أمارة.

فقال: إذا وضعت يدي علي رأسي فضعوا فيهم السلاح.

فأتاهم فقال: ما أنتم عليه ؟ فخرجت طائفة فقالوا: نحن نصاري [فأسلمنا] لا نعلم ديناً خيراً من ديننا فنحن عليه.

وقالت طائفة: نحن كنا نصاري، ثم أسلمنا، ثم عرفنا أنه لا خير عن الدين الذي كنا عليه، فرجعنا إليه.

فدعاهم إلي الإسلام ثلاث مرات، فأبوا.

فوضع يده علي رأسه.

قال: فقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم.

قال: فأتي بهم علياً (عليه السلام) فاشتراهم مصقلة بن هبيرة بمائة ألف درهم فأعتقهم، ثم حمل إلي علي عليه الصلاة والسلام خمسين ألفاً، فأبي أن يقبلها.

قال: فخرج بها فدفنها في داره، ولحق بمعاوية.

قال: فخرب أمير المؤمنين (عليه السلام) داره، وأجاز عتقهم»(1).

ونحوه مختصراً في تاريخ اليعقوبي(2).

وهو صريح في استرقاق المرتد الملي.

ولا يناسب ما ذكره الأصحاب.

ومن ثم يشكل الحال حتي في المرتد الفطري، حيث لا شاهد حينئذٍ علي كون قتله وعدم قبول توبته تمام آثار الارتداد، بحيث لا يوجب سقوط حرمته وجواز استرقاقه زائداً علي ذلك.

فلاحظ.

(1) كما هو مقتضي إطلاق الشرائع وغيره وصريح العلامة وغيره، وفي شرح القواعد لكاشف الغطاء دعوي الإجماع بقسميه عليه.

والظاهر المفروغية عنه بينهم تبعاً للسيرة.

وتشهد به في الجملة النصوص المتقدمة.

(2) كما هو مقتضي إطلاق بعض النصوص المتقدمة في الاسترقاق بالقهر،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 3 من أبواب حد المرتد حديث: 6.

(2) تاريخ اليعقوبي ج: 2 ص: 181-182. طبع النجف الأشرف.

ص: 438

الشامل لما إذا كان المقهور ممن ينعتق علي القاهر، وهي قد تضمنت التعبير بالبيع والشراء.

لكن قد يرفع اليد عنه بإطلاق نصوص انعتاق الأقارب، الشامل لما إذا كانا معاً كافرين، ومع عدم تملكه لابد من كون بيعه صورياً، لا حقيقياً.

ودعوي: أن النصوص المذكورة لا تمنع من حصول الملك بأسبابه، وإلا لم يحصل العتق تبعاً لحصول سبب الملك من البيع والميراث ونحوهما، وإنما يقتضي ارتفاع الملك بعد حصوله بأسبابه، فلا مانع في المقام من تملك القاهر للمقهور بالقهر ثم انعتاقه عليه ثم تملكه له باستمرار القهر ثم انعتاقه عليه، وهكذا حتي يحصل البيع.

مدفوعة بأن اعتبار الملكية آناً ما للرق بحصول سببها لا يلغو عرفاً بلحاظ ترتب الانعتاق عليه.

أما حصول الملكية علي الحر بالقهر بهذا النحو فهو لاغٍ عرفاً.

وبعبارة أخري: المستفاد عرفاً من النصوص المذكورة أن القرابة كما تمنع من بقاء الملك بعد حصوله تبعاً لسببه تمنع من حدوث الملك للحرّ بحصول سببه.

وحينئذٍ يتعين إما البناء علي تقييد إطلاق نصوص انعتاق الأقارب في المقام، أو علي عدم كون البيع حقيقياً، بل هو صوري بلحاظ ترتب الملك عليه تعبداً.

وتحقيق أحد الأمرين ليس مهماً بعد عدم ترتب أثر مهم عليه.

ولاسيما مع عدم الابتلاء بالمسألة في عصورنا.

هذا وفي خبر عبد الله اللحام: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل يشتري من رجل من أهل الشرك ابنته فيتخذها.

قال: لا بأس»(1) ، وفي خبره الآخر: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل يشتري امرأة رجل من أهل الشرك يتخذها.

فقال: لا بأس»(2).

ويظهر مما تقدم في خبر زكريا بن آدم جواز شراء الولد من غير أهل الذمة.

لكن لا يظهر من النصوص المذكورة تملك الحربي قبل بيعه لما يبيعه بالقهر

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب بيع الحيوان حديث: 2، 3.

ص: 439

عدم ملك بعض المحارم

(مسألة 2): يصح أن يملك الرجل كل أحد (1) غير الأب والأم والجد (2) وإن علا، لأب كان أو لأم، والولد وإن نزل ذكراً كان أو أنثي، والمحارم.

وهي الأخت والعمة والخالة وإن علون (3)، وبنات الأخ وبنات الأخت وإن نزلن (4).

-

والاستيلاء، بل مجرد بيعه له لقدرته علي تسليمه.

وحينئذٍ يتعين حمله علي كون البيع صورياً، ولا يملك المبيع إلا باستيلاء المشتري بعد البيع.

ويترتب علي ذلك أنه لو امتنع المبيع علي البائع بعد البيع، ثم أسلم قبل أن يستولي عليه المشتري، امتنع تملك المشتري له، بخلاف ما إذا كان قد ملكه البائع بالاستيلاء والقهر ثم باعه.

فلاحظ.

(1) بلا خلاف ظاهر، بل في الخلاف وعن غيره الإجماع عليه.

بل الظاهر مفروغيتهم عنه.

ويقتضي حدوث التملك له عموم أدلة سببية أسباب التملك بعد فرض قابليته في نفسه للتملك، كما يقتضي بقاء ملكيته له بعد حصولها بأسبابها الاستصحاب.

وإن كان الأمر أظهر من ذلك بلحاظ ما سبق.

(2) كان المناسب ذكر الجدة هنا أو في المحارم.

(3) كعمة وخالة الأب أو الأم أو الجد أو الجدة، دون عمة العمة أو خالة الخالة أو نحوهما، إذ قد لا يكن من المحارم.

(4) قال في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه نصاً وفتوي.

إذ اقتصار البعض علي ذكر البعض ليس خلافاً في المقام قطعاً، كما لا يخفي علي من لاحظ.

بل الإجماع بقسميه علي ذلك».

ويقتضيه المروي بأسانيد فيها الصحيح والموثق عن أبي بصير وأبي العباس وعبيد كلهم عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: إذا ملك الرجل والديه أو أخته أو عمته أو خالته أو بنت أخيه أو بنت أخته، وذكر أهل هذه الآية من النساء عتقوا جميعاً.

ويملك

ص: 440

(441)

عمه وابن أخيه وابن أخته والخال.

ولا يملك أمه من الرضاعة ولا أخته ولا عمته ولا خالته.

إذا ملكن عتقن.

وقال: ما يحرم من النسب فإنه يحرم من الرضاع.

وقال: لا يملك الذكور ما خلا والداً أو ولداً.

ولا يملك من النساء ذات رحم محرم.

قلت: يجري في الرضاع مثل ذلك ؟ قال: نعم يجري في الرضاع مثل ذلك»(1).

ورواه الشيخ والصدوق في الموثق عن أبي بصير وزاد في آخره: «وقال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب(2)».

وهناك نصوص أخر قد يأتي الكلام فيها.

والتعميم فيه لمن علا من الآباء ومن نزل من الأبناء إن لم يفهم من الوالدين اللذين قد يظهران في المباشرين بإلغاء خصوصيتهما عرفاً، فلا أقل من استفادته من قوله (عليه السلام) بعد ذلك: «ما خلا والداً أو ولداً» لصدق الوالد والولد علي الجميع.

ولاسيما مع استفادة العموم في النساء لمن علا من ذكر من في الآية المقتصر فيها علي الأم والبنت والأخت وبنتها وبنت الأخ والعمة والخالة مع المفروغية عن إرادة العموم فيها لمن علا ونزل، حيث يناسب ذكر إرادة العموم في الباقي.

ومن هنا كان الظاهر المفروغية عن العموم من هذه الجهة.

هذا وقد اقتصر في المقنعة علي الأبوين والولد والأخت والعمة والخالة مع تصريحه بجواز تملك من عدا ذلك.

وإذا أمكن حمل كلامه ككلام غيره علي الأبوين والعمة والخالة وإن علوا والولد وإن نزل، فلا إشكال في عدم ذكره لبنتي الأخ والأخت، بل مقتضي ذيل كلامه جواز تملكها.

ولم يتضح الوجه فيه بعد ما تقدم من النصوص، فإنه وإن أهمل في بعض النصوص ذكرهما، إلا أنه قد أهمل في بعضها أيضاً بعض من ذكره، كالأخت والولد.

ولم أعثر علي نص يقتصر فيه علي تمام ما ذكره.

مع أنه إن بني علي حمل النصوص علي الحصر لزم الاقتصار علي ما أجمعت عليه، وحمل ما انفرد به بعضها علي الكراهة، وليس مما أجمعت عليه الولد ولا الأخت لعدم ذكرهما في بعض النصوص.

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 4 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1، 2.

ص: 441

ففي صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر الأول (عليه السلام): «قال: إذا ملك الرجل والديه أو أخته أو خالته أو عمته عتقوا.

ويملك...»(1).

وفي صحيحه الآخر عنه (عليه السلام): «قال: لا يملك الرجل والده ولا والدته ولا عمته ولا خالته.

ويملك أخاه وغيره من ذوي قرابته من الرجال»(2).

وفي موثق عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: إذا ملك الرجل والديه أو أخته أو عمته أو خالته عتقوا.

ويملك...»(3).

ونحوها غيرها.

وإن لم تحمل علي الحصر لزم الأخذ بما تضمن الأكثر، مثل ما تقدم.

وهو المتعين.

ولعله لذا سبق من الجواهر حمل كلام من اقتصر علي بعض ما تقدم علي عدم كونه مخالفاً فيه.

فلاحظ.

هذا وفي معتبر سدير: «قلت لأبي جعفر (عليه السلام): هل يجزي الولد أباه ؟ قال: ليس له جزاء إلا في خصلتين: أن يكون الوالد مملوكاً فيشتريه ابنه فيعتقه، أو يكون عليه دين فيقضيه عنه»(4).

ونحوه خبر سالم الحناط إن لم يكن عينه(5).

وظاهرهما بدواً استقرار ملك الولد للوالد، وأن انعتاقه يستند لعتقه له.

لكنهما محمولان بقرينة ما سبق علي انعتاقه بنفس الشراء، ونسبة العتق فيه للولد بلحاظ فعله لسببه الشرعي وهو الشراء، لا بلحاظ إيقاعه له بعده، كما هو ظاهره بدواً.

بقي شيء.

وهو أن النصوص في المقام تختلف في بيان الحكم المذكور، حيث تضمن بعضها عدم ملك المذكورين، وتضمن جملة منها أنهم إذا ملكوا أعتقوا.

والظاهر أن تنزيل الأول علي الثاني بحمله علي عدم استقرار الملك أقرب عرفاً من حمل الثاني علي الأول بحمله علي إرادة حصول أسباب الملك من الشراء أو الميراث أو غيرهما من دون أن يترتب عليها الملك.

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 7 من أبواب كتاب العتق حديث: 1، 2، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 106 من أبواب أحكام الأولاد حديث: 5.

(5) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 30 من أبواب الدين حديث: 2.

ص: 442

ولا فرق في المذكورين بين النسبيين والرضاعيين (1).

وإذا وجد السبب

---------------

ولاسيما أن الملك قد يكون مقوماً للسبب، كالبيع المتقوم بالمعاوضة وتملك المشتري للمبيع والبائع للثمن، والهبة المتقومة بتملك الموهوب له للموهوب.

فالبناء علي عدم حصول الملك رأساً مستلزم إما لعدم قصد السبب بحقيقته، أو لتخلف الأمر الواقع للمقصود.

والثاني بعيد جداً.

كما لا مجال للبناء علي الأول، حيث لا ريب في ترتب الأثر مع قصد السبب.

ولاسيما أن القريب قد يكون جزءاً من المبيع أو الموهوب لبيعه أو هبته مع غيره في صفقة واحدة.

ومن هنا يتعين البناء علي حصول الملك في رتبة متأخرة عن حصول سببه سابقة علي الانعتاق.

وقد سبق أن اعتبار الملكية بالنحو المذكور مقبول عرفاً بلحاظ ترتب الأثر المذكور، ولا يكون لاغياً.

(1) كما في النهاية والتهذيبين والخلاف والوسيلة وكشف الرموز والجامع والتذكرة والمختلف والتحرير والدروس واللمعتين وجامع المقاصد وغيرها.

وفي بيع الشرائع أنه الأشهر، وفي عتقه وعتق النافع أنه الأشهر رواية.

وقد يظهر من اقتصاره علي ذلك تردده فيه، كما هو ظاهر القواعد والإرشاد.

بل صرح بعدم سريان المانعية من التملك بالرضاع في المقنعة والمراسم والسرائر وهو ظاهر الغنية، كما حكي عن ابن أبي عقيل وابن الجنيد وأبي الصلاح.

وفي السرائر أنه قول المحصلين من أصحابنا.

هذا ومقتضي جملة من النصوص هو إلحاق الرضاع بالنسب، مثل ما تقدم، وموثق عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: لا يملك الرجل أخاه من النسب، ويملك ابن أخيه، ويملك أخاه من الرضاعة.

قال: وسمعته يقول: لا يملك ذات محرم من النساء، ولا يملك أبويه ولا ولده.

وقال: إذا ملك والديه أو أخته أو عمته أو خالته أو بنت أخيه، وذكر أهل هذه الآية من النساء أعتقوا.

ويملك ابن أخيه

ص: 443

وخاله.

ولا يملك أمه من الرضاعة(1)»، وقوله (عليه السلام) في صحيحه: «ولا يملك أمه من الرضاعة»(2).

.

.

إلي غير ذلك.

ولا إشكال في نهوضها بالخروج عما تقتضيه القاعدة من جواز التملك من الرضاع.

نعم في معتبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: إذا اشتري الرجل أباه وأخاه فملكه فهو حر، إلا ما كان من قبل الرضاع»(3) ، وفي موثق الحلبي عنه (عليه السلام): «في بيع الأم من الرضاعة.

قال: لا بأس بذلك إذا احتاج»(4).

ومقتضاهما عدم الانعتاق بعلقة الرضاع.

وأما ما في التهذيبين من احتمال حمل الحديثين علي ما إذا لم يبلغ الرضاع الحد المحرم.

فهو من أبعد البعيد، لعدم صدق عنوان الأب والأخ والأم معه، والمفروض فيهما صدقه.

ومثله ما فيهما من حمل (إلا) في الأول علي معني الواو، وحمل تحليل البيع في الثاني علي تحليله لأبي المرتضع إذا ملك المرضعة لا للمرتضع نفسه، فيكون وارداً لبيان أن حكم أم الولد يختص بأمومتها بالولادة، دون أمومتها بالرضاع.

إذ فيه: أن استعمال (إلا) بمعني الواو لم يثبت، وإنما ادعاه بعض النحويين في بعض الاستعمالات، وأنكره عليهم آخرون، وأولوها في تلك الاستعمالات بوجه آخر، كما يظهر بمراجعة مغني اللبيب ومجمع البيان في تفسير قوله تعالي: (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ) (5) وغيره.

ولا يسعنا إطالة الكلام في ذلك بعد عدم الإشكال في عدم كون ذلك مألوفاً، بل هو غير مقبول عرفاً، بحيث يحمل عليه الخبر.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 7 من أبواب كتاب العتق حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 7 من أبواب كتاب العتق حديث: 5.

(3) تهذيب الأحكام ج: 8 ص: 245 رقم الحديث: 885.

(4) تهذيب الأحكام ج: 8 ص: 245 رقم الحديث: 886.

(5) سورة البقرة الآية: 150.

ص: 444

كما أن حمل جواز البيع في الثاني علي جوازه لأبي المرتضع لا للمرتضع نفسه بعيد جداً، حيث يفهم مع عدم التعرض فيه لمن يحل له البيع إرادة الولد نفسه الذي هو طرف إضافة الأمومة المصرح بها في الحديث، وهو المطرد في نظائر الاستعمال المذكور، كقولنا: تكرم الأم، ويواسي الأخ، ويستشار العم.

.

.

إلي غير ذلك.

وكأن الملزم له (قده) بذلك هو البناء علي استحكام التعارض بين الحديثين والنصوص الأول، فلا تنهض بمعارضتها.

قال: «لأنها أكثر عدداً وأشد موافقة بعضها لبعض، فلا يجوز ترك تلك والعمل بهذه.

.

.

».

فيكون ذكر الاحتمالات المتقدمة في الحديثين تجنباً لطرحهما، كما هو دأبه عند الاضطرار لترك العمل بالنصوص.

لكن الظاهر عدم استحكام التعارض بين الطائفتين، وأن الأقرب عرفاً الجمع بينهما بحمل النصوص الأول علي كراهة إبقاء الاسترقاق، أو استحباب العتق بسبب الرضاع.

كما قد يناسبه صحيح الحلبي وابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في امرأة أرضعت ابن جاريتها.

قال: تعتقه»(1) فإن حمله علي الأمر بعتقه استحباباً أقرب بكثير من حمله علي الانعتاق القهري.

وقريب منه معتبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله بل صحيحه: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يتخذ أباه أو أمه أو أخاه أو أخته عبيداًً.

قال: أما الأخت فقد عتقت حين يملكها، وأما الأخ فيسترقه، وأما الأبوان فقد عتقا حين يملكهما.

قال: وسألته عن المرأة ترضع عبدها أتتخذه عبداً؟ قال: تعتقه وهي كارهة»(2).

فإن حمله علي الاستحباب المؤكد للعتق أهون من حمله علي الانعتاق القهري.

ولاسيما مع اختلاف التعبير بين الصدر والذيل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 8 من أبواب كتاب العتق حديث: 1.

(2) الكافي ج: 6 ص: 178. تهذيب الأحكام ج: 8 ص: 240. الاستبصار ج: 4 ص: 14. أورد صدره في وسائل الشيعة ج: 16 باب: 7 من أبواب كتاب العتق حديث: 6 وذيله في باب: 8 من أبواب كتاب العتق حديث: 2.

ص: 445

عدم ملك بعض المحارم

المملك اختيارياً كان - كالشراء - أو قهرياً - كالإرث - (1) انعتق قهراً.

ولو ملك أحد الزوجين صاحبه ولو بعضاً منه استقر الملك (2)، وبطل

---------------

هذا وقد تحمل الطائفة الثانية علي التقية، لما حكاه في الخلاف من ذهاب جميع فقهاء العامة إلي عدم الانعتاق مع الرضاع.

وربما يؤيد بموثق عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (عليه السلام): «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن امرأة ترضع غلاماً لها من مملوكة حتي تفطمه، يحل لها بيعه ؟ قال: لا، حرم عليها ثمنه.

أليس قد قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ؟ أليس قد صار ابنها؟! فذهبت أكتبه.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ليس مثل هذا يكتب»(1).

بدعوي: أن النهي عن كتابته يناسب منافاته للتقية.

لكن من المعلوم أن الحمل علي التقية إنما يكون مع تعذر الجمع العرفي، وقد سبق إمكانه.

والموثق لا يخلو عن غموض، لما هو المعلوم من سيرة الرواة من أصحابهم (عليهم السلام) علي كتابة أحاديثهم حتي ما خالف منها التقية.

