الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ 4: اِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الاِصْلاحِ في اُمّهِ جَدّي

اشارة

اِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الاِصْلاحِ في اُمّهِ جَدّي

الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ

مَجَلةٌ فَصلِیّةُ مُتخَصِّصَةُ في النّهضَةِ وَ تُعنیَ بالدِّرَاسَّاتِ الدِّینِیَّةِ

تصدر عن مركز الدراسات التخصصية

في النهضة الحسينية/ النجف الأشرف

قسم الشؤون الفكرية

العتبة الحسينية

العدد الرابع

.السنة الأولی(1434ه-.2013م)

ص: 1

اشارة

الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ

تصدر عن مركز الدراسات التخصصية

في النهضة الحسينية/ النجف الأشرف

قسم الشؤون الفكرية

العتبة الحسينية

رئيس التحرير ................*

الشيخ قيصر التميمي

مدير التحرير................*

الشيخ صباح عباس الساعدي

هيئة التحرير................*

د. السيد حاتم البخاتي

الشيخ مشتاق الساعدي

الشيخ رافد عساف التميمي

المقابلة وتقويم النص..........*

الشيخ عدنان الطائي

الشيخ عصام السعيد

الشيخ مصطفى الدالي

التصميم....................*

عبد الزهرة الطائي

الإشراف العام: ................*

سماحة الشيخ علي الفتلاوي

إدارة المركز: ...................*

الشيخ باقر الساعدي

معاونية المركز: ................*

الشيخ عباس الحمداوي

الإخراج الفني.................*

مركز الهاشمي للإبداع

ص: 2

هوية المجلّة:

مجلّة علمية فصلية تخصصيّة تعنى بالبحوث المتخصّصة في مجال النهضة الحسينيّة، وكذا الدراسات العلمية في حقول المعرفة الدينيّة. تصدر عن مركز الدراسات التخصصيّة في النهضة الحسينيّة في النجف الأشرف، التابع لقسم الشؤون الفكريّة في العتبة الحسينيّة المقدّسة.

اهتمام المجلّة:

تهتمّ المجلّة بنشر معالم وآفاق الفكر الحسيني وتسليط الضوء على تاريخ النهضة الحسينيّة وتراثها، وكذا إبراز الجوانب الإنسانية والاجتماعية والفقهية والأدبية في تلك النهضة المباركة.

كما تهتمّ المجلّة أيضاً باستقطاب ونشر البحوث والدراسات الدينيّة التخصّصية ذات الجوانب التجديديّة والإبداعيّة، وذلك في كافّة الحقول والمجالات، فتمتدّ لتشمل الدراسات القرآنية والعقديّة والفكريّة والتاريخيّة والفقهيّة، وكذا ما يرتبط بالتراث الديني، من الأدعية والزيارات والنصوص الدينيّة بشكل عام.

فالمجلّة تتطلّع لاستيعاب جميع المجالات المهمّة والحسّاسة في أبواب العلوم والمعارف الدينيّة، شريطة أن تكون البحوث والدراسات متضمّنة لجوانب من الإبداع والحداثة والتجديد، مع حفظ روح الأصالة والتأسيس.

ص: 3

أهداف المجلّة:

1 - إعطاء رؤية واضحة حول معالم النهضة الحسينيّة من خلال البحوث والدراسات.

2 - نشر أهداف وثقافة النهضة الحسينيّة.

3 - إحياء التراث الديني والحسيني.

4 - فتح نافذة علميّة لتفعيل جانب الإبداع والتجديد والتأصيل الفكري في كافة حقول المعرفة الدينيّة.

5 - الانفتاح على الواقع العلمي والفكري لدى العلماء والأساتذة والمفكرين.

6- استثمار الأقلام الرائدة، وتطوير الطاقات العلمية الواعدة، واستقطاب البحوث والدراسات والمقالات العلميّة القيّمة لنشرها تعميماً للفائدة.

7 - فسح المجال أمام الباحثين والمفكرين لنشر بحوثهم ودراساتهم، لتكون المجلّة رافداً من روافد تزكية العلم والمعرفة.

8 - التصدّي للإجابة عن الشبهات والإشكاليات والقراءات غير الموزونة حول الدين بصورة عامّة والنهضة الحسينيّة بصورة خاصّة.

ص: 4

ضوابط النشر

تدعو المجلة العلماء والأساتذة والباحثين وكل من لديه اهتمام في مجال الكتابة والتحقيق إلى رفدها بنتاجاتهم القيّمة، على أمل ملاحظة الأُمور التالية:

أن تكون البحوث مرتبطة باختصاص المجلّة وأركانها.

ألاّ تكون منشورة أو بصدد النشر في كتاب أو مجلّة.

أن تكون ضمن المناهج العلمية المتبعة.

أن تكون بحوثاً مبتكرة وبلغة معاصرة.

أن يكون البحث على قرص ليزري فيما لو كان منضداًً.

حقوق النشر محفوظة.

الأفكار المطروحة لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلّة.

لا تعاد البحوث لأصحابها نشرت أم لم تنشر.

يخضع ترتيب البحوث لاعتبارات فنية.

إجراء التعديلات والتلخيصات اللازمة من صلاحيات المجلة.

للمجلة حق إعادة نشر البحث أو المقال في كتاب أو ضمن كتاب منفصل، مع الحفاظ على نصه الأصلي.

كل 250 كلمة تحسب صفحة واحدة.

المجلة تتبع نظام المكافآت لأصحاب البحوث.

تعتبر الأولويّة في المجلّة للمقالات والبحوث الحسينية.

المجلة غير ملزمة بنشر ما يقل عن 15 صفحة أو يزيد عن 30 صفحة.

تنويه: للمجلة فرع في مدينة قم المقدسة.

ص: 5

مراكز النشر:

* النجف الأشرف/المعرض الدائم للروضة الحيدرية.

* كربلاء المقدسة/ المعرض الدائم في العتبة الحسينية المقدسة.

* البصرة/ العشار/ مكتبة الإمام الهادي عَلیه السَلام .

* إيران / قم المقدسة/ صفائية/ سوق الإمام المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف / مكتبة فدك.

* إيران / قم المقدسة/ سوق كذرخان/ مكتبة الهاشمي.

ص: 6

المحتویات

مقال التحرير

التفريط في الأهداف والمبادئ السياسية للنهضة الحسينية (قراءة في الأسباب والمبررات)مقال التحرير

التفريط في الأهداف والمبادئ السياسية للنهضة الحسينية (قراءة في الأسباب والمبررات)

الشيخ قيصر التميمي ... 11

دراسات في آفاق النهضة الحسينية

خصائص الخطاب العاشورائي (تجرد الخطاب والمزاوجة بين العاطفة والعقل)

سماحة العلامة الشيخ معين دقيق العاملي ... 72

النهضة الحسينية بين انتكاسة الأمة وإيقاظها

د.السيد حاتم البخاتي ... 94

شهداء الطف وتفدية المعصوم لهم

الشيخ صباح عباس الساعدي ... 97

نصوص البكاء (قوة في السند وصراحة في المتن)

لؤي المنصوري... 93

دراسات في تاريخ وتراث النهضة الحسينية

مراسيم العزاء الحسيني (قراءة نقدية في مذكرات الأجانب)

الشيخ رسول جعفريان ...123

ص: 7

مسلسل الحسن والحسين عَلیهِماالسَّلام (التشويه المتعمد للحقائق التاريخية)

السيد حازم الميالي...157

فقه النهضة الحسينية

لسان الحال في أدب الطف بين المشروعية والمنع

الشيخ مشتاق طالب الساعدي ...185

وجوب زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام

الشيخ رافد عساف التميمي ...215

دراسات دينية

حديث أنا مدينة العلم (دراسة نقدية لآراء ابن تيمية والمعلمي)

د. يحيى عبد الحسن الدوخي ...253

تجليات الحاكمية والعدل الإلهي في قصة العبد الصالح

الأستاذ سعد عطية حسوني ...293

مرقد ومزار عبيد الله بن علي بن أبي طالب عَلیه السَلام (دراسة تاريخية تحليلية)

الشيخ أحمد عبد السادة الساعدي ... 313

ص: 8

مَقَالُ التَحريِر

اشارة

التَفرِیطُ في الَاهدَافِ وَ المَبَادِیَ السِیَاسِیَّة لِلنَهضَة الحُسَینیَه

قِراءَةٌ في الاسبَابِ وَ المُبَّرراتِ الشيخ قيصر التميمي

ص: 9

ص: 10

التَفرِیطُ في الَاهدَافِ وَ المَبَادِیَ السِیَاسِیَّة لِلنَهضَة الحُسَینیَه قِراءَةٌ في الاسبَابِ وَ المُبَّرراتِ الشيخ قيصر التميمي

اشارة

كثيرة هي الغايات والأهداف والأسباب التي دعت الإمام الحسين عَلیه السَلام للقيام بوجه الطغاة والخروج على واقع المسلمين المنحدر والمتدهور آنذاك، وقد كُتبت جملة وافرة من البحوث والمقالات لإحصاء واستقصاء تلك الدوافع والغايات، وأُحصيت في هذا المجال أهداف غيبية ورساليّة واجتماعيّة وسياسيّة وغير ذلك.

لكننا نلمس في الوقت ذاته تفريطاً وإهمالاً واضحاً - عن قصد أو من دون قصد - في مجال دراسة وتحليل الدوافع السياسيّة في المشروع الحسيني، فلا نرى الضوء مسلّطاً عليها في البحوث والدراسات العلمية والتخصّصية، مع أنها تشغل حيّزاً كبيراً في نصوص وتراث النهضة الحسينيّة.

والنقطة التي نهتمّ بدراستها في هذا المقال هي معرفة أسباب إهمال أو ضمور البحوث التحليليّة والكتابات العلميّة حول الدوافع السياسيّة في حركة الإمام الحسين عَلیه السَلام ، وليس غرضنا - حاليّاً - الولوج مفصلاً في تحديد تلك الدوافع أو تفسيرها أو الاستدلال عليها، ولكننا مع ذلك سنعرض للقارئ الكريم في هذا المقال، لقطات سريعة وموجزة عن الأهداف والمبادئ الحسينيّة السياسيّة مع

ص: 11

بعض شواهدها، لتشكيل صورة إجماليّة ننطلق من خلالها لمعرفة أسباب التغافل والإعراض عن الدراسات التحليليّة في هذا المجال.

الأهداف السياسيّة لنهضة الإمام الحسين عَلیه السَلام :

اشارة

الذي نعتقده - بنحو الإجمال - أن من الأهداف الأساسّية والمحوريّة لخروج الإمام الحسين عَلیه السَلام هي ما يلي:

أولاً: الإطاحة بالنظام الحاكم وإسقاط الحكومة الأمويّة الظالمة؛ لعدم شرعيتها، ولخروجها وانحرافها عن جادّة الدين القويم.

ثانياً: إعلاء معالم الدين، والتصدّي للظلم والجور والفساد، ونصرة المظلومين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل في إطار التغيير والإصلاح الاجتماعي، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وإجراء الحدود الإلهية، والالتزام بالقوانين والأحكام الشرعية.

ثالثاً: إقامة حكم الله في الأرض، وتشكيل حكومة الإسلام الشرعيّة بقيادة خليفة الله في خلقه، الواجد لجميع شرائط الإمامة والقيادة، وذلك «بدافع من أداء المسؤولية المُلقاة على عاتق المعصومين علیهم السلام »؛ لأن الخلافة واستلام الحكم والسطلة حقّهم المشروع، و«هو الطريق الشرعي بالنسبة للمعصوم لإقامة حكم الله في الأرض»(1).

هذه هي الأهداف السياسية الكبيرة والخطيرة والحسّاسة، التي كُتبت شعاراً بارزاً ونصّاً واضحاً على لوحات ولافتات النهضة الحسينيّة، وهي التي أثارت حفيظة الدولة الأموية وأقضّت مضاجع الساسة والحُكّام على مرّ الزمان.

ص: 12


1- السَّيِّد محمود الهاشمي، الثَّورة الحسينيَّة دراسة في الأهداف والدوافع، مجلة المنهاج، السنة الثامنة، ربيع 1424ه- - 2003م

وتندرج أيضاً تحت تلك الأهداف الكلّية أهداف سياسية ثانوية وتفصيلية، سنشير إلى أهمّها في ثنايا ما يأتي من بحوث وعناوين.

والشواهد والأدلة على تلك الأهداف السياسية كثيرة جدّاً، ذَكر جانباً منها بعض الباحثين(1)، ونستعرض فيما يلي بعضها بنحو الإجمال:

1- نصوص الإصلاح

لقد بيَّن الإمام الحسين عَلیه السَلام - في مطلع نهضته المباركة - أن من أهدافها إصلاح الأُمّة وتوعيتها، وإرجاعها إلى صوابها واستقامتها، بعد أن انحرفت وشطّ بها حُكّامها عن طريق الهداية، وكذا رفع الظلم والجور عنها، وإشاعة العدل والقسط فيها، وإلزامها بالحدود والأحكام والفرائض الإلهية.

وهذه كلّها مبادئ وأهداف سياسية، لا يمكن إنجازها والقيام بها من دون التصادم والمواجهة مع السلطات الحاكمة والظالمة آنذاك، ولا يمكن اختزالها بكونها أهدافاً اجتماعية ودينية فحسب.

والنصوص المُصرّحة بذلك كثيرة ومتنوّعة:

منها: شعار النهضة الخالد الذي رفعه الإمام عَلیه السَلام في منطلق نهضته، حينما قال: «... وَأَنّي لَمْ أَخْرُجْ أشِراً وَلا بَطِراً، وَلا مُفْسِداً وَلا ظالِماً، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاحِ في أُمَّةِ جَدّي صلّى الله عليه و آله و سلّم ، أُريدُ أَنْ آمُرَ بِالمَعْرُوفِ وَأَنْهى عَنِ المُنْكَرِ، وَأَسيرَ بِسيرَةِ جَدّي‘ وَأبي عَليِّ بْنِ أَبي طالِب عَلیه السَلام ، فَمَنْ قَبِلَني بِقَبُولِ الحَقِّ فَاللهُ أَوْلى بِالحَقِّ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ هذا أَصْبِرُ، حَتّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْني وَبَيْنَ القَومِ بِالحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ الحاكِمينَ»(2).

ص: 13


1- المصدر السابق.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.

ولا شك أن من سيرتهما عَلیهِماالسَّلام التصدّي للأُمور السياسية، وتشييد وبناء معالم الحكومة الإسلامية. كما أن الإصلاح في الأُمّة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل مطلق، لا يتيسّر من دون القيام بأعباء السلطة والحكم.

ومنها: ما روي عنه عَلیه السَلام أنه قال: «اللّهُمَّ، إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ما كانَ مِنّا تَنافُساً في سُلْطان، وَلاَ الِتماساً مِنْ فُضُولِ الحُطامِ؛ وَلكِنْ لِنُرِيَ المَعالِمَ مِنْ دينِكَ، وَنُظْهِرَ الإصْلاحَ في بِلادِكَ، وَيَأمَنَ المَظْلُومُونَ مِنْ عِبادِكَ، وَيُعْمَلَ بِفَرائِضِكَ وَسُنَنِكَ وَأَحْكامِكَ، فَإِنْ لَمْ تَنْصُرُونا وَتُنْصِفُونا قَوِيَ الظَّلَمَةُ عَلَيْكُمْ، وَعَمِلُوا في إِطْفاءِ نُورِ نَبِيِّكُمْ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْهِ أَنَبْنَا وَإِلَيْهِ المَصيرُ»(1).

يُعدّ هذا النص من غرر النصوص المنسوبة إليه عَلیه السَلام ، وقد تضمّن مجموعة من الأهداف السياسية للنهضة المباركة، وهي:

أولاً: إن النهضة لم تكن من أجل التنافس الشخصي على السلطة والحكم، ولا لأجل نيل المنافع الدنيوية والفئوية الضيِّقة.

ثانياً: إن من أهداف النهضة إعلاء معالم الدين وشعائره.

ثالثاً: إظهار الإصلاح في البلاد.

رابعاً: محاربة الظلم ونصرة المظلومين.

خامساً: توجيه الأُمّة نحو الالتزام بالشريعة الإسلامية، والعمل بالفرائض والسنن والأحكام الإلهية.

سادساً: مطالبة الأُمَّة بالإنصاف من نفسها لنصرة أهل البيت علیهم السلام ، وشدّ أزرهم، وإضعاف جانب أعدائهم؛ لئلا يعمل الأعداء على إطفاء نور الله تعالى ونور

ص: 14


1- ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول: ص239.

نبيّه الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم .

وهذه كلّها من أبرز المبادئ السياسية للنهضة، كما هو واضح.

2- إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة

لقد أرسل الإمام الحسين عَلیه السَلام إلى الكوفة - في أوائل أيام النهضة - ابن عمّه وثقته من أهل بيته مسلم بن عقيل، للتفاوض مع أهلها وأخذ البيعة منهم، حاملاً إليهم كتاب الحسين عَلیه السَلام الذي تضمّن كل مبادئ الثورة والتغيير السياسي والاجتماعي؛ حيث كتب فيه عَلیه السَلام إلى أهل الكوفة بعد مراسلتهم إياه: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، مِن حُسَيْنِ بْنِ عَليّ إِلىَ المَلأ مِنَ المُؤْمنينَ وَالمُسْلِمينَ، أَمّا بَعْدُ، فَإِنَّ هانِئاً وَسَعيداً قَدِما عَلَيَّ بِكُتُبِكُمْ - وَكانا آخِرَ مَنْ قَدِمَ عَلَيَّ مِنْ رُسُلِكُمْ - وَقَدْ فَهِمْتُ كُلَّ الَّذي اقْتَصَصْتُمْ وَذَكَرْتُم، وَمَقالَةَ جُلِّكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْنا إِمامٌ فَأَقْبِلْ؛ لَعَلَّ الله أَنْ يَجْمَعَنا بِكَ عَلَى الهُدى وَالحَقِّ. وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ أَخي وَابْنَ عَمّي وَثِقَتي مِنْ أَهْلِ بَيْتي [مُسْلِمَ بْنَ عَقيل] وَأَمَرْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيَّ بِحالِكُمْ وَأَمْرِكُمْ وَرَأيِكُمْ. فَإِنْ كَتَبَ إِلَيَّ: أَنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ، وَذَوِي الفَضْلِ وَالحِجى مِنْكُمْ، عَلى مِثْلِ ما قَدِمَتْ عَلَيَّ بِهِ رُسُلُكُمْ، وَقَرَأْتُ في كُتُبِكُمْ؛ أَقْدِمُ عَلَيْكُمْ وَشيكاً إِنْ شاءَ اللهُ، فَلَعَمْري، مَا الإْمامُ إِلاَّ العامِلُ بِالكِتابِ، وَالآخِذُ بِالقِسْطِ، وَالدّائِنُ بِالحَقِّ، وَالحابِسُ نَفْسَهُ عَلى ذاتِ الله، وَالسَّلامُ»(1).

وقد أمره الإمام عَلیه السَلام «بتقوى الله، وكتمان أمره واللطف»، وبعد أن نزل مسلم بن عقيل الكوفة، وقرأ على أهلها كتاب الحسين عَلیه السَلام وهم يبكون، بايعه ثمانية عشر ألفاً؛ «فكتب مسلم إلى الحسين بن علي عَلیه السَلام يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً»(2)، ويحثُّه على القدوم.

ص: 15


1- الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص262.
2- الفتال النيسابوري، روضة الواعظين: ص173.

ولا شك أن هذه كلها خطوات سياسية وعسكرية مهمّة لنيل السلطة وإقامة الحكم الإلهي بقيادة خليفة الله في الأرض.

وكتاب الإمام عَلیه السَلام واضح في أنه إنما أرسل مسلم بن عقيل لتلبية طلب أهل الكوفة، وأخذ البيعة منهم؛ ليكون خليفة هدىً لهم وإماماً عليهم، وقد أكّد عَلیه السَلام هذا المطلب الكوفي بقوله لاحقاً: «مَا الإْمامُ إِلاَّ العامِلُ بِالكِتابِ، وَالآخِذُ بِالقِسْطِ، وَالدّائِنُ بِالحَقِّ، وَالحابِسُ نَفْسَهُ عَلى ذاتِ اللهِ»، ويتمثّل ذلك بشخصه المبارك؛ لأنه الإمام المعصوم، الحائز على جميع الكمالات، والعامل بكل تلك الأُمور.

وقد تضمّنت كتب أهل الكوفة - التي استجاب لها الإمام الحسين عَلیه السَلام - ملامح الثورة والتغيير ولغة السلاح وعسكرة المجتمع للخروج بوجه النظام الأُموي الفاسد؛ حيث كتبوا إليه عَلیه السَلام بعد هلاك معاوية: «الحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد، الذي انتزى على هذه الأُمَّة؛ فابتزَّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضًى منها ... إنه ليس علينا إمام، فأقبِلْ لعل الله أن يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنك أقبلت إلينا أخرجناه حتى نُلحِقه بالشام»(1). وفي رسالة أُخرى كتبوا: «فإن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك»(2). وفي نص ثالث: «فأقدِمْ على جند لك مجنّدة»(3).

ولا شك أن هذا التحرّك وحالة التجاوب (الحسيني / الكوفي) المتبادل، يُعدّ في لغة السياسة - بل أبجديّاتها - شروعاً في الانقلاب على السلطة الحاكمة؛ حيث تضمّنت خطوات ومشاهد ساخنة، وخطابات سياسية بالغة الخطورة وحساسّة

ص: 16


1- المفيد، الإرشاد: ج2، ص37.
2- الفتال النيسابوري، روضة الواعظين: ص173.
3- المصدر السابق.

للغاية، وقد سجّلها التاريخ وثيقة للثورة، وشاهداً كبيراً على الحركة السياسية الواسعة والأُسلوب العسكري المنظّم والمدروس في مفاصل وآفاق النهضة الحسينية.

3- أقوال الإمام الحسين عَلیه السَلام وتصريحاته ومكاتباته ورسائله السياسية
اشارة

لقد احتوت نصوص النهضة وتراثها أقوالاً للإمام عَلیه السَلام ، وتصريحات ومكاتبات ورسائل سياسية مناهضة للحكم الأُموي الفاسد، وداعية الأُمّة لدعم ومساندة مشروع الخلافة والإمامة الإلهية، المتمثّل بشخصه المبارك. وهي كثيرة ومتنوّعة المضامين، وجديرة بالدراسة والتحقيق:

منها: رسائله عَلیه السَلام إلى أهل الكوفة

وهي رسائل عديدة، قد أشرنا إلى بعضها في نصّ سابق، ومن تلك الرسائل أيضاً ما كتبه عَلیه السَلام إلى أهل الكوفة، بعد أن حثّه مسلم بن عقيل على القدوم والمجيء إليها؛ حيث كتب فيها عَلیه السَلام : «أَمّا بَعْدُ، فَإنَّ كِتابَ مُسْلِم بْنِ عَقيل جاءَني يُخْبِرُني فيهِ بِحُسْنِ رَأْيِكُمْ، وَاجْتِماعِ مَلَئِكُمْ عَلى نَصْرِنا، وَالطَّلَبِ بِحَقِّنا، فَسَأَلْتُ اللهَ أَنْ يُحْسِنَ لَنَا الصُّنْعَ، وَأَنْ يُثيبَكُمْ عَلى ذلِكَ أَعْظَمَ الأجْرِ، وَقَدْ شَخَصْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ مَكَّةَ يَومَ الثُّلاثاءِ لِثمان مَضَيْنَ مِنْ ذِي الحَجَّةِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَإِذا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَسُولي فَاكْمِشُوا(1) أَمْرَكُمْ وَجِدُّوا؛ فَإِنّي قادِمٌ عَلَيْكُمْ في أَيّامي هذِهِ إِنْ شاءَ اللهُ»(2).

فالإمام عَلیه السَلام بكتابه هذا قد حيّى في أهل الكوفة حسن رأيهم واجتماع سادتهم وكبرائهم على نصرة أهل البيت علیهم السلام ، والمطالبة بحقّهم الشرعي في الخلافة الإلهية وقيادة الأُمَّة وإدارة شؤونها بالقسط والعدل والمساواة.

ص: 17


1- كمش: أسرع ومضى في أمره بعزم. اُنظر: الجوهري، الصحاح: ج3، ص1018.
2- الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص297.

ثم حثّهم عَلیه السَلام أيضاً على أن يُهيّئوا الأرضية الصالحة والظروف المناسبة لذلك التحرّك، وأن يمضوا في أمرهم هذا، ويُسرعوا في إتمامه وإنجازه بعزم وجدّ واجتهاد، وأخبرهم بأنه سيُلبّي دعوتهم، وأنه قادم إليهم في الأيام القليلة المقبلة.

وما نفهمه من هذا النص هو أن الإمام عَلیه السَلام يستنهض أهل الكوفة، ويُشجّعهم ويحثّهم على الشروع في تنظيم وتشكيل معالم الحكومة المقبلة، وأن يمضوا في أمرهم بعزم، وأمرهم هو - كما تقدّم - عبارة عن طرد واليَ الكوفة وحاكمها من قِبَل الأُمويين (النعمان بن بشير) والبيعة له عَلیه السَلام حاكماً وإماماً وقائداً لحركتهم ومسيرتهم، وتشكيل قوّة عسكرية وجنود مجنّدة لمواجهة قادة الشام وجيوشها.

وهذا يكشف عن طبيعة التحرّك السياسي المنظّم الذي بدأه الإمام عَلیه السَلام مع أهل الكوفة، والذي اتسع وظهر حتى بلغ صداه الشام.

ومنها: مكاتباته عَلیه السَلام إلى أشراف البصرة ووجهائها

بعث الإمام عَلیه السَلام في إطار حركته ونهضته مجموعة من الكتب إلى أشراف البصرة ووجهائها، يحثّهم على طاعته وامتثال أوامره؛ حيث كتب فيها: «وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلى كِتابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبيِّهِ صلّى الله عليه و آله و سلّم ؛ فَإِنَّ السُنَّةَ قَدْ أُميتَتْ، وَإِنَّ البِدْعَةَ قَدْ أُحيِيَتْ، وَإِنْ تَسْمَعُوا قَوْلي وَتُطيعُوا أَمْري أَهْدِكُمْ سَبيلَ الرَّشادِ»(1).

وهذه دعوة صريحة منه عَلیه السَلام إلى إطاعة أوامره، والعمل على إقامة حكم الله في الأرض، في ضوء الكتاب والسنَّة، بقيادة الخليفة الشرعي المنصوب من قِبَل الله تعالى.

وهذا ما فهمه يزيد بن مسعود النهشلي حينما قرأ كتاب الإمام الحسين عَلیه السَلام ؛ فخاطب قومه قائلاً: «وهذا الحسين بن عليّ، ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ، ذو الشرف

ص: 18


1- الطبري، تاريخ الطبري: ج4 ص266.

الأصيل، والرأي الأثيل، له فضل لا يوصف، وعلم لا يُنزف، وهو أوْلى بهذا الأمر؛ لسابقته وسنّه وقِدَمِه وقرابته، يعطف على الصغير، ويحنو على الكبير؛ فأكرمْ به راعي رعيَّة، وإمام قوم وجبت للّه به الحجّة، وبلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحقّ، ولا تسكعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل؛ فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله ونصرته، والله، لا يقصّر أحد عن نصرته إلّا أورثه الله الذلّ في ولده، والقلّة في عشيرته، وها أنا ذا قد لبست للحرب لامَتَها، وادّرعت لها بدرعها، مَن لم يُقتل يمت، ومَن يهرب لم يفت، فأحسنوا - رحمكم الله - ردّ الجواب»(1).

ومن كلامه هذا نفهم بوضوح أن الكتاب الذي بعثه الإمام عَلیه السَلام إلى أهل البصرة، كان يدعوهم فيه إلى نصرة ولي الأمر، والدفاع عن حريم الإمامة الإلهية، وإقامة حكم الله في الأرض بقيادته عَلیه السَلام ؛ لأنه الأحقّ والأجدر بذلك.

ثمّ كتب النهشلي إلى الإمام الحسين عَلیه السَلام في جواب كتابه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فقد وصل إليّ كتابك، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له، من الأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لم يُخلِ الأرض قطّ من عامل عليها بخير، أو دليل على سبيل نجاة، وأنتم حجّة الله على خلقه، ووديعته في أرضه، تفرّعتم من زيتونة أحمديّة هو أصلها، وأنتم فرعها، فأقْدِمْ سعدت بأسعد طائر؛ فقد ذلّلت لك أعناق بني تميم...»(2).

إن هذا الكلام من النهشلي يكشف عن أفقه الواسع، وقراءته السياسية الدقيقة للأحداث، وفهمه العميق لمضامين الكتاب الذي بعثه له الإمام الحسين عَلیه السَلام ؛ حيث فهم منه وجوب البيعة والطاعة والنصرة لحجة الله على خلقه؛ فأبدى استعداده

ص: 19


1- ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: ص27.
2- المصدر السابق: ص27- 28.

لذلك، وهيّأ الناس وجيّش الجيوش، ثم دعا الإمام عَلیه السَلام للقدوم وتولّي الأمر.

ومنها: أقواله وأحاديثه عَلیه السَلام في طريقه إلى الكوفة

وهي كثيرة جدّاً، نذكر منها للاستشهاد على سبيل الإيجاز:

قوله عَلیه السَلام لعبد الله بن مطيع العدوي حينما سأله عن سبب قدومه إلى الكوفة: «إِنَّ أَهْلَ الكُوفَةِ كَتَبُوا إِلَيَّ يَسْأَلُونَني أَنْ أَقْدِمَ عَلَيْهِمْ؛ لِما رَجَوا مِنْ إِحْياءِ مَعالِمِ الحَقِّ وَإِماتَةِ البِدَعِ»(1).

وهذا النص صريح أيضاً في كون تولّي الخلافة والقيادة لإدارة شؤون البلاد، وإحياء معالم الحقّ فيها، والقضاء على الباطل وإماتة البدع، من أهم الأهداف التي دعت الإمام عَلیه السَلام للقيام بنهضته الإصلاحية.

ومن ذلك أيضاً قوله عَلیه السَلام مخاطباً جيش الحرّ بن يزيد الرياحي: «أَمّا بَعْدُ: أَيُّهَا النّاسُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَتَّقُوا وَتَعْرِفُوا الحَقَّ لأَهْلِهِ يَكُنْ أَرْضى لِلهِ، وَنَحْنُ أَهْلُ البَيْتِ وَأَوْلى بِوِلايَةِ هذَا الأَمْرِ عَلَيْكُمْ مِنْ هؤُلاءِ المُدَّعينَ ما لَيْسَ لَهُمْ، وَالسّائِرينَ فيكُمْ بِالجَوْرِ وَالعُدْوانِ»(2).

وخاطبهم أيضاً قائلاً: «أَلا وَإِنَّ هؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طاعَةَ الشَّيْطانِ، وَتَرَكُوا طاعَةَ الرَّحْمنِ، وَأَظْهَرُوا الفَسادَ، وَعَطَّلُوا الحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالفَيءِ، وَأَحَلّوُا حَرامَ اللهِ، وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ غَيَّرَ. قَدْ أَتَتْني كُتُبُكُمْ، وَقَدِمَتْ عَلَيَّ رُسُلُكُمْ بِبَيْعَتِكُمْ أَنَّكُمْ لا تُسْلِمُوني وَلا تَخْذُلُوني؛ فَإِنْ تَمَّمْتُمْ عَلىِّ بَيْعَتَكُمْ تُصيبُوا رُشْدَكُمْ، فَأَنَا الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ فاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه و آله و سلّم ، نَفْسي مَعَ أَنْفُسِكُمْ، وَأَهْلي مَعْ أَهْليكُمْ، فَلَكُمْ

ص: 20


1- الدينوري، الأخبار الطوال: ص246.
2- لطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص303.

فِيَّ أُسْوَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَنَقَضْتُمْ عَهْدَكُمْ، وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتي مِنْ أَعْناقِكُمْ، فَلَعَمْري، ما هِيَ لَكُمْ بِنُكْر»(1).

وفي نص آخر: «وَأَنَا أَحَقُّ مِنْ غَيْري بِهذاَ الأَمْرِ؛ لِقَرابَتي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه و آله و سلّم »(2).

إن هذه النصوص الشريفة قد استوعبت مجموعة من المبادئ والأهداف السياسية المهمّة، التي ابتنت عليها النهضة الحسينية المباركة، نؤشّر فيما يلي بعضها بنحو الإجمال:

1- إن أهل البيت علیهم السلام هم الأحقّ والأوْلى بالخلافة والولاية على الناس من ولاة الجور الحاليين، وهم بنو أُميّة وولاتهم.

2- وجوب معرفة هذا الحق، والدفاع عنه، وانتزاعه من أيدي الطغاة، والعمل على وضعه في أهله ومحلّه، وهم أهل البيت علیهم السلام .

3- إن الإمام الحسين عَلیه السَلام هو الأحقّ بالعمل على تغيير الحكم، وإقامة الحكومة الإلهية العادلة، ورفع الظلم والجور والفساد، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وإجراء الحدود والأحكام الشرعية، وتحسين الظروف المعيشية والاقتصادية، بتقسيم الفيء والموازنة المالية بالقسط بين الناس.

4- تذكير أهل الكوفة بكتبهم، وبيعتهم له عَلیه السَلام ، وحثّهم على الاستمرار والثبات عليها، وأن في ذلك رشدهم وصلاح أمرهم، كما حذّرهم أيضاً من نقض البيعة والتنصّل عنها.

ص: 21


1- الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص304.
2- ابن أعثم الكوفي، الفتوح: ج5، ص81 -82.

5- إن الخلافة القائمة المتمثّلة بيزيد بن معاوية، ليست شرعية، وهي خلافة جور وعدوان، ينبغي الخروج عليها لإسقاطها.

إن هذه الأُمور وغيرها كلّها أُسس ومبادئ مهمّة ساهمت في رسم خارطة التغيير السياسي آنذاك؛ ينبغي بحثها ودراستها والتدقيق فيها.

ومنها: أقواله وأحاديثه عَلیه السَلام في كربلاء

وهي أقوال وأحاديث كثيرة أيضاً، من جملتها قوله عَلیه السَلام لعمر بن سعد، قائد الجيش الأُموي: «فاتْرُك هؤُلاءِ وَكُنْ مَعي؛ فَإِنَّي أقْرّبُك إلى اللهِ عزّ وجلّ»(1). وكان ذلك في إطار التفاوض مع ابن سعد؛ لكي يثنيه عن الحرب والقتال، بل يدعوه هو وجيشه - كما في بعض النصوص اللاحقة- للانضواء تحت راية الإصلاح الحسينية.

ولك أن تتصور النتائج وما سيحدث لو أن ذلك الجيش الكبير بقادته وجنوده قد سمع الموعظة، وعاد إلى رُشده وصوابه، وانضمّ إلى حركة الإمام الحسين ونهضته!

ومن ذلك أيضاً قوله عَلیه السَلام لجيش عمر بن سعد: «وَاللهِ، ما أَتَيْتُكُمْ حَتّى أتَتْني كُتُبُ أَماثِلِكُمْ بِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ أُميتَتْ، وَالنِّفاقَ قَدْ نَجِمَ، وَالحُدُودَ قَدْ عُطِّلَتْ؛ فَأَقْدِمْ لَعَلَّ اللهَ يُصْلِحُ بِكَ الأُمَّةَ»(2).

إذن؛ بموجب هذا النص يكون الحسين عَلیه السَلام قد خرج لإقامة حكم الله في الأرض، وقيادة الأُمَّة الإسلامية إلى ما فيه رشدها وصلاحها.

وكذا قوله عَلیه السَلام لهم: «تَبّاً لَكُمْ أَيَتُهَا الجَماعَةُ وَتَرْحاً وَبُؤُساً لَكُمْ! حينَ اسْتَصْرَخْتُمُونا

ص: 22


1- ابن أعثم الكوفي، الفتوح: ج5، ص92.
2- الذهبي، سير أعلام النبلاء: ج3، ص301.

وَلهينَ، فَأَصْرَخْناكُمْ مُوْجِفينَ، فَشَحِذْتُمْ عَلَيْنا سَيْفاً كانَ في أَيْدينا، وَحَمَشْتُمْ عَلَيْنا ناراً أَضْرَمْناها عَلى عَدُوِّكُمْ وَعَدُوِّنا، فَأَصْبَحْتُمْ إِلْباً عَلى أَوْلِيائِكُمْ»(1).

هذه المواقف والنصوص المتضافرة وغيرها الكثير، قد صدرت كلّها في إطار البُعد السياسي للنهضة، وهي تكشف بوضوح عن كون الأهداف السياسية من أهم الدوافع التي دعت الإمام الحسين عَلیه السَلام لأن يخرج وينتفض بوجه الطغاة من بني أُميَّة وأعوانهم.

ونحن من هذا المنبر المبارك ندعوا العلماء والكتَّاب والباحثين والمفكّرين للتوجّه إلى هذا التراث الشريف، والنظر إليه بجدّية وموضوعية، والعمل على جمعه وتنظيمه وفهرسته ودراسته والتدقيق في مضامينه ومحتوياته، للخروج بأبحاث ونتائج وتوصيات تُناسب تراث تلك النهضة المباركة، وترسم لنا خارطة طريق في سبيل الثورة والتغيير والانقلاب على الحكومات الفاسدة والظالمة. خصوصاً ونحن اليوم بحاجة ماسّة إلى مثل هذا التراث، لما نعيشه من متغيرات وتحوّلات سياسية في أغلب البلدان العربية والإسلامية.

وأما البحث في علل وأسباب الإهمال والإعراض عن مثل هذا التراث الحسيني، المرتبط بالدوافع والأهداف السياسية للنهضة الحسينية، وضمور البحوث العلمية والتحليلية في هذا المجال، فقد كان هو الباعث الأساس لكتابة هذا المقال، وسنترك الحديث عنه إلى عدد مقبل من أعداد هذه المجلّة المباركة.

ص: 23


1- الطبرسي، الاحتجاج: ج2، ص24.

ص: 24

دِرَاسَّاتٌ في آفَاقِ النَهضَةِ الحُسَينِيَّة

اشارة

*خصائص الخطاب العاشورائي

تجرد الخطاب والمزاوجة بين العاطفة والعقل

*النهضة الحسينية بين انتكاسة الأمة وإيقاظها

*شهداء الطف وتفدية المعصوم لهم

*نصوص البكاء

قوة في السند وصراحة في المتن

ص: 25

ص: 26

خَصَائصُ الخَطابِ العَاشُورَائي تَجَرُدُ الخِطابُ وَ المُزاوَجَةُ بَینَ الَعَاطِفةِ وَ العَقل سماحة العلامة الشيخ-معين دقيق العاملي

تمهيد

الكثير منّا - بنسيانٍ تارةً، وتناسٍ أُخرى، وجهلٍ ثالثة - ينظر إلى واقعة كربلاء وما وقع على حاشيتي الزمان قبل الحدث (الفاجعة) وبعده على أنَّه مجرّد تراجيديا أليمة فحسب... والحال أنَّ تراجيدية كربلاء المؤكّد عليها في النصوص الواردة عن أهل البيت علیهم السلام وإنْ كانت محلاً للتركيز في حدّ ذاتها بلا إنكار، ولكن لا تمنع نفسيتها لذلك، وللثواب الجزيل المترتّب عليها أنْ نسلّط الضوء عليها من أبعادها المختلفة، ولا يمنع ما تقدّم أنْ تكون تلك التراجيدية مقدّمة مهمّة للوصول إلى أهداف أهم.

ولتقريب الفكرة نتأمّل في نظير لذلك، أعني مسألة النوافل؛ فإنّها من المستحبات النفسية التي يترتّب عليها الثواب في حدّ ذاتها، ولكن ثوابها النفسي واستحبابها الذاتي لم يمنع من أن تكون مقدّمة لهدف أهم، وقد أُشير إلى ذلك في بعض النُّصوص:

فعن الصدوق بإسنادٍ صحيح إلى مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ أَبو عَبْدِ الله عَلیه السَلام : «إِنَّ العَبْدَ لَيُرْفَعُ لَهُ مِنْ صَلاتِهِ نِصْفُهَا أَوْ ثُلُثُهَا أَوْ رُبُعُهَا أَوْ خُمُسُهَا، وَمَا يُرْفَعُ لَهُ إِلاَّ مَا أَقْبَلَ

ص: 27

عَلَيْهِ مِنْهَا بِقَلْبِه،ِ وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِالنَّوَافِلِ لِتَتِمَّ لَهُمْ بِهَا مَا نَقَصُوا مِنَ الفَرِيضَةِ»(1).

وعنه أيضاً بإسناده إلى عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلیه السَلام ، قَالَ: «قُلْتُ لأَيِّ عِلَّةٍ أَوْجَبَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه و آله و سلّم صَلاةَ الزَّوَالِ ثَمَانٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَثَمَانٍ قَبْلَ العَصْرِ؟ وَلأَيِّ عِلَّةٍ رَغَّبَ فِي وُضُوءِ المَغْرِبِ كُلَّ الرَّغْبَةِ؟ وَلأَيِّ عِلَّةٍ أَوْجَبَ الأَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ بَعْدِ المَغْرِبِ؟ وَلأَيِّ عِلَّةٍ كَانَ يُصَلِّي صَلاةَ اللَّيْلِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ؟ وَلا يُصَلِّي فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ؟ قَالَ: لِتَأْكِيدِ الفَرَائِضِ؛ لأَنَّ النَّاسَ لَوْ لَمْ تَكُنْ صَلاتُهُمْ إِلاَّ أَرْبَعَ رَكَعَاتِ الظُّهْرِ لَكَانُوا مُسْتَخِفِّينَ بِهَا حَتَّى كَادَ يَفُوتُهُمُ الوَقْتُ، فَلَمَّا كَانَ شَيْئاً غَيْرَ الفَرِيضَةِ أَسْرَعُوا إلى ذَلِكَ لِكَثْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ الَّتِي مِنْ قِبَلِ العَصْرِ لِيُسْرِعُوا إلى ذَلِكَ لِكَثْرَتِهِ؛ وَذَلِكَ لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنْ سَوَّفْنَا وَنُرِيدُ أَنْ نُصَلِّيَ الزَّوَالَ يَفُوتُنَا الوَقْتُ...»(2).

ففي هذين الخبرين دلالة واضحة على أنَّ النوافل - على الرغم من كونها من المستحبات النفسية، والتي يكون ثوابها على مجرّد إتيانها بشروطها - قد شُرّعت لتأكيد الفرائض التي هي أهمّ من النوافل.

وهكذا الحال في مسألة البكاء، وسكب العبرات، والتباكي، والنَّدْب، وغير ذلك من المفردات المرتبطة بتراجيدية كربلاء؛ فإنّ ذلك كلّه وإنْ كان مهمّاً في حدّ ذاته، ومطلوباً في نفسه، لكنّه مع كلّ ذلك تكمن أهمّيته القصوى في كونه مقدّمة ليبقى المجتمع في كلّ عصر ومصر متفاعلاً مع أهداف الثورة وغايات القيام بوجه الظالمين.

فإذا كان الهدف الأقصى لاستحضار فاجعة كربلاء هو الوصول إلى الأهداف التي أرادها صاحب النهضة؛ لكي تسير الأُمم والشعوب في جميع الأزمنة والأمكنة

ص: 28


1- الصَّدوق، مُحَمَّد بن علي، علل الشّرائع: ج2، ص328، الحديث2.
2- المصدر السابق: الحديث3.

على هذا النهج القويم في مقارعة الظلم ومحاربة الفساد، فدراسة الخطاب العاشورائي يحظى بأهمية كبرى في فهم واقعة عاشوراء على حقيقتها؛ لكونه هو المبرز المباشر لأهداف تلك النهضة وغاياتها.

إشكالية البحث:

هذا، وبعد وضوح أهمّية موضوع المقال، نسلّط الضوء على أسئلته التي تتكوّن منها إشكالية البحث، وهي:

السؤال الأصلي: ما هي خصائص الخطاب العاشورائي؟

الأسئلة الفرعية:

1) ما هو المقصود من الخطاب العاشورائي؟

2) ما هو دور الزمان في الحدث العاشورائي وتأثيره على الخطاب؟

3) ما هو المنحى الذي اتّجه إليه الخطاب العاشورائي من ناحية العقلانية والعاطفة؟

المقصود من الخطاب العاشورائي:

لا نقصد من (الخطاب العاشورائي) في هذا المقال خصوص ما صدر على لسان الإِمام الحسين عَلیه السَلام ، وفي اليوم العاشر من المحرّم، ولا نقصد به كلّ ما صدر مِمّن يرتبط بواقعة عاشوراء، سواء كان إلى طرف معسكر الخير (الذي يمثّله البيت الهاشمي) أم إلى معسكر الشّر (الذي يمثّله البيت الأُموي)، بل نقصد بهذا الخطاب: كلّ خطاب صدر من الإِمام الحسين عَلیه السَلام ومَن كان في خطّه، سواء كان زمن الخطاب ومكانه عاشوراء وكربلاء، أم كان قبل ذلك، لكن في سياق السيرورة نحو النهضة الحسينية.

ص: 29

وعلى هذا الأساس؛ فكلّ خطاب صدر من الحسين عَلیه السَلام وأهل بيته، وصحبه الذين بذلوا مهجهم دونه، في إطار الوصول إلى نقطة الحسم زماناً ومكاناً - اليوم العاشر من محرّم في كربلاء - يعتبر موضوعاً لهذه الدراسة المختصرة، ويكون البحث عن خصائصه ومقوماته.

وخصائص الخطاب العاشورائي وإنْ كانت كثيرة، إِلاَّ أنَّ التركيز في هذا المقال على خصيصتين قد أُغفلتا في كثيرٍ من الكتابات حول النّهضة العاشورائية.

الخصيصة الأُولى: التجرُّد عن الزمان والمكان

يأتي على رأس الخصائص التي يتميّز بها الخطاب الحسيني أنَّه مجرّدٌ عن الزمان والمكان، فالزمان والمكان - الذي لا بدّ منه في كلّ خطابٍ - مجرّد ظرفٍ لذلك الخطاب، من دون أنْ يغرق الخطاب في ظرفه الزماني والمكاني ويذوب فيه، بحيث لو جرّد الخطاب عن ظرفه لما كان له مدلوله وأهدافه.

وهذه خصيصة مشتركة في كلّ كلام يصدر من متكلّم مرتبطٍ بالوحي، يخاطب الذات الإنسانية مع قطع النظر عن امتيازاتها الفردية والشخصية.

فالخطاب العاشورائي نظير الخطاب الصادر من الطبيب الذي يصف الدواء لكلّ داء، من دون أنْ يكون فردية الفرد لها دخالة في وصفة الطبيب.

ولأجل ذلك صار الخطاب العاشورائي خطاباً خالداً، ويبقى حيّاً يتجدّد على مرّ العصور واختلاف الأزمنة:

كذب الموتُ فالحسينُ ***مخلّدُ كلّما أخلق الزمانُ تجدّد

ص: 30

فالحسين وخطاباته ستبقى مناراً لكلّ حرّ في كلّ مكانٍ ليوم الحساب وقيام الساعة:

ويبقى الحسينُ ليوم الحساب ***مناراً به ته-ت-دي الكائن--ات

ويبقى الحسينُ ليوم الحساب ***ح-ديثاً تج-دّده ال--ذك-ري-ات

ويبقى الحسينُ ليوم الحساب*** نشيداً على الألسن الناطقات

وبحسب الاصطلاح: إِنَّ الخطاب الحسيني خطابٌ على نهج القضية الحقيقية، التي وإنْ كان لها شأنُ نزول، إِلاَّ أنَّه لا يجعل الخطاب خاصاً به.

فالخطاب الحسيني كانت غايته أحد أمرين:

* إقامة الحجّة على المباشر.

* جعله قنطرة للعبور إلى المعدوم والذي سيولد على امتداد زمان البشرية.

وذلك لأنّنا رُوّينا عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ، حيث صحّ عنه صلّى الله عليه و آله و سلّم قوله: «سيكون في أُمتي كلّ ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، حتى لو أنَّ أحدهم دخل في جحر ضبّ لدخلتموه»(1).

فالأحداث الصادرة من بني البشر - خصوصاً ما كان لها بعدٌ جمعيٌّ عامٌّ - باعتبارها تخضع للكوامن النفسية التي تتنوّع بتنوّع الجِبلَّة، والناس معادن كمعادن الذهب والفضة، تكون - في العادة - مشتركات بين كلّ الشعوب والأُمم في كلّ زمانٍ ومكانٍ. فاحتاج مَن كان في موقع الطبيب المعالج للنُّفوس أنْ يُطلق خطابات ناجعة

ص: 31


1- الفيض الكاشاني، محمد محسن، الوافي: ج2، ص460.

لكلّ تلك الشرائح على مرّ العصور.

ولا بأس بالتدليل على ذلك بشاهد في ضمن الأركان التالية:

1) نوع المخاطَب: من ديدن المكابرين على مرّ العصور أنْ يسدُّوا آذانهم بوجه الحقّ والحقيقة، مهما كانت الدلائل عليها بيّنة والشواهد فيها واضحة.

2) المخاطب المباشر: وقد كانت الشريحة المباشرة للخطاب الحسيني تتميّز بهذه المزية، ومع ذلك صدر الخطاب مع علم المتكلّم بأنّ المخاطَب مِمّن ينطبق عليه قوله تعالى:«وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا...»(1)؛ لأجل أنْ يستفيد من الخطاب المتردّد والجاهل.

3) النموذج للخطاب الحسيني: عندما اصطفّ المعسكران للقتال في كربلاء، خرج بعض أصحاب الإِمام الحسين عَلیه السَلام واستأذنوه ليكلّموا القوم ويعظوهم، وكان منهم برير بن خضير الهمداني؛ حيث يحدثّنا التاريخ أنَّه قال: «يا بن رسول الله، أتأذن لي فأخرج إليهم فأكلمهم؟ فأذن له فخرج إليهم، فقال: يا معشر الناس، إِنَّ الله عزّ وجل بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابها، وقد حيل بينه وبين ابنه. فقالوا: يا برير، قد أكثرت الكلام فاكففْ، فوالله، ليعطش الحسين كما عطش مَن كان قبله»(2).

ومثله ما ورد عن زهير بن القين؛ حيث خرج على فرس له ذنوب شاك في السلاح، فقال: «يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار! إِنَّ حقاً على المسلم نصيحة المسلم، ونحن حتى الآن إخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنّا نحن أُمة وأنتم أُمة. إِنَّ الله قد ابتلانا وإياكم

ص: 32


1- النمل: آية14.
2- الصَّدوق، محمَّد بن علي، الأمالي: ص222، المجلس30 (مقتل الإمام الحسين علیه السَّلام ).

بذرية محمد صلّى الله عليه و آله و سلّم ، لينظر ما نحن وأنتم عاملون. إنّا ندعوكم إلى نصره وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد. فسبّوه وأثنوا على ابن زياد. فقال لهم: يا عباد الله، إِنَّ ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإنْ كنتم لم تنصروهم فأُعيذكم بالله أن تقتلوهم، فلعمري، إِنَّ يزيد يرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين عَلیه السَلام . فرماه شمر بسهم وقال: اسكت أسكت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك. فقال زهير: يا ابن البوّال على عقبيه ما إيّاك أخاطب، إنما أنت بهيمة، والله، ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، وأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم»(1).

وهذا بعينه حصل مع سيّد الشهداء عَلیه السَلام ، فإنّه عندما قال لهم: «ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها، هل يحلّ لكم سفك دمي وانتهاك حرمتي؟! ألست ابن بنت نبيكم وابن ابن عمه وابن أوْلى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟! أوَ ليس حمزة سيد الشهداء عم أبى؟! أوَ لم يبلغكم قول رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم مستبشراً لي ولأخي: هذان سيدا شباب الجنة. أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمى وانتهاك حرمتي؟! قالوا: ما نعرف شيئاً مما تقول»(2).

4) المخاطَب عبر عمود الزمان: في عصرنا الحاضر، وفي السنوات الأخيرة، وبالتحديد في بلدنا الحبيب لبنان، قد حصل حدثٌ له تداعياته الكبيرة على لبنان والمنطقة، وهو اغتيال رئيس وزرائها، وبدأ الغرب، في المحاولة لتجيير هذا الحدث لصالحهم عن طريق إيجاد فتنةٍ في لبنان يُعرف أوّلها ولا يعرف آخرها، ففبركت مختبراتهم السوداء قراراً اتّهامياً. وقبل صدور هذا القرار الاتهامي وفي أثنائه وبعده، كان الأمين العام لحزب الله يقيم البراهين التي لا تقبل الجدل، الواحد تلو الآخر،

ص: 33


1- الطبري، مُحَمَّد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص324.
2- ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص37.

على أنَّ إسرائيل وراء هذا العمل، أو لا أقل ينبغي وضعها في لائحة الاتهام، وعلى رأس تلك البراهين الصور المسحية لطائرات التجسُّس الإسرائيلي التي استطاعت المقاومة بتقنية عالية أن تحصل عليها.

وعلى الرغم من وضوح تلك الأدلة والشواهد، وإقامة البراهين القاطعة على بروز الأيادي الخفية لإسرائيل وراء هذا العمل، على الرغم منْ كلّ ذلك نجد مقاماً رفيعاً مِمّن يُسمّى ب- (14 آذار) يقول مخاطباً سماحة السيد حسن نصر الله: «لو خطبت آلاف الخُطب لن نرفع اليد عن المحكمة الدولية والقرار الاتهامي».

أليس هذا مشابهاً لقول قتلة الحسين عَلیه السَلام الذي تقدّمت نماذجه بألحان مختلفة؟!

مناهج البحث التاريخي تؤكِّد على خصيصة التجرُّد:

اختلف علماء المناهج في الموضوع الذي يصلح أنْ يكون محوراً للدراسات التاريخية، هل هو مطلق (الحدث) الذي حصل في الزمن الماضي - كما يُفهم مِنْ أكثر الذين تناولوا - في كتبهم التاريخية - التأريخ لنشأة الكون والأرض، أمثال الطبري (ت310ه-) من المؤرخين المسلمين، ومن غيرهم مشى على هذا المنوال المؤرّخ الإنكليزي (هربرت جورج ولز )(Herbet George Wells: 1866- 1946م)؛ حيث بدأ كتابه في موجز تاريخ العالم بدراسة نشأة الكون والأرض، وما ظهر على سطحها من مظاهر الحياة المختلفة، ثمّ تدرّج في عرض تواريخ الأُمم والشعوب والحضارات المختلفة منذ نشأتها حتى العصر الحديث(1)- أم أنَّ الموضوع هو (الحدث الإنساني) الذي تحقّق في الزمن الماضي؛ لتشمل الدراسات التاريخية تمام ما صدر من الإنسان - أيّ إنسان - كما هو الغالب على أكثر كتب المؤرخين الإسلاميين، أمْ أنَّ الموضوع

ص: 34


1- راجع: عثمان، حسن، منهج البحث التاريخي: ص11.

عبارة عن: (الحدث الإنساني المهمّ)؛ ليخرج الكثير من الأحداث الإنسانية غير المهمّة عن دائرة البحث التاريخي؟

ولو حاولنا تخطّي ثغرة توسّع البحث التاريخي وتضخّمه بشكلٍ لا حاجة إليه، عن طريق إضافة قيد (المهم)، لكنَّ ذلك يُكسب التعريف غموضاً؛ لأنّ مفهوم (المهم) لا يمتلك مفاداً دقيقاً موضوعياً يمكن تقييمه(1)، أمْ أنه غير ذلك(2)...؟

وعلى كلّ تقدير، نلاحظ أنَّ (الحدث الواقع في الزمن الماضي) أمرٌ ضروريٌّ في بيان محورية البحث التاريخي عند الجميع.

وحينئذٍ؛ يقع التساؤل عن دور الزمن في الدراسات التاريخية، وعلى أساس الجواب عن هذا التساؤل يتضح لنا مدى تأثير الحدث التاريخي على المستقبل، وكيف يتجرّد الحدث التاريخي عن عنصر الزمن.

وإنْ شئت فقل: إِنَّ المعرفة التاريخية حول حدثٍ ما هل تتولّى تجريده عن حاجز الزمان، وتحاول التعرّف عليه كما هو وكما كان يظهر لِمَن عاصره، وذلك من خلال جهد علميّ ينتقل من الحاضر إلى الماضي ويلغي المسافة الزمنية القائمة؟ فهل يستهدف البحث التاريخي تحقيق ذلك، أم أنَّ عنصر الزمن يلعب دوراً مؤثراً في استيعاب الحدث التاريخي؟ هل يتّجه الباحث في عملية القراءة نحو الماضي أم الحاضر؟ هل يقع على عاتق الباحث التاريخي إلغاء الحاجز الزمني، أم يتوجّب عليه بلورة المرآة الزمنية وجانب الحكاية والتعبير في عنصر الزمن؟

وفي هذا المجال يوجد تصوّران:

ص: 35


1- انظر: قراملكي، أحمد فرامرز، روش شناسي مطالعات ديني، ص266.
2- الأوْلى: أنْ يجعل الموضوع هو الحدث الصادر في الزمن الماضي، والذي له تداعياته على المستقبل

التصوّر الأوّل: هو التصوّر الذي يعتبر أنَّ الزّمن يشكّل حاجزاً بين الحدث والباحث التاريخي الذي يكون بصدد معالجته. فالحدث شيءٌ وقع في الزمان الماضي وتصرّم وانقضى، والباحث الحاضر يواجه الآن فاصلاً يحجزه عنه، وهو الزمن.

ويعتبر (فولتير)(1) من أنصار هذا التصوّر، حيث ينقل عنه قوله ساخراً: «إِنَّ التاريخ لونٌ من نبش قبور الأموات»(2). وهذه الكلمة تتأسس على المفهوم المذكور للحدث التاريخي، وهو مفهوم يرى في الزمن مقبرة لأحداث التاريخ. وعلى هذا المفهوم للحدث التاريخي يستند تصوّر كثير من أولئك الذين يرون أنَّ البحث التاريخي لا يتحلّى بالأهمية.

وعلى ضوء هذا التصوّر؛ سوف يتأطّر الحدث التاريخي بالظرف الزماني الذي حصل فيه، وإنّما الحاجز الذي أُلغي - على ضوء هذا التصوّر - ليس هو القطعة الزمنية التي صدر فيها الحدث، وإنّما هو الفاصل الزماني بين المبدأ والباحث التاريخي الذي يقع في منتهى العمود الزمني. لكن ثمّة تصور آخر يتباين جوهرياً مع ما ذكر، فالشيء التاريخي في ضوء الفهم الآخر يمثّل ظاهرة اكتسبت تواصلاً وخلوداً في مجرى الزمن.

وتنقسم الأحداث - سواء كانت أفكاراً أم ظواهر - إلى نوعين: فهي إمّا أنْ تتحرّك في إطار الزمن وتتواصل فتخلد، أو تظلّ حبيسة زمنها فتدفن فيه وتنتهي. والقسم الأوّل هو الحدث التاريخي.

ويمثّل الزمان في هذا التصور كذلك مفهوماً أساسياً، غير أنَّه يعدّ - في إطار هذا

ص: 36


1- فرانسوا ماري أرويه (François-Marie Arouet) المعروف باسم فولتير (بالفرنسية:Voltaire) من مواليد (21 نوفمبر 1694م) ووفيات (30 مايو 1778م)، فولتير هو اسمه المستعار. كاتب فرنسي عاش في عصر التنوير، وهو أيضاً كاتب وفيلسوف ذاع صيته بسبب سخريته الفلسفية الظريفة، ودفاعه عن الحريات المدنية، خاصة حرية العقيدة
2- انظر: قراملكي، أحمد فرامرز، روش شناسي مطالعات ديني، ص268.

التصوّر - بمثابة إكسير الخلود بالنسبة للحدث الذي يكتسب تاريخيته بفضل ذلك الإكسير، وتقوّم الأمر التاريخي بامتلاك الحدث وجوداً تاريخياً بمعنى الحركة في الزمن.

فالشيء التاريخي بحسب التصوّر الأول أمرٌ احتجز خلف أسوار الماضي، ويحاول الباحث التاريخي إزالة الحاجز الزمني عبر أدوات ومناهج معيّنة، والاقتراب من الحادثة التاريخية كي يراها كما هي، وكلما كان الاقتراب من الحدث ألصق كانت رؤيته أكثر واقعية؛ واستتبع ذلك معرفةً تاريخيّة أدق.

وفي ظلّ هذا التصوّر يقتصر دور المؤرخ على ممارسة تسجيله للأحداث، لا تنتقل مكانياً بيد أنَّها تتخطّى المسافة الزمنية.

وعليه؛ فالمعرفة التاريخية تعني هنا فهم الماضي ودراسة الزمن المنصرم.

وعلى أساس هذه الرؤية؛ تمّ تعريف الدراسة التاريخية - في بعض كتب مناهج البحث - بأنّها: «الدراسة التي تتضمّن مطالعة أحداث الماضي وشرحها واستيعابها، الهدف منها هو التوصُّل إلى تلك النتائج ذات العلاقة بأسباب الأحداث الماضية وانعكاساتها على الحاضر، وبواسطتها يصبح التنبُّؤ بالأحداث المستقبلية أمراً ممكناً»(1).

بينما في ضوء التصوّر الثاني للمعرفة التاريخية يمكن اعتماد اتجاه علمي فيما يتصل بالدراسات التاريخية. والمعرفة التاريخية في هذا الاتجاه ليست جهداً يستهدف إلغاء الحاجز الزمني، وليست ذلك فحسب، بل هي على العكس من ذلك؛ فهي محاولة لرؤية الأمر التاريخي في مرآة الزمن.

إِنَّ حركة المؤرّخ تتَّجه نحو نقطة معاكسة تماماً لتلك التي يتَّجه نحوها المؤرّخ في ضوء التصوّر الأول.

ص: 37


1- اُنظر: خاكي، غلام رضا، روش تحقيق در مديريت: ص103.

وعلى أساس هذا المفهوم للمعرفة التاريخية؛ فإنّنا نواجه في واقع الأمر لوناً من الثورة الكوبرنيكية(1)، تتحوّل فيها الحركة نحو الماضي إلى انتقال في المستقبل. فالدراسة التاريخية هي اكتشاف لحدث أو فكرة تاريخية في تواصلها التاريخي وفي ظلّ آثارها ونتائجها والتحديات التي واجهتها ونظائرها... وبحث عن معطياتها وتواليها، بدلاً عن ملاحقة تاريخها وأسبابها.

وعلى أساس هذا التعريف للبحث التاريخي؛ لا تكون أكثر الدراسات اقتراباً من الحدث التاريخي هي الدراسة الأعمق والأدق بالضرورة، بل كلما تصرّم الزمن وأُتيح للحدث مجال أوسع للحركة في المستقبل؛ توفرت لنا إمكانية أكبر للاستيعاب.

إِنَّ المسافة الزمنية تُتيح إمكانية لقراءة أعمق وملاحظة لأبعاد متوارية في الموضوع التاريخي.

وفي هذا المجال ينقل جلال آل أحمد عن أستاذه في تاريخ الحضارة عباس إقبال الأشتياني (1896- 1956م) قوله: «لا يُتاح لأيّ شخص أو كتاب أو أثر أنْ يقيّم الحدث التاريخي (أيّ حدث كان) ما لم يمرّ عليه قرنٌ من الزمن»(2).

وعلى هذا الأساس؛ تكون الدراسة التاريخية على غرار الدراسة التفسيرية لا نهاية لها؛ ضرورة أنَّ تداعيات المستقبل(3) لها دورٌ في فهم الحدث التاريخي من زواياه المختلفة.

ص: 38


1- نسبةً إِلَى العالم البولندي نيكولاس كوبرنيكوس الَّذِي تبنّى فكرة وجود الشمس - وليست الأرض - كجسم ثابت في مركز المجموعة الشمسية. ولمّا كانت هذه النظرية تعدُّ ثورةً تغييرية في علم الفلك وما يرتبط به، أُطلقت الثورة الكوبرنيكية على كلّ اكتشافٍ أو فكرةٍ تؤدّي إلى تغيير جذريٍّ في مجالها.
2- آل أحمد، جلال، سركهٔ نقد يا حلواي تاريخ: ص11.
3- نعني بالمستقبل: ما يكون كذلك بالنسبة لوقت صدور الحدث التاريخي، وإنْ كان بالنسبة للباحث قد يكون ماضياً

إذا تبيّن لنا ذلك؛ أمكن القول: إِنَّ دراسة حركة الإِمام الحسين عَلیه السَلام - التي تشكّل خطاباته محوراً رئيسياً في هذه الحركة - تعني وصف هوية هذا الحدث العظيم وأبعادها، وتعليلها على أساس مرآة الزمن وفي ظلّ أحداث المستقبل.

فالدراسة التاريخية: استيعاب الماضي في إطار نتائجه الحاضرة؛ ومن هذا المنطلق أكّدنا على الخصوصية الأُولى التي مرجعها إلى أنَّ الخطابات العاشورائية ليست خطابات انقرضت واختبأت خلف جدار الزمن، بل هي حيّة متجدّدة ما دامت الشمس تشرق على صراع بين الحقّ والباطل.

الخصيصة الثانية: تزاوج العاطفة والعقل

هناك سؤالٌ أُريد أنْ ابتدئ به البحث عن هذه الخصوصية، وهذا السؤال يبدو لي خطيراً ومهمّاً، بل هو من أخطر الأسئلة التي تواجه النُّخب وأصحاب القرارات، ويمكن صياغته بالشكل التالي:

إذا أردنا أنْ نعلو بالإنسان من حضيض المادة إلى سماء المعنى، فمِمّا لا شكّ فيه أنَّنا بحاجةٍ إلى تطويره، ولكنّ السؤال أنَّ ذلك التطوير الموصل إلى السُّمو هل يقتصر على تطوير العقول، أم أنَّه بحاجةٍ إلى تطوير العواطف والميول؟ وأيّ التطوّرين أصعب؟ وأيّهما أسهل وأقرب(1)؟

وكلّ جواب نزعمه سوف يقتضي سلوكاً معيّنا، فإذا زعمت مؤسسات الدولة مثلاً أنَّ التطوّر العقلي هو الأهم؛ فسوف تكون النتيجة هو صرف العناية بالدرجة

ص: 39


1- هناك مقالة للأديب السوري الراحل الأستاذ حافظ الجمالي تحت عنوان: (التطوّر العقلي والتطوّر العاطفي) أخذت هذا السؤال منها. انظر: مجلة المعرفة الصادرة عن وزارة الثقافة والإرشاد السوري، العدد الحادي عشر، كانون الثاني 1963م

الأُولى إلى المدارس والجامعات والمعاهد على اختلاف أنواعها، وهذا ما نراه بالفعل في جميع أنحاء العالم.

أمّا إذا كان التطوّر العاطفي هو الأهمّ؛ فيحقّ لنا أنْ نتساءل: ماذا قدّمت الدول ومؤسسات القرار في سبيل تطوير الإنسان عاطفياً؟

ولنضرب لذلك مثالاً واضحاً في داخل حوزاتنا الدينية؛ حيث نلاحظ أنَّ الجواب عن ذلك السؤال - بحسب ما نلاحظه في مقام العمل - هو أنَّ التطوّر العقلي هو الأهم، بل تكاد تنعدم أدنى الأهمية للتطوّر العاطفي، فنرى الاهتمام الكبير بتأسيس المدارس الدينية، وتأليف الكتب الدراسية ونشرها، وتربية الأساتذة الأكفّاء من ناحية الأُسلوب والمادة العلمية، وغير ذلك من الممارسات التي تخدم التطوّر العقلي والنبوغ الفكري.

وفي مقابل ذلك، نرى إغفالاً واضحاً للتطور العاطفي وما يخدم الرّوح، فكلّ أيام الأسبوع صباحها ومساؤها، تكون في خدمة التطور العقلي، وتبقى دقائق معدودة في يوم الأربعاء - لو وجدت - قد خصّصت لخدمة التطوّر العاطفي، وهي مضافاً إلى عدم كفايتها في حدّ ذاتها تأتي في وقت قد استنزف طالب العلم كلّ قدراته التوجّهية.

والحال أنَّ هذا العلم الجاف الذي ندرسه لا يولّد (إنساناً) بما للكلمة من معنى، بل قد يكون حجاباً يمنع صاحبه عن الوصول إلى مصافّ الإنسانية، ويتنزّل به إلى حضيض البهيمية، وفي هذا المجال يقول السيِّد الإمام الخميني قدس سرّه في بعض تعليقاته على مصباح الأنس: «فالفكر حجابٌ، والعلم هو الحجاب الأكبر»(1).

ص: 40


1- الفناري، محمد بن حمزة، مصباح الأنس بين المعقول والمشهود: 181، تصحيح وتقديم محمد خواجوي، مع تعليقات لمجموعة من العلماء

ولنعتبر هذا الأمر في مثال عمليّ مُشاهد:

وزارة الداخلية أو المواصلات في كلّ بلدٍ يحترم نفسه تفرض شروطاً صعبة على منح رخصة القيادة، وبعض هذه الشروط يرتبط بسلامة الإنسان، فلا بدّ له من أنْ يأتي بفحوصات طبية ترتبط بحاستي النظر والسمع وما شابه ذلك، وبعضها يرتبط بالمعرفة النظرية والعملية لقيادة السيارات، وتخضعه لامتحان صعبٍ في ذلك، فإذا نجح فيه؛ تمنحه الرخصة المؤقتة ولمدّة سنة وعلى طرقٍ معيّنة، ثمّ بعد ذلك إنْ مرّت السنة من دون مخالفات، يُعطى رخصة إلى مدّة زمنيةٍ أطول، وعندما يصل الشخص إلى سنيّ ضعف الحواس، تكون قد انتهت المدّة؛ ليكون التجديد له مشروطاً بفحصٍ يجريه بشكلٍ دوري.

هذا، ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو التالي:

هل نجحت هذه الإجراءات المشددة لوحدها في وصول الوزارة المعنية إلى أهدافها من ذلك؟

فلو منحت الرخصة لشخصٍ كان من أوائل الناجحين، ومرّ هذا الشخص نفسه في مكان لا يوجد فيه كاميرات مراقبة ولا شرطة مرور، فهل ترى أنَّ علمه العملي والنظري الذي نجح فيهما بحسب الفرض يكفيه للارتداع عن المخالفة؟

ولو أنَّه مرّ في طريق وكان هناك رجلٌ أعمى يريد أنْ يعبر الطريق، فهل تراه يقف في انتظاره، أو يخفّف من سرعته، لمجرّد أنَّه قد درس قوانين السير عند أفضل المدرسين، وتدرّب على قيادة السيارات في أحدث المؤسسات؟

معلومٌ أنَّ الجواب لن يكون بالإثبات!!!

فما هو السّرُّ في ذلك يا ترى؟

ص: 41

ليس ذلك إِلاَّ لخوائه العاطفي والأخلاقي، وأنّه لو بذلت الدولة ومؤسساتها المرتبطة بالسير جهداً موازياً للجهد الذي تبذله في مجال التطور العقلي، لو بذلت هذا الجهد في تطويره أخلاقياً وعاطفياً؛ لأمكن أنْ نجيب بالإثبات عن السؤال المتقدّم. فشهادة القيادة لا تكفي، بل لا بدّ من شهادةٍ في الأخلاق وحسن السلوك وصحو الضمير.

وهكذا الحال في الطبيب والمهندس، وغير ذلك من المهن والحرف التي تعتمد على التطوير العقلي والعلمي من جهةٍ، وتكون بحاجةٍ إلى بُعدٍ أخلاقيٍّ في مقام الممارسة من جهةٍ أُخرى.

والذي نلاحظه أنَّنا نضع أولادنا في المدارس وهم لم يصلوا إلى سنّ الخامسة بعدُ، وتضع الدولة وسائر المؤسسات مع الأهل تمام الإمكانات التي تصبّ في تطوّرهم العلمي والعقلي، وتنتظر اثنتي عشرة سنة ليحصل الولد على الشهادة الثانوية، وتنتظره إحدى عشر سنة أُخرى على الأقلّ ليخرج حاملاً شهادة اختصاصٍ في فرع من فروع الطبّ. وهذا يعني أنَّنا انتظرناه أكثر من عقدين من الزمن، لا لمجرّد أنْ يكون حاملاً لشهادةٍ ومجموعةٍ كبيرةٍ من المعلومات؛ بل لكي يكون عنصراً صالحاً ومفيداً، وهذا بحاجةٍ ماسّةٍ إلى سلوك مناسب، وللأسف لا نعطيه شيئاً مرتبطاً بذلك في تلك السنوات الثلاث والعشرين.

نماذج التزاوج بين التطوير العقلي والعاطفي في الخطاب العاشورائي:

اشارة

وعلى أساس ما تقدّم؛ نلاحظ أنَّ الإِمام الحسين عَلیه السَلام في تمام أبعاد مسيرته قد زاوج في خطاباته بين التطوّر العقلي والتطوّر العاطفي، ومع قطع النّظر عن الخطاب العاشورائي نرى أنَّ ذلك قد انعكس بوضوحٍ على جبل عرفة، في دعائه العظيم الذي رواه بشرٌ وبشيرٌ ابنا غالب الأسدي؛ حيث تراه في عين إثباته لوجود الصانع

ص: 42

بأفضل البراهين يصيغه بصياغةٍ تحرّك الروح، فيشعر سامعه بالخشوع؛ ليظهر أثره على العين، فتذرف الدموع السواكب.

فهو القائل: «إِلَهِي، تَرَدُّدِي فِي الآثَارِ يُوجِبُ بُعْدَ المَزَارِ، فَاجْمَعْنِي عَلَيْكَ بِخِدْمَةٍ تُوصِلُنِي إِلَيْكَ، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِمَا هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ، أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ، مَتَى غِبْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ إلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ، وَمَتَى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثَارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ، عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَرَاكَ عَلَيْهَا رَقِيباً، وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيباً»(1).

فانظر - بعين البصيرة - إلى هذا الكلام الذي يُثبت لك وجود الصانع ببرهان اللمّ، ويسبكه في عبارةٍ تجعل التالي لها يعيش حالة الإحساس بالرقيب في كلّ حركاته وسكناته، ذلك الرقيب الذي لا يخاف منه لقسوته؛ بل لكونه هو المحبوب الأوحد والمعشوق الأمجد.

وهذه العقلانية في قالب التهذيب نراها بوضوح في جميع خطاباته العاشورائية منذ بدء الثورة في المدينة ومكة إلى سقوطه مشحطاً بدمه في كربلاء.

ونكتفي في هذه العجالة بذكر نماذج ثلاثة:

النموذج الأوّل:

عَن ابْنِ طَاووس، قَالَ: «وَحَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ مَنْ أَشَرْتُ إِلَيْهِ، بِإِسْنَادِهِمْ إلى عُمَرَ النَّسَّابَةِ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِ، فِيمَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ كِتَابِ الشَّافِي فِي النَّسَبِ، بِإِسْنَادِهِ إلى جَدِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي عُمَرَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلیه السَلام يُحَدِّثُ أَخْوَالِي آلَ عَقِيلٍ، قَالَ: لَمَّا امْتَنَعَ أَخِيَ الحُسَيْنُ عَلیه السَلام عَنِ البَيْعَةِ لِيَزِيدَ بِالمَدِينَةِ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَوَجَدْتُهُ

ص: 43


1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج95، ص255.

خَالِياً، فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا أَبَا عَبْدِ الله، حَدَّثَنِي أَخُوكَ أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ عَنْ أَبِيهِ عَلیه السَلام . ثُمَّ سَبَقَنِي الدَّمْعَةُ وَعَلا شَهِيقِي، فَضَمَّنِي إِلَيْهِ، وَقَالَ: حَدَّثَكَ أَنِّي مَقْتُولٌ؟ فَقُلْتُ: حُوْشيْتَ يَا بْنَ رَسُولِ الله. فَقَالَ: سَأَلْتُكَ بِحَقِّ أَبِيكَ بِقَتْلِي خَبَّرَكَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَلَوْلا نَاوَلْتَ وَبَايَعْتَ. فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ رَسُولَ الله‘ أَخْبَرَهُ بِقَتْلِهِ وَقَتْلِي، وَأَنَّ تُرْبَتِي تَكُونُ بِقُرْبِ تُرْبَتِهِ، فَتَظُنُّ أَنَّكَ عَلِمْتَ مَا لَمْ أَعْلَمْهُ؟! وَأَنَّهُ لاَ أُعْطِي الدَّنِيَّةَ مِنْ نَفْسِي أَبَداً، وَلَتَلْقَيَنَّ فَاطِمَةُ أَبَاهَا شَاكِيَةً مَا لَقِيَتْ ذُرِّيَّتُهَا مِنْ أُمَّتِهِ، وَلاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ آذَاهَا فِي ذُرِّيَّتِهَا»(1).

فهذا الحسين عَلیه السَلام في المقطع الأخير من كلامه مع أخيه عمر عندما طلب منه المبايعة إشفاقاً عليه، قد بيّن عَلیه السَلام له أنَّ ذلك غير ممكن في ضمن برهانٍ مضمرٍ في قالبٍ عاطفيّ. فأفاد: أنَّ المبايعة ليزيد منْ مثله إعطاء للدنية (وهي المقدمة المذكورة صراحةً في الخبر)، وإعطاء الدنية لا يرضاه الله لأوليائه (وهي المقدمة المطوية في القياس؛ لكونه من الأقيسة المضمرة كما لا يخفى). فينتج ذلك: أنَّ المبايعة ليزيد مِمّا لا يرضاه الله لأوليائه.

ثمّ لم يكتفِ بهذا البرهان، فضمّنه ما يشعر بمقامه من جهةٍ؛ لكونه ابنَ فاطمة عَلیهاالسَلام ، وهي مَنْ نعلَم مِنْ كونها قد فُطِم الخلق عن معرفتها(2).

وأتبعه بما يُحرّك العاطفة، مع كونه في الوقت نفسه يمكن إرجاعه إلى قياس برهاني، فيقال - على وجه الاختصار -: ما يترتّب من فعلٍ على ترك الإِمام الحسين عَلیه السَلام للبيعة فيه أذيةٌ لأُمّه عَلیهاالسَلام ، وأذيتها أذيّةٌ لرسول الله‘، وأذيته أذيّةٌ للجبار تعالى. قال رسول الله‘: «إِنَّما فاطمةٌ بضعةٌ منِّي؛ يؤذيني ما آذاها»(3)، وبديهيٌّ أنَّ أذية الرسول أذيّةٌ للمرسِل.

ص: 44


1- ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف على قتلى الطفوف: ص19.
2- إشارة إِلى ما ورد في الخبر عن الإِمام الصادق علیه السَّلام : «إِنَّمَا سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ؛ لأَنَّ الخَلْقَ فُطِمُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا»، اُنظر: تفسير فرات الكوفي: ص581
3- النّيسابوري، مسلم، صحيح مسلم: ج7، ص141.

ويمكن الاستغناء عن القضية المتوسطة بما رواه الصدوق رحمة الله : قَالَ «حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ يَحْيَى بْنُ زَيْدِ بْنِ العَبَّاسِ بْنِ الوَلِيدِ البَزَّازُ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِ بِالكُوفَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي عَلِيُّ بْنُ العَبَّاسِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ المُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ سَالِمٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلیه السَلام ، عَنْ رَسُولِ الله‘ أَنَّهُ قَالَ: يَا فَاطِمَةُ، إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيَغْضَبُ لِغَضَبِكِ وَيَرْضَى لِرِضَاكِ. قَالَ: فَجَاءَ صَنْدَلٌ فَقَالَ لِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلیهِماالسَّلام : يَا أَبَا عَبْدِ الله، إِنَّ هَؤُلاءِ الشَّبَابَ يَجِيئُونَّا عَنْكَ بِأَحَادِيثَ مُنْكَرَةٍ! فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ عَلیه السَلام : وَمَا ذَاكَ يَا صَنْدَلُ؟ قَالَ: جَاءَنَا عَنْكَ أَنَّكَ حَدَّثْتَهُمْ أَنَّ الله يَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ وَيَرْضَى لِرِضَاهَا! قَالَ: فَقَالَ جَعْفَرٌ عَلیه السَلام : يَا صَنْدَلُ، أَلَسْتُمْ رَوَيْتُمْ فِيمَا تَرْوُونَ أنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ وَيَرْضَى لِرِضَاهُ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا تُنْكِرُونَ أَنْ تَكُونَ فَاطِمَةُ عَلیهاالسَلام مُؤْمِنَةً يَغْضَبُ الله لِغَضَبِهَا وَيَرْضَى لِرِضَاهَا؟! قَالَ: فَقَالَ: الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ»(1).

النموذج الثاني:

ما ورد في تسلية المجالس وغيره: «ثُمَّ أَرْسَلَ الحُسَيْنُ عَلیه السَلام إلى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ لَعَنَهُ الله: أَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُكَلِّمَكَ، فَالقَنِي اللَّيْلَةَ بَيْنَ عَسْكَرِي وَعَسْكَرِكَ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْنُ سَعْدٍ فِي عِشْرِينَ وَخَرَجَ إِلَيْهِ الحُسَيْنُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا التَقَيَا أَمَرَ الحُسَيْنُ عَلیه السَلام أَصْحَابَهُ؛ فَتَنَحَّوْا عَنْهُ، وَبَقِيَ مَعَهُ أَخُوهُ العَبَّاسُ وَابْنُهُ عَلِيٌّ الأَكْبَرُ، وَأَمَرَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ أَصْحَابَهُ؛ فَتَنَحَّوْا عَنْهُ، وَبَقِيَ مَعَهُ ابْنُهُ حَفْصٌ وَغُلامٌ لَهُ. فَقَالَ لَهُ الحُسَيْنُ عَلیه السَلام : وَيْلَكَ يَا بْنَ سَعْدٍ! أَمَا تَتَّقِي الله الذي إِلَيْهِ مَعَادُكَ؟! أَتُقَاتِلُنِي وَأَنَا ابْنُ مَنْ عَلِمْتَ؟! ذَرْ هَؤُلاءِ القَوْمَ وَكُنْ مَعِي؛ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ لَكَ إلى الله تَعَالَى. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: أَخَافُ أَنْ يُهْدَمَ دَارِي. فَقَالَ الحُسَيْنُ عَلیه السَلام : أَنَا أَبْنِيهَا لَكَ. فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ تُؤْخَذَ ضَيْعَتِي. فَقَالَ الحُسَيْنُ عَلیه السَلام : أَنَا

ص: 45


1- الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص383.

أُخْلِفُ عَلَيْكَ خَيْراً مِنْهَا مِنْ مَالِي بِالحِجَازِ. فَقَالَ: لِي عِيَالٌ وَأَخَافُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ سَكَتَ وَلَمْ يُجِبْهُ إلى شيء، فَانْصَرَفَ عَنْهُ الحُسَيْنُ عَلیه السَلام وَهُوَ يَقُولُ: مَا لَكَ؟! ذَبَحَكَ الله عَلَى فِرَاشِكَ عَاجِلاً، وَلا غَفَرَ لَكَ يَوْمَ حَشْرِكَ، فَوَالله، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ لا تَأْكُلَ مِنْ بُرِّ العِرَاقِ إِلاّ يَسِيراً. فَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: فِي الشَّعِيرِ كِفَايَةٌ عَنِ البُرِّ؛ مُسْتَهْزِئاً بِذَلِكَ القَوْل»(1).

فالحسين عَلیه السَلام في هذا النّصِّ - على الرّغم من معرفته بأنّ عمر بن سعد قد ختم الله على قلبه، ولا تنفعه حجّة ولا موعظة، لكنْ لمّا كان الخطاب الحسيني غير متقيّدٍ بزمانٍ ولا مكان، كما تقدّم في الخصوصية الأُولى، فهو بالتالي على الرغم من كون فائدته المباشرة تأكيد الحجّة، يكون خطاباً سيّالاً لكلّ مَن ألقى السمع وهو شهيد - زاوج بين العاطفة والعقل.

فهو يعرف أنَّ البواعث المحرّكة لمثل هذا الرجل هي البواعث المادية؛ فلذا أراد تغطية هذا البُعد العاطفي عنده، فوعده بتأمينها عن طريق البيت والضيعة، كما أنَّه لمّا لم ينفع ذلك معه انتقل إلى البعد العاطفي الأُخروي.

وكانت تغطية البُعد العقلي قد سبقت ذلك عن طريق تذكيره بمقامه في هذه الأُمّة بقوله: «أَتُقَاتِلُنِي وَأَنَا ابْنُ مَنْ عَلِمْتَ؟!»، فإنَّه صغرى في قياسٍ مضمرٍ، كما تقدّم في النموذج السابق.

النموذج الثالث:

قَالَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ عَلیهِماالسَّلام : «لَمَّا اشْتَدَّ الأَمْرُ بِالحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلیهِماالسَّلام نَظَرَ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ مَعَهُ، فَإِذَا هُوَ بِخِلافِهِمْ؛ لأَنَّهُمْ كُلَّمَا اشْتَدَّ الأَمْرُ تَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُمْ، وَوَجَبَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَانَ الحُسَيْنُ عَلیه السَلام وَبَعْضُ مَنْ مَعَهُ مِنْ خَصَائِصِهِ تُشْرِقُ أَلْوَانُهُمْ وَتَهْدَأُ جَوَارِحُهُمْ وَتَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا لا يُبَالِي

ص: 46


1- الحسيني الموسوي، محمد بن أبي طالب، تسلية المُجالس وزينة المَجالس: ج2، ص264

بِالمَوْتِ!! فَقَالَ لَهُمُ الحُسَيْنُ عَلیه السَلام : صَبْراً بَنِي الكِرَامِ فَمَا المَوْتُ إِلاَّ قَنْطَرَةٌ تَعْبُرُ بِكُمْ عَنِ البُؤْسِ وَالضَّرَّاءِ إلى الجِنَانِ الوَاسِعَةِ وَالنَّعِيمِ الدَّائِمَةِ، فَأَيُّكُمْ يَكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ سِجْنٍ إلى قَصْرٍ؟! وَمَا هُوَ لأَعْدَائِكُمْ إِلاَّ كَمَنْ يَنْتَقِلُ مِنْ قَصْرٍ إلى سِجْنٍ وَعَذَابٍ. إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ رَسُولِ الله صلّى الله عليه و آله و سلّم : أَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الكَافِرِ، وَالمَوْتُ جِسْرُ هَؤُلاءِ إلى جَنَّاتِهِمْ، وَجِسْرُ هَؤُلاءِ إلى جَحِيمِهِمْ. مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ»(1).

والتطوير العاطفي والأخلاقي في هذا النّص في غاية الوضوح من خلال خطابٍ يشدّ الروح قبل العقل.

وهذا التزاوج بين التطوّر العقلي والعاطفي كثير في كلمات أهل بيته علیهم السلام وأصحابهم من خلال مواقفهم المتعددة، ولكن فيما قدّمناه كفاية بعد وضوح الفكرة.

