الاصلَاحُ الحُسَینیُّ

اشارة

الاصلَاحُ الحُسَینیُّ

تصدر عن مركز الدراسات التخصصية في النهضة الحسينية النجف الأشرف

قسم الشؤون الفكرية

العتبة الحسينية المقدسة

الإشراف العام

سماحة الشيخ علي الفتلاوي

ص: 1

اشارة

الاصلَاحُ الحُسَینیُّ

تصدر عن مركز الدراسات التخصصية في النهضة الحسينية النجف الأشرف

قسم الشؤون الفكرية

العتبة الحسينية المقدسة

الإشراف العام

سماحة الشيخ علي الفتلاوي

إدارة المركز

الشيخ باقر الساعدي

معاونية المركز

الشيخ عباس الحمداوي

رئيس التحرير

الشيخ قيصر التميمي

مدير التحرير

الشيخ صباح عباس الساعدي

هيئة التحرير

د. السيد حاتم البخاتي

الشيخ مشتاق الساعدي

الشيخ رافد عساف التميمي

تقويم النص

الشيخ عدنان الطائي

المقابلة والتصحيح

الشيخ سعد مراد

الشيخ رسول مسلم

الإخراج الفني

محسن الجابري

ص: 2

هوية المجلّة:

مجلّة علمية فصلية تخصصيّة تعنى بالبحوث المتخصّصة في مجال النهضة الحسينيّة، وكذا الدراسات العلمية في حقول المعرفة الدينيّة. تصدر عن مركز الدراسات التخصصيّة في النهضة الحسينيّة في النجف الأشرف، التابع لقسم الشؤون الفكريّة في العتبة الحسينيّة المقدّسة.

اهتمام المجلّة:

تهتمّ المجلّة بنشر معالم وآفاق الفكر الحسيني وتسليط الضوء على تاريخ النهضة الحسينيّة وتراثها، وكذا إبراز الجوانب الإنسانية والاجتماعية والفقهية والأدبية في تلك النهضة المباركة.

كما تهتمّ المجلّة أيضاً باستقطاب ونشر البحوث والدراسات الدينيّة التخصّصية ذات الجوانب التجديديّة والإبداعيّة، وذلك في كافّة الحقول والمجالات، فتمتدّ لتشمل الدراسات القرآنية والعقديّة والفكريّة والتاريخيّة والفقهيّة، وكذا ما يرتبط بالتراث الديني، من الأدعية والزيارات والنصوص الدينيّة بشكل عام.

فالمجلّة تتطلّع لاستيعاب جميع المجالات المهمّة والحسّاسة في أبواب العلوم والمعارف الدينيّة، شريطة أن تكون البحوث والدراسات متضمّنة لجوانب من الإبداع والحداثة والتجديد، مع حفظ روح الأصالة والتأسيس.

ص: 3

أهداف المجلّة:

1 - إعطاء رؤية واضحة حول معالم النهضة الحسينيّة من خلال البحوث والدراسات.

2 - نشر أهداف وثقافة النهضة الحسينيّة.

3 - إحياء التراث الديني والحسيني.

4 - فتح نافذة علميّة لتفعيل جانب الإبداع والتجديد والتأصيل الفكري في كافة حقول المعرفة الدينيّة.

5 - الانفتاح على الواقع العلمي والفكري لدى العلماء والأساتذة والمفكرين.

6- استثمار الأقلام الرائدة، وتطوير الطاقات العلمية الواعدة، واستقطاب البحوث والدراسات والمقالات العلميّة القيّمة لنشرها تعميماً للفائدة.

7 - فسح المجال أمام الباحثين والمفكرين لنشر بحوثهم ودراساتهم، لتكون المجلّة رافداً من روافد تزكية العلم والمعرفة.

8 - التصدّي للإجابة عن الشبهات والإشكاليات والقراءات غير الموزونة حول الدين بصورة عامّة والنهضة الحسينيّة بصورة خاصّة.

ص: 4

ضوابط النشر

تدعو المجلة العلماء والأساتذة والباحثين وكل من لديه اهتمام في مجال الكتابة والتحقيق إلى رفدها بنتاجاتهم القيّمة، على أمل ملاحظة الأُمور التالية:

أن تكون البحوث مرتبطة باختصاص المجلّة وأركانها.

ألاّ تكون منشورة أو بصدد النشر في كتاب أو مجلّة.

أن تكون ضمن المناهج العلمية المتبعة.

أن تكون بحوثاً مبتكرة وبلغة معاصرة.

أن يكون البحث على قرص ليزري فيما لو كان منضداً.

حقوق النشر محفوظة.

الأفكار المطروحة لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلّة.

لا تعاد البحوث لأصحابها نشرت أم لم تنشر.

يخضع ترتيب البحوث لاعتبارات فنية.

إجراء التعديلات والتلخيصات اللازمة من صلاحيات المجلة.

للمجلة حق إعادة نشر البحث أو المقال في كتاب أو ضمن كتاب منفصل، مع الحفاظ على نصه الأصلي.

كل 250 كلمة تحسب صفحة واحدة.

المجلة تتبع نظام المكافآت لأصحاب البحوث.

تعتبر الأولويّة في المجلّة للمقالات والبحوث الحسينية.

المجلة غير ملزمة بنشر ما يقل عن 15 صفحة أو يزيد عن 30 صفحة.

للمجلة فرع في مدينة قم المقدسة.

* مراكز النشر:

النجف الأشرف/المعرض الدائم للروضة الحيدرية.

كربلاء المقدسة/ المعرض الدائم في العتبة الحسينية المقدسة.

قم المقدسة/ صفائية/ سوق الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف / مكتبة فدك.

قم المقدسة/ سوق كذرخان/ مكتبة الهاشمي.

ص: 5

ص: 6

المحتويات

* مقال التحرير

الإصلاح في قراءة الموروث الحسيني (قصة الطيور والصبية اليهودية)

الشيخ قيصر التميمي11

* دراسات في آفاق الفكر الحسيني

رجعة الإمام الحسين علیه السلام بعد دولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف

سماحة آية الله الشيخ محمد السند31

منهج النقل للرواية العاشورائية

الشيخ مشتاق الساعدي49

العقل ودوره في صيانة النهضة الحسينية وتكريس قابلية التكرار والمحاكاة

محمد منصور نجاد/ ترجمة: الشيخ حبيب عبد الواحد الساعدي69

نصوص البكاء قوة في السند وصراحة في المتن

القسم الأول/ لؤي المنصوري97

* دراسات في تاريخ وتراث النهضة الحسينية

نشوء المنبر الحسيني

الشيخ فيصل الكاظمي119

دراسة نقدية لكتب المقاتل عند الشيعة

الشيخ علي الدوّاني/ ترجمة: الشيخ محمد الحلفي135

ص: 7

* دراسات في فقه النهضة الحسينية

فقه الإعلام (المنبر الحسيني أُنموذجا)

سماحة السيد محمود المقدس الغريفي167

وجوب زيارة الإمام الحسين علیه السلام

القسم الثاني/ الشيخ رافد عسّاف التميمي205

* دراسات دينية

بيعة أمير المؤمنين علي علیه السلام لأبي بكر والنص على الإمامة إشكالية النظرية أم الممارسة؟

د. السيد حاتم البخاتي241

الثورة على عثمان وموقف علي علیه السلام

د. الشيخ حكمت الرحمة271

الوسوسة وكثرة الشك، الحكم والأسباب وطرق العلاج

الشيخ منتظر الإمارة399

ص: 8

مقال التحرير

اشارة

*الإصلاح في قراءة الموروث الحسيني (قصة الطيور والصبية اليهودية)

ص: 9

ص: 10

الإصلاح في قراءة الموروث الحسيني(قصة الطيور والصبيّة اليهودية)الشيخ قيصر التميمي

اشارة

قد لا يتفاعل الفقيه أو الباحث في مجال الأصول والفكر والعقيدة مع بعض النصوص والمرويّات في التراث الديني، إما لضعف طرقها وأسانيدها، وإما من جهة الاعتقاد بعدم حجّيّة أخبار الآحاد الظنيّة في مجال العقيدة وأصول الدين، وإما لأسباب ودواعٍ أُخرى، قد ترتبط بالمضامين أو المعارضات أو مقاصد الشريعة أو نحو ذلك.

ولكن من الخطأ أن نُسقط ذلك التراث عن الاعتبار والفائدة في كافّة المجالات والميادين الأُخرى؛ إذ قد ينتفع كاتب التاريخ، والباحث في السيرة والتراجم والأنساب ونحو ذلك من زاويةٍ صوّرها له ذلك التراث - الضعيف سنداً - تتناغم وتنسجم تماماً مع صورة كبيرة، أو مشهد خطير، أو مقطوعة مهمّة ومفصليّة في سيرة شخص أو تاريخ أمّة أو بلد أو حكومة.

كما قد يتفاعل - أيضاً مع ذلك التراث - الراويةُ للقصص والحكايات، أو المؤلِّف في مجال التمثيل وكتابة (السيناريو والحوار)، وصياغة الأفلام السينمائية والأعمال الدراميّة، وكل ما يرتبط بالفن والإعلام بصورة عامّة.

ص: 11

وهذا ما نريد إدخاله بالحسبان في دائرة قراءة التراث الحسينيّ، حيث تعترضنا في هذا المجال جملة من النصوص والروايات، قد لا تكون مسندة، أو قد يكون طريقها في نظر البعض ضعيفاً، وقد يتحامل عليها ذلك البعض، ويشنّ هجوماً كاسحاً على مَن يتناقل تلك النصوص أو يتعاطاها أو يتعامل معها بجديّة وموضوعيّة، غافلاً عمّا تحمله من صور رائعة لا يستذوقها إلا أهل الفن والاختصاص في المجالات المشار إليها، حيث ينحص-ر فكر المحقّق والفقيه بالإثبات الواقعي لتفاصيل المروي بالكامل، بينما يجول ذهن الراوي للقصّة والحكاية في أفق واسع من الخيال المملوء بالتفاصيل التي ربما لا تكون واقعيّة؛ ليسلّط الضوء على فكرة واحدة واقعيّة محدّدة، يهتمّ بها وبإيصالها إلى الآخرين، ولا يهمّه الإخبار الواقعي عن تلك التفاصيل، كما قد لا يهمّه الإخبار بالمباشرة عن تلك الفكرة، وإنما يسرح خياله في تفاصيل ربما يؤلّف أكثرها من عنده؛ ليوصل تلك الفكرة المهمّة ولو بالمدلول الالتزامي أو الكنائي، فيقوم بتأليف قصّة مُفصّلة؛ ليتلقّى المقابل من خلالها فكرة العدالة أو الظلم، أو التضحّية أو الحريّة أو غير ذلك، وهو صادق ومُصيب فيما يُوصله للمتلقّي من حقيقة وفكرة ذات قيمة خُلقية أو اجتماعيّة أو دينيّة، في ضمن القصّة التي يؤلّفها ويرويها، وإن أمكن أن تكون خياليّة في كثير من جزئيّاتها وتفاصيلها، ولكنّها مع ذلك ترسم بمجموعها صورة متكاملة لإيصال تلك الحقيقة والفكرة القيميّة، وبصدق هذه الفكرة وواقعيّتها يكون الراوي صادقاً ومصيباً للحقيقة والواقع، الذي تضمّنته القصّة والرواية.

وتطبيقاً لهذه الرؤية والنظرة في تقييم النصّ الديني بآفاقه الواسعة، نحاول أن نتناول - ببيان موجز - واحدة من مرويات التراث الحسيني، وهي رواية منقطعة وغير مسندة ولا معتبرة - بحسب مقاييس أهل التحقيق في علمي الدراية والرجال -

ص: 12

ولكنها مع ذلك تتناغم كثيراً مع الأُسلوب القصصي للأطفال، وتحمل صوراً رائعة ومتناسقة لحكاية أحداث عاشوراء، وإيصالها للصغار بأسلوب القصّة الذي يتماشى مع سطحهم الذهني وآفاقهم الفكريّة. وهي تكشف - في فرض عدم واقعيّة بعض تفاصيلها - عن التقدّم والتطوّر القصصي فيما يرتبط بالنهضة الحسينيّة في الأزمنة الماضية، والذي نفتقده كثيراً في وقتنا الحاضر، بل قد يتهجّم عليه البعض، بدعاوى الكذب والخرافة والأسطورة وعدم الواقعيّة!!

وتدور حكايتنا بين الطيور والأطفال، لتروي لنا حقيقة ما جرى على الحسين بن علي علیه السلام في كربلاء، ببيان حزين يُلفت أنظار الصغار ويلامس ضمائرهم ونفوسهم البريئة.

وأذكر أنني قرأت هذه القصّة - التي سأرويها لكم - على مسامع أبنائي الصغار، وكانوا يستمعون بتركيز وإصغاء كاملين، وجاءني علي - ابن الأربعة ربيعاً- في ليلة لاحقة، يطلب منّي أن أحكي له قصّة تماثلها، فتمنّيت حينها أن يمتلئ تراثنا الحسيني والديني بمثل هذه القصص والحكايات التي ترمي بأسلوبها الجذّاب إلى إيصال الحقائق والوقائع الثابتة بالقطع واليقين.

أعود إلى روايتنا التي تدور أحداثها حول أفضع فاجعة شهدها التاريخ الإسلامي والإنساني بصورة عامّة، حيث ترسم لنا الصورة والهيئة التي بقي عليها الحسين علیه السلام بعد استشهاده، وأنه قد بقي (صريعاً ودمه على الأرض مسفوحاً).

وأبدأ بنقل القصّة الكاملة، ثم أنتقل إلى توصيف أسلوبها، وتحديد الحقائق التي تضمّنتها، واستهدفت إيصالها إلى الصغار وغيرهم.

قال المجلسي في البحار: «وروي من طريق أهل البيت علیهم السلام أنه لما استُشهد الحسين علیه السلام ، بقي في كربلاء صريعاً، ودمه على الأرض مسفوحاً، وإذا بطائر أبيض قد أتى وتمسّح بدمه،

ص: 13

وجاء والدم يقطر منه، فرأى طيوراً تحت الظلال، على الغصون والأشجار، وكل منهم يذكر الحَبّ والعلف والماء، فقال لهم ذلك الطير المتلطّخ بالدم: يا ويلكم! أتشتغلون بالملاهي وذكْر الدنيا والمناهي، والحسين في أرض كربلاء في هذا الحرّ، ملقًى على الرمضاء، ظامئ مذبوح ودمه مسفوح؟!

فعادت الطيور كل منهم قاصداً كربلاء، فرأوا سيدنا الحسين علیه السلام ملقًى في الأرض، جثّة بلا رأس ولا غسل ولا كفن، قد سفت عليه السوافي، وبدنه مرضوض قد هشّمته الخيل بحوافرها، زوّاره وحوش القفار، وندبته جنّ السهول والأوعار، قد أضاء التراب من أنواره وأزهر الجوّ من أزهاره.

فلمّا رأته الطيور؛ تصايحن وأعلنّ بالبكاء والثبور، وتواقعن على دمه يتمرّغن فيه، وطار كل واحد منهم إلى ناحية يُعلِم أهلها عن قتل أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، فمن القضاء والقدر أنّ طيراً من هذه الطيور قصد مدينة الرسول، وجاء يرفرف والدم يتقاطر من أجنحته، ودار حول قبر سيدنا رسول الله، يُعلن بالنداء: ألا قُتل الحسين بكربلاء! ألا ذُبح الحسين بكربلاء!

فاجتمعت الطيور عليه، وهم يبكون عليه وينوحون، فلمّا نظر أهل المدينة من الطيور ذلك النوح، وشاهدوا الدم يتقاطر من الطير لم يعلموا ما الخبر، حتى انقضت مدّة من الزمان، وجاء خبر مقتل الحسين؛ علموا أن ذلك الطير كان يخبر رسول الله بقتل ابن فاطمة البتول وقرّة عين الرسول.

وقد نُقل أنه في ذلك اليوم الذي جاء فيه الطير إلى المدينة، كان في المدينة رجل يهودي وله بنت عمياء زمناء طرشاء(1) مشلولة، والجُذام قد أحاط ببدنها، فجاء ذلك الطائر والدم يتقاطر منه، ووقع على شجرة يبكي طول ليلته، وكان اليهودي قد أخرج ابنته تلك المريضة

ص: 14


1- لعلّ المراد من الطرش هنا ضعف حاسّة السمع، لا فقدانها بالمرة، بقرينة ما سيأتي.

إلى خارج المدينة إلى بستان، وتركها في البستان الذي جاء الطير ووقع فيه، فمن القضاء والقدر أن تلك الليلة عرض لليهودي عارض، فدخل المدينة لقضاء حاجته، فلم يقدر أن يخرج تلك الليلة إلى البستان التي فيها ابنته المعلولة، والبنت لما نظرت أباها لم يأتها تلك الليلة، لم يأتها نوم لوحدتها؛ لأن أباها كان يحدّثها ويسلّيها حتى تنام.

فسمعت عند السحر بكاء الطير وحنينه، فبقيت تتقلّب على وجه الأرض إلى أن صارت تحت الشجرة التي عليها الطير، فصارت كلما حنّ ذلك الطير تجاوبه من قلب محزون، فبينما هي كذلك إذ وقع قطرة من الدم، فوقعت على عينها ففُتحت، ثم قطرة أُخرى على عينها الأُخرى فبرأت، ثم قطرة على يديها فعوفيت، ثم رجليها فبرأت، وعادت كلما قطرت قطرة من الدم تُلطّخ به جسدها، فعوفيت من جميع مرضها من بركات دم الحسين علیه السلام .

فلما أصبحت أقبل أبوها إلى البستان، فرأى بنتاً تدور، ولم يعلم أنها ابنته، فسألها: أنه كان لي في البستان ابنة عليلة، لم تقدر أن تتحرك؟ فقالت ابنته: والله، أنا ابنتك. فلما سمع كلامها وقع مغشياً عليه، فلما أفاق قام على قدميه، فأتت به إلى ذلك الطير، فرآه واكراً على الشجرة يئن من قلب حزينٍ محترقٍ؛ ممّا رأى ما فُعل بالحسين علیه السلام .

فقال له اليهودي: أقسمتُ عليك بالذي خلقك أيها الطير أن تكلّمني بقدرة الله تعالى. فنطق الطير مستعبراً، ثم قال: إني كنت واكراً على بعض الأشجار مع جملة الطيور عند الظهيرة، وإذا بطيرٍ ساقطٍ علينا، وهو يقول: أيها الطيور، تأكلون وتتنعّمون، والحسين في أرض كربلاء، في هذا الحرّ على الرمضاء، طريحاً ظامئاً، والنحر دامٍ، ورأسه مقطوع على الرمح مرفوع، ونساؤه سبايا، حفاة عرايا؟! فلما سمعن بذلك تطايرن إلى كربلاء، فرأيناه في ذلك الوادي طريحاً، الغسل من دمه، والكفن الرمل السافي عليه، فوقعنا كلّنا عليه ننوح ونتمرّغ بدمه الشريف، وكان كل منَّا طار إلى ناحية، فوقعت أنا في هذا المكان.

ص: 15

فلما سمع اليهودي ذلك تعجّب، وقال: لو لم يكن الحسين ذا قدر رفيع عند الله ما كان دمه شفاءً من كل داء. ثم أسلم اليهودي، وأسلمت البنت، وأسلم خمسمائة من قومه»(1).

هذه هي القصّة والحكاية الحسينيّة التي دارت أحداثها بين الطيور وكربلاء وشفاء الطفلة المريضة، وقد أوردناها بتمام تفاصيلها ومقاطعها الطويلة نسبياً؛ لأننا أحببنا أن يقرأها ويطّلع عليها ذوو الاختصاص في هذا المجال، ولأننا بحاجة أيضاً لتلك التفاصيل في دراستنا الموجزة لهذه القصّة.

ونحاول فيما يلي أن نتحدّث حول هذه القصّة من جهتين:

1- الحقائق الثابتة التي تضمّنتها القصّة.

2- الأُسلوب القصصي.

وقبل الشروع في بيان هاتين الجهتين، ينبغي الالتفات إلى أن حديثنا كلّه مبني على افتراض أن الرواية ليست حقيقيّة ولا واقعيّة في كثير من أحداثها وشخصيّاتها، وأنها إنما كُتبت وأُلفت بأُسلوب الحكاية والقصّة؛ من أجل إيصال بعض الحقائق المهمّة والأُمور الواقعيّة المرتبطة بمقتل سيد الشهداء، وما جرى عليه في كربلاء.

وأمّا مع فرض واقعيّة كل ما جاء في الرواية من تفاصيل - وهو فرض غير بعيد - حينئذٍ تكون الرواية مادّة فريدة من نوعها، وجديرة بالتفات كل مَن يهتمّ بكتابة وتأليف الحكايات والقصص الحسينيّة للأطفال والناشئين.

الجهة الأُولى: الحقائق الثابتة التي تضمّنتها القصّة

اشارة

أشرنا إلى أن القصّة والحكاية الهادفة غايتها وغرضها الأساس هو تسليط الضوء

ص: 16


1- المجلسي، بحار الأنوار: ج45، ص191 - 193؛ ينقلها عن منتخب الطريحي: ص107 - 109؛ وقد أوردها البحراني أيضاً في مدينة المعاجز: ج4، ص72

على مجموعة من الحقائق الفكرية والقيميّة، التي لها دورها وتأثيرها المهم في حياة الطبقة المخاطبة والمتلقّية، بأسلوب متناسق وجذّاب. وقد تضمّنت حكايتنا بأسلوبها المؤثّر والحزين جملة وافرة من الحقائق والواقعيّات الثابتة في تراثنا وتاريخنا الإسلامي، والتي لا شك ولا ريب في حصولها وثبوتها، وجميعها مرتبط بشهادة الحسين علیه السلام وأحوال عياله وأطفاله بعد مقتله، وقد استطاع مؤلّف القصّة - في فرض تأليفها - أن يوصل تلك الحقائق إلى المخاطبين الصغار بطريقة تتناسب مع مستوياتهم الإدراكيّة.

ونستعرض فيما يلي بعض تلك الحقائق الواردة في القصّة:

1- الحال التي بقي عليها الإمام الحسين علیه السلام بعد شهادته

حيث جاء في القصّة بأسلوبها المبسّط والحزين: أن الحسين علیه السلام لمّا استشهد، بقي صريعاً في حرّ كربلاء وهجيرها، ملقًى على الرمضاء، ظامئ مذبوح، ودمه مسفوح، جثّة بلا رأس ولا غسل ولا كفن، قد سفت عليه السوافي، وبدنه مرضوض، قد هشّمته الخيل بحوافرها، ورأسه المقطوع على الرمح مرفوع.

كل هذه الصور المروّعة والمشاهد المؤلمة التي تضمّنتها القصّة، عبارة عن حقائق ثابتة وأمور واقعة، لا شك في حصولها وارتكابها من قِبَل الزمرة المجرمة في جيش بني أميّة، وقد تناقلتها- بكثرة واستفاضة - أغلب كتب التأريخ والسير، والمقاتل والتراجم، وغيرها من المصادر الإسلاميّة(1).

ص: 17


1- اُنظر على سبيل المثال لا الحصر: الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص345 وما بعدها. وابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج4، ص75 وما بعدها. وابن كثير، البداية والنهاية: ج8، ص205 وما بعدها. والسيد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: ص75 وما بعدها. وابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص250 وما بعدها. والشيخ الصدوق، الأمالي: ص225. والنيسابوري، روضة الواعظين: ص185

ونذكر من باب الشاهد على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه، عن زحر بن قيس، حينما دخل على يزيد بن معاوية يُبشّره بمقتل الحسين بن علي علیهما السلام ، قائلاً: «فهاتيك أجسادهم مجرّدة، وثيابهم مرمّلة، وخدودهم معفّرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الريح، زوّارهم العقبان»(1).

وكذا قول السيدة زينب علیها السلام مخاطبة جدّها المصطفى صلی الله علیه و آله : «هذا الحسين بالعرا، مرمّل بالدما، مقطّع الأعضا»(2).

وفي رواية أُخرى تقول علیها السلام : «وا محمداه! صلّى عليك مليك السماء، هذا حسين مرمّل بالدماء، صريع بكربلاء، مقطّع الأعضاء، مجزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والردا، بأبي مَن معسكره نهباً... أنا الفداء للعطشان حتى قضى، أنا الفداء لمَن شيبته تقطر بالدما»(3).

هذه أمثلة يسيرة لبيان أحوال الحسين علیه السلام بعد شهادته، وقد اهتمّت القصّة بإيصال ذلك كلّه إلى مخاطبيها، ببيان متناسب ومتناسق، ملؤه الألم والحزن والتأثّر والانكسار على ما جرى من الأهوال والمصائب العظيمة والمفجعة، التي واجهها سيّد الشهداء علیه السلام حين وبعد مقتله؛ مما يخلق لدى المتلقّي شعوراً بالأسف، وحالة من العطف والمودّة، والتضامن والاصطفاف بالأحاسيس والمشاعر مع مظلوم كربلاء وشهيدها، كما تحثّ بالمقابل على إدانة وشجب ما جرى، واستنكار ما قام به الظالمون من جريمة نكراء. وهذه كلّها تُمثّل انطباعات ومبادئ عقديّة مهمّة، قد غرزتها حكايتنا في نفوس قرّائها وسامعيها.

والذي نراه أن الحكاية قد نجحت في ذلك نجاحاً كبيراً.

ص: 18


1- الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص351 - 352
2- المصدر السابق: ج4، ص347
3- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص260
2- إن نساء الحسين علیه السلام وأطفاله قد ساقهم الطغاة سبايا حفاة عرايا

وهذه أيضاً من المشاهد المؤلمة التي صوّرتها لنا حكايتنا الحسينيّة، وهي كذلك من الحقائق الثابتة والمستفيضة في موروثنا الديني وتراثنا الإسلامي.

فمن ذلك - على سبيل المثال أيضاً - ما جاء في تاريخ الطبري، عن قرّة بن قيس التميمي، قال: «فما نسيت من الأشياء، لا أنسى قول زينب ابنة فاطمة حين مرّت بأخيها الحسين صريعاً، وهي تقول: يا محمداه، يا محمّداه، صلى عليك ملائكة السماء، هذا حسين بالعرا، مرمّل بالدما، مقطع الأعضا، يا محمّداه! وبناتك سبايا، وذريّتك مقتّلة، تسفي عليها الصبا. قال: فأبكت - والله - كلّ عدوّ وصديق»(1).

ومن ذلك أيضاً ما أورده ابن أعثم الكوفي في تاريخه - بعد ذكر مقتل الحسين علیه السلام - حيث يقول: «وأقبل القوم حتى أحدقوا بالخيمة، وأقبل الشمر بن ذي الجوشن - لعنه الله - حتى وقف قريباً من خيمة النساء، فقال لقومه: ادخلوا فاسلبوا بزيّهنّ. قال: فدخل القوم، فأخذوا كلّ ما كان في الخيمة، حتّى أفضوا إلى قرط كان في أُذن أُم كلثوم - رضي الله عنها - فأخذوه وخرموا أُذنها، وخرج القوم من الخيمة وأضرموها بالنار.

قال: وساق القوم حرم رسول الله صلی الله علیه و آله من كربلاء كما تُساق الأسارى»(2).

ويقول ابن طاووس في اللهوف: «ثم أُخرج النساء من الخيمة وأشعلوا فيها النار، فخرجن حواسر مسلّبات حافيات باكيات، يمشين سبايا في أسر الذلة»(3).

إذن؛ هذه حقيقة أُخرى ترتبط بأحوال النساء والأطفال بعد مقتل الحسين علیه السلام ،

ص: 19


1- الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص348 - 349
2- الكوفي، ابن أعثم، الفتوح: ج5، ص120
3- ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: ص78

قد ورد ذكرها مستفيضاً في النصوص الدينية، وجاء التأكيد عليها في حكايتنا، حينما قال الراوي على لسان الطير: «ونساؤه سبايا، حفاة عرايا».

3- إن الحسين علیه السلام بكت على مصرعه الجنّ والطيور والوحوش

وهذا المقطع من القصّة أيضاً من المشاهد الواقعيّة، التي تناقلتها الروايات والنصوص التاريخيّة بكثرة.

أمّا بكاء الجنّ على سيد الشهداء، فقد تواتر ذكره في كتب الحديث والسيرة والتاريخ، بأسانيد متنوّعة ومعتبرة.

فمن ذلك ما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد بسند صحيح، عن أُم سلمة، قالت: «سمعت الجنّ تنوح على الحسين بن علي»، ثم قال في تقييم سند الحديث: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح»(1).

وفي لفظ ابن عساكر عن أُم سلمة، قالت: «سمعت الجنّ يبكين على الحسين»(2).

وأخرج ابن كثير بسنده، عن ابن مسلم، عن عمّار، قال: «سمعت أُم سلمة قالت: سمعت الجن يبكين على الحسين، وسمعت الجن تنوح على الحسين»، ثم يُتابع قائلاً: «ورواه الحسين بن إدريس، عن هاشم بن هاشم، عن أُمّه، عن أُم سلمة، قالت: سمعت الجن ينحن على الحسين، وهنّ يقلن:

أيها القاتلون جهلاً حسيناً***أبش-روا بالعذاب والتنكيل

كل أهل السماء يدعو عليكم***ونبي ومرسل وقبيل

قد لعنتم على لسان ابن داود***وموسى وصاحب الإنجيل

ص: 20


1- الهيثمي، مجمع الزوائد: ج9، ص199
2- ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج14، ص239

وقد روي من طرق أُخرى عن أُم سلمة بشعر غير هذا، فالله أعلم»(1).

وقد جمع السيد المرعشي في كتابه شرح إحقاق الحقّ جملة وافرة من الروايات والنصوص في هذا المجال، فلاحظ(2).

وأمّا بكاء الطيور والوحوش على مصيبة الإمام الحسين علیه السلام ، فقد جاء ذكره والتنصيص عليه مستفيضاً في كتبنا المعتبرة.

فمن ذلك ما رواه ابن قولويه بسند معتبر، عن أبي بصير، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام ، قال: «بكت الإنس والجن والطير والوحش على الحسين بن علي علیهما السلام ، حتى ذرفت دموعها»(3).

وروى بسند معتبر أيضاً، عن علي علیه السلام ، أنه قال: «بأبي وأمي الحسين المقتول بظهر الكوفة، والله، كأني أنظر إلى الوحوش مادّةً أعناقها على قبره، من أنواع الوحش، يبكونه ويرثونه ليلاً حتى الصباح، فإذا كان ذلك فإياكم والجفاء»(4).

بل ورد أيضاً أن كل ما خلق الله تعالى من مخلوقات قد بكت على مقتل الحسين علیه السلام ، فعن أبي عبد الله الصادق علیه السلام أنه قال: «إن أبا عبد الله الحسين بن علي علیه السلام لما مضى بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهنّ، ومَن ينقلب عليهنّ، والجنّة والنار، وما خلق ربّنا، ما يُرى وما لا يُرى»(5).

وورد أيضاً في الأحاديث والنصوص المعتبرة أن هناك تفاعلاً خاصّاً بين الطيور وبين مقتل الحسين، حتى أنها تلعن قتلة الحسين علیه السلام ، وتدعو عليهم، وهذا أحد

ص: 21


1- ابن كثير، البداية والنهاية: ج8، ص219
2- السيد المرعشي، شرح إحقاق الحق: ج11، ص570 - 590.
3- ابن قولويه، كامل الزيارات: ص165
4- المصدر السابق: ص165 - 166
5- المصدر السابق.

المضامين المهمّة التي استهدفتْ القصّةُ إيصاله إلى قرّائها.

أخرج ابن قولويه في كامل الزيارات، بسنده عن داود بن فرقد، أنه قال: «كنت جالساً في بيت أبي عبد الله علیه السلام ، فنظرت إلى الحمام الراعبي يُقرقر طويلاً، فنظر إليّ أبو عبد الله علیه السلام ، فقال: يا داود، أتدري ما يقول هذا الطير؟ قلت: لا والله، جعلت فداك. قال: تدعو على قتلة الحسين بن علي علیهما السلام ؛ فاتخذوه في منازلكم»(1)، وفي نصّ آخر: «اتخذوا الحمام الراعبية في بيوتكم؛ فإنها تلعن قتلة الحسين علیه السلام »(2).

وهناك روايات أُخرى كثيرة، بمضامين مختلفة ومتنوّعة، كلّها تؤكّد على أن هناك تأثّراً خاصّاً للطيور بما جرى على أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، وهو أبرز ما جاء في القصّة.

والحاصل: إن بكاء الجنّ والطيور والوحوش، وتفاعلها الخاصّ مع مصائب كربلاء، من الحقائق التي أكّدتها الروايات والنصوص التاريخيّة. ومن أهداف قصّتنا إيصال هذه الحقائق إلى المخاطبين، بأسلوب قصصي مؤثّر وجذّاب.

4- العلاقة والارتباط بين ما جرى على الحسين علیه السلام وشفاء المرضى

وقد جُعل دم الحسين علیه السلام في هذه القصّة رمزاً للشفاء، في إشارة رائعة إلى الارتباط الوثيق بين الشهادة وبين ما جعله الله تعالى من كرامة الشفاء والاستشفاء بقبر الحسين علیه السلام وتربته.

وهذه أيضاً من الحقائق والملاحم المهمّة التي ورد ذكرها في الروايات المعتبرة، فمن ذلك ما أخرجه الطوسي في الأمالي، بسنده عن محمد بن مسلم، قال: «سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمد علیهما السلام يقولان: إن الله تعالى عوّض الحسين علیه السلام من قَتْله أنْ جعل

ص: 22


1- ابن قولويه، كامل الزيارات: ص198.
2- المصدر السابق. وكذا: الكليني، الكافي: ج6، ص548.

الإمامة في ذريّته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تُعدّ أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره»(1).

وكذلك ما أخرجه بسنده عن الحارث بن المغيرة النصري، قال: «قلت لأبي عبد الله علیه السلام : إني رجل كثير العلل والأمراض، وما تركت دواءً تداويت به، فما انتفعت بشيء منه. فقال لي: أين أنت عن طين قبر الحسين بن علي علیهما السلام ؟! فإنَّ فيه شفاءً من كل داء، وأمناً من كل خوف... فأخذتُ كما أمرني، وقلت ما قال لي، فصحّ جسمي، وكان لي أماناً من كل ما خفت وما لم أخف»(2).

والروايات في هذا المجال كثيرة جدّاً، جمع بعضها المجلسي في البحار، فلاحظ(3).

5- تأثر أتباع الديانات الأُخرى بما جرى على الحسين بن علي علیهما السلام

تؤكّد القصّة على أن بعض أتباع الديانات الأُخرى قد تأثّر بما جرى على الحسين بن علي علیهما السلام ، وأن بعضهم قد دخل إلى الإسلام بسبب ما رآه من المعاجز والكرامات. وهذه أيضاً حقيقة لا يمكن إنكارها قديماً وحديثاً.

أمّا قديماً، فأمثلته كثيرة جدّاً، منها قصّة ذلك الراهب النصراني، الذي كان يرى نوراً ساطعاً من فوق رأس الحسين علیه السلام ، وقد طلب من عمر بن سعد أن يكون معه الرأس لفترة، مقابل أن يعطيهم مبلغاً من المال، فأخذه منهم وغسله، وحشاه بالمسك والكافور، وجعله في حريرة «ووضعه في حجره، ولم يزل ينوح ويبكي، حتى نادوه وطلبوا منه الرأس، فقال: يا رأس، والله، ما أملك إلا نفسي، فإذا كان غداً، فاشهد لي عند جدّك محمّد أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً صلی الله علیه و آله عبده ورسوله، أسلمت على يديك

ص: 23


1- الطوسي، الأمالي: ص317.
2- المصدر السابق: ص318.
3- المجلسي، بحار الأنوار: ج57، ص154 وما بعدها.

وأنا مولاك»(1).

وأما حديثاً، فهناك الكثير من أتباع الديانات المختلفة قد تأثّروا بما جرى على الحسين علیه السلام ، وقد دخل بعضهم الإسلام، وقد رأيت بعينيّ بعض النصارى والصابئة ممن يذهب لزيارة الحسين علیه السلام ، ويُقيم المجالس والمآتم والمراسم في محرّم وصفر، وبعضهم أكّد لي أنه قد دخل الإسلام، وأن الكثير من حوائجه ومسائله ودعواته قد قُضيتْ واستجيبتْ ببركة الإمام الحسين علیه السلام وقبره الشريف.

هذه هي بعض الحقائق والواقعيّات الحسينيّة التي تضمّنتها حكايتنا، ومن الواضح أن الهدف من تأليفها - على فرض تأليفها - هو إيصال تلك الحقائق والواقعيّات إلى القرّاء، وخصوصاً الصغار منهم، ببيان مفهومٍ، يشدّ الأذهان نحو الفكرة والمضمون، فلا شك في أن الحكاية هادفة، وتحمل رسالة نبيلة، ذات قيمة دينيّة وعقديّة كبيرة، وهي بهذا الاعتبار تكون حكاية صادقة ومطابقة للواقع، الذي قصد الكاتب الإخبار عنه، وقد بلّغت رسالتها بامتياز، وأصابت أهدافها بكل براعة وجدارة وإتقان.

ولا يحقّ لأحد أن يتهجّم على الكاتب، أو يرمي روايته بالضعف أو الانقطاع أو عدم الإسناد، أو يتّهمه بالكذب وتزوير الحقائق، أو حياكة الخرافات والأساطير؛ لأن الكاتب هو مؤلّف القصّة، وأهداف تأليفها عبارة عن حقائق ثابتة بالنصوص الصحيحة والمعتبرة، وهو قد عرضها للقرّاء بأُسلوبه القصصي، فلا ضعف ولا كذب ولا تزوير في روايته، بل هي خطوة جبّارة من الكاتب في سبيل نشر مظلوميّة أهل البيت علیهم السلام ، يستحقّ عليها كلّ تقدير وتكريم، وينبغي مواصلة هذا الطريق، والعمل على نشر المعارف الدينيّة الحقّة على المستوى العالمي، من خلال تأليف القصص والحكايات، ولا يصحّ محاكمة هذا النهج بمنطق الباحث والفقيه.

ص: 24


1- الراوندي، الخرائج والجرائح: ج2، ص579 - 580. وأيضاً: ابن حبان، الثقات: ج2، ص312

الجهة الثانية: الأُسلوب القصصي

من الجدير بنا أن نترك هذه النقطة مفتوحة لذوي الخبرة والاختصاص في مجال كتابة القصص والحكايات؛ ليبحثوا في هذا النحو من الروايات والأحاديث الواردة في تراثنا الإسلامي، فهم مطالبون اليوم بتقديم دراسات تخصّصيّة نافعة ومفيدة حول ما يحمله هذا التراث من حقائق دينيّة، كما أنهم مطالبون أيضاً بمتابعة الطريق ومواصلة المسيرة التي ابتدأها مؤلفو القصص الإسلاميّة منذ زمن بعيد.

وواضح أن دراسة التراث القصصي الإسلامي تتطلب البحث والتحقيق في مزايا هذا التراث وخصائصه وفوائده أو مضارّه، وكذا البحث في كيفية مواصلته وسبل إدامته وسدّ نواقصه، والارتقاء بأسلوبه ومستواه إلى ما يتناسب مع عص-رنا الحاضر، الذي شهد تقدّماً وتطوراً كبيراً في هذه المجالات.

وأما ما يرتبط بالقصّة - محلّ البحث - فنحاول فيما يلي أن نؤشّر بعض المزايا والخصائص التي امتاز بها أسلوبها الروائي الجذّاب، وذلك ضمن النقاط التالية:

1- الانسيابيّة والتناسق في الأُسلوب، والسلاسة في التعبير، والتناغم بين المشاهد الروائية المتنوّعة في القصّة.

2- عرض الأحداث بصورة مواكبة ومتناسبة مع حكايات وقصص الزمان الذي كُتبتْ فيه حكايتنا، وتصلح في يومنا الحاضر أن تكون منطلقاً لكتابة روايةٍ للصغار، أبطالُها الطيور، ودم الحسين علیه السلام ، والصَبِيّة المعاقة، يُشاركهم في الأحداث أهل مدينة الرسول صلی الله علیه و آله ، والرجل اليهودي وقومه الذين أسلموا.

ولا تقلّ روايتنا في أحداثها عن حكاية بائعة الكبريت، أو حكاية الأميرة النائمة، أو حكاية سندريلا أو غيرها، بل روايتنا تلامس الحقيقة أكثر، وهي أصدق من تلك

ص: 25

الحكايات الخياليّة والأسطوريّة.

3- الاستفادة من أُسلوب السجع والتشابه في التعبير، بالقدر المقبول والمتناسب مع ما كان سائداً في ذلك الحين، ومن أمثلته قول الراوي: «زوّاره وحوش القفار، وندبته جنّ السهول والأوعار، قد أضاء التراب من أنواره، وأزهر الجوّ من أزهاره».

4- الاختيار الموفّق لعنصر الطيور، الذي يرمز للسلام والحرّية والرّقة والعطف، وهذه كلّها جوانب ومعطيات مهمّة في الحكاية الحسينيّة.

5- كذلك الاختيار الموفّق لعنصر الدم، الذي يختصر - بأسلوب بليغ - ما جرى من أحداث دمويّة في واقعة عاشوراء.

6- البداية المؤثّرة والحزينة، والنهاية السعيدة بشفاء الصبيّة وإسلام أبيها وقومها، وهو أسلوب متعارف في كتابة القصص والأعمال السينمائيّة والدرامية وغيرها.

7- تناغم مفردات القصّة مع حسّ الطفولة، حيث ينسجم الصغار كثيراً مع الطيور وأحاسيسها، ويتفاعلون مع فكرة الصبيّة المريضة، ويستنكرون الظلم والإرهاب وإراقة الدماء.

8- التصوير المؤثّر للمصيبة والفاجعة، وكيف أخبر الطير رسول الله صلی الله علیه و آله بمقتل ولده الحسين علیه السلام ، وما جرى عليه في كربلاء، مع التذكير باسم أمّه فاطمة الزهراء علیها السلام ؛ لإضفاء المزيد من التأثُّر بالفاجعة والتفاعل معها.

9- الإيحاء بضرورة نشر القضيّة الحسينيّة؛ وذلك من خلال ما قامت به الطيور من الانتشار في البلدان، وإعلام أهلها بما جرى على الحسين علیه السلام في أرض كربلاء، وهذا ما يدعو الصغار إلى القيام بالدور ذاته الذي تكفّلت به الطيور.

ص: 26

10- التعريض بأهل مدينة الرسول صلی الله علیه و آله ، وكيف أنهم غفلوا عمّا جرى على الحسين علیه السلام ، ولم يشاركوه في مسيرته ونهضته.

هذه بعض الامتيازات والخصائص، التي تضمّنتها قصّتنا بأسلوبها القصصي المدروس والمتقن والهادف.

أهداف المقال

ليست هذه القصّة - التي استعرضنا حقائقها وأحداثها - إلا أُنموذجاً ومثالاً من أمثلة تراثنا الحسيني، وهدفنا من ذلك الاستعراض كلّه عدّة أمور:

الأول: الحثّ على قراءة التراث الحسيني بعين ومنظار المؤلف الروائي والكاتب القصصي، وإحياء ذلك التراث، الذي قد لا يتفاعل معه دارس التاريخ، أو الفقه، أو غيرهما.

الثاني: التنبيه على خطر ضمور أو انعدام الجانب القصصي والروائي في زماننا الحاضر، وفقدان هذا النوع من الاختصاص والتخصّص في كيفية دراسة وقراءة تراثنا الإسلامي.

الثالث: الإصلاح والتصحيح في موازين قراءة الموروث الديني والحسيني، والتحذير من التعامل مع التراث الإسلامي وتقييمه على أساس رؤية خاصّة، ضمن اختصاص معيّن، والنظر إليه بنظرة دونيّة، في ضوء تلك الرؤية الخاصّة والضيّقة.

الرابع: التشجيع على تأليف روايات الأفلام، وكتابة السيناريو والحوار في المجال الديني، وتمثيلها وتصويرها وإخراجها وغير ذلك، ومن دواعي السرور أن نرى أن هذه الظاهرة الصحيّة قد بدأت تأخذ مجالها الواسع في السينما والدراما الإسلاميّة، مع التحفظ على بعض ما جاء فيها، وينبغي على الجهات المعنيّة أن تهتمّ بهذا الاختصاص،

ص: 27

وتضع الدراسات والتحقيقات والقراءات الجديدة في هذا المجال؛ لإبراز الحقائق الدينية والإسلاميّة، ولكي نحصل على أعمال تلفزيونيّة وسينمائيّة هادفة، تحفظ تلك الحقائق في نفوس شبابنا وأجيالنا القادمة.

ومن الله نستمد العون والتوفيق

ص: 28

دراسات في آفاق الفكر الحسيني

اشارة

*رجعة الإمام الحسين علیه السلام بعد دولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف

*منهج النقل للرواية العاشورائية

*العقل ودوره في صيانة النهضة الحسينية وتكريس قابلية التكرار والمحاكاة

*نصوص البكاء قوة في السند وصراحة في المتن

ص: 29

ص: 30

رجعة الإمام الحسين علیه السلام بعد دولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف

اشارة

حوار أجرته المجلّة مع

سماحة آية الله الشيخ محمد السند

الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبيّنا محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

الصلاح الحسینی :تشكرُ مجلّةُ الإصلاح الحسيني التخصّصية في مركز الدراسات التابع للعتبة الحسينيّة المقدّسة سماحةَ آية الله المحقّق الشيخ محمّد السند - حفظه الله - على إتاحة هذه الفرصة الطيبة لإجراء حوارٍ تدور أسئلتُه حول رجعة الإمام الحسين علیه السلام .

* بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، شكراً جزيلاً على هذه الاستضافة، وأتمنّى التوفيق لهذه المجلّة، وأن تكون نبراساً نيّراً تهتدي بهداه شعوب العالم.

حقيقة الرجعة وامتيازها عن التناسخ والمعاد

الصلاح الحسینی :نفتتح هذا الحوار بالسؤال عن التعريف بالرجعة، فما هي حقيقة الرجعة بصورة عامّة؟ وما هي حقيقة رجعة الإمام الحسين علیه السلام بصورة خاصّة؟

* تختلف الرجعة في حقيقتها عن طبيعة الحياة الأُولى والولادة في دار الدنيا، كما أنّها تختلف أيضاً عن التناسخ والنسخ، وتختلف - كذلك - عن المعاد الأكبر في يوم القيامة.

ص: 31

والرجعة في تعريف كثير من علماء الإماميّة هي معادٌ أصغر، ولكن هناك بعض الاختلاف بين الرجعة والعَوْدِ الأصغر إلى دار الدنيا، وبين المعاد الأكبر.

ويمكننا تعريف الرجعة بكلمات مضغوطة ومختص-رة وهي: أنّ الرجعة عبارة عن عَودة الإنسان إلى دار الدنيا بجسده الدنيوي الذي جُعل في القبر - يعني خروج الإنسان من القبر إلى دار الدنيا - هذه هي الرجعة، بخلاف القيامة الكبرى، فهي رجوع الإنسان بجسده من القبر، ولكن ليس إلى دار الدنيا، بل إلى الدار الآخرة؛ فإذن هناك اشتراك بين المعاد الأكبر الجسماني والرجعة في أنّ الرجوع بالجسم، ولكن تختلف الرجعة كمعاد أصغر عن المعاد الأكبر، بأنّ الرجعة رجوع الإنسان بجسمه إلى دار الدنيا، أمّا في المعاد الأكبر، فرجوعه إلى الدار الآخرة؛ فيكون الرجوع التكويني في القيامة بالجسم إلى دار الآخرة، بينما في الرجعة يكون الرجوع إلى دار الدنيا، وهي الأرض، أرض الدنيا، فكلٌ منهما رجوع بالجسم، ولكن الرجوع مختلف؛ هذه هي جهة افتراق حقيقة الرجعة عن المعاد الأكبر.

وأمّا فرق الرجعة عن التناسخ، أو عن الحياة الأُولى حين الولادة، فهو يكمن في كون الحياة الأُولى - التي تولَّدَ منها الإنسان - عبارة عن خروج وولادة من أرحام الأُمّهات ونطف الآباء، بينما في الرجعة عَود الإنسان بجسمه من القبر؛ ومِن ثَمَّ كان هناك اختلاف من هذه الجهة أيضاً بين الرجعة والتناسخ.

طبعاً التناسخ معتقد باطل، بينما الرجعة عقيدة حقّة، والتناسخ على اختلاف مذاهب القائلين به له تعريف مشترك: وهو أنّ التناسخ عبارة عن عَود الإنسان إلى نطفة جديدة في رحم جديد، سواء كانت نطفة في رحم إنسان أو رحم حيوان، أو كانت بذرة نبات أو طينة جماد، فهنا التناسخيّة يقولون: إنّ العَود إمّا إلى إنسان أو حيوان أو نبات أو جماد، والمهمّ هو أن تتعلّق الروح العائدة من القبر لا بالجسم

ص: 32

السابق، بل بمادّةٍ جسمانيّة جديدة أُخرى، وتبدأ دورة جديدة، إمّا دورة جماديّة أو دورة نباتيّة أو دورة إنسانيّة، تبدأها من جديد؛ وهذا هو الفرق الثاني بين حقيقة وماهية التناسخ وبين ماهية الرجعة.

رجعة الإمام الحسين علیه السلام ببدنه إلى الدنيا من قبره الشريف

الصلاح الحسینی :لو أعطيتمونا - فضيلة الشيخ - صورةً عن حقيقة رجعة الإمام الحسين علیه السلام .

* بعد معرفة الرجعة بشكل عام، فإنّ رجعة سيّد الشهداء هي رجعة أيضاً ببدنه سلام الله عليه من قبره الشريف إلى دار الدنيا، وهو أوّل المعصومين رجوعاً(1)، ويرجع في أواخر حياة ودولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف عند الظهور، يرجع سيّد الشهداء إلى دار الدنيا من قبره، ويكون هناك تزامن مع أواخر دولة المهدي، ثمّ بعد فترة يُقتل الإمام الثاني عشر وتكون الإمامة لسيّد الشهداء علیه السلام (2).

ص: 33


1- روى الحسن بن سليمان الحلّي في مختصر بصائر الدرجات، بسنده عن محمد بن مسلم، قال: «سمعت حمران بن أعين وأبا الخطاب يحدّثان جميعاً - قبل أن يحدث أبو الخطاب ما أحدث - أنهما سمعا أبا عبد الله علیه السلام يقول: أول مَن تنشقُّ الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا، الحسين بن علي علیه السلام ». ص24. وروى في المختصر أيضاً، بسنده عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر علیه السلام ، قال: «إنّ أول مَن يرجع لَجاركم الحسين علیه السلام ، فيملك حتى تقع حاجباه على عينيه من الكبر». ص22
2- أخرج الكليني في الكافي، بسنده عن أبي عبد الله علیه السلام - في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَددنا لَكُمُ الكَرَةَ عَليهِمْ﴾ - قال: «خروج الحسين علیه السلام في سبعين من أصحابه، عليهم البيض المذهب، لكل بيضة وجهان، المؤدّون إلى الناس أنّ هذا الحسين قد خرج حتى لا يشك المؤمنون فيه، وأنّه ليس بدجال ولا شيطان، والحجة القائم بين أظهرهم، فإذا استقرت المعرفة في قلوب المؤمنين أنّه الحسين علیه السلام ، جاء الحجّةَ الموتُ، فيكون الذي يغسّله ويكفّنه ويحنطه ويُلحده في حفرته الحسين بن علي علیهما السلام ، ولا يلي الوصي إلا الوصي». الكافي: ج8 ، ص206. وفي مختصر بصائر الدرجات: عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «ويقبل الحسين علیه السلام في أصحابه الذين قُتلوا معه، ومعه سبعون نبياً كما بعثوا مع موسى بن عمران، فيدفع إليه القائم علیه السلام الخاتم، فيكون الحسين علیه السلام هو الذي يلي غسله وكفنه وحنوطه ويواريه في حفرته». ص48-49

غاية الرجعة وأهدافها بصورة عامّة

الصلاح الحسینی :ما هي فلسفة الرجعة بصورة عامّة؟ وما هي فلسفة رجعة الإمام الحسين علیه السلام بصورة خاصّة؟

* إنّ غايات الرجعة وفلسفتها بصورة عامّة تكمن في كون هذه الحياة الدنيا قد قدّر الله تعالى لها أن تبلغ بأهلها كمالات عالية، ولكن جور الظالمين، والفساد في الأرض حجب هذا المشروع الإلهي؛ وبالتالي فإنّ كلّ فرد له كماله المنشود الذي لا بدّ أن يصل إليه، والرجعة عبارة عن فتح باب الفرصة مرّة أُخرى؛ لتكامل كل إنسان وبلوغه الكمال المنشود، ولتُفتح له فرص التكامل وفرص الخير في ظل دولة العدل؛ لأنّه من دون دولة العدْل لا يمكن أن تُفتح للإنسان الفرصة والمجال ليبلغ كماله، ولا المجتمعات ولا الشعوب أيضاً تكون قادرة على نيل كمالاتها، بينما في ظل دولة العدل يمكن حصول ذلك لكلّ إنسان، بل إنّ هذا قانون عامّ، يُلقي بظلاله على كل البيئات، ولا يختصّ بالبيئة الإنسانية، فحتّى بيئة الجنّ والنباتات والحيوانات والطبيعة وكل البيئات الأُخرى، لا يمكن أن تبلغ الكمال المنشود إلاّ في دولة العدل.

أهداف وغايات رجعة الإمام الحسين علیه السلام

وأمّا غاية رجوع سيد الشهداء، فلها ميزان وضابطة ومِنوال على منوال رجوع بقيّة أئمة أهل البيت علیهم السلام ، وهي أنّ الله عز وجل أمر كلَّ إمام من أئمة أهل البيت أن يقوم بمهمّة خاصّة في الأرض، وهذا هو الذي ورد في رواية: أنّه نزل على النبيّ كتاب مختوم بخواتيم، خاتم فيه ما أُمِرَ به النبيّ صلی الله علیه و آله ، وخاتم فيه ما أُمر به أمير المؤمنين علیه السلام ، وهكذا الصدّيقة فاطمة والحسن والحسين وبقيّة الأئمّة علیهم السلام ، فكلُّ إمام ومعصوم يعمل بما خُتِمَ في ذلك الكتاب(1)، إلاّ أنّ الظالمين حالوا بين أئمة أهل البيت علیهم السلام

ص: 34


1- اُنظر: الكليني، الكافي: ج1، ص282.

وبين القيام بهذه المهمّة والمسؤولية؛ ومِن ثَمَّ في رجعتهم علیهم السلام يُنجزون ما أمرهم الله به من مشاريع إلهيّة عملاقة على وجه الأرض، هذه المشاريع - طبعاً كما مرّ - هدفها يكون عبارة عن الوصول للكمال المنشود في المستويات كافّة.

الإمام الحسين علیه السلام أوّل مَن يرجع من الأئمة علیهم السلام

الصلاح الحسینی :لماذا يرجع الإمام الحسين علیه السلام في بداية الأمر ثمّ أمير المؤمنين علیه السلام ثمّ بقيّة الأئمّة علیهم السلام ؟

* الرجعة عموماً كما ورد في بيانات أهل البيت علیهم السلام ، بل حتّى في بيانات القرآن الكريم(1)، قطبها ومحورها هو أمير المؤمنين علیه السلام (2)، وإن كان انتهاء وقمّة الرجعة سيكون على يد سيّد الأنبياء صلی الله علیه و آله (3)، ولكن مع ذلك كلّه، فإنّ بدء الرجعة لسيّد الشهداء له رمز معيّن، يرمز ويشير إلى أمر عظيم.

الصلاح الحسینی :هل يرتبط ذلك بمسألة طلب الثأر والشهادة؟

ص: 35


1- إشارة إلى قوله تعالى: ﴿إِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً من الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ﴾. النمل: آية82
2- من قبيل ما ورد عنه علیه السلام أنه قال: «وإنّ لي الكرّةَ بعد الكرّةِ، والرجعةَ بعد الرجعة، وأنا صاحب الرجعات والكرّات، وصاحب الصولات والنقمات، والدولات العجيبات». الحلّي، الحسن بن سليمان، مختصر بصائر الدرجات: ص33. ومن قبيل ما ورد عنه علیه السلام أنّه قال: «أنا الفاروق الأكبر، وصاحب المَيْسم، وأنا صاحب النشر الأول، والنشر الآخر، وصاحب الكرّات، ودولة الدول، وعلى يدي يتمّ موعد الله وتَكمُل كلمتُه، وبي يَكمُل الدينُ». المجلسي، بحار الأنوار: ج53، ص98
3- إشارة إلى ما روي عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام ، أنّه قال: «إنّ لعلي علیه السلام في الأرض كرّة مع الحسين ابنه علیهما السلام ... ثمّ كرّة أُخرى مع رسول الله صلی الله علیه و آله ، حتى يكون خليفة في الأرض، وتكون الأئمة علیهم السلام عُمّالَه، وحتى يبعثه الله علانية، فتكون عبادته علانية في الأرض كما عبَدَ اللهَ سراً في الأرض. ثمّ قال: إي والله، وأضعاف ذلك - ثمّ عقد بيده أضعافاً - يعطي الله نبيه صلی الله علیه و آله مُلكَ جميع أهل الدنيا منذ يوم خلق الله الدنيا إلى يوم يفنيها، حتى ينجز له موعوده في كتابه كما قال، ويظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون». الحلي، الحسن بن سليمان، مختصر بصائر الدرجات: ص29

* نعم - كما قلتُ - يرمز إلى أمر عظيم مرتبط بالطفّ وابتداء الموقف الذي قام به سيّد الشهداء، وأنّ الله قد عوّض قتْل سيّد الشهداء بعدّة خصال، وهي في بعض الروايات أربعة(1)، وتُضاف إليها بحسب بيانات الرجعة خصلتان، فتكون ستّ خصال، والخصلتان هما:

الأُولى: أنّه علیه السلام أوّل الناس رجوعاً(2).

والثانية: أنّ أوّل حساب للخلق سيقام على يديه علیه السلام (3)، فهو أوّل مَن يحاكم الناس في أواخر الرجعة، وهذا أمر حتمي؛ إذن أوّل الأئمّة رجوعاً هو سيّد الشهداء، وأوّل مَن يحاسب الناس من الأئمّة في أواخر الرجعة مقدّمةً للحساب الكامل هو سيّد الشهداء؛ فحساب الخلق على يديه علیه السلام .

الدور الإصلاحي في نهضة الإمام الحسين علیه السلام

ثمّ إنّه بحسب البيانات الموجودة في الروايات، ومقدار التدبّر الذي وفّقنا لاستنباطه، هو أنّ سيّد الشهداء سلام الله عليه كان مشروعه مشروعاً إصلاحيّاً للبشر والبشرية عموماً، والذي نلاحظه أنّ النبيّ صلی الله علیه و آله قد بدأ بمسيرة ذلك الإصلاح العظيم، ثمّ أكمله أمير المؤمنين وفاطمة والحسن علیهم السلام ، إلاّ أنّ بني أمَيّة والطغاة حاولوا أن يُفشلوا هذا المش-روع، ويَحْرفوه عن مساره، بالتحريف والتكذيب والافتراء، كما حُرّفت الأديان بعد جميع الأنبياء إلى يهودية ونص-رانية وبوذية ومجوسية وما شابه ذلك؛ وهنا جاء دور

ص: 36


1- إشارة إلى ما روي مِن: «أنّ الله سبحانه وتعالى عوّض الحسين علیه السلام من قتْله بأربع خصال: جعل الشفاءَ في تربته، وإجابة الدعاء تحت قبته، والأئمة من ذريته، وأن لا يعدّ أيام زائريه من أعمارهم». الحلّي، ابن فهد، عدّة الداعي: ص48
2- تقدّم ذكر بعض الروايات في هذا المجال
3- من ذلك ما أخرجه الحسن بن سليمان الحلّي، في مختصر البصائر، بسنده عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «إنّ الذي يلي حساب الناس قبل يوم القيامة الحسين بن علي علیه السلام ، فأمّا يوم القيامة، فإنّما هو بعثٌ إلى الجنّة وبعث إلى النار». ص27

الإصلاح الذي قام به سيّد الشهداء للوقوف أمام ذلك المخطط الأُموي، فهو إصلاح يفسّر لنا المقولة النبوية المعروفة: «حسين مني وأنا من حسين»(1)، وكذا ما يُقال: من أنّ الإسلامَ محمّديُّ الوجود حسينيُّ البقاء(2)، فبعد سيّد الأنبياء لم يستطع المحرّفون والطغاة والكفار والمنافقون والضالون أن يطمسوا الإسلام، كما حصل مع سائر الأنبياء السابقين؛ وذلك ببركة سيّد الشهداء؛ فإذن ما قام به سيد الشهداء من موقف هو إبقاء وإحياء لدين الإسلام؛ ولهذا رُشّح علیه السلام من قِبل الله تعالى لأن يكون أوّل الراجعين من أهل البيت علیهم السلام ؛ رمزاً وتشييداً لتلك النهضة التي حافظت على بقاء واستمرار جهود سلسلة الأنبياء كافّة، وإشادة وتقديراً لعظمة وضخامة التضحية، ولو من الجهة العاطفية والإنسانية والروحية التي بذلها سيّد الشهداء، جزاءً وشكراً من الله؛ لما قام به سيّد الشهداء من الحفاظ على بقاء دين الإسلام، ولذلك كلّه جُوزي أن يكون أوّل الراجعين.

الرجعة من أهمّ غايات حركة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف

الصلاح الحسینی :تعتقدون بأنّ دولة الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه ممهِّدة للرجعة عموماً، ولرجعة الإمام الحسين علیه السلام بالخصوص، فهلا أوضحتم لنا هذه الفكرة؟

* في الحقيقة قد ذكرتُ للكثير من المراكز - التي تبحث حول مشروع الإمام الثاني عشر عجل الله تعالی فرجه الشریف - أنّ معرفة ظهور الإمام المهدي لا يستتمّ إلا بمعرفة الرجعة وبدءاً برجعة سيّد الشهداء؛ وذلك لأن تعريف الشيء بغايته أتمّ بياناً من تعريف الشيء - كما يُقال - بأجزائه الذاتية أو بجنسه وفصله ومادّته وصورته، وغايته هو الكمال الذي سوف تُنجزه حكومة أهل البيت علیهم السلام ، فإذا لم تُعرف الرجعة لا يمكن معرفة حقيقة مشروع الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف ؛ لأنّها غايته بنصّ ما جاء في الروايات، من أنّه عجل الله تعالی فرجه الشریف موطّئ وممهِّد

ص: 37


1- أحمد بن حنبل، مسند أحمد: ج4، ص172. الترمذي، سنن الترمذي: ج5، ص324. القمي، كامل الزيارات: ص116
2- قول مأثور

ومربّ للبشرية؛ كي تتأهّل وتكون لها القابلية لاستقبال المشروع الأعظم والأضخم في الإصلاح، وهو مشروع الرجعة(1)، الذي تصل فيه البشرية إلى أوج كمالها وتكاملها.

رجوع الموتى عند ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف

وقد ورد في بيانات روايات ظهور الإمام الثاني عشر عجل الله تعالی فرجه الشریف أنّ أوّل ما يحدث من إرهاصات في ظهوره هو رجوع الموتى، منهم: سلمان الفارسي، (المحمّدي)، ومالك الأشتر، والمقداد، وأبو دجانة الأنصاري، ويوشع بن نون، وسبعة من أهل الكهف، وخمسة عشر من قوم موسى علیه السلام (2)، وهم القيادات في حكومة الإمام المهدي؛ إذاً بدء ظهور الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف يكون بمرحلة من مراحل الرجعة.

التداخل الماهوي بين عصر الرجعة وعصر الظهور

ثمّ إنّ أوّل ما يُنادى به في الصيحة السماوية قُبيل الظهور هو عنوان يحمل الدعوةَ إلى مشروع الرجعة، حيث يُنادى: هذا عليٌ قد كرّ لينتقم من الظالمين(3)، أو: الحق

ص: 38


1- إشارة إلى الروايات المتقدّمة التي نصّت على أن المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف سيُسلّم خاتم الإمامة من بعده إلى الإمام الحسين علیه السلام
2- قال الصادق علیه السلام : «يخرج القائم من ظهر الكعبة مع سبعة وعشرين رجلاً، خمسة عشر من قوم موسى علیه السلام الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وسلمان، وأبو دجانة الأنصاري، والمقداد، ومالك الأشتر، فيكونون بين يديه أنصاراً أو حكّاماً». الفتال النيسابوري، روضة الواعظين: ص266
3- إشارة إلى ما رواه الطوسي في الغَيبة، عن ابن محبوب، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام - في حديث له طويل - أنه قال: «لا بدّ من فتنة صمّاء صيلم، يسقط فيها كل بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشيعة الثالث (وفي بعض النسخ الرابع) من وِلْدي، يبكي عليه أهل السماء وأهل الأرض، وكم من مؤمن متأسف حرّان حزين، عند فقد الماء المعين، كأني بهم أسرّ ما يكونون، وقد نودوا نداءً يسمعه من بُعد كما يسمعه من قرب، يكون رحمة للمؤمنين وعذاباً على الكافرين، فقلت: وأي نداء هو؟ قال: ينادون في رجب ثلاثة أصوات من السماء، صوتاً منها: ألا لعنة الله على القوم الظالمين، والصوت الثاني: أزفت الآزفة يا معشر المؤمنين، والصوت الثالث يرون بدناً بارزاً نحو عين الشمس: هذا أمير المؤمنين قد كرّ في هلاك الظالمين». الطوسي، الغَيبة: ص439 -440

مع عليِّ وشيعته(1)، فيُنادى بالرجعة عدّة صيحات قبل أن يُنادى باسم الإمام الثاني عشر، ثمّ بعد ذلك يُنادى باسمه عجل الله تعالی فرجه الشریف .

وبعبارة أُخرى: إنّ في عصر ظهور الإمام المهدي يوجد نوع من التداخل بين ماهية الرجعة وماهية الظهور.

أو بعبارة ثالثة: هناك نوع من المساهمة للأموات حينما يرجعون مع الأحياء لإنجاز المشروع الإلهي وبناء الحضارة الإلهيّة على الأرض.

الصلاح الحسینی :إذن؛ تعتقدون أنّ الرجعة تبدأ من حين قيام دولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف ؟

* نعم، بل إنّ بداية الرجعة كبشر أو كأولياء خُلّص يكون قُبيل ظهور الإمام، وهذا وارد في الروايات المستفيضة، كما في التعبير المتواتر في حديث العجب كل العجب بين جمادى ورجب، حيث فُسِّر برجوع أمواتٍ مؤمنين يضربون هامات الأحياء(2).

ص: 39


1- من ذلك ما رواه المفيد في الإرشاد، عن أبي حمزة قال: «قلت لأبي جعفر علیه السلام : خروج السفياني من المحتوم؟ قال: نعم، والنداء من المحتوم، وطلوع الشمس من مغربها محتوم، واختلاف بني العباس في الدولة محتوم، وقتل النفس الزكية محتوم، وخروج القائم من آل محمد محتوم. قلت له: وكيف يكون النداء؟ قال: ينادي منادٍ من السماء أوّل النهار: ألا إنّ الحق مع علي وشيعته، ثمّ ينادي إبليس في آخر النهار من الأرض: ألا إن الحق مع عثمان وشيعته؛ فعند ذلك يرتاب المبطلون». المفيد، الإرشاد: ص371- 372.
2- من ذلك ما روي عن الإمام علي علیه السلام أنه كان يقول: «العجبُ كل العجب بين جمادى ورجب. فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، ما هذا العجب الذي لا تزال تعجب منه؟ فقال: ثكلتْك أمُك! وأي عجبٍ أعجب من أموات يضربون كل عدو لله ولرسوله ولأهل بيته؟!». المجلسي، بحار الأنوار: ج53، ص60. وفي مختصر بصائر الدرجات، عنه أيضاً علیه السلام : «فيا عجباً! وكيف لا أعجب من أموات يبعثهم الله أحياء؟! يلبّون زمرة زمرة بالتلبية: لبيك لبيك يا داعي الله. قد أطلوا بسكك الكوفة، قد شهروا سيوفهم على عواتقهم لَيضربون بها هام الكفرة، وجبابرتهم وأتباعهم من جبّارة الأولين والآخرين، حتى ينجز الله ما وعدهم». ص33

الصلاح الحسینی :ولكنّا نلاحظ أنّ الروايات تُفرِّق بين أيام الله الثلاثة: يوم القائم، ويوم الرجعة، ويوم القيامة؛ وذلك ما ورد عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه كان يقول: «أيّام الله ثلاثة: يوم يقوم القائم علیه السلام ، ويوم الكرّة، ويوم القيامة»(1)؟

* نعم، هذا صحيح، فماهية الرجعة وهويّتها تختلف عن ماهية وهويّة فترة ظهور القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف ، ولكن مع ذلك هناك تداخل - كما بيّنا - بين قيام القائم والرجعة، وبين الرجعة والقيامة؛ وليست هي أيام منفصلة ومتباينة.

فلسفة تأكيد الأئمة علیهم السلام على رجعة الإمام الحسين علیه السلام

الصلاح الحسینی :ما هو تفسيركم للتكرار والتأكيد المتواصل من قِبَل الأئمّة علیهم السلام على رجعة الإمام الحسين علیه السلام في الأدعية والزيارات؟

* الرجعة مشروع لعقيدة عظيمة وبرنامج مستقبلي واعد لأهل البيت علیهم السلام ، وبدء مشروع الرجعة وأحداثها العظيمة ستتمّ على يد سيّد الشهداء علیه السلام ، ومِن ثَمّ يكون التأكيد على فاتحة الرجعة - وهو سيّد الشهداء - أمراً ضرورياً.

ومِن جانب آخر يكون التأكيد والتركيز على رجعة سيّد الشهداء لبيان أنّ مسار النهضة والتضحيات التي قام بها سيد الشهداء ليس فيه أخطاء؛ ولذا نجد أنّ من أهمّ الأُمور التي كشفها سيّد الشهداء لأنصاره الشهداء معه في الطفّ ليلة عاشوراء، وبه ازداد يقينهم وازدادتْ استماتتُهم وفدائيّتُهم في سبيل الله، هو مشروع الرجعة، حيث بيّن لهم كيف أنّهم سيرجعون معه علیه السلام لإنجاز المشروع الإلهي(2)، وهذا ما يُعطي طاقة

ص: 40


1- الحلّي، الحسن بن سليمان، مختصر بصائر الدرجات: ص18
2- إشارة إلى ما رواه جابر في حديث طويل، عن أبي جعفر علیه السلام ، أنّه قال: «قال الحسين علیه السلام لأصحابه قبل أن يُقتل: إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال لي: يا بُني، إنك ستساق إلى العراق، وهي أرض قد التقى بها النبيون وأوصياء النبيين، وهي أرض تُدعى عمورا، وإنك تُستشهد بها، ويُستشهد معك جماعة من أصحابك، لا يجدون ألم مس الحديد. وتلا: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ يكون الحرب برداً وسلاماً عليك وعليهم. فأبشروا، فوالله، لئن قتلونا فإنّا نردُ على نبينا. قال: ثُمّ أمكثُ ما شاء الله، فأكون أوّل مَن تنشقّ الأرض عنه، فأخرجُ خرجةً يوافق ذلك خرجةَ أمير المؤمنين وقيام قائمنا، ثم لينزلن عليَّ وفد من السماء من عند الله، لم ينزلوا إلى الأرض قط، ولينزلن إليَّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، وجنود من الملائكة... ». الحلي، الحسن بن سليمان، مختصر بصائر الدرجات: ص37

وحيويّة عالية لكل إنسان يريد أن يقتدي في مسيره بسيّد الشهداء، ويحارب الظالمين والطغاة والجائرين والمستبدّين والمفسدين في الأرض، ويتجلّى بذلك أيضاً أنّ طريق الإصلاح والوصول إليه وإن تأخّر مدّةً من الزمن، إلا أنّ العاقبة للمؤمنين، وليس هناك إياس وقنوط في مسير التضحية والشهادة.

الصلاح الحسینی :هل يُعطي التكرار والتأكيد على الرجعة - بالإضافة إلى ما تفضّلتم به -- أنّ هناك مدخليّة لهذه المسألة في صُلب العقيدة؟

* نعم، هذا شيء طبيعي؛ فإنّ تكرار الرجعة في الأدعية والزيارات الواردة يُفيد أنّ هناك مدخليّة للرجعة في أُصول الدين بلا إشكال.

ضمان الأرض ومَن عليها لدم الحسين وثأره

الصلاح الحسینی :لقد ورد في بعض زيارات الإمام الحسين علیه السلام : «ضمنتْ الأرضُ ومَن عليها دمَك وثارَك يا بن رسول الله»(1)، ما المراد من هذا المقطع؟ وهل له علاقة برجعة الإمام الحسين علیه السلام ؟

* إنّ ما يأتي في خاطري الفاتر وفهمي القاصر هو أنّ تضحية سيّد الشهداء لا يمكن أن تذهب هدراً ولا هباءً منثوراً، فليس هناك أي إخفاق في هذا الجهد التضحوي ومسيرة الفداء والإصلاح العظيم الذي قام به سيّد الشهداء وأنصاره وأهل بيته علیهم السلام ، بل بالعكس، فهنالك حفظٌ تكويني لهذه الودائع والتضحيات؛ حيث

ص: 41


1- القمي، كامل الزيارات: ص386

سيتحقّق الإنجاز لأهداف ومبادئ هذه المسيرة، وستُكلّل بالنجاح، وليس في منطقها أيّ تعويق أو إخفاق، وإنّما هي مدّة وأجلٌ الله بالغه لحكمة بالغة؛ فبالتالي الأرض قد يُشار بها إلى أنّ هذا المشروع الإلهي الذي قام به سيّد الشهداء الذي هو مشروع دنيوي أرضي - يعني في عالم الدنيا - لن يُخفق الغايةَ التي رسمها له الله عز وجل، بل ستتحقّق بشخص سيّد الشهداء ودمه، الذي يُعبَّر عنه وجودُه وجسمه الدنيوي.

مقتل الحسين علیه السلام في رجعته الأُولى

الصلاح الحسینی :هل سيقتل الإمام الحسين علیه السلام في رجعته؟ وهل له رجعات متكرّرة متعدّدة أو له رجعة واحدة؟

* نعم لسيّد الشهداء علیه السلام عدّة رجعات، وكل أئمة أهل البيت علیهم السلام كذلك، إلاّ أنّ أكثرهم رجعةً هو الإمام عليُّ بن أبي طالب علیه السلام ، ومن بعده سيّد الشهداء علیه السلام ، حتّى إنّه وردت في روايات العامّة أنباء عن الرجعة بهذا العنوان: أنه روي عن عبد الله بن عباس وعن أهل البيت علیهم السلام : أنّ منّا المهدي ومنّا المنصور والسفّاح والمنذر(1)، فالمهدي إشارة للإمام الثاني عشر، والمنصور إشارة لسيّد الشهداء، حسب روايات كثيرة وقرائن واضحة ومتعددة، بل التص-ريح بذلك في بعض الروايات(2)، والسفّاح

ص: 42


1- اُنظر: الحاكم النيسابوري، المستدرك: ج4، ص514. الكوفي، ابن أبي شيبة، المصنّف: ج8، ص678
2- من ذلك ما رواه المفيد في الاختصاص، عن عمرو بن ثابت، عن جابر، قال: «سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول: والله، ليملكَن رجلٌ منّا أهل البيت بعد موته ثلاث مائة سنة ويزداد تسعاً. قال: فقلت: فمتى يكون ذلك؟ قال: فقال: بعد موت القائم علیه السلام . قلت له: وكم يقوم القائم في عالمه حتى يموت؟ قال: فقال: تسعة عشرة سنة من يوم قيامه إلى يوم موته. قال: قلت له: فيكون بعد موته الهرج؟ قال: نعم خمسين سنة، ثمّ يخرج المنتصر إلى الدنيا، فيطلب بدمه ودماء أصحابه، فيقتل ويسبى، حتى يقال: لو كان هذا من ذرية الأنبياء، ما قتل الناس كل هذا القتل! فيجتمع عليه الناس أبيضهم وأسودهم، فيكثرون عليه حتى يلجئوه إلى حرم الله، فإذا اشتدّ البلاء عليه، وقُتِل المنتصر، خرج السفّاح إلى الدنيا غضباً للمنتصر، فيقتل كلَّ عدو لنا. وهل تدري مَن المنتصر ومَن السفّاح يا جابر؟ المنتصر الحسين بن علي، والسفّاح علي بن أبي طالب علیه السلام ». المفيد، الاختصاص: ص257- 258.

هو الذي يُبيد الظالمين إبادة تامة وشاملة، فيسفح ويُبيد كلَّ أنواع الظلم، وهو أمير المؤمنين علیه السلام ، والمنذر هو رسول الله صلی الله علیه و آله في آخر الرجعة، ويرجع معه كلُّ أئمة أهل البيت علیهم السلام ، ويكونون عمّاله ووزراءه في الأرض.

والحاصل: إنَّ لسيّد الشهداء علیه السلام عدّة رجعات، فله رجعة مع أهل زمانه، وله رجعة مع أمير المؤمنين علیه السلام ، ثمّ إنّ له رجعة أيضاً مع سيّد الأنبياء صلی الله علیه و آله ، وربما مَن يستقصي يجد أكثر من هذه الرجعات.

أمّا أنّه يُقتل؛ فنعم يُقتل سيّد الشهداء في الرجعة الأُولى(1)، وهذا لا يعني أنّ الإصلاح قد أخطأ مسيره، بل - كما مرّ- للإصلاح مراتب ودرجات كثيرة، ولا نظنّ أن يُستوفى الإصلاح بجميع مراتبه في عهد دولة الإمام الثاني عشر عجل الله تعالی فرجه الشریف ، وإنّما الإصلاح في دولته المباركة عبارة عن إقامة القسط والعدل، وهو إصلاح في محيط التعامل الخارجي بين البشر والدول والأنظمة السياسيّة وغير ذلك، وأمّا الإصلاح على صعيد باطن نفوس الأفراد، وعلى صعيد الأُسر، وعلى صعيد الدول والمدن كافّة، فهذه درجات عالية جدّاً من الإصلاح، تكون على يد حكومة أهل البيت علیهم السلام ، بدءاً بسيّد الشهداء علیه السلام ، وقد ذُكر في الشعار الإصلاحي لرجعته علیه السلام درجة من الإصلاح لا تتحقّق حتى على يد الإمام الثاني عشر عجل الله تعالی فرجه الشریف ، وهي أنّ فتح البلدان كلّها أو معظمها ممّا لم يتم فتحه على يد الإمام الثاني عشر سيتمّ على يد سيّد الشهداء علیه السلام ؛ فيوسّع رقعة دار الإيمان إلى رقعة كبيرة جداً، لم تُنجَز في عهد الإمام الثاني عشر علیه السلام .