ولاسيما أنه لم يتضمن النهي عن كتابة الحديث المذكور، بل أنه ليس من شأنه أن يكتب.

ولعله بلحاظ أن مضمونه من الظهور والوضوح بحيث ليس من شأنه أن ينسي ليكتب.

ومن هنا كان الأنسب هو الجمع بين الطائفتين بحمل الأولي علي استحباب العتق.

اللهم إلا أن يدعي أن ذلك لا يناسب مساق النصوص، لسوق كثير منها علقة الرضاع مساق علقة النسب، والتنبيه في جملة منها لكبري أن ما يحرم من الرضاع يحرم من النسب، بنحو يناسب تحريم البيع أو امتناع الاسترقاق بحكم الشارع قهراً علي المكلف كتحريم النكاح.

فالأمر في غاية الإشكال.

والله سبحانه وتعالي العالم.

(1) بلا إشكال ظاهر لأطلاق النصوص المتقدمة وغيرها، وصراحة بعضها في كل من القسمين.

(2) الظاهر مفروغيتهم عنه، كما يظهر مما يأتي.

والوجه فيه مضافاً إلي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 8 من أبواب كتاب العتق حديث: 3.

ص: 446

النكاح (1).

-

القاعدة النصوص الآتية.

نعم في خبر أبي حمزة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة ما تملك من قرابتها؟ فقال: كل أحد إلا خمسة: أبوها وأمها وابنها وابنتها وزوجها»(1).

وظاهره خصوصاً بضميمة السياق عدم استقرار ملكها للزوج.

لكن لابد من حمله علي مجرد منافاة الزوجية للملك، بحيث لا يجتمعان مستقرين ولو ببطلان الزوجية، لما يأتي.

(1) إجماعاً بقسميه، كما في الجواهر.

والنصوص به في الجملة مستفيضة، كصحيح إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال في امرأة لها زوج مملوك، فمات مولاه فورثته.

قال: ليس بينهما نكاح»(2).

وموثق عبيد بن زرارة عنه (عليه السلام): «في امرأة لها زوج مملوك فورثته فأعتقته، هل يكونان علي نكاحهما الأول ؟ قال: لا، ولكن يجددان نكاحاً آخر»(3).

وصحيح عبد الله بن سنان: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في رجل زوج أم ولد له مملوكه، ثم مات الرجل فورثه ابنه، فصار له نصيب في زوج أمه، ثم مات الولد أترثه أمه ؟ قال: نعم.

قلت: فإذا ورثته كيف تصنع وهو زوجها؟ قال: تفارقه، وليس له عليها سبيل [وهو عبدها]»(4).

.

.

إلي غير ذلك مما ورد في ملكية المرأة لزوجها.

ومن الأخير يظهر العموم لما إذا ملكت بعضه.

نعم النصوص المذكورة واردة في ملكية الزوجة لزوجها، دون العكس.

ويبدو منهم المفروغية عن عدم الفرق.

وقد يستدل له مضافاً إلي ذلك بما في الجواهر من أن ظاهر التفصيل في أسباب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 9 من أبواب كتاب العتق حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 49 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 50 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 49 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

ص: 447

ويكره أن يملك غير هؤلاء من ذوي قرابته (1)، كالأخ والعم والخال

---------------

حل الاستمتاع في الكتاب والسنة بين الزوجية وملك اليمين عدم الشركة بينهما، وحيث لا إشكال في تأثير أسباب التمليك تعين بطلان الزواج.

وفيه: أنه لم يتضح الوجه في ظهور التفصيل في السبب في عدم الشركة، بحيث لا يمكن اجتماع السببين في شخص واحد.

نعم قد يتجه ذلك في التقسيم، كما لو قال: هؤلاء النساء قسمان زوجات وإماء، لظهوره في تباين القسمين، ولا كذلك في الأسباب، لإمكان اجتماع السببين، وتأكد المسبب إن كان قابلاً للتأكد، وإلا استند للأسبق.

ومجرد اختلاف الأحكام كوجوب القسمة في النكاح وعدمه في ملك اليمين لا يكفي في التنافي، بل يتعين جريان أحكام التزاحم في نفس الأحكام.

ولعل الأولي الاستدلال بموثق سماعة: «سألته عن رجلين بينهما أمة فزوجاها من رجل، ثم إن الرجل اشتري بعض السهمين.

فقال: حرمت عليه»(1).

وفي موثقه الآخر: «حرمت عليه باشترائه إياها.

وذلك أن بيعها طلاقها.

إلا أن يشتريها من جميعهم».

وفي طريقه الآخر: «إلا أن يشتريها جميعاً»(2) ، حيث لا منشأ لتحريمها بمجرد الشراء إلا بطلان النكاح، كما صرح به في الثاني.

ولا ينافي ذلك الحكم فيه بالحل مع شرائها بتمامها، حيث تحل حينئذٍ بملك اليمين.

ولاسيما مع عمومه لما إذا كان شراؤها بتمامها تدريجياً، حيث لا يحتمل عود النكاح بعد بطلانه بشراء البعض.

نعم هو مختص بشراء البعض، ولا يشمل شراء الكل دفعة واحدة.

لكن يستفاد منه العموم بإلغاء خصوصية مورده، أو بالأولوية العرفية.

(1) كما في النهاية والاستبصار والشرائع والنافع والتذكرة والقواعد وغيرها.

ومرادهم كراهة إبقائهم في ملكه وإجراء أحكام الملك عليهم من البيع وغيره عدا

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 46 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1، 2.

ص: 448

العتق، بل يبادر لعتقهم.

ويقتضيه في الجملة قوله (عليه السلام) في معتبر ابن سنان المتقدم: «إذا اشتري الرجل أباه وأخاه فملكه فهو حر...»(1) ، وقوله (عليه السلام) في موثق عبيد بن زرارة المتقدم أيضاً: «لا يملك الرجل أخاه من النسب، ويملك ابن أخيه ويملك أخاه من الرضاعة»(2).

ومعتبر سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في رجل يملك ذا رحم هل يصلح له أن يبيعه أو يستعبده ؟ قال: لا يصلح له بيعه ولا يتخذه عبداً، وهو مولاه وأخوه في الدين.

وأيهما مات ورثه صاحبه إلا أن يكون له وارث أقرب إليه منه»(3).

ولابد من حمل الحكم في ذيله بالتوارث بينهما علي فرض عتقه له جرياً علي ما تضمنه صدره من النهي عن اتخاذه عبداً.

وقد يستدل له أيضاً بموثقه أو صحيحه: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل يملك ذا رحم، يحل له أن يبيعه أو يستعبده ؟ قال: لا يصلح له أن يبيعه، وهو مولاه وأخوه، فإن مات ورثه دون ولده، وليس له أن يبيعه ولا يستعبده»(4).

لكنه ظاهر في بقاء ملكه له، ولذا يرثه دون ولده.

فلابد من حمل النهي عن استعباده علي النهي عن معاملته معاملة العبد في الاستخدام ونحوه، فيكون أجنبياً عن المدعي.

فالعمدة ما قبله.

ويتعين حملها علي الكراهة جمعاً مع النصوص المتقدمة المصرح في بعضها بملك الأخ.

هذا وقد صرح في النافع والتذكرة بتأكد الكراهة فيمن يرثه، ونفي في مفتاح الكرامة وجدان الخلاف فيه.

وكأن مرادهم الأقرب الذي يرثه فعلاً لو كان حراً، وإلا فجميع الأقرباء يصلحون للميراث، ويرثون لو فقد الأقرب منهم.

وكأنه لحديث علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر (عليه السلام): «سألته عن رجل

********

(1) تهذيب الأحكام ج: 8 ص: 245 رقم الحديث: 885.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 7 من أبواب كتاب العتق حديث: 7.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 13 من أبواب كتاب العتق حديث: 5، 1.

ص: 449

وأولادهم.

وتملك المرأة كل أحد غير الأب والأم والجد والجدة والولد وإن نزل (1).

-

زوج جاريته أخاه أو عمه أو ابن عمه أو ابن أخيه فولدت، ما حال الولد؟ قال: إذا كان الولد يرث من ملكه شيئاً عتق»(1).

وحيث كان من المعلوم عدم ميراث العبد فلابد من حمله علي أنه من شأنه أن يرث منه، لعدم وجود من هو أقرب منه إليه.

كما لابد من حمله علي استحباب عتقه، لا فعلية انعتاقه بقرينة ما سبق من الإجماع والنصوص علي عدم انعتاق غير من سبق.

فلاحظ.

(1) بلا خلاف أجده فيه نصاً وفتوي في المستثني، كذا في الجواهر.

ويقتضيه - مضافاً إلي ظهور الإجماع الذي يبعد الخطأ فيه في مثل هذا الحكم الشائع الابتلاء - خبر أبي حمزة المتقدم: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة ما تملك من قرابتها؟ فقال: كل أحد إلا خمسة: أبوها وأمها وابنها وابنتها وزوجها»(2).

والخدش في سنده، لعدم ثبوت وثاقة أسد بن أبي العلاء الواقع فيه، غير ضائر بعد ظهور عمل الأصحاب به، بل انحصار دليلهم به في المقام.

مضافاً إلي موثق عبد الله بن سنان المتقدم في حكم الرضاع وغيره مما ورد في الرضاع، لظهوره في المفروغية عن سببية العنوان النسبي للانعتاق.

وقد يستفاد منه عدم ملك الأبوين بالأولوية، لما هو المعلوم من أولوية الآباء من الأبناء بالتكريم بنظر الشارع الأقدس.

هذا ويستفاد مما سبق حكم من علا من الآباء ومن نزل من الأبناء.

ولاسيما بضميمة الإجماع، وما سبق في الرجل، حيث يناسب جداً عدم الفرق من هذه الجهة.

فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 13 من أبواب كتاب العتق حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 9 من أبواب كتاب العتق حديث: 1.

ص: 450

(451)

الكلام في عدم ملك الكافر للمسلم

ذكراً كان أو أنثي (1)، نسبيين كانوا أو رضاعيين (2).

(مسألة 3): الكافر لا يملك المسلم ابتداء (3) ولو أسلم عبد الكافر

---------------

هذا وقد أضاف في المقنعة للمذكورين الأخ والعم والخال فحكم بعدم ملك المرأة لهم.

ولم يتضح الوجه في ذلك بعد قضاء العمومات بالملك وعدم ورود ما يخرج عن ذلك.

إلا أن يفهم مما سبق في الرجل من عدم ملك المحارم بإلغاء خصوصيته في ذلك.

لكن المعيار في الانعتاق إذا كان هو المحرمية فلا وجه لعدم ذكره ابنتي الأخ والأخت في الرجل كما تقدم وابني الأخ والأخت في المرأة.

مضافاً إلي أن إلغاء خصوصية الرجل والتعدي للمرأة في ذلك غير ظاهر، مع ما هو المعلوم من ابتناء التشريع في كثير من الموارد علي تحميل الرجل مزيداً من المسؤولية.

خصوصاً بعد ورود خبر أبي حمزة المتقدم الصريح في الحصر، وظهور العمل به من الأصحاب.

إذ لو فرض عدم ثبوت حجيته عنده فلا أقل من أن يوجب التوقف وعدم الجزم بإلغاء خصوصية الرجل في النصوص السابقة.

فلاحظ.

(1) كما هو مقتضي إطلاق الأصحاب وصريح الخبر المتقدم.

(2) الحال هنا كما تقدم في الرجل نصاً وفتوي.

(3) أما إذا كان المسلم حراً فظاهر، لأن المسلم الحر غير قابل لأن يسترق من قبل المسلم فضلاً عن الكافر.

وأما إذا كان رقاً فملكه إنما يتصور بأسباب الملك الاختيارية كالشراء والاستيهاب أو القهرية كالميراث.

أما الأسباب الاختيارية فيظهر حالها مما ذكروه في البيع من اشتراط كون المشتري مسلماً إذا كان العبد المبيع مسلماً.

وقد صرح به جمهور الأصحاب، وفي الجواهر: «علي المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً».

وفي الغنية الإجماع عليه.

وقد استدل عليه في كلام غير واحد بقوله تعالي: (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ

ص: 451

الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)(1).

لكن نبّه في الحدائق إلي ما في خبر أبي الصلت الهروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث طويل في دفع شبهة من يتمسك بهذه الآية الشريفة لإثبات أن الإمام الحسين (عليه السلام) لم يقتل، بل ألقي شبهه علي من قتل ورفع هو (عليه السلام) إلي السماء، حيث قال (عليه السلام): «وأما قول الله عز وجل: (وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).

فإنه يقول: لن يجعل الله لكافر علي مؤمن حجة.

ولقد أخبر الله عز وجل عن كفار قتلوا النبيين بغير الحق، ومع قتلهم إياهم لن يجعل الله لهم علي أنبيائه سبيلاً من طريق الحجة»(2).

وذلك هو المناسب للسياق، حيث سيق نفي السبيل تعقيباً علي حكم الله تعالي بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة.

وقد أجاب عن ذلك في مفتاح الكرامة بأن ذلك يكفي في الاستدلال بالآية الشريفة علي منع البيع، لأن إمضاء البيع شرعاً يكون حجة للكافر من قبل الله تعالي في تملكه للمسلم، وليس هو كالظلم والقتل مما يفعله الكافر بالمسلم من دون حجة من الله تعالي.

وفيه: أن ظاهر الآية الشريفة بلحاظ السياق هو نفي الحجة للكافر في خصومته مع المؤمن وإبطال الحق الذي هو عليه، دون ما يتعلق بالحقوق الثابتة للكافر تبعاً للأدلة الشرعية.

قال الله عز وجل: (إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن.)(3).

ولذا لا إشكال ظاهراً في جواز مثل بيع الدين المالي الذي في ذمة المسلم علي الكافر، مع أنه يوجب نحواً من الحق للكافر علي المسلم.

********

(1) سورة النساء الآية: 141.

(2) عيون أخبار الرضا ج: 2 ص: 204 طبع النجف الأشرف.

(3) سورة النساء الآية: 140-141.

ص: 452

هذا مضافاً إلي أمرين: الأول: أن مقتضي الخبر المتقدم والسياق كون المراد بالكافر المنافق أو ما يعمه والكافر، وليس بناؤهم علي ذلك في المقام.

الثاني: أن السبيل لا يكون بمجرد الملكية، بل بالسلطنة، فلو تمت دلالة الآية الشريفة دلت علي نفي السلطنة لا علي نفي الملكية.

وهو المناسب لما يأتي من أنه لو أسلم عبد الكافر لم يخرج عن ملكه، بل بيع قهراً عليه.

ويأتي بعض الكلام في ذلك إن شاء الله تعالي.

هذا وقد يستدل أيضاً بما أرسله في الفقيه من قوله (عليه السلام): «الإسلام يعلو ولا يعلي عليه»(1) ء.

وروي مسنداً إلي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) من طرق العامة(2).

بتقريب أن ملكية الكافر للمسلم لا تناسب علو الإسلام وعدم علو الكفر عليه.

لكنه مع ضعفه حيث لا يمكن البناء علي عمومه لجميع جهات العلو يتعين إجماله أو الاقتصار فيه علي المتيقن من علو الحجة.

ولاسيما مع ما أشرنا إليه ويأتي منهم من أن إسلام الكافر لا يخرجه عن ملك الكافر، بل يجبر علي بيعه.

ودعوي: أن المتعين البناء علي عمومه لجميع جهات العلو والاقتصار في الخروج عن ذلك علي المتيقن، ومنه ما سبق.

مدفوعة بأن لسانه بسبب ارتكازيته آب عن التخصيص، فيتعين كون المراد به ما لا يلزم منه التخصيص المستلزم لإجماله أو الاقتصار فيه علي المتيقن، كما سبق.

ولعل الأولي الاستدلال للمدعي مضافاً إلي المرتكزات بما يظهر منهم الاتفاق عليه من أن العبد الكافر إذا أسلم بيع علي مسلم.

فإن المستفاد منه عرفاً عدم جواز بيع المسلم ابتداءً علي الكافر، لأن شرعية بيعه عليه بنحو الاستقرار ينافي الغرض المطلوب، بل هو وقوع فيما فرّ منه، وبيعه عليه علي أن لا يبقي عنده، بل يباع قهراً عليه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 1 من أبواب موانع الإرث من الكفر والقتل والرق حديث: 11.

(2) فتح الباري ج: 9 ص: 370.

ص: 453

بيع علي مسلم وأعطي ثمنه (1).

-

أيضاً، وهكذا كلما تكرر بيعه علي الكافر لغو وعبث عرفاً، نظير ما تقدم عند الكلام في ملكية الكافر من ينعتق عليه بالحيازة والقهر.

وذلك كافٍ في استفادة المدعي من دليل تلك المسألة.

ومنه يظهر وهن ما قيل وإن لم يعرف قائله من جواز بيعه علي الكافر، لكن يجبر علي بيعه من مسلم.

نعم الظاهر قصور المنع للمرتكزات والوجه المتقدم عن البيع علي من ينعتق قهراً عليه، لعدم منافاته للغرض المذكور، بل يتحقق به ما هو الأفضل للمسلم، وهو التحرر والانعتاق.

وبذلك صرح في الشرائع والتذكرة والدروس وغيرها.

خلافاً للمبسوط وغيره تمسكاً بعموم عدم ملك الكافر للمسلم الذي عرفت عدم الدليل عليه.

بل لا يبعد قصور المنع أيضاً عما لو اشترط عليه المبادرة لعتقه، بحيث لا يبقي في ملكه وتحت سلطنته مدة معتد بها، كما قربه في الدروس.

فلاحظ.

وأما ملك الكافر للمسلم بالأسباب القهرية فالمعروف منها الميراث، ولا يتضح تحققه إلا فيما إذا أسلم عبد الكافر ومات مالكه قبل أن يباع قهراً عليه.

والظاهر قصور ما سبق منّا في وجه المنع عن ذلك، بل مقتضي عموم أدلة الميراث انتقاله لوارثه الكافر.

وبه صرح في التذكرة وجامع المقاصد وغيرهما.

وظاهرهم، بل صريح جامع المقاصد أنه اتفاقي.

غاية الأمر أن يجبر علي بيعه كالمورث علي ما يأتي إن شاء الله تعالي حيث يفهم ذلك من دليله عرفاً، بل هو مقتضي إطلاقه، كما يظهر بملاحظته.

(1) كما صرح به غير واحد وظاهرهم الاتفاق عليه، لعدم تنبيههم للخلاف فيه.

ويشهد به مرفوع محمد بن يحيي عن حماد بن عيسي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أن أمير

ص: 454

المؤمنين (عليه السلام) (عليه السلام) (عليه السلام) أتي بعبد لذمي قد أسلم.

فقال: اذهبوا فبيعوه من المسلمين، وادفعوا ثمنه إلي صاحبه، ولا تقروه عنده»(1).

وحكي عن نوادر أحمد عن أبي جعفر عن أبيه (عليهما السلام): «أن علياً أتي....»(2).

وضعف سنده - لو تم - مجبور بظهور عمل الأصحاب به وتسالمهم علي مضمونه.

هذا وفي الإيضاح: «والأقوي عندي أن الكافر إذا أسلم يباع علي سيده من مسلم، لأنه قد زال ملك السيد عنه، وبقي له حق استيفاء ثمنه في رقبته، لا بمعني انه يملكه، لأن الملك سبيل، وهو منفي لعموم الآية.