وفي غيره مِمّا يرتبط بحادثة كربلاء، ولكنّه صادر على لسان سائر الأئمّة كثير أيضاً، ومن الموارد الواضحة في ذلك زيارة عاشوراء المنتسبة إلى مولانا صاحب العصر والزمان عَلیه السَلام ؛ حيث يظهر فيها بوضوح سبك الفكر في قالب العاطفة وإطارها، وليس ذلك إِلاَّ لأنّ جفاف الفكر لا يؤثّر إِلاَّ مع ليونة العاطفة.

ولنتأمّل في الفقرات التالية ليتضح لنا حقيقة ما أروم إليه:

«السَّلامُ عَلَى الحُسَيْنِ الذي سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِمُهْجَتِهِ... السَّلامُ عَلَى مَنْ أَطَاعَ الله فِي سِرِّهِ وَعَلانِيَتِهِ، السَّلامُ عَلَى مَنْ جُعِلَ الشِّفَاءُ فِي تُرْبَتِهِ، السَّلامُ عَلَى مَنِ الإِجَابَةُ تَحْتَ قُبَّتِهِ، السَّلامُ عَلَى مَنِ الأَئِمَّةُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ... السَّلامُ عَلَى مَنْ أُرِيقَ بِالظُّلْمِ دَمُهُ، السَّلامُ عَلَى المُغَسَّلِ بِدَمِ الجِرَاحِ، السَّلامُ عَلَى المُجَرَّعِ بِكَاسَاتِ الرِّمَاحِ، السَّلامُ عَلَى المُضَامِ المُسْتَبَاحِ، السَّلامُ عَلَى المَهْجُورِ فِي الوَرَى، السَّلامُ عَلَى مَنْ تَوَلَّى دَفْنَهُ أَهْلُ القُرَى، السَّلامُ عَلَى

ص: 47


1- الصدوق، محمد بن علي، معاني الأخبار: ص288.

المَقْطُوعِ الوَتِينِ، السَّلامُ عَلَى المُحَامِي بِلا مُعِينٍ»(1).

فها هو عليه الصلاة والسلام يطوّع أجمل العبارات العاطفية؛ لبيان فضله - من جهةٍ - الذي هو مقدّمة لكبرى مطوية، وهي: أنَّ مَن كان كذلك لا يجوز قتله وسفك دمه، ثمّ يرتّب على ذلك المظلومية بأشدّ الصور حزناً ولهفةً.

ثمّ يتابع في ركوب مركب البلاغة، مزاوجاً بين التأثير العاطفي والإقناع العقلي، فيقول:

«سَلامَ مَنْ لَوْ كَانَ مَعَكَ بِالطُّفُوفِ لَوَقَاكَ بِنَفْسِهِ حَدَّ السُّيُوفِ، وَبَذَلَ حُشَاشَتَهُ دُونَكَ لِلْحُتُوفِ، وَجَاهَدَ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَنَصَرَكَ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْكَ، وَفَدَاكَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ، وَمَالِهِ وَوُلْدِهِ، وَرُوحُهُ لِرُوحِكَ فِدَاءٌ... فَلَئِنْ أَخَّرَتْنِي الدُّهُورُ، وَعَاقَنِي عَنْ نَصْرِكَ المَقْدُورُ، وَلَمْ أَكُنْ لِمَنْ حَارَبَكَ مُحَارِباً، وَلِمَنْ نَصَبَ لَكَ العَدَاوَةَ مُنَاصِباً، فَلأَنْدُبَنَّكَ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَلأَبْكِيَنَّ عَلَيْكَ بَدَلَ الدُّمُوعِ دَماً؛ حَسْرَةً عَلَيْكَ وَتَأَسُّفاً عَلَى مَا دَهَاكَ وَتَلَهُّفاً، حَتَّى أَمُوتَ بِلَوْعَةِ المُصَابِ وَغُصَّةِ الاكْتِيَابِ».

والعبارة تفيض براعةً، فتنطق فيما رمناه، بلا حاجةٍ إلى تكلّف وتأويل.

السلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، الذين بذلوا مهجهم دون الحسين عَلیه السَلام ...

ص: 48


1- المشهدي، محمد بن جعفر، المزار: ص497.

النَهضةُ الحُسَینیَّة بَینَ انتِکاسَةِ الاُمةِ وَ ایقُاظهَا د.السيد حاتم البخاتي

اشارة

كثيراً ما تُختزل أهداف الثورات والنهضات وحركات التحرر والانعتاق التي تُثار في وجه الظلم والجور والانحراف، في لون خاصّ ونمط مُعيّن من الأهداف والغايات التي تُعلَن عِبْر الشعارات المرفوعة والنداءات الموجّهة، وتظهر من خلال ممارسات القائمين عليها وأفعال المتصدِّين لها، وكثيراً ما تكون هذه الأهداف المُعلَنة أو المرفوعة محدودة من حيث الزمان والمكان، ومنصهرة بإطار نظرات وأُفق تفكير مَن يرفعها، وهذا ما تفرضه الظروف الموضوعيّة المرتبطة بحدود إمكانات قادتها وأُفق تصوراتهم، فتأتي أغلب هذه النهضات والانتفاضات - فيما لو نجحت - قليلة التأثير ومحدودة الفاعليّة، لاسيما إذا ما تقادم عهدها وامتدّ بها عمود الزمان، فتظل حينئذٍ من ذكريات التاريخ وتراثه القَيّم التي لا تخلو من فائدة لِمَناطّلع عليها ودرس تاريخها.

لكنّ هذا التصوّر والانطباع السالف الذكر عن الثورات وحركات الرفض لا ينسحب أبداً على النهضة الحسينيّة المباركة التي قادها الإمام الحسين عَلیه السَلام ، من حيث أهدافها ونتائجها ومعطياتها، وخروجها عن قيود الزمان والمكان، وهذا لا غروَ به؛ لأنّ قائد النهضة سامي المقام وعالي الهمّة كجده النبي الأعظم محمد‘، كما قال الشاعر:

له هممٌ لا منتهى لكبارها***وهمّتها الصغرى أجلّ من الدهر

ص: 49

أهداف النهضة الحسينيّة ودوافعها

إنّ المتّتبع لفصول النهضة الحسينيّة ومواقفها، وما بعثته من رسائل من بداية انطلاقها وتحركها من المدينة المنوّرة بعد موت معاوية، ومروراً بمكة، وانتهاءً بكربلاء، لا يسعه إلّا أن يقرّ بأنّها نهضة شاملة، ذات نظرة بعيدة وأُفق واسع، وأهداف متعددة الأبعاد والأغراض والغايات الاجتماعية، والدينية، والأخلاقية والسياسية، حارت في معرفة كنهها ألباب المفكّرين، وعجزت عن الإحاطة بها عقول الألمعيّين.

ولعل أوضح شاهد على اللافتة العريضة لأهداف النهضة الحسينيّة هو ما أطلقه الإمام الحسين عَلیه السَلام في واحد من شعارات نهضته - حينما قال في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية -: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدي صلّى الله عليه و آله و سلّم ، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»(1)، فعنوان الإصلاح ينطبق على كلّ هذه الأبعاد والأشكال المتعددة لأهداف النهضة الحسينيّة، فيشمل كلّ مظاهر الإصلاح الاجتماعي والديني، والسياسي، والأخلاقي، والتربوي، وغير ذلك.

ولسائل أن يسأل: لماذا حملت النهضة الحسينيّة كلّ هذه الأهداف؟ ما الذي حصل في الأُمّة؛ لكي يضطلع الإمام الحسين عَلیه السَلام بهذه المهمّة الجسيمة ويدفع هذا الثمن النفيس؟

وفي معرض الإجابة عن التساؤل نقول: من وجهة نظر الشيعة الإمامية - وقد يُشاركهم غيرهم من المسلمين - إنّ مسيرة الأُمّة الإسلاميّة قد أُصيبت بخلل كبير وانحراف خطير بُعَيد رحيل النبي الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم ، حينما وُضِعَتْ الأُمور في غير مواضعها

ص: 50


1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329. الخوارزمي، مقتل الحسين علیه السَّلام : ج1، ص88

التي أرادها الله تعالى لها، فجُعِلَت مقادير الأُمّة ومصائر المسلمين في أيدي أُناس أقلّ ما يُقال عنهم: إنّهم غير مؤهلين لذلك. ثمّ أخذت الهوّة تتسع والشرخ يزداد حينما أصبح طُلَقاء هذه الأُمّة رُعاة المسلمين وأمراءهم في عهد الخليفة الثالث(1)، ولم تسنح الظروف لأمير المؤمنين عَلیه السَلام - عندما آلت إليه الأُمور - إصلاح ما فَسُد ورَتْق ما فُتِق؛ لأنّ الأيادي الأثيمة اغتالته ليمضي شهيد الحقّ والعدل، وتُمنى الأُمّة بأفدح خسارة في تاريخها، ثمّ تتعمّق الجراح وتزداد مأساة الإسلام بتولي معاوية بن أبي سفيان السلطة وقيادة الأُمّة الإسلاميّة، مع أنّها محرّمة على آل أبي سفيان، كما روي عن الإمام الحسين عَلیه السَلام أنّه قال: «ولقد سمعت جدّي يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان»(2)، ولم يكن يتصَوّر أحد من عامّة المسلمين في العقدين الأولين للإسلام أن تقع الخلافة في أيدي أبناء أبي سفيان، ولكنّها سخرية القدر، ووهن الأُمّة وضعف إرادتها.

وليت الأوضاع وقفت عند هذا الحدّ، بل تعدّت إلى أن يصبح يزيد بن معاوية - الفاسق وشارب الخمر وقاتل النفس المحترمة - خليفة على المسلمين، عندها دقّ ناقوس الخطر بشدّة، وأصبحت جهود النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم في مهبّ الريح؛ الأمر الذي حدا بالإمام الحسين عَلیه السَلام أن يقول: « إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام؛ إذ قد بُلِيت الأُمّة براعٍ مثل يزيد»(3)، ويقول: «ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؛ ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقّاً حقّاً؛ فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برما»(4).

فهذه الحالة المتردّية التي وصل إليها وضع المجتمع الإسلامي على جميع الأصعدة

ص: 51


1- اُنظر: العصفري، خليفة بن خياط، تاريخ خليفة بن خياط: ص133.
2- الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص15.
3- ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: ص18.
4- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص381.

- الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة والأخلاقيّة - تحتاج بطبيعة الحال إلى نهضة إصلاحيّة متوازية وحجم الفساد والإفساد الذي أصاب الأُمّة جمعاء، نهضة تُراعي في أهدافها ورسالتها إصلاح كلّ أشكال هذا الانحراف، وتكون بمستوى المسؤولية وحجم المهمة؛ فلهذا كانت أهداف النهضة الحسينيّة بهذا الحجم الكبير والأبعاد المتعددة، وبه يتّضح جواب التساؤل المتقدِّم.

بقي أن نعرف الطريقة والأُسلوب الذي سلكه الإمام الحسين عَلیه السَلام للوصول إلى هدفه الإصلاحي، وهو ما نشير إليه فيما يأتي.

أُسلوب الإمام الحسين عَلیه السَلام وطريقته في تحقيق الإصلاح

اشارة

يمكن أن تُذكر عدّة آراء ونظريات تفسّر الطريقة والأُسلوب الذي اتّبعه الإمام الحسين عَلیه السَلام في حركته التغييريّة؛ للوصول إلى مبتغاه في الإصلاح العامّ الشامل، إلّا أنّنا سنقتصر على رأيين رئيسين في مسألة الأُسلوب والآلية والطريقة التي اتّخذها الإمام، وهما أُسلوب الاستيلاء على الحكم، وأُسلوب التضحيّة والاستشهاد:

الأُسلوب الأول: الاستيلاء على السلطة وإقامة الحكم الإلهي

يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أنّ الإمام الحسين عَلیه السَلام إنّما سعى إلى تحقيق أهداف نهضته عن طريق استلام زمام الخلافة الإسلامية، وإصلاح ما أفسده غيره، وإعادة الأُمّة إلى رشدها ووضْعِها على جادّة الصواب، من خلال السيطرة على أجهزة الدولة ومفاصلها، واستغلالها في سبيل أسلمة المجتمع بعد أن فقد هويته الإسلاميّة الحقيقيّة.

ولم يكن سعي الإمام عَلیه السَلام للحصول على السلطة والحكم هدفاً وغاية شخصيّة،

ص: 52

بل كان وسيلة وطريقاً لتحقيق أهداف نهضته الكبرى(1)، وهذا ديدنهم في التعامل مع قضية الحكم والقيادة، وفي هذا الصدد يقول الإمام الحسين عَلیه السَلام : «اللهم، إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنُري المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك»(2).

وبإمكاننا أن نقرِّب هذه الرؤية من خلال استعراض بعض المعطيات والشواهد التي تصبّ في صالح مَن يتبنّاها، وهي أنّه بعد أن نصّب معاوية ابنه يزيد - الذي لم يكن لائقاً بهذا المنصب ولو بالحدّ الأدنى - أميراً على المسلمين قبل موته وجدت هناك موجة من الاستياء العامّ في أوساط المسلمين، ورفض بعض زعماء المسلمين البيعة، فرأى الإمام عَلیه السَلام أنّ الأجواء مهيأة لأخذ زمام المبادرة، وهو مَن يمتلك كل المقوّمات المطلوبة في الحاكم الإسلامي، فأعلن شعاره الأول الذي حمل دلالات واضحة على توجهاته «وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلّى الله عليه و آله و سلّم أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب عَلیه السَلام ، فمَن قبلني بقبول الحقّ، فالله أوْلى بالحقّ، ومَن ردّ عليَّ هذا أصبر، حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين»(3).

وساعد على ذلك مكاتبة أهل الكوفة له ودعوتهم إياه إلى القدوم واستعدادهم للدفاع عنه ومبايعته بالخلافة؛ فبعث إليهم مسلم بن عقيل لتقويم الأُمور، والتمهيد

ص: 53


1- عدّ بعض المفكرين مسألة استلام الحكم من دوافع وأهداف الثورة الحسينيّة، في معرض حديثه عن الأهداف والدوافع المتصوّرة وما هو الصحيح منها. اُنظر: الشاهرودي، محمود، محاضرات في الثورة الحسينيّة: ص50 وما بعدها
2- الحرّاني، ابن شعبة، تحف العقول: ص239.
3- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329-330.

للدولة الجديدة التي عاصمتها الكوفة، كما أنّه كان بالإمكان أن يضمن ولاء المدينة المنوّرة ومكة؛ فأخذ يدعو كلّ مَن لقيه إلى نصرته والالتحاق به، بل بعث كُتباً ورسائل إلى زعماء القبائل يدعوهم إلى الانضمام إليه في حربه ضدّ السلطة الظالمة، ومن كُتبه تلك ما أرسله إلى زعماء البصرة الذي جاء فيه: «إنّي أدعوكم إلى الله وإلى نبيِّه؛ فإنّ السنّة قد أُميتت، فإن تُجيبوا دعوتي، وتُطيعوا أمري أهدِكم سبيل الرشاد»(1).

هذا، وممّا يدعم هذا الرأي ما كتبه الإمام الحسين عَلیه السَلام في رسالته الجوابية عن كتاب مسلم بن عقيل، حين أخبره بأنّ الأُمور في صالح أهل البيت علیهم السلام وأنّ أهل الكوفة قد اجتمعت كلمتهم على نصرة الحسين وأهل بيته علیهم السلام ، فقال: «أمّا بعد: فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبر فيه بحُسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر»(2).

بل بناءً على بعض الأخبار أنّ الإمام عَلیه السَلام قد مارس صلاحيّاته كحاكم سياسي فعلي، حين صادر - وهو في الطريق - أموالاً بعثها إلى يزيد عامله على اليمن، قال السيد ابن طاووس: «ثمّ سار حتى مرّ بالتنعيم، فلقي هناك عِيراً تحمل هديّةً قد بعث بها بحير بن ريسان الحميري عامل اليمن إلى يزيد بن معاوية، فأخذ الهدية؛ لأنّ حكم أُمور المسلمين إليه»(3).

وظل هذا الأمر نُصب عين الإمام عَلیه السَلام حتى بعد أن انقلبت أوضاع الكوفة، واستُشهد مسلم بن عقيل، وتفرّق الناس الذين التحقوا به إلّا ثلّة من خُلّص أصحابه، فما زال يذكّر الناس بأنّه أحقّ بالخلافة وأوْلى من يزيد بن معاوية، ويحثّهم على طاعته، وذلك حين خطب بجيش الحرّ عندما التقى به في الطريق على مقربة من

ص: 54


1- المصدر السابق: ج44، ص340-341.
2- المفيد، الإرشاد: ج2، ص70. اُنظر: البلاذري، أنساب الأشراف: ج3، ص167.
3- ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: ص42.

كربلاء، فقال: «أيها الناس، فإنّكم إن تتَّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمد، وأوْلى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدَّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان»(1).

بل إنّه لم ييأس من دعوة أهل الكوفة - ممّن كتبوا له - إلى نصرته وترك جبهة الباطل، فعندما وصل إلى كربلاء دعا بدواة وقرطاس، فكتب إليهم كتاباً جاء فيه: «وقد علمتم أنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرَّموا حلاله، وإنّي أحقّ بهذا الأمر؛ لقرابتي من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ، وقد أتتني كتبكم، وقَدِمت عليّ رسلُكم ببيعتكم، أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظكم ورشدكم»(2).

ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ الإمام كان يرى بعلمه العادي أنّ هذا الشيء سوف يتحقق، فاندفع إلى ذلك، كما كان النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم يرى أنّه سوف ينتصر على الكفار في أُحد، وكذلك الحال في خروج الإمام علي عَلیه السَلام إلى معركة صفّين، فالتصدّي والتخطيط لاستلام الحكم من قِبَل إمام ما، لا يعني بالضرورة أنّ ما خُطّط له سوف يتحقق؛ فالأئمة علیهم السلام لا يخرجون عن الجانب البشري في عملهم الاجتماعي والسياسي، ولا يستخدمون الوسائل الغيبيّة إلّا في حالات خاصة(3).

وقد نجد هذا الرأي في كلمات السيد المرتضى رحمة الله في كتابه تنزيه الأنبياء، فإنّه ذكر عدّة تساؤلات حول نهضة الإمام الحسين عَلیه السَلام ، وتحركه من المدينة حتى كربلاء، منها: أنّه ما المبرر لخروجه إلى الكوفة وهي بيد أعدائه، وهو يعلم صنيع أهل الكوفة

ص: 55


1- المفيد، الإرشاد: ج2، ص79.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص382.
3- اُنظر: الشاهرودي، محمود، محاضرات في الثورة الحسينية: ص51-58.

بأبيه وأخيه؟ ولماذا لم يأخذ بنصيحة أصحابه بعدم الخروج، وإلّا فسوف يُقتل؟ ثمّ لماذا لم يرجع بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيل؟ وغير ذلك من التساؤلات. فيُجيب عنها بقوله: « إنّ الإمام متى غلب في ظنّه يصل إلى حقّه والقيام بما فُوِّض إليه بضرب من الفعل؛ وجب عليه ذلك، وإن كان فيه ضرب من المشقّة يُتحمّل مثلها، تحمّلها، وسيدنا أبو عبد الله عَلیه السَلام لم يَسر طالباً للكوفة إلّا بعد توثُّق من القوم وعهود وعقود، وبعد أن كاتبوه عَلیه السَلام طائعين غير مكرهين، ومبتدئيِن غير مجيبين... ورأى عَلیه السَلام من قوّتهم على مَن كان يليهم في الحال من قِبل يزيد، وتشحّنهم عليه وضعفه عنهم، ما قوّى في ظنّه أنّ المسير هو الواجب؛ تعيّن عليه ما فعله من الاجتهاد والتسبُّب، ولم يكن في حسابه أنّ القوم يغدر بعضهم، ويضعف أهل الحقّ عن نصرته، ويتّفق بما اتّفق من الأُمور الغريبة...»(1).

وبغضّ النظر عمّا يُورَد على هذا الرأي من إشكالات؛ فنحن لسنا بصدد محاكمة الآراء بقدر ما نبتغي عرضاً لهاتين الرؤيتين فقط.

الأُسلوب الثاني: طريق التضحية والاستشهاد

هناك مَن ينظر إلى القضية من نافذة أُخرى، فيرى أنّ الإمام الحسين عَلیه السَلام لم يكن له بدٌّ في تحقيق أهدافه العظيمة إلّا ركوب الصعبة وسلوك طريق التضحية والاستشهاد؛ لأنّ «الدنيا قد تغيّرت وتنكَّرت، وأدبر معروفها... حتى لم يبقَ منها إلّا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالكلاء الوبيل»(2)، فيزيد بن معاوية لا يمتلك ما عند أبيه من سياسة المراوغة والطرق الملتوية، وإنّما تغلب عليه الحماقة والغباء والغرور مع فقدانه الوازع الديني والأخلاقي، فقرَّر تصفية خصومه ومعارضيه جسدياً، فكتب

ص: 56


1- الشريف المرتضى، تنزيه الأنبياء: ص228-229.
2- الإربلي، علي بن أبي الفتح، كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2، ص242.

إلى عامله على المدينة: «فإذا أتاك كتابي هذا فعجِّل عليَّ بجوابه، وبيّن لي في كتابك كلّ مَن في طاعتي، أو خرج عنها، وليكن مع الجواب رأس الحسين بن علي»(1)، كما كان لا يتوانى في ارتكاب الفظائع والجرائم، وانتهاك الحرمات والمقدّسات إذا ما حال ذلك دون تربّعه على سدّة الحكم، هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى، فإنّ المجتمع الإسلامي قد جفّت فيه القيم الإسلامية الأصيلة، وتغيّرت فيه المفاهيم، فأضحى المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والشريف مبعَّداً مهمّشاً، والدني مقرَّباً محترماً، كما وصف ذلك الإمام الحسين عَلیه السَلام «ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؛ ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقّاً حقّاً»(2)، وفي قوله عَلیه السَلام : «فإنّ السنّة قد أُميتت»(3).

فخطط الإمام عَلیه السَلام - ومن ورائه السماء - أن يقوم بعمليّة التغيير الشامل بتقديم نفسه وأهل بيته وأصحابه قرابين على مذبح الإصلاح، وحمله عياله وثقله ليلاقوا أهوال السبي ويقاسوا أنواع المصائب؛ ذلك ليحدث هزّة عنيفة تصعق وجدان الأُمّة، وصرخة مدويّة تصكُّ آذانها؛ لترجع عن غيّها وتستفيق من غفلتها، وتلتفت إلى ما وصل إليه حالها.

ولعلّ هذا ما كان يُلمح إليه قول رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في الرؤيا التي رآها الإمام الحسين عَلیه السَلام عندما زار قبر جده، قال صلّى الله عليه و آله و سلّم : «يا بني، يا حسين، كأنّك عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كرب وبلاء من عصابة من أُمتي، وأنت في ذلك عطشان لا تُسقى، وظمآن لا تُروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، ما لهم؟! لا أنالهم الله

ص: 57


1- الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، الأمالي: ص216.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص381.
3- ابن كثير، البداية والنهاية: ج8، ص170. الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص17

شفاعتي يوم القيام! فما لهم عند الله من خَلاق»(1).

ثمّ جاءت بياناته عَلیه السَلام من بدايات تحرُّكه تُشير إلى تصميم على الشهادة، وبالكيفيّة التي أرادها وخطَّط لها، ولعل أوضح تصريح له بتلك الكيفيّة عند قوله عَلیه السَلام لأُمّ سلمة حين همَّ بالخروج من المدينة: «يا أُمّاه، قد شاء الله عزَّ وجل أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظُلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرَّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين، مأسورين مقيَّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً»(2).

وهكذا حين أراد الخروج من مكة إلى العراق أكّد هذا المعنى في كتاب أرسله إلى محمد بن الحنفية وسائر بني هاشم «أمّا بعد، فإنّ مَن لحق بي استُشهد، ومَن لم يلحق بي لم يدرك الفتح»(3). وتوجد شواهد أُخرى كثيرة تعضد هذا المعنى.

من هنا؛ نرى أنّ الذين نصحوا الإمام بعدم الخروج أو الذين اقترحوا عليه أُموراً معيّنة، لم يفهموا مغزى قرارات الإمام عَلیه السَلام وتصرفاته، كالتوجّه بكلّ إباء وشجاعة إلى الكوفة التي عُرفت بعدم الوفاء، وبهذا العدد القليل من الأنصار والأصحاب لملاقاة جيوش بني أُميّة، وكذلك حمل الأطفال والنساء؛ لأنّ أُولئك الناصحين والمشفقين أنى لهم معرفة هذا التخطيط الإلهي، وهذه النظرة الإلهية الواسعة الأُفق، التي لا تصدر إلّا من إمام معصوم، وقائد مرتبط بالسماء.

ونحن سواء قلنا: إنّ الحسين عَلیه السَلام ارتأى أن يُحقّق أهدافه بواسطة استلامه الحكم والسلطة، أم أنّه اختار سبيل التضحية والشهادة، فإنّ الإمام عَلیه السَلام لا شك في أنّه سعى لوضع الإصلاح موضع التطبيق؛ عملاً بتكليفه الإلهي ووظيفته الشرعية؛ كونه إمام هذه الأُمّة، وقائدها الشرعي المسؤول عن مصيرها ودينها ومقدراتها.

ص: 58


1- الكوفي، ابن أعثم، الفتوح: ج5، ص19.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص331-332.
3- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص157.

ثمّ بعد كلّ هذه التضحيات الجسيمة التي بذلها الإمام عَلیه السَلام في سبيل نهضته، ووقوع هذه المأساة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً في شناعتها وبشاعتها، لنا ولغيرنا أن يتساءل عن التأثير الذي أحدثته عاشوراء في واقع الأُمّة ومستقبلها.

فهل تمكَّنت النهضة الحسينيّة أن توقظ الأُمّة من غفلتها، وتبعث الحياة في إرادتها، بعدما أصابها الوهن والضعف؟ وهل استطاعت أيضاً أن تُعيد لها بعض مبادئها وقيمها المفقودة؟ أو أنّ القضية على النقيض من ذلك؛ فإن الأُمّة بخذلانها الإمام الحسين عَلیه السَلام وموقفها السلبي والمشين تجاه ثورته ألبسها الله تعالى ثوب الذلّ والهوان، وأُصيبت بانتكاسة كبيرة على الأصعدة كافّة.

هاتان قراءتان ورؤيتان نُحاول عرضهما للقارئ الكريم، لمعرفة صحّة كلّ منهما وواقعيته.

الرؤية الأولى: انتكاسة الأمّة بعد واقعة كربلاء

من سُنن الله الجارية في خلقه أن يكون الإصلاح والتغيير والسير نحو الكمال نابعاً من المجتمع البشري نفسه، ولا يتدخَّل الله سبحانه تكويناً في حصول هذا التغيير والإصلاح إلّا في حالات خاصّة جداً، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»(1)، فكثير من الأُمم عانت من الظلم والاضطهاد والانحراف بسبب رضوخها للظلم والطغيان، وخذلانها للمصلحين وقادة التغيير، والأُمّة الإسلاميّة ليست بدعاً من الأُمم؛ فإنّها قد اتّخذت سلسلة من المواقف المتراجعة، كان أولها إحجامها عن نصرة الخليفة الشرعي بعد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ، وعدم وضعه في المكان الذي أراده الله له؛ ما جرّ عليها الويلات والمصائب، حتى جاء موقفها المتخاذل تجاه النهضة الحسينيّة، فتركت الحسين عَلیه السَلام وحيداً بين أعدائه، وهو مَن لبّى نداءها حين

ص: 59


1- الرعد: آية11.

استصرخته ولهة متحيّرة، فمُنيت بالذلّة والمسكنة والانتكاسة على المستويات كافّة، ويمكن أن يُستدلّ على حصول التراجع والنكول للأُمّة الإسلاميّة بعد واقعة كربلاء بالواقع التاريخي، وبعض نصوص النهضة الحسينيّة:

الواقع التاريخي للأُمّة الإسلامية بعد عاشوراء

إنّ نظرة إجمالية سريعة وخاطفة للواقع التاريخي للأُمّة الإسلاميّة بعد حادثة عاشوراء - وعلى جميع مستوياته السياسية والاجتماعية والدينية والأخلاقية - تُثبت بأنّ المسلمين عاشوا حالة من التراجع والانحدار والابتعاد عن التعاليم الإسلاميّة.

فعلى المستوى السياسي، فإنّه بعد أحداث كربلاء كانت الدولة الإسلامية مفكَّكة وموزَّعة بين الأُمويين في الشام وبعض المناطق، والزبيريين المسيطرين على الحجاز والعراق، بالإضافة إلى الخوارج في بعض مناطق الجزيرة، ونشبت بين هذه الأطراف نزاعات وحروب انتهت بسيطرة الأُمويين وبسط نفوذهم على معظم المناطق في عهد عبد الملك بن مروان(1)، ولكن هذا الأمر لم يدم طويلاً، حتى حدثت الصراعات العائلية على تولّي مقاليد الحكم ما أضعف الدولة، وكذلك ظهور الحركات النضالية والجهادية بين الحين والآخر؛ ما عجّل بسقوط الدولة الأُموية على يد العباسيين الذين استغلّوا شعار (الرضا من آل محمد) للتوصّل إلى الحكم عبر استقطاب الجماهير الناقمة على الأُمويين وضمان ولائها، ولكنهم ما أن تمكَّنوا من السيطرة على الحكم حتى تنكّروا لذلك الشعار، ولكنهم وإن بدوا أقوياء في بداية حكمهم الذي استمر أقلّ من قرن من الزمن، ولكنّه في تلك المدّة كان هناك الأُمويون في الأندلس، والأدارسة والخوارج في شمال إفريقيا، ومع هذا، فإنّهم سرعان ما أُصيبت دولتهم بالأدواء ذاتها التي أُصيبت به الدولة الأُموية، من الصراعات الداخلية على الحكم

ص: 60


1- اُنظر: سهيل طقوش، تاريخ الدولة الأُموية: ص89.

والسلطة، والانشغال بجمع الثروات؛ فدبّ الضعف بأوصال الدولة العباسية واقتُطعت منها أجزاء واسعة وكثيرة، تعاقبت على حكمها دول عديدة قامت على أُسس مذهبية أو قومية، وكثيراً ما تحدث الصراعات بين هذه الدول؛ فتخبوا دول وتظهر أُخرى، حتى وصل الأمر أن فقد الخليفة العباسي كلّ صلاحياته في الحكم مدّة طويلة من الزمن، وأصبح مجرَّد اسم(1).

ونتيجة ما كان يُعانيه المسلمون، من تفكّك دويلاتهم، وتشتّت قواهم وتناحرهم؛ استطاع المغول اجتياح البلاد وإسقاط الحكومة العباسية؛ وبعدها ظلّ الواقع السياسي للمسلمين في انحطاط وتدهور، حتى وقع المسلمون فريسة للاستعمار الغربي الذي احتلّ البلاد الإسلامية، ونهب ثرواتها واستعبد شعوبها، وأورثها الدمار والخراب، فأيّ ذلّ أكبر من هذا الذي عاشته الأُمّة الإسلامية في واقعها السياسي.

وأمّا على المستوى الاجتماعي، فإنّ حال المسلمين لا يختلف عن وضعهم السياسي، فقد عاش المسلمون بعد واقعة عاشوراء ظروفاً اجتماعية سيئة تمثّلت بانتشار الفقر والفساد، وفقدان الأمن والاستقرار؛ بسبب الصراعات السياسية، مضافاً إلى تفشّي القمع والقهر والاستبداد من قِبَل حكّام الجور وولاة الظلم، كالحجاج وغيره من ولاة وحكّام بني أُميّة وبني العباس، فقتل عدداً من الخيِّرين والشرفاء، وزجّ بعدد آخر منهم في السجون والمعتقلات، فيما شرَّد بعضاً آخر، والتاريخ مليء من هذه الشواهد، كما ساعدت هذه الأوضاع على بروز ظواهر اجتماعية غريبة على المجتمع الإسلامي، كالتمييز على أساس العرق والقومية، كما حصل في الدولة الأُموية التي ميّزت بين العرب والموالي؛ ممّا يعني أنّ المسلمين كانوا بعيدين عن تعاليم دينهم ووصايا نبيهم في هذا الجانب.

ص: 61


1- اُنظر: سهيل طقوش، تاريخ الدولة العباسية: ص243.

ولعل أفدح ما أصاب هذه الأُمّة هو أنّها حرمت نفسها من النبع الصافي للشريعة الإسلاميّة، وهم أهل البيت علیهم السلام ، الثقل الثاني مع القرآن الكريم، اللذين جُعلا أماناً من الضلال متى تُمسك بهما مجتمعَين، فراحوا يرتشفون علومهم في الفقه والعقيدة وغير ذلك من كلّ مَن هبّ ودبّ، فلم يزدهم ذلك إلّا تيهاً وضلالاً؛ فبرزت ظاهرة علماء البلاط الذين شرعنوا للحكّام ما يقومون به من ظلم وجور؛ فكان أن وُلِدت أفكار طبقاً لتوجُّهات الأنظمة المتسلطة وأمزجة حكّامها؛ فتكوّنت في الواقع الديني للمسلمين مدارس فقهيّة وعَقديّة، اندرس بعضها وظلّ بعضها الآخر حيّاً إلى يومنا هذا.

وإلى جانب ذلك ابتُليت الأُمّة أيضاً بمدارس منحرفة إلى درجة أنّها لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، كحركة الزنادقة والدهريين وغيرهم.

إنّ معظم الحكّام والولاة الذين تولّوا أُمور المسلمين كانوا بعيدين جداً عن الشريعة الإسلاميّة وأحكامها، فقد كانت قصورهم وبيوتهم تعجّ بمظاهر الفساد الأخلاقي والانحلال الديني، كمعاقرة الخمور، وممارسة الفجور، والضرب بالطنبور، والرقص والغناء واللهو؛ فانعكس ذلك بطبيعة الحال على المجتمع الإسلامي الذي تفشّت فيه هذه الظواهر؛ لأنّ الناس على دين ملوكهم كما يقال، والشاهد على ذلك: تجد أنّ كثيراً من البلاد التي فُتحت في زمن هؤلاء الطواغيت سرعان ما تعود إلى ديانتها وشركها حين تسنح الفرصة لها، عندما تضعف سيطرة الدولة على المناطق.

إنّ ما تقدَّم هو لمحة بسيطة على واقع الأُمّة الإسلاميّة بعد عاشوراء، تبيّن من خلالها أنّ الأُمّة فقدت هويتها ودينها، وأصبحت أُمّة مفكّكة ضعيفة الإرادة واهية العزيمة؛ ما مثّل انتكاسةً وتراجعاً خطيراً بسبب خذلانها لقادتها الشرعيين، وتركها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والباطل.

ص: 62

شواهد نصّية على حصول انتكاسة الأُمّة بعد عاشوراء

في طيّات مواقف الإمام الحسين عَلیه السَلام وبياناته وخطبه، بإمكان المتابع أن يرصد بعض عباراته التي تدلّ على أنّ الإمام كان يستشرف مستقبل الأُمّة، وما يؤول إليه مستقبلها، من الوقوع في الذلّ والخوف والهوان، فيما إذا خانت أمانتها وقصّرت في أداء واجبها، ولم تنصر الحقّ ليس فقط بعدم الوقوف إلى جانب أهله، بل بنصرة أهل الباطل وتقديم الدعم والعون لهم، بقتال أهل الحقّ ومناجزتهم وقتلهم، ففي إحدى المواقف التي يُسجّلها لنا التاريخ حين يصل إلى منطقة في طريقه إلى الكوفة، يلتقي به رجل من أهل الكوفة يكنّى أبا هرم، فيسأله عن السبب الذي أخرجه من المدينة، فيبادره الإمام عَلیه السَلام بجواب فيه نوع من الشدّة: «ويحك! يا أبا هرم! شتموا عرضي فصبرت، وطلبوا مالي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت»، ثمّ يُبيّن له ما سيلاقيه من القتل على أيدي هؤلاء، وما سيحلّ بهم نتيجة ذلك «وايْمَ الله، ليقتلُنّي، ثمّ ليُلبسنّهم الله ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وليُسلّطنّ عليهم مَن يذلّهم»(1).

ويظهر من كلام الإمام عَلیه السَلام - حين وصف الذلّ الذي سيحلّ بهم بأنّه شامل - أنّهم سيتجرّعون مرارة الذلّ على أكثر من صعيد، سوى ما يعانونه من القتل والتنكيل على أيدي حكّام الجور والظلم، وهذا ما حصل فعلاً وشهده تاريخ المسلمين، ولا نظنّ أنّ القضية مختصّة بمَن باشروا قتل الإمام عَلیه السَلام ، وإنّما يشمل كلّ مَن علم بثورته ونهضته ولم ينصره خوفاً أو طمعاً، وكلّ مَن رضي بذلك ممّن عاصر نهضته أو من الأجيال اللاحقة.

وفي قصّة مشابهة لهذه القصّة، يلتقي به رجل يكنى أبا هرّة، ويسأله السؤال ذاته المتقدِّم، ويُجيبه الإمام عَلیه السَلام بالجواب نفسه، ولعل القصّتين قصّة واحدة وحصل

ص: 63


1- الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، الأمالي: ص218.

تصحيف في الاسم، ولكن الإمام عَلیه السَلام بعد قوله: «وليُسلطنّ عليهم مَن يذلّهم»، يضيف: «حتى يكونوا أذلّ من قوم سبأ؛ إذ ملكتهم امرأة منهم، فحكمت في أموالهم وفي دمائهم»(1)، وهو ما يرمي إلى أنّ الأُمّة بعد قتلها الحسين عَلیه السَلام سيتحكّم بمصيرها ومقدراتها أراذلُها؛ حتى يوردوها في مهاوي الردى والهلكة، ويظلّ أهل العقل والرأي مقهورين مقموعين، كما حصل مع قوم سبأ، بل هم أضلّ؛ لأنّ تلك المرأة كانت تمتلك رجاحة في عقلها دلّ عليه تصرفها مع طلب النبي سليمان عَلیه السَلام .

ولكن تبقى المرأة بشكل عامّ لا تمتلك مقوّمات القيادة التي تحتاج إلى حزم وقوة وصبر وثبات في المواقف الصعبة والحرجة، وبما أن المرأة لا تتمتع بهذه الأُمور بحكم طبيعة تكوينها؛ فيصبح تبوّؤ المرأة لمنصب الحكم والقيادة بدل الرجال علامة على ذلّ وهوان هؤلاء الرجال.

وفي نصّ آخر يعطينا الإمام صورة تُبيّن لنا مدى ما يصل إليه القوم من الامتهان والذلّ، عندما يقدمون على قتله وانتهاك حرمات الله، فيصفهم بأنّهم سيكونون أذلّ من الخرقة التي تضعها المرأة في فرجها أيام حيضها، وهو ما رواه الطبري وابن عساكر، عن الإمام الحسين عَلیه السَلام ، قال: «والله، لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتى يكونوا أذلّ من فرم الأَمة»(2)، وذكرها في الكامل في التاريخ بلفظ: «حتى يكونوا أذلّ من فرام المرأة»، ثمّ قال: «والفرام خرقة تجعلها المرأة في قُبلها إذا حاضت»(3).

ص: 64


1- الكوفي، ابن أعثم، الفتوح: ج5، ص71. اُنظر: الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص33
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص296. ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج14، ص216. وفي رواية: «حتى يكونوا أذلّ فرق الأُمم». المفيد، الإرشاد: ج2، ص76
3- ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج4، ص39.

وهذه النصوص لا تحتاج إلى تعليق لبيان دلالتها على ما يُصيب هؤلاء من ذلّ وانحطاط، جرّاء ما عملت أيدهم من انتهاك حرمات الله بخذلان الحسين عَلیه السَلام ، ثمّ قتله هو وأهل بيته وأصحابه، وسبي ذراريهم، وانتهاب ثقلهم.

نعم، وإن قيل: إنّ هذه النصوص ربما تختصّ بالذين باشروا هذه الأعمال، لكن يمكن أن تعمّ كلّ مَن هُم على شاكلتهم في ذلك الوقت، من أعوان الظلمة وسلاطين الجور، وممّن سيأتي بعدهم على مرّ الدهور، وهم كُثُر طالما تظاهروا على أهل الحقّ من الأئمة والمصلحين والثائرين، ومارسوا ضدّهم كلّ أشكال الاضطهاد والاستبداد.

وبهذا البيان الذي تقدّم، ومن خلال ما عرضناه سريعاً من وقائع تاريخية وشواهد نصّية تشهد بمجموعها على صحّة الرؤية، التي تذهب إلى أنّ الأُمّة انتكست بعد ثورة الإمام الحسين عَلیه السَلام وأصابها الوهن والضعف في مجمل تاريخها، إلّا من بعض الفترات المضيئة هنا وهناك.

الرؤية الثانية: نهضة الحسين وإيقاظ الأُمّة

في قبال ما تقدَّم من قراءةٍ حول مصير الأُمّة بعد أحداث عاشوراء هناك انطباع مغاير وقراءة تختلف في نظرتها للمجتمع الإسلامي عن القراءة الأولى، وهي وإن تقبل في حدود معيّنة أنّ الأُمّة وقعت في كثير من الكبوات في مسيرتها، وعاشت في فترات من الركود أو التراجع، إلّا أنّها في الوقت عينه تعتقد بأنّ نهضة الإمام الحسين عَلیه السَلام وأحداث عاشوراء المؤلمة ساعدت الأُمّة على الاحتفاظ بالعديد من عناصر قوّتها وحيويّتها، وجعلتها أُمّة تنبض فيها روح الرفض والثورة، ومنحتها الحصانة ضد التيّارات والأهواء التي تعمل على انسلاخ الأُمّة عن دينها وهويتها؛ وذلك من خلال ما أفرزته عاشوراء من نتائج ومعطيات عديدة.

ص: 65

نتائج ومُعطيات النهضة الحسينيّة

أولاً: نزع غطاء الشرعيّة عن سلطة بني أميّة وبيان أحقّيّة أهل البيت علیهم السلام

إنّ معاوية بن أبي سفيان رغم كلّ سلوكياته وأفعاله المجانبة للحقّ وتعاليم الدين الإسلامي، لكنّه عمل جاهداً على الحفاظ على صورته أمام المسلمين وتقديم نفسه على أنّه صحابي وكاتب للوحي وعامل للخليفة الثاني والثالث على بلاد الشام، والمُطالب بدم الخليفة عثمان، وغيرها من الأمور التي انطلت على قطاعات واسعة من بسطاء الأُمّة، لكنّه عندما نصّب ابنه يزيد خليفة على المسلمين كان لا بدّ من الوقوف بوجه هذه الخطوة ونزع الغطاء الشرعي عن يزيد وحكومته، وتقديم البديل الشرعي عنه وهم أهل البيت علیهم السلام ، وهذا ما قاله الحسين عَلیه السَلام للوليد بن عتية والي المدينة عندما طلب منه البيعة: «أيها الأمير، إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرَّمة، معلِن بالفسق، ومثلي لا يُبايع مثله»(1).

هذا وقد أشرنا في بداية المقال إلى ما رُوي عن الإمام عَلیه السَلام من أنّه قال: «ولقد سمعت جدي يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان»(2)؛ فهم طلقاء هذه الأُمّة، الذين لم يترسّخ الإيمان في قلوبهم، وما أسلموا إلّا حين رأوا جحافل المسلمين تدخل فاتحةً مكةَ ومطهرةً لها من بقايا الشرك والأوثان.

وبيّن الإمام عَلیه السَلام في مناسبة أُخرى شروط الحاكم الشرعيّة التي يجب توفرها فيمَن يتولّى أُمور المسلمين، وليس كلّ من يستولي على الحكم - ولو بالقهر والغلبة -

ص: 66


1- ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: ص17.
2- الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص15.

على الأُمّة أن تطيعه، وذكر هذه الشروط حين ردّ على كُتب أهل الكوفة التي وصلته وهو في مكة، فقال عَلیه السَلام : «فلعمري، ما الإمام إلّا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات الله»(1).

وهذه المواصفات أبعد ما تكون عن يزيد وأترابه من بني أُمية، ولا تنطبق إلّا على الحسين وأهل البيت علیهم السلام ، فالإمام الحسين عَلیه السَلام بنهضته المباركة ثبّت أركان هذا الأصل الذي جاء به الإسلام وبلّغه النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم بعد أن كاد بنو أُمية أن يطمسوه ويغيّروا معالمه بتأسيس ضوابط جديدة للحاكم الإسلامي، بعيدة عن روح الإسلام ورسالته الحقّة.

وقد أتت النهضة الحسينيّة أُكُلَها في مسألة إسقاط الشرعيّة عن بني أُميّة، بعد برهة وجيزة من الزمن حين هلك يزيد بن معاوية سنة أربع وستين للهجرة، وكان قد استخلف ابنه معاوية بن يزيد، فقام معاوية هذا خطيباً في الناس مبيّناً عدم شرعيّة خلافة بني أُمية، وأنّهم مغتصبون لها من أصحابها الشرعيين، فقد روى اليعقوبي في تاريخه أنّ معاوية بن يزيد قال في خطبته: «ألا وإنّ جدي معاوية بن أبي سفيان نازع الأمر مَن كان أولى به منه في القرابة برسول الله، وأحقّ في الإسلام، سابق المسلمين، وأول المؤمنين، وابن عمّ رسول ربّ العالمين، وأبا بقية خاتم المرسلين»(2)، ولم يبقَ في الحكم إلّا ثلاثة أشهر أو أربعين يوماً - على اختلاف الأقوال(3) - ثمّ توفي في ظروف غامضة، وعصفت الاختلافات في الدولة الأُموية، وعاشت فراغاً سياسيّاً كاد أن يطيح بها لولا تولي مروان بن الحكم مقاليد السلطة في اللحظات الأخيرة.

وقد ظلت الدولة - رغم سيطرتها على الناس بالحديد والنار، واستمالتها لبعضهم بالمناصب أو الأموال - تفتقر للغطاء الشرعي في حكمها للمسلمين؛ ما حدا بالدعوة

ص: 67


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص262.
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي: ج2، ص254.
3- اُنظر: ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج59، ص302.

العباسيّة أن تنجح في رفعها شعار الأحقّيّة بالحكم من بني أُمية لقربهم من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ، في إسقاط الدولة الأُموية وتأسيس الدولة العباسيّة على أنقاضها.

ثانياً: دور المظلومية والمأساة في استنهاض الأمّة

ما إن أفِلَت شمس العاشر من المحرّم سنة (61ه-) حتى استفاقت الأُمّة على هول المصيبة التي وقعت، وهي ترى آخر سبط للنبي صلّى الله عليه و آله و سلّم مذبوحاً قد فُصل رأسه عن جسده، وسائر إخوته وأهل بيته كباراً وصغاراً، وأصحابه، تطؤهم الخيل بحوافرها، ونساءه يفررن من مكان إلى مكان، وقد أُحرقت الخيام وسُلبت النساء، وأُخذن سبايا من بلد إلى بلد، مع رؤوس ذويهن هدايا إلى طغاة بني أُميّة.

إنّ أبلغ الكلمات وأفصح العبارات، وأرجح العقول والأفكار لتقف عاجزة عن وصف جانب من جوانب هذه المأساة، التي لم يأتِ بمثلها التاريخ.

لعلّ من أهمّ الوسائل التي أراد الله سبحانه أن يستخدمها في إحداث الإصلاح الشامل هو جانب المأساة في واقعة عاشوراء، والمظلوم المحقّ يكسب تعاطف جميع أفراد المجتمع على اختلاف ميولهم، واتجاهاتهم، وأعمارهم، وثقافاتهم، فكيف إذا كانت المظلومية بهذه الصورة التي يعجز عنها الوصف!

فالمأساة لغة تفهمها كلّ شرائح المجتمع وطبقاته، وهي تلامس شغاف قلوبهم، وتخاطب وجدانهم وأحاسيسهم، فتحدث طاقة كامنة تحركهم للاصطفاف إلى جانب مَن حصلت له المأساة، ونصْرته والتأثّر بأفكاره وأطروحاته؛ ولذا فقد رأينا بمجرَّد إسدال الستار على فصول مأساة كربلاء، حتى انفجر بركان النهضة الحسينيّة في وجه أعدائها، فالتهَمَ واحداً بعد الآخر، بعد انتشار موجة الرفض وتصاعد وتيرة الكراهية لكلّ ما يمتّ إلى بني أُميّة ودولتهم بصلة، فلم تدم حكومة يزيد أكثر من

ص: 68

أربع سنوات، وهلك وهو لا يسيطر إلّا على أجزاء قليلة من المناطق الإسلاميّة، التي استأثرت بها الدولة الزبيريّة الممتدة من الحجاز إلى العراق وأجزاء من الشام.

وهكذا ظلت شعلة النهضة الحسينيّة متّقدة، تستمدّ وقودها ممّا أورثته مأساة كربلاء ومظلوميتهم من حرارة قلوب المؤمنين، وهو ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ، قال: «إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»(1)، وما ورد عن الإمام الحسين عَلیه السَلام : «أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن إلّا استعبر»(2).

أثر أهل البيت في تجذير المأساة في أعماق الأُمّة

سعى أهل البيت علیهم السلام على إبقاء ذكرى الحسين عَلیه السَلام ومأساة كربلاء حيّة في قلوب المؤمنين، وفي كل زمان ومكان لإدامة زخم الثورة الحسينيّة؛ لتحقيق هدفها في الإصلاح والتغيير، فجاء في كثير من رواياتهم التأكيد على الجانب المأساوي في حادثة عاشوراء، بالإشارة إلى بعض مشاهدها المؤلمة، فعن الإمام الرضا عَلیه السَلام : «إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرِّمون فيه القتال، فاستُحلّت فيه دماؤنا، وهُتكت فيه حرمتنا، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا، واُنتهب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرعَ لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم حرمة في أمرنا»(3).

ويؤكّدون كذلك على أنّ مصيبة الحسين عَلیه السَلام أعظم وأشدّ من المصائب التي مرّت على أهل البيت علیهم السلام (4)، وأنّ يوم الحسين أقرح جفونهم، وأسبل دموعهم، وأذلّ عزيزهم، بأرض كرب وبلاء، أورثتهم الكرب والبلاء، إلى يوم الانقضاء(5).

ص: 69


1- النوري، ميرزا حسين، مستدرك الوسائل: ج10، ص318.
2- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص215.
3- الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، الأمالي: ص190.
4- اُنظر: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص503.(آل البيت).
5- اُنظر: الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، الأمالي: ص190.

وكان يبدو عليهم الحزن الشديد والأسى، وتعلو وجوههم الكآبة في مواسم عاشوراء وذكرى استشهاد الإمام الحسين عَلیه السَلام . ويحثّون أصحابهم وشيعتهم أيضاً على إظهار الحزن والتفجّع على مصائب أبي عبد الله، والبكاء حزناً على ما جرى عليه من مصائب وويلات، وبيّنوا عظيم الثواب وجزيل الأجر على تلك الأعمال، وأمروا بإقامة المآتم والمجالس الحسينيّة التي تُذكر فيها - إلى جانب الوعظ والإرشاد - مصائب أبي عبد الله الحسين وأهل بيته وأصحابه، ووحشية ظالميهم؛ كي تبقى مصيبة الحسين عَلیه السَلام غضّة طريّة متجددة تُحرّك في الأُمّة مشاعر الاستنكار لكلّ أشكال الظلم والاستبداد والجور على طول التاريخ تأسياً بالإمام الحسين عَلیه السَلام .

وفعلاً كانت مواسم عاشوراء تمثلّ مصدر قلق وصداع للأنظمة المستبدّة في جميع الأزمنة؛ لأنّهم يخشون من حصول بيئة مناسبة لحدوث الانتفاضات والثورات على أنظمتهم، فنراهم يعملون على منعها بكلّ الأشكال والصور، وهذا ما حصل أيام النظام البعثي المستبدّ الذي حكم العراق، فحارب الشعائر الحسينيّة وحاول منع زيارة الحسين عَلیه السَلام ، ومارس الظلم والقهر في حقّ الموالين والمحبّين لأهل البيت علیهم السلام .

ثالثاً: هاجس الشعور بالذنب وتأنيب الضمير

ومن المعطيات المهمّة التي أفرزتها واقعة عاشوراء، وكان لها أثر مهم في إيقاظ الأُمّة واستنهاضها هو ما حصل من شعور كبير بالتقصير والندم لدى شرائح واسعة من الأُمّة الإسلامية، لا من جهة واقع عاشوراء المأساوي وما حصل من مصائب وآلام، لكن من جهة أنّ الأُمّة أحسّت بأنّها ارتكبت خطأً جسيماً وذنباً لا يُغتفر بترك الحسين عَلیه السَلام وحيداً في مواجهة أعدائه من دون أن تُقدِّم له العون والنصرة ومقاتلة خصومه وظالميه.

ص: 70

إنّ الشعور بالذنب وتأنيب الضمير جعل فئة كبيرة من المسلمين تقدم على أفعال أرادت بها أن تخفف عنها الإحساس بهذا الشعور، ولعلّها تكفّر بذلك عمّا أقدمت عليه، وأوضح مثال لهذه الجماعة هم التوابون الذين ظهروا في الكوفة، وصمموا على الثورة ضد الأُمويين، عندما تهيأت الظروف، يقودهم إحساسهم بالذنب والندم على ما فرَّطوا في جنب الإمام الحسين عَلیه السَلام ، قال ابن الأثير: «لمّا قُتِلَ الحسين ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة ودخل الكوفة تلاقته الشيعة بالتلاوم والمنادمة، ورأت أن قد أخطأت خطأً كبيراً بدعائهم الحسين وتركهم نصرته وإجابته، حتى قُتِلَ إلى جانبهم، ورأوا أنّه لا يغسل عارهم والإثم عليهم إلّا قتل مَن قتله والقتل فيهم»(1).

ونظراً إلى أنّ حركتهم نابعة من شعورهم بالخطيئة والذنب، ولكي ينصحوا في توبتهم، رفضوا عرضاً من عبد الله بن يزيد الأنصاري عامل ابن الزبير على الكوفة، يقضي بإمدادهم بقوّة عسكرية، فخرجوا حتى وصلوا إلى قبر الحسين عَلیه السَلام ، فبكوا وتابوا على خذلانهم، ثمّ قرروا المسير إلى الشام لمقاتلة بني أُمية(2).

ثمّ تطوّرت فكرة الإحساس بالذنب والندم إلى فكرة الانتقام من قتلة الإمام الحسين عَلیه السَلام والأخذ بثأره، فبدأت حركات وثورات تقوم على مبدأ الثأر، كالحركة التي قادها المختار الثقفي في الكوفة، التي استطاع من خلالها تصفية رموز وقادة الجيش الأُموي الخارج لحرب الحسين عَلیه السَلام وفي مقدِّمتهم عبيد الله بن زياد.

نعم، يمكن القول: بأنّ هذا العنصر الذي أفرزته النهضة الحسينيّة وساهم في خلق ردّة فعل لدى الأُمّة على الفساد والانحراف - وإن كانت له فاعليّة - إلّا أنّه كان محدود الزمان والمكان.

ص: 71


1- ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج4، ص158.
2- اُنظر: سهيل طقوش، تاريخ الدولة الأموية: ص71.

نعم بالإمكان القول: بأنّ شعار (يا لثارات الحسين) ظلّت ترفعه العديد من الحركات والثورات في الإسلام، وإلى يومنا هذا؛ لأنّ الحسين عَلیه السَلام أصبح يمثّل ثورة ضد كلّ مظاهر الانحراف والفساد والظلم، مضافاً إلى الثورات والحركات التي قامت على أُسس الإحساس بالندم والخطيئة، كل ذلك مثّل علامة فارقة في التاريخ الجهادي والنضالي، وأمسى مصدر إلهام للعديد من الثورات وحركات الرفض، وأُنموذجاً قابلاً للاحتذاء والتطبيق في كلّ عهد وزمان.

رابعاً: حادثة عاشوراء أعادت تثمين المبادئ الدينيّة

إنّ الإنسان بحكم ما في تركيبته من جانب مادي وأرضي قد يركن إلى حبّ السلامة والدعة، والتعلُّق بما في هذه الحياة الدنيا، من جاه وسلطة ومال وبنين وملذات أخرى، فإذا ما وُضِعَ الإنسان المسلم يوماً على المحكّ، وصار عليه أن يختار إمّا حياته الدنيا بما فيها من مزايا، وإمّا دينه وآخرته، وهذا هو الامتحان الصعب الذي لم يجتزه كثير من المسلمين، كما يشهد بذلك تاريخنا الإسلامي وواقعنا المعاصر، لكن الذي نعتقده أنّ الشيء الأساس الذي يؤدّي بالإنسان المسلم إلى الفشل في مثل هذا الاختبار ليست الجنبة المادّية والتعلّق بالدنيا، وإنّما هو غياب الوعي والإدراك الحقيقي لقيمة العقيدة والدين وجعلهما في مرتبة دانية في سلّم أولوياته وحساباته.

إنّ غياب هذا الإدراك والفهم الصحيح لمكانة الدين في حياة الإنسان - الفرد المسلم - تساهم فيه عوامل عديدة، من أهمّها ترك المنبع الصافي للدين وتعاليمه والأخذ من مصادر شتى، فتأتي الصورة مشوهة غير واضحة المعالم، وهو ما كان عليه الأمر حين أُقصي أهل البيت علیهم السلام عن الساحة الإسلامية، وقُدِّم غيرهم على أنّهم مرجعيات دينيّة للأُمّة الإسلامية.

ص: 72

ومن العوامل الأُخرى هو سعي الحكّام والظَلَمة على ترسيخ حبّ الدنيا وإضعاف الوازع الديني عند المسلمين، وإبعادهم عن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كي يكونوا في مأمن من غضب الجماهير وثورتها على تصرفاتهم وممارساتهم البعيدة عن الإسلام.

وقد أشار الإمام الحسين عَلیه السَلام إلى الواقع الذي وصلت إليه الأُمّة في علاقتها الضعيفة بدينها، والتي لم تكن مستعدّة أن تضحِّي بوسائل عيشها وأسباب رزقها إذا ما هُددت في دينها وعقيدتها، وتعرّضت للبلاء والامتحان، فقال عَلیه السَلام : «إنّ الناس عبيد الدنيا، والدين لَعِقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلّ الديّانون»(1)، وهو المضمون نفسه الذي ذكره القرآن في قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ » (2)

فجاءت النهضة الحسينيّة لتعطي القيمة الحقيقية للعقيدة والدين، وتثمّن المبادئ الإسلاميّة بشكل عملي وتجسيد حيّ، فأوضحت من خلال أحداث كربلاء وما قُدّم فيها من تضحيات وعطاءات أنّ كلّ ما يمتلكه الإنسان المسلم لا يساوي شيئاً إذا ما قيس إلى دينه وعقيدته، فإذا خسر الإنسان دينه وعقيدته لا يشفع له ما حازه من حطام الدنيا مهما كان عظيماً وكبيراً.

لقد قطع الإمام الحسين عَلیه السَلام الطريق على كلّ من يُقَدِّم الذرائع والحجج في أنّه يريد الحفاظ على نفسه، أو أهله، أو ماله، أو عرضه في حال تفريطه بدينه ومبدئه، فإنّ الإنسان المؤمن وإن كان يجب عليه الحفاظ على نفسه وماله وأهله، وصيانته

ص: 73


1- الحرّاني، ابن شعبة، تحف العقول: ص245.
2- الحج آیۀ 11

عرضه، ولكن إذا تعارض مع حفظ المبدأ، عليه أن يبذل ذلك كلّه في سبيل دينه ومعتقده الحقّ، وقد كان هذا الأمر واضحاً في كلام الإمام عَلیه السَلام مع أصحابه وأهل بيته عندما تجهّز للخروج من مكة، قائلاً: «مَن كان باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسَه؛ فليرحل معنا، فإنّني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى»(1)، وكذلك يمكننا أن نستظهر وجوب تقديم الدين والمبدأ على المال والنفس والأهل، ولا أن تكون الأُمور معكوسة والأولويات منكوسة من المحاورة التي حصلت بين الإمام الحسين عَلیه السَلام وعمر بن سعد عشية العاشر من المحرّم، فسأله الإمام أن يتقي الله ولا يقاتله، وهو يعلم مَن هو الحسين عَلیه السَلام ، وأن يذر هؤلاء القوم وينضمّ إليه؛ فإنّ فيه رضا الله سبحانه، فأجابه عمر بن سعد بأنّه يخاف أن تُهدم داره، وتُؤخذ ضيعته، أو يُقتل عياله، فتركه الإمام عَلیه السَلام حين وجد أن عمر بن سعد لا يعبأ لدينه وآخرته، ولا يقدمهما على دنياه(2).

وهكذا كان للإمام الحسين عَلیه السَلام بتسطيره لهذه الملحمة البطولية الفريدة، أثر واضح في تعميق هذه المفاهيم في وجدان الأُمّة؛ ليجعل منها أُمّة لم تمتْ فيها معاني التضحية والفداء، وبذل الغالي والنفيس في طريق الحقّ وحفظ المبادئ والدين، وظلّت حركات الجهاد والتحرر تستقي قيم التضحية والبذل والعطاء من معين عاشوراء الإمام الحسين عَلیه السَلام الذي لا ينضب.

خامساً: معايير النصر والهزيمة في نظر الحسين عَلیه السَلام

في الغالب تُحسب نتائج النصر والهزيمة وفق الحسابات المادّية والآنيّة، وهو فيما إذا استطاع أحد الأطراف إنزال الهزيمة بخصمه من خلال قتله، أو تدمير معداته، أو

ص: 74


1- ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: ص38.
2- اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص388.

إجباره على الاستسلام، أو الفرار، أو الانسحاب، فإنّ هذا الطرف يعدّ منتصراً حينئذٍ.

ولكن هذه النظرة في تقييم نتائج الصراع قاصرة وغير دقيقة؛ إذ لا بدّ أن تكون النظرة أكثر بُعداً وعمقاً وشمولاً لكلّ جوانب المسألة، فربما تجد جهةٍ ما استطاعت أن تنزل هزيمة عسكرية آنيّة ساحقة بعدوها، ولكن النتائج في المستقبل في غير صالحها، فيتحوّل هذا النصر العسكري إلى كابوس يقضّ مضاجعها، وتميل كفّة النصر إلى صالح المنهزم والمقتول، وهذا ما أفرزته نتائج نهضة الإمام الحسين عَلیه السَلام ؛ إذ أعطت معايير جديدة وصحيحة لتقويم نتائج الفوز والخسارة في موازين الصراع والمعارك الحاصلة بين الخصوم، فإنّ النتائج الآنيّة والأولية تؤشر انتصار الجيش الأُموي في معركة كربلاء، وقتل الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه، وانتهاب ثقله وسبي حرمه، لكنّ الطريقة المثلى هي التي أدار بها الإمام الحسين عَلیه السَلام دفّة الصراع والخطوات الصحيحة التي اتّخذها منذ بداية نهضته وخروجه من المدينة وتوجهه إلى مكة، ثمّ العراق ووصوله إلى كربلاء.

بل كان الإمام الحسين عَلیه السَلام واثقاً من تحقيق هذا الانتصار الباهر طبق الموازين، حين كتب إلى أخيه محمد بن الحنفية، وسائر بني هاشم: «أمّا بعد، فإنّ مَن لَحِق بي استشهد، ومَن لم يلحق بي لم يدرك الفتح»(1).

إنّ هذه العبارة من الإمام وقعت مورداً للبحث والتحليل، وهناك بعض التفسيرات لها، كقول العلاّمة المجلسي: «قوله عَلیه السَلام : (لم يبلغ الفتح). أي: لم يبلغ ما يتمنّاه من فتوح الدنيا والتمتّع بها، وظاهر هذا الجواب ذمّه، ويحتمل أن يكون المعنى أنّه عَلیه السَلام خيَّرهم في ذلك، فلا إثم على مَن تخلّف»(2).

ص: 75


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص157.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج42، ص81.

ولكننا نظنّ أنّها تفسيرات بعيدة عن مراده عَلیه السَلام ، والأقرب هو ما نحن بصدده من أنّه عَلیه السَلام كان يدرك تمام الإدراك أنّه سيحقق النصر والفتح العظيم بتحقيق أهداف نهضته من الإصلاح والتغيير، وزوال دولة الظلم والجور، وأنّهم بشهادتهم سيحققون هذا النصر المؤزّر، وينالون هذه المنزلة العظيمة التي سيُحرم منها مَن لم يلتحق بهذه النهضة.

إنّ إطلالة سريعة لمجمل أحداث التاريخ تبيّن وضوح الرؤية التي بيّنها الإمام عَلیه السَلام في قوله السالف الذكر، فقد أعطت النهضة الحسينيّة نتائج باهرة، فعلى المستوى السياسي لم يتمكّن بنو أُميّة من الاستمرار في الحكم، سوى حفنة من السنين الممتلئة بالمشاكل والاضطرابات لتنتهي على يد الدولة العباسية بشعار الرضا من آل محمد صلّى الله عليه و آله و سلّم ، وهذا ما تحقق أيضاً في الدولة العباسية، فقد قامت عدّة انتفاضات وثورات ضدها استلهمت النموذج الحسيني في أُسلوبها(1)، وأما على الصعيد الاجتماعي والديني، فما زالت النهضة الحسينيّة إلى يومنا هذا نبع عطاء لا ينضب.

وينبغي الإشارة إلى أن عاشوراء الحسين عَلیه السَلام أحيت بعض القيم والمبادئ النبيلة وأعطتها دفعة معنوية، ومنها مبدأ الموت في عزّ وشرف أحلى من الحياة في ذلّ وهوان في ظل الظالمين والمتجبِّرين «وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برما»(2)، وكذلك مبدأ الثبات في المواجهة حتى النهاية، وعدم الجنوح نحو الاستسلام المذلّ أو الفرار المهين؛ الأمر الذي يفرض الثائر من خلالِه احترامَه وتقديرَه على الجميع.

ص: 76


1- ومنها على سبيل المثال: ثورة بطل فخ، وهو الحسين بن علي بن الحسن المثلث ابن الحسن المثنى بن الحسن السبط×، وقد ثار في زمن الهادي العباسي سنة مائة وتسع وستين للهجرة. انظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج6، ص410 وما بعدها
2- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص224.

لا شكّ في أنّ هناك معطيات ونتائج أُخرى ولّدتها النهضة الحسينيّة - غير ما ذُكر - ساهمت في استنهاض الأُمّة وإيقاظها، وحافظت على روح الرفض فيها لكلّ أشكال الخنوع والذلّ، ويشهد لذلك ما تشهده البلاد الإسلاميّة من مظاهر الصحوة والنهوض في القرن الأخير من هذا الزمان.

نظرة توفيقية:

وفي نهاية المطاف يمكن الملائمة والتوفيق بين الرؤية الأُولى القائلة: بأنّ الأُمّة باءت بالذلّ والصَغار بعد تخليها عن نصرة النهضة الحسينيّة والاستفادة منها، وبين الرؤية الثانية التي عرضناها آنفاً، بأنّ نقول: إنّ النهضة الحسينيّة - باعتبارها محطّة مهمة وأساسيّة في المسيرة التكامليّة للبشرية - ينتفع بها مَن يلتحق بها أو يتزوّد من عطائها ويستفيد من فيضها، ويتضرر مَن يعرض عنها أو يكون في الجهة المناوئة لها؛ فيصيبه الذلّ والهوان، ويبوء بالخيبة والخسران، ولعلّ هذا حال الكثيرين في الأُمّة الإسلاميّة، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنّ النهضة الحسينيّة كانت السبب في وقوع الأُمّة في وهاد الانحطاط والذلّ، فمثلها في ذلك كمثل دعوات الأنبياء والرسل فاز فيها قوم وضلّ وخسر آخرون، قال تعالى:«وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا»(1).

ص: 77


1- الإسراء: آية82.

ص: 78

شُهدَاءُ الطَّف وَ تفَدِیَةُ المَعصُومَ لَهُم الشيخ صباح عباس الساعدي

اشارة

من العبائر التي يُطلقها العرب مخاطبين بها الشخص الذي يعزُّ عليهم هو ما يكون مَفاده ومؤدّاه الفداء أو التفدية والمُفاداة(1)، وهي من المفردات التي تحمل بُعداً تعاطفياً مع ذلك الشخص الذي يُخاطَب بها، كأن يُقال: فدتك نفسي، أو فديتُك بنفسي، أو جُعلت فداك، أو فداك أبي وأُمّي.

وقد ذكر أئمة الحديث أنّ الفداء بمعنى الدعاء(2)، وقد يُستغنى عن ذكر مادّة هذا اللفظ - لغرض التخفيف(3)- ويُعوّض عنه بحرف الباء فقط، فيُقال: بأبي أنت وأُمّي. أو بنفسي أنت؛ فقد ذكر المجلسي في روضة المتَّقين قائلاً: «وسُئل عَلیه السَلام ... قوله: بأبي أنت وأُمّي، أو بأبَويَّ أنت، معناه أفديك بأبي وأُمّي، وجعل الله أبي وأُمّي

ص: 79


1- قال ابن ميثم البحراني في شرح نهج البلاغة: «ثمّ عاد إلى التفدية، وهى كلمة معتادة للعرب تُقال لِمَن يعزّ عليهم». البحراني، ابن ميثم، شرح نهج البلاغة: ج4، ص120. واُنظر: المازندراني، محمد صالح، شرح أصول الكافي: ج4، ص151
2- قال المازندراني رحمة الله: «قولك: (فديتك) على صيغة المجرّد المعلوم جملة دعائية... أيّ: استنقذتك من البلية بنفسي ومالي. قال في المغرب: فداه من الأسر فداءً وفدًى، استنقذه منه بمال، والفدية اسم ذلك المال». المازندراني، محمد صالح، شرح أصول الكافي: ج6، ص320
3- قال العيني: «قوله: ( بأبي وأمي )، الباء تتعلَّق بمحذوف، إمّا اسم، فيكون تقديره: أنت مُفدى بأبي وأمي، وإمّا فعل، فالتقدير: فديتك بأبي، وحُذف تخفيفاً؛ لكثرة الاستعمال، وعِلم المخاطب به...». العيني، عمدة القاري: ج5، ص293- 294

فداك... وهذه الباء تُسمى بباء التفدية...»(1)، وتُستعمل مادّة (فدى) في المعاجم اللغويّة في معنيين متغايرين:

أحدهما: أن يُجعل شيءٌ مكان شيءٍ حمىً ووقايةً له.

والآخر: شيءٌ من الطعام(2).

وما نحن بصدد الحديث عنه هو الأوّل، وتختلف بنيته الصرفيّة باختلاف الحركات التي تُصاحبه، قال الجوهري: «الفداء إذا كُسر أوّله يُمدُّ ويُقصر، وإذا فُتح فهو مقصور. يقال: قم فدىً لك أبي. ومن العرب مَن يكسر فداء للتنوين إذا جاور لام الجرّ خاصّة، فيقول: فِداءٍ لك؛ لأنّه نكرة، يريدون به معنى الدعاء... ويقال: فداه وفاداه، إذا أعطى فداءه فأنقذه. وفداه بنفسه، وفداه تفديةً، إذا قال له: جُعلت فداءك»(3). وهي من الصياغات التي كثُر استعمالها في المخاطبات الشرعيّة وغيرها، ولم تكن أمراً عزيزاً في تراثنا العربي عموماً، وبالأخص الإسلامي منه، كما سوف

ص: 80


1- المجلسي، محمد تقي، روضة المتّقين في شرح مَن لا يحضره الفقيه: ج1، ص477 - 478
2- قال ابن فارس: «فدى: الفاء والدال والحرف المعتل كلمتان متباينتان جداً، فالأُولى: أن يجعل شيء مكان شيء حمىً له. والأُخرى: شيء من الطعام. فالأُولى قولك: فديته أفديه، كأنّك تحميه بنفسك أو بشيء يعوِّض عنه، يقولون: هو فداؤك. إذا كُسرت مددت، وإذا فُتحت قُصرت، يُقال: هو فداك. قال: فدىً لكما رجلي أُمّي وخالتي***غداة الكلاب إذ تحزّ الدوابر وقال في الممدود: مهلاً فداء لك الأقوام كلهم***وما أثمر من مال ومن ولد ويقال: تفادى من الشيء. إذا تحاماه وانزوى عنه، والأصل في هذه الكلمة ما ذكرناه، وهو التفادي، أن يتَّقي الناس بعضهم ببعض، كأنّه يجعل صاحبه فداء نفسه قال: تفادى الأُسود الغُلب منه تفادياً. والكلمة الأُخرى: الفداء ممدود، وهو مسطح التمر بلغة عبد القيس. حكاه ابن دريد، وقال أبو عمرو: الفداء جماعة الطعام من الشعير والتمر ونحوها، قال: كأن فداءها إذ جرّدوه***وطافوا حوله سلك يتيم». ابن فارس، أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة: ج4، ص483
3- الجوهري، الصحاح: ج6، ص2453.

يتبيّن لنا إن شاء الله تعالى.

آراء فقهاء المسلمين حول المسألة

وقع خلاف بين فقهاء المسلمين - من مدرسة الخلفاء - في جواز تفدية الغير بالأبوين وعدمه، وقد ذكر بعضهم أقوالاً مختلفة في هذا المجال؛ حيث قال: «وهل يجوز تفدية غيره من المؤمنين؟ فيه مذاهب، أصحُّها: نعم، بلا كراهة. وثانيها: المنع، وذلك خاصٌّ به. وثالثها: يجوز تفدية العلماء الصالحين الأخيار دون غيرهم»(1).

وبما أنّ ضمير الغائب في قوله: «غيره» عائد على النبي‘؛ فيعني ذلك أن التفدية لخصوصه‘ في رأيهم جائزة من غير اختلاف أو نزاع بينهم.

وأمّا علماء الإمامية، فلم تأخذ المسألة بينهم حيّزاً من التعقيد، وإنّما ذكروا روايتين عن الإمام الكاظم عَلیه السَلام تُبيِّنان لنا أنّ تفدية الأبوين إنّما تجوز فيما لو كانا مَيّتيَن فقط، وأمّا حال حياتهما، فإنّما يُعدّ ذلك عقوقاً لهما، وهو أمر محرّم في الشرع، فقد روى الصدوق في الفقيه: «وسُئل أبو الحسن موسى بن جعفر: عن الرجل يقول لابنه أو لابنته: بأبي أنت وأُمّي، أو بأبَويَّ أنت. أترى بذلك بأساً؟ فقال: إن كان أبواه حيَّين فأرى ذلك عقوقاً، وإن كان قد ماتا فلا بأس»(2).

وروى في الخصال الحديث نفسه بسند آخر، وزاد فيه: «... ثمّ قال: كان جعفر عَلیه السَلام يقول: سُعدَ امرؤٌ لم يمت حتى يرى خَلَفَه من بعده، وقد - والله - أراني الله خَلَفَي من بعدي»(3).

وممّا يجدر الإشارة إليه في المقام هو أنّ هاتين الروايتين وإن ذُكرتا في الكتب

ص: 81


1- العيني، عمدة القارئ: ج5، ص294.
2- الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج1، ص187.
3- الصدوق، محمد بن علي، الخصال: ص26.

الروائيّة المعتبرة لدى أساطين المتقدِّمين والمتأخرين من علمائنا(1) - بل إنّ رواية الشيخ الصدوق لذلك في كتابه الموسوم ب-(مَن لا يحضره الفقيه) دليل على تبنّيه للتفريق المذكور فيهما(2)؛ لأنّ كتابه المذكور هو عبارة عن مجموعة من الفتاوى بطريقة العرض الروائي(3)- إلّا أنّ ما تتضمنانه من حكم لم يتجسَّد على واقعنا الفقهي المعاصر - في حدود مطالعاتنا حول الموضوع - فلم نجد للحكم المتقدِّم ذكراً في الموسوعات الفقهيّة والرسائل العمليّة.

وممّا لم يتردد فيه أحد من علمائنا في المقام هو أن يُفتدى المعصوم من قِبَل غيره، بنفسه أو بأبويه؛ اعتماداً على ما جاء في النصوص الشرعيّة الكثيرة التي وردت فيها مخاطبة أصحاب الأئمة لهم علیهم السلام بهذه الصياغات، من دون أن ينكروا عليهم ذلك(4)؛ وهو ما ينبئ عن إقرارهم لهذا الفعل(5)، بل إنّهم علیهم السلام علَّموا أصحابهم زيارات خاصّة مُتضمِّنة لهذه الصياغات والعبائر، وأمروهم بقراءتها، كما في الزيارة الجامعة: «... بأبي أنتم وأُمّي ونفسي وأهلي ومالي، مَن أراد الله بدأ بكم... بأبي أنتم وأُمّي ونفسي وأهلي ومالي، ذِكركم في الذاكرين... بأبي أنتم وأُمّي ونفسي، كيف أصف حسن ثنائكم؟!»(6)، وكذا ما ورد في زيارة جامعة أُخرى: «... بأبي أنتم وأُمّي يا آل المصطفى، إنّا لا نملك إلّا أن نطوف حول مشاهدكم»(7)، أو في زيارة أمير

ص: 82


1- اُنظر: الحرّ العاملي، هداية الأُمّة إلى أحكام الأئمة: ج1، ص237.
2- فقد ذكر الصدوق رحمة الله في مقدِّمة كتاب مَن لا يحضره الفقيه: «... ولم أقصد فيه قصد المصنِّفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أُفتي به وأحكم بصحّته، وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربي». الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج1، ص3
3- اُنظر: البهبهاني، محمد باقر، حاشية مجمع الفائدة والبرهان: ص8.
4- اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص375.
5- اُنظر: المصدر السابق: ص375.
6- المصدر السابق: ج2، ص615.
7- ابن المشهدي، محمد بن جعفر، المزار: ص299.

المؤمنين عَلیه السَلام : «... بأبي أنت وأُمّي يا مولاي، يا أمير المؤمنين، يا حجّة الخصام، بأبي أنت وأُمّي يا باب المقام، أشهد أنّك حبيب الله وخاصّة الله وخالصته»(1)، أو ما نقرأه في زيارة أبي عبد الله الحسين عَلیه السَلام : «... السلام عليك يا بن رسول الله، أتيتك بأبي أنت وأُمّي زائراً وافداً إليك...»(2)، وغيرها من الزيارات التي لا تكاد تخلو من هذه العبائر التي حثَّ أهلُ البيت علیهم السلام أتباعهم على مخاطبتهم بها حين زيارتهم لقبورهم علیهم السلام .

وأمّا تفدية المعصوم لغيره، فإنّ حكمه لم يكن محل وفاق عند فقهائنا؛ ولذا تطرَّق النقاش والبحث إلى ساحة النصوص التي حوت عبارة من العبائر التي تدلّ على أنّ المعصوم يفدي بنفسه، أو بآبائه المعصومين غيرَه من الناس؛ حيث إنّ هناك مجموعة من الموارد التي ورد فيها تفدية المعصوم لغيره إمّا فادياً نفسه أو أبويه، فقد يُتساءل عن جواز ذلك وعدمه، أو عن المعنى الذي تؤديه هذه العبائر الواردة في هذه النصوص، ومن أوضح الموارد التي فدى بها المعصومُ غيرَه، هو ما ورد في الزيارة الواردة عن الإمام الصادق عَلیه السَلام لأصحاب الحسين عَلیه السَلام الذين استُشهدوا معه؛ حيث قال عَلیه السَلام فيها: «... السلام عليكم يا أنصار أبي عبد الله، بأبي أنتم وأُمّي، طبتم وطابت الأرض التي فيها دُفنتم...»(3)، وهذا ما نريد تسليط الضوء عليه، والتحقق من أمره في مقالنا.

تفدية الإمام الصادق عَلیه السَلام أباه المعصوم لغيره

اشارة

من مسلَّمات المعارف التي تطابق عليها الإمامية، هي أنّ المعصوم يفوق غيرَه من الناس بدرجات ومراتب، وأنّه أفضل من غيره من الناس، وإذا ضممنا إلى ذلك ما تقدَّم ذكره من الروايتين الدالتين على أنّ تفدية الغير بالأبوين الحيَّيَن يُعدُّ عقوقاً؛ يتولّد لدينا تساؤل مهم جداً، وهو أنّ الإمام الصادق عَلیه السَلام يقول في زيارة أصحاب

ص: 83


1- الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجد: ص742.
2- الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص60.
3- الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجّد: ص723. وابن المشهدي، محمد بن جعفر، المزار: 45

الحسين عَلیه السَلام : «بأبي أنتم وأُمّي»، فكيف يفدي الإمامُ الأصحابَ بأبيه وأُمّه، مع أنّ الإمام الباقر عَلیه السَلام معصوم وهو حجّة الله على خلقه؟ وفي مقام الإجابة عن ذلك تُطرح عدّة توجيهات، يُفترض أن يكون كلّ واحدة منها كافياً لدفع الإشكالية التي قد تتطرَّق إلى مثل هذه النصوص.

أولاً: إنّ المعصوم عَلیه السَلام يُريد تعليمنا كيفيّة زيارة الشهداء

من الأُمور التي يمكن أن تصلح للإجابة عن هذا التساؤل المطروح حول إمكان صدور صياغة بالكيفيّة المتقدِّمة، هو أنّ الإمام عَلیه السَلام لم يفدِ الأصحابَ بأبيه وأُمّه، وإنّما أراد من ذلك أن يعلّمنا كيف نزور هؤلاء الأصحاب البررة، وهذا ما يُستفاد ممّا رواه الطوسي رحمة الله في مصباح المتهجِّد، حيث قال: «روى لنا جماعة، عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله بن قضاعة بن صفوان بن مهران الجمّال، عن أبيه، عن جدِّه صفوان، قال: استأذنت الصادق عَلیه السَلام لزيارة مولانا الحسين عَلیه السَلام ، فسألته أن يُعرِّفني ما أعمل عليه، فقال: يا صفوان، صم ثلاثة أيام قبل خروجك، واغتسل في اليوم الثالث، ثمّ اجمع إليك أهلك... ثمّ توجه إلى الشهداء، وقل: السلام عليكم يا أولياء الله وأحباءه... السلام عليكم يا أنصار أبي عبد الله، بأبي أنتم وأُمّي، طبتم وطابت الأرض التي فيها دُفنتم...»(1).

ومن الواضح أنّ الإمام الصادق عَلیه السَلام إنّما ذكر ذلك تعليماً لصفوان الجمّال بالأصالة ولغيره بالتبع.

وممّا يساعد على ذلك أيضاً هو طلب أصحاب الصادق عَلیه السَلام منه أن يعلّمهم الأعمال التي يلزم الزائر القيام بها، فيستجيب لهم ويعلّمهم الأفعال والأقوال التي تُقال في البقعة الطاهرة التي حوت الشهداء، كما في تعليمه عَلیه السَلام ليونس بن ظبيان،

ص: 84


1- الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجد: ص717- 723.

فقد روى الطوسي رحمة الله في تهذيبه، بسنده إلى الحسين بن ثوير، أنّ يونس طلب من أبي عبد الله الصادق عَلیه السَلام تعليمه الأعمال التي يقوم بها إذا أراد زيارة الحسين عَلیه السَلام ، فذكر له ذلك مصحوباً بنصّ - يُزار به الشهداء - قريبٍ من النصّ الذي تضمَّنته الزيارة التي علَّم بها صفوانَ الجمّال(1)، وهو وإن كان خالياً من التفدية الواردة في الزيارة المتقدِّمة عن صفوان، إلّا أنّ خصوصيتها وإرادة التعليم فيها أمر واضح، يطمئن له المتتبع(2).

وهذا الوجه نظير ما يُجاب به عن التساؤلات المطروحة حول الأدعية الواردة عن المعصومين علیهم السلام ، المتضمِّنة للاعتراف من قِبَلهم بالذنب والخطيئة، كقول أمير المؤمنين عَلیه السَلام في دعاء كميل: «... اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم...»(3)، أو ما ورد عن الإمام زين العابدين عَلیه السَلام في قوله: «... هذا مقام من تداولته أيدي الذنوب، وقادته أزمَّة الخطايا، واستحوذ عليه الشيطان ...»(4)، وغير ذلك من النصوص الموهمة لاقترافهم علیهم السلام الذنب والخطيئة؛ إذ إن أحد الوجوه التي أُجيب بها عن ذلك هو أنّها واردة عنهم علیهم السلام لغرض تعليم أتباعهم كيفيّة المناجاة مع الله عز وجلّ(5).

ثانياً: ليس من الضروري أن يكون المفدَّى أفضل من المفدي

من المسائل المهمّة التي تنفع في مقام الإجابة عن التساؤل المتقدِّم، هي أنّ مفاداة شخص بآخر لا يعني أنّ المُفدّى أفضل من الشخص الذي جعله المتكلم فداءً للمخاطب، فلا تلازم بين هذين الأمرين، فقد يكون المفدي - أي: مَن جُعل في

ص: 85


1- اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص54.
2- وقد ذهب السيد السبزواري رحمة الله في مهذّب الأحكام، إلى أنّ الإمام علیه السَّلام إنّما يُعلّم أصحابه؛ حيث قال رحمة الله : «وأمّا زيارة الشهداء فلِما ورد في تعليم الصادق علیه السَّلام كيفيّة زيارة الحسين علیه السَّلام ليونس بن ظبيان». ج15، ص70
3- الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجد: ص844.
4- الصحيفة السجادية، ص140.
5- اُنظر: السبحاني، جعفر، عصمة الأنبياء في القرآن: ص219.

الخطاب فداء للمخاطب - أفضل من المفدَّى بدرجات ومراتب، وإنّما يخاطب المفدَّى بهذه العبائر لأحد أمرين:

1- إمّا لبيان أنّه لو كان قد حصل لي أشدُّ ممّا حصل لكم لكان أهون عليَّ، وتطبيق ذلك على مقامنا بأن يكون الإمام الصادق عَلیه السَلام أراد بيان أنّ قَتْلَ أبي - الذي هو إمام معصوم وحجّة الله على الأرض - يكون علينا أهون من قتلكم في هذه البقعة، وبهذا النحو من القتل المفجع، ومن هذا القبيل قول الإمام الحسين عَلیه السَلام لأبي الفضل العباس، عندما ركب جواده: «اركب بنفسي أنت»(1)؛ حيث إنّه عَلیه السَلام يفديه بنفسه، مع أنّه عَلیه السَلام أفضل من العباس، بل إنّه الإمام المفترض الطاعة، وخامس أصحاب الكساء الذين خاطبهم الله عز وجل بآية التطهير(2).