معالم دولة الإمام الحسين علیه السلام

الصلاح الحسینی :ما هي معالم دولة الإمام الحسين علیه السلام في أيام رجعته؟

* مرّ بنا أنّ المَعْلم الإصلاحي والبناء لحضارة الأرض وعمارتها الذي يتمّ على يد

ص: 43


1- تقدّم ذكر رواية قَتْل المنتصر في الهامش السابق، والمنتصر هو الحسين علیه السلام

سيّد الشهداء علیه السلام ، يفوق في المرتبة ما يتمّ إنجازه في عهد الإمام الثاني عشر عجل الله تعالی فرجه الشریف من حيث السعة والرقي(1)؛ ومِن ثَمّ فكلّ إصلاح من الإمام السابق ممهِّد لإصلاح أعظم لإمام لاحق، فالذي يتمّ على يد سيّد الشهداء في أوّل رجعاته - كما أشرنا - هو أنّه يفتح قاراتٍ وبلداناً لم يتمّ فتحها على يد الإمام الثاني عشر عجل الله تعالی فرجه الشریف .

اختلاف أدوار عصرَي الظهور والرجعة

الصلاح الحسینی :كيف ينسجم ما تفضلتم به مع ما دلّت عليه الروايات المتواترة، من أنّ الإمام الثاني عشر عجل الله تعالی فرجه الشریف سوف يملأ الأرض بأكملها قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً(2)؟ فما هو معنى أن يملأ الإمامُ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف الأرضَ قسطاً وعدلاً؟ وكيف يتمّ ذلك؟

* إنّ القسط والعدل هو طريقة وأُسلوب في التعامل والتعاطي بين الدول أو

ص: 44


1- هذا الكلام وما قبله إشارة إلى ما روي عن الإمام الحسين علیه السلام في حديث طويل مع أصحابه حول رجعته، ومن جملة ما جاء فيه قوله علیه السلام : «ثمّ إنّ أمير المؤمنين علیه السلام يدفع إليَّ سيف رسول الله صلی الله علیه و آله ، فيبعثني إلى المشرق والمغرب، فلا آتي على عدو لله إلا أهرقت دمه، ولا أدع صنماً إلا أحرقته، حتى أقع إلى الهند فأفتحها... ثمَّ لأقتلنّ كلَّ دابة حرّم الله لحمها، حتى لا يكون على وجه الأرض إلا الطيّب، وأعرض على اليهود والنصارى وسائر الملل ولأخيرنَّهم بين الإسلام والسيف، فمَن أسلم مننت عليه، ومَن كره الإسلام أهرق الله دمَه، ولا يبقى رجلٌ من شيعتنا إلاّ أنزل الله إليه مَلكاً يمسح عن وجهه التراب، ويعرِّفه أزواجَه ومنزلته في الجنّة، ولا يبقى على وجه الأرض أعمى ولا مقعد ولا مبتلى، إلا كشف الله عنه بلاءه بنا أهل البيت، ولينزلنَّ البركةَ من السماء إلى الأرض، حتى أنّ الشجرة لتقصف بما يريد الله فيها من الثمرة، ولتأكلنَّ ثمرةَ الشتاء في الصيف، وثمرة الصيف في الشتاء... ثمّ إنّ الله ليهبَ لشيعتنا كرامة لا يخفى عليهم شيء في الأرض وما كان فيها، حتى أنّ الرجل منهم يريد أن يعلمَ علمَ أهل بيته فيخبرهم بعلم ما يعلمون». الحلي، الحسن بن سليمان، مختصر بصائر الدرجات: ص37- 38
2- اُنظر: أحمد بن حنبل، مسند أحمد: ج3، ص27 وما بعدها. السجستاني، سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود: ج2، ص309- 310. الصدوق، التوحيد: ص82، وغيرها من المصادر، وهو من الأحاديث المتواترة

بين الشعوب والأنظمة، وهذا هو ما يملأه عجل الله تعالی فرجه الشریف بالعدل والقسط من حيث الكمّ والمساحة الجغرافية، وأمّا ملء الأرض من حيث الكيف بإصلاحات أُخرى، فهذا ما يتمّ بالتدريج على يدِ واحدٍ بعدَ واحدٍ من أئمة أهل البيت علیهم السلام ، ولكن سيّد الشهداء فاتحة الأئمّة، ولا سيما أمير المؤمنين علیه السلام ، وهو اللولب والقطب في الرجعة.

ومعنى ذلك: هو أنّ الدولة العظمى التي يقوم بها الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف سوف تسيطر على بقيّة الدول، ولا تسمح للفساد الذي تقوم به الأنظمة الأُخرى، فإذا صارت دولة الحقّ هي الضاغطة على بقيّة الدول، حينئذٍ تُملأ الأرضُ بالقسط والعدل، ويتمّ التعامل به بين الدول وأفراد البشر مع بعضهم البعض والدول مع شعوبها، ولكن هذا لا يعني فتح كل تلك الدول، وإنشاء دولة إسلاميّة عظمى ونظام إسلامي في كل ربوع الأرض، بل معناه سيطرة نظام الحقّ كقوّة مهيمنة على كلّ الأنظمة عن أن تتجاوز العدل إلى الحيف، لكن فتح تلك الأنظمة سيتمّ على يدَي سيّد الشهداء علیه السلام ، ثم تليها الفتوحات الأعظم على يد بقيّة المعصومين علیهم السلام .

رجعة الأئمة علیهم السلام بأبدانهم الطاهرة من مراقدهم الشريفة

الصلاح الحسینی :لقد جاء في روايات رجعة الإمام الحسين علیه السلام كثيراً أنّه أوّل مّن تنشقّ عنه الأرض في أيام الرجعة، فيخرج علیه السلام من قبره(1)، والسؤال المطروح هو أنّه: هل رجعته علیه السلام خروج من الأرض أم نزول من السماء؟ خصوصاً وأنّه قد ورد لدينا بأنّ الإمام المعصوم لا يبقى ببدنه ولا بروحه بعد ثلاثة أيام، بل يرتفع إلى السماء(2)، فكيف نتصوّر أنّ الإمام ارتفع إلى السماء ببدنه وروحه، ومع ذلك يخرج في الرجعة من الأرض؟

* ذكرنا أنّ ماهية الرجعة وطبيعتها هي رجوع من القبر، وقد ورد في نصوص

ص: 45


1- سبق ذكرُ بعض هذه الروايات، فلاحظ
2- اُنظر: الصفّار، أبو جعفر محمد بن الحسن، بصائر الدرجات: ص465

المعصومين علیهم السلام أنّ أبدانهم خُلقت من عليين، وأنّ أرواحنا خُلقت من فاضل ما خُلقت منه أبدانهم علیهم السلام (1)، لكن ورد عنهم أيضاً أنّ أبدانهم الدنيوية العالية قد أُلبست ومُزجت بطينة ترابيّة من الأرض(2)، ولولا ذلك لما أمكن للبشر أن يتعايشوا معهم؛ لأنهم غير مرئيين، والحال أنّهم بشر، يعني تُرى بشرتهم، ويتباشرون ويتعايشون مع بقيّة البشر؛ لذلك مُزجت أبدانهم وطينتهم بالتربة الأرضيّة، وهذه التربة هي بقاع مراقدهم؛ إذن في حين أنّ البدن الأصلي الدنيوي يُرفع من بقاع مراقدهم المقدّسة إلى السماء، إلاّ أنّ تلك الطينة الجسمانيّة لتُرَبِهم - التي هي لباس لأبدانهم الأصليّة- باقية، ومِن ثَمّ يُزارون علیهم السلام في تلك المواضع، وتلك التُرب المباركة لها ارتباط تكوينيٌّ ما مع تلك الأبدان الأصليّة، وهذا يفسر أيضاً ما ورد عنهم علیهم السلام بلسان آخر من أنّ تُربتنا كانت في بقعة واحدة، وبعد الطوفان فرّقها الله في هذه المُدن التي فيها الآن مراقدهم(3)، فهناك غير بدنهم الأصلي الدنيوي أبدان دنيويّة ترابيّة أرضيّة، بها أُلبست أبدانهم الأصليّة، واستطاع البشر من خلالها أن يتعاطوا ويتباشروا ويتعايشوا ويحيوا ويتفاعلوا معهم علیهم السلام ، فمِن ثَمّ؛ إذن هذه الطينة وهذا البدن الآخر موجود، وتعود تلك الأبدان الأصليّة والأرواح لهم بالتعلّق مع الأبدان الترابيّة الأرضيّة.

الصلاح الحسینی :هل تختلف رجعة الأئمّة علیهم السلام عن رجعة سائر الناس من حيث كيفية الخروج؟

* لا ريب في ذلك، كما أنّ أبدانهم تختلف عن أبدان سائر الناس في الإنسانيّة والبشرية؛ لأنّها من النوع الراقي والكامل، وفاضل طينة أبدانهم خُلقت منها أرواحُنا، فهناك جهة اشتراك، ولكن لهم خصوصيّة الاصطفاء والنقاوة والطهارة، فهم صفوة من سلالة النبيين، اصطفوا وصُفّوا من النبيين السابقين، فكيف مع بقيّة البشر؟!

ص: 46


1- اُنظر: الصفّار، أبو جعفر محمد بن الحسن، بصائر الدرجات: ص40.
2- اُنظر: روايات الطينة: الكليني، الكافي: ج2، ص2 وما بعدها.
3- اُنظر: الطوسي، تهذيب الأحكام: ج6، ص110.

الفارق الدقيق بين الرجعة من الأرض والنزول من السماء

أمّا الاختلاف بين الرجعة والنزول، فهذا هو الذي ربما وقع فيه الخلط، فهناك خلط وتشويش في كلمات كثير من علمائنا، وذلك عند تعرّضهم لذكر الفارق بين حقيقة النزول وحقيقة الرجعة.

والصحيح أن يُقال: إنّ النزول هو من قبيل نزول الملائكة بأبدان برزخيّة، إمّا مع التمثّل أو من دونه، بنحو غير مرئي ولا مشاهَد بالعين، وهو أيضاً من قبيل ما ورد في الروايات من أنّ الميّت المؤمن ينزل ليلة الجمعة على جدار منزله، ليشاهِد عياله وأهله(1)، فهذا نزول وليس رجعة؛ لأنّه ليس رجوعاً من القبر بالبدن الدنيوي، وإنّما هو نزول بالبدن البرزخي، وإنّما سُمّي نزولاً؛ لأنّ طبيعة البدن البرزخي تُشابه البدن الملائكي، أو بعض مراتب البدن الملائكي، فهو بدن عُلويّ لطيف مجرّد، يتنزّل ويتكثّف إلى دار الدنيا، وقد سُمّي هذا نزولاً، ولم يتضمّن أيّ إحياء للموتى، بل هو نزول وعروج، وأمّا الرجعة، فهي رجوع بنفس الجسم والبدن بمادّته الدنيويّة الترابيّة.

أتمنّى لهذه المجلة أصداء ومساحات عالميّة

سماحة الشيخ إنّ مجلّة الإصلاح الحسيني في بداية طريقها ومشوارها، هل من كلمة أخيرة أو توصية خاصّة؟

* أتمنّى إن شاء الله أن تأخذَ هذه المجلّةُ أصداء ومساحات عالميّة، وأن تكون مركزاً عَولميّاً عالميّاً، سواء على صعيد الإنترنت أو على مستوى آليّات الطباعة والنشر، والمرجوّ من المجلّة أن تتواصل مع المراكز الثقافية، الإسلاميّة والعالميّة، في أقص-ى نقاط الغرب والش-رق، وأن تُنشَأ لهذه المجلّة مؤسّسات ضخمة في مجال البحث والكتابة والتحقيق في كافّة القارّات والبُلدان، وأن يتمّ نشرها عن طريق العتبة

ص: 47


1- اُنظر: الكليني، الكافي: ج3، ص230 وما بعدها.

الحسينيّة المقدّسة، وذلك بالتواصل مع مراكز الثقافات والوفود، وهذا ما يستوجب العمل على وضع جدولة وبرمجة وآليّات فكريّة وفنيّة و... وهذه هي مسؤوليّة القائمين على خدمة العتبة الشريفة، وقد قدّر الله لهذا القبر الشريف أن يكون معْلَماً كبيراً كما قالت العقيلة، من أنّه سيظهر علم هنا لا يزداد على مدى الدهور إلا انتشاراً وهدايةً للأُمم(1).

الصلاح الحسینی :سماحة آية الله المحقق الشيخ محمّد السند حفظكم الله ورعاكم، الشكر موصول لكم على إتاحة هذه الفرصة الطيّبة والمباركة.

*حيّاكم الله، وأشكركم جزيل الشكر على هذه الزيارة.

ص: 48


1- اُنظر: القمي، كامل الزيارات (نسخة بدل): ص444.

منهج النقل للرواية العاشورائية الشيخ مشتاق الساعدي

مدخل

دأب بنو الإنسان منذ بدء الخليقة على التواصل بين الأجيال المتعاقبة والأقوام المختلفة في الأزمنة السالفة، ومعرفة أخبار هذه الأُمم وما حصل فيها من وقائع وأحداث، بدافع حبّ الاطّلاع المغروس في فطرة الإنسان، وكان هذا التواصل عادةً ما يحصل عبر رواية أخبار الماضين وتناقلها جيلاً عن جيل، أو مشاهدة آثارهم وما تركوه من وثائق ومستندات.

لقد كان لأدوات هذا الارتباط أهمية بالغة في ربط الماضي - بكل ما يحمل من قيمة معرفيّة كبيرة - بالحاضر والتأثير فيه من أجل صنع مستقبل أفضل؛ وذلك من خلال استيعاب دروس الماضي وتحليلها واستخلاص العِبَر منها، وكذلك فهم رسالات السماء التي جاء بها الأنبياء وأبلغوها للبشرية على مرّ التاريخ، وأمروا بالالتزام بما جاء بها من تعاليم وتوصيات.

مضافاً إلى أنّ الماضي كثيراً ما يضمّ في طياته وقائع وأحداث تاريخية مهمّة تحمل

ص: 49

دلالات اجتماعية وإصلاحية قام بأعبائها أشخاص ثوريون ومصلحون أرادوا إنقاذ أممهم ومجتمعاتهم من خطر الانحراف عن جادة الصواب، ولا نكون مجانبين للصواب إذا ما قلنا: إنّ النهضة الاجتماعية الإصلاحية التي قادها سبط النبي الخاتم صلی الله علیه و آله الإمام الحسين علیه السلام تقف في مقدِّمة النهضات والثورات، بل لا تمتلك أيّ حركة اجتماعية - لإصلاح المجتمع وإعادته إلى المسار الصحيح - ما تمتلكه النهضة الحسينيّة، بأبعادها ومعطياتها المختلفة، التي لم تستطع البشرية حتى اليوم إدراكها وفهمها؛ فلكي تصل عاشوراء الحسين علیه السلام إلى الأجيال لتنهل منها لا بد من نقل أحداثها ووقائعها ورسائلها بطرق وقنوات ممنهجة ومدروسة، تخضع للميزان العلمي والعقلائي والشرعي؛ من هنا انبثقت فكرة التعرُّف على الميزان العلمي الذي يلزم الباحث معرفته في قضية عاشوراء، الذي بموجبه يتم قبول أو طرح روايات وأخبار النهضة الحسينيّة.

إنّ معرفة الميزان الصحيح الذي توزن به المادة والحدث العاشورائي، أمر يحوز أهمّية فائقة على صعيد عرض أحداث عاشوراء الإمام الحسين علیه السلام ، وله أثر كبير في إثبات بعض ما يُنقل ويُروى من تاريخ عاشوراء وأحداثها، والذي سيمثّل مادة أولية للنثر أو الشعر أو القصّة أو الإنتاج السينمائي أو المسرحي أو غير ذلك، وأيضاً إثبات ما يمارس من مصاديق الشعائر الحسينيّة ودفع الإشكال عنها.

فإذا أردنا ذكر حدثٍ من أحداث ملحمة عاشوراء، فما هو الميزان الذي يبيح لنا - كخطباء أو شعراء أو أدباء - أن ننقل ذلك الحدث أو ننسبه إلى فاعله؟ بحيث لا ينطبق على ناقله عنوان الكذب في النقل، الذي حرّمته الشريعة المقدّسة بصورة مطلقة، وتشتدّ الحرمة فيما لو كان النقل عن المعصوم؛ وذلك لخصوصية العصمة والقداسة الموجودة في بعض

ص: 50

أشخاص ملحمة عاشوراء؛ إذ لا يجوز نسبة أي شيء لهم ما لم يكن هناك دليل وحجّة على ذلك، كما في شخص قائد الملحمة الإمام الحسين وابنه الإمام زين العابدين علیهما السلام ؛ إذ إنّ عنوان الإمامة والعصمة يضفي عليهما أحكاماً خاصّة، من حيث نسبة قول أو فعل أو تقرير إليهم، كما هو مقرر في علمي الفقه والكلام.

موازين ومناهج القبول والردّ في العلوم

تفرض طبيعة كل علم - وخاصيته وما له من غاية ووظيفة - أن يكون له منهج وميزان خاصّ تخضع له عملية الاستدلال في ذلك العلم، وتحكّم قوانينه وموازينه في القبول والردّ. وإنّ هذه الموازين والمناهج العلمية يختلف بعضها عن البعض الآخر - بطبيعة الحال - من حيث التشدّد أو التساهل، فبعضها يتشدّد كثيراً، كما في المنهج العقدي والكلامي، وبعضها يتساهل قليلاً في قبوله للخبر أو الرواية كالمنهج الفقهي، وبعضها أكثر اتّساعاً في تعامله مع الأخبار والروايات، كما هو الحال في ميزان المنهج التاريخي، وستأتي الإشارة إلى ضوابط وموازين كل واحد من هذه المناهج، وكيفيّة تطبيقها على أحداث عاشوراء؛ لمعرفة ما هو المعيار والميزان في نسبة فعل أو قول أو أيّ شيء آخر لذوات ملحمة كربلاء.

وبعبارة أوضح: ما هو ميزان التعامل في نقل روايات وأحداث عاشوراء؟ فهل نتعامل مع النقل للوقائع معاملة القضايا أو المسائل العقائدية؟ أو نتعامل معها معاملة المسائل الفقهية أو التاريخية؟ أو ماذا؟

الخلط بين المناهج في التعامل مع أحداث عاشوراء

اشارة

بعد أن عرفنا أنّ لكل علم منهجه الخاصّ وضوابطه المحددة، فإنّ حصول أيّ

ص: 51

خلط بينها سوف يؤدي إلى انحرافات وعواقب وخيمة، تلقي بظلالها على كثير من الأحكام والموضوعات الشرعيّة من جهة، وتؤدي إلى نزاعات علميّة من جهة أُخرى، وهو ما يسمى ب-(الخلط في المنهج) حسب الاصطلاح المعاصر.

وبسبب الخلط بين المناهج الثلاثة - العقدي والفقهي والتاريخي - وضوابطها أصبح عندنا اتجاهان غير معتدلين في القبول والرفض لوقائع كربلاء ورواياتها:

الأول: المنهج المتشدِّد

وهو ما ذهب إليه بعض الباحثين من تفنيد أكثر أحداث عاشوراء؛ وذلك بعد أن قاسها بمقياس لم يوضع لأجلها، ووزنها بغير ميزانها؛ إذ إنّه عامل كلّ الأحداث معاملة الرواية في باب العقائد أو الفقه، واشترط ضوابط العِلمين في كلّ الروايات العاشورائية، ولعلنا نجد هذا المنهج متَّبعاً في كتاب الملحمة الحسينيّة للشهيد مطهري رحمة الله ، وكذا لدى بعض الكتَّاب المعاصرين.

الثاني: المنهج المتساهل

وهو ما انتهجه بعضٌ آخر من الباحثين، كبعض الخطباء والكتَّاب وأرباب المقاتل وبعض المحدِّثين، الذين توسعوا في تلقي ما نُقل في كتُب السير والتأريخ حول واقعة الطفّ بالقبول، ولم يعيروا أهمية واضحة للتفريق بين المناهج المتقدِّمة في تقبُّلهم لتلك الأحداث، فأرسلوها إرسال المسلَّمات من خلال الاعتماد في كلّ المنقولات العاشورائية على ميزان التاريخ فقط، فوزنوا كلّ الأحداث بالميزان الأسهل، وأخذوا كلّ ما ذكره التاريخ؛ وبذلك وقع الفريقان بين إفراط بالقبول أو إفراط بالرفض،

ص: 52

والحال أنّ الطريقة المثلى هي الوسطيّة التي سنتعرَّف عليها من خلال البحث؛ حيث إنّنا سنتبنّى التفصيل في روايات عاشوراء.

موازين العلوم والرواية العاشورائية

اشارة

قبل أن نعطي نتيجة حول الميزان في قبول الروايات العاشورائية لا بدّ أن نستعرض المناهج والموازين في قبول النقل في العلوم الثلاثة: (الكلام والفقه والتاريخ) ونحدّد الميزان الذي يمكن أن نحاكم تلك الروايات العاشورائية على أساسه:

أولاً: المنهج أو الميزان في البحث العقدي (الكلامي)

إنّ المنهج في نقل الرواية في باب الأُمور الاعتقادية المتعلقة بالبحث عن أصول الدين الإسلامي (التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد) وتفريعاتها - مما يمكن إثباتها عن طريق النقل - يختلف عن مناهج نقل الرواية في فروع الدين والمسائل الفقهية، كما ويختلف عنه في نقل الرواية التاريخية، فهو المنهج الأكثر تشدداً بالنقل؛ إذ إنّ الرواية في باب العقائد التي تثبت بها أمور عقائدية، لا بدّ أن تكون بدرجة القطع والعلم بصدورها عن المعصومين؛ لأنّ الأُمور العقائدية لا تبنى على الظنّ والتخرُّص، فإنّهما لا يغنيان عن الحقّ شيئاً.

وبعبارة أُخرى: إنّ الذي يُطالب به المكلف في باب العقائد هو عقد القلب القطعي على الاعتقاد بالأصول الخمسة وتفريعاتها، ومن دون أيّ ريب أو شك، وهذا لا يحصل من الظنِّ.

وهذا الرأي ذهب إليه مشهور علماء الإمامية، فقالوا: إنّ مطلق الأُمور العقائدية

ص: 53

لا تثبت إلاّ باليقين، واليقين لا يحصل بالخبر الظنّي، كخبر الواحد، وإنّما يحصل بالخبر القطعي كالخبر المتواتر، أو المحفوف بقرائن قطعية(1).

وخالف بعض الأعلام، ففصّلوا بين إثبات العقائد الأساسية والرئيسة وبين إثبات العقائد الثانوية الفرعيّة، فقالوا: إنّ العقائد الأساسية لا تثبت إلاّ بالخبر القطعي واليقيني، وأمّا العقائد الفرعيّة والتفصيليّة فيمكن إثباتها بالخبر الظنّي الحجّة، وهو خبر الثقة أو الخبر الموثوق بصدوره.

وذهب إلى هذا القول جملة من المحققين، منهم: المحقق الطوسي قدس سره ، والعلاّمة المجلسي قدس سره ، والشيخ البهائي قدس سره ، وغيرهم(2)، وتبنّاه من المعاصرين أستاذ أساتذتنا السيد المحقق الخوئي قدس سره في كتابه مصباح الأصول، في بحثه حول حجيّة الظنّ في غير الأحكام(3).

وتبنّاه أيضاً بعض مشايخنا المعاصرين، كالشيخ الأستاذ محمد السند في بحثه الأصولي، وفي كتابه الشعائر الحسينية(4). وهذا الميزان لا يجري في نقل كلّ الروايات التي تنقل إلينا واقعة كربلاء؛ إذ إنّ تلك الروايات تنقل لنا أحداثاً تاريخيّة في غالبها.

نعم، إذا كانت تلك الروايات تنقل لنا ما يتعلّق بالعقيدة والاعتقاد، كالحديث عمّا يتعلق بعصمة الإمام الحسين علیه السلام ، أو العدل الإلهي، وما جرى من محن وابتلاءات

ص: 54


1- الهاشمي، محمود، بحوث في علم الأصول (تقريرات بحث السيد محمد باقر الصدر قدس سره ): ج4، ص327
2- اُنظر: الموسوي، رياض، الشعائر الحسينية بين الآصالة والتجديد (محاضرات الشيخ محمد السند): ج1، ص239
3- الحسيني، محمد سرور، مصباح الأصول (تقريرات بحث المحقق السيد الخوئي قدس سره ): ج2، ص238
4- اُنظر: الموسوي، رياض، الشعائر الحسينية بين الآصالة والتجديد (محاضرات الشيخ محمد السند): ج1 ص 240

على آل البيت علیهم السلام ، وربطه بواقعة وأحداث كربلاء، أو ما يخصّ الشفاعة، أو رجعة الإمام الحسين علیه السلام (1) أو غيرها، فإنّ كل ذلك يوزن بوزان المنهج العقائدي؛ وعليه يكون الميزان العقائدي جارياً في بعض أحداث ووقائع عاشوراء المحتوية على ما يرتبط بالعقيدة والاعتقاد فقط، دون النقول الأُخرى.

وإليك جملة من التطبيقات الكليّة التي لا بدّ من أن توزن بالميزان العقدي:

الأول: كل ما يُنقل عن الإمام الحسين علیه السلام فيما يخصّ العقيدة والاعتقاد، كقضية الإمامة والوصية، كما في قوله علیه السلام : «فانسبوني فانظروا مَن أنا، ثمَّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمّه، وأول المؤمنين المصدِّق لرسول الله بما جاء به من عند ربه؟!»(2).

أو أنّ الخروج عليه كفر؛ باعتباره إمام مفترض الطاعة، كما في قوله علیه السلام : «ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان؛ فأنساكم ذكر الله العظيم، فتباً لكم ولما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم، فبعداً للقوم الظالمين»(3).

أو أنّ مَن قاتله خالد في النار، كقوله علیه السلام : «ولبئس ما قدمت لهم أنفسهم في العذاب

ص: 55


1- فقد وردت مجموعة من الروايات التي تنصّ على رجعة الإمام الحسين علیه السلام ، كما أخرج الكليني في الكافي، بسنده عن أبي عبد الله علیه السلام - في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَددنا لَكُمُ الكَرَةَ عَليهِمْ﴾ - قال: «خروج الحسين علیه السلام في سبعين من أصحابه، عليهم البيض المذهّب، لكل بيضة وجهان، المؤدّون إلى الناس أنّ هذا الحسين قد خرج، حتى لا يشك المؤمنون فيه، وأنّه ليس بدجّال ولا شيطان، والحجّة القائم بين أظهرهم، فإذا استقرت المعرفة في قلوب المؤمنين أنّه الحسين علیه السلام ، جاء الحجّةَ الموتُ، فيكون الذي يغسّله ويكفّنه ويحنّطه ويُلحده في حفرته الحسين بن علي علیهما السلام ، ولا يلي الوصي إلاّ الوصي». الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج8 ، ص206
2- المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص97
3- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص6

وهم خالدون»(1).

أو وجوب نصرته علیه السلام حين طلب النص-رة، كما في الرواية التي يرويها كثير من المؤرخين عن النبي الأعظم صلی الله علیه و آله : «إنّ ابني هذا يُقتل بأرض يُقال لها: كربلاء. فمَن شهد ذلك منكم فلينصره»(2).

الثاني: كل ما يُنقل عن الإمام السجاد علیه السلام من روايات أو مواقف تندرج تحت القضايا العقدية، ومن أمثلة ذلك: ما نقله صاحب البحار من خطبة الإمام السجاد علیه السلام في مجلس يزيد: «فإن زعمتَ أنّه جَدُّك؛ فقد كذبتَ وكفرت، وإن زعمتَ أنّه جَدّي؛ فلِمَ قتلتَ عترته»(3).

الثالث: كلّ ما ينقله الإمام الحسين وأهل بيته علیهم السلام وأصحابه من روايات تُبيِّن مواقف عقدية عن النبي صلی الله علیه و آله أو أمير المؤمنين أو الحسن علیهما السلام ، ومن أمثلة ذلك: ما استشهد به الإمام الحسين علیه السلام من قول رسول الله صلی الله علیه و آله : «أوَ لم يبلغكم قول رسول الله صلی الله علیه و آله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟! فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ، والله، ما تعمّدت الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به مَن اختلقه، وإن كذّبتموني؛ فإنّ فيكم مَن إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلی الله علیه و آله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!»(4).

ص: 56


1- الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص40.
2- اُنظر: ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج14، ص224. والعسقلاني ابن حجر، اُسد الغابة: ج1، ص123
3- اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص139.
4- المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص97

الرابع: كلّ ما صدر عن السيدة زينب علیها السلام من نقول أو أفعال تنقلهما عن الإمامين الحسين والسجاد علیهما السلام ، ومن أمثلة ذلك: ما نقلته السيدة زينب عن الإمام السجاد علیه السلام أنّه قال لها: «اسكتي يا عمّة، فأنت بحمد الله عالمة غير معلَّمة، فَهِمَةٌ غير مفهَّمة»(1).

ومن أمثلة ذلك أيضاً: ما روي عن السيدة زينب من أنّ الإمامة للإمام السجاد بعد أبيه علیهما السلام ، وأن الإمام زين العابدين علیه السلام طلب من عمته سيفاً ليقاتل مع أبيه الحسين علیه السلام ، فقال الحسين علیه السلام لأُخته: «يا أُم كلثوم، خذيه لئلا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد صلی الله علیه و آله »(2).

الخامس: كل ما يُنقل من روايات تمسّ أو تنافي عصمة الإمام الحسين والإمام السجاد علیهما السلام ؛ باعتبار دخول مسألة العصمة في مبحث الإمامة.

السادس: ما يُنقل عن السيدة زينب علیها السلام أو بعض أصحاب الإمام الحسين علیه السلام من أُمور عقديّة، بمرأى ومسمع من المعصوم علیه السلام ، كما في قولها علیها السلام لشخص أراد أن يأخذ إحدى بنات الإمام الحسين علیه السلام في مجلس يزيد، بعد أن أقرّ بصحّة السبي: «ما جعل الله لك ذلك، إلاّ أن تخرج من ملَّتنا وتدين بغير ديننا...»(3).

فهذه التطبيقات الكليّة - التي يجدها الباحث والمتتبع والسامع لوقائع عاشوراء - وما يندرج تحتها من أمثلة كثيرة لا بدّ أن توزن بمعايير وضوابط البحث العقائدي، ولا يصح النقل بشكل قطعي ما لم تخضع لذلك الميزان.

ص: 57


1- الطبرسي، أحمد بن علي بن أبي طالب، الاحتجاج: ص166 (ط النجف)
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص46
3- المصدر السابق: ص136
ثانياً: المنهج أو الميزان في البحث الفقهي

وهذا المنهج يُعنى بنقل الرواية في باب الأحكام الشرعيّة الفرعيّة - المسطور في كتب الفقه الإسلامي - وهو المنهج الأقل تشدداً في النقل من المنهج العقائدي؛ لأنّه يقبل الخبر الظنّي المعتبر، كخبر الواحد الثقة، أو الخبر الموثوق بصدوره من خلال مجموعة عوامل تفيد الاطمئنان أو الوثوق بالصدور(1).

وبيان ذلك يتوقف على استيضاح مقدمة:

وهي أنّنا نعلم إجمالاً بأن بعض الأخبار الواصلة إلينا مدسوس ومكذوب على رسول الله صلی الله علیه و آله وأهل البيت علیهم السلام ، ولهذا التزوير والوضع تاريخ طويل لا يسع ذكره هنا، وقد مورس بأيادٍ خبيثة أكثرها خارجية، وكذا من خلال بعض السلطات الحاكمة وبعض المرتزقة، ويعود زمن هذا الوضع والتزوير إلى بداية الدعوة، حتى أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قد صرّح في غير موطن بذلك، كما قال أمير المؤمنين علیه السلام في خطبة له: «... وَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه و آله عَلَى عَهْدِهِ حَتَّى قَامَ خَطِيباً، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ الْكَذَّابَةُ؛ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً؛ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النَّارِ. ثُمَّ كُذِبَ عَلَيْهِ من بَعْدِه»(2).

وعليه؛ فإنّ منهج فقهاء أهل البيت في الاستنباط الفقهي والتشريعي لا يعتمد على كلّ الروايات الواصلة إليهم؛ لأنّهم يعلمون إجمالاً أنّ بعض ما وصل من روايات موضوع ومكذوب عليهم؛ لذا فإن منهج البحث في نقل الرواية المتعلقة بإثبات حكم شرعي فرعي يعتمد على أُسس وقوانين مدوَّنة تفصيلاً في علمي (الرجال والحديث)،

ص: 58


1- الإيرواني، محمد باقر، دروس تمهيدية في القواعد الفقهية: ص49.
2- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص 62

ونحن نكتفي بذكر ملخَّص من ذلك؛ فنقول: إنّ الروايات تنقسم على أربعة أقسام:

1 - الرواية الصحيحة: وهي الرواية التي يكون جميع رواتها عدولاً إمامية اثنى عشرية.

2 - الرواية الموثّقة: وهي الرواية التي يكون جميع أو بعض رواتها ثقات، وإن لم يكونوا إمامية اثنى عشرية، وكانوا من أبناء العامة الثابتة وثاقتهم، أو زيدية، أو إسماعيلية أو غيرهم، إذا كانوا ثقات.

3 - الرواية الحسنة: وهي الرواية التي في سندها راوٍ إمامي، ولكنّه ممدوح ولم يرد فيه توثيق.

4 - الرواية الضعيفة: وهي الرواية التي يكون راويها منصوصاً على ضعفه، أو مجهول الحال؛ فيعامل معاملة الضعيف(1).

والمشهور يرى اعتبار الروايات الثلاث الأُولى دون الأخيرة(2)تقريرات بحث المحقق السيد الخوئي قدس سره (3)، ففي إثبات حكم شرعي لا بدّ من وصول الرواية إلينا بطريق معتبر وحجّة؛ لكي نعتمد عليها في مقام الاستنباط.

والروايات التي تكون حجّة في الأحكام على صنفين:

الصنف الأول: أن يكون الخبر واصلاً إلينا بالعلم والقطع، وهو الخبر المتواتر، ونسبة تلك الأخبار قليلة جداً.

ص: 59


1- اُنظر: الإيرواني، محمد باقر، دروس تمهيدية في القواعد الرجالية: ص47.
2- اُنظر: الحسيني، محمد سرور، مصباح الأصول
3- : ج2، ص200

الصنف الثاني: الخبر الواصل إلينا بالظنّ المعتبر الذي جعله الشارع حجّة، وتحصيل ذلك بأحد مبنيين:

الأول: مبنى الوثاقة

وهو ما ذهب إليه بعض الأعلام المعاصرين، كالسيد الخوئي قدس سره وجملة من تلاميذه، وحاصله: أنّ الخبر المعتبر في الفقه ما كان رواته منصوصاً على وثاقتهم، إمّا بالتوثيقات الخاصّة، كنصّ الإمام علیه السلام أو نصّ أحد الرجاليين المتقدمين، كالطوسي أو النجاشي على وثاقة راوٍ معين، أو بالتوثيقات العامّة، ككبرى وثاقة كلّ مَن ورد في إسناد تفسير القمّي، أو في نوادر الحكمة أو غير ذلك، كما هو مفصّل في محله من علم الأصول والرجال(1). أمّا غير ذلك؛ فلا ثبوت للأحكام الفقهية به.

الثاني: مبنى الوثوق بالصدور

وهو ما ذهب إليه مشهور الفقهاء - كالسيد الحكيم والسيد البروجردي والسيد السيستاني وبعض أساتذتنا المعاصرين، وهو الصحيح - من أنّ الوثوق بالصدور يكفي في اعتبار الرواية، ومعنى الوثوق بالصدور هو: تجميع قرائن من داخل الخبر وخارجه تفيد اطمئناناً بأنّ الخبر قد صدر عن المعصوم، وإنّ لم يكن كلّ رواته في سلسلة السند منصوصي الوثاقة؛ فالحجّة هو حصول الاطمئنان والوثوق بأنّ الخبر صادر عنهم؛ وتكون حينئذٍ وثاقة الرواة إحدى أمارات تحصيل الوثوق بالصدور(2).

ص: 60


1- اُنظر: الحسيني، محمد سرور، مصباح الأصول (تقريرات بحث المحقق السيد الخوئي قدس سره ): ج2، ص225
2- اُنظر: الهمداني، مصباح الفقيه: ج1، ص34. والحكيم، محسن، مستمسك العروة الوثقى: ج9، ص248. والسبحاني، جعفر، الرسائل الأربع: ج3، ص69 (حيث ينقل رأي السيد البروجردي). والإيرواني، محمد باقر، دروس تمهيدية في القواعد الرجالية: ص207

وعلى كلا المبنيين - خصوصاً الأول منهما - لا يهمل الخبر الضعيف كلياً ويعامل معاملة غير الصادر، بل لعله صادر ولكن لم يثبت لنا طريق لاعتباره. وبعبارة أُخرى: كون الخبر ضعيفاً لا يدلّ على نفي صدوره عن المعصوم بشكل قطعي، بل لعله صدر ولا وسيلة لإثباته.

وهذا يستدعي عدم طرح الأحاديث الضعيفة كلياً؛ للقاعدة التي أسسها علماء الأصول من حرمة ردِّ الخبر الضعيف(1)؛ إذ يمكن الاستفادة منه في إثبات مستحب أو مكروه؛ طبقاً لقاعدة التسامح في أدلّة السنن، التي يبني عليها بعض الأعلام، كما يمكن إثبات حصول التواتر أو الاستفاضة به.

والروايات العاشورائية لا تخضع لهذا الميزان على نحو كلي، وإنّما يشملها فيما إذا كانت تلك الروايات تؤسس لحكم شرعي، أو تنسب فعلاً أو قولاً لمعصوم كالإمام الحسين أو الإمام السجاد علیهما السلام .

نعم، بعض الروايات الضعيفة التي تنقل أفعال الإمام الحسين علیه السلام لا ينبغي طرحها، بل يُبحث عن قرائن أُخرى لإثباتها، خصوصاً على مبنى الوثوق بالصدور، كما أشرنا سابقاً. فمثلاً: إذا نقل ابن عساكر في تاريخه حدثاً عن كربلاء، وتكرر النقل من مؤرِّخ آخر للحدث نفسه، كما لو نقل الخوارزمي والرازي نفس الحدث، فلا يقال: إنّ أخبارهم ضعيفة ولا يؤخذ بها؛ لأنّ الخبر الضعيف لا يعني أنّه مدسوس، فلو حصل لنا اطمئنان أو وثوق بالصدور أصبح حجّة، وحصول ذلك الوثوق بسبب قرائن من داخل النصّ، كعلو بلاغته، أو إخباره عن المغيّبات وغيرهما، أو من

ص: 61


1- اُنظر: العاملي، محمد بن مكي(الشهيد الأول)، غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: ج1 ص 103. والسند، محمد، بحوث في مباني علم الرجال: ج1، ص74

خارج النصّ، كما هو مبحوث في علم الدراية والرجال.

وخلاصة الكلام في موردنا هذا هو: أنّ روايات عاشوراء إنّما توزن بالميزان الفقهي إذا كانت حاوية على مسائل فقهية.

وإليك بعض التطبيقات الكليّة التي لا بدّ أن توزن بميزان الفقه:

1- كلّ ما يتعلّق بالمسائل التي تخصّ الحلال والحرام، كالصلاة التي صلاّها الإمام الحسين علیه السلام حال الحرب (صلاة الخوف)، وطلبه الهدنة المؤقتة من القوم حتى يصلّي؛ فقد روي أنّه عندما ذكّره أحد أصحابه بالصلاة، قال له الإمام علیه السلام : «... ذكرت الصلاة؛ جعلك الله من المصلين الذاكرين. نعم، هذا أول وقتها. ثمّ قال: سلوهم أن يكفّوا عنّا حتى نصلّي»(1).

ومن ذلك أيضاً: مسألة خروجه علیه السلام يوم التروية، كما ذكر المؤرخون(2)؛ حيث ذكروا أنّ خروجه كان بسبب الاضطرار، فيبحث في أصل جواز الخروج وعدمه؛ وبناءً على الجواز، هل يجوز الخروج مطلقاً أو بشرط الاضطرار؟ ونحو ذلك.

ومنه: مسألة مشروعيّة الإذن بترك الجهاد معه علیه السلام والترخيص من قبله بالنجاة - حيث يُبحث في صلاحيّة ولي الأمر بترك الجهاد والإذن بالانص-راف - فروي في ثمرات الأعواد قوله علیه السلام : «يا أصحابي، إنّ هؤلاء يريدوني دونكم، ولو قتلوني لم يصلوا إليكم، فالنجاة النجاة! وأنتم في حِلٍّ منّي؛ فإنّكم إن أصبحتم معي قُتلتم كلّكم»(3).

ص: 62


1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص21.
2- اُنظر: الأمين، محسن، لواعج الأشجان: ص70. والسيد شرف الدين، المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة: ص209
3- اُنظر: الهاشمي، عليّ بن الحسين، ثمرات الأعواد: ج1 ص 258.

ومنه: مسألة إصرار الإمام الحسين علیه السلام على عدم بدء الحرب، وإنّما بدأت من جهة جيش العدو(1).

ومنه: قبول التوبة حتى بعد ارتكاب ما هو سبب لقتل الحسين علیه السلام ، كما في التوبة التي سألها الحرّ مخاطباً الإمام علیه السلام : هل لي من توبة؟ فقال علیه السلام : «نعم، يتوب الله عليك»(2).

2- كلّ ما ينسب للإمام الحسين علیه السلام - وإن لم يكن مسألة فقهية - من قول أو فعل أو تقرير؛ وذلك لخصوصيّة العصمة.

3- كل ما يرويه أصحاب الإمام الحسين علیه السلام أو أهل بيته أو السيدة زينب علیها السلام ، من أقوال أو أفعال عن أبي عبد الله الحسين علیه السلام ؛ للخصوصيّة نفسها.

4 - كل ما يُروى عن الإمام السجاد علیه السلام من قول أو فعل - سواء كان فقهياً أو غير فقهي(3) - لعدم جواز نسبة شيء إليه بشكل قطعي إلاّ بحجّة شرعيّة؛ لأن الإسناد له إسناد للشارع المقدّس(4)، ومثال ذلك: ما نقل بعض الكتّاب والمؤرخين كالدربندي

ص: 63


1- اُنظر: الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص56.
2- اُنظر: المصدر السابق: 59.
3- كما روى أبو مخنف، قال: «حدَّثني الحارث بن كعب وأبو الضحّاك، عن علي بن الحسين بن علي، قال: إنّي جالس في تلك العشيّة التي قُتل أبي صبيحتها، وعمّتي زينب عندي تمرِّضني، إذ اعتزل أبي بأصحابه في خباء له وعنده حوى مولى أبي ذر الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول: يا دهر أفٍ لك من خليل***كم لك بالإشراق والأصيل من صاحب أو طالب قتيل***والدهر لا يقنع بالبديل وإنّما الأمر إلى الجليل***وكلّ حي سالك السبيل قال: فأعادها مرتين أو ثلاثاً حتى فهمتها، فعرفت ما أراد؛ فخنقتني عبرتي، فرددت دمعي ولزمت السكون، فعلمت أن البلاء قد نزل» أبو مخنف، مقتل الحسين: ص111
4- الصدر، محمد باقر، دروس في علم الأصول (الحلقة الثالثة): ص69.

في أسرار الشهادة والسيد المقرَّم في كتابه زين العابدين(1): من أنّ الشهداء دفنوا في حفرة واحدة بتقرير من الإمام السجاد علیه السلام ، وهذا النقل يستدعي إثبات ذلك برواية مسندة؛ إذ إنّه حكم فقهي من جهة، وإنّ أكثر الفقهاء بين مانع من الدفن الجماعي في قبر واحد، وبين قائل بالكراهة، ويستفاد ذلك من عبارة صاحب الجواهر؛ حيث قال: «و(منها) (أي المكروهات) دفن ميتين ابتداءً في قبر واحد بلا خلاف أجده بين مَن تعرَّض له - من ابن حمزة والفاضلين والشهيد وغيرهم - عدا ابن سعيد في الجامع فنهى، ولعله يريدها للأصل وضعف المرسل عنهم علیهم السلام (لا يُدفن في قبر واحد اثنان) عن إفادة غير الكراهة؛ فلا وجه للحرمة حينئذٍ، كما لا وجه للتوقف في الكراهة بعد ما عرفت، مع إمكان تأيده زيادة على المسامحة فيه بأولويته من كراهة جمعهما في جنازة واحدة المنصوص عليها في الوسيلة والمعتبر، وعن المبسوط و النهاية وغيرهما، المدلول عليها في الجملة بمكاتبة الصفّار لأبي علیه السلام وباحتمال تأذي أحدهما بالآخر، وافتضاحه عنده»(2).

5- كلّ ما ينقله شهداء الطفّ من روايات ينسبونها إلى الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله ، أو أمير المؤمنين علیه السلام ، كما في نقل بعض أصحاب الإمام الحسين علیه السلام لأقوال رسول الله صلی الله علیه و آله .

6 - كلّ ما تنقله السيدة زينب من أقوال عن النبي صلی الله علیه و آله ، أو أمير المؤمنين أو الزهراء علیهما السلام ، كما في نقلها لوصية الزهراء علیها السلام عندما ترى الحسين وحيداً؛ فتشمّه في نحره وتقبّله في صدره(3).

ص: 64


1- اُنظر: الدربندي، أسرار الشهادة: ج3، ص170. وأيضاً: المقرَّم، عبد الرزاق، الإمام زين العابدين: ص 402
2- النجفي، محمد حسن، جواهر الكلام: ج4، ص341
3- اُنظر: الهاشمي، عليّ بن الحسين، ثمرات الأعواد: ج1، ص31.

فهذه الكليّات - وما يندرج تحتها من روايات - تحكي أحكاماً فقهية لا بدّ أن تخضع لموازين قبول الرواية في الفقه، ولا تصحّ نسبتها بشكل قطعي ما لم تتوفر تلك الموازين.

ثالثاً: المنهج أو الميزان في البحث التاريخي

إنّ الميزان في نقل الرواية والحدث التاريخي أقلّ تشدداً منه في المنهجين والميزانين المتقدّمين؛ حيث يُقبل النقل فيه حتى بالخبر الضعيف ما دام له مصدر، أو منشأ مذكور في كتب التاريخ والتراجم، ولم يعلم أنّه من وضع الوضّاعين، فهو أوسع من المنهجين السابقين في دائرة القبول وعدم الطرح.

فضابطة النقل في هذا العلم هو: أن يكون الحدث المنقول مكتوباً في مصدر تاريخي، وصل إلينا بطريق مشهور ومعتمد عند فئة من الناس، ولم يتعمد كاتبُه تزييف الحقائق.

وعادةً ما تكون الكتب التاريخية - بل الأصل فيها - خالية من طرق الإسناد، والمعول عندهم هو اعتبار كونها قديمة ومشتهرة، وكاتبها متخصص وموضوعي في النقل(1).

فالمؤرِّخ يصوِّر الحدث من خلال روايات ومشاهدات وقرائن وتحليل؛ فيرسم صورة للحدث التاريخي بمنظاره.

وفي الحقيقة هناك أُسلوبان أساسيان في النقل التاريخي:

ص: 65


1- اُنظر: الموسوي، رياض، الشعائر الحسينيّة بين الأصالة والتجديد (محاضرات الشيخ محمد السند): ج1، ص230

الأُسلوب الأول: هو الأُسلوب (السردي)، وهو ما يغلب على الكتب التاريخية القديمة، فهي سردية نقلية فقط، دون أن يكون للمؤرِّخ أيّ بصمات غير نقل الأحداث التي شاهدها، أو نُقلت إليه؛ فينقلها كما هي بألفاظها وكلماتها، كما في تاريخ الطبري وغيره.

الأُسلوب الثاني: وهو الأُسلوب (العقلي)، والذي هو عبارة عن المنهج التحليلي والاستنباطي، وهو منهج متّبع عند بعض المؤرِّخين؛ فيربط في هذا الأُسلوب بين الأحداث ويرسم أحداثاً وتحليلات لا يراها غيره؛ فيصيغها بصياغات فنية وأدبية مع التحليل والتأويل والربط بين مجمل الأحداث والاعتماد على القرائن(1).

ورواية الشعائر أكثرها من الأُسلوب الأول من المنهج التاريخي وبعضها من الثاني؛ فلذا تُعامل روايات وأحداث الملحمة الحسينيّة كما تُعامل روايات التاريخ، فكما أننا لا نطلب الأسانيد في نقل حادثةٍ تاريخية ما، كذلك لا نطلب أسانيد لإثبات حادثة عاشوراء ووقائعها.

نعم، ما كان متعلّقاً بباب الأحكام وأُصول الاعتقاد يُحاكم بموازين المنهجين العقائدي والفقهي.

ولا حاجة لذكر التطبيقات العاشورائية في هذا المنهج التاريخي؛ لأنّها الأكثر في الروايات والأحداث.

النتيجة:

إنّ روايات عاشوراء ما دام غالبها روايات داخلة في المنهج التاريخي، فهي تقاس

ص: 66


1- اُنظر: مطهري، مرتضى، المجتمع والتاريخ: ص65

بالمقياس التاريخي لا غير، أمّا ما كان فيه مساس بالعقيدة أو الفقه فيقاس بمقياس ومنهج علمَي الكلام والفقه.

النقل التاريخي بأُسلوب أدبي

وهناك أُسلوب آخر أقرب للمنهج التاريخي النقلي، وهو منهج التعبير الأدبي والإبداعي - سواء كان بنحو القصّة أو الشعر أو غيرهما - الذي شاع كثيراً في التمثيل الدرامي والسينمائي والمسرحي والشعري.

والفرق بين هذا الأُسلوب والمنهج التاريخي: أنّ المؤرِّخ ينقل في مقام الإخبار عن واقع ما، أمّا في المنهج القصصي، فلا يقول القاصّ: إنّي أخبر عن الواقع، وإنّما أُريد أن أُصوّر الحدث التاريخي الواصل إليّ بصورةٍ أكثر تأثيراً، وبأدوات تخيّلية وفنيّة ومجازيّة وكنائيّة.

وهذا الأُسلوب ليس غريباً أو بعيداً عن الحدث التاريخي، بل هو مرتبط به ارتباطاً ما، وحاكياً عنه بوجه آخر، فهو كالمدلول الالتزامي له.

ومن أهمّ أمثلته لسان الحال الذي شاع ذكره بين الخطباء والشعراء، ومثاله البارز: ما أنشأه دعبل الخزاعي من شعرٍ بحضرة الإمام الرضا علیه السلام ، عندما صوَّر حضور الزهراء علیها السلام في الطفّ تصويراً قصصياً، على أنّه ليس في مقام الإخبار، وإنّما هو تصوير لشخصيّة حقيقة بتصوير افتراضي؛ لذا صدّر القصيدة بحرف (لو)، فقال:

أفاطم لو خلتي الحسين مجدلاً***وقد مات عطشاناً بشطّ فرات

إذن للطمتي الخدّ فاطم عنده***وأجريتي دمع العين في الوجنات

ص: 67

فهو ليس في مقام الإخبار الحقيقي عن الحدث، بل في مقام الشعر والافتراض، ولكن الأشخاص في هذا التصوير أشخاص حقيقيون؛ فلا يقال له: إنّك كاذب.

ولهذا الفنّ وأمثاله ضوابط وشروط وأحكام، ستكون عنواناً لبحثنا في عدد قادم إن شاء الله تعالى.

ص: 68

العقل ودوره في صيانة النهضة الحسينية وتكريس قابلية التكرار والمحاكاة

اشاره

* العقل ودوره في صيانة النهضة الحسينية وتكريس قابلية التكرار والمحاكاة (1)

محمد منصور نجاد

ترجمة: الشيخ حبيب عبد الواحد الساعدي

مقدمة

تتعرَّض هذه المقالة إلى العقل بوصفه مانعاً عن تحريف النهضة الحسينيّة، وكذلك بوصفه عاملاً وسبباً في إمكان محاكاتها، وتتوصل في قسمها الأول إلى أنّ العقل في مقام الثبوت - وسيأتي توضيح معنى مقام الثبوت - يلعب دوراً كبيراً في غربلة الحوادث التاريخيّة وتصفيتها، ومن جملتها واقعة كربلاء، فلو تأمّلنا في الاستنتاجات العقليّة الفاسدة التي تنشأ من بعض أخبار النهضة الحسينيّة لطرحنا تلك الأخبار بسهولة قبل أن نبحث (في مقام الإثبات) - وسيأتي توضيح لهذا المعنى - عن إسنادها، أو نفكّر في عقلنتها وتبريرها، وسننزه بذلك ثوب النهضة الحسينيّة المقدّسة عن كثير من التحريفات اللفظيّة والمعنويّة، التي يمكن أن تُلصَق بها من دون وعي تارة، وعن قصد أُخرى.

ص: 69


1- قامت هيئة التحرير في مجلّة الإصلاح الحسيني بإجراء بعض التغييرات على الترجمة بما يناسب طريقة وأُسلوب المقال باللغة العربية

وينتهي البحث في القسم الثاني من المقالة إلى أنّ الأخبار التي لا مشكلة فيها ثبوتاً - على تقدير صحّة إسنادها - يمكن أن توجّه في (مقام الإثبات) توجيهاً عقلائياً، وتكون صالحة تماماً للاستدلال بها؛ وبهذا يمكن الردّ على مَن يريد أن يفسِّر حركة الإمام الحسين علیه السلام على أنّها حركة محدودة وضيّقة، وهي مختصّة بشخص الإمام علیه السلام ، أو بزمان ومكان محددين، في حين أنّ القسم الأخير من أبحاث هذه المقالة في صدد بيان - مع ذكر الشواهد الكثيرة - أنّه يفترض من أي قائد ديني أو ثوري يرفض الاستسلام أن يتّخذ نفس الطريقة التي سار عليها الإمام الحسين علیه السلام .

فجميع تحرُّكات الإمام الحسين علیه السلام من المدينة إلى كربلاء وحتى استقباله للشهادة كل ذلك كان له مبرِّر عقلائي، وطريقه هو الطريق الأفضل والممكن من بين الطرق الأُخرى.

وبهذا يتّضح أنّ حركة كربلاء لا تمثّل مهمة خاصّة غير قابلة للتكرار ولا تحمل رسالة للآخرين، بل الأمر على العكس تماماً، فهي نهضة تُعلّم الأُمم الأُخرى والقادة - بوصفها قانوناً عامّاً- كيفيّة القيام بالمهام المختلفة، التي تُلقى على عواتقهم في الظروف المختلفة، وتعلّمهم وجوب اتّخاذ الموقف العقلائي المناسب للمكان والزمان، وفي الوقت نفسه تحفظ حرمة الدين والشرف والعزّة.

هذه هي الرسالة الخالدة والأبدّية التي تبثّ الحياة في النهضة الحسينيّة، وتجعلها رسالة ترنّ في أسماع مَن ينادي بالحقّ والعدالة والحريّة، وفي كلّ زمان ومكان.

ومن هنا؛ فإننا نثبت في هذه المقالة أنّ النهضة الحسينيّة قابلة للتكرار والمحاكاة والمماثلة؛ أي لا بدّ أن نكون حُسينيين في كلّ زمان، وفي كل مناسبة تشبه عاشوراء، ولا بدّ من السير دائماً في طريق طلب الحقّ والعدالة، وكل القيم الأُخرى، مع الأخذ بنظر الاعتبار ظروف الزمان والمكان.

ص: 70

إن البُنية التحتية لدراسة حركة كربلاء دراسة عقليّة للبحث تقوم على فرضين أساسيين:

الأول: إنّ الإمام الحسين علیه السلام كان عالماً عاملاً بكل ما للكلمة من معنى، وكان بصدد تطبيق الأحكام الإسلاميّة.

الثاني: إنّ الإمام علیه السلام هو شخصيّة رسالية أبيّة، وفي الوقت نفسه شخصيّة منطقية وعقلانية، وهو بالرغم من رفضه الصلح كان بصدد اتّخاذ أفضل موقف متناسب مع الأوضاع الزمانيّة والمكانيّة المختلفة.

وقبل الدخول في صلب البحث في هذه المقالة نتطرَّق إلى مطلبين مهمّين في هذا السياق - لهما الأثر البالغ في إلقاء الضوء على جوانب البحث - لتتكشّف الصورة أكثر وتبدو أكثر وضوحاً:

المطلب الأول: الحديث عن أنواع الرؤى والنظريات في التعاطي مع التاريخ، وما هي المناهج الموجودة في دراسة التاريخ، والتعامل مع موادِّه.

المطلب الثاني: أثر ودور العقل في مقام الثبوت والإثبات في معالجة الحوادث التاريخية.

وعند الحديث في المطلب الأول، فإننا نقول: إنّ هناك عدّة رؤى ومناهج في دراسة التاريخ وكيفيّة التعامل مع موادِّه، ويمكن تقسيمها على ثلاثة أقسام(1):

ص: 71


1- وإن كان قد أُخذ الإطار العامّ للتقسيم المذكور من الأستاذ الشهيد المطهري، لاحظ: (المجتمع والتاريخ، نشر صدرا: ص65-58)، إلا أننا اقترحنا تبديل القسم الثاني من التاريخ العلمي إلى التاريخ العقلي، وقد اشتمل على توضيحات جديدة، وأيضاً قد طرح (هيجل) هذا الموضوع بشكل أكمل وأكثر تفصيلاً؛ حيث إنّه يعتقد أنّ التاريخ على ثلاثة أنواع: النوع الأول من التاريخ هو الأدلّة العينيّة للحوادث، وهذا النوع هو التاريخ العلمي (الثورة الفكرية)، والنوع الثاني: ينقسم إلى ستة أقسام فرعيّة أُخرى، (لم نذكرها مراعاة للاختصار)، والنوع الثالث: التاريخ الفلسفي. ولأجل التفصيل راجع: ك. و. هيجل، العقل في التاريخ، ترجمة حميد عنايت، مؤسسة النشر العلمي جامعة (صنعتي شريف) 1366: ص 16 - 18 المقدمة، وص1-55 من أصل الكتاب

الأول: التاريخ النقلي

ويُطرح في التاريخ النقلي وقائع وأحداث الناس وأحوالهم في الزمن الماضي على شكل سردٍ توثيقي، مجرد من تحليل أو دراسة.

الثاني: التاريخ العقلي

وهو العلم بالقواعد والسنن الحاكمة على حياة الماضين التي تحصل عن طريق دراسة وتحليل الحوادث التاريخية السابقة والوقائع الماضية، ويكون المؤرِّخ بهذا المعنى في صدد الكشف عن طبيعة الحوادث التاريخية ورابطة السببية بينها؛ كي يصل إلى سلسلة قواعد وضوابط عامّة يمكن تعميمها على الحالات المشابهة في الماضي والحاضر.

وهكذا لا يكتفي التاريخ العقلي - خلافاً للتاريخ النقلي - بسرد الحوادث، بل يقوم بتعليل الوقائع، بمعنى أنّه يسعى في هذه النظرية لتفسير علل وقوع كل حادثة في مرحلتها الزمانية والمكانية الخاصّة.

الثالث: فلسفة التاريخ

يطرح في فلسفة التاريخ العلم بتغييرات المجتمعات وتطوراتها من مرحلة إلى أُخرى، والقوانين الحاكمة على هذا التطوّر والتغيّر، فهو العلم بكيفيّة صيرورة المجتمع لا بكيفيّة وجوده، فليس المقوِّم لتاريخيّة مسائل فلسفة التاريخ هو ارتباطها بالماضي، بل هو العلم بقضية حدثت في الماضي، وهي مستمرة وستستمر إلى المستقبل.

وهذه المقالة تبحث حادثة كربلاء بلحاظ النوع الثاني من البحث التاريخي، أي إنّها تضع التاريخ العقلي التحليلي تحت البحث والتدقيق، ولم تتعرَّض إلى التاريخ

ص: 72

النقلي بما هو سرد للواقعة، بل لو اعتمدنا أيضاً على وقائع ما، فهو من باب أنّها تعدّ المادّة الأوليّة للتاريخ العقلي ومقدمة للبحث.

وقد استفدنا هنا من العقل بمعنيين: العقل بصفته (الميزان) في معرفة صحّة أو سقم الحوادث التاريخية المتعلقة بكربلاء، والعقل بمعنى (الوسيلة) التي تفي بتحليل وقائع هذه النهضة وتسعى إلى تعميمها(1).

أثر العقل (في مقامي الثبوت والإثبات) في تحليل الحوادث التاريخية

في البداية من الض-روري أن نذكر توضيحاً مختص-راً لاصطلاحي (الثبوت والإثبات):

مقام الثبوت: هو مقام الواقع؛ لأن لواقع كلّ شيء حدَّاً ودرجةً، وهو مقام الشيء في حدِّ نفسه، والبحث في مقام الثبوت هو البحث عن إمكان وجود الشيء، وأنّه هل يلزم من فرض وجود قضية - أو حادثةٍ ما - محذورٌ عقلي فاسد أو لا؟

ص: 73


1- إنّ أول شخص في العالم الإسلامي نظر إلى الوقائع برؤية تأريخية عقلية هو ابن خلدون الأندلسي، وقد توصّل من خلال دراسته لتاريخ الأجيال المختلفة إلى قاعدة (العصبية) التي تعدّ هي البنية التحتية والأساس للحصول على القوة والقدرة، أو زوال القبائل والحضارات. ومن هنا؛ قد تعامل مع قضية كربلاء وبحثها على هذا الأساس، حيث ذكر في مقدمة كتابه المشهور: «والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون مَن سواه إنّما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم، باتّفاق أهل الحلّ والعقد عليه حينئذٍ من بني أُمية». تاريخ ابن خلدون المقدمة: ج1، ص210. وقال أيضا: «وأمّا الحسين، فإنّه لمّا ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين: أن يأتيهم فيقوموا بأمره. فرأى الحسين أنّ الخروج على يزيد متعيّن من أجل فسقه، لا سيما مَن له القدرة على ذلك وظنها من نفسه بأهليته وشوكته، فأمّا الأهلية فكانت كما ظن وزيادة، وأمّا الشوكة فغلط يرحمه الله فيها؛ لأن عصبية مضر كانت في قريش وعصبية عبد مناف إنّما كانت في بني أُمية ... فقد تبيّن لك غلط الحسين، إلاّ أنّه في أمر دنيوي لا يضره». اُنظر: مقدمة تاريخ ابن خلدون : ج1، ص216. ولسنا الآن في صدد مناقشة وبحث نظرية ابن خلدون

وأمّا مقام الإثبات: فهو مقام الشيء بالنسبة إلينا - في مقابل مقام الشيء في نفسه - وهو يرتبط بمرحلة التحقق الخارجي، ويُبحث في مقام الإثبات حول وجود دليل عقلي أو نقلي يدل على الموضوع الذي افترضناه ممكناً في عالم الثبوت أو لا.

ولو درسنا الحوادث التاريخية على أساس مقاميّ الثبوت والإثبات، لوجدنا فيهما جهة اشتراك وجهة افتراق، أمّا جهة اشتراك مقامي الثبوت والإثبات، فهي: إنّ للعقل تاثيراً فيهما معاً. وأمّا جهة افتراقهما، فهي أنّ الحادثة التاريخية في عالم الثبوت تُعرَض على العقل.

وبعبارة أُخرى: إنّ العقل في مقام الثبوت هو المعيار والمُحكّم في الحوادث التاريخية، أي إنّ العقل هو الميزان في معرفة أنّ هذه الحادثة التاريخية - مثلاً (زواج القاسم) في واقعة كربلاء ويوم عاشوراء - هل هي ممكنة ثبوتاً أو لا؟ أي إنّ أصل قبول هذه الواقعة التاريخية - وبقطع النظر عن إمكان إيجاد دليل لها من الناحية التاريخيّة - هل يلزم منه محاذير فاسدة أو لا؟

وأمّا إذا بُحثت قضية (زواج القاسم) من ناحية مقام الإثبات، فأحد جهات تلك القضية هو البحث في الأدلّة النقليّة ودراستها، فالعقل - باعتباره الوسيلة - بصدد استنتاج أنّه لو فرضنا أنّ تلك القضية لا تستتبع محاذير فاسدة على مستوى الثبوت، وفرضنا أنّ أدلّتها صحيحة أيضاً، فلماذا؟ ولأي سبب تقع هذه القضية في ذلك الزمان والمكان؟ وهل كان هذا العمل منطقياً ومعقولاً أو لا؟

العقل في مقام الثبوت مانع من تحريف النهضة الحسينية

من جملة ما تتبنَّاه الشيعة: إنّ قول المعصوم وفعله وتقريره حجّة، ومن هذه الجهة يكون التحريف في الدين عموماً، وفي شخصية وحياة الأئمة خصوصاً خطيراً

ص: 74

ومدمِّراً جدَّاً؛ ومن هنا فمنع التحريف اللفظي أو المعنوي هو الهدف لكلّ ذي لبّ، ومن جملة طرق الوقوف بوجه التحريف هو التمسّك بالعقل في مقام الثبوت الذي وقع البحث حوله بشأن النهضة الحسينيّة في هذه المقالة.

أمّا كيف يصير العقل في مقام الثبوت مانعاً عن تحريف الحوادث التاريخية؟

فنقول في صدد الجواب عن ذلك: إنّه يُطرح تساؤل في مقام الثبوت - وقبل أن نلتمس الأدلّة العقليّة أو النقليّة للحادثة التاريخيّة، ولا بدّ أن يُجاب عن ذلك التساؤل بالإيجاب؛ كي ينفتح البحث عن التاريخ النقلي وتعليل الحوادث - وذلك التساؤل الأساسي هو: هل يلزم من نقل حادثة ما محذور عقلي فاسد أو لا؟ مثلاً ما يذكر عادَّة:«إنّه لمّا عزم علي الأكبر في يوم عاشوراء على القتال، نذرت أُمّه: لئن أرجع الله تعالى عليّاً الأكبر سالماً ولم يقتل في كربلاء لأزرعن طريق الطف ريحاناً، أي أنّها نذرت أن تزرع ثلاثمائة فرسخ (1800 كيلو متر) ريحاناً»(1)، هل يمكن أنّ يتصور الإنسانُ الذي يتمتّع بعقل وفكر متعارف وعادي هذه الحادثة؟ وبقطع النظر عن البحث في مقام الإثبات عن حضور ليلى أُمّ عليّ الأكبر، وهل أنّه أمر واقعي أم لا؟

فلو كان هذا الخبر مقبولاً، وكان تصديقه ونسبته إلى الإنسان العاقل والسليم يستلزم محذوراً عقلياً فاسداً؛ إذن فلا حاجة إلى أن نبحث أدلّة ذلك الخبر العقليّة والنقليّة، وهل أنّ هذا الخبر مقبول أو لا؟ بل لا قيمة لهذا الخبر وإن كان مرويّاً في بعض الكتب، بل في مئات الكتب، وإنّما يطرح مثل هذا الخبر قبل النظر في أدلّته.

ولهذه النظرية تطبيقات مفيدة في جميع الحوادث التاريخية، ويمكن غربلة وتصفية كثير من الأقوال التاريخيّة بسهولة عن طريق ميزان العقل؛ ومن هنا فالبحث من هذه

ص: 75


1- المطهري، مرتضى، تحريفات عاشوراء: ص18، ومن الضروري الانتباه إلى أنّ هذا الكتاب قد ناقش هذه الحوادث مفصّلاً

الناحية ليس بحثاً جديداً (1)، وقد اكتفينا باستعراض شواهد قليلة، وأوكلنا عمدة البحث إلى القسم الآخر الذي لم يُتعرَّض إليه في المؤلفات أبداً.

ومن جملة الحوادث المتعلّقة بحركة كربلاء والتي هي غير ممكنة ثبوتاً، وفي عداد المحرَّفات، هي ما ورد في كتاب أسرار الشهادة من «أنّ عدد جيش عمر بن سعد في كربلاء مليون وستمائة... وقد قتل الإمام الحسين علیه السلام لوحده في يوم عاشوراء ثلاثمائة ألف رجل. فلو فرضنا أنّ السيف يقتل في كل ثانية رجلاً، فقتل ثلاثمائة ألف رجل يحتاج إلى ثلاثة وثمانين ساعة وعشرين دقيقة»(2).

فمثل هذه الأخبار وإن كانت تُروى في كتب متعددة ومن مؤرخين كثيرين، بل ومشهورين، إلاّ أنّها مطروحة ثبوتاً من دون حاجة إلى ملاحظة سند تلك الحادثة، وتجشُّمِ العناء والتكلُّف في عقلنتها وتوجيهها إثباتاً. وإذا استفدنا من الموازنة العقليّة سيتمّ تنزيه ثوب النهضة الحسينيّة المقدسة من مثل هذه التحريفات؛ لأنّ فيها محاذير عقليّة واضحة.

ومن أمثلة هذه التحريفات ما يذكر من قصّةٍ في مسألة حبِّ أبي الفضل العباس لأخيه الحسين علیه السلام ، فإنّه لمّا كان الإمام عليّ علیه السلام على المنبر، كان الحسين أسفل المنبر، فطلب الماء؛ فبادر العباس ليسقيه الماء...

قال الشيخ النوري في مناقشة هذا الحديث الموضوع: «إنّ مَن يقول بأنّ الإمام علياً علیه السلام كان يخطب على المنبر، لا بدّ أن يعلم أنّ الإمام علياً علیه السلام لم يخطب على المنبر إلاّ في مدّة خلافته، فلا بدّ أن تكون تلك الحادثة في الكوفة، وفي هذا الوقت كان عمر الحسين

ص: 76


1- لم يُتوسع في البحث من هذه الناحية، ولكن هناك كتباً بحثت هذا الأمر، أفضلها: (اللؤلؤ والمرجان)للمرحوم النوري، و(تحريفات عاشوراء) للشهيد المطهري الذي اعتمد فيه على كتاب المرحوم النوري
2- المطهري، مرتضى، تحريفات عاشوراء: ص21.

ثلاثاً وثلاثين سنة، فكيف يكون هذا الكلام معقولاً؟!»(1)، ومَن ينسيه العطش الالتفات إلى سنه وعمره والمكان الجالس فيه، كيف يصلح أن يكون قدوة لأفراد المجتمع أو يكون قوله وفعله وتقريره حجّة؟!

ومن هنا؛ فمثل هذا الخبر قبل أن نعرف أنّه ورد في أيّ مصدر، وما هو مقدار اعتباره من حيث صحّة السند وعدمها، لا يكون ممكناً ثبوتاً بملاك العقل بسبب ما يترتّب عليه من المحاذير الكثيرة غير المعقولة والفاسدة؛ ولذلك فلا حاجة إلى المبالغة في إتعاب النفس للتعرُّف على أنّه هل الراوي صادق أو كاذب؟ وهل أنّ سلسلة السند صحيحة أو لا؟ وهل أنّ الخبر صحيح أو موثّق أو.. وحينئذٍ سنطرح هذا الخبر بسهولة ومن دون الالتفات إلى دلالته ومضمونه.

والنتيجة: هي أنّه يمكن أن يستفاد من العقل في مقام الثبوت لتحقيق الأُمور التاريخية فوائد جيدة، فإنّ ذلك سيكفي المحققين مؤنة البحث الإثباتي(العقلي أو النقلي) في المسائل التاريخية.

إذن؛ فمع الاستفادة من العقل يمكن المنع ثبوتاً من وجود التحريفات الكثيرة اللفظيّة والمعنويّة في جميع الحوادث التاريخية، ومن جملتها واقعة كربلاء.

العقل في مقام الإثبات العامل الرئيس لتكرار النهضة الحسينية

من جملة الأسئلة المهمة بشأن حركة كربلاء والتي يمكن أن تثير الانتباه والتأمّل هي: هل أنّ حادثة كربلاء خاصّةٌ ولا تتكرر، أو أنّها قابلة للاقتداء بها وتكرارها، فهي عامّة؟

فإن أُجيب عن الشقّ الأول من السؤال بالإيجاب، وإنّها حادثة مختصّة بشخص

ص: 77


1- المطهري، مرتضى، تحريفات عاشوراء: ص 6- 15.

معين؛ فلا معنى للكلام حول عاشوراءات أُخرى، ولا يمكن أن نستنتج من هذه الواقعة التاريخية قانوناً.

وأمّا لو أُجيب بالنفي، وأنّ واقعة كربلاء كانت تُدار على يد قائد دينيّ، وثوريّ - كما هو مدّعى المقالة - وكان اتّخاذ القرارات معقولاً ومناسباً إلى حدّ كبير، بحيث لو واجه ذلك أيَّ قائد ثوريّ لاتّخذ تلك القرارات نفسها، ولاتّخذ هذا المنهج نفسه؛ وعليه يمكن الوصول إلى قواعد وقوانين، وسنن تكون بها النهضة الحسينيّة، والدفاع عنها إلى آخر نفس، أمراً موضوعيّاً في أوضاع كربلاء وزمان الإمام الحسين علیه السلام .

ويظنّ بعض الناس أنّ كربلاء حادثة خاصّة، مرتبطة بأشخاص معينين، وليس لها أيّ عموميّة، والدليل على هذا تحريفان معنويان أساسيان:

الأول: إنّ الحسين إنّما خرج ليُقتل ويكون دمه كفارة لذنوب شيعته.

الثاني: «إنّ الإمام الحسين كان يعتبر هذه الواقعة والشهادة تكليفاً إلهياً مختصّاً به، ولا ربط له بنا، فهو ليس قابلاً للاتّباع»(1) .

نهضة كربلاء لا تقف عند زمن الإمام الحسين علیه السلام

اشارة

إننا في خصوص هذا القسم من البحث في صدد الوصول إلى نتيجة، وهي أنّ نهضة كربلاء لم تكن خاصّة تتعلّق بزمن الإمام الحسين علیه السلام فحسب، بل هي عامّة يمكن محاكاتها؛ ولأجل تحليل هذه القضية نستعين مرّة أُخرى بالعقل في مقام الإثبات، وسنتعرَّض في هذا القسم من البحث إلى الأسباب التي أدّت إلى حدوث واقعة كربلاء والنهضة الحسينيّة، والمواقف التي اتّخذها أبو عبد الله الحسين علیه السلام ، ولكن بعد الإذعان بأنّ بعض وقائع كربلاء ممكنة ثبوتاً، ولا مشكلة فيها من حيث

ص: 78


1- المطهري، مرتضى، تحريفات عاشوراء: ص3- 62

السند إثباتاً(1)، ويمكن أن تكون نتيجة هذا القسم من البحث هي أنّ واقعة كربلاء من المعقوليّة بمكان، بحيث لو واجهها أيُّ قائد ثوري لاتّخذ نفس ذلك الموقف الذي اتّخذه الإمام الحسين علیه السلام ؛ ومن هنا فإنّ هذه الثورة عقلائية تماماً وعامّة(2).

ولأجل إثبات أنّ النهضة الحسينيّة من المدينة إلى كربلاء نهضة عامّة قابلة للتكرار

ص: 79


1- لأجل أن لا تكون هناك مشكلة من حيث السند، قمنا بنقل أهم شواهد هذا القسم عن مصدر يبدو أنّه من أفضل المصادر التاريخية سنداً في واقعة كربلاء، وقد طبع هذا المصدر من قبل (مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية)، وهو كتاب (وقعة الطفّ لأبي مخنف، لوط بن يحيى الأزدي الغامدي الكوفي)، تحقيق: (الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي)، طبع سنة 1367ش، وهذا الكتاب يتمتع بمزايا كثيرة، وأرى من الضروري أن أتحدَّث عن هذا الكتاب ومؤلفه ليتعرَّف المحققون على حادثة كربلاء. من الأُمور الواضحة لمحققي تاريخ الإسلام أنّ (أبا مخنف) المتوفّى سنة(158 هجري قمري) أول مَن ألّف كتاباً بشأن واقعة كربلاء باسم (مقتل الحسين)، ومن تلامذته (هشام بن محمد بن سائب الكلبي الكوفي)، وقد كتب هشام الكلبي أيضاً كتاباً بنفس ذلك العنوان بعد أن استفاد من كتاب أُستاذه وأضاف إليه، وقد اعتمد مشهور المؤرخين لتاريخ الإسلام - كالواقدي، والطبري، وابن قتيبة، والمسعودي، والشيخ المفيد، والشهرستاني، وابن أثير الجزري وإلخ.. - على هذين الكتابين في بحثهم حول وقعة كربلاء. وكتاب (مقتل الحسين) لأبي مخنف مفقود في الوقت الحاضر، وقد أُوردت على الكتاب - المطبوع بنفس هذا العنوان، والموجود في المكتبات والذي يستند إلى كتاب وقعة الطفّ - عدّة إشكالات؛ لعدم العلم بزمان ومكان تأليفه وطبعته الأُولى؛ ولوجود مشاكل في محتواه؛ فإنه توجد فيه عدّة أحاديث تعدّ مرسلة؛ ولأجل وجود الأخطاء الفاحشة في هذا المقتل المتداول والشائع الآن فقد أُشكل عليه بعشرين إشكالاً أساسياً؛ ولذلك فهو ساقط عن الاعتبار. ومن جملة مزايا كتاب (وقعة الطفّ) أنّه توجد في بداية الكتاب مقدمة تحتوي على 66 صفحة قد بُحث فيها بشكل تحقيقي عن (أبي مخنف) و(إسناد أبي مخنف) وردّ المقتل المشهور، وبعد أن استُخرجت مطالب أبي مخنف الموجودة في الكتاب من الكتب التاريخية المشهورة تمّ تطبيق تلك المطالب في الحاشية مع الكتب التاريخية المشهورة، مثل (تاريخ الطبري)، و(إرشاد الشيخ المفيد) و... وبكلمة واحدة: إنّ هذا الكتاب جامع لكلّ المقاتل والمصادر المعتبرة في واقعة كربلاء
2- من الواضح أنّ الطريق الذي يوضّح واقعة كربلاء لا ينحصر بالتاريخ العقلي، وهذه المقالة لا تنكر وجود طرق أُخرى أعلى من العقل (كالقلب و المودّة و..)، بل إنّها تدّعي أنّ التبيين العقلي لواقعة كربلاء يتمتّع بأنّه القدوة الفضلى عند الناس

سنختار ثمانية مواقف - رعاية للاختصار - اتّخذها الإمام الحسين علیه السلام ، ودراسة أسبابها:

1- لماذا كانت النهضة الحسينية في زمان حكم يزيد؟

2- كيفيّة حضور الإمام علیه السلام وكلامه في مجلس الوليد بن عتبة.

3- لماذا الهجرة إلى مكة؟

4- لماذا الخروج من مكة؟

5- لماذا التوجّه نحو الكوفة؟

6- لماذا الاستمرار في المسير بعد سماع خبر شهادة مسلم؟

7- لماذا كربلاء؟

8- لماذا الشهادة؟

1- لماذا كانت النهضة في زمان حكم يزيد؟

هنا يمكن طرح عدّة تساؤلات، وهي: لماذا بعد أن استلم يزيد السلطة أظهر الإمام الحسين علیه السلام موقفه تجاه ذلك؟ ولماذا عزم على الهجرة؟ فهل كان من المحتمل أن يوجد حلّ آخر غير هذه الطريقة؟

قد جاء في المصادر التاريخيّة، أنّه بعد موت معاوية، وتسلُّم يزيد للسلطة أرسل يزيد كتاباً إلى (الوليد بن عتبة) والي المدينة جاء فيه: «أمّا بعد فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً، ليس فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام»(1).

وجاء في المصادر الأُخرى فيما يرتبط بهذا الكتاب: «إذا أتاك كتابي هذا، فاحضر

ص: 80


1- أبو مخنف، لوط بن يحيى، وقعة الطفّ: ص75.

الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، فخذهما بالبيعة لي، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما، وابعث لي برؤوسهما»(1).