فهذا البيع بالنسبة إلي الكافر استنقاذ، وإلي المشتري كالبيع».

وهو مبني علي نهوض آية نفي السبيل بعدم ملكية الكافر للمسلم.

وقد سبق المنع من ذلك.

مضافاً إلي أمرين: الأول: أن ثبوت حق الكافر في رقبة العبد المسلم بنحو يقتضي استيفاء ثمنه منه من سنخ تملكه له من حيثية جعل السبيل.

الثاني: أنه إن اعتمد في وجوب البيع علي الإجماع أو الخبر المتقدم فظاهرهما بقاؤه علي ملك الكافر إلي حين البيع، وأن البيع حقيقي في المقام، والغرض منه دفع محذور بقاء المسلم تحت سلطنة الكافر.

وإن لم ينهضا بالحجية عنده في المقام فلا منشأ لثبوت حق الكافر في استيفاء ثمن العبد من رقبته بعد فرض خروجه عن ملكه بمقتضي آية نفي السبيل.

ثم إن المفهوم عرفاً من الخبر أن البيع علي خصوص المسلمين من أجل التخلص من محذور بقائه تحت يد الكافر.

وذلك يقتضي جواز بيعه علي من ينعتق عليه من الكفار أو بشرط عتقه له، نظير ما سبق في بيع المسلم ابتداء عليهم.

وللأصحاب في المقام فروع لا يسعنا إطالة الكلام فيها.

فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 73 من أبواب كتاب العتق حديث: 1.

(2) النوادر ص: 62 كما ذكره محقق الوسائل تعقيباً علي الحديث المذكور.

ص: 455

(مسألة 4): كل من أقر علي نفسه بالعبودية حكم عليه بها (1) مع الشك (2)

---------------

(1) بلا خلاف أجده.

كذا في الرياض والجواهر.

لما هو المعلوم من بناء العقلاء علي نفوذ إقرار الإنسان علي نفسه.

مؤيداً بالمرسل عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): «أنه قال: إقرار العقلاء علي أنفسهم جائز»(1).

والآخر عنه (صلي الله عليه وآله وسلم): «لا إنكار بعد الإقرار»(2).

ويعضده النصوص الكثيرة الدالة علي نفوذ الإقرار في الموارد المتفرقة، حيث يقرب استفادة العموم منها بإلغاء خصوصية مواردها عرفاً.

مضافاً إلي النصوص الدالة علي إلزام المقر بالرقية، كصحيح عبد الله بن سنان: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: الناس كلهم أحرار، إلا من أقر علي نفسه بالعبودية وهو مدرك من عبد أو أمة، ومن شهد عليه بالرق صغيراً كان أو كبيراً»(3) ، وصحيح الفضل: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل حرّ أقرّ أنه عبد.

قال: يؤخذ بما أقرّ به»(4) ، وغيرهما.

لكن منع ذلك في السرائر من قبول إقرار اللقيط بالرق إذا كبر ونسبه لمحصلي أصحابنا.

قال: «لأن الشارع حكم عليه بالحرية».

وفيه: أن المناسبات الارتكازية قاضية بأن حكم الشارع الأقدس بحرية اللقيط(5) ظاهري من صغريات أصالة الحرية التي يخرج عنها بالإقرار.

وليس هو حكماً واقعياً راجعاً إلي جعل حرمته ثبوتاً.

ولذا لا إشكال ولا خلاف ظاهراً في الحكم برقيته لو قامت البينة عليها.

(2) كما صرح به غير واحد، بل لا إشكال فيه ظاهراً.

لما هو المعلوم من أن الإقرار من الحجج التي يعول عليها في مقام الإثبات الذي هو فرع الشك، وليس هو

-

********

(1و2) مستدرك الوسائل ج: 16 باب: 2 من أبواب كتاب الإقرار حديث: 1، 2.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 29 من أبواب كتاب العتق حديث: 1، 2.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 17 باب: 22 من أبواب كتاب اللقطة.

ص: 456

(457)

الكلام في دعوي العبد الحرية

إذا كان عاقلاً بالغاً (1) مختاراً (2) ولم يكن مشهور الحرية (3).

(مسألة 5): لو اشتري عبداً فادعي الحرية لم يقبل قوله إلا بالبينة (4).

-

سبباً لتحقق مضمونه ثبوتاً.

(1) فقد ذكروا ذلك في شروط قبول الإقرار.

ولا ينبغي الإشكال فيه لما هو المعلوم من رفع القلم عن الصبي والمجنون.

وقد ذكرنا في فصل شروط المتعاقدين وغيره أن المراد من رفع القلم رفع تبعة العمل وعدم تحمل مسؤولية، وإلزام المقر بالإقرار نحو من تحميله تبعته والمسؤولية من أجله.

مضافاً إلي قصور أدلة نفوذ الإقرار المتقدمة عن غير البالغ.

بل ظاهر التقييد بالإدراك في صحيح عبد الله بن سنان أنه احترازي، فيكون مقتضي مفهومه عدم نفوذ إقرار غير المدرك.

(2) بلا إشكال ظاهر.

لما تضمن رفع الإكراه.

نظير ما تقدم في فصل شروط المتعاقدين من عدم نفوذ عقد المكره.

فراجع.

(3) كما في الشرائع والتحرير.

لكن لا يبعد كون مرادهما ما إذا علم بحريته بسبب الشهرة، فيرجع إلي ما سبق من اشتراط الشك، نظير ما في الرياض من قوله: «ما لم يعلم حريته سابقاً بشياع ونحوه».

نعم لا مجال لذلك في المتن والجواهر، حيث جعل الشك فيهما شرطاً آخر.

ولا يتضح الوجه في ذلك بعد عموم أدلة حجية الإقرار.

بل يصعب حمل صحيح الفضل المتقدم علي خصوص من لم يكن مشهور الحرية، لأن فرض السائل حرية المقر وعدم تردده فيها يناسب ظهور حريته بدواً المناسب لاشتهارها جداً.

(4) بلا خلاف، كما في الرياض.

عملاً بمقتضي اليد مع عدم البينة، وعموم حجية البينة المقدم علي اليد بلا إشكال.

مضافاً إلي موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سمعته يقول: كل شيء هو لك حلال حتي تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك.

وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك

ص: 457

في استبراء الأمة

(مسألة 6): يجب علي مالك الأمة إذا أراد بيعها وقد وطئها أن يستبرئها قبل بيعها (1)

---------------

لعله حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك.

والأشياء كلها علي هذا حتي يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة»(1).

ويناسبه صحيح العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن مملوك ادعي أنه حرّ ولم يأت ببينة علي ذلك أشتريه ؟ قال: نعم»(2).

ومعتبر حمزة بن حمران: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أدخل السوق وأريد [أن.

الكافي] أشتري الجارية، فتقول: إني حرّة.

فقال: اشترها إلا أن يكون لها بينة»(3).

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب، ونفي الخلاف فيه في الحدائق والرياض، وظاهر الخلاف أو صريحه دعوي الإجماع عليه، وفي السرائر أنه مقتضي الدليل القاطع وأخبار أصحابنا المتواترة وتصانيفهم المجمع عليها.

وربما يظهر من المقنعة في باب ابتياع الحيوان عدم الوجوب، حيث قال: «ينبغي للبائع أن يستبرئ الأمة قبل بيعها».

لكنه قال في باب لحوق الأولاد من كتاب النكاح وما يلحق به: «ولا يجوز لأحد أن يبيع جارية قد وطئها حتي يستبرئها.

.

.

».

ومن ثم يصعب نسبة الخلاف له.

ويقتضيه النصوص، كصحيح حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في الرجل يبيع الأمة من رجل.

قال: عليه أن يستبرئ من قبل أن يبيع(4)».

وموثق عمار: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): الاستبراء علي الذي يبيع الجارية واجب إن كان يطأها.

وعلي الذي يشتريها الاستبراء أيضاً.

قلت: فيحل له أن يأتيها دون

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 5 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 18 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

ص: 458

(459)

بحيضة إن كانت تحيض (1)، وبخمسة وأربعين يوماً من حين الوطء إن

---------------

الفرج ؟ قال: نعم قبل أن يستبرئها»(1) ، وغيرهما مما قد يأتي بعضه.

نعم في خبر علي بن جعفر المحكي عن قرب الإسناد عن أخيه موسي (عليه السلام): «سألته عن الرجل يشتري الجارية فيقع عليها أيصلح بيعها من الغد؟ قال: لا بأس»(2).

لكن ضعف سنده، وظهور إعراض الأصحاب عنه، وتسالمهم علي خلافه، تمنع من التعويل عليه والخروج به عن ظاهر النصوص الكثيرة، بحيث تحمل لأجله علي الاستحباب.

ولاسيما مع أن الموجود في الطبعة الحجرية من قرب الإسناد: «أيصلح بيعها من الجد؟»(3).

وقد حمل علي بيعها علي الشيخ الذي يستخدمها ولا يتسراها، وفي طبعة مؤسسة آل البيت لإحياء التراث: «أيصلح أن يبيعها مرابحة ؟»(4).

وهو الموجود في مسائل علي بن جعفر(5).

فيحمل علي بيان أن الانتفاع بها بالاستمتاع لا يمنع من بيعها مرابحة.

فلاحظ.

(1) تحديد الاستبراء بحيضة فيمن تحيض هو المشهور من دون خلاف يعرف، كما في الحدائق ومفتاح الكرامة.

بل في الخلاف دعوي الإجماع عليه.

وهو وإن ذكر أنها تعتد بقرئين، إلا أنه قال: «وروي حيضة بين الطهرين.

والمعني متقارب»، حيث يظهر من ذلك أن مراده بالقرئين طهري المواقعة من البائع والمشتري، لأنهما هما اللذان تكون بينهما حيضة واحدة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 18 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 10 من أبواب بيع الحيوان حديث: 7.

(3) قرب الإسناد ص: 113 الطبعة الحجرية.

(4) قرب الإسناد ص: 264 طبعة مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.

(5) مسائل علي بن جعفر ص: 123. طبعة مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.

ص: 459

وكيف كان فيقتضيه ما في صحيح الحلبي عنه (عليه السلام): «وسألته عن رجل اشتري جارية وهي حائض.

قال: إذا طهرت فليمسها إن شاء»(1) ، وموثق سماعة: «سألته عن رجل اشتري جارية وهي طامث، أيستبرئ رحمها بحيضة أخري أو تكفيه هذه الحيضة ؟ قال: لا، بل تكفيه هذه الحيضة.

فإن استبرأها بحيضة أخري فلا بأس، هي بمنزلة فضل»(2).

وغيرهما.

لكن في السرائر في باب السراري: «والأظهر الصحيح وجوب الاستبراء بقرئين».

وكأنه لصحيح محمد بن إسماعيل: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجارية يشتري من رجل مسلم يزعم أنه قد استبرأها، أيجزي ذلك أم لابد من استبرائها؟ قال: يستبرئها بحيضتين.

قلت: يحل للمشتري ملامستها؟ قال: نعم، ولا يقرب فرجها»(3).

وصحيح سعد بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): «سألته عن رجل يبيع جارية كان يعزل عنها، عليه فيها استبراء؟ قال: نعم.

وعن أدني ما يجزي للمشتري والبائع ؟ قال: أهل المدينة يقولون حيضة.

وكان جعفر (عليه السلام) يقول: حيضتان»(4).

وقد حملهما الشيخ علي الاستحباب جمعاً مع النصوص الأخر، مؤيداً بالتصريح بذلك في موثق سماعة المتقدم، وجري علي ذلك غير واحد.

ودعوي: أن ذلك لا يناسب نسبة القول بالحيضة الواحدة في الثاني لأهل المدينة، لظهور أن مرادهم وجوبها، بل المناسب لذلك صدور نصوص الحيضة الواحدة تقية.

مدفوعة بما أشار إليه بعضهم من احتمال ذهاب أهل المدينة إلي عدم استحباب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 3 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 10 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 5.

(4) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 10 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

ص: 460

كانت لا تحيض (1)

---------------

الثانية.

مضافاً إلي أن مثل هذا الحكم الشائع الابتلاء في العصور السابقة يبعد جداً خفاؤه علي المشهور وخطؤهم فيه، بحيث يجرون فيه علي فتوي العامة.

ولاسيما أن الأول قد فرض فيه إخبار البائع باستبرائها، الذي يأتي الاكتفاء به مع أمانته، والثاني قد تضمن ثبوت الاستبراء المذكور في البكر، وأظهر أفرادها غير المدخول بها التي لا يجب استبراؤها.

فلاحظ.

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) المدعي عليه الإجماع في الخلاف.

ولم يعرف الخلاف فيه إلا من المقنعة في باب بيع الحيوان فجعله ثلاثة أشهر، مع أنه وافق المشهور في باب لحوق الأولاد بالآباء.

وكيف كان فيشهد للمشهور النصوص، كالصحيح المروي بطرق عن الحلبي ومحمد بن مسلم وسماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في رجل اشتري جارية لم يكن صاحبها يطؤها يستبرئ رحمها؟ قال: نعم.

قلت: جارية لم تحض كيف يصنع بها؟ قال: أمرها شديد، غير أنه إن أتاها فلا ينزل عليها حتي يستبين له إن كان بها حبل.

قلت: وفي كم يستبين ؟ قال: في خمسة وأربعين ليلة»(1).

معتبر منصور بن حازم: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن عدة الأمة التي لم تبلغ المحيض وهو يخاف عليها.

فقال: خمسة وأربعون ليلة»(2) ، ونحوهما غيرهما.

نعم في صحيح عبد الله بن سنان: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشتري الجارية ولم تحض.

قال: يعتزلها شهراً إن كانت قد مست»(3).

كذا رواه في الكافي بسنده عن عبد الله بن سنان.

وفي الاستبصار بسند آخر عنه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 10 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 3 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 2.

ص: 461

وهي في سن من تحيض (1).

-

لكن رواه في التهذيب بالسند الثاني هكذا: «إن كانت قد يئست» فيخرج عما نحن فيه.

إلا أنه لا مجال للتعويل عليه بعد ظهور تعقيب الشيخ علي الحديث في التهذيب في وروده في غير اليائس.

ولا أقل من أن يكون اختلاف الشيخ في نقله في التهذيبين، موجباً لسقوط كلتا روايتيه بالمعارضة، ويكون المعول علي رواية الكافي.

هذا وقد حمل في التهذيب والوسائل الحديث علي من تحيض في الشهر، فيخرج عن محل الكلام.

لكنه لا يناسب فرض عدم حيض الجارية في السؤال.

ومثله حمله في الوسائل علي غير البالغة، وفي الجواهر علي مجهولة البلوغ، ليكون الأمر بالاستبراء للندب.

إذ هما مع عدم الشاهد عليهما لا يناسبان فرض مسها في الحديث.

ومن هنا قد يكون الأنسب حمل نصوص الخمسة والأربعين لأجله علي الاستحباب، لولا ظهور إعراض الأصحاب (رضي الله عنهم) عن الحديث المذكور، بنحو يوجب سقوطه عن الحجية.

مضافاً إلي كثرة نصوص الخمسة والأربعين بنحو يصعب حملها بأجمعها علي الاستحباب، وخصوصاً الأول المتضمن تحديد مدة احتمال الحمل.

فلاحظ.

(1) أما إذا لم تكن في السن المذكور فالظاهر عدم الإشكال في عدم وجوب استبرائها، كما صرح به غير واحد، ونفي وجدان الخلاف فيه في الجواهر، بل نفي الخلاف فيه في الرياض، وفي الحدائق ادعي الإجماع علي عدم الاستبراء في الصغيرة، كما ادعاه في مفتاح الكرامة فيها وفي اليائسة.

ويقتضيه إطلاق ما تضمن عدم العدة علي من لا تحبل، مثل معتبر محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: التي لا تحبل مثلها لا عدة لها»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 3 من أبواب العدد حديث: 2.

ص: 462

ولو باعها بدون الاستبراء صح البيع (1)، ووجب علي المشتري استبراؤها (2)، فلا يطؤها إلا بعد حيضة أو مضي المدة المذكورة.

-

مضافاً إلي النصوص الخاصة، كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أنه قال في رجل ابتاع جارية ولم تطمث.

قال: إن كانت صغيرة لا يتخوف عليها الحبل فليس عليها عدة، وليطأها إن شاء، وإن كانت بلغت ولم تطمث فإن عليها العدة...»(1).

ومعتبر منصور بن حازم: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجارية التي لا يخاف عليها الحبل.

قال: ليس عليها عدة»(2).

وخبر عبد الله بن عمر: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أو لأبي جعفر (عليه السلام): الجارية الصغيرة يشتريها الرجل وهي لم تدرك، أو قد يئست من المحيض.

قال: فقال: لا بأس بأن لا يستبرئها»(3).

وغيرها.

(1) كما هو الظاهر من كلام الأصحاب علي ما في الحدائق.

وعلله في المسالك برجوع النهي لأمر خارجي.

لكن قد يدعي أن المنصرف من الأمر والنهي في المعاملات الإرشاد للشرطية والمانعية، دون النهي التكليفي.

فالعمدة في المقام: أنه حيث يأتي عدم وجوب الاستبراء علي المشتري إذا كان البائع قد استبرأها، فأمر المشتري بالاستبراء في النصوص الكثيرة لابد أن يحمل علي الأمر الطريقي احتياطاً مراعاة لاحتمال عدم استبراء البائع.

وهو مستلزم لصحة البيع مع عدم استبراء البائع، إذ لو كان البيع باطلاً حينئذٍ لا يكون الاستبراء منه مشروعاً، لعدم كونه مالكاً، ليحل له الوطء بعده.

وبعبارة أخري: يعلم بعدم وجوب الاستبراء عليه، إما لكون البائع مستبرئاً لها، أو لعدم كونه مالكاً لها بالشراء.

(2) بلا إشكال ظاهر، كما يظهر مما يأتي فيما إذا شك في استبراء البائع لها.

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 3 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب الحيوان حديث: 1.

ص: 463

وإذا لم يعلم أن البائع استبرأها أو وطئها وجب عليه الاحتياط في استبرائها (1).

وإذا علم أن البائع لم يطأها أو أنه استبرأها لم يجب عليه استبراؤها (2).

وكذا إذا أخبره صاحبها بأنه قد استبرأها أو أنه لم يطأها إذا كان أميناً (3).

-

(1) من غير خلاف يعرف فيه، بل الإجماع بقسميه عليه.

كذا في الجواهر.

ويقتضيه نصوص تحديد الاستبراء، وقد سبق بعضها.

وكذا النصوص الآتية في تصديق البائع إذا كان ثقة، وما سبق في صحيح الحلبي.

.

.

إلي غير ذلك.

(2) كما ذكر ذلك غير واحد.

ويقتضيه ما يأتي في تصديق البائع بذلك، لأن حجية قوله إثباتاً فرع سقوط الاستبراء بتحقق ما قاله ثبوتاً، كما هو ظاهر.

(3) كما هو المعروف بين الأصحاب، وإن اختلفوا في أن المعيار الثقة أو العدالة.

ونسب للأكثر في الرياض وللمشهور في الجواهر.

ويقتضيه في الجملة معتبر محمد بن حكيم عن العبد الصالح: «قال: إذا اشتريت جارية فضمن لك مولاها أنها علي طهر فلا بأس بأن تقع عليها»(1).