وممّا يصلح أن يكون مؤيداً لهذا الوجه هو ما ورد عن الإمام الصادق عَلیه السَلام : «ليس لكم أن تعزّونا ولنا أن نعزّيكم، إنّما لكم أن تهنئونا؛ لأنّكم تشاركوننا في المصيبة»(3)؛ حيث ذُكر في شرحه أنّهم علیهم السلام - مضافاً إلى أنّ الأنبياء والرسل وشيعتهم يشاركونهم في المصيبة - حين تقع المصائب والمِحن عليهم إنّما يكونون حامدين شاكرين راضين بالمصائب التي قضاها الله عز وجل لهم، لا أنّهم صابرون على ذلك(4)، ومن الواضح أنّ صاحب المصيبة يناله منها ما لم ينل غيرُه، وإن دلَّ ذيل الحديث على أنَّ النهي عن مواساتهم لمشاركتنا لهم، إلّا أنّها دالّة على مغايرة ما يصيبنا عمّا يصيبهم من مصيبة أيضاً.

ص: 86


1- الأزدي، لوط بن يحيى، مقتل أبي مخنف: ص105. البلاذري، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف: ج3، ص184. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص315. المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص90
2- قال تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا». الأحزاب: آية33.
3- الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج1، ص187.
4- اُنظر: المجلسي، محمد تقي، روضة المتّقين في شرح مَن لا يحضره الفقيه: ج1، ص477

2- إنّما يتمنّى الإمام هذا الشيء لكي يَعظُم أجره، ويكون أكثر ممّا هو عليه، وكأنّ الإمام عَلیه السَلام في زيارته للشهداء الذين قُتلوا مع جدّه الحسين عَلیه السَلام يُبيِّن موقفه ممّا جرى على هؤلاء الأنصار، ويقول لهم: إنّني حزين لذلك، وإنّ حُزني عليكم يترتّب عليه أجر عظيم، ويا ليت أن يكون المقتول أبي وأُمّي؛ لكي أُبيِّن صدق موقفي هذا، ولكي يكون أجري وثوابي أكثر ممّا أنا عليه. وممّا يساعد على هذا التوجيه هو ما ورد عن الفضل بن شاذان في تفسير قوله تعالى:«وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ»(1)، قال: «سمعت الرضا عَلیه السَلام يقول: لمّا أمر الله تبارك وتعالى إبراهيم عَلیه السَلام أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبشَ الذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيم عَلیه السَلام أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل عَلیه السَلام بيده وأنّه لم يُؤمر بذبح الكبش مكانه؛ ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزَّ وُلده بيده؛ فيستحق بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب، فأوحى الله عز وجل إليه: يا إبراهيم، مَن أحبُّ خلقي إليك؟ فقال: يا رب، ما خلقت خلقاً هو أحبُّ إلىَّ من حبيبك محمد‘. فأوحى الله عز وجل إليه: يا إبراهيم، أفهو أحبُّ إليك أو نفسك؟ قال: بل هو أحبُّ إليَّ من نفسي. قال: فولده أحبُّ إليك أو ولدك؟ قال: بل ولده. قال: فذبْحُ ولده ظلماً على أعدائه أوجع لقلبك أو ذبْح ولدك بيدك في طاعتي؟ قال: يا رب، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي. قال: يا إبراهيم، فإنّ طائفة تزعم أنّها من أمّة محمد‘، ستقتل الحسين عَلیه السَلام ابنه من بعده ظلماً وعدواناً، كما يُذبح الكبش؛ فيستوجبون بذلك سخطي. فجَزع إبراهيم عَلیه السَلام لذلك وتوجّع قلبه وأقبل يبكي. فأوحى الله عز وجل إليه: يا إبراهيم، قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين عَلیه السَلام وقتله، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب. فذلك قول الله عز وجل: «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ»، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم»(2).

ص: 87


1- الصافات: آية107.
2- الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا: ج1، ص187. والخصال: ص58

فقد اعتُرض على هذه الرواية بما يتّحد مع التساؤل المطروح حول الفقرة المتقدِّمة في قول الإمام الصادق عَلیه السَلام : «بأبي أنتم وأُمّي يا أنصار أبي عبد الله...»، فتصدّى أئمة الحديث للإجابة عن ذلك بوجوه، أحدها ما يتناسب مع ما ذُكر في المقام(1).

إذاً؛ فليس بالضرورة أن يكون المفدَّى أفضل من المفدي، بل قد يكون المفدي أفضل منه بمراتب ودرجات، كما تبيَّن لنا من خلال الرواية الآنفة الذكر، وما أُجيب به عن الإشكال المذكور عليها.

ثالثاً: تصحّ التفدية بالميت بخلاف الحي من الآباء

من الوجوه التي يمكن أن يُستند عليها في مقام الإجابة عن التساؤل المتقدِّم، هو

ص: 88


1- قال البحراني في كتابه العوالم تعليقاً على هذا الحديث: «قد أُورد على هذا الخبر إعضال، وهو أنّه إذا كان المراد بالذبح العظيم قتل الحسين علیه السَّلام ، لا يكون المُفدى عنه أجلّ رتبة من المَفدى به، فإنّ أئمتنا علیهم السلام أشرف من أُولي العزم علیهم السلام ، فكيف من غيرهم؟ مع أنّ الظاهر من استعمال لفظ الفداء: التعويض عن الشيء بما دونه في الخِطَر والشرف. وأُجيب بأنّ الحسين علیه السَّلام لمّا كان من أولاد إسماعيل علیه السَّلام ، فلو كان ذُبح إسماعيل علیه السَّلام لم يُوجد نبينا وكذا سائر الأئمة علیهم السلام وسائر الأنبياء من وُلد إسماعيل، فإذا عُوِّض من ذبح إسماعيل علیه السَّلام بذبح واحد من أسباطه وأولاده وهو الحسين علیه السَّلام ؛ فكأنّه عُوِّض عن ذبح الكلّ وعدم وجودهم بالكليّة بذبح واحد من الأجزاء بخصوصه، ولا شكّ في أنّ مرتبة كلّ السلسلة أعظم وأجلّ من مرتبة الجزء بخصوصه. وقِيل: ليس في الخبر أنّه فدى إسماعيل بالحسين علیه السَّلام ، بل فيه أنّه فدى جزع إبراهيم على إسماعيل بجزعه على الحسين علیه السَّلام ، وظاهر أنّ الفداء على هذا ليس على معناه بل المراد التعويض، ولمّا كان أسفه على ما فات منه من ثواب الجزع على ابنه، عوضه الله بما هو أجلّ وأشرف وأكثر ثواباً وهو الجزع على الحسين علیه السَّلام . والحاصل: إن شهادة الحسين علیه السَّلام كان أمراً مُقرراً، ولم يكن لرفع قتل إسماعيل حتى يرد الإشكال، وعلى ما ذكرنا فالآية تحتمل وجهين: الأول: أن يُقدّر مضاف، أي: فديناه (بجزع مذبوح عظيم الشأن). والثاني: أن تكون الباء سببية، أي: فديناه بسبب مذبوح عظيم بأن جزع عليه. وعلى التقديرين لا بُدَّ من تقدير مضاف أو تجوّز في الإسناد في قوله: فديناه. والله يعلم». البحراني، عبد الله، العوالم: ص107

ما يُستفاد من الروايتين الواردتين عن الإمام الكاظم عَلیه السَلام - واللتين تفرِّقان بين التفدية بالأبوين الحيّين، وبين مَن يفديهما وهما ميتان - فإنّهما مطلقتان وشاملتان للتفدية من قِبَل المعصوم وغيره، فيُوظَّف مفادهما لأن يكون جواباً في المقام؛ وبما أنّ سياق الرواية المتضمّنة لزيارة الشهداء عن الإمام الصادق عَلیه السَلام ، يدلُّ على أنّه عَلیه السَلام إنّما خاطبهم بهذه العبارة بعد وفاة والده الإمام الباقر عَلیه السَلام ؛ فلا إشكال في ذلك.

وبيان ذلك: أنّ سؤال صفوان الجمّال للإمام الصادق عَلیه السَلام - عن كيفيّة زيارته للحسين عَلیه السَلام ، وأهل بيته وأصحابه - إنّما يدلُّ على أنّ ذلك كان بعد تولّيه مَنصب الإمامة؛ وإنّما يكون ذلك بعد استشهاد والده الإمام الباقر عَلیه السَلام ، وهذا الأمر يدلل على جواز تفديته عَلیه السَلام ؛ اعتماداً على ما تقدَّم في الروايتين اللتين تُفرِّقان بين تفدية الأب في حال حياته، وبين التفدية بعد الممات.

إلّا أنّ هذا التوجيه المتقدِّم لم يتبنّاه أحد من فقهائنا، بل لم نجد في الموسوعات الروائيّة شاهداً عليه، سوى ما ذكرناه من إطلاق الروايتين المتقدِّمتين.

رابعاً: إنّ المفاداة ليست مرادة على نحو الحقيقة

إنّ مِن أبلغ أساليب إظهار التفجُّع والتفاعل مع الغير هو أن يبرز المتكلم له أعلى مستوى في التعبير، ومن بين الأُمور التي تفيد ذلك: هو أن يفديه بنفسه أو بمَن هو أفضل من المتكلم، فيقول له: بنفسي أنت. أو بأبي أنت وأُمّي، وممّا يصلح شاهداً على ذلك قول المازندراني رحمة الله في شرح أصول الكافي؛ حيث قال: «والصحيح عدم الكراهة؛ لورودها في الأَحاديث الصحيحة من طُرقنِا وطُرقِهم مع عدم الإنكار، سيّما له‘ على أنّه ليس المراد الحقيقة، وإنّما هي على معنى الحنانة والبرّ؛ ولذلك يقول ذلك أيضاً مَن ليس له أبٌ وأُمٌّ موجودان»(1).

ص: 89


1- المازندراني، محمد صالح، شرح أصول الكافي: ج5، ص330.

وعلى هذا الأساس؛ يمكننا توجيه كلّ نصّ تضمّن عبارة تحمل معنىً قريباً لما ورد في زيارة الشهداء، كما في الحادثة المرويّة عن فاطمة سيدة النساء عَلیهاالسَلام مع الحور اللاتي جئن معزياتٍ لها، فقد ورد عنها أنّها قالت: «إنّي كنت جالسة بالأمس في هذا المجلس، وباب الدار مغلق، وأنا أتفكّر في انقطاع الوحي عنّا، وانصراف الملائكة عن منزلنا، فإذا انفتح الباب من غير أن يفتحه أحد، فدخل عليَّ ثلاث جوارٍ لم يرَ الراؤون بحسنهن، ولا كهيئتهن، ولا نضارة وجوههن، ولا أزكى من ريحهن، فلمّا رأيتهن قمت إليهن مستنكرةً لهنّ، فقلت: بأبي أنتن! من أهل مكة أم من أهل المدينة؟...»(1). ومن موارده أيضاً ما ذكره السيد ابن طاووس؛ حيث أورد رحمة الله قول السيدة زينب عَلیهاالسَلام : «بأبي المهموم حتى قضى، بأبي العطشان حتى مضى، بأبي مَن شيبته تقطر بالدماء، بأبي مَن جدّه محمد المصطفى، بأبي مَن جدّه رسول إله السماء، بأبي مَن هو سبط نبي الهدى»(2)، فلا بُدَّ من تفسير هذه النصوص بأحد التوجيهات المتقدِّمة في المقام، بما يزيل الشك والإيهام والتساؤلات عن ذهن القارئ للتراث الإسلامي.

منزلة أصحاب الحسين عَلیه السَلام وانسجامها مع التوجيهات المتقدِّمة

وممّا يلزم الالتفات إليه في نهاية ما تقدَّم من توجيهات للعبارة محل البحث، هو أنّ جميع الوجوه المتقدِّمة إنّما يراد منها أن ترفع الإيهامات، وتُزيح التساؤلات التي قد تنقدح في الأذهان، وأنّها لا تنفي ما لأصحاب الحسين عَلیه السَلام الذين استُشهدوا معه من منزلة ومقام رفيع، فكلّ ما ذُكر في المقام يدلّ على علوِّ مقامهم ورفيع شأنهم؛ حتى دعا الأئمة المعصومين علیهم السلام إلى رسم خطّة تأدُّبية لأصحابهم في مقام زيارتهم وزيارة إمامهم الحسين وأهل بيته علیهم السلام ، على القول بأنّها خطابات تعليمية لأصحابهم، وأنها في مقام جواب السؤال عن كيفيّة زيارة سيد الشهداء عَلیه السَلام ، وأمّا على الوجوه الثلاثة

ص: 90


1- ابن طاووس، علي بن موسى، مهج الدعوات ومنهج العبادات: ص6.
2- ابن طاووس، علي بن موسى، الملهوف على قتلى الطفوف: ص79.

الأُخرى، فإن التفدية من قِبَل الإمام الصادق عَلیه السَلام مدعاة لإجلالهم وتقديرهم؛ إذ إنّ الإمام عَلیه السَلام يُخاطبهم بهذه العبائر المليئة بالتحنّن والتعطف، تماشياً مع ما جرت عليه عادة العرب في مخاطباتهم، في أكثر الاحتمالات والتوجيهات تشدداً في المقام، وهو رابع الاحتمالات وآخرها.

تفدية المعصوم نفسه لغيره

بعد أن ذكرنا الوجوه المتقدِّمة حول تفدية المعصوم أباه أو أبويه لغيره من الناس، ناسب أن نذكر مورداً آخر من الموارد التي فدى المعصومُ عَلیه السَلام غيرَه أيضاً، إلّا أنّ المفدي في هذا المبحث هو المتكلم نفسه، وقد ذُكر ذلك في موارد كثيرة من المصادر الروائيّة والتاريخيّة؛ فقد تكرّر إطلاق التفدية من النبي‘ وأهل بيته علیهم السلام لِمَن هو دونهم في المرتبة، من دون فرق بين أن يكون المفدَّى هو أفضل مخلوق بعد المفدي، كأن يكون المقول له معصوماً من المعصومين الأربعة عشر علیهم السلام - كما في المحاورات الواردة على لسان رسول الله‘ لأمير المؤمنين عَلیه السَلام (1)، ومن نظائر ذلك أيضاً ما ورد عن الحسين عَلیه السَلام بقوله لأبي الفضل: «اركب بنفسي أنت»(2)- أو منحدراً عنه بمراتب ودرجات.

وهذه الصياغات وإن كانت مغايرة للموضوع الذي حُسم أمره فيما تقدَّم من كلام، إلّا أنّ الجهة المبحوث عنها هنا متلائمة مع ما ذكرناه في مقالنا؛ وذلك لأنّ اختلاف المرتبة والمنزلة التي يحتلّها القائل تُبرِّر لنا التساؤل عن مدى إمكان التلفظ

ص: 91


1- فقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله لعلي: «قم يا علي، فديتك فاخطب لنفسك؛ فإنّ هذا يوم كرامتك عند الله وعند رسوله». بل تكرّر قول رسول الله صلی الله علیه و آله لأمير المؤمنين علیه السَّلام هذه العبارة، إذ إنه صلی الله علیه و آله قال لأمير المؤمنين علیه السَّلام : «... فديتك يا علي، بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ...». الطبري، ابن جرير، دلائل الإمامة: ص387
2- الأزدي، لوط بن يحيى، مقتل أبي مخنف: ص105. والبلاذري، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف: ج3، ص184. والطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص315. والمفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص90

بهذه العبائر بما تحمله من مدلول يفهمه العُرف العام، وفي مقام الإجابة عن ذلك نكتفي بالوجوه التي توصّلنا إليها فيما تقدَّم من محاولات؛ إذ إنّ بعضها صالح لحلّ المشكلة في المقام؛ لأنّ الوصول إلى تلك النتائج المتقدَّمة - في مسألة البحث المتقدِّم - يحلُّ لنا الغموض في هذه الموارد أيضاً، ويغنينا عن الإجابة عمّا نحن فيه.

بيان ذلك: إنّ التوجيه الأوّل والرابع من التوجيهات المذكورة في البحث يصلحان لدفع الإشكالية التي تتطرَّق إلى العبارات المتضمِّنة للفداء والتفدية:

أمّا الأوّل؛ فإنّ التعليم الذي يُراد من هذه العبارة هو بيان - أو تعليمنا - المقام والمنزلة التي يحتلّها المخاطب بهذه الخطابات الصادرة عن المعصوم عَلیه السَلام .

وأمّا الرابع منها والذي مفاده: أنّ التكلُّم بهذه الصياغة إنّما يكون على نحو التفاعل والتحنن، فهو واضح الانطباق على كلّ عبارة متضمِّنة للتفدية من قِبَل المعصوم عَلیه السَلام بنفسه لغيره من الناس.

والنتيجة المتحصّلة ممّا تقدَّم هو: أنّ كلَّ كلام يبرزه المعصوم للآخرين، وكان حاوياً على العبائر الدالّة على الفداء؛ لا يتنافى مع مقامهم علیهم السلام وليس فيه أيّ محذور.

ص: 92

نُصوصُ البُکَاءِ قُوَةٌ في السَنَدِ وَ صَرَاحَةٌ في المَتن

(القسم الثاني)لؤي المنصوري

اشارة

تقدم الكلام في القسم الأول من هذا المقال عن مجموعة من النقاشات العامّة حول ما كتبه محمّد علي سلطان في مقاله (البكاء على الحسين عَلیه السَلام نقد في السند والمتن)، وفي هذا القسم سوف نسلّط الضوء على بعض نقاشاته السنديّة والدلالية؛ لنرى مدى صحة ما يدّعيه.

ملاحظات سندية
اشارة

قال الباحث تحت عنوان (بعض نصوص رثاء الحسين عَلیه السَلام وقفات نقدية في السند): «أثبت ابن قولويه جملة من الأحاديث تُعدّ نصوصها مقتبسات من أحاديث أُخرى إذا ما قورنت بها... ومن جملة تلك الأحاديث: رواية عن الإمام الصادق عَلیه السَلام سندها كالتالي: حدّثني حكيم بن داود، عن سلمة، عن يعقوب بن يزيد، عن محمّد بن أبي عمير، عن بكر بن محمّد، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله عَلیه السَلام . وهذا متن

ص: 93

الحديث: مَن ذُكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب؛ غُفر له ذنوبه ولو كانت مثل زَبَد البحر.

بالإضافة إلى مجهولية حكيم بن داود هناك إشكالية أُخرى أهمّ في سند الرواية، وهي وجود سلمة بن الخطاب فيه... وقد ضعّفه جملة من الرجاليين، أمثال: النجاشي، وابن الغضائري، وقالوا فيه: أبو الفضل البرواستاني... كان ضعيفاً في حديثه. إلّا أنّ البرقي أورد الرواية ذاتها في محاسنه، نقلاً عن يعقوب بن يزيد، عن محمّد بن أبي عمير، عن بكر بن محمّد، عن الفضل بن يسار، عن الإمام الصادق عَلیه السَلام ، وسندها هنا خالٍ من الضعف»(1).

فقد ضعّف بذلك حكيم بن داود وسلمة بن الخطاب. والنقاش معه تارة في تضعيفه حكيم بن داود، وأُخرى في تضعيفه سلمة بن الخطاب، فنقول:

أولاً: تضعيفه حكيم بن داود

أمّا بالنسبة لحكيم بن داود، فهو من مشايخ ابن قولويه المباشرين في كامل الزيارات، وقد نصّ على توثيق مشايخه في مقدمة كتابه حينما قال: «ولم أُخرج فيه حديثاً رُوي عن غيرهم؛ إذ كان فيما روينا عنهم من حديثهم علیهم السلام كفاية عن حديث غيرهم، وقد علمنا أنّا لا نحيط بجميع ما رُوي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته، ولا أخرجت فيه حديثاً رُوي عن الشذاذ من الرجال...» (2).

والكلام الذي وقع بين العلماء من جهتين:

ص: 94


1- مجلة نصوص معاصرة، العدد التاسع: ص247.
2- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص37.

الأُولى: في إفادة كلامه للتوثيق وعدمه

والثانية: بناءً على إفادة التوثيق؛ فهو إمّا توثيق عام لكُلّ رواة الكامل أو لخصوص مشايخه المباشرين، مع اتفاقهم على أنّ مشايخ ابن قولويه المباشرين ثقات بهذه الشهادة، قال الميرزا النوري: «فتراه رحمة الله نصَّ على توثيق كل مَن رواه عنه فيه، بل كونه من المشهورين بالحديث والعلم، ولا فرق في التوثيق بين النصِّ على أحدٍ بخصوصه، أو توثيق جمعٍ محصورين بعنوانٍ خاص، وكفى بمثل هذا الشيخ مزكِّياً ومعدِّلاً. فنقول - والله المستعان -: الذي روى عنهم فيه جماعة... حكيم بن داود بن حكيم، يروى عن سلمة بن الخطاب»(1).

وقال السيد الخوئي قدس سرّه : «فإنّك ترى أنّ هذه العبارة واضحة الدلالة على أنّه لا يروي في كتابه رواية عن المعصوم، إلّا وقد وصلت إليه من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله»(2).

والسيد الخوئي قدس سرّه وإن تراجع في آخر حياته عن توثيق كل مَن ورد في كامل الزيارات، إلّا أنّه يعتقد بوثاقة مشايخ ابن قولويه المباشرين. فحكيم بن داود من مشايخ ابن قولويه المباشرين؛ فهو ثقة بالتوثيقات العامّة التي هي أحد طريقَي تحصيل الحكم بالوثاقة، وقد غفل الكاتب بالكُلّية عن هذا الأمر؛ فحكم على حكيم بن داود بالمجهولية، وهذا ناشئٌ من عدم اطّلاعه وخبرته بطرق التوثيق العامّة.

ثانياً: تضعيفه سلمة بن الخطاب

إنّ سلمة بن الخطاب وإن ضعَّفه النجاشي وابن الغضائري، إلّا أنّ هذا لا يكفي

ص: 95


1- النوري، ميرزا حسين، خاتمة المستدرك: ج3، ص252 - 256.
2- الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث: ج1، ص5.

للحكم بضعفه؛ حيث إنّ هنالك قرائن تشهد على حسن رواياته، كما قال الوحيد البهبهاني: «ناهيك بجلالته، بل وثاقته، رواية كل هذه الأجِلّة المذكورين هنا وغيرهم عنه، سيّما وهم من القمِّيين، بل ومشايخهم وأعاظمهم، وفيهم ابن الوليد، وأيضاً يَروي عنه محمّد بن أحمد بن يحيى، ولم يستثنِ روايته، وأيضاً هو كثير الرواية، وصاحب الكتب، إلى غير ذلك»(1).

وقال النمازي الشاهرودي: «ونزيدك على ما ذكرنا من المولى الوحيد أُموراً:

الأوّل: أنّه وقع في طريق مشيخة الفقيه في عداد صواحب الأُصول المعتمدة التي استخرج منها كتابه الفقيه، وروى كتبه سعد بن عبد الله.

الثاني: وقوعه في طريق ابن قولويه القمّي في كامل الزيارات، مع أنّه في أوله شَهد بوثاقة مَن يروى عنه... ويُروي عنه كثيراً.

الثالث: رواياته الشريفة، وهي كثيرة، منها: ما روى الكليني عن محمّد بن يحيى، عنه، رواية النص على الأئمّة الاثني عشر وأسمائهم وفضائلهم.. وروى سعد عنه فضائل أمير المؤمنين عَلیه السَلام ، ووجوب الاقتداء به، وذم مخالفته...»(2).

وقد يُعتذر للكاتب: بأنّه اكتفى - في تضعيف سلمة - بعبارة النجاشي التي تفيد التضعيف.

إلّا أنّنا نقول: على الكاتب أن يُبيِّن منهجه الرجالي في التضعيف والتوثيق ولو على نحو الفتوى؛ حتى يُعلم مشربه في علم الرجال، وإن كنّا مطمئنين بأنّه من المقلدين في

ص: 96


1- الوحيد البهبهاني، محمد باقر، تعليقة على منهج المقال: ص191.
2- النمازي الشاهرودي، علي، مستدركات علم رجال الحديث: ص108.

هذا الميدان ليس إلّا، ومع ذلك كان عليه أن يُبيِّن مشرب مقلَّده في هذا العلم.

وعلى هذا الأساس؛ يتبين لنا تسرُّع الكاتب بتضعيف سند هذه الرواية، من دون مراجعة تمام الأقوال حول هؤلاء الرواة.

ثالثاً: اعترافه بوجود طريق آخر صحيح للرواية

إنّنا لم نعرف الوجه الذي من أجله انساق الكاتب للنقاش السندي في هذه الرواية؛ مع أنّه صرح بأنّها قد رُويت بسندٍ صحيحٍ آخر، هذا بالإضافة إلى وجود طريق صحيح ثالث لم يُشر إليه الكاتب في المقام، وهو ما أخرجه القمي في تفسيره بسنده، قال: «وحدثني أبي، عن بكر بن محمّد، عن أبي عبد الله عَلیه السَلام ، قال: مَن ذكرنا أو ذُكرنا عنده؛ فخرج من عينه دمعٌ مثل جناح بعوضة؛ غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زَبَد البحر»(1). فمع وجود أكثر من طريق صحيح للرواية، فما هي الفائدة في نقاش أحد طرقها الضعيفة؟!

خلط الكاتب في أسماء الرجال وترتيبه استنتاجات خاطئة:

كان المفترض من كاتب المقال التدقيق في الأسانيد، ومعرفة الطرق، وكيفية دراسة الروايات بصورة موضوعية تُعطي للبحث قيمته، إلّا أنّه أتي بكلام غثّ يكشف عن ضعفه وقلَّة معرفته بفنِّ الحديث؛ إذ قال: «وقد نقل في كامل الزيارات حديثاً مشابهاً لهذا الحديث، عن فضيل بن فضالة، إلّا أنّ ملاحظة رواة سائر السند يقودنا إلى الحكم

ص: 97


1- القمّي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي: ج2، ص292. والسند صحيح؛ إذ إنّ علي بن إبراهيم وأباه ثقتان، وبكر بن محمّد هو الأزدي الغامدي، قال عنه السيد الخوئي قدس سّره : «بكر بن محمّد: بن عبد الرحمن بن نعيم الأزدي الغامدي، أبو محمّد (ثقة) من أصحاب الصادق والكاظم والرضا، له أصل، رُوى في تفسير القمي وكامل الزيارات...». المفيد من معجم رجال الحديث: ص491

بالخطأ الوارد في اسم الفضيل بن فضالة، وأنّ الصحيح هو الفضيل بن يسار. وقد نقل الرواية حكيم بن داود عن سلمة، عن علي بن سيف بالنص التالي: مَن ذُكرنا عنده ففاضت عيناه؛ حرّم الله وجهه على النار»(1).

فكأنّ الكاتب تصوَّر أنّ الراوي واحد، وهو الفضيل بن يسار، لا ابن فضالة، إلّا أنّ الأمر ليس كما تصوَّر؛ لأنّ ابن فضالة غير ابن يسار، فهما راويان كما عن الشيخ الطوسي(2)، والنمازي الشاهرودي(3)، والسيد الخوئي في معجم الرجال(4)، والشيخ غلام رضا عرفانيان في مشايخ الثقات(5).

وقد نُقلت الرواية عن كل منهما، فإنّها نُقلت بطريقين مختلفين:

الطريق الأوّل: عن ابن أبي عمير، عن بكر بن محمّد، عن فضيل بن يسار.

الطريق الثاني: عن علي بن سيف، عن بكر بن محمّد، عن فضيل بن فضالة. كما في كامل الزيارات(6). واللسان مختلف، ففي الأُولى: إنّ الله يغفر الذنوب لِمَن يبكي على الحسين عَلیه السَلام ، وفي الثانية: إن الله يُحرِّم وجهه على النار. فلا معنى للحكم باتحاد الرواية والراوي.

عدم الدقّة في دراسة الروايات ومعرفة المراد منها

من ضمن الانتقادات التي ساقها الكاتب على روايات البكاء هو أنّ بعض الروايات وردت بلسانٍ عام، فهي غير مختصة بالإمام الحسين عَلیه السَلام ، قال: «فعلى الرّغم

ص: 98


1- مجلة نصوص معاصرة، العدد التاسع: ص248.
2- الشيخ الطوسي، رجال الطوسي: ص270.
3- النمازي الشاهرودي، علي، مستدركات علم رجال الحديث: ج6، ص224.
4- الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث: ج14، ص354.
5- عرفانيان، غلام رضا، مشايخ الثقات: ص141.
6- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص207.

من عمومية لفظ الحديث، وعدم اختصاصه بالإمام الحسين عَلیه السَلام ، إلَّا أنّ عامّة المحدّثين أدخلوه في باب البكاء على الإمام الحسين عَلیه السَلام ، وقد نُقلت الرواية ذاتها عند الحميري في كتاب قرب الإسناد بنصٍّ أكمل؛ جعلها أعمّ بكثير من موضوع الإمام الحسين عَلیه السَلام لتشمل مظلومية كل العلويين، فجاء النصّ كالآتي: حدثنا أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمّد، عن أبي عبد الله عَلیه السَلام قال: «قال لفضيل: تجلسون وتتحدثون؟ قال: نعم، جُعلت فداك. قال: إنّ تلك المجالس أُحبُّها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله مَن أحيا أمرنا. يا فضيل، مَن ذَكرنا أو ذُكرنا عنده، فتخرج من عينيه مثل جناح الذباب؛ غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر». وكما يلاحظ؛ فإنّ الرواية لم تنصّ على قضية الإمام الحسين عَلیه السَلام وعاشورائه، وإنّما هي من مصاديقها البارزة، فالنصّ يتضمّن أيضاً الدعوة إلى ذكر سائر شهداء العلويين، أمثال: زيد، ويحيى.. بل هو شامل أيضاً لعامّة الشيعة، ممَّن هُجِّر، وعانى التعسُّف والاضطهاد»(1).

وكأنّ الكاتب يريد أن ينفي الخصوصية الثابتة للإمام الحسين عَلیه السَلام في مسألة البكاء، ويجعلها مسألة عامّة لا لخصوص أهل البيت علیهم السلام وحَسب، وإنّما يعمِّمُها لجميع العلويين.

لكن كان على الكاتب - قبل إصدار الحكم بعمومية اللفظ ليشمل كل مَن قتل من العلويين - أن يتتبّع بقية الروايات لمعرفة هذه المفردة الواردة في هذه الرواية، وهي: «فرحم الله مَن أحيا أمرنا» حيث وردت روايات كثيرة تشرح المقصود منها، ففي قرب الإسناد بسند صحيح عن أبي عبد الله عَلیه السَلام قال: «يا خيثمة، اقرأ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم... وأن يتلاقوا في بيوتهم، فإنّ لُقياهم حياةٌ لأمرنا. ثُمَّ رفع يده، فقال: رحم الله مَن أحيا أمرنا»(2). وروى الديلمي في أعلام الدين عن

ص: 99


1- مجلة نصوص معاصرة، العدد التاسع: ص248.
2- الحميري القمّي، قرب الإسناد: 32.

الصادق عَلیه السَلام أنّه قال لخيثمة: «أبلِغ موالينا السلام، وأوصِهم بتقوى الله... ويتذاكروا علم الدين؛ ففي ذلك حياة أمرنا، رحم الله مَن أحيا أمرنا» (1).

فهذه الروايات وغيرها قرائن شارحة ومبيّنة للمراد من كلمة (أمرنا) وهو أنّ المقصود بها أئمة أهل البيت علیهم السلام المعصومون دون غيرهم، هذا بالإضافة إلى أنّ الحديث قد صدَّره الإمام عَلیه السَلام بقوله: «اقرأ موالينا»، وهي لا تنطبق إلّا على الأئمّة المعصومين علیهم السلام ؛ لأنّهم هم الولاة، والناس موالٍ لهم، دون غيرهم. وهناك قرائن أُخرى في الروايات تُبيِّن أنَّ المقصود هم الأئمة دون غيرهم؛ فلذلك ذكر العلماء هذه الأخبار ضمن الراويات المرشدة للبكاء على الحسين عَلیه السَلام ، والتي قسموها إلى قسمين:

الأول: في استحباب البكاء على الحسين عَلیه السَلام ؛ طبقاً للأحاديث الواردة بشكل عام.

الثاني: استحباب البكاء عليه عَلیه السَلام بما ورد في الأحاديث بشكلٍ خاص.

فذِكرُ العلماء لهذه الروايات ضمن أحاديث البكاء على الحسين عَلیه السَلام لم يأتِ عن غفلةٍ أو جزافٍ، إنّما جاءت عن مراجعة للأخبار ومتونها ورصدها، ففهموا من خلالها أنّ المراد ب-(أمرهم) هو أمر المعصومين الأربعة عشر علیهم السلام . على أنّ في الأخبار تصريحاً جليَّاً بأنّ ما جرى على الحسين وأهل بيته علیهم السلام لم يجرِ على أحدٍ من المعصومين علیهم السلام ؛ لذلك علا ذِكره وبرز وأصبح المركز في كُلّ عزاء ومأتم يقام على النبي‘ أو أمير المؤمنين عَلیه السَلام ، أو فاطمة عَلیهاالسَلام ، أو أحد الأئمة علیهم السلام «إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون..» (2). فمصيبته أورثت الأئمة الكرب والبلاء إلى

ص: 100


1- الديلمي، الحسن بن محمد، أعلام الدين: ص 83. المجلسي، بحار الأنوار: ج78، ص219
2- الصدوق، الأمالي: ص190.

يوم القيامة، فكل رواية تحض على البكاء على أهل البيت علیهم السلام فإنّ الإمام الحسين عَلیه السَلام هو المصداق الأبرز والأوضح الذي تجلّت فيه أنواع المصائب والمِحن.

قراءات دلالية خاطئة

استعرض الكاتب بعض النصوص الروائية، ثم أشكل عليها؛ بسبب بعض انطباعاته المشوَّشة والناقصة، ذكرها تحت عنوان: (بعض نصوص رثاء الحسين عَلیه السَلام وقفات في النقد المضموني)(1).

النصّ الأول: رواية أبي بصير، عن الإمام الصادق عَلیه السَلام التي جاء فيها: «...إنّ فاطمة لتبكيه وتشهق، فتزفر جهنَّم زفرةً لولا أنّ الخزنة يسمعون بكاءها وقد استعدوا لذلك؛ مخافة أن يخرج منها عذق، أو يشرد دُخانها فيحرق أهل الأرض فيكبحونها، ما دامت باكية، ويزجرونها ويوثقون من أبوابها، مخافةً على أهل الأرض، فلا تسكن حتى يسكن صوت فاطمة عَلیهاالسَلام ... قلت: جعلت فداك، إنّ هذا الأمر عظيم. قال: غيره أعظم منه ما لم تسمعه...». فقد قال الكاتب في ردِّه لهذه الرواية: «وبشيء من التأمّل يمكن لمس الطابع السردي الأُسطوري المهيمن على مضمونها؛ فقارئ النصّ يتخيّل له استقرار الإله والملائكة على جانب، يقابله آخر يقطنه أهل الأرض، وأنّ هناك معركة دائمة ومبيّتة. أمّا نار جهنّم، فهي ما تفتأ أن تدخل صراعاً مع مَن هو موكّل بها من الملائكة، فتشهق وتزفر فيتدخّل الملائكة؛ حفاظاً ورأفة بأهل الأرض للحدّ من غضبها. إنّ هكذا نوع من الخطاب لا يتلاءم مع المخاطب - أي أبي بصير - ولا هو من شأن المتكلم وهو الإمام، فما ورد في هذا المتن كفيل بإثبات الافتعال والوضع فيه...»(2).

ص: 101


1- مجلة نصوص معاصرة، العدد التاسع: ص252.
2- المصدر السابق: ص252 -- 253.

ونلاحظ على ما ادّعاه الكاتب:

أولاً: عندما نراجع نصّ الرواية، وعند تدقيق النظر فيها، لا نجد للتصوير المذكور محلاً، إلّا ما كان مترسخاً في ذهن صاحبه لا غير، فغاية ما تثبته الرواية هو تأثّر النار لبكاء وشهيق فاطمة عَلیهاالسَلام ، وأنّ النار - هذا الكائن الحي كما ستأتي الإشارة إلى ذلك - غضبت لذلك، وتغيّضت للظلم الذي جرى على أهل البيت علیهم السلام في كربلاء، وأين هذا من الحرب بين طرفين مستقلين كلٌّ منهما إلى جانبٍ معين؟! وإلّا لو كان الأمر كما تصوّره ذهن الكاتب لكان عليه أن يتصور الطرفية في مجموعة من الآيات القرآنية التي ذكرت أهل السماء والأرض(1)، وذكرت الملائكة والبشر(2)، وغيرها من الموارد.

فهكذا تصوير بعيد كل البعد عن ظاهر الرواية، بل يمكن أن نقول: إنّه لا يخطر على بال أحد إلّا إذا كان همّه الإشكال والاعتراض كيفما كان.

وثانياً: ما هو الإشكال في كون جهنّم تزفر لشهيق فاطمة عَلیهاالسَلام ؟! وما هو الغريب في ذلك؟! فإنّ جهنم مخلوق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ » (3)، فهي كغيرها من الموجودات التي تخضع للسيدة الزهراء عَلیهاالسَلام صاحبة المرتبة العُليا والمنزلة الرفيعة، وتنقاد لها كما ينقاد لها سائر الكائنات، وخصوصاً في مورد البكاء على الحسين عَلیه السَلام الذي ورد عن الإمام الحسن عَلیه السَلام مخاطباً أخاه شهيد كربلاء: «لا يوم كيومك يا أبا عبد الله»(4)، وكما أنّ الوحوش والطير والهوام والسماء والأرض بكت على الحسين عَلیه السَلام ، وهي من خصوصياته عَلیه السَلام ؛ حيث لم ينقل لنا التاريخ أنّ ذلك حدث لغير مصيبة ابن فاطمة عَلیهاالسَلام ، من نبي أو رسول أو

ص: 102


1- كما في سورة البقرة: آية 116- 117.
2- البقرة: آية29- 39
3- ق: آية30
4- الصدوق، الأمالي: ص177. والسند صحيح.

إمام عدا يحيى بن زكريا، فكذلك زفير جهنم وغضبها لشهيق فاطمة عَلیهاالسَلام ، وبكائها على الإمام الحسين عَلیه السَلام يُعدُّ من خصوصياته سلام الله عليه. فما الغرابة في ذلك؟! وما الاستبعاد؟! ألمجرد عدم قبول طبعنا وفهمنا القاصر لذلك؟! فيا ترى، هل يحق لنا ردّ الروايات لمجرد آفاقنا الضيقة في عقولنا القاصرة؟!

وأمّا عدم معرفة كيفية زفير جهنم، فهو أمر لا يصلح للاستشكال، فقد لا نفهم - أو لا ندرك - كيفية ذلك، إلّا أنّ هذا ليس مبرراً للرد؛ إذ إنّنا لا نعلم ولا نعرف الآخرة وقوانينها، وما يجري فيها إلّا من خلال الآيات والروايات المبيّنة لذلك، فتكون هذه الرواية منها، فكما أنّ كيفية بكاء الوحوش والطير والسماء والأرض عليه عَلیه السَلام مجهولة لنا، ولا نحيط بها، فكذلك زفير جهنم لبكاء الزهراء عَلیهاالسَلام ، وهناك عشرات بل مئات الأُمور بل أكثر، التي تحدث عنها النص الديني الثابت، والتي لا يمكن ردّها بوجه، مع كون كيفيتها مجهولة لنا، فإذا حكَّمنا منطق هذا الكاتب بفهم الروايات بل والآيات؛ لما بقى حجر على حجر، فكُلّ هذه الأُمور إذاً غيبية لا يعلم معناها ومفادها إلّا الناطق بها وهم محمّد وآل محمّد علیهم السلام .

فالإشكال المتني في الرواية إن كان من جهة التصوير الذي ذكره الكاتب، فهو تصوير خاطئ مردود على صاحبه، وإن كان لغرابة الأُمور المذكورة فيها، وعدم معرفة كيفية ذلك، فهو بالإضافة إلى عدم الغرابة، يقتضي ردّ جملة من الأخبار التي تتحدث عن أُمور غيبية غريبة عن بعض الأفهام أيضاً، وهو مرفوض.

النصّ الثاني: رواية زرارة، عن الإمام الصادق عَلیه السَلام ، قال: «يا زرارة، إنّ السماء بكت الحسين أربعين صباحاً بالدَّم، وإنّ الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد، وإنّ الشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، وإنّ الجبال تقطعت وانتشرت،

ص: 103

وإنّ البحار تفجّرت...»(1).

فقد علَّق عليها الكاتب بقوله: «هذه الرواية - كسابقتها - واضحة التكلّف والافتعال، مضافاً للاضطراب المهيمن على نصّها ودلالتها، وهذا لا يصدر إلّا عن مخيلة وضّاعة كالتي عند عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، فهو لم يفكر في الذي سوف يحصل عند كسوف الشمس لمدة أربعين يوماً على التوالي؛ فهذا أمر ممتنع حسب قوانين الطبيعة. وإذا سلمنا - جدلاً - بوقوعه لكان له انعكاس واسع على صفحات التاريخ، وهكذا لبكاء السماء دماً أربعين يوماً...!»(2).

ولنا على كلامه هذا مجموعة من الملاحظات:

أولاً: إذا ما راجعنا الرواية نجد أنّ أغلب متنها ثابت بأسانيد مستفيضة، بل ومتواترة، فأما النصّ المتقدم من أنّ السماء بكت الحسين عَلیه السَلام أربعين صباحاً، وكذا الأرض، ورد في روايات متواترة، وقد عقد ابن قولويه الباب الثامن والعشرين من كتابه (كامل الزيارات) لهذا العنوان، فقال: «بكاء السماء والأرض على الحسين ويحيى عَلیهِماالسَّلام ». وجملة من النصوص التي ذكرها صحيحة الإسناد:

منها: الحديث الرابع، وهو عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عَلیه السَلام ، قال: «إنّ الحسين عَلیه السَلام بكى لقتله السماء والأرض واحمرَّتا، ولم تبكيا على أحدٍ قط إلّا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي عَلیهِماالسَّلام »(3).

ص: 104


1- مجلة نصوص معاصرة، العدد التاسع: ص253.
2- المصدر السابق: ص254.
3- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص181، الباب 28. والسند صحيح؛ حيث إنّ وهيب بن حفص النحاس كما ذكر السيد الخوئي في المعجم ج20: ص239 نفسه وهيب بن حفص الذي نصّوا على وثاقته وليس متعدداً

ومنها: الحديث التاسع، وهو عن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله عَلیه السَلام ، قال: «احمرَّت السماء حين قُتل الحسين عَلیه السَلام سنة ويحيى بن زكريا، وحمرتها بكاؤها»(1).

ومنها: الحديث العاشر، وهو عن عبد الخالق بن عبد ربه، قال: سمعت أبا عبد الله عَلیه السَلام يقول: «لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا»(2) الحسين بن علي، لم يكن له من قبل سمياً، ويحيى بن زكريا عَلیه السَلام لم يكن له من قبل سمياً، ولم تبكِ السماء إلّا عليهما أربعين صباحاً. قال: قلت: ما بكاؤها؟ قال: كانت تطلع حمراء وتغرب حمراء»(3).

ومنها: الحديث الثاني عشر، وهو عن كليب بن معاوية الأسدي، عن أبي عبد الله عَلیه السَلام ، قال: «لم تبكِ السماء إلّا على الحسين بن علي، ويحيى بن زكريا عَلیهِماالسَّلام »(4).

ومنها: الحديث الخامس عشر والسادس عشر، وغيرها من الروايات الصحيحة(5).

وهنالك روايات أُخرى كثيرة تحدثت عن بكاء السماء على الإمام الحسين عَلیه السَلام ، وقد ورد فيها معنى بكاء السماء من أنّ حمرتها بكاؤها، أو أنّها أمطرت دماً(6)، أو وقوع شبه أثر البراغيث من الدم(7)، أو أمطرت تراباً أحمر(8)، أو احمرار السماء(9)،

ص: 105


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص182.
2- مريم: آية7.
3- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص182. والرواية صحيحة الإسناد
4- المصدر السابق: ص183.
5- المصدر السابق: ص116.
6- لمصدر السابق: ص188، ح25.
7- المصدر السابق: ص184، ح15.
8- المصدر السابق: ص183، ح13.
9- المصدر السابق: ص182، ح9.

أو الشمس مثل العلقة(1). وكل هذه الأُمور لا تعارض بينها، بل وجوه الجمع فيما بينها ظاهرة.

وعليه؛ فإنّ أكثر مضمون هذه الرواية التي غمز فيها الكاتب هو ثابت من خلال روايات كثيرة أُخرى يمكن القول: بأنّها متواترة.

وأمّا بكاء الملائكة على الحسين عَلیه السَلام ، فقد عُقد له في الكامل الباب السابع والعشرين، وأُورد تحته جملة من الأخبار نُورد بعض صحاحها:

الأول: ما رواه الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله عَلیه السَلام قال: «ما لكم لا تأتونه؟! - يعني قبر الحسين عَلیه السَلام - فإنّ أربعة آلاف مَلك يبكون عند قبره إلى يوم القيامة»(2).

الثاني: ما رواه الفضيل، عن أحدهما عَلیهِماالسَّلام ، قال: «إنّ على قبر الحسين عَلیه السَلام أربعة آلاف ملك، شعثٌ غُبر، يبكونه إلى يوم القيامة، قال محمّد بن مسلم: يحرسونه»(3).

الثالث: ما رواه أبو حمزة، عن أبي عبد الله عَلیه السَلام قال: «إن الله وكّل بقبر الحسين عَلیه السَلام أربعة آلاف ملك، شعث غُبر، يبكونه من طلوع الفجر إلى زوال الشمس، فإذا زالت الشمس هبط أربعة آلاف ملك، وصعد أربعة آلاف ملك، فلم يزل يبكونه حتّى يطلع الفجر...» (4).

والروايات في هذا المعنى استفاضت، بل وصلت إلى حدّ التواتر الذي لا يحتاج معه للبحث في أسانيدها منفردة. وأما عدم اختضاب واحدة من العلويات، ولا

ص: 106


1- المصدر السابق: ص181، ح7.
2- المصدر السابق: ص171.
3- المصدر السابق: ص173. والرواية صحيحة السند، وقد تقدم تراجم رواتها ضمن الصفحات السابقة
4- المصدر السابق: ص175.

اكتحلت ولا رجّلت حتّى قُتل عبيد الله بن زياد (عليه اللعنة) فهذا قد ورد في جملة من الأخبار غير هذا الخبر، كما رواه الكشّي بسنده عن أبي عبد الله عَلیه السَلام قال: «ما امتشطت فينا هاشمية، ولا اختضبت حتّى بعث إلينا المختار برؤوس الذين قتلوا الحسين عَلیه السَلام »(1).

وأمّا بكاء الجَنّة والنار، وكذلك أهل الجنّة والنار، فقد ورد في أخبار معتبرة؛ إذ روى ابن قولويه بسنده عن أبي عبد الله عَلیه السَلام ، قال: «إنّ أبا عبد الله الحسين بن علي عَلیهِماالسَّلام لما مضى بكت عليه السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهن، ومَن ينقلب عليهن، والجنة والنار، وما خلق ربنا، وما يُرى وما لا يُرى»(2).

وعليه؛ فجملة كبيرة من مضمون الرواية ثابت في نصوص صحيحة، وبعضها مستفيض، بل ومتواتر، فلا معنى للطعن بالرواية، ونسبتها إلى الوضع والقصة بسبب متنها.

وثانياً: إنّ الكاتب استبعد كسوف الشمس بدعوى أنّه حدث يخالف قانون الطبيعة، وهذا أغرب من سابقه؛ إذ كيف يمكن ردّ الخبر باستبعاد أهل الطبيعة، وإلّا لزم ردّ جميع المعاجز والكرامات التي هي من البديهيات الدينية؛ إذ إنّها جميعاً تخالف قانون الطبيعة الظاهري.

وثالثاً: إنّ الوارد في الرواية هو أنّ الشمس بكت الحسين عَلیه السَلام أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، وفي خبرٍ آخر أنّها صارت كالعلقة من شدة الاحمرار، وهذا لا يعني بالضرورة حصول الكسوف المصطلح عند علماء الفلك - وإن كان هذا لا يستبعد أيضاً - بل لعل المقصود هو أثر الكسوف، وهو احمرار الشمس حمرة شديدة كأنّها مكسوفة ومُسودّة.

ص: 107


1- رجال الكشي: ص341. قال السيد الخوئي في المعجم: ج19، ص102، «وهذه الرواية صحيحة».
2- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص166. والسند معتبر.

ورابعاً: إنّ قوله: «وإذا سلّمنا - جدلاً - بوقوعه لكان له انعكاس واسع على صفحات التاريخ». يشبه اعتراض السلفية على رواية ردّ الشمس للإمام علي عَلیه السَلام ؛ حيث قالوا: إنّ الشمس لو رجعت لكان ذلك حدثاً عالمياً يشهده حتّى النصارى وغيرهم، ولذكروه في تواريخهم، مع أنّنا لا نرى لذلك أثراً ولا عيناً فيما دَوَّنوه من التاريخ يُشير إلى واقع هذه الظاهرة الكونية الغريبة والنادرة!

وهذا كلامٌ لا يحتاج ردُّه إلى مؤنةٍ كبيرة؛ لأنّه متى صدق أصحاب الأديان الأُخرى مع أنفسهم حتّى نحتاجهم في إثبات حادثة جليلة في الدين الإسلامي! ثُمّ مَن قال: بأنّهم كانوا ملتفتين إلى هذا الأمر حين وقوعه! فلربما تصوروا وقوع عاصفة رملية جعلت الشمس تحمرّ وتكون كالعلقة، خصوصاً وأنّ السماء نزل منها تراباً أحمر كما في الخبر.

وخامساً: إنّ ما ورد من تقطيع الجبال وانتشارها لا يعني أنّ ذلك الأمر محسوس، بل قد يكون الأمر بشكل غير ملحوظ للعيان، كما ذكرت الآية المباركة: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ » (1)، فالقرآن يخبر بحركة الجبال التي لا نشاهدها حسّاً، ولو قال ألف عالم طبيعي: بأنّها لا تتحرك. لا نقبل كلامه أمام خبر القرآن بحركتها، فضلاً عن أنّ العلم قد أثبت ذلك أيضاً مؤخراً.

النصّ الثالث: رواية عبد الله بن بكير، عن الإمام الصادق عَلیه السَلام ، قال: «حججت مع أبي عبد الله عَلیه السَلام - في حديث طويل - فقلت: يا بن رسول الله، لو نُبش قبر الحسين بن علي عَلیه السَلام هل كان يُصاب في قبره شيء؟ فقال: يا بن بكير، ما أعظم مسائلك! إنّ الحسين عَلیه السَلام مع أبيه وأمه وأخيه في منزل رسول الله‘، ومعه يرزقون ويحبرون، وإنّه لعن يمين العرش متعلّقٌ به، يقول: يا رب، أنجز لي ما وعدتني، وإنّه لينظر إلى

ص: 108


1- سورة النمل: آية88.

زوّاره، وإنّه أعرف بهم وبأسمائهم وأسماء آبائهم وما في رحالهم من أحدهم بولده، وإنّه لينظر إلى مَن يبكيه فيستغفر له، ويسأل أباه الاستغفار له، ويقول: أيها الباكي، لو علمت ما أعدَّ الله لك لفرحت أكثر ممّا حزنت».

وقد علّق الكاتب على هذا الحديث بقوله: «لعلَّ هذا الحديث أقلُّ غرابةً من بين أحاديث عبد الله الأصمّ، إلّا أنّ ما يُؤاخذ عليه هنا هو السؤال المطروح من قِبل عبد الله بن بكير، فهو لا يتناسب مع شخصيةٍ بوزن ابن بكير، ناهيك عن المبالغة في ثناء الإمام عَلیه السَلام على سؤال ابن بكير في الرواية، إذا علمنا أنّ السؤال غاية في السذاجة، وهو مستبعدٌ أساساً من ابن بكير...»(1).

ويلاحظ على كلامه:

أولاً: إنّ استبعاد هكذا سؤال من عبد الله بن بكير بن أعين - باعتباره من الفقهاء- ليس في محله أساساً؛ فإنّ الكاتب نسي مراجعة ترجمة ابن بكير؛ حيث نصَّ الرجاليون على أنّه فَطَحيُّ المذهب وإن كان ثقةً في نفسه، فمَن زاغ في الإمامة واعتقد بإمامة عبد الله بن جعفر، وترك الإمام موسى الكاظم عَلیه السَلام ، وهو يجلس عند الصادق عَلیه السَلام ، كيف لا يجوز عليه أن يصدر منه هذا السؤال؟!

وليس الغرض من هذا الكلام الطعن في وثاقته، وردّ رواياته، وإنّما أردنا التنبيه على أنّ الشخص مهما ارتفع وعلا يمكن صدور الهفوات منه، وإن كان مستقيم الاعتقاد، فما بالك بأمثال ابن بكير الذي أنكر الإمام من بعد سيده وأُستاذه وإمامه جعفر بن محمّد الصادق عَلیهِماالسَّلام ؟! فلا وجه حينئذٍ لاستبعاد صدور مثل هذا السؤال عن ابن بكير.

ص: 109


1- مجلة نصوص معاصرة، العدد التاسع: ص255.

وثانياً: على أنّ الاستبعاد لا يُعدُّ دليلاً على ردّ الرواية؛ لأنّ المدار على الدليل، لا على الاستحسان والذوق، فما دام الشيء ممكن الحصول في نفسه فلا مانع من تحققه بعد قيام الدليل عليه، ولا يدفعه الاستبعاد.

وثالثاً: لا وجه للاستبعاد في جواب الإمام الصادق عَلیه السَلام ، فإنّ الإمام كان بصدد بيان مقام ومنزلة الإمام الحسين عَلیه السَلام ، وهذا موضوع لا بدّ أن يُعظَّم ويذكر بأجلّ الكلمات.

النصّ الرابع: رواية مسمع بن عبد الملك كردين البصري، قال: قال لي أبو عبد الله عَلیه السَلام :«يا مسمع، أنت من أهل العراق، أما تأتي قبر الحسين عَلیه السَلام ؟ قلت: لا، أنا رجلٌ مشهورٌ عند أهل البصرة، وعندنا مَن يتَّبع هوى هذا الخليفة، وعدوّنا كثير من أهل القبائل من النصّاب وغيرهم، ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند وُلد سليمان؛ فيمثّلون بي. قال لي: أفما تذكر ما صُنع به؟ قلت: نعم. قال: فتجزع؟ قلت: أي والله، واستعبر لذلك حتّى يرى أهلي أثر ذلك عليّ، فأمتنع من الطعام حتّى يستبين ذلك في وجهي. قال: رحم الله دمعتك، أما إنّك من الذين يُعدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا، ويأمنون إذا أمنّا... وإنَّ الموجَع قلبه لنا يفرح يوم يرانا عند موته... وإنّ الكوثر ليفرح بمحبنا... أما إنّك يا كردين ممَّن تُروى منه، وما من عين بكت لنا إلّا نُعِّمت بالنظر إلى الكوثر، وسقيت منه مَن أحبّنا، وإنّ الشارب منه ليُعطى من اللذة والطعم والشهوة له أكثر مما يُعطاه مَن هو دونه في حبّنا، وإنّ على الكوثر أمير المؤمنين عَلیه السَلام ، وفي يده عصا من عوسج، يحطِّم بها أعداءنا، فيقول الرجل منهم: إنّي أشهد الشهادتين. فيقول: انطلق إلى إمامك فلان فاسأله أن يشفع لك. فيقول: يتبرأ منّي إمامي الذي تذكره. فيقول: ارجع إلى ورائك فقل للذي كنت تتولاه وتُقدِّمُه على الخلق فاسأله إذا كان خير الخلق عندك أن يشفع لك، فإنّ خير الخلق حقيقٌ أن لا يُردَّ إذا شُفِّع. فيقول: إن أهلك عطشاً. فيقول له:

ص: 110

زادك الله ظمأً، وزادك الله عطشاً. قلت: جُعلتُ فداك، وكيف يقدر على الدنو من الحوض ولم يقدر عليه غيره؟ فقال: ورعٌ عن أشياء قبيحة، وكفٌّ عن شتمنا أهل البيت إذا ذكرنا، وترك أشياء اجترى عليها غيره، وليس ذلك لحبّنا ولا لهوى منه لنا، ولكن ذلك لشدة اجتهاده في عبادته وتدينه، ولما قد شغل نفسه به عن ذكر الناس، فأمّا قلبه فمنافق، ودينه النّصب باتباع أهل النّصب وولاية الماضين وتقدّمه لهما على كلِّ أحد».

وقد علّق الكاتب على هذه الرواية بقوله: «لا يتعارض مطلع الرواية مع المعهود من نصوص الأئمّة علیهم السلام ، إلّا أنّه سرعان ما ينحرف محتوى النصّ عن مساره ليقترب من ملامح الوضع والافتعال، حتّى يطغى على القسم الأخير من الرواية تناقضٌ واضحٌ في المضمون... فكيف يُمكن فرض شخص متديِّن ورع عن القبائح، وكافٍّ عن عداء أهل البيت علیهم السلام ، ثُمّ يكون في داخله منافق؟! وهو من التديُّن بمنزلةٍ تُوصلُه إلى حدود الحوض، فيُكلِّم أمير المؤمنين، وهذا لا يتوافق مع صفة النفاق إطلاقاً. ولو فرضنا جدلاً بوجود رجل موالٍ لشخصين - حسب الرواية - فإنّ ذلك نابعٌ عن جهله وقصوره، وهو أمرٌ لا يستوجب غضب أمير المؤمنين له؛ بحيث يتسبّب بشدة الجوع والعطش... إذاً؛ فهذه الرواية أيضاً لا يمكن نسبتها للإمام الصادق عَلیه السَلام ، بل يُرجَّح أن تكون هي الأُخرى من نسج خيال عبد الله...»(1).

وهنا بعض الملاحظات على كلام الكاتب:

أولاً: إنّ الكاتب لم يُفرِّق بين مقامي النّصب الفقهي والنّصب العقائدي، وللتفريق بينهما لا بدّ من التذكير بمقام الإمامة الإلهية وبمنزلة أهل البيت علیهم السلام ؛ حتى يتّضح ما يترتب على إنكار إمامتهم علیهم السلام ، فإنّه قد يوجد - وللأسف - مَن يُدافع عن

ص: 111


1- مجلة نصوص معاصرة، العدد التاسع: ص255 - 257.

المخالفين الرافضين لإمامة أهل البيت علیهم السلام ، وإن كان على حساب الآيات والروايات الواردة عن أهل العصمة والطهارة علیهم السلام ، وقد نسوا أو تناسوا كلام السيدة الزهراء عَلیهاالسَلام حينما خاطبت المهاجرين والأنصار بقولها: «حتّى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ظهرت خُلَّة النفاق وسَمُل جِلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين ونبغ حامل الآفلين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخاً بكم، فوجدكم لدعائه مستجيبين، وللغرّة فيه ملاحظين، فاستنهضكم فوجدكم خِفافاً، وأجمشكم فألفاكم غضاباً... زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا، وإنّ جهنم لمحيطةٌ بالكافرين، فهيهات منكم! وأنّى بكم، وأنّى تؤفكون، وهذا كتاب الله بين أظهركم، وزواجره بينة، وشواهده لائحة، وأوامره واضحة، أرغبةً عنه تُدبرون، أم بغيره تحكمون؟! بئس للظالمين بدلاً، ومَن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين... وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون؟! ومَن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون؟! ويهاً معشر المهاجرين، أأُبتزُّ إرث أبي؟! أفي الكتاب أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئاً فرياً...»(1).

فإنّ الباعث على تسويد هذه الكلمات من قِبل الكاتب هو عدم اطّلاعه - بناءً على حُسن الظن - على روايات الإمامة ومقام أهل البيت علیهم السلام ، لذلك سنورد جملة من الروايات الصحيحة المبينة لذلك، لعلّها تنفع القارئ وترفع الغشاوة عن عين الكاتب.

منها: رواية الكليني في الكافي بسنده، عن زرارة، قال: «قلت لأبي جعفر عَلیه السَلام : أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟ فقال: إنّ الله عزّ وجلّ بعث محمّداً‘ إلى الناس أجمعين رسولاً وحجةً على جميع خلقه في أرضه، فمَن آمن بالله وبمحمّدٍ رسول الله واتّبعه وصدّقه، فإنّ معرفة الإمام واجبة عليه، ومَن لم يؤمن بالله

ص: 112


1- ابن طيفور، بلاغات النساء: ص14.

وبرسوله ولم يتبعه ولم يصدقه ويعرف حقهما، فكيف يجب عليه معرفة الإمام، وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقهما؟! قال: قلت: فما تقول فيمَن يؤمن بالله ورسوله ويصدق رسوله في جميع ما أنزل الله، يجب على أولئك حق معرفتكم؟ قال: نعم، أليس هؤلاء يعرفون فلاناً وفلاناً؟! قلت: بلى. قال: أترى أنّ الله هو الذي أوقع في قلوبهم معرفة هؤلاء؟! والله، ما أوقع ذلك في قلوبهم إلّا الشيطان، لا والله، ما ألهم المؤمنين حقنا إلا الله عزّ وجلّ»(1).

ومنها: بسنده أيضاً عن أبي حمزة، قال: «قال لي أبو جعفر عَلیه السَلام : إنّما يعبد الله مَن يعرف الله، فأمّا مَن لا يعرف الله فإنّما يعبد هكذا ضلالاً. قلت: جُعلت فداك فما معرفة الله؟ قال: تصديق الله عزّ وجلّ وتصديق رسوله‘ وموالاة علي عَلیه السَلام ، والائتمام به وبأئمة الهدى علیهم السلام والبراءة إلى الله عزّ وجلّ من عدوهم، هكذا يُعرف الله عزّ وجلّ»(2).

ومنها: بسنده أيضاً، عن أبي جعفر عَلیه السَلام قال: «بُني الإسلام على خمس: الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، ولم ينادَ بشيء ما نُودي بالولاية يوم الغدير»(3).

ومنها: ما في الكافي بسنده عن عيسى بن السري، قال: «قلت لأبي عبد الله عَلیه السَلام : أخبرني بدعائم الإسلام التي لا يسع أحداً التقصير عن معرفة شيء منها، الذي مَن قصر عن معرفة شيء منها فَسد دينه ولم يقبل [الله] منه عمله، ومَن عرفها وعمل بها صلح له دينه وقُبل منه عمله، ولم يضق به مما هو فيه لجهل شيء من الأُمور جهله؟

فقال: شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان بأنّ محمّداً رسول الله‘، والإقرار بما

ص: 113


1- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص181، باب معرفة الإمام والرد إليه. والرواية صحيحة السند
2- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص180، باب معرفة الإمام والرد إليه. والرواية صحيحة السند
3- المصدر السابق: ج2، ص21، باب دعائم الإسلام. والرواية حسنة الإسناد.

جاء به من عند الله، وحقٌّ في الأموال الزكاة، والولاية التي أمر الله عزّ وجلّ بها، ولاية آل محمّد‘. قال: فقلت: هل في الولاية شيءٌ دون شيء فضلٌ يُعرف لِمَن أخذ به؟ قال: نعم، قال الله عزّ وجلّ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(1)، وقال رسول الله‘: مَن مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية... والأرض لا تكون إلّا بإمام... وأحوج ما تكون إلى ما أنت عليه إذا بلغت نفسك هذه - وأهوى بيده إلى حلقه - وانقطعت عنك الدنيا تقول: لقد كُنت على أمرٍ حَسنٍ»(2).

ومنها: ما في بصائر الدرجات بسنده عن أبي الحسن عَلیه السَلام ، قال: «ولاية علي مكتوب في جميع صحف الأنبياء، ولن يبعث الله نبيّاً إلا بنبوة محمّد‘ وولاية وصيه علي عَلیه السَلام »(3).

ومنها: ما في الكافي بسنده عن إسماعيل الجعفي، قال: «دخل رجل على أبي جعفر عَلیه السَلام ومعه صحيفة، فقال له أبو جعفر عَلیه السَلام : هذه صحيفة مخاصم يسأل عن الدين الذي يُقبل فيه العمل. فقال: رحمك الله، هذا الذي أُريد. فقال أبو جعفر عَلیه السَلام : شهادة أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً‘ عبده ورسوله، وتُقرُّ بما جاء من عند الله، والولاية لنا أهل البيت، والبراءة من عدونا والتسليم لأمرنا...»(4).

قال العلامة المجلسي معلّقاً: «ولا ريب في أنّ الولاية والاعتقاد بإمامة الأئمّة علیهم السلام والإذعان لها من جملة أُصول الدين، وأفضل من جميع الإعمال البدنية؛ لأنّها مفتاحهن، أي: بها تُفتح أبواب معرفة تلك الأُمور وحقائقها، وشرائطها وآدابها، أو مفتاح قبولهن. والوالي - أي الإمام المنصوب من قِبل الله - هو الدليل عليهن، يدلُّ من قِبل

ص: 114


1- سورة النساء: آية59
2- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص19-21، باب دعائم الإسلام. وقال المجلسي في مرآة العقول: ج7، ص108، (صحيح بسنديه)
3- الصفّار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات: ص92. والرواية صحيحة الإسناد
4- الكليني، الكافي: ج2، ص23، باب دعائم الإسلام. والرواية صحيحة الإسناد

الله الناس على آدابهم وأحكامها، والعمود الخشبة التي يقوم عليها البيت»(1).

وفي كلام العلاّمة المجلسي جواب كافٍ في دفع كلام الكاتب، وبيان الوهم الذي وقع فيه.

وهنالك روايات كثيرة تتحدث عن الإمامة، ومنزلة الإمام، ودوره وموقعه في دائرة الدين الإسلامي، فما نقلناه جزءاً يسيراً، ومَن شاء فليراجع أبواب معرفة الإمام وغيرها، في الكافي وغيره.

وبذلك يتبين أنّ الأصل في الإيمان الإتيان به كاملاً، وهو الإيمان بالله ورسوله والأئمّة علیهم السلام ، فمَن آمن بهم قُبل عمله، ومَن لم يؤمن بهم لا يُقبل منه عملٌ، حتّى لو حصلت له العصمة العملية عن الوقوع في الذنوب، وأتى بكل الواجبات؛ لأنّ الله وعد المؤمنين بالثواب، والمؤمن لا يكون كذلك إلّا بالإيمان بالإمام، فكما عرف الشيخين وآمن بهما، يسعه معرفة الإمام والإيمان به، إلّا أنّه اعتمد على الشيطان - كما قال الإمام عَلیه السَلام - وقلَّده أمره فسار خلفه؛ لذلك قال الإمام عَلیه السَلام : «... دينه النّصب باتّباع أهل النصب، وولاية الماضين، وتقدّمه لهما على كل أحد»(2)، فالنّصب هنا نصبٌ اعتقادي وليس فقهياً، وهذا ما لم يفهمه الكاتب، فإنّ النّصب يختلف بحسب الحالة، فالنصب الفقهي هو المدار في الإسلام وعدمه، والطهارة والنجاسة، وهو يُعرَّف بأنّه التدين بِبُغض أهل البيت علیهم السلام ، قال السيد الخوئي: «وهم الفرقة الملعونة التي تنصب العداوة وتُظهر البغضاء لأهل البيت علیهم السلام ، كمعاوية ويزيد(لعنهما الله) ولا شُبهة في نجاستهم وكفرهم...»(3).

ص: 115


1- المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول: ج7، ص102 - 108.
2- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص206.
3- الخوئي، أبو القاسم، كتاب الطهارة: ج2، ص75.

وهؤلاء يترتب عليهم الخروج من الإسلام والحكم بكفرهم ونجاستهم وعدم التزويج منهم وتوريثهم.

وأمّا النّصب العقائدي، فهو غير النّصب الفقهي؛ إذ النّصب العقائدي هو موالاة أعداء أهل البيت علیهم السلام ، وعدم التبرِّي منهم، وإن أحب أهل البيت علیهم السلام ، وهذا ما أشارت إليه الرواية المتقدمة حينما سأله أبو حمزة عن معرفة الله تعالى، فقال: «والائتمام به وبأئمة الهدى علیهم السلام والبراءة إلى الله عزّ وجلّ من عدوِّهم. هكذا يُعرف الله عزّ وجلّ»(1).

ثانياً: قد تبيّن بما تقدم سبب عدم سقي الإمام علي بن أبي طالب عَلیه السَلام له؛ لأنّه أنكر دين الله تعالى، ولم يعرف ربه، ولم يؤمن به؛ فلذلك لا يكون ممن يدخل ضمن الوعد الإلهي بإثابة المحسنين، وهو يعتقد بإمامة أبي بكر وعمر، فلا معنى لأن يطلب السقي والارتواء ممن جحده وأنكره، وهو ساقي حوض الكوثر، والذائد عنه المنافقين كما تُذاد الإبل الغريب عن حوضها.

وثالثاً: فقد أجاب الإمام عَلیه السَلام عن السبب الذي أوصل هكذا شخص إلى حوض الكوثر، وهو أنّه كان يتورع عن شتم أهل البيت علیهم السلام ، وأنه تارك لأشياء قبيحة؛ فلأجل ذلك منّ الله عليه بأن جعله ينظر إلى حوض الكوثر، إذ إن الاقتراب والنظر إلى الحوض في حد ذاته كرامة ونعمة وتفضل من الله تعالى على عباده، أمّا الشرب فهو الفوز والفلاح؛ لأنّ الشارب من ماء الكوثر سيرتوي إلى آخر عمره ولا يظمأ أبداً.

ورابعاً: قد تبيَّن أيضاً سبب غضب أمير المؤمنين عَلیه السَلام ؛ لأنّ هذا الشخص ترك علياً عَلیه السَلام ووالى غيره، فقد جاء شيئاً فريّاً، وكلُّ ذلك كان باختياره وانتخابه؛ إذ كيف يقدم أبا بكر وعمر على علي بن أبي طالب عَلیه السَلام ، فهذه بذاتها ترك للحق الذي أمر به الله ورسوله، ونكرانٌ للجميل الذي قدّمه الإمام عَلیه السَلام إلى الإسلام، وهو القائل:

ص: 116


1- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص180، باب معرفة الإمام والرد إليه

«فأخرجنا الله إليهم رحمةً، وأطلعنا عليهم رأفةً، وأسفر بنا عن الحجب، نوراً لِمَن اقتبسه، وفضلاً لِمَن اتّبعه، وتأييداً لِمَن صدّقه، فتبوؤا العزَّ بعد الذلة، والكثرة بعد القلة، وهابتهم القلوب والأبصار، وأذعنت لم الجبابرة وطوائفها، وصاروا أهل نعمةٍ مذكورة، وكرامةٍ ميسورة، وأمنٍ بعد خوف، وجمع بعد كوف(1)، وأضاءت بنا معد بن عدنان، وأولجناهم باب الهدى، وأدخلناهم دار السلام، وأشملناهم ثوب الإيمان، وفلجوا بنا في العالمين، وأبدت لهم أيام الرسول آثار الصالحين، من حامٍ مجاهد، ومصلٍّ قانت، ومعتكفٍ زاهد، حتّى إذا دعا الله عزّ وجلّ نبيّه‘، ورفعه إليه، لم يكن ذلك بعده إلا كلمحةٍ من خفقة، أو وميضٍ من برقة، إلى أن رجعوا على الإعقاب، وانتكصوا على الأدبار، وطلبوا بالأوتار، وأظهروا الكتائب، وردموا الباب، وفلوا الديار، وغيّروا آثار رسول الله‘، ورغبوا عن أحكامه، وبعدوا من أنواره، واستبدلوا بمستخلفه بديلاً اتخذوه، وكانوا ظالمين، وزعموا أنّ مَن اختاروا من آل أبي قحافة أوْلى بمقام رسول الله‘ ممن اختار رسول الله‘ لمقامه... ألا وإنَّ أول شهادة زور وقعت في الإسلام شهادتهم أنّ صاحبهم مستخلَف رسول الله‘... وعن قليلٍ يجدون غبَّ ما يعملون، وسيجدون التالون غبَّ ما أسّسه الأوّلون...» (2).

فلا حقٌّ لهم عند أمير المؤمنين عَلیه السَلام ، وهو مخيَّر في سقيهم من عدمه، فإن فعل فمن فضله وإحسانه، وإن رفض فمن عدله وإنصافه؛ لأنّهم أخّروه واجترأوا عليه.

نتيجة ونقاش:

قال الكاتب في: «نتائج: بات واضحاً - من خلال ما تقدم - المآرب المريضة لدى المعاندين المناهضين لثقافة عاشوراء ومبدأ الإمامة، ومساعيهم في تحريفها من خلال

ص: 117


1- الكوف: النفرة والتقطع.
2- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج8، ص28- 29.

دسّ الأحاديث الموضوعة والنصوص المحرَّفة، وهذه حقيقة تجعل نصب أعيننا الأُمور التالية:

1- إنّ استعاضة حركة عاشوراء الحماسية بمظاهر البكاء والاستكانة، وتحولها إلى بضاعة وتجارة مقايضة بالجنّة هي من أهداف أعداء عاشوراء المشؤومين.

2- لا بدَّ في فكر عاشوراء وثقافتها الالتزام بالتثبّت من صحة الروايات أو عدمها قبل تداولها، وإنّ دافع المظلومية والبكاء وتحريك الأحاسيس ليس معياراً كافياً في نقل الأحاديث.

3- هناك روايات غير صحيحة بين طيّات الحوادث التاريخية قد يتناقلها حتى الأعلام من الرجاليين والفقهاء كابن قولويه؛ لذا يجب أن لا تكون مؤلفاتهم بمنأى عن النقد والتحقيق»(1).

فنناقش ونقول:

أولاً: لاحظنا فيما تقدم أنّ الروايات التي ضعّفها مؤيدة بأسانيد أُخرى صحيحة ومستفيضة، بل يصل بعضها إلى حد التواتر، فالأجدر به مراجعة قراءته للأحاديث من جهةٍ، والاطلاع على علم الرجال والجرح والتعديل من جهةٍ أُخرى، ثم بعد ذلك يحكم بالمآرب المريضة عند بعض رواة الشيعة الذين حكم عليهم بهذا الحكم القاسي، والمجانب للحق والحقيقة، والذي سوف يتحمّل تبعاته في المستقبل.

وثانياً: إنّ الكاتب قاصرٌ - إن لم نقل: مقصّر - في فهم الإمامة الإلهية كما لاحظنا؛ حيث استبعد عدم الإيفاء للمخالف بالوعد مع التزامه وعدم عدائه لأهل البيت علیهم السلام ، وكيف أشفق عليه، مع أنّ الروايات المتواترة تنصُّ على أنّ الإمامة الركن

ص: 118


1- نصوص معاصرة، العدد التاسع: ص259.

الأصيل في الدين؛ وإنكارها مستلزمٌ للجهل بالله سبحانه وتعالى، ولا تنفعه صلاة ولا صوم ولا حج، بل وجملة من الأخبار تُكفّر مُنكر الإمامة، فالأحرى به مراجعة فهمه لمعنى الإمامة ودراستها من جديد؛ لتصحيح اعتقاده بها، ثم بعد ذلك ليحكم على مَن حرَّف الإمامة بما حكم.

وثالثاً: ما ذنبنا إذا وردت الأخبار الصحيحة والمستفيضة عن أهل بيت النبيّ علیهم السلام بالحثّ على البكاء، واستذكار عاشوراء، والاستعبار وذرف الدموع أو التباكي، وأنّ الفاعل يحصل على الثواب الجزيل، والخير الوفير، والسعادة والسرور، والحشر مع أهل البيت علیهم السلام . فإذا أراد الكاتب الاعتراض فليعترض على الأئمّة علیهم السلام ، وليعترض على النبي الأكرم‘ وعلى علي وفاطمة والحسن علیهم السلام الذين بكوا الحسين قبل مقتله وشهادته، وليس ذلك إلّا حزناً عليه وألماً لما يلمّ به وبأهل بيته علیهم السلام ، وليس لأجل قضيّة سياسيّة أو مشروع دولة، كما رام الكاتب ذلك من خلال تصوير البكاء والحزن مسألة مبتذلة أو تجارة كاسدة.

ثُمَّ مَن قال: إنّ هذه الروايات والأخبار تحوِّل قضية الإمام الحسين عَلیه السَلام إلى تجارة؟! فهذا تصوّر الكاتب بذهنه القاصر أو المُقصّر، ثم لو كان هناك مَن يتاجر بذلك فما ذنب الإمام الحسين عَلیه السَلام والباكين عليه؟! فهذا يشبه حال مَن يقول: لا نؤمن بالله تعالى؛ لأنّ المخالفين آمنوا، ولا نؤمن بعيسى عَلیه السَلام ؛ لأنّ النصارى يؤمنون به. وهو مضحك للثكلى.

ورابعاً: لم يدَّع أحد أنّه لا ضرورة من التثبُّت من صحة الروايات، فالكل مُجْمع على ضرورة هذا الأمر، ولكن لو كانت الروايات متكثرة، وكثيرٌ منها بأسانيد صحيحة، فلا سبيل إلى إنكارها بسبب ضعف أسانيد بعضها، ومَن يفعل ذلك فهو الجاهل أو المُغرض.

ص: 119

وخامساً: لم يدَّع أحد من المتعلّمين - فضلاً عن العلماء والمحقّقين - أنّ مصادرنا الحديثية لا يجوز البحث فيها والنقد.

نعم، هناك مَن ادَّعى صحة أسانيد الكتب الأربعة بالخصوص أو الكافي فقط، إلّا أنّ هذا لا يعني العمل بجميع رواياتها، بل هي قابلة للنقاش، بل حتى هذه الدعوى نُسخت، واستقر الرأي على ضرورة متابعة جميع الأسانيد وفي أي كتاب.

وهذا الكاتب الناشئ يصوّر للقارئ أنّه هو صاحب هذا الفتح العلمي الذي غاب عن كبار العلماء، فيا هذا، نسألك: مَن الذي منع التحقيق والتثبت في المسائل التاريخية، بل وغير التاريخية - سواء العقائدية أو الفقهية أو غيرهما- حتّى تأتي أنت وتُطالب برفع هذا المنع؟!

ثُمّ إنّ الدعوة إلى التثبت والتحقيق إن كان الغرض منها دعوة مَن هم على شاكلة الكاتب في النّقد والدراسة، فعذراً ثُمّ عذراً. ونقول كما قال الأعمش لأبي حنيفة حينما زاره، فقال أبو حنيفة: «يا أبا محمّد، لو لا التثقيل عليك لزدت في عيادتك. فقال الأعمش: والله، إنّك عليَّ لثقيل وأنت في بيتك، فكيف إذا دخلت عليّ؟!»(1). فكلامك أثقل وقتنا وأضاعه، فكيف إذا ما كتب أمثالك - شخص أو أشخاص -؟! فسيضيع العمر ويذهب هدراً في مراجعة الأخبار والآثار بعدكم، وتوضيح أوَّليات علم الحديث وفقهه لأمثالكم.

ص: 120


1- ابن عبد البرّ، جامع بيان العلم وفضله: ج2، ص157.

دِرَاسَاتٌ في تارِيخ وَتُرَاثِ النَهضَةِ الحُسَينِيَّة

اشارة

*مراسيم العزاء الحسيني

قراءة نقدية في مذكرات الأجانب

*مسلسل الحسن والحسين عَلیهِماالسَّلام

التشويه المتعمد للحقائق التاريخية

ص: 121

ص: 122

مَراسیمُ العَزاء الحُسَیني قِرَاءَةٌ نَقدِیَّةٌ في مُذَکرّاتِ الاَجَانِب الشيخ رسول جعفريان ترجمة: حيدر الأسدي

اشارة

*مَراسیمُ العَزاء الحُسَیني قِرَاءَةٌ نَقدِیَّةٌ في مُذَکرّاتِ الاَجَانِب(1)

إنّ هذا البحث يرمي - کما هو واضح من عنوانه - إلى استعراض ودراسة ما جاء في مذکرات الأجانب حول مراسيم العزاء الحسيني في إيران بالخصوص، أيّام شهر محرّم الحرام.

وبطبيعة الحال، لا يمكننا في هذا المختصر الوجيز بيان کلّ ما جاء في مذکراتهم ورحلاتهم حول مراسيم العزاء في شهر محرّم؛ لأنّ ذلك يستدعي منّا تأليف موسوعة مستقلّة، وهو خارج عن هذا المختصر الذي نحن بصدد بيانه، وفي هذا الضوء سيختصّ بحثنا بنقل ودراسة بعض الرؤى والتصورات في هذا المجال، وربما تخطّينا ذلك وأوردنا جانباً ممّا وقعوا فيه من الأخطاء.

ومن الجدير بالالتفات هو عدم خلوّ معظم تلك المذكّرات والرحلات من ذكر مراسيم العزاء في شهر محرّم، والسبب في ذلك أنّ هذه المراسيم كانت غالباً ما تبعث على دهشتهم واستغرابهم؛ لما تحويه من مفاهيم وجوانب وأبعاد متنوّعة - سواء من جهة الشكل والصورة، أو من جهة المضمون والمحتوى - خصوصاً وأنّ أغلب هذه

ص: 123


1- قامت هيئة التحرير في مجلّة الإصلاح الحسيني بإجراء بعض التغييرات على الترجمة بما يناسب طريقة وأُسلوب المقال باللغة العربية

المذکّرات قد کُتب في العصر الأوربي الحديث، وهو ما يتزامن مع العهد الصفوي وما بعده؛ ولذا تأثّرت بشکل کبير بالفکر الأوربي الحديث، المتأثّر بالنهضة الغربية وفلسفتها الحديثة، التي تنظر إلى العادات والأعراف - بل إلى الفکر ومعتقدات سائر الأُمم - بنظرة مختلفة، تتفاوت عن تصورات العهود الماضية.

وكذا ينبغي الالتفات إلى ضعف إدراك كُتّاب هذه المذكّرات للثقافة والأعراف الإسلاميّة والإيرانيّة؛ فإنّ أغلب هؤلاء هم من السُوّاح والرُّحل الذين لا يمکثون في البلدان إلّا أشهراً معدودة، أو على الأكثر لا يتجاوز بقاؤهم السنة أو السنتين، أو أکثر من ذلك بقليل، فيتعلّمون في أثناء هذه الفترة القليلة شيئاً من اللغة الفارسية؛ ما أدّى إلى عدم اطّلاعهم على واقع الأُمور بشكل صحيح، فكان ذلك سبباً لوقوعهم في الأخطاء والاشتباهات الفاحشة حينما يُقيِّمون ما يشاهدونه، ولا نستبعد التعمّد في ذکر بعض القضايا بشکل مقلوب ومشوّش.

وسوف نستعرض فيما يلي بعض تلك الأخطاء والاشتباهات، سواء فيما يرتبط بشهر محرّم الحرام، أو بعموم المسائل الدينية الأُخرى؛ لتکون شاهداً ومؤيداً لما قلناه، من عدم وعيهم وقلّة فهمهم:

1- ما ذکره (هاردينغ) السفير البريطاني في عهد الملك الإيراني مظفر الدين شاه؛ حيث يكتب في مذكراته - ولمرتين - أنّ زوجة علي عَلیه السَلام هي بنت يزدجرد آخر ملوك الساسانيين في إيران(1)، وهو نفسه وبهذه الرؤية قد تكلّم كثيراً وفي صفحات متتالية عن مراسيم الشيعة، بل وتطرّق لبيان فِرَقِهم ومنظماتهم.

2- ما ذكره (دروويل) - وهو من المؤرِّخين المعروفين - عندما لاحظ منارة أحد المساجد قد تهدَّمت، فکتب: «أمّا منارة المساجد التي تعتبر وسيلة وعلامة

ص: 124


1- السير أرثر هاردينغ، خاطرات سياسي (فارسي): ص80.

لجلب أنظار القريب والبعيد، قد أُهملت وتُرکت ليطالها الهدم والانهيار؛ بسبب حقد الإيرانيين وحسدهم!»(1).

3 - ويقول هذا المؤرِّخ نفسه في موضع آخر: «إنّ الشيعة في إيران قبل الصفوية لا يتجاوز عددهم الثلاث آلاف عائلة!»(2).

4 - کذلك عندما يتعرّض لذکر صلاة الشيعة - مع أنّه کان يمكنه أن يشاهد ذلك من أيّ مكان - يقول: «إنّ الإيرانيين وخلافاً للأتراك - إشارة إلى أهل السنّة في العهد العثماني - کانت صلاتهم من وقوف، وبشکل هادئ وبطيء، ولا يضعون رؤوسهم على الأرض إلّا ثلاث مرات»(3).

5 - كما أنّه قد تطرّق إلى بعض الأحكام الشرعية - ما يظهر جهله أكثر فأكثر - فقال: «إنّ النساء بعد انقضاء العادة الشهرية عند وقت الظهر وبعد الغسل يصلّين ما فاتهن من الصلوات من جلوس»(4).

ثمّ لا يخفى أنّ (دروويل)کان يدّعي أنّه الأكثر دقّة وموضوعية من الآخرين في نقل الوقائع والمعلومات، وکان ينتقد سائر الکتابات الأُخرى في هذا المجال، فيقول: «لکن مع الأسف الشديد في کثير من هذه الموارد کان الاعتماد على الظنّ، والحدْس، والوهم والتقارير الفارغة، أکثر من لحاظ الحقيقة»(5).

ولكنّ هذه المذکّرات مع احتوائها على اشتباهات وأغلاط، لا تخلو من الفائدة،

ص: 125


1- رحلة دروويل (فارسي)، ترجمة جواد محبی، طهران، گوتنبرگ،1337: ص74
2- المصدر السابق: ص116.
3- المصدر السابق: ص126.
4- المصدر السابق: ص127
5- المصدر السابق: ص5.

بل إنّ فيها مطالب فريدة من نوعها، خصوصاً فيما نقلته لنا من وصف مراسيم العزاء في عهد الصفويين؛ حيث وصفت لنا صوراً مفصّلة وجميلة عن مراسيم العزاء الحسيني، من قبيل ذكر الحشود والمجاميع الكبيرة التي تخرج للعزاء، وبيان الهيئة والحال التي هم عليها، وما يُصنع من تمثيل(الشبيه) في ذلك الزمان، ممّا قد لا نجده في زمان ومکان آخر. ونحن اليوم بحاجة لمثل هذه المصادر، خصوصاً لِمَن يريد التحقيق والتدقيق في مثل هذه القضايا.

وکما أسلفنا سابقاً، فإنّ البحث يتمحوّر حول بعض نقولات وكتابات هؤلاء الأجانب والسوّاح، ومن زوايا خاصّة، نستعرضها في إطار العناوين التالية:

السخرية الناتجة عن سوء الفهم

إنّ الرحّالة وأصحاب المذکّرات - مع أنّهم کانوا بمرأى ومسمع ممّا يُقام في مراسيم العزاء كما أسلفنا - لم يستطيعوا وفي موارد كثيرة إدراك عمق بعض تلك الأحداث، فيُعبِّرون أحياناً عن هذه المراسيم بأنّها نوع من اللعب والتسلية، وفي أحيانٍ أُخرى يعبِّرون عنها بأنّها سبب للصراع والجدال.