ومن جانب آخر، قد وردت رواية أُخرى فيما يتعلّق بعدم قبول الإمام للبيعة، وهي أنّه بعد أن دُعي الإمام إلى مجلس الوليد بن عتبة، سأل عبد الله بن الزبير الإمام الحسين، فقال: فما تجيب إن دُعيت إلى بيعة يزيد يا أبا عبد الله؟ فأجاب الإمام علیه السلام : «كيف أبايع ليزيد، ويزيد يشرب الخمر ويلهو، ويقضي يومه بملاعبة الكلاب والفهود وليله باللهو واللعب»(2).

ومع الالتفات إلى الوثائق المذكورة، فإنّ الإمام الحسين علیه السلام قد أظهر موقفه تجاه يزيد لدليلين على الأقل:

الأول: طريقة يزيد في التعامل مع القضية، وهي إمّا البيعة أو قطع الأعناق، فماذا سيكون موقف كلّ إنسان ثوري أمام هذا القهر والتهديد؟ واللطيف أن الإمام الحسين علیه السلام قد عاش في حكومة معاوية ما يقرب من عشر سنوات بعد شهادة الإمام الحسن علیه السلام ، ولكن مع ذلك لِمَ لم يتّخذ موقفاً من هذا القبيل؟

الجواب: إنّ معاوية لم يُبدِ أيّة معاملة شديدة مع الإمام الحسين علیه السلام ، فحتى عندما أرسل له الإمام الحسين علیه السلام كتاباً شديد اللهجة، لم يظهر معاوية موقفاً متشدداً، على الرغم من أنّ الآخرين كانوا يحثّون معاوية على اتّخاذ الموقف الشديد، ولكن مع ذلك«كان يبعث إليه في كل عام ألف ألف درهم من بيت المال، ويرسل إليه - ما عدا هذا المبلغ - السلع والجوائز الكثيرة»(3).

ص: 81


1- أبو مخنف، لوط بن يحيى، وقعة الطفّ: ص74، (في الحاشية)
2- محمد تقي، ناسخ التواريخ: ج6، ص6- 165. اُنظر: ابن أعثم، الفتوح: ج5، ص12
3- المصدر السابق: ص118

الثاني: إنّ السبب في رفض الإمام البيعةَ هو علمه بمفاسدها الواضحة، فإنّ السمعة السيئة ليزيد كانت بدرجة من الوضوح، بحيث يعترف بها حتى مثل ابن خلدون - الذي يعتقد بأن أصل حركة الحسين علیه السلام غير معقولة - حيث يقول: «يزيد متجاهر بالفسق»(1)، وليس الحسين علیه السلام مثل أي شخص من المسلمين فحسب، بل هو متصدٍ لزعامة المسلمين، وهو سليل رسول الله صلی الله علیه و آله ، فقبوله لبيعة يزيد يعني إعطاء الشرعيّة لأعمال الحكّام المفسدين وسلطتهم.

ولهذه الأدلّة يبدو أنّ كل قائد ثوري لو عاش في ظرف الإمام الحسين علیه السلام لكان ينبغي له أن يظهر نفس المواقف التي صدرت من الإمام علیه السلام ؛ أي إنّه يأبى ويرفض بيعة يزيد، وسيطرح بشكل وآخر اعتراضه ولا يرضى بمشروعيّة حكومته.

2- كيفيّة حضور الإمام علیه السلام في مجلس الوليد بن عتبة وكلامه معه

بعد أن دُعي الإمام الحسين علیه السلام إلى قص-ر الإمارة من قِبَل الوليد بن عتبة (والي المدينة) أخذ الإمام يعمل بدقّة وحنكة توجب غضب الأعداء، وذلك:

أولاً: روي عن أبي مخنف أنّ الإمام قبل أن يذهب إلى مجلس الوليد:«قام فجمع إليه مواليه وأهل بيته.. وقال لأصحابه: إنّي داخل فإن دعوتكم أو سمعتم صوته قد علا؛ فاقتحموا عليَّ بأجمعكم، وإلاّ فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم»(2)(3).

ثانياً: لمّا قرأ الوليد كتاب يزيد بشأن البيعة، قال الإمام علیه السلام بعد أن استرجع: «أمّا ما سألتني من البيعة فإنّ مثلي لا يعطي بيعته سراً، ولا أراك تجتزئ بها مني سراً دون أن

ص: 82


1- اُنظر: الحاشية رقم (2)
2- أبو مخنف، لوط بن يحيى، وقعة الطفّ: ص80
3- روي أنّ العدد الذي حاصر القصر 30 إلى 50 شخصاً. اُنظر: ناسخ التواريخ: ج 6، ص166

نظهرها على رؤوس الناس علانيةً. قال: أجل. قال: فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمراً واحداً»(1).

وأمّا بشأن موقف الإمام الحسين علیه السلام وكلامه، فإنّه بالرغم من أن الوليد بن عتبة كان مكلفاً بأخذ البيعة من الإمام أو اتّخاذ الموقف الصارم والشديد تجاهه، قد أُبهت الوليد بموقفين مدروسين:

الأول: كلام الإمام علیه السلام المنطقي والمعقول؛ فقد طرح عليه اقتراحاً جعل الوليد يقع في مشكلة ويتأثّر؛ فيعطي الإمام الفرصةَ لأن يبايع مع الناس.

الثاني: لمّا بالغ مروان بن الحكم، وحثّ الوليد على اتّخاذ موقف صارم، رفع الإمام الحسين علیه السلام صوته واتّخذ القرار الحاسم، وبذلك أظهر شجاعته وبطولته، وفي نفس الوقت أظهر عملاً عقلائياً ومنطقياً، فإنّه قد أخرج قومه من مخبئهم وأخذوا الإمام الحسين معهم.

وهذه الملاحظة تنسجم تماماً مع مَن يدّعي أنّ النهضة الحسينيّة بكلّ جزئياتها، حادثة معقولة، ويمكن أن يُدافع عنها بشكل عقلائي؛ وبالتالي فيها قابليّة الشموليّة والعموميّة والتكرار.

3 - لماذا الهجرة إلى مكة؟
اشارة

إذا كان الخيار الوحيد للإمام الحسين علیه السلام ، هو عدم قبول البيعة واتّخاذ الموقف حيال ذلك، وكان من اللازم أن يترك المدينة، فلماذا اختار مكة؟ وللجواب عن هذا السؤال نطرح عدّة ملاحظات:

ص: 83


1- أبو مخنف، لوط بن يحيى، وقعة الطفّ: ص80
الأُولى: اختيار مكة نتيجة الاستشارة

لمّا تبيَّن أنّ الإمام الحسين علیه السلام قد عزم على ترك المدينة، فإنّ من جملة الأشخاص الذين تشرفوا بلقائه - وأحسّوا بالعواقب الخطيرة المترتّبة على هذا السفر وتنبؤوا بها - هو محمد بن الحنفية أخو الإمام الحسين علیه السلام ، وبعد أنّ طرح الأمر عليه سأل الإمام الحسين علیه السلام أخاه محمداً: «فأين أذهب يا أخي؟ قال: انزل مكة... فقال علیه السلام : يا أخي قد نصحت وأشفقت، وأرجو أن يكون رأيك سديداً وموفّقاً، وأنا عازم على الخروج إلى مكة وقد تهيّأت لذلك»(1).

الثانية: مكة الحرم الإلهي الآمن

حيث إنّ الإمام مهدّد بالقتل فيما لو لم يبايع، فكانت مكة هي المكان المناسب للهجرة، فإنّ أرض الحجاز هي حرم الله الآمن عند المسلمين، والناس فيها آمنون كما جاء في سورة آل عمران: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾(2).

الثالثة: مكة هي عاصمة الإسلام المركزيّة

أولاً: إنّ مكة مكان مناسب للاطّلاع على أفكار المسلمين؛ فإنّ هذا المكان المقدّس محل اجتماع المسلمين.

ص: 84


1- الأمين، سيد محسن، الإمام الحسن والإمام الحسين علیهما السلام ، ترجمة إدارة جميع المراكز، العلاقات العامة، وزارة الثقافة والإعلام الإسلامي، الطبعة السادسة: صيف 1369. والجدير بالذكر أنّ الكتاب المذكور هو قسم من كتاب أعيان الشيعة، الذي كتبه المؤلف في 56 مجلداً، والمجلد الأول من هذه الموسوعة عبارة عن دراسة حقيقة التشيّع والجواب عن الأسئلة المتعلّقة بذلك، والمجلد الثاني يتحدَّث عن حياة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله ، والمجلد الثالث عن حياة الإمام علي علیه السلام ، والمجلد الرابع عن حياة بقية الأئمة علیهم السلام ، والمجلدات الأُخرى فيها دراسة عن حياة علماء الشيعة على مدى التاريخ. اُنظر أيضاً: أعيان الشيعة: ج1، ص588
2- آل عمران: آية 79. وراجع لأجل الاطّلاع على الأقوال بشأن الحرم الآمن، مجمع البيان، ج4، ص174 الناشر: مؤسسة انتشارات فرهاني.

وثانياً: إنّ مكة هي المكان العالمي المناسب لإعلان المواقف والتبليغ(1)؛ ومن هنا نجد أنّه بعد أن جاء الإمام علیه السلام إلى مكة «وأقبل أهلها يختلفون إليه ومَن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق»(2).

إذن؛ فيمكننا أن نجيب مَن يسأل عن السبب في اختياره مكة، بأنّه إن كانت مكة هي الحرم الإلهي الآمن، وهي أفضل ملاذ للمطلوبين والمراقبين، وهي المكان المناسب للإنسان المصلح الذي يريد أن يكون على علم بما يجري في العالم الإسلامي، ويوصل صوته إليهم، فالهجرة من المدينة إليها أمر منطقي؛ وهذا هو السبب الذي دفع البعض بأن يوصي الإمام علیه السلام أيضاً بالذهاب إلى ذلك المكان.

وهذا ما ندّعيه في هذا القسم من المقالة، وهو أنّ النهضة الحسينيّة في مقام الإثبات نهضة منطقية، وبالإمكان الدفاع عنها عقلائياً، وهي مؤهلة لأن يستفاد منها قاعدة كلية وضابطة عامّة.

4 - لماذا الخروج من مكة في الثامن من ذي الحجة؟
اشارة

إنّ خروج الإمام الحسين علیه السلام بسرعة من مكة في اليوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) وتركه الحجّ وعدم إكماله له يثير التساؤل، ويمكن توجيه الإجابة عن هذا السؤال بعدّة توجيهات:

ألف) خرج ابتعاداً عن الأعداء وحفاظاً على النفس

لمّا سأله أبو هرّة الأسدي الكوفي في (موضع الثعلبية): ما الذي أخرجك من حرم

ص: 85


1- هذا ما استفاده الإمام الخميني قدس سره في هذا الموضع تحت عنوان (البراءة من المشركين).
2- المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص36.

جدِّك محمد صلی الله علیه و آله ؟ قال علیه السلام : «يا أبا هرّة، إنّ بني أُمية أخذوا مالي وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت»(1).

ولمّا رآه الفرزدق وسأله عن سبب الخروج من مكة بهذه السرعة بقوله: ما أعجلك عن الحجّ؟ فأجابه الإمام الحسين علیه السلام : «لو لم أعجل لأُخذت»(2).

ولهذا السبب نجد أنّ خروج الإمام الحسين علیه السلام من مكة كان متزامناً مع يوم دخول (عمرو بن سعيد بن العاص) بجيشه الجرّار إلى مكة، هذا والحسين كان قد أحرم للحجّ، فأحلّ إحرامه وجعلها عمرة مفردة(3)، وكان هؤلاء يقومون بعملهم بجديّة، إلى حدّ أنّهم قد قطعوا الطريق عليه حتى بعد خروجه من مكة، وكاد الأمر أن يصل إلى القتال(4).

ب) الحفاظ على حرمة مكة

أشرنا في البحث المتقدّم إلى أنّ مكة تُعرف بين المسلمين ب-(الحرم الإلهي الآمن) إلاّ أنّ يزيد وأعوانه الذين لا يعتقدون بالقيم الإلهية أرادوا أن يستغلّوا هذه الفرصة؛ حيث إن الناس في حالة طواف ولا سلاح معهم، وليس لديهم الاستعداد للدفاع عن أنفسهم؛ فيريقوا دم الإمام في حرم الله الآمن، وفي هذه الحالة سيكونون قد تخلصوا من أشد أعدائهم، ثمّ إنّه لا يُعرف بعد ذلك مَن الذي فعل هذا الفعل، والأهم من ذلك هتك حرمة مكة، وسيكون قتل الإمام واستشهاده في الكعبة أمراً عادياً.

ص: 86


1- الأمين، سيد محسن، الإمام الحسن والإمام الحسين علیهما السلام : ص186. واُنظر: أعيان الشيعة: ج1، ص595
2- المصدر السابق: ص180. اُنظر: الأمين، سيد محسن، أعيان الشيعة: ج1، ص594
3- المصدر السابق: ص175- 176. اُنظر: الأمين، سيد محسن، لواعج الأشجان: ص69.
4- أبو مخنف، لوط بن يحيى، وقعة الطفّ: ص152.

وعندما قال له عبد الله بن الزبير: إن شئت أقمت فوليت هذا الأمر آزرناك وساعدناك ونصحناك وبايعناك. أجابه الإمام علیه السلام : «إنّ أبي حدَّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها فما أحب أن أكون ذلك الكبش»، ثم قال علیه السلام : «والله، لئن أُقتل خارجاً منها أحب إليَّ من أن أُقتل داخلاً منها بشبر»(1).

والنتيجة: إنّ الإمام بعمله هذا قد أخّر الشهادة ورفع هتك حرمة مكة، وكان هذا هو الطريق الوحيد والمنطقي لحفظ النفس وحفظ حرمة بيت الله الحرام.

5- لماذا التوجه نحو الكوفة؟

كانت نتيجة البحث السابق هي أنّه كان من المنطقي أن يترك الإمام الحسين علیه السلام مكة، إلاّ أنّ السؤال هنا هو: إن كان الخروج من مكة ضرورياً، فلماذا التوجّه نحو الكوفة؟ ويمكن أن يكون الجواب عن هذا السؤال هو: أنّ أهل الكوفة دعَوه إليهم؛ وذلك طبقاً للروايات والوثائق التاريخية.

فإنّه بعد أن دخل الإمام علیه السلام إلى مكة وصلت إليه كتب كثيرة من أهل الكوفة، ولكنّه سكت، ولم يجب عن كتب أشراف أهل الكوفة، حتى روي أنّه وصل إلى الإمام علیه السلام في يوم واحد، ستمائة كتاب، وبلغت اثني عشر ألف كتاب، إلاّ أنّه لم يجب عنها، ولمّا وصل الكتاب الأخير من أهل الكوفة بيد هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي الذي جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم: للحسين بن علي من شيعته المؤمنين، أمّا بعد، فحَيَهل، فإنّ الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثمّ العجل يا بن رسول الله»(2).

ص: 87


1- أبو مخنف، لوط بن يحيى، وقعة الطفّ: ص152- 153.
2- الأمين، سيد محسن، الإمام الحسن والإمام الحسين علیهما السلام : ص156. وأيضاً: أبو مخنف، لوط بن يحيى، وقعة الطفّ: ص93

فهل يمكن أن يكون الجواب عن هذه الكتب والرسل بالنفي أو اللامبالاة؟! فلو لم يجب الإمام علیه السلام عن هذا العدد الكبير من الكتب التي يطلبون فيها منه نصرتهم وهدايتهم، فماذا سيحكم التاريخ اليوم بشأن الإمام الحسين علیه السلام ؛ ولذلك تُعدّ إجابتهم هي الطريق المنطقي الوحيد. إلاّ أنّ الإمام الحسين لم يكن ليعتمد على كتبهم ويتحرك نحو الكوفة من دون تحقيق وتفحص، بل أراد أن يختبرهم ويرى مدى صدقهم بإرسال رسول إليهم؛ ولذا لمّا اختار الإمام الحسين علیه السلام مسلمَ بن عقيل للقيام بهذه المهمة، كتب إليهم جواباً عن كتبهم: «وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي (مسلم بن عقيل)، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم»(1).

ثمّ إنّ مسلم بن عقيل بعد أن ذهب إلى الكوفة وانتقل إلى دار هاني كتب كتاباً إلى الحسين علیه السلام يدعوه فيه للمجيء إلى الكوفة، قال: «فإنّ الناس كلهم معك، وليس لهم في آل معاوية رأي ولا هدى»(2)، وقد وصل هذا الكتاب إلى الإمام علیه السلام بعد أن خرج من مكة(3).

ومن هنا؛ فأفضل مكان يقصده الإمام علیه السلام هو ذلك المكان الذي يكون فيه سفيره قد هيّأ فيه الأرضيّة المناسبة، وأخذ من الناس البيعة له، فالإمام إذن ليس له خيار إلاّ ترك مكة، والخيار المنطقي الوحيد هو السير نحو الكوفة فحسب؛ ومن هنا نجد أنّ الإمام علیه السلام قد أجاب ابن عباس بالنفي الذي كان يعتقد بخطورة الذهاب إلى الكوفة(4).

ص: 88


1- أبو مخنف، لوط بن يحيى، وقعة الطفّ: ص96.
2- المصدر السابق: ص111- 112
3- الأمين، سيد محسن، الإمام الحسن والإمام الحسين علیهما السلام : ص176.
4- قال عبد الله بن عباس مقترحاً على الإمام علیه السلام : «لا تقرب أهل العراق وأقم بهذا البلد؛ فإنك سيد أهل الحجاز، فإن أبيت إلاّ أن تخرج فسرْ إلى اليمن...». أبو مخنف، لوط بن يحيى، وقعة الطفّ: ص151. أمّا بالنسبة إلى عدم تمكّن الإمام علیه السلام من البقاء في الحجاز، فهذا ما أقمنا الدليل عليه في البحث السابق، وأمّا بالنسبة إلى الذهاب اليمن، فلا نرى في اليمن أي أرضية مناسبة لذلك، وترجيحها على الكوفة، مع كلّ ما تتمتع به من مواصفات أمر غير معقول
6 - لماذا الاستمرار في المسير بعد سماع خبر استشهاد مسلم؟
اشارة

إنّ السؤال الذي تكون الإجابة عنه أصعب من الإجابة عن الأسئلة السابقة هو أنّه لماذا لمّا أُخبر الإمام الحسين علیه السلام وهو في الثعلبية بشهادة مسلم وهاني، لم يتراجع عن التحرك نحو الكوفة، بل استمر في السير؟ وللجواب عن هذا السؤال لا بدّ من ملاحظة النقاط التالية:

ألف) الاستعداد القلبي لأهل الكوفة

لعل أهم جواب عن هذا السؤال هو أنّ الإمام علیه السلام وإن سمع بنقض أهل الكوفة للعهد، ولكنه لم ييأس منهم، وكان يتصور أنّه لو وصل إليهم يستطيع أن يقودهم ضد بني أمية؛ لأن قلوب أهل الكوفة معه علیه السلام وضد بني أمية، وإن كانوا قد شهروا سيوفهم ضد الإمام علیه السلام ، وهذه القضية قد أكّدها بعضهم، والشاهد على هذا أنّ الإمام علیه السلام لما نزل (الصفاح) المنزل الثاني بعد مكة التقى بالفرزدق - الشاعر المعروف - وسأله عن أوضاع الكوفة، فأجاب الفرزدق: «من الخبير سألت: قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية...»(1).

وهذا الكلام نفسه سمعه في موضع (عذيب الهجانات) - الموضع الثاني عشر بعد مكة - حيث إنّه بعد ما التقى الإمام الحسين بجيش الحرّ، ولحق أربعة نفر من أهل الكوفة بجيش الحسين سألهم الإمام عن أوضاع الكوفة، فقال له مجمع بن عبد الله العائذي - وهو أحد النفر الأربعة الذين جاؤوه -: «أمّا أشراف الناس، فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم، يستميل ودّهم، ويستخلص به نصيحتهم، فهم إلبٌ واحد

ص: 89


1- أبو مخنف، لوط بن يحيى ، وقعة الطفّ: ص158

عليك، وأمّا سائر الناس بعد، فإنّ أفئدتهم تهوى إليك، وسيوفهم غداً مشهورة عليك»(1).

هذا هو استعداد أهل العراق القلبي، ومحبتهم للإمام علیه السلام ، حتى أنّه احتجّ عليهم عندما التقى بجيش الحرّ وفي يوم عاشوراء، فكان يقول لهم: «أيّها الناس، إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبُكم وقدِمتْ عليّ رسلُكم: أن اقْدِم علينا؛ فإنّه ليس لنا إمام، لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ، فإن كنتم على ذلك، فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم»(2).

فرغم هذه الخطابات التي قيلت للإمام علیه السلام ، ورغم أنّه قد أُخبر بمقتل مسلم بن عقيل وهاني، ومع علمه بأوضاع الكوفة، إلاّ أنّه لم ييأس منهم، ويرى أنّهم على مفترق طريقين، وأنّهم إلى الآن يمكنهم أن يختاروا الإمام الحسين علیه السلام ، ويمكنهم أنّ يحققوا الهدف الذي كان ينشده الإمام، والذي كانوا هم يبحثون عنه أيضاً.

ب) الأمر الواقع يفرض نفسه

من الواضح أنّ يزيد لم يجعل للإمام علیه السلام في المدينة خياراً غير البيعة أو القتل، مع أنّ الإمام لم يفعل شيئاً حتى الآن، ومَن دبّر المؤامرة لقتله في مكة كان عالماً بأوضاعه علیه السلام ، وكان يراقبه بعنوان أنّه العدو من الدرجة الأُولى؛ كي يجتثّه عن طريقه، وخصوصاً بعد أن تحرّك الإمام علیه السلام من مكة، وأرسل رسوله وسفيره مسلم بن عقيل إلى الكوفة؛ الأمر الذي أدّى تلقائياً إلى أن يواجهوا الإمام علیه السلام بما هو منتفض ومتمرِّد - كما يدَّعي أعداؤه - فوجدوا ذريعة لقتل الإمام علیه السلام ، ولا سيما بعد حركته من مكة، فإنّه قد تقدّم خطوة

ص: 90


1- أبو مخنف، لوط بن يحيى ، وقعة الطفّ: ص174.
2- المصدر السابق: ص169.

في طريق النهضة، واستمرّ في السير على هذا الطريق؛ لأنّه يعلم أنّ الدولة تبحث عنه، وهدفها قتله وقتل أصحابه، كما ذكر الشيخ التستري في الخصائص: «إنّهم جدّوا في إلقاء القبض عليه، أو قتله غيلة ولو وجدوه متعلقاً بأستار الكعبة»(1).

إنّ التوجيه العقلائي لاستمرار الإمام الحسين علیه السلام في النهضة - بعد أن سمع شهادة صاحبه - هو الدخول في طريق لا رجعة فيه، أي إنّه لم يكن الأمر بنحوٍ لو ترك الاستمرار في التحرُّك، وذهب إلى مكان آخر كان في مأمن من الحكومة الظالمة؛ ومن هنا اكتفى الإمام علیه السلام بالاعتماد على الاستعداد القلبي لأهل الكوفة ظاهراً، واستمرّ في تحركه(2).

7- لماذا النزول في كربلاء؟

السؤال الذي يطرح نفسه في هذا البحث هو: هل أنّ لنزول الإمام الحسين علیه السلام في كربلاء توجيهاً عقلائياً؟

والجواب عن هذا: إنّه بعد أن التقى الإمام الحسين علیه السلام بجيش الحرّ في منطقة شراف، وكانت مهمة الحرّ هي منع الإمام الحسين علیه السلام من التوجه نحو الكوفة، وكان الإمام علیه السلام قد صمم على الاستمرار في المسير نحو الكوفة، ولكنّهم قد التجأوا - وباقتراح من الحرّ - إلى الاتّفاق على اختيار طريق وسط لا يؤدي إلى الكوفة ولا يرجعه إلى المدينة، واتّفقوا على أن يتياسر الحسين علیه السلام في السير نحو طريق القادسية وعذيب الهاجنات، إلى أن يكتب الحرّ إلى ابن زياد في أمره ...(3).

ص: 91


1- أبو مخنف، لوط بن يحيى ، وقعة الطفّ في الحاشية: ص149
2- هذه التوجيهات لا تتنافى مع علم الإمام علیه السلام ؛ لأنّ الإمام علیه السلام لديه تكليف كبقية الناس، ولم يكن الإمام علیه السلام ليستفيد من علمه لمصالحه الشخصيّة، ثمَّ إن محل هذا البحث في علم الكلام في باب علم الإمام علیه السلام ، وليس محله في مثل هذه المقالات
3- اُنظر: أبو مخنف، لوط بن يحيى، وقعة الطفّ: ص171

وبعد مدّة جاء الرسول من الكوفة فدفع كتاباً للحرّ جاء فيه: «أمّا بعد، فجعجعْ بالحسين حين بلغك كتابي هذا ويقدم عليك رسولي، ولا تنزله إلاّ بالعراء في غير خضر وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام»(1).

فأنزل الحرُّ الإمام علیه السلام بأمر من ابن زياد في منطقة، تَبيَّن لهم بعد السؤال عن اسمها أنّهم بالقرب من قرية نينوى التي هي بالقرب من منطقة كربلاء(2)؛ ومن هنا فدخول الإمام علیه السلام إلى كربلاء فيه جنبة إجبارية - حسب الظاهر- ولا بدّ له أن يتوقف في هذه المنطقة (3).

8 - لماذا الشهادة؟

السؤال الأخير في هذا القسم من المقالة هو: إذا كان لتحرِّك الإمام توجيه عقلائي، فإلقاء أشخاص قليلين في الموت والتهلكة في قبال ذلك الجيش الكبير، كيف يمكن أن يكون عقلائياً؟

والجواب هو:
1- استجابة الإمام الحسين علیه السلام لطلب أهل الكوفة

إنّ الإمام قد ذكر مراراً في الأيام الأخيرة أنّه إنّما جاء إلى هذه المصر لأجل كتُبِ

ص: 92


1- أبو مخنف، لوط بن يحيى ، وقعة الطفّ: ص177.
2- كربلاء ليست اسماً لقرية، بل هي منطقة تقع فيها قرية نينوى. اُنظر: المصدر السابق: ص179 في الحاشية
3- ننبّه مرّة أُخرى على أنّ هذا الأُسلوب العادي لحركة القافلة الحسينيّة لا ينافي علم الإمام الحسين علیه السلام بأنّه لا بدّ أن يأتي إلى كربلاء، بل إنّ طريقة البحث في المقالة هي للجواب عمَّن يتصور أنّ الإمام علیه السلام إنّما جاء إلى كربلاء كي ينال الشهادة ويكون شفيعاً للأمّة، والمقالة تدّعي أنّ حركة الإمام الحسين علیه السلام كانت طبيعية ومنطقية إلى درجة بحيث إنّ كلّ قائد ثوري يعيش هذه الظروف سيصل إلى النتيجة نفسها، وإنّ الإمام الحسين علیه السلام قد عمل بتكليفه الشرعي والعقلي

أهل الكوفة، وإذا هم عدلوا عن رأيهم وما جاءت به كتبهم؛ رجع من حيث أتى، والشاهد على ذلك: إنّه لمّا جاء قرة بن قيس الحنظلي إلى الإمام الحسين علیه السلام وأوصل رسالة عمر بن سعد للإمام علیه السلام ، قال الإمام علیه السلام له: «كتَبَ إليّ أهلُ مص-ركم هذا أن اقْدِم، فأما إذ كرهوني فأنا أنصرف عنهم»(1).

وقد ذكّرهم الإمام الحسين علیه السلام مرّة أُخرى في يوم عاشوراء، فقال: «أيّها الناس، إن كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض»(2).

فهذه الأُمور تدلّ على أنّ الإمام علیه السلام لم يكن ليضع نفسه أمام سيوف الأعداء من دون تقييم الأُمور وموازنتها، وكان يحتجّ عليهم إلى آخر لحظة بعهودهم وكتبهم، وكان يتحيّن الطرق لحلّ المشكلة، كما كان أيضاً يُحرِّك عواطفهم ومشاعرهم كأن يذكّرهم بنسبه من رسول الله(3)؛ لعلهم ينضمّون إليه.

2- حصار العدو للإمام الحسين علیه السلام والتشديد عليه

ضيّق حاكم الكوفة على الإمام علیه السلام إلى درجة لم يكن للإمام علیه السلام إلاّ خياران: إمّا البيعة، أو القتل، والشاهد على هذا أنّه قد ورد فيما يتعلّق بالمكاتبة التي وقعت بين عمر بن سعد - الذي كان يحب أن لا تنتهي القضية إلى الدماء - وبين ابن زياد، أنّ عمر كتب كتاباً كذب فيه وهو: (إنّ الإمام قد عرض عليهم أنّه يذهب إلى يزيد ويضع يده بيده) ولكن كان جواب ابن زياد - بتحريض من الشمر- : «أمّا بعد، فإنّي لم أبعثك إلى حسين لتكفّ عنه ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له عندي شافعاً، انظر، فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليّ سلماً، وإن

ص: 93


1- أبو مخنف، لوط بن يحيى، وقعة الطفّ: ص 184- 185.
2- المصدر السابق: ص209.
3- المصدر السابق: ص206.

أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم؛ فإنّهم لذلك مستحقون، فإن قُتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره؛ فإنّه عاقّ مشاقّ قاطع ظلوم... وإن أبيت، فاعتزل عملنا وجندنا، وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنّا قد أمرناه بأمرنا، والسلام»(1).

فكتاب ابن زياد هذا كان من الشدّة إلى حدّ بحيث كان يهدد حتى قائد الجيش بالعزل من منصبه، فيما إذا قصّر في أوامر ابن زياد، والذي يشهد بذلك الإجراءات الشديدة التي اتّخذوها بشأن الإمام الحسين علیه السلام من حبس الماء عليه وعلى أصحابه(2)، ومجيء الجيش الجرّار والإصرار الكبير على البيعة ليزيد.

3- إباء الذلّ والعار

بعد أنّ طُرحت حلول للمصالحة والمسالمة؛ رأى الإمام الحسين علیه السلام أخيراً أنّ العدو يريد له الذلّ والهوان، فبناءً على ما ندّعيه من ثورية الإمام علیه السلام وإبائه الضيم، حان الوقت الآن وفي يوم عاشوراء أن يعلن الإمام علیه السلام عن موقفه، فنادى: «ألا وإنّ الدّعي وابن الدّعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، هيهات منّا الذلّة»(3)، ثم قال: «ألا قد أعذرت وأنذرت، ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة مع قلّة العدد وكثرة العدو وخذلان الناصر»(4).

فإذا كان الإمام الحسين علیه السلام قد سلّم نفسه وأصحابه للشهادة، فإنّما فعل ذلك

ص: 94


1- أبو مخنف، لوط بن يحيى ، وقعة الطفّ: ص187- 188، والذي يؤكد هذا الادّعاء الكاذب من عمر بن سعد هو ما ذكره عقبة بن سمعان. اُنظر: الأمين، سيد محسن، الإمام الحسن والإمام الحسين علیهما السلام : ص207- 208
2- اُنظر: أبو مخنف، لوط بن يحيى، وقعة الطفّ: ص190- 191.
3- الأمين، سيد محسن، الإمام الحسن والإمام الحسين علیهما السلام : ص 223. واُنظر: الأمين، سيد محسن، أعيان الشيعة: ج1، ص603
4- المصدر نفسه: ص224. واُنظر: الأمين، سيد محسن، أعيان الشيعة: ج1، ص603

بعد أن أظهر التجاوب والحلم الكثير معهم، واستخدم جميع الطرق التي تحول دون تحقق تلك الواقعة من إلقاء الحجج، وتأنيب الضمائر وما شاكل ذلك، ولكنّ العدو قد أظهر القسوة والشدّة والإلحاح والإصرار، ولم يقنعوا إلا باستسلام الإمام الحسين علیه السلام وأصحابه؛ حينئذٍ لم يكن الإمام علیه السلام ليقبل العار والذلّة، وكان مستعداً لأن يبذل نفسه في سبيل أهدافه المقدّسة بوصفه الزعيم الديني والقائد الثوري الأبيّ؛ كي يسقي بدمه الطاهر براعم الحقّ والعدالة، وإذا لم تكن تثمر في ذلك الوقت، فلا أقل تبقى إلى أن يأتي الوقت المناسب لإثمارها.

ص: 95

ص: 96

هذا المقال عبارة عن دراسة نقدية لمقال الأستاذ محمد علي سلطان، الذي نشر في مجلة نصوص معاصرة، في عددها التاسع، تحت عنوان: (البكاء على الحسين نقد في السند والمتن لبعض نصوص الرثاء)، والذي تعرض فيه الكاتب إلى ضعف بعض نصوص البكاء والرثاء سندأ، وعدم دلالة بعضها على المدعی متنا.

نصوص البكاء قوة في السند وصراحة في المتن

القسم الأول/ لؤي المنصوري

إنّ نهضة الحسين علیه السلام كما تعرّضت لإشكالات واستفسارات قبل وبعد وقوعها، كذلك إحياء ذكره تعرّض إلى جملة من الإشكالات والاعتراضات والتشويهات المقصودة، من قِبل الأعداء والمخالفين، وهؤلاء معروفة غاياتهم وتوجهاتهم ونياتهم من وراء ذلك.

لكن بقي الحسين علیه السلام وبقيت نهضته مَعلماً شاخصاً وأُسوة يقتدي به الموالف والمخالف، مهما حاول الأعداء طمس تلك المعالم الإلهية والدلائل الربانيّة، أو التشكيك فيها، أو ذرّ الغبار على أنوارها الساطعة.

وهذا كلّه قد يهون، إلاّ أنّ ما يؤسف في الأمر هو أنّ بعض الموِالين - قصوراً أو تقصيراً منهم في فهم الواقع بصورته الصحيحة، وكما ينبغي أن يكون عليه - قد أعانوا في تشويش الصور والمعالم الحسينيّة، ونحن لا نريد أن نشكك في نوايا الموالين والمحبين، وإنّما نريد أن نُظهِر بعض العتب الجميل على تلك المحاولات التي مُلئت

ص: 97

بالشبهات، والتي يطغى عليها عادةً قص-ر النظر وقصور الفهم، أو التسرُّع بالحكم وتزكية الفكر.

وتظهر هذه المحاولات بأساليب وصور مختلفة، فتارة تظهر بصورة مقال: (عاشوراء الحسين علیه السلام وعاشوراء الشيعة)؛ لإيقاع التمايز بين الحسين وشيعته، وتارة بصورة نقد جملة من الشعائر، ك-(التشابيه) وغيرها، كما في مقال (صولة الحقّ على جولة الباطل)، وأُخرى بالصورة التي تعرَّض لها السيد محسن الأمين في كتاب رسالة التنزيه.. وكُلّ هذه الكتابات والنصوص تؤدي إلى نتيجة واحدة - سواء كانت بقصد أو بدون قصد - وهي إضفاء الضبابية على نهضة الحسين علیه السلام ، ورسم علامات استفهام كبيرة فوقها، وإذابة روح الجاذبية والحماس فيها، تلك النهضة التي تعدّ المائز الرئيس في بناء كيان التشيع ورسم مَعلمه الشامخ والنَيّر.

يقول الشيخ محمّد هادي الأميني واصفاً ردّة فعل الشيخ محمّد جواد البلاغي تجاه كلام السيد الأمين: «فحين أفتى بعض العلويين في الشام وتبعه علويٌّ آخر في البصرة بحرمة الشعائر الحسينيّة، وزمّر وطبّل على هذه الفتوى كثير من المغرضين المعاندين، شوهد هذا الشيخ الكبير - على ضعفه وعجزه - أمام الحشد المتجمهر للعزاء يمشي وهو يضرب على صدره، وقد حلّ إزاره، وخلفه اللطم والأعلام، وأمامه الضرب بالطبل»(1).

هذا، وقد ظهرت هذه المرّة - وللأسف - بعض الأصوات من داخل المؤالفين، تدّعي لنفسها العلم والتجديد، تريد رسم الحسين ونهضته بريشتها المتجددة، ونفض الغبار - حسبما تزعم - عمّا لحق بها من أوهام وخرافات، وأساليب وعادات شوّهت صورتها، وأبعدتها عن حقيقتها، واصفةً بعض أخبار البكاء بالضعف أو الوضع أو الخيال البعيد عن الواقع.

ص: 98


1- معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام: ج1، ص353

وسوف نلاحظ حقيقة علمهم وتجديدهم، ومدى معرفتهم بتناول الأخبار ودراستها، وهل أنّهم تدبَّروها وفهموها، أو أنهم طالعوا صحفاً ناقصة وأوراقاً طفيفة، ثمّ حكموا عليها بعلم الرجال الذي تناولوه مقلوباً، ولم يميِّزوا أحوال الرجال ولا الطرق والأسانيد؟

وهذا ما سوف نستعرضه في مراجعة المقال الصادر في مجلّة (نصوص معاصرة) العدد التاسع سنة 1428ه- - 2007م، تحت عنوان (البكاء على الحسين علیه السلام نقد في السند والمتن لبعض نصوص الرثاء)؛ إذ سنرى مقدار انطباق العنوان على المعنون، وآلية النقد التي استخدمها الكاتب.

قلب الحقيقة ونقص المعلومة:

قال الكاتب في ص245 من المجلّة: «إنّ البكاء على سيد الشهداء الإمام الحسين علیه السلام وأصحابه في أيام عاشوراء ومحرم وصفر من معالم التشيّع، بل وأهمّها منذ العصر البويهي ومعزّ الدولة الذي كان أول مَن أصدر أمراً بالحِداد العام بهذه المناسبة، ودعا الناس فيها لممارسة طقوسهم بحُريّة في ذكرى عاشوراء، فانطلقت المآتم وجرت الشعائر الحسينيّة في الأزقّة والميادين».

إنّ هذا الكلام وأمثاله إنّما يدلّ على أنّ جملة من الباحثين كأنّهم لم يطالعوا التاريخ ولم يقفوا على الأخبار والأحاديث، ويا ليتهم طالعوا وقرأوا قبل أن يدوّنوا ويكتبوا، ويُتعبوا أنفسهم والآخرين في هذه الإشكالات والمهاترات العلميّة التي يسطّرونها، والكلمات التي لا يعرفون محتواها، وإلاّ فإنّ أيَّ ذي مسكة يتفوّه بالأسطر المتقدِّمة، ويحكم على أنّ البكاء بدأ كمَعلم منذ العصر البويهي أو الفاطمي؟!

فهل أنّ قائل هذا الكلام راجعَ المصادر الشيعيّة أو السنيّة؛ كي يقف على تاريخيّة

ص: 99

المأتم الحسيني؟ ومتى بدأ ومتى نشأ؟ ومَن الذي أقامه؟!

وهذه هي كتُبُ الحديث والتاريخ - الشيعيّة والسنيّة على السواء - ناطقة بأن تاريخ المأتم الحسيني يعود إلى زمن النبيّ الأكرم صلی الله علیه و آله ، قبل شهادة الحسين علیه السلام بخمسين سنة وأكثر، حيث بكاه ونعاه في بيت أبيه عليّ علیه السلام تارة، وفي بيت أُم سلمة أُخرى، وفي بيت عائشة ثالثة، ومَن يريد الاطّلاع يمكنه مراجعة كتاب الشيخ الأميني (سيرتنا وسنتنا) بتحقيقنا؛ حيث أخرج جملة كبيرة من تلك المآتم وبأسانيد صحيحة وموثّقة تبلغ ثمانية عشر مأتماً، وقد أوردنا جملةً منها في مقال سابق.

وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة الإمام الحسين علیه السلام ما يربو على ثلاثمائة رواية في بكاء النبيّ صلی الله علیه و آله ، وإخباره بمقتل ابنه بشط الفرات، وقال: «ما ورد عن النبيّ صلی الله علیه و آله بنحو التواتر عن شهادة ريحانته الإمام الحسين بكربلاء أو بأرض الطفّ، وبكائه عليه قبل وقوع الحادثة»(1).

وذكر ابن سعد في الطبقات جملة من أخبار بكاء النبيّ صلی الله علیه و آله على الحسين علیه السلام ، وكذلك ذكر ابن حجر العسقلاني والهيثمي والسيوطي وأحمد بن حنبل وأبو يعلى وغيرهم جملة من الأخبار التي فيها بكاء النبيّ صلی الله علیه و آله على ريحانته وإقامة المأتم عليه، وقد أوردنا جانباً منها أيضاً في المقال المشار إليه. وأوردنا أيضاً نصوصاً تشير إلى بكاء الإمام علي علیه السلام وإقامته المأتم على ابنه الحسين علیه السلام .

ثمّ بعد استشهاد الحسين علیه السلام رأى ابن عباس النبيّ صلی الله علیه و آله وهو يلتقط دم الحسين علیه السلام وأصحابه(2).

ص: 100


1- ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين: ص236
2- اُنظر: الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين: ج4، ص439. أحمد بن حنبل، مسند أحمد: ج1، ص283. عبد بن حميد، المسند:ج1، ص235

وكذلك ناحت الجنّ وبكت على الحسين علیه السلام ، كما ورد ذلك في جملة من المصادر الحديثيّة، كالمعجم الكبير للطبراني، ومجمع الزوائد للهيثمي(1). وبكته الوحوش والحيوانات والأرضون والسماوات(2).

وقد أقامت زينب بنت علي علیهما السلام بعد استشهاده عدّة مآتم، مأتماً على جسده الشريف في أرض الطفّ، وعند عبيد الله بن زياد في الكوفة(3)، وفي دمشق عند يزيد لعنه الله(4).

وخطب الإمام زين العابدين خطبته المعروفة التي بيّن فيها مناقب أبيه، وأبكى الحاضرين في مجلس عبيد الله بن زياد(5).

وأقام الإمام زين العابدين علیه السلام المأتم على أبيه، و «بكى على أبيه الحسين علیه السلام عشرين سنة، وما وُضع بين يديه طعام إلاّ بكى، حتّى قال له مولى له: يا بن رسول الله، أما آن لحزنك أن ينقضي؟! فقال: ويحك! إنّ يعقوب النبيّ علیه السلام كان له اثنا عشر ابناً فغيّب الله عنه واحداً منهم؛ فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغمّ، وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟!»(6).

وكان «قد اتّخذ منزلاً من بعد مقتل أبيه الحسين بن علي علیهما السلام بيتاً من شَعر، وأقام بالبادية، فلبث بها عدّة سنين؛ كراهية مخالطته الناس وملابستهم، وكان يصير من البادية

ص: 101


1- اُنظر: الطبراني، المعجم الكبير:ج3،ص121، ح2862. الهيثمي، مجمع الزوائد: ج9، ص199
2- اُنظر: الصدوق، عيون أخبار الرضا: ج1، ص269.
3- الأمين، السيد محسن، لواعج الأشجان: ص186، والخبر في الإرشاد: ج3، ص112
4- اُنظر: المصدر السابق: ص239
5- اُنظر: المصدر السابق: ص234.
6- الصدوق، الخصال: ص517.

بمقامه بها إلى العراق زائراً لأبيه وجده علیهما السلام »(1).

وأي مأتم أجلّ وأعظم من هذا المأتم الذي يقيمه حجة الله في زمانه الإمام زين العابدين علیه السلام بالبكاء المتواصل طيلة عشرين سنة أو أكثر، بمرأى ومسمع من شيعته ومواليه، حتّى وصل بهم الأمر إلى الإشفاق عليه؛ بسبب الإعياء والإرهاق الذي أصابه من شدّة الحزن والبكاء؟! ومهما عملت الشيعة وصنعت في مآتمها وحزنها وبكائها، لا تصل إلى ما قام به الإمام السجاد علیه السلام .

كما أنّنا نطالع أيضاً أنّ شعراء عص-ر الإمام الباقر علیه السلام كانوا ينشدونه في جده الحسين علیه السلام الشعر «فبكى علیه السلام وبكى أبو عبد الله، وسُمعت جارية تبكي من وراء الخباء، ثم قال: ما من رجل ذَكَرنا أو ذُكِرنا عنده فتخرج من عينيه ماء، ولو قدر مثل جناح البعوضة، إلا بنى الله له بيتاً في الجنّة، وجعل ذلك حجاباً بينه وبين النار»(2).

وفي مزار ابن المشهدي بسند صحيح، عن عبد الله بن سنان قال: «دخلت على سيدي أبي عبد الله جعفر بن محمّد علیهما السلام يوم عاشوراء، فألفيته كاسف اللون ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا بن رسول الله، مِمَّ بكاؤك؟! لا أبكى الله عينيك. فقال لي: أوَ في غفلة أنت؟! أوَ ما علمت أنّ الحسين بن علي علیهما السلام قُتل في هذا اليوم؟!»(3).

وكذلك بقيّة أئمة أهل البيت علیهم السلام أقاموا المآتم على جدِّهم الحسين علیه السلام باستقدام الشعراء وإنشادهم الشعر، وذكرهم لما جرى على سيد الشهداء في كربلاء، وتحدِّثهم بما أصاب الحسين علیه السلام وإخوته وأصحابه، وما جرى على عياله من الضرب والسبي.

ص: 102


1- ابن طاووس، إقبال الأعمال: ج2، ص273.
2- القمّي، كفاية الأثر: ص249.
3- ابن المشهدي، المزار: ص473. الشيخ الطوسي، مصباح المتهجِّد: ص782.

فالنبي الأكرم صلی الله علیه و آله وأئمة أهل البيت علیهم السلام هم أول مَن أسس مجالس العزاء والبكاء على سيد الشهداء، وذكر مصيبته وما جرى عليه وعلى أهل بيته في كربلاء، وأمروا الشيعة بذلك، وأوصوهم بالمواظبة والحضور فيها، وعلى ذلك سارت الشيعة واقتدت بأئمتها في الاجتماع وعقد المجالس وذكرِ مصائبهم، وعلى رأسها مصيبة الحسين علیه السلام ؛ لأنّ ما جرى في كربلاء لم يجر مثله على أحد من الخلائق، حيث ذبحوا ابن النبيّ الأكرم صلی الله علیه و آله ، وقتلوا أبناءه وسبوا نساءه.

فما استفتح به الكاتبُ مقالَه عارٍ عن الصحّة، ومخالف لما ورد في الأخبار والروايات، والتي ذكرنا جزءاً يسيراً منها آنفاً.

الخلط بين أصل العزاء وعلنيته:

أضف إلى ذلك أنّ الكاتب قد وقع في خلط كبير؛ حيث لم يفرِّق بين إقامة العزاء والبكاء على الحسين علیه السلام ، وبين خروج المواكب والسير في الأزقّة والطرقات الذي حدث في زمن معزّ الدولة، فإنّ المأتم والبكاء عريقان في أدبيات الشيعة، لكن سرعة الولوج في الأُمور، وعدم التثبُّت، تؤدّي إلى الخلط، وتغشّي العين لتريها الشمس غيوماً والنهار ليلاً.

الخلط بين نقد المتن ونقد السند:

ذكر الكاتب أنّ ما ورد حول البكاء على شهداء الطفّ ينقسم إلى الصحيح والضعيف والمكذوب - ولم يبيّن ضابطة القسم الثالث والميزان الذي على ضوئه حَكَم بكذب تلك الروايات - وأنّ جملة من الروايات أدَّت إلى تشويه صورة كربلاء.

وهذا الكلام يمكن تسليط الضوء عليه من جهتين:

ص: 103

الجهة الأُولى: النقاش فيه من جهة استنتاجاته العقيمة من نصوص ومتون الروايات التي حكم أنّها مشوِّهة لكربلاء، وهذا ما سوف نتعرَّض إليه في القسم الثاني من هذا المقال.

الجهة الثانية: الخلط الذي وقع فيه الكاتب بين نقد السند ونقد المتن، وذلك أنّ الموقف تجاه الخبر إمّا أن يبتني على قاعدة الوثاقة (مبنى الوثاقة)، وأنّ المدار على وثاقة الراوي، كما هو مبنى بعض الأعلام - كالسيد الخوئي وبعض تلاميذه - فإن كان الراوي موصوفاً بالوثاقة وصحّة النقل يكون خبره صحيحاً أو موثقاً، وإلاّ فلا اعتبار به.

وإمّا أن يبتني على قاعدة الوثوق بالصدور، كما هو مبنى بعضٌ آخر من الأعلام - كالسيد البروجردي وبعض تلاميذه - حيث بنوا على أنّ المدار هو المتن ومجموع القرائن المحيطة به، لا خصوص السند، فقد يكون بعض رواة الخبر مجهولين، أو مطعوناً فيهم، إلاّ أنّ متن الخبر مقبول ولا غبار عليه؛ لقرائن وشواهد داخلية أو خارجية تورث اطمئناناً بالصدور.

وهذا ما لم يلتفت إليه الكاتب، حيث نلاحظ أنّّه قسّم بحثه إلى قسمين، تعرّض في القسم الأوّل إلى ضابطة الوثاقة، ونقد جملة من الروايات على وفقها، وحكم بضعفها، ولم ينظر إلى متن الرواية، حتى فيما إذا كان هنالك جملة من الأخبار الصحيحة تدعم ذلك المتن، بل قد يوجد بينها تقارب حتّى في بعض ألفاظها. وهذا ما لا يمكن قبوله وفق القواعد؛ لأنّ في مثل هذه الحالة - حتّى على مبنى مَن يقول بالوثاقة - لا يُردّ الخبر أو يهمل تماماً، بل يكون الحديث مقبولاً؛ لوجود نصوص أُخرى تدعمه وتثبت محتواه.

كما أنّه في القسم الثاني، وهو بحث المضمون، قد أغفل البحث السندي وقطعه

ص: 104

تماماً، وتناول المتن وأخذ بالتعامل معه على أساس ذوقه العقلي في معقوليّة الخبر من عدمه، حسب ما يراه. بينما كان المفروض مراجعة سنده أو النظر إليه؛ كي يحكم عليه بعد ذلك؛ لأن الأخذ بالموثوق لا يعني إغفال النظر عن السند تماماً، وإنّما السند يُشكّل عنصراً من عناصر الوثوق أو عدمه في الخبر.

عدم انطباق العنوان على المعنون:

من ناحية أُخرى نجد أنّ الكاتب عنوَن كلامه في ص246 بعنوان (الحاجة إلى نقد روايات السيرة الحسينيّة)، إلاّ أنّ المعنون إذا ما قرأناه نجد أن العنوان لا ينطبق عليه أصلاً، فلم يذكر وجه الحاجة إلى النقد، أو الفوائد المترتّبة عليه، أو ما يرتبط بذلك، ويمكن مراجعة كلامه من ص246 إلى السطر الرابع من ص247، وخلاصة ما ذكره:

1- إنّ نقد روايات السيرة الحسينيّة لا يلازم المساس بحيثيّة الواقعة، أو التنقيص منها، أو التشكيك في ثبوتها.

2- إنّ روايات السيرة الحسينيّة وإن نقلها مشايخ أجلاء وسطّروها في أسفارهم الحديثيّة، إلاّ أنّ ذلك لا يبرر عدم نقدها ودراسة متونها وأسانيدها.

فنلاحظ أنّ العنوان يخالف ما أورده في المعنون، فالعنوان ورد لبيان الحاجة إلى نقد روايات السيرة الحسينيّة، بينما ما ذكره في كلامه لا يبيِّن الحاجة، فأيّ ربط بين العنوان وبين الأمر الأول، من أنّ نقد روايات السيرة الحسينيّة لا يلازم إنكارها أو التقليل من شأنها؟! إذ إنّ هذا الأمر يكون بعنوان تنبيه على أنّ المناقشة للأخبار لا يلازم إنكار أصل الواقعة أو المساس بها، وهو أمر أجنبي تماماً لا علاقة له بالحاجة المذكورة.

ص: 105

والأمر الثاني أيضاً كالأول أجنبي عن الدخالة في الحاجة؛ إذ أي تلازم بين الحاجة إلى النقد وبين تدوين الأخبار من قِبل الأعلام الأجلاّء المتقدمين؟!

اتّهام الأعلام بما لا يناسب شأنهم:

حيث أفاد بأنّ هؤلاء الأعلام الذين نقلوا روايات البكاء والعزاء قد تطغى عليهم العواطف والأحاسيس، وتخرجهم عن موضوعيّة التدوين؛ فيسطّرون كُلّ ما يجدونه من روايات وأخبار، قال: «قد يخضع الأعلام أنفسهم لما يتأثر به غيرهم من العواطف والأحاسيس...»(1).

وهذا الكلام يُعدُّ طعناً في علماء الطائفة والمحدِّثين الأجلاّء، الذين سيعتمد الكاتب على توثيقاتهم وتضعيفاتهم في حقّ الرواة، فضلاً عن جلالة قدرهم وعلو منزلتهم، وعدم انسياقهم وراء المشاعر المخرِجة عن حدّ الموضوعيّة، كما يزعم صاحب المقال. وأين نضع عبارة ابن قولويه في كامل الزيارات حينما قال: «وأنا مبيِّن لك أطال الله بقاك - ما أثاب الله به الزائر لنبيه وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين، بالآثار الواردة عنهم علیهم السلام - ... ولم أُخرج فيه حديثاً روي عن غيرهم؛ إذ كان فيما روينا عنهم من حديث صلوات الله عليهم كفاية عن حديث غيرهم، وقد علمنا أنّا لا نحيط بجميع ما روي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، ولكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته، ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال يؤثر ذلك عن المذكورين غير المعروفين بالرواية، المشهورين بالحديث والعلم»(2).

إذ يص-رح رحمة الله بأنّه ينقل الروايات المشهورة عن المعروفين بالعلم والمشهورين بالحديث، ويهمل الشاذ النادر، وإن ورد عن رواة شيعة، إن لم يكونوا معروفين،

ص: 106


1- نصوص معاصرة، العدد التاسع: ص246 - 247
2- ابن بابويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات، المقدمة: ص36 - 37.

مع تصريح الكاتب بأنّ بحثه في الروايات الواردة في كامل ابن قولويه؛ حيث قال: «هناك أكثر من أربعين حديثاً نصّت مضامينها بشكل مباشر على رثاء الحسين علیه السلام .. وقد وردت جلُّها في كامل الزيارات لابن قولويه»(1).

وقال الشيخ الصدوق والذي ينقل جملة من أخبار السيرة الحسينيّة في الأمالي والعيون: «وحذفتُ الإسناد منه؛ لئلا يثقل حمله ولا يصعب حفظه ولا يملُّه قاريه؛ إذ كان كل ما أُبيِّنه فيه من الكتب الأصولية موجوداً مبيّناً عن المشايخ العلماء الفقهاء الثقات رحمهم الله»(2).

وقال في كتابه ثواب الأعمال: «إنّ الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا ما روي عن النبيّ صلی الله علیه و آله أنّه قال: الدالّ على الخير كفاعله، وسميته كتاب (ثواب الأعمال)، وأرجو أن لا يحرمني الله ثواب ذلك، فما أردت من تصنيفه إلاّ الرغبة في ثواب الله وابتغاء مرضاته سبحانه، ولا أردت بما تكفلته غير ذلك، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل»(3).

وقال ابن المشهدي: «فإنّي قد جمعت في كتابي هذا من فنون الزيارات للمشاهد، وما ورد في الترغيب في المساجد المباركات والأدعية المختارات، وما يُدعى به عقيب الصلوات، وما يناجى به القديم تعالى من لذيذ الدعوات والخلوات، وما يلجأ إليه من الأدعية عند المهمات، ممّا اتّصلت به ثقات الرواة إلى السادات»(4).

فمثل هذه الكلمات لا يمكن اتّهام أصحابها بما قاله، إذ ستُشكّل منحًى خطيراً ليس في رواياتهم فحسب، بل ينعكس حتّى على التوثيق والتضعيف عند الترجمة؛

ص: 107


1- مجلّة نصوص معاصرة، العدد التاسع: ص247
2- الصدوق، المقنع، المقدمة: ص3.
3- الصدوق، ثواب الأعمال: ص2.
4- ابن المشهدي، المزار: ص27

وبالتالي سيكون كلامهم مشكوك الاعتبار، ما لم نحرز صدوره لا عن إحساس ومشاعر، وإنّما عن موضوعيّة وتَروّ، مضافاً إلى أننا نجد أنّ نفس الكاتب سيناقش الأخبار من جهة السند بما أورده هؤلاء الأعلام من توثيق وتضعيف!!

الخلط بين روايات السيرة وروايات الثواب:

وهنالك خلط آخر وقع فيه الكاتب يلحظه القارئ في المقال؛ حيث يردد عبارة روايات السيرة الحسينيّة في أكثر من موطن، مع أنّه يبدأ مناقشته لأخبار الثواب والأجر المترتّب على البكاء على الحسين علیه السلام ، وهذا لا ربط له بالسيرة، وإنّما مرتبط بأثر شرعي وأنّ البكاء والحزن على سيد الشهداء مستوجب للإثابة والجزاء الجميل لفاعله، وهو أثر يدخل في باب المطلوبيّة والمحبوبية للمولى سبحانه وتعالى. بينما السيرة تعني سرد الحادثة الواقعة والمأساة التي رُزئ بها أبناء النبيّ صلی الله علیه و آله في كربلاء، من دون ارتباطها بأثر شرعي، من الإثابة والثناء الجميل.

النقاش في روايات البكاء جهد العاجز:

إنّ مسألة البكاء على الإمام الحسين علیه السلام ممّا تواترت فيها الأخبار من كلا الفريقين، بل صرَّح جملة من علماء السنّة بتواترها، ودُوِّنت في المعاجم الحديثيّة والمسانيد والتراجم على السواء، ويكفي ما استخرجه المحقق المحمودي في جزئيه المستخرج من تاريخ مدينة دمشق في ترجمة الإمام الحسين علیه السلام ، وفيها ما يناهز الثلاثمائة رواية، ويكفي أقلّ من هذا العدد بكثير للحكم بالتواتر، فكيف إذا ما وصل العدد إلى ما ذُكر.

وأما في المصادر الشيعيّة، فالروايات التي وردت حول المأتم والبكاء والحزن والجزع وثواب ذلك، كثيرة جداً، ما يثبت التواتر بسهولة، فلا حاجه للبحث والتدقيق في أسانيد الروايات منفردة، ومَن يفعل ذلك فهو جديد عهد بصناعة

ص: 108

الحديث، ولم يسبر أحكامه وكيفيّة تطبيق قواعده عليه، فما بالك فيما إذا رجعنا إلى الأسانيد ووجدنا عشرات الروايات صحيحة الإسناد، رواها رواة عدول ثقات.

وسنورد فيما يلي جملة من الأخبار الصحيحة، التي تتحدَّث عن ثواب وأجر البكاء والجزع على الحسين علیه السلام ، للتبرك لا للإثبات؛ لأنها ثابته بالتواتر:

1) ما رواه الشيخ الصدوق في ثواب الأعمال، حيث قال: «حدَّثنا محمّد بن موسى المتوكل، قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن أحمد وعبد الله ابني محمّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن زرين، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر علیه السلام قال: كان علي بن الحسين علیهما السلام يقول: أيُّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين علیه السلام حتّى تسيل على خده بوأه الله تعالى بها في الجنّة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيُّما مؤمن دمعت عيناه حتّى تسيل على خديه فيما مسَّنا من الأذى من عدونا في الدنيا بوأه الله منزل صدق، وأيُّما مؤمن مسّه أذى فينا فدمعت عيناه حتّى تسيل على خده من مضاضة أو أذى فينا صرف الله من وجهه الأذى، وآمنه يوم القيامة من سخط النار»(1).

قال الحر العاملي: «ورواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن الحسن بن محبوب، ورواه ابن قولويه في المزار عن الحسن بن عبد الله بن محمّد بن عيسى، عن أبيه الحسن بن محبوب مثله»(2).

وسند التفسير كالتالي قال: «حدَّثني أبي، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر علیه السلام ...»(3)، وهو سند صحيح رجاله ثقات.

ورواها ابن قولويه بسنده، إذ قال: «حدَّثني الحسن بن عبد الله بن محمّد بن عيسى، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن زرين، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر علیه السلام ...».

ص: 109


1- الصدوق، ثواب الأعمال: ص83 .
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت): ج14، ص501.
3- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص201.

والسند صحيح رواته ثقات، صُرِّح بوثاقة جميع رواته في الكتب الرجالية، ما عدا شيخ ابن قولويه الحسن بن عبد الله بن محمّد بن عيسى، فلم يرد له ذكر في كتب الرجال، إلا أنّه من مشايخ ابن قولويه، وقد وثّق مشايخه المباشرين؛ إذ قال في المقدمة: «وما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته»(1).

2) ما رواه الشيخ الصدوق في الأمالي، حيث قال: «حدَّثنا جعفر بن محمّد بن مسرور رحمه الله، قال: حدَّثنا الحسين بن محمّد بن عامر، عن عمّه عبد الله بن عامر، عن إبراهيم بن أبي محمود، قال: قال الرضا علیه السلام : إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرِّمون فيه القتال، فاستُحِلَّت فيه دماؤنا، وهُتكت فيه حرمتنا، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا، واُنتهب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرعَ لرسول الله صلی الله علیه و آله حرمة في أمرنا.

إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كربلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون، فإنّ البكاء يحطّ الذنوب العظام».

ثُمّ قال علیه السلام : «كان أبي صلوات الله عليه إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين صلوات الله عليه»(2).

وسند الحديث صحيح رواته ثقات، إلاّ جعفر بن محمّد بن مسرور؛ حيث لم يرد فيه توثيق صريح، إلاّ أنّه معتبر؛ إذ روى عنه الشيخ الصدوق عدّة روايات مترحِّماً عليه، وهذه شهادة منه على حسن حاله واستقامة أمره، فالرواية تامّة سنداً.

قال السيد ابن طاووس: «فمِن الأحاديث عن أئمّة المعقول الذي يصدق فيها المنقول

ص: 110


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: 20.
2- الصدوق، الأمالي: ص190.

للمعقول ما رويناه بعدّة طرق إلى الشيخ أبي جعفر محمّد بن علي بن بابويه من أماليه بإسناده، عن إبراهيم بن أبي محمود..»(1). وذكر الحديث المتقدم.

3) ما رواه الشيخ الصدوق في الأمالي أيضاً بسنده، قال: «حدَّثنا محمّد بن إبراهيم(2) رحمه الله، قال: أخبرنا أحمد بن محمّد الهمداني، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا علیه السلام قال: مَن ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة، ومَن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عزّ وجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرّت بنا في الجنان عينه، ومَن سمّي يوم عاشوراء يوم بركة وادّخر فيه لمنزله شيئاً لم يبارك له فيما ادّخر، وحُشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد (لعنهم الله) إلى أسفل درك من النار»(3). والرواية صحيحة سنداً، رجالها ثقات.

4) كذلك ما رواه الشيخ الصدوق بسنده، قال: «حدَّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار رحمه الله، قال: حدَّثني أبي محمّد بن يحيى، قال: حدَّثنا محمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري، عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي، عن الحسن بن علي بن أبي عثمان، عن علي بن المغيرة، عن أبي عمارة المنشد، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قال لي: يا أبا عمارة، أنشدني في الحسين بن علي علیه السلام . قال: فأنشدته فبكى، ثُمّ أنشدته فبكى، قال: فوالله، ما زلت أُنشده ويبكي حتّى سمعت البكاء من الدار، قال: فقال لي: يا أبا عمارة، مَن أنشد في الحسين بن علي علیهما السلام فأبكى خمسين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين فأبكى عشرين فله الجنّة ، ومَن أنشد في الحسين فأبكى عشرة فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين فبكى فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين فتباكى فله الجنّة»(4).

ص: 111


1- ابن طاووس، إقبال الأعمال: ج3، ص28.
2- محمّد بن إبراهيم الطالقاني من مشايخ الصدوق، وقد أكثر عنه.
3- الصدوق، الأمالي: ص191.
4- المصدر السابق: ص205.

ورواها أيضاً في كتاب ثواب الأعمال عن محمّد بن علي ماجيلويه، عن محمّد بن يحيى العطار..(1).

ورواها ابن بابويه في الكامل بسنده عن أبي العباس، عن محمّد بن الحسين، عن الحسن بن علي بن أبي عثمان..(2). وسند الرواية في الأمالي وثواب الأعمال والكامل صحيح، رواته ثقات.

5) ما رواه الكشي في اختيار معرفة الرجال بسنده، حيث قال: «حدَّثني النصر بن الصباح، قال: حدَّثني أحمد بن محمّد بن عيسى، عن يحيى بن عمران، قال: حدَّثنا محمّد بن سنان، عن زيد الشحَّام، قال: كنّا عند أبي عبد الله علیه السلام ونحن جماعة من الكوفيين، فدخل جعفر بن عفّان على أبي عبد الله علیه السلام ، فقرّبه وأدناه، ثمّ قال: يا جعفر. قال: لبيك، جعلني الله فداك. قال: بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين علیه السلام وتجيد؟ فقال له: نعم، جعلني الله فداك. فقال: قل. فأنشده علیه السلام ومَن حوله حتى صارت له الدموع على وجهه ولحيته. ثمّ قال: يا جعفر، والله، لقد شهدك ملائكة الله المقربين هاهنا يسمعون قولك في الحسين علیه السلام ، وقد بكوا كما بكينا أو أكثر، ولقد أوجب الله تعالى لك يا جعفر في ساعته الجنّة بأسرها، وغفر الله لك. فقال: يا جعفر، ألا أزيدك! قال: نعم يا سيدي. قال: ما من أحد قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى به إلاّ أوجب الله له الجنّة وغفر له»(3). والسند صحيح، فالنصر بن الصباح وإن اتُّهم بالغلو، كما عن الكشي(4)، لكن رواياته مستقيمة ليس فيها شيء ولم يُتّهم بغير الغلو.

6) وروى في الكامل بسنده، قائلاً: «حدَّثني محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري،

ص: 112


1- الصدوق، ثواب الأعمال: ص84.
2- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص 208.
3- الشيخ الطوسي، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ج2، ص575
4- اُنظر: المصدر السابق: ج1، ص71.

عن أبيه، عن علي بن محمّد بن سالم، عن محمّد بن خالد، عن عبد الله بن حمّاد البصري، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن مسمع بن عبد المالك كردين البصري، قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام : يا مسمع، أنت من أهل العراق أما تأتي قبر الحسين علیه السلام ؟ قال: لا، أنا رجل مشهور عند أهل البصرة، وعندنا مَن يتبع هوى هذا الخليفة، وعدونا كثير من أهل القبائل من النُصّاب وغيرهم، ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيمثلون بي. قال لي: أفما تذكر ما صنع به؟ قلت: نعم. قال: فتجزع؟ قلت: أي والله، وأستعبر لذلك حتّى يرى أهلي أثر ذلك علَيَّ، فأمتنع من الطعام حتّى يستبين ذلك في وجهي.

قال: رحم الله دمعتك، أما إنّك من الذين يُعدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنّا، أما أنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك، ووصيتهم ملك الموت بك، وما يلقونك به من البشارة أفضل، وملك الموت أرقّ عليك وأشدّ رحمة لك من الأمّ الشفيقة على ولدها.

قال: ثمّ استعبر واستعبرتُ معه، فقال: الحمد لله الذي فضّلنا على خلقه بالرحمة وخصّنا أهل البيت بالرحمة، يا مسمع، إنّ الأرض والسماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين علیه السلام رحمةً لنا، وما بكى لنا من الملائكة أكثر، وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا، وما بكى أحد رحمة لنا ولما لقينا إلاّ رحمه الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه، فإذا سالت دموعه على خده فلو أنّ قطرة من دموعه سقطت في جهنم لأطفأت حرّها حتّى لا يوجد لها حرّ، وإنّ الموجع قلبه لنا ليفرح يوم يرانا عند موته فرحة، لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتّى يرد علينا الحوض، وإنّ الكوثر ليفرح بمُحبِّنا إذا ورد عليه حتّى أنّه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه»(1).

7) ما رواه ابن بابويه في الكامل أيضاً بسنده، حيث قال: «حدَّثني محمّد بن جعفر

ص: 113


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص203.

الرزاز، عن محمّد بن الحسين، عن الحكم بن مسكن، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: قال الحسين بن علي علیهما السلام : أنا قتيل العبرة»(1).

والسند صحيح، وقد رواه بعدّة أسانيد صحيحة أُخرى، منها: «حدَّثني محمّد بن الحسن، عن محمّد الحسن الصفّار، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن خالد البرقي، عن أبان الأحمر، عن محمّد بن الحسين الخزار، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله علیه السلام :..»، وذكره وأضاف: «لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى»(2).

8) ما رواه الشيخ الطوسي في الأمالي بسنده، حيث قال: «حدَّثنا محمد بن محمد، قال: حدَّثنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه رحمه الله، قال: حدَّثني أبي قال: حدَّثني سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب الزراد، عن أبي محمد الأنصاري، عن معاوية بن وهب، قال: كنت جالساً عند جعفر بن محمد علیهما السلام إذ جاء شيخ قد انحنى من الكبر... فقال له أبو عبد الله: أين أنت من قبر جدي المظلوم الحسين علیه السلام ؟! قال: إنّي لقريب منه، قال: كيف إتيانك له؟ قال: إنّي لآتيه وأُكثر. قال يا شيخ، ذلك دم يطلب الله تعالى به... ثمّ قال: كلُّ الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين علیه السلام »(3). وسند الرواية صحيح.

9) روى جعفر بن محمّد بن قولويه في كامل الزيارات، قال: «حدَّثني أبي، عن سعد بن عبد الله، عن أبي عبد الله الجاموراني، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه عن أبي عبد الله علیه السلام قال: سمعته يقول: إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي علیه السلام ، فإنّه فيه مأجور»(4). والسند صحيح.

ص: 114


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص215.
2- المصدر السابق: 216.
3- الطوسي، الأمالي: ص162.
4- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص202.

هذا نموذج من مئات الروايات الواردة حول البكاء على الحسين علیه السلام ، وهي صحيحة الإسناد، مضافاً إلى غيرها التي هي بين موثق، أو ضعيف يمكن جبر ضعفه بورود متونها في أسانيد أُخرى صحيحة، وذكرنا هذه الروايات كي نبيِّن أنّه إذا ورد في حادثة معينة جملة من الروايات الصحيحة التي تصل إلى حدّ التواتر إذا ما انضمّ بعضها إلى بعض، فالبحث في أسانيدها ورواتها غير مجدٍ ومخالف للصناعة الحديثيّة؛ لأنّها متواترة.

وهذا ما غفل عنه الكاتب ولم يلتفت إليه، فورد غير ورده، وشرب من غير مائه. وأخذ يذكر أسانيد بعض الأخبار ويناقشها تارة سنداً وأُخرى متناً، وهذا ما سنسلِّط الضوء عليه بشكل أكبر في القسم الثاني من هذا المقال. إن شاء الله.

ص: 115

ص: 116

دراسات في تاريخ وتراث النهضة الحسينية

اشارة

*نشوء المنبر الحسيني

*دراسة نقدية لكتب المقاتل عند الشيعة

ص: 117

ص: 118

نشوء المنبر الحسيني

اشارة

*نشوء المنبر الحسيني(1)

الشيخ فيصل الكاظمي

إنّ الخلود الذي اكتسبته نهضة الإمام الحسين علیه السلام ، قد أسهمت فيه عوامل عدّة بعضها ذاتيّة داخليّة تعتمد على مبادئ النهضة وأهدافها، وكذلك رموزها وأشخاصها، وفي مقدمتهم أبو عبد الله الإمام الحسين علیه السلام والثُلّة الطيبة من أهل بيته الميامين وأصحابه المخلصين.

وهناك عوامل خارجة عن الإطار الزمني والموضوعي للواقعة، كان لها أثر مهم في إدامة زخم النهضة وعطائها وتمددها؛ لتتحول إلى قضية مجتمعيّة متحركة وواقعاً معاشاً، ولم تبقَ محصورة في حدودها الجغرافيّة أو وقتها الزمني.

ولعلّ من أبرز هذه العوامل الخارجية - إن جاز التعبير - هو تلك المآتم والمجالس الحسينيّة التي تُقام في كلّ وقت ومكان، ولا سيما في العشرة الأُولى لمحرم الحرام من كلّ عام، ويتمّ فيها عرْضُ واقعة عاشوراء من جوانب وآفاق متعددة.

إنّ هذه المجالس والمآتم المباركة أبَتْ أن تظلّ واقعة كربلاء الإمام الحسين علیه السلام - مثل غيرها من الحوادث الغابرة - مجرّد ذكرى قابعة في طيّات التاريخ ودهاليزه، بل جعلتها تمتدّ إلى كل مساحة من مساحات الحياة، حتى صارت مَعيناً لا ينضب لكل قيّم النُّبل والكرامة، وخلقت مجتمعاً ينبض بالحيوية والعطاء، ويسير نحو أهدافه بخُطى واثقة.

ص: 119


1- المقالة مستوحاة من كتاب (المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل) إعداد: الشيخ سعد مراد الساعدي

فالمنبر الحسينيّ من أهم العناصر المساهمة في استمرار وديمومة جذوة الثورة الحسينيّة متّقدة متوهجة بمبادئها السامية، وهو صرخة الشرفاء والرساليين في وجه الطغيان والاستبداد.

ونظراً لما يقوم به المنبر الحسيني من دور مهم في عصرنا الحاضر، وما يتحمّل من أعباء كبيرة في تربية الأُمّة وإعدادها، وربطها بمفاهيم الإسلام ومدرسة أهل البيت علیهم السلام ، بالإضافة الى دوره التاريخي الهادف إلى إبقاء ثورة كربلاء حيّة متّقدة في النفوس، تتجاوب معها الأرواح وتنفعل معها المواقف؛ ولأنّه أصبح الآن جزءاً من التراث الديني للطائفة الشيعيّة، كان لا بدّ لنا من الوقوف على كيفيّة نشوئه والمراحل التي مرّ بها، ومعرفة العوامل المؤثّرة في هذا النشوء.

وسنحاول في هذه المقالة تسليط الضوء على تاريخ المنبر وتأسيسه كظاهرة دينيّة اجتماعيّة، من خلال دراسة الآراء التي ذُكرت حول نشوء هذه الظاهرة ومناقشتها، وبيان ما هو الصحيح منها.

تعريف المنبر الحسيني

اشارة

في البداية من المناسب التعرّف على معنى المنبر لغةً واصطلاحاً.

المنبر الحسيني لغةً:

من خلال مراجعة معاجم اللغة ومصادرها، نجد أنّ لفظ (المِنبَر) يعود إلى الفعل (نَبَرَ) حينما يقال: نبر الشيء نبراً؛ أي رفعه. ويقال: نبر في قرءاته أو غنائه، أي رفعها(1).

وعن الجوهري: «نبرتُ الشيء أنبره نبراً، رفعته»(2).

ص: 120


1- مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط: ج3، ص933.
2- الجوهري، الصحاح: ج2، ص821 .

ولهذا «فالنبرة هي كل مرتفع من الشيء»(1).

ومِن هنا؛ يسمى المنبر - الذي هو مرقاة الخطيب أو الواعظ - منبراً لارتفاعه وعلوه، وقد يوضع في المسجد أو مكان آخر.

وأمّا إضافة مفردة (الحسينيّ) إلى المنبر، فهي نسبة إلى الإمام السبط الحسين بن علي بن أبي طالب صلی الله علیه و آله الشهيد بكربلاء، يوم عاشوراء عام 61 للهجرة، وأمّه فاطمة الزهراء علیها السلام بنت رسول الله صلی الله علیه و آله .

المنبر الحسيني اصطلاحاً:

يمكننا أن نعرِّف المنبر الحسينيّ اصطلاحاً: بأنّه نوع من أنواع الخطابة الدينيّة عند أغلب المسلمين الشيعة(2)، يعرِّج في نهايتها الخطيب - وبأسلوب فنّي خاص - على ذكر فاجعة مؤلمة من فجائع مقتل الإمام الحسين علیه السلام أو أهل بيته أو أصحابه يوم عاشوراء، أو ما جرى على عياله بعد مقتله أيام السبي(3)، ولا بدّ أن يقترن هذا الذكْر بأشعار مختارةٍ من الرثاء سواء أكان بالشعر العربي الفصيح، أم بالشعر الشعبي العامّي.

ومِن هنا؛ عرفنا سبب هذه النسبة إلى الإمام الحسين علیه السلام ، دون سواه من أئمة أهل البيت علیهم السلام ؛ لأنّه منبر لا بدّ فيه من ذكر إحدى المصائب المرتبطة بالإمام الحسين دون

ص: 121


1- الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط: ج3، ص143.
2- إنما قلنا: (أغلب)؛ لأن أتباع المذهب الإسماعيلي في شبه القارة الافريقية، المعروفين بالبُهرة يقيمون هذه المنابر أُسوة بالاثني عشرية، بينما لا يعرف الشيعة الزيديّة هذا النمط من المنابر
3- وهي الأيام التي بدأت بعد يوم عاشوراء، أي: يوم 11 محرم سنة 61ه- ، إلى نهاية شهر صفر من السنة نفسها، فبعد مقتله أُخذت نساؤه وأطفاله سبايا، يوم الحادي عشر من محرم، من كربلاء باتّجاه الكوفة، ومنها إلى دمشق؛ حيث وصلوها في أول الشهر من صفر للسنة نفسها، ثمّ عادوا إلى المدينة. ويقال: إنّهم مرّوا بكربلاء في طريق عودتهم إلى المدينة في العشرين من شهر صفر. اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: حوادث سنة 61 ه-، ج4، ص354. ابن الأثير، علي بن عبد الواحد، الكامل في التاريخ: حوادث سنة 61 ه-، ج4، ص87. الخوارزمي، الموفق بن أحمد، مقتل الحسين: ج2، ص84

أيِّ إمام آخر، وهذا السبب راجعٌ إلى الخصوصّية المأساويّة الحزينة التي تميّزت بها واقعة استشهاد الإمام الحسين علیه السلام ، هو وأهل بيته وأصحابه، وما جرى على نسائه وأطفاله بعده من آلام السبي، بما لم تحدث حتى مع مَن هو خيرٌ منه، وهم: جدّه صلی الله علیه و آله وأبوه عليّ وأمّه وأخوه علیهم السلام ؛ ولما توارثه الشيعة عن أئمتهم في التأكيد على استذكار هذه المصائب؛ ولهذا لا يقال: منبر(علويّ)؛ لأنه ليس منبراً يهتمّ - فرَضاً - ببلاغة الإمام عليّ علیه السلام وسيرته المباركة، وهكذا بقيّة أهل البيت علیهم السلام .

نشوء المأتم الحسيني وجذوره

إنّ البكاء والنوح على الإمام الحسين علیه السلام وإقامة المآتم عليه تمتدّ جذورها إلى ما قبل واقعة كربلاء، واستشهاد الإمام الحسين علیه السلام ، ثمّ اشتدّت وتطورت واستمرّت وستستمرّ إلى قيام الساعة، ويمكن أن تُقسّم هذه المآتم على قسمين:

القسم الأول: وهو ما نعبّر عنه بالمآتم التلقائيّة العفويّة، وعادة ما تكون مآتم فرديّة نابعة من الشعور بالأسى والحزن لما يحلّ بالحسين علیه السلام وأهل بيته الكرام من الفجائع والمصائب، وهذا النوع من المآتم والمراثي على شقين:

الشقّ الأول: ما حصل قبل واقعة كربلاء واستشهاد الإمام علیه السلام ، وهذا الصنف من المآتم أول مَن أقامه رسول الله صلی الله علیه و آله حينما نعى الحسين وبكاه وهو طفل صغير، عندما أخبره جبريل بمقتله على يد أمّته، فعن أسماء بنت عُميس، قالت: «... فلمّا وُلِدَ الحسين... فجاءني النبي، فقال: يا أسماء، هاتي ابني. فدفعته إليه في خرقة بيضاء، فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ثمّ وضعه في حجره وبكى، قالت أسماء: فقلت: فداك أبي وأمي، ممَّ بكاؤك؟ قال: على ابني هذا. قلت: إنّه وُلِد الساعة. قال: يا أسماء، تقتله الفئة الباغية، لا أنالهم الله شفاعتي»(1). وفي رواية أُخرى يقوم رسول الله صلی الله علیه و آله برثاء ولده

ص: 122


1- الخوارزمي، مقتل الحسين: ج1، ص136. والطبري، ذخائر العقبى: 119.

