المؤلف : ابن ميثم البحراني
المجموعة : من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
تحقيق : تحقيق : السيد أحمد الحسيني / بإهتمام : السيد محمود المرعشي
سنة الطبع : 1406
من مخطوطات
مكتبة آية الله المرعشي العامة
(3)
قواعد المرام
في علم الكلام
تصنيف
الفيلسوف الماهر كمال الدين
ميثم بن علي بن ميثم البحراني
636 - 699
تحقيق السيد أحمد الحسيني
باهتمام السيد محمود المرعشي
ص: 1
كتاب: قواعد المرام في علم الكلام
تأليف: ابن ميثم البحراني
نشر: مكتبة آية الله العظمي المرعشي النجفي
طبع: مطبعة الصدر
التاريخ: 1406 - الطبعة الثانية
العدد: 1500 نسخة
ص: 2
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
اتفق علماء الاسلام علي وجوب كسب المعارف الاعتقادية علي كل مسلم مكلف بالتكاليف الشرعية،و يحسب أن تكون العقائد مستدل عليها عن طريق العقل و الدراية لا عن طريق التقليد و اتباع الاباء و غيرهم،كل علي حسب ادراكاته العقلية و ثقافته و ما بامكانه أن يتوصل به الي معرفة الحق و الحقيقة و تثبيت اركان عقيدته الاسلامية.
و أساس عقيدة المسلم هو التوحيد و صفات اللّه تعالي و ما يتفرع عليها مما يتعلق باثبات الصانع،ثم يلي ذلك ما يتعلق بالنبوة و الامامة و المعاد و غيرها من المسائل الاعتقادية الاخري التي يعبر عنها ب(اصول الدين)أو(الاصول الاعتقادية).
و قد ألمعت آيات كثيرة و أحاديث جمة الي ما يمس بعقيدة المسلم و يرشده الي توجيه عقله و فكره الي التدبر في اللّه تعالي و آياته الدالة علي وجوده و قدرته
ص: 3
و علمه و...و توجيه العقل فيها الي هذه النقاط من أحسن الادلة علي ما ذهب إليه العلماء من وجوب الكسب لا التقليد-كما ذكرنا.
و قد عني جماعة من المحدثين بجمع الاحاديث الواردة في الاعتقادات في مؤلفات مفردة أو بضمن كتبهم الحديثية المفصلة،كما أن بعضهم جمع آيات العقائد مع شرح و تفسير لها في كتب خاصة.هذا بالإضافة الي ما ورد في التفاسير العامة من البحوث الهامة حول الموضوع ضمن تفسيرهم للآيات الكريمة التي فيها الماع الي ذلك.
و لكن توجهت العناية الاكثر الي البحث في أصول الدين من الجانب العقلي في كتب فلسفية و كلامية مطولة و مختصرة،و استوعبت هذه الكتب جانبا كبيرا من جهد مفكري المسلمين في مختلف العصور علي مختلف المستويات العلمية، و كونت جهودهم المتوالية مكتبة كبري لها ميزاتها و طوابعها الخاصة تخدم المدارس العقائدية التي اوجدها رجالات شتي المذاهب الاسلامية و نحلهم التي ظهرت بعد رحلة الرسول صلي اللّه عليه و آله و سلم.
و لا علام الشيعة الامامية في هذا المضمار خطوات موفقة انتجت كتبا مختصرة تشبه أن تكون كتب دراسية وضعت لتنشئة طلاب الكلام و الفلسفة في مدارسهم العلمية،و كتب مفصلة وضعت للمناقشات العلمية الدقيقة الموسعة في كل مسألة مسألة.
و قد اختلف منحاهم في استقاء ما يمكن أن ترتكز عليها بحوثهم العقائدية، فبعضهم اتجهت همته الي الحديث ليكون المصدر الاول لذلك كالشيخ الصدوق محمد بن علي ابن بابويه القمي،و بعضهم اهتم علي الاكثر بالفلسفة و الادلة العقلية البحتة كأستاذ البشر نصير الدين الطوسي،و بعضهم جمع بين المبادئ
ص: 4
الفلسفية و الكلامية و عرض المسائل علي اساسهما معا كالشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي و العلامة الحلي الحسن بن يوسف ابن المطهر و أضرابهما.
و من الكتب الكلامية المختصرة التي يليق الاهتمام بها و تداولها في الاوساط العلمية هذا الكتاب القيم النافع،ألا و هو كتاب«قواعد المرام في علم الكلام» للفيلسوف المتكلم كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني-قدس اللّه نفسه الزكية.
و هو مع اختصاره يمتاز بالشمول لكل مباحث أصول الدين و ما يلحق بها من المسائل الاعتقادية،بالإضافة الي وضوحه و قوة عباراته و اشراق أسلوبه و خلوه عن التعقيد الذي يري في كثير من الكتب المشابهة له.كتبه المؤلف باشارة عز الدنيا و الحق و الدين غياث الاسلام و المسلمين ابي المظفر عبد العزيز ابن جعفر،و هو الامير عز الدين عبد العزيز النيسابوري المتوفي ببغداد سنة 672، و يظهر أن العلائق كانت بينهما وثيقة حيث ألف المؤلف باسمه كتابا آخر أيضا هو «نجاة القيامة في أمر الامامة».
*** طبع هذا الكتاب علي نسخة ثمينة بمكتبة آية اللّه المرعشي العامة في مجموعة برقم(4)كتبها ابو الفتح احمد بن ابي عبد اللّه بلكو بن ابي طالب الآوي من تلامذة العلامة الحلي و ابنه فخر الدين،و أتم كتابتها ظهر يوم عشرين من شهر رجب سنة 717،و المجموعة تحتوي علي ثلاثة كتب هي:
1-قواعد المرام في علم الكلام،لابن ميثم.
2-مبادئ الوصول الي علم الاصول،للعلامة الحلي.
ص: 5
3-نهج المسترشدين في أصول الدين،للعلامة الحلي.
و قرأ الناسخ الكتابين الاخيرين علي العلامة و ابنه و اجازاه في النسخة،و لكن نسخة القواعد لا تخلو من أخطاء و تحريفات قومنا كثيرا منها و بقيت هنات أو كلت الي فهم القارئ الكريم.
*** و بعد،فاني أبارك ادارة مكتبة الامام المرعشي علي اهتمامها في احياء آثار أعلامنا المتقدمين،و اسأل اللّه تعالي أن يديم ظل سماحته المديد لرعاية هذه الحركة المباركة،و أطلب إليه جل و عز أن يزيد في توفيق ولده البار الاخ العلامة السيد محمود المرعشي..انه جل شأنه هو الموفق لما فيه رضاه.
قم 1 رجب 1397 ه السيد احمد الحسيني
ص: 6
البحراني في تراجم علماء البحرين.
كان علي جانب كبير من العلم و الدارية،مشبعا بفنون المعارف المتداولة في عصره،مبجلا عند أساطين العلم و المعرفة،ينقلون آراءه و أقواله مع اجلال و تعظيم،و ينظرون الي تحقيقاته الرشيقة باكبار و تكريم.
و قد نهل العلم من اساتذة افذاذ و شب في حوزاتهم الدراسية مكبا علي الطلب و التحصيل،و ذهب الي العراق سعيا وراء الثقافة،و كان من ابرز اساتذته المولي نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي و الشيخ جمال الدين علي بن سليمان البحراني،و ناهيك بهما اسطوانتين من اساطين ذلك العصر.
و اذا كان التلامذة مرآة لشخصية الاستاذ،فقد نري فيمن تتلمذ علي ابن ميثم أو روي عنه جماعة هم غرة جبين الدهر في الشهرة العلمية في الاوساط الشيعية آنذاك،و منهم:
الشيخ محمد بن جهم الاسدي الحلي.
المولي نصير الدين الطوسي،قرأ عليه في الفقه.
العلامة الحلي الحسن بن يوسف ابن المطهر.
السيد عبد الكريم بن احمد ابن طاوس الحلي.
الشيخ عبد اللّه بن صالح البحراني.
و قد رافقت ترجمته كلمات اطراء من قبل مترجميه تنم عن نظرتهم فيه و عظيم احترامهم له،و نحن اذ نذكر بعضها هنا نريد اعطاء صورة عن مكانته في نفوس اولئك العلماء:
ص: 8
فقد قال الشيخ سليمان البحراني في رسالته السلافة البهية:
«ضم الي الاحاطة بالعلوم الشرعية و احراز قصبات السبق في العلوم الحكمية و الفنون العقلية،ذوقا جيدا في العلوم الحقيقة و الاسرار العرفانية،كان ذا كرمات باهرة و مآثر زاهرة،و يكفيك دليلا علي جلالة شأنه و سطوع برهانه اتفاق كلمة ائمة الاعصار و اساطين الفضلاء في جميع الاعصار علي تسميته بالعالم الرباني، و شهادتهم له بأنه لم يوجد مثله في تحقيق الحقائق و تنقيح المباني».
و قال الشيخ علي بن الحسن البلادي البحراني في كتابه انوار البدرين:
«العالم الرباني و العارف الصمداني..و هو المشهور في لسان الاصحاب بالعالم الرباني و المشار إليه في تحقيق الحقائق و تشييد المباني..و كتبه مشبوعة بالتحقيق و التدقيق و حسن التحبير و التعبير».
و قال الحر العاملي في كتابه أمل الامل:
«الشيخ كمال الدين..كان من العلماء الفضلاء المحققين المدققين متكلما ماهرا،له كتب منها كتاب شرح نهج البلاغة كبير و متوسط و صغير...».
و نقل عنه أصحاب السير القصة الطريفة التالية في سبب عزلته عن الناس و انصرافه الي العلم مكتفيا بمصاحبة الكتاب و مجانبا مخالطة الاصحاب:
«انه عطر اللّه مرقده في اوائل الحال كان معتكفا في زاوية العزلة و الخمول، مشتغلا بتحقيق حقائق الفروع و الاصول،فكتب إليه فضلاء الحلة و العراق صحيفة تحتوي علي عذله و ملامته علي هذه الاخلاق،و قالوا العجب منك انك مع شدة مهارتك في جميع العلوم و المعارف و حذاقتك في تحقيق الحقائق و ابداع اللطائف،قاطن في ظلال الاعتزال و مخيم في زاوية الخمول الموجب لخمود
ص: 9
نار الكمال.فكتب في جوابهم هذه الابيات:
طلبت فنون العلم أبغي بها العلي فقصر بي عما سوت به القل
تبين لي أن المحاسن كلها فروع و أن المال فيها هو الاصل
فلما وصلت هذه الابيات إليهم كتبوا إليه:اخطأت في ذلك خطأ ظاهرا، و حكمك بأصالة المال عجيب،بل اقلب تصب.فكتب في جوابهم هذه الابيات و هي لبعض الشعراء المتقدمين:
قد قال قوم بغير علم ما المرء الا بأكبريه
فقلت قول امرئ حكيم ما المرء الا بدرهميه
من لم يكن درهم لديه لم تلتفت عرسه إليه
ثم انه-عطر اللّه مرقده-لما علم أن مجرد المراسلات و المكاتبات لا تنفع الغليل و لا تشفي العليل،توجه الي العراق لزيارة الائمة المعصومين عليهم السلام و إقامة الحجة علي الطاعنين.
ثم انه بعد الوصول الي تلك المشاهد العلية لبس ثيابا خشنة عتيقة،و تزيا بهيئة رئة بالاطراح و الاحتقار خليقة،و دخل بعض مدارس العراق المشحونة بالعلماء و الحذاق فسلم عليهم،فرد بعضهم عليه السلام بالاستثقال و الامتناع التام، فجلس في صف النعال و لم يلتفت إليه احد منهم و لم يقضوا واجب حقه.
و في اثناء المباحثة وقعت بينهم مسألة مشكلة دقيقة كلت فيها أفهامهم و زلت فيها اقدامهم،فأجاب بتسعة اجوبة في غاية الجودة و الدقة،فقال له بعضهم بطريق السخرية و التهكم:أخالك طالب علم.
ثم بعد ذلك حضر الطعام فلم يؤاكلوه بل أفردوه بشيء قليل علي حدة و اجتمعوا هم علي المائدة.فلما انقضي ذلك المجلس قام و عاد في اليوم الثاني
ص: 10
إليهم و قد لبس ملابس فاخرة بهيئة ذات اكمام واسعة و عمامة كبيرة و هيئة رائعة، فلما قرب و سلم عليهم قاموا تعظيما له و استقبلوه تكريما و بالغوا في ملاطفته و مطايبته و اجتهدوا في تكريمه و توقيره،و اجلسوه في صدر ذلك المجلس المشحون بالافاضل المحققين و الاكابر المدققين.