وعلى سبيل المثال، يكتب (دلاواله) وهو شخص إيطالي کان يعيش في إيران في عهد الملك شاه عباس الأول، وکان مشغولاً بالتبشير المسيحي، وکان مهتمَّاً بالجانب الديني للمجتمع الإيراني، يکتب في مذکّراته حول الملك شاه عباس، فيقول: «إنّ الملك عباس - سواء بلحاظ أُموره الشخصية أو الحکومية - کان مسلماً حقيقياً وراسخ المعتقَد، ولا يمکن أن يتخلّى عن دينه ويعتقد بدين المسيح، إلّا بنزول معجزة من السماء، وأنا أعلم أنّه ثابت ومتعصّب لدينه، ويبذل کل جهوده، وکلّ قواه وما يملك لأجل إعلاء کلمة الإسلام، ولا يتوانى عن ذلك، ولا يُلام على تعصبه؛ لأنّه

ص: 126

معتقِد بأنّه يعمل بوظيفته الدينيّة الشرعية الملقاة على عاتقه، وأتمنّى على ملوکنا أن تكون لهم مثل هذه الشدّة والتعصب في تقوية إيمان العيسويين وعقيدتهم، وأتمنّى أن يتأسّوا ويقتدوا بهذا الرجل»(1).

وقد کتب (دلاواله) عن مراسيم العزاء في محرّم، ودور الملك (شاه) عباس فيها، فقال: «إنّ وزير أصفهان وأمين خزانة الدولة - مع مجموعة من الخيّالة - يتقدَّمون أمام الجمهور على جانبَي ساحة العزاء؛ ليفتحوا الطريق لعبور المجموعات المُعزّية، کي لا تقع بعض المصادمات بين المعزّين التي قد تؤدّي إلى الجرح والموت أحياناً، کما حدث ذلك في أکثر من مرّة سابقاً.

ومع هذا؛ فإنّ الملك (شاه) عباس في بعض الأحيان، ولأجل النزهة والفرجة يدخل بين المجاميع المعزّية، ويخلق بينهم الشجار والصدام، ثمّ ينسلّ سريعاً وبکلّ مهارة إلى خارج المکان (الساحة) ويقف إلى نافذة منزلٍ من المنازل ينظر متفرجاً لما يحدث، ولما تؤول إليه هذه المصادمات من نتائج سيئة!»(2).

إنّ صحّة هكذا فهم من قِبل (دلاواله) محل شك وتأمّل كبيرين، فربما تکون مشاهدته قد صادفت حضور الملك في ذلك اليوم الذي قد وقع فيه صِدام ونزاع بين المعزّين، وإلّا فإنّ إيقاع الشجار والصدام بين المعزّين - وبواسطة الملك نفسه - لا معنى له، ويبقى محلاً للشك والترديد.

ويقول في مکان آخر عند مقارنته بين عزاء الإمام علي عَلیه السَلام في أيام شهر رمضان وعزاء الإمام الحسين عَلیه السَلام في أيام شهر محرّم: «نعم، لا فرق من ناحية الشکل والمضمون بين مراسيم العزاء التي تُقام للحسين، وما يُقام للإمام علي عَلیه السَلام ، إلّا أنّ المراسيم في

ص: 127


1- رحلة ( دلاواله): ج5، ص224.
2- المصدر السابق: ج3، ص42.

عاشوراء أکثر تفصيلاً، وأنّ المجاميع التي تخرج للعزاء تکون أکبر وأعظم، وأكثر حرارةً وإثارة، وعواطف الناس فيها تشتدّ أكثر، ويكون شوقه - شاه عباس - إلى الحرب والعِراك والخشبة والعصا(1) أشدّ وأكثر»(2).

وقد زار إيران شخص آخر يسمى (آنطونيو دوغوه آ) في عام 1011ه-، وهو قسّ إسباني، وقد أظهر فهمه المغلوط عن مراسيم العزاء - أيضاً - عندما کتب: «إنّ لدى الإيرانيين مراسيم تُسمى مراسيم عاشوراء، أو مراسيم شاه (ملك) حسين، وهو الحسين بن علي، وتمتدّ هذه المراسيم إلى عشرة أيام، وخلال هذه الفترة يترکون کل أعمالهم اليومية، لکن لم يتّضح لي أنّ هذه العشرة أيام هل هي عيد أم عزاء؟! لأنّ قسماً من الناس يضحکون ويغنّون ويرقصون، وقسماً آخر يبکون ويأنّون... وفي النهار يجولون في الأزقّة مولولين صارخين، ويقرأون الرثاء مع العزف الموسيقي، وبعض مسلح، والبعض الآخر بلا سلاح، وقسم کبير من الناس يحملون بأيديهم العصي، التي قد يصل طولها إلى خمسة أو ستّة أقدام وبألوان مختلفة، وفي الأغلب ينقسمون إلى مجموعتين، وبتلك العصي يبدؤون بالعِراك والضرب الشديد المؤدّي في بعض الأحيان إلى موت عدد منهم»(3).

العطش في كربلاء وصنع خزانات المياه

إنّ لعطش شهداء كربلاء مكانة خاصّة في مراسيم العزاء عند الشيعة، ويختصّ جانب كبير منها بذکر هذه القضية؛ لما لها من الأثر الروحي الواضح في إثارة العواطف والمشاعر ضد الجيش الأُموي، لکن الأجنبي عندما يشاهد هذا الجانب من المراسيم، فإنّه ينظر إليه من جهة أُخرى جديرة بالتأمّل، يكتب أحدهم حول

ص: 128


1- (الخشبة والعصا) کناية عن حبّه المفرط فی ضرب الناس ومن دون أي سبب.
2- المصدر السابق: ص130- 136، نقلاً عن نصر الله فلسفي (زندگانی شاه عباس أول): ج3، ص7- 8
3- المصدر السابق: ص130- 136، نقلاً عن نصر الله فلسفي (زندگانی شاه عباس أول): ج3، ص7- 8

هذه النقطة، قائلاً: «واحدة من العلل الأساسية لصناعة خزانات المياه وسقاية الناس - التي هي من الأُمور الخيريّة عند الإيرانيين - هي اهتمامهم بقضية عطش الحسين وأصحابه في هذه الواقعة»(1). ومثل هذا الاستنتاج قريب من الواقع؛ فإنّه بالتفاتة بسيطة، ومع ملاحظة ما يوجد على أرصفة الطُرق من مخازن المياه والبرّادات، وما کُتب عليها من عبارات، وما يرتبط بهذا الموضوع ممّا هو متداوَل في الثقافة العامّة عند الناس، يتّضح وبشكل جلي دور العطش في كربلاء وأثره في انتشار ظاهرة تقديم المياه للحشود المعزّية.

مراسيم العزاء والجنبة العاطفية

إنّ إقامة العزاء على الإمام الحسين عَلیه السَلام من الأُمور الأساسية التي نفذت وتجذّرت في أعماق نفوس عموم الناس، وكان لها الأثر الکبير في إيجاد التحوّل والتغيّر في نفوس الشيعة؛ ومن ثَمَّ نجد أنّ تلك المذکّرات تؤکّد على تفاعل الناس الشديد مع هذه المراسيم، وأنّ ذلك نابع من قلوبهم الحَرَّى، فكانوا يبكون بشدّة على شهداء كربلاء وعلى رأسهم الإمام الحسين عَلیه السَلام ، وقد كتب السفير الإسباني في رحلته بهذا الصدد: «إنّ كلام الوعّاظ والخطباء له تأثير كبير بحيث يجعل النساء تبكي بشدّة، ويضربن على وجوههن وصدورهن بأيديهن... وفي أيام العزاء تعلو أصوات البکاء، بحيث يُسمع ذلك في كلّ غرفة من غرف بيت السفير ودهاليزه»(2).

إنّ بعض هؤلاء السائحين - کما ذکرنا سابقاً - قد يصعب عليه إدراك هذا التفاعل الکبير من قِبَل الناس، وما يمارسونه من مراسيم للعزاء والبكاء والنحيب، من أجل حادثةٍ مضى عليها أكثر من ألف عام، وهي قد تبدو في نظر أولئك السوّاح حادثة

ص: 129


1- (دينغار سيا دسيلوا فيغوئروا) سفير فرنسا في إيران في عهد الملك شاه عباس الأول، ترجمة غلام رضا سهيلي (إلى الفارسية)، طهران نشر نور، 1363: ص311.
2- رحلة (فيغوئرا): ص311.

صغيرة، فيدهشهم ما يرونه من الناس من بکاء ونحيب، وبشکل جاد وواقعي؛ ولذا جاء في واحدة من هذه المذکّرات والرحلات: «وفي مثل هذه الأماكن يرقى الخطيبُ المنبرَ، وفي کلّ يوم يتعرّض لذکر شيء من وقائع كربلاء أو ما يرتبط بها، ثمّ يوضِّحها ويعلّق عليها، ثمّ يردد الصوت الحسن مع الاهتزاز والحرکة الكثيرة، وفي الواقع هذا نوع من أداء الکلمات باللحن الموسيقي. وعندما يصل إلى المواضع الحساسة والمؤثّرة، يبدأ بالإثارة لنفسه وللحضور، إلى أن يصل للذروة، فيبدأ بالبکاء مع الحاضرين - حقيقةً أو تظاهراً - وتعلوهم حالة الکآبة والحزن»(1).

إنّ تعبيره عن بكاء الخطيب والحضور ب-(حقيقةً أو تظاهراً) تعبير غير منصف، أو هو نوع من الفهم المغلوط، وقد يکون ناتجاً من عدم تصديقهم وإدراكهم لمثل هذه القضايا؛ فإنّ هذا النوع من مراسيم العزاء للإمام الحسين بن علي عَلیهِماالسَّلام لم يکن له ما يُماثله فيما يتعلَّق بعيسى المسيح عَلیه السَلام ، الذي صُلِبَ وحيداً غريباً، حسب اعتقادهم الذي لا يقبله المسلمون.

من هنا؛ يکتب أحد القساوسة ممّن حضر إحدى المجالس التي أُقيمت للإمام علي عَلیه السَلام ، في وصف هذا النوع من المجالس والبکاء والنحيب: «...إنّ الخطيب إذا ارتقى الکرسي المرتفع [المنبر]، وأخذ يلف رداءه ويجمعه، وبعد أن يخيِّم السكوت والترقُّب على الحاضرين، يبدأ بالوعظ والإرشاد، وقد كان الإنصات والانتباه من قِبل الحاضرين بنحوٍ کنت أتمنّى أن يستمع الحاضرون والمجتمعون في الكنيسة إلى كلامي ووعظي كما ينصت ويصغي هؤلاء لما يقوله الخطيب.

والمسألة المحيِّرة في موعظة هذا الخطيب هي استرساله بالکلام، فقد تکلَّم خمسين دقيقة کاملة وبتواصل، وفي تمام هذه المدّة لم يراجع ورقة أو کتاباً أبداً، ومن اللطيف

ص: 130


1- رحلة (فريزر)، ترجمة منوشهر أميري(إلی الفارسية) طهران، طوس: ص241

أنّ حاله كان يوحي بأنّه مستعدّ للاستمرار في الکلام... وفي أثناء الوعظ، وعندما كان يشير إلى بعض القضايا المؤلمة من الواقعة - شهادة الإمام علي عَلیه السَلام - يصل هيجان الناس إلى أوجه، وتسيل الدموع من أعيُن الجميع بغزارة... وعندما شاهدت هذا الحال، سألت نفسي: حقّاً كم مرّة بكيت لمصيبة وعذاب المسيح؟ وبعد أن استذكرت الماضي وما سبق من ذكريات، فلم أجد ما يدلّ على أنّي قد أقمت العزاء على عيسى المسيح كما يقيمه هؤلاء»(1).

وعندما يصل(هذا القسّ) إلى العزاء والبكاء على الإمام الحسين عَلیه السَلام ، يقول: «عند استماعي لكلمة (الخطيب) ذکَّرني بما تحمّله عيسى المسيح من الآلام والتعذيب لأجل الحرية، وسألت نفسي: هل يجب علينا نحن أتباع المسيح في يوم (الجمعة المباركة) أن نقيم مراسيم نظير المراسيم التي يقيمها المسلمون للحسين؟ ولا شك في أنّ الفارق بين موت الحسين وموت المسيح شاسع جداً، بحيث نحن المسيحيون لا بدّ أن نقول: نعم يا عيسى، ها نحن ذا الذين قتلناك...».

وعلى أيّ حالٍ، فإنّ المسيحيين لم يعهدوا مشاهدة مثل هذه المراسيم للعزاء، وبهذه السعة، بل لم يُعهد مثل هذا الأمر عند سائر الشعوب والملل، والسبب في ذلك هو أنّ ثقافة الشيعة تكوّنت في ظل ظروف المقاومة والشهادة والإباء؛ ما جعل كلّ شيعي يتفاعل ويتعاطف مع شهداء كربلاء بكلّ وجوده وكيانه، ويقول: ليتني كنت مع الإمام الحسين عَلیه السَلام فأنال الشهادةَ والفوز العظيم!

ويكتب أحد القساوسة أيضاً في وصف هذا العزاء والبكاء الشديد - بعد أن أُصِيب بالدهشة والتعجّب ممّا شاهده -: «في بداية الأمر يتراءى لنا أنّنا ننظر إلى أُناس قد أُركسوا في أعماق ظلمة الحزن والأسى، لکن سرعان ما تنجلي هذه الرؤية،

ص: 131


1- القساوسة الإنجليز فی عهد الثورة الإسلامية (فارسي) بال هنت: ص78.

وتنکشف لنا الحقيقة وتتّضح لنا المبالغة الشديدة التي غمرتنا... وإلى جانب المعزّين القريبين منّا يوجد أُناس لا يعيرون أيَّ أهمّية لما يقع أمامهم، وکنّا نرى أُناساً قد سال الدمع على خدودهم، وقد احمرّت صدورهم، بل أُدمِيَت من الضرب واللطم، ثمّ بعد ذلك کانوا يتنحّون جانباً ويشترکون ويتكلّمون مع المحيطين بهم بنشاط وحيوية، ويشربون الشاي معاً، وربما تعاملوا على بيع أو شراء قبضة من المکسَّرات، وکأنّ العزاء لم يکن، وعند رؤية هذه الأُمور يميل حكمنا على هذه التعزية والبكاء إلى التطرُّف، بأن نقول: إنّ إقامة هذا العزاء ما هو إلّا أمر شكلي خالص، وقد تکون هذه الرؤية المتطرِّفة خاطئة كما كانت عليه الرؤية الأُولى»(1).

وقد وردت تعابير عديدة ومتنوِّعة حول مراسيم العزاء التي يقيمها الشيعة، ولا يتيسّر لنا نقل جميعها في هذا المختصر، فنقتصر على الإشارة لبعضها بإيجاز:

فمن تلك التعابير الواردة في هذا المجال: «... إنّ فصاحة وبلاغة هؤلاء الخطباء تؤثِّر في المستمعين وتبكيهم إلى حدٍ كبير، بحيث لا يمکن لكلام أيِّ فنان حقيقي من فناني مسرحنا الحزين أن يصل إليه»(2).

ومنها القول: «إنّ أکثر هؤلاء المعزّين يقرحون جباههم ويجرحون أذرعهم وصدورهم بالخناجر، بقلب طاهر وإيمان صادق»(3).

وقد وردت في تلك المذكّرات زوايا وجوانب كثيرة حول عروض التمثيل لواقعة عاشوراء (الشبيه)، فاعتبرها بعضُهم مجرّد عرض ليس إلّا، وعدّها البعضُ الآخر من الآثار الفنّية الفاخرة التي لا تبتعد كثيراً عن الواقع الحقيقي؛ ولذا نرى

ص: 132


1- مشاهدات من إيران، (غرترودبل)، ترجمة بزرگ مهر رياحي (إلى الفارسية): ص46
2- المنازل، الناس والمناظر في إيران: ص193.
3- المصدر السابق: ص194.

(دروويل) بعد أن شاهد إحدى تلك العروض يكتب: «... إنّ رؤية هذا المشهد المثير - الذي لا يقلّ عن الواقعة الحقيقية بشيء - قد أدهشني، والذي زاد تعجُّبي وحيرتي أنّه بعد انتهاء العرض والتمثيل، رأيت الأربعة آلاف فارس الذين اشتركوا في المراسيم - وبدون رعاية النظم والاحتياط، وبعدما جرى بينهم من المبارزة - بکامل الصحّة والسلامة ولم يُجرح أحدٌ منهم قط»(1).

خلود الحسين بن علي عَلیهِماالسَّلام

إنّ مفهوم العزّة في الإسلام له قيمته ومكانته الخاصّة، والذين ينطبق عليهم مفهوم العزّة هم المؤمنون، الذين نذروا أنفسهم للأهداف والمبادئ الدينيّة، وفي ظل جهود هؤلاء نالت الأُمّة الإسلامية العزّة والكرامة، ولا شك في أنّ العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين.

ثمّ إنّه وبعد مرور أكثر من ألف سنة على شهادة الحسين بن علي عَلیهِماالسَّلام ، لم تستطع تلك السنين أن تسلب العزّة من الحسين عَلیه السَلام في هذه الدنيا، ولو أن شخصاً تأمّل فيما يراه أيام محرّم، لعرف سرَّ تلك العزّة؛ لما يراه في قلوب الناس من المعرفة والمحبّة لسيد الشهداء عَلیه السَلام ، ومن المناسب أن ننقل في هذا المضمون ما سطَّره السائح (غرترودبل)، حيث قال: «بعد الظهيرة بقليل ترتفع أصوات المعزّين وتملأ فضاء القرية، حيث يجتمع سكّانها ويشكلون المجاميع، ثمّ يخرجون إلى الشوارع، فيجتازون منطقة خالية متصحِّرة إلى أن يصلوا إلى الشارع الرئيسي، ويصور لنا الألم والحزن - الذي خيَّم على هؤلاء المعزّين - شدّة الاحترام لبطلِهم الشجاع، الذي يرقد في وادي كربلاء منذ اثني عشر قرناً من الزمن، وقد کان احتراماً من نوع خاصّ.

ثمّ إنّ هناك الكثير من الأبطال والشجعان الذين تألّموا وعُذِّبوا بأشدّ ألوان

ص: 133


1- رحلة (دروويل): ص141.

العذاب، وقد تحمَّلوه بکلّ رجولة وبطولة، ولکن لم يخلد منهم إلّا القليل النادر. وإذا کان (الحسين) يتمنّى أن يبقى ذكره إلى الأبد - وهي الأُمنية التي يحملها کلّ شخص قد شارف اسمه على الاندثار - فإنّ موته وبهذا الشکل المفجع، وما أصابه من السهام والنبال في أماكن عديدة من جسده، لم يکن عبثاً، وإذا کانت مراسيم دفنه قبل اثني عشر قرناً قد تمّت بشكل متواضع ومختصر، فإنّ أصداءها لا زالت مدويةً عِبرَ القرون وإلى يومنا هذا»(1).

ثمّ إنّ هناك كلاماً آخر حول مراسيم العزاء ذكره أحد المؤرِّخين البريطانيين المعاصرين، وهو يصف ما شاهده قبل الثورة الإسلامية، وكان قد كتبه بعد انتصارها، فقال: «... إنّ ما شاهدته خلال ذلك اليوم قد أدهشني، وکنت مستغرباً أيّما استغراب، وأنا أرى مصيبة الحسين وشهادته، قد سرت إلى هذا الحدّ في شرايين الإيرانيين وتجذَّرت في أعماق نفوسهم، والناس تعتقد بأنّ لمصيبة الحسين - والآلام التي عاناها قبل الموت - قوّة وقدرة أعلى وأکبر من قوّة السلاح، والکلّ موقن بأنّ شهادة الحسين أثبتت أنّ قوّة الحقّ والحقيقة قادرة على مواجهة الباطل والانتصار على قواه العسكرية، وباعتقادي أنّ من المحال أن نجد أحداً قد شاهد مراسيم العزاء في ذلك اليوم وفي سوق أصفهان الکبير بالتحديد، ثمّ يتعجّب کيف حدثت ثورة في إيران وبهذا الحجم، قد هزّت وزلزلت العالم بأسره؟! الثورة التي أثبتت أنّ الشهادة والتضحية بالدماء تمهد للانتصار»(2).

صور ومشاهد حول كيفيّة إقامة مراسيم العزاء الحسيني

إنّ السائح الإيطالي (دلاواله) الذي زار إيران في عهد الملك شاه عباس الأول،

ص: 134


1- مشاهدات من إيران، (غرترودبل)، ترجمة بزرگ مهر رياحي (إلى الفارسية): ص43
2- القساوسة الإنجليز فی عهد الثورة الإسلامية: ص107.

كتب حول مراسيم عزاء عاشوراء، قائلاً: «إنّ کيفيّة مراسيم العزاء في عاشوراء تكون بالنحو التالي: يبدو على الجميع حالة من الغمّ والحزن، وقد ارتدوا ملابس العزاء، ذات اللون الأسود، وهو لون الملابس التي لا تلبس إلّا في مثل هذه المناسبات، وفي مثل هذه الأيام لا يحلقون شعر رؤوسهم ولا لحاهم ولا يذهبون إلى الحمام، بالإضافة إلى هذا، فإنّهم ليس فقط لا يرتكبون المعاصي والذنوب، وإنّما يمنعون أنفسهم من کلّ ألوان الفرح والتسلية، وکثير من المتسوِّلين (1) في أزقّة المدينة المزدحمة يدخلون أنفسهم في الجرار التي صنعت من الطين المفخور ودُفنت في الأرض، فيُدخلون بدنهم في داخلها بالكامل، بل وبعض رؤوسهم أيضاً، حتى يخيّل للناظر عندما يراهم بأنّهم قد دُفنوا تحت الأرض، ويستمرون على هذه الحالة من طلوع الشمس إلى غروبها، بل وإلى منتصف الليل... وهناك مجموعة أُخرى تخرج في الساحات والأزقّة وأمام بيوت الناس، وهم عُراة إلّا من قطعة قماش صغيرة سوداء أو کيس غامق اللون يسترون به العورة، وقد طُليت أجسامهم من الرأس إلى القدم بمادّة سوداء لامعة - وهي نظير ما نستعمله في طلاء غمد السيف أو المعادن الأُخرى - کلّ ذلك لإبراز الحزن وحجم المصيبة وشدّة الألم في عزاء الحسين، ومعهم أيضاً جماعة عراة - كهيئتهم - وقد طُليت أجسامهم باللون الأحمر، وهو ما يُعَبِّر عن الدماء التي أُريقت في كربلاء، وعن الأعمال القبيحة التي ارتُكبت في حقّ الحسين، والکلّ يردد الألحان الحزينة في رثاء الحسين وفي ذکر المصائب التي جرت عليه، ويحملون بأيديهم قطعتين من الخشب أو العظام ويضربون الواحدة بالأُخرى، فيرتفع منها الصوت الحزين مع شيء من الحرکة والاهتزاز للرأس والجسم، والتي تُعبِّر عن الحزن والألم الدائم، وإن كانت تشبه الرقص كثيراً.

وفي هذه الحالة والهيئة يحملون بأيديهم أوعية صغيرة، تُقدَّم أمام الجماهير المحتشدة والمحيطة بساحة العرض، يضع فيها الناس النقود بعنوان الصدقة. وعند

ص: 135


1- الدراويش

الظهيرة وفي وسط الساحة التي تجمهر فيها الناس يرتقي المنبر شخصٌ، وفي الأغلب يکون هذا الشخص والخطيب من ذرية محمد، ويلقب في إيران بالسيد (آقا) وعلامته أن يضع على رأسه عمامة خضراء - ويُلقّب هؤلاء الأشخاص في ترکيا بالأمير، وفي مصر بالشريف، ومن الملاحظ أنّ ذراري محمد في ترکيا دائماً يلبسون العِمّة الخضراء، وهذا بخلاف ما رأيته في إيران، فإنّهم لا يلبسونها إلّا في هذا المورد - وقد کان المنبر مُطلاً على جميع الحضور من النساء والرجال، والحضور بين واقف وجالس على الأرض، والبعض اتّخذ له مقعداً صغيراً يجلس عليه، ثمّ يبدأ الخطيب بذکر وصف الحسين، وتفصيل ما جرى عليه من القتل والسبي، والمهم أنّه يبذل کلّ ما بوسعه لإبکاء الحضور.

إنّ هذه المراسيم تُقام عند النهار في المساجد، وأمّا في الليل فإنّها تُقام في الأماكن العامّة وبعض البيوت التي أُنيرت بالأضواء الكثيرة، مع وضع علامات العزاء والأعلام السوداء، وتستمرّ هذه التعازي وذکر المصائب بکلّ قوّة وشدّة، والحضور يبکون بأصوات مرتفعة، خاصّة النساء اللائي يضربن صدورهن، وفي آخر فقرات الرثاء يردد الجميع هذه الکلمات: آه يا حسين... شاه (ملك) حسين...

ثمّ في اليوم الأخير، وهو اليوم العاشر من محرّم، الذي قُتل فيه الحسين وأصحابه (وقد صادف هذا اليوم في هذه السنة الثامن من شهر يناير) يجتمع الناس من كافّة أحياء أصفهان والقرى المجاورة لها - بالشکل الذي ذکرته مسبقاً في مناسبة استشهاد الإمام علي - ويشکّلون عدّة مجاميع، ثمّ يسيرون رافعين معهم الرايات والأعلام، وعلى الخيل تُحمل الأسلحة والعمائم المختلفة، ويُخرجون معهم النوق التي وضع عليها الصناديق(الهوادج)، وفي کلّ واحد من هذه الصناديق ثلاثة من الصِبْيَة وتارةً أربعة، وهذا الأمر يرمز إلى سبي أطفال الحسين الشهيد، إضافة إلى ذلك، فإنّ كلّ مجموعة من تلك المجموعات تحمل نعشاً رمزياً، وقد لُفّ هذا النعش بقطعة من

ص: 136

المخمل الأسود، ويوضع على النعش عادة عمامة خضراء وسيف، وفي أطراف التابوت توضع أنواع الأسلحة - کما ذکرت نحو ذلك سابقاً - وکلّ هذا يُحمل على أطباق تُحمل على الرؤوس، وعندما يبدأ الملحِّن أو العازف بالعزف، يبدأ هؤلاء بالحرکة مع القفز والوثوب والدوران، وبالتبع فکلّ تلك الأطباق تدور معهم، وذلك يخلق منظراً مثيراً»(1).

وكذا يکتب (تاورنيه) - وهو أحد السوّاح الأجانب في العهد الصفوي - قائلاً: «والآن نتحدث حول أکبر المراسيم الدينيّة لدى الإيرانيين، المتعلّقة بالحسن والحسين ابني علي: قبل ذلك اليوم الخاصّ (عاشوراء) بثمانية أو عشر أيام يبدأ المتحمِّسون من الشيعة بِطَلْي أجسامهم باللون الأسود، بعد ما يخلعون جميع ما يلبسون إلّا قطعة من القماش صغيرة يسترون بها عوراتهم، ويحملون في كلّ يد حجراً كبيرة، ويجولون في الأزقّة والطرق ويضربون تلك الأحجار بعضها بالبعض الآخر، وقد عبست وتوتّرت وجوههم وأجسامهم، ويصرخون باستمرار: (حسن حسين، حسن حسين)، ويکررون هذا العمل إلى أن تتعب أفواههم، بحيث تخرج منها الرغوة، ويبقون على هذه الحالة إلى غروب الشمس. وأمّا في الليل، فهناك أُناس مقدَّسون يأتون بهم إلى دورهم وبيوتهم ويطعمونهم أفضل الطعام. وفي هذه الأيام وحينما تغرب الشمس تُنصب المنابر في أغلب الأزقّة والساحات، ويشتغل الوعّاظ بالنصح والإرشاد وتهيئة الناس لذلك اليوم المخصوص... وأنا أكتب تلك المراسيم کما رأيتها رأي العين عام 1667م في الثلاثين من شهر يوليو، وكان قد عيَّن لنا المشرف العامّ ورئيس البلاط الملکي في ذلك اليوم مکاناً جيداً في ساحة العرض، تقابل القاعة الملکية، وأنا وبعض الهولنديين ذهبنا إلى هناك للمشاهدة، وعند الساعة السابعة صباحاً جلس الملك صفي

ص: 137


1- رحلة (بيتر دلاواله) ترجمة شجاع الدين شفا (إلى الفارسية) مؤسسة الترجمة والنشر، 1348: ص123- 126

الثاني - الذي قد غيَّر اسمه إلى الملك سليمان - مع کبار البلاط، على سرير قد وُضع وسط القاعة الملکية، وقد کان جميع الأشراف واقفين، وبعد أن جلس الملك على ذلك السرير خرج من الجانب الآخر (بيگلربيگي)(1)، وقد رکب حصاناً جميلاً مع مجموعة فتيان من أولاد الأشراف والنجباء، وبدأوا بترتيب الناس المتجمهرة... ثمّ أخذ (البيگلربيگي) بإدخال المجاميع المعزّية، وكانت کلّ واحدة من تلك المجاميع تحمل معها نعشاً يرفعه ثمان إلى عشرة منهم، وقد زُيِّن هذا النعش بأنواع الرسوم کالورود والأغصان والشُّجيرات الصغيرة، وجعلوا على کلّ نعش تابوتاً صغيراً ملفوفاً بالقماش الأصفر. وعند دخول المجموعة الأُولى تدخل أمامها ثلاثة من الخيول مزيّنة بالسروج والأحزمة الفاخرة، وتعلو هذه الأحصنة القسي والنبال والسيوف والدروع والخناجر. ولمّا اقتربوا من الملك هرولوا وهم يقفزون ومعهم النعش والتابوت يهتز ويتحرّك بحرکتهم کأنّه في حالة من الرقص، والبعض منهم يرمي بقبعته أو حزامه إلى السماء، ثمّ يعود إليه فيمسکه، وآخرون يجعلون أصابعهم في أفواههم للصفير، وکما ذکرنا سابقاً فإنّ مجموعة أُخرى عُراة يرکضون ويقفزون إلى السماء ويضربون تلك الأحجار بعضها بالبعض، وهم يصرخون: (حسن حسين، حسن حسين) إلى حدّ يکررون هذا العمل حتى أن تتعب أفواههم؛ بحيث تخرج منها الرغوة.

ثمّ إنّ هذه المجموعة بعد أن تدور في الساحة مرتين أو ثلاث، تأتي مجموعة أُخرى وتصنع کما صنعت المجموعة الأُولى من الحرکات والقفز، ويتقدَّمها أيضاً ثلاثة من الخيول، وهي تمثّل الخيل التي يركبها الشهداء عند ذهابهم إلى الحرب، وعند دخول المجموعة الجديدة من المعزّين تتنحّى المجموعة الأُولى إلى جانب؛ لينفتح الطريق أمام المجموعة الجديدة، وفي بعض تلك التوابيت التي تحملها المجاميع تمثال طفل راقد، والناس من حوله يبکون ويتصارخون، وهؤلاء الأطفال تمثّل طفلَي الحسين، الذين

ص: 138


1- يطلق على قائد القوات المسلحة أو أمير الأُمراء.

قبض عليهما وقتلهما خليفةُ بغداد يزيد بعد شهادة الحسين(1).

والنساء - اللاتي حضرن ذلك المکان بأعداد كبيرة من أجل مشاهدة تلك المراسيم - عند رؤيتهن الأطفال يصحنَ ويبکينَ بأجمعهن في آن واحد، وهنّ يعتقدن أنّ هذه الدموع توجب غفران ذنوبهن جميعاً...

وکان إلى جانب قاعة الملك سرير خشبي عالٍ، في أسفل القاعة بخمسة أو ستّة أقدام، وقد وُضعت عليه سجّادة، وعلى ذلك السرير کرسي ذو مقبضين، وعليه قماش أسود وقد ارتقاه خطيبٌ، وحوله ستّة آخرون، وقد تعرّض الخطيب إلى ذکر مصيبة وشهادة الحسن والحسين بمقدار نصف ساعة، وفور انتهائه من الخطبة أهدى الملك إليه حُلّة، وکذلك لأولئك الستّة من الخطباء، لکن حلّة الخطيب المتکلِّم کانت أفضل وأفخر من تلك الحُلل، وبعد أن لبسوا تلك الحُلل الملکية، عاد الخطيب مرّة أُخرى وجلس على الكرسي، وأخذ يدعو لسلامة الملك وطول عمره.

وقد استغرقت هذه المراسيم خمس ساعات، من الصباح حتى الظهر، ثمّ انصرف الملك بعدها ورجع إلى القصر، أمّا الناس والمجاميع المعزّية فقد خرجوا من الساحة وهم يحملون معهم تلك النعوش، يطوفون بها شوارع وأزقّة المدينة...».

ويكتب (فيغوئروا) في مذكراته:

«كان البيت الذي يُقيم فيه السفير بجوار مسجد أصفهان الکبير، وهذا الموقع أتاح لنا الفرصة لمشاهدة المراسيم ومجالس الوعظ والعزاء التي تُقام في هذه الأيام المقدّسة - وهي عشرة إلى اثني عشر يوماً - في کلّ المساجد والأسواق والأماكن العامّة الأُخرى، والتي يشترك فيها النساء والرجال والشيوخ والشباب، وإنّ خطباء

ص: 139


1- يقصد طفلَي مسلم بن عقيل علیه السَّلام .

ووعّاظ هذه المجالس هم من علماء الشريعة... وهم يرتقون المنابر العالية في تلك التجمعات ويتکلَّمون بکلّ حُرقة وحماس ويبيّنون خصوصيات ووصف موت أو شهادة الحسين، إمامهم الکبير...

وجميع النساء من کلّ الأصناف والطبقات، يستمعن بكلّ دقّة وإنصات إلى المجالس التي تقام في المسجد كلّ يوم، والتي يتصدّى لها أفضل وأحسن الخطباء العلماء والفقهاء. وإنّ هؤلاء الخطباء يرتقون منابر عالية شبيهة بما يُرى في الکنائس في مکان الإنشاد؛ بمعنى أنّ هؤلاء الخطباء كأصحاب الوعظ في أوربا، فبعد ارتقائهم ستّ أو سبع مراقٍ من المنبر والجلوس على قمته، يبدأون بوعظ الناس بکلّ شوق وحماس، مستخدمين حركات اليدين والوجه والسواعد وبأشكال مختلفة. وجميع الخطباء يلبسون في هذه الأيام ملابس أكثر احتراماً من ملابسهم في بقية الأيام العادية، فيضعون على الکتفين وعلى الظهر والبطن قطعة کبيرة من القماش الأسود، ويتدلَّى شريط منها إلى القدمين عرضه شبر، ويضعون على العِمّة قطعة قماش سوداء تُغطي کلّ العِمّة تقريباً.

والخطيب في نهاية خطابته يعرج على المصيبة ويذکر القضايا الحزينة، وعمدة تلك القضايا هو الذمّ واللعن ل-مَن غصب الخلافة»(1).

وقد فصّل الكلامَ حول مراسيم محرّم وعاشوراء السفيرُ الفرنسي في إيران (يوجن أوبن) والذي کان سفيراً لفرنسا في عامي 1906- 1907، ونحن نذكر خلاصة نقولاته وتحليلاته:

«وإنّ أيام القتل عند الشيعة أيام مهمّة وحساسة للغاية، وهي الأيام العشرة الأُولى من شهر محرّم، واليوم العاشر منه الذي يصادف فيه شهادة الإمام الحسين، ويوم

ص: 140


1- رحلة (فيغوئرا): ص207 -210

العشرين من صفر وهو يوم أربعين الإمام الحسين، فإنّ هذه الأيام من أهمّ أيام العزاء، ويضاف إلى ذلك أيام السابع والعشرين والثامن والعشرين والتاسع والعشرين من شهر صفر، لما فيها من ذکرى وفاة الإمام الرضا والإمام الحسن والنبي؛ لأجل ذلك فإنّ شهرَي محرّم وصفر أشهُر الحزن والألم من أوّلها إلى آخرها، ولا تُقام خلال هذين الشهرين أيّ مراسيم للفرح والسرور... والجنود يحملون بنادقهم بالمقلوب، والسادة يلبسون الملابس السوداء، وفي هذه الأيام تُکسى جدران المساجد بالحلل السوداء، وفي أغلبها يصعد الخطباء والوعّاظ المنابرَ لذِکر أحداث واقعة کربلاء.

والجدير بالذکر أنّ الخطباء والوعّاظ يصنَّفون من علماء الشيعة وروحانييهم، وهم أعلى من طبقة قرّاء المصائب والسير؛ فإنّ هؤلاء القرّاء في الحقيقة هم رواة للأحداث والوقائع فقط، ويقرأونها على الناس بلحن خاصّ، وأمّا الخطباء والوعّاظ فهم من سلك العلماء المتبحِّرين في الدراسة وتفسير القرآن والحديث والتاريخ، ولهم الباع الطويل في فن الخطابة والوعظ، وباستطاعتهم التحدُّث في الأُمور الدينيّة والأخلاقية، وأحياناً في السياسة أيضاً؛ ولهذا تجتمع المجاميع الغفيرة للاستماع إليهم، وقد انحصر وجود مثل هؤلاء الخطباء في المدن الکبيرة، والبعض منهم قد وصل إلى ذروة الشهرة بين الناس... ولا يخفى أنّ الخطباء المشهورين لهم القدرة - کقرّاء المصائب والسير- على إبکاء الناس ولا يغفلون عن ذلك. ومهما کان الکلام، فإنّه مجرّد الإشارة إلى صعيد كربلاء يكفي لأن تعلو أصوات الإيرانيين بالبکاء والنحيب.

والخطيب - حسب ما يقتضيه المقام - ينتخب آية من القرآن ويتلوها، ثمّ يترجم کلماتها إلى الفارسية، وبعد ذلك يشرع في تفسير الآية، وفي النهاية يختم الکلام بذکر شيء من كتب المقاتل التي تختصّ بذكر تفاصيل وجزئيات حياة الشهداء وتاريخهم، فينتخب واقعة - حسب مناسبة اليوم - ويتلوها على الحضور، وأكثر هذه الوقائع

ص: 141

ترتبط ببيان حياة وشهادة الأئمة الثلاث الأوائل: علي والحسن والحسين. وبالطبع عندما يتعرّض لذِکر الإمام الأول والثاني لا بدّ أن يعرج إلى الإمام الثالث.

إن ّمجالس العزاء طوال أشهُر الحزن والعزاء تقام بكثرة في كلّ مكان، خصوصاً في العشرة الأُولى من شهر محرّم، وفي اليوم العاشر ترى الجميع ينفجرون بالبکاء والنحيب، وتلتهب جموع الشيعة في ذلك اليوم حماسة وحرارة.

وفي الأيام العشرة الأُولى من شهر محرّم تفتح جميعُ الحسينيات أبوابَها أمام المعزّين بجميع أطيافهم وأصنافهم، حتى ينالوا الثواب بالبكاء وذرف الدموع، وتناول الغداء أو العشاء.

وقبل اليوم العاشر بأيام تهيئ مجاميع العزاء نفسها للخروج في التظاهرات والمسيرات الكبيرة في يوم عاشوراء، ذكرى شهادة الإمام الحسين، ولکلّ حي ومسجد وصنف من الناس موکبُ عزاء يختصّ به، ويتولّى إدارته أحد الأشخاص، وکلّ موکب يعرف باسم خاصّ، وأمّا نفقات ومصاريف هذه المواكب فإنّها تُوفَّر بواسطة سکنة الأحياء ومساعدة الأثرياء. ويُهيأ مکان خاصّ لإيداع ما يحتاجه الموكب من السجاد والمصابيح والمرايا والأعلام وغيرها من الأمتعة. وتكون حركة هذه المواكب في المدن في أيام الشهادات، وفي الليالي العشرة الأُولى من شهر محرّم...

(عاشوراء) أکبر وأعظم أيام الحِداد والعزاء، ففي الصباح الباكر من هذا اليوم تتشکّل المجاميع المعزّية في الجهات الأربع من المدينة، وتبدأ بالتدفّق إلى السوق، وقبل التجمع في سوق الخُضار يذهبون - حسب العادّة - إلى زيارة (زيد) أحد أولاد الأئمة. وعند بزوغ الفجر يملأون الساحة وأسطح الدور المجاورة لها، ويعلون الجدران، ثمّ تبدأ المجاميع المعزّية والمواكب بالوصول إلى ساحة السوق من خلال الطرق والأزقّة المؤدّية إليها... ولکلّ مجموعة علامة ورمز يختصّ بها، من قبيل کفّ العباس،

ص: 142

والأعلام الخضراء والسوداء التي يُشدّ بعضها ببعض، أو البيارق والکتل العجيبة والغريبة التي عليها الريش والشفار الحديدية... إنّ اللاطمين على الصدور يتحرّكون في صفوف منتظمة وبصدور مكشوفة، ومع لحن منتظم يضربون على صدورهم، فتحمرّ صدورهم.

وأمّا (البربرية) فإنّهم يضربون على أکتافهم بالسلاسل. وأمّا (اللر) وأهل (بروجرد) - الذين طلوا رؤوسهم بالطين - فإنّهم يرفعون أيديهم كالرياضيين ويهزّونها بشدّة ويضربون بها على صدورهم المکشوفة، وتتکرر هذه الحرکة مع صراخ خاصّ من قِبَل أعضاء المجاميع. ومجموعة تنادي (شاه [ملك] حسين) وتجيبها مجموعة أُخرى (حسين، حسين)، والبعض الآخر يردّد الأشعار والرثاء مع النائح (الرادود)، ثمّ يتمتم الکلّ بأنين ونحيب فيقولون: (فداءً للشفاه العطشى، اسقوا مولاي قليلاً من الماء)، أو (التراب على رؤوسنا؛ فإنّ الحسين لم يلفّ في کفن)، أو (اليوم يوم عاشوراء، يا ليتنا کنّا في کربلاء).

وفي کلّ عام تجتمع تلك المجاميع المعزّية في المکان المعهود وتُقيم المراسيم، والأکثر شهرة من تلك المجاميع والمواکب هو موکب تجّار الأقمشة، وحي الميرزا (محمد رضا). ولا يکتفي الشيعة بالاستماع إلى المجالس والنوح والبکاء على الأئمة، بل إضافة إلى ذلك يقيمون مراسيم التمثيل والشبيه التي تجسِّد مصائب قادتهم، حتى يمكنهم دركها ولمسها بشكل محسوس.

إنّ مراسيم التمثيل (الشبيه) - والتي تعود جذورها إلى العهد الصفوي في إيران - قد اتّسعت وانتشرت بشکل کبير في القرن الأخير، بحيث قد أُعدّ لها في القرى والمدن أماكن خاصّة مزيّنة بالأقمشة السوداء والسجّاد والمرايا والمصابيح الخاصّة، ثمّ تُقام فيها تلك المراسيم التي تجسّد الوقائع المؤلمة التي وقعت في كربلاء.

ص: 143

وإنّي قد رأيت بأُمّ عيني في مدينة قم ممثّلون يؤدّون كيفيّة شهادة الأئمة. وفي طهران يوجد في کلّ حي مکان خاصّ لإقامة العزاء، کالحسينية يسمى (تکية) وتُأمّن تکاليفه من الأوقاف أو من تبرعات سکنة الحي، وإنّ الشخصيات المعروفة، لهم الرغبةُ الکبيرة بأن تکون لهم (تکية) في بيوتهم الشخصية، تقام فيها المراسيم في کلّ ليلة وبشکل مستمرّ، بما يرتبط بتلك الليلة في محرّم من مراسيم وتشابيه خاصّة بها، وإنّ أعظم وأفخم مراسيم الشبيه في الأيام العشرة الأُولى من المحرّم تقام في (تکية) الدولة أو التکية الملکية، والحضور للمشاهدة متاح للجميع.

تبدأ المراسيم في (تکية) الدولة عند الظهر بقراءة المصيبة، ثمّ في الساعة الثالثة والساعة السابعة عصراً تقام المراسيم الدينية ومراسيم التمثيل. وإنّ الفعاليات التي تقام في النهار تكون دينيّة أخلاقية خالصة، ويخصص القسم الخلفي من التکية أو ساحة التمثيل لمكان النساء.

(معين البکاء): وهو الشخص الذي يدير التمثيلية، وهو شخص کبير السنّ له لحية بيضاء، يبدأ أولاً بتعريف نفسه للحضّار، وقد ارتدى ملابس طويلة ماسکاً بيده خشبة، وفي حزام ظهره لفائف من الورق تحتوي على أدوار ممثلي مراسيم الشبيه، وهذا الشخص له سبع وثلاثون سنة من الخبرة في إدارة مراسيم الشبيه الملکية، وکان لأبيه هذا الدور من قبله، وهذا الراوي وأبوه هما اللذان ساهما في إيصال هذه المراسيم التي تقام إلى ما هي عليه اليوم.

ويقتبس موضوع التمثيل من سيرة الشهداء أو من بعض الحكايات الإيرانية. وإنّ (معين البکاء) في انتخابه للقصّة ونوع التمثيل الذي يقام في(تکية) الدولة، تابع لأوامر الملك مطلقاً.

برامج السنة الحالية کالتالي:

ص: 144

1- اليوم الأول من المحرّم: وفاة النبي.

2- وفاة فاطمة.

3- وداع المدينة؛ لأنّ الإمام الحسين قبل الرحيل إلى كربلاء وللمرّة الأخيرة زار قبر النبي وودّعه، وإنّه قبل هذا قد بعث ابن عمّه مسلم بن عقيل إلى الکوفة.

4- شهادة مسلم بن عقيل وطفليه البريئين.

5- وصول الإمام الحسين إلى كربلاء وشهادة الحرّ.

6- شهادة العباس، وهو أخو الإمام الحسين.

7- شهادة علي الأكبر، وهو ابن الإمام الحسين.

8- شهادة القاسم بن الإمام الحسن.

9- أخذ أهل بيت الحسين سبايا إلى قصر يزيد في دمشق.

10- شهادة الإمام الحسين، سيد الشهداء.

ولأجل تلطُّفهم عليَّ، استطعت أن أُشاهد ثلاثة عروض من البرامج المتقدِّمة، وهي مراسيم اليوم الثاني واليوم الثالث واليوم الخامس من شهر محرَّم، وکذلك عرض المساء في اليوم السابع؛ وذلك لما هو المألوف في السنوات السابقة من إرسال الدولة الدعوة الرسمية إلى ممثلي الدول الأجنبية المقيمين في إيران للحضور والمشاركة في برنامج المساء لهذا اليوم، وقد شاهدته بمعية زملائي.

إنّ هذه العروض الدينيّة عندما تُعرض في الساحة (المسرح)؛ فإنّها تؤدّي إلى أن تتعالى أصوات جميع الحاضرين بالصياح والصراخ والبكاء والنحيب. والنساء اللاتي حضرن في الجانب الآخر من ساحة العرض قد علت أصوات نحيبهن؛ بحيث ترى لهن اهتزازاً من کثرة البکاء. وفي المقصورة التي کنتُ جالساً فيها کان المسنّون من الرجال لا ينقطعون عن البکاء لحظة واحدة؛ بحيث کانت المناديل التي يمسحون بها الدموع مبتلّة، ولا تفارق أعينهم أبداً، وفي مثل هذه الحالات يکون الحسّ والشعور

ص: 145

الوطني له الأثر الأكبر والغلبة على الحسّ الديني؛ لأنّه لا يمکن إنکار موضوع التغيير التاريخي في إيران، وإنّ سببه هو التأثّر بأحداث الطفّ وواقعة كربلاء، والأثر المباشر الذي تؤدّيه تلك المراسيم التي تُقام لآل علي؛ بحيث أوجدت التظاهرات والاحتجاجات الوطنية الخالصة»(1).

وقد ذكرت السيدة (ليدي شيل) بعض الأُمور حول مراسيم العزاء في محرَّم في العهد القاجاري، ننقل خلاصتها:

«يصادف شهر ديسمبر من هذا العامّ شهر محرَّم، فترة المآتم والحزن والنياحة للإيرانيين... وفي هذا الشهر يقيم الشيعة مراسيم بعنوان الذکرى السنوية لمصيبة الإمام الحسين وأهل بيته في صعيد كربلاء، ولهذه الواقعة أثر کبير في نفوس الإيرانيين؛ بحيث يحيونها بشکل عرض وتمثيل مسرحي، وهذا يشبه ما کان يُقام من الطقوس الدينيّة في بريطانيا وبقية الأماكن في العهود السابقة... وتسمع أصوات الحنين والأنين وبشکل مستمرّ من کلّ جانب ومکان، مع اللعن والسبّ والشتم لمستحقيه الذين ارتکبوا هذه الجريمة الکبرى في حقّ سبط النبي وأهل بيته. وعندما تلتهب عواطف الناس من الألم - في بعض الأحيان - تصل الحالة بهم إلى شتم وسبّ مَن يقوم بتمثيل دور الشمر، ويكون من الصعب أن يخلص نفسه من شرّ نظرات الناس الغاضبة، وخصوصاً من ضربات النساء بأيديهن وأرجلهن.

وفي إحدى برامج هذه الأيام العشرة يعرض مشهد بعنوان (المندوب الأقصى) وهو يحکي أحد السفراء الخياليين لإحدى الدول الأوربية - يحتمل أن تکون تلك الدولة المعنية هي اليونان - في قصر يزيد، وقد كان حاضراً عندما يؤتى برأس الحسين إلى يزيد، وعند مشاهدته هذا المنظر يعترض على هذه المجزرة الوحشية؛ ولأجل هذا

ص: 146


1- إيران اليوم، يوجين أوبن: ص181 - 193.

الاعتراض ينال الشهادة في آخر الأمر.

وأمّا ما يُرتدى من الألبسة في مراسيم التمثيل (الشبيه)، فكانت تناسب أزياء تلك الأزمنة في النوعيّة والکيفيّة، فتشابه ما کان يرتديه الإمام الحسين وأصحابه وأهل بيته، ثمّ يبدأ العرض ابتداءً بمسيرهم إلى الکوفة، ولتصوير الموقف بشکل أفضل تُساق الإبل والخيول المدرّعة بأنواع الدروع، وعليها الهوادج المکلَّلة، وفي الوقت نفسه تسمع أصوات الطبول والأبواق عن قُرب وبُعد، وبعد مدّة وجيزة يظهر جيش يزيد، ثمّ يخطب قائد الجيش خطبة، وبعدها يبرز إليه الإمام الحسين وهو يتكلَّم على شكل نياحة، وبعد لحظات يرجع إلى وسط الساحة وقد امتلأ جسمه وفرسه بالسهام الخشبية، ثمّ يُمنع عنه ماء نهر الفرات؛ فتشتدّ النياحة نتيجة ذلك، ويبدأ القتال، ثمّ بعد قليل يأتي الشمر غاضباً برفقة الخيّالة المدرّعة، فيخطب بهم، ثمّ يجيبه الإمام الحسين بكلّ وقار مع ما به من حزن على مصيبة عياله، ثمّ يخرج أبناء الإمام الحسين - علي الأكبر وعلي الأصغر - للقتال، وبعد فترة وجيزة يأتون بجسديهما إلى الداخل، وفي النهاية يستعرضون مقتل سكينة ورقية - ابنتي الإمام الحسين الصغيرتين - ممّا يجعل صراخ الحاضرين يصل إلى أوجه، إلى أن ينزل جبرائيل من السماء إلى الأرض مع جميع الملائكة - والذين لهم أجنحة ذات بهرجة ولمعان - مستنکرين ومتنفِّرين من هذا العمل البشع بحقّ أولاد النبي، وقد حضر أيضاً ملك الجنّ مع جيشه.

وبعد ذلك يحضر ثلاثة من الأنبياء (موسى وعيسى ومحمد) حزينين متألّمين لهذه المصيبة الکبرى. وفي نهاية العرض يقوم الشمر بفعلته الشنيعة وسط شدّة غيظ الحاضرين وحزنهم، وفي اليوم التالي - اليوم الأخير من مراسيم العزاء - تقام مراسيم الدفن لجسد الإمام الحسين وأجساد أهل بيته في كربلاء.

وقد كنت مستغربة ومندهشة جداً وأنا أحضر مثل هذا المجلس الذي يحضره

ص: 147

آلاف الناس من الذين يغمرهم الحزن والألم العميق، وللإيرانيين حالات خاصّة في البکاء والعويل؛ لما يظهرون من الأصوات العجيبة في أثناء البکاء، حتى إنّه في بعض الأحيان تُسمَع أصواتٌ تشبه الضحك والقهقهة، وعندما يبدأ أحد الحضور بالبکاء يبکي معه البقية أُسوة به، وفجأة يعمّ البكاءُ الجميعَ، بل في بعض الأحيان أشعر - أنا - بأنّ دموعي تريد أن تتدفّق وتسيل لما أسمعه من كثرة البكاء والعويل. وکنت أُشارك النساء الإيرانيات المحيطة بي في مراسيم العزاء، وکان هذا الأمر باعثاً على سرورهن.

ولا بدّ أن أعترف وأُذعن بأنّ بعض تلك المشاهد کانت تُؤدّى بشكل دقيق وحسّاس؛ بحيث كانت غاية في التأثير»(1).

ويكتب السائح (کارري) - المعاصر للعهد الصفوي - في رحلته:

«في يوم الإثنين المصادف الثالث والعشرين من شهر أغسطس وفي غرّة الشهر الجديد، بدأت مراسيم حزينة جداً، وإنّ الإيرانيين يقيمون هذه المراسيم في کلّ عامّ بمناسبة وفاة اثنين من أئمتهم، وهما الحسن والحسين أبناء علي، وإنّ هذين الإمامين قد قُتلا قرب بغداد على يد عمر بن سعد، وتستمرّ هذه المراسيم لمدّة عشرة أيام، وطوال هذه الفترة - وفي جميع الساحات والطرق العامّة والأزقّة - توضع المصابيح، وتُنشر الأعلام السوداء، وتُنصب المقاعد عند مداخل الأزقّة، يجلس عليها الخطباء، وفي فترات متفرِّقة يذكرون مناقب القتلى ومصائبهم، ويحضر سکّان الأحياء جميعهم تلك المراسيم، وهم بين مَن يرتدي الثياب الغامقة والحمراء بعنوان أنّها لباس للعزاء»(2).

وتكتب أيضاً السائحة (مادام کار لاسرنا) في مذکراتها التي طبعت تحت عنوان (الناس والطقوس في إيران):

ص: 148


1- مذکرات (ليدی شيل): ص66 - 71.
2- رحلة (کارري): ص125.

«تقام المراسيم الدينيّة الخاصّة في الذکرى السنوية لوفاة أهل بيت علي، وإنّ شهر محرَّم عند الشيعة يُشبه الأسبوع المقدّس عند المسيحيين، وتقام مراسيم التمثيل (الشبيه) في هذا الشهر، وتُعرض فيها مصائب أولاد الإمام وأصحابه».

التكية واقامة مراسيم العزاء

التكية واقامة مراسيم العزاء(1)

ثمّ تتابع (مادام کار لاسرنا)، فتقول: «إنّ ما يُستعمل في تزيين وتجميل التکية - الديکور- في مراسيم التمثيل يبعث على الدهشة في حدّ ذاته؛ لما فيه من السجّاد والأقمشة الملوّنة المعلّقة على الجدران، وأنواع الحرير والورود الاصطناعية والمرايا، وأماكن الشموع ذوات الفروع المتعددة، وأنواع الثريّات التي تزيد المكان بهجةً وجمالاً، وقد رُسمت على الجدران رسومٌ عجيبة غريبة ملوّنة بألوان مختلفة، وتُحاط المنصّات الخاصّة بالأقمشة المطرَّزة الجميلة، ويُحيط بها سور لطيف من القماش في وسط باحة التکية لائق بها، وهذا السور المُشبَّك هو ستارة توضع لکي لا يُرى ما خلفه ممَّن حضر في تلك المنصّة الخاصّة...

إنّ الوضع داخل التکية فريد من نوعه، ولا يُشبه ما هو موجود في داخل المسرح الأوربي، وفي وسط جموع الناس سُقاة يحملون على أکتافهم جراراً مملوءةً بالماء وبأيديهم الأقداح يسقون الحضور؛ تخليداً لذكر عطاشى أهل بيت علي، ويرى بينهم في بعض الأحيان فتيان من الأُسر المعروفة والکبيرة وقد ارتدوا الملابس الجميلة؛ لأنّ القيام بأيّ عمل في التکية يُعدّ نوعاً من الفرائض والواجبات الدينيّة.

تبدأ مراسيم التمثيل (الشبيه) في وقت قريب من الظهر، وتنتهي عند الغروب، ولا يترك الملكُ وزوجاته والمحيطون به التکيةَ إلى أن تنتهي المراسيم...

ص: 149


1- المراد من ال (تکية) - کما مرّ سابقاً - هو مکان خاص يُقام فيه العزاء، کالحسينية

وبعض من قُرّاء المصائب يضربون صدورهم ويرتفع صوت عالٍ من ضرباتهم المتناسقة على صدورهم العارية، وفي نهاية کلّ فقرة من المصيبة يعلو صوت (حسين، حسن)، وعند سماع هذه الأسماء يشتدّ الضرب على الصدر والرأس، وترافق صوت قارئ المراثي أصوات الطبول والآلات.

وعند كلّ فقرة من فقرات الرثاء يضربون جميعاً على صدورهم، ثمّ بعد ذلك تصدر من بعضهم حركات بشكل جماعي، تارة من الرِّجْل اليمنى وأُخرى من اليسرى تماثل حرکات الرقص، وفي الوقت نفسه يلطمون بيدٍ ويضربون الطبول أو الآلات باليد الأُخرى، ثمّ يهمهمون همهمة حزينة مؤلمة، ويرددون في ختامها کلمة (إمام)، ومع تکرار هذه الکلمة، ومع تذکر الآلام والمصائب التي قد تحمَّلها الإمام، ترتفع أصوات آلاف الحاضرين بالبکاء والنحيب، وتلتقي مع أصوات بکاء المؤدّين للأدوار ونحيبهم، ومع توحيد صوت النياحة واللطم وضرب الأقدام على الأرض - شيئاً فشيئاً - يشتدّ تأثّر المشاهدين وتجيش عواطفهم.

إنّ الأشخاص الذين لا يستطيعون أن يتحمّلوا تكاليف تلك المراسيم (تکية) كاملة بمفردهم، يقبلون من غيرهم جانباً من تلك التكاليف، وفي بعض الأحيان تشترك جماعة في شراء الأرض أو استئجارها لمدّة شهر محرّم، ويُعدّ وقف الأموال أو إهداء الهدايا - كالأقمشة أو السجّاد أو غير ذلك - إلى التکية عملاً حسناً يُحمد عليه، وإنّ الأشياء الموقوفة أو المُهداة تُعدّ وديعة مقدّسة، وعادةً ما تودع عند أحد العلماء، وعند حلول شهر العزاء يطلب صاحب محل إقامة العزاء (التکية) من أهالي الحي أن يجعلوا ما عندهم من وسائل الزينة تحت تصرُّفه لتجهيز ذلك المحل، وهو طلب لا يُردّ أبداً، كما أنّ أصحاب المحال التجارية يساهم كلّ منهم في تهيئة بعض المستلزمات، ويزيّنون ساحة العرض بأنواع وسائل الزينة؛ وذلك لأجل التعصُّب الديني، ولأجل لفت انتباه الزبائن، كما أنّهم يتکفّلون أيضاً بکل نفقات تزيين ساحة

ص: 150

العرض (المسرح) التابعة لشخصيات معروفة.

إنّ تأثّر الشيعة وحزنهم في اليوم العاشر - وهو ذکرى استشهاد الإمام الحسين - أكثر من بقية الأيام؛ فإنّه في هذا اليوم تخرج مجموعات من الناس وهي تنادي: (واحسيناه واحسيناه)، ويشجّون رؤوسهم بالسيوف، ويهرولون حول المدينة بعويلهم ودمائهم، ويهرول هؤلاء المتشدّدون في الشوارع، برؤوس مكشوفة وثياب بيضاء طويلة من الرأس إلى القدم ملطخة بالدم، إلى أن يُغمى عليهم من شدّة التعب، وعند غروب الشمس يوزّع عليهم طعام العشاء من قِبَل أعضاء مجموعتهم، أو من قِبَل المؤمنين الذين أعدّوا طعاماً وفاءً لنذرهم.

إنّ التاريخ والسيرة المؤلمة لآل علي، والمصائب والمحن التي جرت عليهم هي الموضوع الرئيس لهذه المراسيم الدينية (الشبيه)، وأحياناً قبل عرض هذه المراسيم تُعرض مراسيم ترتبط بقصص وأساطير دينية أُخرى».

دخول السبايا إلى الشام

وهنا ننقل مشهداً من مشاهد مراسيم الشبيه التي وصفته السائحة (کارلاسرنا):

«إنّ الخليفة عند سماعه خبر دخول السبايا إلى الشام قد استرّ کثيراً، وفي اللحظة نفسها أهدى لقائده حُلّة ثمينة، إلّا أنّ هذا الخبر - وهو وصول السبايا إلى بوابة الشام - قد أغضب الحاضرين بشدّة، وفي هذا الوقت علت أصوات النساء بالبکاء والعويل من كلّ جانب، والرجال يضربون على رؤوسهم وصدورهم، وحتى الممثِّل باعتباره مسلماً مؤمناً يبكي مع الحاضرين ويذرف الدمع باستمرار، ما يمنعه من أداء دوره بشكل جيد.

ص: 151

ثمّ بعد ذلك يُعرض مشهد جديد على المسرح، يؤدّي فيه أحدهم دور قائد شامي مع علمه وعلم الجماهير المشاهِدة ببشاعة هذا الدور والتنفُّر منه، ثمّ تدخل قافلة الأسرى والسبايا - المتكوّنة من نساء وأطفال عائلة الإمام الحسين - الساحةَ، ويُدار بهم في شوارع وأزقّة الشام لفترة من الزمن، وبعض الناس الوضيعين ترميهم بالحجارة، ثمّ ينزل الأسرى من المحامل ويُظهرون على منصّة العرض، وهم مقيّدون بالسلاسل والأغلال، فيشتدّ غضب المشاهِدين في هذا الوقت مرّة أُخرى، ثمّ يضعون على رؤوس الشهداء الرمل والتبن، ثمّ يقذفهم قائد جيش يزيد بأنواع الشتائم والسباب، ويحمل جنوده رأس الإمام ورؤوس أصحابه، وقد وضعوها في أوعية من الفضة وهي مُغطَّاة بقماش أحمر رقيق. وإنّ الخليفة وقائد جيشه سُكارى فرحين بهذا النصر، لکنّ المشاهِدين لتأثّرهم وحزنهم تسيل دموعهم بشدّة ويصرخون (حسين حسن ! حسين حسن)، كما أنّ بقية الممثّلين قد نسوا أدوارهم وراحوا فقط يبكون مع بقية المشاهدين، وفي الأثناء يقع حادث جديد يغيِّر هذا الوضع، وهو دخول السفير الفرنسي وهو يرتدي الملابس الرسمية الموحّدة في اللون، وهو جالس في العربة وأمامه وخلفه حشد من الخدم والحشم، ثمّ مجموعة من الفرسان الذين يرتدون الثياب الفاخرة مع مجموعة من الغلمان والسُّعاة يحملون معهم أواني مملوءة بالفواكه والحلويات وأنواع الهدايا، ويتقدَّم الجميع لاستقبال السفير»(1).

ويكتب (أورسل) عن مراسيم التمثيل (الشبيه) في شهر محرَّم أيضاً:

«يدخل الممثّلون - الذين لهم مهارة کبيرة في أداء أدوارهم - المسرحَ، والکلّ يحمل معه الأوراق التي کُتبت فيها نصوص الأدوار، وقد ارتدوا الملابس العربية، ولا يوجد أيّ ديكور أو منظر مفتعل.

وعند البدء بالتمثيل ترتفع الأصوات من جميع أنحاء ساحة العرض (التکية) بلعن

ص: 152


1- الناس والطقوس في إيران (رحلة مادام کارلاسرنا): ص161 - 179.

معاوية وأصحابه، مصحوباً بالبکاء والنحيب المؤلم مع الصراخ (حسين، حسين)، ويتبعه العويل من کلّ جانب ومکان، وحتى الممثِّلين أنفسهم تسيل مدامعهم.

وکان يجلس إلى جانبي أُستاذ مع كونه من المشككين، إلّا أنّه كان يبکي بکلّ صدق وحُرقة.

وقد وصل الحزن والأسى - الذي خيَّم على جميع الحاضرين - إلى أوجه عند إجراء بقية المشاهد... وباعتقادي أنّه لا يستطيع أحد في هذا العالم أن يصفَ حالة الغضب والبؤس والشفقة في قلوب أولئك الناس، وقد امتلأ فضاء العرض (التکية) بلعن يزيد والشمر بغضب شديد، مع الاستغاثة بالأئمة. وقد تدفَّقت أصوات البكاء الغاضبة من الصدور الملتهبة بکلّ صدق واعتزاز: (حسن حسين).

ولا شك أنّ مثل هذا الحزن والألم لم يکن فيه تصنُّع، بل هو ألم يجيش في الصدور، وتأثّر صادق لأُمّة تذرف الدموع إيماناً منها بشهادة أئمتها، وإبداءً لغضبها واشمئزازها ممَّن ارتكب هذه الجريمة. وإنّي لم ارَ في أيّ مکان مثل هذا العرض العجيب؛ بحيث أرى جمعاً غفيراً من الناس وهم في حالة من الغشيان والإغماء، ووضعهم النفسي يتغيّر شيئاً فشيئاً من غضب وحشي إلى يأس شديد، ومن حزن بلا نهاية إلى غضب عارم»(1).

وكتب (کنت دوغوبينو) الفرنسي حول مراسيم العزاء في محرَّم في مذکّراته التي عنونها باسم (ثلاث سنوات في آسيا):

«إنّ أشهر هذه العروض التمثيلية هي ما يُعرض في شهر محرّم، وموضوعها هو قتل ابن عليّ وأهل بيته في صحراء كربلاء، وإنّ هذا العرض والذي يُسمى بالعزاء

ص: 153


1- رحلة (أرنست أورسل) ترجمة علي أصغر سعيدي (إلى الفارسية) انتشارات زوار، طهران، 1353: ص302 - 304

يستمرّ عشرة أيام، وفي كلّ يوم يستغرق العرض ثلاث ساعات إلى أربع...

إنّ الأشعار التي تُلقى عند العرض غالباً ما تكون جميلة جداً وحزينة، وتُقرأ بشكل متتابع وبحماس ونشاط، ولا يوجد أيّ إشكال من إطالة هذه المراسيم؛ لأنّ الإيرانيين لا يسأمون ولا يتعبون من الاستماع إلى ذکر المصائب والمتاعب، والقلق والخوف والغربة التي جرت على مقدَّسيهم ومحبوبيهم، ويبكي الحضور من صميم قلوبهم وترتفع أصواتهم بالنحيب.

إنّ هذا التفاعل والتأثُّر حقيقي وواقعي لكثير من الناس؛ لأنّه لا يمكن أن لا يتأثَّر الشخص عند مشاهدة هذا العرض، وإنّي قد رأيت بعض الأوربيين قد اعتراهم الحزن والألم، وهناك قليل من الناس كان تأثُّرهم ظاهرياً، وهم أولئك الذين طغت أصوات بکائهم وعويلهم على الآخرين.

وفي بعض الأحيان يرتقي المنبر عالم ديني ويُمسك بسياق الحديث بانسيابية تامّة، حتى يبيّن للمجتمعين كثرة المصائب التي مرت على الأئمة، ثمّ يدخل في ذکر تفاصيل وجزئيات مصائبهم وأحزانهم، فيشرح الوقائع ويلعن الخلفاء الظلمة، ثمّ يقرأ الأشعار، وفي هذه اللحظات يبدأ الجمهور - وبالأخصّ النساء - بضرب صدورهم بشدّة وبانسجام تامّ وبصوت واحد، وبكل حماس يرددون: (حسین، حسين)، ثمّ بعد ذلك يُعطى وقت للاستراحة»(1).

وكتب (ريتشاردز) - الذي خصص فصلاً کاملاً من مذكراته لشهر محرَّم -: «أنّ مراسيم شهر محرّم تُقام في مدينة يزد بشکل حماسي ومفجع، حتى أنّها تتحوّل في بعض الأحيان إلى نوع من الجنون الديني، وفي الساحة التي تقع في مقابل المدخل الرئيس للسوق أُعدّت سقالة کبيرة - وهي عبارة عن نوع من التابوت الضخم - وتُسمى

ص: 154


1- ثلاث سنوات في آسيا، رحلة (کنت دوغوبينو)، ترجمة عبد الرضا هوشنگ مهدوي (إلى الفارسية) کتاب سرا، 1364: ص431

(نخل)، وفي کلّ عام تُغطّى بالأقمشة والأحزمة وتُوضع عليها أنواع المرايا، ثمّ يُحمل هذا الشيء الضخم والعجيب على أکتاف المئات من الرجال ويُدار به في الساحة المرکزية أمام السوق...

وقبل أن تبدأ هذه المراسيم، يقرأ رجال الدين نوعاً خاصاً من الأناشيد، ومجاميع من الناس تضرب على صدورها، وأُخرى تضرب على متونها بالسلاسل، وهؤلاء الذين يضربون على متونهم بالسلاسل قد لبسوا سراويل سوداء عريضة وقمصاناً روسية عريضة مکشوفة الکتفين، ويوثقونها بأحزمة من الجلد...

إنّ هؤلاء الرجال والصِّبْية يضربون ظهورهم المكشوفة بالسلاسل حتى تسودّ وتُجرح، ومجموعة أُخرى مع أنغام خاصّة يضربون بالأيدي على صدورهم المکشوفة حتى تحمرّ، فيرتفع في الأثناء صوت عجيب وغريب متكوّن من ضرب الأيدي على تلك الصدور الجوفاء...

وفي تمام الوقت الذي تُعرض فيه هذه المراسيم المؤلمة والمفجعة، تجلس النساء والأطفال على قارعة الطرق - مندهشة ممّا ترى - مع البكاء والعويل، مُعَبِّرةً عن حزنها وتعاطفها مع شهداء هذه الواقعة.

إنّ التعاطف والشعور الديني في مدينة يزد أشدّ ممّا هو عليه في بقية مدن إيران، وقبل شهر محرّم تنعقد في الأسواق مجالس الوعظ وقراءة المصائب، وفي مدّة إجراء هذه المراسيم يُمنع دخول الأجانب (الغربيين) لبعض الأماكن الخاصّة.

إنّ مجالس الوعظ والعزاء تحرِّك مشاعر الناس الدينيّة، وتوجب التفاعل معها بشدّة؛ بحيث يتوجّب ذلك أن يضربوا أنفسهم بالسلاسل»(1).

ص: 155


1- رحلة (ريشاردز) ترجمة مهين دخت صبا (إلى الفارسية)، بنگاه ترجمه ونشر کتاب، طهران، 1343: ص171 - 177

ويكتب (دروويل)في مذکّراته: «في ذکرى ألم وموت تلك الجماعة الفريدة وإمامها المقدَّس، تحزن أيران بأسرها، وذلك الرجل القدِّيس الذي تحمّل الجوع والعطش، وهو الواسطة بين الخلق والخالق، لم يَرَ أيَّ رحمة من الناس، وهو الذي رأى وقوع أبنائه تحت رماح الأعداء. وعندما سقط على التراب صار جسمه ميداناً للأعداء، وأخذوا رأسه إلى الخليفة دلالة على النصر.

وقد شغلت هذه القصّة الحزينة أذهان نصف العالم الإسلامي، ولم يمحِ أثرَ هذه الواقعة الأليمة تمادي القرون الكثيرة التي مُلئت بالفجائع والمصائب، بل ولم تخفف تلك القرون ذلك الإحساس والتأثّر الذي تثيره تلك الواقعة؛ والسبب في ذلك أنّ الأبحاث الدينية تزيل غبار الأزمنة عن وجه تلك الواقعة من جهة، ومن جهة أُخرى الأحداث المُرّة لتلك الواقعة، والشجاعة المتجلّية فيها، كل ذلك يبيّن سبب خلودها. بل حتى أعداء الحسين تأثَّروا وتألّموا لما شاهدوه من مقاومته وصبره، وتفاني أصحابه وتضحيتهم، وشدّة عواطف نسائه.

إنّ ما سجَّله التاريخ في ذلك اليوم الفظيع، يوم العاشر من المحرّم مليء بالمشاعر والعواطف الإنسانية التي تهزّ الناس، وتنقل تأثُّرَهم من جيل إلى جيل.

وليس من الضروري أن يکون الإنسان معتقداً بما تعتقده الشيعة حتى يتّخذ موقفاً من تلك الحرب التي لا أمل فيها، وتحت تلك الشمس الحارقة، أو يتصوّر ذلك الموقف الفظيع، وهو جلوس الإمام أمام الخيمة محتضناً طفله المذبوح، أو يتصوّر رفع إناء صغير من الماء لتلك الشفاه التي أصابها النَّبل...

في واحدة من نصوص مراسيم العزاء يقول الحسين: (القوم يسيرون والمنايا تسير معهم)، في ذلك المسير الليلي وفي تلك الصحراء، وجنباً إلى جنب جيش الحرّ، والخليفة ذهب لاستقبال قدره الذي خلَّف وراءه ذكرى أبدية»(1).

ص: 156


1- رحلة (دروويل): ص41 - 42.

مُسَلسَلُ الحَسَن و الحُسَین علیهماالسَّلام التَّشویه المعُتَعَمَّدُ للحقائق التّاریخِیَّة السيد حازم الميالي

إطلالة

لقد دخل التمثيل التلفزيوني والسينمائي في الآونة الأخيرة على خط الخلاف المذهبي، والصراع الطائفي المحتدم بين المذاهب والطوائف الإسلاميّة؛ لما تتمتّع به هذه الآليّة من قدرة على الوصول إلى عدد أكبر من طبقات المجتمع وفئاته؛ لاستخدامها دور العرض السينمائي المنتشرة في كلّ مكان، وجهاز التلفاز الذي لا يخلو منه بيت الآن، لا سيما بعد انتشار الفضائيّات والمحطات التلفزيونية التي تبثّ عِبْرَ الأقمار الاصطناعية، وكذلك لتفاعل الناس مع التجسيد الحي للقصّة والحدث، علاوة على أنّ هناك مساحة أوسع في التمثيل لإيضاح الفكرة وتبيان المراد؛ نظراً لما يتطلّبه العمل التمثيلي من سيناريو وحوار، مع وجود المؤثرات الصوتية والتصويرية والإيحاءات الأُخرى.

لكن العيب ليس في استخدام هذه الوسيلة أو تلك في إيصال ما يراد إيصاله، وإنّما المشكلة في غياب الإنصاف والموضوعيّة وطمس الحقائق في استخدام هذه الوسيلة أو تلك؛ خدمةً للمطامع الضيّقة والأغراض الشخصيّة، ومن مظاهر هذه المشكلة التي تحدَّثنا عنها ما تمّ عرضه في الآونة الأخيرة من مسلسل تاريخي ديني

ص: 157

بعنوان (الحسن والحسين) يتناول حقبة حساسة وخطرة من تاريخ الأُمّة الإسلاميّة الممتدة من سنة 35ه- إلى سنة 61ه-، وهي التي شهدت أحداثاً مهمّة، ووقائع كان لها تأثير على حاضر الأُمّة ومستقبلها؛ ففيها ثار المسلمون على الخليفة عثمان بسبب سوء إدارته للدولة الإسلاميّة، وتسليمه مقدَّرات المسلمين إلى أقاربه من بني أُميّة الذين اشتُهروا بفسادهم وظلمهم، ولم يسمع الخليفة لمطالبات الناس باستبدالهم أو الحدّ من تعسُّفهم؛ فآل الأمر إلى مقتله على يد عدد من الصحابة والتابعين. وكذا شهدت هذه المدّة خلافة أمير المؤمنين عَلیه السَلام وما رافقها من حروب وأحداث مؤلمة خُتمت باستشهاد أمير المؤمنين عَلیه السَلام ؛ لينفتح بذلك عهد من الاضطرابات والحوادث بوصول بني أُميّة إلى سدّة الحكم ليرتكبوا أفضع جريمة عرفها التاريخ، ألا وهي فاجعة كربلاء سنة 61 للهجرة.

إنّ في هذا المسلسل - مع شديد الأسف - زُيِّف التاريخُ على نطاق واسع جداً، وذُبحت فيه الحقيقةُ على نصب التعصُّب المذهبي والطائفي، ورُصدت له ميزانية ضخمة، واشتركت في إنتاجه وتصويره وتهيئته كوادر فنيّة متقدِّمة، وقام بأداء شخصياته ممثلون على مستوى عالٍ من الموهبة الفنيّة والأداء المهني، وكانوا من جنسيات عربية متعددة، وأُجيز تصوير المسلسل في الأردن، ومنحت نقابة الفنانين الأردنية تصاريح لفريق العمل لتصوير أحداث المسلسل في الأردن، كما صُوِّرت مشاهد منه في سوريا والمغرب ولبنان والإمارات العربية المتحدة.

وقد عارض الأزهر وبعض الهيئات العلمية والنقابية عرض المسلسل، ليس لما فيه من تزويرٍ لحقائق التاريخ وهضم لحقّ الإمام عليّ والحسن والحسين علیهم السلام ، وبسبب ما جرى عبر حلقاته من تلميع لصورة معاوية ويزيد ومروان وأشباههم؛ بل بسبب تجسيد شخصيات الصحابة والحسنين عَلیهِماالسَّلام أمام الجمهور ليس إلّا!!

ص: 158

وعَرَض القائمون على المسلسل قائمةً بعددٍ من علماء السنّة ممّن أجازوا عرض المسلسل، وكان من بينهم بعضُ الشيعة أيضاً؛ من باب ذرّ الرماد في العيون وإيهام المشاهد البسيط بأنّ علماء الفريقين موافقون على ما يقدِّمه هذا المسلسل من مادّة تاريخيّة له.

وفي الواقع إنّ أرباب هذا العمل أجادوا في كلّ شيء إلّا في تقديم الحقيقة التاريخيّة للمتلقّي؛ فجاؤوا بواقع تاريخي معكوس ومنكوس في أغلب مشاهد المسلسل، فلو ارتأينا أن نقف عند كلّ مفردة ونُجيب عنها إجابة وافية لاحتاج ذلك ربما إلى مجلدات عديدة، ولكن سنشير إلى أبرز المحاور العامّة التي أراد أصحاب هذا العمل إيصالها إلى الجمهور، وسنعلّق على هذه المحاور أو الأهداف بما يسمح به المقام؛ لتحصين المشاهد المسلم ممّا قد تنتجه مستقبلاً المؤسسات السلفيّة وغيرها من أفلام ومسلسلات قد تصبّ في خدمة المنظومة الأُموية، سعياً لغسل أدمغة المسلمين؛ ليتوافقوا عقيدةً وسلوكاً مع هوى بني أُميّة.

فيقع الكلام في محاور:

المحور الأول: تسويق أسطورة عبد الله بن سبأ

اشارة

لعلّ من أهمّ الأهداف والغايات التي كان يرمي إليها مَن يقف وراء هذا المشروع تقديم أُحدوثة ابن سبأ اليهودي من جديد، وجعله هو المحرِّك الأساس لخيوط الفتنة ومهندس الانقلاب على الخليفة الثالث، وهذا ما بدا واضحاً من خلال أحداث المسلسل؛ ففي المشهد الثالث من الحلقة الأُولى يظهر أحد كهنة اليهود مع ابن سبأ وهو يرشّحه للقيام بمهمته، ويقول له: «لقد حان الوقت يا بن سبأ»، وفي المقابل يرحِّب ابن سبأ بهذا الاختيار ويقول: «إنّي انتظر هذه اللحظة طويلاً».

ص: 159

فيبدأ عمله بوتيرة قويّة وينجح في جمع الأنصار والأتباع، ويدبِّر المؤامرات ويلقّح الفتن، فيتسبب في حريق هائل في كيان الإسلام.

من الواضح أنّ في تسويقهم لأُسطورة ابن سبأ من جديد أرادوا أن يحققوا ثلاث غايات مهمّة:

الغاية الأُولى: هي التغطية على الثورة الشعبيّة على الخليفة الثالث مع ما لها من مبررات واقعية، والتي قادها عدد من الصحابة وأبنائهم وكبار التابعين، وتصويرها على أنّها مؤامرة دبّرها يهودي مندسّ بين المسلمين فألّب الأوضاع على الخليفة انتقاماً من الدين الإسلامي ونبيه صلّى الله عليه و آله و سلّم الذي هزمهم في معاركه معهم، وكذلك للحدّ من انتشار هذا الدين الجديد.

وأمّا الغاية الثانية: فهي جعل ابن سبأ الشمّاعة التي يعلّقون عليها كلّ الخلافات والصراعات الحاصلة بين الصحابة، فيكون بذلك كبش الفداء الأُسطوري الذي يحفظ بدمه الصور الناصعة التي رسموها للصحابة في مخيلتهم، يقول الدكتور أحمد محمود صبحي - مؤكّداً هذا المعنى -: «ويبدو أنّ مبالغة المؤرّخين وكتّاب الفرَق في حقيقة الدور الذي قام به ابن سبأ يرجع إلى سبب آخر غير ما ذهب إليه الدكتور طه حسين، فلقد حدثت في الإسلام أحداث سياسية ضخمة، كمقتل عثمان، ثُمّ حرب الجمل، وقد شارك فيها كبار الصحابة وزوجة الرسول، وكلّهم يتفرَّقون ويتحاربون، وكلّ هذه الأحداث تصدم وجدان المسلم المتتبّع لتاريخه السياسي، أن يبتلي تاريخ الإسلام هذه الابتلاءات، ويشارك فيها كبار الصحابة الذين حاربوا مع رسول الله‘، وشاركوا في وضع أُسس الإسلام، كان لا بدّ أن تُلقى مسؤولية هذه الأحداث الجسام على كاهل أحد، ولم يكن من المعقول أن يحتمل وزر ذلك كلّه صحابة أجلاّء أبلوا مع رسول الله‘ بلاءً حسناً؛ فكان لا بدّ أن يقع عبء ذلك كلّه على ابن سبأ، فهو الذي أثار الفتنة التي أدّت لقتل عثمان، وهو الذي حرّض الجيشين

ص: 160

يوم الجمل على الالتحام على حين غفلة من عليّ وطلحة والزبير!»(1).

وأمّا الغاية الثالثة: فهي بيان أنّ مذهب الشيعة اخترعه رجل يهودي يريد الكيد بالإسلام، فلا ربط لعقائدهم بالدين الإسلامي، كالقول بالإمامة والوصية لعلي عَلیه السَلام ، قال الدكتور طه حسين: «إنّ أمر السبئية وصاحبهم ابن السوداء إنّما كان متكلّفاً منحولاً قد اختُرع بآخرة حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلاميّة، أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أُصول هذا المذهب عنصراً يهودياً إمعاناً في الكيد لهم والنيل منهم»(2).

عبد الله بن سبأ.. تكرار واجترار

لقد كثر العزف على هذا الوتر حدّ الملالة والسآمة، وما عاد لِمَن له أدنى وعي وإدراك أن يستمع لهذه الأُسطوانة المشروخة، ولكن مَن لا يحترم مهنته وعمله ويروم الوصول إلى غاياته بأيّ وسيلة لا يلتفت إلى هذه المعطيات، بل غايته الإيقاع بالمتلقّي البسيط الذي لا يملك قدراً كافياً من المعرفة والاطّلاع، وإلّا فموضوع ابن سبأ أُشبع بحثاً ودراسة، وثبت أنّ شخصاً بهذه الصفات المذكورة في بعض كتب التاريخ لا يملك قدراً من الواقعية، وهذه النتيجة لم يخلص إليها علماء الشيعة وباحثوهم فحسب، بل يشاطرهم العديد من الكتّاب والمفكّرين السنّة، والقائمة في ذلك تطول، بل ظهرت من داخل المؤسسات التعليمية السلفيّة أصوات تُثبت أنّ ابن سبأ شخصيّة خرافيّة وهميّة.

ومن هذه الأصوات صوت البروفسور عبد العزيز صالح الهلابي، الأُستاذ في

ص: 161


1- أحمد محمود صبحي، نظرية الإمامة: ص39.
2- طه حسين، الفتنة الكبرى علي وبنوه: ج2، ص90.

قسم التاريخ بجامعة الملك سعود في الرياض بالسعودية؛ حيث توصّل إلى أنّ ابن سبأ شخصيّة وهميّة، وذلك في كتابه (عبد الله ابن سبأ دراسة للروايات التاريخيّة عن دوره في الفتنة)، فقال: «والذي نخلص إليه في بحثنا هذا أنّ ابن سبأ شخصيّة وهميّة لم يكن لها وجود، فإن وُجِد شخص بهذا الاسم، فمِن المؤكّد أنّه لم يقم بالدور الذي أسنده إليه سيف وأصحاب كتُب الفِرق، لا من الناحية السياسية، ولا من ناحية العقيدة».

وأضاف أيضاً بعد أن لم يجد لابن سبأ ذكراً في كلام الرواة والمؤرِّخين المتقدّمين، فقال: «إنّ إغفال هؤلاء المؤرِّخين لهذا الرجل الذي كان له هذا الدور الكبير في أحداث الفتنة، وفي تغيير وجه التاريخ الإسلامي، دليلٌ على أنّ الرجل مكذوب مُختلَق من عصر متأخّر من عصر أُولئك المؤرّخين المذكورين وغيرهم»(1).

وهذا هو الإنصاف والموضوعيّة، وإلّا فكيف يتمكّن شخص مجهول ليس له تاريخ أن يتظاهر بالإسلام، ويزلزل أركان الدولة الإسلاميّة، ويقود معارضة شعبية يشترك فيها من مختلف الأعمار، وفيهم الصحابة والتابعون من ذوي الدين والتقوى والعقل، ومن مناطق متعددة من العالم الإسلامي، فتنتهي بمقتل الخليفة!!

نعم، إنّ هذه الأُسطورة لا توجد إلّا في مُخيّلة مَن يرمي إلى تحقيق أغراضه الطائفيّة ولو على حساب الموضوعيّة والبحث العلمي، من أمثال أصحاب هذا المسلسل، ولعل ما يؤيد توجهاتهم هو إخراج شخصيّة ابن سبأ في المسلسل بهيئة وزيّ قريب من زي بعض علماء الشيعة، فيظهر بعمامة سوداء تُشبه في هيئتها عمامة مَن ينتسب إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من علماء الشيعة؛ ليوجدوا حالة من الربط بين الأمرين، ولو في اللاوعي في ذهن المشاهد.