الحسين علیه السلام وبكائه أمام أصحابه، حين يقول: «...إنّ الحسين ابني مقتول في أرض الطفّ، وإنّ أمتي ستُفتَتَن بعدي. ثمّ خرج إلى أصحابه فيهم عليّ وأبو بكر وعمر، وحذيفة وعمّار وأبو ذر رضي الله عنهم وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: أخبرني جبريل أنّ ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطفّ، وجاءني بهذه التربة، وأخبرني أنّ فيها مضجعه»(1).

ومِن هذه المآتم أيضاً ما قام به أمير المؤمنين علیه السلام وهو مارّ بكربلاء في طريقه إلى صفّين، يقول: «عبد الله بن نجيِّ، عن أبيه أنّه سافَرَ مع عليّ علیه السلام وكان صاحب مطهَرَته، فلمّا جاء نينَوى وهو مُنطَلِقٌ إلى صِفِّين؛ فإذا عليّ علیه السلام يقول: صبراً أبا عبد الله! صبراً أبا عبد الله بِشَطِّ الفرات. قلت: مَن ذا أبو عبد الله؟ قال عليٌّ علیه السلام : دخلت على النبيِّ صلی الله علیه و آله وعيناه تُفيضانِ، فقلت: يا نبيّ الله، أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: قام من عندي جبرئيل علیه السلام ، فحدّثني أنّ الحسين يُقتَلُ بشطِّ الفرات. وقال: هل لك أن أشِمَّك من تربته؟ فقلت: نعم. فمدَّ يده، فقبض قبضة من تراب، فأعطانيها، فلم أملك عينَيَّ أن فاضتا»(2).

الشق الثاني: ما حصل من رثاء وبكاء للإمام الحسين علیه السلام بعد استشهاده، فقد بكاه ونعاه ورثاه أهلُ البيت علیهم السلام وعدد كبير من الصحابة ومن أُمهات المؤمنين والتابعين، وهي مواقف يمكن عدّها من المآتم التلقائيّة والعفويّة الفرديّة، التي حصلت من هؤلاء حزناً وتأثراً بالفاجعة الأليمة، ومن الأمثلة على ذلك:

1- رثاء السيدة زينب علیها السلام أخاها الحسين علیه السلام ، يوم الحادي عشر من المحرم، وذلك حينما حُملت النسوة إلى الكوفة سبايا، فلطمْنَ وصحْنَ حين مررن بالحسين علیه السلام فقالت زينب: «يا محمداه! صلى عليك مليك السماء، هذا حسين بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، يا

ص: 123


1- الطبراني، المعجم الكبير: ج3، ص 107.
2- ابن المغازلي، مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام : ص312 - 313.

محمداه، وبناتك سبايا وذريتك مقتّلة تسفي عليها الصبا. فأبكت كل ّعدوّ ووليّ»(1).

2- بكاء الهاشميات والأنصار في المدينة، لمّا وصل خبر قتْل الحسين و«خرجت أُمّ لقمان بنت عقيل بن أبي طالب حين سمعت نعي الحسين، ومعها إخواتها: أُم هانئ، وأسماء، ورملة، وزينب، بنات عقيل بن أبي طالب - رحمة الله عليهن - تبكي قتلاها بالطفّ، وهي تقول:

ماذا تقولون إن قال النبي لكم***ماذا فعلتم وأنتم آخر الأُمم

بعترتي و بأهلي بعد مفتقدي***منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم***أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي»

3- أُمّ سلمة أُمّ المؤمنين؛ فإنّها لمّا بلغها قتل الحسين علیه السلام ، قالت: «أقد فعلوها؟ ملأ الله قبورهم ناراً، ثمّ بكت حتى غشي عليها»(2).

4- زيد بن أرقم؛ فقد ذُكر عنه أنّه «لمّا أُدخل رأس الحسين على ابن زياد فوُضِع بين يديه، جعل ابن زياد ينكت بالخيزرانة ثنايا الحسين علیه السلام ، وعنده زيد بن أرقم، صاحب رسول الله، فقال له: مَه، ارفع قضيبك عن هذه الثنايا، فلقد رأيت رسول الله يلثمها. ثمّ خنقته العبرة فبكى، فقال ابن زياد: ممّ تبكي؟ أبكى الله عينيك، والله لولا أنّك شيخ قد خرفتَ لضربتُ عنقك»(3).

ص: 124


1- البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر، أنساب الأشراف: ج3، ص 206.
2- سبط ابن الجوزي، يوسف بن فرغلي، تذكرة الخواص: ص267. واُنظر: ابن حجر، أحمد الهيتمي، الصواعق المحرقة: ص296. ابن الأثير، علي بن عبد الواحد، الكامل في التاريخ: ج4، ص93
3- الدينوري، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص260. واُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص349. وابن الأثير، علي بن عبد الواحد، الكامل في التاريخ: ج4، ص81 . وسبط ابن الجوزي، يوسف بن فرغلي، تذكرة الخواص: ص257. وابن كثير، البداية والنهاية:ج8، ص207

5- الحسن البص-ري، ورد أنّه لمّا بلغ الحسنَ البص-ري قتلُ الحسين بكى حتى اختلج صدغاه(1)، ثمّ قال: «وا ذلّ أمّةٍ قتلت ابن بنت نبيّها! والله، ليُردّن رأس الحسين إلى جسده، ثمّ لينتقمن له جده وأبوه من ابن مرجانة(2)» (3).

هذه نماذج لبكاء أهل البيت والصحابة والتابعين على الحسين علیه السلام ورثائه بعد شهادته. وهذه المآتم الفرديّة لا شك في أنّها كانت النواة الحقيقية لما عُرف فيما بعد بالمجالس والمآتم الحسينيّة، والتي هي القسم الثاني من المآتم.

القسم الثاني: وهي ما نُعبّر عنها بالمآتم الجماهيرية الهادفة، والتي حصلت عن تخطيط مسبق وهدف مقصود؛ ما أسفر فيما بعد عن حدوث ظاهرة المنبر الحسيني كظاهرة دينيّة اجتماعيّة جماهيريّة لها حضورها اللافت في الوسط الشيعي، وفي هذا المقال نودّ التعرُّف على أوّل مَن بَذَر بذرة المجالس الحسينيّة المباركة التي نراها اليوم في واقعنا الشيعي، وما هي الظروف والأسباب التي ساعدت على نشوء وتطور هذه المجالس والتي تدعى بالمنبر الحسيني.

الآراء في نشوء المنبر الحسيني وتأسيسه

اشارة

لقد ذُكرت آراء عدّة، في تحديد أول مَن أقام المأتم الحسيني الذي مثّل الأساس لقيام المنبر الحسيني وتوسِّع مدرسته، وأهمّ هذه الآراء هي:

ص: 125


1- اختلج صدغاه، اختلج: أي اضطرب وتحرك، والصدغ هو: ما بين العين إلى الأُذن واختلج صدغاه بيان لشدّة البكاء
2- ابن مرجانة: لقب لعبيد الله بن زياد، يعيّر بأُم كانت لأبيه زياد في الجاهلية.
3- سبط بن الجوزي، يوسف بن فرغلي، تذكرة الخواص: ص 267- 268. واُنظر: البلاذري، أحمد بن يحيى: أنساب الأشراف:ج3، ص227- 228
الرأي الأول: التوابون
اشارة

يذهب بعض المستشرقين إلى أنّ أوّل مَن أقام المآتم على الحسين علیه السلام هم جيش التوابين حينما غادروا الكوفة ووصلوا إلى موضع قبور شهداء كربلاء، حيث أقاموا المأتم ثلاثاً، وعلت أصواتهم بالبكاء والنحيب عند قبر الحسين علیه السلام ، فقال: «عندما ثار التوابون سنة 65 للهجرة الموافق سنة684م أخذوا أسلحتهم إلى هناك، ورفعوا عقائرهم معاً في نحيب عالٍ، وبكوا وابتهلوا إلى الله أن يغفر لهم تخلّيهم عن حفيد النبي في ساعة ضيقه، وصاح زعيمهم: اللهم ارحم حسيناً الشهيد ابن الشهيد المهدي ابن المهدي الصدّيق ابن الصدّيق، اللهم اشهد أننا على دينهم وسبيلهم، وأعداء لمَن قتلهم، وأولياء لمحبيهم. وهنا تكمن نواة التعزية ومسرحيات المآتم، التي تُمَثّل كلّ عام في العاشر من محرم حيثما وِجد الشيعة»(1).

مناقشة الرأي الأول

يمكن أن يلاحظ على هذا الرأي عدة نقاط:

1- إنّ المآتم التي أقامها التوابون ثلاثة أيام عند قبر الحسين علیه السلام هي من المآتم التلقائية العفوية؛ لأن التوابين حينما توجهوا إلى كربلاء لم يتوجهوا إليها بهدف إقامة مراسيم العزاء، ولكنّهم مرّوا على كربلاء وهم في طريق مواجهة أعدائهم الأمويين.

2- مهما قيل في نُبل موقف التوابين وصدق نياتهم، حتى مضوا في واقعةٍ من أندر الوقائع التاريخية التي اندفع أصحابها للقتل بشكل تضحوي بارز، رغم كلّ ذلك، فإنّ التوابين لا يملكون المؤهلات الشرعيّة والدينيّة، التي تجعل من تص-رفاتهم سنّة يستنّ بها الشيعة، ويعظمها أئمتهم وعلماؤهم.

ص: 126


1- تكلسن، رينولد، تاريخ العرب الأدبي في الجاهلية وصدر الإسلام: ص329
الرأي الثاني: البويهيون.
اشارة

إنّ مَن يراجع المصادر التاريخية، التي تحدَّثت عن حوادث سنة ثلاثمائة واثنتين وخمسين للهجرة، أي بعد ما يقارب من ثلاثة قرون على واقعة كربلاء، وحينما كان البويهيون يسيطرون على مقاليد الخلافة العباسيّة في بغداد، يجد أنّ معزّ الدولة البويهي(1) أمر الناس يوم عاشوراء من تلك السنة - على ما ينقل ابن الأثير في الكامل - بأن: «يغلقوا دكاكينهم ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النياحة، ويلبسوا قباباً عملوها بالمسوح(2)، وأن تخرج النساء منشرات الشعور، مسودات الوجوه، وقد شققن ثيابهن في البلد ويلطمن وجوهن، على الحسين بن علي رضي الله عنهما، ففعل الناس ذلك...»(3).

هذا، وقد شكّك علماء الشيعة، ببعض ما ذُكر آنفاً، فيقول السيد محسن الأمين - في موسوعة (أعيان الشيعة) معلّقاً على ما ذكرته المصادر التاريخية، من خروج النساء على تلك الهيئة التي وصفت - : «مبالغ فيه، فإبراز النساء شعورها أمام الأجانب محرم بضرورة الدين، فكيف يُقدم عليه معزّ الدولة، وهو إنّما يفعل ذلك تديّناً؟! وكيف يمكّنه أهلُ الدين منه؟!»(4).

ويذكر أحد العلماء أنّ مواكب الحزن والبكاء هذه لم يكن فيها اختلاط بين الرجال و النساء «فكانت النساء تخرج ليلاً والرجال نهاراً»(5).

ص: 127


1- معزّ الدولة: أحمد بن بويه بن فناخسرو بن تمام ، من سلالة سابور ذي الأكتاف الساساني، ولد سنة 303 للهجرة في بلاد الديلم، فارسي الأصل مستعرب، سيطر على بغداد سنة 334 هجرية في خلافة المستكفي، حكم 22 عاماً، مات ببغداد سنة 356 هجرية. الزركلي، خير الدين، الأعلام: ج1، ص105
2- المسوح: جمعه مسح، وهو الكساء من الشعر.
3- ابن الأثير، علي بن عبد الواحد، الكامل في التاريخ: ج8، ص549.
4- الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج2 ص486.
5- الشهرستاني، هبة الدين، نهضة الحسين: ص175.

و على كل حال، فقد رصدت هذه الظاهرة في بغداد كلُّ المصادر التي تحدثت عن تلك الفترة، ولكن بعض هذه المصادر لم تكتفِ برصد الظاهرة وتسجيلها، بل أبدى بعض المؤرخين رأياً فيها، فالحافظ جلال الدين السيوطي يعلّق بعد ذكره حوادث يوم عاشوراء، فيقول: «وهذا أوّل يوم نيح عليه (فيه) ببغداد... واستمرّت هذه البدعة سنين»(1).

ويقول الذهبي في تاريخ الإسلام: «هذا أول يوم نيح عليه ببغداد»(2).

وردد هذه المقالة آخرون من القدماء والمعاصرين، حتى تولّد فَهمٌ مفاده: أنّ البويهيين هم أوّل مَن أقام المأتم الحسيني (المنبر الحسيني) باعتقاد أنّ مظاهر العزاء المذكورة يصاحبها إنشاد الشعر الرثائي وقراءةٌ لمقتل الحسين علیه السلام ، وهما العنص-ران المؤسسان لظاهرة المنبر الحسيني.

مناقشة الرأي الثاني

وهنا لا بدّ أن نثير بعض النقاط حول هذا الرأي، وهي:

1- إنّ المصادر التاريخية التي أرّخت ليوم عاشوراء عام 352ه-، قد ذكرت أنّه أول يوم نيح فيه على الحسين علیه السلام ببغداد، ولم تقل: إنّه أول يوم أُقيمت فيه المآتم على الحسين، ولم تُعقَد في أي مكان من قَبل؛ فلا يمنع هذا القول من احتمال قيام مآتم للحسين سبقت هذا التاريخ في بلدان أُخرى غير بغداد لو سلّمنا بما قالته هذه المصادر.

2 - إنّ البويهيين - ومهما قيل عنهم - فإنّهم لا يعدون أن يكونوا سلاطين وأمراء كانت لهم مقاليد الحكم في بغداد، فلا يمتلكون الأهليّة الشرعيّة والقداسة الدينيّة

ص: 128


1- السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، تاريخ الخلفاء: ص432.
2- الذهبي، محمد بن أحمد، تاريخ الإسلام: ج26، ص11. واُنظر: الذهبي كذلك في كتابه العِبَر في خبر مَن غبر: ج2، ص300

حتى يمكن أن يكون عملهم سنّة وقدوة.

الرأي الثالث: أئمة أهل البيت علیهم السلام هم مَن أسّس المنبر الحسيني

إنّ هذا الرأي مفاده: أنّ نشوء المنبر الحسيني والمجالس العاشورائية التي نراها اليوم، ناجم عن الدعوات والتوصيات التي أطلقها أئمة أهل البيت علیهم السلام من أجل الاجتماع والاستماع إلى ما قيل من شعر ونثر في رثاء الحسين علیه السلام ، والحثّ على إقامة مثل هذه الاجتماعات، مع إظهار البكاء والتفجع على مصابه علیه السلام ، وفي هذا السياق يقول الإمام الصادق علیه السلام لفضيل حول هذه المجالس: «إنّ تلك المجالس أحبُّها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله مَن أحيا أمرنا. يا فضيل، مَن ذَكَرنا، أو ذُكِرنا عنده، فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زَبد البحر»(1).

وعن الإمام الرضا علیه السلام قال: «مَن تذكّر مصابنا وبكى لما ارتُكب منّا، كان معنا في درجاتنا يوم القيامة، ومَن ذكّر بمصابنا، فبكى وأبكى، لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومَن جلس مجلساً يُحيى فيه أمرنا، لم يمت قلبه يوم تموت فيه القلوب»(2).

إنّ ما أُثر عن أهل البيت علیهم السلام في هذا المجال من توصيات وتعاليم كثيرة ومتنوعة، وكانوا يقيمون هذه المجالس أيضاً، يقول السيّد محسن الأمين: «أما إنّهم - أي أئمة أهل البيت علیهم السلام -. بكوا على الحسين وعدّوا مصيبته من أعظم المصائب، وأمروا شيعتهم ومواليهم وأشياعهم بذلك، وحثّوا عليه، واستنشدوا الشعر في رثائه، وبكوا عند سماعه، وجعلوا يوم قتله يوم حزن وبكاء، وذمّوا مَن اتّخذه عيداً، وأمروا بترك السعي فيه في الحوائج وعدم ادّخار شيء فيه، فالأخبار فيه مستفيضة عنهم تكاد تبلغ حدّ التواتر، رواها عنهم ثقات شيعتهم ومحبيهم بأسانيدهم المتصلة إليهم»(3).

ص: 129


1- الحميري، قرب الإسناد: ص36.
2- الصدوق، الأمالي: ص 131.
3- الأمين، محسن، إقناع اللائم على إقامة المآتم: ص174.

وجدير بالإشارة إلى أنّ المجالس والمنابر الحسينيّة تعتمد في واقع الأمر على جزئين أساسيين:

الأول: هو المتحدِّث والمُلقي الذي يمثّله الخطيب والمحاضر الحسيني.

الثاني: هم المستمعون والحضور في هذه المجالس.

ولنجاح هذه المنابر في إيصال رسالتها وتحقيق أهدافها؛ من المفترض أن يؤدي كلا الطرفين دوره على أتمّ وجه، فينبغي على الخطيب والواعظ الحسينيّ أن يتقن خطابته ويؤثّر في سامعيه، وفي المقابل على الحضور والمستمعين أن يتعاطوا مع المتحدِّث والخطيب الحسيني ويصغوا إليه، ويستشعروا المصيبة في وجدانهم وأحاسيسهم، فيبكوا الحسين علیه السلام ويستلهموا من نهضته كل الدروس والعبر.

ومِن هذا المنطلق؛ نجد أنّ روايات أهل البيت علیهم السلام في مسألة التأكيد على إقامة المجالس الحسينيّة ركَّزت على جانبين مهمّين: أحدهما الحثّ على إنشاد الشعر والرثاء في الإمام الحسين علیه السلام وما له من عظيم الأجر، وهو ما يتعلّق بجانب الخطيب والمتحدِّث، والآخر هو الطلب من شيعتهم الحضور إلى هذه المجالس والبكاء على الحسين علیه السلام ، وبيان ما أعدّ الله سبحانه للباكين من ثوابٍ عظيم، وسنتعرض لذكْر بعض الأمثلة من الروايات التي تتعلق بهذين الجانبين:

روايات الحثّ على قول الشعر في الإمام الحسين علیه السلام

شجّع أئمة أهل البيت علیهم السلام على قول الشعر في الإمام الحسين علیه السلام وإنشاده، وما يصاحب ذلك من إبكاءٍ وانتحاب، ممّا مثّل البدايات الأُولى للمنبر الحسينيّ، وإقامة المآتم ومجالس العزاء.

ص: 130

إنّ الشعر كان يعدّ ذا شأنٍ بالغ الأهمّية والتأثير في المجتمع، وله انعكاسات حساسة، خاصّة فيما يتعلق بنقد السلطة آنذاك في قتلها الحسين وأصحابه.

وقد أفرد الشيخ ابن قولويه في كتابه (كامل الزيارات) باباً خاصاً، وهو الباب الثالث والثلاثون تحت عنوان: (ثواب مَن قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى).

والكتاب من الكتب الحديثيّة التي نالت اهتماماً كبيراً عند فقهاء الشيعة.

فعن أبي عمارة المنشد حينما دخل على الإمام جعفر بن محمد علیهما السلام ، قال: «قال لي: يا أبا عمارة، أنشدني في الحسين علیه السلام . قال: فأنشدته؛ فبكى، ثمّ أنشدته؛ فبكى، ثمّ أنشدته؛ فبكى. قال: فو الله، ما زلت أنشده ويبكي، حتى سمعت البكاء من الدار... فقال لي: يا أبا عمارة، مَن أنشد في الحسين علیه السلام شعراً، فأبكى خمسين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى أربعين فله الجنّة...»(1).

وفي رواية أُخرى للإمام جعفر الصادق علیه السلام أنه قال: «مَن أنشد في الحسين بيت شعر، فبكى وأبكى عشرة فله الجنّة...»(2).

ودخل جعفر بن عفان الطائي على الإمام الصادق علیه السلام فقرّبه وأدناه، ثمّ قال: «يا جعفر. قال: لبيك جعلني الله فداك. قال: بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين وتجيد. فقال: نعم، جعلني الله فداك. قال: قل. فأنشدته، فبكى ومَن حوله، حتى صارت الدموع على وجهه ولحيته»(3).

ويصل الأمر إلى أن يتدخل الإمام جعفر الصادق علیه السلام في أُسلوب إنشاد الشعر الرثائي؛ حيث يطلب من بعض المنشدين أن يكون إنشاده بأسلوبٍ رقيق وطريقة شجيّة، فعن أبي

ص: 131


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص 209.
2- المصدر السابق: 211.
3- الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال: ج2، ص574.

هارون المكفوف، قال: «قال لي الإمام أبو عبد الله علیه السلام : يا أبا هارون، أنشدني في الحسين. قال: فأنشدته فبكى، فقال: أنشدني كما تنشدون - يعني بالرقّة - قال: فأنشدته:

امرر على جدث الحسين ***فق-ل لأعظم-ه الزكيّ-ة

قال: فبكى، ثمّ قال: زدني. قال: فأنشدته القصيدة الأُخرى، قال: فبكى، وسمعت البكاء خلف الستر»(1).

وأخيراً نذكر حادثة دخول الشاعر دعبل بن علي الخزاعي على الإمام علي بن موسى الرضا علیهما السلام في مرو، وقد أوردتْها الكثير من المصادر الشيعيّة مع تفصيلات مختلفة، ومنها هذه الصورة، فلما دخل دعبل على الإمام الرضا قال: «إنّي قد قلتُ قصيدة وجعلت على نفسي ألاّ أنشدها أحداً قبلك، فأمره بالجلوس حتى خفّ مجلسه، ثمّ قال له : هاتها. قال : فأنشده قصيدته التي أولها:

مدارس آيات خلت من تلاوة ***ومنزل وحي مقفر العرصات

حتى أتى على آخرها، فلمّا فرغ من إنشاده قام الرضا فدخل إلى حجرته وبعث إليه خادماً بخرقة خزّ فيها ستمائة دينار، وقال لخادمه: قل له : استعن بهذه على سفرك واعذرنا. فقال له دعبل: لا والله، ما هذا أردتُ ولا له خرجت، ولكن قل له: أكسني ثوباً من أثوابك، وردّها عليه. فردها عليه الرضا علیه السلام وقال له : خذها. وبعث إليه بجبّة من ثيابه»(2).

روايات البكاء على الإمام الحسين علیه السلام

إنّ روايات التأكيد على البكاء على الإمام الحسين علیه السلام كثيرة ومتنوعة ومرويّة في مصادر متعددة، فمنها ما راوه الشيخ ابن قولويه في الكامل: «كان علي بن الحسين علیه السلام يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي دمعةً حتى تسيل على خدّه، بوّأه الله بها

ص: 132


1- الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال: ص83 - 84.
2- المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص264

في الجنّة غرفاً يسكنها أحقاباً»(1).

وعن الإمام محمد بن علي الباقر علیهما السلام فيما ينبغي عمله يوم عاشوراء: «...ثمّ ليندب الحسين علیه السلام ويبكيه، ويأمر مَن في داره بالبكاء، ويقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه، ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضاً بمصاب الحسين علیه السلام ...»(2).

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق علیهما السلام ، قال: «كلُّ الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين علیه السلام »(3).

وعن الإمام علي بن موسى الرضا علیهما السلام ، قال: «إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل عيوننا، وأذلّ عزيزنا بأرض كربلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى الحسين فليبكِ الباكون؛ فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام»(4).

وعنه علیه السلام أيضاً وهو يخاطب أحد أصحابه، وهو الريان بن شبيب، وقد دخل عليه في أول يوم من المحرم: «يا بن شبيب، إن كنت باكياً لشيء فابكِ للحسين بن علي بن أبي طالب؛ فإنه ذُبح كما يُذبح الكبش، وقُتل معه أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم على الأرض شبيهون... يا بن شبيب، إن سَرّك أن تسكن الغرف المبنيّة في الجنّة مع النبي صلی الله علیه و آله فالعن قتلة الحسين. يا بن شبيب، إن سرّك أن يكون لك من الثواب ما لمَن استُشهد مع الحسين بن علي علیه السلام ، فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنتُ معكم فأفوز فوزاً عظيماً»(5).

فببركة تلك التوجيهات والتعاليم النورانيّة من قِبَل أهل البيت علیهم السلام ولدت ظاهرة

ص: 133


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص201.
2- المصدر السابق: ص326.
3- الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص162.
4- الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص190.
5- الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا: ج1، ص268- 269.

مباركة في أوساط أتباع أهل البيت، وهي ظاهرة الاجتماع وعقد المجالس لتذاكر فضائل الرسول صلی الله علیه و آله وأهل بيته وذكر مظلوميتهم، لا سيما ما جرى على الحسين علیه السلام وأهل بيته في عاشوراء، وتدارس أمور الدين، مع الوعظ والإرشاد وحثّ المسلمين على التمسّك بالتعاليم الإسلاميّة، وعادةً ما يقوم بأعباء مهمّة إدارة هذه المجالس وإلقاء المحتوى الديني فيها شخصٌ له أهليّة علميّة وأخلاقيّة وفنيّة معيّنة، حتى أصبحت هذه المآتم الحسينيّة من العلامات الفارقة لأتباع مذهب أهل البيت علیهم السلام ، وبفضلها أصبح الشيعة أفراداً واعين مرتبطين بشكل وثيق بدينهم ومذهبهم وقياداتهم الدينيّة.

ص: 134

دراسة نقديّة لكتب المقاتل عند الشيعة

اشارة

*دراسة نقديّة لكتب المقاتل عند الشيعة(1)

الشيخ علي الدوّاني

ترجمة: الشيخ محمد الحلفي

مقدمة المترجم

إنّ فحوى هذا المقال هو دراسة نقديّة تحليليّة للكتب التي نقلت أحداث عاشوراء ومقتل الحسين علیه السلام ، التي وُسِمت بكتب المقاتل عند الشيعة - سواء ما كُتب منها باللغة العربيّة أم باللغة الفارسيّة - وسيقتصر على ما هو مطبوع ومتداوَل بين الناس، ويعتقد الكاتب أنّ بعض هذه الكتب اعتراها التحريف والزيادة، وتمّ التلاعب والاختلاف في العديد من محتوياتها؛ فلذا يدعو الكاتب إلى ملاحظة الكيفيّة التي بدأت بها تلك الانحرافات في الظهور ومتى كان ذلك؟

وفي رأيه أنّ كثيراً من التحريفات والتلفيقات يعود منشأها إلى كتب المقاتل المطبوعة والمتداولة، وبعضها يعود إلى ما ينتجه قرّاء التعازي قليلو الخبرة والدراية، ومنها ما يعود إلى ما في كتبنا ولم يكن له أصل، وقد دُوِّن من قِبَل الأعداء المغرضين أو الأصدقاء الغافلين، أو ممّا جرى على الألسن واشتُهر بين الناس.

وممّا تجدر الإشارة إليه أيضاً أنّ الكاتب يعتقد أنّ هذا الموضوع واسع جداً

ص: 135


1- أصل المقال بحث ألقاه العلاّمة سماحة حجة الإسلام والمسلمين علي الدواني في أحد المؤتمرات ثم راجعه ووثّقه المؤلِّف نفسه

ولا يمكن الإحاطة به بسهوله، بل يتطلّب وقتاً وجهداً كبيرين؛ فسيكون البحث مختصَراً، مسلّطاً الضوء على كتب المقاتل المشهورة والمعروفة والمؤلفة باللغة العربية أو الفارسية والبالغة ستّة عشر مؤلفاً؛ لدراستها وتحليلها، ومعرفة ما شابها من تحريف أو تبديل، وبيان ما فيها من غثّ أو سمين؛ ليصبح القارئ على علم ودراية بها على أقلّ التقادير.

يبدأ الكاتب بتناول كتب المقاتل من أقدمها تأريخاً ثمّ يتسلسل، فيقول موضّحاً:

1- مقتل أبي مخنف

يُعدّ مقتل أبي مخنف من أقدم المقاتل التي وصلت إلينا، وما جاء فيه قد ذكره الطبري في تاريخه أول الأمر، ثمّ نقل في المصادر اللاحقة.

وأبو مخنف من أصحاب الإمام جعفر الصادق علیه السلام ، كوفيٌّ من كبار علماء التاريخ المتوفّى سنة 157 هجرية.

وصف المحدث المتتبع الكبير الحاج الشيخ عبّاس القمي مقتل أبي مخنف، فقال: «له كتب كثيرة في السير والتاريخ، ومن بينها: (كتاب مقتل الحسين علیه السلام ). يقول الفقير: إنّ مقتله لو كان في يدنا لكان في أقصى درجات الوثاقة والاعتبار، كما يتّضح ذلك من كلمات العلماء القدماء، ولكن للأسف الشديد، فإنّ أصل ذلك المقتل فُقِدَ بمرور الزمان، ولم يصل إلينا، حاله حال الكلبي(1) والمدائني(2) وأمثالهما، وأمّا هذا المقتل الذي بين أيدينا، والذي

ص: 136


1- محمد بن سائب الكلبي المتوفّي سنة 204 هجرية، وعُرف بأنه أبو التاريخ الإسلامي، وله ما يقارب المائة مؤلَّف.
2- أبو الحسن علي بن محمد المدائني البصري، من كبار المؤرخين القدماء، توفّي في بغداد سنة 225 هجرية

قد طُبع في آخر المجلد العاشر من كتاب البحار(1)، ونُسب إلى أبي مخنف، فهو ليس بمعتبر.

فالطبري أبو جعفر ينقل في تاريخه في باب مقتل الإمام الحسين علیه السلام الكثير من المطالب معتمِداً في ذلك على مقتل أبي مخنف.

وكلُّ مَن يقابل ما جاء منقولاً في تاريخ الطبري عن ذلك المقتل مع هذا المقتل المعروف المنسوب لأبي مخنف، يدرك ألاّ ربط ولا علاقة بينهما؛ ومِن هنا اتّضح أنّ هذا المقتل المعروف لأبي مخنف ساقط عن الاعتبار، ولا اعتماد على ما جاء فيه. والله العالم»(2).

المحدث القمي الذي يُعدّ الخبير القدير في معرفة المقاتل، يقول في كتابه الآخر المسمى (الكُنى والألقاب) عند ترجمته لأبي مخنف: «أبو مخنف، لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم الأزدي، شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجهه - كما عن (جش) - وتوفِّي سنة 157 ه-، يروي عن الصادق علیه السلام ، ويروي عنه هشام الكلبي.

وجده مخنف بن سليم، صحابي شَهِدَ الجمل في أصحاب علي علیه السلام حاملاً راية الأزد، فاستشهد في تلك الوقعة سنة36 ه-، وكان أبو مخنف من أعاظم مؤرخي الشيعة، ومع اشتهار تشيّعه اعتمد عليه علماء السنّة في النقل عنه، كالطبري وابن الأثير وغيرهما، وليعلم أنّ لأبي مخنف كتباً كثيرة في التاريخ والسير، منها كتاب مقتل الحسين علیه السلام الذي نقل منه أعاظم العلماء المتقدمين واعتمدوا عليه، ولكن للأسف أنّه فُقِد ولا يوجد منه نسخة، وأما المقتل الذي بأيدينا ويُنسب إليه فليس له، بل ولا لأحدٍ من المؤرخين المعتمدين، ومَن أراد تصديق ذلك؛ فليقابل ما في هذا المقتل وما نقله الطبري وغيره عنه حتى يعلم ذلك، وقد بينت ذلك في نَفَس المهموم في طرماح بن عدي»(3)..

ص: 137


1- حسب الطبعة القديمة من بحار الأنوار ذات القطع الكبير (الرحلي) التي تتكوّن من 25 مجلداً
2- القمّي، عبّاس، هدية الأحباب في المعروفين بالكنى والألقاب، ترجمة أبي مخنف
3- القمّي، عبّاس، الكنى والألقاب: ج1، ص155.

وهكذا ذكَر المحدث القمي رحمة الله في آخر الفصل الثاني عشر عندما تطرّق إلى الطرمّاح والنقول المختلفة في مسألة التحاقه بالإمام الحسين علیه السلام ، فقال بعدما نقل ما رواه الطبري في ذلك: «يرى المؤلف أنّه يفهم من هذه الرواية التي ينقلها الطبري عن أبي مخنف أنّ الطرماح لم يكن من بين الشهداء؛ لأنه لمّا سمع خبر شهادة الإمام علیه السلام قفل راجعاً من موضعه، وفي هذا المقتل المشهور المنسوب لأبي مخنف، ينقل عن الطرماح قوله: كنت بين القتلى وقد أصبْتُ بجراحات، وإنْ أقسمتُ لكنت صادقاً، بأنني لم أكن أحلم، إنني رأيت عشرين فارساً جاؤوا ...».

هذا، وقد تعرّض المرحوم الحاج الشيخ عبّاس القمي أيضاً إلى هذا المحدِّث والمؤرِّخ الأمين(لوط بن يحيى بن سعيد الأزدي الغامدي) وتعرض أيضاً إلى مقتله الموجود حالياً وحكم عليه بأنه موضوع مختلَق في كتاب آخر له باللغة الفارسية الموسوم ب-(تحفة الأحباب) قائلاً: «وبالجملة هذا نفسه أبو مخنف صاحب المقتل المعروف، وهو من كبار المحدثين، وموضع اعتماد أرباب السير والتواريخ، وأصل مقتله في غاية الاعتبار، كما نُقل هكذا عن كبار العلماء السابقين، ويتّضح جلياً من جميع مؤلفاته، ولكن آه ويا للأسف! إنّ أصل مقتله الخالي من العيب لم يصل إلينا، وهذا المقتل الموجود المنسوب إليه الذي يحتوي على مطالب منكره لعله صنيعة المخالفين؛ لذا فهو ساقط عن الاعتبار ولا يمكن الاعتماد على ما فيه بأي نحوٍ فُرض»(1).

والخلاصة أنّ المقتل المعروف حالياً بمقتل أبي مخنف والمتداوَل بين أيدينا، والذي ينقل منه بعض الخطباء، موضوع ومختلَق، وقد نُسب إلى أبي مخنف، وفيه كثير من الحوادث والآثار المخالفة للواقع.

كان مقتل أبي مخنف الأصلي عند أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفّى سنة

ص: 138


1- القمّي، عبّاس، تحفة الأحباب في نوادرآثار الأصحاب: ص299.

310ه-، المؤرِّخ الكبير وصاحب كتاب تاريخ الطبري، وهو قد نقل منه أموراً كثيرة حول ما جرى في كربلاء، فما ذكَرَه الطبري في تاريخه منقولاً عن أبي مخنف هو المعتمد؛ لأن النسخة الأصليّة متوفرة لديه، وما يُنقل عن النسخة المتداوَلة فليس معتبراً.

فتجد المحدِّث القمي كلّ ما ينقله في كتابه نَفَس المهموم عن أبي مخنف ينقله - في الواقع - عن تاريخ الطبري؛ لأنّه لم يرَ كتاب أبي مخنف؛ لذا يوصل السند بالطبري.

وقال العلاّمة آغا بُزُرك الطهراني: «مقتل أبي عبد الله الحسين علیه السلام لأبي مخنف... طبع على الحجر في بمبي أيضاً مُنْضّماً إلى المجلد العاشر من (البحار) في سنة 1287، أوله: (حدثنا أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي ...)، ونسبته إليه مشهورة، لكن الظاهر أنّ فيه بعض الموضوعات، وقد حققه شيخنا النوري في(اللؤلؤ والمرجان)»(1).

2- أمالي الشيخ الصدوق

يُطلق على أمالي الشيخ الصدوق كذلك (المجالس)، وهو من مصادر المقاتل المتقدمة.

والشيخ الصدوق هو محمد بن علي بن بابويه القمي المتوفّى سنة 381 هجرية، وكتابه الأمالي شرح وبيان للأحاديث المعتبرة، التي قام الشيخ الصدوق بإملائها على العلماء والفضلاء من الشيعة في مدينة رَي ونيشابور وغيرهما من المناطق، وتبلغ 97 مجلساً، أملاها في أوقات مختلفة.

ويَذكر النجاشي أنّ الشيخ الصدوق قام بتأليف ما يقرب من ثلاثمائة كتاب، منها الأمالي. وقد قام الشيخ الصدوق في أماليه بتدوين بعض الحوادث التي جرت في كربلاء، وتفصيل الحديث حول مقاتل شهداء الطفّ؛ فصار ما نقله مصدراً مهماً للمقاتل اللاحقة، وقد نُقل عنه من دون توقف وتأمل.

ص: 139


1- الطهراني، آغا بُزُرك، الذريعة: ج22، ص27.

ولمّا كان الشيخ الصدوق كبير محدثي الشيعة، وله باعٌ طويل في تحقيق المصادر والمآخذ، عَدّ كبارُ علمائنا ما ينقله معتبراً ولو كان غير مسند.

3- كتاب الإرشاد للشيخ المفيد

الشيخ المفيد: هو محمد بن محمد بن النعمان البغدادي، تلميذ الشيخ الصدوق، ومِن مفاخر الفقهاء والمتكلمين والعلماء البارزين للشيعة الإماميّة، توفّي سنة 413 هجرية. قام بتأليف وتصنيف الكثير من الكتب القيّمة في العلوم والفنون المختلفة، منها كتاب (الإرشاد) كتبَه في تاريخ الأئمة المعصومين علیهم السلام ، فصار من زمان تأليفه وحتى اليوم مصدراً ومرجعاً للشيعة الإماميّة في معرفة تاريخ الأئمة الأطهار علیهم السلام ، والسيرة الإجماليّة لتلك الذوات المقدسة. لقد بسط الشيخ المفيد الحديثَ في شرح أحوال الإمام الحسين علیه السلام ، وتناوَلَ كذلك الحوادث التي جرت في كربلاء.

وعندما نأتي إلى المقاتل التي يذكرها الشيخ المفيد في خصوص كل واحد من الأئمة علیهم السلام في كتابه هذا، نجدها ذات مقبوليّة واعتبار لافتين.

4- الاحتجاج للشيخ الطبرسي

كتاب الاحتجاج للطبرسي، هو أيضاً من المصادر القيّمة في نقل المقاتل، ومؤلفه هو أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي، من أساتذة ابن شهرآشوب المازندراني، توفّي سنة 570 هجرية.

وكتاب الاحتجاج - كما يبدو من اسمه - مُعدٌّ لبيان الحجج والاستدلالات المتينة على أحقّيّة الأئمة الأطهار في قبال المخالفين لذلك، وفي أيِّ موضع تناول مقاتلهم علیهم السلام صار مصدراً للعلماء المتأخرين فيما ينقلونها عن تلك المقاتل.

ص: 140

ونتيجة لأهميّة كتاب الاحتجاج وعظمة مؤلفه؛ صارت مقاتل هذا الكتاب ذات اعتبار خاص.

5 - روضة الواعظين

روضة الواعظين كتاب معتبر من تأليف الشيخ الكبير أبي علي محمد بن حسن بن علي النيسابوري المعروف بالفَتّال النيسابوري، وهو من أساتذة ابن شهر آشوب المازندراني، توفي سنة 588 هجرية، فيُعدُّ من علماء أواسط القرن السادس الهجري.

وبما أنّ مطالب كتاب روضة الواعظين هي من نتاج عالم كبير ومحقق من علمائنا المدققين؛ صار مصدراً ومستنداً للعلماء الذين جاؤوا من بعده، ويعدّونه من المدارك والكتب المعتبرة في نقل المقتل.

6- اللهوف أو الملهوف لابن طاووس

اللهوف أو الملهوف في قتلى الطفوف، أو على قتلى الطفوف، كتابٌ صغير مختصر للسيّد رضي الدين عليّ بن طاووس الحلي المتوفّى سنة 664 هجرية، من علمائنا البارزين.

قام السيّد رضي الدين علي بن طاووس بتأليف هذا الكتاب - كما قيل - في أيام شبابه، مع هذا فهو يعدّ واحداً من المصادر المعتبرة والمهمة في تاريخ المَقاتل.

يقول ابن طاووس في بداية كتابه: «ولولا امتثال أمر السنّة والكتاب في لبس شعار الجزع والمصاب؛ لأجل ما طُمس من أعلام الهداية وأُسّس من أركان الغواية، وتأسفاً على ما فاتنا من السعادة، وتلهفاً على امتثال تلك الشهادة، وإلاّ كنّا قد لبسنا لتلك النعمة الكبرى

ص: 141

أثواب المسرّة والبشرى»(1).

وقيل: إنّ ذلك الكتاب وبمرور الزمن قد أدخلَتْ فيه بعضُ القضايا والأُمور لم تكن من قِبَل السيّد رضي الدين. ويبقى احتمال أن تكون تلك الأُمور تعود إلى السيّد رضي الدين نفسه؛ لأنّه كتب كتابه هذا في أوائل شبابه، ولم يكن حينها قد بلغ ما بلغه لاحقاً من القدرة العلميّة في تحقيق الأخبار والتاريخ والأحاديث، وبقي الكتاب على حاله تلك.

7- مثير الأحزان لابن نما الحلي

وهو من كتُب المقاتل المشهورة، من تأليف الشيخ نجم الدين جعفر بن محمد بن نما الحلي، أُستاذ العلاّمة الحلي، توفّي في سنة 645 هجرية، ولمّا كان مؤلّفه من علمائنا الكبار، فقد حاز الكتاب أهميّة خاصّة.

الكتاب مؤلَّف باللغة العربية، وهي لغة مؤلّفه، والاسم الكامل للكتاب هو: (مثير الأحزان ومنير سُبُل الأشجان).

ومثير الأحزان هذا ظلَّ من المصادر الأساسيّة للعلماء والمؤرخين الذين كتبوا في تاريخ المقاتل.

في بداية الأمر أُلحِقَ الكتابُ بالمجلد العاشر من كتاب بحار الأنوار، لكنّه طُبع فيما بعد عدّة مرات بشكل مستقلّ.

8 - أخذ الثأر في أحوال المختار لابن نما الحلي

وهو من تأليف نجم الدين جعفر بن محمد بن نما الحلي أيضاً، شرح المؤلّف في

ص: 142


1- ابن طاووس، رضي الدين، اللهوف في قتلى الطفوف: ص 6.

هذا الكتاب ثورة المختار بن أبي عبيدة الثقفي وانتقامه من قتلة الإمام الحسين علیه السلام وشهداء كربلاء والأخذ بثأرهم. وهناك اسم آخر لهذا الكتاب هو: (قرّة العين في أخذ ثأر الحسين علیه السلام ).

وهذا الكتاب كذلك من المصادر التي يعتمد عليها العلماء المتأخرون. وقد حصل لبعض المؤلفين خلطٌ؛ فذهب إلى أنّ هذين الكتابين، هما من تأليف والد نجم الدين بن نما، يعني: نجيب الدين محمد بن نما الفقيه، أستاذ المحقق الحلي، وعلّة ذلك هي أنّ اسم والد محمد بن نما - نجم الدين - جعفر أيضاً.

9- كتاب كامل البهائي لعماد الدين الطبري

هذا الكتاب كتَبَه بالفارسية عماد الدين حسن بن علي بن محمد الطبري المعروف ب- (عماد الدين الطبري) من كبار علماء الشيعة في القرن السابع الهجري.

يقول صاحب روضات الجنّات: «عماد الدين الطبري في بعض مؤلفاته يشير إلى جملة من طرائف أحواله ولطائف أخباره، منها: قضية مناظرته مع أهل بروجرد في تنزيه الله تعالى من التشبه بالمخلوق، ومنها: أنّه بعدما ترك مدينة قمّ بأمر الوزير بهاء الدين صاحب ديوان شمس الدين محمد الجويني المشهور ب- (صاحب ديوان)- وكان حاكم أصفهان - منتقلاً إلى أصفهان، وقضى هناك سبعة أشهر اجتمع حوله خلقٌ كثير من أصفهان، وشيراز، وابركوه، وبلاد آذربيجان، وأخذوا يقرأون عليه أنواع المعارف الربانيّة، وانتفع بوجوده السادة والكبار والوزراء»(1)، من هنا يُعلم أنّ عماد الدين كان يعيش في أواسط المائة السابعة للهجرة، وهذا الأمر ذو أهميّة أيضاً في معرفة تاريخ الحوزة العلميّة في قمّ.

وقال المحدِّث القمّي في (الفوائد الرضويّة): «الحسن بن علي بن محمد بن الحسن عماد

ص: 143


1- الخوانساري، محمد باقر، روضات الجنات: ج2، ص 264.

الدين الطبري شيخ عالم، ماهر، خبير، مجرَّب، نحرير، متكلم جليل، محدِّث، نبيل، فاضل، علاّمة، معاصر للخواجة نصير الدين الطوسي والعلاّمة الحلي، صاحب كتُب شريفة في أصول المذهب، وتشييد قواعد الدين والفقه والحديث وغيرها مثل: ...» ثمّ ذكر أسماء 14كتاباً له، وأضاف بأنّ بهاء الدين صاحب الديوان كان يوليه عناية فائقة؛ ولذا ألَّف كتباً باسمه، منها: (أربعين البهائي) في أفضليّة أمير المؤمنين علیه السلام ، ومنها: (كامل البهائي) في السقيفة، وذكر في مقدمته أنّه بعد أن صنّف كتاب (مناقب الطاهرين) وأمثاله في التولّي، لزم أن يشرع بالتبري أيضاً، ولذا شَرعَ بتأليف الكامل، وكلا الكتابين كالسيف والرمح في وجه المخالفين، وحجمه يزيد على الثلاثين ألف بيت(1).

طُبع الكامل في بمبي، ولكنّه نادر الوجود جداً، وعندما كنت في زيارة إلى تلك المدينة(2) عثرتُ على نسخة منه، ولكن للأسف لم تكن مصححة وغير جيّدة إلى درجة أنّ الاستفادة منها لغير المطّلع والخبير صعبةٌ جداً، لكن أصل ذلك الكتاب كان مفيداً جداً، وقد تمّ الفراغ منه سنة 675هجرية. واستغرق الشيخ في تأليفه اثنتي عشرة سنة، حتى تمكّن من جمعه.

نعم، ألّف في أثناء تلك المدة بعض الكتب الأُخرى.

ويعلم من محتوى الكتاب وحاله أنّ النسخ الأصليّة بالإضافة إلى كتب العلماء كانت موجودة لدى المؤلّف، مثل كتاب (فعلت فلاتم)(3) في المثالب، وهو من مصنّفات أبي جيش مظفر بن محمد الخراساني، أحد كبار متكلمي الشيعة والعارفين بالأخبار، ومِن تلامذة أبي سهل النوبختي.

ص: 144


1- البيت باصطلاح الكتّاب خمسون حرفاً، وهو بسطر واحد عادة.
2- كان ذلك سنة 1329 هجرية.
3- عيوب وقبائح أعداء أهل البيت علیهم السلام

كامل البهائي وكتاب الحاوية

يظهر أنّ لدى مؤلّف كتاب كامل البهائي كتاباً اسمه (الحاوية في مثالب معاوية)(1)، ومؤلّفه قاسم بن محمد بن أحمد المأموني السنّي...، وكان ينقل في (الكامل) كثيراً مما جاء في (حاوية المأموني)، ومن ذلك قوله: «إنّ يزيد بعد شربه الخمر صبّ فضلته على رأس الإمام الحسين علیه السلام ، فأخذت زوجته الرأس الشريف وغسلته بالماء وماء الورد، فرأت في تلك الليلة في عالم الرؤيا، فاطمة الزهراء علیها السلام ، واعتذرت منها، ثمّ أمر يزيد بأخذ رأس الحسين علیه السلام وأهل بيته وأصحابه ونصبها على أبواب المدينة»(2).

ونقل أيضاً عن (الحاوية) كذلك «أنّ نساء أهل بيت النبوة - وهنّ في الأسر - كنَّ يخفين على البنين والبنات خبر استشهاد أهلهم في كربلاء وكنَّ يُسلينهم، ويعدنهم بأنّهم في سفر وسيرجعون يوماً ما، حتى جاءوا بهم إلى قصر يزيد، وذات ليلة استيقظت طفلة كان لها من العمر أربع سنوات وأخذتْ تبكي وتسأل: أين أبي؟ لقد رأيتُه الساعة في المنام، وكان قلقاً ومضطرباً جداً، فثارت النساء والأولاد وحدثت ضجّة وصَيْحة، وكان يزيد يغطّ في نوم عميق، فانتبه منزعجاً، وسأل: ما الخبر؟ فأخبروه بما جرى، فأمر يزيد بإرسال رأس أبيها إليها، وليضعونه إلى جانبها، فأحضر أولئك الأشرار رأس المولى، ووضعوه إلى جانب تلك الطفلة ذات الأربع سنوات، فسألت: ما هذا؟ فقالوا لها: رأس أبيك؛ فخافت تلك الطفلة وصرخت، فمرضت، وفي تلك الأيام التحقت روحها بالرفيق الأعلى»(3).

وينقل من (الحاوية) في باب هلاك يزيد بأنّه في أحد الأيام أخذ يرقص وهو مخمور فأغمي عليه، وسقط إلى الأرض، فذهب إلى عذاب جهنم مخموراً.

ص: 145


1- وهو كتاب مؤلف باللغة الفارسية.
2- كامل البهائي: ص385.
3- المصدر السابق.

وقيل أيضاً عن جماعة: إنّه خرج إلى الصيد مع جنوده وبطانته، فرأى غزالاً بالقرب منه، فذهب يتعقبها، فأمر الله الأرضَ أن تبتلعه، ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ﴾(1).

وقيل: لمّا رأوا البرص فيه، ثاروا عليه، فتمكّن من الفرار منهم، وسقط في بئر للنجاسة، وأغلق الناس عليه بوابة البئر، وهذه البئر مشهورة في دمشق(2).

فوائد أُخرى من كتاب كامل البهائي

هناك فوائد كثيرة تتحصّل من كتاب كامل البهائي، نودّ أن نشير إلى بعضها، ففي باب شهادة الإمام الحسن علیه السلام (3) يبيّن الكتاب تكرار سقي جعدةَ السمَّ للإمام علیه السلام ، فمرّة وضعتْه في العسل الأبيض، وفي تلك المرّة ظهر على الإمام ألم السمّ، وأخذ يتقيّأ كثيراً، وعالج نفسه بالحليب المغلي، ومرّة ثانية، وضعت السمّ في شرابه، وقد استشفى علیه السلام بتراب قبر الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله ، وفي المرّة الثالثة وضعت السمّ في الرطب، وقدّمتْه للإمام علیه السلام .

ولأجل الترويح عن النفس وتغيير الأجواء ذهب الإمام الحسن علیه السلام إلى الموصل، فقدّم معاوية بضعة دنانير لرجل من أهل التصوّف أعمى البصيرة، وبعدما قدّم له الدنانير أعطاه عكّازاً لها زجٌّ مسموم(4)، فجاء إلى الإمام علیه السلام مظهراً له المحبة، وبحجة أنّه يريد تقبيل يد الإمام أوغل طرفَ العكّاز في ظهر قدم الإمام علیه السلام واتّكأ عليها بكل ما يمتلك من قوة، فأراد الناس قتلَ الصوفي، فمنعهم الإمام، وذهب من هناك قاصداً دمشق، فأمر عبد الله بن عبّاس أن تُضرب عنقه في الطريق.

ص: 146


1- القصص: 81.
2- كامل البهائي: ص381
3- المصدر السابق: ص454.
4- الزج: طرف مدبّب كطرف الرمح.

ونقل الكيفيّة التي وضعتْ فيها جعدة برادة ألماس في إناء الإمام الحسن علیه السلام ؛ واستشهاده نتيجة ذلك، سلام الله عليه.

وهكذا في الفصل الستّين، وبعد شهادة الإمام الحسن علیه السلام يأتي على ذكر كيفيّة قتل معاوية لعائشة؛ لأنّ «معاوية سافر إلى مكّة، وكان يريد أخذ البيعة من الناس لولده يزيد، وحينها أرسلتْ إليه عائشة تهدّده؛ لقتله أخاها محمد بن أبي بكر، وقالت له: إنّك قتلت أخي، وتريد أن تأخذ البيعة لولدك يزيد؟! فعَمِدَ إلى بئر فاحتفرها وملأها بالكلس(النورة)، ومدّ عليها من السجّاد الغالي الثمن، ووضع كرسياً عليها، ودعاها وقت الصلاة وأرسل إليها: بأنّه يتوقع من أُم المؤمنين أن تحضر عنده لتزيده شرفاً بقدومها، وبعد الصلاة أقبلت ومعها غلام هندي على حمار مصري، فاستقبلها معاوية بحفاوة، وأشار عليها أن تجلس على ذلك الكرسي، وما كادت أن تجلس حتى انهار بها داخل ذلك البئر، وفي تلك الحال أمر معاوية فوراً بقتل الغلام والحمار، ورميهما في تلك البئر أيضاً ومساواة الأرض. ووقع الناس في الاختلاف، فمِن قائل يقول: إنّها عادت إلى المدينة، ومِن قائل يقول: قصدتْ شطر اليمن.

وكان الإمام الحسين علیه السلام عالماً بما جرى، وكذلك بعض خواص معاوية؛ فلذا سلّم الإمام الحسين علیه السلام ميراثها إلى ذويها.

ويُنقل أيضاً أنّ أمير المؤمنين علیه السلام لمّا توجّه إلى معركة صفين كان يحمل معه أربعين منّاً من الطحين، ولمّا عاد كان قد تبقّى منه الكثير»(1).

ويُنقل من (الحاوية للمأموني) أنّه لما وصل خبر مقتل الإمام علي علیه السلام إلى معاوية، كان متّكئاً فاستقام في مجلسه، وكانت له جارية تغنيه، وكانت تخفي إيمانها، فاستدعاها، وقال: يا جارية، غنِّ؛ اليوم قرّة عيني! فقالت الجارية: ما الخبر السعيد الذي وصلك اليوم؟ فقال معاوية: يقولون: قُتِل عليُّ بن أبي طالب. فقالت الجارية: لا غنّيتُ بعد

ص: 147


1- كامل البهائي: ص418.

اليوم أبداً. فأمر بضربها بالسياط ضرباً مبرِّحاً حتى صاحت: كفوا عنّي، وأنشدت أشعاراً تقول فيها:

وكنّا قبل مهلكه زماناً***نرى نجوى رسول الله فينا

ألا أبلغ معاوية بن حرب***فلا قرّت عيون الشامتينا

أفي شهر الصيام فجعتمونا***بخير الناس طراً أجمعينا

فلا ولله لا أنسى علياً***وطول صلاته في الراكعينا

فلا تفخر معاوية بن حربٍ***فإنّ بقية الخلفاء فينا

فقد علمت قريش حيث كانت***بأنّك شرّهم حسباً وديناً

فسحب معاوية عموداً كان إلى جانبه، وضرب تلك المرأة المؤمنة على رأسها، فمضت شهيدة (رحمة الله عليها).

وفي باب شهادة الإمام الحسين علیه السلام وأسر أهل بيته، ينقل عنه الشيخ عبّاس القمي، قوله: «أخرج اللعناء رأس الحسين علیه السلام من الكوفة؛ خوفاً من القبائل العربية أن تثور عليهم، والرأس معهم فيستلبونه منهم؛ لذا لم يسلكوا الطريق الرئيس، وإنما سلكوا طريقاً جانبياً، وتنكَّبوا الطرق حذراً من ذلك، ولمّا اقتربوا من قبيلة طلبوا منها العلف لدوابهم، وأخبروهم بأنّ معهم رؤوس بعض الخوارج يحملونها للأمير، واستمروا على هذا النحو وبهذه الحجة حتى بلغوا بعلبك، فأمر القاسم بن الربيع الذي كان والياً هناك بتزيين المدينة، وأدخلوا الرأس مع آلاف الدفوف والطبول والمزامير، ولمّا علم أهل المدينة أنّه رأس الحسين علیه السلام ، خرج نصف المدينة وأحرقوا الأعلام ومعالم الزينة والفرح، واستمرت الفتنة لأيام.

وهرب أولئك اللعناء الذين كان معهم رأس الحسين علیه السلام متخفين، حتى وصلوا (مرزين)، وهي أول مدينة من مدن الشام، وكان حاكمها يومئذٍ من قِبل يزيد هو الملعون

ص: 148

نصر بن عتبة، فأظهر الفرح والاستبشار، وزيّن البلد، وقضى الجميع تلك الليلة بالرقص، فتلبّدت السماء بغيوم سوداء، وأخذت ترعد وتبرق، وأُحرقت الزينة بأجمعها، فقال عمر بن سعد وشمر لعنهما الله: إن هؤلاء قوم أهل نحس وشؤم.

ثم توجّهوا من هناك حتى وصلوا (ميافارقين)، وحينها اختصم كبار المدينة فيما بينهم، كل واحد يريد دخول الرأس من بابه؛ لأنّه عقد الزينة فرحاً به، فوقع بينهم قتال، وقتل الآلاف من الطرفين.

وبقي كلاب الكوفة أولئك في تلك المدينة عشرة أيام، ومنها انتقلوا إلى مدينة إيذار، ومنها إلى (نصيبين). قال: منصور بن الياس: رفعوا أكثر من ألف علم استقبالاً لرأس الحسين علیه السلام ، وكان رأس الحسين معه، فأراد أن يدخل المدينة، لكن فرسه لم يأتمر بأمره، وجاءوه بعدّة أفراس، ولكن لا فائدة، فبينما هم كذلك سقط رأس الحسين علیه السلام فجأة من أعلى الرمح، وكان إبراهيم الموصلي في القوم، فحمل الرأس بحذرٍ وحيطة، ولما علم أنّه رأس الحسين علیه السلام أخذ يعاتب الناس ويلومهم بشدّة على فعلتهم وقَتْل الشاميين له، وأخرجوا الرأس خارج المدينة، وراحوا ينثرون المال على الناس بما لا يمكن توضيحه.

في اليوم الثالث ثار التراب والغبار حتى أظلمت الدنيا، فساء الخلقُ الظنَ بهم، وقالوا: إن لم تذهبوا من هنا نقتلكم؛ فذهب اللعناء من هناك إلى مدينة (شبديز)، فتعاهد الناس أنْ لا يعطوهم علفاً ولا طعاماً، ولا يحترمونهم، وإذا اقتضى الأمر يقاتلونهم. ولمّا علم الكوفيون بهذا الحال تحركوا من هناك، فتعقّبهم الشبديزيون وهم يلعنونهم حتى بلغوا جانب الفرات، وبعدها أخذوا يتنقلون من قرية إلى أُخرى، حتى وصلوا على مقربة من أربعة فراسخ عن دمشق، وفي كل قرية هناك كان الناس يقدمون لهم الهدايا.

وظلوا على باب المدينة ثلاثة أيام حتى يزيّنوا المدينة بكل ما لديهم من الحُلي والرياش والزينة بشكل لم يرَه أحد من قَبْل، وخرج ما يقرب من خمسمائة ألف ما بين رجل وامرأة،

ص: 149

والدفوف بأيديهم، وخرج أمراء القوم، ومعهم الطبول والأبواق والدفوف، وراح الرجال والشباب والنساء يرقصون على أصوات الدفوف والطبول والربابات، وكانت بعض النساء قد خضبن أيديهنَّ وأرجلهنَّ، واكتحلنَ، وارتدينَ ثياب الفرح، وذلك في يوم الأربعاء السادس عشر من ربيع الأول.

ولمّا أشرقت الشمس، أدخلوا الرؤوس إلى البلد؛ ولكثرة الخلق وصلوا إلى بيت يزيد لعنه الله وقت الزوال، وكان يزيد قد اعتلى عرشه، وهو (تخت مرصع)، وزيّن القصر والمجلس بأنواع الزينة، ووضع كراسي الذهب والفضة عن اليمين وعن الشمال، وجاء الحجاب، وأقبل كبار اللعناء بالرؤوس نحو يزيد، فسألهم عن الأحوال، فأجاب اللعناء: أنقذنا دولة الأمير من تدمير آل أبي تراب لها، وقصّوا عليه الحكاية، ووضعوا بين يديه رؤوس أولاد النبي صلی الله علیه و آله .

وفي هذه الأيام الستّة والستّين التي كان فيها أهل البيت في يد الكفّار لم يستطع أحدٌ أن يسلّمَ عليهم، وهم كذلك إلى أن انبرى للإمام زين العابدين شيخ، وقال له: الحمد لله الذي قتَلكم ... وقيل أيضاً: إنّ أُم كلثوم أُخت الإمام الحسين علیه السلام قد توفّيت في دمشق»(1).

كتاب كامل البهائي في نظر المحدِّث القمّي

بمناسبة البحث عن هذا المقتل، وأعني به كتاب (كامل البهائي) لعماد الدين الطبري، الذي يعود جزء منه بطبيعة الحال إلى أحداث كربلاء، رغبت أن أبيّن قيمة الكتاب ومحتواه الرائع بقلم المحدِّث الخبير والمتخصص في هذا الفنّ المرحوم الحاج الشيخ عبّاس القمّي، حتى يتمّ التعرّف أكثر على هذا الكتاب، ويطّلع القرّاء كذلك على بعض مطالبه.

وقبل ذلك ولأجل الاطّلاع أكثر لا بد من الرجوع إلى الكتاب نفسه، فكتاب

ص: 150


1- القمّي، عبّاس، الفوائد الرضوية: ج1، ص112- 116.

(كامل البهائي) قد طبع للمرة الثانية قبل بضع وعشرين سنة في طهران؛ إذ جُعِل المجلدان مجلداً واحداً، ولكنّ هذه الطبعة لم تكن بالشكل المرغوب والمطلوب، وكانت بحاجة أن يقوم واحد أو أكثر من أهل الفن بتقويمها ومراجعتها ومقابلتها مع النسخ الخطيّة، وتصحيحها.

إنّ المحدِّث القمي في آخر حديثه عن هذه المطالب التي نقلها عن الكتاب - وأشرنا إليها آنفاً - وعند بيان حال المؤلّف، قال: «والله العالم؛ لأن هذه المطالب فقط ذكرت في هذا الكتاب.

بالطبع مؤلّف الكتاب عنده كتُب من السابقين لا يمكننا اليوم أن نجدها، ولعلّ تلك المطالب صحيحة تماماً، وتؤيدها ظواهر الأُمور أيضاً؛ ولذا من الأفضل عند النقل نقول عماد الدين الطبري العالم الكبير في كتاب كامل البهائي».

تمّ نقل أسماء بعض الأماكن التي مرّوا فيها بأسرى أهل البيت في الطريق من العراق وصولاً إلى الشام، بعضها حتى في زمننا المعاصر اليوم غير خافية، وبعضها قيل: إنّها بُدّلتْ وتَغيرت أسماؤها، ولعل بعضها قد اشتبه بها، مثلاً: لعله وقع اشتباه في مدينة (بعلبك) بالموصل، و(مرزين) أيضاً غير معروفة، ولم تثبت في (المرصد)، وأما (شبديز) فقد عُبِّر عنها في (المراصد) بلفظ (شبداز) ويقال لها أيضاً: شبديز، وهو قص-ر كبير من أبنية المتوكّل في سامراء، ويحتمل أن يكون هناك في السابق محل بذاك الاسم.

والأستاذ الفقيد العلاّمة الخبير في الكتب ومصنّفيها الشيخ آقا بُزُرك الطهراني، قال في كتابه الذريعة متناولاً كتاب الكامل: «(كامل البهائي) فارسي في الإمامة وشرح ما جرى بعد الرسول صلی الله علیه و آله في السقيفة؛ ولذا يسمى ب-(كامل السقيفة) أيضاً، للشيخ عماد الدين الحسن بن علي بن محمد بن علي الطبري. وفى النسخة المطبوعة بُدِّل جدُه علي الطبري

ص: 151

بالحسن(1).

قال في (الرياض): هو كتاب كبير في مجلدين، والمتداول منه المجلد الأول، وهو في أحوال أمير المؤمنين وإثبات إمامته وإبطال غيره، والمجلد الثاني في أحوال باقي الأئمة، وقد رأيت منه نسخة تامّة بكاشان عند كلانتر تلك البلدة، وأُخرى باسترآباد في كتب المولى حسين الأردبيلي، ويوجد أيضاً نسخة عتيقة عند المولى ذو الفقار، ونسخة تامّة في أصفهان عند الميرزا أشرف بن الميرزا حسيب»(2).

ثمّ يقول العلاّمة الطهراني: «الميرزا أشرف هو صاحب (فضائل السادات) المطبوع، وقد كانت عنده النسخة بتمامها، وينقل عنها في كتابه... ونسخة (الرضوية) المكتوبة في 974 ه- مطابق مع المطبوع، ونسخة في(المجلس: 2077) غير مؤرّخة ترجع إلى القرن الثامن، ساقط الأول والآخر»(3).

ثمّ يشير العلاّمة الطهراني فيما بعد تحت عنوان (كامل السقيفة) إلى الكتاب أيضاً، ويقول: «هو نفسه الكتاب المعروف ب-(كامل البهائي)، ويشتهر بأسماء أُخرى مثل:(لوامع السقيفة) و(أحوال السقيفة)» (4).

10- كشف الغمّة في معرفة الأئمة للإربلي

وهو من الكتب المؤلَّفة باللغة العربية ويقع في مجلدين، مؤلّفه بهاء الدين علي بن عيسى الإربلي من مدينة إربل بالقرب من الموصل في شمال العراق، ولد في عائلة كردية كانت تتخذ التشيع مذهباً لها، وكان رجلاً عالماً، أقام في بغداد مدّةً، ورحل عن

ص: 152


1- يعني: كتب في الطبعة الأُولى يوجد حسن بن علي بن محمد بن حسن الطبري، والمراد من جده الجد الثاني له
2- الذريعة: ج17، ص252.
3- المصدر السابق: ص253.
4- المصدر السابق: ص255.

هذه الدنيا في سنة 693 من الهجرة.

قام الإربلي بتأليف هذا الكتاب في المعصومين الأربعة عشر، ولمّا كان ذلك في زمان سقوط دولة العبّاسيين، وحينها لم يكن يتملك الشيعةَ من الخوف ما كان يتملكهم سابقاً بسبب المتعصبين؛ لذا توسع في البحث حول أمير المؤمنين علیه السلام أكثر من المعصومين الآخرين، بحيث إنّه كتب فقط في خصوص أمير المؤمنين 400 صفحة من المجلد الأول، في حين أنّه كان يأتي بروايات العامّة في خصوص كل واحد من المعصومين الأربعة عشر، وبعدها يأتي بروايات الشيعة حتى يكون الاستدلال بها محكماً في مواجهة الخصوم.

وفي بيانه أحوال الإمام أبي عبد الله الحسين علیه السلام وثورته ومجيئه إلى كربلاء، واستشهاده وأصحابه الأوفياء، جاء ببعض المطالب من كتُب العامّة؛ لأنّ السنّة لا يعيرون أهميّة لما ينقله الشيعة من الحوادث التي حصلت في استشهاد خامس أهل العبا، وهو إنّما قام بذلك لإلزام الخصم.

وعلى كل حال، فقد صار الكتاب أحد المصادر والكتب التي يعتمد عليها العلماء فيما يتعلّق بالمقدار الذي نقله في كتابه حول مقتل الإمام الشهيد علیه السلام . وأخباره صحيحة ومقبولة، لم يرد فيها شيءٌ غير لائق أو باطل.

11- روضة الشهداء للكاشفي السبزواري

ألَّف هذا الكتاب الملاّ حسين الكاشفي السبزواري المتوفّى في حدود سنة 911 هجرية، وأسماه روضة الشهداء، وهو باللغة الفارسيّة، ويشتمل على شرح لأحوال الإمام الحسن والحسين علیهما السلام ، وبعض أولادهما وذريتهما.

والملاّ حسين الكاشفي كان معاصراً لعبد الرحمن الجامي، وابن صفي الدين علي،

ص: 153

عديل الجامي. وكان الملاّ حسين من أهل سبزوار الذين كانوا جميعاً شيعة، والجامي كان يسكن في هرات التي كان سكنتها جميعاً من أهل السنّة؛ لهذا كان الملاّ حسين يتردد بين هاتين المدينتين، ويرتقي المنبر فيهما، وكان يعمل بالتقية؛ من هنا لم يكتب كتابه روضة الشهداء بالنهج الشيعي بشكل كامل؛ ولذا لم يكن من الكتب المعتبرة في المقاتل.

ويعتقد بعض الناس أن عبارة (روضه خوان) بالفارسيّة التي تعني قراءة العزاء قد أخذت من اسم هذا الكتاب، بمعنى: أنّ هذا الكتاب يُقرأ على المنبر، والناس يقولون: فلان قرأ الروضة، وبمرور الأيام وتقادم الزمان أُطلق هذا اللفظ على جميع أهل المنبر.

12- الجزء العاشر من البحار

خُصّص المجلد العاشر من كتاب بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي لسيرة وأحوال الإمام أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، وصار يُعرف ب-( عاشر البحار).

لقد قام العلاّمة المجلسي المتوفّى سنة1110هجرية، بتأليف هذا المجلد مستفيداً من المصادر نفسها التي اعتمدها في المجلدات الأُخرى، وقد فصّل الكلام في مقتل الإمام علیه السلام وأحداث كربلاء.

عاشر البحار، حاله حال المجلدات الأُخرى لهذا الكتاب المبارك فيه غثٌّ وسمين، ولكنّه بحسب المجموع من الكتب المهمة في مقتل ذلك الإمام المظلوم.

13- جلاء العيون للعلاّمة المجلسي

كتاب جلاء العيون من مؤلفات العلاّمة المجلسي في تاريخ المعصومين الأربعة عشر ألَّفه باللغة الفارسيّة، وأورد فيه ما يراه ضرورياً من حياة المعصومين علیهم السلام بلغة

ص: 154

سهلة، وفي قسم وفياتهم علیهم السلام لاسيما شهادة الإمام الحسين علیه السلام ، جاء على ذكر بعض الحوادث والوقائع التي تعدّ من المصادر المهمة في المقاتل.

14- نَفَس المهموم

نَفَس المهموم آخر وأفضل وأشهر المقاتل الشيعيّة الموجودة، وهو من تأليف المحدِّث المتتبع المحقق الحاج الشيخ عبّاس القمّي قدس سره .

قام هذا المحدِّث الكبير بتأليف هذا الكتاب في سنة 1335هجرية، حينما كان يعيش في جوار الإمام الثامن علي بن موسى الرضا علیه السلام ، على ما ذَكَر ذلك في نهاية الكتاب. وقد طُبع هذا الكتاب مرّات عديدة.

لقد وفّقت - ولله الحمد - أن أكتب في السيرة المضيئة لهذا المحقق الكبير، فكانت عبارة عن مجلدين كبيرين، فالشيخ عبّاس القمّي صنّف وألّف أكثر من ثمانين مجلداً في العلوم والفنون الإسلاميّة، وفي الأبواب والمجالات المختلفة من قبيل: التاريخ والحديث، والدراية والرجال، والأدب والأخلاق، والكلام والأدعية والزيارات وغيرها.

وهو بالإضافة إلى كل ذلك كان خطيباً وواعظاً قلَّ أن توجد مواعظٌ مثل مواعظه، وفي نقل الأحاديث، ومقاتل الأئمة الأطهار، وخصوصاً مقتل سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، كان خرّيت هذه الصناعة، وخبير هذا الفن بلا منازع.

فبما يمتلكه المحقق القمّي من سابقة عريضة في مطالعة كل المصادر الإسلاميّة؛ الشيعيّة منها والسنّية حول سيرة وحياة الإمام الحسين علیه السلام ، وأحداث كربلاء، وارتقائه المنبر لسنوات مديدة، يحكي فيها للعامّ والخاصّ تلك الأحداث المؤلمة لنهضة الإمام الحسين علیه السلام ، وبما يمتلك من علم واطلاع في هذا المجال، قام بتأليف كتابه (نَفَس المهموم).

ص: 155

نفس المهموم كان باللغة العربية وبطريقة المحدِّث القمّي في النثر. ذكر في ديباجة كتابه المصادر التي اعتمدها في تدوين الكتاب، وذكر مؤلّفيها بما يليق بهم من الألقاب.

والمصادر التي اعتمدها المحقق القمّي خبير المقاتل وأحداث كربلاء، والتي كانت موضع اهتمامه، هي:

أ) إرشاد المفيد.

ب)الملهوف أو اللهوف للسيد ابن طاووس.

ج ) تاريخ الطبري.

د) تاريخ الكامل لابن الأثير.

ه-) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني.

و) مروج الذهب للمسعودي.

ز) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي.

ح) مطالب السؤول لمحمد بن طلحة الشافعي.

ط) كشف الغمّة لعلي بن عيسى الإربلي.

ي) العقد الفريد لأحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي.

ك) الاحتجاج للطبرسي.

ل) المناقب لابن شهر آشوب.

م) روضة الواعظين للفتّال النيسابوري.

ن) مثير الأحزان لابن نما الحلي.

ص: 156

س) كامل البهائي لعماد الدين الطبري.

ع) روضة الصفاي لمحمد خاوند شاه.

ف) تسلية المجالس للسيد محمد بن أبي طالب المولوي الحائري.

ثمّ يقول بعد ذلك: وأنقلُ كذلك من مقاتل أُخرى، مثل: مقتل السيّد محمد الموسوي بواسطة المجلد العاشر من البحار، ومِن مقتل الكلبي بواسطة تذكرة السبط، ومِن تاريخ الطبري، ومِن مقتل أبي مخنف الأزدي بواسطة الطبري.

والعجيب أنّ المحدِّث القمّي لم يذكر (عاشر البحار) أي المجلد العاشر من كتاب بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي ضمن مصادره، وربما نسيه؛ لأنّه نقل مطالب كثيرة منه من دون الاستناد إلى كتاب آخر. وفي الحقيقة أنّ أحد مجلدات بحار الأنوار يعتبر لوحده مصدراً مهماً في نقل أحداث كربلاء.

إنّ المحدِّث القمّي وجد أنّ عمدّة المطالب المتعلقة بأحداث كربلاء في هذه الكتب هي من آثار علماء الشيعة والسنّة، فلو أنّه جعلها أساس بحثه في تلك الحادثة المؤلمة لكان ذلك جيداً، فهو قام بنقل المطالب المعتبرة منها في مواضعها، وأحياناً تكون محلاً للنقض أو الإبرام، بحيث تتضح قدرة وسيطرة هذا المحدِّث القدير على مقاتل شهداء كربلاء، وتشخيص صحة وسقم ما ورد من روايات في أحداثها، في كتابه (نَفَس المهموم).

إنّ المرحوم الحاج الشيخ عبّاس القمّي في ختام ذكره للمصادر يقول في تعبيره عن أصحابها: «أعبِّرُ عن السيّد ابن طاووس ب- (السيّد)، وعن ابن أثير الجوزي ب- (الجوزي)، وعن محمد بن جرير الطبري ب-(الطبري)، وعن أبي مخنف ب-(الأزدي). والسبب في تعبيري عن أبي مخنف بالأزدي ولا أقول: (أبو مخنف)؛ حتى لا يتبادر

ص: 157

إلى الأذهان أنّه أبو مخنف نفسه الذي طُبع مقتله في المجلد العاشر من كتاب البحار؛ لأنّه قد ثبت عندي أنّ هذا الكتاب الملحق بالمجلد العاشر للبحار ليس هو مقتل أبي مخنف المعروف؛ لأنّ أبا مخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف الأزدي الغامدي شيخ المؤرخين، من أهل الكوفة، ومِن وجوههم اللامعة، وما ينقله موضع اهتمام واعتبار واطمئنان. وكان من أصحاب الإمام الصادق علیه السلام ، وأبوه كان من أصحاب أمير المؤمنين والحسن الحسين علیهم السلام .

ولأبي مخنف كتُبٌ كثيرة في التاريخ والسيرة من بينها كتاب مقتل الإمام الحسين علیه السلام الذي نقل عنه أعاظم العلماء المتقدمين واعتمدوا عليه، وكلّ مَن يراجع تاريخ الطبري سيعلم أنّ أكثر ما نقله في مقتل الإمام الحسين علیه السلام ، بل كلّ ما نقله قد أخذه من أبي مخنف.

وعندما نتأمل في هذا المقتل المطبوع المنسوب له ونقيسه مع ما نقله عنه الطبري في تاريخ يتّضح أنّ هذا المقتل ليس لأبي مخنف ولا لغيره من المؤرخين المعتمدين؛ وبناءً على ذلك؛ فأنا لا أعتمد على ما جاء فقط في مقتل أبي مخنف المطبوع هذا.

وكتَبَ المحقق القمّي كذلك حول كتابه هذا، وذكر بأنّه قد جعله على مقدمة وخمسة أبواب وخاتمة، وسمّاه ( نَفَس المهموم في مصيبة سيدنا الحسين المظلوم).

فمقدمة الكتاب في ولادة أبي عبد الله علیه السلام ، ويشتمل كل باب من أبوابه على عدّة فصول، وأمّا خاتمة الكتاب، فكانت في أحوال التوّابين، وثورة المختار وانتقامه من قتلة شهداء كربلاء.

وكان المحدِّث القمّي ينقل في كتابه هذا من كتُبِ مهمة أُخرى للشيعة والسنّة ويصرّح بأسمائها - بشكل مباشر أو بالواسطة ، ومِن خلالها استقى تلك المعلومات حول شخصيّة أبي عبد الله الحسين علیه السلام وأبيه وأمه علیهما السلام وشهداء كربلاء.

وينقل نتائج ومجريات تلك الواقعة الأليمة من كتب تبدو أحياناً أنّها لا ربط لها

ص: 158

بواقعة كربلاء، مثل: تهذيب الكلام للتفتازاني، والآثار الباقية لأبي ريحان البيروني، وحياة الحيوان للدميري، والكامل للمبرِّد، وبشارة المصطفى لعماد الدين الطبري، وأمالي الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي، ومواليد ووفيات ابن خشّاب البغدادي، والصواعق المحرقة لابن حجر المكّي، والمصباح للكفعمي، وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي، ونور الأبصار للشبلنجي، وتاريخ الخميس للديار بكري، والخرائج والجرائح للرواندي، وروضة الشهداء للملا حسين الكاشفي، والأخبار الطوال للدينوري، وإثبات الوصية للمسعودي، ودعوات الرواندي، ورحلة ابن بطوطة المغربي، والكافي لثقة الإسلام الكليني، ودعائم الإسلام لأبي حنيفة الشيعي، والمحاسن للبرقي، وتاريخ الإسلام للذهبي، وتاريخ ابن الوردي، وخطط وآثار المقريزي، وكامل الزيارة لابن قولويه القمّي، وعقود الجمان للسيوطي، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، وأمالي المفيد، وتقريب ابن حجر العسقلاني، ومدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني، ومزار محمد بن المشهدي، ومزار الشيخ المفيد، ومزار الشهيد الأول، ومصباح الزائر للسيد ابن طاووس، ومقتل الشيخ فخر الدين الطريحي، وتنزيه الأنبياء للسيّد المرتضى، والغارات للثقفي، ومنهج المقال للاسترآبادي، وتعليقة الوحيد البهبهاني، والشيخ المفيد، ورجال الكشّي، وقمقام فرهاد ميرزا، وأُسد الغابة لابن الأثير، وجلاء العيون للسيّد عبد الله شبَّر، ومعاني الأخبار للشيخ الصدوق، ودرّة العلاّمة بحر العلوم، وبصائر الدرجات لمحمد بن حسن الصفّار، وإعلام الورى للطبرسي، وتاريخ الجنابذي، وعمدة الطالب لابن داود الحسني، وسر السلسلة العلويّة لأبي نص-ر البخاري، والعثمانيّة للجاحظ، وأخبار الدول للقرباني، ومعالم الدين لأبي طاهر محمد بن حسن البرسي، ومصباح المتهجد للشيخ الطوسي، وإقبال السيّد ابن طاووس، وينابيع المودّة للشيخ سليمان الحنفي، وبتر الملذات لعبد الفتّاح الأصفهاني، وسيرة ابن هشام.