و لما شرعوا في المباحثة و المذاكرة تكلم معهم بكلمات عليلة لا وجه لها عقلا و لا شرعا،فقابلوا كلماته العليلة بالتحسين و التسليم و الاذعان علي وجه التعظيم، فلما حضرت مائدة الطعام بادروا معه بأنواع الادب،فألقي الشيخ كمه في ذلك الطعام مستعتبا علي اولئك الاعلام و قال«كلي يا كمي».فلما شاهدوا تلك الحال العجيبة اخذوا في التعجب و الاستغراب و استفسروه عن معني هذا الخطاب.
فأجاب عطر اللّه مرقده:انكم انما اتيتم بهذه الاطعمة النفيسة لاجل اكمامي الواسعة لا للنفس القدسية اللامعة،و الا فأنا صاحبكم بالامس و ما رأيت تكريما و لا تعظيما مع اني جئتكم بالامس بهيئة الفقراء و سجية العلماء،و اليوم جئتكم بلباس الجبارين و تكلمت بكلام الجاهلين،فقد رجحتم الجهالة علي العلم و الغني علي الفقر،و أنا صاحب الابيات التي هي في أصالة المال و فرعية صفة الكمال التي أرسلتها إليكم و عرضتها عليكم،و قابلتموها بالتخطئة و زعمتم انعكاس القضية.
فاعترف الجماعة بالخطإ في تخطئتهم و اعتذروا عما صدر منهم من التقصير في شأنه قدس سره.
*** و قد خلف كتبا جليلة مشحونة بالموضوعات العلمية الراقية و التحقيقات الدقيقة السامية،هي مثال رائع للجلد العلمي و الصبر علي البحث و التنقيب.
و أليك اسماء ما اطلعنا علي اسمه من مؤلفاته:
ص: 11
1-آداب البحث.
2-اختيار مصباح السالكين،و هو شرحه الثاني علي نهج البلاغة،تم الاختصار سنة 681.
3-استقصاء النظر في إمامة الائمة الاثني عشر.
4-البحر الخضم،في الالهيات.
5-تجريد البلاغة،في المعاني و البيان،و يسمي أيضا«اصول البلاغة».
6-شرح الاشارات،و الاصل للشيخ علي بن سليمان البحراني.
7-شرح حديث المنزلة.
8-شرح رسالة العلم،و الاصل للشيخ احمد بن سعادة البحراني.
9-شرح نهج البلاغة،و هو غير شرحيه مصباح السالكين و اختصاره، قيل هو شرح ثالث و لم يثبت ذلك.
10-غاية النظر،في علم الكلام.
11-قواعد المرام في علم الكلام،تم تأليفه سنة 676.
12-مصباح السالكين لنهج البلاغة من كلام امير المؤمنين،و هو شرحه الكبير،تم تأليفه سنة 677.
13-المعراج السماوي.
14-منهاج العارفين في شرح كلام امير المؤمنين،و هو شرح مائة كلمة من كلماته عليه السلام.
15-نجاة القيامة في تحقيق امر الامامة.
16-الوحي و الالهام.
ص: 12
و المعروف في سنة وفاته أنها كانت 679 كما عن الشيخ سليمان الماحوزي و غيره.
و لكن الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتابه«الانوار الساطعة»ص 187 يخطئ هذا التاريخ و يري ان الصحيح هو 699 حيث قال:
«لكن التاريخ مخدوش،لان فراغ ابن ميثم من الشرح الصغير لنهج البلاغة كان في 681 و فرغ من الشرح الكبير للنهج في 677،فالصحيح من تاريخ وفاته هو ما ذكره صاحب كشف الحجب و هو 699 ظاهرا».
و أما قبره فقد قال في انوار البدرين:و قبره متردد بين بقعتين كلتاهما مشهورة بأنها مشهده،احدهما في جبانة الدونج،و أخري في هلتا من الماحوز،و أنا أزوره فيهما احتياطا و ان كان الغالب أنه في هلتا لوفور القرائن علي ذلك.
و نقل عن رسالة«وفيات العلماء»للكفعمي:انه مات في دار السلام بغداد.
ص: 13
صورة
ص: 14
صورة
ص: 15
صورة
ص: 16
قواعد المرام في علم الكلام تصنيف المولي الاعظم العلامة كمال الملة و الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني تغمده اللّه بغفرانه
ص: 17
ص: 18
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم (عونك يا قيوم) الحمد للّه الولي الحميد،ذي العرش المجيد،الفعال لما يريد،عالم الغيب و الشهادة،المتفرد باستحقاق العبادة.احمده و الحمد من نعمه،و أستزيده من فضله و كرمه.
و أشهد ان لا إله الا هو مخلصا له الدين،مسلما لامره في كل حين.
و اشهد ان محمدا رسوله الامين،المبعوث بلسان عربي مبين.صلي اللّه عليه و آله الطيبين و اصحابه الاكرمين و سلم عليهم اجمعين.
و بعد:
فلما كان شرف العلم بشرف المعلوم،و كلما كان المعلوم أجل و أعلي كان العلم به بالرعاية أولي،و كانت ذات الباري سبحانه أشرف المعلومات فكانت معرفته أتم المهمات،اذ كان المتوجه إليها هو المتوجه الي أعلي الكمالات
ص: 19
و الفائز بها هو الفائز بأقصي مراتب السعادات.
و اذا كان المتكفل ببيانها هو العلم المسمي في عرف المتكلمين ب(أصول الدين)و كنت ممن و سم فيه بالتحصيل و ان لم أحصل منه الا علي القليل، اشار الي من اشارته غنم و تلقي اوامره العالية حتم،و هو المولي المكرم الملك المعظم العالم العادل الفاضل الكامل الّذي فاق ملوك الآفاق باستجماع مكارم الاخلاق،وفاق في حلبة السباق أهل الفضائل بالإطلاق الذي ملأ الاسماع بأوصافه الجميلة و أفاض أوعية الاطماع بألطافه الجزيلة حتي أنسي بضروب النعم من سلف من اهل الكرم و أمت كعبة جوده وجوه الهمم من سائر طوائف الامم،عز الدنيا و الحق و الدين غياث الاسلام و المسلمين ابو المظفر عبد العزيز ابن جعفر خلد اللّه اقباله و ضاعف جلاله و أبد فضله و أفضاله و حرس عزه و كماله اذ كانت همته العلية مقصورة علي تحصيل السعادة الابدية،أن اكتب له مختصرا في هذا العلم يجمع بين تحقيق المسائل و ابطال مذهب الخصم بأوضح الدلائل المميزة للحق من الباطل.
فلم استجز مخالفة الواجب من الامر مع قلة البضاعة و ظهور العذر، فشرعت في ذلك معتصما بواهب العقل و ملهم العدل.
و رتبت تلك المقاصد علي عدة قواعد:
ص: 20
و فيها اركان:
و فيه ابحاث:
حصول صورة الشيء في العقل اما أن يتجرد عن الحكم و يسمي ذلك الحصول معرفة و تصورا،و اما ان يكون مع الحكم عليه و يسمي ذلك الحكم سواء كان بنفي أو اثبات تصديقا أو علما.فمن شرائطه اذن تعقل محكوم عليه و محكوم به و نسبة بينهما.
ص: 21
كل واحد من التصور و التصديق:اما ان يكون بديهيا مطلقا و هو باطل، و الا لعلم كل عاقل كل العلوم.أو كسبيا مطلقا و هو باطل،و الا لزم الدور أو التسلسل أو يكون بعضه بديهيا و بعضه كسبيا و هو الحق.
و حينئذ فالبديهي من التصورات هو الّذي لا يكون حصوله في العقل موقوفا علي تجشم كسب،كتصور معني الوجود و الوحدة.و الكسبي منه ما يقابل ذلك كتصور معني الملك و الجن.
و البديهي من التصديقات هو الّذي يكون تصور طرفيه-اعني المحكوم عليه و المحكوم به-كافيا في الجزم باثبات احدهما للآخر،كقولنا«الكل اعظم من الجزء»او بنفي احدهما عن الاخر كقولنا«النفي ليس باثبات».و الكسبي منها ما لم يكن كذلك،بل نحتاج في اثبات احدهما للآخر أو نفيه عنه الي وسط كقولنا«العالم حادث»و«الاله ليس بحادث».
التصديق اما ان يكون جازما او لا يكون،و الجازم اما أن يكون مطابقا او لا يكون،و المطابق اما ان يكون جزم العقل به لسبب او لا يكون.
فالذي يكون لسبب فسببه اما الحس وحده و هي الاحكام الحاصلة عن الحواس الخمس،او العقل وحده،فأما بأوليته،و هي البديهيات أو بنظره و هي النظريات،او العقل و الحس معا فاما الي الحس الباطن و هي الوجدانيات كاللذة و الالم او الحس الظاهر،فأما الحس الظاهر فاما حس السمع و هي
ص: 22
المتواترات أو سائر الحواس و هي المجربات و نحوها.
و أما الجازم المطابق الّذي لا لموجب فهو التقليد،و اما الجازم الغير المطابق فهو الجهل المركب.
و اما الّذي لا يكون جازما فاما ان يتساوي طرف الاثبات و النفي منه عند الذهن و هو الشك،او يرجح احدهما فالراجح ظن و المرجوح و هم.
لما بينا ان من التصورات و التصديقات ما هو مكتسب فلا بد له من طريق، فوجب أن نشير الي الطرق الموصلة الي كل منهما اشارة مجملة.
و قد جرت العادة بأن تسمي الطرق الموصلة الي التصور المكتسب قولا شارحا،فمنه ما يسمي حدا و منه ما يسمي رسما.و ان تسمي الطرق الموصلة الي التصديق حجة،فمنها ما يسمي قياسا و منها و ما يسمي استقراء و منها ما يسمي تمثيلا،و يخصه الفقهاء و المتكلمون باسم القياس.
و هذه الطرق انما وضعت ليأمن السالك بها في العلوم من الغلط في فكره اذا راعي الشرائط التي يجب أن يكون عليها.
و يجب ان تقدم الكلام في الفكر و النظر لانه كالآلة في وجودها.
ص: 23
و فيه ابحاث:
قال بعض العلماء:النظر و الفكر عبارة عن ترتيب مقدمات علمية أو ظنية ليتوصل بها الي تحصيل علم او ظن آخر.مثاله:ان من أراد أن يعلم ان العالم له مؤثر قال«العالم ممكن و كل ممكن له مؤثر»فترتيب الحدود الثلاثة علي الوجه المخصوص يسمي نظرا و فكرا.
و الحق ان النظر عبارة عن انتقال الذهن من المطلوب الي مباديه التي يحصل منها طالبا لها ثم منها الي المطلوب.
و تحقيقه في المثال المذكور:ان من كان مطلوبه العلم بأن العالم ممكن فنظره لتحصيله هو انتقال ذهنه منه الي مقدمات دليله المذكور بأجزائها و ترتيبها المستلزم لانتقال ذهنه الي النتيجة التي نسميها قبل النظر مطلوبا،فمجموع تلك الانتقالات هو المسمي فكرا و نظرا،و حينئذ يتبين ان الترتيب المذكور من لوازم النظر لا حقيقته.
النظر المفيد للعلم موجود.
ص: 24
و انكره السمنية (1)مطلقا و اعترف به جماعة من المهندسين في علمي الحساب و الهندسة و أنكروه في الالهيات.و زعموا ان الغاية في المسائل الالهية الاخذ بالاولي و الاخلق دون الجزم،فانه لا سبيل إليه.
لنا ان النظر في المثال المذكور استلزم العلم،فالنظر المفيد للعلم موجود.
احتج المنكرون مطلقا بوجوه:
(الاول) ان العلم بكون النتيجة الحاصلة عن النظر علما غير ضروري،لان كثيرا ما ينكشف الامر بخلافه،و لا نظري و الا لدار أو تسلسل.
(الثاني) ان المطلوب ان كان معلوما استحال طلبه،لان تحصيل الحاصل محال.و ان كان مجهولا فكيف يعلم اذا وجده انه هو الّذي كان مطلوبه.
(الثالث) ان الانسان قد يجزم بصحة دليل زمانا مديدا ثم يظهر له بعد حين فساده بدليل آخر،و الاحتمال في الثاني قائم و كذا في الثالث و الرابع،و مع قيام الاحتمال لا يحصل اليقين.
و احتج المنكرون للنظر في الالهيات بوجهين:
(احدهما) ان الحقائق الالهية غير متصورة،فاستحال الحكم عليها،فامتنع طلبها.
(الثاني) ان اظهر الاشياء و اقربها من الانسان هويته،و للناس فيها اختلافات لا يمكن الجزم بواحد منها،و اذا كان حاله في معرفة أقرب الامور إليه كذلك فما ظنك بأبعدها عنه مناسبة.
(و الجواب عن الاول)انه ضروري،و كل من رتب مقدمات تعينية ترتيبا منتجا علم بالضرورة كون الحاصل عنها علما و لم ينكشف الامر بخلافه البتة.د.