ص: 162


1- الهلابي، عبد العزيز صالح، عبد الله بن سبأ دراسة للروايات التاريخية عن دوره في الفتنة: ص73

المحور الثاني: الوئام والانسجام بين أهل البيت علیهم السلام وأعدائهم

اشارة

من الحقائق التي أراد أصحاب هذا المسلسل القفز عليها وتغييرها وطمسها هي سوء العلاقة، بل العداء الواضح بين أهل البيت علیهم السلام وعدد من الصحابة في تلك الحقبة من التاريخ، والذي هو في الحقيقة ليس عداء شخصيّاً له دوافعه الذاتية أو المادّية، بل كان الواجب الشرعي والأخلاقي يحتّم على أهل البيت علیهم السلام اتّخاذ المواقف الصحيحة التي لا تروق لبعض الصحابة؛ فتحمل نفوسهم الحقد والضغينة والعداء لآل بيت النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم ، وقد سجّل التاريخ الإسلامي بعض تلك المواقف ودوّنته مصادر المسلمين، ولكن أصحاب المسلسل عمدوا إلى إخفاء هذه الحقائق وعدم عرْض ما هو مدوّن في مصادرهم الكثيرة من عداء واضح كان يواجه به الصحابةُ المشاهير أهلَ البيت علیهم السلام ، ومن ظلم لا محدود لهم، وهو ما يعارض صريح قوله تعالى: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(1)؛ الأمر الذي اضطرّ الوعّاظ - كما فعلوا في حلقات المسلسل - إلى الترقيع والتزوير والتلفيق والتبرير؛ لذرّ الرماد في عيون ملايين المشاهدين المسلمين من المذاهب المختلفة، لإيهامهم بأنّ الحبّ والوئام كانا عامريَن بين الصحابة من جهة، وبين علي وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام من جهة أُخرى، وهذه بعض محاولاتهم:

1- معاوية يعشق علياً عَلیه السَلام ويدعو لنجاته!!

في إحدى مشاهد الحلقة السابعة عشرة يظهر فيه معاوية بعد أن ينجو من محاولة الاغتيال خائفاً على الإمام علي عَلیه السَلام من أن يكون قد اغتاله الغادرون، فيقول لِمَن حوله - وهو على الفراش ممدّداً -: «ننتظر الأخبار تأتينا من الكوفة ومصر على أحرّ من الجمر. فيقول مَن يجلس إلى جانبه من أعوانه: نسأل الله أن يحمي أبا الحسن».

فيضيف معاوية: «أسأل الله أن لا يتمّ لهم ذلك، وأن يحمي أبا الحسن، وأبا عبد

ص: 163


1- الشورى: آية23.

الله (عمرو بن العاص)».

ما شاء الله!! حبٌّ ووئام .. وأُلفة وانسجام.. بين معاوية وعلي!! إذن؛ لماذا كلّ هذه الجيوش والدماء والحروب التي وقعت بينهما على صفحات التأريخ... بل في حلقات المسلسل نفسه؟! وهل المشاهد المسلم ساذج إلى هذه الدرجة، أم يُراد له أن يكون ساذجاً؛ ليستطيع هضم تاريخ وعّاظ السلاطين؟!

وفي مشهد آخر من الحلقة السابعة عشرة أيضاً نرى معاوية بعد أن سمع بمقتل الإمام علي عَلیه السَلام قال متألّماً: «آه.. لقد ذهب الفضل والفقه والعلم مع أبي الحسن»، فتسأله زوجته فاختة باستغراب: «أتبكي أبا الحسن وقد كنت تقاتله؟!». فيقول: «أنا أبكي على أخي في الله! وعلى ابن عمي! وابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم وصهره! أتعلمين - يا فاختة - أنّ الأقرب من قريش لبني أُميّة هم بنو هاشم! لن أختلفَ يوماً على أفضليته علينا جميعاً، إنّه أفضل مَن بقي من صحابة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم منذ وفاة أبي بكر وعمر وعثمان».

الحمد لله على ما صدر منهم من اعتراف على لسان فاختة، وهو أنّ معاوية قاتل علياً مباشرة، لا أنّه قاتل قتلة عثمان فقط، كما حاولوا زعم ذلك في مواضع أُخرى من المسلسل.

ومن حقّنا أن نقول لمعاوية: ولماذا تقاتل مَن هو أفضل الناس باعترافك؟!! فما هو عذرك غداً أمام الله تعالى القائل: « إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا »(1)، وأمام رسوله صلّى الله عليه و آله و سلّم الذي قال: «مَن كنت مولاه فعلي مولاه»(2)؟! الحمد لله الذي فضح أرباب المسلسل وكشف للواعين زيفَهم.

ص: 164


1- الأحزاب: آية33
2- أحمد بن حنبل، مسند أحمد: ج1، ص84.

ثمّ انظروا إلى اللفّ والدوران على لسان معاوية، فإنّه يقول: «أنا أبكي على أخي في الله وعلى ابن عمّي وابن عمّ رسول الله»!! وهذا يعني أنّ معاوية صار ابن عمّ رسول الله!! فما دام هو ابن عمّ علي، وعلي ابن عمّ رسول الله؛ فهو ابن عمّ رسول الله بلا تردد!! وأيُّ جناية هذه؟! أليس معاوية هو الطليق الغادر الذي قاد الفئة الباغية وقاتل علياً إمام المتقين، وقتل الأخيار والصالحين، وفرض ولَده يزيد خليفة على الناس بالحديد والنار؟! أليس هو الذي ذاقت شيعة الإمام عليّ منه الويلات والمحن، وخصوصاً أهل الكوفة؟! فقد استعمل عليهم زياد ابن أبيه بعد هلاك المغيرة بن شعبة، فأشاع فيهم الفتك والإعدام، وقتلهم تحت كل حجر ومدر، وقطع أيديهم وأرجلهم وسمّل أعينهم، وصلبهم على جذوع النخل وشرّدهم وطاردهم، ونفاهم من أرضهم وديارهم. ورفع مذكّرةً إلى جميع عمّاله وولاته جاء فيها:«انظروا إلى مَن قامت عليه البيّنة أنّه يحب علياً وأهل بيته؛ فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه، ثمّ شفع ذلك بنسخة أُخرى جاء فيها: ومَن اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم؛ فنكِّلوا به واهدموا داره»(1).

فكيف صار معاوية في مشهد مفبرك ابن عمّ خاتم النبيين ومن عشّاق سيد الموحدين؟!

2 - عائشة وأهل البيت علیهم السلام

في أحد مشاهد الحلقة السابعة عشرة يقول الحسن عَلیه السَلام لمحمد بن طلحة:«حدِّثني عن أُمّي عائشة».

إنّه مشهد مفبرك؛ ليسقط بذلك ما يدعيه الشيعةُ اليوم من أنّ عائشة كانت تكره علياً والحسن والحسين علیهم السلام ، وأنّها كانت تشنّ الحرب لسحقهم وإبادتهم. وبين أيدينا مسند أحمد وفيه: «جاء رجل فوقع في علي وعمّار - أي شتمهما - عند عائشة. فقالت:

ص: 165


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج11، ص45.

أمّا علي فلست قائلة لك فيه شيئاً، وأما عمّار فإني سمعت النبي يقول فيه: لو خُيِّر بين أمرين إلّا اختار أرشدهما»(1).

وإليك - أيها القارئ - ما حصل أثناء دفن الإمام الحسن السبط من فاجعة، فبعد أن رأينا مواقف عائشة من آل محمد أثناء حياتهم، فها هو موقفها في مماتهم، وبالتحديد في ساعة دفن الإمام الحسن بن علي سبط رسول الله وريحانته وسيد شباب أهل الجنّة، كما جاء ذلك في مصادر مختلفة(2).

فقد جاء في كتب السير والتاريخ: «فلما توجه به الحسين بن علي عَلیهِماالسَّلام إلى قبر جده رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ليجدد به عهداً أقبلوا إليهم في جمعهم، ولحقتهم عائشة على بغل، وهي تقول: ما لي ولكم؟! تريدون أن تُدخلوا بيتي مَن لا أحبّ. وجعل مروان يقول: يا رب هيجا هي خير من دعة، أيُدفن عثمان في أقصى المدينة، ويُدفن الحسن مع النبي؟! لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف. وكادت الفتنة تقع بين بني هاشم وبني أُميّة؛ فبادر ابن عباس إلى مروان، فقال له: ارجع يا مروان من حيث جئت، فإنّا ما نريد (أن ندفن صاحبنا) عند رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ، لكنّا نريد أن نُجدِّد به عهداً بزيارته، ثمّ نردّه إلى جدته فاطمة فندفنه عندها بوصيته بذلك، ولو كان وصّى بدفنه مع النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم لعلمت أنّك أقصر باعاً من ردنا عن ذلك، لكنه عَلیه السَلام كان أعلم بالله ورسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدماً، كما طرق ذلك غيره، ودخل بيته بغير إذنه. ثمّ أقبل على عائشة، فقال لها: وا سوأتاه! يوماً على بغل ويوماً على جمل، تريدين أن تُطفئي نور الله، وتقاتلين أولياء الله، ارجعي؛ فقد كُفيتِ الذي تخافين وبلغت ما تُحبين، والله تعالى منتصر لأهل هذا البيت ولو بعد حين»(3).

ص: 166


1- أحمد بن حنبل، مسند أحمد: ج6، ص113.
2- اُنظر: المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص18. ابن شهرآشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص204. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج16، ص50
3- الفتال النيسابوري، روضة الواعظين: ص168. اُنظر: الأصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين: ص49. ومصادر أُخرى

المحور الثالث: تلميع الأبطال وتبرير الأفعال

اشارة

وهذا هو المحور الثالث الذي أُنشئ المسلسل من أجله، وهو إلقاء أكبر قدر من الألوان والأصباغ لإخفاء عيوب الذين نصبوا العداء لأهل البيت علیهم السلام وتزيين صورهم؛ عسى أن تكون لهم منازل ومقامات تضاهي منازل أهل البيت علیهم السلام ، وإليكم بعض الشواهد:

أ) تبرير خروج أُم المؤمنين عائشة للبصرة

من أهمّ الإحراجات التي واجهت وعّاظ السلاطين - وهم يمرّون بالتاريخ الإسلامي - هو الموقف الذي وقفته عائشة زوج النبي تجاه الخليفة الشرعي والإمام المنصّب من قِبل الله ورسوله عليّ بن أبي طالب عَلیه السَلام ، والذي أجمعت الأُمّة على انتخابه بعد أن جرّبت مَن سبقه ممّن تصدّى للخلافة.

فحاول الوعّاظ جاهدين حذف بعض مواقف عائشة، وتلفيق البعض الآخر، والتلاعب بما لا يمكن حذفه أو إنكار وقوعه من فضائح التاريخ، فتصرّفوا في بعض المضامين، وادّعوا أنّ ما وقع من أحداث كان لغايات نبيلة ونوايا شريفة، وهذه الوسيلة الرخيصة في تزوير الحقائق، طفحت بوضوح عبر حلقات المسلسل، وهذه بعض الشواهد:

* في أحداث الحلقة السابعة أحد الصحابة يقول: «لقد أشاع المفسدون أنّه بخروج أُمِّ المؤمنين عائشة من المدينة إلى البصرة؛ فإنّها عارضت قوله تعالى: «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ»(1)، في حين أنّ الأمر الإلهي في استقرار النسوة في البيوت لا يتنافى مع خروجها للحجّ، أو خروجها في السفر مع وجود المحرم، فأيُّ بأس في خروج أُمّنا للبصرة؟!».

ص: 167


1- الأحزاب: آية33.

هذا تدليس على المسلمين ومغالطة؛ فإنّ الخروج للحجّ واجب شرعي على المرأة، ولو حصل وكان الزوج ممانعاً لخروج زوجته؛ فإنّه يجب عليها أن تضرب رفضه عرض الجدار وتذهب لبيت ربها وتحجّ وإن رُغِمَ أنفه، كما عبّرت الروايات(1)، وأما خروجها للسفر فليس بحرام أيضاً، إن لم تكن متزوجة، وأمّا لو كانت متزوجة، فإن سمح لها الزوج بالسفر فقد جاز، وإن كان ميتاً ملكتْ زمام أمرها.

إذن؛ موضوع خروج المرأة أجنبي عن الجناية العظمى التي ارتكبتها عائشة بخروجها من خِدْرها المصون في المدينة المنورة، ومجيئها مع آلاف الرجال إلى البصرة في العراق، وتحشيدها مَن استطاعت من الصحابة ومن المرتزقة والمنافقين وغيرهم لمقاتلة علي عَلیه السَلام أمير المؤمنين وخليفة المسلمين.

وإنما عبَّرنا بقولنا: خليفة المسلمين وأمير المؤمنين بحسب مقاييسهم في المسلسل. وإلّا فإننا نعتقد أنّه معصوم، وأنّه خليفة رسول الله الأول، وأنّه مُنَصَّب من الله في بيعة عظيمة هي بيعة يوم الغدير، وهو خليفة المسلمين الفعلي في زمن عائشة، والذي انتخبه الناس بملئ إرادتهم، وبايعه حتى أنصار عائشة، كطلحة والزبير، فله الحقّ في أن يحصل على الامتيازات التي حصل عليها الخلفاء الذين كانوا قبله والذين جاءوا من بعده، من جهة وجوب الطاعة له، كما يعتقد علماء السنّة لِمَنتسنّم منصب الخلافة.

كما أنّ مجرّد القعود عن مبايعة الخليفة - برأيهم - ولو كان هذا الخليفة هو يزيد مثلاً، فإنّه يعدّ جريمة يستحقّ صاحبها سفك دمه، فكيف بمَن يخرج لمقاتلة الخليفة الشرعي؟! كما فعلت عائشة مع علي عَلیه السَلام ، فكانت عائشة السبب الرئيس وراء إراقة دماء آلاف المسلمين من الطرفين بلا مبرر.

ص: 168


1- انظر: الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج2، ص438.

فأين خروج المرأة للحجّ من خروج السيدة عائشة لإراقة الدماء؟! وقد ورد في حديث روته عائشة نفسها، عندما سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم - يتحدّث وعنده نساؤه - يقول: «ليت شعري! أيتكُنّ تنبحُها كلابُ الحوأب؟!»(1) فخرجت سائرة إلى الشرق في كتيبة! وفعلاً نبحت كلاب الحوأب على عائشة هناك مثلما أخبر رسول السماء.

* وفي الحلقة السابعة أيضاً، أحد المدافعين عن خروج السيدة عائشة، يقول: «لم تخرج أُمُّ المؤمنين إلّا لتعلّق الناس بها، راجين بركتها في الإصلاح، وعلوّ مكانتها».

أيُّ بركات هذه؟! وأيُّ إصلاح مُدّعى؟! لقد خرجت السيدة عائشة تؤلّب الناس ضد اثنين من الخلفاء، أولهما عثمان، فحثّت الناس على قتله بقولها: «اقتلوا نعثلاً فقد كفر»(2)، وثانيهما الإمام علي عَلیه السَلام ، الذي كانت تدعو لقتله أيضاً، بزعم أنّه قتَلَ عثمان!

ونريد الآن أن نفتح صفحات التاريخ؛ لنعرف بالضبط مَن هي السيدة عائشة؟ وهل أنّ شخصيتها تتوافق مع ما سجّلته عنها كتب التواريخ في معركة الجمل من موقف عجيب ضد الإمام علي عَلیه السَلام ، أو أنّها كانت ذات شخصيّة هادئة ومطمئنة، وما ذكروه عنها كان افتراءً لا يتوافق مع شخصيتها؟

تقول مصادر أهل السنّة: ولدت عائشة في السنة الرابعة بعد البعثة، أبوها أبو بكر، وأُمّها أُمّ رومان بنت عامر بن عويمر، وقد تزوجها الرسول بعد معركة بدر، ومات عنها وهى ابنة ثماني عشرة سنة، وتوفّيت سنة (58 أو 59ه-) وكانت سيرة حياتها مليئة بالخلاف مع الآخرين، ويذكر البخاري في صحيحه أنّ نساء الرسول

ص: 169


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج3، ص485.
2- المصدر السابق: ج3، ص477.

كُنّ حزبين: حزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر أُمّ سلمة وسائر نساء الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم (1).

وقد تحدَّثت عائشة بنفسها عن غيرتها من خديجة - مع أنّها كانت متوفاة - ومن أُمّ سلمة وزينب بنت جحش، وروى البخاري بسنده عن عائشة، قالت: «كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول: أتهب المرأةُ نفسها؟! فلمّا أنزل الله تعالى:«تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ »، قلت: ما أرى ربك إلّا يسارع في هواك»(2).

وبعد وفاة النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم اختلفت عائشة مع الخليفة عثمان بن عفان عدّة مرات، وقد جاء في الأثر أنّ عثمان قال في رهط من أهل الكوفة استجاروا ببيت عائشة: «أما يجد مُرّاق العراق وفسّاقهم ملجأ إلّا بيت عائشة؟! فسمعته فرفعت نعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقالت: تركتَ سنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صاحب هذا النعل! فتسامع الناس؛ فجاءوا حتى ملأوا المسجد، فمِن قائلٍ: أحسنتِ، ومِن قائلٍ: ما للنساء وهذا! حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال»(3).

وكانت عائشة أول مَن لقّبت الخليفة عثمان نعثلاً - وهو يهودي يُشبه عثمان في المدينة - وقالت بصريح العبارة: «اقتلوا نعثلاً فقد كفر»(4).

وبعد أن قُتل عثمان وكُسر ضلعٌ من أضلاعه ولم يشهد جنازته - وهو المبشّر بالجنّة عند وعّاظ الموائد - إلّا مروان بن الحكم، وثلاثة من مواليه، وابنته فقط!!

ص: 170


1- انظر: البخاري، صحيح البخاري: ج 3، ص132.
2- البخاري، صحيح البخاري: ج6، ص24.
3- الأصفهاني، أبو الفرج، الأغاني: ج5، ص89. اُنظر: الذهبي، مروج الذهب: ج1، ص435
4- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج3، ص477.

عادت عائشة لتطالب بدم عثمان وتقول: قُتل مظلوماً. وتقول مصادر التاريخ: كانت عائشة بمكة المكرّمة حين قُتل عثمان، ولمّا بلغها الخبر قالت: «أبعده الله، ذلك بما قدَّمت يداه»(1)، وأسرعت إلى المدينة، وهي لا تشك أنّ ابن عمِّها طلحة قد بويع بالخلافة، ولعلمها بأنّه السبب الأول في قتل عثمان، ولكن لمّا رأت الناس تُبايع علياً وتختاره خليفة طوعاً وبلا إكراه، رفعت صوتها بالمطالبة بدم عثمان، وصارت تُحَرِّض على مقاتلة علي عَلیه السَلام ممّا دعا ابن أُمّ كلاب للقول:

فمنك البداء ومنك الغِيَر ***ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرتِ بقتل الإمام***وقلتِ لنا إنّ-ه ق-د ك-ف-ر(2)

وقاتلت عائشةُ الإمامَ عليّ بن أبي طالب عَلیه السَلام في وقعة الجمل الشهيرة، ولعل أفضل وصف لذلك ما جاء عن ابن قتيبة، قال: «حين دخلتْ أُمّ أوفى العبديّة على عائشة بعد وقعة الجمل، قالت لها: يا أُمّ المؤمنين، ما تقولين في امرأة قتلت ابناً لها صغيراً؟ قالت: وجبت لها النار. فقالت أُمّ أوفى: فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفًا في صعيد واحد؟! فقالت: خذوا بيد عدوّة الله!!»(3).

وأخيراً، فإنّ السيدة عائشة، قالت نادمة: «وددت أنّي كنتُ نسياً منسياً»(4)، وقيل: إنّها عندما احتضرت جزعت، فقيل لها: أتجزعين يا أُمَّ المؤمنين وابنة أبي بكر؟! فقالت: «إنّ يوم الجمل لمعترض في حلقي، ليتني مِتّ قبله!»(5)؛ لذلك طلبتْ أن لا تُدفن مع النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم ، قائلة: «إنّي قد أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛

ص: 171


1- المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج6، ص216.
2- اُنظر: الخليلي، جواد جعفر، من حياة الخليفة عثمان بن عفان: ص236.
3- الدينوري، ابن قتيبة، عيون الأخبار: ج 1، ص300.
4- البخاري، صحيح البخاري: ج 6، ص10.
5- ابن طيفور، بلاغات النساء: ص8-9.

فادفنوني مع أزواج النبي»(1).

ب) طلحة والزبير من رجال الإصلاح!

* في أحد مشاهد الحلقة الثامنة يظهر أنّ عمّار بن ياسر يقول للحسن عَلیه السَلام : «أمير المؤمنين وطلحة والزبير من أشدّ الناس حرصاً على إخماد الفتنة. فيجيبه الحسن مؤيداً: صدقت يا عمّار».

ممّا فعله أرباب هذا المسلسل هو أنّهم كلّما أرادوا أن يُمَرِّروا عقيدةً ما أو حكماً معيناً، أو رأياً مختلَقاً أو فكرة مشوّهة، عمدوا لطرحها على لسان الإمام الحسن أو الإمام الحسين، أو على لسان أحد الصحابة المشهورين، وهنا يقول الصحابي الكبير عمّار بن ياسر: «إنّ طلحة والزبير يحملان همّ الإسلام ويحرصان على وحدة المسلمين، كما يحرص الإمام علي بالضبط»!!

ومن المناسب أن نُلقي الضوء على شخصيّة طلحة والزبير، الحريصين جداً على إخماد الفتن!!

فطلحة بن عبد الله التيمي، هو أحد أقرباء الخليفة الأول أبي بكر، والزبير بن العوّام بن خويلد بن أسد، هو ابن عمّة النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم ، وأُمّه صفيّة بنت عبد المطلب، وزوجته أسماء بنت أبي بكر أُخت عائشة.

وكان طلحة والزبير ممَّن بايع علياً عَلیه السَلام مع الناس، ثمّ سألاه أن يُشركهما في الحكم، وأن يولّي أحدَهما البصرةَ والآخر الكوفة، فأبى الإمام عليّ عَلیه السَلام ، وحين قسّم العطاء ساوى بينهما وبين الموالي؛ فكان نصيب كلّ منهما ثلاثة دنانير، فقال طلحة: «ما لنا من

ص: 172


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج 8، ص74.

هذا الأمر إلا كلحسة الكلب»(1).

وبدأ الخلاف عندما جاء طلحة والزبير إلى عليّ وقالا له: «يا أميرَ المؤمنين، قد رأيتَ ما كنّا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلّها، وعلمت رأي عثمان في بني أُميّة، وقد ولاّك الله الخلافة من بعده، فوّلنا بعضَ أعمالك. فقال لهما: ارضيا بقَسم الله لكما حتى أرى رأيي، واعلما أنّي لا أشرك في أمانتي إلّا مَن أرضى بدينه وأمانته من أصحابي، ومَن قد عرفت دخيلتَه. فانصرفا عنه وقد دخلهما اليأس؛ فاستأذناه في العمرة، وخرجا من عنده وهما غاضبان ويحتالان للخروج عن بيعته ونكثها، وفي ذلك الظرف القاسي وصل إليهما كتاب معاوية يدعوهما إلى نكث البيعة، وأنّ أهلَ الشام بايعوا لهما إمامين مترتّبين؛ فاغترّا بالكتاب وعزما النكث بجد.

ثمّ دخلا على عليّ فاستأذناه في العمرة، فقال: ما العمرة تريدان. فحلفا له بالله، إنّهما ما يريدان غير العمرة، فقال لهما: ما العمرة تريدان، وإنّما تريدان الغدرة ونكْث البيعة. فحلفا بالله، ما الخلاف عليه ولا نكثَ بيعته يريدان وما رأيهما غير العمرة، فقال لهما: فأعيدا البيعة لي ثانية. فأعاداها بأشدّ ما يكون من الأيمان والمواثيق، فأذنَ لهما، فلمّا خرجا من عنده قال لِمَن كان حاضراً: والله، لا ترونهما إلّا في فتنة يقتتلان فيها. قالوا: يا أمير المؤمنين، فمُرْ بردِّهما عليك. فقال عَلیه السَلام : ليقضي الله أمراً كان مفعولاً» (2).

ثمّ إنّ طلحة والزبير بعدما استأذنا عليّاً غادرا المدينة ونزلا مكة، وكانت بينهما وبين عائشة صلة وثيقة، فعمدوا يتآمرون ضد عليّ، فلمّا بلغ عليّاً مؤامرةُ الزبير وطلحة وأنّهما نكثا أيمانهما؛ أشار بعض أصحاب الإمام أن لا يتبعهما، فأجاب عَلیه السَلام بقوله: «والله، لا أكون كالضبع تَنام على طول اللّدم، حتى يصلَ إليها طالبها، ويختلها راصدها، ولكن أضرب بالمقبل إلى الحقّ، المدبرَ عنه، وبالسامع المطيع العاصيَ المريبَ

ص: 173


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج 3، ص452.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج1، ص231.

أبداً، حتى يأتي عليّ يومي»(1).

وأمّا التمويل لهؤلاء الناكثين، فالتأريخ يذكر: «أنّه انصرف عن اليمن عاملُ عثمان وهو يعلى بن منية، فأتى مكّة، وصادف بها عائشة وطلحة والزبير ومروان بن الحكم في آخرين من بني أُميّة، فكان ممّن حرّض على الطلب بدم عثمان، وأعطى عائشة وطلحة والزبير أربع مائة ألف درهم وكراعاً [أي الخيل والبغال والحمير] وسلاحاً، وبعث إلى عائشة بالجمل المسمّى (عسكراً)، وكان شراؤه عليه باليمن مائتي دينار، فأرادوا الشام، فصدّهم ابن عامر [عبد الله بن عامر والي عثمان السابق على البصرة] وقال: إنّ به معاوية، ولا ينقاد إليكم، ولا يطيعكم، لكن هذه البصرة لي بها صنائع وعدد، فجهّزهم بألف ألف درهم ومائة من الإبل وغير ذلك»(2). ومن الواضح أن هذه أموال بيت مال المسلمين يتلاعب بها ولاة عثمان حتى بعد وفاته!!

وقال ابن الأثير: «لقد بايع الزبير وطلحة الإمام، وبعد أربعة أشهُر نكثا البيعة، وهربا إلى مكة بعد قتل عثمان بأربعة أشهُر»(3).

وقال أيضاً: «فلما تراءى الجمعان - في معركة الجمل - خرج الزبير على فرس عليه سلاح، وخرج طلحة، فخرج إليهما علي عَلیه السَلام حتى اختلفت أعناق دوابهم، فقال علي: لعمري، قد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً، إن كنتما أعددتما عند الله عذراً، فاتقيا الله ولا تكونا «وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا »، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرِّمان دمي وأحرِّم دمكما؟! فهل من حدث أحلّ لكما دمي؟! قال طلحة: ألَّبتَ على عثمان. فقال علي: «يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ». يا طلحة، تطلب بدم عثمان؟! فلعن الله قتلة عثمان! يا طلحة، أجئت بعرس رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، تُقاتل

ص: 174


1- نهج البلاغة: خطبة 6.
2- المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر: ج 2، ص357.
3- اُنظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج3، ص191.

بها وخبّأت عرسك في البيت؟! أما بايعتني؟! قال طلحة: بايعتك والسيف على عنقي. فقال عليّ للزبير: يا زبير، ما أخرجك ؟ قال: أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلاً ولا أوْلى به منّا!»(1).

ج) معاوية من أعظم شخصيات الإسلام!!

في الحلقة السابعة عشرة يخاطب ابنُ قيس الضحاك - أبرز مستشاري معاوية - وجهاءَ الشام، قائلاً: «بعد موت علي ليس لإمارة المسلمين إلّا معاوية، فلقد كان الرسول يثق به! وأبو بكر يعتمد عليه، وكذلك عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وهو الذي خَبِر أُمور الحكم منذ أن كان شاباً، وكذلك نحن في الشام نعتمد عليه، وهو مَن هو، وما زال والياً على الشام منذ عهد عمر بن الخطاب، وما هو دون الحسن في شؤون الحكم، فعلينا أن نبادر لبيعته نحن أهل الشام».

إنّ الخطأ الذي ارتكبه الخليفة الثاني باعتماده على معاوية، والذي جرّ الويلات على أُمّة محمد صلّى الله عليه و آله و سلّم منذ ذلك اليوم إلى الآن، بل إلى يوم القيامة، تحوَّل إلى منقبة وشهادة فخرية يشهرها الوعّاظ في وجه مَن يقول: إنّ معاوية رجل منحرف.

يقول الشيخ الدكتور أحمد الكبيسي، وهو أحد علماء السنّة البارزين وممّن تتسابق الفضائيات للالتقاء به ونشر أفكاره، يقول: «إنّ مآسي أُمّتنا كلّها بسبب معاوية؛ فهو الذي مزّق الأُمّة إلى أشلاء، وهو الذي شتَّت شمل المسلمين»(2).

فما هي هذه المميزات التي وضعها منشئو المسلسل على لسان ابن الضحاك، والتي لو صحّت فإنّها لا يمكن أن تكون مبرّراً يُتيح لمعاوية أن يجعل نفسه خليفة لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم وفي الأُمّة مثل الحسن والحسين عَلیهِماالسَّلام ، وفي الأُمّة أيضاً عشرات الصحابة في

ص: 175


1- اُنظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج3، ص239.
2- اُنظر:http://www.youtube.com/watch?v=pi0mtwMjhic

المدينة وفي مكة وفي العراقَين، ممّن لم يكونوا طُلقاء؟! وما دام علي عَلیه السَلام لم يكن راضياً عن معاوية، فلا ينفعه إذن رضا الثلاثة أو المائة عنه، والحمد لله الذي جعل علياً عَلیه السَلام ميزان الأعمال وجعل الحقّ يدور معه حيثما دار.

ونسأل أيضاً: ما هي منجزات معاوية وخبراته وهو شاب؟ أليست هي محاربة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في بدر وأُحد والأحزاب، وممارسة الخمور والفجور وعبادة الأوثان..؟! فهذه هي مرحلة الشباب عند معاوية أيام كان يعيش مع أبيه عدوّ الرسول اللدود، ومع أُمّه هند آكلة لحوم البشر.

إنّ من أكبر الجرائم التي ارتكبها المسلسل هو أنّه لم يكتفِ بتحريف الآلاف من صفحات التاريخ الصحيح التي سجّلت بغي معاوية وعناده وجوره، وإنّما حاول أن يغرس في أذهان الأجيال الجديدة أنّ معاوية عظيم جداً، حتى أنّ ابن الضحاك حار في وصفه فيقول: «وهو مَن هو»!!

ومن حقّنا أن نسألهم أيضاً، ونقول: إذا كان معاوية يستحقّ عندكم كلّ هذا التقديس؛ لأنّ الخلفاء الثلاثة وأهل الشام كانوا يعتمدون عليه، فماذا نقول نحن في إمامنا الحسن عَلیه السَلام الذي قال عنه وعن أخيه رسولُ الله صلّى الله عليه و آله و سلّم : «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»؟!(1).

فمَن هو معاوية يا ترى ليقول عنه المسلسل على لسان ابن الضحاك: «وما هو دون الحسن في شؤون الحكم»؟! وهل كان رسول الله يثق بمعاوية حقاً؟! فأين حصل ذلك ومتى؟! هل عندما طلبه الرسول فقيل له: إنّه يأكل، فقال: «لا أشبع الله بطنه» (2)، أم عندما نعته بأنّه صعلوك(3)، أم عندما لعنه وقال: إذا رأيتموه على منبري

ص: 176


1- أحمد بن حنبل، مسند أحمد: ج 3، ص3.
2- النيسابوري، مسلم، صحيح مسلم: ج8، ص27.
3- انظر: النيسابوري، مسلم، صحيح مسلم: ج4، ص195.

فاقتلوه؟!(1).

والعجيب أن تجد بعض العلماء يصرّون على تحويل المثالب واللعنات على معاوية إلى مناقب ومزايا! فحديث «لا أشبع الله بطنه» صريح في ذمّ معاوية وفي الدعاء عليه من قِبل سيد الكائنات الذي لا ينطق عن الهوى، لكن حوّله وعّاظ السلاطين إلى فخر ومنقبة يمتاز بها معاوية على الآخرين! إذْ قال الذهبي - بعد ذكر هذا الحديث -: «لعل هذه منقبة لمعاوية؛ لقول النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم : اللهم مَن لعنته أو شتمته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة»(2).

ومن حقّنا أن نقول: هل تتوقع أيها المسلم، أن يذمّ رسولُ الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أحداً أو يدعو عليه أو يلعنه بلا مبرر، إلا لأجل تزكيته ورفع شأنه؟! أيُّ تدليس وتلاعب بالدين والمقاييس أكثر من هذا؟!

أمّا ابن كثير- صاحب التفسير العظيم - فلم يكتف بتهوين دعاء النبي على معاوية، بل قال بعد أن أورد هذا الحديث: «وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأُخراه، أمّا في دنياه: فإنّه لمّا صار إلى الشام أميراً كان يأكل في اليوم سبع مرّات، يُجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل، فيأكل منها معاوية، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً، ويقول: والله، لا أشبع وإنّما أعيا، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كلّ الملوك»!(3)، وهل هذه فضيلة والقرآن يصرّح: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ » (4)، بل هذه فضيحة لهم؛ إذ استُجيب فيه دعاء الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم : «لا أشبع الله بطنه».

ص: 177


1- ذكر طرقه وألفاظه الأميني في الغدير: ج10، ص142- 148.
2- الذهبي، تذكرة الحفاظ: ج2، ص699.
3- ابن كثير، البداية والنهاية: ج8، ص128.
4- الأعراف: آية31.

وذكر ابن العربي، المعروف في عدائه لأهل البيت ولشيعتهم في كتابه العواصم من القواصم، أنّه دخل بغداد وأقام فيها زمن العباسيين - والمعروف أنّ بين بني العباس وبني أُميّة ما لا يخفى على النّاس - فوجد مكتوباً على أبواب مساجدها: «خير النّاس بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أبو بكر، ثمّ، عمر، ثمّ عثمان، ثمّ علي، ثمّ معاوية خال المؤمنين (رضي الله عنهم)»(1).

وكثر في العصر الحديث أمثال هؤلاء الوعّاظ، فها هو محب الدين الخطيب (1886 - 1969م)، المعادي لأهل البيت والذي حارب دار التقريب الذي أنشأه علماء الشيعة بمصر للتقريب بين المذاهب فأسماه دار التخريب، يقول من القاهرة: «سألني مرّة أحد شباب المسلمين ممّن يحسن الظنّ برأيي في الرجال، ما تقول في معاوية؟ فقلت له: ومَن أنا حتى أُسأل عن عظيم من عظماء هذه الأُمّة، وصاحبٍ من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟! إنّه مصباح من مصابيح الإسلام، لكن هذا المصباح سطع إلى جانب أربعة شموس ملأت الدنيا بأنوارها فغلبت أنوارها على نوره»!

ولو جئنا إلى التأريخ الصحيح لوجدنا أنّ المصادر السُّنية تبيّن عيوب معاوية ومخازيه، قال العاملي في الانتصار: «قال النسائي: لا أعلم لمعاوية فضيلة. سير أعلام النبلاء: ج14، ص132. قال الشوكاني: لا يصحّ في فضائل معاوية حديث. الأحاديث الموضوعة، تاريخ الطبري: سنة 51. ابن الأثير: حديث 2023 و209. وابن عساكر 2/ 379»(2).

وإليك عزيزي القارئ بعضاً من إنجازات (خال المؤمنين) و(كاتب الوحي)

ص: 178


1- ابن العربي، العواصم من القواصم: ص213.
2- العاملي، الانتصار: ج8، ص119.

معاوية كما وردت في مصادر أهل السنّة والجماعة، كما ذكر ذلك العاملي في الانتصار:

1- معاوية يترك السنّة! (سنن النسائي: ج5، ص253. البيهقي: ج5، ص113. مسند أحمد: ج1، ص217).

2- معاوية ينهى عن التلبية! (المُحلّى: ج7، ص136).

3- معاوية كان يحكم بجمع الأُختين! (الدرّ المنثور: ج2، ص137).

4- كان يلبس الذهب والحرير! (سنن النسائي: ج2، ص186).

5- لمّا استُشهد عليّ، قال معاوية: «الحمد لله الذي أمات علياً»! (البداية والنهاية: ج8، ص331).

6- معاوية يدسّ السمّ للحسن! (الاستيعاب: ج1، ص141. ابن عساكر: ج4، ص229. و...).

7- لمّا بلغ معاويةَ موتُ الحسن خرّ ساجداً لله! (العقد الفريد:ج2، ص298).

8- معاوية يقتل عمرو بن الحمق الخزاعي، وحِجْر بن عدي، ومالك الأشتر! (عيون الأخبار: ج1، ص201. تاريخ الطبري: ج6، ص54 ).

9- لمّا قتل محمد بن أبي بكر ألقاه معاوية في جيفة حمار، ثمّ أحرقه بالنار! (تاريخ الطبري: ج6، ص58 و61. الكامل: ج4، ص351. ابن كثير: ج7، ص313 ).

10 - معاوية يلعن علياً بنفسه! (صحيح مسلم: ج7، ص120).

11- معاوية يأمر الخطباء بلعن عليّ على المنابر! (تاريخ الخلفاء: ص190. وابن عساكر: ج2، ص47)، وغيرها كثير(1).

ص: 179


1- اُنظر: العاملي، الانتصار: ج8، ص119.

المحور الرابع: تشويه بعض رموز شيعة أمير المؤمنين عَلیه السَلام

اشارة

ومن محاولات أرباب هذا المسلسل البائسة هو الحطّ من شيعة أهل البيت علیهم السلام وتشويه صورتهم ما أمكن. ومن النماذج على ذلك ما تعرّض له مالك الأشتر النخعي، ففي الحلقة الثامنة يظهر مالك الأشتر وهو مستاء من أيّ صلح أو تفاوض مع قادة الجمل؛ لأنّه يريد إبادة جيش عائشة بأيّ صورة، فيلتفت إلى الإمام الحسن عَلیه السَلام وهو في حالة قلق شديد؛ خوفاً من مجيء القعقاع مبعوثاً من قِبل عائشة إلى أمير المؤمنين عَلیه السَلام للتصالح، ويقول: «ما الخبر الذي جاء به القعقاعُ من البصرة إلى أمير المؤمنين؟ فلا يُجيبه الحسن عَلیه السَلام ؛ لأنّه يعرف نواياه وحقده، ويخاطبه بطريقة جافة قائلاً: اسأل أمير المؤمنين».

مَن هو مالك يا ترى؟ إنّه مالك الأشتر النخعي.. الساعد الأيمن للإمام علي عَلیه السَلام وسيفه البتّار. ولقد لُقّب ب- (الأشتر) لأنّ إحدى عينيه شُتِرَت - أي شُقّت - في معركة اليرموك. قُدِّرت ولادته بين سنة (25-30) قبل الهجرة النبوية الشريفة، ولقد عاصر مالك الأشتر النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم ، ولكنه لم يره ولم يسمع حديثه، وذُكِر مالك عند النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم ، فقال فيه النبي: «إنّه المؤمن حقاً»(1). كما أنّه ذُكر في جملة المحاربين الشُّجعان الذين خاضوا معركة اليرموك، وهي المعركة التي دارت بين المسلمين والروم سنة (13ه-). قال ابن حَجَر: «تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، قال: شهد اليرموك فذهبت عينه يومئذٍ، وكان رئيس قومه» (2).

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: «ولَعمري، لقد كان الأشتر.. شديد البأس، جواداً رئيساً حليماً، فصيحاً شاعراً، وكان يجمع بين اللين والعنف؛ فيسطو في موضع السطوة، ويرفق في موضع الرفق»(3).

ص: 180


1- الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج9، ص41.
2- ابن حجر، تهذيب التهذيب: ج10، ص11.
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج 15، ص101-102.

ولقد كتب الإمام علي عَلیه السَلام يخاطب أهل مصر في عهده لمالك بعد أن جعله والياً عليها: «أمّا بعد، فقد بَعثتُ إليكم عبداً من عباد الله، لا ينام أيّامَ الخوف، ولا يَنكُل عن الأعداء ساعاتِ الرَّوع، أشدُّ على الفُجَّار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذْحج، فاسمَعوا له وأطيعوا أمرَه فيما طابَق الحقّ، فإنّه سيفٌ من سيوف الله، لا كليلُ الظُّبّة، ولا نابي الضَّريبة، فإن أمَرَكم أن تَنفروا فانفروا، وإن أمَرَكم أن تُقيموا فأقيموا؛ فإنّه لا يُقدِم ولا يُحجِم ولا يُؤخِّر ولا يُقدِّم إلّا عن أمري»(1).

وكتب عَلیه السَلام له يوماً: «وأنت مِن آمَنِ أصحابي، وأوثقِهم في نفسي، وأنصحِهم وأرآهم عندي»(2).

ولقد عُرِف عن مالك الأشتر شدّته في الحقّ وتمسّكه الشديد بخليفة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم الإمام علي عَلیه السَلام ، ومن مظاهر ذلك التمسّك والتعصّب للحقّ أنّه كان يهدد المترددين والمتوقفين عن بيعة الإمام عَلیه السَلام .

ولهذا وغيره حقَدَ معاوية وابن العاص ووعّاظ السلاطين الداعمين للمسلسل على مالك الأشتر، الإمامي العلوي المخلص، الذي جمع بين مختلف الكمالات، من شجاعة مشهودة إلى سياسة نبيلة، ومن شعر وخطابة إلى حزم وعقل وتدبير، ومن لين ودين وكرم، إلى رئاسة وتواضع.

ص: 181


1- نهج البلاغة، خطب الإمام علي علیه السَّلام : ج3، ص64.
2- الكوفي، إبراهيم بن محمد الثقفي، الغارات: ج1، ص73.

ص: 182

فِقهُ النَهضَة ِالحُسَينِيَّة

اشارة

*لسان الحال في أدب الطف

بين المشروعية والمنع

*وجوب زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام

ص: 183

ص: 184

لِسَانُ الحَالِ في أَدَب الطَّفِ بَینَ المَشرُوعیَّةِ وَ المَنعِ الشيخ مشتاق طالب الساعدي

اشارة

من الموضوعات المتعلّقة ب-(فقه الشعائر الحسينية) الذي شاع كثيراً في أدب الطّف شعراً ونثراً، وأصبح مادّةً إلقائيّةً (إنشاديّة)، أو كتابيّةً هو: موضوع لسان الحال؛ فقد وُظّف في كثيرٍ من الموارد المتعلّقة بالشعائر الحسينية، كما في كلمات الخطباء، وشعر الشعراء، ونتاجات أقلام الكتَّاب والباحثين، فلعلّك لا تجد شاعراً أو خطيباً في قصيدته، أو مجلسه إلّا ويصوّر لك بلسان الحال ما حلّ برموز كربلاء ومَن يرتبط بهم، بل ولسان حال السيّدة الزهراء عَلیهاالسَلام ، وسائر الأئمة المعصومين علیهم السلام وغيرهم.

ولذلك؛ وقع الكلام في مشروعيّة هذا الأُسلوب الأدبيّ، وتصوير حال أشخاص الطفّ بصورةٍ عامةٍ، وما يزيد الأمر تعقيداً هو ما يتمتع به بعض شخوص الطّف من سمة العصمة، وعلو المقام، ورفعة المنزلة؛ فلذا قد يصعب معرفة حالهم، وإدراك آفاق تفكيرهم، وما يتخذونه من مواقف، أو ما يقولونه من كلمات تجاه الأحداث التي تجري عليهم؛ فمن ثَمَّ يصوّر الشاعر أو الناثر لسان حالهم، كتعبير عمّا كانوا سيقولونه بلسان المقال والكلام، أو ما سيفعلونه من تصرفات ومواقف عمليّة تجاه الوقائع، والأحداث التي أحاطت بهم يوم عاشوراء، ومن أهمّها مصرع سيّد الشهداء عَلیه السَلام .

ص: 185

وفي الحقيقة هناك اتّجاهان في أصل جواز لسان الحال في أدب الطّف، خصوصاً إذا كان لسان حال المعصومين - كالزهراء، والحسين، والسجاد علیهم السلام -:

اتّجاه ذهب إلى المنع من تصوير لسان الحال، والاقتصار على لسان المقال.

واتّجاه آخر أصرّ على المشروعيّة والجواز، كرديف للسان المقال، بل وصف بعضهم لسان الحال بأنّه أصدق من لسان المقال.

ولكلا الاتّجاهين أصحابه وأنصاره، وأدلته، وبياناته، وسنقف على ذلك مفصَّلاً إن شاء الله تعالى في طيّات الكلام.

بعد أنّ تبيّن لنا أنّ هذه المسألة محلّ ابتلاء؛ أصبح هناك سبب وجيه لبحثها وتنقيحها، والوقوف على حقيقتها، ويزيد الأمر أهميّة أنّها من المسائل غير المبحوثة على مستوى التنظير والتوجيه الفقهي، فهي أقرب إلى كونها من المسائل المستحدثة، وأغلب مَن ذكرها لم يُفصّل فيها، وإنّما أجاب عنها على شكل فتوى بالجواز أو عدمه، و بيّنها بالإشارات الإجمالية بحيث لا يتمكن القارئ من معرفتها، وتبقى التساؤلات والاستفسارات تجول في ذهنه، ولا يجد لها جواباً.

وفي هذا المقال نحاول الوقوف على أهمّ مفاصل هذه المسألة؛ لتكون باكورة عملٍ، وهيكلة بحثٍ، لِمَن يريد دراستها وبلورتها تفصيلاً.

معنى لسان الحال

لا نجد في معاجم اللغة العربية أي إشارة إلى تركيب (لسان الحال) بهذا العنوان، وإنّما شاع وانتشر في التعابير العربية شعراً ونثراً، بوصفه أُسلوب بيان لما يقتضيه حال المتكلم، من خلال الاطّلاع على مجمل أفعاله، أو حركاته، أو تقاسيم وجهه، أو أُفق

ص: 186

تفكيره، أو غير ذلك ممّا هو غير لسان المقال والكلام.

فكلّ ما يصدر من الإنسان من كلام مُصاغ بصياغات لفظيّة يسمّى ذلك: لسان مقال، وبتعبير آخر: هو لساننا الذي ننطق به، أو مجمل ما تنطق به الشفتان من كلام أمام النّاس؛ فيُؤخذ حينئذٍ بظهورات لفظ المتكلّم سواء كانت له أم عليه، ويُعرف من خلاله مراداته الاستعماليّة والجديّة إذا كان في مقام البيان.

وفي قبال ذلك يقع لسان الحال الذي يمكن أن نعرّفه بأنّه لسان تَصرُّفنا في واقع الأمر من حركاتٍ، وسكناتٍ، وإشاراتٍ، ومواقفَ ممّا نفعله في حياتنا وعلاقاتنا بالآخرين، كتصرفاتنا الشخصيّة، ومعاشرتنا للنّاس، ومجمل كلماتنا الأُخريات خصوصاً في مواقف مشابهة للموقف المحكي، يقرأها المقابل ويصيغها بصياغاتٍ أدبيةٍ، مجازيةٍ تحكي لسان مقالنا، أو تُقرِّب منه، بأُسلوبٍ أدبيّ فنيّ مجازيّ، بلا دعوى كونها لسان مقال.

ولعلّ أقدم النصوص التي عَرّفت لسان الحال هي ما ذكره الغزّالي، حيث قال: «هو نطق وراء نطق المقال، يُشبه قول القائل حكايةً لكلام الوتد والحائط، قال الجدار للوتد: لِمَ تشقّني؟ فقال: سل مَن يدقني» (1).

وعرّفه العلاّمة الطباطبائي، فقال عنه: « انكشاف المعنى عن الشيء لدلالة صفةٍ من صفاته، وحالٍ من أحواله عليه سواء شعر به أم لا»(2).

أمّا كمصطلح، فقد وردت لفظة (لسان الحال) في بعض أبيات الشعر العربيّ، ومن تلك الأبيات قول الشاعر:

ص: 187


1- الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين: ج1، ص178.
2- الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج8، ص308.

ق-ف ب-ال-ديار وسل-ه-م عن أهاليها ***ع--سى ت--رد ج-واب--اً إذ ت--ن--ادي-ها

واستفهمن من لسان الحال ما فعلت***أيدي الخطوب وماذا أبرمت فيها(1)

وقال آخر:

فدهشت بين جماله وجلاله***وغدا لسان الحال عني مخبرا (2)

وما يَصوغه المقابل - كالشاعر، أو الكاتب - من ألفاظ إنّما تحكي لسان حال المتكلّم في واقعةٍ ما، فيما لو أراد الكلام في تلك الواقعة، فالمتصدّي للسان الحال هو غير المتكلّم بطبيعة الحال، ودوره إبراز كلمات يَدّعي أنّها تُعبّر أو تُطابق كلام المتكلّم في حال كلامه، وهذه التعابير نتاج ما يقتضيه حال المتكلّم، وتقاسيم وجهه، ومجموع كلماته الأُخريات، أو معرفة المتكلّم له، أو من خلال قراءة معرفيّة بشخص المتكلّم، ومواقفه الأُخر التي نطق بها؛ فمن مجموع ذلك يستنبط صياغات يدّعي تجوُّزاً أنّها كلمات المتكلّم فيما لو كان تكلَّم حال حصول الواقعة، ولا يدعي أنّها كلماته حقيقة، كي يقال: إنّها كذب، بل يقول: هي تصوير مجازيّ، وأدبيّ لِما يقوله القائل لو أراد القول.

فيكون لسان الحال من باب التعبيرات الأدبيّة الفنيّة المجازيّة، والكنائيّة التي تحكي مُرادات وكلمات الشخص الذي لم يتكلّم في واقعةٍ ما، بأُسلوبٍ فنّي رائع وجميل، يَصوغه الشاعر أو الأديب.

وهو أُسلوب أدبيّ عريق؛ إذ لا نجد شعراً من الأشعار العربية في كلّ العصور الأدبيّة - ابتداءً من عصر ما قَبل الإسلام المسمّى بالعصر الجاهلي في كتب الأدب، ومروراً بالإسلاميّ، فالأُمويّ، فالعباسيّ، وانتهاءً بالشعر الحديث والمعاصر - إلّا وقد حوى روائع من لسان الحال.

ص: 188


1- البحراني، يوسف، كشكول البحراني: ج1، ص430.
2- الآلوسي، محمود، روح المعاني: ج9، ص55.

ثُمّ إنّ لسان الحال قد ورد في كثير من الروايات التي نقلها بعض المحدّثين في كتبهم ومعاجمهم الروائية، كما سنبيّن لاحقاً.

كما أنّ بعض المفسّرين قديماً وحديثاً، وكذا بعض الباحثين، والمهتمّين بالشأن القرآني قالوا بوجود لسان الحال في بعض الآيات القرآنيّة الكريمة، كتعبير عن لسان حال بعض الأفراد، وما كانوا ليقولوا لو نطقوا بلسان المقال، بل إنّ بعض الباحثين أدخل بعض القصص القرآني، والمثل القرآني في لسان الحال(1).

لسان الحال في النصوص الشرعيّة

اشارة

هناك نماذج من النصوص الشرعيّة، كالآيات الكريمة، والروايات، والأشعار التي وردت عن آل البيت علیهم السلام ، أو بحضورهم وتقريرهم، والتي استُعمل فيها لسان الحال، كأُسلوب بيانيّ أدبيّ، وهذا له فائدة في دعم أصل مشروعيّة لسان الحال، بوصفه أُسلوباً للبيان والتخاطب، وأنّه أُسلوب مشروع، وليس داخلاً في عنوان الكذب والخيال؛ ولذلك يُسوّغ من حيث الأصل استخدام هذا الأُسلوب في المحاورات بصورةٍ عامّةٍ، وفي الأدب الحسينيّ - شعراً أو نثراً - بصورةٍ خاصّةٍ. وإنّما يُبحث في موانع الاستعمال أو العناوين الطارئة التي قد تُحرِّمه، فيكون عَرض ذلك بعنوان مدخل لبيان الحكم في المسألة.

وعليه؛ فنتكلّم في محاور ثلاثة:

المحور الأول: لسان الحال في القرآن الكريم

ذهب بعض المفسّرين والباحثين إلى وجود أُسلوب لسان الحال في النص القرآني

ص: 189


1- استفدنا ذلك من محضر درس سماحة الشيخ محمد السند، في محاضرة خاصة حول عاشوراء

الشريف؛ وذلك في آياتٍ عديدةٍ، إمّا بشكل قطعي، أو بنحو أحد المحتملات، أو بنحو الأُطروحة. بل وسّع بعض الباحثين الأمر فذكر أنّ كثيراً من القصص والأمثال القرآنيّة قد وردت بهذا الأُسلوب البيانيّ، قال شيخنا الأُستاذ محمد السند: «... وهذا باب استعمله القرآن، وهو وحيّ وحيانيّ إلهيّ؛ فإنّ ضرب الأمثال في الكتاب العزيز لا حدّ له وفرةً وكثرةً مع أنّ المثل لا يراد الإخبار بمفاده المطابقيّ، بل المراد الجديّ منه المعنى المبطن والكنائيّ الذي يغاير المعنى المطابقيّ لسطح المثل، بل قد ضرب القرآن للناس من كلّ مثل.

نعم، ليس القرآن كلّه من قَبيل المثل والأمثال، كما تَوهّم بعضٌ، بل هو أحد الأبواب الثمانية لأُسلوب القرآن، والحكمة في هذا الأُسلوب والنمط من الاستعمال أُمور كثيرة:

منها: إنّ كثيراً من المعاني ليست حسيّة مرئيّة، بل هي من شؤون الرّوح وحالات النفس والخواطر القلبيّة، وغيرها من الأفعال التي ليست من عالم المادّة المحسوسة المرئيّة المسموعة الملموسة، بل هي من مشهد نفسانيّ، ومشهد روحيّ، ومشاهد عقليّة، ونفحات قلبيّة، وهي أوسع شأناً، وأكبر واقعيةً من العالم المرئي المحسوس، ولا بدّ من الإخبار عنه وانعكاسه إلى الآخرين، ولا يتأتى إلّا بأنماط أُخر، أحد نماذجها أُسلوب المثل والتمثيل، ولسان الحال يلتقي معه في ذلك»(1).

وهنا نَعرض بشكل مجمل بعض الآيات التي قيل بورودها بلسان الحال لا لسان المقال، مع استعراض آراء بعض المفسّرين في هذا المجال:

الآية الأُولى: قوله تعالى: «كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ »(2).

ص: 190


1- استفدنا ذلك أيضاً من محضر درس سماحته، في محاضرات خاصة حول عاشوراء
2- سبأ: آية15.

ذكر بعض المفسّرين في تفسير هذه الآية أنّها جاءت: «حكاية لما قال لهم نبيهم، أو لسان الحال، أو دلالة بأنّهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك»(1).

الآية الثانية: قوله تعالى: «وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ»(2).

أشار المفسّرون إلى وجوه عديدة في الآية الكريمة، واحتمل بعضهم أنّها وردت بلسان الحال، وبذلك قال الشيخ مغنية: «وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ»، أي: مع النسوة والأطفال والعجزة. ولم يبيّن سبحانه مَن الذي قال لهم هذا، هل هي أنفسهم الأمَّارة، أو لسان الحال، أو بعضهم لبعض؟ الله العالم»(3).

الآية الثالثة: قوله عزّ وجلّ: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» (4).

يعتقد بعض المفسّرين بوجود احتمال لسان الحال في الآية الكريمة، بل جزم به بعضهم، أو جعله الاحتمال الأقوى، وهو ما بيّنه السيّد محمّد حسين الطباطبائي بقوله: «وعلى هذا؛ يكون قولهم: «بَلَى شَهِدْنَا» من قَبيل القول بلسان الحال، أو إسناد للازم القول إلى القائل بالملزوم؛ حيث اعترفوا بحاجاتهم، ولزمه الاعتراف بمَن يحتاجون إليه، والفرق بين لسان الحال، والقول بلازم القول:

أنّ الأول: انكشاف المعنى عن الشيء؛ لدلالة صفة من صفاته وحال من

ص: 191


1- البيضاوي، عبد الله بن محمد، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (تفسير البيضاوي): ج4، ص396. واُنظر: الطبرسي، الشيخ الفضل بن الحسن، تفسير جوامع الجامع: ج3، ص 95
2- التوبة: آية46.
3- مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف:ج4، ص50.
4- الأعراف: آية172.

أحواله عليه، سواء شعر به أم لا. كما تُفصح آثار الديار الخَرِبة عن حال ساكنيها، وكيف لعب الدهر بهم، وعدت عادية الأيام عليهم، فأسكنت أجراسهم، وأخمدت أنفاسهم. وكما يتكلم سيماء البائس المسكين عن فقره ومسكنته وسوء حاله.

والثاني: انكشاف المعنى عن القائل لقوله بما يستلزمه أو تكلّمه بما يدل عليه بالالتزام.

فعلى أحد هذين النوعين من القول - أعني: القول بلسان الحال والقول بالاستلزام - يحمل اعترافهم المحكي بقوله تعالى:«قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا » ، والأول أقرب وأنسب؛ فإنّه لا يكتفي في مقام الشهادة إلّا بالصريح منها، المدلول عليه بالمطابقة دون الالتزام.

ومن المعلوم أنّ هذه الشهادة على أيّ نحو تحققت، فهي من سنخ الاستشهاد المذكور في قوله: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ »، فالظاهر أنّه قد استوفى الجواب بعين اللسان الذي سألهم به؛ ولذلك كان هناك نحو ثالث يمكن أن يحمل عليه هذه المسألة والمجاوبة؛ فإنّ الكلام الإلهي يُكشف به عن المقاصد الإلهية بالفعل، والإيجاد كلام حقيقي - وإن كان بنحو التحليل - كما تقدم مراراً في مباحثنا السابقة فليكن هنا قوله: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ »، وقولهم: «بَلَى شَهِدْنَا » من ذاك القبيل»(1).

الآية الرابعة: قوله عزّ مَن قال:«ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(2).

يظهر من كلام بعض المفسّرين المعاصرين الجزم بأنّ الآية المباركة وردت بلسان الحال، ومنهم الشيخ مكارم الشيرازيّ في تفسيره الأمثل، قال: «...كما ورد في القرآن الكريم التعبير عن لسان الحال، كالآية (11) من سورة فصلت، إذ جاء فيها: «فَقَالَ

ص: 192


1- الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج8، ص308.
2- فصلت: آية11.

لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(1)

وقال المحدّث الكاشاني في المحجّة البيضاء: «القسم الخامس: أن يُعبّر بلسان المقال عن لسان الحال، فالقاصر الفهم يقف على الظاهر ويعتقده نطقاً، والبصير بالحقائق يُدرك السرّ فيه، وهذا كقول القائل: قال الجدار للوتد: لِمَ تشقّني؟ قال: سل مَن يدقّني فلم يتركني ورائي، الحجر الَّذي ورائي. فهذا تعبير عن لسان الحال بلسان المقال؛ ومن هذا قوله تعالى: «فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»، فالبليد يفتقر في فهمه إلى أن يقدّر لهما حياةً وعقلاً وفهماً للخطاب، وخطاباً هو صوت وحرف تسمعه الأرض، وتُجيب بصوت وحرف، وتقول: أتينا طائعين. والبصير يعلم أنّ ذلك لسان الحال، وأنّه نبأ عن كونها مسخّرة بالضرورة ومضطرّة إلى التسخّر»(2).

الآية الخامسة: قوله سبحانه: «...وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا...»(3).

احتمل بعض المفسّرين بأنّ الشاهد في هذه الآية كان لسان الحال، ولكنّه ناقش هذا الاحتمال وضعّفه، وهذا ما جاء في تفسير الأمثل؛ حيث قال:«الاحتمال الثالث: إنّ الشاهد هو القدّ في الثوب الذي تكلّم بلسان الحال، ولكن مع ملاحظة كلمة من أهلها يضعّف هذا الاحتمال، بل ينفيه!»(4).

الآية السادسة: قوله تعالى: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ »(5).

ص: 193


1- .الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل: ج5، ص289.
2- الكاشاني، محسن، المحجة البيضاء: ج1، ص274.
3- يوسف: آية26.
4- الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج7، ص194.
5- الأنبياء: آية87.

ذكر بعض الفقهاء أنّ الآية جاءت بلسان الحال، ومنهم الشيخ جواد التبريزي، الذي قال في كتابه الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية:«وأمّا التعبير عن ذهابه بقوله سبحانه: «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ»، فهو من قَبيل بيان لسان الحال، وأنّ فعله، فعل مَن يظنّ ذلك»(1).

الآية السابعة: قوله عزّ وجلّ: «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» (2).

قال الشيخ المكارم في تفسيره الأمثل: «وينقدح سؤال آخر، وهو كيف تخاطب النار وهي موجود غير عاقل فترد وتُجيب على الخطاب؟!

ولهذا السؤال توجد إجابات ثلاث:

الأُولى: إنّ هذا التعبير نوع من التشبيه، وبيان لسان الحال! أي: إنّ الله يسأل بلسان التكوين جهنّم وهي تُجيب بلسان الحال، ونظير هذا التعبير كثير في اللغات المختلفة!

الثانية: إن الدار الآخرة دار حياة واقعية، فحتى الموجودات الماديّة كالجنّة والنار يكون لها نوع من الإدراك والحياة والشعور، فالجنّة تشتاق إلى المؤمنين، وجهنّم تنتظر المجرمين.

وكما أنّ أعضاء جسم الإنسان تنطق في ذلك اليوم وتشهد على الإنسان، فلا عجب أن تكون الجنّة والنار كذلك!

بل - وحسب اعتقاد بعض المفسّرين - إنّ ذرات هذا العالم جميعها لها إدراك وإحساس خاص؛ ولذلك فهي تُسبّح الله وتَحمِده، وقد أشارت إليه بعض آيات القرآن، كالآية44 من سورة الإسراء.

ص: 194


1- التبريزي، جواد، الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية: ص32.
2- سورة ق: آية30.

والثالثة: إنّ المخاطبين هم خزنة النار، وهم الذين يردّون على هذا السؤال.

وجميع هذه التفاسير يمكن قبولها، إلّا أنّ التفسير الأول أنسب كما يبدو!»(1).

هذه بعض الآيات التي احتُمل أنّ فيها لسان الحال، أو جزم بوجود لسان الحال فيها، وهناك آيات أُخريات احتُمل فيها لسان الحال، يجدها المتتبع للتفاسير؛ لم نذكرها حذراً من الإطالة.

كما أنّ الآيات التي احتوت على القصص والأمثال، حملها بعض الباحثين على ورود بعضها بلسان الحال، ويمكن الاطّلاع على تفاصيل ذلك في كتب التفاسير وكتب القصص القرآني والأمثال في القرآن.

وبذلك يكون أُسلوب لسان الحال أُسلوباً قرآنياً في الجملة، قد استُخدم للتعبير عن حقائق ببيانات بلاغيّة ومجازيّة.

المحور الثاني: لسان الحال في الروايات
اشارة

الدليل الثاني على أصل مشروعيّة لسان الحال هو استعماله في الروايات الشريفة؛ وهناك نحوان لذلك الاستعمال:

أحدهما: ما ورد في الروايات من التعبير ب-(لسان الحال) نصاً.

والآخر: الأساليب البيانية في الروايات، المحمولة على لسان الحال، وإليك بيان كلا النحوين:

ص: 195


1- الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل: ج17، ص47.
النحو الأول: الروايات المصرّحة بلسان الحال

لقد ورد تركيب لسان الحال نصاً في بعض الروايات، كأُسلوب صادق للبيان، ووصف في بعض مضامينها بأنّه أصدق من لسان المقال، ولعلّ وجه أصدقيته: أنّ في لسان المقال يمكن للمتكلّم أن يقول ما لا يريد فعلاً؛ فيكذب بكلامه، أمّا لسان الحال فهو تعبير قهريّ غالباً عن لسان الحقيقية التي يُخبِّؤها الإنسان في قلبه ووجدانه، وقد عبّر عن هذا الأمر أمير المؤمنين عَلیه السَلام بقوله: «ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه»(1).

وهذا التعبير قد ورد في عدّة روايات:

منها: ما رواه الليثيّ في عيون الحكم والمواعظ، عن الإمام أمير المؤمنين عَلیه السَلام أنه قال:«لسان الحال أصدق من لسان المقال»(2).

ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين عَلیه السَلام أيضاً، قال: «أصدق المقال، ما نطق به لسان الحال»(3).

النحو الثاني: الروايات المحمولة على لسان الحال

هناك مجموعة من الروايات يدل مضمونها - بنحو الظهور، أو الاحتمال - على لسان الحال، وفي هذا النحو مئات الروايات المبثوثة في المجامع الروائية، ونحن ننقل بعضاً من تلك الروايات اختصاراً:

ص: 196


1- خطب الإمام علي علیه السَّلام ، نهج البلاغة: ج4، ص7.
2- الليثي، علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ: ص420.
3- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة: ج2، ص1574.

الرواية الأُولى: ما رواه الكليني بسنده عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله عَلیه السَلام : «كيف أجابوا وهم ذر؟ قال: جُعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه. يعني في الميثاق» (1).

وقد شرح العلّامة المجلسي الرواية، فقال: «بيان: أي تعلّقت الأرواح بتلك الذر، وجعل فيهم العقل، وآلة السمع، وآلة النطق؛ حتى فهموا الخطاب وأجابوا وهم ذر»(2).

ولكن السيّد الطباطبائي ردّ على ذلك بقوله: «ظاهر الرواية لسان الحال، أو أنّهم كانوا على خلقةٍ لو نزلوا منزل الدنيا، ظهر ذلك منهم في صورة السؤال والجواب، وأمّا ما ذكره رحمه الله فبعيد عن سياق الخبر، ولو صح لكان هو الخلق الدنيوي بعينه»(3).

الرواية الثانية: ما رواه الشيخ الصدوق في كتابَي التوحيد وعيون أخبار الرضا عَلیه السَلام بسنده عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ، قال: «إنّ لله عزّ وجلّ عموداً من ياقوتة حمراء، رأسه تحت العرش، وأسفله على ظهر الحوت في الأرض السابعة السفلى.

فإذا قال العبد: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له. اهتزّ العرش، وتحرّك العمود، وتحرّك الحوت، فيقول الله تبارك وتعالى: اسكُن يا عرشي. فيقول: كيف أسكُن وأنت لم تغفر لقائلها؟! فيقول الله تبارك وتعالى: اشهدوا سكان سماواتي أنّي قد غفرت لقائلها»(4).

الرواية الثالثة: ما جاء من روايات في وداع شهر رمضان المبارك، التي حمل بعض العلماء معنى الوداع فيها على لسان الحال، قال السيّد ابن طاووس في الإقبال: «إنّ

ص: 197


1- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج 2، ص12.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج 5، ص257.
3- المصدر السابق: هامش ص57.
4- الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا علیه السَّلام : ج2، ص34.

سأل سائل فقال: ما معنى الوداع لشهر رمضان وليس هو من الحيوان الذي يخاطب أو يعقل ما يقال له باللسان؟!

فاعلم أنّ عادة ذوي العقول قبل الرسول، ومع الرسول، وبعد الرسول، يخاطبون الدّيار والأوطان، والشباب وأوقات الصفا والأمان والإحسان ببيان المقال، وهو محادثة لها بلسان الحال.

فلمّا جاء أدب الإسلام أمضى ما شهدت بجوازه من ذلك أحكام العقول والأفهام، ونطق به مقدس القرآن المجيد، فقال جلّ جلاله: «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ». فأخبر أنّ جهنّم ردّ[ت] الجواب بالمقال، وهو إشارة إلى لسان الحال، وذُكر كثيراً في القرآن الشريف المجيد، وفي كلام النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم والأئمة علیهم السلام ، وكلام أهل التعريف، فلا يحتاج ذوو الألباب إلى الإطالة في الجواب.

فلمّا كان شهر رمضان قد صاحبه ذوو العناية به من أهل الإسلام والإيمان، أفضل لهم من صحبة الدّيار والمنازل، وأنفع من الأهل وأرفع من الأعيان والأمثال، اقتضت دواعي لسان الحال أن يودع عند الفراق والانفصال»(1).

الرواية الرابعة: ما رواه الرازي في تفسيره من أنّ: «موسى عَلیه السَلام كلّم البحر، قال له: انفلق لي لأعبر عليك. فقال البحر: لا يمرُّ عليّ رجل عاص».

ثمّ قال الرّازيّ: «وعند المعتزلة أنّ ذلك على لسان الحال، لا لسان المقال. والله العالم»(2).

وغير ذلك من الروايات الدالة على وجود مثل هذا الأُسلوب في البيان والتعبير،

ص: 198


1- ابن طاووس، علي موسى، إقبال الأعمال: ج1، ص419-420.
2- الرازي، فخر الدين، تفسير الرازي: ج 22، ص94.

وهو دليل آخر على أصل مشروعيّة لسان الحال.

المحور الثالث: لسان الحال في الأشعار المنسوبة لآل البيت علیهم السلام

لا شكّ في شيوع لسان الحال في الأدب العربي شعراً ونثراً؛ باعتباره أُسلوب بيان استُخدم في مئات القصائد، وعشرات المقاطع النثرية، والمتتبع للأدب العربي يجد ذلك واضحاً، ونذكر على نحو الاختصار مثالاً للشعر، ومثالاً للنثر مما ورد بلسان الحال، فمن الشعر قول الشاعر - وهو يحكي لسان حال ثلاث أخوات لاقاهنّ في الطريق - :

قالت الكبرى أتعرفن الفتى***قالت الوسطى نعم هذا عمر

قالت الص-غرى وقد تيّمتها*** قد عرفناه وهل يخفى القمر(1)

ومن النثر قول القائل: «سل الأرض، فقل: مَن أجرى أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تُجبك حواراً أجابتك اعتباراً»(2).

وليس هدفنا استعراض لسان الحال في الأدب العربي؛ لأنّه خارج عن محلّ الكلام، وإنّما هدفنا هو ذكر الأشعار التي وردت بأُسلوب لسان الحال؛ إمّا بنحو الإلقاء من قِبَل أهل البيت علیهم السلام ، أو التي أُلقيت في حضرتهم ولم يعترضوا عليها، وهذا النحو من الشعر له شواهد تناقلتها كتب الحديث والتأريخ والأدب، وهو كما يدل على أصل مشروعيّة هذا الأُسلوب البياني، كذلك يدلّ على مشروعيّة استعمال أُسلوب لسان الحال في خصوص الأشعار التي يكتبها شعراء آل البيت علیهم السلام في أدب الطّف، ومن هذه الموارد:

ص: 199


1- الأصفهاني، أبو الفرج، الأغاني: ج1، ص116.
2- الجاحظ، البيان والتبيين: ص58.

الأول: ما نُسب إلى الإمام أمير المؤمنين عَلیه السَلام مخاطباً الزهراء عَلیهاالسَلام عندما كان يزور قبرها الطاهر:

م-الي وقف-ت على القبور م-سلماً***قبر الح-بي-ب فلم يردّ جوابي

أح-ب-يب م-ا ل-ك لا ترد جوابنا ***أنسيت بعدي خلّة الأحباب

قال الحبيب وكيف لي بجوابكم***وأن-ا ره-ي-ن جنادل وتراب

أك-ل ال-تراب محاسني فنسيتكم***وحجبت عن أهلي وعن أترابي

ف-علي-ك-م مني السلام تقطعت***عنّي وعنكم خلّة الأحباب(1)

الثاني: ما أنشده دعبل الخزاعي شاعر أهل البيت علیهم السلام عندما خاطبه الإمام الرضا عَلیه السَلام قائلاً: «يا دعبل، ارثِ الحسين؛ فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حياً، فلا تقصّر عن نصرنا ما استطعت. قال دعبل: فاستعبرت وسالت عبرتي، وأنشأت أقول:

أفاط-م لو خلت الحسين مجدلاً ***وق-د مات عطشانا بشط فرات

إذا لل-طم-ت الخ-د فاطم عنده***وأجريت دمع العين في الوجنات

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي***ن-جوم س-ماوات ب-أرض ف-لاة

قبور ب-كوف-ان وأُخ-رى ب-طيبة***وأُخ-رى ب-ف-خ ن-اله-ا صلواتي

قبور ببطن النهر من جنب كربلا***معرّس-هم ف-يها بشط فرات»(2)

الثالث: ما أنشده الإمام الهادي عَلیه السَلام من قصيدة أمام المتوكل العباسي، وقد حوت لسان الحال:

ص: 200


1- اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج 43، ص217.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص257.

وهي ما رواه المجلسي قائلاً: «قال المسعودي في مروج الذهب: سُعي إلى المتوكّل بعلي بن محمد الجواد عَلیهِماالسَّلام أنّ في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنّه عازم على الوثوب بالدولة؛ فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا داره ليلاً، فلم يجدوا فيها شيئاً ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصا وهو متوجّه إلى الله تعالى يتلو آيات من القرآن. فحُمل على حاله تلك إلى المتوكّل، وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً، ووجدناه يقر[أ] القرآن مستقبل القبلة. وكان المتوكّل جالساً في مجلس الشرب، فدخل عليه والكاس في يد المتوكّل، فلمّا رآه هابه وعظّمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكاس التي كانت في يده، فقال: والله، ما يخامر لحمي ودمي قط؛ فاعفني. فأعفاه، فقال: أنشدني شعراً. فقال عَلیه السَلام : إنّي قليل الرواية للشعر. فقال: لا بدّ. فأنشده عَلیه السَلام وهو جالس عنده:

باتوا على قُلل الأجبال تحرسهم***غُلب الرجال فلم تنفعهم القُلل

واستُنزلوا بعد عزّ من معاقلهم ***وأُسك-ن-وا ح-ف-راً يا بئسما نزلوا

ناداهم صارخ م-ن بعد دفن-هم ***أي-ن الأس-اور والتيجان والحلل

أين الوج-وه التي كانت منعّمة ***من دونها تُضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ***تلك الوجوه عليها الدود تقت-تل

قد طال ما أكلوا دهراً وقد شربوا ***وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أُكلوا

... فأشفق كلّ مَن حضر على عليّ، وظنّ أنّ بادرة تبدر منه إليه، قال: والله، لقد بكى المتوكّل بكاءً طويلاً حتى بلّت دموعه لحيته، وبكى مَن حضره، ثُمّ أمر برفع

ص: 201

الشراب، ثُمّ قال له: يا أبا الحسن، أعليك دَينٌ؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار. فأمر بدفعها إليه، وردّه إلى منزله من ساعته مكرماً»(1).

إلى غير ذلك من الشواهد التي يجدها المتتبع لكتب الحديث والتاريخ والأدب.

لسان الحال في الميزان الفقهي

اشارة

من المسائل المستحدثة في (فقه الشعائر الحسينية)، مسألة استخدام لسان الحال في مصاديق الشعائر، سواء نثراً أو شعراً أو خطابةً، وقد شاع استخدام هذا الأُسلوب وانتشر بين شعراء الطّف وخطبائه بصورة ملحوظة خصوصاً بين المعاصرين؛ وبذلك انفتح نقاش فقهيّ في المسألة من حيث المشروعيّة وعدمها.

وتخالفت بذلك آراء الفقهاء بين مجوّز ومانع، والمسألة باعتبارها مستحدثة لم تُطرح إلى الآن على مستوى التنظير والاستدلال الفقهي الموسّع، وإنّما طُرحت على مستوى الفتوى، وطبيعة الفتوى لا تسلّط الضوء على الأدلة، وإنّما يُعطي الفقيه من خلالها موقفاً عملياً بقالب قانونيّ مقتضب؛ لكي يطبّقه المكلّف أو السائل، ولا يتصدّى لبيان أدلة الحكم، ومَن تصدّى لذلك، فإنه لم يبيّنه إلّا بشكل مجمل.

أقوال الفقهاء في لسان الحال
اشارة

تنقسم أقوال الفقهاء في مسألة لسان الحال إلى قسمين: قسم ذهب إلى المنع. وآخر جوّز مثل هذا الأُسلوب، ولكن بشروط معيّنة:

القول الأول: (المنع)

أبرز مَن ذهب إلى المنع هو الشهيد السيّد محمّد الصدر قدس سرّه ، في كتابه أضواء

ص: 202


1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج50، ص213.

على ثورة الإمام الحسين عَلیه السَلام ؛ حيث تبنَّى القول بعدم جوازه بعد أن أورد جملة من الإشكالات، وبما أنّ كتابه ليس كتاباً فتوائياً، بل كان بحثاً تأريخياً؛ فلا نستطيع أن نجزم بأنّ فتواه في ذلك هي المنع مطلقاً، ولم نجد فيما بحثنا فتوى له بذلك.

أدلة المانعين

لقد طرحت في هذا المجال مجموعة من الشواهد والأدلة، نشير فيما يلي إلى بعضها:

الدليل الأول: ما قد يظهر من كلمات بعض الأعلام، وهو أنّ لسان الحال نوع من الكذب والمبالغة، وهو غير جائز في الشريعة المقدّسة، خصوصاً إذا كان على الذوات المقدّسة، كالنبيّ الأعظم، أو أمير المؤمنين، أو السيّدة الزهراء، أو الأئمة من أبنائها المعصومين علیهم السلام (1).

ويمكن أن يُلاحظ عليه:

1- إنّ لسان الحال ليس داخلاً في الكذب؛ فهو وإن لم يكن تعبيراً حقيقياً عن مقال الإنسان، إلّا أنّه تعبير مجازيّ، وليس أُسلوب المجاز أُسلوباً داخلاً في الكذب، كيف ذا وقد وردت آيات، وروايات بهذا الأُسلوب؟!

2- إنّ لسان الحال إنّما يقال: إنّه كذب، لو كان كاتبه يدّعي أنّه يُعبّر عن حال الآخرين بنحو المطابقة والحقيقة، ولكن القائل للسان الحال لا يدّعي الحقيقة، وإنّما يدّعي تصويراً مجازياً ادعائياً فنياً لِما سيقوله الآخرون لو نطقوا به، فلا يقول المنشئ للسان الحال: إنّ هذا نص وحقيقة ما أراد قوله الآخر، وإنّما يقول: إنّي من خلال قرائن حاليّة ومقاليّة، أدعي أنّه لو تكلّم لقال ما عبّرت به عن كلامه.

ص: 203


1- الصدر، محمد محمد صادق، أضواء على ثورة الإمام الحسين علیه السَّلام : ص152

3- إنّ الشعر الذي صوّر فيه دعبل حال السيّدة الزهراء عَلیهاالسَلام ، فيما لو كانت حاضرة في واقعة الطّف، كان فيه لسان الحال واضحاً، وكان هذا التصوير بمرأى ومسمع من الإمام الرضا عَلیه السَلام ، فلو كان فيه كذب على الزهراء لَما سكت عنه الإمام المعصوم عَلیه السَلام .

الدليل الثاني: وهو ما قد يظهر أيضاً من بعض كلمات السيد محمد الصدر قدس سرّه : وهو أنّنا لا يمكن أن نعلم حال المعصومين، ولا أصحابهم، ولا نسائهم؛ لكي نصوّر لسان حالهم للآخرين؛ وذلك لعلوّ مكانتهم من جهة، واختلاف الزمكانيّة بيننا وبينهم من جهة أُخرى، ولذلك نحن جاهلون بلسان حالهم، وإنّما يجوز لسان الحال مع العلم بالمطابقة لواقع ما عبر عنه بلسان الحال(1).

ويُلاحظ عليه:

1- إنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى؛ إذ إنّ تصوير لسان الحال قد يكون لأشخاص غير معصومين كانوا حاضرين في الطّف، كلسان حال أصحاب الحسين عَلیه السَلام ، أو القاسم، أو رملة، أو الرباب، أو غيرهم من الأشخاص.

2- إنّ الذوات المعصومة - كالنبيّ الأعظم، وأمير المؤمنين، والزهراء، والأئمة المعصومين علیهم السلام - وإن كانت منازلهم عالية ومقاماتهم سامية، إلّا أن هذا لا يمنع من وجود معرفة بسيطة بهم؛ من خلال كلماتهم، ومواقفهم، وسيرتهم؛ تجعل الشاعر يعلم لسان حالهم في الجملة.

3- لو سلّمنا عدم العلم بحالهم بصورة دقيقة، فلا أقل من كفاية الاطمئنان بأنّ لسان حالهم كان كذا، من خلال مجموع القرائن، ولا شكّ في أنّ الاطمئنان حجة عقلائية معتمدة، فهو كافٍ في جواز تصوير حال المعصومين علیهم السلام .

ص: 204


1- الصدر، محمد محمد صادق، أضواء على ثورة الإمام الحسين علیه السَّلام : ص152

فالشاعر أو الناثر يكفيه الوثوق والاطمئنان في تصوير لسان حال المعصومين، مع كون الاطمئنان ناشئاً من قرائن، وشواهد قوليّة وفعليّة وسلوكيّة، قد قاموا بها في مواطن أُخر.

4- إنّ دعبل الخزاعيّ قد صوّر حال الزهراء عَلیهاالسَلام ، ولم يعترض عليه الإمام الرضا عَلیه السَلام ، بأنّك لا تستطيع معرفة حالها عَلیهاالسَلام .

5- إنّ طبيعة الأُسلوب البلاغيّ في لسان الحال تقتضي البيان بصورة تتضمّن نحواً من أنحاء التصوير المجازي، ولا يصح مقايسته بالأساليب الحقيقيّة للبيان، فقرينة كونه مجازاً يَفهم منها المتلقي كون الشاعر في مقام نقل تصوراته عن الحادثة، لا نقل واقع الحادثة حرفياً.

الدليل الثالث: ما ذكره أيضاً السيد الصدر قدس سرّه ، وهو أنّ لسان الحال إنّما يُعبّر به عن الأقوال، لا عن الأفعال، والحال أننا نرى أنّ الشعراء ينقلون الأعمّ من الأقوال والأفعال، ويصورونها بلسان الحال(1).

ويُلاحظ عليه:

1- إنّ المتتبع لهذا الأُسلوب - خصوصاً بما قدّمناه من تعريف - يرى أنّ لسان الحال يُعبّر فيه عن كلّ ما ليس هو بلسان مقال، سواء كان فعلاً، أو حركةً، أو إشارةً، أو كلاماً، في غير موطن الواقعة.

2- إنّ الرواية الشريفة التي تفيد: «ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه»؛ تُبيّن أنّ إحدى طرق معرفة ما أضمر الإنسان - من كلام ومواقف - يُقرأ ويُعرف من خلال صفحات الوجه، وما يكون في صفحات الوجه من تغيُّر اللون أو الهيئة، إنّما هو من سنخ الأفعال لا الأقوال.

ص: 205


1- الصدر، محمد محمد صادق، أضواء على ثورة الإمام الحسين علیه السَّلام : ص153

3- لو لم نقبل الأمرين، فلا أقل من وجوب إبراز ما يدل على لا بدية كون لسان الحال للأقوال، لا للأفعال، وليس هنا ما يحصر هذا الأُسلوب بذلك.

وبدفع هذه الإشكالات نبقى على أصل مشروعيّة أُسلوب لسان الحال.

القول الثاني: الجواز
اشارة

ذهب إلى الجواز أكثر المعاصرين من علمائنا الأعلام، كالسيّد الخوئيّ قدس سرّه وأكثر تلامذته، منهم: السيد السيستاني (دام ظله)، وأُستاذنا الشيخ الفياض (دام ظله)، والشيخ جواد التبريزي قدس سرّه ، والشيخ الوحيد (دام ظله)، كما ذهب إلى ذلك أيضاً أُستاذنا الشيخ محمد السند (حفظه الله).

والذاهبون إلى الجواز وإن اتّحدوا في النتيجة، لكنّهم اختلفوا في الشروط التي إذا ما اجتمعت جاز هذا الأُسلوب، كما سيتضح.

فتوى السيّد الخوئي قدس سرّه

لعلّ أقدم فتوى - حسب تتبعي - في هذه المسألة، هو ما صدر عن السيّد أبي القاسم الخوئي قدس سرّه جواباً عن استفتاء رُفع إليه، ونصّه: «بعض القصائد التي تُذكر في مصيبة سيّد الشهداء عَلیه السَلام تُنسَب للإمام الحسين عَلیه السَلام ، أو لزينب عَلیهاالسَلام ، أو للإمام السجاد عَلیه السَلام ، دون الإشارة إلى أنّ هذه الأبيات عن لسان حالهم، نعم، بعض النّاس يَعرف كون ذلك عن لسان الحال، وبعضهم الآخر لا يعرف ذلك، فما هو الحكم»؟

فأجاب السيّد الخوئي قدس سرّه : «لا بأس، ما لم يقصد واقع النسبة إليهم»(1).

ص: 206


1- الخوئي، أبو القاسم، صراط النجاة: ج2، ص443.
تحليل فتوى السيّد الخوئي قدس سرّه

إنّ فتوى السيّد الخوئي قدس سرّه دالة على الجواز، بشرط عدم قصد المقرئ أو الملقي لذلك الشعر أو النثر واقع النسبة إلى من حُكي لسان حالهم كالإمام السجاد، أو السيدة زينب، أو غيرهما، أي: إنّه قصد التعبير عن لسان حالهم، ولم يقصد لسان مقالهم، أو أنّهم تكلّموا هكذا.

هذا فيما إذا كانت القصيدة - أو المادّة النثرية - لا إشارة فيها إلى لسان الحال، لا لفظاً ولا مقاماً.

وأمّا لو تضمّنت الإشارة إلى لسان الحال، من خلال إخبار السامع بأنّ القصيدة - مثلاً- دالة على لسان الحال، كما اعتاد الخطباء على القول: بأنّ لسان حال السيّدة الزهراء كذا وكذا، أو لسان حال الحسين كذا وكذا، وهكذا، أو احتوت القصيدة على دلائل لفظيّة، أو سياقيّة دالة على أنّها لسان حال، لا لسان مقال، كتصديرها ب-(ليتني)، أو (لولا)، أو (لو)، أو غيرها من القرائن اللفظية، أو المقامية، فلا إشكال بالجواز.

فالسيّد الخوئي قدس سرّه جَوّز لسان الحال، إذا كان المقابل (المستمع) يَعرف أنّ هذا لسان حال، لا لسان مقال، بل جوّزه حتى إذا لم يعلم السامع بأن هذا لسان حال، بشرط أن لا يكون الملقي للشعر أو النثر قد قصد أن ما يلقيه لسان مقال؛ لأنّ قَصْدَ ذلك يُوقع الملقي بالكذب؛ إذ إنّهم لم يقولوا ذلك واقعاً، بل إنّ الملقي أو الشاعر صوّر حالهم بذلك التصوير المجازي.

ص: 207

فتوى السيّد السيستاني (دام ظله)

توالت الأجوبة حول هذه المسألة من بعض الفقهاء الأعلام، من تلامذة السيّد الخوئي قدس سرّه ، كالسيّد السيستاني الذي سُئل: أنه «هل يجوز التكلّم بلسان المعصومين علیهم السلام بالقصائد الحسينية؛ بحيث الكاتب يطلق عِنان خياله في تصوير الأحداث، واختلاق الكلام والمواقف؟ وهل يجوز تداولها بين المؤمنين؟».