ص: 159

لقد استفاد المحدِّث القمّي من جميع هذه المصادر قبل سبعين سنة، ولم تكن متيسرة بما هي عليه اليوم، وإن وجدت فتكون طباعتها غير جيدة، وكان ينقل منها في كتابه (نَفَس المهموم) عند الحاجة وفي المواضع المناسبة، ومِن هنا قد يدرك الإنسان مقدار همّة المحدِّث الكبير المرحوم الحاج الشيخ عبّاس القمّي.

هذا المحدِّث الكبير في الفصل الثاني من الباب الأول لكتابه (نَفَس المهموم) ينقل أربعين حديثاً معتبراً ومسنَداً حول وقائع كربلاء وفضائل ومناقب سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين علیه السلام .

الحديث الأول ينقله عن أستاذه العلاّمة المتتبع الحاج ميرزا حسين النوري، إلى إبراهيم بن هاشم القمّي، وهو أول مَن نشر أحاديث محدِّثي شيعة الكوفة في قمّ، يروي عن الريان بن شبيب الذي يشير فيه الإمام علي بن موسى الرضا إلى مطالب مهمّة حول شهادة أبي عبد الله الحسين قالها له.

والخلاصة: إنّ المحدِّث القمّي لم يترك شيئاً يتعلق بواقعة كربلاء لم يذكره في مقتله، وقد نزّهه عن كلّ التحريفات التي كانت شائعة في المقاتل الأُخرى أو على الألسن، فترك لنا مقتلاً معتبَراً بأسانيد قيّمة، فكان بحقّ أفضل وأنفس آثاره. فما يُنقل من ذلك الكتاب معتبَر ومسنَد.

ونَفَس المهموم بحاجة إلى إعادة طباعة تليق بمكانته، فطباعته الحالية لا تناسب قيمته وأهميته. ولهذا الكتاب ترجمتان إلى اللغة الفارسية: إحداهما قام بها العلاّمة الفقيد المرحوم الحاج ميرزا حسن الشعراني، والثانية باسم (در كربلاء جه كذشت؟)، أي (ماذا حدث في كربلاء؟)، بقلم المرحوم الشيخ محمد باقر الكمرأي، وكلا الترجمتين لم يتناسبا مع مقاصد المحدِّث القمّي من هذا الكتاب، وإذا تمّت ترجمته بلغةٍ سهلةٍ دون حشو وزوائد - كما حصل في الترجمتين السابقتين - لأحتلّ مكانته المناسبة، وهذا

ص: 160

لا يتمّ إلاّ عن طريق كاتب ماهر متمرِّس ذي خبرة عالية، لا من أولئك الذين لا يدركون عمق هذا المصنَّف النفيس، ويشرّقون ويغربون ولا ينالون من ذلك إلا التعب والعناء والمشقّة.

15- نفثة المصدور فيما يتجدد بحزن يوم العاشور

وهو كتاب مختصر، ألّفه المحدِّث الفقيد الحاج الشيخ عبّاس القمّي في المقتل، وألحقه بكتابه (نَفَس المهموم).

يتكوّن هذا الكتاب من أحدَ عشرَ فصلاً وخاتمة بهذا الترتيب:

الفصل الأول: في بعض مناقب الإمام الحسين علیه السلام .

الفصل الثاني: في شجاعة الإمام الحسين علیه السلام .

الفصل الثالث: في مدح أصحاب الإمام الحسين علیه السلام والتعريف ببعضهم.

الفصل الرابع: في التحاق الحرِّ بن يزيد الرياحي بالإمام الحسين علیه السلام .

الفصل الخامس: في القصيدة اللاميّة للكُمَيت الأسدي، التي يمدح فيها ستّة من أبطال كربلاء ومِن قبيلة بني أسد.

الفصل السادس: في عطش محمد بن الحنفية بن أمير المؤمنين في معركة صفين بعد الحملة المؤثّرة في الأعداء، وعطش عليِّ الأكبر في يوم عاشور بعد حملته على الأعداء، ومعنى ذلك العطش وعلته.

الفصل السابع: في مواساة عليّ علیه السلام للنبي صلی الله علیه و آله في أيام الحصار في شعب أبي طالب، ومواساة أبي الفضل في يوم عاشوراء لأخيه أبي عبد الله الحسين علیه السلام .

ص: 161

الفصل الثامن: تنبّؤ النبي صلی الله علیه و آله في ما يتعلّق بشهادة عمّار بن ياسر، وبيان أحوال أمير المؤمنين علیه السلام بعد شهادة عمّار، ومقايستها مع حال الإمام الحسين علیه السلام بعد شهادة أبي الفضل العبّاس علیه السلام .

الفصل التاسع: موقف النبي صلی الله علیه و آله مع ابنة حاتم الطائي بعد أن جاؤوا بها أسيرة، وأُسر نساء وبنات أهل البيت بعد واقعة الطفّ.

الفصل العاشر: حول الحسن المثنى الجريح الوحيد الذي نجا من واقعة كربلاء، وتزوّج فاطمة بنت عمّه الإمام الحسين علیه السلام ، والردّ على أبي الفرج الأصفهاني فيما ذهب إليه في كتابه (مقاتل الطالبيين) حول هذه المسألة.

الفصل الحادي عشر: يتعلق بالحديث عن ضريح يقع على جبل يدعى (جوش) على مشارف مدينة حلب يُعتقد أنّه لسِقْط من أطفال الإمام الحسين علیه السلام كان قد سَقَط ودُفن هناك.

خاتمة الكتاب: وكانت في بعض النصائح الكافية والشافية والضروريّة والنافعة جداً لأهل المنبر.

المحدِّث الكبير الشيخ القمّي بعد تأليفه نَفَس المهموم، تذكَّر بعض المطالب التي لها ارتباط بالإمام الحسين علیه السلام ومقتله وأحداث كربلاء، ولم يدرجها في كتابه نَفَس المهموم، فأتى على ذكرها هنا في هذا الكتاب. والاطّلاع على هذه المطالب مفيد ونافع جداً بالنسبة لأهل المنبر، بل لأهل التحقيق في حوادث كربلاء والنهضة الحسيّنيّة؛ لأنّها غاية في الأهميّة.

إنّ نقل هذه المطالب له القيمة والأهميّة العالية؛ لأنّها كُتبَتْ بقلم المحدِّث المرحوم الحاج الشيخ عبّاس القمّي وإن لم يذكر مصدرها، فكيف إذا قام أحدُ المحققين

ص: 162

بتوثيق مطالب هذا الكتاب وعزوها إلى مصادرها الأصليّة، مع ترجمته ترجمة واضحة وسلسة؛ لينتفع به المتحدِّثين بالفارسيّة.

16- منتهى الآمال للشيخ عبّاس القمّي

كتاب (منتهى الآمال) للمحدِّث الكبير الحاج والمؤرخ الخبير والمتتبع البصير في تاريخ حياة المعصومين الأربعة عشر علیهم السلام الشيخ عبّاس القمّي، ويعدّ واحداً من أفضل المصنَّفات والآثار الفكريّة لذلك العالِم الجليل.

قام الشيخ عبّاس القمّي رحمة الله بتأليف هذا الكتاب باللغة الفارسية في تاريخ الأئمة الأربعة عشر سنة 1350ه-، وكان له من العمر 56 سنة، وذلك بعد تأليفه وتصنيفه لما يقارب مِن80 كتاباً آخر.

منتهى الآمال - وبعد مرور خمسة وستين سنة على تأليفه - ما يزال من أفضل وأشمل الكتب المؤلَّفة في حياة الأئمة المعصومين علیهم السلام . يتحدث المؤلّف رحمة الله في هذا الكتاب حول كلّ واحد منهم، ويتطرّق إلى وفاته وشهادته؛ بحيث إنّه لو جُمع ما نقله عن وفياتهم وشهادتهم بنحو مستقلّ لكان كتاباً رائعاً في مقاتلهم علیهم السلام .

مقتل الإمام الحسين علیه السلام الذي جاء في هذا الكتاب بقطع وزيري وخط بتعليق طاهر بخط تبريزي وطباعة الإسلامية بلغت صفحاته 123 صفحة، بحيث لو تم طباعته بحروف مطبعية لبلغ 300 صفحة وكان مقتلاً مفصلاً ومعتبراً.

إنّ ما كتبه الشيخ رحمة الله من كتابات، ك-( نَفَس المهموم) فهي من الكتب المعتبرة والمحققة عنده. وفي الحقيقة يمكننا القول: إنّ المحدِّث القمّي بمقاتله تلك التي

ص: 163

خطّتها يده غطّى جوانب مهمة وكثيرة من أحداث كربلاء ومقاتل الأئمة الأطهار، والكتب التي أُلفت بعد المقاتل التي ألّفها المحدِّث القمّي صار أكثر اعتمادها على كتاباته وما ينقله سواء ذكر الكتّاب ذلك وأظهروه أم أخفوه، كما هو المعتاد عند أهل الدنيا وعديمي المروة.

ص: 164

دراسات في فقه النهضة الحسينية

اشارة

*فقه الإعلام المنبر الحسيني أُنموذجا

*وجوب زيارة الإمام الحسين علیه السلام

ص: 165

ص: 166

فقه الإعلام المنبر الحسينيّ أُنموذجاً سماحة السيد محمود المقدس الغريفي

تصدير

الكلمة والكلام والقول، كل أولئك يحتل مكانة مُتميزة في الإسلام، فاعتنى بها عناية فائقة، وجعل لها رقابة ومسؤولية مهمة، فهو مصداق لكل خير أو شر، بحسب استعمال المتكلم أو الكاتب؛ فإنْ كان يدعو إلى الخير والفضيلة فهو خير، وإن كان يدعو إلى الش-رِّ والرذيلة فهو شرٌّ.

ولِعظم أهمية تلك المفردات وخطرها في الإسلام جعل الله(عزَّوجلَّ) عليها رقيباً وحسيباً، كما في قوله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ من قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾(1).

والكلام عمليّة ربط مضمونات الفكر الإنساني بأصوات ينتجها النطق، وذات دلالات اصطلاحية في البيئة الاجتماعية التي تجري فيها هذه العملية. والأصل في اللغة أن تكون كلاماً ومشافهةً.

ثم إن للكلمة دوراً مهماً وعظيماً في التوعية والإرشاد، وهي العنصر الأساس في الإعلام والتبليغ؛ لأنها أهم وسيلة للتعبير عن أطروحات الفكر النيّر، ونش-ر المبادئ

ص: 167


1- ق: آية 18. والعتيد أي: الحاضر. وجاء في هذه الآية صفة للرقيب.

السامية والأفكار الخلاَّقة، بل تُعدّ المحور الأبرز، والدعامة الرصينة الفاعلة، التي ترتكز عليها الوسائل الإعلاميّة المختلفة والمتنوعة، على الرغم من تطوُّر مراحلها وتغيّر وسائلها، وتعدُّد أدواتها وسعتها.

كما أن للكلمة - وتنوع استخدام الكلام - أثراً بارزاً، فهي عنص-رٌ فاعلٌ ومحركٌ في تأجيج الأحاسيس والمشاعر واستيعابها، وبيان ما في القلب والنفس والفكر، فالكلام كما قال الإمام الصادق علیه السلام : «هو إظهار ما في قلب المرء من الصفاء والكدر، والعلم والجهل»(1). وهو عمليّة ربط مضمونات الفكر الإنساني بأصوات ينتجها النطق، وذات دلالات اصطلاحيّة في البيئة الاجتماعيّة التي تجري فيها هذه العملية. وأما الكتابة، فتُقصد إلى تمثيل الكلام المنطوق بطريقة منظورة، أي أنها تميِّز الكلام الملفوظ(2).

فالكلمة المكتوبة أو المسموعة هي العنص-ر الأساس في دائرة الإعلام، وحولها تدور الوسائل الإعلاميّة المختلفة، فهي قناة الارتباط والتفاهم بين صاحب الرسالة أو الإعلاميّ وبين الناس والمتلقين، فينبغي أن تكون الكلمة المُلقاة أو الرسالة المعروضة، سليمة في مبناها، قويّة في معناها، مُحكمة في دلالاتها، وأن يكون صاحبها مؤمناً بما يعرضه متمسكاً به، كما ينبغي أن يتمتَّع بحسن الأُسلوب وقوّة العَرض والإقناع، ويمتلك كفاءة عالية على الاستدلال والبرهان، بعيداً عن الخداع والكذب، والمماطلة والسفسطة الفارغة، التي سرعان ما تكشفها الحقائق، وتظهرها الأيام؛ فيفتضح بين الناس، ويخس-ر ثقتهم، وتسقط مكانته من النفوس، فلا يؤخذ عنه ولا يُقبل منه؛

ص: 168


1- المجلسي، بحار الأنوار: ج 68، ص285.
2- اُنظر: د. أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات الإعلام: ص153.

فيسقط اعتباره بينهم، وتهتزّ مصداقيّته عندهم، سواء أكان شخصاً، كالخطيب أو الإعلامي، أم وسيلة إعلامية، كالصحيفة والقناة الفضائية ونحو ذلك.

إنّ الإعلام المسموع أو المقروء مسؤولية دينيّة وأخلاقية، واجتماعية وسياسية، وتربوية وتوعوية، يجب علينا مراعاتها، والحفاظ عليها مهما أمكن ذلك؛ تمهيداً لبناء المجتمع السليم والارتقاء بأبنائه.

كما أنَّ تَعَدُّد وسائل الإعلام وتنوعها، وشيوع وسائل الاتّصال وتطورها، مع إمكانيّة الحصول عليها والوصول إليها بسهولة ويسر، لا سيما في العقدينِ الأخيرين، جعل من هذا العالم الكبير بمثابة قرية صغيرة تتناقل المعلومات بين أطرافه المترامية، ساعة الحدث وعين الواقعة، وتتفاعل الجماهير مع الأحداث بأقص-ى سرعة وحين الخبر، وأصبح الجميع مُتلقين مُنشَدّين إلى ما توصله لهم وسائل الإعلام، وما تَبُثّه من معلومات ووثائق، وأحداث ووقائع، وأخبار وصور، حيث أصبحت وسائل الإعلام الحديثة الرفيق القريب والصديق الحميم للمجتمع والأسرة والفرد، على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم الفكريّة والعقائديّة.

وسواء شئنا أم أبينا، لا بد من أنّ إحدى وسائل الإعلام الحديثة قد دخلت بيوتنا، ونازعت بعض خصوصيتنا، وفرضت إرادتها علينا في الجملة، تاركين وراءها، ركائز ثقافتنا وخصوصيتنا وبيئتنا، وربما قلبنا لها ظهر المِجن كما يقال في المثل(1)، بما تحمله

ص: 169


1- المجن: هو الترس والدرع الذي يستجنّ ويتترّس به المُحارب من ضربات العدو، والمراد هنا كناية عن تغيير الحال، ويقال: قلبت لابن عمك ظهر المجن. قال ابن الأثير: «هذه كلمة تضرب مثلاً لمَن كان لصاحبه على مودّة أو رعاية، ثم حال عن ذلك». ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث: ج1، ص308

هذه الوسائل الإعلاميّة من قدرة على التأثير والإقناع، والتجديد والإبداع، والحرية والانفتاح.

فما هو مفهوم الإعلام؟ وما هي أبرز وسائله وأدواته؟وما هي أهم أغراضه وأهدافه ومقوماته؟وما هي سمات وخصائص الإعلام الإسلامي؟ وما هو الوجه الفقهي للإِعلام في المنظور الإسلامي؟ وما هو دور المنبر الحسينيّ، وأثره الإعلامي في المجتمع الإسلامي أُنموذجاً؟

وسيكون عرض صورة البحث على نحو الإيجاز والبيان؛ إذ يعتبر هذا البحث كمدخل لدراسةٍ أوسع لفقه الإعلام في المنظور الإسلامي.

الإعلام لغةً واصطلاحاً:

الإعلام في اللغة: يُعبّر عن عدة معانٍ، كمعرفة الش-يء، أو الإخبار ونش-ر المعلومات، أو الدعوى والتبليغ.

فلفظة الإعلام مشتقَّة من كلمة (علم)، ومعناها معرفة الشيء على حقيقته، وأيضاً تأتي الإعلام بمعنى الإخبار، وأعلمْ بالش-يء، أي: أبلغْ عنه وأخبرْ به، ومنه التعليم أي: تبليغ المعلومات وإيصالها.

فهي معانٍ مترادفة لمفهوم انتقال المعلومة وانتشارها في المجتمع من جِهةٍ ما، فرداً أو جماعة أو مؤسسة؛ لِتَكون لغةً للتفاهم والتفاعل، والتواصل والمشاركة بين أفراده، في ضِمن حدودهم الثقافيّة والبيئيّة.

أما في الاصطلاح: فهو: «نشر الحقائق والأخبار والأفكار والآراء بين الجماهير بوسائل

ص: 170

الإعلام المختلفة، كالصحافة والإذاعة والسينما، والمحاضرات والندوات والمؤتمرات، والمعارض وغيرها؛ وذلك بُغية التوعية والإقناع وكسب التأييد»(1).

وقيل: «هو مجموعة الوسائل الهادفة إلى تحقيق الاتّصال ونقل المعلومات والمعارف بموضوعيّة، بُغية الإخبار والتوجيه وتشكيل رأي الأمّة إزاء القضايا المطروحة»(2).

وهناك معانٍ متعددة أُخر لتعريف وبيان مصطلح الإعلام، حاولنا لملمتها من هنا وهناك؛ لبيان وتوضيح المصطلح بأوسع الدلائل وأقرب المعاني هو: تزويد الناس بالأخبار الصحيحة والأحداث الواقعة، ونش-ر المعلومات السليمة، ونقل الحقائق الثابتة والمعارف والعلوم الراقيّة، وانتقاؤها والتدقيق في صحتها، بناءً على وجهة نظرٍ ما، وفق سياسة هادفة، وغاية مرسومة، وحسب منهج تربوي معيّن، بغية تكوين رأي صائب في الأمّة، إزاء القضايا المعروضة، ومشكلة من المشكلات عند الجماهير، بحيث يعبّر هذا الرأي تعبيراً موضوعياً عن آراء الناس واتجاهاتهم وميولهم، كما يؤدي إلى تشكيل اتجاه الرأي داخل المجتمعات، هذا من أهم أغراضه وعوامله.

وسائل الإعلام

يقوم العمل الإعلامي على شكل من أشكال الاتّصال بالآخر لتبليغه فكرةً ما، وتتنوّع طرق وأشكال الاتّصال والتواصل، فقد تتمظهر بعدَّة مظاهر، كالخطب المنبرية، أو الندوات التثقيفيّة وحلقات الحوار، أو طبع المؤلفات والكتب ونش-ر الروايات، كالمجلات والجرائد، انتقالاً إلى الرسائل الصوتية والمرئية كالإذاعة

ص: 171


1- د. أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات الإعلام: ص83 -84.
2- اُنظر: د.محمد على العويني، الإعلام الإسلامي الدولي بين النظرية والتطبيق

والتلفزيون، وصولاً إلى القنوات الفضائية، وإلى وسائل الفن الدرامي، كالتمثيل في المس-رح والسينما، ومعارض الفن التشكيلي، وغير ذلك من الطرق والوسائل والأشكال المتعددة والمتجددة، والتي تعرف ب-(وسائل الإعلام).

فكل أداة تنقل الآراء والأفكار والرؤى إلى الناس هي في الحقيقة وسيلة إعلاميّة، فهي القناة أو الرابط التي يَعْبُر منها الرأي إلى الناس، وفي الغالب أساسها الكلمة أو القول.

إذن؛ وسائل الإعلام: هي مجموعة الأدوات والآلات التي من خلالها يُعبّر صاحب الرسالة الإعلاميّة عن آرائه وأفكاره، وينقل آراءَه ومعارفه - أي مضمون الرسالة وماهيتها - إلى المتلقين أو المستمعين، بشكل مباشر أو غير مباشر، على اختلاف أنواعها وطرقها: كالإذاعة، أو التلفزيون، أو المس-رح، أو الصحافة المقروءة، أو المؤتمرات، أو المنبر ونحو ذلك.

هذا، وإنّ الفكرة هي أساس العمل الإعلامي، وقد تكون سياسيّة أو دينيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة، ويجب أن تكون الفكرة واضحة ومفهومة، وأن تتمكن من أن تحقق فعلاً التأثير والاستجابة، والسلوك المطلوب من المتلقي، وأن تخدم مصالحه، وأن يكون في حاجة إليها، وتتمشّى مع الصالح العام(1).

مقومات العمل الإِعلامي

إنّ مقومات العمل الإعلاميّ وقاعدته ترتكز على أربعة عناصر أساسيّة وثابتة، لا

ص: 172


1- اُنظر: د. أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات الإعلام: ص85.

يمكن الاستغناء عن أحدها؛ لتكامل الصورة الإعلامية والهدف المنشود من ذلك، وهي:

الركيزة الأُولى: الإعلاميّ أو صاحب الرسالة الإعلاميّة.

الركيزة الثانية: المستمع والمتلقي والمخاطب، فرداً كان أو جماعة.

الركيزة الثالثة: الرسالة أو المضمون للطرح - من فكر أو ثقافة أو معلومة أو خبر ونحو ذلك - إلى المستمع والمتلقي والمخاطب.

الركيزة الرابعة: الأداة أو الوسيلة الإعلاميّة التي تكون الواسطة بين الإعلاميّ والمتلقي، سواء أكان المنبر أم الصحيفة أم الإذاعة أم القناة الفضائيّة ونحو ذلك.

إِن رسالة الإعلام رسالة سماويّة، أخلاقيّة تربويّة، نظير رسالة الأنبياء والأوصياء والعلماء، إن لم تكن مُكَمّلة لها.

فلا بد أن تُبنى الرسالة الإعلاميّة على عُروضٍ عالية المضمون، سليمة الفكر، ذات هدف سامٍ، بما يخدم الأمّة وأبناءها، بعيداً عن الخداع والتَّضلِيل والمراوغة، والانحراف الفكري والأخلاقي والعقائدي، وهذا هو الهدف الأساس الذي تُبنى عليه رسالة الإعلام، وسلوك الإعلاميّ الملتزم.

الإِعلام الإِسلامي

الإعلام الإسلاميّ: هو إِعلام رساليّ داعويّ بنَّاء، وأسلوب من أساليب التأثير في الجماهير والرأي العام بشأن العقيدة الدينية، وهو أكبر من مجرد عمليّة الإخبار أو الإعلام؛ لأنه يفترض وجود علاقة ولاء قائمة أو ممكنة، فهو ليس دعاية؛ لأنه

ص: 173

يرفض كل تشويه أو تمويه(1).

ويطلق على الإعلام الإسلامي في القرآن الكريم التبليغ أو البلاغ، وهو نقل الحقائق والإرشادات السماويّة للناس، دون كذب أو تحريف أو زيف، وهي مهمة رسول الله صلی الله علیه و آله والأنبياء والأوصياء والأولياء، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾(2)، وقوله(عزَّ وجلَّ):﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ﴾(3)، وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ من رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ من النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(4).

فالإعلام الإسلامي هو عمليّة نقل المعلومات والحقائق إلى المتلقي بطريقة إسلاميّة؛ فإنه يتصف بكونه إِعلاماً ذا مبادئ أخلاقيّة عالية، وأحكام سلوكيّة راقية،ومبانٍ قِيَميِّة سامية، تكون مستمدة من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، ومستوحاة من سيرة النبي الكريم محمد صلی الله علیه و آله ، وأهل بيته الأطهار علیهم السلام .

ويجب أن يكون إعلاماً واضحاً غير مشوّش، وصريحاً ليس فيه ضبابية، وشفافاً لا يكتنفه الغموض، عفيف الأُسلوب والعرض، نظيف الوسيلة والطريق، شريف القصد والهدف، ويتميز بأن غايته الحق، وقوله الصدق، لا يضلّ ولا يُضلل، ولا يتبع الأساليب الملتوية ولا الدنيئة في العرض والبيان، ولا يسلك سبل التغرير والخداع والكذب... بل طريقه التثبّت والدقّة والوضوح والاستقامة النابعة من حقيقة الإسلام، وعقيدة المسلم المبنيّة على تحري مَواطن العلم واليقين بالأُمور،

ص: 174


1- اُنظر: د. أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات الإعلام: ص130.
2- العنكبوت: آية 18.
3- الشورى: آية 48.
4- المائدة: آية67.

والابتعاد عن مَواطن الظن والوهم، والشبهة والريبة، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾(1). أسلوبه اللِين والحكمة، والإرشاد القويم في الدعوة إلى منهج الدين الحنيف، كما أمر الباري رسولَه الكريم صلی الله علیه و آله ، فقال(عزَّوجلَّ): ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(2) ، ثم مدحه تبارك وتعالى على أسلوب تعامله مع الناس وطريقة دعوته في نش-ر الرسالة الإسلاميّة، فقال(عزَّوجلَّ): ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ من اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا من حَوْلِكَ﴾ (3).

كما أمر هارونَ وموسى علیهما السلام عندما أرسلهما إلى فرعون، فقال لهما:(عزَّ وجلَّ) ﴿... اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (4).

فإن هذا الأُسلوب والطريقة في الدعوة والعرض تبعث روح التآخي والمودة في المجتمع الإسلاميّ، وتزرع الألفة والمحبة بين أبنائه على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم، تمسكاً بقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾(5).

إنّ الإِعلام الإسلاميّ يعتمد على كافة الوسائل الإعلاميّة المتاحة في المجتمع الإسلامي والإنساني، من وسائل مقروءة أو مسموعة أو مشاهدة، أو إقامة الندوات والبرامج والمؤتمرات، بعروض وموضوعات هادفة وموجّهة ومُحَكّمة.

هذا، وقد كانت للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسائله - التي نقلها لنا التاريخ - في تبليغ الرسالة

ص: 175


1- الإسراء: آية 36.
2- النحل: آية 125.
3- آل عمران: آية 159.
4- طه: آية 42-44.
5- آل عمران: آية 103.

وإيصالها إلى الناس، فتراه صلی الله علیه و آله تارة يدعو الناس على شكل ندوات أو مؤتمرات - إن صح التعبير - وذلك عندما جمع عشيرته وأهله ودعاهم ليبلغهم رسالته عندما نزل قوله تعالى:﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾(1).

وتارة استغلّ جانب التجمعات والمواسم العامّة: كالحج والعمرة، ومواسم التجارة لإلقاء الخطب على الناس، وعرض الدين الجديد عليهم، وبيان أحكامه وسننه وتشريعاته.

كما أنه صلی الله علیه و آله استغلّ منبر الشعر والشعراء في الدفاع عن الإسلام، والذبِّ عن أعراض المسلمين، وكان من الأدوات الإعلاميّة الفاعلة في ذلك المجتمع.

كما جعل الخطب في الصلوات الجامعة، وخطب صلاة الجمعة والعيد وغيرها من الوسائل الإعلامية المهمة، التي سخّرها في نشر تعاليم الدين الجديد، وتركيز عقائده، ونش-ر مفاهيمه ومبادئه بين المسلمين، ونحو ذلك من الوسائل في حدود ذلك العصر.

الإعلام الإسلامي أهم وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إن جميع الأُمور والوسائل الإعلاميّة تجمعها ضابطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بش-روطه وأحكامه، التي روحها وديمومتها كل ما هو حَسن من القول أو العمل أو السلوك المعتدل في المجتمع الإنساني.

إن القيام بمسؤولية الإعلام الإسلاميّ الهادف - وعَرْض معالم الفكر الإسلامي

ص: 176


1- الشعراء: آية 214.

النَيّر، ودفع الشبهات والأباطيل عن الدين الحنيف ورجاله المخلِصين، وفضْح الأراجيف الزائفة، التي تحاك ضد المجتمع الإسلامي وأبنائه، وبيان الحقائق الناصعة ونش-رها، والأخبار الواقعيّة من مصدرها- يُعدّ من الواجبات الكِفائية الأساسية، ومن المرتكزات الدينيّة الثابتة في الدين الإسلامي؛ بدلالة قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾(2).

فنرى أن الله تعالى قد مدح الأمّة ب-(الخَيريّةِ) حال كونها تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما مدحها بالإيمان به (عزَّ وجلَّ)، وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدلّ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

كما حضّ عليه(عزَّ وجلَّ) وأمر به، في وصيّة لقمان الحكيم لابنه؛ إذ قال(عزَّ وجلَّ) على لسان لقمان: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ من عَزْمِ الأُمور﴾ (3).

وروي عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنه قال: «لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء»(4).

وروي عن أبي جعفر علیه السلام أنه قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله : من طلب مرضاة الناس بما

ص: 177


1- آل عمران: آية 104.
2- آل عمران: آية 110.
3- لقمان: آية17.
4- الطوسي، تهذيب الأحكام: ج6، ص181.

يسخط الله كان حامده من الناس ذامّاً، ومن آثر طاعة الله(عزَّ وجلَّ) بما يغضب الناس كفاه الله(عزَّ وجلَّ) عداوة كل عدو، وحسد كل حاسد، وبغي كل باغٍ، وكان الله(عزَّ وجلَّ) له ناصراً وظهيراً»(1).

وروى جابر عن أبي جعفر علیه السلام ، قال:«يكون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراؤون، يتقرؤون ويتنسكون، حدثاء سفهاء، لا يوجبون أمراً بمعروف، ولا نهياً عن منكر، إلاّ إذا أمنوا الض-رر، يطلبون لأنفسهم الرُّخَصَ والمعاذير، يتبعون زلاّت العلماء وفساد عملهم، يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكلِمهم في نفس ولا مال، ولو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هنالك يتمّ غضب الله عليهم فيعمُّهم بعقابه، فيهلك الأبرار في دار الفجار، والصغار في دار الكبار.

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتَحُلّ المكاسب، وتُرَدّ المظالم، وتُعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر، فانكُرُوا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإنْ اتعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم، إنما السبيل على الذين يَظلمون الناس، ويَبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم، وابغضوهم بقلوبكم، غير طالبين سلطاناً، ولا باغين مالاً، ولا مريدين بظلمٍ ظفراً، حتى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا إلى طاعته»(2).

وروي عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام : «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من

ص: 178


1- الكليني، الكافي: ج2ص372-373.
2- المصدر السابق: ج5، ص55-56.

خلق الله، فمَن نص-رهما أعزّه الله تعالى، ومَن خذلهما خذله الله تعالى»(1).

فالواجب الشرعي على أهل الإسلام والإيمان، التمسكُ بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في كل الظروف والأزمان، بحسب الإمكان وشرط الصلاح.

فالإعلام الإسلامي، والتبليغ والدعوة والإرشاد، من أبرز مصاديق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا حياد فيه ولا تسامح ولا صمت، لا سيما إنكار المنكر، وإلاّ يكون (ميت الأحياء)، سواء أكان شخصاً أم جماعة أم وسيلة إعلاميّة، كما قال أمير المؤمنين الإمام علي علیه السلام : «مَن ترك إنكار المنكر، بقلبه ويده ولسانه، فهو ميت الأحياء»(2).

فإن الكلمة قد ترفع الإنسان إلى مقام الأنبياء والمصلحين بدعوته الصادقة، وكلمته النبيلة، أو بالعكس قد ينحدر إلى هوّةِ المُفسدين والمُضلليّن، إذا خان الكلمة الصادقة، وحاد عن الصِراط.

فقه الإعلام

بعد أن عرفنا أن المحور الأساس في الإعلام هو الكلام أو القول، الذي به تخاطب عقول الناس وقلوبهم، وبواسطته وعن طريقه تصل رسالة الإعلامي أو المبلِّغ أو الداعيّة إلى الناس، سواء أكان ذلك مسموعاً أم مكتوباً، ينبغي علينا معرفة وجهة نظر الشريعة الإسلاميّة تجاه الإعلام، وهو ما يعبر عنه ب- (فقه الإعلام).

وفقه الإعلام هو الطريق إلى فهم الموقف الش-رعي في المنظور الإسلامي، من

ص: 179


1- الكليني، الكافي: ج5، ص59.
2- المفيد، المقنعة: ص808 -809.

خلال أدلة وأقوال الشارع المقدس، وفحوى خطابه، وفنون بيانه، في ضمن مقاصده الش-رعيّة التي رسمتها الش-ريعة المقدسة، وأهم غاياتها وأهدافها، في إطار الأحكام الشرعيّة.

وحيث إن للإعلام الدور البارز في التأثير في الناس - وفي صياغة عقولهم وأفكارهم، وبناء ثقافتهم، وتوجيهها توجيهاً صالحاً، ونشر الوعي بينهم نحو الأهداف المقصودة ذات المُثل العليا والقيم السامية - فقد أَولى الإسلامُ أهميةً كبرى للجانب الإِعلامي، ورعاية خاصّة؛ للاستفادة منه في نش-ر الدعوة الإسلامية وبثّ مبادئها وتعليم أحكامها.

فكان رسول الله صلی الله علیه و آله يأخذ أي وسيلة مش-روعة للدعوة والتبليغ، ويسلك أي طريق مُعبّدٍ لنش-ر رسالته وإعلانها، بأشكال متعددة وألوان متنوعة، وحسب المقتض-ي والحال.

كما يجب أن يُبنى الإعلام على الصدق والحقائق الموضوعيّة، بعيداً عن الكذب والتَّضليل وقلب الحقائق، والترويج للأفكار المنحرفة أو المشككة أو الهدّامة، فضلاً عن الفساد الفكري والأخلاقي؛ بمحاكاة الغرائز والعواطف، ونش-ر الرذيلة.

وأن يكون إعلاماً ملتزماً بالأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة والتعاليم الإسلامية، يسمو بالمجتمع إلى أدبيّات وسلوكيّات راقية، وأفكار وآراء واعية، تنسجمُ مع الأهداف النبيلة، التي تسعى إلى إقامتها الش-ريعة الإسلاميّة بين الناس، وأن يحترم الإنسانَ ويقدس العقلَ، ويخاطبهما بالمنطق السليم.

ص: 180

فقه الإعلام في الكتاب العزيز

إنّ عمدة ما يُستدل به من القرآن الكريم على فهم الموقف الش-رعي في المنظور الإسلامي لفقه الإعلام، وما يرسم طريقه ونهجه - فيما أحسبه - هو قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾(1).

والحُسن هو ضد القُبح، الذي هو كل ما خالف الش-رع والعقل، والناموس والعرف، والخلق الحسن والعادات الطيّبة في المجتمع، بل هو كل دعوى إلى الانحراف والانحلال عن السلوك المستقيم، والطريق السويّ للمجتمع الإسلامي الملتزم.

فالمراد من القول الحسن هو كل ما يوصل إلى القول والعمل بالمعروف شرعاً وعقلاً وعرفاً، والالتزام به والحثّ عليه، قولاً أو فعلاً أو سلوكاً، وتُلازمه الدعوةُ إلى النهي عن كل منكر وقبيح، شرعاً وعقلاً وعرفاً، والحثّ على الابتعاد عنه، قولاً وفعلاً وسلوكاً، وذلك في حدود أحكام الشريعة الإسلامية وثقافتها العامّة، قال تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ من رَبِّكُمْ﴾ (2)، بعيداً عن تجريح الآخرين والتنكيل بهم، وإن خالفوا الدين والعقيدة والمذهب، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (3).

وعلى هذا؛ يؤسّس الإعلام الإسلاميّ الملتزم، ويوجه لبناء مجتمع عقائدي واعٍ، متماسك وصالح.

ص: 181


1- البقرة: آية 83.
2- الكهف: آية 29.
3- الممتحنة: آية 7.

فالحسن هو اسم جامع عامّ يضمُّ جميع معاني الحسن، من الخير والصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونش-ر معالم الدين، واللِين في القول، والابتعاد عن إشاعة الرذيلة والفاحشة، واللغو وقبيح القول والفضول فيه، والدعوة إلى التعايش السلمي بين أبناء المجتمع، بل كل ما اندرج تحت معنى الحسن، وبه صرّحت جملة من الروايات الش-ريفة:

منها: ما رواه الشيخ الكليني بسنده، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر علیه السلام ، قال - في قول الله(عزَّ وجلَّ): ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ : «قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم»(1).

ومنها: ما روي في الكافي عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله علیه السلام - في قول الله(عزَّ وجلَّ) : ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ - قال: «قولوا للناس حسناً، ولا تقولوا إلا خيراً حتى تعلموا ما هو»(2). فإنّ العلم بما يأمر به الإعلامي، والمعرفة بما يدعو إليه، وينهى عنه، من أهم شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من أساسيّات العمل الإعلامي التبليغي.

والقَولُ الحسن، يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم المسائل والأحكام، والإرشاد إلى منافع الدنيا والآخرة، وكل ذلك يندرج في قوله علیه السلام : «ولا تقولوا إلا خيراً حتى تعلموا ما هو».

ولما كانت بوادر اللسان وآفاته كثيرة، نهى عن القول من غير تَفَكُّر، وأمرَ بإحضار القلب، وهو التفاته إلى معرفة حقيقة الشيء أولاً، ثم التكلم بما هو الحق الخالص(3).

ص: 182


1- الكليني، الكافي: ج2، ص 164 - 165.
2- المصدر نفسه: ج2، ص 165.
3- المازندراني، شرح أُصول الكافي: ج 9، ص 31.

وقال الشيخ الطبرسي: «واختُلف في معنى قوله (حُسْنًا)، فقيل: هو القول الحسن الجميل، والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه، عن ابن عباس. وقيل: هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، عن سفيان الثوري. وقال الربيع بن أنس: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ أي: معروفاً.

وروى جابر عن أبي جعفر الباقر علیه السلام - في قوله : ﴿قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله يبغض اللّعّان السبّاب الطعّان على المؤمنين، الفاحش المتفحش السائل الملحف، ويحب الحليم العفيف المتعفف.

ثم اختُلف فيه من وجه آخر، فقيل: هو عامّ في المؤمن والكافر، على ما روي عن الإمام الباقر علیه السلام . وقيل: هو خاص في المؤمن.

واختلف مَنْ قال: إنه عامّ، فقال ابن عباس وقتادة: إنه منسوخ بآية السيف، وبقوله علیه السلام : قاتلوهم حتى يقولوا: لا إله إلا الله، أو يقرّوا بالجزية. وقد روي ذلك أيضاً عن الإمام الصادق علیه السلام .

وقال الأكثرون: إنها ليست بمنسوخة؛ لأنه يمكن قتالهم مع حُسن القَولِ في دعائهم إلى الإيمان، كما قال الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(1)، وقال في آية أُخرى: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ من دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾(2) »(3).

على أنه يستفاد من بعض الآيات الش-ريفة الأُخرى نفس المضمون والدلالة،

ص: 183


1- النحل: آية 125.
2- الأنعام: آية108.
3- الطبرسي، تفسير مجمع البيان: ج1، ص286.

منها: قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا﴾(1)، أي: قولاً صحيحاً.

وقال الشيخ الطوسي: «﴿قَوْلاً سَدِيدًا﴾، هو السليم من خلل الفساد، وذلك الحق بالدعاء إلى العدل... وأصل السديد من سدِّ الخلل، تقول: سددته أسدّه سدّاً، والسَداد: الصواب، والسِداد - بكسر السين - من قولهم: فيه سِداد من عوز، وسدد السهم: إذا قوَّمه»(2).

وقال أيضاً: «﴿قَوْلاً سَدِيدًا﴾، أي: صواباً بريئاً من الفساد، خالصاً من شائب الكذب والتمويه واللغو»(3).

وقال الشيخ الطبرسي: «﴿قَوْلاً سَدِيدًا﴾، أي: موافقاً للشرع»(4).

وأما الزمخش-ري في (الكشّاف)، فقال:«﴿قَوْلاً سَدِيدًا﴾، قاصداً إلى الحق، والسداد: القصد إلى الحق والقول بالعدل، يقال: سدّد السهم نحو الرَّميَّةِ، إذا لم يعدل به عن سمتها، كما قالوا: سهم قاصد... وعدل في القول، والبعث على أن يسدّ قولهم في كل باب؛ لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله، والمعنى: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتسديد قولكم، فإنكم إنْ فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة من تقبل حسناتكم والإثابة عليها، ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها. وقيل: إصلاح الأعمال: التوفيق في المجيء بها صالحة مرضيّة... وهذا على الأمر باتّقاء الله تعالى في حفظ اللسان»(5).

ص: 184


1- الأحزاب: آية70.
2- الطوسي، التبيان: ج3، ص 124 - 125
3- المصدر السابق: ج8، ص 366
4- الشيخ الطبرسي، تفسير جوامع الجامع: ج1، ص 376.
5- الزمخشري، الكشاف عن حقائق التنزيل: ج3، ص 276.

ومن الآيات الكريمة قوله تعالى:﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا﴾(1)، وقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا﴾ (2)، أي: قول الخير، وطلب الحلال، والبرِّ والصلة ونحو ذلك.

وقال تعالى: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ من صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾(3).

وقال(عزَّ وجلَّ): ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾(4).

وقال سبحانه وتعالى:﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي من الْمُسْلِمِينَ﴾(5).

وقال عز من قائل: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا﴾(6)، وأشباه ذلك، مما فرضه الله(عزَّ وجلَّ) لعمل اللسان، وأن يكون عليه حقيقة القول والبيان، في التبليغ والإعلان.

وهذه الآيات الكريمة يجمعها قول الحق مطلقاً، كما في قوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ من رَبِّكُمْ﴾(7)، الذي أمر به المولى(عزَّ وجلَّ)، ودعا إليه، وأرسل الأنبياء والرسل للدلالة عليه، وأنزل الصحف والكتب السماويّة؛ لبيانه وتوضيحه للعالمين أجمع.

ص: 185


1- النساء: آية5
2- البقرة: آية 235.
3- البقرة: آية263
4- محمد: آية21.
5- فصلت: آية33.
6- النساء: آية63.
7- الكهف: آية 29.

فقه الإعلام في السنّة الشريفة

قد مرَّ عليك أنّ من أبرز مصاديق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الإعلام الإسلامي والتبليغ والدعوة والإرشاد، بكل أشكاله وتعابيره وصوره، الصادقة، الهادفة، الواقعيّة، التي تنبع من روح الدين الإسلامي وتغرس الفضيلة بين أبناء المجتمع، بأسلوب رصين متزن.

يمكن أن يُستدل بمجموعة كبيرة من المرويات في هذا الباب، فيمكن تطبيقها في فهم الموقف الشرعي في المنظور الإسلامي لفقه الإعلام، وحيث لا يسع المجال لس-رد العديد من الروايات، ونرى أنَ أقرب الروايات لبيان ذلك، هو ما ورد في وصيّةٍ للإمام جعفر الصادق علیه السلام يوصي بها شيعته ومحبيه، فيما رواه سليمان بن مهران، قال: «دخلت على الصادق جعفر بن محمد علیهما السلام وعنده نفر من الشيعة، فسمعته وهو يقول: معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفوها عن الفضول، وقبيح القول»(1).

فمعنى قولهِ علیه السلام : «كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً»، أي: كونوا من أهل الورع والتقوى والعمل الصالح؛ لتكونوا زينة لنا؛ فإنّ حُسن شمائل أتباع الرجل زينة له؛ إذ يمدحونه بحسن تأديب أصحابه، بخلاف ما إذا كانوا فسقة؛ فإنه يصير سبباً للتشنيع على رئيسهم، ويكونون شيناً وعيباً عليه.

وعمدة الغرض في هذا المقام رعاية التقيّة وحُسن العش-رة مع المخالفين؛ لئلاّ تصير مخالفة هذه الصِفات سبباً لنفرتهم عن أئمتهم، وسوء القول فيهم، بقرينة ما

ص: 186


1- الطوسي، الأمالي: ص440.

بعده: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، وفيه تضمين للآية الكريمة، والتي بيّنا مضمونها ودلالتها قبل قليل.

ثم قال المجلسي: «عمدة الغرض هنا حسن القول مع المخالفين تقيةً، وك-ذا المراد ب-(حفظ الألسنة) حفظه-ا عمّا يخالف التقيّة، و(الفضول) زوائد الكلام، وما لا منفعة فيه»(1).

والقول القبيح هو: كل ما خالف الش-رع والعقل، والناموس والعرف، والخلق الحسن والعادات الطيّبة في المجتمع، بل هو كل دعوى إلى الانحراف والانحلال عن السلوك المستقيم، والطريق السويّ في المجتمع الإسلامي الملتزم، وتمزيق وحدته، وتعايشه السلمي واستقرار أبنائه.

فالإعلامي الملتزم أو المبلغ الرسالي عليه الابتعاد عن العبارات القاسية والخشنة والقبيحة، التي تثير كوامن النفوس ودخائل القلوب، وتهيج العواطف والأحاسيس، وتستنفرها إلى دائرة الجهل والعصبيّة؛ لأنَّ بادرة اللسان وزلاّته كثيرة، فنهى الإمام علیه السلام عن القول من غير تَفكُّر ودراية وحضور للقلب؛ ليقف على حقيقة الشيء ومعرفته، حتى يتكلم بما هو الحق والواقع، فعن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه علیهم السلام ، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله : رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت عن سوء فسلم»(2).

قال الفخر الرازي: «قال أهل التحقيق: كلام الناس مع الناس: إما أن يكون في الأُمور الدينيّة، أو في الأُمور الدنيويّة.

ص: 187


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار: ج 65ص152-153.
2- ابن بابويه القمي، الإمامة والتبصرة: ص37.

فإن كان في الأُمور الدينيّة: فإما أن يكون في الدعوة إلى الإيمان وهو مع الكفار، أو في الدعوة إلى الطاعة وهو مع الفاسق. أما الدعوة إلى الإيمان، فلا بد وأن تكون بالقول الحسن، كما قال تعالى لموسى وهارون: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاَ لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾(1)، أمرهما الله تعالى بالرفق مع فرعون مع جلالتهما ونهاية كفر فرعون وتمرده وعتّوه على الله تعالى، وقال لمحمد صلی الله علیه و آله : ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا من حَوْلِكَ﴾(2).

وأما دعوةُ الفسّاق، فالقول الحسن فيها معتبر؛ قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(3)، وقال: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(4).

وأما في الأُمور الدنيويّة، فمن المعلوم بالض-رورة أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض بالتلطف من القول لم يحسن سواه.

فثبت أنّ جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾»(5).

فقه الإعلام بين حكم الإجماع والعقل

لا يختلف اثنان من المسلمين - على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم - في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان إجماعاً عند عامّة المسلمين، مضافاً إلى ما تقدم من الكتاب العزيز والسنّة والمطهرة، وهذا الإجماع ثابت بين عموم المسلمين.

ص: 188


1- طه: آية 44.
2- آل عمران: آية159.
3- النحل: آية 125.
4- فصلت: آية34.
5- الفخر الرازي، تفسير الرازي: ج3، ص 169.

والإعلام - محتوى ومضموناً - من أهم وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما مر، حيثُ يتّصف بإعلام فضيلة لا رذيلة، إعلام حقيقة ومعرفة لا خداع وجهل، إعلام تسوده لغة القرآن الكريم وتحوطه مفاهيمه الواضحة، ويرتكز على هديّ السنّة المطهرة الثابتة، ودلالاتها على مختلف المحاور والاتجاهات، فيلحقه بذلك حكم إجماع المسلمين أيضاً.

بل أجمعت على نش-ر الفضيلة والمعرفة والتآخي بين عموم أفراد المجتمع - على اختلاف وسائل الإعلام وتعددها - كافة الش-رائع السماوية.

ولا أغالي إن قلت: أجمع على ذلك عموم المجتمع الإنساني السليم؛ حيث يرى أن الإعلام الملتزم يجب أن ينحُوَ هذا الطريق، ويسلك هذا المنهج، في نش-ر ذلك، بكل ما لهذه الكلمة من معنى، بعيداً عن الإعلام المضلل الذي يتّخذ من النظرية الميكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة) شعاراً له، بالفكر والأُسلوب، والعرْض والمنهج، فيضل ويضلل، ويشوّه ويشوّش، ويبثّ روح الفرقة والتكفير بين عموم المسلمين، وزرع الكراهية والشحناء، وسفك الدماء بين أبناء الأمّة؛ لأن الإنسان محترم ومكرم عند الله(عزَّ وجلَّ)، وكذلك يجب أن يكون في المجتمع الإنساني مُحترماً ومُصاناً، فإنْ لم يكن يربط أبناءه رباط العقيدة والدين، فإنه خلق مثلهم مكرم من الله تعالى، قال أمير المؤمنين علي علیه السلام - في عهده لمالك الأشتر عندما أرسله والياً على مصر -: «وأشعِر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم؛ فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق»(1).

ص: 189


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبده: ج3، ص84.

هذا، وإِن العقل مما يستقلّ بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير حاجة إلى أمر الشارع المقدس، وبه يلحق حكم الإعلام أيضاً.

أما ما يُعرض على بعض وسائل الإعلام المتنوعة، العالميّة منها والإقليميّة والمحليّة، من نش-ر الأكاذيب، وقلب الحقائق، وتزوير الوقائع، وترويج للرذيلة والفحشاء، بمقدماتها ولوازمها، وعَرْض الأفكار المنحرفة والضالة، عبر وسائلهم الإعلاميّة الظلاميّة، بصور متنوعة، وأشكال جميلة برّاقة، وألوان زاهية جذَّابة، بتقنيّات عالية راقية؛ فإن ذلك مِما يمقته العقل السليم، وينأى عنه الحكماء والعقلاء وأصحاب الفضيلة، فضلاً عن أهل الش-رع والدين.

فإن هذه الأُمور من مبتدعات الشيطان وأبنائه، على تنوّع مسمياتها واختلافها، من الحركات الماسونيّة والصهيونيّة العالميّة، ودول الاستكبار والاستعمار ونحو ذلك، التي تحاول السيطرة على مقدرات الشعوب وإرادتها، وتحجيم طموحها وآمالها، بالسيطرة على مفاصل حياتها، وثوابت تفكيرها، للتحكم بعقولها ورؤيتها لواقعها الخاص، بما يُحاك ويُنظر لها من واقع مغاير لواقعها تماماً، من خلال هذه الوسائل الإعلامية المضللة، وتحت مصطلحات برّاقة وموضوعات رنّانة: كالحداثة والتقدّم، والتحرّر والانفتاح والعَوْلمة، ونحو ذلك من العناوين التي كأنّها الس-راب في الواقع والتطبيق في الجملة، وأشبه ما تكون ص-رخة من صرخات (المُوضة) والتغيير الشكلي والظاهري.

ذلك ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ

ص: 190

لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾(1)؛ فيتوجه الخطاب إلى المؤمنين في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ من أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(2).

المنبر الحسيني أُنموذجاً

المنبر الحسينيّ وسيلة من وسائل الإعلام الإسلاميّ الفاعلة في الدعوة والإرشاد والتبليغ، والمؤثرة في أبناء المجتمع الإنساني عموماً والإسلامي خصوصاً، وإنْ كان يحمل خصوصيّة التعريف بالنهضة الحسينيّة، وبيان أهدافها، وتوضيح أسبابها وأهم غاياتها، مع استعراض لمظلوميّة الإمام الحسين علیه السلام بأسلوب عاطفي، وبيان ما جرى عليه من الظلم والقتل والتنكيل والتعسف اللا إنساني واللا أخلاقي من قِبَل الأُمويين وأتباعهم، وما جرى على أهل بيته وأصحابه في معركة الطف، في العاشر من محرم الحرام سنة 61 للهجرة، مما يندى له جبين الإنسانيّة، فضلاً عن العروبة والإسلام.

فالأُسلوب العاطفيّ هو الذي تبنّاه أئمة أهل البيت علیهم السلام في استذكارهم لواقعة الطف المؤلمة، وما جرى فيها من الفجائع والمصائب على سيد الشهداء الإمام الحسين علیه السلام ؛ لأن استجابة الجماهير تكون دائماً استجابة عاطفيّة أكثر مما هي عقليّة(3).

فالإثارة العاطفيّة وتحشيدها هي طريق إلى فهم ودراسة رسالة الحسين علیه السلام واستيعاب أهدافها ومضامينها.

ص: 191


1- الحج: آية53.
2- النور: آية21.
3- اُنظر: د. أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات الإعلام: ص110.

وحيث إنّ رسالة الحسين علیه السلام هي رسالة جده المصطفى، وأهدافها أهداف الإسلام، ومسيرته مسيرة جده صلی الله علیه و آله في الإصلاح والبناء والتكامل الإيماني والإنساني، ومصداق لقول جده رسول الله صلی الله علیه و آله :«حسين مني وأنا من حسين» (1).

فإنّ رسالة المنبر الحسينيّ هي رسالة الإسلام، ومنهجه الدعوة للإيمان والإصلاح والتكامل الإنساني، وعلى ذلك؛ لا بد أن تكون رسالة الخطيب الحسينيّ رسالة الإسلام، وأهدافها عين أهدافه، ومضمونها هو مضمون رسالة الحسين ودعوته.

فكما أن الحسين علیه السلام كان ممثّلاً عن رسول الله صلی الله علیه و آله في دعوته ومنهجه الذي يمثّل حُكم الله(عزَّ وجلَّ) في أرضه، فكذلك الخطيب الحسينيّ المفترض أنه يمثّل الحسين علیه السلام في دعوته ونهضته وأهدافه على منبره.

أهداف نهضة الحسين علیه السلام وشعارها

إنّ الإمام الحسين علیه السلام لم يخرج في نهضته لأهداف دنيويّة ولا لمصالح آنية، ولا طالباً لسلطة أو مال أو جاه؛ فإنه علیه السلام قد ملك أسباب ذلك كله، وحاز أصولَها وفروعها، وقد استغنى عنها، شرفاً ونسباً، علماً ومكانةً، إخلاصاً وإيماناً، غنىً وكرماً، شجاعةً وحلماً، جاهاً وتواضعاً، منزلةً وزهداً، إباءً ومروءةً، مع احتياج الكل إليه في ذلك.

ولكنها حميّة الرسول على ضياع الرسالة، وخوف الوصيّ من إهمال الوصيّة، وحرص المؤمن على حفظ صورة الدين؛ ولذلك قال علیه السلام عند مسيره إلى كربلاء: «إنّ هذه الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، فلم يبقَ منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في

ص: 192


1- الطبري، ذخائر العقبى: ص133.

لقاء الله محقَّاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلاّ برماً»(1).

ثم رفع شعاره في الخروج على الظالمين والمنافقين، الذين اتّخذوا الدين غطاءً يتسترون به لإخفاء موبقاتهم ومفاسدهم وجرائمهم، وأعلن عن أهداف نهضته، فقال علیه السلام :«وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي صلی الله علیه و آله ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب علیه السلام ، فمَن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومَن رد عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين»(2).

أهداف المنبر الحسيني

لقد أعلن الإمام زين العابدين علیه السلام أهداف المنبر الحسيني عندما قام بين يدي الطاغية يزيد، وقال له: «يا يزيد، ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد، فأتكلَّم بكلمات لله فيهن رضا، ولهؤلاء الجلساء فيهن أجر وثواب»(3)، فهذا هو الهدف السامي للمنبر، وما يعرض عليه من القيم الراقية والمُثل العليا.

فإنَّ المنبر الحسيني برفعه الشعار الحسينيّ العظيم، قد أقضَّ مضاجِع الحُكّام والطواغيت، وأربك المنافقين وأعداء آل محمد، وحيّرَ التبشيريين والمستشرقين، ثم أنه بنى مجتمعاً ولائياً مخلصاً، وَرَسَّخَ فيه العقيدةَ المحمديّة الصادقة، ورسم لهم دروب التضحية والوفاء، ورفعَ بينهم راية الحريّة والإباء.

ص: 193


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول: ص245.
2- المجلسي، بحار الأنوار: ج44، ص329 - 330.
3- المصدر نفسه: ج45، ص137.

المنبر الحسيني وسيلة إعلامية فاعلة

الخطيب الحسينيّ هو الإِعلاميُّ الملتزم بأهداف نهضة الحسين علیه السلام ، والمتمسك بشعارها ومنهجها ومسيرتها، ومنبره هو الوسيلة الإعلاميّة الحيَّة والمباشرة، التي يتواصل عبرها الإعلامي - أو الخطيب الحسينيّ - في عرْضِ أهدافه ومضمون رسالته إلى المتلقين والمستمعين من أبناء المجتمع.

فبذلك يولد التفاعلُ الحيّ والترابط الوجدانيّ بين الخطيب الحسينيّ من جهة، وبين أبناء المجتمع وطبقاته المختلفة من جهة أُخرى، ويعمّق التلاقح الفكري، والانسجام الثقافي والتّآصر التربويّ بينهما.

فالمنبر الحسينيّ يمثّل مدرسة فكريّة تربويّة ثقافيّة متكاملة، ينفتح مضمون رسالتها على كل العلوم الدينيّة والتاريخيّة والأدبيّة، والعلميّة والاجتماعيّة والإداريّة وغيرها، ومدى صلتها بحياة الأمّة ودورها في بناء المجتمع الإسلامي وتكامله، وعمق تأثرها وارتباطها بقادة الأمّة، وقوة تمسكها بأهداف رسالتهم، مع الإخلاص في العرْض والمضمون.

فالخطيب الحسينيّ عليه مسؤولية شرعيّة جسيمة، ورسالة أخلاقيّة عظيمة، لا بد أن يستشعر جلالتها وأهميتها قبل ارتقاء المنبر، وأن يكون بمستوى يؤهله للرُقي والاستعداد للتكامل الروحيّ والبناء المعرفيّ.

إن هذه المسؤوليّة تحتّم على الخطيب الحسينيّ ألاّ يرتقي المنبر حتى يستحض-ر أدواته المنبريّة وإمكاناته الأدبيّة، أسلوباً ومضموناً وأداءً، وأهمّها الإخلاص وصدق

ص: 194

النيّة والهدف؛ لأن الخطابة مَلَكَةٌ رَبانيّةٌ يهبها الله تعالى للأنبياء والأوصياء والمصلحين والحكماء والرساليين، وأن يكون مقتدراً، متمكناً معرفيّاً من الموضوع الذي يَستَعرِضُهُ على المنبر، ومِلؤُهُ الثقة بطريقة أسلوبه وقيادته له، وإدارة محاوره أمام الملأ؛ حتى يملك القلوب ويأسرها، فضلاً عن العقول.

الخطيب الحسينيّ بين الإِعلام الداخلي والخارجي

وحيث إن المنبر الحسينيّ هو الوسيلة الإعلاميّة الفاعلة، والقناة التي تربط بين الخطيب الحسينيّ وأبناء المجتمع، ومع توسع هذه القناة الإعلاميّة وانتشارها، ومتابعة العالم له وتوجهه إليه، على اختلاف أديانه ومذاهبه، وتوجهاته ومُنعطفاتهِ، وذلك بفضل شيوع القنوات الفضائية وانتشار الشبكة العنكبوتية(الأنترنت)، وسهولة الحصول عليها والاتصال بها، مع التزام بعض القنوات الفضائيّة ببثّ محاضرات ومجالس المنبر الحسينيّ، لمختلف الخطباء، ومن أماكن وبلدان متنوعة، وهذا ما جعل المسؤوليّة على الخطيب الحسيني أعظم وأدق، ومهمته أكبر وأحرج، في نشر وعَرْض رسالة الحسين علیه السلام ، وفكر أهل البيت علیهم السلام من العهود السالفة؛ لأن الإعلام الخارجي المفتوح غير الإِعلام الداخلي المحصور، حيث كانت المناطق التي يقام فيها المجلس الحسيني محدودةً، وفي طبقة فكريّة وثقافيّة محصورة، في بلدان خاصة، ذات طابع عقائدي واحد في الجملة، وأنّ ما يُلقى فيها غالباً لا يتعدى هذه الجموع الحاضرة والبلدان التي تقام فيها هذه المجالس، فكانت تعطي للخطيب الحسيني جانباً من الحريّة في عرض الروايات الخاصة، ومساحة من النقاش لبعض الأُمور التي تمس عقائد الآخرين، بلا قيد أو تحجيم، وبما يتناسب مع طبيعة الحاضرين، وثقافة البلد

ص: 195

الذي أحيى هذا المجلس.

أما اليوم - وبانتشار المجالس والمحاضرات الحسينيّة في مختلف البلدان، ونقلها عبر الأثير على العديد من القنوات الفضائية- فقد أصبح المتابعون لها من المستمعين والمشاهدين يُمثّلونَ تنوّع الثقافات والاتجاهات الفكرية والعقائدية، ومختلف الديانات والمذاهب، السماويّة والوضعيّة؛ فبهذا ازدادت المسؤوليّة على الخطيب الحسينيّ وعَظُمت، واتسعت صلته بالجماهير على اختلاف ثقافاتهم، وتنوّع مفاهيمهم الفكرية.

وعليه؛ لا بد أن يختلف العرضُ والمضمون على المنبر اليوم عن العهود السابقة، المحدودة الحضور والثقافة والبلد، وأن يكون نهج الخطباء التزام ما رُوي عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي، قال:«سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا علیه السلام يقول: رحم الله عبداً أحيى أمرنا. فقلت له: وكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس؛ فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا»(1).

فإنّ التمسك بعلوم أهل البيت علیهم السلام ، والاغتراف من نمير مناهلها، وإيصال محاسن كلامهم ومعارفهم إلى عموم الناس - وكل كلامهم حسن - بالحكمة والموعظة الحسنة في الأُسلوب والعرض، مع إقامة الدليل العلميّ والبرهان والحجة، كُلّ ذلك خيرُ معينٍ في مخاطبة العقول، وأسلمُ الطرق للوصول إلى قلوب عامة الناس، والمفتاح لنش-ر فكر أهل البيت علیهم السلام إلى عموم الثقافات الأُخرى والمذاهب المختلفة؛ وبهذا يتأصّل نهجهم، ويتركّز كلامهم، وتثبت معارفهم في النفوس؛

ص: 196


1- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا علیه السلام : ج1، ص275.

تمهيداً لاتباعهم والتمسك بمنهاجهم وقبول هديهم، بعيداً عن الطعن والسُباب، والدخول في المحاور المتشنجة في العرض، الذي نأى عنه أئمة أهل البيت علیهم السلام ، من خلال سيرتهم وسلوكهم مع عموم أبناء المجتمع، على اختلاف طبقاتهم الاجتماعيّة، ومذاهبهم الدينيّة والعقائديّة، وتنوّع ثقافاتهم واتجاهاتهم؛ بما يحقق التعايش السلمي بين المسلمين عموماً، وأبناء المجتمع الواحد خصوصاً، وهذا هو السلوك القويم الذي سار عليه أهل البيت علیهم السلام ؛ تبعاً لسيرة جدهم المصطفى صلی الله علیه و آله ، الذي مدحه الله(عزَّ وجلَّ):﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ من اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا من حَوْلِكَ﴾(1)، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(2)،﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي من الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(3).

وقد روي عن أمير المؤمنين علي علیه السلام قوله:«إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم،وذكرتم حالهم، كان أَصوَبَ في القول، وأَبلَغَ في العذر»(4).

فإِنَّ وَصفَ الأفعال وعرض المواقف أقوى وأبلغ في الحجة والدليل، وأحكم في البرهان، وهذا ما يبتغيه المؤمن الحكيم، ويبحث عنه المنصف العاقل، ويتحرّاهُ طالب الحقيقة الصادق مع الذات، لا الذي يتبّع هوى النفس والجمود على رأي السلف(غير الصالح)! حيث اشتبه عليهم الحال، فأخطؤوا الطريق، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لا

ص: 197


1- آل عمران: آية159.
2- القلم: آية4.
3- فصلت: آية 33-34.
4- نهج البلاغة، شرح محمد عبده: ج2، ص185.

يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ﴾(1).

كما روي عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام أنه قال:«رحم الله عبداّ حبَّبنا إلى الناس، ولم يبغّضنا إليهم، أما والله، لو يروون محاسن كلامنا لكانوا أعز، وما استطاع أحد أن يتعلق عليهم بشيء»(2). وفي رواية أُخرى:«كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، حبِّبونا إلى الناس ولا تبغّضونا، جرّوا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح»(3).

وقال تعالى: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ من دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(4).

فإنّ سبّ الله(عزَّ وجلَّ) في الآية الكريمة- سبّهم علیهم السلام ،«وإنما نسب سبّهم إلى ذاته المقدسة تش-ريفاً وتعظيماً لهم، وليس المراد سبّ الله(عزَّ وجلَّ) حقيقة؛ لأنّ أحداً لا يسبّه، كما وقع التصريح به في بعض الروايات وبالآيات أمير المؤمنين علیه السلام ، وقد وقع التص-ريح به في بعض الروايات، وربما يؤيده تذكير الضمير في غيره»(5).

فهذا هو خُلق القرآن الكريم، وخُلق الرسول العظيم، وخُلق أهل بيته الأطهار، وهذه توصياتهم وإرشاداتهم للمؤمنين.

فعلى الخطيب الحسينيّ أن يلتزم بهذا أيَّما التِزام، فيتثبّت بالقول الحسن، وبالأُسلوب العلميّ الهادئ الرصين على المنبر، بما يرفع مكانة مَن يريد أن يوصل رسالتهم إلى الناس، ويحببهم ويقربهم إلى النفوس، ويقوِّي مودتهم في قلوبهم، وينقل

ص: 198


1- المائدة: آية104.
2- الشيخ الكليني، الكافي: ج8، ص229.
3- ابن بابويه، فقه الرضا: ص356.
4- الأنعام: آية108.
5- المازندراني، شرح أصول الكافي: ج10، ص49.

علومهم إلى العالم أجمع، في تبني عرض أفكارهم ومعارفهم، والاهتداء بسيرتهم وسلوكهم؛ فيدفع بذلك عنهم كل قبيح يحاول أعداؤهُم إلصاقه بهم وبمنهجهم كذباً وبهتاناً، ولكن بعيداً عن المهاترات والسُباب، وتجاوز حدود اللياقة في العرْض، وتجريح الآخرين.

وهذا الأمر يس-ري إلى عموم وسائل الإعلام الأُخرى: كالصحافة، ونش-ر الكتب ونحوهما.

وفي خلاف ذلك، فإن الأمر قد يجرّ السوء أو القبح إليهم علیهم السلام ، والنفور والبعد عنهم، فيكون بذلك قد شانهم، وخالف أمرهم، والعياذ بالله...

وقد قيل للإمام الصادق علیه السلام :«يا بن رسول الله، إنا نرى في المسجد رجلاً يعلن بسبّ أعدائكم ويسميهم. فقال: ما له - لعنه الله - يُعَرِّضُ بِنا؟! وقال الله تعالى: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ من دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾»(1).

وفي رسالة لأبي عبد الله الصادق علیه السلام إلى أصحابه وشيعته، جاء فيها: «وإياكم وسبّ أعداء الله حيث يسمعونكم فيسبّوا الله عدواً بغير علم، وقد ينبغي لكم أن تعلموا حدّ سبّهم لله كيف هو؟ إنه مَن سبَّ أولياء الله فقد انتهك سبّ الله، ومن أظلم عند الله ممن استسبّ لله ولأولياء الله، فمهلاً مهلاً! فاتّبعوا أمر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله»(2).

وقال تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾(3).

وأجزم أن هذا الأمر المهم اليوم أحوج ما نكون إلى الالتزام به على المنبر الش-ريف،

ص: 199


1- الصدوق، الاعتقادات في دين الإمامية: ص107.
2- الكليني، الكافي: ج8، ص7- 8.
3- الإسراء: آية 7.

والسير على هدْيه ومبناه، مع توسع قنوات الاتصال الإعلاميّة وسرعتها، وانتشارها وتنوعها؛ لإيصال علوم أهل البيت علیهم السلام ومعارفهم، التي تخاطب العقول مباشرة، وتُذْعِن لها القلوبُ مُسلّمة، صافية نقية هانئة، بلا شائبة أو دغل، إلى أقاصي بلاد الأرض، وعموم أبناء البش-ر، فتدخل إلى أروقتهم ونفوسهم بلا استئذان، ومن دون جهد وعناء وكلفة.

ثقافة الخطيب الحسيني وسلوكه

هذا وعلى الخطيب الحسينيّ أن يكون بمستوى عالٍ من الإيمان والورع، والتثبُّت والحكمة والدراية؛ لأنَّ الخطيب الرساليّ يكون مرآة للآخرين، تعكس أفعالهم وأخطاءهم، وعليه توجيههم إلى الطريق الصحيح، وأن يحذر من تقمّص السلوك الخاطئ مع نفسه، وينأى عن التلبس به؛ لأنه سرعان ما تنكس-ر صورته أمام الناس، ويهتزّ كيانه في المجتمع، فلا يُقبل منه قول، ولا يؤخذ عنه شيء، ويصبح كلامه لا أثر له ولا قيمة في نفوسهم، فيسقط عن أنظارهم، ولا تقبله قلوبهم.

وعليه أن يفهم أنّ مسؤوليته هي جزء من مسؤولية الأنبياء والأوصياء والمصلحين الرساليين، بل هو مصلحٌ رساليٌّ وسفيرٌ للحسين علیه السلام ولسانه الناطق، وسيفه الضارب على الجاهلين والظالمين والمارقين، شجاعٌ في العَرْض، لا يَهاب أحداً ما دام على الحق، وناطقاً بالصدق، وأن يكون أهلاً لهذه الصفة الكريمة، وصادقاً في تحمُّل هذه المسؤولية الرساليّة.

إنّ المسؤوليّة الرساليّة تُحتّم عليه أن يكون كلامه فيما يرضي الله(عزَّ وجلَّ)، ويقرّب إلى رحمته ورضوانه، في كل ما ينفع الناس في دنياهم وآخرتهم، ويثبّت إِيمانهم

ص: 200

ويُقوِّي عزيمتهم، فلا يشتري مرضاة المخلوق بسخط الخالق، وأن لا يكون أداة يلهو بها الشيطان، يستفرغ سمومه وغوائله عن طريقه، فيكون مفسداً في الأرض، فعن أبي جعفر الباقر علیه السلام ، قال:«من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن الله(عزَّ وجلَّ) فقد عَبَدَ الله، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبَدَ الشيطان»(1).فإنّ ما يرضي الله تعالى فيه الأجر والثواب، كما فيه صلاح الناس وهدايتهم.

وعلى الخطيب الحسيني أنّ يكون بمُستوًى عالٍ من الثقافة العامة؛ حتى يُغني المنبر بالبحث والنقاش، ويفتح آفاق المستمعين على اختلاف مستوياتهم العلميّة والثقافيّة، بما يدور في المجتمع، من أفكار وآراء وأطروحات، بل وما يدور في عموم العالم المحيط بنا، ولو بالسؤال والاستفسار من خلال البحث والمتابعة عن ذلك، فضلاً عن معرفته ودرايته بثقافة مجتمعه، وما يحيط به من أحداث ومشاكل ورؤى على كافة الصعد؛ حتى ينير ذهنيّة المستمع والمتلقي، ويوضّح له الطريقَ الصحيح في الحياة، بأسلُوبٍ سليم، ذي مطالب واضحة ليست بالغريبة، وحقائق علميّة ثابتة ليست بالفرضيّات، مما تتقبله القلوب والعقول، لا أن تنفر منه الطباع والنفوس، أو يثير التساؤل والتشكيك.

وعليه أن يكون مستوثقاً في نقله للروايات والأخبار على المنبر، مميِزاً الغثّ منها عن السمين، وإن كان باعتماده على الكتب المعتبرة والموثّقة والمحقّقة، وألاّ يكون عَرْضُهُ للأفكار والآراء إلا بعد دراستها وتمحيصها، بعد تتبُّع أصولها ومنابعها، ثم التشاور والتباحث فيها مع أهل العلم والفضل والتحقيق؛ لأن الخطيب قد يقع في

ص: 201


1- الكليني، الكافي: ج6، ص434.

الخَلط أو التشويش من حيث لا يشعر، وذلك بعرْض كل ما صادفه من رأي - أو سمعه من قول، أو قرأه من كتاب - على المنبر، بدون تدقيق أو مراجعة أو تأمّل فيها، وهذه آفة المنبر وهدم دوره البنَّاء في خلق مجتمع إسلامي واع .

كما ينأى بالمنبر عن سَرد القضايا الشخصيّة والآراء النفسيّة وغلبة الهوى، حيث يتطاول على بعض الناس ويسفّه أفكارهم وعقولهم ويستهزئ بهم؛ لمخالفتهم رأيَه الشخص-ي مثلاً.

وأن يكون عَرْضه مبنيّاً على العلم والعقل، لا على المنامات والتخيّلات الشخصيّة والنفسيّة، وأن يعتمد على ما أجمعت عليه الطائفة واشتهر عندها، ويبتعد عن شواذّ الآراء والأخبار، التي قد يقف عندها المعاند رافضاً طاعناً، والجاهل مشككاً متوقفاً، والمتعلم مستغرباً مستهجناً، لاسيما مَن كان بعيداً عن مدرسة أهل البيت علیهم السلام ولم يألف معارفهم وعلومهم، ولم يقف على معناها ولا دلالتها، مع اختلاف النظرة إليها.

بل عليه أن يكون عَرْضهُ على مبتنيات علميّة، وأسس عقليّة، وثوابت شرعيّة، حيث لا يمكن الطعن بمقدماتها ولا نتائجها، مهما اختلفت ثقافة المتابع أو المستمع.

وعليه أن ينزّه المنبر من جعله حَلبَةً ووسيلة للص-راعات السياسيّة والاجتماعيّة التي تحدُثُ في المجتمع، فإِنَّ المنبر أجلّ وأسمى من ذلك كلّه.

ويبقى هدف المنبر خالصاً لله(عزَّ وجلَّ)، ولما بُعث به رسوله المصطفى صلی الله علیه و آله ، وما بُشّ-ر به أهل بيته الأطهار علیهم السلام ؛ وأنْ لا يُتَّخذ وسيلة للإفساد والإخلال بين الناس، أو يستغل في مدح الظالمين والدفاع عنهم، إلا في فَضْح أصحاب المروق والضلالة، الذين ثَبَتَت ضلالتُهم في الدين وظهرت للعَيان؛ لتحصين الناس الأغمار والسُّذَّج

ص: 202

من التأثر بأفكارهم الضالة وآرائهم المنحرفة، حتى لا ينخدعوا بهم، مع بيان وجه الضلالة والشبهة للمجتمع، وسبب الانحراف، لا التعرض لهم بالتنكيل والتطاول والإلغاء فقط؛ فإن هذا لا يحل المشكلة، ولا يرفع الشبهة.

وعلى الخطيب الحسينيّ أن يؤمن بأَنَّ ارتقاء المنبر ليس صنعة أو مهنة يعتاش منها، ويكون جُلّ همه وغايته الحصول على الأموال عن طريقه، فيتعامل على ذلك كما يتعامل على بيع أو شراء سلعة من السوق! أو يتخذه لطلب الرئاسة والجاه؛ ليشبع شهوته بحب الظهور والشهرة، فقد روي عن الإمام زين العابدين علیه السلام أنه قال: «وإياك أن تترأس بنا فيضعك الله، وإياك أن تستأكل بنا؛ فيزيدك الله فقراً»(1).

إنما هو عمل رساليّ، مهمته بناء وإِصلاح الأمّة، وقد ارتبط ارتباطاً وثيقاً برسالة الأنبياء والأوصياء والمصلحين الرساليين، الذين ضَحَّوا بكُل غالٍ ونفيس من أجل المبدأ والعقيدة، والوصول إلى الهدف السامي في نش-ر الوعي الرسالي وتبليغ الأحكام والعقائد الإلهية الحقَّة...

فالخطيب الحسيني هو صاحب دَعوَةٍ رسالية، وإِعلام هادف، وغاية نبيلة سامية، وهي الدعوة لتثبيت نهج الحسين علیه السلام ، والسير على هَدي رسالة جَدهِ المصطفى صلی الله علیه و آله ، وتركيز مبادئ الإسلام.

وعلى ذلك؛ فالمنبر الحسيني يُعدّ اليوم من أهم الأدوات والوسائل الإِعلاميّة الفاعلة والمؤثرة في المجتمع، فهو حيّ وحيويّ، يربط بين الوعي المعرفيّ والتنوير العلميّ، وبين العمق الدينيّ، بما يهبه من أجر وثواب واستثمار للوقت، وما يخلقه

ص: 203


1- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة: ج13ص461.

من الترابط الاجتماعي والبناء الروحاني بين الناس، قديماً وجديداً، حاضراً ومستقبلاً، فإنّه ما زال ينبض بالعطاء والحياة بِرَغم تطور أدوات الإعلام ووسائله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ص: 204

وجوب زيارة الإمام الحسين علیه السلام

القسم الثاني

الشيخ رافد عسّاف التميمي

مدخل

تقدّم الكلام في القسم الأول من هذا المقال عن وجوب زيارة الإمام الحسين علیه السلام من خلال الروايات المصرِّحة بلفظ (الوجوب)، أي بمادّة الوجوب، وقد ثبت فيما تقدّم أنّ هناك مجموعة من الروايات معتبرة السند وتامّة الدلالة على المطلوب، والكلام ينعقد فعلاً حول وجوب الزيارة من خلال الروايات التي ظاهرها الوجوب، وهي التي دلّت على ذلك من خلال ظهور صيغة الأمر، التي اتّفق العلماء على دلالتها على الوجوب - وإن اختلفوا في بيان كيفيّة ذلك - بنفسها ما لم يمنع من ذلك مانع آخر، أو التي دلّت على الوجوب من خلال سياقها أو قرائن أُخرى فيها، وسيأتي البحث عن وجود المعارض وعدمه عند ذكر مجموعة من الاعتراضات على أصل الوجوب وكيفيّة الاستدلال عليه. كما سنعقد بحثاً عن المقدار الذي يحقق امتثال الواجب - إن ثبت الوجوب - من أنّها مرّة في العمر، أو حسب الظروف العامّة، أو أنّ هناك وقتاً وعدداً معيّناً لها.

ص: 205

الروايات الظاهرة في وجوب زيارة الإمام الحسين علیه السلام :

الرواية الأُولى: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: «حدَّثني أبي، وعلي بن الحسين، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن سيف بن عميرة، عن رجل، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: مَن لم يأتِ قبر الحسين علیه السلام وهو يزعم أنّه لنا شيعة حتى يموت، فليس هو لنا بشيعة، وإن كان من أهل الجنة فهو من ضيفان أهل الجنّة»(1) .