ص: 25
(و عن الثاني)انه مجهول التصديق معلوم التصور،فاذا وجده ميزه عن غيره بالتصور المعلوم.
(و عن الثالث)ان غلط العقل في بعض الادلة لا يوجب رد احكامه مطلقا، و احتمال غلطه فيما يجزم به لا يبقي مع جزمه.
و أيضا فهو معارض بغلط الحس مع اعترافكم بصحة حكمه.
(و عن الرابع)ان التصديق يكفي فيه التصور بحسب العوارض،و تلك الحقائق متصورة بحسب عوارضها المشتركة بينها و بين المحدثات،فأمكن الحكم عليها.
(و عن الخامس)انه يدل علي صعوبة هذا العلم لا علي امتناعه.
الدليل ان طابق ما عليه الامر في نفسه من صدق المقدمات العلمية أو الظنية و صحة ترتيبها المستلزم للمطلوب،كان ذلك النظر نظرا صحيحا و الا كان فاسدا.
ثم الفساد ان كان من جهة المقدمات مع صحة الترتيب علي الوجه المنتج كما سنذكره كان ذلك النظر مستلزما للجهل المركب،و ان كان الفساد من جهتيهما أو من جهة الترتيب فقط لم يستلزم الجهل،و ان كان قد يعرض بسببه جهل لكن لا علي وجه اللزوم لجواز انفكاكه عنه وقتا آخر و في ذهن آخر.
و حينئذ يعلم ان الخلاف الجاري بين المتكلمين في ان النظر الفاسد هل يولد الجهل أم لا،خلاف من غير تحقيق محل النزاع.
حصول العلم عقيب النظر الصحيح المجري العادة عند الاشعرية.
ص: 26
و يجوز خرقها فلا يوجد العلم عنه،و علي سبيل التولد عند المعتزلة كتولد الالم عن الضرب.
و الحق انه مستلزم للعلم بالضرورة كما سبق،فان من علم أن العالم حادث و ان كل حادث مفتقر الي المؤثر لزم بالضرورة عن هذين العلمين علي الترتيب المذكور العلم بأن العالم مفتقر الي المؤثر.
قال اصحابنا:شرط حصول العلم عن النظر ان يكون الناظر عالما بالدليل من الوجه الّذي يدل،و لا يستلزم المطلوب مع الشك أو الظن أو الجهل به من ذلك الوجه،و كان العلم به من ذلك الوجه هو التفطن،لاندراج الحد الاصغر تحت الاوسط و الاوسط تحت الاكبر،كما سنبين معني هذا المفهومات.فان الانسان قد يعلم أن هذا الحيوان بغلة و ان كل بغلة عاقر و ربما رأي بغلة منتفخة البطن فظنها حبلي،فلا يكفي حصول المقدمتين في الذهن بدون التفطن المذكور في حصول المطلوب.
شرط وجود النظر أن لا يكون الناظر عالما بالمطلوب،لان ذلك يكون تحصيلا للحاصل.و ان لا يكون جاهلا به جهلا بسيطا مطلقا،لان نفسه تكون اذن غافلة عنه من كل وجه فيمتنع طلبه.و أن لا يكون جاهلا به جهلا مركبا، لان ذلك يمنعه عن الطلب.بل يكون عالما به باعتبار ما،فيتنبه من ذلك الاعتبار لطلب القدر المجهول منه.
ص: 27
النظر في معرفة اللّه تعالي واجب عقلا،خلافا للاشعرية.
لنا:ان النظر شرط لحصول امر واجب،و ما كان شرطا للواجب كان واجبا:
اما المقدمة الاولي:فلانه شرط لمعرفة اللّه تعالي و هي واجبة:أما انه شرط للمعرفة فلانها من الامور الكسبية،و الضرورة قاضية بأنه ما لم يحصل في الذهن وسط جامع بين حدي المطلوب لم يحصل العلم به.و قد عرفت أن تحصيل الوسط لا يمكن الا بالنظر،فاذن المعرفة لا تحصل الا به فكان شرطا لها.
و اما أنها واجبة فمن وجهين:
(الاول) ان دفع الضرر المظنون الّذي يلحق بسبب الجهل بمعرفة اللّه واجب عقلا،و وجوب دفع ذلك الضرر مستلزم لوجوب المعرفة.
بيان الاول:ان المكلف الجاهل باللّه يجوز أن يكون له صانع أراد منه معرفته و كلفه بها،و انه اذا لم يعرفه عاقبه،سواء كان ذلك التجويز بخاطر خطر له أو بحسب سماعه اختلاف الناس في الديانات و اثبات الصانع،فانه يجد من نفسه خوف عقاب مظنون لعله يلحقه علي ترك المعرفة و ذلك ضرر واجب الدفع عن النفس.
بيان الثاني:ان دفع ذلك الضرر لا يحصل الا بالمعرفة،فكان وجوبه مستلزما لوجوبها.
(الثاني) لو لم يجب معرفة اللّه تعالي عقلا لما وجب شكر نعمه عقلا،و اللازم باطل فالملزوم مثله.
ص: 28
بيان الملازمة:ان بتقدير عدم معرفة المنعم لا يمكن شكره،و ما لا يمكن أولي بأن لا يجب.بيان بطلان اللازم:ان العاقل اذا فكر في خلقه وجد آثار النعمة عليه ظاهرة،و قد تقرر في عقله وجوب شكر المنعم فيجب عليه شكره فيجب اذن معرفته.
بيان الثاني:انه لو لم يجب الشرط لوجوب مشروطه لكان التكليف به تكليفا بما لا يطاق و انه قبيح عقلا،و سيأتي الكلام فيه في مسألة الحسن و القبح ان شاء اللّه.
فان قيل:لا نسلم وجوب المعرفة،و لم لا يكفي التقليد أو الظن الغالب، فان من اعتقد المنعم و ان لم يعلمه صح منه أن يشكره،و كذلك اذا خاف يندفع خوفه بالفرع الي الاعتقاد الجازم و ان لم يكن يقينا.سلمناه لكن لم قلتم انه لا طريق الي المعرفة سوي النظر.ثم انا نتبرع بذكر طرق اخر:منها قول المعصوم.و منها الالهام.و منها تصفية الخاطر كما يقوله بعض المتصوفة.و انما يجب لو لم يكن غيره طريقا.سلمناه لكن لم قلتم ان ما كان شرطا للواجب كان واجبا.قوله:يلزم تكليف ما لا يطاق.قلنا:و لم لا يجوز ان تكون التكاليف بأسرها كذلك.
و الجواب عن الاول:
قوله«لا نسلم وجوب المعرفة»قلنا:بينا ذلك.
قوله«و لم لا يكفي التقليد او الظن الغالب»قلنا:لان الاعتقاد الحاصل بالتقليد غير كاف في دفع خوف الضرر المظنون في ترك المعرفة،لان المقلد لا يأمن خطأ من قلده و يستوي عنده الصادق و الكاذب،و متي ميز بينهما لم يكن مقلدا.و اما الظن فممكن الزوال،و في زواله خطر عظيم،فلا يندفع به خوف
ص: 29
الضرر المظنون في ترك معرفة اللّه.و لا يكفيان أيضا في صحة شكره،لجواز أن يأتي المكلف بالشكر علي الوجه غير اللائق فيقع في الضرر،كشكر المجسمة و نحوهم.
و عن الثاني:
قوله«لم قلتم انه لا طريق الي المعرفة سوي النظر»قلنا:بينا ذلك فأما قول المعصوم فلا يمكن ان يستفاد معرفة اللّه تعالي منه،لتوقف العلم بكونه حجة علي المعرفة،فلو استفيدت المعرفة من قوله لزم الدور.
و أما الالهام فلو ثبت وقوعه لم يأمن صاحبه أن تكون من غير اللّه الا بالنظر و ان لم يتمكن من العبارة عنه.
و اما تصفية الباطن فهي عبارة عن حذف الموانع الداخلة و الخارجة عن القلب،و غايتها ان تقبل النفس معا السوانح الالهية علي طريق الافاضة و الالهام و لن يعلم ان تلك الافاضة و الخواطر من اللّه أو من غيره الا بالنظر.
و عن الثالث:انا سنبين إن شاء اللّه تعالي في مسألة الافعال ان القول بتكليف ما لا يطاق محال.
و هي الاقوال الشارحة،و فيه ابحاث:
الحقائق منها بسيطة و هي ما لا يلتئم عند العقل من عدة امور،و منها مركبة
ص: 30
و هي ما كان كذلك.
ثم لما كان المعرف للشيء هو الّذي يلزم من تصوره تصور ذلك الشيء و امتيازه عن غيره لم يجز أن يعرف الشيء بنفسه،لعدم افادته تميز نفسه،و لان المعرف يجب كونه معلوما قبل المعرف،فلو عرفنا الشيء بنفسه لزم تقدم العلم به علي العلم به،فلزم تقدمه علي نفسه،و لا بما هو أعم منه لان تصور العام لا يستلزم تصور الخاص،و لا بما هو أخص لكونه أخفي،بل وجب ان يكون التعريف بما يساويه في العموم و الخصوص.فذلك المساوي اما أن يكون مجموع اجزاء الشيء و يسمي حدا تاما كالحيوان الناطق للانسان،او بعض اجزائه و يسمي حدا ناقصا كالجسم الناطق له،أو بعض أجزائه المشتركة مع أمر خارج عنه مساوله و يسمي رسما تاما كالحيوان الضاحك له.و كذلك مجموع أمور خارجة عن ماهيته مساو لها اذا ميزها عن كل ما عداها،او مجموع أمور يميزها عن بعض ما عداها و يسمي رسما ناقصا كالحيوان البادي البشرة له.
ظهر مما قررنا ان البسائط لا تعرف بحد،اذ لا اجزاء لها،بل تعرف بالامور الخارجة عنها الخاصة بها البينة لها ان كانت.
ثم ان كانت اجزاء لغيرها أخذت في حده و الا فلا يعرف بها أيضا تعريفا حديا.
و اما المركبات فتعرف بحدودها،اذلها اجزاء لغيرها أخذت في حده او عرضية له جاز أن تؤخذ في رسومها.
ص: 31
الترتيب في الاقوال الشارحة أن يقدم الاعم ثم يقيد بالاخص،لان الاعم أعرف في الذهن و اكثر وقوعا فيه من الاخص،و تقديم الاعرف هو الترتيب الطبيعي،فكان اولي كما قرر ذلك في موضع أليق به.
الاحتراز عن تعريف الشيء بما يساويه في المعرفة و الخفاء و عن تعريفه بالاخفي منه ربما لا يعرف الا به في مرتبة أو مراتب.
و فيه ابحاث:
و انواعه ثلاثة:
لان الخبر اما ان يكون تركيبه تركيبا أولا من محكوم عليه و محكوم به و يسمي تصديقا و قضية حملية،كقولنا«العالم حادث».
و اما تركيبا ثانيا يقع من مركبات أولي،و حينئذ لا بدّ بين المركبين من نسبة فهي اما لزوم احدهما للآخر و يسمي ذلك المركب شرطيا متصلا و أدواته
ص: 32
حروف الشرط و الجزاء كقولنا«ان كان العالم حادثا فليس بقديم»،و يسمي الجزء الاول من هذا المركب ملزوما و مقدما و الثاني لازما و تاليا.
و اما أن تكون عناد احدهما للآخر و منافاته و يسمي ذلك المركب شرطيا منفصلا،و أدواته اما و ما في حكمها،كقولنا«المعلوم اما موجود و اما معدوم».
الحجة قول مؤلف من اقوال يقصد بها تحصيل مطلوب مجهول،و اقسامها ثلاثة:
(الاول) ما يسمي قياسا،وحده انه قول مؤلف من اقوال اذا سلمت لزم عنها بالذات قول آخر ضرورة،و هو اما أن لا يكون اللازم عنه و لا مقابله مذكورا فيه بالفعل،و يسمي قياسا اقترانيا،كقولنا«كل جسم مؤلف و كل مؤلف محدث» فانه يلزم بالضرورة من تسليم هذين القولين الحكم بأن كل جسم محدث.
فهذا قياس،و كل واحد من القولين المركب منهما يسمي مقدمة،و اجزاؤها تسمي حدودا.
و لا بد من مشترك بين المقدمتين يذكر فيهما،فما اختص بالمقدمة الاولي سمي حدا اصغر كالجسم في مثالنا،و سميت المقدمة صغري لاشتمالها عليه، و ما اختص بالثانية سمي اكبر كالمحدث فيه،و سميت الكبري لاشتمالها عليه، و ما كان مشتركا بينهما سمي اوسط كالمؤلف.