فأجاب سماحته قائلاً: «بسمه تعالى: إنّما يجوز التكلّم بلسان حال المعصومين، فيما يُعتبر تمثيلاً صادقاً لأحوالهم - وفق المعايير الأدبيّة المتعارفة في أمثال ذلك - من دون إساءة إلى مقامهم الشريف؛ ومن ثَمّ يجب على المتكلّم بلسان الحال من الاطلاع على الحوادث التأريخية، واستنطاق أحوالهم من خلالها؛ لتجسيدها بصورة أدبيّة مناسبة، بعيداً عمّا يُعتبر من قَبيل المبالغة والاختلاق، والكذب بالمقياس الأوَّلي، كما أنّ جواز تداولها يخضع للمقاييس التي أشرنا إليها»(1).

تحليل فتوى السيد السيستاني (دام ظله)

ذهب السيّد السيستاني (دام ظله) إلى جواز لسان الحال، ولكن جعل شروطاً لمشروعيته، إذا لم تتوفر تلك الشروط، فلا يجوز مثل هذا الأُسلوب إنشاء وتأليفاً، ولا إلقاءً وتداولاً.

وهذه الشروط يمكن تلخيصها بالنحو التالي:

الشرط الأول: أن يكون في لسان الحال تصوير صادق وحقيقي لأحوال المعصومين علیهم السلام ، بعيداً عن الخيال والمبالغة والكذب، وإلّا كان ممنوعاً.

ص: 208


1- موقع السيد السيستاني الرسمي، أسئلة حول الشعائر.

الشرط الثاني: أن يراعي الشاعر - أو الناثر - المعايير الأدبيّة المتعارفة عند الأدباء في كتابة لسان الحال.

الشرط الثالث: أن يكون القائل بلسان الحال مطّلعاً على الحوادث التأريخية والشخصيّة للواقعة، أو الشخص الذي ينطق بلسان حاله.

وعليه؛ فالسيّد السيستاني (دام ظله) جعل معايير ثلاثة لمشروعيّة هذا الأُسلوب الأدبيّ، فيما إذا كتب بلسان حال المعصومين.

أدلة المجوّزين

تبيّن ممّا مرّ أنّ أُسلوب لسان الحال أُسلوب بلاغي، استخدمه القرآن الكريم في بعض آياته الكريمة، كما نصّ على ذلك كثير من المفسّرين، كما أنّ الروايات جاءت بهذا الأُسلوب في كثير من مضامينها؛ ومن هذين المصدرين يتبيّن أصل مشروعيّة لسان الحال، وصحة استعماله شرعاً.

وهذه الصحة في الاستعمال اعتضدت بورود أشعار مشهورة النسبة لآل البيت علیهم السلام ، أو قِيلت بحضرتهم، وكان لسان الحال واضحاً فيها.

ويعضد الجواز أيضاً أنّ الأشعار التي كانت متداولة في زمانهم، والتي حوت لسان الحال، لم يصدر ردع من قِبلهم عنها؛ وهذا يكشف عن وجود سيرة قائمة وممضاة على مشروعيّة استخدام لسان الحال.

بل يمكن القول: إنّ الارتكاز في الجواز بمكان من الإمكان؛ بحيث لم تُثَرْ مسألة المنع عن مثل هذا الأُسلوب البياني.

ص: 209

نعم، يمكن أن يقال بوجود بعض المحاذير التي قد تجعل ممنوعية لسان الحال واضحة، أو تجعل قيوداً عديدة للحاكمين بالجواز.

الرأي المختار في المسألة

نقلنا فيما سبق فتاوى بعض الأعلام المجوّزين للسان الحال، وهم وإن اتفقوا على الجواز، إلّا أنّهم اختلفوا في عدد الشروط المجيزة للسان الحال، فذهب السيّد الخوئي إلى الجواز بشرط واحد، وذهب السيد السيستاني (دام ظله) إلى الجواز بثلاثة شروط كما ذكرنا آنفا، فما هو الصحيح في المقام؟

إنّ الذي نراه صحيحاً في المقام هو مشروعيّة لسان الحال بشروط أربعة، وهي كالآتي:

الشرط الأول: أن يأتي الشاعر أو الكاتب بدوالٍّ لفظيّة أو مقاميّة، تجعل المستمع يعلم أو يطمئن أنّ هذا القول بلسان الحال، لا بلسان المقال، وهذا الشرط نابع من لزوم دفع الإيهام عن المستمع بأنّ ما يقال ليس لسان مقال؛ حتى لا يدخل في إطار الكذب.

ومن هذه الدلائل اللفظيّة تضمين الكلام لفظة (لو)، أو (لولا)، أو غيرها من الدوال اللفظيّة أو المقاميّة، أو قول الشاعر قبل القصيدة بأنّ لسان حال فلان كذا وكذا.

وهذا التعبير واضح في قصيدة دعبل الخزاعي حيث قال: «أ فاطم لو خلتي الحسين...»، فقد أورد كلمة (لو) كدالّ لفظيّ على كون التصوير افتراضيّاً - لسان حال - وليس حضوراً فعليّاً، وكلاماً مقاليّاً من قِبل الزهراء عَلیهاالسَلام .

ص: 210

الشرط الثاني: أن تكون المضامين النثريّة أو الشعريّة مناسبة لحال أو شأن أو مقام المقول عن لسانه، فلو نَقل المتكلّم لسان حال المعصوم - مثلاً - فإنّه يجب عليه أن يبتعد عن كلّ ما يَمسُّ المعصوم، من جهة عقديّة أو فقهيّة أو أخلاقيّة؛ وذلك لحرمة إسناد ما ينافي هذه الأُمور للإمام المعصوم، بل حتى لغير المعصوم من الأشخاص الذين لهم منزلة دينية، أو قداسة.

الشرط الثالث: أن يكون الأديب مطلعاً على تأريخ الحوادث والشخصيّات، وكذا على أقوالهم؛ بحيث يَحصل له وثوق أو اطمئنان بأنّ لسان حالهم هكذا، أمّا لو كان لا علم له بالأحداث أو الشخصيّات التي يريد تصويرها، فكيف يصوّر لسان حالها وهي مجهولة الحال والمقال بالنسبة إليه؟!

الشرط الرابع: أن يكون هناك أصلاً تأريخيّاً، أو فقهيّاً، أو غير ذلك - كما أشرنا إلى ذلك في بحث منهج النقل في العدد السابق من هذه المجلة- يجعله الشاعر مادّةً أوليّةً ويَبني عليها لسان الحال، لا أن يكون لسان حاله مبنيّاً على شيء لا واقع له، فمثلاً: واقعة الطفّ ومقتل الحسين أمر واقع، فعندما صوّره دعبل الخزاعي بلسان الحال، كان تصويراً لأمر حاصل بصورة فنيّة.

فإذا توفرت هذه الشروط؛ قلنا بمشروعيّة لسان الحال في الأشعار التي تصوّر لنا لسان حال أصحابها، الذين تكلّم الشعراء عن لسانهم في واقعة الطّف وأشخاصها.

بل قد يُقال باستحباب هكذا إنشاء للشعر؛ لكونه مشمولاً لأدلة استحباب إنشاء الشعر رثاءً ومدحاً في آل البيت علیهم السلام ونصرتهم؛ أو لأنّه مادّة إلقائيّة لكثير من الشعائر، كالخطابة الحسينيّة ومجالس الرثاء والعزاء، فيدخل بعنوان قاعدة الشعائر الحسينيّة التي بُحثت في محلها.

ص: 211

مثالان تطبيقيان

اشارة

سننقل فيما يلي مقطعين شعريين، بوصفهما مثالين لِما تداوله الشعراء من الكلام بلسان الحال، وهما يحتويان على شروط الجواز - لهذا الأُسلوب البلاغيّ التصويريّ - التي ذكرناها.

المثال الأول

قول الشاعر مصوراً لسان حال الإمام الحسين عَلیه السَلام مخاطباً أبا الفضل العباس:

ع-ب-اسُ كَبْشَ كَتيبَتِي وكنَانَتي***وسَرِيَّ قَومِي بَل أعَزَّ حُصُونِي

ي-ا سَ-اعِ-دِي في كُلِّ مُعتَركٍ بهِ***أسْطُ-و وَسَيفُ حِمَايَتِي بِيَمِينِي

لِمَن الِلوا أُعطِي وَمَنْ هوَ جَامِعٌ***شَملِي وفي ضَنَكِ الزِحَامِ يَقيِنِي

أَمُ-ن-ازِلَ الأقْرَانِ حَامِلَ رايتِي***ورُواقَ أَخبِيَتِي وبَابَ شُؤونِي

عباسُ تَسمَعُ زَينبَاً تَدعوُكَ مَن*** لِي ي-ا حِمايَ إذا العِدَى نَهرُونِي

أَوَلَسْتَ تَسمَعُ مَا تقولُ سُكَينَةٌ***عَمَّاهُ يومَ الأسْرِ مَن يَحمِينِي(1)

المثال الثاني

قول الشاعر مصوراً لسان حال السيّدة زينب عَلیهاالسَلام مخاطبة الإمام الحسين عَلیه السَلام :

ف-أتته زي-نب ب-الج-واد ت-ق-وده***والدمع من ذكر الفراق يسيلُ

وت-قول قد قطعت قلبي يا أخي ***ح-زناً ف-يا لي-ت الج-بال تزولُ

ص: 212


1- شبَّر، جواد، أدب الطف: ج7، ص113. والقصيدة للشيخ حسن قطفان النجفي.

فلِمَن تنادي والحماة على الثرى***ص-رعى وم-نهم لا يُبلُّ غليلُ

م-ا ف-ي الخيام وقد تفانا أهلها***إلّا ن--س--اء ولَّ---هٌ وع--ل-يلُ

أرأي-ت أُخ-تاً ق-دمت لشقيقها***ف-رس المنون ولا حمىً وكفيلُ

ف-تبادرت م-نه الدموع وقال يا***أُخ-تاه ص-براً فالمصاب جليلُ

فبكت وقالت يا بن أُمي ليس لي***وعليك ما الصبر الجميل جميلُ

يا نور عيني يا حشاشة مُهجتي***م-َن للنساء ال-ض-ائعات دليلُ

ورن-ت إل-ى نحو الخيام بعولة***عظمى تصب الدمع وهي تقولُ

قوموا إلى التوديع إن أخي دعا***ب--ج-واده إن ال-ف-راق ط-ويلُ

الله م-ا ح-ال العليل وقد رأى***ت-لك ال-مدامع ل-لوداع تسيلُ

ف-يقوم ط-وراً ث-م ي-كبو تارةً***وع-راه من ذكر الوداع نحولُ

ف-غدا ي-نادي وال-دموع بوادر***هل للوصول إلى الحسين سبيلُ(1)

ص: 213


1- ابن نصار، محمد بن نصار، النصاريات الكبرى: ص58.

ص: 214

وُجُوب زِیَارَة الاِمَامِ الحُسَيْن عَلیه السَّلام

القسم الثالث الشيخ رافد عساف التميمي

اشارة

تقدم الكلام في مقالين سابقين حول الروايات الدالّة على وجوب زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام بقسميها، وهما: ما دلَّ بالصراحة، وما دلَّ بالظهور. وقد ثبت من خلال البحث في دلالات وأسانيد تلك الروايات أنّ أكثرها له دلالة واضحة وصريحة على الوجوب، كما أنّ أسانيدها لها من القوة والوثاقة ما يجعل النفس تطمئن بصدورها عن الأئمة المعصومين علیهم السلام .

والآن وصل الكلام بنا إلى اقتطاف الثمرة النهائية من تلك الأبحاث وهي: هل يمكن أن نحكم بوجوب الزيارة بمجرد ما تقدم من الروايات، أو أنّه تُوجد موانع أُخرى في طريق ذلك الحكم؟ فلا بُدَّ إذاً من بحث الإشكالات والعقبات المحتملة التي يمكن أن تمنع القول بالوجوب، والوقوف عندها بشكل علمي دقيق؛ حتى يمكن الاعتماد على النتائج المستخلصة من الروايات المتقدمة.

ثمّ إن تمَّ دفع تلك الإشكالات - أو لا أقل بناءً على قول مَن لا يرى ورود تلك الإشكالات في المقام - لا بُدَّ من بحث حدود الوجوب الذي أثبتته الروايات المتقدمة بقسميها الصريح والظاهر.

ص: 215

بحث التواتر:

وقبل الدخول في الإشكالات، من المناسب أن نُشير إلى مطلب تواتر تلك الأخبار، فهل يمكن أن ندّعي أنّ روايات الوجوب متواترة؛ بحيث تكون غنية عن البحث السندي، أو ليست كذلك؟

وهذا البحث وإن كان الأنسب أن يُدرج ضمن الأبحاث السندية وطرق إثبات الصدور، إلّا أنّه باعتبار شموله لجميع الروايات، وقد قسمناها إلى قسمين مستقلين؛ لذلك ارتأينا إفراد هذا البحث عن كلا القسمين، وإدراجه ضمن هذه الأبحاث في هذا القسم من الدراسة.

إنّ التواتر - كما عرّفه علماء الأُصول والمنطق -: هو عبارة عن امتناع التواطئ على الكذب، وهو على ثلاثة أنحاء:

1- التواتر اللفظي: وهو أن تتحد ألفاظ الروايات بحيث يكون المنقول أمراً واحداً لفظاً ومعنىً، وهذا لا مجال للقول به في المقام - كما هو واضح - لعدم إمكان تحقُّق ذلك فيما نقلناه من الروايات.

2- التواتر الإجمالي: وهو القطع بصدور إحدى الروايات لا على التعيين. ولا مجال للقول به لعدم المحصّل منه؛ لأنّه إمّا أن يرجع إلى التواتر المعنوي أو - لا أقل - لا فائدة منه.

3- التواتر المعنوي: وهو اشتراك الروايات في معنى واحد، والكلام في إمكان تحقُّق هذا النوع من التواتر:

قد نُقلت هذه الأخبار عن أربعة من الأئمة علیهم السلام ، وهم: الإمام علي، والإمام الباقر، والإمام الصادق، والإمام موسى الكاظم علیهم السلام .

ص: 216

وقد روى عنهم هذه الأحاديث مجموعة من الأصحاب يبلغ عددهم (21)، منهم الأجلّاء، من قَبيل: محمد بن مسلم، وصفوان الجمّال، ومحمد بن أبي عمير، وأبي أيوب الخزاز، وغيرهم.

ثمّ تتكثر الطبقات إلى أن تصل إلى أصحاب الكتب والمؤلفات التي اشتُهرت وعُرفت وذاعت، والتي نقلنا عنها هذه الروايات، وهي عبارة عن: مَن لا يحضره الفقيه والأمالي والمقنعة للشيخ الصدوق، وكامل الزيارات لابن قولويه، والتهذيب للشيخ الطوسي، ومسار الشيعة والمزار والإرشاد للشيخ المفيد، والمزار لمحمد بن المشهدي، وروضة الواعظين للفتال النيسابوري، ونوادر علي بن أسباط ضمن الأُصول الستة عشر، إلى غير ذلك من المصادر التي أرسلت تلك الروايات إرسال المسلَّمات، أو نقلتها عن مصادر أُخرى، إلى أن استمر النقل في الموسوعات الحديثية وغيرها، إلى يومنا هذا.

إشكال وجواب:

ربما يُقال: إنّه قد يصعب إحراز التواتر في طبقة المؤلفين؛ وذلك لإمكان تواطئهم على الكذب، حيث إنّ العقل لا يمنع من التواطئ على ذلك ما دام الناقلون لهم ثقافة واحدة، وتجمعهم مشتركات عديدة مشخَّصة.

نعم، إن هذا الكلام وإن كان يبعد في حق أمثال هؤلاء الأجلّاء، إلّا أنّ شرط تحقق التواتر لا يمكن إحرازه.

ونقول - في مقام الإجابة عن ذلك -:

أولاً: إن تلك الروايات قد اشتُهرت وذاعت وعُرفت في زمن أصحاب المؤلفات، بحيث يصعب جداً تحريفها وتزويرها والتلاعب بها، هذا بالإضافة إلى أنّ

ص: 217

أزمان المؤلفين تختلف من حيث الوفاة وزمن التأليف؛ الأمر الذي يمنع من حصول الاتفاق فيما بينهم على الكذب.

نعم، هذا قد يضرُّ بالتواتر من جهة أُخرى؛ حيث إنّ اتحاد الطبقة شرط.

ثانياً: إذا نظرنا إلى مؤلفي تلك الكتب، وعرفنا منزلتهم وتقواهم وورعهم؛ فإنّ النفس تطمئن إلى عدم تواطئهم على الكذب، وتستبعد ذلك كل الاستبعاد، وهذا ما يُعبَّر عنه بالعامل الكيفي الذي يُسرِّع تحقُّق التواتر، فهو متحقّق هنا بأجلى صوره.

نعم، هذا التواتر بهذه الكيفية يجزم به العقل الشيعي الإمامي الذي له معرفة خاصّة بأصحاب المؤلفات، لا مطلق العقول، فمَن لا يعرف هؤلاء المؤلفين، ولا يدري عن عقيدتهم وتاريخهم شيئاً، لا يمكن أن يُفرض عليه هكذا تواتر. ويمكن القول: إنّ هذا تواتر خاص لظروف خاصّة.

ومعه يحصل القطع بصدور المعنى المقصود إثباته من قِبَل أهل البيت علیهم السلام .

ولا يخفى أنّه لا بُدَّ من الاقتصار على المعنى الذي تشترك فيه جميع الروايات، وهو الوجوب الظاهري لا النصّي؛ لعدم إحراز القطع بالوجوب النصّي كما هو واضح.

وعلى كل حال؛ فمَن يعتقد بحصول التواتر من هذه الروايات، فالنتيجة واضحة عنده، ومَن لا يعتقد بذلك؛ ففي صحة الأسانيد وتمامية الدلالة الكفاية على المطلوب.

حدود الوجوب:

بعد أن ثبت أصل الوجوب من خلال الروايات - بقسميها - يصل بنا البحث إلى حدود الوجوب الذي تُثبته تلك الروايات؛ حيث إنّها قد تكون مختلفة في ذلك للوهلة الأُولى؛ لأنّ

ص: 218

بعض تلك الروايات نصَّ على أنّ الزيارة واجبة في كل سنة مرّة، وبعضها نصَّ على أنّها في كل أربع سنوات مرَّة، وبعضها أنّها واجبة على نحو التكرار، وبعضها مطلقة.

فهنا أنحاء متعددة؛ تبعاً لمعطيات الروايات، أو القرائن الخارجية أو الداخلية المحيطة بالروايات، أو المُستنتجة من مجموعها؛ فلا بُدَّ أولاً من عرض طوائف الروايات، ثمّ بيان وجه الجمع فيما بينها:

الطائفة الأُولى: ما دلَّ على أصل الوجوب من دون تقييده بزمان أو عدد معين

من قَبيل: ما روي عن أبي عبد الله عَلیه السَلام ، قال: «مَن لم يأتِ قبر الحسين عَلیه السَلام - وهو يزعم أنّه لنا شيعة - حتى يموت؛ فليس هو لنا بشيعة، وإن كان من أهل الجنة، فهو من ضيفان أهل الجنّة»(1).

ومن قَبيل: ما روي أيضاً عن أبي عبد الله عَلیه السَلام ، قال: «لو أنّ أحدكم حجَّ دهره ثمّ لم يزر الحسين بن علي عَلیهِماالسَّلام ؛ لكان تاركاً حقّاً من حقوق رسول الله‘؛ لأنّ حقّ الحسين فريضة من الله تعالى واجبة على كل مسلم»(2).

ومن قَبيل: ما روي عن أبي جعفر محمد بن علي عَلیهِماالسَّلام ، قال: «مُرو شيعتنا بزيارة الحسين بن علي عَلیهِماالسَّلام ؛ فإنّ زيارته تدفع الهدم والغرق والحرق وأكل السبُع، وزيارته مُفترضة على مَن أقرَّ للحسين عَلیه السَلام بالإمامة من الله عز وجل»(3).

وقد تقدَّم أنّ مجموعة من هذه الروايات صحيحة السند.

ص: 219


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص356. واُنظر: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص432
2- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص237--238.
3- الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج2، ص582.
الطائفة الثانية: ما دلَّ على وجوب تكرار الزيارة

من قَبيل: ما روته أُمُّ سعيد، عن أبي عبد الله عَلیه السَلام ، قالت: «قال لي: يا أُمَّ سعيد، تزورين قبر الحسين؟ قالت: قلت: نعم. فقال لي: زوريه؛ فإنّ زيارة قبر الحسين واجبة على الرجال والنساء»(1).

إنّ الإمام عَلیه السَلام أمر أُمَّ سعيد بالزيارة، وأوجبها على الجميع، مع أنّ أُمَّ سعيد أجابت بالإيجاب عندما سألها الإمام عَلیه السَلام عن ذلك، فلو لم يكن تكرار الزيارة واجباً لما وجّه عَلیه السَلام الأمر إليها.

وقد تقدَّم أنّ هذه الرواية تامّةٌ سنداً.

الطائفة الثالثة: ما دلَّ على وجوب الزيارة في كل أربع سنين مرّة

من قَبيل: ما عن أبي الناب، قال: «سألت أبا عبد الله عَلیه السَلام عن زيارة قبر الحسين عَلیه السَلام ، قال: نعم، تعدل عمرة، ولا ينبغي أن يُتخلّف عنه أكثر من أربع سنين»(2).

ومن قَبيل: ما قاله أبو عبد الله عَلیه السَلام : «أنّه يُصلّي عند قبر الحسين عَلیه السَلام أربعة آلاف ملك من طلوع الفجر إلى أن تغيب الشمس، ثمّ يصعدون وينزل مثلهم، فيُصلّون إلى طلوع الفجر، فلا ينبغي للمسلم أن يتخلّف عن زيارة قبره أكثر من أربع سنين»(3).

ودلالة الرواية على المطلوب واضحة، نعم، كلا الروايتين ضعيفة السند.

ص: 220


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص237، واُنظر: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص437
2- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: 293. الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج 14، ص431
3- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص494.
الطائفة الرابعة: ما دلَّ على وجوب الزيارة في كل سنة مرَّة

من قَبيل: ما روي عن أبي عبد الله عَلیه السَلام ، قال: «ائتوا قبر الحسين عَلیه السَلام في كل سنة مرَّة»(1).

ومن قَبيل: ما عن الحلبي، قال: سألت أبا عبد الله عَلیه السَلام عن زيارة قبر الحسين عَلیه السَلام ، قال: «في السنة مرَّة، إنّي أكره الشهرة»(2).

الروايات في هذه الطائفة واضحة الدلالة على المطلوب، وهي صحيحة السند.

الطائفة الخامسة: ما دلَّ على وجوب الزيارة على الغني في كل سنة مرتين وعلى الفقير في كل سنة مرة

من قَبيل: ما روي عن أبي عبد الله عَلیه السَلام ، قال: «حقٌّ على الغني أن يأتي قبر الحسين عَلیه السَلام في السنة مرَّتين، وحقٌّ على الفقير أن يأتيه في السنة مرَّة»(3).

والرواية صحيحة السند.

الطائفة السادسة: ما دلَّ على وجوب الزيارة للقريب في كل شهر مرة والبعيد كل ثلاث سنوات مرة

من قَبيل: ما روي عن أبي عبد الله عَلیه السَلام في حديث طويل، قلت: «مَن يأتيه زائراً،

ص: 221


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص490. الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص532
2- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص491. الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص532
3- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص490. واُنظر: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، الوسائل: ج14، ص532

ثمّ ينصرف عنه، متى يعود إليه؟ وفي كم يأتي؟ وكم يسع الناس تركه؟ قال: لا يسع أكثر من شهر. وأمّا بعيد الدار، ففي كل ثلاث سنين، فما جاز ثلاث سنين فلم يأته؛ فقد عقَّ رسول الله ‘، وقطع حرمته، إلّا عن علّة»(1) .

والرواية صحيحة السند.

هذه ستّة طوائف دلّت على الوجوب، إلّا أنّها اختلفت في تحديد فترة الوجوب التي على الزائر أن لا يتخطّاها؛ فلا بُدَّ من الجمع بين مداليل هذه الروايات.

الجمع بين الروايات:

إنّ الطوائف المتقدمة من الروايات يمكن تقسيمها إلى قسمين أساسيين:

القسم الأول: الروايات المطلقة التي صبَّت الوجوب على نفس الزيارة ولم تُقيّد بشيء.

ومن الواضح، فإنّ الروايات المطلقة لا تُعارض الروايات المُقيّدة بتعارض مستقر، بل يمكن الجمع بينهما بحمل المطلق على المُقيّد، وهو أحد وجوه الجمع العرفي بين الروايات.

القسم الثاني: الروايات المُقيّدة بشيء، وهي على نوعين أساسيين أيضاً:

النوع الأول: الروايات المُقيَّدة بمجرد التكرار، كما في الطائفة الثانية المتقدمة.

النوع الثاني: الروايات المقيَّدة بزمان مُعيَّن، كبقية الطوائف.

ص: 222


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص494. الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص535

ومن الواضح - أيضاً - أنّ ما دلّ على وجوب التكرار لا يُعارض ما دلَّ على وجوب التكرار في أزمنة مُعيَّنة.

وأمّا ما كان منها مُقيّداً بزمان مُعيَّن، فهي على أربع طوائف: وهي ما دلَّ على الوجوب في كل أربع سنوات - مع غضّ النظر عن ضعف هذه الطائفة من الروايات - وما دلَّ على الوجوب في كل سنة مرَّة، وما دلَّ على الوجوب لبعيد الدار كل ثلاث سنين، ولقريبها كل شهر، وما دلَّ على الوجوب في السنة مرَّتين للمُوسر ومرَّة للمُعسر.

فهذه الروايات متعارضة فيما بينها، فإنّ ما دلَّ على وجوب الزيارة في كل أربع سنوات مرَّة يعارض ما دلَّ على الوجوب في كل سنة مرَّة، كما يعارض ما دلَّ على الوجوب للمُوسر في السنة مرَّتين وللمُعسر مرَّة، كما أنه يُعارض ما دلَّ على الوجوب في كل ثلاث سنوات لبعيد الدار وكل شهر للقريب... وهكذا، فإنّ كل طائفة تُعارض بقية الطوائف، إمّا بالتباين، وإمّا بالعموم والخصوص من وجه.

وجه للتوفيق بين الروايات:
اشارة

إنّ هذه الطوائف المُقيّدة بزمان معين لا يمكن التمسّك بدلالة أحدها، حتى لو لم يكن هناك تعارض في البين؛ وذلك لأنّ التسالم الفقهي الإمامي قائم على عدم ثبوت وجوب الزيارة بأي نحوٍ من الأنحاء في هذه الطوائف الأربع.

وعليه؛ فالتمسك بإحداها لا يُجدي نفعاً، وبتبعه فالتدقيق أكثر في تعيين إحدى هذه الطوائف أيضاً لا يُجدي نفعاً.

فلا بُدَّ - إذاً - من بيان وجه يمكن قبوله بحيث ينسجم مع هذه الروايات، ولا

ص: 223

يكون محطّاً لإعراض المشهور، ولا مخالفاً للتسالم الفقهي، وهذا الوجه يتشكل من خطوتين بمجموعهما يتضح المقصود من روايات الوجوب المتعارضة؛ وذلك لأنّ تلك الروايات احتوت على جهتين، بالإضافة إلى أصل الوجوب:

الجهة الأُولى: تكرار الزيارة؛ فإنّ جميع تلك الروايات المُقيّدة بزمان مُعيّن تدلُّ على التكرار.

الجهة الثانية: تعيين زمان للزيارة الواجبة.

الخطوة الأُولى:

إنّ مجموع تلك الروايات دلَّ على وجوب تكرار الزيارة، وهذا ينسجم تمام الانسجام مع الطائفة الثانية من روايات الوجوب، ولا يوجد أي إشكال في ذلك، ولا يوجد تسالم فقهي على خلافه، كما سيأتي بحثه عند التعرُّض لإشكال الإعراض.

الخطوة الثانية:

إنّ هناك روايات عديدة دلَّت على حرمة جفاء الإمام الحسين عَلیه السَلام من قَبيل: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: «حدَّثني أبي، عن سعد بن عبد الله، عن الحسن بن علي بن عبد الله بن المغيرة، عن العباس بن عامر، قال: قال علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن عَلیه السَلام ، قال: لا تجفوه، يأتيه المُوسر في كل أربعة أشهر، والمُعسر لا يُكلّف الله نفساً إلّا وسعها. قال العباس: لا أدري، قال هذا لعلي، أو لأبي ناب»(1).

وغيرها من الروايات الصحيحة بهذا المضمون، والتي تقدَّم بحثها الدلالي والسندي في مقالٍ سابق.

ص: 224


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص491.

فما دلّ على التقييد بزمان معين، محمول على القضية الخارجية التي يُعيّن فيها الإمام عَلیه السَلام المقدار الذي يجب على المكلف مراعاته حتى لا يتحقّق منه الجفاء؛ وذلك لأنّ الزيارة كما هي واجبة، فإنّ الجفاء أيضاً محرم، وتحديد الجفاء أمرٌ عرفي، يمكن أن يتغيَّر من زمانٍ إلى آخر، فما دلَّ على التقييد محمول على أقل المقدار الذي يتحقّق بتركه الجفاء، فنجد أنّ هذا المقدار تارة يكون بسنة، وأُخرى بثلاث سنوات، وثالثة بأربع، وهكذا.

وبذلك يثبت أنّ أصل وجوب الزيارة وتكرارها مما اتفقت عليه جميع روايات الوجوب، وما اختصت به كل رواية من التقييد بزمانٍ مُعيّن محمولٌ على القضية الخارجية المحددة لمقدار تحقُّق الجفاء الذي بيَّنته روايات الجفاء.

فإن قلت: لماذا لم تحمل وجوب الزيارة على مسألة الجفاء؛ فتكون الزيارة واجبة في فرض الجفاء لا مطلقاً، كما أفتى بذلك بعض العلماء؟

قلت: إنّ الحمل على خلاف ظاهر الروايات لا يُصار إليه إلّامع عدم إمكان الأخذ بظاهر الرواية، فبدلاً من أن تُطرح الرواية تُحمل على معنى مقبول، وأما لو كان ظاهر الرواية لا يواجه أي مشكلة، فالأخذ به هو المتعين؛ لذلك عملنا بمثل هذا الظاهر في المقام، وحملنا ما كان ظاهراً بالتقييد بزمان معين على فرض الجفاء؛ لأنّ هذا الظاهر يُعارضه التسالم الفقهي والإعراض.

الجفاء النوعي والشخصي:

ليس الهدف من هذه الدراسة تسليط الضوء على حرمة جفاء الإمام الحسين عَلیه السَلام بشكل تفصيلي، وإنّما ذكرنا ذلك استطراداً، وكأحد وجوه الجمع بين بعض مداليل الروايات، ولكن لا بأس بالإشارة إلى مطلب مهم ليس عن مبتغانا ببعيد، وهو أنّ

ص: 225

الجفاء المحرَّم هل هو الجفاء الشخصي أو الجفاء النوعي؟

بمعنى لو أنّ ملايين الناس يذهبون إلى زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام باستمرار، وكان هناك شخص لا يزور، فهل يكون الجفاء متحقّقاً من ذلك الشخص أو لا يكون؟

فإن قلنا: إنّ الجفاء نوعي، فهو غير متحقّق بحقِّ ذلك الفرد، وأمّا إن كان شخصياً، فهو متحقّق.

ولا بُدَّ من الرجوع إلى مدلول الروايات لتحديد ذلك؛ فإنّ بعضها يظهر منه الجفاء النوعي، وبعضها يظهر منه الجفاء الشخصي، إلّا أنّ ما صحَّ منها سنداً هو ما دلَّ على حرمة الجفاء النوعي.

والذي يؤكّد أنّ المقصود هو الجفاء النوعي ما ثبت من وجوب الزيارة مكرراً، فهي كافية في التحريك، والمنع من ترك الزيارة، وتكون حرمة الجفاء النوعي مُحفّزاً إضافياً للزيارة في حال تحقّقه؛ الأمر الذي لم يتحقّق منذ زمنٍ بعيد حتى في أشدّ الظروف وأقساها.

كيفية الزيارة:

المقصود من كيفية الزيارة: هو أنّ الزيارة الواجبة والتي تحتاج إلى تكرار؛ بحيث لا يتحقّق الجفاء بفعلها، هل هي عن قرب بحيث يكون الزائر عند القبر الشريف، أو تكفي حتّى الزيارة عن بُعد؟

إنّ المقصود من الزيارة هو الزيارة عن قرب، وعن حضور عند القبر الشريف؛ وذلك لعدّة أُمور:

الأول: إنّ المعنى العرفي المنصرف من الزيارة هو الحضور عند المزار، والتواجد

ص: 226

الفعلي في الحضرة.

الثاني: الروايات التي أمرت بإتيان القبر والحضور عنده:

من قَبيل: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، عن أبي عبد الله عَلیه السَلام ، قال: «مَن لم يأتِ قبر الحسين عَلیه السَلام - وهو يزعم أنّه لنا شيعة - حتى يموت؛ فليس هو لنا بشيعة، وإن كان من أهل الجنة فهو مِن ضيفان أهل الجنّة»(1).

ومن قَبيل: ما رواه أيضاً ابن قولويه في كامل الزيارات، عن أبي جعفر عَلیه السَلام ، قال: «مَن لم يأتِ قبر الحسين عَلیه السَلام من شيعتنا كان منتقص الإيمان، منتقص الدين، وإن دخل الجنّة كان دون المؤمنين في الجنّة»(2).

ومن قَبيل: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات أيضاً، عن علي بن ميمون، قال: سمعت أبا عبد الله عَلیه السَلام يقول: «لو أنّ أحدكم حجَّ ألف حجّة ثمّ لم يأتِ قبر الحسين بن علي عَلیهِماالسَّلام ؛ لكان قد ترك حقّاً من حقوق رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم . وسُئل عن ذلك، فقال: حقُّ الحسين عَلیه السَلام مفروض على كل مسلم»(3).

فهذه الروايات جميعها تدلُّ على لزوم الحضور عند القبر الشريف، ولا تكفي الزيارة عن بُعد.

الثالث: الروايات التي بيّنت كيفية زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام ، وشرحت كيفية ذلك بالغُسل والمشي والدعاء عنده، وكيفية الدخول والوقوف وتقبيل القبر ومكان

ص: 227


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص356.
2- المصدر السابق: ص 355.
3- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص357. واُنظر: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص432

الصلاة وما إلى ذلك، وهي روايات كثيرة مذكورة في محلّها، وهي جميعاً تدلُّ على أنّ الزيارة تكون بالحضور عند القبر المقدس.

الرابع: الروايات التي بيّنت كيفية الزيارة عن بُعد مع عدم إمكان التوصّل إلى القبر الشريف؛ فجعلتها في فرض مَن تعذّر عليه الحضور، وهي روايات عديدة أيضاً، وتدلُّ على المطلوب.

والنتيجة: هي أنّ المقصود من الزيارة هو الحضور عند القبر الشريف.

الإشكالات على القول بالوجوب:
اشارة

هناك مجموعة من الإشكالات التي قد ترد على القول بالوجوب، وهي تُعتبر موانع بحدّ ذاتها؛ بحيث لا يمكن أن يُصار إلى القول بالوجوب ما لم تُحلّ تلك الإشكالات، وهي:

الإشكال الأول: الروايات التي تُعارض الوجوب

هناك مجموعة من الروايات تعارض بظاهرها القول بالوجوب؛ لأنّ الظاهر منها هو استحباب الزيارة، والاستحباب يُنافي الوجوب، وهي على طوائف:

الطائفة الأُولى: ما دلَّ على المساواة بين زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام وبين باقي الأئمة علیهم السلام ، أو مع زيارة غيرهم حتّى.

من قَبيل: ما رواه ابن قولويه، بسندٍ معتبر، قال: «حدّثني محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن الرضا عَلیه السَلام ، قال: زيارة قبر أبي مثل زيارة قبر الحسين عَلیه السَلام »(1).

ص: 228


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص499.

وما رواه الشيخ الطوسي في التهذيب، بسندٍ معتبر: «عن الحسن بن علي الوشاء، عن الرضا عَلیه السَلام ، قال: سألته عن زيارة قبر أبي الحسن عَلیه السَلام ، هل هي مثل زيارة قبر الحسين عَلیه السَلام ؟ قال: نعم»(1).

وما رواه الصدوق في ثواب الأعمال، بسندٍ صحيح عن الحسن بن علي الوشاء، قال: «قلت للرضا عَلیه السَلام : ما لِمَن أتى قبر أحد الأئمة علیهم السلام ؟ قال: له مثل ما لِمَن أتى قبر أبي عبد الله عَلیه السَلام »(2).

وما رواه الصدوق في ثواب الأعمال، قال: «حدّثنا علي بن أحمد، قال: حدّثنا حمزة بن القاسم العلوي، قال: حدّثنا محمد بن يحيى العطار، عمَّن دخل على أبي الحسن علي بن محمد الهادي عَلیهِماالسَّلام من أهل الرَّي، قال: دخلت على أبي الحسن العسكري عَلیه السَلام ، فقال: أين كنت؟ فقلت: زرت الحسين عَلیه السَلام . قال: أما إنّك لو زرت قبر عبد العظيم عندكم؛ لكنت كمَن زار الحسين بن علي عَلیهِماالسَّلام »(3). ورواه أيضاً ابن قولويه في الكامل(4).

وجه الإشكال: إنّ هذه الروايات جعلت زيارة الإمام الكاظم عَلیه السَلام ، وزيارة بقية الأئمة علیهم السلام كزيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام ، بل جعلت زيارة السيد عبد العظيم الحسني كزيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام ، مع أنّه من المتسالم عليه أنّ زيارة الإمام الكاظم عَلیه السَلام ، وكذا زيارة بقية الأئمة علیهم السلام ليست واجبة، فضلاً عن زيارة غيرهم علیهم السلام ؛ وعليه فما قُرن بها أيضاً غير واجب؛ فزيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام غير واجبة.

جواب الإشكال: يمكن الإجابة عن هذا الإشكال بأُمور.

ص: 229


1- الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص81.
2- الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال: ص98.
3- المصدر السابق: ص99.
4- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات:ص537.

الأمر الأول: قد تقدّم أنّ زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام لها مراتب متعدّدة، وهي متفاوتة بالفضل، تبدأ من أقلّ الثواب إلى أن تصل إلى حدّ الوجوب والفرض، وهذه الروايات قارنت زيارة بقية الأئمة علیهم السلام بزيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام بشكلٍ مطلق، وهو يتحقّق بأحد تلك المراتب لا بجميعها، أو فقل: إنّ الإطلاق مُقيَّد بما دلَّ على وجوب زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام ؛ وبذلك يتبيَّن الفرق أيضاً بين زيارة السيد عبد العظيم وزيارة بقية الأئمة علیهم السلام ، فمجرَّد المقارنة لا يعني الوجوب ولا نفيه.

الأمر الثاني: إنّ رواية زيارة السيد عبد العظيم مرسلة ولا تصلح للاستدلال.

الأمر الثالث: لا مانع من القول بالوجوب أيضاً في زيارة بقية الأئمة علیهم السلام ، إلّا أنّه ليس بالنحو الذي في زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام ، بل بنحوٍ آخر، وهو ما تقتضيه بعض الظروف الخارجية التي تُحتّم زيارة الأئمة علیهم السلام ؛ لأجل حفظ الدين من الاندراس، وحفظ بَيضة الإسلام من الضياع؛ ولأجل ذلك كانت المقارنة بين تلك الزيارات وزيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام ، وهذا شبيه ما ذهب إليه بعض الفُضلاء في نفس زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام ، وكذا في زيارة الإمام الرضا عَلیه السَلام ، ونحن نوافقه في البعض لا الكل.

وأمّا سبب تفريقنا؛ فلِمَا تقدم من صراحة بعض روايات الوجوب بأنّها ممتدة في عمود الزمان وبالوجوب النفسي.

الطائفة الثانية: ما دلَّ على أنّ مقدار الزيارة بيد الزائر متى شاء.

من قَبيل ما رواه ابن قولويه بسندٍ معتبر، عن العيص بن القاسم، قال: «سألت أبا عبد الله عَلیه السَلام : هل لزيارة القبر صلاة مفروضة؟ قال: ليس له صلاة مفروضة. قال: وسألته في كم يوم يُزار؟ قال: ما شئت»(1).

ص: 230


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص492.

وجه الإشكال: إنّه لو كانت الزيارة واجبة لما علّق الإمام عَلیه السَلام ذلك على مشيئة الزائر، بل لكان عليه عَلیه السَلام أن يُبلغه بأقل ما يسعه تركه، وخصوصاً أنّ الزائر يسأل عن المقدار المُفترض.

جواب الإشكال: يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأحد أمرين:

الأمر الأول: إنّ السؤال كان عن الأيام التي تكون فيها الزيارة، لا عن أصل الزيارة، ولا عن أصل تكرارها، بل السؤال عن تحديد الأيام التي تفترض فيها الزيارة، وهذان الأمران هما ما تقدم إثباته، فما ثبت ليس هو محل السؤال، وما هو محل السؤال ليس ما أثبتناه، بل مورد السؤال هو ما تقدّم، من أنّه يخضع للظروف الخارجية الوقتية، فلربما تكون سنة، وربما أربع سنوات، وربما أقل أو أكثر من ذلك، فالمشيئة في هذه الرواية تكون في خصوص مورد السؤال، ولا تتعدّى إلى غيره.

الأمر الثاني: إنّ السؤال كان عن الأيام لا عن مطلق الزمن، وهذا لا ينافي الروايات المتقدمة أصلاً؛ لأنّ أقلَّها كان في السنة مرَّتان، وحتى ما دلَّ على أنّ قريب الدار يزور في الشهر مرّة، غير ناظرة إلى الأيام أيضاً، بالإضافة إلى إمكان تقييدها.

الطائفة الثالثة: ما دلَّ على أفضلية زيارة الإمام الرضا عَلیه السَلام .

من قَبيل ما رواه الكليني بسندٍ صحيح، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن مهزيار، قال: «قلت لأبي جعفر عَلیه السَلام : جُعلت فداك! زيارة الرضا عَلیه السَلام أفضل أم زيارة أبي عبد الله الحسين عَلیه السَلام ؟ فقال: زيارة أبي أفضل؛ وذلك أنّ أبا عبد الله عَلیه السَلام يزوره كل الناس، وأبي لا يزوره إلّا الخواصّ من الشيعة»(1). ورواه الشيخ الطوسي

ص: 231


1- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج4، ص584.

أيضاً(1)، وكذا رواه ابن قولويه في الكامل(2).

ومن قَبيل ما رواه الصدوق في العيون، قال: وبهذا الإسناد (أي: محمد بن علي ماجيلويه، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه) عن عبد العظيم بن عبد الله، قال: «قلت لأبي جعفر عَلیه السَلام : قد تحيّرت بين زيارة قبر أبي عبد الله عَلیه السَلام وبين زيارة أبيك عَلیه السَلام بطوس، فما ترى؟ فقال لي: مكانك. ثمّ دخل وخرج، ودموعه تسيل على خدَّيه، فقال: زوّار قبر أبي عبد الله عَلیه السَلام كثيرون، وزوّار قبر أبي بطوس قليلون»(3).

وجه الإشكال: إنّ هذه الروايات وصفت زيارة الإمام الرضا عَلیه السَلام بأنّها أفضل من زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام ؛ فإمّا أن تكون زيارة الإمام الرضا عَلیه السَلام واجبة أيضاً، وهذا لا قائل به، وإما أن يكون المستحب أفضل من الواجب، وهو خلاف ما ثبت في بعض الأبحاث الأُصولية من أنّ ملاك الواجب أقوى وأشد من ملاك المستحب، وإمّا أن لا تكون زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام واجبة. والاحتمال الأخير هو المُتعيّن؛ لبطلان سابقيه.

جواب الإشكال: يُجاب عن هذا الإشكال بأُمور:

الأمر الأول: كون زيارة الإمام الرضا عَلیه السَلام غير واجبة، هذا أمر بحاجة إلى بحث وتدقيق، ولا أقل من احتمال ذلك جداً، ولو في بعض الظروف القديمة، ولأجل ارتباط زيارة الإمام الرضا عَلیه السَلام بكمال الإيمان في تلك الأزمان، فيمكن أن تكون زيارة الإمام الرضا عَلیه السَلام شابهت، بل ترجّحت على زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام من هذه الجهة.

الأمر الثاني: يمكن حمل الأفضلية على بعض مراتب الاستحباب في زيارة الإمام

ص: 232


1- الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص84.
2- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص510.
3- الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا علیه السَّلام : ج1، ص287.

الحسين عَلیه السَلام ؛ وذلك لأنّ الأفضلية هنا مطلقة، فتُقيَّد بما دلَّ على وجوب زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام ، فالوجوب ليس مطلقاً؛ فلا تنافي أصلاً.

الأمر الثالث: لا يوجد تلازم بين الأفضلية والوجوب، فلربما يكون أمر ما أفضل من الواجب في نفسه، إلّا أنّه مستحب، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في مقال سابق، وستأتي الإشارة إليه لاحقاً، وقد صرَّح بذلك بعض العلماء في توجيههم أفضلية زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام على الحجّ الواجب، مع قولهم باستحباب الزيارة، فالأمر له نظائر في الفقه.

الطائفة الرابعة: ما دلَّ على أفضلية زوّار الإمام الرضا عَلیه السَلام على بقية زوار الأئمة علیهم السلام .

من قَبيل ما رواه الكليني في الكافي، قال: محمد بن يحيى، عن علي بن الحسين النيسابوري، عن إبراهيم بن أحمد، عن عبد الرحمن بن سعيد المكي، عن يحيى بن سليمان المازني، عن أبي الحسن موسى عَلیه السَلام ، قال: «مَن زار قبر ولدي علي... مَن زاره وبات عنده ليلة كان كمَن زار الله في عرشه. قلت: كمَن زار الله في عرشه؟! فقال: نعم، إذا كان يوم القيامة كان على عرش الرحمن أربعة من الأولين، وأربعة من الآخرين، فأمّا الأربعة الذين هم من الأولين: فنوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى علیهم السلام ، وأمّا الأربعة من الآخرين: محمد، وعلي، والحسن، والحسين علیهم السلام ، ثمّ يُمدّ الطعام، فيقعد معنا زوّار قبور الأئمة، إلّا أنّ أعلاهم درجة وأقربهم حبوة زوّار قبر ولدي عَلیه السَلام »(1). رواه الشيخ في التهذيب(2)، والصدوق في الأمالي والعيون(3).

ص: 233


1- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج4، ص585.
2- الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص84.
3- الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص182. الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا علیه السَّلام : ج1، ص290

وجه الإشكال: كيف يكون زائر الإمام الرضا عَلیه السَلام أفضل من زائر الإمام الحسين عَلیه السَلام ، مع أنّ زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام واجبة، وزيارة الإمام الرضا عَلیه السَلام مستحبة؟

جواب الإشكال: يُجاب عن هذا الإشكال بما تقدم في الإشكال السابق، ويُضاف إليه أيضاً: أنّ أفضلية الزائر هنا لا تخضع لمجرّد المزار، بل تخضع كذلك إلى نفس الزائر وقابلياته، وكون الرواية ناظرة إلى مجرّد الزيارة مما لا شاهد عليه، بل يمكن أن يُقال: من غير المحتمل ذلك.

الطائفة الخامسة: ما دلَّ على أنَّ تارك الزيارة محروم من الفضل.

من قَبيل ما رواه ابن قولويه في الكامل، قال: حدَّثني محمد بن الحسن بن على بن مهزيار، عن أبيه، عن جدّه، عن الحسن بن محبوب، عن حنان بن سدير، قال: كنت عند أبي جعفر عَلیه السَلام ، فدخل عليه رجل، فسلَّم عليه وجلس، فقال أبو جعفر عَلیه السَلام : «من أي البلدان أنت؟ قال: فقال له الرجل: أنا رجل من أهل الكوفة، وأنا لك محبٌّ موال. فقال له أبو جعفر عَلیه السَلام : ... ثمّ قال: أتزور قبر الحسين عَلیه السَلام في كل جمعة؟ قال: لا. قال: ففي كل شهر؟ قال: لا. قال: ففي كل سنة؟ قال: لا. فقال له أبو جعفر عَلیه السَلام : إنّك لمحروم من الخير»(1).

ومن قَبيل ما رواه ابن قولويه أيضاً في الكامل، قال: حدّثني أبي رحمة الله ، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن محمد بن أورمة، عن أبي عبد الله المؤمن، عن ابن مسكان، عن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد الله عَلیه السَلام يقول: «عجباً لأقوام يزعمون أنّهم شيعة لنا، ويقال: إنّ أحدهم يمرُّ به دهره ولا يأتي قبر الحسين عَلیه السَلام ، جفاءً منه، وتهاوناً وعجزاً وكسلاً، أما والله، لو يعلم ما فيه من الفضل ما تهاون ولا كسل.

ص: 234


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص487 - 488.

قلت: جُعلت فداك، وما فيه من الفضل؟ قال: فضلٌ وخيرٌ كثير، أمّا أول ما يصيبه أن يُغفر ما مضي من ذنوبه، ويُقال له: استأنف العمل»(1).

وجه الإشكال: إنّ الكلام في الرواية كان عن الذي لم يكن يزور الإمام الحسين عَلیه السَلام ، ومع ذلك لم يقل الإمام عَلیه السَلام : إنّه تاركٌ لأمر واجب، بل اكتفى بالتنبيه على أنّه فاته الخير الكثير، وهذا التعبير ينسجم أكثر ما يكون مع الأُمور الاستحبابية لا الواجبة.

جواب الإشكال: أمّا الجواب عن الرواية الأُولى فبأُمور:

الأمر الأول: لم تُبيِّن هذه الرواية أنّ هذا الشخص تارك لزيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام بشكل مطلق، بل غاية ما تُثبته أنّه لم يكن يزُر بانتظام وفي كل سنة مرَّة، وهذا أمر لا يصلح للإشكال به على مبتغانا.

الأمر الثاني: إنّ فوات الخير الكثير كما ينسجم مع الأمر الاستحبابي، كذلك فهو ينسجم مع الأمر الواجب، فمجرد هذا التعبير لا يُعيّن الاستحباب.

الأمر الثالث: من المحتمل أن يكون هذا الشخص من أصحاب الأعذار الذين يسقط الوجوب عنهم، ومن الطبيعي أنّ مَن لم يزُرْ يفوته الخير الكثير، حتى لو كان صاحب عذر.

ولكنّ هذا الاحتمال من المستبعد جداً، بل ممتنع؛ لأنّ الامام عَلیه السَلام تسلسل في سؤال هذا الشخص، فلو كان من أصحاب الأعذار لما كان معنى لذلك.

وأمّا الجواب عن الرواية الثانية - فبالإضافة إلى بعض ما تقدّم في الجواب عن

ص: 235


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص487 - 488.

الرواية الأُولى -: إنّ الإمام عَلیه السَلام قد شكّك في تشيّع هؤلاء الذين يدّعون التشيّع، ولا يزورون الإمام الحسين عَلیه السَلام ، فهذه الرواية لروايات الوجوب أقرب منها لروايات الاستحباب، وأمّا ما ذكره الإمام عَلیه السَلام من الفضل والثواب؛ فهو لأجل التحفيز، وبيان مقدار الأجر والثواب الجزيل، فكثير من الواجبات، بل أكثرها - إن لم نقل: جميعها- قد بيّن فضلها والثواب المترتب عليها.

الطائفة السادسة: ما دلَّ على أنّ الزيارة غير مفروضة ولا واجبة.

وهو ما رواه ابن قولويه في الكامل، بسندٍ معتبر، قال: حدّثني أبي وعلي بن الحسين وجماعة مشايخي رحمهم الله، عن سعد بن عبد الله بن أبي خلف، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي سعيد القمّاط، قال: حدثني عبد الله بن أبي يعفور، قال: «سمعت أبا عبد الله عَلیه السَلام يقول لرجل من مواليه: يا فلان، أتزور قبر أبي عبد الله الحسين بن علي عَلیه السَلام ؟ قال: نعم، إنّي أزوره بين ثلاث سنين مرة، فقال له - وهو مُصفرّ الوجه -: أما والله الذي لا اله إلّا هو، لو زرته لكان أفضل لك مما أنت فيه. فقال له: جُعلت فداك، أكلُّ هذا الفضل؟ فقال: نعم، والله، لو أني حدّثتكم بفضل زيارته، وبفضل قبره لتركتم الحج رأساً، وما حجَّ منكم أحد، ويحك! أما تعلم أنّ الله اتّخذ كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يتّخذ مكة حرماً.

قال ابن أبي يعفور: فقلت له: قد فرض الله على الناس حج البيت، ولم يذكر زيارة قبر الحسين عَلیه السَلام . فقال: وإن كان كذلك؛ فإنّ هذا شيء جعله الله هكذا، أما سمعت قول أبي أمير المؤمنين عَلیه السَلام حيث يقول: إنّ باطن القدم أحقُّ بالمسح من ظاهر القدم، ولكنّ الله فرض هذا على العباد؟! أوَ ما علمت أنّ الموقف لو كان في الحرم كان أفضل لأجل الحرم، ولكنّ الله صنع ذلك في غير الحرم؟!»(1).

ص: 236


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص444.

وجه الإشكال: إنّ الإمام عَلیه السَلام يُثبت أفضلية زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام على الحج، ومع ذلك يُثبت أنّ الزيارة غير واجبة، ويوجّه ذلك بأنّ هذه أُمور علمها عند الله تعالى، ولها نظائر في الشريعة، كما في مسح ظاهر القدم دون باطنها، مع أنّ مسح الباطن أوْلى، فهذه الرواية تُصرّح بعدم وجوب زيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام .

الجواب عن الإشكال:

ويُجاب عن هذا الإشكال بأُمور:

الأمر الأول: إنّ هذه الرواية لو سلمت دلالتها على الاستحباب؛ بسبب المقارنة التي ذكرها الإمام عَلیه السَلام بين الزيارة والحج من جهة، وبين مسح باطن القدم وظاهرها من جهة أُخرى، فهي تدلّ عليه بقول مطلق، والإطلاق يمكن تقييده بالروايات التي دلّت على وجوب الزيارة؛ فيكون المقصود من هذه الرواية هو المقارنة بين الزيارة المستحبة والحج، وبين باطن القدم وظاهره.

الأمر الثاني: إنّ الإمام عَلیه السَلام جعل المقارنة بين زيارة هذا الراوي الذي كان يزور في كلّ ثلاث سنوات مرة، وهذا المقدار لم يثبت وجوبه، وإن كانت فيه رواية صحيحة، إلّا أنّه قد تقدّم الحمل على القضية الخارجية، والمقدار الواجب هو أصل الزيارة مكرراً، وما عداه فيدخل في المنع عن الجفاء، فهذه الرواية بموردها لا تضرّ بالاستدلال المتقدم أصلاً.

الأمر الثالث: إنّ غاية ما يدلّ على الاستحباب في هذه الرواية هو المقارنة بين الزيارة والحج، وبين مسح القدم وباطنها، وهذا لا يدلّ على الاستحباب؛ وذلك لأنّ غاية ما تدلّ عليه المقارنة هو السبب في ذكر أحدهما من قِبَل الله تعالى دون الآخر، من دون النظر إلى الوجوب وعدمه؛ فإنّ الظاهر من سؤال الراوي هو: لماذا أنّ الحج

ص: 237

مذكور في القرآن دون الزيارة؟ فأجابه الإمام عَلیه السَلام أنّ هذا له نظائر، ولا يدلّ على أفضلية المذكور، فغاية المقارنة هو المشابهة في الذكر وعدم الذكر في القرآن، لا في الوجوب وعدمه.

الطائفة السابعة: ما دلّ على كراهة ترك الزيارة.

من قَبيل ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: حدّثني أبي ومحمد بن الحسن رحمهما الله، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد الجوهري، عن علي بن أبي حمزة، قال:سألت العبد الصالح عن زيارة قبر الحسين بن علي عَلیهِماالسَّلام ، فقال: «ما أُحب لك تركه. قلت: ما ترى في الصلاة عنده وأنا مقصّر؟ قال: صلِّ في المسجد الحرام ما شئت تطوّعاً، وفي مسجد الرسول ما شئت تطوّعاً، وعند قبر الحسين عَلیه السَلام ؛ فإنّي أُحبُّ ذلك. قال: وسألته عن الصلاة بالنهار عند قبر الحسين عَلیه السَلام تطوّعاً. فقال: نعم»(1).

وجه الإشكال: إنّ الإمام عَلیه السَلام اكتفى بالجواب عن ترك الزيارة بعدم حُبِّه لذلك، ولم ينهَ عن الترك، أو يأمر بالزيارة، وهذا التعبير ينسجم مع الاستحباب.

الجواب عن الإشكال: يُجاب عن الإشكال بأمرين:

الأمر الأول: قد بحث الأعلام دلالة قول الإمام عَلیه السَلام : (أُحب، أكره) وأمثالهما، بأنّ هذه الألفاظ هل تدلّ على اللزوم أو لا تدلّ؟ وقد ذهب جمع منهم إلى أنّ هذه التعابير تدلّ على اللزوم لا مجرد الكراهة.

الأمر الثاني: لو تنزلّنا وقلنا: إنّها تدلّ على مجرّد الكراهة لا اللزوم، فغايته أنّها لو كانت بمفردها فهي تدلّ على ذلك، أمّا لو كانت هناك قرينة منفصلة على اللزوم فهو

ص: 238


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص426.

المتعيّن، وفي المقام القرينة متحقّقة، وهي روايات الوجوب المتقدمة.

هذا كلّه مع الغمض عن المناقشة في السند.

والنتيجة المتحصّلة من بحث الروايات - التي قد يُدَّعى معارضتها لروايات الوجوب - هو أنّه لا يوجد أيُّ تعارض بين الروايات، بل وجوه الجمع فيما بينها عديدة، كما تقدّم، فلا تصل النوبة إلى بحث المرجّحات؛ لأنّه فرع استقرار التعارض، ولو فرض التعارض فالترجيح مع روايات الوجوب من وجوه، كما لا يخفى على المدقّق.

الإشكال الثاني: في معنى لفظ الوجوب

قد يُشكل ويُقال: إنّ الاستدلال في بعض الروايات المتقدمة على الوجوب - وهي الروايات التي ادُّعي أنّها نصٌّ في الوجوب - إنّما تدل على ذلك لو كان لفظ الوجوب في صدر الإسلام يحمل نفس المعنى الذي هو عليه في الأزمان المتأخّرة، مع أنّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّ معنى الوجوب في الصدر الأول لا يحمل أكثر من معنى الثبوت، وهو أعمّ من الوجوب والاستحباب وأصل المشروعية، ولا يدلّ على معنى الوجوب الاصطلاحي؛ لأجل ذلك فالروايات لا تدلّ على الوجوب المصطلح.

جواب الإشكال: يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأُمور:

الأمر الأول: إنّ الروايات التي دلّت على الوجوب كانت على قسمين، وكان القسم الثاني منها هي الروايات التي دلّت على الوجوب بظهور الأمر فيه؛ فيكون هذا الإشكال حينئذٍ غريباً عنها، ولا يضرّ بها أصلاً، ودلالة تلك الروايات تكفي لإثبات الوجوب المصطلح، وهو المطلوب.

ص: 239

الأمر الثاني: إنّ نفس القسم الأول من الروايات - وهي الروايات التي نصّت على الوجوب - يوجد في بعضها فقط لفظ الوجوب، دون البعض الآخر، فمن تلك الروايات التي نصّت على الوجوب من دون لفظ الوجوب:

ما رواه الصدوق في الفقيه، عن أبي جعفر محمد بن علي عَلیهِماالسَّلام ، قال: «مُروا شيعتنا بزيارة الحسين بن علي عَلیهِماالسَّلام ؛ فإنّ زيارته تدفع الهدم والغرق والحرق وأكل السبُع، وزيارته مفترضة على مَن أقرّ للحسين عَلیه السَلام بالإمامة من الله عز وجل»(1).

ومن قَبيل: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، عن علي بن ميمون، قال: سمعت أبا عبد الله عَلیه السَلام يقول: «لو أن أحدكم حجّ ألف حجّة، ثمّ لم يأتِ قبر الحسين بن علي عَلیهِماالسَّلام ؛ لكان قد ترك حقّاً من حقوق رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم . وسُئل عن ذلك، فقال: حقُّ الحسين عَلیه السَلام مفروض على كل مسلم»(2).

ومن قَبيل: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله عَلیه السَلام ، قال: «سألته عمَّن ترك الزيارة - زيارة قبر الحسين بن علي - من غير علّة، قال: هذا رجلٌ من أهل النار»(3).

وهذه الروايات تدلّ صراحةً ونصّاً على الوجوب، وبها يثبت المطلوب، ويكون هذا الإشكال غريباً عنها أيضاً.

الأمر الثالث: لو سلّمنا أنّ لفظ الوجوب لا يدلّ على معناه المصطلح في الأزمنة المتأخرة عن عصر النصّ، إلّا أنّه مع ذلك يمكن أن يدلّ على الوجوب فيما إذا كانت هناك قرينة في البين، والقرينة موجودة في مجموعة من الروايات التي نقلناها:

ص: 240


1- الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج2، ص582.
2- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص357.
3- المصدر السابق: ص356.

من قَبيل: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، عن أبي عبد الله عَلیه السَلام ، قال: «لو أنّ أحدكم حجّ دهره، ثمّ لم يزُرْ الحسين بن علي عَلیهِماالسَّلام لكان تاركاً حقّاً من حقوق رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ؛ لأنّ حقّ الحسين فريضة من الله تعالى واجبة على كل مسلم»(1).

ومن قَبيل: ما رواه بن قولويه في كامل الزيارات، عن أُمّ سعيد الأحمسية، عن أبي عبد الله عَلیه السَلام ، قالت: «قال لي: يا أُمّ سعيد، تزورين قبر الحسين؟ قالت: قلت: نعم. فقال لي: زوريه؛ فإنّ زيارة قبر الحسين واجبة على الرجال والنساء»(2).

وهذه الروايات فيها قرينة على أنّ المقصود من الوجوب هو الوجوب الاصطلاحي؛ لأنّ الرواية الأُولى قد قرنت بالفريضة، والثانية قد قرنت بالأمر، وهكذا الحال في روايات أُخرى.

فلم يبقَ إلّا روايتان، وهما:

ما جاء في نوادر علي بن أسباط، عمَّن رواه، عن أحدهما عَلیهِماالسَّلام ، أنّه قال: «يا زرارة، ما في الأرض مؤمنة إلّا وقد وجب عليها أن تُسعِد فاطمة عَلیهاالسَلام في زيارة الحسين عَلیه السَلام »(3).

وما رواه الشيخ المفيد في الإرشاد، قال: وقد جاءت روايات كثيرة في فضل زيارته عَلیه السَلام ، بل في وجوبها. فروي عن الصادق جعفر بن محمد عَلیهِماالسَّلام ، أنّه قال: «زيارة الحسين بن علي عَلیه السَلام واجبة على كل مَن يُقرّ للحسين بالإمامة من الله عز وجل»(4).

ص: 241


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص237.
2- المصدر السابق: ص237. اُنظر: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص437
3- نوادر علي بن أسباط، ضمن كتاب الأُصول الستّة عشر: ص123. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، ص75. النوري، ميرزا حسين، مستدرك الوسائل: ج10، ص259
4- المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص133. وعنه: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص445

وهاتان الروايتان أيضاً بقرينة بقية الروايات يكون مدلولهما هو الوجوب الاصطلاحي.

وكما ترى، فهما روايتان مرسلتان ليس الاعتماد في الاستدلال عليهما. وعلى كلّ حال، حتى لو سلّمنا بأنّ لفظ الوجوب في عصر النصّ لا يدلّ على الوجوب المصطلح؛ فهو لا يضرّ ببحثنا شيئاً.

الأمر الرابع: إنّ جملة من العلماء المتقدمين والمتأخرين قد فهموا الوجوب الاصطلاحي من تلك الروايات، واستدلّوا بنصوصها من دون الاعتماد على قرينة أُخرى.

نعم، ربما يُقال: إنّهم فهموا الوجوب من مجموع الروايات، والقرائن العديدة على الوجوب، وإن لم يصرّحوا بذلك، فليس فهمهم للوجوب جاء من حاقّ اللفظ.

الأمر الخامس: قد بحث الأعلام هذا اللفظ، واستنتج الكثير منهم أنّه مشترك بين الوجوب الذي هو بمعنى الفرض، وبين الوجوب الذي هو بمعنى الاستحباب المؤكّد، إلّا أنّه بحسب إفتاء كثير من العلماء، فإنّه نجدهم لا يفتون بالاستحباب في موارد لفظ الوجوب في الروايات، إلّا مع وجود قرائن أُخرى تدلّ على الاستحباب.

وعليه؛ فحتى لو سُلّم أنّ لفظ الوجوب يدلُّ على الأعمّ من الوجوب الاصطلاحي والاستحباب، إلّا أنّه غاية ذلك أنّ العلماء تعاملوا معه بمعنى أنّه لو كانت هناك قرائن على الاستحباب، فلفظ الوجوب في الرواية لا ينافي ذلك، وهذا لا يضرّ بمطلبنا شيئاً؛ لأنّه ليس فقط لا توجد قرائن على الاستحباب في الروايات، بل القرائن على الخلاف، فهناك قرائن عديدة على الفرض والوجوب الاصطلاحي.

فهذا الإشكال لا يضرّ بالاستدلال المتقدّم على أيّة حال.

ص: 242

الإشكال الثالث: إشكال الإعراض

من الإشكالات المهمة التي تُعارض الوجوب، وتمنع من الأخذ برواياته، هو إشكال إعراض أعلام الطائفة ومتقدميهم عن الأخذ بهذه الروايات.

وحاصل الإشكال: إنّ هذه الروايات بما أنّها كانت في معرض أعلام الطائفة وعظمائها، وكانت في متناول أيديهم؛ حيث تقدّم أنّها مرويّة في أُمّهات المصادر الشيعية، ومع ذلك فهم لم يُفتوا بمضمونها؛ فهذا يدلّ على تحقُّق إعراضهم عنها، وعدم التوجه إليها والأخذ بمضمونها، مع ورعهم الشديد ودقّتهم العلمية وعقائدهم الولائية، مما يكشف عن وجود مشكلة وخلل في تلك الروايات يمنع من الأخذ بها والإفتاء بمضمونها.

وتعتبر مسألة موهنية الإعراض من المسائل شبه الاتّفاقية بين العلماء والفقهاء.

جواب الإشكال: يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأُمور:

الأمر الأول: إنّ الإعراض الذي يُعتبر حجّة وموهناً للرواية هو الإعراض الذي يكون من متقدّمي الأصحاب لا متأخريهم، وعندما نرجع إلى كلمات قدماء الأصحاب، فإنّه نجد أكثرهم لم يتعرّض لهذه المسألة، ومجرّد عدم التعرّض لا يدلّ على الإعراض؛ لأنّه لا يصحّ رفع اليد عن مجموعة كبيرة من الروايات لمجرد عدم التّعرض لها، بل حتى يكون الإعراض موهناً للروايات لا بُدَّ من القطع بالإعراض، وهو غير متحقُّق، وإلّا لوجب رفع اليد عن كثير من الواجبات التي استدلّ عليها المتأخرون، ولم يتعرّض لها المتقدمون.

الأمر الثاني: إنّ الإعراض الذي يكون موهناً هو الإعراض الذي لا يُحتمل فيه

ص: 243

المدركية، وأمّا محتملها فلا اعتبار له، وفي المقام فإنّه يوجد نوعان من الروايات:

النوع الأول: ما دلّ على الوجوب.

النوع الثاني: ما دلّ على الاستحباب.

فلربما مَن أفتى بالاستحباب اعتمد على النوع الثاني من الروايات، فهو لم يُعرض عن روايات الوجوب، وإنّما ترجّحت عنده روايات الاستحباب، والمسألة هنا نظير البحث في الإجماع المدركي؛ حيث قيل هناك: إنّ الإجماع الذي يُعتبر حجّة هو الإجماع الذي لا يحتمل المدركية، وإلّا فمحتملها يُرجع فيه إلى مدركه، ويُتعامل معه وفق ذلك.

فإن قلت: إنّ احتمال المدركية في الإعراض فرع تعارض الروايات، حتى يمكن أن يقال: إنّ عدم عمل الأعلام بإحدى الطائفتين بسبب الطائفة الأُخرى، وأمّا مع عدم التعارض، فلا تُحتمل المدركية؛ لأنّ الروايات سوف تكون طائفة واحدة، وعدم القول بدلالتها على مطلب مُعيَّن مع ظهورها فيه يكون إعراض عن ذلك المعنى، وفي مقامنا؛ فإنّه لا يوجد أيُّ تعارض بين روايات الوجوب وروايات الاستحباب، كما تقدّم ذلك في مرّات عديدة.

قلت: إنّ أصل التعارض بين إطلاقات الروايات متحقّق في المقام، نعم نحن ذكرنا وجوهاً للجمع بينها، ربما لا يرتضيها قدماء الأعلام، بل وحتى متأخريهم.

من هنا؛ نحتمل أنّ وجوهاً من التعارض قد استقرّت بنظرهم الشريف؛ وعليه فاحتمال المدركية قائم.

الأمر الثالث: إنّ المتحقق من عظماء العلماء هو خلاف الإعراض؛ لأنّ هناك

ص: 244

جملة من الأعلام ذهبوا إلى وجوب الزيارة، فليس فقط أنّهم لم يتعرضوا للوجوب، بل أفتوا به؛ وبذلك ينتفي إشكال الإعراض من الأساس.

القائلون بالوجوب:

ومِمَّن قال بالوجوب:

1- ابن قولويه (ت367 ه-) في كامل الزيارات، قال:«إنّ زيارة الحسين عَلیه السَلام فرض وعهد لازم ولجميع الأئمة علیهم السلام على كل مؤمن ومؤمنة»(1).

2- الشيخ المفيد (ت413ه-) في الإرشاد، قال: «وقد جاءت روايات كثيرة في فضل زيارته عَلیه السَلام ، بل في وجوبها»(2)، وكذا قال في المزار: «باب وجوب زيارة الحسين عَلیه السَلام »(3).

3- محمد بن المشهدي (ت610ه-) في المزار، قال: «فضل زيارته عَلیه السَلام ، وحدّ وجوبها في الزمان على الأغنياء والفقراء»(4).

4- ابن حاتم العاملي (ت664ه- ) في الدرّ النظيم، قال: «وقد جاءت روايات كثيرة في فضل زيارته، بل في وجوبها. قال الصادق عَلیه السَلام : زيارة الحسين عَلیه السَلام واجبة على كل مَن يُقرّ للحسين بالإمامة من الله عز وجل»(5).

وقد نقل الإربلي في كشف الغمّة هذا المعنى عن ابن حاتم العاملي(6).

ص: 245


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص236.
2- المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص133.
3- المفيد، محمد بن محمد، المزار: ص26.
4- المشهدي، محمد بن جعفر، المزار: ص339.
5- العاملي، يوسف بن حاتم، الدرّ النظيم: ص572.
6- اُنظر: الإربلي، علي بن أبي الفتح، كشف الغمّة: ج2، ص251.

5- المجلسي الأول(ت1070ه-) والثاني(ت1111ه-)، قال في بحار الأنوار: «إنّ زيارته صلوات الله عليه واجبة مفترضة مأمور بها، وما ورد من الذمّ والتأنيب والتوعُّد على تركها، وأنّها لا تُترك للخوف»(1).

وقال أيضاً: «ثمّ اعلم أنّ ظاهر أكثر أخبار هذا الباب - وكثيراً من أخبار الأبواب الآتية - وجوب زيارته صلوات الله عليه، بل كونها من أعظم الفرايض وآكدها، ولا يبعد القول بوجوبها في العمر مرّة مع القدرة، وإليه كان يميل الوالد العلامة (نوَّر الله ضريحه)، وسيأتي التفصيل في حدّها للقريب والبعيد، ولا يبعد القول به أيضاً، والله يعلم»(2) .

6- الحرّ العاملي(ت1104ه-) في الوسائل، قال: «باب وجوب زيارة الحسين عَلیه السَلام والأئمة علیهم السلام على شيعتهم كفاية»(3).

7- السيد علي الطباطبائي(ت1231ه-) في رياض المسائل، قال: «وتتأكد في الحسين عَلیه السَلام ، بل ورد أنّ زيارته فرض على كل مؤمن، وأن ترْكَها تركُ حقِ الله تعالى، وأنّ تركها عقوق رسول الله‘، وانتقاص في الإيمان والدين، وأنّه حقٌّ على الغني زيارته في السنة مرّتين، والفقير مرّة»(4).

8- السيد المروّج (معاصر) في منتهى الدراية، قال: «أمّا النصوص الدالّة على رجحان الزيارة، بل وجوبها فكثيرة:

ص: 246


1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، ص1.
2- المصدر السابق: ص10.
3- الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص443.
4- الطباطبائي، علي، رياض المسائل: ج7، ص167.

منها: ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عَلیه السَلام ، قال: مُروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عَلیه السَلام ، فإنّ إتيانه مفترض على كل مؤمن يُقرّ للحسين عَلیه السَلام بالإمامة... بل يُستفاد من بعض النصوص وجوب زيارة سائر الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين أيضاً» (1).

ثمّ قال: «بل يُفهم من هذه الرواية ونظائرها أنّ التمسك بحبل ولايتهم والإيمان بإمامتهم لا يتمُّ إلّا بزيارتهم صلوات الله عليهم، فلا يكون أحد إمامياً إلا بالاعتقاد الجناني بإمامتهم، والإقرار اللساني بها، والحضور بالبدن العنصري عند قبورهم، فالزيارة هي الجزء الأخير؛ لسبب اتّصاف المسلم بكونه إمامياً، وتركها كفقدان سابقيها يُوجب الرفض المبعد عن رحمته الواسعة - أعاذنا الله تعالى منه - ...

فإذاً؛ يخرج وجوب الزيارة الذي قال به جماعة، كالفقيه المقدم أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، والمحدّث الكبير صاحب الوسائل، والعلامة المجلسي، وغيرهم (قدس الله تعالى أسرارهم) عن الأحكام الفرعية»(2).

9- قال السيد السيستاني (دام ظله) - في جوابه عن سؤال: أيّهما أفضل، زيارة الرسول‘ أم زيارة سيد الشهداء أبي عبد الله عَلیه السَلام ؟-: «رسول الله أفضل الخلق، فزيارته أيضا أفضل الزيارات، إلّا أنّه قد يطرأ عنوان خاص على بعض الزيارات، يكسبها فضيلة أُخرى، بل ربما تبلغ حدّ الوجوب الكفائي، ولعله كان كذلك في العهود السابقة التي منع فيها الناس عن زيارة سيد الشهداء عَلیه السَلام »(3).

والنتيجة من هذه الأقوال: إنّ مَن كان من المتقدمين، فهو دليل على عدم

ص: 247


1- المروّج الجزائري، محمد جعفر، منتهى الدراية: ج6، ص637.
2- المصدر السابق: ج6، ص637- 638.
3- السيستاني، علي، استفتاءات: ص408، رقم السؤال1610.

الإعراض، بل هو إفتاء طبق روايات الوجوب، ومَن كان من العلماء من المتأخرين، فهو يدلّ على أنّ متأخري علمائنا وعظمائنا يعتقدون أنّ متقدمي العلماء لم يُعرضوا عن هذه الروايات، وإلّا لما أفتوا على طِبقها.

وأمّا ما كان من هذه الأقوال مخالفاً لما استظهرناه في بعض الجزئيات، فهو لا يضرّ بمطلبنا إلّا بمخالفة الاستظهار، وقد ذكرنا وجهة نظرنا بالتفصيل في هذا المقال، وفي مقالين سابقين.

بل حتى مَن قال بالاستحباب من العلماء، فإنه لا يُعتبر معرضاً عن روايات الوجوب؛ لأنّه استدلّ على فتواه بنفس الروايات التي استدلّ بها على الوجوب، وهذا يعني أنّهم يقبلونها، إلّا أنّهم حملوها على الاستحباب، والظاهر من كلماتهم أنّ سبب ذلك هو جمعهم بين الروايات، وعلى كلّ حال؛ فهذا يُثبت عدم الإعراض.

قال العلاّمة الحلّي (ت726ه-) في تذكرة الفقهاء: «تُستحب زيارة الحسين عَلیه السَلام ؛ لقول الباقر عَلیه السَلام : مُروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عَلیه السَلام ...»(1).

وقال في منتهى المطلب: وفي زيارته فضلٌ كثير، روى الشيخ، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عَلیه السَلام ، قال: «مُروا شيعتنا بزيارة الحسين عَلیه السَلام ؛ فإنّ إتيانه يزيد في الرزق، ويمدّ في العمر، ويدفع السوء، وإتيانه مفترض على كل مؤمن يُقرّ بالإمامة من الله... وعن علي بن رباب عن أبي عبد الله عَلیه السَلام ، قال: حقّ الله تعالى على الغني أن يأتي قبر الحسين عَلیه السَلام في السنة مرّتين، وحقٌّ على الفقير أن يأتيه في السنة مرّة»(2).

وقال النجفي (1266ه-) في الجواهر: «وكذا يستحب زيارة الإمام الشهيد أبي

ص: 248


1- الحلّي، الحسن بن يوسف، تذكرة الفقهاء: ج8، ص453، مسألة770.
2- الحلّي، الحسن بن يوسف، منتهى المطلب: ج2، ص892.

عبد الله الحسين عَلیه السَلام بن أمير المؤمنين عَلیه السَلام ، سيد شباب أهل الجنة... بل تأكُّد استحبابها من ضروريات المذهب أو الدين، حتى ورد: أنّ زيارته فرض على كل مؤمن. وواجبة على الرجال والنساء. ومَن تركها ترك حقّ الله تعالى ورسوله. بل تركُها عقوق رسول الله‘، وانتقاص في الإيمان والدين؛ فإنّ حقّاً على الغني زيارته في السنة مرّتين، والفقير في السنة مرّة»(1).

إذاً؛ فالنتيجة من بحث الإعراض: إنّه لا يصلح للإشكال، أو فقل: إنّ إشكال الإعراض غير وارد؛ لما تقدم من الأجوبة.

الخلاصة النهائية من البحث في أقسامه الثلاثة

إنّ روايات الوجوب على قسمين:

الأول: الروايات التي نصّت على الوجوب وصرّحت به، وهي عديدة، ومنها ما هو صحيح السند.

الثاني: الروايات الظاهرة في الوجوب، وهي كثيرة، منها ما هو صحيح السند أيضاً.

ثمّ إن من مجموع الروايات يمكن أن يدّعى التواتر في المقام.

إنّ المقصود من الزيارة هو الحضور عند قبر الإمام عَلیه السَلام .

إنّ الواجب من الزيارة هو أصل زيارة الإمام مكرراً، ولا حدود واضحة لمقدار التكرار. وإنّ ما جاء من تحديد عدد - أو تحديد أوقات الزيارة - فهو محمول على

ص: 249


1- الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج20، ص95.

القضية الخارجية التي بموجبها يتحدد الجفاء من عدمه؛ فإنّ الجفاء منهيٌّ عنه أيضاً في روايات صحيحة.

إنّ جميع الإشكالات التي ادُّعيَ ورودها في المقام غير واردة، سواء إشكال الروايات المعارضة، أو إشكال عدم دلالة لفظ الوجوب على الوجوب الاصطلاحي في صدر الإسلام، أو إشكال الإعراض الذي يُعتبر أهم تلك الإشكالات.

وعليه؛ فزيارة الإمام الحسين عَلیه السَلام واجبة مكرراً؛ لتمام الأدلّة على ذلك، وعدم وجود المانع منه.

ص: 250

دِرَاسَاتٌ دِينِيَّة

اشارة

*أنا مدينة العلم

دراسة نقدية لآراء ابن تيمية والمعلمي

*تجليات الحاكمية والعدل الإلهي في قصة العبد الصالح

بحث قرآني في سورة الکهف

*مرقد ومزار عبيد الله بن علي بن أبي طالب عَلیه السَلام

دراسة تاريخية تحليلية

ص: 251

ص: 252

حَدیثُ انَا مَدِینَة العلم دِراسَة نَقدیَّة لارَاءِ ابن تَیمِیَّة وَ المُعَلمِي د. يحيى عبد الحسن الدوخي

المقدمة:

إن فضيلة العلم تُعدّ القمّة والهرم والأساس لجميع الفضائل، وعليّ عَلیه السَلام هو مَن يملك هذه الفضيلة ولا يُباريه فيها أحدٌ بعد النبي على الإطلاق، وهذا ما نطق به خاتم الأنبياء‘، من خلال أحاديث كثيرة بهذا المضمون، وأحد هذه الأحاديث المهمّة هو حديث :«أنا مدينةُ العلم وعليٌّ بابُها»، فعليٌّ هو الباب لعلم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ، وهذا الباب ينفتح منه ألف باب، وهذا الأمر ممّا لا يمكن استغرابه؛ لأن علياً مسدّد القلب واللسان بدعاء النبي‘، وعليٌّ ذو قلب عقول ولسان سؤول، كما صرَّحت به الروايات، والتي سيأتي بيانها.

ولكننا نجد أن هذا الحديث قد ضُعّف من قِبَل بعض مَن يدّعي العلم (كابن تيمية والمعلمي) بلا وجه حقّ؛ فمِن هنا جاء هذا البحث لبيان ومناقشة هذه الآراء للوصول إلى الحقّ الذي يبتغيه كلُّ باحث ومنصف؛ لنبين أنّ هذا الحديث في غاية الصحّة، وذلك من خلال مناقشتنا لآرائهم، وبياننا لطرق هذا الحديث في السنّة النبوية، وكثرة متابعاته وشواهده، وكذلك شهادة علماء أهل السنّة بصحته، مع ذِكْر ترجمةٍ وتوثيق لهؤلاء العلماء الذين قالوا بصحّته ووثاقته.

ص: 253

سابقة البحث والجديد فيه

اشارة

لا يخفى على طالب الحقيقة أنّ هذا الحديث قد طرقه الباحثون والمحقّقون بنوع من التفصيل، كالشيخ العلاّمة الأميني في موسوعته الغدير، والعلامة التستري في كتابه إحقاق الحقّ، والعلاّمة السيّد النقوي في خلاصة عبقات الأنوار - التي شرحها السيّد الميلاني - وكذلك المحدِّث البارع المحقق السيّد أحمد الغماري في كتابه (فتح الملك العلي).

وما كتبوه رضوان الله عليهم قد استوفى البحث، ولكننا قد نجد مِن البعض - لا سيما في عصرنا الحاضر - مَن يناقش في بعض جوانب هذا الحديث، طاعناً فيه، وهو الشيخ عبد الرحمن المعلمي، الذي يُعتبر مِن السلفيين المعاصرين، وقد أغدق عليه حواريوه ألقاباً كثيرة، منها: أنه (شيخ الإسلام)؛ تشبيهاً بابن تيمية، و(ذهبيّ العصر أو الذهبيّ الصغير)؛ تشبيهاً بالذهبيّ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان، صاحب الكتب الشهيرة، والتي منها سير أعلام النبلاء، وتاريخ الإسلام، وتذكرة الحفّاظ، وغيرها.

فجديد بحثنا هو مناقشتنا للشيخ المعلمي ذهبي العصر كما يُدعى، الذي نظّر بشكل جديد - جديد بظاهره قديم بواقعه - للطعن في هذا الحديث. وبالتبع سيتضح للقارئ وهن كلام ابن تيمية الذي لم ينصف في حكمه بضعف هذا الحديث، معتمداً في ذلك على ابن الجوزي، الذي ادّعى أنّ طرقه كلها ضعيفة؛ لذا سيكون بياننا لطرق هذا الحديث هو ردّ على ابن تيمية وابن الجوزي أيضاً.

فخطة البحث ستكون في أربعة مباحث، وهي كما يلي:

المبحث الأول: علم عليّ عَلیه السَلام في السنّة

ص: 254

المبحث الثاني: الرد على مدّعيات ابن تيمية والمعلمي.

المبحث الثالث: بيان طرق الحديث ومتابعاته وشواهده.

المبحث الرابع: تصحيح علماء أهل السنّة للحديث وتوثيق هؤلاء الإعلام من خلال كتب التراجم.

المبحث الأول: علم عليّ عَلیه السَلام في السنّة
اشارة

لا يشكّ إنسان حرّ - طليق الفكر - في ما لعليٍّ عَلیه السَلام مِن غزارة علم ونور وحكمة، وهذا العلم امتلأ به قلب عليّ وفاض إلى جميع جوارحه، ومَن تأمّل - بإنصاف - السنّةَ النبويّة وما جاء في كتب العلماء مِن مدرسة الخلفاء، يجد فضائله قد ملأت الخافقين؛ فقد أخرج الحاكم النيسابوري في مستدركه، بسنده عن محمد بن منصور الطوسي، يقول: «سمعت أحمد بن حنبل، يقول: ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضائل ما جاء لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه»(1). كما روي هذا المعنى أيضاً في الاستيعاب لابن عبد البر(2)، ومناقب الإمام أحمد بن حنبل لابن الجوزي(3).

وكيف لا يكون كذلك وقد قال عَلیه السَلام عن نفسه: «كنت أدخل على رسول الله ليلاً ونهاراً، وكنت إذا سألته أجابني، وإن سكتُّ ابتدأني، وما نزلت آية إلّا قرأتها، وعلمت تفسيرها وتأويلها، ودعا الله لي ألاّ أنسى شيئاً علَّمني إياه، فما نسيت مِن حرام ولا حلال، وأمرٍ ونهي، وطاعة ومعصية، ولقد وضع يده على صدري وقال: اللهم، املأ قلبه علماً وفهماً، وحكماً ونوراً. ثمّ قال لي: أخبرني ربي عزّ وجلّ أنّه قد

ص: 255


1- الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله، المستدرك على الصحيحين: ج3، ص107.
2- انظر: ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: ج3، ص1115.
3- انظر: ابن الجوزي الحنبلي، مناقب الإمام أحمد بن حنبل: ص220.

استجاب لي فيك»(1).كما أنه‘ دعا له بقوله: «اللهم، اهدِ قلبه وسدد لسانه..»(2).

وقد ورد عن معاوية بن أبي سفيان - والذي يُعَدّ من ألَدّ أعداء علي عَلیه السَلام - أنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغرّ علياً بالعلم غرّاً»(3)، كما قال أيضاً عنه عَلیه السَلام حين بلغه قتله: «ذهب - والله - العلم والفقه بموت ابن أبي طالب»(4).