دلالة الرواية: تكشف هذه الرواية عن أنّ الفرد لا يكون مؤمناً ومن أتباع الدين الإسلامي الصحيح، إلاّ أن يزور الإمام الحسين علیه السلام ، ومَن لم يزره فهو ليس من الشيعة، ومن البيّن أنّه لو لم تكن الزيارة واجبة فلا يترتّب هكذا أثر على تركها، وإلاّ لما بقى هناك شيعي إلاّ النادر؛ لعدم العمل بكثير من المستحبات، فهذه خصوصيّة في الواجبات، بل ليس في كل الواجبات وإنّما ما كان مهماً جداً، وذلك لوجود مجموعة من الواجبات التي لا يخرج تاركها من التشيّع، وإنّما يُعدّ مذنباً أو فاسقاً، وهذا يدلّ على أنّ زيارة الإمام الحسين علیه السلام من أهمّ الواجبات.

إشكال وجوابه: وقد يتساءل أحد - أو يعترض على الكلام المتقدّم -: بأنّ الرواية لم تمنع من دخوله الجنّة حتى مع عدم الزيارة، وهذه قرينة على الاستحباب.

والجواب عن هذا الاعتراض: أنّه بالإضافة إلى أنّ الرواية جعلته ضيفان أهل الجنّة لا من أهلها، وبالإضافة إلى أنّ بعض المذنبين يدخلون الجنّة ولو بعد ألف عام، فإنّه لا يمنع من دخول غير الشيعي في الجنّة تحت ظروف وشروط خاصّة، من قبيل ما ذُكر في أمر القاصر والمقصّر. والمتحصّل من هذه الرواية أنّها صريحة في أنّ تارك الزيارة يخرج

ص: 206


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص 356. واُنظر: وسائل الشيعة: ج14، ص432

عن التشيّع الذي هو الإسلام الصحيح، وهذا ظاهر في وجوب الزيارة.

سند الرواية: جميع مَن ورد اسمه في سند هذه الرواية من الثقات الأجلاّء، إلاّ أنّ المشكلة فيه من جهة الإرسال؛ وذلك لأنّ مَن روى عنه سيف بن عميرة غير معروف، وهذا يجعل الرواية مرسلة؛ فتكون ساقطة عن الاعتبار من هذه الجهة.

الرواية الثانية: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: «حدَّثني الحسن بن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن عاصم بن حميد الحنّاط، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر علیه السلام ، قال: مَن لم يأتِ قبر الحسين علیه السلام من شيعتنا كان منتقص الإيمان، منتقص الدين، وإن دخل الجنّة كان دون المؤمنين في الجنّة»(1).

ورواها عنه الشيخ المفيد في المزار، قال: «حدَّثني أبو القاسم...» من دون فقرة «وإن دخل الجنّة، كان دون المؤمنين في الجنّة»(2).

وعنه ابن المشهدي أيضاً في كتاب المزار(3).

ورواها الشيخ في التهذيب بسنده، قال: «وعنه [أي: أبي القاسم جعفر بن محمد] عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفّار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عليّ بن الحكم، عن أبي المعزا، عن عنبسة بن مصعب، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: مَن لم يأتِ قبر الحسين علیه السلام حتى يموت كان منتقص الإيمان، منتقص الدين، إن أُدخل الجنّة كان دون المؤمنين فيها»(4).

ص: 207


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص355. واُنظر: الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص430
2- الشيخ المفيد، المزار: ص56.
3- اُنظر: ابن المشهدي، المزا ر: ص353.
4- الطوسي، محمد بن الحسن، التهذيب: ج6، ص44.

دلالة الرواية: يمكن الاستدلال على المطلوب بإحدى فقرات ثلاث:

الفقرة الأُولى: «كان منتقص الإيمان»

تُبيّن هذه الفقرة أنّ مَن لم يأتِ قبر الحسين علیه السلام فهو ناقص الإيمان، ونقصان الإيمان لا يكون إلاّ بترك الواجب، وإلاّ فمَن ترك أمراً مستحباً لا يسمى ناقص الإيمان؛ فتكون الرواية ظاهرة في وجوب الزيارة.

مناقشة الاستدلال بالفقرة المتقدمة: إنّ للإيمان مراتب ودرجات وكلّ مرتبة دانية، تعتبر ناقصة بالنسبة لما فوقها، ومن المعلوم فإنّ مَن يلتزم بالأُمور المستحبّة وخصوصاً المؤكَّدة منها، فإنّ مرتبته الإيمانية أعلى ممَّن لا يلتزم بذلك، فيكون المراد في هذه الفقرة من هذا القبيل؛ فنقصان الإيمان لا يلازم ترك الواجب. فهذه الفقرة لا تدلّ على وجوب الزيارة.

الفقرة الثانية: «منتقص الدين»

وهذه الفقرة تعني أنّ تارك الزيارة ناقص الدين، ونقصان الدين يكون بترك الواجبات لا المستحبات، فإنّ مَن ترك مستحباً لا يقال له: إنّه ناقص الدين، وبذلك تكون هذه الفقرة ظاهرة في كون الزيارة واجبة، حتى يصدق على تاركها أنّه ناقص الدين.

مناقشة الاستدلال بالفقرة المتقدِّمة: من الواضح أنّ الأوامر الاستحبابية من الدين، فتاركها يعتبر تاركاً لأمور دينيّة، فيكون ناقص الدين من هذه الجهة، فحتى لو قلنا: إنّ الزيارة مستحبة، مع ذلك يعدُّ تاركها ناقص الدين، فهو من قبيل قول

ص: 208

الرسول صلی الله علیه و آله : «مَن تزوج أحرز نصف دينه»(1)، ومن المعلوم فإنّ الزواج أمر مستحب، ومع ذلك عبَّر عنه بأنّه نصف الدين، لا مجرّد أنّه من الدين. فهذه الفقرة لا تدلّ على الوجوب أيضاً.

الفقرة الثالثة: «وإن دخل الجنّة كان دون المؤمنين في الجنّة»

يُستفاد من هذه الفقرة أنّ تارك الزيارة وإن أُدخل الجنّة إلاّ أنّه فيها دون المؤمنين، فهو خارج عن دائرة الإيمان، وخروجه لا يكون إلاّ بترك الواجبات، وإلاّ فلا يتصور خروج الإنسان عن دائرة الإيمان بمجرّد ترك المستحب.

مناقشة الاستدلال بالفقرة المتقدِّمة: يُلاحظ على الاستدلال بهذه الفقرة ما تقدّم من أنّ الإيمان على مراتب ودرجات.

جواب المناقشة: إنّ هذه الفقرة بيّنت أنّ تارك الزيارة دون المؤمنين، لا أنّه منهم ويكون في المرتبة الأدنى لتركه الزيارة، بل هو دون المؤمنين بجميع مراتبهم للإطلاق، فالرواية أخرجته عن دائرة الإيمان، ومن الواضح أنّ مجرّد ترك المستحب لا يخرج تاركه عن دائرة الإيمان، بل يخرجه من المراتب العالية للإيمان، فلا بدّ أنّ يكون الخروج بسبب ترك واجب ما.

وأمّا كيفيّة دخول تارك الواجبات إلى الجنّة، فقد تقدّم تقريبه في الرواية السابقة.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال: إن هذه الرواية صريحة في الوجوب؛ وذلك لأنّ كثيراً من الواجبات تُغتفر للعبد المذنب التارك لها، إمّا بالأعمال الصالحة الأُخرى التي تُكفِّر عن السيئات، وإمّا بالشفاعة، وإمّا تفضلاً منه تعالى، فلا يكون لها أثر يوم القيامة، مع أنّ الرواية تبيّن لنا أنّ تارك الزيارة نتيجته أنّه حتى لو أُدخل الجنّة فهو دون المؤمنين،

ص: 209


1- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص329

وهذا يكشف عن أهمّية الزيارة وخطورة تركها لما يترتّب عليها من آثار يوم القيامة، وهذا غير متصور في الأُمور المستحبة.

وخلاصة الكلام: أنّ هذه الرواية ظاهرة في الوجوب، إن لم نقل: إنها صريحة فيه.

سند الرواية:

طريق ابن قولويه: الكلام في سند ابن قولويه يقع في عبد الله بن محمد بن عيسى؛ حيث إنّه لم يرد فيه توثيق صريح.

قال الكشي: «وجدت بخط أبي عبد الله الشاذاني، أنّي سمعت العاصمي، يقول: إنّ عبد الله بن محمد بن عيسى الأسدي الملقّب ببنان...»(1).

وقد اكتفى النجاشي بما ذكره الكشي(2).

قال التفرشي في النقد: «بنان بن محمد بن عيسى، اسمه: عبد الله، وبنان لقبه على ما وجدنا في النجاشي عند ذكر محمد بن سنان. وكذا ذكره الكشي مع أخيه أحمد بن محمد بن عيسى، ولم أجد في شأنه شيئاً من جرحٍ ولا تعديل»(3). وقد ذكر التقي المجلسي أنّه من شيوخ الإجازة(4).

وقال الوحيد في التعليقة: «يروي عنه محمد بن أحمد بن يحيى، ولم يستثنِ روايته، وفيه إشعار بالاعتماد عليه، بل لا يبعد الحكم بوثاقته أيضاً»(5).

هذا، وقد ألّف فيه الكلباسي رسالة ذكر فيها مجموعة من القرائن على اعتباره،

ص: 210


1- الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ج2، ص 796
2- النجاشي، فهرست مصنفي الشيعة (رجال النجاشي): ص328، في ترجمة محمد بن سنان7
3- التفرشي، نقد الرجال: ج1، ص303، رقم: 809.
4- اُنظر: المجلسي، محمد تقي، روضة المتقين: ج14، ص72 .
5- البهبهاني، الوحيد محمد باقر، تعليقة على منهج المقال: ص100.

فقال: «بل كونه من مشايخ الإجازة يقتضي صحّة حديثه أو حسنه؛ بناءً على دلالة شيخوخة الإجازة على العدالة، كما جرى عليه جماعة، أو دلالتها على الحسن، كما نسبه العلاّمة البهبهاني إلى المشهور... أنّه لا إشكال في أنّ الظاهر عدالة شيخ الإجازة لو كان مرجعاّ للمحدِّثين في الإجازة والاستجازة؛ حيث إنّ الظاهر أنّ رجوع المحدِّثين إليه في الإجازة واشتهاره بينهم بالاستجازة منه كان من جهة اعتمادهم على عدالته، وإن فُرض كون الكتاب المستجاز لروايته متواتراً عند بعضهم، فكانت الاستجازة من جهة اتّصال السند، فكأنّ في المستجيزين جماعة من المعتمدين وإن لم نعرفهم بأعيانهم كانت استجازتهم من جهة الاعتماد على المجيز قطعاً، فالظاهر في هذه الصورة أنّ الاشتهار بالإجازة كان من جهة الوثاقة، مع أنّه لا أقل من ظهور كون جماعة من المستجيزين معتمدين كانت استجازتهم من جهة الاعتماد، فيتأتّى لنا الظنّ بالوثاقة، وفيه الكفاية... فضلاً عن أنّه قد تكثر رواية محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد ، ولم يذكرها محمد بن الحسن بن الوليد فيما استثناه من روايات محمد بن يحيى. وقد ذكر العلاّمة في آخر الخلاصة ما استثناه محمد بن الحسن [بن] الوليد من روايات محمد بن يحيى... وفضلاً عن أنّ ذِكْره في الأسانيد مع أخيه يقتضي مساوقة شأنه لشأن أخيه ولو في الجملة، فلا أقل من دلالته على حسن حاله؛ بناءً على وثاقة أخيه، كما حررناه في الأصول»(1).

وقد ذكر السيد الخوئي بأنّه: «وقع بعنوان: (بنان بن محمد) في إسناد عدّة من الروايات تبلغ 66 مورداً. فقد روى عن أبيه وابن محبوب، وسعد بن السندي، وصفوان، والعباس غلام لأبي الحسن علیه السلام ، ومحسن بن أحمد، وموسى بن القاسم. وروى عنه محمد بن أحمد بن يحيى، ومحمد بن علي بن محبوب، ومحمد بن يحيى»(2).

ص: 211


1- الكلباسي، محمد بن محمد إبراهيم، الرسائل الرجالية : ج3، ص291- 295.
2- الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث: ج4، ص273، رقم: 1895.

وقال تحت عنوان عبد الله بن محمد بن عيسى: «وقع بهذا العنوان في إسناد عدّة من الروايات تبلغ أربعاً وأربعين مورداً. فقد روى عن أبيه، وابن أبي عمير، والحسن بن محبوب، وداود الصرمي، وصفوان بن يحيى، وعلي بن الحكم، وعلي بن مهزيار، وعمرو بن عثمان، ومحمد بن أبي عمير، ومحمد بن عبد الحميد، والحجال. وروى عنه سعد، وسعد بن عبد الله، وعلي بن إبراهيم، ومحمد بن الحسن الصفّار، ومحمد بن يحيى، والحميري»(1).

أقول: يمكن الاعتماد على عبد الله بن محمد؛ وذلك بالإضافة إلى القرائن العديدة المتقدِّمة، أنّه يمكن الاستظهار من كثرة رواياته، وكونه من شيوخ الإجازة، أنّه من المعاريف الذين لم يُطعن فيهم، وهذا كافٍ في اعتباره والاطمئنان بما يرويه. فالسند تامٌّ من هذه الجهة.

طريق الشيخ في التهذيب: الكلام في سند رواية التهذيب يقع في عنبسة بن مصعب:

قال الكشي: «قال حمدويه: عنبسة بن مصعب ناووسي، واقفي على أبي عبد الله علیه السلام »(2). وقد عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الباقر علیه السلام (3)، والصادق علیه السلام (4)، والكاظم علیه السلام (5).

وقد ناقش في ناووسيته البهبهاني في التعليقة، قال: «ولعل نسبته إلى الناووسية بسبب ما روى عنه عن الصادق علیه السلام أنّه قال: مَن جاءكم يخبركم أنّه غسّلني وكفّنني ودفنني فلا تصدّقوه. وإلى هذه الرواية استند الناووسية، والرواية قابلة للتوجيه: بأنّ هذا الكلام منه علیه السلام كان في زمانٍ خاص، ومن جهة خاصّة، أو أنّ هذا المجموع لا يتحقق من أحد؛ فإنّ

ص: 212


1- الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث: ج11، ص334، رقم: 7140.
2- الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ج2، ص659. وإنما سُمّيت الناووسية برئيس كان لهم يقال له: فلان ابن فلان الناووس. المصدر نفسه
3- الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي: ص141، رقم: 1519.
4- المصدر السابق: ص261، رقم: 3722.
5- المصدر السابق: ص340 ، رقم: 5069.

الإمام لا يغسّله إلاّ الإمام فتأمّل. ويمكن أنّ يكون عنبسة توهّم من بعض الأحاديث مثل ما رواه الكافي في باب الإشارة والنصّ على الصادق علیه السلام عن أبى الصباح أنّ الباقر علیه السلام قال مشيراً إلى الصادق: هذا من الذين قال الله عز وجل: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ﴾ الآية. وما رواه فيه أيضاً عن جابر الجعفي عن الباقر علیه السلام ، قال: سُئل عن القائم علیه السلام ، فضرب بيده على أبي عبد الله علیه السلام فقال: هذا - والله - قائم آل محمد صلی الله علیه و آله . قال عنبسة: فلمّا قبض علیه السلام دخلت على الصادق علیه السلام فأخبرته بذلك، فقال: صدق جابر. ثمّ قال لعلكم ترون أن ليس كل إمام هو القائم بعد الإمام الذي كان قبله. فتوهّم من أمثال ما ذكرناه أنّ الصادق علیه السلام قائم آل محمد صلی الله علیه و آله على حسب ما أُشير إليه في الفائدة عند ذكر الواقفة وكان سمع أنّ القائم علیه السلام يغيب، وأنّ مَن جاءكم يخبر أنّه غسّله وكفّنه ودفنه لا يصدق، كما سيجيء في يحيى بن القاسم، فنقل ذلك بالنسبة إلى الصادق علیه السلام بناءً على زعمه»(1)، وقال أيضاً: «روى الكليني والشيخ في الصحيح، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن أحدهما علیهما السلام : لا يُجبر الرجل إلاّ على نفقة الأبوين والولد. قلت لجميل: فالمرأة؟ قال: قد رووا أصحابنا، وهو عنبسة بن مصعب، وسورة بن كليب، عن أحدهما علیهما السلام ...»(2).

فقد عدَّ جميلُ عنبسةَ من أصحابنا، وقد أجاب السيد الخوئي قائلاً: «عدُّ جميلٍ عنبسةَ بن مصعب من أصحابنا لا ينافي ناووسيته؛ فإنّ المراد بأصحابنا هو مطلق الشيعة في مقابل العامّة، كما يظهر ذلك من إطلاق هذه الكلمة على الفطحيّة والواقفة وغيرهما من فُرَق الشيعة»(3).

وقال أيضاً: «احتمل بعضهم أن يكون عنبسة بن مصعب واقفياً أيضاً، اغتراراً بما تقدَّم

ص: 213


1- البهبهاني، الوحيد محمد باقر، تعليقة على منهج المقال: ص272.
2- المصدر السابق: ص271.
3- الخوئي ، أبو القاسم، معجم رجال الحديث: ج14، ص179.

عن الكشي، عن حمدويه أنّه ناووسي واقفي على أبي عبد الله علیه السلام ، ولكنّه باطل جزماً، فإنّ القول بالوقف ينافي الناووسية، كما هو ظاهر، وعبارة الكشي محرَّفة جزماً، والصحيح أنّه ناووسي واقف على أبي عبد الله علیه السلام »(1).

وقال أيضاً: «وقع بهذا العنوان في إسناد كثير من الروايات، تبلغ واحداً وخمسين مورداً، فقد روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله علیهما السلام ، وعن سماعة. وروى عنه أبو المغراء، وأبو المغراء العجلي، وابن سنان، وابن محبوب، وابن مسكان، وأبان، وأبان بن عثمان، وإبراهيم بن هاشم عن بعض أصحابه، وإسحاق بن عمار، وجعفر بن بشير، وجميل، وصفوان، وعاصم، وعاصم بن حميد، وعبد الله بن بكير، وعبد الله بن مسكان، وعلي بن رئاب، ومالك بن عطية، ومحمد بن أبي عمير، ومحمد بن مسعود الطائي، ومنصور بن حازم، ومنصور بن يونس»(2).

وقد استدلّ بروايته الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان(3). وقد وثّق السيد العاملي في المدارك روايته تارة(4)، وصححها أُخرى(5).

ولكن قال في نهاية المرام بعد أن ذكر رواية: «لكن راويها، وهو عنبسة بن مصعب غير معلوم الحال، فلا تعويل على روايته»(6).

ووصف المحقق السبزواري حديثه بالصحّة في الذخيرة(7)، ولكنّه بيّن مقصوده من

ص: 214


1- الخوئي ، أبو القاسم، معجم رجال الحديث: ج14، ص180، رقم: 9117.
2- المصدر السابق: ج14، ص180.
3- اُنظر: الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان: ج2، ص294.
4- اُنظر: السيد العاملي، مدارك الأحكام: ج1، ص134.
5- المصدر السابق: ج1، ص266.
6- العاملي، نهاية المرام: ج1، ص185.
7- اُنظر: السبزواري، ذخيرة المعاد: ج1، ص292.

وصفه بالصحّة؛ حيث قال في مكان آخر: «وروى عن عبد الله بن مسكان في الصحيح، وهو ممَّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه، عن عنبسة بن مصعب، وهو ناووسى غير موثّق»§ُنظر: السبزواري، ذخيرة المعاد: ج1، ص361.(1)المصدر السابق: ج1، ص362.(2)اُنظر: القمّي، غنائم الأيام: ج3، ص81 . واُنظر: القمي، مناهج الأحكام: ص400(3) اُنظر: الخوئي، أبو القاسم، شرح العروة الوثقى (كتاب الصلاة ): ج18، ص163(4)الشاهرودي، علي النمازي، مستدركات سفينة البحار: ج6، ص230.(5)اُنظر: الكليني، الكافي: ج8، ص215، ح261.(6)اُنظر: المحدِّث النوري، مستدركات علم رجال الحديث: ج6، ص138


1- ، وقال أيضاً: «وعن ابن مسكان في الصحيح عن عنبسة بن مصعب الضعيف...»
2- . وقد وصف القمّي روايته في الغنائم بالصحّة
3- . وقد وثّقه السيد الخوئي واعتبر روايته بناءً على مبناه القديم في توثيق جميع رجال كامل الزيارات
4- ، إلاّ أنّه عدل عن ذلك فيما بعد. وقال النمازي الشاهرودي في المستدركات: «وروى الكشي بسنده المعتبر عنه، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: أشكو إلى الله وحدتي وتقلقلي من أهل المدينة حتى تقدموا وأراكم وأُسرّ بكم. فليت هذه الطاغية أذن لي فاتّخذت قصراً فسكنته وأسكنتكم معي وأضمن له أن لا يجيء له من ناحيتنا مكروه أبداً»
5- . وروى الكليني في الكافي مثله
6- . أقول: يظهر منها أنّه من الشيعة الذين يُسرّ الإمام برؤيته ويسكنهم معه لو أمكنه؛ فالأظهر أنّه موثّق لما تقدّم؛ ولما ذكره المحدِّث النوري في تأييده

وأمّا بناءً على ما يمكن أن يُستفاد من مبنى بعض الأجلّة، من أنّ مجرّد الرمي بالغلو يكشف عن أنّ الراوي حسن السيرة من باقي الجهات، وإلاّ لو كان هناك ما يُضعّف به لذُكر، فنطبّق القاعدة في المقام بأن نقول: إنّ مجرّد الرمي بالناووسية يكشف عن حسنه في باقي الجهات، وإلاّ لذُكِرَت، ومن الواضح فإن الرمي بالناووسية بمفرده لا يضرّ بالاعتماد عليه.

وأمّا بناءً على النقاش في كونه من الناووسية، فإنّه من المعاريف الذين لم يُغمز عليهم بشيء، وهذا أمارة على اعتباره وإمكان الاعتماد عليه، بل حتى لو لم نقل بذلك فأيضاً هو من المعاريف الذين لم يُغمز عليهم، إلاّ بما هو لا علاقة له بالوثاقة وصحّة الاعتماد، وهو اتّهامه بالناووسية.

وعلى كلّ حال، فمِن مجموع ما تقدّم تطمئن النفس بإمكان الاعتماد عليه والعمل برواياته؛ لذلك نجد مجموعة من الفقهاء اعتمدوا عليه وعملوا برواياته.

النتيجة: إنّ السند الثاني للرواية يصحّ الاعتماد عليه أيضاّ. فهذه الرواية تامّة من حيث السند والدلالة على وجوب زيارة الإمام الحسين علیه السلام .

الرواية الثالثة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: «وبهذا الإسناد [أي: حدَّثني جماعة أصحابنا، عن أحمد بن إدريس ومحمد بن يحيى العطار] عن العمركي بن البوفكي، عمَّن حدَّثه، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الناب، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن زيارة قبر الحسين علیه السلام ، قال: نعم، تعدل عمرة، ولا ينبغي أن يتخلّف عنه أكثر من أربع سنين»(1).

وقال في موضع آخر: «وبإسناده [أي: العمركي]، عن محمد بن الفضيل، عن أبي

ص: 216


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص293. الحر العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت): ج14، ص431

ناب...»(1). إلى آخر الرواية.

دلالة الرواية: نصّت هذه الرواية على أنّه لا ينبغي التخلّف عن زيارة الإمام الحسين علیه السلام أكثر من أربع سنين، وهو ظاهر في عدم جواز ترك الزيارة أكثر من هذه المدّة، وهذا يعني أنّ زيارة الإمام واجبة في كل أربع سنوات مرّة.

دفع توهّم: قد يناقش بعضهم بأنّ لفظ (ينبغي أو لا ينبغي) معناه الاستحباب، أي: الأفضل أن لا يترك الزيارة هذه المدّة، وهو لا يعني المنع وعدم جواز الترك.

إلاّ أنّ هذه المناقشة غير تامّة؛ لأن اللفظ ظاهر في عدم جواز الترك لو خُلّي ونفسه، ولا يُحمل على الاستحباب إلاّ إذا كانت هناك قرينة على ذلك.

فإن قلت: إنّ عدم احتمال وجوب الزيارة في هذه المدّة يصلح أن يكون قرينة على عدم إرادة الوجوب من هذا اللفظ.

أقول: إن بحث القرائن سوف يأتي، وسنبحث هناك هل يوجد قرائن تُعيّن الاستحباب من تلك الروايات؟ أو لا أقل هل توجد قرائن معارضة للوجوب؟ ثم إن كانت فما هي حدودها؟ وكيف نجمع بينهما؟ أما الآن فالبحث عن أصل الوجوب من دون تفريعات ومعارضات.

سند الرواية: إنّ هذه الرواية مرسلة بكلا سنديها؛ لأنّ مَن روى عنه البوفكي غير معروف، فالرواية غير معتبرة من هذه الجهة.

لا يقال: إنّ السند الثاني للرواية متصل؛ لأنّه ورد فيها: بإسناده عن محمد بن الفضيل.

لأنه يقال: إنّه لم يثبت أنّ للعمركي سنداً إلى محمد بن الفضيل، بالإضافة إلى أنّ

ص: 217


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص495.

مجموع القرائن والشواهد تدلّ على أنّ السند هنا هو نفسه في الرواية الأُولى.

الرواية الرابعة: ما رواه ابن قولويه في (كامل الزيارات)، قال: «وقال العمركي بإسناده، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام : إنّه يصلِّي عند قبر الحسين علیه السلام أربعة آلاف ملك من طلوع الفجر إلى أن تغيب الشمس، ثمّ يصعدون وينزل مثلهم، فيصلُّون إلى طلوع الفجر، فلا ينبغي للمسلم أنّ يتخلّف عن زيارة قبره أكثر من أربع سنين»(1).

دلالة الرواية: دلالة هذه الرواية كدلالة الرواية السابقة؛ فهي ظاهرة في الوجوب بدواً، كما تقدّم بيانه.

سند الرواية: الرواية مرسلة؛ لأنّه لم يُعرف سند البوفكي إلى الإمام علیه السلام ، فهي ساقطة عن الاعتبار من هذه الجهة.

الرواية الخامسة: ما رواه ابن قولويه في (كامل الزيارات)، قال: «حدَّثني أبي، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن محمد بن سنان، عن أبي سعيد القمّاط، عن بشّار، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: مَن كان معسراً فلم يتهيّأ له حجّة الإسلام فليأتِ قبر الحسين علیه السلام وليُعرف عنده، فذلك يجزيه عن حجة الإسلام، أما أنّي لا أقول يجزي ذلك عن حجّة الإسلام إلاّ للمعسر، فأمّا الموسر إذا كان قد حجّ حجة الإسلام فأراد أن يتنفّل بالحجّ أو العمرة ومنعه من ذلك شغل دنيا أو عائق فأتى قبر الحسين علیه السلام في يوم عرفة أجزأه ذلك عن أداء الحجّ أو العمرة، وضاعف الله له ذلك أضعافاً مضاعفة. قلت: كم تعدل حجّة؟ وكم تعدل عمرة؟ قال: لا يحصى ذلك. قال: قلت: مائة؟ قال: ومَن يحصي ذلك؟ قلت: ألف؟ قال: وأكثر من ذلك. ثمّ قال: وإن تَعدُّوا نعمة الله لا تحصوها، إن الله واسع كريم»(2).

ص: 218


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص494.
2- المصدر السابق: ص322. واُنظر: الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص461

ورواها الشيخ الطوسي في التهذيب، قال: «سعد بن عبد الله، عن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي إسماعيل القمّاط، عن بشار، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: ...»(1).

ورواها الشيخ المفيد في المزار، عن ابن قولويه(2). ومحمد بن المشهدي في مزاره(3).

دلالة الرواية: إنّ إجزاء الزيارة عن الحجّ الواجب بالنسبة للمعسر تعني أنّها في مرتبته، وإلاّ فكيف يجزي الأمر الاستحبابي عن الأمر الوجوبي؟

إشكال: لازم هذا الكلام أن تُجزي الزيارة عن الحج الواجب حتى للموسر، مع أنّ الرواية نصّت على أنّ الزيارة لا تُجزي عن الحجّ بالنسبة إليه.

الجواب: إنّ الأصل في الواجبات عدم إمكان استيفائها بواجب آخر مع إمكان الإتيان بها، إلاّ في الواجبات التخييرية كما لا يخفى؛ وعليه فعدم إجزاء الزيارة عن الحجّ الواجب بالنسبة للموسر على طبق القاعدة، وهذا أمر آخر غير ما نحن فيه، ولا يضرّ بالاستدلال؛ لأنّ استدلالنا كان في إجزاء الزيارة عن الحجّ الواجب في الظرف الخاصّ، وما ينوب عن الوجوب فهو في مرتبته. أو فقل: إنّ المسألة من قبيل الوضوء والتيمم؛ فإنّ التيمم واجب بالنسبة للمضطرّ دون المختار.

إشكال آخر: إنّ الزيارة تجزئ عن الحجّ الواجب في مسألة الثواب، أي: إنّ ثواب الزيارة يعدل ثواب الحجّ أو أكثر، فهي تجزئ عنه من هذه الجهة، وهذا أمر لا ربط له بتساوي الرتبة من جهة الوجوب، حتى يقال: ما يجزئ عن الواجب فهو في مرتبته؛ إذن فهو واجب.

ص: 219


1- الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص50.
2- الشيخ المفيد، المزار: ص46 .
3- ابن المشهدي، المزار: ص349.
جواب الإشكال بالنقض والحل:

أما نقضاً: فبناءً على ما ذكر لا بدّ أن تجزئ الزيارة حتى عن الحجّ الواجب بالنسبة للموسر؛ لأنّ مَن زار يحصل على الثواب، وقد ورد أنّ ثواب الزيارة يعادل الحجّ بل أكثر بكثير؛ وعليه فلا معنى للتفريق بين الموسر والمعسر من هذه الجهة بالخصوص.

لا يقال: إنّ مَن كان موسراً ووجبت عليه حجّة الإسلام، فإنّه يتعيّن عليه الحجّ، ولا تصل النوبة للزيارة، حتى يُقال: تجزئ أو لا تجزئ، فالتفريق من هذه الجهة.

لأنه يقال: يمكن للموسر أن يزور قبل أدائه حجّة الإسلام في وقت لا يزاحم حجّة الإسلام، كما في الأشهر التي قبل أشهر الحجّ، فلا معنى للتفريق.

إلا أنّ هذا يرد عليه أنّ المنصوص في الرواية هو زيارة يوم عرفة، وهو ركن في الحجّ، فلا يمكن الجمع بينهما.

وأما حلاً: فإنّ الرواية ناظرة إلى الحالة الاستثنائية التي يمرّ بها الحجّ الواجب، وهي إعسار المكلف، فتريد أن تبيّن الرواية أنّ هناك أمراً آخر يجزئ عن هذا الواجب المتعذر، وهو زيارة الإمام الحسين علیه السلام ، وهذا لا ربط له بمسألة الثواب والفضل، بل يفيدنا هذا المعنى تساوي الأمرين في الوجوب، فهو يجزئ عنه من هذه الجهة، وأمّا في عدم إجزائه للموسر فلما تقدّم من الأصل في الواجبات.

إلا أنّ الإنصاف يقتضي القول: إنّ الرواية ناظرة إلى الثواب الذي يفوت على العبد لفوات الحجّ عليه، فأشارت الرواية إلى تعويض ذلك الفضل الفائت، بل وزيادة عليه بزيارة الإمام الحسين علیه السلام ؛ لأجل ذلك لا يحتمل أحد أنّ المعسر الذي زار الإمام الحسين علیه السلام لا تجب عليه حجّة الإسلام إذا أصبح موسراً بعد ذلك، فالرواية

ص: 220

ناظرة إلى الثواب، والشاهد على ذلك من نفس الرواية؛ حيث إنّها أشارت في الذيل إلى مسألة الثواب.

فإن قلت: لو لم تكن الزيارة واجبة، لكان ثواب الأمر المستحب أكثر من الواجب، وهذا ما لا تساعد عليه المرتكزات الأصولية في تحديدها للأمر الواجب والمستحب، كما هو واضح.

قلت: بالإضافة إلى أنّ هذا ليس بالأمر العزيز بين الواجبات والمستحبات، وله نظائر عديدة، فإنّ كثرة الثواب ليست علّة تامّة للوجوب، بل ربما يكون أمراً ما أكثر ثواباً من المستحب، إلاّ إنّه توجد موانع ومزاحمات أُخرى تمنع من تقنينه كواجب شرعي. كما أشار إلى هذا المعنى بعض الفضلاء.

فهذه الرواية إذن لا يمكن التمسّك بظهورها في وجوب الزيارة.

سند الرواية: الكلام عن سند هذه الرواية في أمرين:

الأول: الكلام في محمد بن سنان، حيث اختُلف فيه، وقد ألَّفنا فيه رسالة استخلصنا منها اعتباره وإمكان الاعتماد عليه.

الثاني: الكلام في بشار، والظاهر هو ابن يسار الثقة المعروف، بقرينة إطلاق الاسم.

الرواية السادسة: ما رواه ابن قولويه في (كامل الزيارات)، قال: «حدَّثني جعفر بن محمد بن إبراهيم بن عبيد الله الموسوي، عن عبيد الله بن نهيك، عن محمد بن أبي عمير، عن أبي أيوب، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: حقٌّ على الغني أن يأتي قبر الحسين علیه السلام في السنة مرتين،

ص: 221

وحقٌّ على الفقير أن يأتيه في السنة مرة»(1).

ورواها عنه الشيخ المفيد في مزاره، قال: «حدثني أبو القاسم جعفر بن محمد...»(2).

وكذا رواها عنه ابن المشهدي بإسناده إليه(3).

وما رواه ابن قولويه أيضاً في (كامل الزيارات)، قال: «حدَّثني أبي رحمه الله، عن سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي ناب، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: حقٌّ على الفقير أن يأتي قبر الحسين علیه السلام في السنة مرة، وحقٌّ على الغني أن يأتيه في السنة مرتين»(4).

وما رواه الشيخ الطوسي في التهذيب، قال: «وعنه [أي: محمد بن أحمد بن داوود] عن محمد بن الحسين، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن ابن رئاب، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : حقٌّ على الغني...»(5)

دلالة الرواية: جعلت هذه الرواية زيارة الإمام الحسين علیه السلام حقاً في رقبة الجميع، إن كان غنياً ففي السنة مرتين، وإن كان فقيراً ففي السنة مرة، ولو لم تكن الزيارة واجبة لما كانت حقاً على الآخرين، فالحقّ يعني الوجوب.

ولا يقال: من غير المحتمل أن تجب زيارة الإمام الحسين علیه السلام على الغني في السنة مرتين وعلى الفقير مرة، فإن هذا يرفضه التسالم الفقهي بين العلماء.

ص: 222


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد،كامل الزيارات: ص490. واُنظر: الحر العاملي، الوسائل: ج14، ص532
2- الشيخ المفيد، المزار: ص28.
3- اُنظر: ابن المشهدي، المزار: ص341.
4- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص491.
5- الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص42 - 43.

لأنه يقال: إنّ الكلام فعلاً في أصل الوجوب وهو لا يض-رّه هذا الإشكال، خصوصاً على التبعيض في حجيّة دلالة الروايات، وهو ما عليه العمل بين الأعلام.

ولكن يمكن الإشكال على دلالة هذه الرواية من جهة أُخرى، وهي: أنّ كلمة الحقّ لا تعني الوجوب، فلربما يكون هناك حقّ، إلاّ أنّه ليس واجباً، بل من المستحب الأكيد مثلاً، وإلاّ فحقّ الإمام علیه السلام أكثر من ذلك بكثير، وما هذا إلاّ الشيء اليسير، وكم هناك حقوق لأهل البيت علیهم السلام إلاّ أنّها ليست واجبة، فمن حقوقهم المسلّمة أنّ يُذكروا ويُزاروا في كلّ وقت، كما أن لله تعالى حقوقاً كثيرة إلاّ أنّه تعالى أوجب بعضاً دون بعض، فهذه الرواية تُثبِتُ أصلَ الحقّ لا وجوبه، وهذا ينسجم تماماً مع المرّة والمرّتين في السنة.

فإن قلت: لو كانت هذه الرواية تريد أن تُثبِتَ أصل الحقّ وليس وجوبه، فلماذا قيّدت الزيارة بالمرّة أو المرّتين في السنة؟

قلت: يمكن أن يكون ذلك أقل الحقّ الذي عليه التأكيد.

ولكن الإنصاف يقتضي القول بالوجوب؛ لأنّ الرواية لم تُبيِّن أصل الحقّ للإمام الحسين علیه السلام ، حتى يقال: إنّ بعض الحقّ واجب وبعضه ليس كذلك. وإنّما الرواية بيّنت أنّ حقه علیه السلام في رقبة الجميع، فهو في عُهدتهم ولا يخرجوا عنه إلاّ بأدائه، وهذا معنى الوجوب.

سند الرواية: أمّا سند كامل الزيارات الأول فهو سند تامّ ومعتبر؛ فجميع رجاله ثقات. وأمّا سنده الثاني فليس فيه إلاّ إرسال ابن أبي عُمير، وقد ثبت في محلّه أنّ مراسيله كمسانيده، فالسند تامّ أيضاً.

ص: 223

وأمّا سند التهذيب فهو تامّ أيضاً، لأنّ محمد بن أحمد هو محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري، الثقة المعروف. ومحمد بن يحيى هو محمد بن يحيى العطار، وهو شيخ القمّيين الثقة المعروف.

الرواية السابعة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: «حدَّثني أبي رحمه الله، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن عامر بن عمير وسعيد الأعرج، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: ائتوا قبر الحسين علیه السلام في كل سنة مرّة»(1).

ورواها أيضاً عن أبي العباس، عن الزيّات، عن جعفر بن بشير، عن حمّاد، عن ابن مسلم، عن عامر بن عمير وسعيد الأعرج، عن أبي عبد الله علیه السلام قال:«...»(2).

دلالة الرواية: الرواية تأمر بإتيان قبر الإمام الحسين علیه السلام ، والأمر ظاهر في الوجوب بالاتّفاق، فالرواية ظاهرة في المطلوب.

سند الرواية: الرواية صحيحة السند؛ فإنّ رجال السند جميعهم ثقات إلاّ عامر بن عمير، فهو مجهول، وهذا لا يضرّ بصحّة السند؛ لأنّ سعيداً الأعرج رواها معه، وهو ثقة.

الرواية الثامنة: ما رواه بن قولويه، قال: «حدَّثني الحسن بن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن صباح الحذّاء، عن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: سمعته يقول: زوروا قبر الحسين علیه السلام ولو كلّ سنة مرّة. وذكر الحديث»(3).

دلالة الرواية: الكلام في دلالة هذه الرواية كسابقتها.

ص: 224


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص490. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص532
2- المصدر السابق: ص492. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص532
3- المصدر السابق: ص493. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص534.

لا يقال: إنّ قول الإمام علیه السلام : «ولو كلّ سنة مرّة» يدلّ على الاستحباب.

لأنه يقال: لو دلّت هذه الفقرة على الاستحباب، فهي تدلّ على المدّة التي فيها الزيارة، لا أصل الزيارة، وهذه تفصيلات سيأتي بحثها.

سند الرواية: الكلام في سند هذه الرواية في عبد الله بن محمد بن عيسى؛ حيث إنّه لم يرد فيه توثيق صريح، ولكن يمكن أن يُستدلّ على وثاقته بأمور:

منها: أنّه واقع في إسناد كامل الزيارات، فعلى رأي مَن يذهب إلى توثيق كلّ مَن جاء فيه، فسوف يكون ثقة.

ومنها: رواية محمد بن أحمد بن يحيى عنه، ولم يستثن روايته.

ومنها: رواية الأجلاّء عنه، منهم: محمد بن أحمد بن يحيى، ومحمد بن علي بن محبوب، وصفوان، وموسى بن القاسم وغيرهم.

ومنها: رواياته عن الأجلاّء وكثرتها.

ومنها: وصف جملة من العلماء لرواياته بالصحيحة(1).

فجميع ذلك يُطمئن النفس بالاعتماد عليه والركون إلى روايته؛ فالرواية معتبرة سنداً.

الرواية التاسعة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: «حدَّثني جعفر بن محمد بن عبيد الله الموسوي، عن عبيد الله بن نهيك، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن زيارة قبر الحسين علیه السلام ، قال: في السنة مرّة؛ إنّي أكره الشهرة»(2).

ص: 225


1- اُنظر: البحراني، الحدائق الناظرة: ج24، ص601. السيد الروحاني، فقه الصادق: ج22، ص236
2- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص491. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص532

ورواها أيضاً عن محمد بن الحسن، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن الحلبي، عن أبي عبد الله علیه السلام (1).

وروى أيضاً في الكامل، قال: «حدَّثني محمد بن الحسن، عن محمد بن الحسن الصفّار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد بن عثمان، عن الحلبي، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن زيارة الحسين علیه السلام . قال: في السنة مرّة؛ إنّي أخاف الشهرة»(2).

دلالة الرواية: تحديد الإمام علیه السلام للزيارة في السنة مرّة يظهر منه الوجوب، وإلاّ لما حددها الإمام علیه السلام في السنة مرّة؛ لأن الزيارة المستحبة ليس لها وقت محدّد، فهي مستحبة في كل وقت.

ولكن يمكن أن يقال: بقرينة التعليل في الرواية وأنّ الإمام يكره الشهرة ويخافها، يُفهم منها الاستحباب في السنة مرّة تجنباً للشهرة تقيّةً؛ فالتقييد بسنة جاء مناسباً للتعليل، لا مطلقاً.

فإن قلت: إنّ الاستحباب في زيارة الإمام الحسين علیه السلام أكثر من ذلك، والنصوص كثيرة على ذلك من قبيل ما دلّ على زيارته في كلّ ليلةِ جمعة، وفي ليالي القدر، وفي الخامس عشر من شعبان، وفي عاشوراء، وفي الأربعين، وغيرها الكثير، فجميع ذلك يدلّ على أنّ المراد بالتحديد هو الوجوب.

قلت: إنّ التعليل بالشهرة يفيد أنّ الأمام ناظر إلى ظروف خارجية كان يمرّ بها المجتمع الشيعي آنذاك، والتي كان يتعرّض فيها الشيعة للسجن والقتل والاضطهاد

ص: 226


1- اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص491.
2- المصدر السابق: ص492. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص533

بمجرّد ظهور انتسابهم لأهل البيت علیهم السلام ، فأراد الإمام أن ينبّه الشيعة على أنّ زيارة الإمام الحسين علیه السلام في السنة مرّة؛ تجنباً لتعريضهم للمخاطر، وحفظاً للمجتمع الشيعي من التفكك على أيدي حكّام الجور، ويؤكّد هذا المعنى التص-ريحُ بالخوف في النقل الآخر للرواية.

ولكن الإنصاف يقتضي أن نقول: لو كانت الظروف ظروف تقية وخطر، وأن الزيارة مستحبة لا واجبة لكان على الإمام علیه السلام أن يمنع من الزيارة، إلا أن الإمام علیه السلام مع تلك الظروف الخطرة حدد الزيارة في كل سنة مرة، وهذا يعني أن الزيارة ليست فقط واجبة، بل هي واجبة حتى في فرض التقية، فإذا لاحظنا أن التقية توجب ترك الواجبات المسلّمة في الدين، نستنتج أن الزيارة من أعظم الواجبات، التي لا يجوز تركها تحت أيّ ظرف كان.

وبعبارة أُخرى: إن كانت الرواية ناظرة إلى الحالة الاعتيادية والظروف الطبيعية، فلا معنى للتحديد بسنة إلا إرادة الوجوب، وإن كانت الظروف ظروف تقية كان على الإمام علیه السلام أن يمنع من الزيارة، خصوصاً إذا كانت مستحبة، فمع عدم المنع - بل مع الأمر - يكون الوجوب هو الظاهر.

سند الرواية: الرواية صحيحة السند، وجميع رواتها ثقات أجلاّء، سواء التي بلفظ (أكره) أو التي بلفظ (أخاف).

الرواية العاشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: «حدَّثني أبي، عن سعد بن عبد الله، عن الحسن بن علي بن عبد الله بن المغيرة، عن العباس بن عامر، قال: قال علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن علیه السلام ، قال: لا تجفوه، يأتيه الموسر في كل أربعة أشهر، والمعسر لا يكلف الله

ص: 227

نفساً إلاّ وسعها. قال العباس: لا أدري، قال هذا لعلي أو لأبي ناب»(1).

دلالة الرواية: الاستدلال بهذه الرواية على الوجوب مبني على استفادة الأمر من الجملة الخبرية، من قبيل قوله: «يعيد الصلاة» أو «يتوضأ» وما شاكل، فإنّ هذه صيغٌ تدلّ على الأمر، والأمر ظاهر في الوجوب، فمعنى الرواية: على الموسر أن يأتيه في كلّ أربعة أشهر مرّة، وعلى المعسر بما يقدر، فهذه الرواية تدلّ على الوجوب.

مناقشة: إنّ الرواية ناظرة إلى فرض الجفاء، أي: حتى لا يتحقق الجفاء، فلا بدّ من إتيانه في هذه المدّة، وإلاّ مع عدم تحقق الجفاء لا يجب ذلك، فالوجوب هنا مقيَّد لا مطلق. بل المعنى - في الواقع - هو أنّ الجفاء ممنوع، لا أنّ الزيارة واجبة، وهذا أمر آخر غير ما نحن بصدد إثباته، وستأتي الإشارة إلى هذا المعنى في بعض الروايات القادمة.

سند الرواية: الكلام عن سند هذه الرواية في علي بن أبي حمزة البطائني، وقد وقع كلام طويل الذيل فيه، وتعددت الآراء حوله، إلاّ أنّ المستفاد من البحث عنه أنّه ثقة يمكن الاعتماد عليه، بدليل كلام للطوسي ورواية الأجلاّء عنه، خصوصاً أصحاب الإجماع، وقرائن أُخرى لا مجال لذكرها، ولكن لا تُقبل روايته مطلقاً، وإنّما فيما إذا كانت الرواية قبل وقفه، وأمّا بعد وقفه فلا يصحّ الاعتماد عليه؛ للتنصيص على كذبه من قِبَل بعض أرباب علم الرجال، ومن القرائن التي تحدد أنّ الرواية قبل أو بعد الوقف هي رواية الإمامي الاثني عشري عنه، وفي المقام قد روى عنه العباس بن عامر، وهو مستقيم العقيدة. هذا بالإضافة إلى أنّ العباس تردد في أنّ هذا القول لعلي أو لأبي ناب، فإن كان لعليّ ففيه ما تقدّم من الكلام، وإن كان لأبي ناب فهو ثقة معتبر. فهذه الرواية معتبرة من حيث السند.

ص: 228


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص491. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص533

الرواية الحادية عشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: «حدَّثني أبي رحمه الله، عن عبد الله بن جعفر الحميري بإسناده، رفعه إلى علي بن ميمون الصائغ، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: يا علي، بلغني أنّ قوماً من شيعتنا يمرّ بأحدهم السنة والسنتان لا يزورون الحسين علیه السلام ؟ أما - والله - لحظّهم أخطأوا، وعن ثواب الله زاغوا، وعن جوار محمد صلی الله علیه و آله تباعدوا. قلت: في كم الزيارة؟ قال: يا علي، إن قدرت أن تزوره في كل شهر فافعل. قلت: لا أصلُ إلى ذلك، لأنّي أعمل بيدي ولا أقدر أن أغيب من مكاني يوماً واحداً. قال: أنت في عذر ومَن كان يعمل بيده، إنّما عنيت مَن لا يعمل بيده ممَّن إن خرج كلّ جمعة هان ذلك عليه، أما إنّه ما له عند الله من عذر، ولا عند رسول الله صلی الله علیه و آله من عذر يوم القيامة. قلت: فإن أخرج عنه رجلاً فيجوز ذلك؟ قال: نعم، وخروجه بنفسه أعظم أجراً وخيراً له عند ربه»(1).

ورواها الشيخ في التهذيب بسنده باختلاف يسير في المتن، قال: «وعنه، عن محمد بن همام، عن علي بن محمد بن رباح، أنّ محمد بن العباس حدَّثه عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن علي بن ميمون الصايغ، قال: «قال لي أبو عبد الله علیه السلام :...»(2). وكذا رواها الشيخ المفيد في المزار(3).

دلالة الرواية: يمكن أن يقال: إنّ هذه الرواية تدلّ على الوجوب بدلالة قوله علیه السلام : «إنّ مَن لم يزر الإمام الحسين علیه السلام وهو قادر على ذلك فإنّه ليس بمعذور أمام الله تعالى». وعدم العذر لا يكون إلاّ على ترك شيء واجب.

ولكن هذا النحو من الاستدلال لا يمكن قبوله؛ لأنّ الرواية في صدد الكلام

ص: 229


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص492. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص534
2- الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص45.
3- الشيخ المفيد، المزار: ص225.

عن الثواب العظيم الذي لا يحوزه الشخص إلاّ بزيارة الإمام الحسين علیه السلام ، ومَن لم يزره فقد فاته الخير الكثير، وهو غير معذور في فوات الخير على نفسه، خصوصاً إذا كان هذا الخير هو مجاورة محمد صلی الله علیه و آله وأهل بيته الكرام علیهم السلام . وبقية فقرات الرواية كلها واضحة في الاستحباب والثواب الجزيل، هذا بالإضافة إلى أنّ هذا الذيل الذي استُدل به لم يرد في رواية التهذيب التي هي معتبرة السند.

سند الرواية: أمّا رواية الكامل فهي مرسلة. وأمّا سند التهذيب فهو وإن كان فيه الحسن بن علي وقد ضُعِّف واتُّهم بالكذب، إلاّ أنّ الكلام فيه كالكلام في أبيه، وأمّا علي بن ميمون فالقرائن عديدة على اعتباره والاطمئنان بما يرويه.

الرواية الثانية عشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: «حدَّثني أبي رحمه الله، عن أحمد بن إدريس ومحمد بن يحيى، عن العمركي بن علي البوفكي، قال: حدَّثنا يحيى - وكان في خدمة أبي جعفر الثاني علیه السلام - عن علي، عن صفوان بن مهران الجمّال، عن أبي عبد الله علیه السلام في حديث طويل، قلت: مَن يأتيه زائراً ثمَّ ينصرف عنه متى يعود إليه؟ وفي كم يأتي؟ وكم يسع الناس تركه؟ قال: لا يسع أكثر من شهر، وأمّا بعيد الدار ففي كل ثلاث سنين، فما جاز ثلاث سنين فلم يأته فقد عقَّ رسول الله صلی الله علیه و آله ، وقطع حرمته، إلاّ عن علّة»(1).

دلالة الرواية: تدلّ هذه الرواية على أنّه لا يسع الناس ترك زيارة الإمام الحسين علیه السلام في المدّة المذكورة، أي: لا يجوز لهم ذلك، وهذا يعني الوجوب في المدّة المعيّنة، كما أنّ مَن لم يأتِ قبر الإمام الحسين علیه السلام في المدّة المعيّنة، وهي شهر للقريب وثلاث سنوات للبعيد، فإنّه قد عقّ رسول الله صلی الله علیه و آله وعقوق الرسول من أعظم المحرمات، كما أنّ مَن لم يزره في هذه المدّة فقد قطع رحم رسول الله صلی الله علیه و آله .

ص: 230


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد،كامل الزيارات: ص494. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج14، ص535

سند الرواية: الكلام عن سند الرواية في أمرين:

الأول: الكلام في يحيى خادم الإمام الجواد علیه السلام ، حيث لم يرد فيه توثيق، ولكن يمكن اعتباره لأمور، منها: روايته عن الثقات الأجلاّء، ورواية الثقات عنه، ومنها: خدمته لأبي جعفر الثاني إمامنا الجواد علیه السلام ، ومنها: استقامة رواياته ووجود شواهد عليها من روايات أُخرى، إلى غير ذلك من الشواهد التي تؤيد اعتباره وإمكان الركون إلى روايته.

الثاني: الكلام في عليّ، الذي روى عنه يحيى، فإنّه - وبحسب الراوي والمروي عنه - إمّا عليّ بن الحكم وهو ثقة، وقد أكثر الرواية عن صفوان الجمّال، وإمّا علي بن الحسن، ثمّ إنّ عليّ بن الحسن هذا أيضاً مشترك - وبحسب الطبقة - بين علي بن الحسن بن رباط، وعلي بن الحسن الطاطري، وعلي بن الحسن بن فضال، والجميع ثقات؛ فالرواية معتبرة من جهة السند.

الرواية الثالثة عشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: «حدَّثني محمد بن جعفر الرزّاز، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن حنان، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام : زوروا الحسين علیه السلام ولا تجفوه، فإنّه سيد شباب أهل الجنّة من الخلق، وسيد الشهداء»(1)

دلالة الرواية: إنّ الإمام الصادق علیه السلام يأمر بزيارة الإمام الحسين علیه السلام ، والأمر ظاهر في الوجوب، كما ثبت في محله.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ هذا الأمر لا يدلّ على الوجوب؛ لأنّه غير ناظر له أصلاً، وإنّما الإمام علیه السلام كان ناظراً إلى حالة الجفاء، حيث عقّب الأمر بالزيارة بالنهي

ص: 231


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص216.

عن الجفاء، فعدم الجفاء هو العلّة في الأمر؛ وعليه فيدور الأمر مداره، فإن كان فالأمر موجود وإلاّ فلا، وهذا غير ما نحن بصدد إثباته من الوجوب النفسي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام ، أي حتى مع عدم تحقق الجفاء فالزيارة واجبة.

سند الرواية: إنّ سند هذه الرواية تامّ؛ لأن محمد بن الحسين هو محمد بن الحسين بن أبي الخطاب الزيّات، وهو جليل من أصحابنا عظيم القدر. وأمّا محمد بن إسماعيل، فهو محمد بن إسماعيل بن بزيع، وهو من صالحي هذه الطائفة وثقاتهم. وأمّا حنان، فهو حنان بن سدير الثقة.

الرواية الرابعة عشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: «وبهذا الإسناد [أي: حدَّثني أبي وعلي بن الحسين وجماعة مشايخي، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن علي، عن عباد أبي سعيد العصفري] عن علي بن حارث، عن الفضل بن يحيى، عن أبيه، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: زوروا كربلاء ولا تقطعوه، فإن خير أولاد الأنبياء ضمنته، ألا وأنّ الملائكة زارت كربلاء ألف عام من قَبل أن يسكنه جدي الحسين علیه السلام ، وما من ليلة تمضي إلاّ وجبرئيل وميكائيل يزورانه، فاجتهد - يا يحيى - أن لا تُفقَد من ذلك الموطن»(1).

دلالة الرواية: دلالة هذه الرواية كسابقتها؛ حيث عقّبت الأمر بالزيارة بالنهي عن القطيعة.

سند الرواية: سند هذه الرواية بين مهمَل كعلي بن الحارث، وبين مجهول كالعصفري، وبين مشترك كمحمد بن علي.

الرواية الخامسة عشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: «حدَّثني

ص: 232


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص452 -453.

أبي رحمه الله وعلي بن الحسين، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن موسى بن الفضل، عن حنان، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام : ما تقول في زيارة قبر أبي عبد الله الحسين علیه السلام ؟ فإنّه بلغنا عن بعضهم أنّها تعدل حجّة وعمرة. قال: لا تعجب، ما أصاب مَن يقول هذا كله! ولكن زره ولا تجفه؛ فإنّه سيّد الشهداء وسيد شباب أهل الجنّة، وشبيه يحيى بن زكريا، وعليهما بكت السماء والأرض»(1).

وروى أيضاً عن أبيه «عن سعد، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن موسى بن الفضل، عن علي بن الحكم، عمَّن حدَّثه، عن حنان بن سدير، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قلت له: ما تقول في زيارة الحسين علیه السلام ، فقال: زره ولا تجفه؛ فإنّه سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة، وشبيه يحيى بن زكريا، وعليهما بكت السماء والأرض»(2).

دلالة الرواية: إنّ دلالة هذه الرواية كسابقتها، حيث أعقبت الأمر بالزيارة بالنهي عن الجفاء.

سند الرواية: أمّا السند الأول ففيه موسى بن الفضل وهو مجهول، وأمّا الثاني فبالإضافة إلى جهالة موسى بن الفضل فيه إرسال.

الرواية السادسة عشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: «حدَّثني أبي رحمه الله ومحمد بن عبد الله وعلي بن الحسين ومحمد بن الحسن رحمهم الله جميعاً، عن عبد الله بن جعفر الحميري، عن موسى بن عمر، عن حسان البصري، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قال لي: يا معاوية، لا تدع زيارة قبر الحسين علیه السلام لخوف؛ فإنّ مَن ترك زيارته رأى من الحسرة ما يتمنى أنّ قبره كان عنده، أما تحب أن يرى الله شخصك وسوادك

ص: 233


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص184.
2- المصدر السابق: ص486.

فيمَن يدعو له رسول الله صلی الله علیه و آله وعلي وفاطمة والأئمة علیهم السلام »(1).

ورواها أيضاً عن حكيم بن داود بن حكيم السرّاج، عن سلمة بن الخطاب، عن موسى بن عمر، عن حسان البصري، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله علیه السلام (2).

دلالة الرواية: الاستدلال بهذه الرواية على المطلوب من خلال فقرة «لا تدع زيارة قبر الحسين علیه السلام لخوف»؛ حيث إنّ الإمام ينهى عن ترك الزيارة حتى لخوفٍ، فضلاً عن عدمه، والنهي عن الترك يعني لزوم الزيارة ووجوبها؛ لأنّه لا معنى للنهي عن المباح.

لا يقال: إنّ الرواية بصدد بيان الفضل الكبير لزيارة الإمام الحسين علیه السلام وبيان مقدار الخسارة التي يتعرّض لها تارك الزيارة؛ حيث إنّ الرواية عقّبت فقرة الاستدلال بالحسرة الشديدة لمَن ترك الزيارة، ثمّ أردفتْها بحبّ الشخص أن يُرى في موضع يحب الله تعالى أن يرى عبادَه فيه، وهو موطن دعاء الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وأهل البيت علیهم السلام ، فهذا التعقيب قرينة على أنّ المراد هو بيان درجة الفضل لا بيان الوجوب.

لأنه يقال: إنّ هذا البيان لمقدار درجة الفضل للزيارة التي تكون في حالة الخوف، لا ينافي وجوب الزيارة؛ إذ لا مانع من بيان فضل الأمر الواجب، وربما يكون بيان الفضل لدفع توهم أنّ الزيارة التي عن خوف لا ثواب فيها، فلأجل ذلك بيّن الإمام علیه السلام ذلك المقام لزيارة الإمام الحسين علیه السلام .

نعم، يمكن مناقشة الاستدلال المتقدّم على الوجوب من وجه آخر، وهو أنّ هذا النهي يُحتمل فيه أنّه النهي بعد توهم الحظر؛ إذ ربما يتوهم الشخص أنّ الزيارة التي تكون عن خوف منهيّ عنها؛ لأجل ذلك نهى الإمام علیه السلام عن تركها، والنهي عقيب

ص: 234


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص227.
2- المصدر السابق: ص243.

توهم الحظر يفيد الجواز.

ويمكن دفع هذه المناقشة، بأن يقال: إن الأمر بعد توهم الحضر يفيد الجواز في الأُمور الطبيعية، وأما في فرض الخوف، فالأمر يختلف؛ لأن الخوف يستدعي التقية التي بموجبها تخالف الواجبات، فمع هذا الفرض كان المفروض أن تمنع الزيارة، لا أن الإمام يأمر بها، فأمره بها علیه السلام يدل على وجوبها حتى مع الخوف، فتامل.

سند الرواية: الكلام عن سند الرواية في أمرين:

الأول: الكلام عن موسى بن عمر، حيث إنّه مشترك بين موسى بن عمر بن يزيد، وبين موسى بن عمر بن بزيع، والأول لم يُنصّ على توثيقه، وأمّا الثاني فهو ثقة بالاتّفاق، وقد ذكر الشيخ الطوسي الأولَ مقيَّداً بابن يزيد وأطلق الثاني؛ من هنا ذهب بعض الرجاليين إلى القول: بأنّ هذا العنوان (موسى بن عمر) إذا أطلق فهو منصرف إلى ابن بزيع الثقة، إلاّ أنّ صاحب القاموس ذهب إلى خلاف ذلك؛ حيث قال في ترجمة موسى بن عمر بن بزيع: «موسى بن عمر اثنان: هذا، وموسى بن عمر بن يزيد الآتي عن النجاشي وفهرست الشيخ، وحيث إنّ الفهرست قيَّد الآتي وأطلق هذا، جعل هذا المنصرف إليه من الإطلاق. لكن الظاهر العكس، فروى محمد بن علي بن محبوب، عن موسى بن عمر في زيادات كيفيّة صلاة التهذيب وزيادات مائه، وفي الاستبصار (الماء يقع فيه شيء) ومحمد بن علي بن محبوب راوي الآتي في الفهرست. وكأن الفقيه والتهذيب أيضاً جعلا هذا المنصرف إليه»(1).

أقول: لا يمكن الاطمئنان بالانص-راف لأيّ منهما؛ فلأجل ذلك لا يمكن

ص: 235


1- التستري، محمد تقي، قاموس الرجال: ج10، ص288- 289

الاطمئنان بكونه هو ابن بزيع الثقة.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ موسى بن عمر بن يزيد وإن لم يرد فيه توثيق، إلاّ أنّه من المعاريف الذين لم يرد فيهم ذمٌّ، وهو أمارة على الاعتبار؛ حيث إنّ موسى هذا عنده أكثر من كتاب وقد روى عن الثقات ورووا عنه، فممَّن رووا عنه: سعد بن عبد الله، وأحمد بن محمد بن يحيى، وسلمة بن الخطاب، وغيرهم. وممَّن روى عنهم: الحسن بن محبوب، وعلي بن أسباط، ومحمد بن سنان، وعلي بن النعمان، وغيرهم؛ وعليه فلا فرق حينئذٍ بين أن يكون هو ابن بزيع أو ابن يزيد.

الثاني: الكلام في حسّان البصري، قيل: إنّ الصحيح هو غسّان البص-ري، وقد ذُكرت بعض الشواهد على ذلك(1).

أقول: كيفما كان، فسواء كان هو حسّان أو غسّان، فإنّ الحكم عليه لا يتغيّر؛ لأنّه مجهول في العنوانين.

الرواية السابعة عشرة: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: «وروي، قال أبو جعفر علیه السلام : الغاضرية هي البقعة التي كلّم الله فيها موسى بن عمران علیه السلام ، وناجى نوحاً فيها، وهي أكرم أرض اللهِ عليه، ولولا ذلك ما استودع الله فيها أولياءه وأبناء نبيه، فزوروا قبورنا بالغاضرية»(2).

دلالة الرواية: الاستدلال بهذه الرواية من خلال فقرتها الأخيرة، حيث أمر الإمام علیه السلام بزيارة قبور الغاضرية وهي كربلاء، والأمر ظاهر في الوجوب.

ص: 236


1- اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص227، هامش رقم1 بتحقيق جواد القيومي
2- المصدر السابق: ص452.

سند الرواية: الرواية مرسلة.

هذا تمام الكلام في الروايات التي تدلّ بظاهرها على الوجوب، أو التي ادُعي فيها ذلك.

الخلاصة: إنّ النتيجة المتحصَّلة من خلال البحث في القسم الثاني من الروايات هو: أنّه توجد مجموعة من الروايات تامّة دلالةً وسنداً على المطلوب، من قبيل الرواية الأُولى، والثانية، والسادسة، والسابعة، والثامنة، وغيرها؛ وبذلك تكون زيارة الإمام الحسين علیه السلام واجبة بنحو المقتضي في هذا القسم من الروايات أيضاً، حيث تقدّم أنّ الزيارة واجبة من خلال القسم الأول من الروايات الذي تقدّم في القسم الأول من البحث.

ولكن إلى هنا لا يمكننا أن نخرج بنتيجة نهائية من البحث ما لم نبحث الموانع والعوارض للحكم بوجوب الزيارة، وهذا ما سنعقد له القسم الثالث من البحث في هذه الدراسة، فهناك سوف نسلّط الضوء على تلك الموانع لنرى هل يمكن دفعها أو لا؟

ص: 237

ص: 238

دراسات دينية

اشارة

*بيعة أمير المؤمنين علي علیه السلام لأبي بكر والنص على الإمامة إشكالية النظرية أم الممارسة؟

*الثورة على عثمان وموقف علي علیه السلام

*الوسواس وكثرة الشك، الحكم والأسباب وطرق العلاج

ص: 239

ص: 240

بيعة أمير المؤمنين علي علیه السلام لأبي بكر والنص على الإمامة إشكاليّة النظرية أم الممارسة؟د. السيد حاتم البخاتي

اشارة

من السمات البارزة التي تَميّز بها تراث أُمّتنا الإسلاميّة امتلاكها تاريخاً مدوّناً غنيّاً بالأحداث العظيمة والدقيقة، التي حفلت بها مسيرةُ هذا الدين الحنيف، وتفاعله على أرض الواقع؛ ليرسم للإنسانيّة طريق الهداية والخلاص من براثن الجهل والفوضى.

اكتسب التاريخ الإسلاميّ مقوماتِ حيويتِه وقوّتهِ من عدّة ركائز، أهمّها استخدام المدوّنين له آليات تكفل له الحفظ والديّمومة والاستمرار، مع اتّباعهم طريقة تضمن لهم الحصول على مادّة قريبة من الحقيقة والواقع، وهو اعتماد التسلسل السندي، وتحرّي الصدق والأمانة في الناقلين، مع ما يتمتع به المسلمون - آنذاك - من صفاء ذهن، وحس مرهف وحافظة قويّة، ساعدت في حفظ تراثهم من الضياع والاندراس، يدعم ذلك أنهم كانوا ينطلقون من خلفيّة عقديّة في تصوراتهم تجاه ما حصل من الحوادث والوقائع في التاريخ الإسلامي - لاسيما في صدر الإسلام - التي يُبنى عليها كثير من الرؤى الشرعيّة والدينيّة المهمّة، ويقف في مقدمة ذلك، الأحداث التي أعقبت وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله ، وما حصل من وقائع متسارعة ومتلاحقة في سقيفة بني ساعدة، أسفرت عن اعتلاء أبي بكر سدّة الحكم؛ ليكون خليفة لرسول الله صلی الله علیه و آله ، وما تلا ذلك من أخذ البيعة له من المسلمين؛ ليكتسب شرعيته أمامهم.

ص: 241

وممّا لا يمكن القدح في صحته إبّان تلك المدّة، هو غياب أمير المؤمنين عن مسرح الأحداث ومعه بنو هاشم وقسم من الأنصار، منشغلين بمراسم تجهيز النبيّ صلی الله علیه و آله والقيام بما يلزم لذلك، وهم عمّا يخطط له القوم في شغل شاغل، وهو رحيل رسول الإنسانيّة وخاتم النبيين من هذه الدنيا؛ الأمر الذي كان له وقعه المدوّي في نفوس المسلمين المخلصين.

وبعد الفراغ من تجهيز النبي ومواراته في قبره الشريف، اعتزل المتخلّفون عن السقيفة، ورفضوا البيعة، ولكن بُذلت المحاولات الحثيثة لأخذ البيعة، خصوصاً من أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لأنه بدون ذلك تبقى شرعيّة هذه الخلافة محلّ تساؤل كبير، في ذلك الزمان وفي كل زمان.

عندئذٍ لا بد لتاريخ السلطة أن يقول كلمته هنا، ويسجّل ما يخدم الوضع القائم آنذاك، ويُثبّت أنّ جميع المسلمين بما فيهم المعارضون قد بايعوا وتمّ الأمر! ولكن مع هذا اختلفت النقولات وتعارضت الأخبار في أنّ بيعة أمير المؤمنين علیه السلام أبا بكر هل كانت من أول الأمر أم بعد حين، أم أنه لم يبايع أساساً؟

تمسّك بعضُ مَن يريد التشويش على الذهنيّة العامّة ببعض الأخبار الدالّة على حصول البيعة من البداية؛ ليؤسس عليها إشكاليّة، مفادها: أن هذه البيعة لا تنسجم مع ما تدّعيه الشيعة من وجود النصّ على الإمامة، بمعنى أنّ مَن لديه النصّ كيف يبايع غيره خليفة وإماماً، ما يعني أن قضيّة النصّ ليس لديها نصيب من الصحة.

يمكن أن يقال - في صدد تقييم هذه الإشكاليّة-: إن كثيراً ما يقع أصحاب مثل هذه الطروحات والإثارات في فخّ عدم الفهم الصحيح لأُسس وقواعد البناء الفكريّ

ص: 242

والعقديّ لمذهب أهل البيت علیه السلام ، فيبنون إشكالاتهم على كثيب من الرمل سرعان ما ينهار بصاحبه، فهنا كذلك؛ حيث إنّ صاحب هذه الشبهة يتصور أن الإمامة في مذهب أهل البيت علیهم السلام هي السلطة السياسيّة والحكومة الدنيويّة، فعندما لا يصل الإمام لسبب ما إلى السلطة والحكم تنسلخ عنه الإمامة، وبالتالي تقع الإشكاليّة عند الشيعة؛ ولذا أُثيرت هذه الشبهة أيضاً في مسألة تنازل الإمام الحسن علیه السلام عن الخلافة وتسليمها إلى معاوية في حادثة الصلح وهكذا.

في حين أنّ الإمامة في مذهب أهل البيت هي منصب إلهي وجعْلٌ ربّاني لقيادة الأمّة وهدايتها بعد الرسول، وعلى كافّة الأصعدة- بما فيها الحكومة والسلطة السياسيّة والتي هي شأن من شؤون هذه الإمامة الإلهية- لا يضرها إن لم تتوفر في ظرف من الظروف.

إلاّ أننا - وفي معالجة هذه الإشكاليّة - نريد أنّ نغضّ الطّرْف عن هذا الجواب، وننساق مع رؤى ومفاهيم هذا المستشكل وما يدركه، ونُثْبت له أنّ أمير المؤمنين علیه السلام إمّا أنّه لم يبايع أبداً، أو أنّ بيعته تمّت بعد مدّة طويلة، أثبَتَ من خلالها عدم شرعيّة هذه الخلافة، وسوف نحاكم النصوص الواردة في هذه القضية وفق قواعد أهل السنّة ومن كتبهم المعتبرة، مع الإشارة العابرة لما ورد حولها في كتب الشيعة، تاركين الحصة الأكبر من البحث لما جاء في كتب أهل السنّة ومصادرهم.

المبحث الأول: بيعة علي علیه السلام أبا بكر في كتب الشيعة

اشارة

هناك اتجاهان يمكن ملاحظتهما في مصادر الشيعة وأقوال علمائهم فيما يخصّ مبايعة علي علیه السلام أبا بكر، هما:

ص: 243

1- علي علیه السلام لم يبايع أبا بكر قط

ذهب بعض علماء الشيعة إلى أن أمير المؤمنين علیه السلام لم يبايع أبا بكر أبداً، لا في بداية الأمر ولا بعد حين، وعزا الشيخ المفيد ذلك القول إلى المحققين من علماء الشيعة، فقال: «قد أجمعت الاُمّة على أنّ أمير المؤمنين علیه السلام تأخّر عن بيعة أبي بكر ... والمحققون من أهل الإمامة يقولون: لم يبايع ساعة قط»(1).

وعلى هذا الرأي؛ فلا توجد هناك بيعة إطلاقاً، حتى يقال: إنّها تتنافى مع وجود النصّ على أمير المؤمنين علیه السلام .

2- علي علیه السلام بايع مكرَهاً

ذهب قسم من علماء الشيعة الإماميّة إلى أنّ أمير المؤمنين علیه السلام بايع أبا بكر منذ البداية؛ إلاّ أن بيعته كانت تحت الإكراه والتهديد، الذي ربما وصل إلى حدّ التهديد بالقتل، وعلى أقل تقدير يمكننا القول: إن البيعة لم تكن عن قبول ورضا منه.

قال السيد المرتضى: «وروى إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة، عن خالد بن مخلد البجلي، عن داود بن يزيد الأودي، عن أبيه، عن عدي بن حاتم، قال: إني لجالس عند أبي بكر، إذ جيء بعلي علیه السلام ، فقال له أبو بكر: بايع. فقال له علي علیه السلام : فإن لم أفعل؟ فقال: أضرب الذي فيه عيناك. فرفع رأسه إلى السماء، ثم قال: اللّهم اشهد. ثم مدّ يده.

وقد روي هذا المعنى من طرق مختلفة، وبألفاظ متقاربة المعنى، وإن اختلفت ألفاظها، وأنه علیه السلام كان يقول في ذلك اليوم لمّا أُكره على البيعة وحُذّر من التقاعس عنها: يا بن أمِّ، إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني؛ فلا تشمت بي الأعداء، ولا تجعلني مع القوم الظالمين.

ص: 244


1- المفيد، الفصول المختارة: ص56.

ويردد ذلك ويكرره. وذِكْر أكثر ما روي في هذا المعنى يطول، فضلاً عن ذِكْر جميعه، وفيما أشرنا إليه كفاية ودلالة على أنّ البيعة لم تكن عن رضى واختيار»(1).

وفي رواية: «فقالوا له: مدّ يدك فبايع. فأبى عليهم، فمدّوا يده كرهاً، فقبض على أنامله، فراموا بأجمعهم فتحها، فلم يقدروا، فمسح عليها أبو بكر وهي مضمومة، وهو علیه السلام يقول وينظر إلى قبر رسول الله صلی الله علیه و آله : يا بن أمِّ، إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني»(2).

ونقل في الشافي قوله علیه السلام : «ما زلت مظلوماً منذ قبض اللّه نبيّه صلی الله علیه و آله وإلى يوم الناس هذا»(3).

وهذا الرأي الذي يذهب إليه جمع من علماء الشيعة الإماميّة، تدعمه شواهد عديدة من كتب أهل السنّة، سنشير إلى بعضها لاحقاً.

وعلى هذا الرأي؛ لا يصحّ لصاحب هذه الإشكاليّة أن يتمسّك بمبايعة علي علیه السلام أبا بكر لنفي النصّ على الإمامة؛ لأنّ البيعة الإكراهيّة لا تنافي أبداً وجود النصّ على أمير المؤمنين علیه السلام ؛ إذ من الممكن جداً أن يُكرَه صاحبُ النصّ على مبايعة غيره، ولا يحقّ لأحد القول: بأنّه كيف يبايع وهو منصوص عليه؟! لأنّ البيعة بالجبر والإكراه كالعدم.

المبحث الثاني: بيعة علي علیه السلام أبا بكر في كتب أهل السنة

توجد هناك عدّة نصوص وروايات تناولت بيعة علي علیه السلام للخليفة الأوّل في كتب أهل السنّة الحديثيّة والتاريخيّة، ويمكن تصنيف هذه الروايات والأخبار إلى طائفتين:

الطائفة الأُولى: النصوص الدالة على حصول البيعة من أول الأمر

اشارة

ذكرت بعض النصوص والأحاديث أنّ علياً علیه السلام بايع أبا بكر مباشرة ومن دون

ص: 245


1- المرتضى، الشافي في الإمامة: ج3، ص244- 245.
2- الفيض الكاشاني، علم اليقين: ج2، ص688. القمي، بيت الأحزان: 118- 119.
3- السيد المرتضى، الشافي في الإمامة: ج3، ص223.

تأخير، وهو ما أخرجه البيهقي في السنن(1) - واللفظ له - والاعتقاد(2)، والحاكم في المستدرك(3)، وابن عساكر(4)، وغيرهم بسندهم عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، قال: «لمّا توفِّي رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) قام خطباء الأنصار، فجعل الرجل منهم يقول: يا معشر المهاجرين، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) كان إذا استعمل رجلاً منكم قَرَنَ معه رجلاً منّا، فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان أحدهما منكم والآخر منّا.

قال: فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك، فقام زيد بن ثابت (رضي الله عنه)، فقال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) كان من المهاجرين، وإن الإمام يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنّا أنصار رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم).

فقام أبو بكر (رضي الله عنه)، فقال: جزاكم الله خيراً - يا معشر الأنصار - وثبّت قائلكم. ثمّ قال: أما لو فعلتم غير ذلك لما صالحناكم. ثمّ أخذ زيد بن ثابت بيد أبي بكر، فقال: هذا صاحبكم فبايعوه، ثم انطلقوا.

فلمّا قعد أبو بكر (رضي الله عنه) على المنبر نظر في وجوه القوم، فلم ير علياً (رضي الله عنه) فسأل عنه، فقام ناس من الأنصار فأتوا به، فقال أبو بكر (رضي الله عنه): ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) وخَتَنُه، أردت أن تشقّ عصا المسلمين؟! فقال: لا تثريبَ يا خليفة رسول الله. فبايعه.

ثم لم يرَ الزبير بن العوّام (رضي الله عنه)، فسأل عنه حتى جاءوا به، فقال: ابن عمة

ص: 246


1- البيهقي، السنن الكبرى: ج8، ص143.
2- البيهقي، الاعتقاد: ج1، ص349- 350.
3- الحاكم، المستدرك: ج3، ص76.
4- ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج30، ص278.

رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) وحواريه، أردت أن تشقّ عصا المسلمين؟! فقال مثل قوله: لا تثريب يا خليفة رسول الله. فبايعاه».

لقد تمسّك الكثير من علماء أهل السنّة ومحدّثيهم بمضمون هذا الحديث، واحتفوا به احتفاءً كبيراً؛ لأنّه يُعالج مشكلة كبيرة عندهم عانوا منها كثيراً، وهي مخالفة علي علیه السلام ومَن معه من كبار الصحابة لبيعة أبي بكر وخلافته، ورفضهم لها، أو تأخّرهم عنها على أقل تقدير، فتصوّروا أن مضمون الحديث يؤمّن لهم هذا الجانب، ويُصْلِح لهم هذا الخلل في شرعيّة الخلافة وصحّتها، فصححوا هذا المضمون واعتبروه، وقدّموه على غيره من الصحاح التي تعارضه في المضمون، ومن كلماتهم الدالّة على هذا المعنى ما قاله ابن حجر في فتح الباري: «وقد صحّح ابن حبّان(1) وغيره من حديث أبي سعيد الخدري وغيره: أنّ علياً بايع أبا بكر في أول الأمر»(2).

وقال ابن كثير عن إسناد هذا الحديث: «وهذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري»(3)، وبعد هذا لم يُخفِ ابن كثير فرَحَه بهذا الحديث الذي جاء متطابقاً مع ما يحبّ ويهوى، فقال: «وفيه فائدة جليلة، وهي مبايعة علي بن أبي طالب إمّا في أوّل يوم، أو في اليوم الثاني من الوفاة»(4)، ولعلّ هذا هو السبب الذي دفعه إلى تصحيح الحديث وقبوله.

ويذهب ابن خزيمة ومسلم النيسابوري إلى مديات أبعد في احتفائهم بهذا الحديث

ص: 247


1- لم نعثر على تصحيح ابن حبان لحديث أبي سعيد الخدري الذي فيه أن علياً علیه السلام بايع أبا بكر في أوّل الأمر
2- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري: ج7، ص379.
3- ابن كثير، البداية والنهاية: ج5، ص270.
4- المصدر السابق: ج5، ص270.