و هذا القياس يقع علي وجوه أربعة من التركيب:لان الاوسط اما أن يكون محكوما به علي الاصغر محكوما عليه بالاكبر و يسمي الشكل الاول،او بالعكس و يسمي الشكل الرابع،أو محكوما به عليهما و يسمي الشكل الثاني،أو بهما عليه و يسمي الشكل الثالث.و أجلي الاربعة و اكثرها استعمالا في تحصيل المطالب
ص: 33
هو الاول كما في مثالنا المذكور هذا.
و اما أن يكون اللازم عنه أو مقابله مذكورا فيه بالفعل و يسمي قياسا استثنائيا و هو مركب من شرط و استثناء،فاما من شرط يقتضي اللزوم و يلزم من استثناء عين الملزوم فيه عين اللازم،كقولنا«ان كان العالم حادثا فله صانع لكن العالم حادث»فيلزم ان له صانعا،و من استثناء نقيض اللازم نقيض الملزوم،كقولنا «ان كان العالم قديما فهو غني عن المؤثر لكنه ليس بغني عنه»فيلزم انه ليس بقديم.
و اما ان يكون التركيب من شرطي يقتضي العناد الحقيقي و يلزم من استثناء عين كل جزء منه نقيض الاخر،كقولنا«هذا العدد اما زوج و اما فرد لكنه زوج فليس بفرد»أو«لكنه فرد ليس بزوج»،و من استثناء نقيض كل جزء منه عين الاخر،كقولنا في المثال«لكنه ليس بزوج فهو فرد»أو«لكنه ليس بفرد فهو زوج».
(القسم الثاني) من اقسام الحجة ما يسمي استقراء،و هو حكم علي كلي بما وجد في جزئياته،كقولنا«كل واحد واحد من الحيوانات التي رأيناها يحرك فكه الاسفل عند المضغ»،فوجب ان يكون كل حيوان كذلك.و هو غير مفيد لليقين لاحتمال ان يكون حال من لم نشاهد من الحيوان خلاف ما شاهدناه كما نقل في التمساح.
(القسم الثالث) منها ما يسمي تمثيلا و يسميه الفقهاء و المتكلمون قياسا، و هو الحاق جزئي بما يشبهه في اثبات مثل حكمه له،و يسمي المشبه به اصلا و المشبه فرعا و ما فيه المشابهة علة و جامعا،و هو يفيد ظنا يتفاوت بالشدة و الضعف بحسب جودة التمثيل،و اقواه ما اشتمل علي علة وجودية.و علي كل حال لا يفيد القطع لجواز اختصاص العلة بالاصل.
ص: 34
ثم ان صح التعليل بها مطلقا كان ذلك برهانا لا حاجة به الي اصل و فرع.
القياس ان كانت مقدماته يقينية يسمي برهانا،و رسمه انه قياس من يقينيات ينتج يقينا بالذات اضطرار،و اصول المقدمات اليقينية البديهيات كالعلم بأن النفي و الاثبات لا يجتمعان و لا يرتفعان.
ثم المحسوسات اما بالحس الظاهر كالعلم بأن الشمس مضيئة،أو الباطن كالعلم بأن لنا لذة و ألما،و ما عداها كالمجربات و المتواترات و نحوها ففرع عليها كما علمته.
ثم قد يكون أوسطه مع كونه علة لوجود الاكبر في الاصغر في الذهن علة لوجوده له في نفس الامر،كقولنا«هذه الخشبة مستها النار و كل خشبة مستها النار فهي محترقة فهذه الخشبة محترقة»،و يسمي هذا برهان لم.و قد لا يكون كذلك و يسمي برهان ان،و يخص منه ما كان اوسطه معلولا لوجود الاكبر في الاصغر في نفس الامر باسم الدليل كقولنا«هذه الخشبة محترقة و كل محترق مستها النار فهذه الخشبة مستها النار».
الدليل في عرف المتكلمين هو الّذي يلزم من العلم به العلم بالمدلول،و الامارة هي التي يلزم من العلم بها ظن المدلول،و تتركب عن المقدمات الظنية و عنها مع العلمية،و انما لزمها الظني مطلقا لان الحكم بثبوت الاكبر للاصغر او نفيه عنه موقوف علي حكم ظني،و الموقوف علي الحكم الظني لا يمكن الجزم به.
ص: 35
ثم كل منهما اما ان يكون عقليا محضا و هو ما يتركب عن مقدمات كلها عقلية و هو ظاهر،أو سمعيا محضا كقولنا«شرب الخمر حرام و كل حرام متوعد بالعقاب علي فله»أو مركب منهما كقولنا«الباري سميع بصير و كل سميع بصير حي».
و منع الامام فخر الدين وجود الدليل السمعي المحض،مفسرا له بأنه ما لم يستند صدق قائله الي العقل اصلا و حينئذ لا يفيد علما و لا ظنا،فلا يصدق عليه اسم الدليل و لا الامارة.
و منعه صحيح علي تفسيره،و الخلاف لفظي.
قال الامام فخر الدين رحمه اللّه:الدليل اللفظي لا يفيد اليقين،و احتج بأن افادته له يتوقف علي تيقن أمور عشرة:عدم خطأ رواة الالفاظ في نقل جواهرها و اعرابها و تصريفها و عدم الاشتراك و المجاز و التخصيص و النسخ و الاضمار و التقديم و التأخير و المعارض العقلي الّذي لو كان لرجح علي النقل.و ظاهر أن حصول هذه الامور في الدليل اللفظي مظنون،و الموقوف علي المظنون أولي ان يكون مظنونا،فكانت نتيجة ظنية.
و الحق انه قد يفيد اليقين،و الشرط في افادته اليقين لا كون الامور المذكورة حاصلة في ذهن المستفيد و متيقنة له كما زعم الامام بل كونها حاصلة في نفس الامر فانا قد نتيقن المراد من اللفظ المنقول و ان لم يسبق الي ذهننا شيء من هذه الشرائط،كقوله تعالي لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ (1) فانا نتيقن ان المراد منه نفي كونه والدا أو مولودا.لكن اذا حصل في ذهننا هذا التيقن استدللنا به علي ان تلك الشرائط كانت حاصلة في نفس الامر.و اللّه اعلم.
ص: 36
المطلوب اما أن يستقل العقل بدركه او لا يستقل،و الاول فاما ان يتوقف العلم بصدق النقل علي العلم به كالعلم بوجود الصانع،و مثل هذا لا يمكن معرفته بالنقل و إلا لزم الدور،أو لا يتوقف كالعلم بوحدانية الصانع و يمكن معرفته بالعقل و النقل معا.
و اما الثاني فكل ما كان امرا ممكنا في نفسه محتملا في اذهاننا و لا يتمكن العقل من الحكم فيه،و هو اما عام كالعاديات أو خاص كالاخبار عن القيامة و احوال اهل الجنة و النار.و الطريق الي ذلك ليس الا السمع فقط.
ص: 37
و فيها اركان:
و فيه ابحاث:
المعلوم اما ان يكون موجودا أو لا يكون،و هو مرادنا بالمعدوم.
ثم تصور الوجود و العدم بديهي،و يكفي في بطلان التعريفات التي قيلت فيهما كونها اخفي أو مساوية لهما.
مسمي الوجود وصف مشترك فيه بين الموجودات،خلافا للاشعري و جماعة
ص: 38
من متأخري المعتزلة.لنا وجوه:
(الاول) ان مفهوم العدم واحد،فمفهوم الوجود واحد،و إلا لبطل الحصر العقلي في قسمين.
(الثاني) انه يمكن تقسيم الوجود الي الواجب و الممكن،و مورد التقسيم مفهوم واحد مشترك بين القسمين.
(الثالث) لو كان الوجود نفس الماهية لكان قولنا«السواد موجود»بمنزلة قولنا«السواد سواد»او«الموجود موجود»،و التالي باطل،لان الثاني غير مفيد و الاول مفيد،فالمقدم باطل.
فان قيل:علي الاول لا نسلم ان المفهوم من العدم واحد،بل عدم كل ماهية نفيها و يقابله وجودها و ينحصر التقسيم فيهما،و هذا لا يدل علي ثبوت قدر مشترك.
و علي الثاني ان مورد التقسيم بالوجوب و الامكان هو الماهية،علي معني ان بقاء الماهية اما أن يكون واجبا او لا يكون.
و علي الثالث ان الوجود لو كان مغايرا للماهية لكان الوجود قائما بما ليس بموجود،و هو يستلزم الشك في وجود الاجسام.
قلت:
الجواب عن الاول:انه غير وارد،لان عدم كل ماهية و ان قابل وجودها الخاص الا ان العدم المطلق المقول عليها و علي غيرها امر مشترك،فيستدعي وجودا مشتركا يقابله و يصح أن يحكم به علي كل محقق خاص،و هو المراد بقولنا«الوجود وصف عام».
و عن الثاني ان ما فسرت به مورد التقسيم و هو بقاء الماهية يعود الي استمرار
ص: 39
الوجود،فكأنكم قلتم استمرار الوجود اما أن يكون واجبا او لا يكون.
و عن الثالث ان محل الوجود هو الماهية لا باعتبار كونها موجودة او غير موجودة،فلم يلزم منه قيام الموجود بالمعدوم.
:
وجود الممكنات زائد علي ماهياتها بوجهين:
(الاول) انا بينا انه قدر مشترك بينها،و ظاهر ان ما به الاشتراك زائد علي خصوصيات الماهيات المشتركة.
(الثاني) انا ندرك التفرقة بين قولنا«السواد سواد»و بين قولنا«السواد موجود»في ان الاول تصور فقط و الثاني تصور معه تصديق،و ذلك يدل علي ان مفهوم الوجود زائد علي مفهوم الماهية.
قول الوجود علي الواجب و الممكن بالاشتراك اللفظي من وجه و المعنوي علي سبيل التشكيك من وجه:
(اما الاول) فلان الوجود الخارجي لك موجود هو نفس حقيقته الخارجية و مسميات الوجود بهذا الاعتبار مختلفة،فكان مشتركا.
(و اما الثاني) فلان المعني العام المقول من الوجود صادق علي الواجب بالاول و الاولي من الممكن،و كذلك علي الممكنات أنفسها،فان وجود الجوهر أول و أولي من وجود العرض،و هو المراد بالتشكيك.
ص: 40
في قسمة الموجودات علي رأي المتكلمين:
الموجود اما ان يكون قديما،و هو ما لا اوّل لوجوده،او ما لا يسبقه عدم، او محدثا و هو ماله اوّل أو ما سبقه عدم.
و المحدث اما أن يكون متحيزا او قائما به أو ليس بأحدهما،و اما المتحيز فاما ان لا يقبل القسمة بوجه و هو الجوهر الفرد و الجزء الّذي لا يتجزي،او يقبلها طولا فقط و هو الخط،أو طولا و عرضا و هو السطح،أو طولا و عرضا و عمقا و هو الجسم.
و عند الاشعري:ان الجسم هو المؤلف،فلا متحيز عنده الا الجوهر و الجسم.
و أما القائم بالمتحيز فاما ان لا يكون مشروطا بالحي او يكون،و الاول اما أن يفتقر الي اكثر من جوهر واحد و هو التأليف عند ابي هاشم،و هو ما يقتضي صعوبة التفكيك،أو لا يفتقر و هو الاكوان.
و الكون عند مثبتي الاحوال عبارة عن معني يقتضي الحصول في الحيز، و عند نفاتها نفس الحصول فيه،فاما ان يكون حصولا حادثا أو باقيا:و الاول فاما أن يكون أول حصول له في الحيز و يسمي كونا فقط،او حصولا في حيز عقيب حصوله في غيره و يسمي حركة،او حصولا في حيز وقتين فصاعدا و يسمي سكونا،او حصول جوهرين في حيزين بحيث لا يتخللهما ثالث و يسمي اجتماعا او بحيث يتخللهما ثالث و يسمي افتراقا.
ثم المحسوسات باحدي الحواس الخمس:فبحس البصر الالوان و الاضواء
ص: 41
و بحس السمع الاصوات و الحروف،و بحس الذوق الطعوم،و بحس الشم الروائح،و بحس اللمس الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة و الثقل و الخفة و الصلابة و اللين و الاعتمادات.و في بعض هذه خلاف بينهم.
اما المشروط بالحي فقيل عشرة:الحياة و هي الصفة التي لاجلها يصح علي الذات أن يعلم و يقدر،و القدرة و هي صفة للحي باعتبارها يصح منه أن يفعل و أن لا يفعل،ثم الاعتقاد و النظر و الإرادة و الكراهة و الشهوة و النفرة و الالم و اللذة.
و اكثرها ضروري التصور،و ما عداها فداخل تحتها أو فرع عليها كالعزم و القصد و المحبة و البغض و السخط و الغضب و الرحمة،فانها تعود الي الإرادة و الكراهة و كذلك الفرح و السرور و الغم و الحزن فانها تعود الي الاعتقاد،و في الموضعين خلاف بينهم.