وصحيح حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في الرجل يشتري الأمة من رجل، فيقول: إني لم أطأها.

فقال: إن وثق به فلا بأس أن يأتيها...(2)».

وصحيح أبي بصير: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يشتري الجارية وهي طاهر ويزعم صاحبها أنه لم يمسها منذ حاضت.

قال: إن ائتمنه فمسها»(3).

والظاهر نهوض الأخيرين بتقييد الأول بالأمانة والثقة الراجعين لمعني واحد.

ومثلهما في ذلك ما في صحيح عبد الله بن سنان عنه (عليه السلام): «قلت: أفرأيت إن ابتاعها وهي طاهر، وزعم صاحبها أنه لم يطأها منذ طهرت.

فقال: إن كان عندك أميناً

-

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 3، 1، 4.

ص: 464

[وإن كان عدلاً أميناً.

خ ل.

كافي] فمسها.

وقال: إن ذا الأمر شديد.

فإن كنت لابد فاعلاً فتحفظ لا تنزل عليها»(1).

ولابد من حمل ذيله علي استحباب التحفظ المذكور بقرينة السكوت عنه في الصحيحين، لقوة ظهورهما في عدم وجوبه.

وذهب في السرائر لوجوب الاستبراء علي المشتري مطلقاً.

وكأنه لإهمال النصوص والرجوع لإطلاق نصوص وجوب الاستبراء علي المشتري.

وهو غير ظاهر الوجه بعد اعتبار أسانيد النصوص المذكورة وتعاضدها.

ومثله ما في الإيضاح من متابعة السرائر، لأن الاحتياط في الفروج أولي.

لظهور أن أولوية الاحتياط المذكور لا تمنع من البناء علي جواز تركه اعتماداً علي النصوص السابقة.

نعم قد تعارض النصوص المذكورة بما دلّ علي وجوب الاستبراء، كصحيح محمد بن إسماعيل: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجارية يشتري من رجل مسلم يزعم أنه قد استبرأها، أيجزي ذلك أم لابد من استبرائها؟ قال: يستبرئها بحيضتين»(2).

وخبر عبد الله بن سنان: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أشتري الجارية من الرجل المأمون فيخبرني أنه لم يمسها منذ طمثت عنده وطهرت.

قال: ليس جائزاً أن تأتيها حتي تستبرئها بحيضة.

ولكن يجوز ذلك [لك.

فقيه] ما دون الفرج.

إن الذين يشترون الإماء ثم يأتونهن قبل أن يستبرئوهن فأولئك الزناة بأموالهم»(3).

لكن الأول ظاهر في عدم كفاية إسلام البائع في قبول خبره، فلا ينافي النصوص الأول الظاهرة في قبول قول الثقة المأمون.

ولو غضّ النظر عن ذلك أمكن الجمع بينه وبينها بحمله علي الاستحباب.

ولاسيما مع ما تضمنه من كون الاستبراء بحيضتين.

وهو المتعين في الثاني.

علي أن تطبيق الزنا في ذيله ظاهر في انطباقه واقعاً حتي في فرض تحقق الاستبراء من البائع.

ومرجعه إلي وجوب الاستبراء علي المشتري واقعاً

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 2، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب بيع الحيوان حديث: 5.

ص: 465

ولا يجب الاستبراء في أمة المرأة (1)،

---------------

حتي مع استبراء البائع.

فيكون نظير صحيح الحلبي عنه (عليه السلام): «في رجل اشتري جارية لم يكن صاحبها يطؤها يستبرئ رحمها؟ قال: نعم» (1)، وخبر ربيع بن القاسم: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجارية التي لم تبلغ المحيض ويخاف عليها الحبل.

قال: يستبرئ رحمها الذي يبيعها بخمسة وأربعين ليلة، والذي يشتريها بخمسة وأربعين ليلة» (2)، وموثق عمار (3) المتقدم في أول المسألة.

ولابد من رفع اليد عنها أو حملها علي الاستحباب من أجل النصوص السابقة المتضمنة الاكتفاء بخبر البائع المأمون، وما تقدم في الاكتفاء في الاستبراء بالحيضة الواحدة المتضمنة الاكتفاء في استبراء الحائض حين الشراء بخروجها عن الحيض.

مؤيداً بما يأتي من عدم وجوب استبراء الأمة المشتراة من المرأة.

لما هو المعلوم من أن خصوصية المرأة إنما تناسب رفع الاستبراء الواحد الذي يجب علي البائع.

ولاسيما مع ظهور تعويل الأصحاب علي النصوص المذكورة واشتهار العمل بها.

(1) علي المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً شهرة عظيمة.

كذا في الجواهر.

لصحيح رفاعة: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الأمة تكون لامرأة فتبيعها.

قال: لا بأس أن يطأها من غير أن يستبرئها».

ونحوه حديث حفص عن أبي عبد الله (4) (عليه السلام).

وخبر زرارة: «اشتريت جارية بالبصرة من امرأة فخبرتني أنه لم يطأها أحد، فوقعت عليها ولم أستبرئها، فسألت عن ذلك أبا جعفر (عليه السلام)، فقال: هوذا أنا قد فعلت ذلك.

وما أريد أن أعود» (5).

-

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 10 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1.

(2 و 3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 18 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 2، 5.

(4) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 7 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1 وذيله.

(5) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 7 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 2.

ص: 466

إلا أن يعلم أنها موطوءة (1)

---------------

وفي السرائر أن الأولي وجوب الاستبراء، ووافقه في الأيضاح، لأولوية الاحتياط في الفرج.

لكن لا مجال لذلك بعد ما سبق من النصوص.

وإذا كان ذلك متجهاً من ابن إدريس علي مبانيه في أخبار الآحاد، فلا مجال لذلك من فخر المحققين، لوضوح أن أولوية الاحتياط في الفروج لا تنهض بالخروج عن النص المعتبر.

(1) كما يظهر من الرياض ومفتاح الكرامة والجواهر.

وذكر في الرياض وغيره أنه يشعر بذلك في الجملة خبر زرارة المتقدم.

بل هو المتعين بلحاظ الحكمة من الاستبراء وهي لزوم الفساد باختلاط الأنساب.

لكن الخبر المذكور ظاهر في استحباب الاستبراء أو كراهة تركه، ولا إشعار فيه بما ذكروه.

وأما الحكمة فهي مع عدم اطرادها، حيث قد يعلم بعدم ترتب الحمل علي وطء المشتري لا تنهض دليلاً في المقام وغيره.

فالعمدة في المقام أن ما تضمن احترام الوطء يقتضي وجوب الاستبراء منه، مثل ما روي بطريقين عن مسمع كردين عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان جملة من المحرمات، حيث عدّ منها أمتك وقد وطئت حتي تستبرأ بحيضة(1).

ولا ينافيه ما تضمن عدم استبراء الأمة المشتراة من المرأة، لأنه راجع إلي عدم وجوب استبرائها ظاهراً احتياطاً لاحتمال الوطء المحترم، تعويلاً علي استصحاب عدم الوطء المذكور، بخلاف الأمة المشتراة من الرجل، فإنه يجب فيها الاحتياط المذكور، ولا يجوز فيها التعويل علي الاستصحاب المزبور.

وهو لا ينافي وجوب الاستبراء واقعاً مع تحقق الوطء المذكور المفروض العلم به، كما لا ينافي وجوب استبراء الأمة المشتراة من الرجل عدم وجوبه واقعاً مع عدم

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب ما يحرم بالرضاع حديث: 4، وباب: 19 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 2.

ص: 467

وطئاً محترماً (1)، ولا في الصغيرة ولا في اليائسة (2)، ولا في الحائض حال البيع (3).

نعم لا يجوز وطؤها حال الحيض.

ولا استبراء في الحامل (4).

نعم لا يجوز وطؤها في القبل إلا بعد مضي أربعة أشهر وعشرة أيام (5).

-

الوطء المذكور، فيعمل عليه مع العلم بعدم الوطء.

فلاحظ.

(1) يعني: بنكاح أو ملك يمين ولو بالتحليل بشبهة، دون الزنا، حيث لا حرمة له فلا عدة له ولا استبراء.

نعم يستحب استبراء المزني بها من ماء الفجور، خصوصاً إذا كان الزاني بها هو الذي يريد التزويج بها، علي ما يذكر في محله من مبحث العدد.

(2) لما سبق من عدم وجوب استبراء من هي خارج سن الحيض.

(3) علي المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة.

كذا في الجواهر.

وفي الخلاف دعوي الإجماع عليه.

وقد يستفاد من غيرهما بلحاظ استدلالهم علي الاكتفاء في الاستبراء بحيضة واحدة بصحيح الحلبي وموثق سماعة المتقدمين هناك المتضمنين لذلك.

وكفي بهما دليلاً عليه.

ومنه يظهر ضعف ما في السرائر من عدم كفاية ذلك.

وهو يبتني علي ما سبق منه من وجوب الاستبراء بقرئين.

وسبق الكلام فيه.

فراجع.

(4) كما صرح به غير واحد.

وكأنه لعدم الموضوع له، لأن الاستبراء من أجل احتمال ظهور الحمل، ولا موضوع له مع العلم به.

أما لو كان الاستبراء مجرد ترك الوطء فاللازم البناء علي ثبوته عند من يقول بحرمة الوطء.

والأمر سهل.

(5) كلمات الأصحاب في المقام في غاية الاضطراب والاختلاف، إلا أن ما في المتن هو المصرح به في الشرائع والإرشاد والتحرير والإيضاح، وقد يظهر من التهذيبين.

وفي الدروس أنه المشهور.

وقد سبقهم إليه في النهاية والوسيلة من دون تقييد بالقبل.

ص: 468

لصحيح رفاعة بن موسي: «سألت أبا الحسن موسي بن جعفر (عليهما السلام) قلت: أشتري الجارية.

.

.

قلت: فإن كان حمل فما لي منها إن أردت ؟ قال: لك ما دون الفرج إلي أن تبلغ في حملها أربعة أشهر وعشرة أيام، فإذا جاز حملها أربعة أشهر وعشرة أيام فلا بأس بنكاحها في الفرج.

قلت: إن المغيرة وأصحابه يقولون: لا ينبغي للرجل أن ينكح امرأته وهي حامل قد استبان حملها، حتي تضع، فيغذو ولده.

قال: هذا من فعال اليهود»(1).

وبه يخرج عن إطلاق النصوص الكثيرة المانعة من الوطء، كصحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال في الوليدة يشتريها الرجل وهي حبلي.

قال: لا يقربها حتي تضع ولدها»(2).

وصحيح أبي بصير عنه (عليه السلام): «قلت له: الرجل يشتري الجارية وهي حبلي ما يحل له منها؟ فقال: ما دون الفرج...»(3) ، وغيرهما.

ومنه يظهر عدم الوجه للاقتصار في المدة في كلام جماعة علي أربعة أشهر.

وأشكل منه ما يظهر من المقنعة وغيره من اشتراط الجواز بعد أربعة أشهر بما إذا عزل، وما يظهر من الغنية من اشتراط التحريم في الأربعة بما إذا لم يعزل.

إذ فيه: إن العزل إنما جعل في النصوص دخيلاً في حكم الولد، دون النهي عن الوطء، بل صريح بعضها عموم النهي عن الوطء لصورة العزل، كصحيح إسحاق بن عمار: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل اشتري جارية حاملاً قد استبان حملها فوطأها.

قال: بئس ما صنع.

فقلت: ما تقول فيها؟ قال: عزل عنها أم لا؟ قلت: أجبني في الوجهين.

قال: إن عزل عنها فليتق الله ولا يعد.

وإن كان لم يعزل عنها فلا يبيع ذلك الولد، ولا يورثه، ولكن يعتقه، ويجعل له شيئاً من ماله يعيش به، فإنه قد

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 3، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 5 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 3.

ص: 469

غذاه بنطفته»(1).

كما يظهر مما سبق أيضاً ضعف إطلاق المنع من وطء الحامل حتي تضع ولدها في اللمعة.

وإطلاق جوازه علي كراهة في السرائر.

ومثله ما في الخلاف من كراهة وطئها حتي يمضي لها أربعة أشهر وعشراً.

مستدلاً عليه بالإجماع والأصل.

حيث يظهر منه حمل الصحيح علي الكراهة.

إذ هو خالٍ عن الشاهد، بل مخالف لظاهره جداً.

ولاسيما مع ثبوت الكراهة بعد المدة المذكورة بمقتضي إطلاق بقية النصوص، خصوصاً مثل صحيح محمد بن قيس.

هذا وقد أشار غير واحد إلي أن مقتضي القاعدة أن الحمل إن كان من زنا فلا حرمة له، تبعاً لعدم حرمة سببه، وإن كان من نكاح صحيح أو شبهة فاللازم حرمة وطئها حتي تضع وتنقضي عدتها.

ومن ثم ذهب بعضهم للتفصيل المذكور، إما مع إهمال النصوص جميعاً، كما في التذكرة وظاهر الدروس.

أو حمل التفصيل الذي تضمنه صحيح رفاعة علي خصوص الحمل من الزنا مع حمله علي التحريم، كما في الإيضاح وعن غيره، أو علي الكراهة كما في المختلف.

أما في غير الزنا فيحرم وطؤها حتي تضع.

أو حمل التفصيل المذكور في الصحيح علي خصوص غير الزنا مع جواز الوطء مطلقاً في الزنا، كما في الروضة، واستحسنه في المسالك.

لكن الجميع اجتهاد في مقابل النصوص من دون شاهد له منها.

ولو فرض عموم القاعدة للمقام فتخصيصها بالنصوص غير عزيز.

نعم قد يوجه الأخير بدعوي انصراف نصوص المقام للوطء المحترم، لأن اعتزال المرأة من صغريات العدة التي هي من لواحق الوطء المذكور، ومع قصورها عن الزنا يتعين الرجوع معه للقاعدة القاضية بجواز الوطء.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 9 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

ص: 470

فإن وطئها وقد استبان حملها عزل استحباباً (1)، فإن لم يعزل فالأحوط لو لم يكن أقوي عدم جواز بيع الولد، بل وجوب عتقه (2)، وجعل شيء له من

---------------

لكن لم يتضح كون الاعتزال المذكور من صغريات العدة التي هي من لواحق الوطء المحترم، فلا مخرج عن عموم النص.

ثم إن التقييد في كلام من عرفت بالقبل يبتني علي اختصاص النهي عن القرب والغشيان والنكاح والفرج ونحوها مما تضمنته نصوص المقام بالوطء في القبل، ولا يظهر منهم البناء علي ذلك في سائر الموارد.

والأمر لا يخلو عن إشكال.

وقد تقدم منّا بعض الكلام في ذلك عند الكلام في سببية الوطء في الدبر للجنابة والغسل من كتاب الطهارة.

فراجع.

(1) كما صرح به غير واحد، بل يظهر من بعضهم أنه المشهور.

ولم يتضح الوجه فيه.

وفي الجواهر: «لولا التسامح في أدلة السنن لأمكن الإشكال في ثبوت استحبابه».

(2) كما ذكر ذلك في الجملة في المقنعة والنهاية والوسيلة والغنية، وما عن التقي الحلبي وادعي في الغنية الإجماع عليه.

ويشهد له معتبر إسحاق المتقدم.

وموثق غياث بن إبراهيم أو صحيحه عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: من جامع أمة حبلي من غيره فعليه أن يعتق ولدها ولا يسترق، لأنه شارك فيه الماء(1).

وموثق السكوني عنه (عليه السلام): «إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) دخل علي رجل من الأنصار، وإذا وليدة عظيمة البطن تختلف، فسأل عنها، فقال: اشتريتها يا رسول الله وبها هذا الحبل.

قال: أقربتها؟ قال: نعم.

قال: اعتق ما في بطنها.

قال: يا رسول الله بِمَ استحق العتق ؟ قال: لأن نطفتك غذت سمعه وبصره ولحمه ودمه»(2).

ولكن صرح في الشرائع والنافع بكراهة بيعه، وتبعه العلامة في جملة من كتبه

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 9 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 2، 3.

ص: 471

ماله يعيش به (1).

-

وجماعة ممن تأخر عنه، وفي الدروس أنه المشهور.

وفي مفتاح الكرامة: «لعل ذلك من هؤلاء لضعف الأخبار، مع أصالة البراءة».

وفيه: أن الظاهر اعتبار النصوص المذكورة في نفسها.

ولاسيما مع ظهور عمل من سبق بها.

ومثله ما أشار إليه في الجواهر وإن لم يظهر منه التعويل عليه من ظهور التعليل في الكراهة، لرجوعه إلي أنه يكون بذلك كالولد.

إذ فيه: أن ذلك لا ينهض شاهداً علي الكراهة، بل يجتمع مع الحرمة.

نظير تنزيل الرضاع منزلة النسب.

ومن هنا يتعين البناء علي الوجوب عملاً بظاهر النصوص المتقدمة.

هذا وصريح المقنعة عدم الفرق في جريان الحكم المذكور بين الوطء قبل مضي المدة السابقة والوطء بعد مضيها، وقد يظهر من إطلاق ما عن التقي الحلبي.

وصريح النهاية اختصاصه بما إذا كان الوطء قبل مضي المدة، أما بعد مضيها فيجوز بيع الولد علي كل حال، وهو المتيقن من الغنية والوسيلة.

كما أن ظاهر المتن اختصاصه بما إذا كان بعد استبانة الحمل.

ومن الظاهر عموم حديثي غياث والسكوني.

وأما صحيح إسحاق فقد ورد في فرض الوطء بعد استبانة الحمل، والمتيقن منه بعد مضي المدة المذكورة.

لكن التقييد فيه لما كان في كلام الراوي فهو لا ينهض بالخروج عن إطلاق الحديثين الأولين، كما لعله ظاهر.

(1) كما في النهاية والوسيلة والغنية وعن التقي.

ويقتضيه صحيح إسحاق.

لكن عدم ذكر ذلك في حديثي إبراهيم والسكوني مع ظهورهما في بيان تمام ما يجب في الفرض المذكور قد تنهض بالقرينة علي حمل الأمر به في صحيح إسحاق علي الاستحباب.

نظير ما ورد من الأمر بالإنفاق علي المعتق الذي لا حيلة له(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 14 من أبواب كتاب العتق حديث: 1.

ص: 472

(473)

وجوب الاستبراء في غير البيع

(مسألة 7): وجوب استبراء البائع للأمة قبل البيع يثبت لكل مالك يريد نقلها إلي غيره ولو بسبب غير البيع (1).

وكذلك وجوب استبراء المشتري قبل الوطء يثبت لكل من تنتقل إليه الأمة بسبب (2) وإن كان إرثاً أو استرقاقاً أو نحوهما، فلا يجوز له وطؤها إلا بعد الاستبراء.

-

ولاسيما أن التعليل المذكور في النصوص الثلاثة يناسب تشبيهه بالولد، والولد لا يجب ذلك في حقه، وأن عزل مثل هذا المال قد يصعب أو يتعذر علي الواطئ.

هذا وفي المقنعة: «وينبغي له أن يجعل له من ماله بعد وفاته قسطاً ويعوله في حياته».

وهو وإن كان غير آب عن الحمل علي الاستحباب، إلا أن مفاده مخالف لمفاد الصحيح، لانصرافه إلي عزل المال حين العتق بلحاظ حاجته إليه بعد عدم وجوب نفقته علي أحد بسبب عتقه.

ومثله ما في الشرائع والقواعد وغيرهما من استحباب عزل شيء له من ميراثه.