وسرورهم به، فقد أخرج البيهقي في سننه عن أبي علي الحافظ، قال: «سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: جاءني مسلم بن الحجاج النيسابوري، فسألني عن هذا الحديث، فكتبته له في رقعة قرأت عليه، فقال: هذا حديث يسْوَى بدنة. فقلت: يسْوى بدنة؟ بل هو يسوى بدرة»(1)، ولا ندري هل جميع الأحاديث الصحيحة عندهم تسوى ذلك، أم أنّ هناك انتقائية في الأمر؟!

هذا، وستأتي مناقشتهم للأحاديث الصحيحة الواردة في البخاري ومسلم وغيرهما وردّهم لها؛ لكونها تعارض هذه الأحاديث وسنشير إلى مناقشتهم لها، وما يمكن أن يجاب عنها.

1- مناقشة دلالة الحديث
الحديث يدل على أن مبايعة علي علیه السلام كانت بالإكراه

مع غضّ الطَرْف عن المناقشات السنديّة في هذا الحديث، وعلى فرض التسليم بصحته ودلالته على أنّ بيعة علي علیه السلام كانت من أوّل الأمر، إلاّ أنّه لا دلالة فيه على أن بيعته كانت عن رضا وتسليم واختيار، فلو خُلّينا نحن وألفاظ هذا الحديث الذي تمسّكوا به، نجد أنّه ظاهر في أنّ البيعة كانت بالتهديد والوعيد والإكراه.

ويظهر ذلك من قوله: «فلمّا قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم، فلم يرَ علياً، فسأل عنه، فقام ناس من الأنصار فأتوا به، فقال أبو بكر: ابن عمّ رسول الله ... أردت أن تشقّ عصا المسلمين؟!»(2).

ص: 248


1- البيهقي، السنن الكبرى: ج8، ص143.
2- المصدر السابق: ج8، ص143.

فإنّ علياً علیه السلام لو لم يكن لديه خلاف ومعارضة للبيعة، فلماذا يسأل عنه أبو بكر مباشرة بعد جلوسه على المنبر، ويفتّش عنه، وتذهب مجموعة من الأنصار لتأتي به؟! فإنْ كان لا يدري ولم يسمع بالبيعة، فكان يكفي في إعلامه أن يذهب شخص واحد إليه ويخبره، لا أن تذهب مجموعة وتأتي به، فالظاهر أنّه جيء به من دون رغبة منه أو رضا (1)، ثم بعد مجيئه يجابهه أبو بكر بتلك اللهجة الحادّة التي تعلوها الخشونة والغلظة، وينسب له بأنه يروم شقّ عصا المسلمين، وهي لا تقال إلاّ لمَن أعلن الخلاف وأظهر المعارضة، وهي تهمة خطيرة جداً، بل أخطر ما يمكن أن يتّهم به المرء؛ لأنها تعني الخروج عن الإسلام ومخالفة الجماعة(2)، ففي الحديث عن ابن عباس عن النبي صلی الله علیه و آله : «من شقّ عصا المسلمين، والمسلمون في إسلام دامجٍ(3)، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»(4).

وقد تؤدي هذه التهمة إلى إباحة دم صاحبها، كما في الاستيعاب عن عبد بن عمير الأشجعي أنّه سمع رسول الله صلی الله علیه و آله ، يقول: «إذا خرج عليكم خارج يشقّ عصا المسلمين، ويفرّق جمعهم، فاقتلوه ما أستثني أحداً»(5).

ص: 249


1- لا كما يرويه الطبري عن سيف الكذّاب، قال: «كان علي في بيته إذ أُتى، فقيل له: قد جلس أبو بكر للبيعة. فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلاً؛ كراهية أن يبطئ عنها حتى بايعه، ثم جلس إليه وبعث إلى ثوبه، فأتاه فتجلله ولزم مجلسه». الطبري، تاريخ الطبري: ج2، ص447
2- شقّ العصا بمعنى مخالفة الإسلام والخروج على أهله بالعصيان، يقال: شُقّت عصا المسلمين إذا اختلفت كلمتهم، وتبدّد جمعهم، والشقاق: المخالفة. اُنظر: ابن خلاد الرامهرمزي، كتاب أمثال الحديث: ص118
3- الدامج: المجتمع، والدموج: دخول الشيء في الشيء. ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث: ج2، ص132
4- الطبراني، المعجم الكبير: ج11، ص21.
5- ابن عبد البرّ، الاستيعاب: ج3، ص960.

والشاهد على انفعال أبي بكر وحِدَّته في الكلام، هو جواب أمير المؤمنين علیه السلام له بقوله: «لا تثريب»، والتثريب هو اللوم والتوبيخ، وهي عبارة تقال عند الصفح عمّن تجاوز وتعدّى، والشيء نفسه قاله الزبير أيضاً بعد تخلّفه عن البيعة مع أمير المؤمنين علیه السلام .

فمبايعة أمير المؤمنين علیه السلام في واقع الحال قد وقعت في جوّ من الإكراه والتضييق، وما تشير إليه هذه الأحاديث التي استندوا إليها لا يختلف عمّا أشارت إليه أحاديث وأخبار السقيفة وبيعة أبي بكر فيها، وما جرى فيها من أحداث متسارعة، أبعد ما تكون عن الرَوِيَة وأخْذ الأُمور بتعقّل ومشورة، بل شابت كثير من أحداثها، مظاهرُ العُنْف والقوّة والتهديد والوعيد.

2- أدلة أُخرى على أن علياً علیه السلام بايع أبا بكر مكرهاً

من الثابت والمسلّم تاريخياً أن علياً علیه السلام وجمعاً كثيراً من بني هاشم وعدداً من الأنصار، لم يشهدوا أحداث سقيفة بني ساعدة التي تمخّض عنها تولّي أبي بكر الخلافة؛ وذلك لانشغالهم بتجهيز النبي صلی الله علیه و آله وإتمام مراسم رحلته المفجعة عن الدنيا، وبعد أن تمّت البيعة وانفضّ اجتماع السقيفة، كان علي علیه السلام وأصحابه قد تجمّعوا في بيت أمير المؤمنين علیه السلام مُعلنين احتجاجهم ورفضهم للبيعة وعدم رضاهم بها، قال عمر بن الخطاب: «وأنه قد كان من خبرنا حين توفّى الله نبيّه صلی الله علیه و آله أنّ الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعِدة، وخالف عنّا عليّ والزبير ومن معهما»(1).

وروى الطبري في تاريخه في حديث طويل، قال: «وتخلّف عليٌّ والزبير، واخترط الزبير سيفه، وقال: لا أغمده حتى يبايع علي»(2).

ص: 250


1- البخاري، صحيح البخاري: ج8، ص26 ح6830.
2- الطبري، تاريخ الطبري: ج2، ص444.

ونقل ابن أبي الحديد عن الجوهري، قال: «غضِبَ رجالٌ من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة، وغضِبَ عليٌّ والزبير، فدخلا بيت فاطمة معهما السلاح»(1)، وغير ذلك من الشواهد التي تدلّ على أنّ علياً علیه السلام ومعه عدد من الصحابة قد تخلّفوا عن البيعة، ولم يكونوا راضين بها، بل اعتبر أميرُ المؤمنين علیه السلام ذلك استبداداً منهم بالأمر واستئثاراً به، لا عن مشورة ورجوع إلى كبار الصحابة من أهل السَّبْق في الإسلام والجهاد والقرابة من النبي صلی الله علیه و آله ، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما أنّ أمير المؤمنين علیه السلام خاطب أبا بكر قائلاً: «ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى حقاً لقرابتنا من رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) نصيباً»(2).

وبعد أن تخلّف علي علیه السلام ومَن معه من الصحابة، دلّت كثير من الشواهد التاريخيّة والحديثيّة على أنّهم تعرّضوا لأساليب متعددة من العنف والقوّة والتهديد، الذي وصل إلى حدّ التهديد بإحراق البيت عليهم؛ من أجل الضغط عليهم لانتزاع البيعة منهم. فقد روى الطبري بسنده عن زياد بن كليب، قال: «أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفاطمة، وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله، لأحرقنّ عليكم أو لتخرجَنَّ إلى البيعة. فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف، فعثر فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه»(3).

وأخرج ابن أبي شيبة في مصنَّفه عن زيد بن أسلم، عن أبيه أسلم، قال: «حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم، فلمّا بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة، فقال: يا بنت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، والله، ما

ص: 251


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج6، ص47.
2- البخاري، صحيح البخاري: ج5، ص83، ح4240 ح4241. مسلم النيسابوري، صحيح مسلم: ج5، ص154 ح4471
3- الطبري، تاريخ الطبري: ج2، ص443.

من أحد أحبّ إلينا من أبيك، وما من أحد أحبّ إلينا بعد أبيك منك، وأيم الله، ما ذاك بمانعي إنْ اجتمع هؤلاء النفر عندك، إن أمرتهم أن يُحرَق عليهم البيت. قال: فلمّا خرج عمر جاؤوها، فقالت: تعلمون أنّ عمر قد جاءني وقد حلف بالله، لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت. وأيم الله، ليمضين لِما حلف عليه، فانصرِفوا راشدين، فَرَوا رأيكم ولا ترجعوا إليّ. فانصرَفوا عنها، فلم يرجعوا إليها حتى بايعوا لأبي بكر»(1).

وروى البلاذري «أن أبا بكر أرسل إلى علي يريد البيعة، فلم يبايع، فجاء عمر ومعه فتيلة، فتلقّته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة: يا بن الخطاب، أتراك محرّقاً علَيَّ بابي؟! قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك»(2).

وأخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنّة، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: «وغضِبَ رجالٌ من المهاجرين في بيعة أبي بكر (رضي الله عنه) منهم علي بن أبي طالب والزبير بن العوّام (رضي الله عنهما)، فدخلا بيت فاطمة بنت رسول الله ومعهما السلاح، فجاء عمر (رضي الله عنه) في عصابة من المسلمين فيهم أُسيد وسلمة بن سلامة بن وقش، وهما من بني عبد الأشهل، ويقال: فيهم ثابت بن قيس بن الشماس أخو بني الحارث بن الخزرج، فأخذ أحدهم سيف الزبير، فضرب به الحجر حتى كسره»(3).

وروى البلاذري في أنساب الأشراف عن ابن عباس، قال: «بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي (رضي الله عنه) حين قعد عن بيعته، وقال: ائتني به بأعنف العنف. فلمّا أتاه جرى بينهما كلام، فقال: احلب حلباً لك شطره، والله، ما حرصك على إمارته اليوم إلاّ

ص: 252


1- ابن أبي شيبة، المصنف: ج8، ص572.
2- البلاذري، أنساب الأشراف: ج1، ص586.
3- عبد الله بن أحمد، السنة: ج2، ص553- 554.

ليؤثرك غداً ... ثم أتاه فبايعه»(1).

ونقل الطبري فيما نقل من أحداث السقيفة وبيعة أبي بكر، وتخلّف علي علیه السلام والزبير، قال: «فانطلق إليهم عمر، فجاء بهما تعباً، وقال: لتبايعان وأنتما طائعان، أولتبايعان وأنتما كارهان. فبايعا»(2).

ففي ظل هذه الأجواء والظروف المشحونة بالتوتر والمواقف المتشنّجة، والتي ينذر تطورها وانفلاتها بأخطار كبيرة تهدّد الإسلام برُمّته، بايع أمير المؤمنين علیه السلام مكرَهاً مجبراً ومعه عدد من المهاجرين والأنصار، كما أشارت إلى ذلك الروايات والأخبار التي نقلنا شطراً منها.

هذه هي ظروف البيعة التي بايع فيها الإمام علي علیه السلام أبا بكر، والتي وصفها أبو بكر بأنها فلتة، قد وقى الله المسلمين شرّها، كما صرّح هو بنفسه في أوائل خلافته: «إنّ بيعتي كانت فلتة؛ وذلك أنيّ خشيت الفتنة»(3).

وأكّد هذا المعنى عمر بن الخطاب في خلافته، قائلاً: «فلا يغْتَرَنَّ امرؤ أن يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت، ألا وإنّها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرّها»(4).

ثم كيف لا يبايع مكرَهاً وهذا سعد بن عبادة زعيم الخزرج وكبيرهم يُداس بالأقدام لمعارضته البيعة، وأمام قومه وفي بيته، حتى صاح أحدهم: قتلتم سعد بن عبادة! فأجابه عمر بن الخطاب: «قتل الله سعد بن عبادة»(5)، ثم بعد ذلك تمّت تصفيته

ص: 253


1- البلاذري، أنساب الأشراف: ج1، ص587.
2- الطبري، تاريخ الطبري: ج2، ص444.
3- البلاذري، أنساب الأشراف: ج1، ص590- 591. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج6، ص47
4- البخاري، صحيح البخاري: ج8، ص26، ح6830، وغيره من المصادر
5- اُنظر: المصدر السابق: ج8، ص27- 28 ح6830.

جسدياً في الشام(1)، فما عسى أن يفعل بقية المسلمين من ضَعَفَة الناس وعامّتهم إزاء هذا التهديد والوعيد والتخويف؟! والذي صرّحت به عائشة وفي صحيح البخاري، حيث قالت: «لقد خوّف عمرُ الناسَ وإنّ فيهم لنفاقاً»(2).

فبعد كلّ هذا ليس من الصحيح القول: بأنّ علياً علیه السلام قد بادر إلى البيعة راضياً، حتى يُرتّب على ذلك التشكيك بوجود النصّ عليه؛ لأنّنا من خلال هذه النصوص والشواهد المتظافرة نجزم بأنّ علياً علیه السلام لو كان قد بايع أبا بكر من أول الأمر، فإنّه قد بايع مكرَهاً مجبراً، فلا يدلّ ذلك على عدم وجود النصّ عليه بالإمامة والخلافة، فينتفي استبعاد وجود النصّ؛ بناءً على القول بحصول البيعة في بداية الأمر، وهو ما أشارت إليه الطائفة الأُولى من روايات وأخبار أهل السنّة، وسيأتي الكلام عن الطائفة الثانية من الروايات.

الطائفة الثانية: ما دلّ على أنّ علياً علیه السلام لم يبايع إلا بعد ستّة أشهر

وردت بعض الروايات الصحيحة في كتب أهل السنّة تُثْبت أنّ علياً علیه السلام لم يبايع من أوّل الأمر، وإنّما حصلت البيعة بعد مرور ستّة أشهر من تسنّم أبي بكر الخلافة، وذلك بعد وفاة فاطمة الزهراء علیها السلام ، وهو ما يعادل ربع مدة خلافة أبي بكر تقريباً،

ص: 254


1- روى البلاذري: «أن سعد بن عبادة لم يبايع أبا بكر، وخرج إلى الشام. فبعث عمرُ رجلاً، وقال: ادعُهُ إلى البيعة واختلْ له، وإنْ أبى فاستعن بالله عليه. فقدم الرجلُ الشامَ، فوجد سعداً في حائط بحوارين، فدعاه إلى البيعة، فقال: لا أبايع قرشياً أبداً. قال: فإني أُقاتلك. قال: وإنْ قاتلتني. قال: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأُمّة؟ قال: أمّا من البيعة، فإني خارج. فرماه بسهم فقتله. ورُوي أن سعداً رُمي في حمام. وقيل: كان جالساً يبول، فرمته الجن فقتلته، وقال قائلهم: قتلنا سيدَ الخزرج سعدَ بن عبادة***رميناه بسهمين فلم تُخْطِ فؤاده» البلاذري، أنساب الأشراف: ج1، ص589
2- اُنظر: البخاري، صحيح البخاري: ج4، ص195 ح3669.

فقد أخرج البخاري(1)- واللفظ له - ومسلم(2) وابن حبّان(3) في صحاحهم، بسندهم عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب الزهري، عن عروة عن عائشة: «أنّ فاطمة علیها السلام بنت النبي (صلّى الله عليه وسلّم) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك، وما بقي من خُمْس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) قال: لا نورث ما تركنا صدقة... فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه، حتى توفّيت، وعاشت بعد النبي (صلّى الله عليه وسلّم) ستّة أشهر، فلمّا توفّيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يُؤذِن بها أبا بكر، وصلّى عليها، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلمّا توفيت استنكر عليٌ وجوهَ الناس؛ فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر»، وفي لفظ مسلم وابن حبّان «ولم يكن بايع تلك الأشهر».

وأخرج قريباً منه أيضاً ابن حبّان في صحيحه(4)، والطبراني في مسند الشاميين(5) بسنديهما، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.

وروى عبد الرزاق الصنعاني في مصنّفه عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: «وكان لعلي من الناس حياة فاطمة حَبْوَة، فلمّا توفّيت فاطمة، انصرفت وجوه الناس عنه، فمكثت فاطمة ستّة أشهر بعد رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ، ثم توفّيت - قال معمر: فقال رجل للزهري: فلم يبايعه علي ستّة أشهر؟ قال: لا، ولا أحد من بني هاشم، حتى بايعه علي

ص: 255


1- البخاري، صحيح البخاري: ج5، ص82- 83 ح4240 وح4241.
2- مسلم النيسابوري، صحيح مسلم: ج5، ص153- 154 ح4471.
3- ابن حبّان، صحيح ابن حبّان: ج14، ص573.
4- المصدر السابق: ج11، ص152- 153.
5- الطبراني، مسند الشاميين: ج4، ص198- 199.

- فلمّا رأى عليٌّ انصراف وجوه الناس عنه أسرع إلى مصالحة أبي بكر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا تأتنا معك بأحد. وكره أن يأتيه عمر... ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه، فأقبل الناس إلى عليّ، فقالوا: أصبتَ وأحسنت. قالت: فكانوا قريباً إلى عليّ حين قارب الأمر والمعروف»(1).

وأخرجه البيهقي في سننه(2)، والطبري في تاريخه(3)، عن عبد الرزاق الصنعاني عن معمر.

وهذه الأحاديث الواردة في الصحاح والكتب المعتبرة - كما هو واضح - تفيد أنّ علياً علیه السلام لم يبايع أبا بكر مدّة طويلة، امتدّت لستّة أشهر متواصلة، وهذا التأخير بغض النظر عمّا ذُكرَت له من أسباب ومبررات، فإنّه يشير إشارة واضحة إلى أنّ أمير المؤمنين علیه السلام لم يبادر إلى بيعة أبي بكر، ولم يَرَ لها شرعيّة، وإلاّ كيف يبقى تلك المدة بلا بيعة؟! وقد ثبت عند المسلمين جميعاً أنّ مَن مات وليس له إمام، أو ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية(4)، فهل كان يأمن أميرُ المؤمنين علیه السلام على نفسه من الموت خلال تلك الفترة، ولا تكون في عنقه بيعة حينئذٍ، فيموت ميتة جاهلية والعياذ بالله، وهو العارف بمقادير الأُمور وطبيعة الحياة الإنسانية المعرَّضة للموت في كلّ لحظة،

ص: 256


1- الصنعاني، المصنّف: ج5، ص472- 474.
2- البيهقي، سنن البيهقي: ج6، ص300.
3- الطبري، تاريخ الطبري: ج2، ص448.
4- أخرج الكليني بسنده عن الفضيل بن يسار، قال: «ابتدأَنا أبو عبد الله علیه السلام يوماً، وقال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله : مَن مات وليس عليه إمام فميتته ميتة جاهلية. فقلت: قال ذلك رسول الله صلی الله علیه و آله ؟ فقال: إي والله، قد قال. قلت: فكلّ مَن مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية؟! قال: نعم». الكافي: ج1، ص376. وأخرج مسلم في صحيحه بسنده: «عن زيد بن محمد، عن نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحَرّة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة. فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأُحدّثك حديثاً سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) يقوله، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) يقول: مَن خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية». صحيح مسلم: ج6، ص22، ح4686. وكذلك أخرجه البيهقي في سننه: ج8، ص156

ثم كيف تموت الزهراء علیها السلام وليس في عنقها بيعة، وهي من أهل بيتٍ أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً؟! بل وكيف يتركها أمير المؤمنين علیه السلام تموت هكذا؟! إنّ هذا ليس له إلاّ تفسير واحد، هو أنهم لايَرَون شرعيّة لهذه الخلافة.

مِن هنا؛ كان غضبُ الزهراء علیها السلام على أبي بكر وهجرانها له حتى وفاتها، وتأخّر علي علیه السلام وخروجه عن زمرة المبايعين - رغم محاولة بعضٍ التقليل من أهميتها (1)- يشكّلان ضربة قويّة لشرعيّة الخلافة وقانونيّتها؛ لذا حاولوا بكل الوسائلِ التقليلَ من تأثير الروايات التي تنقل هذه الحقائق، فجرت محاولاتٌ للخدش في سندها، على الرغم من ورودها في أصحّ الكتب، وكذلك تأويل دلالاتها، وتقديم الروايات التي تُبيّن أن البيعة تمّت في أول الأمر رغم عدم ورودها في الصحاح، فتوزعت مناقشاتهم في هذه الروايات على مستوى السند والدلالة، وسنتعرض لبعض هذه المناقشات على كلا المستويين والإجابة عنها.

الإشكال السندي:

تأخُّرُ عليّ علیه السلام عن البيعة مدرج من كلام الزهري

ذكروا أن الروايات التي أفادت تأخّر علي علیه السلام عن البيعة(2)مدة ستّة أشهر وإن

ص: 257


1- قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: «أمّا تأخّر علي (رضي الله عنه) عن البيعة، فقد ذكره علي في هذا الحديث، واعتذر أبو بكر رضي الله عنه، ومع هذا فتأخّره ليس بقادح في البيعة ولا فيه؛ أمّا البيعة، فقد اتفق العلماء على أنّه لا يشترط لصحتها مبايعة كلّ الناس، ولا كلّ أهل الحل والعقد، وإنما يشترط مبايعة مَن تيسّر إجماعهم من العلماء والرؤساء ووجوه الناس...». شرح صحيح مسلم: ج12، ص77
2- وكذلك زعموا أنّ غضب الزهراء علیها السلام على أبي بكر وهجرانها له حتى توفّيت، هو أيضاً منقطع ومدرج، مع أنّ مسألة غضب الزهراء على أبي بكر وهجرانها له حتى توفّيت، أمر معلوم ومشهور وثابت بالأسانيد الصحيحة وبطرق عديدة، وهي خارجة عن محلّ بحثنا الآن، ولعلّنا نوفَّق يوماً للإجابة عن كلّ ما يتعلق بهذه الشبهة

وردتْ في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما، إلاّ أنّ بعض الفقرات من تلك الروايات التي جاءت على لسان عائشة - والتي دلّت على هذا الأمر- اعتبروها منقطعة، وأنّها من كلام الزهري، وقد أدرجها بعض الرواة في الحديث، وليست هي من كلام عائشة، فلا تقوى حينئذٍ على معارضة أحاديث - ادّعي صحتها - دلّت على أنّ البيعة قد تمّت من أوّل الأمر.

البيهقي أول من أثار الإشكال:

وأوّل مَن أثار هذا الإشكال هو البيهقي المتوفّى سنة (458ه-) وتبعه على ذلك بعضٌ من علماء أهل السنّة، قال البيهقي في السنن: «وقول الزهري في قعود علي عن بيعة أبي بكر (رضي الله عنه) حتى توفّيت فاطمة رضي الله عنها منقطع، وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في مبايعته إياه حين بويع بيعة العامّة بعد السقيفة أصحّ»(1).

وقال في الاعتقاد أيضاً: «والذي روي أنّ علياً لم يبايع أبابكر ستّة أشهر ليس من قول عائشة، إنّما هو من قول الزهري، فأدرجه بعضُ الرواة في الحديث، في قصّة فاطمة(رضي الله عنها)، وحفظه معمر بن راشد، فرواه مفصّلاً وجعله من قول الزهري منقطعاً من الحديث، وقد روينا في الحديث الموصول عن أبي سعيد الخدري ومَن تابعه من أهل المغازي أنّ علياً بايعه في بيعة العامّة التي جرت في السقيفة»(2).

وقال ابن حجر: «وأمّا ما وقع في مسلم(3) عن الزهري أنّ رجلاً قال له: لم يبايع عليٌّ أبا

ص: 258


1- البيهقي، السنن الكبرى: ج6، ص300.
2- البيهقي، الاعتقاد: ص252.
3- لم نجد في صحيح مسلم أنّه نقل عن الزهري «أن رجلاً قال له: لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة. قال: لا، ولا أحد من بني هاشم». ولا نعلم هل هو اشتباه من ابن حجر أم ماذا؟

بكر حتى ماتت فاطمة؟ قال: لا، ولا أحد من بني هاشم. فقد ضعّفه البيهقي بأنّ الزهري لم يسنده، وأنّ الرواية الموصولة عن أبي سعيد أصحّ»(1).

مناقشة الإشكال السندي:

تأخّر عليّ عن البيعة من كلام عائشة لا الزهري

لقد ادّعى البيهقي أنّ تأخّر البيعة من قول الزهري، بعد نقله لحديث عبد الرزاق الصنعاني في المصنّف، وادّعى أنّ الحديث «رواه البخاري في الصحيح من وجهين عن معمر، ورواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وغيره عن عبد الرزاق»(2).

وللإجابة عمّا ادّعاه البيهقي نقول:

أولاً: حديث البخاري ومسلم عن معمر لا يشير إلى تأخير البيعة

إنّ حديث البخاري ومسلم بسنديهما، عن معمر، عن الزهري ليس في لفظه كلام الزهري حين سأله رجل قائلاً: «فلم يبايعه عليّ ستّة أشهر؟ قال: لا، ولا أحد من بني هاشم، حتى بايعه عليٌّ» وإنما نقلا الحديث دون الإشارة إلى قول الزهري هذا، ولم يتطرقا في خصوص هذا السند إلى البيعة أصلاً، وإليك ما نقله البخاري ومسلم في الصحيح من طريق معمر:

أخرج البخاري بسنده عن هشام، قال: «أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله (صلّى الله عليه

ص: 259


1- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري: ج7، ص379.
2- البيهقي، السنن الكبرى: ج6، ص300.

وسلّم) وهما حينئذٍ يطلبان أرضَيهما من فدك وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) يقول: لا نورّث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال. قال أبو بكر: والله، لا أدع أمراً رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) يصنعه فيه إلاّ صنعته. قال: فهجرَتْه فاطمة، فلم تكلّمه حتى ماتت»(1).

وأخرج البخاري أيضاً من طريق آخر عن هشام، قال: «حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة (رضي الله عنها): أن فاطمة علیها السلام والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال أبو بكر: سمعت النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) يقول: لا نورّث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد في هذا المال. والله، لقرابة رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي»(2).

وجاء في صحيح مسلم: «عن إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد، قال ابن رافع: حدثنا. وقال الآخران: أخبرنا عبد الرزّاق أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: إنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ، وهما حينئذٍ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: إني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ، وساق الحديث بمثل معنى حديث عقيل عن الزهري، غير أنّه قال: ثمّ قام عليٌّ فعظم من حق أبي بكر وذكر فضيلته وسابقته، ثمّ مضى إلى أبي بكر فبايعه فأقبل الناس إلى عليٍّ، فقالوا: أصبتَ وأحسنت، فكان الناس قريباً إلى عليٍّ حين قارب الأمر المعروف»(3).

وكما ترى فليس في الحديثين أية إشارة إلى قول الزهري الآنف الذكر في تأخّر علي علیه السلام وقعوده عن البيعة لمدّة ستّة أشهر، فكلام البيهقي يعدّ إيهاماً للقارئ، بأنّ

ص: 260


1- البخاري، صحيح البخاري: ج8، ص3 ح6725 وح6726.
2- المصدر السابق: ج5، ص25 ح4035 وح4036.
3- مسلم النيسابوري، صحيح مسلم: ج5، ص155 ح4472.

البخاري ومسلماً قد نقلا نفس ألفاظ الحديث الذي رواه هو - أي البيهقي - عن عبد الرزّاق، والحال ليس كذلك؛ إذن فلا توجد إشارة إلى إدراج الزهري لهذا الكلام، إلاّ في حديث عبد الرزّاق المذكور في المصنّف الذي نقله عنه الزهري.

ثانياً: ما نقله البيهقي عن عبد الرزاق لا يتطابق مع رواية عبد الرزاق

مقارنة بين حديث عبد الرزاق في المصنّف وحديث البيهقي عنه

إنّ المتأمّل المنصف في حديث عبد الرزّاق الصنعاني في المصنّف يتّضح له بشكل جلي أنّ تأخّر علي علیه السلام عن البيعة ستّة أشهر هو من كلام عائشة، لا أنّه من كلام الزهري، كما ادّعاه البيهقي، فلو عُدنا إلى الحديث وتأمّلنا فيه لا سيما قوله: «قالت عائشة: وكان لعليٍّ من الناس حياة فاطمة حَبْوَة، فلمّا توفّيت فاطمة، انصرفت وجوه الناس عنه، فمكثت فاطمة ستّة أشهر بعد رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ، ثم توفّيت. قال معمر: فقال رجل للزهري: فلم يبايعه على ستّة أشهر؟ قال: لا، ولا أحد من بني هاشم، حتى بايعه علي، فلمّا رأى علي انصراف وجوه الناس عنه، أسرع إلى مصالحة أبي بكر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا، ولا تأتنا معك بأحد. وكره أن يأتيه عمر... ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه، فأقبل الناس إلى علي، فقالوا: أصبتَ وأحسنت. قالت: فكانوا قريباً إلى عليًّ حين قارب الأمر والمعروف»(1).

نجد أنّه يفيد عدة معطيات أهمها:

أ) إنّ الناس كانوا يحترمون علياً علیه السلام ما دامت فاطمة على قيد الحياة.

ب) بعد وفاة فاطمة انصرفت وجوه الناس عن عليٍّ علیه السلام وقلّ احترامُهم له.

ص: 261


1- الصنعاني، المصنّف: ج5، ص472- 474.

ج) مكثت فاطمة علیها السلام بعد رسول الله صلی الله علیه و آله ستّة أشهر حتى توفّيت.

د) بعد وفاة فاطمة علیها السلام ، لمّا رأى عليٌّ علیه السلام انصراف وجوه الناس عنه، صالَحَ أبا بكر وبايعه، فأقبل الناس على عليٍّ علیه السلام بعد ذلك.

وهذا الأمر الأخير وإن جاء بعد كلام الزهري، ولكنه ليس من كلامه، بل هو استمرار لكلام عائشة، وكلام الزهري منحص-ر فقط في عدم البيعة ستّة أشهر؛ بدليل أنّ الصحاح التي نقلت هذا الحديث، نقلت هذا المقطع متصلاً بما قبله.

ففي صحيح البخاري بسنده عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: «وكان لعليًّ من الناس وجه حياة فاطمة، فلمّا توفّيت استنكر عليٌّ وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر»(1)، وهذا المقطع هو تكملة للمقطع الأول الذي نقلته عائشة، وهو أنّه كان لعلي وجه حياة فاطمة.

إذن؛ فهذه الأُمور المتقدمة جاءت جميعها على لسان عائشة، وأمّا ما جاء على لسان الزهري بالخصوص، فهو أنّ علياً علیه السلام أو أحداً من بني هاشم لم يبايع مدّة ستّة أشهر، حيث جاء في حديثه «قالت عائشة (رضي الله عنها): فكان لعلي (رضي الله عنه) من الناس وجه حياة فاطمة (رضي الله عنها)، فلمّا توفّيت فاطمة (رضي الله عنها) انصرف وجوه الناس عنه عند ذلك. قال معمر: قلت للزهري: كم مكثتْ فاطمة بعد النبي (صلّى الله عليه وسلّم) ؟ قال: ستّة أشهر. فقال رجل للزهري: فلم يبايعه عليٌّ (رضي الله عنه) حتى ماتت فاطمة (رضي الله عنها)؟ قال: ولا أحد من بني هاشم»(2).

وهذا يختلف عمّا نقله البيهقي عن عبد الرزّاق، فحين نلاحظ ما نقله البيهقي عن عبد الرزّاق نجده يفيد الأُمور التالية:

ص: 262


1- البخاري، صحيح البخاري: ج5، ص83 ح4240 وح4241.
2- البيهقي، سنن البيهقي: ج6، ص300.

أ) أنّ الناس كانوا يحترمون علياً علیه السلام مدّة حياة فاطمة علیها السلام .

ب) بعد وفاة فاطمة علیها السلام انصرفت وجوه الناس عن علي علیه السلام وقلّ احترامهم له، والكلام إلى هنا هو ما قالته عائشة فقط حسب حديث البيهقي، وأمّا ما جاء على لسان الزهري، فهي الأُمور التالية:

أ) مكثت فاطمة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله ستّة أشهر حتى توفيت.

ب) لم يبايع عليٌّ علیه السلام ولا واحد من بني هاشم مدّة ستّة أشهر.

وبعد المقارنة بين حديث عبد الرزّاق الصنعاني وحديث البيهقي يتّضح: أنّ البيهقي قد جعل المقطع الخاص بمدّة بقاء فاطمة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله ستّة أشهر، جعله من كلام الزهري بينما هو من كلام عائشة حسب رواية الصنعاني في المصنّف، فأوْهَمَ القارئَ أنّ مكوث فاطمة ستّة أشهر بعد رسول الله صلی الله علیه و آله وتأخّر عليٍّ علیه السلام عن البيعة تلك المدّة هو كلام واحد مدرج قاله الزهري، وأدرجه بعضُ الرواة في الحديث.

كما أنّه عمد إلى إسقاط ذيل الرواية التي تدلّ على أنّ علياً علیه السلام لمّا رأى انص-راف الناس عنه بعد وفاة فاطمة علیها السلام التمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، مع أنّه مكمّل لقول عائشة: «فكان لعليٍّ (رضي الله عنه) من الناس وجه حياة فاطمة (رضي الله عنها)» فلذا لم يسقطه أصحاب الصحاح وعبد الرزّاق، كما تقدّم.

ثالثاً: تأخّر البيعة قد روي في الصحيحين وغيرهما متصلاً

إنّ خبر تأخّر علي علیه السلام عن البيعة ستّة أشهر قد أخرجه البخاري ومسلم وابن حبّان من غير طريق معمر، بل أخرجوه - كما تقدّم(1) - عن طريق الليث بن سعد،

ص: 263


1- تقدم ذكر ذلك تحت عنوان الطائفة الثانية الدالّة على أنّ علياً علیه السلام لم يبايع إلاّ بعد ستّة أشهر.

عن عُقيل بن خالد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: «وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلمّا توفّيت استنكر عليٌّ وجوه الناس؛ فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر»(1)؛ فلا معنى - إذن - لقول البيهقي في كتاب الاعتقاد من أنّه من كلام الزهري أدرجه بعضُ الرواة وحفظه معمر ورواه مفصّلاً؛ إذ كما عرفت فإن معمراً لم ينفرد بروايته، بل رواه غيره؛ إذن فتأخّرُ عليٍّ علیه السلام عن البيعة ستّة أشهر متّصلٌ من كلام عائشة، وليس منقطعاً من كلام الزهري.

رابعاً: لم يتعرّض كبارُ شرّاح الأحاديث إلى الإدراج

لم يتعرّض أحدٌ من كبار شرّاح الأحاديث إلى هذا الإدراج الذي تفرّد بذكره البيهقي عند شرحهم لفقرة تأخّر عليٍّ علیه السلام عن البيعة، قال ابن حجر: «قوله: (وكان لعليًّ من الناس وجه حياة فاطمة) أي كان الناس يحترمونه إكراماً لفاطمة، فلمّا ماتت واستمر على عدم الحضور عند أبي بكر، قصر الناس عن ذلك الاحترام؛ لإرادة دخوله فيما دخل فيه الناس، ولذلك قالت عائشة في آخر الحديث: لما جاء وبايع، كان الناس قريباً إليه حين راجع الأمر بالمعروف، وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلّف عن أبي بكر في مدّة حياة فاطمة؛ لشغله بها وتمريضها وتسليتها عمّا هي فيه من الحزن على أبيها (صلّى الله عليه وسلّم) ؛ ولأنها لمّا غضبت من ردّ أبي بكر عليها فيما سألته من الميراث، رأى علي أن يوافقها في الانقطاع عنه، قوله: (فلمّا توفّيت استنكر عليّ وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر) أي في حياة فاطمة»(2).

ص: 264


1- البخاري، صحيح البخاري: ج5، ص83 ح4240، ح4241
2- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري: ج7، ص378.

وقال العينيّ: «قوله: (وعاشت) أي فاطمة (بعد النبي (صلّى الله عليه وسلّم) ستّة أشهر) هذا هو الصحيح...قوله: (حياة فاطمة) لأنهم كانوا يعذورنه عن ترك المبايعة؛ لاشتغاله بها وتسلية خاطرها من قربٍ عند مفارقة رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ، قوله: (تلك الأشهر) وهي الأشهر الستّة، وقال المازري: العذر لعلي (رضي الله عنه) في تخلّفه، مع ما اعتذر هو به أنّه يكفي في بيعة الإمام أن يقع من آحاد أهل الحلّ والعقد، ولا يجب الاستيعاب»(1).

وقال القُرطبي أحمد بن عمر بن إبراهيم: «وقوله: (وكان لعليٍّ من الناس جهة حياة فاطمة) جهة؛ أي: جاه واحترام، كان الناس يحترمون علياً في حياتها كرامة لها؛ لأنها بضعة من رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) وهو مباشر لها، فلمّا ماتت وهو لم يبايع أبا بكر، انصرف الناس عن ذلك الاحترام؛ ليدخل فيما دخل فيه الناس ولا يفرّق جماعتَهم، ألا ترى أنّه لمّا بايع أبا بكر أقبل الناس عليه بكل إكرام وإعظام؟!

وقوله: (ولم يكن عليٌّ بايع تلك الأشهر) يعني: الستّة أشهر التي عاشتها فاطمة (رضي الله عنها) بعد رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ، ولا يُظنُّ بعليٍّ أنّه خالف الناس في البيعة، لكنّه تأخّر عن الناس لمانع منعه، وهو الموجدة التي وجدها حين اُستُبدّ بمثل هذا الأمر العظيم ولم يُنتظر، مع أنّه كان أحقّ الناس بحضوره وبمشورته»(2).

فلو كان هذا الإدراج صحيحاً - كما يزعم البيهقي - لأشار إليه شرّاح الحديث، ولا يُعقل أن يخفى عليهم، فثبت أنَّ تأخّر علي علیه السلام أمر ثابت ومشهور؛ ولهذا نجد أنّ ابن كثير- الذي حاول جاهداً أن يثبّت حصول البيعة من أول الأمر، وينفي تأخّر علي علیه السلام عن البيعة- لم يتمسّك به، فذهب إلى الجمع الدلالي بين الحديثين كما سيأتي التعرّض له.

ص: 265


1- العيني، عمدة القاري: ج17، ص258- 259.
2- القرطبي، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: ج3، ص569- 570.
خامساً: لو صح الإدراج فلا يبعد أنّه من كلام عائشة

إنّنا حتى لو بنينا على أنّ تأخّر علي علیه السلام عن البيعة هو من كلام الزهري، فإنّ الظاهر أنّه سمعه ممَّن سمعه من عائشة - بعد البناء على وثاقة الزهري - وهو شبيه بما استظهره ابن كثير فيما نقله الشعبي في حديث استرضاء أبي بكر للزهراء علیها السلام حتى رضيت(1) من أنّ الشعبي قد سمعه من علي علیه السلام ، أو سمعه ممَّن سمعه منه، فقال ابن كثير معلَّقاً على حديث الشعبي: «وهذا إسناد جيّد قويّ، والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من عليٍّ، أو ممَّن سمعه من عليٍّ»(2)، فإذا كان ما استظهره ابن كثير هنا يعدّ استظهاراً صحيحاً، فلا بد أن يصحّ ما استظهرناه من حديث الزهري؛ إذ لا فرق بين الأمرين، إلاّ إذا قلنا: إنّ (باء) ابن كثير تجرّ، و(باؤنا) لاتجرّ !

التوجيه الدلالي لأحاديث تأخّر البيعة

لقد حاول بعض علماء أهل السنّة أن يحلّ التعارض بين الأحاديث الدالّة على مبايعة علي علیه السلام من أول الأمر، وبين الأحاديث الدّالة على عدم مبايعته مباشرة وتأخّره طوال ستّة أشهر مدة حياة فاطمة علیها السلام ؛ وذلك بحمل بيعته بعد ستّة أشهر على أنها بيعة ثانية مؤكدة للبيعة الأُولى. قال ابن حجر بعد أنْ ذكر إشكال البيهقي على سند الحديث: «وجمع غيره بأنّه بايعه بيعة ثانية مؤكّدة للأُولى، لإزالة ما كان وقع

ص: 266


1- أخرج البيهقي عن الشعبي: «لما مرضت فاطمة (رضي الله عنها) أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها، فقال علي: يا فاطمة، هذا أبو بكر يستأذن عليك. فقالت: أتحب أن آذن؟ قال: نعم. فأذنت له، فدخل عليها يترضّاها، وقال: والله، ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلاّ لابتغاء مرضاة الله ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت. ثم ترضاها حتى رضيت». دلائل النبوّة: ج7، ص281
2- ابن كثير، البداية والنهاية: ج5، ص310.

بسبب الميراث»(1).

وقال ابن كثير: «وأمّا ما يأتي من مبايعته إياه بعد موت فاطمة، وقد ماتت بعد أبيها (رضي الله عنها) بستّة أشهر، فذلك محمول على أنها بيعة ثانية، أزالت ما كان قد وقع من وحشة بسبب الكلام في الميراث، ومنْعه إياهم ذلك بالنص من رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) »(2).

أو حملوها على أن معنى البيعة بعد ستّة أشهر ليس بمعنى البيعة المصطلحة، وإنما بمعنى تجدد البيعة والمشاركة والحضور، وإظهار الودّ، ولا تعني كلمة (يبايع) بالضرورة البيعة المعهودة بالخلافة، قال البيهقي: «ولعل الزهري أراد قعوده عنها بعد البيعة، ثم نهوضه إليها ثانياً، وقيامه بواجباتها. والله أعلم»(3).

مناقشة التوجيه الدلالي:

من الواضح أن هذا الجمع استحساني وتبرّعي لا شاهد عليه؛ لأنّ هذه التفسيرات لمعنى المبايعة تفسيراتٌ تخالفُ ظاهرَ ما عليه اللفظ، ولا دليل أو قرينة صحيحة تسوّغ صرف اللفظ عن معناه الظاهر، كما تشهد لذلك عباراتُهم، ومجرّد وجود روايات ظاهرها حصول البيعة من أول الأمر لا يبيح لنا رفع اليد عن المعنى الظاهر، خصوصاً وأن الروايات الدالة على التأخّر عبّرت بصيغة الماضي «ولم يكن بايع»(4)، الدالّ على أنّه

ص: 267


1- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري: ج7، ص379.
2- ابن كثير، البداية والنهاية: ج6، ص334.
3- البيهقي، السنن الكبرى: ج6، ص300.
4- مسلم النيسابوري، صحيح مسلم: ج5، ص154 ح4471. ابن حبّان، صحيح ابن حيان: ج11، ص153

لم تسبق منه بيعةٌ أبداً، فكيف تكون الثانية مؤكّدة أو مجدَّدة لها؟! مضافاً إلى أن العديد من شرّاح الحديث لم يفهموا ذلك، وقد نقلنا شطراً من كلماتهم، فإمّا أن نقول بتقديم روايات تأخير البيعة - بعد الفراغ من كونها متصلة ومن كلام عائشة - لأنها وردت في الصحاح، وهي أفضل كتُب الحديث ضبْطاً وإتقاناً عند أهل السنة، أو ننتهي إلى القول بحصول التعارض المستقر(1) بينهما فيتساقطان.

البيعة المتأخّرة أيضاً لم تكن عن رضا

من خلال التدبّر في نصوص البيعة الثانية - والتي اعتبروها بيعة ودّ ومصالحة - يتبيّن أنها لم تكن أيضاً عن رغبة ورضا من أمير المؤمنين علیه السلام ، بل يتّضح أنّ السلطة قد ألّبت عليه الرأي العام الإسلاميّ، وتعرّض إلى ما يشبه المقاطعة الاجتماعيّة، خصوصاً بعد وفاة فاطمة علیها السلام ، وهذا ما جاء في تعبيرات هذه الروايات كقوله: «وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلمّا توفّيتْ استنكر وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر»(2)، أو قوله: «فلمّا توفّيت فاطمة، انصرفت وجوه الناس عنه»(3)فيظهر أنّه تحت تأثير تلك الأجواء جَنحَ للبيعة والمصالحة لا خوفاً على نفسه، وإنما خوفاً من الإضرار بالمصلحة الإسلامية العليا، ولذا عبّرتْ الروايات عن مبادرته إلى البيعة بالقول: «فالتمس مصالحة أبي بكر»(4)، أو قوله: «فلمّا رأى عليٌّ انصراف وجوه الناس عنه أسرع إلى مصالحة أبي بكر..»(5)، أو قوله: «فلمّا توفّيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن عليٍّ،

ص: 268


1- هو التعارض الذي لا يتيسّر فيه الجمع الدلالي بين الدليلين، وتكون نتيجته سقوط كلا الدليلين عن الحجية، فيرجع إلى الأصل الأوّلي أو إلى عموم فوقاني، كما ثبت في علم الاُصول، والأصل هو عدم حصول البيعة
2- البخاري، صحيح البخاري: ج5، ص83 ح4240، 4241.
3- الصنعاني، المصنّف: ج5، ص472.
4- مسلم النيسابوري، صحيح مسلم: ج5، ص154 ح4471.
5- الصنعاني، المصنّف: ج5، ص472- 473.

ففزع [ فضرع] عليٌّ عند ذلك إلى مصالحة أبي بكر ومبايعته»(1).

وبعد أنْ بايع عبّرت الروايات عن موقف الناس منه بتعبيرات منها: «فَسَرَّ بذلك المسلمون، وقالوا: أصَبْتَ. وكان المسلمون إلى عليٍّ قريباً حين راجع الأمر بالمعروف»(2)، ومنها: «فأقبل الناس إلى عليٍّ، فقالوا: أصبتَ وأحسنت. قالت: فكانوا قريباً إلى عليٍّ حين قارب الأمر والمعروف»(3).

فمن خلال هذه النصوص يظهر أنَّ الشائع بين بعض المسلمين أنّهم كانوا يعتبرون علياً علیه السلام على خطأ؛ فلذا قاطعوه وانص-رفوا بوجوههم عنه، ولم يتواصلوا معه، واقعين بذلك تحت تأثير إعلام السلطة وإرادتها، وهذا يؤثر في الحقيقة على ما يراه أميرالمؤمنين علیه السلام من تكليف شرعيّ في الحفاظ على روح الإسلام وتبليغ تعاليمه، وهو لا يتأتّى مع إحجام الناس عنه ومقاطعتهم له ونفورهم عنه، فرجّح البيعة على المضي بالقطيعة، مضافاً إلى أنّه قد أوصل ما يريد إيصاله، من عدم قبوله بالبيعة عِبْر مقاطعته للسلطة خلال تلك المدّة.

والحاصل: إنّه على جميع الآراء والاتجاهات، فإن بيعة أمير المؤمنين علیه السلام لا تتنافى أبداً مع النصّ عليه بالإمامة، سواء كانت بيعته من أول الأمر أم بعد ستّة أشهر؛ لأنها في كلّ الأحوال لم تكن عن رغبة ورضا.

هذا بالنسبة إلى مبايعته أبا بكر، وأمّا مبايعته لعمر وعثمان، فليس لها ذلك التأثير الكبير على وجود النصّ على الإمامة بعد أن بيّن أمير المؤمنين علیه السلام موقفه العمليّ

ص: 269


1- الطبراني، مسند الشاميين: ج4، ص198- 199. ابن حبّان، صحيح ابن حبّان: ج11، ص153
2- البخاري، صحيح البخاري: ج5، ص83، ح4240، 4241.
3- الصنعاني، المصنف: ج5، ص474.

والقوليّ من خلافة أبي بكر، التي هي الأصل لخلافة عمر الذي أصبح خليفة بتعيين أبي بكر له، ولا تأثير يُذكر لبيعة باقي المسلمين التي جاءت شكليّة صورية.

ص: 270

الثورة على عثمان وموقف علي علیه السلام د. الشيخ حكمت الرحمة

مقدمة:

لا شكّ في أنّ التعرُّف على التاريخ، وسبْرَ أغواره يسهم إسهاماً وافراً في التعرُّف على الحقيقة، ويكشف الكثير من الخيوط المفقودة التي تلعب دوراً في نفض الغبار عمّا أريد له أن يبقى ضبابيّاً غير واضح الرؤية.

وتغييب التاريخ، والتأوّل بقراءته وفق رؤى معدّة مسبقاً؛ أدّى بدوره إلى فتح باب الشبهات، والتي تؤدّي إلى تغيير مسار حياة الإنسان ورؤاه العقديّة وغيرها.

ولعلّ من أهمّ المسائل التاريخيّة التي وقع الجدل فيها، هي تلك الثورة التي أودتْ بحياة الخليفة عثمان؛ إذ يرى فريق - وفق رؤاه المسبقة - أنّ أصحاب تلك الثورة هم من الهمج الغوغاء، وليس للصحابة أي دور فيها، ويرون أنّ عليّاً اجتهد وأخطأ؛ فلم يقتل قَتَلَةَ الخليفة الراشد! ويرون أنّ هذا الفعل من عليّ علیه السلام مؤيَّد لما يتبنونه من نظرية التأويل والاجتهاد، التي يذبّون بها عن أفعال القتل والمنكر التي قام بها بعض الصحابة، بدعوى أنّه اجتهد فأخطأ!

ص: 271

لذا ارتأينا أن ندرسَ تلك الثورة وملابساتها؛ لتتضح على ضوئها أسباب الثورة والقائمون عليها، وموقف أمير المؤمنين علیه السلام منها، فجاء تقسيم المقال وفق محاور أربعة:

المحور الأول: سياسة عثمان ومعاملته للرعيّة.

المحور الثاني: الفئة التي ساهمت في الثورة على عثمان.

المحور الثالث: موقف بعض الصحابة بعد مقتل عثمان.

المحور الرابع: رؤيتنا لموقف علي علیه السلام من الأحداث.

المحور الأول: سياسة عثمان ومعاملته للرعية

اشارة

يجد المتتبع للتاريخ أنّ الخليفة عثمان سار وفق سياسة خاطئة لم يرتضِها الصحابة ولا التابعون؛ لمخالفتها للكتاب والسنّة، الأمر الذي أدّى إلى قيام الجماهير من مختلف الأمصار بثورة عارمة أطاحت بالخليفة.

ويمكن لنا أن نجْمل أهمّ السياسات الخاطئة في حكومة عثمان بما يلي:

أوّلاً: توليته بني أميّة على رقاب الناس واستئثاره وإياهم ببيت المال

تفيد الوثائق التاريخيّة أنّ ممّا عابوا به على عثمان هو توليته الوليد بن عقبة، وإقطاعه آل الحَكَم دُوراً بناها وشراها لهم، وأعطى مروان بن الحكم خُمس إفريقية، وخصّ ناساً من أهله ومن بني أمَيّة، «فقال له الناس: قد وليَ هذا الأمر قبلك خليفتان، فمنعا هذا المال أنفسهما وأهليهما. فقال: إنّما صنعا ذلك احتساباً، ووصلتُ به احتساباً»(1).

ص: 272


1- البلاذري، أنساب الأشراف: ج5، ص580.

«قال الزهري: وكان في الخزائن سفط فيه حُلي، فأخذ منه عثمان، فحلّى به بعضَ أهله، فأظهروا عند ذلك الطعن عليه، وبلغه ذلك فخطب، فقال: هذا مال الله أعطيه مَن شئت، وأمنعه مَن شئت، فأرغم الله أنف مَن رغم»(1).

وممّا أنكر عليه الناسُ أيضاً، أنّه أعطى سعيد بن العاص مائة ألف درهم، فكلّمه عليٌّ، والزبير، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف في ذلك، فقال: «إنّ له قرابة ورحماً»(2).

وفي الاستيعاب عند ترجمة الوليد بن عقبة: «ثمّ ولاّه عثمانُ الكوفةَ وعزل عنها سعد بن أبي وقّاص، فلمّا قدِمَ الوليد على سعد، قال له سعد: والله، ما أدري أكِستَ بعدنا أم حمقْنا بعدك؟! فقال: لا تجزعَن أبا إسحاق، فإنّما هو المُلك يتغدّاه قوم ويتعشّاه آخرون. فقال سعد: أراكم - والله - ستجعلونها ملكاً»(3).

النصوص السابقة تكشف لنا جانباً من السياسة الخاطئة التي اقتفاها عثمان، والتي تُثْبِتُ عدمَ اكتراثه بالمسلمين ولا بأموالهم، فحَوَّل الخلافة إلى ملك عضوض، يتقاذفه بنو أمَيّة، وجعل منبر رسول الله صلی الله علیه و آله يعتليه الفَسَقَةُ، وشُرّاب الخمر من أمثال الوليد، وسلّط على رقاب الناس أهله وذويه ممَّن لا سابقة لهم في الدين، وراح يبذخ بصرف أموال المسلمين، ونهب بيت المال كيفما شاء.

ثانياً: عدم اكتراثه بنصائح الصحابة ولا بشكاوى المسلمين

دلّت الآثار التاريخيّة أنّ الصحابة كانوا يستعتبونه في ولاته بسبب ما يجيئون به من منكرات، لكنّه لا يعزلهم، فقد أخرج البلاذري بسنده عن ابن المسيب، قال: «فكان

ص: 273


1- البلاذري، أنساب الأشراف: ج5، ص580.
2- المصدر السابق: ج5، ص515.
3- ابن عبد البر، الاستيعاب: ج4، ص1554.

يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمّد صلی الله علیه و آله ، وكان يُستعتب فيهم، فلا يعزلهم»(1). وأضاف ما حاصله: أنّه استأثر في السنين الستّ الأواخر ببني عمّه، فولاّهم، وولّى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصرَ، فمكث عليهم سنين، فجاء أهل مص-ر يشكونه ويتظلَّمون منه، وكان في قلوب هُذيل، وبني زهرة، وبني غفار، وبني مخزوم، وأحلافهم غضبٌ على عثمان؛ بسبب ما صنعه بأبي ذر وعمّار وعبد الله بن مسعود «فلمّا جاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح، كتبَ إليه كتاباً يتهدده فيه، فأبى أن ينزع عمّا نهاه عثمان عنه، وضرب بعضَ مَن كان شكاه إلى عثمان من أهل مصر حتّى قتله، فخرج من أهل مصر سبعمائة إلى المدينة، فنزلوا المسجد، وشكوا ما صنع بهم ابن أبي سرح - في مواقيت الصلاة - إلى أصحاب محمّد؛ فقام طلحة إلى عثمان فكلّمه بكلام شديد، وأرسلت إليه عائشة تسأله أن ينصفَهم من عامله، ودخل عليه عليّ بن أبي طالب - وكان متكلم القوم - وقال له: إنّما يسألك القوم رجلاً مكان رجل، وقد ادّعوا قِبَله دماً، فاعزله عنهم، واقضِ بينهم، فإن وجب عليه حقٌّ فأنصفْهم منه. فقال لهم: اختاروا رجلاً أوليه عليكم مكانه، فأشار الناس عليه بمحمّد بن أبي بكر، فكتب عهده على مصر، ووجّه معهم عدّةً من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن أبي سرح»(2).

لكن المصادر التاريخيّة أكدّت أنّ تولية محمّد بن أبي بكر لم تكن بنيّة صادقة، فقد وجدت الجماهير بينها غلاماً أسوداً، معه كتاب قد خبّأه عليهم، كان مبعوثاً من عثمان إلى والي مصر عبد الله بن أبي سرح، يأمره فيه بقتل محمّد بن أبي بكر ومَن معه، والبقاء في منصبه، وبحبس كلّ مَن يأتي الخليفةَ ويتظلّم منه، فعادت الجماهيرُ إلى المدينة، وأخبروا الصحابة بما جرى، وعلى رأسهم طلحة، والزبير، وعليّ، وسعد؛ فزاد حنق

ص: 274


1- البلاذري، أنساب الأشراف: ج5، ص512.
2- المصدر السابق: ج5، ص512 -513. واُنظر: ابن حبان، الثقات: ج2، ص256 - 257

الناس على عثمان، وخصوصاً مَن كانوا غاضبين عليه؛ بسبب ما عمله بالصحابة الثلاثة: أبي ذر، وعمّار، وابن مسعود، فقام الناس بمحاصرة عثمان، «فلمّا رأى ذلك عليٌّ، بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمّار، ونفر من أصحاب النبي صلی الله علیه و آله كلّهم بدري، ثمّ دخل على عثمان ومعه الكتاب، والبعير، والغلام، فقال له عليٌّ: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم. قال: فالبعير بعيرك؟ قال: نعم. قال: وأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا. وحلف بالله، ما كتبت هذا الكتاب، ولا أمرت به. قال له عليٌّ رضي الله عنه: فالخاتم خاتمك؟ قال: نعم. فقال له عليّ رضي الله عنه: كيف يخرج غلامك على بعيرك بكتاب عليه خاتمك لا تعلمه؟! فحلف بالله، ما كتبتُ هذا الكتاب، ولا أمرتُ به، ولا وجّهتُ هذا الغلام إلى مصر. فأمّا الخط فعرفوا أنّه خط مروان، وشكّوا في أمر عثمان رضي الله عنه، وسألوه أن يدفعَ إليهم مروان، فأبى - وكان مروان عنده في الدار - فخرج أصحاب محمّد صلی الله علیه و آله من عنده غضاباً، وشكّوا في أمره، وعلموا أنّه لا يحلف بباطل، إلا أنّ قوماً قالوا: لا يبرأ عثمان من قلوبنا إلاّ أن يدفع إلينا مروان حتى نثخنه، ونعرف حال الكتاب، فكيف يؤمر بقتل رجل من أصحاب محمد صلی الله علیه و آله بغير حقّ؟! فإن يكن عثمان كتبه عزلناه، وإن يكن مروان كتبه على لسان عثمان، نظرنا ما يكون منّا في أمر مروان. ولزموا بيوتهم، وأبى عثمان أن يُخرجَ إليهم مروانَ، وخشي عليه القتل، وحاصر الناسُ عثمانَ ومنعوه الماء»(1).

فعثمان إذاً قد استأثر ببيت المال، وسلّط بني أميّة على رقاب الناس، ورفض نصيحة كبار الصحابة، وتعنّت بآرائه، بل الأمر ازداد سوءاً حينما بلغت المسألة إلى التحايل على الصحابة وخيار التابعين، ومحاولة تدبير اغتيالهم بطريقة تنمُّ عن بعد الخليفة عن كافّة العهود والمواثيق الإسلامية، وسواء كان كتاب الغدر الذي اكتشفه

ص: 275


1- النميري، ابن شبة، تاريخ المدينة: ج4، ص1159- 1161. البلاذري، أنساب الأشراف: ج5، ص558. واُنظر: ابن حبان، الثقات: ج2، ص258 - 260

الوفد من صنيعة عثمان، أو من صنيعة مروان مدبِّر شؤون الخلافة!!! فالأمر سيّان، فعثمان بالنتيجة رفض تسليم مروان، ورفض التنحّي، مع أنّ الكتاب يحمل خاتمه!!

ما قدمناه هو صورة مختصرة ممّا ذكره المؤرخون في ذلك، ويكفيك أن تراجعَ ما ذكره البلاذري تحت باب: «ما أنكروا من سيرة عثمان»(1)؛ ليتضح الحال.

ثالثاً: إيواؤه الحَكَم طريد رسول الله صلی الله علیه و آله

وممّا نقم به الناس على عثمان أنّه آوى طريد رسول الله الحكمَ بن أبي العاص - وهو عمّ عثمان - وكان من أشد جيران الرسول صلی الله علیه و آله أذى له في الإسلام ... اطّلع على رسول الله صلی الله علیه و آله ذات يوم وهو في بعض حُجر نسائه، فعرفه وخرج إليه بعنزة، وقال: «مَن عذيري من هذا الوزغة اللعين؟ ثمّ قال: لا يساكنني ولا وِلْدُه. فغرّبهم جميعاً إلى الطائف، فلمّا قُبض رسول الله صلی الله علیه و آله كلم عثمان أبا بكر وسأله ردّهم، فأبى ذلك، وقال: ما كنت لآوي طُرداء رسول الله صلی الله علیه و آله . ثمّ لمّا استخلف عمر كلّمه فيهم، فقال مثل قول أبي بكر. فلمّا استخلف عثمان أدخلهم المدينة، وقال: قد كنت كلّمت رسول الله فيهم وسألته ردَّهم، فوعدني أن يأذن لهم، فقُبض قبل ذلك. فأنكر المسلمون عليه إدخاله إياهم المدينة»(2).

وقال الذهبي: «ونقم جماعةٌ على أمير المؤمنين عثمان؛ كونه عطَفَ على عمّه الحَكَم، وآواه وأقدَمَه المدينة، ووصله بمائة ألف»(3).

فعثمان آوى الحكم مع أنّ موقف رسول الله صلی الله علیه و آله صريح منه، ومن عائلته. وقد أخرج ابن عساكر - واللفظ له - والبزار بسندهما إلى الشعبي، عن عبد الله بن الزبير

ص: 276


1- البلاذري، أنساب الأشراف: ج5، ص557 - 558.
2- المصدر السابق: ج5، ص514.
3- الذهبي، سير أعلام النبلاء: ج2، ص108.

أنه قال وهو على المنبر: «ورَبَّ هذا البيت الحرام والبلد الحرام، إن الحَكَم بن أبي العاص ووُلده ملعونون على لسان محمد»(1).

قال الذهبي: «إسناده صحيح»(2). وقال الألباني بعد أنْ ذكَرَ الحديث بلفظ البزار: «قلت: وهو إسناد صحيح أيضاً، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين؛ غير شيخ البزار (أحمد بن منصور بن سيّار)، وهو ثقة»(3).

وأخرج أبو يعلى - واللفظ له - والحاكم بسندهما إلى أبي هريرة: «أنّ رسول صلی الله علیه و آله رأى في المنام كأنّ بني الحكم ينزون على منبره وينزلون، فأصبح كالمتغيّظ، وقال: ما لي رأيتُ بني الحكم ينزون على منبري نزوَ القردة؟! قال: فما رُئي رسول الله صلی الله علیه و آله مستجمعاً ضاحكاً بعد ذلك حتى مات»(4).

قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه»(5). ووافقه الذهبي في التصحيح لكن على شرط مسلم(6). وقال الهيثمي: «رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح، غير مصعب بن عبد الله بن الزبير، وهو ثقة»(7).

ثمّ إنّ الألباني ساق الكثير من الشواهد لمتن الحديث، وحكم بصحتها، ونقد بكلام طويل جملة من الحفّاظ الذين يخشون تصحيح الروايات الواردة في الحَكَم(8).

ص: 277


1- ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج57، ص271.
2- الذهبي، تاريخ الإسلام: ج3، ص368.
3- الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة: ج7، ضمن تعليقه على حديث رقم 3240
4- أبو يعلى، مسند أبي يعلى: ج11، ص348. الحاكم، المستدرك على الصحيحين: ج4، ص480
5- الحاكم، المستدرك على الصحيحن: ج4، ص480.
6- اُنظر: المصدر السابق، وبهامشه وتلخيصه للذهبي: ج4، ص480.
7- الهيثمي، مجمع الزوائد: ج5، ص244.
8- الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة: ج7، ضمن تعليقه على حديث رقم: 3240

وكلام الألباني جدير بالدراسة والتدقيق، فهو يكشف كيف أنّ الأقلام حاولت التلاعب بالحقائق وكتمانها!!

وعلى أيّة حال، فإنّ عثمان قد آوى طريد رسول الله، وكأنّه لم يسمع ما قاله النبيّ صلی الله علیه و آله في حقّه، وهذه مخالفة شرعيّة صريحة، بل فيها ما فيها من التحدّي لفعل رسول الله صلی الله علیه و آله .

ولم يكتفِ عثمان بإرجاع عمّه الحَكَم، بل صار يوليه على الصدقات، بل ويَهبها له!! فولاّه «صدقات قضاعة، فبلغت ثلاثمائة ألف درهم، فوهبها له حين أتاه بها»(1)، وهذا الأمر زاد في إنكار الناس عليه.

رابعاً: عدم إقامته الحدّ على قاتل الهرمزان

ومن الأُمور التي ينبغي الإشارة إليها هو مخالفة عثمان للقرآن والسنّة من أول خلافته؛ وذلك بعدم إقامته الحدّ على قاتل الهرمزان، وبنت أبي لؤلؤة الصغيرة، فقد ورد «أنّه صعد المنبر، فقال: كان من قضاء الله أنّ عبيد الله بن عمر أصاب الهرمزان، وكان الهرمزان من المسلمين، ولا وارث له إلاّ المسلمون عامّة، وأنا إمامكم، وقد عفوت، أفتعفون؟ قالوا: نعم. فقال عليٌّ: أقد الفاسق؛ فإنه أتى عظيماً، قتل مسلماً بلا ذنب. وقال لعبيد الله: يا فاسق، لئن ظفرتُ يوماً لأقتلنَّك بالهرمزان»(2).

ولم نفهم معنى هذا العفو، مع أنّ علياً وهو من كبار الصحابة يطالب بقتل عبيد الله بن عمر ويتهدّده، ويتوعّده أنّه إذا ظفر به ليقتلنَّه، فهو لم يعفُ عنه - على فرض أنّ

ص: 278


1- البلاذري، أنساب الأشرف: ج5، ص515.
2- المصدر السابق: ج5، ص510.

العفو كان بيد المسلمين - بل إنّ كلمة المهاجرين، والأنصار اتّفقت على وجوب قتله، فقد أخرج ابن سعد بسنده إلى عبد الله بن حنطب قال: «قال عليٌّ لعبيد الله بن عمر: ما ذنب بنت أبي لؤلؤة حين قتلتَها؟! قال: فكان رأي عليٍّ حين استشاره عثمان ورأي الأكابر من أصحاب رسول الله على قتله، لكن عمرو بن العاص كلّم عثمان حتى تركه، فكان عليٌّ يقول: لو قدرتُ على عبيد الله بن عمر ولي سلطان، لاقتصصت منه»(1).

وأخرج أيضاً بسنده إلى الزهري، قال: «لمّا استخلف عثمان دعا المهاجرين والأنصار، فقال: أشيروا في قتل هذا الذي فتق في الدين ما فتق. فأجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجعون عثمان على قتله... فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إنّ هذا الأمر قد كان قبل أن يكون لك سلطانٌ على الناس. فأعرض عنه، فتفرّق الناس عن كلام عمرو بن العاص»(2).

فالمهاجرون والأنصار - وعلى رأسهم عليّ علیه السلام - يرومون تطبيق الشريعة، وإقامة الحدّ على عبيد الله، لكن عثمان يستأنس بكلام عمرو بن العاص ويعفو عنه!! وبقي هذا الموقف ثابتاً من عليًّ علیه السلام ، فحينما آلت إليه الخلافة أراد القصاص منه، لكنه هرب إلى معاوية وجماعته، وبقي معه حتّى قتل في صفين(3).

هذا وقد تعرّضت كتب التاريخ والسير والرجال بصورة مفصّلة لهذه المسألة، وهي وإن اختلفت الكلمات فيها وفي كيفيّة عفو عثمان عنه، إلاّ أنّها اتّفقت على أمرين:

الأول: أنّ عثمان لم يقتصّ من عبيد الله بن عمر.

ص: 279


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج5، ص16- ص17.
2- المصدر السابق: ج5، ص17.
3- اُنظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج5، ص17.

الثاني: أنّ علياً علیه السلام استمرّ بمطالبته بدم الهرمزان.

ولذا نرى ابن الأثير وابن حجر يكذّبان خبر عفو ابن الهرمزان عن قاتل أبيه، مستدلين بموقف عليٍّ علیه السلام المطالب بدم الهرمزان حين ولي الخلافة(1).

وهذا يدلّك على أنّ عليَّ بن أبي طالب علیه السلام لم يكن يرى أنّ هناك مبرراً للعفو عن عبيد الله، ومهما حاولت كتبُ التاريخ أن تدافع وتتأوّل لموقف عثمان، فإنّ مطالبة عليًّ علیه السلام بدم الهرمزان في أيام خلافته تدفع كل ذلك.

فلم يكن الخليفة عثمان سويّاً من الأيام الأُولى لخلافته، ولم يختصّ انحرافه بالسنين الستّ الأواخر. وهنا لا بدّ أن نتأمّل كثيراً، فإنّ الأيام التي تُعدّ أيام عدل ورفاه للمجتمع، وجدنا فيها هذه المظالم، فما بالك بالسنين الستّ العجاف التي صرّحوا بتفشّي الظلم فيها.

خامساً: معاملته السيئة لكبار صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله

غير خفي ما قام به عثمان من إساءةٍ إلى عدّة من صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله ، وهم: أبو ذر، وعمّار، وعبد الله بن مسعود.

بين أبي ذر وعثمان:

أمّا ما يتعلق بأبي ذر، فقد نفاه عثمان إلى الرَبَذَة؛ ليموت هناك غريباً وحيداً، أبعده الخليفة خوفاً من سماع كلمة الحق، التي تؤدّي إلى تأليب الناس عليه.

وخبر نفي أبي ذر إلى الربَذة من الأخبار المشهورة المعروفة، ولا داعي لكثرة

ص: 280


1- اُنظر: ابن الأثير، أُسد الغابة: ج3، ص343. وابن حجر، الإصابة: ج5، ص43

التفصيل فيه، فقد نصّت الأخبار أنّه: «لمّا أعطى عثمانُ مروانَ بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم، جعل أبو ذر يقول: بشِّر الكانزين بعذاب أليم. ويتلو قول الله عز وجل: ﴿َالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ الآية، فرفع ذلك مروان بن الحكم إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذر ناتلاً مولاه أن انتهِ عمّا يبلغني عنك. فقال: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله، وعيب من ترك أمر الله، فوالله، لأن أُرضيَ الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أن أُسخط الله برضاه. فأغضب عثمان وأحفظه، فتصابر وكفّ، وبقي أبو ذر يعارض سياسة عثمان، فبعث إليه عثمان: الحقْ بأي أرضٍ شئت. فقال: بمكة. فقال: لا. قال: فبيت المقدس. قال: لا. قال: فبأحد المِصْرَين. قال: لا، ولكني مسيّرك إلى الربذة. فسيّره إليها، فلم يزل بها حتى مات»(1).

بين عمّار وعثمان:

وأمّا ما جرى لعمّار بن ياسر من عثمان، فقد ورد أنّه «كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجواهر، فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعضَ أهله، فأظهر الناسُ الطعنَ عليه في ذلك، وكلّموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه، فخطب، فقال: لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمتْ أنوف أقوام. فقال له عليٌّ: إذاً تُمنع من ذلك ويُحال بينك وبينه. وقال عمّار بن ياسر: أُشهدُ اللهَ أنّ أنفي أول راغم من ذلك، فقال عثمان: أعلَيَّ يا بن المتكاء تجترئ؟ خذوه. فأُخذ ودخل عثمان فدعا به، فضربه حتى غشي عليه، ثم أُخرج فحُمل حتى أُتيَ به منزل أُم سلمة زوج رسول الله صلی الله علیه و آله ، فلم يُصلِّ الظهر والعصر والمغرب، فلمّا أفاق توضأ وصلّى، وقال:

ص: 281


1- البلاذري، أنساب الأشراف: ج5، ص541- 543.7

الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا فيه في الله»(1).

وحين وصل الخبر إلى عائشة، غضبت وأخرجت شعراً من شعر رسول الله صلی الله علیه و آله وثوباً من ثيابه ونعلاً من نعاله، ثمّ قالت: «ما أسرع ما تركتم سنّة نبيكم، وهذا شعره وثوبه ونعله ولم يبلَ بعد. فغضب عثمان غضباً شديداً حتى ما درى ما يقول، فالتجّ المسجد، وقال الناس: سبحان الله! سبحان الله!»، وجاء في ذلك أيضاً: «واستقبح الناس فعله بعمّار، وشاع فيهم، فاشتدّ إنكارهم له»(2).

وجاء في الاستيعاب: «وللحلف والولاء اللذين بين بني مخزوم وبين عمّار وأبيه ياسر كان اجتماع بني مخزوم إلى عثمان؛ حين نال من عمّار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب حتى انفتق له فتق في بطنه، ورغموا وكسروا ضلعاً من أضلاعه؛ فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا: والله، لئن مات لا قتلنا به أحداً غير عثمان»(3).

بين عبد الله بن مسعود وعثمان:

أمّا ما حصل لعبد الله بن مسعود من عثمان، فقد ورد أنّه: «حين ألقى مفاتيح بيت المال إلى الوليد بن عقبة قال: مَن غيَّرَ غيَّرَ الله عليه، وما أرى صاحبَكم إلاّ وقد غيّر وبدّل، أيعزُل مثل سعد بن أبي وقاص ويولّى الوليد؟! وكان يتكلم بكلام لا يدعه، وهو: إنّ أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلی الله علیه و آله وشرّ الأُمور محدثاتها، وكل مُحدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فكتب الوليد إلى عثمان بذلك وقال: إنّه يعيبك ويطعن عليك. فكتب إليه عثمان يأمره بإشخاصه، وشيّعه أهل الكوفة...

ص: 282


1- البلاذري، أنساب الأشراف: ج5، ص537 - 538 .
2- المصدر السابق: ج5، ص538.
3- ابن عبد البر، الاستيعاب: ج3، ص1134.

وقدم ابن مسعود المدينة وعثمان يخطب على منبر رسول الله صلی الله علیه و آله ، فلمّا رآه قال: ألا إنّه قدمت عليكم دويبة سوءٍ مَن يمشِ على طعامه يقيء ويسلح. فقال ابن مسعود: لستُ كذلك، ولكني صاحب رسول الله يوم بدر، ويوم بيعة الرضوان. ونادت عائشة: أي عثمان، أتقول هذا لصاحب رسول الله صلی الله علیه و آله ؟!

ثمّ أمر عثمان به؛ فأُخرج من المسجد إخراجاً عنيفاً، وضرب به عبد الله بن زمعة الأرض، ويقال: بل احتمله يحموم غلام عثمان، ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الأرض فدقّ ضلعه، فقال عليٌّ: يا عثمان، أتفعل هذا بصاحب رسول الله صلی الله علیه و آله بقول الوليد بن عقبة؟! فقال: ما بقول الوليد فعلت هذا، ولكن وجهت زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة، فقال له ابن مسعود: إن دم عثمان حلال. فقال عليٌّ: أحلت من زبيد على غير ثقة... وقام عليٌّ بأمر ابن مسعود حتى أتى به منزله، فأقام ابن مسعود بالمدينة لا يأذن له عثمان في الخروج منها إلى ناحية من النواحي، وأراد حين برئ الغزوَ فمنعه من ذلك، وقال له مروان: إنّ ابن مسعود أفسد عليك العراق، أفتريد أن يفسد عليك الشام؟! فلم يبرح المدينة حتى توفّي قبل مقتل عثمان بسنتين، وكان مقيماً بالمدينة ثلاث سنين، وقال قوم: إنّه كان نازلاً على سعد بن أبي وقاص.

ولمّا مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه، أتاه عثمان عائداً، فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: ألا أدعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: أفلا آمر لك بعطائك؟ قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا مستغنٍ عنه؟! قال: يكون لوُلدك. قال: رزقُهم على الله. قال: استغفرْ لي يا أبا عبد الرحمن. قال: أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي. وأوصى أن لا يصلي عليه عثمان، فدُفن بالبقيع وعثمان لا يعلم، فلمّا علم، غضب وقال: سبقتموني به. فقال له عمّار بن ياسر: إنّه أوصى أن لا تصلي عليه. وقال الزبير:

ص: 283

لأعرفنك بعد الموت تندُبني*** وفي حياتي ما زودتني زادي»

أمّا السبب الذي جعل ابن مسعود يلقي مفاتيح بيت المال على الوليد، فهو «أنّ الوليد لمّا قدم الكوفة ألفى ابن مسعود على بيت المال فاستقرضه مالاً - وقد كانت الولاة تفعل ذلك، ثمّ تردُّ ما تأخذ - فأقرضه عبد الله ما سأله، ثمّ إنّه اقتضاه إياه، فكتب الوليد في ذلك إلى عثمان، فكتب عثمان إلى عبد الله بن مسعود: إنّما أنت خازن لنا، فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال؛ فطرح ابن مسعود المفاتيح، وقال: كنت أظن أنّي خازنٌ للمسلمين، فأمّا إذا كنتُ خازناً لكم، فلا حاجة لي في ذلك. وأقام بالكوفة بعد إلقائه مفاتيح بيت المال»(1).

هذه جملة مختص-رة من مواقف عثمان مع صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله ، وقد عرفت كيف أنّه كان يستخدم الترهيب، ويتعامل معهم بقسوةٍ منقطعة النظير، وعرفنا فيما تقدم أنّ عثمان ولّى أقرباءه، وأتخمهم بالهدايا والأموال من بيت مال المسلمين، ولم يراع للمسلمين أي حرمة، ولم يصغ للصحابة الذين نصحوه، ولم يقم لهم أي وزن، فأيقنت الأمّة الإسلامية بأنّ خليفتها! لم يكن على جادّة الصواب، فكان لا بدّ للمسلمين من كلمة، ولا بدّ للعدالة من صولة، ولا بدّ للظلم من أن يُقبر، ولا بدّ للحقيقة من أن تظهر، فكان وجوه الصحابة، وقرّاء القرآن، وخيار التابعين وراء الثورة على عثمان خليفة المسلمين!!

المحور الثاني: الفئة التي ساهمت في الثورة على عثمان

المتتبع لكتب التاريخ والرواية يرى أنّ الذين قتلوا عثمان هم المسلمون، من الصحابة، وقرّاء القرآن، والتابعين.

ص: 284


1- البلاذري، أنساب الأشراف: ج5، ص515.

قال ابن الأثير في أحداث سنة (34 ه-): «في هذه السنة تكاتب نفر من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وغيرهم، بعضهم إلى بعض أن اقدموا فإنّ الجهاد عندنا. وعظم الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وليس أحد من الصحابة ينهي ولا يذبّ إلاّ نفر، منهم: زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسّان بن ثابت، فاجتمع الناس فكلموا عليَّ بن أبي طالب، فدخل على عثمان، فقال له: الناس ورائي وقد كلموني فيك... »(1).

فالصحابة نالوا من عثمان أقبح ما نيل من أحد! ولم يكن بينهم من ينهى أو يذبّ عنه، إلا نفر أقل من عدد الأصابع، فالنصّ يص-رّح بوجود إجماع من الأمّة حول عثمان، وأنّ الخروج عليه إنّما هو جهاد في سبيل الله.

وأخرج الطبري من طريق عبد الرحمن بن يسار أنّه قال: «لمّا رأى الناس ما صنع عثمان، كتب مَن بالمدينة من أصحاب النبي صلی الله علیه و آله إلى ما بالآفاق منهم - وكانوا قد تفرّقوا في الثغور-: إنّكم إنّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل تطلبون دين محمد صلی الله علیه و آله ؛ فإنّ دين محمد قد أُفسد من خلفكم وترك، فهلموا فأقيموا دين محمد صلی الله علیه و آله ، فأقبلوا من كل أفقٍ حتى قتلوه»(2).