و اما الّذي لا يكون متحيزا و لا قائما به فالفناء و إرادة اللّه تعالي و النفس الناطقة عند من أثبت هذه الثلاثة منهم.
(تفريع)العلم و الظن نوعان تحت الاعتقاد.و اختلف في حقيقة العلم:
فذهب ابو الحسين و فخر الدين الرازي و من تابعهما الي انه بديهي التصور، و اتفق الباقون من المتكلمين و الحكماء علي كونه كسبيا.
و احتج الاولون علي دعواهم بأمرين:احدهما ان ما عدا العلم لا ينكشف إلا به،فلو كشف عنه غيره لزم الدور.و لانه جزء من البديهي كعلمي بوجودي.
و جواب الاول:ان المطلوب من حد العلم هو تصور ماهيته،و ما عدا العلم انما ينكشف بوجود العلم في العقل لا بماهية العلم،فجاز كشف غيره به و ان لم يكن معلوم الحقيقة بالكنه.
و عن الثاني لا نسلم ان البديهي حقيقة علمي بوجودي،بل وجود علمي به.
ص: 42
فأما تحقيق حد العلم و ما قيل فيه فمما لا يحتمله هذا المختصر.
و اما الظن فرسم بأنه الاعتقاد الراجح بأحد النقيضين.و باللّه التوفيق.
في قسمة الموجودات علي رأي الحكماء:
الموجود اما أن يكون واجبا و هو ما يمتنع عدمه لذاته،أو ممكنا و هو جائز الوجود و العدم.
و الممكن اما ان يفتقر في وجوده الي موضوع-أي الي محل لا يتقوم بما يحل فيه-و هو العرض،او لا يكون و هو الجوهر.
و الجوهر اما ان يكون حالا مقوما لمحله في الوجود و هو الصورة،أو محلا لذلك و هو المادة،أو مركبا منهما و هو الجسم الطبيعي،أو ليس بأحد هذه الثلاثة و هو اما ان يتعلق بالجسم و هو النفس او لا يتعلق و هو العقل.
و اما العرض فاما ان يقتضي قسمة او نسبة او لا يقتضي احدهما،و الاول فاما ان يكون بين اجزائه المفترضة حد مشترك و يسمي الكم المتصل و هو المقدار او لا يكون و يسمي الكم المنفصل،و الاول اما ان يكون اجزاؤه المفترضة بحيث يمكن اجتماعهما في الوجود أو لا يكون،و الاول المتصل القار الذات و اما يفترض بعدا واحدا و هو الخط او ذا بعدين و هو السطح او ذا ابعاد ثلاثة و يسمي الجسم التعليمي.و الثاني هو المتصل الغير القار الذات،و هو الزمان.
و اما الكم المنفصل فهو العدد،و اما المقتضي للنسبة:فالاين و هو الحصول في المكان،و متي و هو الحصول في الزمان،و الملك و هو كون الشيء محاطا بغير ينتقل بانتقاله كالتسلح و التقمص،و الوضع و هو الهيئة الحاصلة للجسم
ص: 43
بسبب نسبة بعض اجزائه الي بعض و الي الامور الخارجة عنها كالتربيع و الانبطاح و ان يفعل و هو التأثير حال وجوده كالتقطيع و التسخين،و ان ينفعل و هو التأثر حال وجوده كالتقطع و التسخن.
فهذه المقولات الست تقتضي نسبة و ليست مجرد نسب عندهم.
و اما ما لا يقتضي قسمة و لا نسبة فاما ان يكون مجرد نسبة و هو الاضافة فان حقيقتها نسبة الشيء الي غيره نسبة متكررة من الطرفين،و اما ان لا يكون و هو الكيف،و هو كل هيئة قارة للشيء لا يقتضي تصورها تصور امر خارج عنها و عن حاملها.
و لا قسمة و هي اما ان تتعلق بوجود النفس او بغيره،و الاول كالاعتقادات و الارادات،فان كانت راسخة سميت ملكات او سريعة الزوال سميت حالات، و الثاني اما ان يتعلق بالكميات فاما بالكم المتصل كالاستقامة و الانحناء او بالمنفصل كالزوجية و الفردية،أو لا يتعلق بها و هي:اما أن يكون مجرد استعداد لان يفعل كالمصحاحية و الصلابة و يسمي قوة،أو استعدادا لان ينفعل كالممراضية و اللين و يسمي لا قوة.و اما ان لا يكون و هي المحسوسات باحدي الحواس الخمس:
فما كان منها بطيء الزوال كحمرة الدم سمي انفعاليات،أو سريعة كحمرة الخجل سمي انفعالات.
فأقسام الممكنات الموجودة محصورة عندهم في هذه العشرة:و هي الجوهر،و الكم،و الكيف،و الاين،و متي،و الاضافة،و الوضع،و الملك و ان يفعل،و ان ينفعل.و تسمي عندهم المقولات العشر.
ص: 44
انكر المتكلمون وجود أكثر هذه المقولات:
اما الجوهر و الكم فما كان من أقسامهما مبنيا علي نفي الجوهر الفرد كالمادة و الصورة و الجسم المركب عنهما و الكم المتصل فبطلان القول به لازم لثبوت الجوهر الفرد كما سنبين ثبوته.
و أما اثبات العقل فمبني علي القول بأن الواحد لا يصدر عنه الا الواحد، و سيجيء الكلام فيه.
و اما الاعراض النسبية فمنعوا من كونها أمورا زائدة علي النسبة،ثم منعوا من كون النسب امورا موجودة في الاعيان،اذ لو كانت كذلك لكان نسبها الي محالها أيضا كذلك،فكان الكلام فيها كالكلام في الاول،و يلزم التسلسل.
الواجب لذاته لا يكون واجبا بغيره،و إلا لجاز عدمه بفرض عدم ذلك الغير فلا يكون واجبا لذاته.هذا خلف.
الثانية:الواجب بالذات لا يتركب عن غيره،و الا لافتقر الي ذلك الغير، فكان ممكنا بذاته هذا خلف،و لا يتركب عنه غيره بحيث يكون بينه و بين غيره فعل و انفعال كما في الممتزجات و الا لكان انفعاله عن الغير مستلزما لامكانه أيضا.
الثالثة:الواجب لذاته وجوده نفس ماهيته،اذ لو كان زائدا عليها لكان اما غنيا لذاته عن المؤثر فلا يكون صفة لها.هذا خلف.و اما مفتقرا إليه فالمؤثر فيه اذن اما غير تلك الماهية فوجود واجب الوجود معلول الغير.هذا خلف.
ص: 45
او تلك الماهية فاما من حيث هي موجودة فيلزم تقدمها بوجودها علي وجودها، و الكلام في الثاني كما في الاول و يلزم التسلسل،او من حيث هي معدومة و هو باطل بالضرورة.
فان قلت:لم لا يجوز ان تكون الماهية من حيث هي هي مستلزمة للوجود من غير اعتبار وجود أو عدم لها كما يستلزم ماهية الثلاثة الفردية،و أيضا فهو معارض بماهية الممكن فانها قابلة للوجود لا من حيث هي موجودة و الا لتقدمت بوجودها علي وجودها،و لا من حيث هي معدومة و إلا لزم اجتماع العدم و الوجود.
قلت:من شرط كون المؤثر موجدا أثرا خارجيا كونه موجودا،و العلم به بديهي.و حينئذ لا يرد النقض باقتضاء الثلاثة الفردية و نحوه،لان من ذلك اقتضاء امر اعتباري لامر اعتباري و لا المعارضة تقابل الوجود،فان حاجة الفاعل في فعله الي كونه موجودا ضرورية،و لا كذلك قابل الوجود و الا لكان قبوله للوجود تحصيلا للحاصل.
احتج الخصم علي كونه زائدا عليها بوجهين:
(احدهما) ان ماهيته غير معلومة للبشر و وجوده معلوم،فماهيته غير وجوده.
(الثاني) ان الوجود معني واحد،فاما ان يلزمه التجرد فوجود الممكنات مجرد غير عارض لها.هذا خلف.أو يلزمه العروض لماهية فيكون كل وجود عارضا،اذ لازم الطبيعة الواحدة لا يختلف،فوجود واجب الوجود لذاته عارض لماهيته و هو المطلوب،او لا يلزمه واحد منهما و حينئذ لا يتصف بأحدهما الا لسبب منفصل،فتجرد واجب الوجود محتاج الي غيره هذا خلف.
(و الجواب عن الاول)ان وجوده المعلوم هو المشترك المعقول،و هو مقول
ص: 46
عليه و علي غيره بالتشكيك.و الّذي هو نفس ماهيته هو وجوده الخارجي الخاص به،و هو غير معلوم.
(و عن الثاني)ان هاهنا قسما رابعا،و هو أن يلزمه التجرد باعتبار و يلزمه العروض باعتبار،و ذلك انه و ان كان معني واحدا الا انه لما كان مقولا علي الموجودات بالتشكيك مختلف النسبة إليها بالاول و الأولي جاز أن تختلف لوازمه بحسب اختلاف اعتباراته،و انما يجب اتحاد لوازمه لو كان متواطيا.
الرابعة:الوجوب كيفية لانتساب امر الي آخر،و هي امر معقول مشترك بين الواجب بالذات و بالغير بالتشكيك علي نحو اشتراك الوجود،فان الوجوب للواجب بالذات اوّل و أولي من الواجب بالغير،و اذ ليس الوجوب معني خارجيا فمعني كون الشيء واجبا في الخارج بحيث اذا جرده العقل مع ما ينسب إليه و اعتبرهما وجد احدهما واجبا للآخر اما لذاته او لغيره.
الخامسة:الواجب لذاته واجب من جميع جهاته،اذ لو فرضنا امكانه من بعض الجهات لكان في ذاته جهتا وجوب و امكان،فلزمتها الكثرة و التركيب، و قد بينا انها غير مركب.
(الاولي) الممكن لذاته يستوي نسبة الوجود و العدم إليه،خلافا لكثير من المتكلمين،فانهم قالوا بأولية العدم للجائز و استغنائه حال عدمه عن الفاعل.
لنا:لو كان احدهما اولي و أرجح لكانت تلك الاولوية اما أن لا تكفي في رجحان الاولي او تكفي،فان لم تكف فلا رجحان بالنسبة الي ذات الممكن و ان كفت فان منعت النقيض فأحد الطرفين ممتنع و الاخر واجب،فلم يكن
ص: 47
الممكن ممكنا.هذا خلف.و ان لم تمنع فلنفرض وقوعه،فان وقع لا لسبب مع كونه مرجوحا فأولي ان يقع المساوي لا السبب و هو باطل بالضرورة،أو لا لسبب فلا تكون الاولوية كافية في رجحان احد الطرفين،بل لا بد معها من عدم سبب الطرف المرجوح،و قد فرضت كافية.هذا خلف.
(الثانية) الممكن لما استوي طرفاه بالنسبة إليه امتنع بالضرورة ان يترجح احدهما علي الاخر الا لمرجح من خارج ذاته.
(الثالثة) علة حاجة الممكن الي المؤثر هي امكانه،و عند ابي هاشم هي الحدوث،و عند ابي الحسين البصري هي المركب منهما،و عند الاشعري الامكان بشرط الحدوث.
لنا وجهان:
احدهما -انا متي تصورنا تساوي طرفي الممكن قضي العقل من تلك الجهة بحاجة الممكن في رجحان احد طرفيه علي الاخر الي المرجح من غير التفات الي امر آخر،و ذلك يدل علي ان الامكان بواسطة التساوي كاف في اقتضاء الحاجة الي المؤثر.
الثاني -ان الحدوث كيفية في الوجود متأخرة عنه،و الوجود متأخر عن الايجاد المتأخر عن الحاجة الي الايجاد المتأخرة عن علتها و عن جزء علتها و عن شرطها،فلو كان الحدوث نفس العلة أو جزءها او شرطها لزم تأخر الشيء عن نفسه بمراتب و انه محال.
(الرابعة) الممكن حال بقائه محتاج الي المؤثر،للزوم علة الحاجة له مطلقا.
فان قلت:هذا باطل،ان المؤثر اما ان يكون له فيه حال البقاء اثر أو ليس
ص: 48
فان كان فاما في وجوده الحادث و هو تحصيل الحاصل او في امر جديد فالتأثير في الامر الجديد لا في الباقي،و اما ان لم يكن له فيه اثر البتة لم يكن محتاجا إليه.
قلت:تأثيره في امر جديد هو البقاء،و هو امر غير الاحداث.
(الخامسة) الممكن مسبوق بوجوب،علي معني انه متي تمت شرائط التأثير فيه فلا بد و أن يوجد عن فاعله،و ملحوق بوجوب علي معني انه حال وجوده يمتنع عدمه،و الا لصح اجتماع الوجود و العدم.