(1) المذكور في كلام الأصحاب هو ما يأتي من إلحاق غير الشراء من أسباب التملك بالشراء في وجوب الاستبراء.

أما إلحاق غير البيع من أسباب النقل عن الملك بالبيع في ذلك فلم يتعرضوا له.

ومن الصعب البناء عليه بعد اختصاص النصوص بالبيع.

ولاسيما مع كون وجوب الاستبراء من البائع تعبدياً محضاً، لأنه ليس احتياطاً لنفسه، بل للمشتري، لأنه هو الذي يحرم عليه وطء الأمة الموطوءة قبل الاستبراء.

(2) كما هو المشهور نقلاً وتحصيلاً، علي ما في الجواهر.

وفي الخلاف دعوي الإجماع علي وجوب الاستبراء علي من ملك أمة بابتياع أو هبة أو إرث أو استغنام.

ولم يعرف الخلاف في ذلك إلا من السرائر في كتاب البيع، مع موافقته لهم في باب السراري.

وقد استدل علي عدم وجوب الاستبراء بعموم قوله تعالي: (أَوْ مَا مَلَكَتْ

ص: 473

الكلام في جواز شراء بعض الحيوان

(مسألة 8): يجوز شراء بعض الحيوان مشاعاً (1)، كنصفه وربعه.

ولا يجوز شراء بعض معين منه كرأسه وجلده إذا لم يكن المقصود منه الذبح (2)،

---------------

أَيْمَانُكُمْ)(1).

ويظهر ضعفه مما سبق في الأمة المشتراة من المرأة من أن العموم المذكور مخصص بما دلّ علي احترام الوطء، فالتمسك به مع الشك فيه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وجواز الوطء مع الشك ليس مقتضي العموم المذكور، بل مقتضي استصحاب عدم تحقق الوطء المحترم.

ومرجع دليل الاستبراء إلي عدم جواز التعويل علي الاستصحاب المذكور احتياطاً للنسب.

وحينئذٍ فإلغاء خصوصية المشتري في النصوص السابقة عرفاً قريب جداً.

ويؤيده خبر الحسن بن صالح عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«قال: نادي منادي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يوم أوطاس أن استبرئوا سباياكم بحيضة (2) ».

بل قد يستدل به بدعوي انجباره بعمل الأصحاب، ويستفاد منه العموم بضميمة عدم الفصل.

لكنه لا يخلو عن إشكال.

.

أولاً: لعدم وضوح اعتمادهم عليه، ومجرد موافقته لفتواهم لا يكفي في ذلك.

وثانياً: لعدم كفاية مجرد عدم الفصل في التعميم، ما لم يرجع للإجماع علي عدم الفصل، وهو غير ثابت في المقام.

فالعمدة ما سبق.

فلاحظ.

والله سبحانه وتعالي العالم.

(1) بلا خلاف ولا إشكال، بل الإجماع بقسميه عليه.

كذا في الجواهر.

لعمومات الصحة واللزوم، كما هو الحال في سائر موارد شراء الجزء المشاع.

(2) كما ذكره غير واحد، بل في شرح القواعد لكاشف الغطاء: «للإجماع بقسميه».

وقد يستدل عليه مضافاً إلي ذلك.

.

تارة: بالجهالة، لعدم تعيين موضع

********

(1) سورة النساء الآية: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 17 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

ص: 474

(475)

القطع.

وأخري: بعدم القدرة علي التسليم.

وثالثة: بعدم إمكان الانتفاع به.

ورابعة: بأن ذلك قد يؤدي إلي النزاع والتشاجر، للاختلاف في إرادة ذبح الحيوان وإبقائه حياً.

ويشكل الأول بما تكرر منّا من عدم وضوح عموم مانعية الجهالة.

مضافاً إلي أنه مع الإطلاق وعدم تحديد موضع القطع يتعين الاقتصار فيه علي منتهي العضو، إلا مع تعارف ما زاد عليه، فيحمل عليه الإطلاق.

والثاني في غاية المنع لإمكان تسليمه بتسليم الحيوان.

ومجرد الاتفاق بين المتبايعين علي عدم فصله، للبناء علي عدم ذبح الحيوان، لا يمنع من تحقق التسليم.

ومثله الثالث، لظهور أن الانتفاع بالحيوان مستلزم للانتفاع بأجزائه وإن اختلف نحو الانتفاع بكل منها.

غايته أن يتفق الشريكان علي مقدار انتفاع كل منهما به أو حصة كل منهما من قيمة منفعته بتمامه.

علي أنه لا وجه لاعتبار فعلية الانتفاع بالمبيع في صحة البيع.

ومنه يظهر ضعف الرابع، حيث لا دليل علي مانعية التعرض للنزاع من صحة البيع.

ولاسيما بلحاظ حصول ذلك في الشركة نوعاً.

مع أنه يمكن التخلص من ذلك بالاتفاق علي وقت خاص للذبح أو نحو ذلك.

وأما الإجماع فقد تكرر منّا عدم نهوضه بالاستدلال في مثل هذا الحكم الخالي عن النصوص وغير الشائع الابتلاء.

ومن القريب أن يكون ذهاب من ذهب للمنع مبتنياً علي بعض الوجوه الاعتبارية المتقدمة أو غيرها، من دون أن يبتني علي إجماع تعبدي.

علي أنه لم يتضح حصول الإجماع بعد عدم تعرض غير واحد له، خصوصاً مع تعرض بعضهم لحكم استثناء الرأس والجلد.

بل في المقنعة: «ولا بأس بابتياع أبعاض الحيوان، كما يبتاع ذلك من غيره، كالمتاع والعقار».

وقريب منه في النهاية.

ومقتضي إطلاق كلامهما جواز الشراء بالنحو المذكور وإن لم يكن المقصود بالحيوان الذبح.

ومن هنا لا مخرج عما تقتضيه العمومات من الصحة.

ص: 475

بل كان المقصود منه الإبقاء للركوب أو الحمل أو نحوهما.

ولو كان المقصود منه الذبح جاز شراء بعض معين منه (1)، لكن لو لم يذبح لمانع كما إذا كان في ذبحه ضرر مالي كان المشتري شريكا بنسبة ماله، لا بنسبة الجزء (2).

-

كما يتعين العموم لما إذا لم يكن الحيوان مأكول اللحم لو فرض تعلق الغرض بشراء بعض أجزائه.

وربما يأتي في تتمة المسألة ما ينفع في المقام.

(1) يظهر من غير واحد المفروغية عن ذلك.

وتقتضيه عمومات الصحة بناء علي ما سبق من عدم نهوض شيء من الوجوه السابقة بالمنع.

مضافاً إلي معتبر الغنوي الآتي الذي قد يستفاد منه العموم بإلغاء خصوصية مورده عرفاً.

(2) كما صرح به جماعة، واحتمل بعضهم كونه إجماعياً.

لمعتبر هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في رجل شهد بعيراً مريضاً وهو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم، وأشرك فيه رجلاً بدرهمين بالرأس والجلد.

فقضي أن البعير برئ، فبلغ ثمانية دنانير.

قال: فقال: لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ.

فإن قال: أريد الرأس والجلد فليس له ذلك.

هذا الضرار.

وقد أعطي حقه إذا أعطي الخمس»(1).

هكذا رواه الشيخ(2).

ولكن رواه الكليني هكذا: «فجاء وأشرك فيه رجلاً بدرهمين بالرأس والجلد، فقضي أن البعير برئ فبلغ ثمنه دنانير.

قال: فقال لصاحب الدرهمين: خذ خمس ما بلغ فأبي.

قال: أريد الرأس والجلد.

فقال: ليس له ذلك.

هذا الضرار، وقد أعطي حقه إذا أعطي الخمس»(3).

ومقتضاه إجزاء الخمس في الخروج عن حقه، لا تعين حقه في الخمس.

نعم يمكن حينئذٍ الاستدلال علي تعين حقه في الخمس بأنه حيث كان مقتضي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 22 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1.

(2) تهذيب الأحكام ج: 7 ص: 82.

(3) الكافي ج: 5 ص: 293.

ص: 476

القاعدة أن له المطالبة بالرأس والجلد، وكان الاجتزاء بغير ذلك مخالفاً للقاعدة، تعين الاقتصار علي الخمس، تبعاً للنص المتقدم في جواز الخروج عنها.

علي أن الكليني والشيخ (قدس سرهما) وإن اختلفا في متن الحديث في رواية محمد بن يحيي له بسنده عن الغنوي، إلا أن الشيخ رواه بسند آخر معتبر بالوجه الأول(1).

فيكون هو الحجة بعد سقوط رواية محمد بن يحيي له بالتعارض بسبب اختلافهما في نقلها.

فلاحظ.

بقي في المقام أمور: الأول: أن الحديث صريح في أنه ليس للشريك المنع من بيع الحيوان، والمتيقن من ذلك ما إذا كان منعه منه من أجل أن يذبح ويأخذ الرأس والجلد، دون ما إذا كان من أجل توقع زيادة الثمن، فيتعين الاستجابة له حينئذٍ إلي أن يتضح الحال.

الثاني: أن المتيقن من الحديث ما إذا بيع الحيوان، وانتهي الأمر للثمن.

أما إذا لم يبع وبقي حتي ذبح فلا ملزم بالخروج عما تقتضيه القاعدة من ملكية كل من الشريكين للجزء الذي كان له حين الشراء من دون أن يتبدل الحال بالإشاعة.

الثالث: حيث سبق أن مقتضي القاعدة جواز الشراء بالنحو المذكور، فالظاهر التعدي عن مورد الحديث إلي بقية أجزاء الحيوان، لإلغاء خصوصيته عرفاً، فيكون الاشتراك في ثمن بيع الحيوان ثانياً بنسبة ما دفعه كل منهما ثمناً في بيعه أولاً.

إلا أن يذبح، فينفرد كل منهما بماله من الأجزاء.

الرابع: أن الحديث مختص بما إذا حصل ملك الشريكين له معاً بالشراء حين إرادة الذبح.

أما إذا سبق ملك أحدهما له واشتري الآخر منه العضو حين إرادة الذبح، فإن كان ملك الأول له مجاناً بهبة أو ميراث أو غيرهما فلا موضوع للشركة بينهما بنسبة المال.

وإن كان بشراء فالشركة بنسبة المال وإن كانت ممكنة، إلا أنه لا مجال للبناء عليها

********

(1) تهذيب الأحكام ج: 7 ص: 79.

ص: 477

ولو باع الحيوان واستثني الرأس والجلد، أو اشترك اثنان أو جماعة وشرط أحدهم لنفسه الرأس والجلد، فإنه يكون شريكاً بنسبة الرأس والجلد (1)، لا بنسبة المال.

-

عد خروجها عن مورد الحديث.

كيف! وقد يلزم منها الحيف علي أحدهما.

كما لو كان الأول قد اشتراه صحيحاً بمائة درهم مثلاً، فلما مرض وأراد ذبحه اشتري الآخر العضو منه بدرهمين، ثم برئ وأرادوا بيعه.

أو اشتراه الأول صغيراً بعشرة دراهم فلما كبر وأراد ذبحه اشتري الآخر العضو منه بعشرة دراهم، ثم عرض ما أوجب عدولهم عن ذبحه.

وحينئذٍ يتعين الجري علي مقتضي القاعدة من ملكية كل منهما للجزء الذي له حين شراء الثاني، فإذا انتهي الأمر أخيراً للذبح أخذ كل منهم ما يختص به، نظير ما سبق في مورد الحديث، وإذا انتهي الأمر أخيراً للبيع تعين شركة كل منهما في الثمن بنسبة الجزء الذي له، نظير ما يأتي في فرض الاستثناء.

نعم قد يستفاد من الحديث المتقدم أنه لو حدث أمر غير متوقع عند بيع العضو أوجب عدم المصلحة في الذبح فليس لمشتري العضو التعنت وطلب الذبح، بحيث يكون مضاراً عرفاً، لقضاء المناسبات الارتكازية بإلغاء خصوصية المورد عرفاً في ذلك.

وإن كان الأمر محتاجاً لمزيد من التأمل.

والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

(1) أما مع استثناء البائع فهو المصرح به في النهاية والمبسوط والمهذب وظاهر الشرائع، بل النافع أيضاً، ومحكي التلخيص.

ويقتضيه موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: اختصم إلي أمير المؤمنين (عليه السلام) رجلان اشتري أحدهما من الآخر بعيراً واستثني البيع [البائع.

خ ل] الرأس أو الجلد، ثم بدا للمشتري أن يبيعه.

فقال للمشتري: هو شريكك في البعير علي قدر الرأس والجلد»(1).

وقريب منه خبر العيون

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 22 من أبواب بيع الحيوان حديث: 2.

ص: 478

بأسانيده عن الإمام الرضا (عليه السلام)، إلا أن فيه: «ثم بدا له أن ينحره».

وظاهر المقنعة والانتصار والغنية وغيرها ممن اقتصر علي بيان صحة الاستثناء بقاء المستثني في ملك البائع، وينفرد كل منهما بماله من دون شركة.

وهو صريح السرائر.

والذي ينبغي أن يقال: لا ينبغي الإشكال في أن ذلك مقتضي الاستثناء.

ولا ينافيه موثق السكوني، لأن ما تضمنه من الشركة إنما هو في فرض البيع، ومن الظاهر أن بيع ملك شخصين صفقة يقتضي اشتراكهما في الثمن بنسبة قيمة مال كل منهما لقيمة المجموع.

نعم قد ينافي ذلك رواية العيون، لأن المفروض فيها هو نحر البعير، فالحكم فيها بالشركة مع ذلك يناسب رجوع الاستثناء إلي الإشاعة علي خلاف قصد المتبايعين.

لكن الرواية مع عدم خلوها عن الضعف في السند لا يخلو مضمونها عن إشكال، لظهورها في أن إرادة النحر أمر طارئ علي خلاف ما كان عليه البناء حين البيع والاستثناء، مع وضوح أن إرادة النحر هي الأمر الطبيعي حين إيقاع مثل هذا البيع والاستثناء.

ومن هنا لا يبعد حمل قوله: «ثم بدا له أن ينحره» علي البداء في النحر، بمعني العدول عنه، فيناسب موثق السكوني.

ولا أقل من التوقف في رواية العيون لاضطراب متنها، وانفراد موثق السكوني في المقام الذي سبق أن المتيقن من الشركة فيه هو الشركة في الثمن في صورة البيع، فيلزم البناء مع عدمه بامتياز كل منهما بماله من دون شركة.

وذلك كالصريح من الدروس، حيث قال: «ولو استثني الرأس والجلد فالمروي الصحة، فإن ذبحه فذاك، وإلا كان البائع شريكاً بنسبة القيمة».

وعليه جري في الجواهر.

نعم قد يدعي أن الاستثناء لا يصح، بل يبطل البيع علي الوجه الذي قصده المتعاقدان، ويحمل النص علي حصول الشركة تعبداً.

كما يناسب ذلك ما في المبسوط

ص: 479

والخلاف من المنع من الاستثناء المذكور، وما في المهذب من التصريح ببطلان البيع حينئذٍ، مع ما سبق منهم من حصول الشركة.

وكأن الوجه فيه ما في الخلاف من أن الاستثناء المذكور استثناء من غير الجنس، أو ما تقدم في بيع عضو خاص من الحيوان الذي لا يراد منه الذبح من الجهالة، أو عدم القدرة علي التسليم أو غيرهما.

وحينئذٍ تكون الشركة التي تضمنها الحديثان المتقدمان حكماً تعبدياً راجعاً إلي حصول ما لم يقصده المتعاقدان، فاللازم البناء عليه حتي مع الذبح.

لكن تقدم دفع محذور الجهالة وعدم القدرة علي التسليم وغيرهما.

فراجع.

وأما دعوي أن الاستثناء المذكور من غير الجنس فهي تبتني علي كون المستثني هو الجزء حال الذبح، لا حال الحياة، ولا ملزم بالبناء علي ذلك، بل لا محذور في استثناء الجزء حال الحياة، عملاً بظاهر الاستثناء.

وعلي ذلك لا مخرج عما سبق.

ومنه يظهر ضعف ما ذكره العلامة وجماعة ممن تأخر عنه من بطلان الاستثناء مطلقاً أو في غير المذبوح أو في غير ما يراد ذبحه، من دون بناء علي الشركة، استضعافاً للحديثين السابقين، أو طرحاً لهما، لمخالفتهما لما تضمنه الكتاب المجيد من وجوب الوفاء بالعقد المتعذر في المقام.

حيث يظهر مما سبق أنه لا موجب لبطلان العقد، وكما لا وجه لاستضعاف الحديثين بعد كون حديث السكوني من الموثق، وظهور عمل الأصحاب به.

كما ظهر إمكان الوفاء بالعقد علي الوجه الذي أوقع عليه.

وغاية ما يلزم تخصيصهما لقاعدة السلطنة القاضية بأن للبائع المستثني للعضو الامتناع من البيع والإلزام بالذبح، كما يلزم ذلك في معتبر الغنوي المتقدم، وهو ليس محذوراً.

كما يظهر أيضاً أن الحكم لا يختص بالرأس والجلد، بل يصح استثناء سائر الأعضاء، كما لا يأباه كلام من سبق.

فلاحظ.

هذا كله فيما إذا استثني البائع العضو من الحيوان.

وأما إذا اشترك جماعة في شراء

ص: 480

(481)

لو قال لآخر: اشر حيواناً بشركتي

(مسألة 9): لو قال شخص لآخر: اشتر حيواناً بشركتي صح (1)، ويثبت البيع لهما علي السوية مع الإطلاق (2)، ويكون علي كل واحد منهما نصف الثمن.

ولو قامت القرينة علي كون المراد الاشتراك علي التفاضل كان العمل عليها.

ولو دفع المأمور عن الآمر ما عليه من جزء الثمن، فإن كان الأمر بالشراء علي وجه الشركة قرينة علي الأمر بالدفع عنه رجع الدافع عليه

---------------

الحيوان وشرط بعضهم لنفسه عضواً من الحيوان الذي هو الفرض الثاني المذكور في المتن فجريان ذلك فيه يبتني علي إلحاقه بصورة استثناء البائع للجزء.

وقد يدعي أن ذلك ليس بأولي من إلحاقه بما إذا اشتري شخص الجزء الذي تقدم في معتبر الغنوي أن المشتري يكون شريكاً بنسبة ماله، بل لعل الثاني أقرب عرفاً.

ولعله لذا ذهب إلي صيرورته شريكاً بنسبة ماله في الشرائع والنافع وغيرهما.

لكن من الظاهر أنه خارج عن مورد نصوص المسألتين، فلا وجه لإلحاقه بإحداهما، بل يلزم الرجوع فيه للقاعدة.

وقد سبق أنها تقتضي اختصاص كل منهما بماله من دون شركة، وأن الشركة إنما تثبت في الثمن علي تقدير البيع، وأن موثق السكوني منزل علي ذلك، فيتعين البناء عليه في الفرض المذكور.

(1) بلا إشكال ولا خلاف ظاهر.

لرجوعه إلي التوكيل له في الشراء، فيترتب عليه الأثر، كما في سائر موارد التوكيل.

(2) بلا خلاف ولا إشكال، كما في الجواهر.