وروى ابن حجر العسقلاني وابن عبد البرّ والسيوطي، عن أبي الطفيل، قوله عَلیه السَلام : «سلوني، فو الله، لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، سلوني عن كتاب الله، فو الله، ما من آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم نهار، أم في سهل أم في جبل»(5).

وقد روي في كثير من كتب الحفّاظ وأئمة الحديث عنه عَلیه السَلام قوله: «والله، ما نزلت آية إلّا وقد علمت فيمَ أُنزلت! وأين أُنزلت! إنّ ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً»(6).

وقد شهد له عمر بن الخطاب بعلمه في مواضع كثيرة، فعن عطاء، قال: «كان عمر يقول: عليّ أقضانا للقضاء»(7)، وعن أبي سعيد الخدري: أنه سمع عمر يقول لعليٍّ، وسأله عن شيء فأجابه، فقال له عمر: «نعوذ بالله من أن أعيش في قوم لست

ص: 256


1- ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج42، ص386.
2- ابن أبي شيبة، المصنف: ج7، ص495.
3- المصدر السابق: ج42، ص171.
4- ابن الدمشقي، جواهر المطالب: ج1، ص297.
5- ابن حجر، تهذيب التهذيب: ج7، ص297. ابن عبد البر، الاستيعاب: ج3، ص1107. السيوطي، الإتقان في علوم القران: ج2، ص493. المزي، تهذيب الكمال: ج20، ص487
6- ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج2، ص338. والحاكم الحسكاني، شواهد التنزيل: ج1، ص33. والأصبهاني، أبو نعيم، حلية الأولياء: ج1، ص68. والخوارزمي، المناقب: ص 46. والكنجي الشافعي، كفاية الطالب: ص208. ابن حجر الهيتمي، الصواعق المحرقة: ص86
7- ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج2، ص340.

فيهم يا أبا حسن»(1)، وعن سعيد بن المسيّب، قال: «كان عمر بن الخطاب يتعوّذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن»(2).

كما شهد عبد الله بن مسعود بأن عليّ بن أبي طالب عَلیه السَلام عنده علم الظاهر والباطن(3)، وشهد عبد الله بن عباس - حبر الأُمّة - بغزارة علمه عَلیه السَلام ، وأن علم سائر الصحابة بالنسبة إلى علمه عَلیه السَلام كقطرة في سبعة أبحر(4).

ونختم الكلام في مبحثنا هذا بقول ابن الأثير في أُسد الغابة - بعد إيراده جملة من علمه عَلیه السَلام - قال: «ولو ذكرنا ما سأله الصحابة مثل عمر وغيره لأطلنا»(5).

إذن؛ نستجلي من هذه الأحاديث الأُمور التالية:

1- عليّ عَلیه السَلام مسدد اللسان والقلب، وقلبه مملوء بالفهم والعلم والنور والحكمة.

2- عليّ عَلیه السَلام أعلم الناس بعد النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم بكتاب الله؛ لأنّ الله وهب له قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً.

3- رسول الله‘ كان يغرّه بالعلم غرّاً.

4- عمر يشهد بأنّ علياً أقضاهم.

5- كان عمر يتعوّذ أن يعيش في قوم ليس فيهم الإمام علي عَلیه السَلام ؛ إشارة إلى حَلّه للمعضلات العلميّة، التي يفتقدها عمر أو يصعب عليه فهمها.

ص: 257


1- السيوطي، الدر المنثور: ج3، ص144.
2- ابن عبد البر، الاستيعاب: ج3، ص1102- 1103.
3- الأصبهاني، أبو نعيم، حلية الأولياء: ج1، ص65.
4- القندوزي، ينابيع المودة: ج1، ص215.
5- ابن الأثير، أُسد الغابة: ج4، ص23.

6- عليّ عَلیه السَلام عنده علم الظاهر والباطن.

7- علمه من علم النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم ، وعلم النبي‘ من الله؛ فيكون علمه عَلیه السَلام من الله تعالى.

8- لم يكن علم الصحابة في علم عليّ عَلیه السَلام إلّا كقطرة في سبعة أبحر.

فقهاء الإسلام ينهلون من علم علي عَلیه السَلام

أجمع الناس كافة على أنّ علي بن أبي طالب عَلیه السَلام كان أعلم أهل زمانه، وسائر العلماء راجعون إليه ولو بالواسطة.

أمّا الشيعة، فرجوعهم إليه واضح؛ إذ إنّهم لا يأخذون إلّا عنه.

وأمّا علماء الكلام من غير الشيعة كالمعتزلة: فأوّلهم وشيخهم أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفيّة، وهو تلميذ أبيه محمد ومحمد بن الحنفيّة تلميذ أبيه عليّ عَلیه السَلام .

وأمّا فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم، فكلهم يرجعون إليه؛ لأن فقهاء الحنفيّة: مثل أبي يوسف ومحمد ينتمون إلى أبي حنيفة النعمان بن ثابت، والأخير تلميذ أبي عبد الله الصادق عَلیه السَلام ، ولا نزاع في أنّ علم الإمام أبي عبد الله الصادق عَلیه السَلام إنما ورثه بواسطة أبيه، عن جده علي بن الحسين عَلیه السَلام ، عن أبيه عن أمير المؤمنين عَلیه السَلام ، عن رسول الله‘.

وأما الشافعيّة، فإنّهم ينتمون إلى محمد بن إدريس الشافعي، وهو تلميذ محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، وقد تقدّم معنا أنّ أبا حنيفة تتلمذ على يد الإمام الصادق عَلیه السَلام .

وأمّا الحنابلة، فإلى أحمد بن حنبل، وهو تلميذ الشافعي؛ فيرجع ما عنده مِن علم إليه.

ص: 258

وأمّا المالكيّة، فإلى أنس بن مالك صاحب كتاب الموطّأ المدني، وهو تلميذ ربيعة، وربيعة تلميذ عكرمة، وعكرمة تلميذ ابن عباس، وابن عباس تلميذ عليّ عَلیه السَلام بالاتّفاق.

وأمّا أهل السلوك والطريقة، فإلى عليّ عَلیه السَلام ينتهون، كما صرّح به الشبلي، والجنيد، والسري، وأبو زيد البسطامي، ومعروف الكرخي وغيرهم من الصوفيّة.

وأمّا علم العربية، فيرجع إليه أيضاً؛ لأنه الواضع والمؤسّس لعلم العربية، وقد اتّفق أهل النقل على ذلك، فهو الذي أملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه(1). فهل نستغرب بعد ذلك أن يكون علي عَلیه السَلام هو رأس الفضائل كلّها، كما صرّح أحمد بن حنبل وغيره؟!

إذن؛ فلا غرو أن يكون عليّ هو الباب لمدينة علم رسول الله‘.

المبحث الثاني: الرد على مدّعيات الشيخ ابن تيمية والمعلمي
اشارة

ذكرنا في مقدمة بحثنا أنّ هناك مَن يُشكّك في منقبة من مناقب أمير المؤمنين عَلیه السَلام طالما ردّدها رسول الله‘ على مسامع المسلمين، ألا وهي فضيلة كون عليٍّ عَلیه السَلام هو باب مدينة علم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم الذي ينفتح منه ألف باب من العلم والمعرفة، فقد ذكر ابن تيمية في خصوص ذلك ما نصه: «وحديث أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، أضعف وأوهى؛ ولهذا إنّما يعدّ في الموضوعات، وإن رواه الترمذي. وذكره ابن الجوزي وبيَّن أن سائر طرقه موضوعة»(2).

ص: 259


1- انظر: جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء: ج1، ص14.
2- ابن تيمية الحراني، منهاج السنة: ج7، ص515.

ثمّ جاء المعلمي(1) مقتفياً أثر أشياخه ليُتحفنا بفتح جديد، وهو: إعادة النظر والتدّبر في هذا الحديث، بعد أن كان يعتقد بقوته، وبعد طول تدبّر وصل إلى نتيجة مؤدّاها تضعيف هذا الحديث!

قال في كتاب الفوائد المجموعة: «كنت مِن قَبل أميل إلى اعتقاد قوّة هذا الخبر حتى تدبّرته، وله لفظان:

الأول: (أنا مدينة العلم وعليّ بابها).

والثاني: (أنا دار الحكمة وعليٌّ بابها)، ولا داعي للنظر في الطرق التي لا نزاع في سقوطها، وأنظر فيما عدا ذلك على ثلاثة مقامات:

المقام الأول: سند الخبر الأول إلى أبي معاوية، والثاني إلى شريك، روى الأول عن أبي معاوية، أبو الصلت عبد السلام بن صالح، وقد تقدّم حال أبي الصلت..

المقام الثاني: على فرض أنّ أبا معاوية حدَّث بذاك. وشريكاً حدَّث بهذا، فإنّما جاء ذاك، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد.. وأبو معاوية، والأعمش، وشريك، كلهم مدلّسون متشيّعون.

فإن قيل: إنّما ذُكروا في الطبقة الثانية، من طبقات المدلسين، وهي طبقة مَن

ص: 260


1- «هو عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن محمد المعلمي العتمي(1313 ه- - 1386 ه-): فقيه من العلماء، نسبته إلى (بني المعلم) من بلاد عتمة، باليمن. ولِد ونشأ في عتمة، وتردّد إلى بلاد الحجرية (وراء تعز) وتعلّم بها، تولّى رئاسة القضاة ولُقّب بشيخ الإسلام... عاد إلى مكة( 1371ه-) فعُيّن أميناً لمكتبة الحرم المكي ( 1372ه-) إلى أن شوهد فيها منكباً على بعض الكتب وقد فارق الحياة. وقيل: بل تُوفّي على سريره. ودُفن بمكة. له تصانيف منها (طليعة التنكيل) وهو مقدمة كتابه (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل) و( الأنوار الكاشفة) في الردّ على كتاب (أضواء على السنّة) لمحمود أبي رية، و(محاضرة في كتب الرجال )». اُنظر: الزركلي، الأعلام: ج3، ص342

(احتمل الأُمّة تدليسه، وأخرجوا له في الصحيح).

قلت: ليس معنى هذا أنّ المذكورين في الطبقة الثانية تُقبل عنعنتهم مطلقاً، كمَن ليس بمدلّس البتّة، إنّما المعنى أنّ الشيخين انتقيا في المتابعات ونحوها في معنعناتهم، ما غلب على ظنهما أنّه سماع، أو أنّ الساقط منه ثقة، أو كان ثابتاً من طريق أُخرى، ونحو ذلك كشأنهما فيمَن أخرجا له ممَّن فيه ضعف، وقد قرّر ابن حجر - في نخبته ومقدمة اللسان وغيرهما - أنّ مَن نوثّقه، ونقبل خبره من المبتدعة، يختصّ ذلك بما لا يؤيّد بدعته، فأمّا ما يؤيّد بدعته، فلا يقبل منه البتّة.

المقام الثالث: النظر في متن الخبر، كلّ مَن تأمّل منطوق الخبر، ثمّ عرضه على الواقع، عرف حقيقة الحال، والله المستعان»(1).

سوف نضع كلام المعلمي على طاولة النقاش العلمي والموضوعي، وبالردّ عليه يتّضح الردّ على ابن تيمية؛ لذا سوف نأخذ عيّنات من كلماته ونردّ عليها:

* أما قوله: «ولا داعي للنظر في الطرق التي لا نزاع في سقوطها...».

الجواب: الحديث يتقوَّى بتعدُّد الطرق والمتابعات

من الأُمور التي تجعل الحديث معتبراً في نظر العلماء هو كونه متعدد الطرق والمتابعات، والحديث الذي ذكرناه من صغريات هذه القاعدة، إلّا أنّ الشيخ أغمض عينيه عن مجموع الطرق الكثيرة التي بلغت من الكثرة؛ بحيث نستطيع القول: إنّ هذا الحديث متواتر تواتراً إجمالياً، فقد ذكره جمع من الصحابة، كأمير المؤمنين، والإمام الحسن، والإمام الحسين علیهم السلام وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن

ص: 261


1- المعلمي، الفوائد المجموعة: ص352.

مسعود، وعبد الله بن عمر، وعمرو بن العاص، وحذيفة بن اليمان، وأنس بن مالك، ومتابعاته وشواهده كثيرة جداً .. وسيأتي الكلام مفصّلاً حول تلك الطرق؛ فليس الحديث - كما يدّعي - ساقطاً عن الاعتبار؛ بل صحّحه أعلام أهل السنّة، كالحاكم النيسابوري، وابن حجر، والسيوطي.. فالحُكْم بسقوط تلك الطرق ليس علميّاً.

ونعتقد أنّ الشيخ يؤمن بذلك؛ لأنّ منشأ اعتقاده وميله - إلى قوّته كما يدّعي - كان بحسب تعدّد الطرق لهذا الحديث، والمفترض أنه ملمّاً بهذا الأمر، ولا يخفى على أمثاله.

قال ابن حجر - في حديث مشابه لهذا الحديث(1) الذي ضعَّفه ابن الجوزي -: «قول ابن الجوزي في هذا الحديث باطل، وأنّه موضوع. دعوى لم يستدلّ عليها... وهذا إقدام على ردّ الأحاديث الصحيحة بمجرّد التوهّم، ولا ينبغي الإقدام على الحُكم بالوضع، إلّا عند عدم إمكان الجمع، ولا يلزم من تعذُّر الجمع في الحال، أنّه لا يمكن بعد ذلك؛ لأن فوق كلّ ذي علم عليم».

ثمّ قال: «وهذا الحديث من هذا الباب: هو حديث مشهور له طرق متعددة، كلّ طريق منها على انفراده لا يقصر عن رتبة الحسن، ومجموعها ممّا يقطع بصحته، على طريقة كثير من أهل الحديث»(2).

لذا؛ عندما سُئل الحافظ ابن حجر عن هذا الحديث - مدينة العلم - قال: «إنّ تلك الأحاديث التي اُدعي وضعُها - ومنها حديث الباب - لم يتبيّن أنّ فيها حديثاً

ص: 262


1- هو حديث (سدّ الأبواب إلّا باب عليٍّ علیه السَّلام )، وهذا الحديث ضعّفه جملة من علماء أهل السنّة، ولكن تأبى بعض الأقلام والعقول إلا أن تنطق بالحقّ، وابن حجر انطلق من قاعدة: أنّ كثرة الطرق والمتابعات تقوّي الحديث وترتقي به إلى الحسن والاعتبار
2- ابن حجر العسقلاني، القول المسدّد في الذبّ عن أحمد: ص26-27.

واحداً يتأتّى الحكم عليه بالوضع»(1).

وكذلك نجد أنّ ابن تيمية - شيخ المعلمي - يقرّر القاعدة القائلة: إنّ الحديث لو لم يصل ويثبت عند المجتهد - سواء كان هذا الحديث في سنده مجهول، أو قطع، أو متّهم، بل لو كان سيء الحفظ - وكانت هناك طرق أُخرى له؛ فيصح الحديث بالمتابعات والشواهد، حيث قال: «السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده، إمّا لأن محدِّثه أو محدِّث محدِّثه أو غيره من رجال الإسناد مجهول عنده، أو متّهم، أو سيء الحفظ، وإمّا لأنّه لم يبلغه مسنداً بل منقطعاً، أو لم يضبط لفظ الحديث، مع أنّ ذلك الحديث قد رواه الثقات لغيره بإسناد متّصل، بأن يكون غيره يعلم من المجهول عنده الثقةَ، أو يكون قد رواه غير أُولئك المجروحين عنده، أو قد اتّصل من غير الجهة المنقطعة، وقد ضبط ألفاظ الحديث بعض المحدِّثين الحفّاظ، أو لتلك الرواية من الشواهد والمتابعات ما يُبيّن صحتها... فإنّ الأحاديث كانت قد انتشرت واشتُهرت، لكن كانت تبلغ كثيراً من العلماء من طرق ضعيفة، وقد بلغت غيرهم من طرق صحيحة غير تلك الطرق؛ فتكون حجة من هذا الوجه»(2).

إذن؛ نستنتج أنّ طريقة أهل الحديث والمحدِّثين - فيما لو تعددت الطرق والمتابعات - هي أنّ الحديث يرقى إلى الصحيح أو الحسن لغيره - وسنأتي على تعدُّد هذا الحديث ومتابعاته وشواهده لاحقاً - فكلام المعلمي مجرّد وهم، وخالٍ من الدليل والبرهان.

أما قوله: «المقام الأول: سند الخبر الأول إلى أبي معاوية، والثاني: إلى شريك، روى الأول عن أبي معاوية، أبو الصلت عبد السلام بن صالح، وقد تقدّم حال أبي الصلت..»

ص: 263


1- أجوبة ابن حجر عن أحاديث المصابيح، المطبوع ضمن كتاب مشكاة المصابيح: ج2، ص555
2- ابن تيمية، مجموع الفتاوى: ج20، ص239-240.
الجواب: أبو الصلت الهروي بين التوثيق والتضعيف

قد حكم المعلمي بضعف أبي الصلت الهروي، ولكن قبل أن نُبدي رأينا فيه لا بدّ أن نخوض البحث بطريقة علميّة، فنضع الرجل في مقصّ ورقيب ومجهر علماء الجرح والتعديل، بمجموع مَن وثّقه ومَن جرحه، ونناقش أو نحاكم تلكم الأقوال وفق الضوابط والمباني الرجاليّة التي يؤمن بها الشيخ المعلمي نفسه. ولا نقع في عين الخطأ الذي فعله، بحيث نجد أنّه حكم بضعفه، ولم ينقل كلام أساطين الفنّ الذين وثّقوه، كابن معين، وابن حجر، وغيرهما.. وهذا عيب ظاهر.

وللعلاّمة اللكنوي كلام دقيق، وفي الوقت نفسه شديد على مَن تمسَّك بالجرح وترك التعديل؛ حيث إنّه بعد إيراده كلاماً للذهبي، قال: «وقال الذهبي في ميزانه في ترجمة أبان بن يزيد العطّار: قد أورده أيضاً العلاّمة ابن الجوزي في الضعفاء، ولم يذكر فيه أقوال مَن وثّقه، وهذا من عيوب كتابه، يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق [انتهى كلام الذهبي].

قلت [أي اللكنوي]: هذه النصوص لعلّها لم تقرع صماخ أفاضل عصرنا وأماثل دهرنا، فإنّ شيمتهم أنّهم حين قصدهم بيان ضعف روايةٍ، ينقلون - من كتب الجرح والتعديل - الجرحَ دون التعديل، فيوقعون العوام في المغلطة؛ لظنهم أنّ هذا الراوي عار عن تعديل الأجلّة. والواجب عليهم أن ينقلوا الجرح والتعديل كليهما، ثمّ يرجّحوا حسبما يلوح لهم أحدهما. ولعمري، تلك شيمة محرّمة وخصلة مخرمة»(1).

إذن؛ لنأخذ نماذج ممَّن قالوا بتوثيقه وتضعيفه، ومن ثَمَّ نناقشها.

ص: 264


1- اللكنوي، الرفع والتكميل: ص66.
الموثِقون:

1- ابن معين، وهو من أكابر علماء الجرح والتعديل: «قال ابن محرز: سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت، فقال: ليس ممَّن يكذب. وقال عباس: سمعت ابن معين يوثِّق أبا الصلت»(1).

2- الحاكم النيسابوري، قال: «وأبو الصلت ثقة مأمون؛ فإني سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب في التاريخ يقول: سمعت العباس بن محمد الدوري يقول: سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت الهروي، فقال: ثقة. فقلت: أليس قد حدَّث عن أبي معاوية عن الأعمش: أنا مدينة العلم؟ فقال: قد حدَّث به محمد بن جعفر الفيدي، وهو ثقة مأمون»(2).

3- الخطيب البغدادي، قال: «وكان صاحب قشاف، وهو من آحاد المعدودين في الزهد..».

وقال أيضاً: «أخبرني عبيد الله بن عمر الواعظ.. حدَّثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك، قال: سمعت أبي يقول: سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت الهروي، فقال: ثقة صدوق، إلا أنّه يتشيّع»(3).

فالخطيب يميل إلى توثيقه؛ تبعاً لتوثيق ابن معين.

4- ابن حجر العسقلاني، قال: «عبد السلام بن صالح بن سليمان، أبو الصلت الهروي مولى قريش، نزل نيسابور، صدوق له مناكير، وكان يتشيّع، وأفرط العقيلي

ص: 265


1- الذهبي، سير أعلام النبلاء: ج11، ص 447.
2- الحاكم النيسابوري، المستدرك: ج3، ص126-127.
3- الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: ج11، ص48 -50.

فقال: كذّاب»(1).

فإذاً؛ ابن حجر يرى حُسنه.

المضعِّفون:

أما المضعِّفون لأبي الصلت، فقد أحصاهم المزّي في موسوعته تهذيب الكمال، وهم كما يلي:

1- النسائي: «ليس بثقة. وقال عبد الرحمان بن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: لم يكن عندي بصدوق، وهو ضعيف، ولم يحدثني عنه».

2- أبو زرعة: «فأمر أن يُضرب على حديث أبي الصلت، وقال: لا أُحدّث عنه ولا أرضاه».

3- إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: «كان أبو الصلت الهروي زائغاً عن الحقّ مائلاً عن القصد».

4- الدارالقطني: «... قال أبو بكر البرقاني عن أبي الحسن الدار قطني، كان رافضيّاً خبيثاً»(2).

5- الذهبي: «الشيخ العالم العابد، شيخ الشيعة، أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي، ثمّ النيسابوري مولى قريش، له فضل وجلالة، فيا ليته ثقة!»(3).

فالذهبي يقرّ بكونه شيخاً عابداً، وله فضل وجلالة، ولكن يتمنّى أن يكون ثقة.

ص: 266


1- ابن حجر العسقلاني، تقريب التهذيب: ج1، ص600.
2- المزي، تهذيب الكمال: ج 18، ص80.
3- الذهبي، سير أعلام النبلاء: ج11، ص446.

أقول: ألا يكفي في صدق هذه الأمنية التي تمنَّاها الذهبي كونه رضوان الله عليه عابداً، وفي بعض التراجم من المعدودين في الزهد - كما تقدم في كلام الخطيب البغدادي - أم أنّ هناك سبباً آخر يمنعه من توثيقه؟! وسوف نناقش هذا الأمر بإنصاف وحكمة، ونضع الأُمور في نصابها الصحيح.

مناقشة المضعِّفين لأبي الصلت الهروي
اشارة

بعدما تقدم من ذكرنا لتضعيف أبي الصلت، لا بدّ أن نضع أيدينا على بعض الأُسس والقواعد التي ارتآها أرباب الجرح والتعديل في قبول أو ردّ تلكم الأقوال.

القاعدة الأولى: التضعيف والتوثيق للرواة أمر اجتهادي

من القواعد التي قرّرها علماء هذا الفنّ: هي أن التوثيق أمر اجتهادي نسبي؛ فقد يكون رجل ثقةً عند عالم ضعيفاً عند غيره، وكما قال التهانوي: «إنّ تضعيف الرجال وتوثيقهم وتصحيح الأحاديث وتحسينها أمر اجتهادي ولكلٍّ وجهة، فيجوز أن يكون راو ضعيفاً عند واحد ثقةً عند غيره؛ وهذا يدلّ عليه قول العلاّمة ابن تيمية في كتابه رفع الملام: ومعرفة الرجال علم واسع، وللعلماء بالرجال وأحوالهم في ذلك من الإجماع والاختلاف مثل ما لغيرهم من سائر أهل العلم في علومهم»(1).

وقال أيضاً - معقّباً على كلام ابن جرير الذي صحَّح حديث مدينة العلم -: «وقال ابن جرير: هذا خبر صحيح سنده، وقد يجب أن يكون عند الآخرين سقيماً. قلت: دلّ كلام ابن جرير على اختلافهم في شروط صحّة الحديث وتوثيق الرجال»(2).

إذن؛ نفهم من ذلك أنّه ليس بالضرورة أن يكون الحديث ضعيفاً، فقد توجد

ص: 267


1- التهانوي، قواعد في علوم الحديث: ص49.
2- المصدر السابق: ص52.

شروط صحيحة للحديث فيتمّ تصحيحه، والعكس صحيح أيضاً، وخير مثال ما نحن فيه، فحديث الباب قد صحّحه كبار الأئمة، كابن جرير وابن معين وغيرهم؛ وذلك طبقاً لاجتهادهم الذي أوصلهم إلى هذه النتيجة، وأمّا إذا حكمنا بضعف هذا الحديث إطلاقاً، فهو كلام غير دقيق وبعيد عن الصحة.

القاعدة الثانية: الجرح لا يُقبل إلا مفسَّراً

إنّ الجرح للرواة لا بدّ أن يُذكر فيه السبب، وأن يُفسَّر تفسيراً صريحاً واضحاً في ذلك، مثلاً إذا قيل عن راوٍ: إنّه يكذب. فلا بدّ من بيان ذلك، فلا يُكتفى بهذا التعبير، بل لا بدّ من بيان ماهية الكذب وأنّه سمعه، وأن يقيم الدليل على ذلك، بحيث يُطمأن بمصداقية الجارح للراوي، وهناك جملة من الشروط لخّصها العلاّمة أحمد بن الصديق المغربي بقوله: «الجرح المفسَّر يُقبل من الجارح ما هو جرح حقيقة، كقوله: فلان كذّاب؛ لأنّه حدَّث عن فلان وادّعى السماع منه، وقد مات قبل ولادته أو قبل دخوله لبلده، أو سُئل الشيخ عن الحديث فأنكره، وأبدى دليلاً على عدم سماعه له، أو أقرّ على نفسه بالكذب، أو زاد في النسخة، أو أدخل نفسه في الطباق، أو كان يترك الصلاة، ويقيم الدليل على ذلك كما فعل بعضهم مع بعض الحفّاظ.. ويطرح ما ليس بجرح؛ لهذا فلا يُقبل خصوصاً مع معارضه التعديل، وعلى هذا استقر صنيع جميعهم، وصرّح به أكثرهم في أُصول الفقه والحديث كما هو معروف»(1). وهذه القاعدة مشهورة على لسان المحدِّثين؛ فلا نطيل الكلام فيها.

فلو تتبعنا كلمات الجارحين - كما تقدّم - لم نجدهم يبيّنون لنا ماهية هذا الجرح سوى تهمته بأنّه رافضيّ خبيث أو بالتشيّع وكونه جلداً، كما قال الذهبي(2). وهذا

ص: 268


1- فتح الملك العلي: ص147.
2- اُنظر: الذهبي، ميزان الاعتدال: ج2، ص616.

لا يعدّ جرحاً مفسَّراً؛ لأنّه من خلال متابعتنا لكلمات الذهبي يتّضح معنى الشيعي الجلد؛ وذلك من خلال ترجمته لأبان بن تغلب، قال: «أبان بن تغلب الكوفي، شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته»(1). فالشيعي الجلد صاحب بدعة، والبدعة لها أقسام، كما يفسّرها الذهبي.

ثمّ يتساءل الذهبي قائلاً: «فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحدُّ الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلاً مَن هو صاحب بدعة؟

وجوابه: إنّ البدعة على ضربين: فبدعة صغرى، كغلو التشيّع، أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحريف، فهذا كثيراً في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رُدّ حديث هؤلاء؛ لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.

ثمّ بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه، والحطّ على أبي بكر وعمر، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتجّ بهم ولا كرامة... ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلاً، بل قد يعتقد علياً أفضل منهما»(2).

فيرى الذهبي أن أبان بن تغلب صاحب بدعة صغرى، ومعيار البدعة الصغرى هو:

1- الغلو في التشيّع.

2- عدم الحطّ على الشيخين.

3- اعتقاد أنّ علياً هو الأفضل ممَّن سبقه.

فأبان مع بدعته حاله كحال التابعين وتابعي التابعين مع الدين والصدق، ولو

ص: 269


1- اُنظر: الذهبي، ميزان الاعتدال: ج1، ص5.
2- المصدر السابق: ج1، ص6.

ردّ حديثه لذهب وسقطت جملة كبيرة من الأحاديث النبوية، ولازم ذلك هو الفساد الواضح؛ لذا وثّقه.

مناقشة الذهبي:

لو سألنا الإمام الذهبي، وقلنا له: إنّ أبا الصلت الهروي لا يختلف عن أبان في حاله الذي ذُكر؛ حيث نُقل عن ابن معين بأنّه لا يكذب: «قال: ليس ممَّن يكذب»(1)، فلماذا تضعّفه؟!

بل إنّ أبا الصلت: «الشيخ العالم العابد... له فضل وجلالة»(2). فهو عالم عابد. وهو أيضاً كما روى الذهبي: «كان يردّ على أهل الأهواء من الجهمية المرجئة والقدرية.. ورأيته يقدّم أبا بكر، ولا يذكر الصحابة إلّا بالجميل»(3).

فلو طبقنا ذلك المعيار الذي ذكره لوجدنا تهافتاً واضحاً، فأبو الصلت لم يتعرض للشيخين؛ بل على مبناه أنّه يقدم أبا بكر ويذكر الصحابة بالجميل، فلماذا لم يقل: فلنا صدقه وعليه بدعته؟!

لذا؛ نجد أنّ السيد ابن عقيل الشافعي - في كتابه العتب الجميل - يُسجِّل استغرابه على هذا التناقض، بقوله: «وأقول: من الغريب أنّ حبّه وتقديمه لأبي بكر وعمر لم يشفع له عند الطاعنين فيه لتشيّعه، وكأنّهم لا يرضيهم إلّا لعن عليٍّ وذمّه وذمّ أهل البيت، وتكذيب ما ورد فيهم من المناقب»(4).

ص: 270


1- الذهبي، سير أعلام النبلاء: ج11، ص447.
2- المصدر السابق: ج11، ص446.
3- المصدر السابق: ج11، ص447.
4- العلوي، محمد بن عقيل، العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل: ص68.

وبطبيعة الحال؛ فإنّ العصبية أخذت مأخذها من الذهبي؛ بحيث صدّته عن الصدع بكلمة الحقّ، ورحم الله السيد محسن الأمين حينما خاطبه قائلاً: «إذا كان الذهبي يعدّ ولاء أهل البيت وتفضيلهم وتقديمهم على غيرهم، وأخذ أحكام الدين عنهم - وهم أحد الثقلين، ومثل باب حطَّة، وسفينة نوح - بدعة، ويُسمّيه غلواً ورفضاً كاملاً، ويرد الرواية لأجله، فهذه هي البدعة والنصب الكامل والغلو فيه، وحاشا أن يكون في ذلك بدعة صغرى أو كبرى، وإنّما أخذوا دينهم وأحكامهم عن أئمة أهل البيت الطاهر، واقتدوا بهم وهم أعلم بسنّة جدهم صلّى الله عليه و آله و سلّم من الذهبي وغيره»(1).

القاعدة الثالثة: العبرة في الرواية بصدق الراوي وصيانة كلامه عن الكذب

تقدَّم في كلمات الذهبي أنّ أبا الصلت صادق في الكلام، لا يحدِّث إلّا بصدق، كما أنّ المزي يروي ذلك في تهذيبه بقوله: «عن إبراهيم بن عبد الله الجنيد، قال: سمعت يحيى وذكر أبا الصلت الهروي، فقال: لم يكن أبو الصلت عندنا من أهل الكذب»(2).

لذا؛ فعلماء الجرح والتعديل قرروا قاعدة مفادها: أنّ المحور في قبول الروايات والأحاديث هو كون مَن يرويها صادقاً لا يكذب؛ ولذلك نجد في كلمات الأعلام أنّ مَن قال بتبديع بعض الرواة لا يُلتفت إليه؛ لأن المعيار في قبولها هو الصدق والأمانة في النقل.

قال العلاّمة أحمد محمد شاكر، معقِّباً على مَن تكلّم في روايات المبتدع نفياً وإثباتاً: «وهذه الأقوال كلها نظرية، والعبرة في الرواية بصدق الراوي، وأمانته والثقة بدينه وخُلقه، والمتتبع لأحوال الرواة يرى كثيراً من أهل البدع موضعاً للثقة والاطمئنان،

ص: 271


1- محسن الأمين، أعيان الشيعة: ج2، ص98.
2- المزي، تهذيب الكمال: ج18، ص78.

وإن رووا ما يوافق رأيهم»(1).

فيرى هذا المُحقّق أنّ صاحب البدعة - على فرض كونها بدعة - لو روى ما يوافق ويتلاءم مع رأيه، تُقبل رواياته أيضاً؛ لصدقه وأمانته فيما ينقل ويحدِّث.

فالمراد بالعدالة - حقيقة -: هو صدق الراوي وتجنبه للكذب في حديث رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم خاصّة، لا لمطلق الكذب ولا لغيره من المعاصي(2).

ولعل أحداً يدّعي أنّ هذا الناقل لهذه الروايات ليس عادلاً؛ لأنّه يعتقد بخلاف ما نعتقد به!

إلّا أنّ هذا الكلام أجاب عنه الإمام مالك الذي كان يتشدّد في قبول الرواية عن المبتدعة، وينهى عنها، لكنه يروي عن جماعة عُرفوا بخلافهم العقائدي، كثور بن زيد الديلي، وداود بن الحصين، وثور بن يزيد الشامي، وهم خوارج قدرية، وعدي بن ثابت، وهو شيعي، بل قالوا فيه: رافضي.. وغيرهم، فعندما سُئل: كيف رويت عن داود بن الحصين، وثور بن زيد، وكانوا يرمون بالقدر؟ قال في جوابه عن ذلك: إنّهم كانوا لأن يخرّوا من السماء إلى الأرض أسهل عليهم من أن يكذبوا كذبة(3).

وتعبير الإمام مالك فيه نكتة دقيقة، وهي أنّ هؤلاء الرواة لو خُيّروا أن يسقطوا من السماء إلى الأرض على أن يكذبوا ما كذبوا، وهذا دليل على صدق رواة الشيعة، وأنّ ديدنهم هو الأمانة في النقل، ويدعم هذه الحقيقة كلام الشافعي؛ حيث قال: «إبراهيم بن يحيى الشيعي، وقيل فيه أيضاً: رافضي. لمّا سُئل عن الرواية عنه، قال: لأن يخرّ إبراهيم من جبل أحبّ إليه من أن يكذب، وكان ثقة في الحديث؛ ولهذا كان

ص: 272


1- الباعث الحثيث: ص102.
2- انظر: أحمد بن الصديق الغماري، فتح الملك العلي: ص83.
3- انظر: المصدر السابق: ص104-105. ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب: ج2، ص29

يقول: حدَّثنا الثقة في حديثه المتهم في دينه»(1).

إذن؛ الملاك في التوثيق هو الصدق والأمانة وعدم الكذب، بغضّ النظر عمّا يُدّعى في حقّ الرواة من كلام.

القاعدة الرابعة: التوقف في قول الجارح إذا كان بسبب العقيدة

قد اتّضح من كلمات الأعلام في القاعدة الثالثة أنّ للصدق في النقل محورية في قبول الرواية، ولو كان شيعيّاً أو رافضيّاً - كما يعبرون ويدّعون - والشيعي يعتنق مذهباً يخالف الجارح أو المعدِّل، أو بتعبير آخر يخالف مَن يقيّمه في كونه ثقةً أو غير ثقة؛ من هنا قرّر علماء هذا الفنّ أنّ للعقيدة مدخليّة في القبول والردّ؛ فعالِم الجرح والتعديل لا بدّ أن يقف موقف المحايد، فدائرة هذا العلم يجب أن تقف موقفاً مغايراً لما قد يشوبه من تحيّز، بحيث لا يمكن ولا يصحّ أن يجرح الراوي خلافاً لما هو ثابت من كونه صادقاً فيما يرويه، وإن كان مخالفاً لعقيدة الجارح.

من هنا؛ نجد أقوال العلماء في هذا الشأن قد شدّدت النكير على مَن جرح الرجال لهذه العلّة. قال ابن حجر: «وممَّن ينبغي أن يتوقّف في قبول قوله في الجرح، مَن كان بينه وبين مَن جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد»(2).

وقال السبكي: «وممّا ينبغي أن يُتفقَّد عند الجرح: حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجارحُ المجروحَ في العقيدة فجرحه بذلك. وإليه أشار الرافعي بقوله: وينبغي أن يكون المزكّون برآء من الشحناء والعصبية في المذاهب؛ خوفاً من أن يحملهم على جرح عدلٍ أو تزكية فاسقٍ، وقد وقع هذا لكثير

ص: 273


1- المصدر السابق: ص105.
2- ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان: ج1، ص16.

من الأئمة، جرحوا بناءً على معتقدهم، وهم المخطئون والمجروح مصيب»(1).

وقال الشيخ حسن بن فرحان المالكي: «ولعل أبرز آثار العقيدة على الجرح والتعديل عند الحنابلة تضعيف ثقات المخالفين وتوثيق ضعفاء الموافقين، ومن ذلك: تضعيف ثقات الشيعة، وخاصّة فيما يروونه في فضائل عليّ»(2).

ومعلوم أنّ أبا الصلت الهروي هو من رواة فضائل أهل البيت علیهم السلام ، لا سيما هذا الحديث الذي نحن بصدده، وهو أيضاً من خواصّ أصحاب الإمام الرضا عَلیه السَلام .

إذن؛ وفقاً لهذه القاعدة لا نحكم بقبول الجارح الذي بنى فيه على الاختلاف العقائدي، بل جرحه مردود، سيما إذا ضممنا إليها كونه ليس من أهل الكذب، فهو ذلك الرجل الأمين والصادق.

القاعدة الخامسة: التشدّد والتعنّت في الجرح يُسقط قول الجارح في الرواة

تقرّر عند علماء الجرح والتعديل أن الجارح المتشدد يردّ جرحه، ولا بدّ أن ينظر هل وافقه غيره في ذلك أو لا؟

قال الذهبي في تصنيفه للناقدين: «منهم متعنّت في الجرح متثبّت في التعديل، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث؛ فهذا إذا وثّق شخصاً فعضّ على قوله بنواجذك وتمسّك بتوثيقه، وإذا ضعّف رجلاً فاُنظر: هل وافقه غيره على تضعيفه؟»(3).

ووفقاً لهذه القاعدة؛ فلو أسقطنا هذا الكلام على واقع أبي الصلت لوجدنا أنه ناشئ من تعصّب وتعنّت وتحامل، فكلّ ما ابتُلي به من هذا التضعيف هو نقله لهذه الفضيلة

ص: 274


1- السبكي، تاج الدين، طبقات الشافعية الكبرى: ج2، ص12.
2- المالكي، حسن بن فرحان، قراءة في كتب العقائد: ص132.
3- السخاوي، فتح المغيث: ج3، ص358.

لعليٍّ عَلیه السَلام ؛ لذا نجد بعض الضمائر المنصفة نطقت بهذه الحقيقة، قائلةً: «... وهو منهم تحامُل لا دليل عليه ولا موجب له سوى موالاته لأهل البيت كعادتهم مع غيره»(1).

ولهذا نرى أنّ يحيى بن معين ضاق ذرعاً بمَن قال بضعفه؛ بحيث قال: «ما تريدون من هذا المسكين؟! أليس قد حدّث به محمد بن جعفر الفيدي»(2). ومعلوم أنّ الفيدي ثقة.

فتضعيف الجوزجاني والنسائي لا عبرة به، فكلاهما من المتشدّدين، لا سيما إذا لاحظنا توثيق البعض لأبي الصلت، كابن معين والخطيب وابن حجر وغيرهم، وأيضاً تصريحهم بكونه من الرواة الصادقين في النقل، بل وصل الحال بالجوزجاني الانحراف عن عليٍّ عَلیه السَلام ، ووصفه بعض الحفّاظ بالنصب، قال الحافظ ابن حجر: «وكتابه في الضعفاء يوضّح مقالته، ورأيت في نسخة من كتاب ابن حبان: حريزي المذهب - وهو بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وبعد الياء زاي - نسبةً إلى حريز بن عثمان المعروف بالنصب، وكلام ابن عدي يؤيد هذا»(3).

وقال أيضاً: «فإنّ الحاذق إذا ت-أمّل ثلْبَ أبي إسحاق الجوزج-اني لأهل الكوفة رأى العجب؛ وذلك لشدّة انحرافه في النصب، وشهرة أهلها بالتشيّع، فتراه لا يتوقف في جرح مَن ذكره منهم بلسان ذلقة وعبارة طلقة، حتى أنّه أخذ يلين مثل الأعمش وأبي نُعيم وعبيد الله بن موسى وأساطين الحديث وأركان الرواية»(4).

إذن؛ كيف يمكن الوثوق والاطمئنان بالجارح إذا كان متشدّداً؛ بل وكان فيه

ص: 275


1- الغماري، فتح الملك العلي: ص128.
2- الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: ج11، ص51.
3- ابن حجر، تهذيب التهذيب: ج1، ص159.
4- ابن حجر، لسان الميزان: ج1، ص16.

انحراف عن عليٍّ عَلیه السَلام ؛ فالنتيجة الطبيعية أن يكون منطلق كلامه وتقييمه للرواة ناشئاً من تعصّب وتجنّ، وليس تحرّياً وتدقيقاً لطلب الحقّ.

القاعدة السادسة: إذا اختلف في التوثيق والتضعيف ولم يكن الجرح مفسَّراً فيُقدم التعديل

قرّر العلماء قاعدة مفادها: «أنّ التعديل مقدّم على الجرح، إلّا إذا كان مفسَّراً، فإذا اختُلف في التوثيق والتضعيف ولم يكن الجرح مفسَّراً، فالراوي ثقة، عند الأكثرين»(1).

ولعل الحافظ ابن دقيق والمنذري وابن حجر استندوا لهذه القاعدة، في توثيق المختلَف فيه.

قال ابن دقيق العيد في نصب الراية: «وسنان بن ربيعة أخرج له البخاري، وهو وإن كان ليّن الحديث، فقد قال ابن عدي: أرجو أن يكون لا بأس به. وقال ابن معين: ليس بالقوي، فالحديث عندنا حسن»(2).

وقال المنذري في مقدمة الترغيب والترهيب في حكم ما يرويه محمد بن إسحاق بن يسار: «وبالجملة؛ فهو ممَّن اختُلف فيه، وهو حسن الحديث»(3).

وقال ابن حجر العسقلاني في القول المسدّد عن قزعة بن سويد بن حجير الباهلي البصري: «قال فيه ابن معين مرّة ضعيف، ومرّة ثقة. وقال أبو حاتم: محله الصدق وليس بالمتين، يُكتب حديثه ولا يُحتج به. وقال ابن عدي: أرجو أنّه لا بأس به. وقال البزار: ليس بالقوي. وقال العجلي: لا بأس به، وفيه ضعف»(4). ومع كلّ هذا

ص: 276


1- التهانوي، قواعد في علوم الحديث: ص347.
2- الزيلعي، نصب الراية: ج1، ص71.
3- المصدر السابق: ج6، ص458.
4- ابن حجر العسقلاني، القول المسدّد في مسند أحمد: ص50.

الاختلاف، فقد حكم عليه ابن حجر أنّ حديثه في مرتبة الحسن.

وقال أيضاً في تهذيب التهذيب في ترجمة عبد الله بن صالح كاتب الليث: «عن ابن القطان قوله فيه: هو صدوق، ولم يثبت عليه ما يُسقط حديثه؛ إلّا أنّه مختلَف فيه، فحديثه حسن»(1).

فلو تنزّلنا عن كلّ ما سبق، فإنّ أبا الصلت الهروي قد اختُلف في توثيقه وتضعيفه، وقد تقدّمت المناقشة لأقوال المضعِّفين، وتبيّن أيضاً أنّ الجرح الذي اتُّهم به لم يكن مفسَّراً، كما تقدّم في القاعدة الثانية، فالحقّ أن يكون أبو الصلت ثقة؛ فيُقدّم قول الموثِّقين له.

النتيجة:

إذن؛ من خلال ما تقرّر من القواعد الآنفة الذكر قد تبيّن أنّ التُّهم الموجَّهة لأبي الصلت لا ترتقي إلى الاعتبار، وبلحاظ هذه القواعد الستّ - مع ما تقدم من توثيقه - نحكم بوثاقته وصدق مروياته.

وأما قوله: «المقام الثاني: على فرض أنّ أبا معاوية حدَّث بذاك. وشريكاً حدَّث بهذا، فإنّما جاء ذاك عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد.. وأبو معاوية والأعمش وشريك، كلّهم مدلِّسون متشيعون».

الجواب: القول بالتدليس دعوى بلا دليل

أما ما ادّعاه من التدليس، فيرد عليه:

أولاً: إنّ الخطيب البغدادي قد روى ما يُفهم منه الإجابة عن هذا التساؤل

ص: 277


1- ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب: ج5، ص228.

بقوله: «قال القاسم: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث [أي مدينة العلم] فقال: هو صحيح. قلت: أراد أنّه صحيح من حديث أبي معاوية وليس بباطل؛ إذ قد رواه غير واحد عنه»(1). فهنا ركّز على تأكيد الراوي بقوله: «أراد أنّه صحيح من حديث أبي معاوية»، وما يؤكده أيضاً رواية غير واحد عنه أي عن أبي معاوية، وفيه إشارة للمتابعات لهذا الحديث.

ثانياً: أبو معاوية من الطبقة التاسعة، كما صنّفه مَن روى له من أصحاب الصحاح الستّة، كالبخاري، ومسلم و... ونقلُ هؤلاء الأعلام عنه يؤكّد صحّة رواياته وخلوها من شائبة التدليس عندهم، فأبو معاوية ثقة، كما يصرّح ابن حجر: «ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش»(2). وقال الذهبي: «ثبت في الأعمش»(3). فالرجل حافظ وثبت لحديث الأعمش؛ فيكون مقبولاً، وردّه مكابرة، ولا يضر عدم تصريحه بالسماع. وما يقال في أبي معاوية يقال في الأعمش بالنسبة للتدليس، إذا كانوا يروون عن ثقة، فلا يضر تدليسهم، كما سيأتي.

وأما قوله: «فإن قيل: إنّما ذكروا في الطبقة الثانية، من طبقات المدلّسين، وهي طبقة مَن (احتمل الأئمة تدليسه، وأخرجوا له في الصحيح).

قلت: ليس معنى هذا أنّ المذكورين في الطبقة الثانية تقبل عنعنتهم مطلقاً، كمَن ليس بمدلّس البتّة، إنّما المعنى أنّ الشيخين انتقيا في المتابعات ونحوها من معنعناتهم، ما غلب على ظنّهما أنّه سماع».

ص: 278


1- الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: ج11، ص50-51.
2- ابن حجر العسقلاني، تقريب التهذيب: ج2، ص70.
3- الذهبي، الكاشف في معرفة مَن له رواية في الكتب الستّة: ج2، ص167.

الجواب:

هذا الكلام مردود بثلاثة أُمور:

الأول: قد صرّح الأعلام بعدم الحاجة للتصريح بالسماع، وإن كان مدلّساً، ولكن بشرط روايته عن الثقة، وهذا ما أكده العلائي في كلامه حول طبقات المدلّسين، فقال: «ثانيها مَن احتمل الأئمة تدليسه وخرّجوا له في الصحيح وإن لم يصرّح بالسماع؛ وذلك إمّا لإمامته؛ أو لقلّة تدليسه في جنب ما روى، أو لأنّه لا يدلس إلّا عن ثقة، وذلك كالزهري وسليمان الأعمش.. ففي الصحيحين وغيرهما لهؤلاء الحديث الكثير ما ليس فيه التصريح بالسماع»(1).

وقال التهانوي: «فأمّا التدليس، فقد ذكر جماعة من الحفّاظ أنّ البخاري كان لا يخرّج إلّا ما صرح فيه بالتحديث»(2).

إذن؛ سواء صرّح أو لم يُصرّح بالسماع، وسواء كانت متابعات أو معنعنات، فإنها تُقبل بشكل مطلق، وهذا الذي دعا البخاري لانتقاء أحاديثهم.

الثاني: البخاري نفسه يُصرّح بأنّ الأعمش سمع من مجاهد مباشرةً، وكأنّ هذا التصريح قد خفي على المعلمي. وهذا ما نقله الترمذي، كما يرويه ابن عبد البر في التمهيد، قال: «قال أبو عيسى: قلت لمحمد بن إسماعيل البخاري: لم يسمع الأعمش من مجاهد إلّا أربعة أحاديث. قال: ريح ليس بشيء، لقد عددت له أحاديث كثيرة، نحواً من ثلاثين أو أقل أو أكثر، يقول فيها: حدَّثنا مجاهد»(3).

ص: 279


1- سبط ابن العجمي، التبيين لأسماء المدلسين: ص65.
2- التهانوي، قواعد في علوم الحديث: ص413.
3- ابن عبد البر، التمهيد: ج1، ص35.

الثالث: لو سلّمنا بقول المعلمي، وقلنا بردّ عنعنة الطبقة الثانية؛ للزم من ذلك خروج كثير من الأعيان الذين ذكرهم ابن حجر وغيره في هذه الطبقة، والذين هم محل قبول عند كبار القوم، فأين يقف المعلمي من هؤلاء الأعلام؟! كسفيان الثوري، وابن عُيينة، والزهري، وابن جريج، وأبي داوود الطيالسي و..

إذن؛ نعتقد أنّ كلام المعلمي غير دقيق تماماً، وفيه استعجال أوقعه في الإشكال.

وأما قوله: «وقد قرّر ابن حجر - في نخبته ومقدمة اللسان، وغيرهما - أنّ مَن نوثّقه، ونقبل خبره من المبتدعة، يختصّ ذلك بما لا يؤيد بدعته، فأمّا ما يؤيد بدعته، فلا يُقبل منه البتّة».

الجواب:

الظاهر أنّ المعلمي يقصد بدعة أبي الصلت الهروي، وقد تقدّم الكلام في القاعدة الثالثة أنّ الملاك والمعيار في قبول الروايات هو الصدق وعدم الكذب في نقل الرواية، كما قال أحمد شاكر: «وهذه الأقوال كلها نظرية، والعبرة في الرواية بصدق الراوي، وأمانته والثقة بدينه وخلقه، والمتتبع لأحوال الرواة يرى كثيراً من أهل البدع موضعاً للثقة والاطمئنان، وإن رووا ما يوافق رأيهم»(1).

ثمّ لو سألنا المعلمي عن بدعة أبي الصلت ما هي؟

فإننا نقطع بأنّها ما نُقل عنه في قوله: «كلب للعلويّة خير من بني أُمية، قيل له: فيهم عثمان، قال: فيهم عثمان»(2).

ص: 280


1- الباعث الحثيث: ص102.
2- الذهبي، ميزان الاعتدال: ج2، ص616.

ولكن هذا الكلام يمكن أن يُجاب عنه بما يلي:

أولاً: قد تقدّم من نقل الذهبي أنّ أبا الصلت يقدّم الصحابة ويذكرهم بالجميل حسب ما نُقل عنه.

ثانياً: إنّه إن صح عنه، فهو مبالغة، لا تدلّ على ضعف حديثه، وربما استخرجها بعضهم منه في حال الجدال والمناظرة، وما يحصل في المناظرات والجدال قد يتعدّى هذه الكلمات عند الغضب.

ثالثاً: ثمّ أين هو من حريز بن عثمان الذي كان يلعن علياً عَلیه السَلام سبعين مرّة في الصباح، وسبعين مرّة في المساء، وعرفوا منه هذا وتحققوه، ثمّ قالوا عنه: إنّه من أوثق الثقات، فما أُجيب به عن حريز، فهو الجواب عن عبد السلام(1).

وأما قوله: «المقام الثالث: النظر في متن الخبر. كلّ مَن تأمّل منطوق الخبر، ثمّ عرضه على الواقع، عرف حقيقة الحال، والله المستعان».

الجواب:

هو النصب والعياذ بالله تعالى - وأقولها بمرارة وحزن؛ لأنّه ليس من منهجنا أن نتفوّه بهذه المفردات - وقد تقدّم الكلام عن علم علي عَلیه السَلام في السنّة، وأشبعناه تفصيلاً هناك، وأُضيف إلى ذلك قول ابن أبي الحديد في فضل علمه عَلیه السَلام : «وأمّا الفصاحة: فهو عَلیه السَلام إمام الفصحاء، وسيّد البلغاء، وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين. ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة، قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثمّ فاضت. وقال ابن نباتة: حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلّا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ عليّ بن

ص: 281


1- انظر: الغماري، فتح الملك العلي: ص153.

أبي طالب. ولمّا قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعيا الناس. قال له: ويحك! كيف يكون أعيا الناس؟! فو الله، ما سنّ الفصاحة لقريش غيره. ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنّه لا يجارى في الفصاحة، ولا يبارى في البلاغة. وحسبك أنّه لم يُدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العشر، ولا نصف العشر مما دون له»(1).

المبحث الثالث: طرق الحديث ومتابعاته وشواهده
اشارة

قبل أن نلج في بيان طرق هذا الحديث، ننقل نصّه ولفظه: «عن الحاكم النيسابوري، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله‘: أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمَن أراد المدينة فليأتِ الباب»(2).

أما طرقه، فهي كالتالي:

1- عن علي عَلیه السَلام بطرق مختلفة

أ) عن عاصم بن ضمرة، عن علي عَلیه السَلام ، عن رسول الله‘، قال: «.. أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمَن أراد المدينة فليأتها من بابها»(3).

وقد علّق الشيخ منصور علي ناصف في غاية المأمول في شرح تاج الأُصول: «فهذه منقبة لعليٍّ لم يُشاركه فيها غيره رضي الله عنه»(4).

ب) عن حذيفة، عن عليٍّ عَلیه السَلام ، عن رسول الله‘ قال: «أنا مدينة العلم وعليٌّ

ص: 282


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج1، ص24- 25.
2- الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين: ج3، ص126- 127.
3- ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان: ج6، ص243.
4- منصور علي ناصف، غاية المأمول في شرح التاج الجامع للأُصول: ج3، ص337

بابها، ولا تُؤتى البيوت إلّا من أبوابها»(1).

2- عن ابن عباس

عن رسول الله‘، قال: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمَن أراد العلم فليأتِ الباب»(2).

وقد علّق المناوي في فيض القدير على هذا الحديث قائلاً: «فإنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة الجامعة لمعاني الديانات كلّها أوَ لا بدّ للمدينة من باب؟! فأخبر أنّ بابها هو عليّ كرم الله وجهه، فمَن أخذ طريقه دخل المدينة، ومَن أخطأه أخطأ طريق الهدى، وقد شهد له بالأعلميّة الموافق والمخالف والمعادي والمحالف، خرّج الكلاباذي: أنّ رجلاً سأل معاوية عن مسألة فقال: سل علياً هو أعلم منّي. فقال: أُريد جوابك. قال: ويحك! كرهت رجلاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزه بالعلم عزا، وقد كان أكابر الصحب يعترفون له بذلك، وكان عمر يسأله عما أشكل عليه، جاءه رجل فسأله فقال: ههنا عليّ. فاسأله. فقال: أُريد أسمع منك يا أمير المؤمنين. قال: أقام الله رجليك. ومحى اسمه من الديوان»(3).

3- عن سعيد بن جبير

عن رسول الله‘ قال: «يا عليُّ، أنا مدينة العلم وأنت بابها، ولن تؤتى المدينة إلّا من قِبَل الباب»(4).

ص: 283


1- ابن المغازلي، نقلاً عن القندوزي الحنفي، ينابيع المودة: ج1، ص220.
2- الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين: ج3، ص137.
3- المناوي، فيض القدير: ج 3، ص61.
4- القندوزي الحنفي، ينابيع المودة: ج1، ص95.
4- جابر بن عبد الله

قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية - وهو آخذ بيد عليٍّ - يقول: هذا أمير البررة، وقاتل الفجرة، منصور مَن نصره، مخذول مَن خذله، ثمَّ مدَّ بها صوته، فقال: أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمَن أراد العلم فليأتِ الباب»(1).

المتابعات والشواهد:

وأكتفي بذكر الأحاديث التي حملت نفس مضمون الحديث المتقدم التي دلّت على هذه الحقيقة التي لا مناص ولا فرار منها، ولا يمكن إنكارها أو الالتفاف عليها، وهي كالتالي:

1 - أنا دار الحكمة وعليّ بابها.

2 - أنا دار العلم وعليّ بابها.

3 - أنا ميزان العلم وعليّ كفتاه.

4 - أنا ميزان الحكمة وعليّ لسانه.

5 - أنا المدينة وأنت الباب، ولا يُؤتى المدينة إلّا من بابها.

6 - عليّ أخي ومني وأنا من عليٍّ، فهو باب علمي ووصيي.

7- عليّ باب علمي ومبيّن لأُمّتي - ما أُرسلتُ به - من بعدي.

8 - أنت باب علمي.

9- عن الأصبغ بن نباتة، عن عليٍّ عَلیه السَلام ، قال: «قال رسول الله: أنا مدينة الجنّة

ص: 284


1- الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: ج3، ص181. المتقي الهندي، كنز العمال: ج11، ص602

وأنت بابها يا عليّ، كذب مَن زعم أنّه يدخلها من غير بابها» (1).

10- ما روته أُمّ سلمة بألفاظ متعدّدة عن رسول الله‘: «يا أمّ سلمة، اشهدي واسمعي! هذا عليّ أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وعيبة علمي وبابي الذي أُوتى منه»(2). وغيرها من الأحاديث في هذا المضمون.

المبحث الرابع: تصحيح علماء السنّة للحديث وتوثيقهم من خلال كتب التراجم
اشارة

وأذكر أقوال بعض الحفّاظ الكبار الذين لهم اليد الطولى في علم الجرح والتعديل، ولهم من الاستقراء في نقد الرجال، وأقوالهم تعدّ حجّة ولا يمكن تجاوزها بحال، مع ذكرنا لتراجمهم التي تشرح وثاقتهم وما هم عليه من العلم بمعرفة الحديث سنداً ومتناً.

1- يحيى بن معين

روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بسنده، قال: «.. حدَّثنا أبو الصلت الهروي، حدَّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمَن أراد العلم فليأتِ بابه. قال القاسم: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، فقال: هو صحيح»(3). فالحديث عند يحيى بن معين صحيح ولا غبار عليه.

ترجمة يحيى بن معين:

هو يحيى بن معين بن عون، أبو زكريا البغدادي الحافظ، مولى غطفان، من

ص: 285


1- ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج42، ص378.
2- رواه أبو نعيم الأصبهاني في منقبة المطهرين أهل بيت محمد سيد الأوّلين والآخرين - مخطوط
3- الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: ج11، ص50.

كبار الآخذين عن تبع الأتباع. روى له: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.

قال أحمد: كان ابن معين أعلمنا بالرجال، وحكى ابن المدني عن أبي سعيد الحدّاد يقول: الناس كلهم عيال على يحيى بن معين.

وقال الخطيب: كان إماماً ربّانياً عالماً حافظاً ثبتاً متقناً. وقال العجلي: ما خلق الله تعالى أحداً كان أعرف بالحديث من يحيى بن معين.

وقال أحمد بن حنبل: كل حديث لا يعرفه ابن معين فليس هو بحديث، وفى رواية: فليس هو ثابتاً.

وقال عليّ بن أحمد بن النضر عن ابن المديني: انتهى العلم إلى يحيى بن آدم وبعده إلى يحيى بن معين. وفي رواية عنه: انتهى العلم إلى ابن المبارك وبعده إلى ابن معين.

وقال صالح جزرة: سمعت ابن المديني يقول: انتهى العلم إلى ابن معين. وقال أبو زرعة الرازي وغيره عن عليّ: دار حديث الثقات على ستّة. ثمّ قال: ما شذّ عن هؤلاء يصير إلى اثني عشر، ثمّ صار حديث هؤلاء كلهم إلى ابن معين.

وقال أبو الحسن ابن البراء: سمعت علياً يقول: لا نعلم أحداً من لدن آدم كتب من الحديث ما كتب يحيى بن معين(1).

إذن؛ بعد هذه الترجمة المختصرة لعَلم من أعلام الجرح والتعديل، والذي شهد بصحة هذا الحديث؛ فلا نستطيع إلّا أن نُذعن بما قال.

ص: 286


1- اُنظر: ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب: ج11، ص248.
2- الحاكم النيسابوري

روى هذا الحديث في المستدرك على الصحيحين بثلاثة أسانيد، وصححه:

السند الأول: قال: «حدَّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدَّثنا محمد بن عبد الرحيم الهروي بالرملة، حدَّثنا أبو الصلت عبد السلام بن صالح، حدَّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله‘: أنا مدينة العلم وعليّ بابها؛ فمَن أراد المدينة فليأتِ الباب».

ثمّ علّق عليه قائلاً: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو الصلت ثقة مأمون؛ فإني سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب في التاريخ يقول: سمعت العباس بن محمد الدوري يقول: سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت الهروي، فقال: ثقة. فقلت: أليس قد حدَّث عن أبي معاوية عن الأعمش )أنا مدينة العلم(؟ فقال: قد حدَّث به محمد بن جعفر الفيدي، وهو ثقة مأمون. سمعت أبا نصر أحمد بن سهل الفقيه القباني إمام عصره ببخارى يقول: سمعت صالح بن محمد بن حبيب الحافظ يقول: وسُئل عن أبي الصلت الهروي، فقال: دخل يحيى بن معين ونحن معه على أبي الصلت فسلّم عليه، فلمّا خرج تبعته فقلت له: ما تقول - رحمك الله - في أبي الصلت؟ فقال: هو صدوق. فقلت له: إنّه يروي حديث الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس، عن النبي‘: أنا مدينة العلم وعليّ بابها؛ فمَن أراد العلم فليأتِها من بابها. فقال: قد روى هذا ذاك الفيدي عن أبي معاوية عن الأعمش، كما رواه أبو الصلت»(1).

السند الثاني: قال: «حدَّثنا بصحة ما ذكره الإمام أبو زكريا، حدَّثنا يحيى بن معين، حدَّثنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن تميم القنطري، حدَّثنا الحسين بن فهم، حدَّثنا محمد بن يحيى بن الضريس، حدَّثنا محمد بن جعفر الفيدي، حدَّثنا أبو معاوية

ص: 287


1- الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين: ج3، ص126- 127.

عن الأعمش عن مجاهد عن بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله‘: أنا مدينة العلم وعليّ بابها؛ فمَن أراد المدينة فليأتِ الباب. قال الحسين بن فهم: حدَّثناه أبو الصلت الهروي عن أبي معاوية، قال الحاكم: ليعلم المستفيد لهذا العلم أنّ الحسين بن فهم بن عبد الرحمن ثقة مأمون حافظ، ولهذا الحديث شاهد من حديث سفيان الثوري بإسناد صحيح»(1).

السند الثالث: قال: «حدثني أبو بكر محمد بن عليّ الفقيه الإمام الشاشي القفال ببخارى وأنا سألته، حدَّثني النعمان بن الهارون البلدي ببلد من أصل كتابه، حدَّثنا أحمد بن عبد الله بن يزيد الحراني، حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا سفيان الثوري، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله‘ يقول: أنا مدينة العلم وعليّ بابها؛ فمَن أراد العلم فليأتِ الباب»(2). فالحديث عند الحاكم صحيح وعلى شرط الشيخين.

ترجمة الحاكم النيسابوري

وثَّقه الذهبي بألفاظ قلّ نظيرها، نذكر بعضاً منها: «الحافظ الكبير، إمام المحدِّثين، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم الضبي الطهماني النيسابوري، المعروف بابن البيع، صاحب التصانيف.. جال في خراسان وما وراء النهر، وسمع بالبلاد من ألفَي شيخ أو نحو ذلك... ناظر الدارقطني فرضيه، وهو ثقة واسع العلم بلغت تصانيفه قريباً من خمس مائة جزء. قال الخطيب أبو بكر: أبو عبد الله الحاكم كان ثقة، يميل إلى التشيّع، فحدَّثني إبراهيم بن محمد الأرموي وكان صالحاً عالماً. قال عبد الغافر بن إسماعيل: أبو عبد الله الحاكم هو إمام أهل الحديث في عصره العارف به حقّ معرفته... واتفق له من التصانيف ما لعله يبلغ قريباً من ألف جزء من تخريج

ص: 288


1- الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين: ج3، ص127.
2- المصدر السابق: ج3، ص128.

الصحيحين، والعلل، والتراجم، والأبواب، والشيوخ، ثمّ المجموعات مثل معرفة علوم الحديث ومستدرك الصحيحين... ولقد سمعت مشايخنا يذكرون أيامه ويحكون أنّ مقدمي عصره - مثل الصعلوكي والإمام ابن فورك وسائر الأئمة - يقدمونه على أنفسهم، ويراعون حقّ فضله ويعرفون له الحرمة الأكيدة. ثمّ أطنب في تعظيمه وقال: هذه جمل يسيرة، وهو غيض من فيض سيره وأحواله، ومَن تأمّل كلامه في تصانيفه وتصرفه في أماليه، ونظره في طرق الحديث، أذعن بفضله واعترف له بالمزيّة على مَن تقدّمه وإتعابه مَن بعده وتعجيزه اللاحقين عن بلوغ شأوه، عاش حميداً ولم يُخلف في وقته مثله. قال أبو عبد الرحمن السلمي: سألت الدارقطني، أيهما أفضل، ابن منده أو ابن البيع؟ فقال: ابن البيع أتقن حفظاً»(1).

والذي نستنتجه من كلمات الذهبي - وهو الرجل الخبير في تقييم الرجال - أنّ الحاكم هو إمام المحدِّثين والعارف به حقّ معرفته وأن سائر الأئمة يقدّمونه على أنفسهم؛ حرمة لعلمه وإذعاناً لفضله، لا سيما في ميدان الحديث وطرقه. والحاكم قد صحح هذا الحديث، فقوله يكون حجّة بهذا اللحاظ.

3- محمد بن جرير الطبري

في كتابه تهذيب الآثار، قال: «حدَّثني إسماعيل بن موسى السدي، قال: أخبرنا محمد بن عمر الرومي، عن شريك، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحي، عن عليّ: أنّ النبي‘ قال: أنا دار الحكمة وعليٌّ بابها» ثمّ علّق عليه قائلاً: «هذا خبر صحيح سنده»(2).

وهذا الخبر وإن اختلفت بعض مفرداته، ولكن هذا لا يضر؛ لأنّ كلامنا هو أنّ

ص: 289


1- الذهبي، تذكرة الحفّاظ: ج3، ص1039- 1044.
2- محمد بن جرير الطبري، تهذيب الآثار: ج3، ص104.

علياً عَلیه السَلام باب علم رسول الله‘، والحديث مفاده ومؤداه ذلك.

ترجمة ابن جرير الطبري:

ترجم له الخطيب البغدادي والذهبي، والكلام للثاني، قال: «محمد بن جرير بن يزيد بن كثير، الإمام العلَم الفرد الحافظ، أبو جعفر الطبري، أحد الأعلام وصاحب التصانيف من أهل آمل طبرستان، قال الخطيب: كان ابن جرير أحد الأئمة يُحكم بقوله ويُرجع إلى رأيه؛ لمعرفته وفضله. جمع من العلوم ما لم يُشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظاً لكتاب الله بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها ناسخها ومنسوخها...»(1).

من خلال هذه الترجمة والتي صرّح بها الذهبي وكذلك الخطيب البغدادي؛ فإن لابن جرير خبرة وعلماً بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها، وهو العَلم الفرد الحافظ، والرجل صرّح بصحّة هذا الحديث؛ فيلزم من ذلك التصديق بأقواله، وهي حجّة بلا نزاع بينهم.

4- الحافظ أبو سعيد العلائي الشافعي

قال مستنكراً على مَن ضعّف هذا الحديث: «وأي استحالة في أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا في حقّ عليٍّ كرم الله وجهه، ولم يأتِ كلّ مَن تكلّم في هذا الحديث وجزم بوضعه بجواب عن هذه الروايات الصحيحة عن ابن معين، ومع ذلك فله شاهد»(2).

وقال أيضاً: «مَن حكم بوضعه فقد أخطأ، والصواب أنه حسن باعتبار طرقه،

ص: 290


1- اُنظر: الذهبي، تذكرة الحفّاظ: ج2 ص710-711. الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: ج2، ص163
2- نقلاً عن اللآلئ المصنوعة:ج1، ص329.

لا صحيح ولا ضعيف، فضلاً عن أن يكون موضوعاً، وليس هو من الألفاظ المنكرة التي تأباها العقول»(1).

ترجمة العلائي الشافعي:

قال السيوطي: «هو الشيخ الإمام العلاّمة الحافظ الفقيه ذو الفنون، صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كليدي الشافعي، عالم بيت المقدس وبرع في الفنون، وكان إماماً محدِّثاً حافظاً متقناً جليلاً فقيهاً أُصولياً نحوياً. وقال الذهبي: حافظ يستحضر الرجال والعلل، وتقدّم في هذا الشأن مع صحّة الذهن وسرعة الفهم. وقال الأسنوي: كان حافظ زمانه، إماماً في الفقه وغيره ذكياً نظاراً. وقال الحسيني: كان إماماً في الفقه والأُصول والنحو، متفنّناً في علوم الحديث وفنونه، علاّمة فيه، عارفاً في الرجال، علاّمة في المتون والأسانيد، ولم يخلف بعده مثله»(2).

5- جلال الدين السيوطي

قال المتقي الهندي نقلاً عن السيوطي بعد أن كان الأخير يذهب إلى مقالة ابن حجر العسقلاني، وأن الحديث من قسم الحسن، قال: «وقد كنت أُجيب بهذا الجواب [أي إنّه من قسم الحسن] دهراً إلى أن وقفت على تصحيح ابن جرير لحديث عليّ في تهذيب الآثار مع تصحيح لحديث ابن عباس، فاستخرت الله وجزمت بارتقاء الحديث من مرتبة الحسن إلى مرتبة الصحّة، والله أعلم»(3).

ص: 291


1- انظر: فيض القدير، المناوي: ج3، ص61.
2- اُنظر: ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة: ج2، ص179. وأبو المحاسن، النجوم الزاهرة: ج10، ص337. والسبكي، طبقات الشافعية: ج2، ص104
3- المتقي الهندي، كنز العمال: ج13، ص149.
6- أبو الفيض الغماري

قال في كتابه المداوي: «بل الحديث صحيح لا شك في صحته، بل هو أصح من كثير من الأحاديث التي حكموا بصحتها، كما ذلك في جزء مفرد سميته فتح الملك العليّ بصحّة حديث باب مدينة العلم عليّ»(1).

وقد أجاد في هذا الكتاب (فتح الملك العلي) وردَّ كل الأقوال التي تضمّنت تضعيف هذا الحديث، ووثق أبا الصلت الهروي بأُسلوب قلّ نظيره، وذكر المتابعات والشواهد لهذا الحديث، ثمّ حكم بصحّته.

وننصح كلّ باحث منصف بمراجعة هذا الكتاب؛ ففيه الغاية والمطلوب.

نتيجة البحث:

من خلال ما تقدم معنا يثبت اعتبار هذا الحديث، بالإضافة إلى تصريح كبار المحدِّثين بصحّته واعتباره.

إذن؛ فالحديث في غاية الاعتبار، ولا عبرة بتضعيف ابن الجوزي وابن تيمية والمعلمي ومن نسج على منوالهم.

ص: 292


1- أبو الفيض الغماري، المداوي: ج3، ص70، ح2705.

تَجَلیبَاتُ الحَاکِمیَّة وَ العُدلُ الالهيّ في قِصةِ العَبدِ الصَّالح

(بَحثٌ قُرآنيٌ في سٌورَةِ الکَهفِ)سعد عطية حسوني

اشارة

كثيراً ما يقع الخلط عند بعض الناس في مسألة الحاكميّة والعدل الإلهي، على الرغم ممّا في القضية من وضوح كبير وأهمية فائقة على المستوى العقدي، والذي يُلقي بظلاله على السيرة العملية لحياة الإنسان، ولكن مع ذلك قد نلتمس عذراً لهؤلاء الناس؛ بقدر ما ندرك بأنَّهم لا طاقة لهم على استيعاب ما هو أعظم من إدراك المخلوق، إلّا ما جعل الله سبحانه إلى ذلك سبيلاً.

ومسألتنا من قبيل المسائل المستصعبة؛ إذ تتميز هذه المسألة بأنها ليست مسألة امتدادية كيفيّة، تُباح فيها آراء وابتداعات المخلوق القاصر، أو فيها من الفراغ والهشاشة - والعياذ بالله - ما يُجوّز للمخلوق أنْ يوسّع تلك أو يضيّق هذه، فيُحدث - دون أنْ يعلم - مخالفة عظمى فيما لا يجوز له، فيضمّنُ فكرهُ القاصر الظلم والشبهة والضلال في تلك المساحة التي مُلئتْ بالعلم الرباني المطلق، والحكمة، والهيمنة، والرقابة، واللطف، والعفو، والرحمة.

وما دام الخالق سبحانه أعلم بالمخلوق من نفسه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، فلم يجعل المواعظ والبيانات القرآنية غامضة، بل غُطّيت بعظيم الدلالات

ص: 293

التي سنتطرق إليها من خلال إحدى المسائل القرآنيّة بحسب حاجة السياق الموضوعي البحثي لها، وفي ضمن المبحثين التاليين:

المبحث الأول: الحاكميّة المطلقة

من فيض اللطف والرحمة، والهداية المحكمة، واتر الله تبارك وتعالى الرسالات والرسل؛ لأجل التبليغ وإقامة الحجج؛ حتى شملت كل الأُمم والأقوام، فكانت مساحة التبليغ لا فراغ فيها، بل بُيّنت مقاصد الرسالات، وكلُّ ما يخص سعي المخلوق، والحساب والثواب بالحق والعدل، فأصبح الإنسان - على اختلاف أجياله وعصوره - على علم ودراية؛ ما أوجب عليه إقرار العبودية لله وحده مع الإقرار بوحدانيّته إيماناً، وبحاكميّته للخلق من دون ظلم أو افتقار للعزة أو حاجة إلى الأدوات والكيفيات والأعوان.. ودون تسلّطٍ قاس - حاشا لله - فهي قاهرةٌ غير مقهورة، ومهيمنة غير ضعيفة، ومتمكّنة غير عاجزة عن كثرة وتنوّع الخلق، أو معرفة نواياهم أو الإحاطة بهم في السر والعلن، أو سدّ حاجات العباد، أو صدق الوفاء بعهود الخالق لهم إحساناً بهم، من دون وجود شرط لهم عليه سبحانه، كل ذلك بالعالميّة المطلقة، والرحمة الواسعة، والتدبير والتقدير المطلق.

ونقول: قد ترابط الحكم بالعدل أكمل الترابط والتلاؤم، ولو طغت الحاكميّة على العدل لأَفرغت العباد من خيار السعي؛ ولأَصبحوا مسيّرين في كل شيء، غير مخيّرين بحدود ما جعل الله سبحانه لهم من الخيرة، وبقدر إدراكهم واستطاعتهم، كما يقول المجبّرة.

ومحور هذا البحث (الحاكميّة والعدل الإلهي) وهي قضيّة قرآنيّة في غاية الأهميّة، سنبحثها في هذا الموضوع.

ص: 294

الحاكمية والعدل في القرآن
اشارة

هناك آيات قرآنية كثيرة تناولت موضوع الحاكمية والعدل وسبل التوفيق بينهما، ولكننا سنقتصر على ذكر بعضها:

1- قوله تعالى: «لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ »(1).

2- قوله تعالى:«أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ» (2).

3- قوله تعالى: «وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ»(3).

إنَّ ظاهر الآية المباركة الأُولى يبيّن لنا بأنَّ الخلق ليس عبثاً ولا لهواً، وبيان الآية الثانية في المعنى نفسه والدلالة ذاتها، أما بيان الآية الثالثة، ففيه دلالة واضحة على الحاكميّة والعدل الإلهي بالكلفة على قدر سعة النَفْس وطاقتها، ونرى في الجانب الآخر من الآية رجوع الخلق عموماً والإنسان خصوصاً إلى الله تعالى في الجزاء والثواب، وهذه الآية تنعكس ظاهراً على الآيتين الكريمتين، وهنّ جميعاً في صلب موضوع بحثنا هذا، والذي سنتعرض فيه أيضاً للحديث النبوي الشريف: «الشقي مَن شقي في بطن أُمّه، والسعيد مَن سعد في بطن أُمّه»(4)، الذي سنتناوله بالتحليل من حيث ارتباطه بالعدل والحاكمية؛ لأنَّه قد يترك عند بعض الناس شبهةً كبيرةً وخطيرةً على تقسيم الناس بداءةً - وهم أجنّة في بطون أُمهاتهم - إلى أشقياء وسعداء قبل السعي والعمل، فلا خيار لهم في السعادة أو الشقاء، وإنما هم مجبورون على ذلك.. هذه الشبهة مخالفة لحكمة الخلق وبعث الأنبياء والرُّسُل من جهة، والحاكميّة

ص: 295


1- الأنبياء: آية17.
2- المؤمنون: آية115.
3- المؤمنون: آية62.
4- الصدوق، محمد بن علي، التوحيد: ص356.

والعدل الإلهي من جهة أُخرى؛ وبناءً على استحكام الشبهة فلا فضْل لفاعل الخير والمحسن، ما دام هو مجبراً على فعل الخير دون إرادته واختياره، وهو سعيد في بطن أُمّه، وكذلك لا ذنب للشقي حتى يُعذَّب في جهنم، وهو بريء ممّا عمل؛ طالما كُتب عليه الشقاء في بطن أُمّه.

وهنا يُثار تساؤل مهمٌّ: هل هذه الكتابة السابقة للعمل تُلغي عن الشقي كل مجالات التوبة والاستغفار، وتُبعد عن السعيد قبل العمل الميل إلى الشر وفعل السوء؟ وهذا التساؤل يفرض علينا بحثاً منطقياً في أمرين مهمّين:

الأمر الأول: الإطلاق والشمولية في العلم الإلهي
اشارة

إنَّ علم الله تعالى مطلق قبل خلق الخلق وبعده، فهو أعلم بالمخلوق من حيث النشأة والمآل، والسعي والنوايا. وينشعب هذا الأمر إلى شقين:

الشق الأول: الغاية من التكاليف وإرسال الرُّسُل

إنَّ الجنين إذا كان شقياً وكُتب عليه الشقاء منذ البداية وحينما يخرج إلى الدنيا، فما هو أثر وفائدة الرسالات والأديان؟ ولماذا تقع عليه التكاليف العباديّة والعمليّة؟ وبما أنَّه كُتب عليه الشقاء؛ فإنَّه لن يلتزم بحدود تلك التكاليف وأحكامها، وعندها لا تنفعه الرسالات والأديان؛ فتكون تلك الرسالات فارغة من أساس هدفها ما دام أكثر الناس أو نصفهم مجبرين؛ لكونهم كُتِب عليهم الشقاء منذ هم أجنّة في بطون أُمّهاتهم، بل ستكون لغواً! والله تعالى منزّه عن اللغو.

وفي المقابل، فإن النصف الآخر الذين كتُبِوا سعداء لا يحتاجون إلى الرسالات وجهد الأنبياء؛ ما داموا على خير وصلاح بداءةً؛ وسيكونون من أهل الخير والسعادة انتهاءً، ولكن ليس بفضل إرادتهم واختيارهم، وإنما لأنهم كُتبوا سعداء منذ كانوا في بطون الأُمهات.

ص: 296

الشق الثاني: الشقاء والسعادة في علم الله وبإرادة الإنسان

إنَّ الله سبحانه أكمل للشقي كل موجبات الهداية والرحمة، مع باب التوبة والمغفرة الواسع المفتوح لكل العباد، إلّا أنَّ نَفْسَهُ تولجهُ وباختياره في العصيان وعمل الشر والسوء والحرام، كما كان الطواغيت والفاسدون يعملون في الدنيا، فمعنى الحديث النبوي الشريف أن الشقي شقي في بطن أُمّه؛ لأنَّ الله تعالى يعلم ما يرومه هذا الشقي في سعيه الدنيوي بمحض إرادته، وكذلك السعيد.

الأمر الثاني: الأشقياء والسعداء في الوعد الإلهي
اشارة

إنَّ الله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء بما قَدّر للحياة الدنيا، حيث جعل سعي العباد اختياريّاً، ومن ثُم الموت والبعث والحساب وما يترتب عليه من ثواب وعقاب، وقد وعد سبحانه بأنْ يملأ الجحيم من الجِنَّة والناس، ووعْدُه حق لا خلف له.

وعليه؛ كان لا بدّ من وجود الأشقياء والتعساء؛ حتى يتحقق ذلك الوعد الإلهي، والحديث في هذا الأمر ينقسم أيضاً إلى شقين:

الشق الأول: لماذا السيئة بواحدة والحسنة بعشر أمثالها؟

قال تعالى: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا »(1)، فلو كانت الغاية هي امتلاء جهنم؛ من أجلِ تعذيب المخلوقين، دون إرادتهم واختيارهم، فلماذا جعل الله تعالى السيئة بواحدة والحسنة بعشر أمثالها، ويزيد تفضلاً وإحساناً بغير حساب؟!

ص: 297


1- الأنعام: آية160.
الشق الثاني: ما هو دور الشفاعة؟

لو كان الوعد الإلهي هو أنْ تُملأ جهنّم بالأشقياء، فما هو نفع الشفاعة؟! مع أنها من الثوابت الدينية كتاباً وسنَّةً، كما في نص قوله تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ»(1).

النص والحدث (قصة العبد الصالح)
اشارة

إن المسألة (موضوع البحث) التي نستخلصها من بعض النصوص القرآنيّة، من خلال ما أُورد في القصص القرآني في سورة الكهف، هي ما فعله العبد الصالح الذي آتاه الله العلم، وقد جاء في الأخبار أنَّ ذلك العبد الصالح - صاحب العلم اللدني - هو الخضر عَلیه السَلام .

قال تعالى: «فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا »(2). والغلام في بعض الأقوال دون سن البلوغ، فيبيّن النص القرآني أنَّ الخضر عَلیه السَلام قتل الغلام وهو غير مُكلّف بعدُ، ولم يقُمْ بأيّ جريرة أو عمل شرير، وكذلك برّأ النص القرآني في سورة الكهف العبد الصالح عَلیه السَلام من أيّ جريرة أو مسؤولية على قتل هذا الغلام في قوله تعالى: «وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا » (3)، وقوله تعالى: «فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا »(4)، فالحاكميّة الإلهيّة تأمر العبد الصالح بقتل الغلام غير المكلّف بعدُ، ودون جريرة اقترفها؛ ممّا يدل على أنَّ الله سبحانه أعلم بعباده وخلقه من أنفسهم.

ص: 298


1- البقرة: آية255.
2- الكهف: آية74.
3- الكهف: آية80.
4- الكهف: آية81.

والآيات المباركات التي ذكرناها قد بيّنت لنا مسألة القتل وأسبابها، ولكن من أجل استبيان التفاصيل ونقاش المسألة نقاشاً علمياً، ومن خلال بيانات النصوص القرآنيّة الكريمة نرى أنَّ محور البحث يقع في أمرين:

الأمر الأول: العوض

العوض: هو الرحمة من عند الله تعالى، بعد أنْ تبيّن من خلال النصوص القرآنيّة بأنَّ الغلام المقتول سيُرهق والديه طغياناً وكفراً؛ فتكون هذه الرحمة العوضية للوالدين خيراً لهم، وسابقة على أذى الغلام لهما، وهذه الرحمة عين اللطف والحكمة الإلهيّة.

الأمر الثاني: الرحمة

الرحمة: وهي من أجل حماية الإنسان من شر نفسه، بمعنى أنه إنْ عاش سيدخل جهنّم لا محالة، طالما أن الإنسان مخيّر في سعيه، وما دام الموت نهاية كل مخلوق، فكان القتل منقذاً للغلام؛ حتى لا يكون من أهل السوء والفساد، ولا يأتي بما يُرهق الأبوين.

وطالما أن الأفعال التي قام بها العبد الصالح عَلیه السَلام هي من عند الله تعالى؛ فهي كلُّها خير ورحمة في كل النتائج المنبثقة عن تلك الأفعال، بما فيها قتل الغلام لصالح أهله ومنفعتهم، لا لمصلحة العبد الصالح، ونستخلص من ذلك أوجهاً عدّة:

1- كانت الأفعال كلُّها بلا مصلحة أو منفعة للعبد الصالح، بل كلُّها خير وصالح ورحمة لأصحابها.

2- دلّت النصوص - بما حملت من مضامين وإشارات مجتمعة- على أن ما وقع من أفعال، لا يحمل إلّا الخير والعدل: «قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا»(1)،

ص: 299


1- التوبة: آية51.

فالإصابة التي يكتبها الله تعالى خارجة عن تكليف الإنسان وسعيه، وضمن كلفة النَفْس وسعتها، وهي خير للناس، وهم غير مسؤولين عن نتائجها؛ ما دامت من عند الله تعالى، وممّا يجب الانتباه إليه أنَّ إرادة الله تعالى لا تلغي كلياً إرادة الناس واختيارهم وسعيهم.

وأما الإصابة هنا، فهي فيما كان فوق إرادتهم ومعرفتهم وقدراتهم؛ فتكون صالحاً وخيراً لهم، بدليل ما قام به العبد الصالح من أفعال. وكما يقول أهل التحقيق: «إنَّ القضاء والقدر في مجال أفعال الإنسان لا ينافيان اختياره وما يوصف به حريّة الإرادة قط..؛ لأنَّ التقدير الإلهي في مجال الإنسان هو فاعليته الخاصة، وهو كونه فاعلاً مختاراً مريداً، وأنْ يكون فعله وتركه لأيّ عمل تحت اختياره وبإرادته.

إنَّ القضاء الإلهي في مجال فعل الإنسان، هو حتميّته وتحقّقه القطعي بعد اختيار الإنسان له بإرادته.

وبعبارة أُخرى: إنَّ الإنسان مجبول على الاختيار ومزيجة بحرّيّة الإرادة ومقدرة بذلك، وأنَّ القضاء الإلهي ليس إلّا هذا، وهو أنَّ الإنسان متى ما أوجد أسباب وقوع فعل ما، تمّ التنفيذ الإلهي من هذا الطريق»(1).

3- أكّدت النصوص القرآنية والمسألة المستخلصة منها، على أنَّ علم الله سبحانه بناتج الأفعال التي أمر بها عبده (الخضر عَلیه السَلام )، إيضاحاً للطف والحكمة الإلهيّة، هي الخير واليُسر الذي يُحبُّه الله تعالى لعباده وخلقه؛ لأنَّهم يجهلون مصالحهم ومنافعهم الحقيقيّة العظيمة.

إن هذه المسألة - فضلاً عمّا ذكرناه - قد نبّهت الناس في سياق الوعظ القرآني إلى أمرين مهمين:

ص: 300


1- السبحاني، جعفر، العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت علیهم السلام : ص106

الأول: إنَّ أمر الكائنات بما فيها الناس ليس سدىً، بل مثلما تكفّل الله بها وأفاض عليها النعم، فهي تحت رقابة حاكميّته ورحمته، وأنَّ الله تعالى حاكم الدنيا والآخرة، والأدلّة على ذلك كثيرة، منها هذه الأفعال، لا كما يظن البعض أنَّ حكمه وحسابه سبحانه يكون في الآخرة فقط.