المعدوم اما أن يكون ممتنع الوجود و اتفق الناس علي كونه نفيا محضا، او ممكن الوجود و اتفق المحصلون من المتكلمين و غيرهم علي انه نفي محض أيضا،خلافا لابي هاشم و اتباعه من المعتزلة،فانهم زعموا أنه ثابت حال عدمه و فرقوا بين المعدوم و المنفي،و خصصوا المنفي بالممتنع و جعلوا في مقابله الثابت،و خصصوا المعدوم بالممكن و جعلوه قسما من الثابت و قسيما للموجود.
لنا:ان الثابت اما في الذهن أو في الخارج او أعم منهما،و الاول و الثالث لا تحقق لهما الا في الذهن و ليس مرادا لهم،و الثاني بالضرورة هو الموجود.
احتجوا:بأن المعدوم متميز،و كل متميز ثابت،فكل معدوم ثابت.
بيان الصغري من وجوه:
(الاول) انا نميز بين طلوع الشمس غدا من مشرقها و بين طلوعها من مغربها مع عدم هذين الطلوعين.
(الثاني) انا نقدر علي الحركة يمنة و يسرة و لا نقدر علي الطيران الي السماء و المقدور متميز عن غيره في حال عدمه.
ص: 49
(الثالث) انا نحب حصول اللذات و نكره حصول الآلام،فالتميز حاصل فيها مع عدمها.
بيان الكبري:انا لا نعني ثبوت الذوات الا كونها متحققة في انفسها،و من المعلوم أن تميز الذوات عن اغيارها فرع علي تحققها في أنفسها،فكانت المعدومات ثابتة في عدمها.
و الجواب:لا نسلم ان التميز المذكور في المعدومات حاصل في غير العقل و التميز العقلي بينها لا يقتضي ثبوتها في غير العقل.
ثم ما ذكروه معارض بالتميز بين الممتنعات و المركبات الخيالية كجبل من ياقوت و بحر من زئبق،مع ان ذلك التميز لا يقتضي ثبوتها في العدم عندهم.
ص: 50
و فيها ركنان:
و فيه ابحاث:
اعلم ان هذا أصل كبير في ابطال مذهب الخصم مفسد لكثير من قواعده، فان اثبات المادة و الصورة و الكم المتصل لا يمكن مع القول به،و كذلك اشكال الافلاك و حركاتها المستديرة،و عدم جواز الخرق و الالتيام عليها مبنية علي نفيه،
ص: 51
و علي صحة الشكل المستدير و صحة الزاوية يبني اكثر العلوم الرياضية،فلا يتم اذن شيء منها مع القول به.
و بيان المذاهب في هذه المسألة ان نقول:لا شك ان الجسم المحسوس قابل للانقسام،فتلك الانقسامات الممكنة اما أن تكون حاصلة فيه بالفعل أو بالقوة،و علي التقديرين فاما ان تكون متناهية او غير متناهية.
فالاول أن تكون الانقسامات فيه بالفعل متناهية الي اجزاء لا تقبل القسمة بوجه ما،و هو قول جمهور المتكلمين.
و الثاني أن تكون فيه بالفعل غير متناهية،و هو قول النظام.
و الثالث أن يكون في نفسه واحدا لكنه قابل لانقسامات غير متناهية، بمعني ان الجسم لا ينتهي في قبول القسمة الي حد الا و يقبل القسمة،و هو قول جمهور الفلاسفة.
و الرابع أن يكون واحدا في نفسه قابلا لانقسامات بالقوة متناهية.
الجسم مركب من اجزاء بالفعل لا تتجزي خلافا للفلاسفة.
لنا وجوه:
(الاول) ان الحركة و الزمان كل منهما مركب من اجزاء لا تتجزي،فالجسم كذلك.بيان الاول:ان الآن الحاضر من الزمان يستحيل أن يكون عين الماضي او المستقبل،و الا لم يكن الحاضر حاضرا هذا خلف.و حينئذ فاما أن يقبل القسمة و هو باطل،لانه ان قبلها مع ان طبيعته علي التقضي و السيلان لزم أن يكون احد جزئيه سابقا علي الاخر،فالسابق ماض و اللاحق مستقبل،فلا حاضر
ص: 52
اذن هذا خلف.او لا يقبلها،و حينئذ يكون عدمه دفعة و حدوث الآن الّذي يعقبه دفعة،فيلزم كون الزمان من آنات متتالية كل منها لا تقبل القسمة،و هو مرادنا بالجوهر الفرد.
ثم نقول:القدر من الحركة الواقع في ذلك الآن المطابق له لا يقبل القسمة أيضا،و الا لانقسم بحسبه الآن الّذي لا ينقسم.هذا خلف.
و أما بيان ان الجسم كذلك فلان المقدار الّذي يتحرك عليه المتحرك من المسافة بالجزء الّذي لا يتجزي من الحركة في الآن الّذي لا يتجزي ان انقسم كانت الحركة الي نصفه نصف الحركة الي كله،فلزم انقسام ما لا ينقسم من الحركة هذا خلف.و ان لم ينقسم فهو الجوهر الفرد.
(الثاني) انا اذا فرضنا كرة حقيقية علي سطح حقيقي فموضع الملاقاة ان كان منقسما فهو باطل،لان ذلك الموضع من الكرة منطبق علي السطح المستقيم و المنطبق علي السطح المستقيم مستقيم،فذلك الموضع من الكرة مستقيم هذا خلف.و ان لم يكن منقسما فاذا دحرجت تلك الكرة فالموضع الثاني من الملاقاة يكون أيضا غير منقسم لما مر،و كذا الثالث و الرابع الي أن يتم دائرة تلك الكرة،فتكون تلك الدائرة مركبة من اجزاء لا تقبل القسمة.
(الثالث) النقطة عند الخصم شيء ذو وضع لا ينقسم،و هي نهاية الخط الموجود بالفعل،فكانت موجودة بالفعل،فمحلها ان كان منقسما لزم انقسامها بانقسامه هذا خلف،و ان كان غير منقسم فهو الجوهر الفرد.
احتج الخصم بوجوه:
(الاول) اذا وضعنا جزءا بين جزءين فالمتوسط اما ان يحجب الطرفين عن التماس او لا يحجب،فان كان الاول فقد لقي كل واحد منهما بغير ما لقي الاخر
ص: 53
فكان منقسما،و ان كان الثاني لم يكن ازدياد التأليف مفيدا لزيادة الحجم،و هو ظاهر البطلان.
(الثاني) اذا ركبنا خطا من ثلاثة اجزاء و وضعنا علي طرفيه جزءين،فاما أن يصح الحركة علي كل واحد من ذينك الجزءين الي الاجزاء أو لا يصح،و الثاني ظاهر البطلان فتعين الاول.فلنفرض حركتهما معا،و حينئذ يلزم التقاؤهما علي الجزء الاوسط،فيماس كل منهما بنصفه نصف الوسط و بنصفيهما الآخرين النصفين من الجزءين الباقيين من الخط،فيلزم قبول القسمة في الكل.
(الثالث) اذ ركبنا خطا من أربعة اجزاء و وضعنا فوق احد طرفيه جزءا و تحت الطرف الاخر جزءا ثم فرضنا حركتهما معا فلا بد و أن يلتقيا علي متصل الثاني و الثالث،و ذلك يستلزم انقسام الجزءين و ما ماساه من الجزءين المتوسطين من الخط.
و الجواب عن الاول:ان الوسط يحجب الطرفين عن التماس و يلقي كلا منهما بنهايته من ذلك الجانب،و نهايتاه عرضان قائمان،و لا يلزم من تعدد الاعراض تعدد محالها.سلمناه لكن ما ذكرتموه من قبول الانقسام بسبب الوضع المذكور أمر يقدره الوهم و يحكم به كما يحكم في الاجسام المنقسمة،فان العقل اذا حكم بصحة الجوهر الفرد كانت ملاقاة الجواهر له نسبا و اضافات لا توجب تكثرها و تعددها تكثرا في ذاته و لا قسمة.و هذا كما لا يتوهم من محاذاة النقطة المفروضة في محيط دائرة لنقطة مركزها،فان تكثر تلك النسب لا يوجب تكثر تلك النقطة.
و عن الثاني:انما نمنع صحة الحركة علي الجزءين لاستلزامها المحال، فان حركة الجزء الّذي لا يتجزي دفعية آنية،فلو تحركا معا لزم اجتماعهما
ص: 54
في حيز واحد-اعني الوسط الّذي لا يتسع الا لاحدهما-لكن هذا اللازم محال فالملزوم مثله.و انما تصح حركتهما معا ان لو جاز الانقسام عليه و هو اوّل المسألة.
و عن الثالث:انه اذا ثبت ان حركة كل من الجزءين عن الثاني من اجزاء الخط الي الثالث حركة دفعية لم تكن تحاذيهما علي متصل الثاني و الثالث موجبا فيهما و لا في غيرهما قسمة،بل كانت محاذاتهما امرا اعتباريا،و الحكم بقبول الانقسام هناك حكم و همي كما سبق،و في هذه المسألة ادلة كثيرة من الطرفين و فيما ذكرناه كفاية هاهنا.
الجسم مركب من اجزاء بالفعل متناهية،خلافا للنظام.
لنا وجهان:
(الاول) لو كان في الجسم اقسام بالفعل غير متناهية لما كان مقداره متناهيا، لكن اللازم باطل فالملزوم مثله.
اما الملازمة:فلان زيادة المقادير و نقصانها تابعان لزيادة الاقسام الموجودة في الاجسام،فاذا كانت الاقسام في جسم بالفعل غير واقفة عند حد فبالضرورة المقدار كذلك.و اما بطلان اللازم فظاهر.
(الثاني) لو كانت الاجزاء في الجسم بالفعل غير متناهية لاستحال قطع مقداره الا في زمان غير متناه،لانه يستحيل قطعه الا بعد قطع نصفه و قطع نصفه الا بعد قطع ربعه و هلم جرا،فاذا كان فيه اجزاء بالفعل غير متناهية استحال ان يقطع اجزاؤها الا في مدة غير متناهية،لكن اللازم ظاهر البطلان فالملزوم مثله.
ص: 55
و لهذه الحجة ارتكب النظام القول بالطفرة،اي ان النملة مثلا التي تقطع مسافة ما تطفر بعض مقدارها الي بعض.
و هو قول مع شناعته غير نافع له،فان النملة لو طفرت من الجسم بعضه، فالذي قطعت بحركتها منه ان كان متناهيا كانت نسبته الي ما طفرته نسبة متناهي العدد الي متناهي العدد،اذ تمكننا ان نقطع من القدر الّذي طفرته بمقدار ما قطعته الي ان تفني الجسم،فكان الكل متناهيا مع فرضه غير متناه،و ان لم يكن متناهيا عاد الالزام بعينه فيه.
لنا وجوه:
(الاول) ان مجموع الحوادث في طرف الماضي الي زماننا صدق دخوله في الوجود،فنقول:وجود ذلك المجموع موقوف علي وجود كل واحد واحد من الحوادث،و الموقوف علي امر حادث يجب أن يكون حادثا،ينتج ان وجود ذلك المجموع حادث.اما المقدمة الاولي فلان الحوادث اجزاء مجموعها،و تحقق المجموع بدون جزئه محال.و اما الثانية فبينة بنفسها.
(الثاني) ان كان كل واحد واحد من الحوادث يلزمه الحدوث وجب أن يكون مجموعها كذلك،لكن الملزوم حق فاللازم مثله.اما الملازمة فلان لازم الجزء لازم الكل،و اما حقيقة الملزوم فظاهرة.
فان قلت:اللازم لكل واحد من آحاد الحوادث هو حدوثه الخاص، و سلم ان مجموعها يلزمه حدوث اجزائه،انما النزاع في لزوم مطلق الحدوث له.
ص: 56
قلت:مطلق الحدوث جزء من الحدوث الخاص،فمستلزم الحدوث الخاص مستلزم لمطلق الحدوث،فكان المجموع مستلزما لمطلق الحدوث.
(الثالث) لو كان الماضي من الحوادث غير متناه لما وجود اليوم،لتوقفه علي انقضاء ما قبله من الحوادث الغير المتناهية و امتناع انقضاء ما لا نهاية له،لكن اللازم باطل فالملزوم باطل.
و اعلم ان الخصم تارة يقول ما لا اوّل له من الحوادث هو مجموعها و تارة يقول هو نوعها.اما المجموع فقد عرفت حدوثه،و اما النوع فلانه لا يقع في الوجود ما لم يقترن به العوارض المشخصة التي كل واحد منها حادث.و ما توقف وجوده علي وجود الامور الحادثة كان حادثا،فالنوع اذن حادث.
و هذا الاصل الثاني اتم في اثبات المطلوب و ان كان الاول نافعا.فلنشرع بعدهما في بيان المطلوب.