لأن إطلاق الشركة وإن لم يختص بصورة التساوي، إلا أن إطلاق الأمر بالتشريك ينصرف إليها، لما هو الغالب من عدم تعلق الغرض بمطلق التشريك علي اختلاف مراتبه، فعدم تعيين مرتبة خاصة منه يوجب الانصراف لصورة التساوي بين الشريكين، بحيث لا يترجح أحدهما علي الآخر.

فلاحظ.

ص: 481

ظهور الأمة بعد الوطء انها ملك لغير البايع

بما دفعه عنه (1)، وإلا كان متبرعاً (2)، وليس له الرجوع عليه به (3).

(مسألة 10): لو اشتري أمة فوطئها فظهر أنها ملك لغير البائع كان للمالك انتزاعها منه (4)، وله علي المشتري عشر قيمتها إن كانت بكراً، ونصف العشر إن كانت ثيباً (5).

-

(1) لرجوع ذلك إلي إذنه له في إقراضه ما يدفعه عنه.

(2) من الظاهر أن التبرع أمر قصدي، ولا يستلزم عدم الأمر بالدفع عنه، فضلاً عن عدم قيام القرينة علي الأمر، حيث قد يقصد حينئذٍ الدافع الرجوع علي المدفوع عنه من دون أن يتبرع عنه.

غايته أن قصد الرجوع لا يكون ملزماً للمدفوع عنه مع عدم أمره بالدفع، فيتعين عدم الرجوع عليه، كما لو قصد التبرع.

(3) إذ لا منشأ له بعد عدم إذنه له في ذلك.

نعم لو كان الدفع عنه منوطاً بضمانه له ومعلقاً عليه، تعين عدم ترتب الأثر عليه، فيكون له استرجاعه، وتبقي ذمة الشريك مشغولة للبائع بقسطه من الثمن.

لكنه يحتاج إلي عناية.

مع أن التعليق في الوفاء لا يخلو عن إشكال.

نعم يمكن الدفع بنحو الإقراض علي أن يكون له الاستيفاء به إذا عوض الشريك شريكه عنه.

(4) بلا خلاف ولا إشكال، كما في الجواهر.

لعدم خروجها بذلك عن ملكه، فله أخذها بمقتضي سلطنته علي ملكه.

مضافاً للنصوص الواردة في المقام ونظائره، كمعتبر زرارة: «قلت لأبي جعفر (عليه السلام): الرجل يشتري الجارية من السوق، فيولدها، ثم يجيء الرجل، فيقيم البينة علي أنها جاريته لم تبع ولم تهب.

فقال: يرد إليه جاريته، ويعوضه بما انتفع...»(1) ، وغيره مما قد يأتي بعضه.

(5) كما هو المشهور نقلاً وتحصيلاً شهرة عظيمة، علي ما في الجواهر.

بل في الخلاف دعوي الإجماع عليه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 2.

ص: 482

(483)

ويقتضيه صحيح الوليد بن صبيح عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في رجل تزوج امرأة حرة، فوجدها أمة قد دلست نفسها له.

قال: إن كان الذي زوجه إياها من غير مواليها فالنكاح فاسد.

.

.

ولمواليها عليه عشر ثمنها إن كانت بكراً.

وإن كانت غير بكر فنصف عشر قيمتها، بما استحل من فرجها...»(1).

وصحيح الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السلام) الوارد في تحليل الشخص جاريته لغيره.

وفيه: «قلت: أرأيت إن أحل له ما دون الفرج فغلبته الشهوة فافتضها.

قال: لا ينبغي له ذلك.

قلت: فإن كان فعل أيكون زانياً؟ قال: لا، ولكن يكون خائناً، ويغرم لصاحبها عشر قميتها إن كانت بكر، وإن لم تكن فنصف عشر قيمتها»(2).

ونحوه صحيح رفاعة(3).

وموثق طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام): «أن علياً (عليه السلام) قال: إذا اغتصبت أمة فافتضت فعليه عشر ثمنها.

فإذا كانت حرة فعليه الصداق»(4).

وهي وإن وردت في غير ما نحن فيه، إلا أن إلغاء خصوصية مواردها عرفاً قريب جداً.

بل هو المتعين بلحاظ التعليل بقوله (عليه السلام) في صحيح الوليد بن صبيح: «بما استحل من فرجها» لظهوره في أن الغرامة المذكورة من أجل حرمة الفرج، نظير حرمة المنفعة المستوفاة، وذلك يقتضي التعميم لكل وطء للجارية غير مستحق.

ويؤيد ذلك ما ورد فيمن اشتري جارية حبلي وهو لا يعلم من أنه يردها ويرد نصف عشر قيمتها(5).

بل في مرسلة الكليني: «إن كانت بكراً فعشر ثمنها، وإن لم تكن بكراً فنصف عشر ثمنها»(6).

نعم في بعضها: «يردها ويرد معها شيئاً»(7) وفي آخر: «يردها ويكسوها»(8).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 67 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 35 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 82 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب أحكام العيوب.

(6و7و8) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب أحكام العيوب حديث: 4، 5، 6.

ص: 483

ولو حملت منه كان عليه قيمة الولد يوم ولد حياً (1) ويرجع علي البائع بما

---------------

ولا يبعد تنزيلهما علي ما يساوي نصف العشر، لثيبوبة الحبلي غالباً.

والعمدة الصحاح السابقة.

هذا وقد يشكل بعدم ذكر ذلك في نصوص كثيرة واردة في الجارية الموطوءة شبهة، كالمشتراة من غير المالك(1) وغيرها(2).

ولعله لذا لم يذكره في المقنعة والنهاية.

نعم حكي عن النهاية ذكره في كتاب الحدود وإن لم أعثر عليه.

لكن لابد من حملها بقرينة النصوص المتقدمة علي عدم كونها في مقام استيفاء الأحكام.

وذهب الشيخ في كتاب الغصب من المبسوط إلي وجوب المهر إذا لم تكن زانية.

ولأجل ذلك نسب له غير واحد وجوب مهر المثل.

لكن قد يكون مراده بالمهر العشر ونصف العشر، كما فسره به في أحكام تفريق الصفقة من كتاب البيع.

نعم صرح بذلك ابن إدريس وجماعة في باب الغصب، وذكر في السرائر أن ما تضمن العشر ونصف العشر وارد فيمن اشتري جارية فوطئها ثم ظهرت حاملاً فأراد ردّها، فلا يقاس عليه ما نحن فيه.

لكن عرفت أن العمدة الصحاح السابقة التي يجب التعدي عن موردها.

كما أن وجوب مهر المثل إنما ورد في الحرة إذا وطئت شبهة، وليس من شأنها التقويم.

فحمل الأمة عليها قياس.

ومن هنا لا مخرج عما سبق.

(1) ظاهره كون الولد حراً، كما ادعي الإجماع عليه في الخلاف والمبسوط.

لكن في المقنعة: «كان لمالكها انتزاعها من يد المبتاع واسترقاق ولدها، إلا أن يرضيه الأب بشيء عن ذلك».

وفي النهاية: «كان لمالكها انتزاعها من يد المبتاع وقبض ولدها.

إلا أن يرضيه الأب بشيء عن ذلك».

وفي المهذب: «كان الولد رقاً لسيدها.

وعلي سيدها

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 67 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

ص: 484

اغترمه للمالك (1) إن كان جاهلاً (2).

-

تسليم الولد لسيدها بالقيمة».

والأول هو المناسب لما تضمن عدم ملكية ولد الحر.

وحينئذٍ تكون القيمة هي قيمته حين يولد حياً، إذ هو بعد ذلك حر فلا معني لتقييمه.

ودعوي: أن اللازم تقييمه حين انعقاد نطفته، لأنه محكوم بالحرية حينئذٍ.

مدفوعة بأن مقتضي نسبة القيمة للولد في النصوص تقييمه وهو ولد، وهو لا يكون إلا حين ولادته.

لكن الإنصاف أن النصوص في المقام في غاية الاضطراب من هذه الجهة، حيث اختلفت في حرية الولد ورقيته.

نعم يتعين الجمع بينها، إما بأنه حرّ بحكم الرق في ضمانه لصاحب الجارية بالقيمة حين سقوطه حياً، وإما بأن من شأنه أن يتحرر بدفع قيمته لصاحب الجارية، بقرينة موثق سماعة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن مملوكة أتت قوماً وزعمت أنها حرة فتزوجها رجل منهم وأولدها ولداً، ثم إن مولاها أتاهم فأقام عندهم البينة أنها مملوكة، وأقرت الجارية بذلك.

فقال: تدفع إلي مولاها هي وولدها.

وعلي مولاها أن يدفع ولدها إلي أبيه بقيمته يوم يصير إليه....(1).

نعم لم يتضمن الموثق ضمان قيمة الولد حين سقوطه حياً، بل قيمته حين يصير للأب.

ومن هنا لا يخلو الأمر عن إشكال.

وإن لم يكن مهماً بعد عدم الابتلاء بالمسألة في عصورنا.

(1) لقاعدة الضمان بالتغرير التي تقدم تفصيل الكلام فيها في المسألة التاسعة عشرة من الفصل الثاني في شروط المتعاقدين في تتمة أحكام عقد الفضولي.

فراجع.

(2) الظاهر أن مراده (قده) جهل المشتري، ليكون بذلك مغروراً من البائع ويستحق الرجوع.

لكنه إذا كان عالماً بالحال كان زانياً، إلا أن يجهل اعتبار إذن المالك،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 67 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 5.

ص: 485

(مسألة 11): الأقوي أن العبد يملك (1)، فلو ملّكه مولاه شيئاً ملكه.

وكذا لو ملّكه غيره أو حاز لنفسه شيئاً إذا كان بإذن المولي (2).

ولا ينفذ تصرفه فيما ملكه بدون إذن مولاه (3).

---------------

ومع الزنا يكون الولد رقاً، علي ما يذكر في محله.

(1) كما هو ظاهر الأكثر علي ما في الدروس.

لظهور جملة من النصوص المتضمنة لإضافة المال للعبد(1) في المفروغية عن ذلك.

وهي وإن لم يكن لها إطلاق، إلا أنها حيث دلت علي قابلية العبد للملكية فمقتضي إطلاق أدلة أسباب الملك عمومها للعبد.

بل قد يكون ذلك مقتضي الإطلاقات المقامية لأدلة الأسباب المذكورة، حيث يستفاد منها التحويل في تشخيص القابلية للعرف، وهو يري قابلية العبد للتملك.

ولا ينافي ذلك كونه مملوكاً فضلاً عن كونه محجوراً عليه.

ودعوي: أن ملكيته لغيره فرع ملكيته لنفسه.

ممنوعة فإن ملكية الإنسان لنفسه ليست من سنخ ملكيته لغيره، بل هي عبارة عن محض السلطنة عليها، وهي وإن لم تتحقق في العبد، إلا أنها ليست شرطاً في ملكية الغير، حيث لا إشكال في عدم مانعية الحجر من الملك.

هذا وقد ذهب جماعة كثيرة إلي عدم ملك العبد مطلقاً كما نسبه في المسالك للأكثر، بل ربما ادعي الإجماع عليه أو في الجملة علي اختلاف وجوه التفصيل.

لوجوه ضعيفة لا يسعنا إطالة الكلام فيها بعد خروج المسألة عن محل الابتلاء.

(2) لأن التملك نحو من التصرف الذي يمنع منه العبد بغير إذن المولي.

(3) قطعاً لما أشرنا إليه من عموم الحجر عليه، ومنعه من التصرف بغير إذن المولي.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 24 من أبواب كتاب العتق وغيرها.

ص: 486

(487)

اذا اشري كل من العبدين صاحبه من مولاه

(مسألة 12): إذا اشتري كل من العبدين المأذونين من مولاهما بالشراء صاحبه من مولاه، فإن اقترن العقدان وكان شراؤهما لأنفسهما بطلا (1)،

---------------

(1) كما صرح به جماعة.

لامتناع ملك كل منهما لصاحبه وعدم المرجح بعد فرض التقارن.

مضافاً إلي صحيح أبي خديجة [سلمة] عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال في رجلين مملوكين مفوض إليهما يشتريان ويبيعان بأموالهما، فكان بينهما كلام، فخرج هذا يعدو إلي مولي هذا، وهذا إلي مولي هذا.

وهما في القوة سواء، فاشتري هذا من مولي هذا العبد، وذهب هذا فاشتري من مولي هذا العبد الآخر، وانصرفا إلي مكانهما، وتشبث كل منهما بصاحبه، وقال له: أنت عبدي قد اشتريتك من سيدك.

قال: يحكم بينهما من حيث افترقا بذرع الطريق، فأيهما كان أقرب فهو الذي سبق الذي هو أبعد.

وإن كانا سواء فهما ردا علي مواليهما، جاءا سواء وافترقا سواء.

إلا أن يكون أحدهما سبق صاحبه، فالسابق هو له، إن شاء باع وإن شاء أمسك.

وليس له أن يضربه»(1).

نعم قال الكليني (قده): «وفي رواية أخري: إذا كانت المسافة سواء يقرع بينهما، فأيهما وقعت القرعة به كان عبده»(2).

وقريب منه في التهذيب(3).

ومقتضي إطلاقه الإقراع حتي مع العلم بالاقتران.

ولعله لذا قال في النهاية: «فإن اتفق أن كان العقدان في حالة واحدة أقرع بينهما فمن خرج اسمه كان البيع له.

ويكون الآخر مملوكه.

وقد روي أنه إذا اتفق العقدان في حالة واحدة كانا باطلين.

والأحوط ما قدمناه».

لكن لم يتضح وجه الاحتياط في ذلك.

مع أن الإقراع إن كان لعمومات القرعة فهي لو تمت إنما تقتضي تعيين المجهول بالقرعة، ولا جهالة في المقام، بل مقتضي القاعدة بطلانهما معاً.

علي أنها غير تامة علي ما ذكرناه في المسألة التاسعة والثلاثين من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 18 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 18 من أبواب بيع الحيوان حديث: 2. الكافي ج: 5 ص: 218.

(3) تهذيب الأحكام ج: 7 ص: 73.

ص: 487

وإن كان شراؤهما للسيدين فالأقوي الصحة (1).

وإن ترتبا صح

---------------

مقدمة كتاب التجارة من هذا الشرح.

وإن كان للمرسل المتقدم، فهو وإن كان ممكناً في نفسه كمرجح تعبدي، نظير ما ورد فيمن قال: أول مملوك أملكه فهو حر، فورث سبعة جميعاً(1) ، ومن أوصي بعتق ثلث مماليكه(2) ، إلا أن المرسل مع ضعفه في نفسه، وقرب انصرافه عن صورة العلم بتقارن العقدين، لندرتها جداً حتي مع تساوي الطريقين لا ينهض بالاستدلال في قبال صحيح أبي خديجة الصريح في الحكم ببطلان العقدين معاً مع تساوي الطريقين إلا مع العلم بسبق أحدهما بعينه.

هذا وقد أهمل سيدنا المصنف (قده) ما تضمنه الصحيح من أمارية اختلاف الطريقين علي تقدم عقد من كان طريقه أقرب.

وكأنه لعدم تعرض الأكثر لذلك بنحو قد يظهر في هجرهم للصحيح.

لكنه في غاية الإشكال، حيث قد يظهر التعويل عليه في ذلك من الكليني والشيخ في التهذيب، بل صرح بالحكم المذكور في النافع وفي كشف الرموز أنه يدل عليه النظر والأثر، وحكاه عن صاحب البشري.

فلاحظ.

(1) كما في جامع المقاصد، لكون كل منهما مأذوناً في الشراء إلي حين خروجه عن ملك صاحبه بتمام العقد، ولا يخرج عن ملك صاحبه وإذنه إلا بعد إكمال العقد وترتب الأثر عليه.

وأما ما يظهر من المختلف من خروج كل منهما عن الإذن بإقدام بائعه علي بيعه، وحيث كان إقدام بائع كل منهما مقارناً لوقوع العقد من كل منهما تعين عدم نفوذ عقد كل منهما، لكونه فضولياً واحتاج للإجازة.

فهو غير ظاهر، بل غاية ما يمكن أن يدعي أن ظاهر حال الإذن استمراره مادام مملوكاً للآذن، والإقدام علي بيعه لا يستلزم الرجوع عن الإذن.

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأبواب الدعوي حديث: 15، 10.

ص: 488

(489)

وطء الشريك جارية الشركة

السابق (1).

وأما اللاحق إن كان الشراء لنفسه فهو باطل (2).

وإن كان الشراء لسيده توقف علي إجازته (3).

(مسألة 13): لو وطئ الشريك جارية الشركة حدّ بنصيب غيره (4).

فإن حملت قوّمت عليه (5)،

---------------

(1) بلا إشكال ظاهر.

وبه صرح غير واحد.

لعمومات نفوذ العقد ولزومه بعد فرض وقوعه من أهله في محله.

مضافاً إلي صحيح أبي خديجة المتقدم فيما إذا كان شراؤهما لأنفسهما.

(2) لانتهاء الإذن له ببيعه، وعدم ترتب الأثر بعده حتي لو فرض استمراره، ولامتناع ملكه لمالكه.

(3) لانتهاء إذنه له بخروجه عن ملكه، لانصرافه لذلك، فلا ينفذ تصرفه وشراؤه له إلا بإجازته.

(4) للإجماع المحكي إن لم يكن المحصل، كما في الجواهر.

وللنصوص المستفيضة، كمعتبر عبد الله بن سنان: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قوم اشتركوا في شراء جارية، فائتمنوا بعضهم وجعلوا الجارية عنده، فوطئها.

قال: يجلد الحد، ويدرأ عنه من الحد بقدر ما له فيها، وتقوم الجارية، ويغرم ثمنها للشركاء...»(1).

ونحوه معتبره الآخر(2) ، بل لعله عينه، وغيرهما من النصوص.

(5) لا إشكال في تقويم الجارية علي الواطئ بسبب الوطء في الجملة، فيجب عليه أن يأخذ حصص الشركاء بالقيمة، وتصير الجارية بتمامها له.

وإنما الكلام في أن ذلك يثبت بمجرد الوطء أو باحتمال الحمل أو بتحقق الحمل.

ظاهر النهاية الأول.

ويشهد له معتبر ابن سنان المتقدم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 22 من أبواب حد الزنا حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1.

ص: 489

لكن في ذيل معتبره الثاني: «قلت: فإن أراد بعض الشركاء شراءها دون الرجل.

قال: ذلك له.

وليس له أن يشتريها حتي تستبرأ.

.

.

».

وهو صريح في عدم وجوب شرائه لها إذا لم تكن حاملاً.

ويناسبه ما في موثق إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام): «في رجلين اشتريا جارية، فنكحها أحدهما دون صاحبه.

قال: يضرب نصف الحد، ويغرم نصف القيمة إذا أحبل»(1).

وحينئذٍ يتعين حمل الإطلاق في معتبر عبد الله بن سنان الأول وصدر معتبره الثاني تخلصاً من التدافع علي صدوره لدفع توهم عدم وجوب احتسابها عليه إذا حملت، لعدم النظير له، بل إما أن يجوز بيع حصته منها، لعدم ملكها بتمامها، لتكون أم ولد، أو لا يجب شراء بقية الحصص التي لم تكن في ملكه حين الوطء، كما لا يجب علي الواطئ زانياً أو عن شبهة شراء موطوءته لو حملت منه.

ولعله لذا ذهب في السرائر والشرائع وكثير غيرهما إلي عدم التقويم عليه إلا بالحمل، بل في مفتاح الكرامة: «لم أجد للشيخ موافقاً، والموجود في السرائر وما تأخر عنها أنها إنما تقوم عليه إذا حملت».