وهذا النصّ كسابقه يبيّن أنّ الصحابة تحرّكوا على عثمان من مختلف أطباق الأرض؛ لأنّه انتهك حرمات الدين، فترك الصحابةُ الثغور، وعادوا ليقيموا الدين مرّة أُخرى.

والملفت للنظر أنّ الأمّة الإسلاميّة بأطرافها المترامية كلها اشتركت في دم عثمان، فالوفود التي حاصرت عثمان - مضافاً إلى أهل المدينة- قد أقبلت من مصر، والكوفة،

ص: 285


1- ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج3، ص150- 151، والخبر أخرجه الواقدي على ما في تاريخ الطبري: ج3، ص375- 376. وابن كثير، البداية والنهاية: ج3، ص150- 151
2- الطبري، تاريخ الطبري: ج3، ص400- 401.

والبصرة، ويترأسها الصحابة والتابعون.

جاء في طبقات ابن سعد، وأنساب البلاذري، واللفظ للأول: «كان المص-ريون الذين حصروا عثمان ستمائة، رأسهم عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر بن عتاب الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، والذين قدموا من الكوفة مائتين، رأسهم مالك الأشتر النخعي، والذين قدموا من البصرة مائة رجل، رأسهم حكيم بن جبلة العبدي»(1).

وجاء في الكامل في التاريخ: «وكان بمصر محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة يحرَّضان على عثمان، فلمّا خرج المصريون، خرج فيهم عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمسمائة، وقيل في ألف، وفيهم كنانة بن بشر الليثي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة بن فلان السكوني، وعليهم جميعاً الغافقي بن حرب العكي، وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم العامري، وهم في عداد أهل مصر، وعليهم جميعاً عمرو بن الأصم، وخرج أهل البصرة فيهم حكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عبّاد، وبشر بن شريح القيسي، وابن المحترش، وهم بعداد أهل مصر، وأميرهم حرقوص بن زهير السعدي، فخرجوا جميعاً في شوال»(2).

فلا بدّ أن نتعرَّف على رؤوس هذه الثورة، وهل هم من الهمج الغوغاء كما يُدّعى؟

أمّا عبد الرحمن بن عديس البلوي، فقد قال ابن عبد البرّ: «كان عبد الرحمن بن عديس البلوي ممَّن بايع تحت الشجرة رسولَ الله صلی الله علیه و آله ، قال أبو عمر: هو كان الأمير على الجيش القادمين من مصر إلى المدينة، الذين حصروا عثمان وقتلوه»(3).

وأمّا عمرو بن الحمق الخزاعي، فقد قال ابن سعد: «صحب النبي صلی الله علیه و آله ونزل الكوفة،

ص: 286


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج3، ص71. البلاذري، أنساب الأشراف: ج5، ص590
2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج3، ص158- 159.
3- ابن عبد البر، الاستيعاب: ج2، ص840 .

وشهد مع علي رضي الله عنه مشاهده، وكان فيمَن سار إلى عثمان، وأعان على قتله»(1).

وقال ابن عبد البر: «وكان ممَّن سار إلى عثمان، وهو أحد الأربعة الذين دخلوا عليه الدار فيما ذكروا»(2).

وفي طبقات ابن سعد، والكامل في التاريخ، واللفظ للأول: «وأمّا عمرو بن الحمق، فوثب على عثمان، فجلس على صدره وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، وقال: أمّا ثلاث منهن؛ فإني طعنتهن لله، وأما ستّ؛ فإنّي طعنتُ إياهن لما كان في صدري عليه»(3).

وأمّا مالك الأشتر، فقد قال ابن حجر: «له إدراك، وكان رئيس قومه... وذكره ابن سعد في الطبقة الأُولى من التابعين بالكوفة، فقال: وكان ممّن ألّب على عثمان وشهد حصره، وله في ذلك أخبار»(4)، ولم يغمز فيه أي أحد ممَّن ترجمه، بل لأمير المؤمنين علي علیه السلام كلمات وافرة في مدحه والثناء عليه(5).

وأمّا محمد بن أبي حذيفة، فقد قال ابن حجر: «محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن

ص: 287


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج6، ص25.
2- ابن عبد البر، الاستيعاب: ج3، ص1174. واُنظر: ابن الأثير، أُسد الغابة: ج4، ص100
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج3، ص74. ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج3، ص179
4- ابن حجر، الإصابة: ج6، ص212.
5- فمن كتاب له إلى أهل مصر جاء فيه: «أمّا بعد، فإنّي قد بعثت إليكم عبداً من عباد الله لا نائي الضريبة، ولا كليل الحدّ، ولا ينام على الخوف، ولا ينكل عن الأعداء، حذار الدوائر، أشدّ على الفجار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، وإنّه سيف من سيوف الله؛ فإن استنفركم فانفروا، إن أمركم بالإقامة فأقيموا؛ فإنّه لا يقدم ولا يحجم إلاّ بأمري، وقد آثرتكم به على نفسي؛ لنصيحته لكم وشدّة شكيمته على عدوكم، عصمكم ربكم بالهدى، وثبّتكم باليقين، والسلام عليكم». اُنظر: ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج56، ص390. واُنظر كلمات أُخرى للأمير علیه السلام في مدحه في تاريخ الطبري: ج4، ص72. الكامل في التاريخ: ج3، ص353. سير أعلام النبلاء: ج4، ص34

ربيعة... ذكره الواقدي فيمَن كان يكنى أبا القاسم واسمه محمد، من الصحابة، واستُشهد أبوه أبو حذيفة باليمامة، فضم عثمان محمداً هذا إليه وربّاه، فلمّا كبر واستخلف عثمان، استأذنه في التوجّه إلى مصر فأذن له، فكان من أشدّ الناس تأليباً عليه...»(1).

وقال الذهبي: «محمد بن أبي حذيفة: هو الأمير أبو القاسم العبشمي، أحد الأشراف، ولد لأبيه لمّا هاجر الهجرة الأُولى إلى الحبشة، وله رؤية... ثمّ كان ممَّن قام على عثمان، واستولى على إمرة مصر»(2).

وقال ابن عبد البرّ: «وكان محمد بن أبي حذيفة أشدّ الناس تأليباً على عثمان، وكذلك كان عمرو بن العاص مذ عزله عن مصر يعمل حِيَلَه في التأليب والطعن على عثمان»(3).

وأمّا حكيم بن جبلة العبدي، فقد قال ابن عبد البر: «أدرك النبي صلی الله علیه و آله ولا أعلم له رواية ولا خبراً يدلّ على سماعه منه، ولا رؤية له، وكان رجلاً صالحاً، له دين، مطاعاً في قومه»(4).

وأمّا محمد بن أبي بكر، فقال ابن حجر: «له رؤية... وكان عليٌّ يثني عليه»(5).

وقال ابن عبد البر: «وكان عليُّ بن أبي طالب يُثني على محمد بن أبي بكر ويفضّله؛ لأنّه كانت له عبادة واجتهاد، وكان ممَّن حضر قتْلَ عثمان»(6).

ولا نريد أن نستقصي ونطيل بتراجم مَن اشتركوا في الثورة على عثمان، بل أردنا بيان أن مَن قتَلَ عثمان هم الصحابة وخيار التابعين.

ص: 288


1- ابن حجر، الإصابة: ج4، ص9.
2- الذهبي، سير أعلام النبلاء: ج3، ص479-480.
3- ابن عبد البر، الاستيعاب: ج3، ص1369.
4- المصدر السابق: ج1، ص366. ابن الأثير، أُسد الغابة: ج2، ص40.
5- ابن حجر، تقريب التهذيب: ج2، ص59.
6- ابن عبد البر، الاستيعاب: ج3، ص1347.

ولا بدّ أن ننبّه هنا بأن طلحة، وعائشة كانا في مقدمة المؤلّبين على عثمان؛ فقد روى البلاذري في أنسابه عن ابن سيرين أنه قال: «لم يكن أحد من أصحاب النبي صلی الله علیه و آله أشدّ على عثمان من طلحة»(1). وفي الأنساب أيضاً: «ومرَّ مجمع بن جارية الأنصاري بطلحة بن عبيد الله، فقال: يا مجمع، ما فعل صاحبك؟ قال: أظنّكم والله قاتليه. فقال طلحة: فإن قُتل، فلا ملَك مقرّب ولا نبي مرسل»(2).

بل ورد أنّ طلحة أمر بقطع الماء عنه حتى غضب عليّ بن أبي طالب من ذلك، فأدخلت عليه روايا الماء(3).

وقال ابن حجر: «إنّ مروان بن الحكم رأى طلحة في الخيل، فقال: هذا أعان على عثمان. فرماه بسهم في ركبته، فما زال الدم يسيح حتى مات»(4).

أمّا عائشة، فموقفها معروف من عثمان، فهي التي كانت تقول: «اقتلوا نعثلاً فقد كفر»(5)، وهي التي نصحت ابن عباس بعدم التدخّل في ردّ الناس عن عثمان، فقالت له: «يا بن عباس إنّ الله قد آتاك عقلاً وفهماً وبياناً، فإياك أن تردّ الناس عن هذه الطاغية»(6).

فموقف عائشة إذن كان التأليب على عثمان والرضا بقتله، ووصفه بأنّه طاغية، لكنها صُدمت بأن المسلمين بايعوا علياً من بعده، فصار عثمان مظلوماً!

ص: 289


1- البلاذري، أنساب الأشراف: ج5، ص572.
2- المصدر السابق: ج5، ص565.
3- اُنظر: البلاذري، أنساب الأشراف: ج5، ص561.
4- ابن حجر، الإصابة: ج3، ص432.
5- الطبري، تاريخ الطبري: ج3، ص477. الكامل في التاريخ: ج3، ص206.
6- البلاذري، أنساب الأشراف: ج5، ص565.

المحور الثالث: موقف بعض الصحابة بعد مقتل عثمان

تبيّن ممّا تقدم أنّ مَن ألّب على عثمان وحاصره واشترك في قتله هم الصحابة والتابعون، وهذا الأمر أكّده عدد من الصحابة بعد مقتل عثمان، فص-رّح الكثير منهم بأنّ عثمان قد قتله خيار الصحابة والتابعين وقرّاء القرآن، وصرّح آخرون بأن المهاجرين، والأنصار خذلوا عثمان، ولم ينصروه!

فالصحابة بين مشترك، ومؤلَّب، وخاذل لعثمان؛ لذا لم يجدوا مبرراً للطلب بدمه، والأخذ بثأره، فهذا الصحابي هاشم المرقال يخاطب فتًى في جبهة معاوية يوم صفين ويقول له: «وما أنت وابن عفان؟! إنّما قتله أصحاب محمّد، وأبناء أصحابه، وقرّاء الناس حين أحدث الأحداث، وخالف حُكم الكتاب، وهم أهل الدين وأولى بالنظر في أمور الناس منك ومِن أصحابك، وما أظنّ أمر هذه الأمّة وأمر هذا الدين أهمل طرفةَ عين»(1).

وها هو عمّار بن ياسر(2) يخطب بجمعٍ يوم صفين ويقول: «امضوا معي عباد الله إلى قوم يطلبون - فيما يزعمون - بدم الظالم لنفسه، الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله، إنّما قتله الصالحون المنكرون للعدوان، الآمرون بالإحسان»(3).

ونرى الصحابي أبا الطفيل (عامر بن واثلة) غير مكترث بعدم نص-رته لعثمان، مصرَّحاً بأنّ المهاجرين والأنصار قد خذلوه ولم ينص-روه؛ فقد أخرج ابن عساكر،

ص: 290


1- الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص30. ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج3، ص313
2- ولا يخفى أنّ عمّار بن ياسر كان معياراً في معرفة الفريق المحقّ من الفريق المبطل في يوم صفين؛ حيث ورد عن النبي صلی الله علیه و آله أنّه قال: «ويح عمّار! تقتله الفئة الباغية، عمّار يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النار». صحيح البخاري: ج3، ص207. وورد عنه أيضاً قوله: «إنّ قاتله وسالبه في النار»، ورجاله ثقات، مجمع الزوائد: ج7، ص244
3- نصر بن مزاحم، وقعة صفين: ص319.

بسنده إلى عبد الرحمن الهمداني، قال: «دخل أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني على معاوية، فقال له معاوية: أبو الطفيل؟ قال: نعم. قال: أنت من قتلة عثمان؟ قال: لا، ولكن ممَّن حضره فلم ينصره. قال: ما منعك من نصره؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار، ولم تنصره أنت. قال معاوية: أما طلبي بدمه نصرة له؟ فضحك أبو الطفيل، وقال: أنت وعثمان كما قال الشاعر:

لا ألفينك بعد الموت تندبني***وفي حياتي ما زودتني زادي»

والملاحظ أنّ هؤلاء الصحابة لم يندموا ولم يفكّروا بتغيير مواقفهم، بل كانت لهم رؤى ثابتة، وواضحة في قصة عثمان، فإنّه أحدث وخالف الكتاب والسنّة، فكان أمره بين التنحّي، أو القتل، وحيث إنّه رفض التنحّي بعدما أقاموا عليه الحجة وحذروه؛ فكان ما كان.

المحور الرابع: رؤيتنا لموقف علي علیه السلام من الأحداث

اتّضحت من خلال المحاور الثلاثة حقائق عدّة، أهمّها أنّ سياسة عثمان كانت بعيدة عن النهج المحمديّ الأصيل، وأنّه غيّر وبدّل، وأحدث بعد رسول الله صلی الله علیه و آله ، وقد نقم الصحابة والتابعون على هذا الوضع، فجُيّشت الجيوش ضد الخليفة - عثمان - وأقبلت عليه من كل حدب وصوب، إلاّ أنّ علياً علیه السلام كان حريصاً على وأد الفتنة، وإطفاء نارها التي سوف تأكل الأخضر واليابس، وتُفرّق الأمّة، وتشقّ عصا المسلمين.

لقد كانت نظرة عليٍّ علیه السلام أبعد ممّا يتعلّق بعثمان، فهو ينظر إلى الأحداث بعين أُخرى، وأنّ الفتنة إن نشبت، فسوف لا تنتهي بمقتل عثمان فقط؛ لذا حاول جاهداً إصلاح الأُمور من خلال التكلم مع الطرفين، فمِن جهة طلب من عثمان أن يكف عن تصرفاته، وأن يتوخّى العدالة، ومن جهة أُخرى طالب الجيوش بالتنحّي على أمل تطبيق عثمان لعهوده، بإقامة

ص: 291

حكم الله في الأرض مجدَّداً، وبالفعل نجح عليٌّ علیه السلام في محاولته، وانقادت الجيوش لأوامره وتنحّت، لكن عثمان، وبعد أن أعلن توبته أمام الملأ، ووعدهم بإنصافهم، وتطبيق حكم الله مجدداً، لم يفِ بوعوده نتيجة خضوعه لمخططات مروان؛ الأمر الذي أدّى إلى غضب عليّ علیه السلام على عثمان واتّخاذه قراراً بعدم التدخّل مرة أُخرى، خصوصاً أنّه وعد الناس بأنّ عثمان سيُغيّر من سياسته ويحكم بما أنزل الله، فعادت الجيوش مرّة أُخرى!! لكن علياً علیه السلام اعتزل القوم، ولم يلبَّ طلب عثمان بالتدخّل، والقصّة وإن نُقلت بوجوه مختلفة وألفاظ شتّى، إلاّ أنّها اتّفقت على ما ذكرناه، وسنقتصر هنا من أجل توثيق الحقائق على ما نقله البلاذري، ونُحيل القارئ إلى مصادر أُخرى.

روى البلاذري - في قصّةٍ طويلة - أنّه لمّا حاصر القومُ عثمانَ، وفشلت بعض الوساطات «قال له ابن عمر وغيره: ليس لهم إلا عليّ بن أبي طالب. فبعث عثمان إلى عليٍّ، فلمّا أتاه، قال: يا أبا الحسن، ائت هؤلاء القوم، فادعُهم إلى كتاب الله وسنّة نبيه. قال: نعم، إن أعطيتني عهد الله وميثاقه على أنّك تفي لهم بكل ما أضمنه عنك. قال: نعم. فأخذ عليٌّ عليه عهد الله وميثاقه على أوكدِ ما يكون وأغلظ، وخرج إلى القوم، فقالوا: وراءك. قال: لا، بل أمامي، تعطون كتاب الله، وتعتبون من كلّ ما سخطتم. فعرض عليهم ما بذل عثمان، فقالوا: أتضمن ذلك عنه؟ قال: نعم. قالوا: رضينا. وأقبل وجوهُهم وأشرافهم مع عليٍّ حتى دخلوا على عثمان وعاتبوه، فأعتبهم من كلّ شيء، فقالوا: اكتب بهذا كتاباً. فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمَن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين، إنّ لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنّة نبيه، يُعطى المحروم، ويُؤمن الخائف، ويُردّ المنفي، ولا تُجمر البعوث، ويُوفّر الفيء، وعليٌّ بن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين على عثمان بالوفاء بما في هذا الكتاب... فأخذ كلُّ قوم كتاباً فانصرفوا.

ص: 292

وقال عليّ بن أبي طالب لعثمان: اخرج، فتكلم كلاماً يسمعه الناس ويحملونه عنك، وأشهد الله على ما في قلبك؛ فإن البلاد قد تمخّضت عليك، ولا تأمن أن يأتي ركب آخر من الكوفة، أو من البصرة، أو من مصر، فتقول: يا عليّ، اركب إليهم، فإن لم أفعل، قلتَ: قطعَ رحمي، واستخفّ بحقي. فخرج عثمان، فخطب الناس، فأقرّ بما فعل واستغفر الله منه، وقال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله يقول: (مَن زلّ فلينب)، فأنا أول مَن اتّعظ، فإذا نزلت، فليأتني أشرافكم، فليروني رأيهم، فو الله، لو ردّني إلى الحقّ عبدٌ لاتبعته، وما عن الله مذهب إلاّ إليه. فسرّ الناس بخطبته، واجتمعوا إلى بابه مبتهجين بما كان منه.

فخرج إليهم مروان فزبرهم، وقال: شاهت وجوهكم، ما اجتماعكم؟! أمير المؤمنين مشغول عنكم، فإن احتاج إلى أحد منكم فسيدعوه، فانصرفوا.

وبلغ علياً الخبر فأتى عثمان، وهو مغضب، فقال: أما رضيت من مروان، ولا رضي منك إلاّ بإفساد دينك، وخديعتك عن عقلك، وإنّي لأراه سيوردك ثمّ لا يصدرك، وما أنا بعائدٍ بعد مقامي هذا لمعاتبتك»(1).

ودلّت الأخبار على أنّ علياً علیه السلام عاد وتكلّم مع عثمان مرّة أُخرى ولم ينفع، وبعث عثمان إلى عليًّ بعد ذلك قائلاً: «يا أبا حسن، إنّه قد كان من الناس ما قد رأيتَ، وكان منّي ما قد علمتَ، ولستُ آمنهم على قتلي، فارددهم عني، فإنّ لهم الله عز وجل أن أعتبَهم من كل ما يكرهون، وأن أعطيَهم الحق من نفسي ومِن غيري، وإن كان في ذلك سفك دمي.

فقال له عليٌّ: الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك، وإني لأرى قوماً لا يرضون إلاّ

ص: 293


1- البلاذري، أنساب الأشراف: ج5، ص554. واُنظر: الطبري، تاريخ الطبري: ج3، ص395- 397. ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج3، ص164-166. ابن كثير، البداية والنهاية: ج7، ص192-194

بالرضى، وقد كنت أعطيتهم في قدْمَتِهم الأُولى عهداً من الله لترجعن عن جميع ما نقموا، فرددتهم عنك، ثمّ لم تفِ لهم بشيء من ذلك، فلا تغرني هذه المرّة من شيء، فإني معطيهم عليك الحق. قال: نعم، فأعطهم، فوالله، لأفينّ لهم. فخرج عليٌّ إلى الناس فقال: أيها الناس، إنّكم إنّما طلبتم الحق، فقد أُعطيتموه، إنّ عثمان قد زعم أنّه منصفكم من نفسه ومِن غيره، وراجع عن جميع ما تكرهون، فاقبلوا منه، ووكِّدوا عليه.

قال الناس: قد قبلنا، فاستوثقْ منه لنا فإنّا - والله - لا نرضى بقولٍ دون فعل. فقال لهم عليٌّ: ذلك لكم. ثمّ دخل عليه فأخبره الخبر، فقال عثمان: اضرب بيني وبينهم أجلاً يكون لي فيه مهلة، فإنّي لا أقدر على ردّ ما كرهوا في يوم واحد. قال له عليٌّ: ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب فأجله وصول أمرك. قال: نعم، ولكن أجّلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام. قال عليٌّ: نعم، فخرج إلى الناس فأخبرهم بذلك، وكتب بينهم وبين عثمان كتاباً أجّله فيه ثلاثاً، على أن يردَّ كلَّ مظلمة، ويعزل كلَّ عامل كرهوه، ثمّ أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد وميثاق، وأشهد عليه ناساً من وجوه المهاجرين والأنصار، فكفَّ المسلمون عنه، ورجعوا إلى أن يفيَ لهم بما أعطاهم من نفسه، فجعل يتأهّب للقتال ويستعدّ بالسلاح وقد اتّخذ جُنداً عظيماً من رقيق الخمس، فلمّا مضت الأيام الثلاثة وهو على حاله لم يغير شيئاً مما كرهوه، ولم يعزل عاملاً؛ ثار به الناسُ، وخرج عمرو بن حزم الأنصاري حتى أتى المصريين، وهم بذي خشب، فأخبرهم الخبر وسار معهم حتى قدموا المدينة، فأرسلوا إلى عثمان: ألم نفارقك على أنك زعمت أنك تائب من أحداثك وراجع عمّا كرهنا منك، وأعطيتنا على ذلك عهد الله وميثاقه؟ قال: بلى، أنا على ذلك. قالوا: فما هذا الكتاب الذي وجدنا مع رسولك، وكتبت به إلى عاملك؟!»(1)، وقد تقدّم شيء ممّا يتعلق بأمر هذا

ص: 294


1- الطبري، تاريخ الطبري: ج3، ص403-404. واُنظر ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج3، ص169-170

الكتاب؛ فلا نعيد.

إذن؛ قد تدخّل عليٌّ علیه السلام في الأمر، وحاول وأد الفتنة قدر ما يستطيع، لكن عثمان نكث عهده، ولم يفِ بوعده ولا بتوبته؛ ولذا اعتزل عليٌّ الأمر، ولو كان عثمان مصيباً لما كان من عليًّ علیه السلام هذا الموقف، بل لكان أول الناصرين له، وقد صرّح لعثمان من خلال النصّ السابق بأنّه يعطي المقاتلين الحقّ إذا نكث عهده.

وكيف ما كان، فقد انتهى الأمر بقتل عثمان، ومبايعة عليّ علیه السلام في قصّة يطول شرحها، فحصل ما كان عليٌّ يخشاه، وأنّ المسالة سوف لن تنتهي بمقتل عثمان فحسب، فصار ظالم الأمس مظلوم اليوم، فكانت الجمل، ثمّ صفين تحت شعار المطالبة بدم عثمان، وإنّ على عليًّ أن يقيم القصاص على قتلة عثمان، أو أن يسلمَهم، ووصلت الصيحات إلى اليوم، وها هم معاشر أهل السنّة يقولون: إنّ علياً اجتهد وأخطأ في عدم قتله لقتلة عثمان!

والحقيقة التي يجب أن تقال: إنّ علياً كان مصيباً في عدم معاقبته قتلة عثمان، ونحاول بيان ذلك من خلال أمور ثلاثة:

1- إنّ الصحابة قد اجتهدوا في قتلهم لعثمان، وكانوا يرون أنّهم مصيبون في ذلك؛ لأن عثمان أحدث وغيّر وبدّل بعد رسول الله، وقد استتابوه وأخذوا عليه العهود، وطالبوه بالرجوع إلى الكتاب والسنّة، أو التنحّي فلم ينفع؛ فقتلوه وهم غير نادمين، ومَن لم يشترك منهم فهو لم يدافع، بل اعتزل الأمر.

فالصحابة مجتهدون في قتلهم لعثمان، فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر، والمجتهد والمتأوّل ليس عليه قصاص - على مباني أهل السنّة - فقد صرّحوا

ص: 295

بهذه القاعدة مراراً، وحملوا كل قتل للمسلمين وانتهاك لأعراضهم على أنّه اجتهاد، وقالوا: إنّ الرسول لم يعاقب خالد بن الوليد؛ لأنّه اجتهد، وكذا أبو بكر لم يقتصّ منه لأنّه اجتهد، فكذلك عليّ علیه السلام لم يحاسب الصحابة ولم يقتصّ منهم لأنّهم اجتهدوا، فأين الضير في ذلك؟! وكيف أنّ علياً كان مخطئاً؟! أليس هذا سيراً على سنّة رسول الله بنظرهم؟!!

2- لو أغمضنا الطَرْف عمّا ذكرناه، وقلنا: إنّ المجتهد والمتاوّل تناله العقوبة أيضاً، فإنّ عليّاً كان مصيباً في اجتهاده أيضاً؛ إذ قد عرفنا أن الأمّة الإسلاميّة بأطرافها المترامية - مصر والكوفة، والبصرة، والمدينة - كلهم اشتركوا في قتل عثمان، وكان على رأس هؤلاء الصحابةُ والتابعون وقرّاء القرآن، وكانوا يرون حقانيّة فعلهم، وعرفنا تصريحات الصحابة بعد الحادثة من عدم إظهار الندامة على قتله، بل والتأكيد على أنّ الصحابة بين مشترِك، ومؤلّب، وخاذل لعثمان.

وحينئذٍ، ومع ملاحظة الأخطار التي تهدّد المجتمع الإسلامي آنذاك، والانقسام الذي قد يحدث في الأمّة الإسلاميّة؛ أدّى إلى اتّخاذ عليًّ علیه السلام موقف السكوت عن الأمر، فالعقوبة إذا ثبتت فإنما هي ثابتة على الآلاف من المسلمين، وعلى الكثير من كبار الصحابة والأجلاّء من التابعين، فماذا يصنع عليٌّ علیه السلام في ظرفٍ كان يقتضي لملمة جراحات المجتمع، ووأد الفتنة، وحمل الناس على العدل والصلاح؟ وما عسى غيره لو تولّى الأمر أن يفعل، هل يقتل الآلاف المؤلّفة التي كانت تجاهر بمقتل عثمان؟

روى البلاذري أنّ معاوية أرسل كتاباً إلى عليًّ علیه السلام يطلب فيه تسليم قتلة عثمان إليه، فلمّا وصل الكتاب إلى عليًّ في الكوفة «اجتمع الناس في المسجد وقُرئ عليهم

ص: 296

الكتاب، فقالوا: كلنا قتلة عثمان، وكلنا كان منكراً لعمله»(1). فرفض عليٌّ علیه السلام طلبَ معاويةَ، وكتب إليه كتاباً جاء فيه: «وذكرتَ عثمانَ وتأليبي الناس عليه، فإنّ عثمان صنع ما رأيتَ، فركب الناس منه ما قد علمتَ، وأنا من ذلك بمعزل، إلاّ أن تتجنّى فتجنّ ما بدا لك، وذكرت قتلته - بزعمك - وسألتني دفعهم إليك، وما أعرف له قاتلاً بعينه»(2).

وفي الأخبار الطوال للدينوري: أنّ عدد الذين قالوا: (كلنا قلتة عثمان) كانوا زهاء عشرة آلاف رجل، وكانوا قد لبسو السلاح(3). وفي نصّ آخر: أنّهم زهاء عشرين ألف رجل(4).

أفهل يقتصّ عليٌّ من هذه الشريحة الواسعة من المسلمين؟! والتي تضمّ الصحابة والتابعين، وهل كل هؤلاء قد أخطأوا ولم يصيبوا؟ مع أنّ في جواب أمير المؤمنين علیه السلام إلى معاوية كلمات واضحة في أنّ أعمال عثمان كانت غير مرضية، فالآلاف المؤلفة كلُّها تنادي أنّها قتلت عثمان، فهل تكون كلّها مطلوبة للقصاص؟ ولا يغيب عن البال أنّ من جملة المطلوبين حينئذٍ هم عائشة، وطلحة، فقد ألبّا وأعانا على عثمان، بل إنّ طلحة كان من أشد الناس عليه، فالكل يكون مطلوباً، خصوصاً مع ملاحظة خفاء شخصيّة القاتل المباشر، كما جاء في جواب أمير المؤمنين علیه السلام لمعاوية.

فمعاقبة قتلة عثمان - إذن - إنما هو ضربٌ من الخيال، لا يمكن تحقيقه لأي حاكمٍ كان، وإنّ فتح هذا الباب سيؤدي بالأمّة الإسلاميّة إلى متاهات مظلمة، لا يعلم نهايتها إلاّ الله سبحانه وتعالى؛ فالسكوت - إذن - كان عين الصواب، ولا يوجد اجتهاد خاطئ كما يُدعى.

ص: 297


1- البلاذري، أنساب الأشراف: ج2، ص279.
2- المصدر السابق: ج2، ص281.
3- اُنظر: الدينوري، الأخبار الطوال: 163.
4- اُنظر: المصدر السابق: ص170.

ولو فعلها عليٌّ علیه السلام ، وبدأ بمحاسبة عائشة وطلحة، لقالوا أيضاً: إنه اجتهد فأخطأ؛ لأن المسألة عندهم خالية من الضوابط، ولا يوجد لها أيّ تقعيد؛ لذا صارت مخرجاً لكل ما لا يجدون له حلاً، فالحلّ صار دائماً بكلمتين لا أكثر: (اجتهد فأخطأ)!

3- نحن نعتقد أنّ الإمام علياً علیه السلام معصوم ومسدّد من الله تعالى، ولا يتطرّق إلى أفعاله الاجتهاد، وكذا هو اعتقادنا بنبي الإسلام محمد صلی الله علیه و آله ، فعليّ علیه السلام إنّما هو امتداد للشجرة النبويّة، وتلميذ تلك المدرسة الربانيّة، انتهل من الوحي وارتضع من معين النبوة، فهو الذي يرسم لنا المنهاج بعد النبي صلی الله علیه و آله ، وهو الذي يدلّنا على الطريق، ويبيّن لنا صوابه من خطئه، فقوله المتّبع، وفعله الحجّة، فلا اجتهاد ولا تأويل، بل هو التسديد من الوحي والسماء، فكلّ ما تقدّم من النقاش إنّما يتمّ على مباني السنّة، دون ما نتبناه - نحن الشيعة - من الالتزام بالعصمة؛ فيكون الحديث عن الاجتهاد، وأنّه مصيب أو مخطئ من السالبة بانتفاء الموضوع.

ص: 298

الوسوسة وكثرة الشك

الحكم والأسباب وطرق العلاج الشيخ منتظر الإمارة

قد تتعرض نفس الإنسان وروحه - في بعض مراحل حياته - إلى بعض الهزّات النفسيّة والأزمات المعنوية لسبب من الأسباب؛ فتختلّ في وجدانه وحساباته بعض الموازين والقيم؛ ما يصيبه بحالة من الإفراط أو التفريط، سواء في علاقته مع ربه سبحانه في عباداته وتكاليفه، أم علاقاته مع محيطه ومجتمعه؛ فينحرف في سلوكه وتص-رفاته عن الاعتدال والوسطيّة المطلوبة، إلى حالة مرضيّة مستعصية تؤذيه وتؤذي المحيطين به، من أسرته والمقربين له.

ومن هؤلاء الذين يتعرضون لمثل هذه الابتلاءات هو مَن تنتابه حالة من كثرة الشك والوسوسة في أداء عباداته، فلا تستقر نفسه - أو تطمئن - عندما يمتثل ما عليه من واجبات وعبادات، فيكثر من إعادة وضوئه أو صلاته، أو تطهير بدنه أو ثيابه، وهكذا. ولانتشار هذه الظاهرة المرضيّة بين بعض المتدينين واستفحالها عندهم؛ حاولنا - بعد التعرّف على حكمه في الشريعة - الوقوف على أنواع وجذور وأسباب ومناشئ هذا الانحراف، ومعرفة علاجه والتدابير اللازمة للحد منه والإقلاع عنه.

معنى الوسوسة وكثرة الشك:

إن كثيراً من المفاهيم والعناوين التي لم يتدخل الشارع في بيان حدودها أو قيودها،

ص: 299

يُرجَع في فهمها إلى العرف والعادة، وما تبانى عليه العقلاء فيما بينهم، وما نحن فيه من هذا القبيل، فيرجع في تبيان كثير الشك والوسواس إلى العرف والعادة، فما صدق عليه عند الناس أنه شك كثير ووسوسة زائدة عن الحد المتعارف عليه بينهم يؤخذ به؛ ويرتب عليه الحكم، فالتحديد العرفي هو المعيار في مثل هذه الأُمور، قال المحقق الحلي في هذا المجال: «ويرجع في الكثرة إلى ما يسمى في العادة كثيراً»(1). وأما ما قد يذكر من عدد معين في حصول الشك عند الشخص؛ كي يسمى كثير الشك، فلم يعتن به الفقهاء(2).

نعم، قد يُلاحَظ هناك فرقٌ بين كثرة الشك والوسوسة من الناحية العرفية أو الاصطلاحية، فتعدّ كثرة الشك حالة أخف، ومرتبة متدنية من الوسوسة التي هي في واقعها حالة متأزمة ومتطورة لكثرة الشك، وهو ما بيّنه الفيروزآبادي في قوله: «الفرق بين كثير الشكّ والوسواسي: أنّ كثير الشكّ من جهة ضبطه، والوقائع التي يشكّ فيها زائدة على المتعارف. وأما الوسواسي، فله حالة مرضيّة يمنع من حصولها الجزم له حسب المتعارف»(3).

وعرّفه الشيخ جعفر كاشف الغطاء بأنه: «حالة في الإنسان تمنعه عن الثبات والاطمئنان، وهو كالجنون له فنون؛ ومنشأه غلبة الوهم واضطراب الفكر، فقد يرى نفسه بأشدّ المرض وهو في كمال الصحة، أو بأشد الخوف وهو في غاية الأمن، ويرى عمله فاسداً وهو صحيح، وغير فاعل لشيء عند الفراغ من فعله، ويرى الطاهر نجساً والحلال حراماً وبالعكس فيها، ويقع في المعاملات، وإن كان معظم بلائه في العبادات، وقد يقع في العقائد»(4).

ص: 300


1- الحلي، جعفر بن الحسن، شرائع الإسلام: ج1، ص90.
2- اليزدي، محمد كاظم، العروة الوثقى: ج3، ص308. العاملي، محمد بن علي، مدارك الأحكام: ج4، ص273
3- المصدر السابق: ج3، ص233، هامش الفيروزآبادي.
4- كاشف الغطاء، جعفر بن خضر، كشف الغطاء: ج1، ص64.

والوسوسة من الحالات النفسانيّة ذات المراتب المختلفة، أُولى مراتبها منع النفس من الإذعان بالمعلومات، مع حصول العلم من أسبابه الحاصل له في المتعارف، وأعلى مراتبها هي التي توجب حصول العلم بالخلاف من أسباب خيالية غير حاصلة في الخارج(1)، فالوسواسي أسوء حالاً من كثير الشكّ؛ لأنّ تصرفاته قد تكون غير عقلائية، بل قد صرَّح بعض الفقهاء أنّ حالة الوسواسي أشدّ شكّاً من حالة كثير الشكّ، وأنّ كثير الشك لو زاد شكّه وبالغ فيه أصبح عند الفقهاء وسواسياً(2).

حكم الوسوسة وكثرة الشك:

حكم مشهور الفقهاء بأن كثرة الشك والوسوسة في العبادة أمر لا يُعتنى به، وقد تطابقت كلماتهم في حكم كثير الشك - الوارد في باب الصلاة مثلاً - على أنّه لا حكم له ولا يعتنى به، وصرّحوا بالقاعدة المعروفة: «لا شك لكثير الشك»(3).

والشك له عدة صور وحالات تبعاً للمورد المشكوك فيه، فمثلاً في باب الصلاة، تارة يكون الشك في عدد الركعات، وأُخرى في الأفعال، وثالثة في الشرائط، وفي كل هذه الموارد يبني على وقوع المشكوك ويمض-ي في صلاته، إلاّ إذا كان وجود المشكوك مفسداً فيبني على عدمه، كما لو شك بين الأربع والخمس، فالبناء على وقوع الركعة الخامسة مبطل للصلاة فيبنى على الأربع، أو شك في أنه أتى بركوع أو ركوعين مثلاً، فإن البناء على وجود الركوع الزائد يجعل الصلاة باطلة أيضاً؛ فيبني على عدمه(4).

ص: 301


1- اُنظر: الحكيم، محسن، مستمسك العروة الوثقى: ج1، ص449.
2- الخوئي، أبو القاسم، المستند في شرح العروة الوثقى: ج18، ص625، وج18، ص125
3- هذه قاعدة فقهية معروفة، قد ذُكرت في أغلب بحوث القواعد الفقهية، وكذلك وردت كثيراً على لسان الفقهاء، ولم يخدش فيها أحد منهم؛ مما يدل على قبولها. اُنظر: البجنوردي، محمد حسن، القواعد الفقهية: ج2، ص345
4- اُنظر: الحكيم، محسن، منهاج الصالحين: ج1، ص320. الخوئي، منهاج الصالحين: ج1، ص229

إذن؛ فأصل الحكم مما لا خلاف فيه، بل ادّعى بعضهم الإجماع على ذلك(1)، وقد عدَّى آخرون الحكم من أبواب الصلاة إلى سائر أبواب الفقه الأُخرى.

هذا، وسنركّز فيما يأتي من أبحاث على بيان أنواع وأعراض الوسوسة وكثرة الشك، وتحديد الأسباب المؤدية لحصول حالة مثل هذه، وما يمكن أن يقال في طرق وآليات علاجها.

أعراض وعلامات الوسوسة وكثرة الشك:

تتجلّى الوسوسة وكثرة الشك عند الإنسان المصاب بحالات وأعراض مختلفة، منها ما تجعله كثير الاجتناب لبعض الأشياء والتحسس منها بشكل لافت، كتخيله النجاسات والأوساخ والجراثيم في كل مكان ومحاولته تجنُّب ذلك، ويصاحبه حالة من التردد في اتخاذ القرار، أو الوصول إلى نتيجة تذكر عند الإقدام على اتخاذ القرار، كما ينتابه شعور بالخوف الكاذب الذي لا أساس له في الواقع الخارجي؛ وينشأ ذلك من الوسوسة النفسيّة التي تثير مخاوفه من حصول هذا الحدث أو ذاك، وأغلب المخاوف تأتي على نحو المحاذرة من النجاسات، أو الحرص على النظافة؛ فيصاب بحالة من تكرار العمل والمداومة عليه بشكل عبثي وغير مثمر، ويشعر كأنَّ هناك قوة داخلية تجبره على تكرار ذلك العمل، كتكرار أعمال الغسل غير المجدية.

ومن أهم المظاهر في هذا المجال، هي الوسوسة وكثرة الشكّ الحاصلة في العبادات، وهي من الصور الأكثر شيوعاً عند بعض المتديّنين؛ لما في ذلك من توهم القداسة والتكامل الديني ظاهراً، وأمثلته كثيرة كما في النية، أو الوضوء، أو الصلاة، أو الغُسل، وغيرها.

ص: 302


1- نقل صاحب مفتاح الكرامة عن الغنية القول بالإجماع، وعن مصابيح الظلام دعوى الإجماع، بل إنّ الحكم ضروري. اُنظر: العاملي، محمد جواد، مفتاح الكرامة: ج9، ص428

وكذلك من العلامات التي تُلحظ في تصرفات الوسواسي هي الدقة المفرطة في ممارسة الأفعال، مع حالة من الإلزام والإجبار تضطره إلى القيام بجميع أعماله وتكاليفه بشكل آلي ومتكرر، ويزداد لديه هذا الشعور إلى درجة يهيمن معها على جميع أعماله وتصرفاته؛ ويعرّض حياته الخاصة والاجتماعية إلى الخطر أو الهلاك.

ويكون في أغلب تعاملاته عنيداً متعنّتاً، مضطرب الفكر مشوّش البال لا يهدأ أبداً؛ وبالتالي يشعر أنه وصل إلى طريق مسدود في حل مشاكله، أو السيطرة عليها بأي حال من الأحوال؛ ولذا يشغل نفسه بأمرٍ ما، ويقوم بتكراره من أجل الخروج من هذا المأزق(1).

أنواع وأقسام الوسوسة وكثرة الشك:

اشارة

تنقسم الوسوسة وكثرة الشك - التي تشغل تفكير المصابين بها - عادةً إلى ما يلي:

أولاً: الشك والوسواس الفكري

ويتجلّى عادة في فكرة تستولي على ذهن المصاب، وتؤجِّج في داخله ناراً مضطرمة من الهواجس المقلقة والمؤدية إلى الاضطراب.

وقد تكون الأفكار في بعض الأحيان مخيفة ومرعبة، فتقلق المصاب بشدّة، وقد أطلق عليه بعض القدماء اسم (جنون الشكّ)؛ حيث تستولي على المصاب فكرة يمزجها شكّ كبير، ويشغل نفسه دائماً بفكرة خاصة، كأن يفكر بمسائل الحياة والموت، والخير والشر، والأخلاق والتقاليد، ويركن إلى بُعدها الخاوي والعبثي والمتكرر، وفي هذه الحالة يكون لتصورات المصاب - عادةً - بُعد استفهامي، وتلاحظ

ص: 303


1- راجع: القائمي، علي، الوسواس والهواجس النفسية: ص14. واُنظر: البهبهاني، محمود بن أحمد، شناخت ودرمان وسوسة ووسواس در إسلام: ص59

هذه الحالة عند مرضى الصرع أيضاً.

ثم إن الشك والوسواس الفكري على صور وأقسام مختلفة، منها:

1- التفكير بالبدن: حيث ينشغل فكر المريض بجسمه أو بعض أعضائه، فيراجع الطبيب باستمرار؛ من أجل الحصول على علاج جديد يضمن سلامته الجسدية.

2- التفكير بالسلوك السابق أو الحالي: حيث يفكر المريض كثيراً في السبب الذي دفعه في السابق إلى الإتيان بهذا العمل أو ذاك، وهل كان من حقه القيام بالعمل الكذائي أم لا؟ أو هل أنَّه يفكر بشكل صحيح عندما يؤدي عملاً ما هذا اليوم أم لا؟ وهل قراراته سديدة أم لا؟

3- التفكير في ما يتعلق بالمعتقدات: تهيئ الوسوسة في بعض الموارد أرضية التضاد والتغيّر العقائدي لدى المصاب، فتشغل ذهنه مسائل الحياة والموت، والخير والش-ر، ووجود الله أو عدمه، والإيمان بالدين أو رفضه.

4- التطرّف الفكري: يتركّز الوسواس - أحياناً - بشكل متطرف حول قبول أو رفض أمرٍ ما، على الرغم من أن وجهة نظر المصاب تخالف ذلك تماماً، لكنه يشعر وكأن فكرة مزعجة تتحكم به وتحثّه على الدفاع عن فكرة خاطئة، فهو يدافع عنها أو يرفضها دون أن يكون لتلك المسألة أدنى علاقة بحياته.

ثانياً: الشك والوسواس العملي

قد يكون الوسواس في كثير من الأحيان عملياً، ويكون على شكل سلسلة من الأفعال والتص-رفات العابثة وغير المنطقية، فيضطر المصاب إلى القيام بعمل

ص: 304

يتعارض مع رغبته الحقيقية، بل يتنافى حتى مع طريقة حياته العاديّة، فهو يرى نفسه مضطراً إلى القيام به وإن لم يكن مبرراً، وفي هذا النمط من الوسواس يكون الدور الأساس للأعمال وليس للأفكار.

ثالثاً: وسواس الخوف

ويسمى بوسواس الإحجام أيضاً، ويبدو فيه المصاب وكأنَّه خائف من القيام بأمرٍ ما، أو الإقدام على عمل معين، وكأنَّ قوة معينة تمنعه من القيام به وإن كان ضرورياً، وهذا التصرف يعتبر في الواقع مانعاً يحول دون أدائه لواجباته وأعماله.

رابعاً: وسواس الإلزام

ذكر بعض الباحثين أن الشعور بالإلزام والإجبار يعدّ من إفرازات الوسواس ونتائجه وليس نوعاً منه، إلا أنّ هذه النظرية ليست موضع اتّفاق جميع علماء النفس.

وأساس المسألة في هذا الشعور هو أن المصاب لا يستطيع أن يحرر نفسه من القيام بعمل ما، أو تنفيذ فكرة معينة، وإن استطاع التخلص من تلك الأفكار والامتناع عن ذلك العمل، فالمصاب يعيش حالة معيّنة، وكأنَّ في داخله قوة تجبره على التفكير أو العمل بطريقة معينة(1).

أسباب الوسوسة وكثرة الشك:

اشارة

لقد ذكر علماء الطب النفسيّ أنَّ الجذور الأساسية للوسوسة وكثرة الشك قد تحصل من الوراثة، أو التربية الفاسدة، أو لبعض الظروف البيئية، أو النفسية

ص: 305


1- راجع: القائمي، الوسواس والهواجس النفسية: ص23. واُنظر: البهبهاني، محمود بن أحمد، شناخت ودرمان وسوسة ووسواس در إسلام: ص61

والفكرية، ككبر السِّن أو ضعف العقل(1).

ولكن من الأسباب الأساسية لكثرة الشكّ والوسوسة - والتي صرّح بها كتاب الله العزيز، والأحاديث الش-ريفة، وعلماء الأخلاق والفقهاء والمفس-رون - هو الشيطان اللعين؛ فإنَّ له ولإيحاءاته ووسوسته مدخليّة أساسيّة في وجود هذا المرض النفسي، أو اشتداده عند الإنسان المصاب؛ ولذا يُعدُّ هذا المرض أحد مظاهر اتّباع الشيطان وطاعته المحرمة أو المكروهة في ديننا الإسلامي الحنيف. فالشيطان هو المسبب الأساس لحصول حالة الوسوسة عند بعض المؤمنين، والأدلة على إثبات مدخليّة الشيطان في هذه الحالة كثيرة جداً منها:

أولاً: القرآن الحكيم

هناك آيات كثيرة ظاهرة في إثبات أنّ الشيطان الرجيم يعمل على إيجاد حالة من عدم الاستقرار والوسوسة في تصرفات ومواقف المؤمنين، منها:

1- قوله تعالى: ﴿فوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا من سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا من الْخَالِدِينَ﴾(2).

2- قوله سبحانه: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ من بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾(3).

3- قوله عزّ وجلّ: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ من سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا

ص: 306


1- اُنظر: البهبهاني، محمود بن أحمد، شناخت ودرمان وسوسه و وسواس در إسلام: ص117. وكذلك القائمي، علي، الوسواس والهواجس النفسية: ص81
2- الأعراف: آية 20.
3- الأعراف: آية 16 و17.

أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ من قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(1). إلى غير ذلك من الآيات(2).

ثانياً: الروايات الشريفة

توجد روايات صريحة تثبت أنّ الشيطان يحاول أن يشوّش على طاعات المؤمنين وعباداتهم، وتحذّر المؤمنين من الوقوع في حبائله:

منها: ما رواه الكليني بسنده عن زرارة وأبي بصير قالا: «قلنا له: الرّجل يشكّ كثيراً في صلاته حتى لا يدري كم صلّى، ولا ما بقي عليه؟ قال: يعيد. قلنا له: فإنّه يكثر عليه ذلك، كلّما عاد شكّ؟ قال: يمضي في شكه. ثم قال: لا تُعوِّدوا الخبيث من أنفسكم بنقض الصلاة فتُطمعوه؛ فإنَّ الشيطان خبيث يعتاد لما عُوِّد، فليمضِ أحدكم في الوهم، ولا يكثرنَّ نقض الصّلاة؛ فإنّه إذا فعل ذلك مرّات لم يَعُد إليه الشكّ. قال زرارة: ثم قال علیه السلام : إنَّما يريد الخبيث أن يُطاع، فإذا عُصي لم يَعُد إلى أحدكم»(3).

ومنها: ما رواه الكليني أيضاً عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر علیه السلام ، قال: «إذا كَثُر عليك السهو، فامضِ في صلاتك؛ فإنّه يوشك أن يَدعَكَ، إنّما هو من الشيطان»(4).

ومنها: ما عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله علیه السلام أنه قال: «إن الشيطان ينفخ في

ص: 307


1- إبراهيم: آية 22.
2- البقرة: آية 268. النساء: آية 119. الأنفال: آية 48. الإسراء: آية 64. النور: آية 21. المجادلة: آية 19. الناس: آية 4 و5
3- الكليني، محمد بن يعقوب، فروع الكافي: ج1، باب209 مَن شك في صلاته، ص347، ح2. وكذا الطوسي، محمد بن الحسن، التهذيب: ج2، باب 10 أحكام السهو، ص167، ح48. والحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج8، باب 16من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ص228، ح2
4- الكليني، محمد بن يعقوب، فروع الكافي: ج1، باب 209 مَن شك في صلاته، ص349، ح8. والحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج8 ، باب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ص228، ح1.

دبر الإنسان حتى يُخيّل إليه أنَّه قد خرج منه ريح، ولا ينقض الوضوء إلا ريح تسمعها، أو تجد ريحها»(1).

ومنها: ما عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، أنَّه قال للصادق علیه السلام : «أجد الريح في بطني حتى أظن أنَّها قد خرجت؟ فقال: ليس عليك وضوء حتى تسمع الصوت، أو تجد الريح. ثم قال: إنَّ إبليس يجلس بين إليتي الرجل، فيُحدِث ليشككه»(2).

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المقام(3).

ثالثاً: أقوال العلماء

ذهب علماؤنا أيضاً من فقهاء، ومفس-رين، وعلماء أخلاق، إلى أنَّ السبب الرئيس لحصول أو استفحال مرض كثرة الشك والوسواس عند الإنسان هو الشيطان اللعين.

يقول الطباطبائي حول الأفكار والوساوس التي تراود الإنسان: «إنَّ الشيطان هو الذي يلقيها إليه ويخطرها بباله من غير تزاحم، ولو كان تسببه فيها، نظير التسببات الدائرة فيما بيننا لمَن ألقى إلينا خبراً أو حكماً أو ما يشبه ذلك؛ لكان إلقاؤه إلينا لا يجامع استقلالنا في التفكير»(4).

ويقول الفيض الكاشاني في المحّجة- عن الخواطر التي تعرض على الإنسان، وعن الفرق بين الإلهام والوسوسة- : «والخواطر المحرّكة للرغبة تنقسم: إلى ما يدعو إلى الشرّ،

ص: 308


1- الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج1، ص246، ب1، ح3
2- المصدر السابق: ح5
3- اُنظر: الكليني، محمد بن يعقوب، أصول الكافي: ج2، ص317، باب القسوة، ح3. وص402، باب الوسوسة وحديث النفس، ح4. وأيضاً: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج2، ص135، ب17، ح32. وكذا: النوري، حسين بن محمد تقي، مستدرك الوسائل: ج1، ص323، ب24، ح11. وج9، ص74، ب117، ح5
4- الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج8، ص40.

أعني ما يضرّ في العاقبة، وإلى ما يدعو إلى الخير، أعني ما ينفع في الآخرة، فهما خاطران مختلفان؛ فافتقرا إلى اسمين مختلفين، فالخاطر المحمود يسّمى إلهاماً، والخاطر المذموم - أعني الداعي إلى الشرّ - يسّمى وسواساً، فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسّمى مَلكاً، وسبب الخاطر الداعي إلى الشرّ يسّمى شيطاناً»(1).

علاج الوسوسة وكثرة الشك:

اشارة

بعد أن تعيّن السبب وعرفنا مَن هو المسبب الرئيس لهذا المرض البالغ الخطورة، لا بد من المبادرة لمعالجته، وهناك قواعد عامة وأصول ثابتة ذُكرت في هذا المجال، أهمها مخالفة الشيطان ومعاندته وعدم طاعته واتباعه، كما تقدم في الروايات. ومخالفته ليست من الأُمور الصعبة والمستصعبة وغير المقدورة، كما قد يصور ذلك الشيطان للمصاب بالمرض؛ لأن المخالفة من التكاليف الش-رعية، ومن الواضح أنَّ الشارع لا يُكلّف بالمحال وبغير المقدور؛ مما يدلّل على إمكان معاندته ومخالفته، كما أنَّ الشيطان بنص القرآن الكريم ليس له سلطان على أحد من المؤمنين، إلا أنَّه يدعو ويوسوس إلى الضلال والانشغال بما لا يريده الشارع، فإن أجبناه إلى ما يدعونا إليه أوردَنا في المحرمات ومخالفة الشرع والعقل، وفي ذلك خسران الدنيا والآخرة، وإن خالفناه وأطعنا الله تعالى في معاندة الشيطان وعدم اتباعه؛ فسوف نحفظ أنفسنا من الهلكة والضلال.

وقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: «فأما إبليس، فعبدٌ خلقه ليعبده ويوحِّده، وقد علم حين خلقه ما هو وإلى ما يصير إليه، فلم يزل يعبده مع ملائكته حتى امتحنه بسجود آدم، فامتنع من ذلك؛ حسداً وشقاوةً غلبت عليه، فلعنه عند ذلك، وأخرجه عن صفوف الملائكة، وأنزله إلى الأرض ملعوناً مدحوراً؛ فصار عدُوَّ آدم وولده بذلك السَّبب، وماله من

ص: 309


1- الكاشاني، محمد محسن بن المرتضى، المحجة البيضاء: ج5، ص53.

السَّلطنة على ولده إلاّ الوسوسة والدُّعاء إلى غير السَّبيل، وقد أقرَّ مع معصيته لربِّه بربُوبيتَّه»(1).

وليس العلاج مجرد خطوة أو قرار يتّخذه المصاب وسرعان ما يُشفى، بل لا بد من خطوات وأساليب يتبعها، وباتباع الطرق - التي سنذكرها- وبجدية وعزم قوي، سيضمحل المرض بعد مدة من الزمن، ثم ينعدم بالكامل.

وسيكون البحث العلاجي في جهتين:

نظري: وهو بمنزلة المقدمة للعلاج.

وعملي: وهو العلاج الفعلي للمرض.

الجهة الأُولى: العلاج النظري
اشارة

تتضمن هذه المرحلة من العلاج عدة خطوات نظرية، على الوسواسي وكثير الشك ملاحظتها والتأمل فيها:

الخطوة الأُولى: اعتراف الوسواسي وكثير الشك بالإصابة بالمرض

وهي من أهم الخطوات الأساسية والمطلوبة في العلاج، وعلى الإنسان ألاّ يخجل من الإصابة بالمرض ولا يداري في ذلك، فإنّ النفس - كالبدن - قد تصاب بأمراض متعددة وخطيرة.

ومرض الوسوسة وكثرة الشك، مرض نفس-ي كمرض الحسد والحقد وسوء الظن، كما أنَّ خطورته عظيمة وجسيمة، فلا يصح التهاون والتساهل في علاج هذا المرض المُهلك والمدمّر، فعلى المصاب ألاّ يبرر لنفسه ما يقوم به من أفعال، وألاّ يعتبر ذلك نوعاً من الاحتياط الديني أو الطبي، أو من القداسة والتكامل الروحي، فما هي إلاّ من أعراض ذلك المرض وتسويلات إبليس.

ص: 310


1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج60، ص235، ح75.

كما أنَّه لا بد من الاعتراف أيضاً بخطورة هذا المرض؛ كي لا تضعف همّة المريض، فيتهاون في العلاج.

الخطوة الثانية: التأمل في أضرار المرض
اشارة

إنَّ لمرض الوسوسة وكثرة الشك أضراراً كثيرة ومؤثرة، وقد لا يلتفت المصاب لوضعه أو ما ستؤول إليه حالته فيما بعد، فمن الخطوات الأساسية لطلب العلاج وتحصيله هو التأمل في تلك الأضرار، وهي:

أولاً: الأضرار الجسميّة

تؤدي الوسوسة إلى نشوء وتفاقم الكثير من الاختلالات والأمراض في بدن الإنسان، منها: انعدام الشهيّة وضعف البدن، وأمراض القلب، وبعض أمراض العظام والمفاصل؛ كل ذلك نتيجة الغسل المتكرر، أو احتباس البول والغائط، أو إعادة الصلاة وأمثالها، فإنَّ أمثال هؤلاء لا ينعمون عادةً بالراحة البدنيّة الكافية، وإنَّ الرغبة العميقة في تكرار العمل - حتى مع عدم وجود الوقت الكافي - يبعث على القلق؛ وهذا ما يساهم بدوره في ازدياد الوسوسة واتساع نطاقها.

ثانياً: الأضرار النفسيّة

يعاني الوسواسي دائماً من الآلام والمتاعب النفسيّة العميقة، فميوله ورغباته المؤذية تدفعه إلى معاقبة نفسه وتأنيبها؛ فتنتابه نتيجةً لذلك توتّرات عصبيّة ونفسيّة مختلفة، ويعيش المصاب في عالم محدود، وينهمك فكره دوماً بآداب وممارسات قسريّة؛ تجعله عاجزاً عن إقامة علاقات وأعمال مع الناس المحيطين به، وكثيراً ما يحدس في نفسه

ص: 311

الخشية من إلحاق الأذى بالآخرين؛ فيلجأ بغية التخلص من ذلك إلى إيذاء نفسه.

ثالثاً: الأضرار الاجتماعية

يسبب انشغال المصاب بوساوسه الكثيرة إلى العيش منزوياً عن الآخرين، والابتعاد عن مخالطة المجتمع، بل قد يزداد ذلك وينعزل حتى عن أهله وزوجته وأطفاله، فيكون بالضد من العلاقات الاجتماعية، وقد يحاربها لتوقُّعه أنها تفسد عليه أعماله وما يعتقده من أفكار وتخيّلات باطلة، وقد تزداد وساوسه وتخيّلاته؛ مما تستدعي التفكير بأعمال وتص-رفات مشينة يرفضها العرف والأخلاق، كفكرة السرقة أو القتل وما شابهه؛ وذلك لأنَّ مرض الوسواسي يخلق عند المصاب ميولاً عدوانية، ويوجد كثيراً من الأشخاص الذين يكونون عرضةً للاستهانة والاستهزاء والعزلة من قبل المحيطين به، بسبب أعماله وأفعاله العجيبة والمضحكة؛ فلذلك قد يفكر بإلحاق الأذى بالآخرين، بدعوى أخذ حقه منهم.

رابعاً: الأضرار الاقتصادية

من المسائل المهمة في هذا المجال إضاعة الوقت، وهدر الأوقات الثمينة من العمر، بل وإضاعة المال؛ فإنّ الوسواسي قد يبذل أعز ما يملك، أو يترك أعمالاً تدرّ عليه أرباحاً جيّدة، إرضاءً واستجابة لشكه ووسواسه؛ فيكون مقيداً ببعض الأفكار الباطلة، وإن استلزمت إضاعة درسه أو عبادته أو أعماله التي يعتاش بها، بل ومستقبله كله، معتبراً أنّ نُسكه وأعماله أوجب الواجبات، وتستحق بذل الغالي والنفيس من أجلها.

خامساً: الأضرار الأُخروية

إنَّ أكثر الدوافع لتنشيط الوسوسة وتفاعلها في نفس المصاب هو رغبته في

ص: 312

الآخرة، وبسبب تسويلات الشيطان اللعين ووساوسه يتوهم الوسواسي أنَّه يحسن صُنعاً، وأنَّه بهذه الأعمال والاحتياطات سوف يدخل الجنان وينال رضا الرحمن.

لكن هذا عين الخطأ والاشتباه؛ لما تقدم من نهي الشارع، وأنَّ هذا المرض قد يوقع المصاب بالمحرمات المتعددة، كطاعة الشيطان وعصيان الرحمن، والإسراف وسوء الظن، والتعدي على الآخرين، مضافاً إلى حرمانه من أداء كثير من المستحبات، كأداء الصلاة في وقتها، وأداء الحج المستحب، وزيارة المعصومين علیهم السلام ، وحضور مجالس التعزية، وخدمة الإخوان ومواساتهم وقضاء حوائجهم وغيرها؛ فإنَّ شكوكه ووساوسه مانعةٌ من ذلك كله(1).

الخطوة الثالثة: الاعتماد على الأصول والقواعد الفقهية
اشارة

هناك مرتكزات وقواعد أساسية مستفادة من فقهنا الشريف - لم يخالف فيها أحد من الفقهاء - تُعين الوسواسي على التخلّص من مرضه، منها:

أولاً: الاكتفاء بالحكم الظاهري

على الوسواسي أن يعلم أنّه غير ملزم بتحصيل الحكم الواقعي، وعليه ألاّ يتجاوز الحد في بذل الجهد لمعرفته، بل إنَّه معذور لو جاء بالحكم الظاهري فحسب؛ لتحديد موقفه العملي، فلا يتعب نفسه في معرفة صحة العمل، أو طهارة الشيء، أو حلّية الأكل واقعاً، ما دام الشارع طلب منه الصحة والطهارة والحلّية الظاهرية فحسب.

ولا بد له من إقناع نفسه بأنَّ الواجب عليه هو العمل على مقتض-ى الحكم الظاهري فقط، فلا يعمل بالاحتمال بتوهّم أنَّه محتاط خوفاً من الوقوع بما يخالف

ص: 313


1- اُنظر: البهبهاني، محمود بن أحمد، شناخت ودرمان وسواس ووسوسه در إسلام: ص112. واُنظر: القائمي، علي، الوسواس والهواجس النفسية: ص98

الشريعة، فما دام المؤمن يعرف أنَّ تكليفه هذا ظاهراً فهو حسبه، فلا يسعى وراء ما يراوده من احتياطات زائدة، ووساوس وأوهام باطلة(1).

ثانياً: العمل بالقواعد الفقهية المرخصة

من الطرق التي تساعد الوسواسي في حل أزماته هي القواعد الفقهية المرخصة، التي يُعتمد عليها في العمل العبادي وغيره من التكاليف، فهي تساعد الوسواسي في علاج وساوسه وحل أزماته النفسية والروحية المتولدة من وسواس الشيطان، من قبيل قاعدة الطهارة التي مفادها: «كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنَّه نجس»؛ فإنها تساعد في رفع الشك والوسواس المتكرر في باب الطهارات والنجاسات؛ فعليه أن يجعل هذه القاعدة سلاحه في مواجهة كل وسوسة، وأن لا يحتاط في الطهارة، ولا يظنّ ظنّ السوء بإخوانه المؤمنين؛ فإنَّ إحدى المطهرات المذكورة في الفقه (غياب أخيك المسلم).

كما أنَّ هناك قواعد فقهية أُخرى تساعد الوسواسي في غير مجال الطهارة، منها قاعدة الاستصحاب، وهي أن يبني على حالته السابقة، التي كان متيقناً منها قبل حصول الشك عنده، وقاعدة الفراغ والتجاوز، ومفادهما أنّ كل عمل قد فرغ منه ثم شك فيه فلا يعتنى بشكه، وغير ذلك من القواعد.

ثالثاً: الاعتماد على النظرة العرفية لا الدقة العقلية

من الأصول التي ينبغي أن يعتمد عليها الوسواسي في علاجه، هو اعتماده على النظرة التي يسير العرف على وفقها في تص-رفاتهم، فيحاول أن لا يدقق في الأُمور

ص: 314


1- اُنظر: البهائي، حسين بن عبد الصمد، العقد الحسيني: ص16. وراجع: الخميني، روح الله، الأربعون حديثاً: ص430

التي يشك بها بالنظرة العقلية الدقيقة؛ لأن الشريعة جاءت بلسان العرف والمعاملة العرفية بين الناس، فلا يدقق كثيراً في وضوئه، أو صلاته، أو غُسله؛ لأنَّ هذه الأحكام والموضوعات أُخذ في تحديدها الجانب العرفي، بل إنَّ كثيراً من الأحكام أُنيطت موضوعاتها بالتحديد العرفي وحسب؛ فعليه أن يعلم أنَّ كثيراً من الأُمور التي يشك فيها اعتماداً على نظرته العقلية الدقيقة غير مطلوبة منه شرعاً.

الخطوة الرابعة: التأسي بحياة وتعاليم المعصومين علیهم السلام والعلماء والصالحين

من المقدمات المهمة نظرياً هو التأمل والتفكر كثيراً في تصرفات وحياة النبي صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومين علیهم السلام ، والأخذ بأقوالهم، وكذلك العلماء والصالحين، فيرى أنهم كانوا يعملون بكل بساطة، مطبِّقين عملياً سهولة الش-ريعة وتسامحها واتباعها للمتعارف بين الناس، عاملين بالقواعد الفقهية الظاهرية، والتأسي بذلك كله، ومن النماذج على ذلك:

أولاً: ما روي عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنَّه قال: «الوضوء مُدّ والغسل صاعٌ، وسيأتي أقوام بعدي يستقلّون ذلك، فأولئك على خلاف سنّتي، والثابت على سنّتي معي في حظيرة القدس»(1).

ثانياً: ما روي عنه صلی الله علیه و آله أيضاً أنَّه قال: «يا عثمان، لم يرسلني الله بالرهبانية؛ ولكن بعثني بالحنفيّة السهلة السمحة، أصوم وأُصلي وألمس أهلي، فمَن أحب فطرتي فليستنّ بسنّتي، ومن سنّتي النكاح»(2).

ثالثاً: ما روي عن مولانا أمير المؤمنين علیه السلام أنَّه قال: «ما أبالي أبولٌ أصابني أم ماء إذا لم أعلم»(3).

ص: 315


1- الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج1، ص 482.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج22، ص264، ح3.
3- الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج3، ص 467.

رابعاً: ما روي عن زرارة أنَّه قال: «رأيت الباقر علیه السلام يخرج من الحمام، فيمضي كما هو، لا يغسل رجله حتى يصلي»(1).

خامساً: ما روي عن إمامنا جعفر الصادق علیه السلام أنه قال: «والله، ما كان وضوء رسول الله صلی الله علیه و آله إلا مرّةً مرّة، وتوضأ النبي صلی الله علیه و آله مرّةً مرّة، فقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصّلاة إلا به»(2).

فهذه هي أفعال وأقوال خير الخلق على الإطلاق، فهم يتص-رفون بكل سهولة وبساطة، متبعين الشارع المقدس في تحكيم الظواهر والعرف، ولا يكلفون أنفسهم بما لا يريده الله(عزَّ وجلَّ) منهم، وبما لا يطيقون.

وكذا علماؤنا الأعلام وبقية عباد الله الصالحين؛ فإنهم سائرون على خُطى ونهج النبي صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومين علیهم السلام ؛ فإنّ أقوالهم - فقهاً وتفسيراً وأخلاقاً - خير دليل على مقتهم لهذا المرض الخطير والبلاء الكبير، كما أنَّه يمكن قراءة حياة الماضين منهم، والتعرف على سهولة تعاملهم وتطبيقهم للشريعة السمحة.

الجهة الثانية: العلاج العملي
اشارة

بعد إكمال الحديث عن العلاج النظري، يأتي دور العلاج العملي، وهو اتباع بعض الخطوات العملية التي من شأنها التخلص من مرض الوسواس، فعلى المصاب أن يدرّب نفسه على ممارستها والمداومة عليها، وهي:

أولاً: الإكثار من ذكر الله تعالى

وهو أمر ثابت رجحانه في كل حال، بل وله آثار ونتائج مفيدة، أهمها تقييد الشيطان

ص: 316


1- الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج1، ص 211، ب9، ح2
2- المصدر السابق: ص437، ب31، ح10-11.

وتبكيته، وهو ما يبتغيه المصاب بالوسواس لتحصيل شفائه وراحته وخلاصه.

قال أمير المؤمنين علیه السلام : «ذكر الله مطردة الشيطان»(1)، وورد عنه أيضاً: «ذكر الله دعامة الإيمان، وعصمة من الشيطان»(2).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : «لا يتمكّن الشيطان بالوسوسة من العبد إلا وقد أعرض عن ذكر الله تعالى واستهان، وسكن إلى نهيه، ونسي اطلاعه على سره»(3).

وقد نقل البهائي ما أكده العلماء من أهمية الذكر مطلقاً، وبالخصوص الإكثار من ذكر كلمة التوحيد لتحصيل الشفاء، فقال: «وقال العلماء: أنفع علاج في دفع الوسوسة ذكر الله والإكثار منه؛ لأنَّ الشيطان إذا سمع ذكر الله خنس، أي: بَعُد وتأخَّر، فينبغي الإكثار من قول: لا إله إلا الله؛ لأنَّها رأس الذكر، وقد ورد في فضلها وشرافتها وأسرارها من طريق الخاصة والعامة ما لا يكاد يحصر؛ ولهذا اختارها أهل السلوك لتربية السالكين وتهذيب المريدين»(4).

كما أنَّ للذكر أنواعاً وحالات، أهمها الذكر القلبي، وهو الذكر المؤثر حقيقةً، وقد تجد أغلب الوسواسيين ذاكرين مسبحين مستغفرين، لكن باللسان فقط، فلا يحصلون على النتيجة المرجوة من الشفاء، وكبح الشيطان ودحره.

ثانياً: ذكر النبي وآله والتوسل بهم علیهم السلام

وهو من الأُمور المهمة والأساسية في شفاء المصاب؛ لأنَّهم علیهم السلام الوسيلة العظمى

ص: 317


1- الواسطي، علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ: ص255.
2- المصدر السابق: ص256.
3- مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة المنسوب للإمام الصادق علیه السلام : ص79
4- البهائي، حسين بن عبد الصمد، العقد الحسيني: ص4.

وسُبل النجاة من كل بلاء وشرّ، كما ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله : «ألا فاذكروا - يا أمَّة محمدٍ - محمداً وآله عند نوائبكم وشدائدكم؛ لينصر الله بهم ملائكتكم على الشياطين الذين يقصدونكم؛ فإنَّ كل واحد منكم معه مَلك عن يمينه يكتب حسناته، وملك عن يساره يكتب سيئاته، ومعه شيطانان من عند إبليس يغويانه، فإذا وسوسا في قلبه، ذكر الله، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله. حُبس [خنس] الشيطانان»(1).

وعن أمير المؤمنين علیه السلام : «ذكرُنا أهل البيت شفاء من الوعك والأسقام ووسواس الريب، وحبنا رضا الرب تبارك وتعالى»(2).

وعن أبي عبيدة الحَذّاء، قال: «دخلت على أبي جعفر علیه السلام ، فقلت: بأبي أنت وأمي، ربما خلا بي الشيطان؛ فخبثتْ نفسي، ثم ذكرت حبي إياكم وانقطاعي إليكم؛ فطابت نفسي؟ فقال: يا زياد، ويحك! وما الدين إلا الحبُّ، ألا ترى إلى قول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾؟!»(3).

ثالثاً: أداء الواجبات وترك المحرمات

إن أداء الواجبات وترك المحرمات من الأُمور التي تُعين المرء في الوصول إلى غايات عظمى، ومن تلك الغايات تخلّص الوسواسي من الأزمة التي يمر بها، فإنَّه لو تمكن من أداء الواجبات المفروضة عليه، وترك المحرمات التي نُهي عنها - حسب قدرته وطاقته - لكان أقدر على كبت الشيطان والتغلب عليه؛ لأنَّ غاية الشيطان هو تضييع الفرائض والسنن، وإشغال الإنسان بالمحرمات والأباطيل والمساوئ، فلو عمل المصاب وبذل جهده في فعل الواجب وترك الحرام بما يستطيع، لنال الرضا

ص: 318


1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج60، ص271، ح158.
2- البرقي، أحمد بن محمد، المحاسن: ج1، ص62، ص107.
3- النوري، حسين بن محمد تقي، مستدرك الوسائل: ج12، ص219، ب14، ح7

والتوفيق الإلهي لا محالة.

فقد روي عن مولانا علي بن الحسين علیه السلام أنَّه قال: «مَن اجتنب ما حرَّم الله فهو من أعبد الناس»(1). وقال أيضاً: «مَن عمل بما افترض عليه الله فهو خير الناس»(2).

رابعاً: الدعاء والاستعاذة من الوسواس

إنَّ سلاح المؤمن الدعاء، فلا ييأس ولا يقنط، وعليه بذل الجهد في الدعاء وطلب الشفاء والإكثار من الاستعاذة بالله من إبليس اللعين، وليتوقع الإجابة قريباً، فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «أتى رجل إلى النبي صلی الله علیه و آله ، فقال: يا رسول الله، أشكو إليك ما ألقى من الوسوسة في صلاتي، حتّى لا أعقل ما صلّيت من زيادة أو نقصان. فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله : إذا دخلت في صلاتك فاطعن فخذك الأيسر بإصبعك اليمنى المسُبحِّة، ثم قل: بسم الله وبالله، توكَّلت على الله، أعوذ بالله السَّميع العليم من الشيطان الرَّجيم. فإنَّك تنحره وتطرُده عنك»(3). وروي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنَّه قال: «إذا وسوس الشيطان إلى أحدكم فليتعَّوذ بالله، وليقل: آمنت بالله مخلصاً له الدِّين»(4).

خامساً: معاندة الشيطان وعدم الاعتناء بوساوسه

وهذا أمر أساس، ولا يتم إلا بإرادة وعزم قويين، فعلى مَن أراد العلاج أن يعاند الشيطان ويدحره بقوة؛ لأنَّه إنْ لم يجد إجابة واتباعاً، ولّى وخنس، فالمطلوب هو السعي والمجاهدة، وعدم التهاون والاستجابة له، أو الانخداع بتزيينه وإغراءاته، والوقوع بما يوسوس به من أنّ هذا العمل هو احتياط أو استحباب، أو تحصيل

ص: 319


1- الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج15، ص259، ب23، ح2
2- المصدر السابق: ح7.
3- الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج1، ص286، ب49، ح1، رقم985
4- الصدوق، محمد بن علي، الخصال: ص624.

الواقع المحتمل، وغيرها من التسويلات.

سادساً: الإكثار من تلاوة القرآن العزيز

فالقرآن هو شفاء للصدور وعلاج للأرواح والنفوس، ولا بد أن تكون التلاوة بتمعّن ودراية، فلا يشتغل بشيء آخر عند القراءة.

فقد روي عن نبينا الأكرم صلی الله علیه و آله أنَّه قال: «ليس شيء أشدَّ على الشيطان من القراءة في المصحف نظراً، والمصحف في البيت يطرد الشيطان»(1).

وعنه صلی الله علیه و آله أيضاً، قال: «إن أردتم عيش السُّعداء، وموت الشُّهداء، والنَّجاة يوم الحسرة، والظِّلّ يوم الحرَورَ، والهدى يوم الضَّلالة، فادرسوا القرآن؛ فإنَّه كلام الرَّحمن، وحرزٌ من الشيطان، ورجحان في الميزان»(2).

سابعاً: كثرة الصلاة والصيام

تقدم معنا أن من طرق العلاج هي أداء الواجبات، وهو شامل للصلاة والصيام، الواجب منهما والمستحب؛ إلا أن تخصيص هذا العنوان بعد دخوله في عموم ما تقدم، إنما جاء لأهمية هذين الأمرين؛ لأنَّ فيهما حجاباً وأماناً، وهما حصن من الشيطان ووسواسه، وإنّ العبد ليكون قريباً من ربه بالصلاة والصيام، لكن بصلاة ذات توجّه وخشوع، وبصيام للجوارح والورع عن الحرام، فقد ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله : «الصلاة تسوّد وجه الشيطان»(3).كما ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام : «الصلاة حصن الرحمن ومدحرة الشيطان»(4). وروي عن إمامنا الصادق علیه السلام أنه قال: «ملك الموت يدفع الشيطان عن

ص: 320


1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج89، ص196، ب22، ح4.
2- النوري، حسين بن محمد تقي، مستدرك الوسائل: ج4، ص232، ب1، ح4
3- الريشهري، محمد، الصلاة في الكتاب والسنة: ص145.
4- المصدر السابق.

المحافظ على الصلاة، ويلقنه شهادة أنَّ لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. في تلك الحالة العظيمة»(1). وروي عن النبي صلی الله علیه و آله في فضل الصيام، قال: «مَن سرَّه أن يذهب كثير من وحر صدره، فليصم شهر الصبر، وثلاثة أيّام من كل شهر»(2).

ثامناً: المحافظة على حالة السرور والفرح والابتعاد عن الغضب والحزن

من الأُمور المهمة التي تساعد المصاب على طرد الشيطان وقطع وسوسته، إظهار الفرح والسرور بنعمة الله، والسيطرة على الغضب، وطرد الحزن في غير سبيل الله، والروايات صريحة في أنَّ الغضب لغير الله مفتاح كل شر، وأنَّه رجز وجمرة من الشيطان الرجيم، كما قال مولانا أبو جعفر الباقر علیه السلام : «إنَّ هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، وإنَّ أحدكم إذا غضب؛ احمرّت عيناه، وانتفخت أوداجه، ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه، فليلزم الأرض؛ فإنَّ رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك»(3). وروي عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «الغضب مفتاح كل شر»(4).

وقد جاء في كتاب العقد الحسيني: «قال بعض العارفين: إذا أردت أنْ تقطع الوسواس فأيّ وقت أحسست به فافرح؛ فإنّك إذا فرحت به انقطع عنك؛ لأنَه ليس شيء أبغض إلى الشيطان من سرور المؤمن، وإن غممت به زادك»(5).

ويوجد في تراث أتباع أهل البيت علیهم السلام - المستمد من القرآن العزيز، وأحاديث

ص: 321


1- الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج1، ص153، ب23، ح28، رقم374
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج94، ص109، ب59، ح48. وقال في معنى (وحر صدره): «استعارة، والمراد غشّه ودغله وفساده ونفله، وذلك مأخوذ من اسم دويبة يُقال له: الوحر، وجمعها وحر، وهي شبيهة بالحرباء...». المصدر السابق
3- الكليني، محمد بن يعقوب، أصول الكافي: ج2، ص294، ب121، ح12.
4- المصدر السابق: ح3.
5- البهائي، حسين بن عبد الصمد، العقد الحسيني: ص5.

النبي صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومين علیهم السلام - أعمال أُخرى تساعد بشكل كبير على طرد الشيطان ودحره، ودفع وساوسه، نذكر بعضها على نحو الإيجاز(1):

* التوكل على الله والرضا برزقه.

* دوام الوضوء، وغسل اليدين والوجه عند الأكل وبعده.

* البسملة في أول كل عمل.

* الأذان في البيت.

* الأذان في أُذنَي الرضيع.

* الدوام على تسبيح فاطمة الزهراء علیها السلام ، والمعروف عندنا ب-(تسبيح الزهراء).

* الإكثار من الصدقة.

* ذكر الموت.

* الأكل قليلاً من تربة الإمام الحسين علیه السلام بقصد الشفاء.

* أكل الرمان على الريق صباح يوم الجمعة.

* أكل التفاح والتمر والخضروات.

* استعمال المسواك.

* استعمال البخور والحرمل.

* استعمال زيت الزيتون في الأكل ودهن البدن.

ص: 322


1- اُنظر: البهبهاني، محمود بن أحمد، شناخت ودرمان وسواس ووسوسه در إسلام: ص121؛ فإن فيه توضيحاً كافياً لهذا الموضوع، وتفصيلاً إلى حدٍ ما.

* التختم بخاتم من عقيق.

* غسل شعر الرأس بورق شجرة السدر.

* الخضاب بالحناء.

* كثرة تمشيط شعر الرأس واللحية.

* كثرة المضمضة والاستنشاق.

ص: 323

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.