و فيه بحثان:
و هو من وجهين:
(الاول) الاجسام لا تخلو عن الحوادث المتناهية،و كل ما لا يخلو عن الحوادث المتناهية فهو حادث،فالاجسام حادثة.
اما المقدمة الاولي فيتوقف علي امور أربعة:الاول ان هاهنا امورا زائدة
ص: 57
علي الجسم،الثاني ان تلك الامور محدثة،الثالث انها متناهية،الرابع ان الجسم لا ينفك عنها.
اما الاول فلان الحصول في الحيز و انواعه من الحركة و السكون و الاجتماع و الافتراق أكوان للمتحيز،و يستحيل أن يكون نفس المتحيز او الحيز لوجهين:
احدهما:انها تتبدل و تتعاقب علي ذات المتحيز و الحيز عند حصوله فيه مرة بعد أخري،و لا شيء من المتحيز و الحيز بمتبدل في ذاته مع شيء منها فكانت زائدة عليه.
الثاني: انها مشتركة في كونها حصولات للمتحيز في الحيز،و حصوله في الحيز نسبة بينه و بين الحيز،و النسبة متغايرة للمنتسبين،اما الثاني و الثالث فلانها مستلزمة للكون في الزمان،و كل واحد واحد من اجزاء الزمان و مجموعه مستلزم للحدوث،لما عرفت من وجوب تناهي الحوادث،و لازم اللازم لازم،فكان الحدوث و التناهي لازمين لهذه الحوادث.و اما الرابع فلان المتحيز واجب الحصول في حيز ما،فان كان واجب الحصول غير مسبوق بغيره، فهو أول كون له في الوجود.و ذلك ان الحدوث و ان كان مسبوقا بحصول فاما في ذلك الحيز و هو السكون أو في غيره و هو الحركة بناء علي الجوهر الفرد، فاذن المتحيز لا ينفك عن كون حادث،و اما الثانية فغنية عن البيان.
(البرهان الثاني) لو كان شيء من الاجسام لا أول لوجوده لكان من حيث هو كذلك اما متحركا أو ساكنا،و القسمان باطلان فالقول بأن شيئا منها لا اوّل لوجوده باطل.
بيان الحصر:ان الجسم واجب الحصول في حيز ما،فذلك الحصول اما أن يكون أول حصوله في الحيز و ذلك ينافي عدم اولية وجوده أو حصولا
ص: 58
ثانيا،فاما في ذلك الحيز و هو السكون أو في غيره و هو الحركة،و اما بطلان القسمين فلان السكون و الحركة يستلزمان الزمان،و قد علمت انه بأجزائه و مجموعها حادث متناه،و ملزوم الحادث حادث متناه،فالحركة و السكون امران حادثان،و ذلك ينافي عدم أولية الجسم.و تلخيص هذا البرهان علي هذا الوجه غير محتاج الي التطويل الّذي ذكره الامام فخر الدين في سائر كتبه.
(البرهان الثالث) كل العالم بأجزائه موجود ممكن،و كل موجود ممكن فهو حادث،فالعالم بأجزائه حادث.
اما المقدمة الاولي فلان مرادنا من العالم كل موجود سوي واجب الوجود لذاته،و سنبين أن الواجب لذاته ليس الا الواجد،و حينئذ يتبين ان كل ما عداه من الموجودات فهو ممكن لذاته،إذ العقل يقول كل موجود فاما ان يكون من حيث ماهيته غير قابل للعدم و هو الواجب لذاته،او قابلا له و هو الممكن لذاته و لا واسطة.
و اما الثانية فلانا بينا ان كل ممكن مفتقر في رجحان احد طرفيه علي الاخر الي مؤثر،فنقول:افادة المؤثر لوجود الاثر اما أن تحصل حال وجود الاثر أو حال عدمه،فان حصلت حال الوجود فاما حال البقاء أو حال الحدوث، و الاول باطل لانه تحصيل للحاصل،فبقي ان يفيده الوجود حال العدم أو حال الحدوث،و علي التقديرين فالاثر حادث،فاذن كل موجود ممكن فهو حادث و هو المطلوب.
(الشبهة الاولي) و هي العمدة الكبري لهم،قالوا كل ما لا بد منه في مؤثرية
ص: 59
اللّه في وجود العالم اما ان يكون حاصلا في الازل أو لا يكون،فان كان حاصلا في الازل لزم ان لا يتخلف العالم عن اللّه،اذ لو تخلف لكان وجوده بعد ذلك اما ان يكون لامر فلا يكون تمام ما به التأثير حاصلا في الازل و قد فرض كذلك هذا خلف،و ان كان لا لامر لزم الترجيح بلا مرجح و هو محال.و اما ان لم يكن كل ما لا بد منه في المؤثرية حاصلا في الازل ثم حصل بعد ذلك فحصوله ان كان لا لامر لزم الترجيح بلا مرجح و هو محال،او لامر فيكون الكلام فيه كما في الاول و يلزم التسلسل او الدور،و هما محالان.
(الشبهة الثانية) قالوا:مؤثرية اللّه تعالي في وجود العالم امر مغاير لهما، لامكان تعقل كل منهما مع الجهل بكون اللّه مؤثرا في العالم،و لانها نسبة بينهما و النسبة مغايرة للمنتسبين.
ثم ليست عبارة عن امر سلبي،لان قولنا«كذا مؤثر في كذا»نقيض قولنا «ليس بمؤثر فيه»الّذي هو امر سلبي،و نقيض السلبي ثبوتي،فكانت المؤثرية امرا ثبوتيا زائدا علي ذات المؤثر،فاما ان يكون محدثا فيفتقر الي مؤثرية اخري،و الكلام فيها كالكلام في الاول و يلزم التسلسل و هو محال،أو قديما مع انه صفة اضافية يستدعي ثبوت المضافين،فيلزم من قدمها قدم العالم و هو المطلوب.
(الشبهة الثالثة) كل محدث فلا بد و أن يكون عدمه قبل وجوده،و لا يجوز أن تكون تلك القبلية نفس العدم،لان العدم قبل كالعدم بعد،و ليس القبل بعد،فاذن هي مفهوم زائد علي العدم حاصل بعد أن لم يكن فله قبل.و الكلام فيه كالكلام في الاول،فهناك قبليات لا أول لها تلحق موصوفا لذاته،و ذلك هو الزمان، فاذن الزمان لا اوّل له،و هو من لواحق الحركة التي هي من لواحق الجسم
ص: 60
فثبت قدم الحركة لذلك العلم،فيصير اذن تقدير المطالبة بلمية تأخره عن علة تأخره لم تأخر تأخره و حدوثه الحاصل عما اقتضي تأخره و حدوثه و قد علمت ان المطالبة انما هي بلمية تأخره،و قد قلنا انه لذلك العلم لا بلمية تأخر تأخره.
و عن الثالث:ان الترك بالنظر الي ذاته و الي القدرة امر ممكن،و انما يجب من جهة الداعي،و ذلك لا ينافي الاختيار كما سنبينه إن شاء اللّه.
(و الجواب عن الشبهة الثانية)ان المؤثرية امراضا في ثبت في العقل عند تعقل صدور الاثر عن المؤثر،و لا نسلم انها امر ثابت في الخارج، و تقسيمها بالمحدث و القديم من عوارض وجودها في الخارج،و دليلكم ان دل فانما يدل علي كون مفهومها مفهوما ثبوتيا،و هو اعم من الثبوتي في الخارج لا علي كونها ثابتة في الخارج.
فان قلت:المعقول من المؤثرية ان لم يكن يطابق الخارج كان جهلا،و ان طابق صدق التقسيم بالمحدث و القديم.و أيضا فان المؤثرية صفة للمؤثر حاصلة قبل الاذهان،و صفة الشيء يستحيل قيامها بغيره.
فجواب الاول:ان عدم مطابقته للخارج لا يقتضي كونه جهلا،و انما يقتضي ذلك لو حكم بثبوته في الخارج،مع انه ليس كذلك بل اذا حكم بثبوته في العقل فمطابقته بثبوته في العقل دون الخارج.
و جواب الثاني:ان الحاصل قبل الاذهان هو الشيء الّذي بحيث لو عقله عاقل حصل في عقله اضافة لذلك الشيء الي غيره،لا الّذي يحصل في العقل، فان ذلك يستحيل ان يوجد قبل وجود العقل.
(و عن الشبهة الثالثة)ان القبلية انما تستلزم وجود الزمان اذا ثبت انها امر
ص: 61
موجود في الخارج.و بيان هذا المنع من وجوه:
(الاول) انها نسبة،و النسب لا وجود لها في الاعيان كما بيناه.
(الثاني) انها صفة للعدم في قولنا«عدم المحدث قبل وجوده»،و صفة العدم يستحيل أن تكون موجودة في الخارج.
(الثالث) ان الزمان ممكن لذاته،فيمكن اعتبار العدم لذاته بعد وجوده، فلو كان اعتبار القبلية و البعدية مستلزما لاعتبار وجوده لما أمكن اعتبار العدم لذاته بعد وجوده،لكن التالي باطل فالمقدم كذلك.بيان الملازمة:ان اعتبار بعدية عدمه لوجوده يستلزم اعتبار وجوده،فوجب ان لا يصدق اعتبار عدمه.و اما بطلان التالي فلانه ممكن لذاته.
(و عن الشبهة الرابعة)متي لا يجوز ترك الاحسان اذا تمت شرائط وجوده او اذا لم يتم الاول مسلم و الثاني ممنوع،فلعل شرطا من شرائطه كان مفقودا في الازل،فتخلف لتخلفه كما ذكرناه في الحكمة التي اشتمل عليها حدوث العالم.
(و عن الشبهة الخامسة)لا نسلم ان الامكان صفة وجودية،و الفرق بين عدم الامكان و كون الامكان معني عدميا ظاهر.سلمناه لكنه معارض بما انه لو كان ثابتا لاستلزم وجود الهيولي المستلزم لنفي الجوهر الفرد.لكن الجوهر الفرد ثابت كما بيناه،فالقول بالهيولي باطل،فالقول بكون الامكان امرا وجوديا باطل و باللّه التوفيق.
ص: 62
و فيها اركان:
انه اما ان يستدل علي ذلك بالامكان او بالحدوث،فههنا طريقان:
و تقريره:ان صانع العالم ان كان واجبا لذاته فهو المطلوب،و ان كان ممكنا لذاته افتقر الي مؤثر،فمؤثره اما نفسه و هو باطل لوجوب تقدم المؤثر باعتبار ما علي اثره بالضرورة،و امتناع تقدم الشيء بوجه علي نفسه أو غيره،فاما علي سبيل الدور و هو باطل وجوب تقدم كل منهما علي اثره،فيلزم تقدمه علي نفسه
ص: 63
أو علي سبيل التسلسل و هو أيضا باطل،لان مجموع تلك الامور الممكنة يمكن لافتقاره الي كل واحد من اجزائه الممكنة،فيفتقر اذن الي مؤثر،فمؤثره التام اما نفسه او امر داخل فيه او أمر خارج عنه او ما يتركب عن الاخيرين، و الاول لا مدخل له في التأثير فيه لوجوب تقدم العلة او جزئها بوجه ما علي المعلول و امتناع تقدم الشيء علي نفسه.و الثاني باطل لان المؤثر التام في المجموع لا بدّ و أن يكون مؤثرا في كل واحد من آحاده و الا لكان مؤثرا اما في بعضها فقط فلا يكون مؤثرا تاما في المجموع و قد فرض كذلك هذا خلف، او لا في شيء منها فلا يكون له فيه تأثير اصلا.و اذا كان كذلك فلو كان المؤثر في المجموع امرا داخلا فيه لزم أن يكون ذلك المؤثر علة لنفسه،و هو باطل لما مر.
و الثالث و الرابع يستلزمان المطلوب،لان الخارج عن كل الممكنات سواء كان تمام المؤثر لايجاد مجموعها او جزء المؤثر لا يكون الا واجب الوجود لذاته،فهذا هو التقدير التام لهذا الطريق.
و اعلم ان هذه الحجة مع تلخيصنا لها لا تتم،و ذلك أنا لا نسلم ان العلة للمركب لا بد أن تكون علة أولا لاجزائه،اما العلة الناقصة فظاهر انها لا تستلزم المركب فضلا أن تكون علة لاجزائه،و اما العلة التامة له فلا نسلم انها علة تامة لاجزائه.
قوله«لانها ان لم تكن مؤثرة في جميع اجزائه بل في بعضها لا يكون مؤثرا تاما في المجموع»قلنا:لا نسلم،فان ذلك مبني علي كون المؤثر التام في المجموع مؤثرا تاما في كل واحد من أجزائه،و هو اوّل المسألة.