وأما احتمال وجوب تقويمها عليه بمجرد احتمال الحمل الذي ذكره سيدنا المصنف (قده) في آخر كلامه فلم أعرف بعد النظر في كلماتهم قائلاً به، وإن قيل بندرته.

وكأن وجهه صحيح عمرو بن عثمان عن عدة من أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: سئل عن رجل أصاب جارية من الفيء، فوطأها قبل أن يقسم.

قال: تقوم الجارية، وتدفع إليه بالقيمة، ويحط له منها ما يصيبه من الفيء، ويجلد الحد، ويدرأ له من الحد بقدر ما كان له فيها.

فقلت: وكيف صارت الجارية تدفع إليه هو بالقيمة دون غيره ؟ قال: لأنه وطأها، ولا يؤمن أن يكون ثَم حبل»(2).

لكنه لا يناسب موثق إسماعيل المتقدم المتضمن إناطة التقويم بنفس الحبل، لا باحتماله، ومثله ذيل معتبر ابن سنان المتقدم المتضمن جواز شراء أحد الشركاء لها بعد

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 22 من أبواب حد الزنا حديث: 8، 6.

ص: 490

وانعقد الولد حراً (1)، وعليه قيمة حصص الشركاء من الولد عند سقوطه حياً (2).

بل يحتمل تقويمهم لها عليه بمجرد الوطء مع احتمال

---------------

الاستبراء، لظهور أن الاستبراء يكون نوعاً مع احتمال الحبل.

ومن هنا يقرب اختصاصه بمورده ونحوه مما يتعذر فيه الانتظار لاستكشاف الحال، لأن من شأن الفيء التعجيل بقسمته، وتفرق الغانمين بعد أخذ حصصهم منه.

وعلي ذلك لا مخرج عما عليه المشهور واقتضاه الجمع بين النصوص من اختصاص التقويم بصورة الحمل في غير مورد الصحيح المتقدم.

(1) كما صرح بذلك جماعة من دون خلاف ظاهر، بل يظهر من بعض كلماتهم المفروغية عنه.

لكن ذلك لا يناسب كلامهم فيمن اشتري جارية مستحقة لغير البائع، أو تزوج جارية علي أنها حرة، فظهرت مملوكة، حيث يظهر من بعضهم أنه مملوك يجب علي أبيه فكه بدفع القيمة، وقد تقدم في المسألة العاشرة ما يناسب ذلك من النصوص.

نعم لا ينبغي الإشكال في عدم معاملة الولد معاملة ولد الزنا، بل هو كالمولود بوطء المملوكة، لأن ما تضمنته نصوص المقام من تقييم الجارية علي الواطئ يبتني علي صيرورتها بسبب الحمل أم ولد، بحيث يلزم بقاؤها عنده وعدم خروجها عن ملكه، وهو يناسب صيرورة الولد شرعياً بسبب ملك أبيه لبعض أمه.

(2) كما في السرائر والشرائع والنافع والتذكرة والدروس وكثير غيرها.

ويظهر منهم أن ذلك يستفاد من نصوص استيلاد الجارية المستحقة المتقدمة في المسألة العاشرة والمتضمنة ضمانه قيمة الولد لصاحب الجارية، ومن النصوص الواردة في الجارية التي يقع عليها أكثر من واحد فتجيء بولد يدعيه كل منهم، المتضمنة أنه يقرع بينهم فمن خرج الولد له ضمن قيمته للباقين(1).

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 57 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

ص: 491

في مستحبات شراء المملوك

الحمل (1).

(مسألة 14): يستحب لمن اشتري مملوكاً تغيير اسمه (2) وإطعامه شيئاً

---------------

لكن الطائفة الأولي إنما وردت في الجارية المستحقة للغير التي تبقي علي ملك صاحبها بعد الاستيلاد، وتكون قيمة الولد نظير قيمة المنفعة المستوفاة منها، لا في المشتركة التي تقوّم علي صاحبها مع الحمل فتكون له بسبب الحمل، والتي هي محل الكلام.

ولعله لذا خصّ ضمان قيمة الولد للشركاء بما إذا لم تقوم وهي حامل في مجمع الفائدة والحدائق والرياض وغيرها، وإلا دخلت قيمة الولد معها.

لكنه يشكل أيضاً مضافاً إلي أن النصوص إنما تضمنت تقويم الجارية، وإلحاق الحمل بالحيوان عند بيعه لو تم لا يستلزم إلحاقه به عند تقويمه علي الشخص قهراً عليه بأن نصوص تقويم الولد مختصة بما إذا كانت الموطوءة مملوكة للغير حين الوطء، وكان الوطء شبهة جهلاً بملكيته، ولم يجب شراؤها علي الواطئ بسبب الحمل، والمفروض في المقام العدوان في الوطء مع العلم بملكية الشركاء لها، وحكم الشارع بتقويمها عليه بسبب الحمل تعبداً.

وأما الطائفة الثانية فلم يتضح ورود شيء منها في وطء الشريك.

ولاسيما مع عدم التعرض في الطائفتين لتقويم الجارية علي الواطئ، ولا في نصوص المقام لضمان قيمة الولد للشركاء، مع ظهور جميع الطوائف في استيفاء أحكام مواردها.

ولعله لذا لم يذكر في النهاية في المقام ضمان قيمة الولد للشركاء.

فلاحظ.

(1) سبق التعرض لمنشأ الاحتمال المذكور، وتمام الكلام فيه.

(2) كما ذكره غير واحد.

ويقتضيه صحيح زرارة: «كنت جالساً عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فدخل عليه رجل ومعه ابنه.

فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ما تجارة ابنك ؟ فقال: التنخس.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تشتر شيناً ولا عيباً [سبياً ولا غبياً.

يب].

وإذا اشتريت رأساً فلا ترين ثمنه في كفة الميزان.

فما من رأس يري ثمنه في كفة

ص: 492

(493)

من الحلاوة (1)، والصدقة عنه بأربعة دراهم (2)، ولا يريه ثمنه في الميزان (3).

والأحوط عدم التفرقة بين الأم والولد قبل الاستغناء عن الأم (4).

-

الميزان فأفلح.

وإذا اشتريت رأساً فغير اسمه، وأطعمه شيئاً حلواً إذا ملكته، وصدق [وتصدق.

خ ل] عنه بأربعة دراهم»(1).

(1) كما ذكره غير واحد.

وفي النافع وأن يطعمه شيئاً حلواً، وهو أعم من الحلاوة.

ويناسبه ما تقدم في صحيح زرارة.

(2) كما في التذكرة والدروس.

وقد تقدم في صحيح زرارة.

وأطلق في الشرائع والقواعد والإرشاد الصدقة عنه.

ولم يتضح وجهه.

(3) كما ذكره جماعة كثيرة.

ويشهد به ما تقدم في صحيح زرارة، وفي معتبر ميسر عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: من نظر إلي ثمنه وهو يوزن لم يفلح»(2).

(4) فقد اختلف الأصحاب في تحريمه وكراهته، فالمشهور كما في التذكرة الحرمة، وفي الخلاف الإجماع عليه.

وذهب جماعة للكراهة، بل عن إيضاح النافع أنه الأظهر بين الأصحاب.

واختلف كلام بعضهم باختلاف كتبهم أو باختلاف أبواب الفقه في الكتاب الواحد.

وكيف كان فقد يستدل للتحريم بصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أنه قال في الرجل يشتري الغلام أو الجارية وله أخ أو أخت أو أب أو أم بمصر من الأمصار.

قال: لا يخرجه إلي مصر آخر إذا كان صغيراً، ولا يشتريه.

وإن كانت له أم فطابت نفسها ونفسه فاشتره إن شئت»(3) ، وموثق سماعة أو صحيحه: «سألته عن أخوين مملوكين هل يفرق بينهما، وبين المرأة وولدها؟ قال: لا هو حرام إلا أن يريدوا ذلك»(4) ، وصحيح عمرو بن أبي نصر: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الجارية

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 6 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1، 2.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 13 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1، 4.

ص: 493

أما البهائم فيجوز فيها ذلك (1) ما لم يؤد إلي إتلاف المال المحترم.

-

الصغيرة يشتريها الرجل.

فقال: إن كانت قد استغنت عن أبويها فلا بأس»(1).

لكن لا مجال لحمل الأولين علي التحريم بعد اشتمالهما علي الإخوة، وجعل معيار الحل في الأول طيب نفس الطرفين، وفي الثاني إرادتهما أو رضاهما، لا استغناء أحدهما عن الآخر الذي هو محل الكلام.

نعم قد ينهض بالاستدلال عليه الثالث، مؤيداً بالمرتكزات المتشرعية، وبصحيح معاوية بن عمار: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أتي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بسبي من اليمن، فلما بلغوا الجحفة نفدت نفقاتهم فباعوا جارية من السبي كانت أمها معهم.

فلما قدموا علي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) سمع بكاءها.

فقال: ما هذه ؟ قالوا: يا رسول الله احتجنا إلي نفقة فبعنا ابنتها، فبعث بثمنها فأتي بها.

وقال: بيعوهما جميعاً، أو أمسكوهما جميعاً»(2) ، حيث يمكن حمله علي وقت حاجتها إليها.

(1) الظاهر عدم الخلاف فيه ولا الإشكال.

وهو المقطوع به من السيرة.

والحمد لله رب العالمين.

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 13 من أبواب بيع الحيوان حديث: 5، 2.

ص: 494

(495)

خاتمة في الإقالة

اشارة

وهي فسخ العقد من أحد المتعاملين (1) بعد طلبه من الآخر (2).

-

(1) وليست بيعاً جديداً، كما حكي عن العامة، علي اختلاف منهم في عمومه وخصوصه.

لظهور التباين بينهما مفهوماً.

ولما يأتي من أنها تكون في غير البيع أيضاً.

ولعدم وقوعها ابتداءً، بل لابد من تعقبها لعقد سابق بنحو تقتضي حلّه وفسخه، بخلاف البيع وسائر العقود.

ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه.

ويترتب علي ذلك أمران: الأول: أنه يجوز الإقالة في بيع الربويين المتماثلين لو نقص أحد العوضين بجفاف أو زاد أحدهما برطوبة، ولو كانت بيعاً حرمت حينئذٍ للزوم الربا، كما هو ظاهر.

الثاني: أنه لا تثبت في الإقالة الشفعة كما نبّه لذلك في الشرائع والتذكرة والقواعد وغيرها، وفي مفتاح الكرامة أن عباراتهم قد طفحت به، بل ظاهر التذكرة الإجماع عليه، فلو باع أحد الشريكين فلم يأخذ شريكه بالشفعة، ثم حصل التقايل في بيع الحصة لم يكن للشريك الشفعة، لاختصاص الشفعة بالبيع، ولو كانت بيعاً لكان له الشفعة.

وهناك آثار أخر تظهر للمتتبع.

(2) الظاهر عدم أخذ الطلب المذكور في مفهومها عرفاً، بل يكفي رغبة الآخر فيه بحيث يكون الفسخ عن اتفاق منهما.

كما أن نفوذ الفسخ من المرغوب إليه ليس

ص: 495

والظاهر جريانها في عامة العقود اللازمة (1) غير النكاح (2).

وفي

---------------

انفراده بالسلطنة علي حلّ العقد، كما لو كان له حق الخيار، بل لرجوع رغبة الطرف الآخر أو طلبه إلي رضاه بالفسخ، فيرجع الأمر حقيقة إلي التقايل.

ولذا لو سقطت سلطنة الطرف الآخر علي حلّ العقد بسفه أو نحوه لم تنفذ الإقالة وإن رغب فيها أو طلبها.

نعم لا يجعلها ذلك عقداً، بل هي حلّ العقد وفسخه، وهما متقابلان مفهوماً ومتباينان خارجاً.

(1) تقدم في الفصل الرابع في الخيارات عند الكلام في شرط الخيار في البيع أن الإقالة واشتراط الخيار إنما يشرعان فيما إذا كان لزوم العقد حقياً، حيث يكون لذي الحق التنازل عن حقه، أما إذا كان اللزوم حكمياً، فيكون الفسخ بالتقايل واشتراط الخيار منافياً للحكم الشرعي.

وقد تقدم هناك أن لزوم العقود نوعاً حقي، وأنه لذلك يشرع فيها التقايل واشتراط الخيار، إلا ما قام الدليل علي عدم مشروعيتهما فيه، لكون لزومه حكمياً.

كما تقدم هناك الكلام في بعض العقود، وفي كون لزومها حقياً أو حكمياً.

فراجع.

هذا والظاهر جريان الإقالة في العقود غير اللازمة أيضاً.

ومجرد سلطنة كل من الطرفين علي فسخها لا يمنع من صدق الإقالة فيما لو لم يرغب أحد الطرفين في المبادرة إلي فسخ العقد، ورغب من الآخر أن يعفيه منه ويقيله، فأقاله استجابة لرغبته.

وإذا سبق منهم الإشكال في اشتراط الخيار في العقود الجائزة، لدعوي لغوية نفوذ الشرط، فلا مجال لذلك هنا بعد عدم ابتناء الإقالة علي شرط ليقع الكلام في لغوية نفوذه وعدمها.

غاية الأمر أن الإقالة في العقد الجائز لا ترجع إلي التقايل وإن أمكن أن تجتمع معه، حيث يكفي فيها سلطنة أحد الطرفين علي الفسخ.

فلاحظ.

(2) فقد تقدم في المسألة الحادية عشرة من الفصل الرابع في الخيارات تقريب كون لزومه حكمياً، وعدم مشروعية التقايل فيه.

ص: 496

جريانها في الهبة اللازمة والضمان إشكال (1)، وتقع بكل لفظ يدل علي المراد وإن لم يكن عربياً (2).

بل تقع بالفعل كما تقع بالقول (3)، فإذا طلب أحدهم الفسخ من صاحبه، فدفع إليه (4) كان فسخاً وإقالة، ووجب علي الطالب إرجاع ما في يده إلي صاحبه.

-

(1) للإشكال في كون اللزوم فيهما حقياً.

وقد سبق في المسألة المذكورة منشأ الإشكال في الهبة.

أما الضمان فقد تقدم منه (قده) مشروعية اشتراط الخيار فيه.

وهو يناسب مشروعية التقايل فيه.

نعم تقدم منّا تقريب توقف ذلك علي إذن المدين فيه.

كما أنه تقدم منه (قده) الإشكال في مشروعية اشتراط الخيار في الصدقة.

وهو لو تم يقتضي عدم مشروعية التقايل فيها.

والعمدة فيه ما تضمن أن ما كان لله عز وجل فلا رجعة فيه(1).

(2) بلا إشكال ظاهر، بل لعله لا خلاف فيه.

لتحقق الإقالة به عرفاً، فتجري معه أحكامها.

(3) لنظير ما تقدم في سابقه، وللسيرة المستمرة، كما في الجواهر.

وفي خبر هذيل: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشتري المتاع أو الثوب، فينطلق به إلي منزله، ولم ينقد شيئاً، فيبدو له فيرده، هل ينبغي له ذلك ؟ قال: لا، إلا أن تطيب نفس صاحبه»(2).

فإنه صريح في كفاية طيب النفس في تحقق الإقالة، ومن الظاهر كفاية الفعل في الكشف عن طيب النفس، كما يكفي في الكشف عنه مطلق القول من دون ملزم بتقييده بشيء.

(4) يعني: دفع المطلوب منه ما أخذه من العوضين إلي الطالب وأرجعه إليه.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 6 باب: 24 من أبواب الصدقة. وج: 13 باب: 3، 5 من كتاب الهبات. وباب: 11 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات، وغيرها.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

ص: 497

(مسألة 1): لا تجوز الإقالة بزيادة عن الثمن أو المثمن أو نقصان (1).

فلو أقال كذلك بطلت (2)، وبقي كل من العوضين علي ملك مالكه.

وإذا جعل له مالاً في الذمة أو في الخارج ليقيله، بأن قال له: أقلني ولك هذا المال،

---------------

(1) قال في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيهما إلا ما حكاه الشهيد في حواشيه عن الإسكافي.

قال: ولو اصطلح المتبايعان بزيادة أو نقيصة صحّ عند ابن الجنيد.

والأصحاب علي خلافه، لأنها فسخ لا بيع».

ومرجعه أن الفسخ يقتضي حلّ البيع ورجوع العوضين إلي ما كانا عليه قبله.

فاشتراط الزيادة أو النقيصة خروج عن مقتضي الإقالة، ولا يجتمع مع قصدها، نظير اشتراط ما يخالف مقتضي العقد.

لكن هذا إنما يتم في اشتراط الوضيعة، لأن عدم رجوع بعض أحد العوضين ينافي الفسخ المقتضي لرجوع تمام كل من العوضين لصاحبه الأول، أما الزيادة فاشتراط استحقاقها بالفسخ لا ينافي مقتضي الفسخ إلا إذا قصد بالشرط استحقاقها علي نحو استحقاق العوض، بحيث تكون جزءاً منه راجعاً برجوعه، ومن المعلوم عدم القصد لذلك، بل المراد استحقاقها مع العوض كأمر خارج عنه بسبب الشرط.

وحينئذٍ يجري فيه الكلام الآتي في الشرط.

(2) لا ينبغي الإشكال في ذلك في اشتراط الوضيعة.

للتنافي بين الإقالة والشرط، المانع من نفوذهما معاً، نظير ما تقدم في الشرط المخالف لمقتضي العقد من مباحث الشروط، كما أشرنا آنفاً.

مضافاً إلي صحيح الحلبي: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشتري ثوباً [ولم يشترط علي صاحبه شيئاً فكرهه] ثم رده علي صاحبه، فأبي أن يقيله [يقبله] إلا بوضيعة.

قال: لا يصلح أن يأخذه بوضيعة.

فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه ردّ علي صاحبه الأول ما زاد»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب أحكام العقود حديث: 1.

ص: 498

(499)

جواز الإقالة بزيادة الثمن

أو: أقلني ولك عليّ كذا.

نظير الجعالة، ففي الصحة وجه (1).

ولو أقال بشرط مال عين أو عمل كما لو قال للمستقيل: أقلتك بشرط أن تعطيني كذا، أو تخيط ثوبي فقبل، ففي الصحة إشكال (2).

---------------

وأما اشتراط الزيادة فقد ذكرنا جريان ما يأتي في الشرط فيه.

(1) لعدم منافاة ذلك للإقالة، بل هو مترتب عليها بعد وقوعها علي الوجه الذي تضمنته من حلّ العقد ورجوع كل من العوضين إلي ما كان عليه قبل العقد، فيتعين استحقاقه، كما في سائر موارد الجعالة.

وأظهر من ذلك ما إذا دفع إليه الجعل علي أن يقيله، بحيث تكون الإقالة هي الجزاء علي الجعل.

(2) حيث قد يدعي استفادته من الصحيح، لإلغاء خصوصية الوضيعة فيه عرفاً، أو لعدم الفصل، أو لأن اشتراط الوضيعة وعدم رجوع بعض الثمن أعم من عدم رجوعه بالفسخ ورجوعه به ثم استحقاق البائع له بالشرط.

وبعبارة أخري: لا يراد باشتراط الوضيعة في الصحيح إلا عدم أخذ المشتري لتمام الثمن، سواء كان لعدم رجوعه بتمامه بالفسخ، أم لاستحقاق البائع لبعضه بعد الفسخ بالشرط.