الثاني: لا جريرة في تلك الأفعال الثلاثة، كما جاء في سورة الكهف، وخصوصاً قتل الغلام من قِبَل العبد الصالح؛ لأنَّ فعله هذا طاعة لأمر الله تعالى.

ونستخلص من هذا الأمر أنَّ المعصومين علیهم السلام ، وأهل التكاليف الربّانيّة الخاصة، لا يفعلون الجرائم والمنكرات والفواحش والمخالفات المؤذية للآخرين، وهذا توكيد قرآني على نهجهم وأفعالهم.

ونذكر وجهين آخرين في نقاش المسألة موضوعة البحث، وهذان الوجهان يُلغيان الجبر والتفويض في المسألة، وضمن الأدلة العقلية المستنبطة من النصوص القرآنيّة ذاتها:

الوجه الأول: لو كان عمل العباد تفويضاً لهم من عند الله سبحانه كيفما يشاؤون، لما فعل العبد الصالح تلك الأفعال الثلاثة، وأشدّها قتل الغلام؛ لأنَّه سيحسبها جريرة عليه، وهو لا يفعل الشر ولا يقتل بلا ذنب، حتى وإنْ كان مفوضاً فيما يفعل كيفما يشاء، وهذا الوجه يُلغي ما ذهب إليه البعض من (التفويض)؛ فأفعال العبد الصالح كلُّها تدلّ على نفي التفويض، وأنَّ الحاكميّة الإلهية تفعل ما يكون صالحاً ونافعاً للعباد، حتى لو تطلّب ذلك القتل.

الوجه الثاني: لو كان العباد مجبورين في كل أفعالهم وأعمالهم، ولا إرادة لهم فيما يفعلون؛ لما أمر الله سبحانه عبده الصالح بقتل الغلام، حتى وإنْ كانت أفعاله ضارة وسيّئة، ما دام

ص: 301

مسيّراً وليس مخيّراً، ويفعل ويعمل بدون إرادته؛ فهو غير مسؤول عمّا يفعل.

إن هذين الوجهين يدلان على حكمة الله سبحانه في جعل الناس مختارين في أفعالهم تحت حاكميّته وإرادته وعلمه، من دون ظلم أو عبث، ولا جزاء على عمل يزيد على الخيار، كما في هذه الأفعال محلّ البحث.

قال العلامة الطباطبائي: «إثبات صفة الحكمة لله تعالى، بهذا المعنى بنحو الحزم، من أهم المسائل الكلاميّة والعقائدية؛ لما يترتب على إنكارها أو الإجمال في ثبوتها له من النتائج الخطيرة لما سيظهر لك، فإثبات الحكمة بهذا المعنى لله تعالى، يُثبت تنزيهه عن كل قبيح؛ ومن ثمَّ يثبت عدله سبحانه في التكوين والتشريع والجزاء، وبها يتنزّه فعله تعالى عن العبث؛ فيكون للخلق غاية، فيثبت لزوم التكليف وإرسال الأنبياء، وبها تنحلُّ مسألة الشرور والكوارث في الكون، ومسألة الهداية والضلالة، وبها يثبت كون الإنسان مختاراً في أفعال نفسه غير مجبور فيها، وبها نثق بوعده تعالى ووعيده، اللذَين وردا في كتابه الحكيم إلى غير النتائج الهامة»(1).

المبحث الثاني: العدل الإلهي
اشارة

«شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ» (2)

«إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ » (3)

«إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا» (4)

ص: 302


1- الطباطبائي، محمد حسين، بداية الحكمة: ص92.
2- آل عمران: آية18.
3- النساء: آية40.
4- يونس: آية44.

إنَّ مسألة عدل الله سبحانه من المسائل الإيمانيّة الحتميّة التي أكّدتها كل الصفات الثبوتيّة والفعليّة لله جل وعلا، وأقرّها العقل الإنساني بداءةً بالفطرة، ولا تحتاج من الإسهاب في الشرح والأدلّة، إلّا بما يقتضيه البحث وبحدود الضرورة، والآيات التي ذكرناها هنا للتذكير فحسب؛ لأن من أوّل البديهيات والمسلّمات «أن العقل - مضافاً إلى الآيات - يحكم بوضوح بالعدل الإلهي؛ لأنَّ العدل صفة كمال والظلم صفة نقصٍ، والعقل يحكم بأنَّ الله تعالى مستجمع لجميع صفات الكمال، منزّه عن كل عيب ونقص في مقام الذات والفعل، والظلم أساساً نابع من أحد عوامل ثلاثة:

1- جهل الفاعل بقبح الظلم.

2- احتياج الفاعل إلى الظلم، مع علمه بقبحه أو عجزه عن القيام بالعدل.

3- كون فاعل الظلم سفيهاً غير حكيم؛ فهو لا يُبالي بإتيان الأفعال الظالمة رغم علمه بقبحها ورغم قدرته على القيام بالعدل.

ومن البديهي أنَّه لا سبيل لأيّ واحدٍ من هذه العوامل إلى الذات الإلهية المقدّسة، فهو تعالى منزّه عن الجهل والعجز وعن الاحتياج والسفه؛ ولهذا فإنَّ جميع أفعاله تتَّسم بالعدل والحكمة»(1)، فالعدل لزومه بديهي بالعقل؛ انطلاقاً من مبدأ أُسس الحكمة ومقتضياتها، والظلم والجور والإكراه قبحه مدرك ببداهة العقل، فبدء الخلق كله بالحق والعدل والحكمة، ومَن يداخله الشك والظن السيء، وتأخذه الشبهات في حكمة وعدل ومشيئة الله تعالى وإرادته، فينسب إليه العبث أو الظلم؛ فقد كفر وسفه نفسه وعقله وفطرته، وأنكر آلاء الخالق الحق الكريم.

ومن عدل الله تعالى العملي، جعل القدرة الفعليّة العمليّة والاختياريّة الإراديّة

ص: 303


1- السبحاني، جعفر، العقيدة الإسلامية: ص93-94.

للإنسان وكل مخلوق ساع في الحياة، وهيّأ كل حاجيات وضروريات سعيه الحياتي الدنيوي، والإنسان بما أنَّه مكلّف ومسؤول، فهو أكثر المخلوقات قدرةً واختياراً بما يتناسب ودوره الدنيوي، وهو مسؤول عن ذلك ومحاسب على ما يفعل ويختار، ولا جبر ولا تفويض ولا إكراه ما دام الحساب من وراء ذلك. والدليل على أنَّه لا يقع منه عز وجل الظلم ولا يفعله، أنَّه قد ثبت كونه تعالى قديماً غنيَّاً عالماً لا يجهل، والظلم لا يقع إلّا من جاهل بقبحه، أو محتاج إلى فعله(1)، «واستغناؤه وعلمه يدلان على انتفاء القبح عن أفعاله تعالى»(2)،«لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ »(3)، فالسؤال إنما يكون لتمييز جهة المصلحة في الفعل، والله حكيم لا يفعل فعلاً إلّا لمصلحة مرجّحة، فلا معنى للسؤال، أما غيره تعالى فمن الممكن أنْ يفعل الباطل؛ فلذا يُسألون عن فعلهم؛ حتى يؤاخذوا بالذم العقلي، أو العقاب المولوي إنْ لم يقارن الفعل المصلحة، والأوجه أنْ يقال: «إنَّ الله حكيم مالك للكل، والكل مملوك له، ومقتضى ذلك أنْ يفعل ما يشاء وليس لغيره ذلك، فمن براهين ربوبيته أنَّه لا يُسئل وأنَّه مالك لهم، كما أنَّ برهان عدم ربوبيتهم أنَّهم مسؤولون ومملوكون؛ لأنَّ الذي يُسئل هو مَن لا يملك الفعل - إلّا لمصلحة لازمة - فالله هو رب العرش العظيم، وهم مربوبون داخرون»(4).

فالعدل الإلهي مُستشعر به في الحياة الدنيا بوضوح، من خلال أساسيات وضروريات واقع الحياة الدنيا، ونحن اتخذنا بعضاً منها كأدلّة على تلك الأُسس العدليّة دونما تحديد؛ لأنها فوق حدّ الإحصاء:

1- التكفّل بشؤون العباد والخلق في مسبّبات الحياة وضرورياتها؛ من أجل

ص: 304


1- الصدوق، محمد بن علي، التوحيد: ص396.
2- الطوسي، نصير الدين، كشف المراد: ص305.
3- الأنبياء: آية23.
4- الطباطبائي، محمد حسين، مختصر الميزان: ص384.

الاستمرار والحركة، وأول هذه الضروريات الرزق، فهو سبحانه يرزق مخلوقاته أينما كانوا، في البطون أجنّة، أو في ظلمات البحار، أو في باطن الأرض، ولم يفرّق سبحانه بعدله بين المؤمن الشاكر والكافر الجاحد، فالكل يرزقهم دون سهو أو إهمال، وما زاد على ضروريات الرزق فإما فضل أو استدراج.

2- لم يفرّق الله سبحانه بالموت بين خلقه كافة، فالكل ميّتون من دون استثناء، فالرسول وهو النبي المكرّم يموت، والكافر الظالم يموت، لكن مع فرق الكرامات والمنازل، وحيثيات دقائق كيفيات الموت، ولكن الناتج هو خروج الجميع من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة.

3- الرسل والرسالات، وما جاءت به من حجج ومواعظ وبيانات وأحكام وأوامر ونواهي، كلُّها من أُسس وأركان العدل ما دام هناك حساب وجزاء، وكانت قبله الحُجج والبلاغات.

4- خيار السعي، وهذا من أهم الأُسس والأركان، فالبريء من الذنوب بخيار عمله الخيّر لا يعاقب بل يُثاب، والمذنب والمسيء يعاقب؛ ما دام فعله وخياره عن وعي وإدراك، والمجبور بلا خيار لا تبعية على فعله وسلوكه، والمجنون قد رُفعت عنه التكاليف، على وفق قاعدة: المعذور لا يُحاسب والبريء لا يُعاقَب.

5- حفظ الأعمال دون تفريط أو تفريق بين العباد، من قِبلَ الكاتبَينِ الموكلَينِ من عند الله تعالى، والشاهدَينِ مع الجوارح، ومن ورائهم الله سبحانه شاهد ورقيب.

6- الحساب وما يترتب عليه من (جزاء وثواب وعقاب)؛ فيثاب المحسن ويُعاقَب المسيء.

7- الكلفة على سعة النَّفْس وقدرتها؛ رعاية وتكريماً من الله سبحانه للإنسان.

ص: 305

العدل ومسألة البحث
اشارة

إنَّ الله سبحانه قد أقام العدل ومنع الظلم في مسألة أفعال (الخضر عَلیه السَلام ) التي قام بها، فكل فعل من أفعاله كان العدل فيه واضحاً بيّناً، وإليك أدلة وشواهد ذلك:

1- إعابة السفينة في الفعل الأول؛ من أجل أنْ لا يُقتل أصحابها، وتؤخذ السفينة غصباً من قِبَل قراصنة البحر ظلماً وعدواناً.

2- قتل الغلام في الفعل الثاني من أفعال (الخضر عَلیه السَلام )؛ من أجل إيقاف ظلم إيذاء الغلام لوالديه، وكذلك إيقاف ظلمه لنفسه، فكان الفعل لطفاً وعدلاً إلهيَّاً، وإنقاذ للغلام ولوالديه.

3- إقامة الجدار في الفعل الثالث (للخضر عَلیه السَلام )؛ لكي يحفظ كنز الأطفال الأيتام قبل أنْ يسقط الجدار المائل وينكشف الكنز، فيكون الظلم حينها كبيراً في حق الأيتام ومستقبلهم المعاشي؛ فكان فعلاً عادلاً من عند الله سبحانه.

4- العدل الإلهي في أفعال (الخضر عَلیه السَلام )، حيث أنصف مَن خَصّتهم وكانت من أجلهم، ولا سيما الأبرياء منهم، ودفع الظلم الذي كان سيقع عليهم، وكذلك أنصفت الأفعال عينها الظالمين قبل أنْ يفعلوا الظلم، ويُعاقَبوا عليه؛ فكانت لطفاً وإحساناً بهم.

العدل والإحسان:
اشارة

«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ» (1).

يجب إقامة العدل على المكلّف المقتدر في حدود قدرته، ما دامت الكلفة على

ص: 306


1- النحل: آية90.

سعة النَّفْس؛ لأنَّ مسألة الظلم مسألة مهلكة، ولا زال أهل الظلم مستبدّين بظلمهم للناس؛ لأنهم مالوا عن جادة العدل والصواب، وكثيراً ما واجه المصلحون وأهل الحق والعدل أقسى أنواع العذاب والتقتيل، فكانت تضحياتهم لله تعالى، وفي سبيل الحق والعدل وإشاعة الإحسان الذي أمر الله تعالى به، وكان نبراس هؤلاء الأماجد الأحرار، سيدهم وقائدهم إلى ذلك الطريق الإمام الحسين عَلیه السَلام .

ولو تدبّرنا معنى الآية الكريمة التي ذكرناها آنفاً؛ نجد أنَّ الله تعالى قد قدّم العدل على الإحسان، مع أهميّة الإحسان وأثره البليغ بين الناس، وتقديم العدل على الإحسان في منصوص الآية المباركة؛ لأنَّه أمر يجب إقامته على القادرين عليه، ولا يجوز لهم تركه؛ لأنَّ تركه يولّد استمرار وقوع الظلم والباطل على الناس والمجتمع.

وأما الإحسان، فهو أمر يرشد الله تعالى إليه الناس، ويعظهم إلى فعل الخير فيما بينهم، ولكنه لا يتقدم على العدل؛ ما دام ترك الإحسان لا ينتج عنه الظلم، بل فعله خير وأجره عظيم؛ لأنَّ الله سبحانه يُحبُّ المحسنين، وتاركه عمداً مع الاستطاعة عليه مذموم، يضيّع حُبَّ الله له وفضل الإحسان وأجره، والإحسان يُصلح علاقات الناس ويزيد في تراحمهم وتكافلهم، وفاعله محمود عند الله سبحانه وعند الناس، وحائز على الأثر الجميل والفضل العظيم.

وهنا ذكر بعض المفسرين لقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ...» «... وهي المساواة في المكافأة إنْ خيراً خير، وإنْ شرّاً فشرٌّ - على ما قيل - والعدل عدل فردي وعدل اجتماعي، وهو المقصود بالآية، وهو أنْ يعمل كل فرد من المجتمع بما يستحقه، فيتعلق الأمر بالمجموع، فيكلّف المجتمع إقامة هذا الحكم، وتتقلده الحكومة المسلمة بما أنها تتولّى وتُدبِّر أمر المجتمع (والإحسان)، وهو إيصال الخير إلى الغير لا على سبيل المقابلة والمجازة، بل إصلاح حال مَن أذلته المسكنة أو الفاقة، وهذا ما ينشر المحبَّة

ص: 307

والأمن والسلامة»(1).

وقد كثرت وتواترت الآيات في الذكر الحكيم، المؤكّدة على العدل وبأنَّ الله تعالى سبحانه عادل، ويُحبُّ العدل والعاملين به:

«شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ »(2).

«وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ »(3).

«لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ » (4).

العدل الالهي والإحسان والعوض:

«ولا يجوز أنْ يفعل الله تعالى الألم؛ لدفع الضرر به من غير عوض عليه، كما يفعل ذلك أحدنا بغيره؛ والوجه في ذلك: أنَّ الألم إنّما يحسن لدفع الضرر في الموضع الذي لا يندفع إلّا به، والقديم تعالى قادر على دفع كل ضرر عن المكلّف من غير أنْ يؤلمه»(5)؛ لأنَّ الله سبحانه عالم بحال العباد وما يبتغون وما ينفعهم في سعيهم، فإنْ كان سعيهم شرّاً عليهم، أو على أحدٍ من الناس وشاء الله سبحانه أنْ يلطف بهم، فيدفع ما أصابهم أو سيُصيبهم من ضرر بحدوث ألم، عندها يكون عوضه أكبر من الألم نفسه، ولا يكون الألم ألماً بقدر ما هو راحة وخلاص من الشر ونتائجه، فعوض

ص: 308


1- الطباطبائي، محمد حسين، مختصر الميزان: ص330.
2- آل عمران: آية18.
3- المؤمنون: آية62.
4- الحديد: آية25.
5- المرتضى، شرح جمل العلم والعمل: ص34.

الله سبحانه أكبر وأعظم من الألم الذي دفع به الضرر، وهذا ما يُطابق قتل الغلام مخصوص البحث؛ حيث إنَّ العوض كان أكبر من القتل، كما بيّناه في المبحث الأول.

يقول الطوسي: «الأجل عبارة عن الوقت الذي يحدث فيه القتل أو الموت، ولا يُسمّى ما لا يحدث فيه واحدٌ منها أجلاً بالتقدير. وذهب قوم من أهل العدل - وهم (البغداديون) - إلى أنَّ المقدر يسمّى أجلاً، وتأوَّلوا في ذلك قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ»، فقالوا: قد أثبت تعالى ههنا أجلين، ولا يصح ذلك إلا على ما نذهب إليه بالتقدير. وإنّما قلنا: إنَّ المقدّر لا يُسمّى أجلاً؛ لأنّه لو جاز ذلك فيه لجاز أنْ يُسمّى المقدّر ملكاً ومباحاً، وذلك لا يقوله أحد»(1).

فهل قتل الغلام أجلٌ؟ أم هو دفع ضرر من أجل العوض؟

ونحن نرى أن هنا تقديراً حكيماً؛ لأسباب مستقبلية يكون فيها الألم للوالدين والضرر على الغلام، فكان أمر الله سبحانه بقتله من قبل الخضر عَلیه السَلام عدلاً وإحساناً، وفيه العوض الكبير على الوالدين والغلام.

وأما الإحسان في هذه المسألة، فقد كان إحسان الله تعالى عظيماً، وله مردود إيجابي على أصحاب السفينة التي أعابها الخضر عَلیه السَلام ، وعلى أبوَي الغلام، بل وعلى الغلام نفسه، وكذلك على الأيتام أصحاب الكنز، وهذا العدل والإحسان والرحمة والعوض في بيان الذكر القرآني؛ من أجل التنبيه على أنَّ كل ما يكتبه الله سبحانه هو خير وصالح للناس، وأنَّ الله غني عن خلقه وعباده وما يفعلون.

ص: 309


1- الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان: ج3، ص9.
الحاكميّة والعدل الإلهي:

لقد قامت الحاكميّة الإلهية بالعدل المطلق، وقام العدل المطلق بالحاكميّة، وهما من مصدر العظمة والقدرة، فالحاكميّة عادلة، والعدل حاكم وقاضٍ بلا منازع أو عضيد، والمشيئة الإلهيّة عين الحاكميّة والعدل الإلهي؛ لأنّ ما يشاؤه الله سبحانه لا عبث ولا ظلم فيه، وما دام الله سبحانه لا يظلم ولا يُحبُّ الظلم؛ فأنَّ مشيئته لخلقه حكمٌ عادل وفيضُ إحسانٍ ورحمة، بما فاق ما نتصوره في الحكم من العدل.

وعليه؛ كانت الأفعال الثلاثة المُشار إليها في سورة الكهف، هي في أمر الله تعالى، وهي أفعال عدل وحكمة إلهيّة أفاضت على أصحابها فيض الرحمة والإحسان، ولا جريرة على العبد الصالح؛ ما دام طائعاً لأمر الله.

الخاتمة

إنَّ إثارة أيَّة مسألة قرآنيّة، ومناقشتها على وفق السياق الفكري الموضوعي؛ من أجل الوضوح والاستبيان المعرفي، فيه فائدة ومنفعة بقدر ما حملت النتيجة من القيمة الموضوعيّة، وفي هذه الخاتمة سنلخّص مجمل ما أرادنا إيصاله إلى القارئ الكريم، ووفقاً للنقاط التالية:

1- إنَّ الحاكميّة المطلقة حكمها نافذ على الخلق بالحق والعدل في الدنيا والآخرة، وأنَّ الله تعالى رقيب وحسيب على أفعال خلقه وشؤونهم بلا منازع لأمره وحكمه.

2- إنَّ الحاكمية الإلهيّة لا يصدر عنها العبث أو الفوضى، بل يصدر عنها تدبير الخلق بما ينفع المخلوق من الرزق والرحمة.

ص: 310

3- إنَّ الفعل الإلهي عدل لا ظلم فيه أو جور أو إكراه؛ بدليل اختيار الإنسان والحساب على ما يفعله، من العقاب على الفعل السيء، أو الثواب على الفعل الصالح.

4- إنَّ رحمة الله تعالى تقي العبد من ظلم نفسه.

5- إنَّ الله سبحانه دفع بتلك الأفعال الثلاثة - التي أمر بها عبده الصالح الخضر عَلیه السَلام - ألم الضرر بالعوض الكريم، خصوصاً قتل الغلام وإعابة السفينة.

6- إنَّ الله تبارك وتعالى هو الذي يبدأ الخلق ويُعيده بقوله للشيء: « كُنْ فَيَكُونُ»، فلو أراد سبحانه الانتقام أو معاقبة الناس وعذابهم، فلا مانع أو حائل لفعله وإرادته، ولا يُسئل عمَّا يفعل ولا رادّ لحكمه ومشيئته.

7- إنَّ الله رؤوف رحيم بالخلق والعباد؛ بدليل أنه سبحانه لا يُعاجل بالعقوبة، وحلمه سبق غضبه، ورحمته سبقت انتقامه، وعفوه سبق عقوبته.

8- كل ما يكلّف به الله تعالى عباده، إنما هو على سعة أنفسهم، وأما تكليف الأنبياء والرسل والمعصومين علیهم السلام عامة، فإنّه من أجل منفعة أُممهم وأقوامهم، فلا ظلم أو جور فيما يفعلون، وهذه المسألة المخصوصة البحث، أكّدت ذلك من خلال تصريح الذكر الحكيم بها، وعلى لسان العبد الصالح الخضر عَلیه السَلام المكلّف بتلك الأفعال من عند الله سبحانه.

9- قضيّة إقامة الجدار المائل، وهو الفعل الثالث والأخير للعبد الصالح، الذي حفظ به للأيتام كنزهم المدفون تحت الجدار قبل أنْ يسقط، وهذا الفعل والجهد دليل قرآني عملي على أنَّ الله سبحانه هو الحافظ الوكيل، الذي يمنُّ على عباده وخلقه بالرعاية والرأفة.

ص: 311

لقد أكد لنا الذكر الحكيم في هذه المسألة القرآنيّة الكثير من المضامين والمواعظ، ولهذا ذُكرت هذه الأفعال في آيات سورة الكهف وبالتتابع؛ لأهميّة المسألة، فسبحان الله الحق العدل الرؤوف اللطيف بخلقه وعباده.

ص: 312

مَرقَدُ وَ مَزار عُبَیدُاللهِ بن عَلي بن أَبي طَالِب عَلیهِ السَّلام

دِرَاسَةٌ تَاریخیَةٌ تحلِیلِیَّة الشيخ أحمد عبد السادة الساعدي

اشارة

من المراقد المهمة والكبيرة لأبناء الأئمة في محافظة ميسان هو المرقد والمزار المعروف بمرقد عبيد الله بن علي عَلیه السَلام بالقرب من قضاء قلعة صالح على بُعد أربعين كيلو متراً تقريباً من مركز المحافظة، ويُعتبر من أقدم وأكبر المراقد التاريخية في المحافظة، وله مكانة كبيرة عند الناس في داخل وخارج المحافظة، وتقصده الناس للزيارة والتبرُّك وطلب الحاجات والدعاء عند قبره، وله كرامات كما ينقل الكثير من أهالي المنطقة والزوَّار، وسوف نقسم البحث هنا على قسمين، يتناول القسم الأول التحقُّق من هوية ونسب صاحب هذا المرقد، وسبب مجيئه إلى هذه المنطقة، وكيفية وفاته. بينما جعلنا القسم الثاني من البحث مختصاً بالمرقد الشريف وتاريخ بنائه، مع وصف عام للمرقد وأهم معالمه وموقعه الجغرافي والمنطقة التي يقع فيها.

القسم الأول: هوية صاحب المرقد ونسبه وكيفية وفاته
اشارة

إنّ التحقيق في هوية صاحب المرقد ونسبه يرتكز على قاعدتين أساسيتين تمَّ التوصل إليهما من خلال البحث:

ص: 313

القاعدة الأُولى: هي أنه لم نجد من المؤرخين مَن شكَّك في أنّ صاحب هذا المرقد هو أحد أبناء الإمام أمير المؤمنين عَلیه السَلام ، فنسب صاحب المرقد من جهة أبيه، هو ابن علي عَلیه السَلام بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي(1).

القاعدة الثانية: أن صاحب هذا المزار هو المقتول في معركة المذار التي وقعت بين مصعب بن الزبير وأصحاب المختار الثقفي، في سنة سبع وستين هجرية في منطقة المذار(2)، وهي إحدى مُدن وقصبات ميسان، والتي سنشير إليها لاحقاً، والذي يظهر من الشواهد والقرائن التاريخية أنّ المقتول من أبناء أمير المؤمنين عَلیه السَلام في تلك المعركة هو صاحب هذا المرقد الموجود اليوم في إحدى ضواحي محافظة ميسان؛ إذ لم يدَّع أحد أنّ هذا المرقد لشخص آخر غير ذلك الذي قُتِل من أبناء علي عَلیه السَلام في واقعة المذار؛ فلذا لا بد من التحقُّق من هوية المقتول في تلك الواقعة؛ لكي نتمكّن من تحديد هوية صاحب هذا المزار.

وقد اختلف المؤرخون وأصحاب السير في هوية الشخص الذي قُتِل في تلك الأحداث من أبناء الإمام أمير المؤمنين عَلیه السَلام ، وكذلك اختلفوا في سبب وكيفية قتله، ومَن هم الذين قتلوه؟ وتنحصر أقوال المؤرخين والعلماء فيمَن قُتِل آنذاك في اثنين من أبناء الإمام علي عَلیه السَلام ، وهما:

الأول: عبيد الله بن علي عَلیه السَلام
اشارة

ذهب مشهور المؤرخين وأرباب السير إلى أنّ الذي قُتل في معركة المذار هو عبيد الله بن علي بن أبي طالب عَلیه السَلام ، ومن أشهر مَن ذهب إلى هذا الرأي من

ص: 314


1- اُنظر: محمد بن سعد، الطبقات الكبرى: ص117.
2- اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص558 وما بعدها.

المؤرخين المتقدمين ابن سعد (ت230ه-) في طبقاته(1)، وابن قتيبة (ت276ه-) في كتابه المعارف(2)، والبلاذري (ت279ه-) في أنساب الأشراف(3)، وابن أبي الدنيا (ت281ه-) (4)، والطبري (ت310ه-) في تاريخه نقلاً عن محمد بن عمر(5)، ومحمد بن سليمان الكوفي (ت حدود 300ه-) في مناقب أمير المؤمنين عَلیه السَلام (6)، والمسعودي (ت346ه-) في مروج الذهب(7)، وأبو الفرج الأصفهاني (ت356ه-) في مقاتل الطالبيين(8)، وغيرهم من المؤرخين وأصحاب السير وعلماء الأنساب.

أُمُّه وولادته

أُمّ عبيد الله هي: ليلى بنت مسعود بن خالد، بن مالك بن ربعي، بن سلمى بن جندل، بن نهشل بن دارم، بن مالك بن حنظلة، بن مالك بن زيد مناة بن تميم(9)، فتسمّى تارة بالنهشلية(10)؛ نسبةً إلى جدها نهشل بن دارم، وأُخرى بالدارمية(11)؛ نسبةً إلى دارم بن مالك، وهي من بني تميم من أهل البصرة تزوّجها أمير المؤمنين عَلیه السَلام

ص: 315


1- اُنظر: محمد بن سعد، الطبقات الكبرى: ج5، ص118.
2- اُنظر: ابن قتيبة، المعارف: ص401.
3- اُنظر: البلاذري، أنساب الأشراف: ص190.
4- اُنظر: ابن أبي الدنيا، مقتل أمير المؤمنين علیه السَّلام ، تحقيق: السيد عبد العزيز الطباطبائي، مطبوع في مجلة تراثنا: العدد 12، ص130
5- اُنظر: الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص118.
6- اُنظر: الكوفي، محمد بن سليمان، مناقب الإمام أمير المؤمنين علیه السَّلام : ج2، ص49
7- اُنظر: المسعودي، مروج الذهب: ج1، ص391.
8- اُنظر: الأصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين: ص84.
9- اُنظر: محمد بن سعد، الطبقات الكبرى: ص117. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص118
10- اُنظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج3، ص397.
11- اُنظر: المفيد، الإرشاد: ج1، ص354.

عندما دخل البصرة في معركة الجمل سنة 36 هجرية، ويذكر الرحالة والداعية الإسماعيلي ناصر خسرو: أن علياً عَلیه السَلام عندما تزوّجها أفرد لها بيتاً في البصرة، وبقي مدة 72 يوماً لإدارة شؤون الحرب، وأصبح بيتها مشهداً ومزاراً يُقال له: مشهد بني مازن، وهو أحد المشاهد الثلاثة عشر التي اقترنت باسم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلیه السَلام والتي زارها ناصر خسرو عند مجيئه إلى البصرة(1).

وبعد انتهاء معركة الجمل رجع الإمام عَلیه السَلام إلى الكوفة وجعلها عاصمة له، ومن المرجَّح أن يكون عبيد الله قد ولِد في سنة 37 ه-جرية، وفي سنة 38 هجرية أنجبت ليلى ولداً آخر وهو محمد الأصغر الملقَّب بأبي بكر، وقد استُشهد في معركة الطف مع أخيه الحسين عَلیه السَلام (2)، ولم يذكر التاريخ شيئاً معتدَّاً به من أخبارها سوى بعض الإشارات هنا وهناك، كما في كتاب الغارات للثقفي عن مغيرة الضبي، قال: لمَّا نكح علي عَلیه السَلام ليلى بنت مسعود النهشلي، قالت: ما زلت أحبّ أن يكون بيني وبينه سبب منذ رأيته قام مقاماً من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم (3)، وروى العوام بن حوشب عن أبي صادق، قال: تزوَّج علي عَلیه السَلام ليلى بنت مسعود النهشلية، فضربت له في داره حجلة(4)، فجاء فهتكها، وقال: حسب أهل علي ما هم فيه(5).

وأمّا فيما يخصُّ حياتها بعد أمير المؤمنين عَلیه السَلام ، فقد نقلت بعض الروايات أنّها

ص: 316


1- اُنظر: ناصر خسرو، سفرنامه: ص148.
2- اُنظر: المعارف، ابن قتيبة: ص207. البلاذري، أنساب الأشراف: ص68.
3- اُنظر: الثقفي، إبراهيم بن محمد، الغارات: ج1، ص93. وعنه: المجلسي، بحار الأنوار: ج42، ص98
4- والحجلة بالتحريك: واحدة حجال العروس، وهي بيت يُزيَّن بالثياب والأسرَّة والستور. اُنظر: الجوهري، الصحاح: ج4، ص1667
5- اُنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج2، ص202. المجلسي، بحار الأنوار: ج41، ص139

تزوّجت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فقد روى البخاري في صحيحه(1)، والبيهقي في السنن الكبرى(2)، وابن أبي شيبة في المصنف(3) أنّ عبد الله بن جعفر قد جمع بين امرأة علي عَلیه السَلام وابنته، وقال ابن حجر: أما امرأة علي، فهي ليلى بنت مسعود. وأما بنته، فهي زينب(4)، وذكر ابن قتيبة في المعارف، والبلاذري في الأنساب أنها أنجبت من عبد الله بن جعفر: صالحاً، وموسى، وهارون، ويحيى، وأُمّ أبيها(5).

ولكن روى ابن شهرآشوب في المناقب أنّ أمير المؤمنين عَلیه السَلام توفّي عن أربعة من زوجاته: أمامة وأُمُّها زينب بنت النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم ، وأسماء بنت عميس، وليلى التميمية، وأُم البنين الكلابية، ولم يتزوجن بعده، وخطب المغيرة بن نوفل أمامة، ثم أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث، فروت عن علي عَلیه السَلام : أنه لا يجوز لأزواج النبي والوصي أن يتزوجن بغيره بعده. فلم يتزوج امرأة ولا أُم ولد بهذه الرواية(6).

حياته ونشأته

بناءً على ولادته في سنة 37ه- يكون عبيد الله قد قضى مع أبيه أمير المؤمنين عَلیه السَلام ثلاث سنوات أو أربع تقريباً، ومع أخيه الحسن عَلیه السَلام ما يُقارب أربع عشرة سنة، وكان في وقت استشهاد الإمام الحسين عَلیه السَلام يبلغ من العمر ثلاثاً وعشرين سنة، إلّا أنه لم يذكر التاريخ بقاءه في المدينة أو ذهابه مع أخيه الحسين عَلیه السَلام ، ولعلّ نشأته كانت عند أخواله بني تميم في البصرة، قال في المجدي: «فأما عبيد الله فكان مع أخواله بني تميم

ص: 317


1- اُنظر: البخاري، صحيح البخاري: ج6، ص126.
2- البيهقي، السنن الكبرى: ج7، ص167.
3- اُنظر: الكوفي، ابن أبي شيبة، المصنف: ج3، ص322.
4- اُنظر: ابن حجر، مقدمة فتح الباري: ص319.
5- اُنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج2، ص202. المجلسي، بحار الأنوار: ج41، ص139
6- اُنظر: ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص90.

بالبصرة حتى حضر وقائع المختار»(1)، لكن يظهر أنّه قد عاد إلى المدينة بعد استشهاد أخيه الحسين عَلیه السَلام ؛ لأنه عندما ظهر المختار في الكوفة فإنه توجّه إليه من الحجاز وليس من البصرة.

وتذكر بعض المصادر التاريخية أنّه كان من الذين بايعوا عبد الله بن الزبير عند موت يزيد؛ قال البلاذري: «لما دعا ابن الزبير الناس إلى بيعته بعد موت يزيد بن معاوية، بايعوه على كتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الخلفاء الصالحين، وكان ممّن بايعه عبيد الله بن عليّ بن أبي طالب»(2).

مجيؤه إلى الكوفة والبصرة

ينقل لنا ابن سعد في طبقاته بشيء من التفصيل عن سبب مجيئه إلى الكوفة والبصرة، فيذكر أنّ عبيد الله قدم من الحجاز على المختار بالكوفة وسأله فلم يُعطه، ولم يبيّن ابن سعد فحوى سؤال عبيد الله من المختار، إلّا أنّ أبا الفرج الأصفهاني يوضّح لنا محتوى هذا السؤال، فيقول: «وكان صار إلى المختار فسأله أن يدعو إليه ويجعل الأمر له فلم يفعل»(3). ثمّ يتابع ابن سعد كلامه، فيذكر أن المختار سأله وقال: أقدمت بكتاب من المهدي؟ قال: لا. فحبسه أياماً، ثم خلّى سبيله، وقال: اخرُج عنا. فخرج إلى مصعب بن الزبير بالبصرة هارباً من المختار، فنزل على خاله نعيم بن مسعود التميمي النهشلي، وأمر له مصعب بمائة ألف درهم.

ص: 318


1- العلوي، على بن محمد، المجدي في أنساب الطالبين: ص17. النمازي الشاهرودي، علي، مستدرك سفينة البحار: ج7، ص386
2- البلاذري، أنساب الأشراف: ج6، ص341. التذكرة الحمدونية: ج8، ص30.
3- الأصفهانى، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين: ص84.

ثم إنّ مصعب بن الزبير أمر الناس بالتهيؤ والخروج لقتال المختار، فخرج واستخلف على البصرة عبيد الله بن معمر، فلمّا سار مصعب تخلّف عبيد الله بن علي بن أبي طالب في أخواله، وسار خاله نعيم بن مسعود مع مصعب، فلما ابتعد مصعب عن البصرة جاءت بنو سعد بن زيد مناة بن تميم إلى عبيد الله بن علي، فقالوا: نحن أيضاً أخوالك ولنا فيك نصيب، فتحوّل إلينا؛ فإنا نحب كرامتك. قال: نعم. فتحوّل إليهم، فأنزلوه وسطهم، وبايعوا له بالخلافة وهو كاره، يقول: يا قوم، لا تعجلوا ولا تفعلوا هذا الأمر. فأبوا، فبلغ ذلك مصعباً، فكتب إلى عبيد الله بن معمر يوبّخه ويلومه، ويُخبره غفلته عن عبيد الله بن علي وعمّا أحدثوا من البيعة له.

ثم دعا مصعب خاله نعيم بن مسعود، فقال: لقد كنت مكرماً لك محسناً فيما بيني وبينك، فما حملك على ما فعلت في ابن أُختك وتخلّفه بالبصرة يؤلّب الناس ويخدعهم؟! فحلف بالله ما فعل وما علم من قصته هذه بحرف واحد، فقبل منه مصعب وصدّقه، وقال مصعب: قد كتبت إلى عبيد الله ألومه في غفلته عن هذا. فقال نعيم بن مسعود: أنا أكفيك أمره وأقدم به عليك. فسار نعيم حتى أتى البصرة، فاجتمعت بنو حنظلة وبنو عمرو بن تميم، فسار بهم حتى أتى بني سعد، فقال: والله، ما كان لكم في هذا الأمر الذي صنعتم خير، وما أردتم إلّا هلاك تميم كلها، فادفعوا إليَّ ابن أُختي. فتلاوموا ساعة، ثم دفعوه إليه، فخرج حتى قدم به على مصعب، فقال: يا أخي، ما حملك على الذي صنعت؟! فحلف عبيد الله بالله ما أراد ذلك ولا كان له به علم حتى فعلوه، ولقد كرهت ذلك وأبيته. فصدّقه مصعب وقَبِلَ منه.

وأمر مصعب بن الزبير بالمسير إلى المختار، فسار الجيش وتقدّم ومعه عبيد الله بن علي بن أبي طالب، فنزلوا المذار، وحدثت المعركة بين الطرفين وانهزم أصحاب

ص: 319

المختار، ولم يبقَ منهم إلّا القليل(1).

كيفية وسبب مقتله في المذار

المؤرخون الذين ذهبوا إلى أنّ عبيد الله بن علي عَلیه السَلام قد قُتل في معركة المذار قد اختلفوا فيما بينهم في كيفية وسبب مقتله، ومن هي الجهة أو الأشخاص الذين قتلوه، ولعل سبب الاختلاف يرجع إلى أنّ المعركة قد حدثت في الليل، كما ينقل ذلك ابن سعد في الطبقات، حيث يقول: «فبيّتهم أصحاب مصعب بن الزبير، فقتلوا ذلك الجيش، فلم يفلت منهم إلا الشريد، وقتل عبيد الله بن علي بن أبي طالب تلك الليلة»(2).

ثم إنه قد يظهر من المسعودي في مروج الذهب أنّ عبيد الله كان مع المختار وليس مع مصعب، قال: «فكان ممَّن قُتل مع المختار عبيد اللّه بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه». إلّا أنّه عاد وذكر أنّ عبيد الله له «خبر مع المختار في تخلصه منه ومضيِّه إلى البصرة وخوفه على نفسه من مصعب، إلى أن خرج معه في جيشه، وقد أتينا على خبره وسائر ما أومأنا إليه في كتابنا أخبار الزمان»(3).

وعلى كل حال، توجد ثلاث فرضيات في كيفية وسبب مقتله:

الفرضية الأُولى: هي أن المختار وأصحابه هم مَن قتله في المعركة التي جرت بينهم وبين مصعب في المذار، وقد صرَّح بهذه الفرضية كل من البلاذري(4)، والطبري

ص: 320


1- اُنظر: محمد بن سعد، الطبقات الكبرى: ج5، ص118.
2- اُنظر: المصدر السابق: ج5، ص117-118.
3- المسعودي، مروج الذهب: ج1، ص391
4- اُنظر: البلاذري، أنساب الأشراف: ج2، ص190.

نقلاً عن محمد بن عمر(1)، وأبو الفرج الأصفهاني(2)، ولكنهم لم يصرِّحوا أنّ قتلهم له كان عن عمد وقصد، بينما جزم ابن قتيبة في المعارف أنهم قتلوه وهم لا يعرفونه(3)؛ ومما يدعم هذه الفرضية ما نقله ابن أعثم الكوفي؛ إذ يقول: «ولحق رجل منهم من أهل الكوفة عبيد الله بن علي بن أبي طالب وهو لم يعرفه، فضربه من ورائه ضربةً على حبل عاتقه، جدَّله قتيلاً »(4).

الفرضية الثانية: هي أنّ مَن قتله هم النواصب وأعداء أهل البيت علیهم السلام ، ويرجِّح هذه الفرضية المحقّق الشيخ محمد باقر المحمودي في تحقيقه لكتاب أنساب الأشراف؛ حيث يقول - بعد استبعاد فكرة أن أصحاب المختار هم مَن قتله -: «وأما قتله بيد المختار أو أصحابه فغير معلوم، ولعل الأقرب أن بعض أعداء آل البيت من نواصب البصرة، أو مَن فرَّ من المختار من أهل الكوفة - كابن الأشعث وشبث بن ربعي - قتلوه غيلةً!»(5)، وأيّد ما ذهب إليه - بل استدلّ له - بما رواه المسعودي في إثبات الوصية، من أنّ أمير المؤمنين عَلیه السَلام أوصى بنيه، فقال: «إني أُوصي إلى الحسن والحسين فاستمعوا لهما وأطيعوا أمرهما. فقام إليه عبيد الله فقال: يا أمير المؤمنين، أدون محمد بن الحنفية؟ فقال له أمير المؤمنين: أجرأة في حياتي؟! كأني بك قد وُجدت مذبوحاً في خيمتك!»(6).

ولكن يمكن أن يلاحظ على هذه الرواية - بغض النظر عن صحة سندها -:

ص: 321


1- اُنظر: الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص118.
2- اُنظر: الأصفهانى، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين: ص84.
3- اُنظر: ابن قتيبة، المعارف: ص401.
4- الكوفي، ابن أعثم، الفتوح: ج6، ص288.
5- البلاذري، أنساب الأشراف: ج2، هامش ص190.
6- المصدر السابق، نقلاً عن إثبات الوصية للمسعودي: ص125.

أنه من البعيد جداً أن تصدر هذه الجرأة من عبيد الله؛ لأنّه ولد سنة 37ه- وأمير المؤمنين عَلیه السَلام استشهد سنة 40ه-؛ فيكون عُمْر عبيد الله آنذاك ثلاث سنوات تقريباً، فمن البعيد أن يدرك هذه الأُمور وهو في هذه السنّ ويتجرّأ على أبيه، وكذلك من البعيد أن يردَّ أمير المؤمنين عَلیه السَلام على طفل بهذا العمر بتلك الحدّة.

الفرضية الثالثة: وهي ما ذكرها الشيخ المحمودي أيضاً بعد ذكره للفرضية الأُولى، وقد جعلها أقرب من الفرضية الأُولى، وهي أنّ عبيد الله قد قُتِل بأمر من مصعب بن الزبير غيلةً، واعتبر الشيخ المحمودي أن ما ذكره ابن سعد في الطبقات سبباً كافياً لأن يقوم مصعب باغتياله، وذلك حين تخلَّف عبيد الله في البصرة ولم يلتحق بمصعب عندما ذهب لمحاربة المختار، ثم التفاف بني تميم حوله ومبايعتهم له، وهذا يُشكّل خطراً على مصعب وحكومته، فمن الممكن أن يأمر باغتياله في تلك الليلة التي يصعب التمييز فيها، ثمّ يتَّهم المختار وأصحابه بقتله(1)، ونقل الطبري أنّ مصعب بن الزبير قال للمُهلَّب يُخبره بمقتل عبيد الله بن علي عَلیه السَلام : «هل علمت أنّ عبيد الله بن علىّ بن أبي طالب قد قُتل؟... أتدري مَن قتله؟ قال: لا. قال: إنما قتله مَن يزعم أنه لأبيه شيعة، أما إنهم قد قتلوه وهم يعرفونه»(2)، ولعلّه في كلامه هذا يريد أن ينفي التهمة عن نفسه، ويُبرئ ساحته من تلك الجريمة، والله العالم.

وعلى كل حال، فتبقى تلك فرضيات لا يمكن الجزم بصحة أيّ منها، وتبقى كيفية مقتل عبيد الله ومَن قتله أمراً مجهولاً؛ لذا لم يزد ابن سعد على قوله: «وقُتِل عبيد الله بن علي بن أبي طالب تلك الليلة»(3)، لكن المشهور أنه قد تُوفّي هناك في منطقة

ص: 322


1- اُنظر: البلاذري، أنساب الأشراف: ج2، هامش ص190.
2- الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص567.
3- محمد بن سعد، الطبقات الكبرى: ج5، ص118.

المذار ودُفن حيث مرقده الآن، وكان ذلك في سنة سبع وستين للهجرة، فيكون عمر عبيد الله بن علي عَلیه السَلام ثلاثين سنة تقريباً، إلّا أنّ الذهبي (ت748ه-) في تاريخ الإسلام اختلف قوله، فعند حديثه عن عبيد الله بن علي عَلیه السَلام ذكر أنه قدم على مصعب بن الزبير، فوصله بمائة ألف درهم، ثم قُتِل معه في محاربة المختار سنة سبع وستين(1). بينما صرَّح في ترجمته لعمر بن علي عَلیه السَلام في الكتاب نفسه بأنّ عبيد الله قُتِل مع مصعب سنة اثنتين وسبعين(2). وهذا غريب جداً، ولعله سهو من قلمه؛ فإن المؤرخين قد أجمعوا على أن وقعة المذار قد حصلت سنة سبع وستين للهجرة.

ثمّ إنّ سنة اثنتين وسبعين هي السنة التي قُتل فيها مصعب بن الزبير نفسه، كما ينقل ذلك الذهبي ذاته في سير أعلام النبلاء(3).

عبيد الله بن علي وواقعة الطف

اتضح من خلال الأبحاث المتقدمة أنّ مشهور المؤرخين وأصحاب السير يرون أنّ عبيد الله بن علي عَلیه السَلام لم يشترك في واقعة الطف مع أخيه الحسين عَلیه السَلام سنة 61ه-، وبقي إلى سنة 67ه-، حيث واقعة المذار التي قُتل فيها، لكنْ هناك عدد من المؤرخين ذكروا أنّ عبيد الله بن علي عَلیه السَلام قُتل في كربلاء مع الحسين عَلیه السَلام وأخيه الأصغر، ومن أهم هؤلاء المؤرخين الطبري في تاريخه، نقلاً عن هشام بن محمد(4)، والشيخ المفيد (ت413ه-) في كتابه الإرشاد، قال: «ومحمد الأصغر المكنَّى أبا بكر وعبيد

ص: 323


1- اُنظر: الذهبي، تاريخ الإسلام: ج5، ص181.
2- اُنظر: المصدر السابق: ج6، ص165.
3- اُنظر: الذهبي، سير أعلام النبلاء: ج4، ص143.
4- اُنظر: الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص118.

الله الشهيدان مع أخيهما الحسين عَلیه السَلام بالطف، أُمّهما ليلى بنت مسعود الدارمية»(1). وتبعه الإربلي (ت693ه-) في كشف الغمة(2)، ويظهر ذلك أيضاً من ابن الأثير (ت630ه-) في الكامل في التاريخ(3).

ويمكن المناقشة في هذا الرأي من عدة جهات:

الأُولى: إنّ هذا الرأي مخالف لما عليه مشهور المؤرخين وأرباب السير، الذين نقلوا أن عبيد الله بن علي عَلیه السَلام لم يشترك في معركة الطف، وإنما قُتِل في وقعة المذار كما تقدم.

الثانية: إن ما نقله الطبري في هذا الرأي هو رواية عن هشام بن محمد الكلبي، وتعارضها رواية أُخرى نقلها عن محمد بن عمر تؤكد مقتله في المذار كما أسلفنا، وما ينقله ابن الأثير في الكامل عن تاريخ القرون الثلاثة الأُولى إنما أخذه عن تاريخ الطبري.

الثالثة: إن ما ذهب إليه الشيخ المفيد في الإرشاد - ومَن تبعه - ردّه بعض العلماء، كالشيخ الطوسي (ت460ه-)، وابن إدريس الحلي (598ه-9 واعتبروه خطأ محضاً.

قال ابن إدريس في السرائر: «وقد ذهب أيضاً شيخنا المفيد في كتاب الإرشاد، إلى أن عبيد الله بن النهشلية، قُتِل بكربلاء مع أخيه الحسين عَلیه السَلام ، وهذا خطأ محض، بلا مراء؛ لأن عبيد الله بن النهشلية، كان في جيش مصعب بن الزبير، ومن جملة أصحابه،

ص: 324


1- المفيد، الإرشاد: ج1، ص354.
2- اُنظر: الإربلي، ابن أبي الفتح، كشف الغمة: ج2، ص67.
3- اُنظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج3، ص397.

قتله أصحاب المختار الثقفي بالمذار، وقبره هناك ظاهر، الخبر بذلك متواتر، وقد ذكره شيخنا أبو جعفر [الطوسي]، في الحائريات، لمَّا سأله السائل عما ذكره المفيد في الإرشاد، فأجاب بأن عبيد الله بن النهشلية قتله أصحاب المختار بالمذار، وقبره هناك معروف، عند أهل تلك البلاد»(1)، مضافاً إلى أنه ورد في كتاب الإرشاد أيضاً تحت عنوان: (فصل: أسماء مَن قُتِل مع الحسين بن علي عَلیهِماالسَّلام من أهل بيته بطف كربلاء)، قال: «...وعبد الله، وأبو بكر ابنا أمير المؤمنين عَلیه السَلام ، أُمُّهما ليلى بنت مسعود الثقفية»(2).

الرابعة: وقوع الاختلاف الكبير بين أصحاب السير ممَّن ذكروا شهداء الطف، فمنهم مَن يُسمّيه عبد الله ومنهم يُسمّيه عبيد الله، والظاهر أن سبب هذا الاختلاف وكذلك ذهاب الشيخ المفيد وغيره إلى أن عبيد الله قُتِل في كربلاء، هو التشابه في الاسم بينه وبين شقيقه أبي بكر الذي اسمه عبد الله، كما يستضح لاحقاً.

فالمتحصل: أنّ عبيد الله بن علي لم يكن من شهداء الطف، وإنما قُتِل سنة سبع وستين في منطقة المذار وقبره هناك.

هل اسمه عبيد الله أم عبد الله؟

من المعروف عند أكثر المؤرخين وعلماء السير والأنساب أن ليلى بنت مسعود النهشلية التي تزوَّجها الإمام عَلیه السَلام لم تنجب منه سوى غلامين اثنين فقط، وهما أبو بكر وعبيد الله، وهذا ما يصرّح به كثير من المؤرخين المتقدمين، كالبلاذري(3)،

ص: 325


1- الحلي، ابن إدريس، السرائر: ج1، ص656.
2- المفيد، الإرشاد: ج2، ص125.
3- اُنظر: البلاذري، أنساب الأشراف: ص191-192، ولكن ورد فيه: (أبو بكرة) بدلاً عن أبي بكر.

واليعقوبي(1)، وابن أبي الدنيا(2)، والطبري(3)، وغيرهم.

ولكن حدث اضطراب واختلاف في اسميهما وكنيتيهما عند بعض المؤرخين المتقدمين والمتأخرين، خصوصاً الذين تعرضوا إلى ذكر شهداء كربلاء، فذكر الشيخ المفيد أن ولدَي ليلى هما: محمد الأصغر المكنى أبا بكر وعبيد الله(4)، بينما ذكر في موضع آخر أنّ ابنَي أمير المؤمنين عَلیه السَلام من ليلى هما: عبد الله وأبو بكر، كما تقدم(5)، وذهب ابن شهرآشوب (ت588ه-) في المناقب إلى أنّ ولدَي أمير المؤمنين عَلیه السَلام هما أبو بكر، وعبد الله، وأُمّهما الهملاء بنت مسروق النهشلية(6)، وما ذكره من أنّ اسم أُمهما الهملاء بنت مسروق رأي شاذ لم نجد مَن ذكره من المؤرخين، وكذلك ذكر ابن أبي الحديد أنّهما أبو بكر وعبد الله(7)، بينما يرى ابن الصباغ المالكي (ت855ه-) أنّهما محمد الأصغر المكنى أبا بكر وعبد الله الشهيدان أيضاً مع أخيهما الحسين بكربلاء، أُمهما ليلى بنت مسعود الدارمية(8)، وغير هؤلاء ممَّن ذكر اختلافاً في اسميهما أو كنيتيهما أو مكان مقتلهما، ولعلّ هذا الاختلاف والاضطراب يعود إلى سببين يمكن التوصُّل إليهما من خلال البحث والتحليل، وهما:

السبب الأول: أنّ الأخ الأصغر قد غلبت كنيته أبو بكر على اسمه وصار يُعرَف

ص: 326


1- اُنظر: اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي: ج2، ص213.
2- اُنظر: ابن أبي الدنيا، مقتل أمير المؤمنين علیه السَّلام ، تحقيق: السيد عبد العزيز الطباطبائي، مطبوع في مجلة تراثنا: العدد12، ص130
3- اُنظر: الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص118.
4- اُنظر: المفيد، الإرشاد: ج1، ص354.
5- اُنظر: المصدر السابق: ج2، ص125.
6- اُنظر: ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص89.
7- اُنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج9، ص242.
8- اُنظر: ابن الصباغ، الفصول المهمة في معرفة الأئمة: ج1، ص644-645

بها ولم يُذكَر اسمه إلّا نادراً، وما يؤيد هذا أنّ أبا الفرج الأصفهاني، قال: «وأبو بكر بن علي بن أبي طالب عَلیه السَلام لم يُعرَف اسمه، وأُمه ليلى بنت مسعود بن خالد»(1). وكذلك فإنّ أكثر المؤرخين المتقدمين ذكروه بكنيته فقط، ولم يُشيروا إلى اسمه، إلّا أن اسمه هو عبد الله كما ذهب إلى ذلك عدد من المؤرخين، أمثال ابن أعثم الكوفي (ت 314ه-) الذي ذكر في الفتوح أنّ أبا بكر اسمه عبد الله(2)، والخوارزمي (ت568ه-) (3)، وقال علي بن محمد العلوي من أعلام القرن الخامس في كتابه المُجدي في أنساب الطالبيين: « قال الموضح: وأبو بكر واسمه عبد الله، قُتل بالطف، وأبو علي عبيد الله أُمهما النهشلية»(4).

وأما ما ذهب إليه المفيد وابن الصباغ المالكي وغيرهما من أنّ أبا بكر اسمه محمد الأصغر فهو، ليس صحيحاً؛ لما تقدم، مضافاً إلى أن محمداً الأصغر بن الإمام أمير المؤمنين عَلیه السَلام هو ابن أسماء بنت عميس كما نقل ذلك الطبري عن هشام بن محمد(5)، فيما ذكر البلاذري أنّ محمداً الأصغر أُمّه ورقاء أُم ولد(6).

هذا وقد ذهب أكثر المؤرخين إلى أن أبا بكر قد استُشهد مع أخيه الحسين عَلیه السَلام في كربلاء، وهو الذي يقول في أُرجوزته:

شيخي علي ذو الفخار الأطول***م-ن هاشم الخير الكريم المفضل

ص: 327


1- الأصفهانى، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين: ص56.
2- اُنظر: الكوفي، أحمد بن أعثم، كتاب الفتوح: ج5، ص112.
3- اُنظر: شمس الدين، محمد مهدي، أنصار الحسين علیه السَّلام : ص135، نقلاً عن مقتل الحسين للموفق الخوارزمي
4- العلوي، على بن محمد، المجدي في أنساب الطالبين: ص16.
5- اُنظر: الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص118.
6- اُنظر: البلاذري، أنساب الأشراف: ص192.

ه-ذا حسين اب-ن النب-ي المرسل***عنه ن-ح-امي ب-الحسام المص-قل

ت-ف-ديه ن-فس-ي م-ن أخ مبجَّل***يا ربّ فامنحني ثواب المنزل(1)

إلّا أنّ بعض العلماء والمؤرخين شكَّك في استشهاده، قال الطبري: «وقد شُكَّ في قتله»(2). وقال أبو الفرج الأصفهاني: « وذكر المدائني أنه وُجِد في ساقية مقتولاً، لا يُدرَى مَن قتله»(3).

السبب الثاني: هو أنّ الأخ الأكبر اسمه عبيد الله - كما أشرنا إلى ذلك سابقاً - وهو رأي مشهور المؤرخين؛ فلوجود التقارب بين اسميهما: عبيد الله وعبد الله، يحصل في كثير من الأحيان الخلط والاشتباه بينهما، فيجعل اسم أحدهما للآخر، كما أنه كثيراً ما يحصل تصحيف بين كلمة عبد الله وعبيد الله في الكتابة، خصوصاً أن التنقيط على الحروف قد وُضِع في وقت متأخّر.

فلهذين السببين أو غيرهما حصل الخلط والاشتباه لدى بعض العلماء والمؤرخين، وادَّعوا تارةً أنّ عبيد الله استُشهد في كربلاء، وأُخرى أن أبا بكر هو عبيد الله، وثالثة أنّ عبد الله هو أخو أبي بكر، وهكذا.

الثاني: عمر بن علي بن أبي طالب عَلیه السَلام
اشارة

وممَّن ادُّعي مقتله في واقعة المذار من أبناء أمير المؤمنين عَلیه السَلام هو عمر بن علي عَلیه السَلام ، مما يحتمل أن يكون هو صاحب المرقد الموجود في تلك المنطقة، وادَّعى ذلك بعض

ص: 328


1- الكوفي، أحمد بن أعثم، كتاب الفتوح: ج5، ص112.
2- الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص358.
3- الأصفهانى، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين: ص57.

المؤرخين والعلماء المتقدمين، ومنهم المؤرخ خليفة بن خياط (ت240ه-) في تاريخه عند ذكره حوادث سنة سبع وستين، قال: «وفيها وقعة المذار، وفيها قُتل عمر بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن الأشعث بن قيس، وقُتل المختار بن أبي عبيد»(1)، وكذلك ذكر مقتله مع مصعب المؤرخ الدينوري (282ه-) في الأخبار الطوال، وساق قصة شبيهة بتلك القصة التي ذكرها ابن سعد في الطبقات بالنسبة إلى عبيد الله بن علي عَلیه السَلام ، حيث ذكر الدينوري أن عمر بن علي عَلیه السَلام قدم من الحجاز على المختار، فقال له المختار: «هل معك كتاب محمد بن الحنفية؟ فقال عمر: لا، ما معي كتابه. فقال له: انطلق حيث شئت، فلا خير لك عندي. فخرج من عنده، وسار إلى مصعب، فاستقبله في بعض الطريق، فوصله بمائة ألف درهم، وأقبل مع مصعب حتى حضر الوقعة، فقُتل فيمَن قُتل من الناس، وانهزم المختار حتى دخل الكوفة، وتبعه مصعب»(2).

وممَّن أشار إلى مقتله سنة سبع وستين أيضاً ابن حبان (ت354ه-) في كتابه الثقات(3).

وممَّا قد يؤيد هذا الافتراض هو ما ادّعاه الخوارزمي من أنّ عمر بن علي بن أبي طالب عَلیه السَلام أُمُّه ليلى بنت مسعود(4).

ولتحقيق الحال ومعرفة صحة هذه الدعوى من عدمها، لا بد من البحث في أربعة احتمالات متوقعة لشخصية عمر بن علي عَلیه السَلام المدَّعى مقتله في المذار سنة سبع وستين:

الاحتمال الأول: أن يكون المقتول هو عمر الأكبر الملقّب بالأطرف، كما يبدو

ص: 329


1- العصفري، خليفة بن خياط، تاريخ خليفة بن خياط: ص203.
2- اُنظر: الدينوري، الأخبار الطوال: ص306-308.
3- اُنظر: ابن حبان، الثقات: ج5، ص146.
4- الخوارزمي، مقتل الحسين علیه السَّلام : ج2، ص28-29.

من كلام ابن حبان، بل وصرّح الذهبي في موضع من كتابه تاريخ الإسلام بأن عمر الأكبر هو المقتول سنة سبع وستين(1).

وعلى كل حال، فإن عمر الأكبر من الشخصيات المعروفة في التاريخ، قال البلاذري: «وكان له عقل ونُبل وكان يشبه أباه فيما يُقال. ووُلد له محمد وأُم موسى من أسماء بنت عقيل»(2)، وُلِد في بداية خلافة عمر بن الخطاب(3)، وكان من رواة الحديث، رواه عن أبيه ورواه عنه ولده، فترجم له في كتب الرجال ووصف بأنه من ثقات التابعين(4)، ذكره ابن سعد في الطبقة الأُولى من أهل المدينة، وأُمه الصهباء، وهي أُمّ حبيب بنت ربيعة، بن بجير بن العبد، بن علقمة بن الحارث، بن عتبة بن سعد، بن زهير بن جشم، بن بكر بن حبيب، بن عمرو بن غنم، بن تغلب بن وائل، وكانت سبيَّة أصابها خالد بن الوليد حيث أغار على بني تغلب بناحية عين التمر، فولد عمر بن علي محمداً وأُم موسى وأُم حبيب وأُمهم أسماء بنت عقيل بن أبي طالب(5)، ولقّب بالأطرف بعد أن وُلِد للإمام زين العابدين عَلیه السَلام ولد وسمّي عمر، فلقّب بالأشرف؛ لجمعه الشرف من ولادة علي وفاطمة عَلیهِماالسَّلام ، وسُمّي عمّ أبيه بالأطرف؛ لأنه حاز الشرف من طرف أبيه فقط(6).

ولكن من البعيد جداً أن يكون عمر الأطرف هو مَن قُتل في المذار سنة سبع

ص: 330


1- اُنظر: الذهبي، تاريخ الإسلام: ج5، ص197.
2- اُنظر: البلاذري، أنساب الأشراف: ص192.
3- اُنظر: ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج45، ص304.
4- اُنظر: البخاري، التاريخ الكبير: ج6، ص179. الرازي، الجرح والتعديل: ج6، ص124. المزي، تهذيب الكمال: ج21، ص468-470
5- اُنظر: محمد بن سعد، الطبقات الكبرى: ج5، ص117.
6- اُنظر: ابن عنبة، عمدة الطالب: ص305.

وستين؛ وذلك لذهاب كثير من المؤرخين وأرباب السير من المتقدمين والمتأخرين إلى خلاف هذا الرأي، قال الطبري: «فعمّر عمر بن علي حتى بلغ خمساً وثمانين سنة، فحاز نصف ميراث علي عَلیه السَلام ، ومات بينبع»(1)، ومعنى أنه حاز نصف ميراث علي عَلیه السَلام أنه كان آخر أبناء علي وفاةً، وقال في المُجدي: «ووجدت في بعض الكتب أن عمر شهد حرب المصعب بن الزبير وكان من أصحابه، وأنه قُتل وقبره بمسكن، وهذه رواية باطلة بعيدة عن الصواب»(2).

ومما يؤكّد عدم مقتله سنة سبع وستين هو بقاؤه حيَّاً إلى زمن الوليد بن عبد الملك الذي تولَّى الخلافة من سنة سبع وثمانين إلى سنة ست وتسعين(3)، قال ابن حجر: «عمر بن علي بن أبي طالب الهاشمي ثقة من الثالثة، مات في زمن الوليد، وقيل: قبل ذلك»(4).

ويؤيد ذلك أنّه ذهب إلى الوليد بن عبد الملك يسأله أن يوليه صدقة أبيه علي عَلیه السَلام ، وكان عليها الحسن بن الحسن بن علي عَلیهِماالسَّلام ، فلم يُعطه، وقال: لا أُدخل على بني فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غيرهم. فانصرف غضبان، ولم يقبل منه صلة(5)، وقيل: إنّه خاصم علي بن الحسين عَلیه السَلام إلى عبد الملك في صدقات النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم وأمير المؤمنين عَلیه السَلام ، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا ابن المُصّدِّق وهذا ابن ابن، فأنا أوْلى بها منه. فتمثَّل عبد الملك بقول أبى الحقيق:

لا تجعل الباطل حقاً ولا***تلط دون الحق بالباطل

ص: 331


1- اُنظر: الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص118. سبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص: ص88
2- العلوي، على بن محمد، المُجدي في أنساب الطالبين: ص16
3- اُنظر: السيوطي، تاريخ الخلفاء: ج1، ص224-226.
4- ابن حجر، تقريب التهذيب: ج1، ص724.
5- اُنظر: ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج45، ص303-306. الذهبي، تاريخ الإسلام: ج6، ص164

قم يا علي بن الحسين، فقد وليتكها. فقاما، فلمّا خرجا تناوله عمر وآذاه، فسكت عنه ولم يرد عليه شيئاً، فلمّا كان بعد ذلك دخل محمد بن عمر على علي بن الحسين عَلیه السَلام فسلّم عليه وأكبّ عليه يُقبِّله، فقال علي: يا بن عم، لا تمنعني قطيعة أبيك أن أصل رحمك؛ فقد زوَّجتك ابنتي خديجة ابنة علي(1).

كما ينص ابن عنبة (ت828ه-) على أنّ عمر الأكبر هذا تخلَّف عن أخيه الحسين عَلیه السَلام ، ولم يسر معه إلى الكوفة، وكان قد دعاه إلى الخروج معه فلم يخرج، ويقال: إنه لمَّا بلغه قتل أخيه الحسين عَلیه السَلام خرج في معصفرات(2) له وجلس بفناء داره وقال: أنا الغلام الحازم، ولو أخرج معهم لذهبت في المعركة وقُتِلتُ. ولا يصح رواية مَن روى أن عمر حضر كربلاء، وكان أول مَن بايع عبد الله بن الزبير ثم بايع بعده الحجَّاج، وأراد الحجَّاج إدخاله مع الحسن بن الحسن في توليته صدقات أمير المؤمنين عَلیه السَلام فلم يتيسَّر له ذلك، ومات عمر بينبع وهو ابن سبع وسبعين سنة، وقيل: خمس وسبعين، ووُلْدُه جماعة كثيرة متفرقون في عدَّة بلاد. أعقب من رجل واحد، وهو ابنه محمد(3).

وكيف كان، فلا يمكن أن يكون المقتول من ولد علي عَلیه السَلام في المذار سنة سبع وستين هو عمر الأكبر؛ لما تقدم من الشواهد والدلائل التاريخية؛ ولذا قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: «ويقال: قُتِل عمر مع مصعب بن الزبير، ولا يصح، بل ذاك أخوه عبيد الله بن علي»(4).

ص: 332


1- اُنظر: ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص308- 309.
2- المعصفرات: الثياب المصبوغة بالعصفر (بضم العين)، وهو نوع من النبات تصبغ به الثياب. اُنظر: الطريحي، مجمع البحرين: ج3، ص193
3- اُنظر: ابن عنبة، عمدة الطالب: ص362
4- الذهبي، سير أعلام النبلاء: ج4، ص134.

الاحتمال الثاني: أن يكون المقتول بالمذار سنة سبع وستين هو عمر الأصغر من أبناء أمير المؤمنين عَلیه السَلام . ويُستفاد من تصريحهم بعمر الأكبر بأن هناك عمر آخر يلقّب بالأصغر، وهذا ما أفاده بعض المؤرخين كالبلاذري، حيث قال: «وعمر الأصغر، وأُمه أُم سعيد هذه. ويقال: إن أُمه أُم ولد»(1)، والكاتب البغدادي (ت325ه-) قال في معرض حديثه عن أولاد أمير المؤمنين عَلیه السَلام من غير فاطمة عَلیهاالسَلام : «الأصاغر عمر الأصغر»(2).

وعمر الأصغر على فرض وجوده لا يمكن القول بأنه مَن قُتِل في واقعة المذار؛ لأننا لم نجد مَن صرّح بذلك، وكل مَن ذكره ادّعى أنه من شهداء الطف، كما عدّه منهم ابن شهرآشوب(3)، وقال النمازي في المستدركات: «يمكن أن يقال: إن له مصداقين: أحدهما عمر الأكبر، والثاني عمر الأصغر، كما يُستفاد ممَّا يأتي، ومن كتاب تذكرة الخواص: النسل من وُلْد مولانا أمير المؤمنين عَلیه السَلام لخمسة: الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية، وعمر الأكبر، والعباس. وأما عمر الأكبر فعاش خمساً وثمانين سنة، حتى حاز نصف ميراث أمير المؤمنين عَلیه السَلام . وروى الحديث...

أقول: يُستفاد من تصريحه بعمر الأكبر وأنه عاش خمساً وثمانين. أنه لم يكن من شهداء الطف، وأن له عَلیه السَلام عمر الأصغر وهو من الشهداء»(4). وعدّ الخوارزمي عمر بن علي عَلیه السَلام من شهداء كربلاء(5).

ص: 333


1- البلاذري، أنساب الأشراف: ص193.
2- الكاتب البغدادي، تاريخ الأئمة (المجموعة): ص35.
3- اُنظر: ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص259.
4- الشاهرودي، علي النمازي، مستدركات علم رجال الحديث: ج6، ص101-102
5- اُنظر: شمس الدين، محمد مهدي، أنصار الحسين علیه السَّلام : ص136.

وذكر السيد محسن الأمين أنّ عمر كان من شهداء كربلاء، قال: «ثمَّ برز من بعده أخوه عمر بن علي وهو يقول:

أضربكم ولا أرى فيكم زجر***ذاك الشقي بالنبي قد كفر

يا زجر يا زجر تداني من عمر***لعلك اليوم تبوء من سقر

شرّ مكان في ح-ري-ق وس--عر***لأنك الجاحد يا شر البشر

ثم حمل على زجر قاتل أخيه، فقتله واستقبل القوم وجعل يضرب بسيفه ضرباً منكراً وهو يقول:

خلوا عداة الله خلوا عن عمر***خلوا الليث الهصور المكفهر

يضرب--ك-م ب-سي-فه ولايفر***وليس فيها كالجبان المنحجر

فلم يزل يُقاتل حتى قتل»(1).

ولكن السيد الخوئي ينفي أن يكون من بين شهداء الطف مَن اسمه عمر بن علي، فبعد أن نقل عن ابن شهرآشوب قصة مخاصمة عمر بن علي عَلیه السَلام لعلي بن الحسين عَلیهِماالسَّلام في الصدقات، عند الوليد بن عبد الملك، قال: «أقول: مقتضى هذا الكلام، أن عمر بن علي كان باقياً إلى زمان الوليد بن عبد الملك، فكيف يمكن أن يكون من شهداء الطف؟! واحتمال التعدُّد مفقود؛ إذ الحاصون لأولاد أمير المؤمنين عَلیه السَلام ، لم يذكروا إلّا واحداً مسمَّى بعمر، وهذا هو الصحيح»، ثم أضاف أيضاً: «ويؤكد ما ذكرناه أنه لم يذكر في المُستَشهَدين في واقعة الطف عمر بن علي في شيء من الكتب المعتمد عليها»(2).

ص: 334


1- الأمين، محسن، لواعج الأشجان: ص177.
2- الخوئي، معجم رجال الحديث: ج14، ص51-52.

هذا وقد استبعد صاحب المُجدي القول بأن عمر الأصغر قد شهد حرب مصعب بن الزبير، فقال: «وقال لي بعض أصحابنا: إنما هذا عمر بن علي الأصغر، ولا أعلم لهذه الرواية صحة»(1).

فثبت أنّ المقتول مع مصعب في المذار ليس هو عمر الأصغر أيضاً.

الاحتمال الثالث: هو أن يوجد اثنان من أبناء أمير المؤمنين عَلیه السَلام قد اشتركا في حرب ابن الزبير وقُتلا في المذار، قال جعفر النقدي (ت1370ه-) في حديثه عن عمر بن علي عَلیه السَلام : «وذهب بعض المؤرخين إلى أنه استُشهد في محاربة مصعب بن الزبير مع المختار الثقفي، وكان مع مصعب هو وأخوه عبيد الله فاستُشهدا جميعاً» (2)، وهذا الرأي كما ترى مخالف لما هو المشهور من أنّ الذي قُتل مع مصعب في محاربة المختار هو شخص واحد من وُلْد أمير المؤمنين عَلیه السَلام وليس اثنين، فهذا الاحتمال بعيد جداً، ولا يستند إلى دليل بيّن.

الاحتمال الرابع: أن يكون الذي قُتل مع مصعب في معركة المذار سنة سبع وستين هو عبيد الله بن علي عَلیه السَلام ، ولكنه يُسمّى كذلك بعمر، وبهذا يمكن توجيه بعض الأقوال التي ذهبت إلى أنّ الذي قُتل في المذار اسمه عمر بن علي عَلیه السَلام ، وقد احتمل الذهبي أن يكون المقتول في سنة سبع وستين هو سميّ عمر، وليس هو عمر الأكبر، قال: «وقيل: إنّ عمر بن علي قُتل مع مصعب بن الزبير أيام المختار، قلت: فلعله أخوه وسميّه، وإنما المعروف أن الذي قُتل مع مصعب عبيد الله بن علي»(3).

وقد يؤيد هذا الاحتمال أيضاً تُشابه قصة مجيء عمر بن على إلى العراق ومقتله

ص: 335


1- العلوي، علي بن محمد، المُجدي في أنساب الطالبين: ص16.
2- النقدي، جعفر، الأنوار العلوية: ص445.
3- الذهبي، تاريخ الإسلام: ج6، ص164-165.

التي ذكرها الدينوري، مع قصة عبيد الله بن علي التي أوردها ابن سعد في الطبقات، إلّا أنّ هذا يبقى مجرد احتمال، لا تساعد عليه الأدلة، ولا يمكن التعويل عليه.

فبناءً على بطلان هذه الاحتمالات الأربعة في كون صاحب المذار هو عمر بن علي عَلیه السَلام ؛ يثبت أن الصحيح هو أنه عبيد الله بن علي عَلیه السَلام ابن ليلى النهشلية الأكبر، أخو عبد الله المعروف بأبي بكر الشهيد بكربلاء، وما تذكره بعض المصادر من أن صاحب المذار هو عبد الله، أو أنّ الشهيد بكربلاء هو عبيد الله، سببه تقارب الاسمين وسهولة حصول التصحيف بينهما كما ذكرنا.

مدينة المذار

المدينة التي قُتل فيها عبيد الله بن علي عَلیه السَلام والتي أصبحت مكاناً لمرقده ومزاره تُدعى مدينة المذار. والمَذار: بفتح الميم، والذال المعجمة كسحاب اسم أعجمي، وقال الحموي: «ولها مخرج في العربية أن يكون اسم مكان من قولهم: ذره وهو يذره، ولا يقال: وذرته، أماتت العرب ماضيه، أي: دعه وهو يدعه، فميمه على هذا زائدة، ويجوز أن تكون الميم أصلية؛ فيكون من مذرت البيضة إذا فسدت، ومذرت نفسه، أي: خبثت وغثت»(1)، وقال محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحميري (ت900ه-) (2): «وسُمّيت بالمذار لفساد تربتها، والمذار: الفساد في الرائحة»(3).

ومدينة المذار من أهم مدن وقصبات ميسان، وكانت مدينة عامرة قبل مجيء

ص: 336


1- الحموي، معجم البلدان: ج5، ص88.
2- هو: محمد بن محمد بن عبد الله بن عبد المنعم بن عبد النور، أبو عبد الله الحميري، عالم بالبلدان والسير والأخبار، أندلسي، من أهل سبتة، له ( الروض المعطار في خبر الأقطار- خ ) مجلدان. اُنظر: الزركلي، خير الدين، الأعلام: ج7، ص53
3- الحميري، محمد بن عبد الله، الروض المعطار في خبر الأقطار: ص531.

الإسلام إلى هذه المنطقة التي كانت تحت حكم الامبراطورية الفارسية، فتحها المسلمون بالقوة بعد معارك خاضوها مع الحكَّام في ذلك الوقت، واكتسبت أهميتها التاريخية من عدة أُمور، منها: أنها وقعت فيها معركة مهمة سنة اثنتي عشرة هجرية بين المسلمين بقيادة خالد بن الوليد وبين الأعاجم، وانتصر فيها المسلمون وقُتل من الأعاجم ثلاثون ألفاً، وغرق كثير منهم في الأنهار والمياه، وتُسمى أيضاً معركة الثني وهو النهر(1)، ووقعت فيها أيضاً معركة المذار المهمة سنة سبع وستين بين مصعب والمختار كما ذكرنا، وكذلك كانت ساحة لمعارك وأحداث عديدة في التاريخ الإسلامي، كالمعارك التي خاضها الخوارج والعلويون والزنج وغيرهم.

وتقع المذار على أحد فروع نهر دجلة بين واسط والبصرة، وبينها وبين البصرة مقدار أربعة أيام(2)، وسمّاها اليعقوبي مدينة ميسان(3)، ووصفها الشريف الإدريسي (ت560ه-)(4) بأنها من المدن التي تقع بالقرب من مدينة الأبلة المعروفة، قال: «ويتصل بالأبلة المفتح والمذار، وهما مدينتان على مجاري الدجلة، والمفتح: مدينة صغيرة المقدار عامرة القطر حسنة البناء متحركة الأسواق، وليست من أُمهات البلاد، والداخل إليها والخارج منها كثير، ولها بساتين ومزارع ومتنزهات، ومنها إلى مدينة المذار مرحلة خفيفة.

ص: 337


1- اُنظر: الطبري، تاريخ الطبري: ج2، ص557-558. ابن كثير، البداية والنهاية: ج6، ص379 -380
2- اُنظر: الحموي، معجم البلدان: ج5، ص88.
3- اُنظر: اليعقوبي، البلدان: ص36.
4- وهو الشريف الإدريسي، محمد بن محمد، بن عبد الله بن إدريس، بن يحيى بن علي، بن حمود بن ميمون، بن أحمد بن علي، بن عبيد الله، بن عمر بن إدريس، بن عبد الله بن الحسن، بن الحسن بن علي بن أبي طالب، مؤلف كتاب (رجار) وهو نزهة المشتاق في اختراق الآفاق... نشأ محمد هذا في أصحاب رجار الفرنجي صاحب صقلية، وكان أديباً ظريفاً شاعراً مغري بعلم الجغرافيا. اُنظر: الصفدي، الوافي بالوفيات: ج1، ص138

والمذار مدينة صغيرة تُشبه مدينة المفتح في مقدارها وتجانسها في مبانيها وآثارها، وبها من الأسواق والمصانع ما بالمفتح وأشف من ذلك، وأهلها متنافسون فيما بينهم، ولهم اهتمام بالأُمور وصيانة لما بين أيديهم من أموالهم وشح بيّن، ولها مزارع كثيرة وعمارات جليلة وغلاَّت رابحة»(1).

وقد ظهر من هذه المدينة عدة شخصيات معروفة، عُرف كل واحد منهم بالمذاري، قال السمعاني: «والمشهور بهذه النسبة: الإخوة الثلاثة: أبو الحسن علي بن محمد بن الحسين بن المذاري، من هذا الموضع، سكن والده بغداد وولد له بها الأولاد، وأبو الحسن المذاري هذا كانت له ثروة ونعمة، سمع أبا الحسن علي بن أبي طالب المكي وأبا يعلي محمد بن الحسين بن الفرّاء، وأبا الحسين محمد بن أحمد بن الآبنوسي وغيرهم... وأخوه أبو المعالي أحمد بن محمد بن الحسين بن المذاري... وأخوهما أبو السعود عبد الرحمن بن محمد بن الحسين بن المذاري... ومن القدماء أبو جعفر محمد بن أحمد بن زيد المذاري... ومن القدماء جناب بن الخشخاش المذاري، وَليَ القضاء بميسان والمذار»(2).

ومن أصحاب الأئمة علیهم السلام مَن عُرف بهذه النسبة: إبراهيم بن محمد بن معروف أبو إسحاق المذاري، قال النجاشي: شيخ من أصحابنا، ثقة، روى عن أبي علي محمد بن علي بن همام ومَن كان في طبقته، له كتاب المزار(3). وعبد الله بن العلاء المذاري أبو محمد، قال عنه النجاشي: ثقة، من وجوه أصحابنا، يقال: إن له كتاب الوصايا، ويقال: إنه لمحمد بن عيسى بن عبيد، وهو رواه عنه، وله كتاب النوادر كبير(4).

ص: 338


1- الشريف الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق: ج1، ص399.
2- السمعاني، الأنساب: ج5، ص240.
3- اُنظر: النجاشي، رجال النجاشي: ص19.
4- اُنظر: المصدر السابق: ص219.

وهكذا ظلت مدينة المذار عامرة قائمة لمدة قرون عديدة إلى ما بعد سقوط الدولة العباسية، ولكنها في الفترات اللاحقة يبدو أنها أصابها الخراب وأخذت بالاندراس وهجرها أهلها؛ ولعل السبب في ذلك يعود إلى الكوارث الطبيعية من الفيضانات أو القحط أو غير ذلك، وفي الوقت الحاضر ظهرت بالقرب من هذه المنطقة مدن أُخرى كمدينة العُزير، وشطرة العمارة(قلعة صالح).

القسم الثاني: مرقد عبيد الله

لقد ثبت من خلال الأبحاث المتقدمة أنّ الذي قُتل في معركة المذار هو عبيد الله بن علي عَلیه السَلام ، ودُفن في تلك المنطقة، ونظراً لتواجد وانتشار أتباع أهل البيت علیهم السلام في تلك البلاد وحبهم وولائهم لأهل البيت علیهم السلام ؛ فمن الطبيعي أن يهتمّ به سكان تلك المنطقة، ويعمدون إلى إكرامه وتجليله؛ لكونه ابن أمير المؤمنين عَلیه السَلام ، ومن أوضح مظاهر إكرامه واحترامه هو تشييد قبره وبنائه على أفضل ما يكون، ونحن لا نمتلك أدلة تاريخية على الوقت الذي شُيّد فيه قبر عبيد الله، والذي لا بد أن يكون أنه قد مرّ بمراحل متعددة من البناء والتوسعة، ولعل الدولة البويهية هي مَن ساهم في بنائه؛ لأنها اهتمّت ببناء وتجديد أضرحة الأئمة وأبنائهم في العراق، ولكن لم نعثر على شواهد تؤيد ذلك، ولعل أفضل ما نملكه هو ما صرّح به ياقوت الحموي في معجم البلدان حيث قال: «وبها مشهد عامر كبير جليل عظيم، قد أُنفِق على عمارته الأموال الجليلة، وعليه الوقوف، وتُساق إليه النذور، وهو قبر عبد الله بن علي بن أبي طالب»(1).

والذي يظهر من كلام الحموي - وهو من أعلام القرن السادس والسابع الهجري - أنه مشهد عامر وكبير وجليل وعظيم، وأنّ هذا المرقد قد مرّ على بنائه وتشييده زمن

ص: 339


1- الحموي، معجم البلدان: ج5، ص88.

طويل حتى أصبح بهذه الصفات التي يصفه بها.

مضافاً إلى أنه يحظى بمكانة عظيمة من خلال توافد الناس عليه وبذل الأوقاف له، وإعطاء النذور والهدايا، ومن الدلائل على أهمية هذا المرقد ومكانته هو ما يحويه من الأشياء الثمينة والنفيسة، والتي منها وجود مصحف بخط أمير المؤمنين عَلیه السَلام على ما ينقل ذلك النسابة ابن عنبة (ت828ه-)، قال: «وقد رأيت أنا مصحفاً بالمذار في مشهد عبيد الله بن علي بخط أمير المؤمنين عَلیه السَلام في مجلد واحد، في آخره بعد تمام كتابة القرآن المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم كتبه علي بن أبي طالب»(1).

ومن الطبيعي أن يتعرّض المرقد مع مرور الزمن إلى المتغيرات الطبيعية وغير الطبيعية، فيتعرض إلى الهدم والتخريب، خصوصاً بعد تعرّض مدينة المذار إلى الاندراس وخلوّ المنطقة من السكان إلّا القليل منهم، وينقل بعض الباحثين أن المرقد لحقه الاندراس بعد خراب مدينة المذار وظل متروكاً منذ عام 650ه- إلى منتصف القرن 18 الميلادي، حيث حضر جماعة من قبيلة عنزة البكرية العدنانية، أُطلق عليهم (الگوام) أي القيّمون، فقاموا بترميم وإعادة بناء المرقد بمساعدة أهل الخير وأصبحوا سدنته إلى اليوم(2).

يقع المرقد الآن في الموقع الذي كانت عليه مدينة المذار المندرسة في المقاطعة المُسمّاة الشط الشرقي التابعة إلى مدينة العُزير، وهو يقع على أحد فرعي نهر دجلة بين مدينة العُزير وقلعة صالح، ويبعد عن قضاء قلعة صالح بحدود 15كيلو متراً، وتُسمَّى

ص: 340


1- ابن عنبة، عمدة الطالب: ص21.
2- اُنظر: العامري، ثامر عبد الحسين، المراقد والمزارات في العراق: ص293.

المنطقة باسمه(1)، وهي منطقة زراعية، ويبعد المرقد عن الشارع الرئيس الذي يربط محافظة ميسان بالبصرة بحوالي عشرة كيلو مترات على أرض مرتفعة نسبياً، مساحة الصحن1450 متراً مربعاً، وعندما ندخل من الباب الرئيسي للصحن نشاهد على جانبيه أواوين عديدة تستخدم لراحة الزوّار، ثم بعد ذلك نتوجّه إلى المرقد الذي تبلغ مساحته 360 متراً مربعاً، ويكون الدخول من بابين من الخشب يوصلان إلى رواق كبير: طوله 21متراً، وعرضه 5 أمتار، ثم ندخل من باب كبير مقوس من الأعلى إلى غرفة المرقد، والتي مساحتها (7 × 7) متر، وتحتوي على أربعة أبواب كبيرة تصل جميعها إلى الرواق الخارجي المسقَّف، وهو مصلى للرجال والنساء.

وتعلو غرفة المرقد قبَّة كبيرة بارتفاع 21 متراً، زيّنت من الخارج بالقاشاني الكربلائي، وتحت القبَّة شبَّاك من خشب الصاج مساحته (3 ×5/2) متراً، داخله ضريح السيد عبيد الله بن الإمام علي عَلیه السَلام .

وتُحيط بجدار المرقد من الداخل كتابات من آي الذكر الحكيم، وهي مكتوبة على القاشاني وبشكل جميل، كما يوجد خارج الصحن بعض المحالّ التجارية والدكاكين لبعض الباعة.

وكان آخر تعمير لهذا المرقد في تاريخ 15/ 2/ 1999 على نفقة القيمين وأهل الخير(2).

ص: 341


1- اُنظر: المصدر السابق: ص293-294. العلامة، محمد حسين حرز الدين، مراقد المعارف: ج2، ص48. دائرة معارف تشيع (فارسي): ج1، ص104
2- اُنظر: العامري، ثامر عبد الحسين، المراقد والمزارات في العراق: ص293-294.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.