وحينئذٍ يستفاد منه عدم صحة الإقالة بنحو يستفيد بها أحد الطرفين.

لكن الجميع في حيز المنع.

وقد أطال في الجواهر في ذلك.

فراجع.

ودعوي: أن الإقالة حيث كانت حلاً للعقد ولم تكن عقداً فهي لا تقبل الشرط، لأن الشرط إنما يكون في ضمن العقد.

ومرجع ذلك إلي عدم الدليل علي نفوذ الشرط المذكور وإن لم يثبت مانع من نفوذه.

مدفوعة بأن كون الإقالة حلاً للعقد السابق، لا عقداً قائماً بنفسه، لا ينافي كونها طرفاً لعقد مستقل مركب منها ومن الشرط المذكور، فتكون مشمولة لعموم نفوذ العقود.

كما يكون الشرط فيها مشمولاً لعموم نفوذ الشروط، بناء علي ما سبق في أول

ص: 499

(مسألة 2): لا يجري في الإقالة فسخ أو إقالة (1).

(مسألة 3): في قيام وارث المتعاقدين مقام المورِّث في صحة الإقالة إشكال، وإن كان أقرب (2).

(مسألة 4): تصح الإقالة في جميع ما وقع عليه العقد وفي بعضه (3).

---------------

كتاب التجارة من صدق الشرط علي أحد طرفي الالتزام العقدي.

ولعله لذا ذهب بعض مشايخنا (قده) إلي صحة الشرط المذكور.

فلاحظ.

(1) قد يظهر من الجواهر المفروغية عنه، لعدم معهودية تزلزل الفسخ.

والعمدة فيه أن الإقالة في العقد اللازم وإن توقفت علي رضا الطرفين، إلا أنها ليست عقداً، بل هي حلّ للعقد، وبعد حلّه لا يتصور عرفاً فسخ الحلّ ورجوع العقد الأول، بل لابد من عقد جديد.

(2) كما في التذكرة.

كأنه لأن ملكية الوارث عرفاً بقاء لملكية المورث، فهي ملكية واحدة تواردا عليها، وليست هي كملكية الموهوب أو المشتري مباينة لملكية الواهب والبائع.

ولذا تقدم منّا تقريب قيام الوارث في مقام المورث في إجازة العقد الفضولي، وإن تقدم منه (قده) التوقف في ذلك الذي هو لا يناسب ما هنا.

هذا وقد منع بعض مشايخنا (قده) من كون الوارث مقيلاً، وأجاز كونه مستقيلاً.

ولم يتضح لنا وجه التفصيل المذكور بعد ما سبق من رجوع الإقالة إلي التقايل من الطرفين.

(3) كما في الشرائع والتذكرة والقواعد وغيرها كثير، وعن شرح الإرشاد للفخر الإجماع عليه.

واستدل له في الجواهر بإطلاق أدلة الإقالة.

لكن لم أعثر علي نصوص شارحة لكيفية الإقالة، وإنما ينحصر الأمر بما تضمن استحباب الإقالة، أو إقالة النادم في البيع(1) ، وما تقدم من عدم جواز الإقالة بوضيعة، وهي لا تنهض بشرح الإقالة.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب آداب التجارة.

ص: 500

(501)

تلف احد العوضين لا يمنع من الإقالة

ويتقسط الثمن حينئذٍ علي النسبة (1).

وإذا تعدد البائع أو المشتري تصح الإقالة بين أحدهما والطرف الآخر بالنسبة إلي حصته (2).

ولا يشترط رضي الآخر (3).

(مسألة 5): تلف أحد العوضين أو كليهما لا يمنع من صحة الإقالة (4)

---------------

غاية الأمر أن مقتضي إطلاقها المقامي التحويل علي العرف في شرحها، وحيث كانت الإقالة فسخاً للعقد فقد سبق منّا في المسألة الرابعة عشرة من الفصل الرابع في الخيار المنع من التبعيض في فسخ العقد الواحد عرفاً.

فيتعين المنع من التبعيض في الإقالة.

من دون فرق بين تعدد أحد طرفي العقد وعدمه.

خلافاً لما صرحوا به من إمكان التبعيض فيها مطلقاً، وما عن ابن المتوج من إمكان التبعيض فيها مع تعدده فقط.

(1) علي نحو ما تقدم في تبعيض الصفقة في المسألة الواحدة والعشرين من الفصل الثاني في شروط المتعاقدين، لأن المقامين من باب واحد لو صح التبعيض في المقام.

(2) بناءً علي ما سبق منه من إمكان التبعيض في الإقالة.

(3) لانفراد كل منهما بالسلطنة علي حصته، والشركة إنما تمنع من انفراد كل منهما بالسلطنة علي المجموع، والمفروض عدم اقتضاء الإقالة التصرف فيه، بل في خصوص الحصة.

كما لا مجال لشفعة الآخر في الحصة التي هي مورد الإقالة بعد اختصاص الشفعة بالبيع، وعدم كون الإقالة منه، علي ما ذكرناه في أول الكلام في الإقالة.

(4) لأن الإقالة حيث كانت فسخاً فموضوع الفسخ هو العقد بما له من وجود استمراري، دون العوضين بشخصهما ليرتفع موضوع الإقالة والفسخ بتلف أحدهما.

وأما ما سبق منّا من الإشكال في بقاء بعض الخيارات مع تلف أحد العوضين فهو لا يبتني علي امتناع الفسخ مع تلف أحد العوضين، بل علي قصور دليل ثبوت حق الخيار عن صورة تلفه، فلا ينافي إمكان التقايل من دون استحقاق للخيار.

ص: 501

فإذا تقايلا رجع كل عوض إلي صاحبه الأول (1).

فإن كان موجوداً أخذه (2)، وإن كان تالفاً رجع بمثله إن كان مثلياً وبقيمته إن كان قيمياً (3).

-

نعم حيث لم يرد من الشارع شرح للإقالة وبيان حدودها وكان مقتضي الإطلاقات المقامية الرجوع للعرف في تحديدها فلابد من إحراز بناء العرف علي مشروعيتها، والمتيقن من بنائهم عليها ما إذا كان أحد العوضين موجوداً وكان هناك غرض عقلائي يقتضي الاهتمام برجوعه، لكونه من القيميات التي يتعلق الغرض نوعاً بتحصيلها.

أما مع عدم ذلك، بحيث لا يكون فائدة التقايل إلا رجوع بدله الذي قد يكون أكثر من الثمن أو أقل، فلا يتضح بناؤهم علي التقايل، بل لعله بنظرهم لا يرجع إلا إلي الاهتمام بتحصيل فرق ما بين الثمن المجعول في المعاملة وقيمة التالف الذي يتيسر لمن يرضي بدفعه ابتداء بلا حاجة إلي التقايل، وليس التقايل إلا تكلفاً مستغني عنه حينئذٍ.

وإن كان الأمر محتاجاً لمزيد من التأمل، لاحتمال كون عدم بنائهم علي الفسخ لعدم الفائدة فيه لا ينافي بناءهم علي صحته لو وقع، لكون لزوم العقد حقياً تابعاً لهما وتحت سلطنتهما.

فتأمل جيداً.

(1) يعني: بلحاظ مفاد الإقالة والفسخ.

أما الرجوع الفعلي فهو موقوف علي إمكان تملكه له، علي ما يتضح مما يأتي.

(2) قطعاً لأنه ملكه.

بل يجب علي الأول تسليمه له لو احتاج إلي مؤنة، لأنه مسؤول بتسليمه، كما يجب علي البائع تسليم المبيع، لكونه مضموناً عليه بضمان المعاوضة، علي ما يأتي.

(3) أما أصل الضمان والانتقال للبدل فلضمان التالف بضمان المعاوضة بسبب العقد، كما سبق نظيره في المسألة التاسعة والعشرين من الفصل الرابع في الخيار.

وأما كيفية الضمان والانتقال للمثل والقيمة فلأن ذلك مقتضي الأصل في الضمان، كما تقدم

ص: 502

وتتعين قيمة زمان التلف (1).

والخروج عن الملك بيع أو هبة أو نحوهما بمنزلة التلف (2).

وتلف البعض كتلف الكل يستوجب الرجوع بالبدل عن البعض التالف (3).

والعيب في يد المشتري يستوجب الرجوع عليه

---------------

في المسألة الثالثة عشرة من الفصل الأول في شروط العقد.

فراجع.

(1) تقدم منه (قده) نظير ذلك في المسألة الخامسة والثلاثين من الفصل الرابع في الخيار فيما لو فسخ المغبون بعد تلف ما في يد الغابن.

وتقدم منّا المنع من ذلك، وتقريب لزوم قيمة زمان الفسخ، مع احتمال لزوم قيمة زمان الأداء.

وقد أطلنا الكلام هناك في المسألة بما لا يسعنا إعادته هنا.

فراجع.

(2) لتعذر رجوع العوض إلي ملك مالكه الأول بالفسخ، فيتعين الانتقال لبدله.

ومثل ذلك ما إذا حصل الملزم ببقائه في ملكه، كاستيلاد الجارية، كما هو ظاهر.

وقد تقدم نظير ذلك مع بعض فروعه فيما لو فسخ المغبون من المسألة التاسعة والعشرين من الفصل الرابع.

(3) لكونه مضموناً بضمان المعاوضة، كما لو تلف الكل.

ولو كان للاجتماع دخل في زيادة القيمة كان النقص في الباقي مضموناً بعين ملاك ضمان العيب بالأرش، فتنسب قيمة الباقي لقيمة المجموع ويضمن الفرق، فيدفع.

أما إذا كان الاجتماع موجباً لنقصها ففي جبر الزيادة الحاصلة في الباقي بسبب قلته لنقص التالف إشكال، فإذا كان قيمة المجموع اثني عشر وقيمة النصف ثمانية، وكان الفسخ بعد تلف النصف، أشكل الاكتفاء بدفع ثلث الثمن، من أجل أن قيمة الباقي ثلثا قيمة المبيع.

إذ الثمن مقابل في العقد بإجزاء المجموع بالتساوي، فنصف الثمن مقابل لنصف المثمن.

غاية الأمر أن الباقي قد زاد بسبب النقص، والزيادة المذكورة ليست ناشئة من صفة فيه مملوكة للمشتري، كما لو صبغ الثوب، ليدعي جبر نقص التالف بها، بل هي

ص: 503

بالأرش (1).

والحمد لله رب العالمين.

---------------

نظير الزيادة السوقية لا تصلح لجبر النقص الحاصل بالتلف.

وبذلك يظهر أنه لا مجال لدعوي: أن اللازم ضمان التالف بسبب قلته بالقيمة الزائدة، وهي ثلثا قيمة المجموع في الفرض الأول، لا بنصف قيمة المجموع.

لاندفاعها بأن التلف لما ورد عليه وهو في ضمن المجموع لا منفرداً فقيمته حين التلف هي القليلة بسبب الاجتماع، وهي نصف قيمة المجموع في الفرض المذكور، لا ثلثا قيمة المجموع، ويتعين أن يكون مقابله نصف الثمن لا غير، كمقابل النصف الباقي فلاحظ.

(1) لكون النقص الحاصل بالعيب مضموناً بضمان المعاوضة.

وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في المسألة التاسعة والعشرين من الفصل المذكور آنفاً.

والحمد لله رب العالمين.

انتهي الكلام في كتاب البيع شرحاً لكتاب (منهاج الصالحين) تأليف سيدنا الأستاذ الجد آية الله العظمي المرجع الأعلي للطائفة (السيد محسن الطباطبائي الحكيم (قده).

وكان ذلك ليلة السبت الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ألف وأربعمائة وثلاثين للهجرة النبوية علي صاحبها وآله أفضل الصلوات وأزكي التحيات.

في النجف الأشرف ببركة الحرم المشرف علي مشرفه الصلاة والسلام.

بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل سماحة آية الله (السيد محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.

ونسأل الله سبحانه وتعالي التوفيق والتسديد، وقبول الأعمال وصلاح الأحوال.

إنه أرحم الراحمين وولي المؤمنين.

وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 504

فهرست تفصيلي

(5)في أحكام الشروط5

(7)الكلام في الشروط7

(9)الكلام في الشرط المخالف للكتاب والسنة9

(13)مخالفة الشرط للحكم الشرعي الاقتضائي13

(17)منافاة الشرط لمقتضي العقد17

(19)اشتراط كونه مذكوراً في ضمن العقد19

(21)اشتراط القدرة علي الشرط1)2

(25)أن لا يكون الشرط مجهولاً25

(27)الكلام في الشرط المعلق27

(29)امتناع المشروط عليه من فعل الشرط29

(37)إذا لم يتمكن المشروط عليه من فعل الشرط37

(41)عدم جواز تصرف المشروط عليه ما يمنع من فعل الشرط41

(43)لصاحب الشرط إسقاط شرطه43

(45)جزئية الشرط من مضمون العقد وعدم انحلاله45

(47)بطلان الشرط بالفسخ أو التقايل47

(51)الفصل الخامس51

ص: 505

(51)في أحكام الخيار51

(55)كون الخيار من الحقوق55

(61)حكم ما إذا تعدد الوارث للخيار61

(63)أثر فسخ الورثة بالخيار63

(65)الكلام في خيار الأجنبي إذا مات65

(73)الفصل السادس73

(73)فيما يدخل في المبيع73

(81)استثناء النخلة في بيع البستان81

(83)ما يدخل في بيع الدار83

(87)الفصل السابع87

(87)في التسليم والقبض87

(97)كيفية التسليم والقبض فيما لا ينتقل97

(99)إذا تلف المبيع بآفة سماوية قبل القبض99

(101)في معني ضمان البائع101

(103)الكلام في معني الخروج عن الضمان103

(107)موارد تحقق القبض107

(113)حدوث العيب قبل القبض113

(115)الكلام في تفريغ المبيع115

(119)البيع قبل القبض119

(125)جواز البيع قبل القبض فيما ملك بغير الشراء125

(131)الفصل الثامن131

(131)في النقد والنسيئة131

(139)لو باع شيئاً بثمن نقداً وبأكثر نسيئة139)

ص: 506

(145)الكلام في جواز تأخير الثمن الحال145

(147)الكلام في شراء المشتري نسيئة قبل حلول الأجل147

(153)إلحاق فيه153

(153)في المساومة والمرابحة والمواضعة والتولية153

(159)الكلام في البيع مرابحة إذا كان الشراء بالثمن المؤجل159

(161)الكلام في جواز البيع مرابحة لما اشتراه صفقة161

(163)إذا تبين كذب البائع في إخباره برأس المال163

(165)كيفية معرفة رأس مال السلعة165

(169)الفصل التاسع169

(169)في الربا169

(173)الكلام في الربا المعاملي173

(175)الكلام في حكم الزيادة الحكمية175

(183)شروط تحقق الربا183

(183)الأول: اتحاد الجنس183

(185)الكلام في اتحاد الجنس في الربا185

(191)الثاني: أن يكون العوضان من المكيل أو الموزون191

(193)الحنطة والشعير من جنس واحد193

(195)الكلام في اختلاف اللحوم والألبان مع اختلاف الحيوان195

(197)التمر بأنواعه جنس واحد197

(199)الكلام في أجناس الحيوانات199

(203)المعيار في الجنس الواحد203

(209)حكم اختلاف الشيء في حال موزوناً وفي حال مكيلاً209

(211)الكلام في بيع لحم الحيوان به حياً211

ص: 507

(213)الكلام في بيع الرطب بالجاف213

(219)كيفية التخلص من الربا219

(221)موارد جواز الربا221

(223)عدم الفرق في الولد بين الذكر والأنثي223

(227)عدم الربا في الأوراق النقدية227

(229)وجوب إرجاع المال الربوي لصاحبه229

(237)محاولات تبرير الربا في العصر الحاضر ودفعها237

(251)الفصل العاشر251

(251)في بيع الصرف251

(253)اشتراط التقابض في بيع الصرف253

(261)الكلام في اشتراط التقابض في الصلح261

(263)بيع الدين بنقد آخر263

(265)إذا باع ما اشتراه نقداً قبل القبض265

(267)إذا قال له: حوّل ما في الذمة إلي دنانير267

(269)الكلام في إقباض المبيع أو الثمن269

(271)الدراهم والدنانير المغشوشة271

(273)الكلام في تصريف العملة المعدنية273

(275)الكلام في الضميمة التي يتخلص بها من الربا275

(277)بيع الآلات المحلاة بالذهب277

(281)إذا اشتري ذهباً أو فضة ثم وجدها جنساً آخر281

(287)استبدال ما في الذمة بثمن آخر287

(291)بيع درهم بدرهم بشرط صياغة خاتم291

(293)عدم جواز بيع المصوغ من الذهب والفضة بأحدهما إلا مع الزيادة293

(295)الكلام في تراب الصاغة295

ص: 508

(297)الفصل الحادي عشر في السلف297

(297)يشترط في السلف أمور297

(301)الأول: ضبط الأوصاف301

(303)الثاني: ذكر الجنس والوصف303

(305)الثالث: قبض الثمن قبل التفرق305

(311)الرابع: تقدير المبيع ذي الكيل أو الوزن311

(313)الخامس: تعيين أجل مضبوط313

(319)السادس: إمكان الدفع عند حلول الأجل319

(323)الكلام في اقتضاء العقد وجوب التسليم في مكان المطالبة323

(327)المعيار في الشهر المضروب أجلاً327

(333)الكلام في جواز بيع ما اشتراه سلفاً قبل حلول الأجل333

(343)إذا دفع المبيع خالياً من الصفة343

(345)إذا حلّ الأجل ولم يتمكن البائع من الدفع345

(349)وجود المبيع في غير البلد الذي يجب التسليم فيه349

(351)الفصل الثاني عشر351

(351)في بيع الثمار351

(357)في جواز بيع الثمار عامين357

(359)في جواز بيع الثمار عاماً واحداً مع الضميمة359

(365)المعيار في بدو الصلاح365

(371)جواز بيع التمر مع ظهور بعضه371

(375)تلف التمر قبل القبض375

(377)في استثناء ثمرة شجرات377

ص: 509

(381)الكلام في بيع الثمرة مع الأصول381

(383)الكلام في المزابنة383

(389)الكلام في العموم لغير النخل389

(391)الكلام في بيع الزرع قبل ظهوره391

(403)الكلام في المحاقلة403

(407)الكلام في بيع بعض الخضر قبل ظهورها407

(413)الكلام في كيفية بيع المشترك بين اثنين13)4

(419)الكلام في حق المارة419

(431)الكلام في العرية431

(433)الفصل الثالث عشر433

(433)في بيع الحيوان433

(435)الكلام في شروط الاسترقاق435

(441)عدم ملك بعض المحارم441

(451)الكلام في عدم ملك الكافر للمسلم451

(457)الكلام في دعوي العبد الحرية457

(459)في استبراء الأمة459

(473)وجوب الاستبراء في غير البيع473

(475)الكلام في جواز شراء بعض الحيوان475

(481)لو قال لآخر: اشتر حيواناً بشركتي481

(483)ظهور الأمة بعد الوطء أنها ملك لغير البائع483

(487)إذا اشتري كل من العبدين صاحبه من مولاه487

(489)وطء الشريك جارية الشركة489

(493)في مستحبات شراء المملوك493

ص: 510

(495)خاتمة في الإقالة495

(499)جواز الإقالة بزيادة الثمن499

(501)تلف أحد العوضين لا يمنع من الإقالة501

ص: 511

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.