سلمناه،لكن قوله«اذا لم يكن مؤثرا في شيء من اجزاء المجموع لا يكون
ص: 64
له فيه تأثير اصلا».قلنا لا نسلم،و انما يلزم ذلك ان لو كان المجموع عبارة عن كل واحد من آحاده،و هو ظاهر الفساد،بل نقول من رأس لا يجوز أن تكون العلة التامة للمجموع علة تامة لشيء من اجزائه،و ذلك ان العلة التامة للشيء هي جملة الامور التي يتوقف عليها تحقق ذلك الشيء،و من جملة ما يتوقف عليه الشيء كل واحد واحد من اجزائه،فكان تحقق علته التامة موقوفا علي تحقق كل واحد واحد من اجزائه،و لا شيء من علل اجزائه بمتوقف علي كل واحد من اجزائه و الا لتوقف علي معلولها الّذي هو احد اجزائه لكنه متوقف عليها، فيلزم الدور.
فقد ظهر بهذا التقرير فساد هذه المقدمة،و هي أن علة المركب لا بدّ و ان تكون علة أولا لاجزائه مع كونها مشهورة بين جمهور العلماء،و البرهان المذكور علي فسادها مما خطر للضعيف مؤلف هذا المختصر.
و المعتمد في هذه المسألة ما رتبه أيضا من البرهان فقال:لو لم يكن في الوجود موجود واجب الوجود لذاته تنتهي به سلسلة الممكنات الموجودة لكانت الموجودات بآحادها و مجموعها ممكنا،لكن التالي باطل فالمقدم كذلك اما الملازمة فظاهرة،و اما بطلان التالي فلانه لو كان كذلك لكان لمجموعها علة تامة،و كل علة تامة يجب ان يعتبر في تحققها جميع الامور المعتبرة في تحقق ماهية معلولها علي ما سبق مجموع الممكنات الموجودة اجزاء من علته التامة او شرائط في وجودها.لكن تلك العلة ممكنة لتركبها و موجودة،فلها علة تامة موجودة شأنها كذلك،لكن ذلك محال لان تلك العلة لما كانت ممكنة كانت من جملة آحاد الممكنات،فكانت معتبرة في تحقق معلولها-اعني العلة التامة لمجموع الممكنات.
ص: 65
و قد بينا ان كل واحد من اجزاء المعلول معتبر في تحقق علته التامة،فيلزم أن يكون تلك العلة التامة معتبرة في تحقق نفسها لكونها جزءا من معلولها، فيكون اما جزءا لنفسها و انه محال.
و اعترض الامام نجم الدين القزويني ادام اللّه سعادته علي هذا البرهان، فقال:
أما من طريق الجدل فنقول:لو صح ما ذكرتم لزم أن يكون الواجب لذاته موجودا،و الا لكان المجموع الحاصل منه و من جميع الممكنات ممكنا لافتقاره الي اجزائه،فله علة تامة موجودة مركبة الي آخر ما ذكرتم.
و أما من طريق الحل فنقول:لا نسلم ان كل جزء من اجزاء المعلول جزء من علته التامة،و انما يلزم ذلك أن لو لم يكن ذلك الجزء هو الجزء الّذي انما صارت العلة علة تامة للمعلول لكونها علة لذلك فقط،و أما اذا كان ذلك الجزء الّذي شأنه ذلك فلا،و اذا جاز ذلك فيجوز أن تكون العلة التامة لمجموع الممكنات علة للهيئة الاجتماعية فقط التي هي الجزء الصوري.فتلك الهيئة تكون متأخرة عن تحقق العلة التامة للمجموع تأخر المعلول عن علته التامة، و استحال أن تكون جزءا منها و الا لتقدمت علتها و تأخرت عنها معا،و انه محال بالضرورة.
اجاب ملخص البرهان عن المعارضة:بأنا لا نسلم الملازمة،فان حاصل ما ذكرتموه من المتصلة أنه لو كان واجب الوجود موجودا لكان المجموع الحاصل منه و من غيره ممكنا.و معلوم انه ليس ذلك الامكان و لا المجموع الملزوم له بلازم لوجود واجب الوجود،و إلا لزم من وجود الجزء وجود الكل،او كون واجب الوجود ممكنا،و كلاهما محال،و ذلك بخلاف ما ذكرناه من
ص: 66
المتصلة في البرهان،فان حاصلها يعود الي استلزام عدم واجب الوجود،لكون الموجودات بأسرها ممكنة و هو ضروري و ظهر الفرق.
و عن المدعي حلا أن نقول:قوله«لا نسلم ان كل جزء من اجزاء المعلول جزء من علته التامة»قلنا:قد دللنا عليه.
قوله«و انما يلزم ذلك»الي آخره.قلنا:هذا مبني علي أن العلة التامة لوجود المركب يجوز أن يكون نفسها علة تامة لوجود جزء من اجزائه،و قد برهنا علي أنه لا يجوز ذلك،فليس انما تصير العلة علة تامة له اذا كانت علة تامة لبعض اجزائه،بل لا يجوز أن تكون علة تامة لبعض اجزائه من حيث هي علة تامة لوجوده كما بينا.و باللّه التوفيق.
و اعلم ان هذا الامام لما وقف علي هذين الجوابين اعترف بصحتهما و سقوط الاعتراض علي البرهان المذكور.
و تقريره:ان العالم محدث،و كل محدث فله محدث.
اما المقدمة الاولي فقد تقدم بيانها،و اما الثانية فلان كل محدث ممكن و كل ممكن فله مؤثر.
بيان الاولي:ان المحدث هو الّذي وجد بعد العدم،فكانت ماهيته قابلة للوجود و العدم،و هو المراد بالممكن.و اما الثانية فقد سيق تقريرها،و أما بيان ان ذلك المؤثر المحدث يجب أن يكون واجب الوجود لذاته فيعود الي الطريق الاول.
و زعم بعض المتكلمين ان المقدمة الثانية من هذا الدليل-و هي قولنا كل
ص: 67
محدث مفتقر الي المؤثر-بديهية من غير نظر الي كون المحدث ممكنا.
و هو باطل،لانه بناء منهم علي كون الحدوث هو العلة المحوجة الي المؤثر، و قد سبق منا بيان ان الحدوث لا يصلح أن يكون علة الحاجة و لا جزء منها و لا شرطا لها،فاذن انما تكون بديهية باعتبار الامكان للحادث.و باللّه التوفيق.
و فيه ابحاث:
ماهية اللّه تعالي مخالفة لسائر الماهيات لعين ذاتها المخصوصة،خلافا لابي هاشم و اتباعه،فانه زعم ان الذوات كلها متساوية في الذاتية و متخالفة بأحوال هي عليها.
لنا وجهان:
(الاول) ان ماهيته تعالي نفس وجوده،و لا شيء من ماهيات الممكنات كذلك،فماهية اللّه تعالي غير مشاركة لشيء من ماهيات الممكنات في حقيقتها.
و مقدمتا هذا الدليل قد سبق تقريرهما.
(الثاني) لو كانت ماهيته مساوية لشيء من ماهيات الممكنات لكان اختصاصها بما لاجله صار مؤثرا في وجود العالم ان كان لامر فاما لذاته او للازمها،فيلزم اتصاف سائر الماهيات بصفات الالهية،لوجوب اشتراك متماثلي الذات في جميع مقتضياتها ضرورة،و اما لغيره فيكون واجب الوجود محتاجا في تحقق
ص: 68
صفات الالهية الي غير خارجي عنه،فكان في صفاته ممكنا معلولا للغير،هذا خلف.و ان كان لا لامر لزم الترجيح بلا مرجح و هو محال.
و يدل عليه وجوه:
(الاول) لو كان متحيزا لم ينفك عن الاكوان الحادثة فيلزم كونه محدثا علي ما مر،و كل محدث ممكن فالواجب ممكن.هذا خلف.
(الثاني) لو كان متحيزا لكان مفتقرا الي حيز،و اللازم باطل فالملزوم كذلك.
اما الملازمة:فلان المتحيز متعلق الاشارة الحسية بأنه هنا او هناك،فكان مستلزما للحاجة الي الجهة و الحيز ضرورة.و اما بطلان اللازم:فلانه لو كان كذلك لكان قيامه في الوجود موقوفا علي وجود الحيز الممكن الحادث، و الموقوف علي وجود الممكن ممكن بذاته،فالواجب لذاته ممكن لذاته.
هذا خلف.
(الثالث) لو كان جسما لكان مركبا،و اللازم باطل فالملزوم مثله.اما الملازمة فظاهرة،و أما بطلان اللازم فلانه لو كان مركبا لكان ممكنا علي ما مر في خواص الواجب لذاته.هذا خلف.
(الرابع) لو كان جسما لكان مساويا لسائر الاجسام في الحقيقة،و حينئذ فاختصاص ذاته بصفات الالهية ان كان لذاته أو لشيء من لوازمها وجب أن يكون كل جسم موصوفا بها و هو محال،و ان كان لامر خارج عن ذاته عارض لها كان مفتقرا في تحقيق صفاته الي غير خارجي،فكان ممكنا بالذات علي ما مر.
هذا خلف.
ص: 69
الجوهر يقال في عرف العلماء بالاشتراك اللفظي علي معان:
احدها حقيقة الشيء و ذاته.
الثاني الموجود الغني عن المحل.
الثالث الشيء الّذي اذا وجد في الاعيان كان لا في موضوع.
الرابع القابل للصفة.
الخامس ما يكون موردا للصفات المتعاقبة.
و الجوهر بالمعني الاول و الثاني صادق علي اللّه تعالي،اذله حقيقة غنية في الوجود عن المحل،و غير صادق عليه بالمعني الثالث،اذ وجوده نفس حقيقته لا غيرها،و لا بالمعني الرابع و الخامس لما سنبين انه ليس له صفة تزيد علي ذاته فيقبلها ذاته و تكون معروضة لها.
لكن لما كانت اسماء اللّه تعالي توقيفية و لم يرد اذن من الشارع في اطلاق هذا اللفظ عليه،لم يكن اطلاقه في حقه مطلقا:أما بالاعتبارين الاولين فمن جهة اللفظ فقط،و أما بالاعتبارات الباقية فمن جهة اللفظ و المعني معا.
انه تعالي ليس في مكان و لا جهة و لا حيز،خلافا للكرامية،فانهم اتفقوا علي أنه تعالي في جهة:ثم زعمت الهيصمية أنه فوق العرش في جهة لا نهاية لها و بينه و بين العرش بعد غير متناه،و زعمت العابدية ان بينهما بعدا متناهيا، و قال بعض الهيصمية انه علي العرش كما ذهب إليه سائر المجسمة.
ص: 70
لنا وجوه:
(الاول) انه لو كان في مكان لم يخل عن الاكوان الحادثة،و اللازم باطل فالملزوم كذلك.
اما الملازمة:فلان كونه في المكان ان كان أول كون له فهو كون الحدوث او كونا ثانيا اما في ذلك المكان و هو السكون أو في غيره و هو الحركة.و علي التقديرات فهي حادثة و لا خلو للكائن عنها لما مر.
و اما بطلان اللازم،فلانه لو لم يخل عن الأكوان الحادثة لكان حادثا علي ما مر أيضا،و كل حادث ممكن فالواجب ممكن.هذا خلف.
(الثاني) لو كان في مكان أو جهة او حيز لاستحال قيامه في الوجود بدونه، و اللازم باطل فالملزوم كذلك.
بيان الملازمة:ان كل ما كان في الحيز أو المكان فانه لا ينفك عن مقدار و شكل،و كل ما كان كذلك استحال استغناؤه في الوجود عن الحيز و المكان، و المقدمتان جليتان.
بيان بطلان اللازم:ان لو كان كذلك لكان قيامه في الوجود موقوفا علي وجود الغير و كان مفتقرا في وجوده الي الغير.هذا خلف.
(الثالث) انه ثبت في علم الهيئة و المجسطي ان السماوات و الارض كرية، و اذا كانت كذلك كانت الجهة التي فوق رأس من كان ببلاد المشرق بعينها أسفل لمن كان ببلاد المغرب و بالعكس،فلو كان سبحانه في جهة فوق لكان كونه فوقا لقوم مستلزما لكونه اسفل لقوم آخرين،و ذلك مما يأباه الخصم و ينكره.
احتج الخصم بالمعقول و المنقول:
اما المعقول فهو أنه تعالي لا بد و ان يكون في حيز وجهة،و كل حيز وجهة
ص: 71
له فهي جهة فوق.
أما المقدمة الاولي فلانه تعالي موجود،و كل موجود فاما ان يكون ساريا في غيره كالعرض في الجوهر أو مباينا له بالجهة.و العلم بهذا الحصر ضروري، فالباري تعالي اما سار في غيره كالعرض في الجوهر أو مباين لغيره بالجهة، و الاول ظاهر البطلان فتعين الثاني،فكان ذا جهة.
و اما الثانية فلوجهين:احدهما ان جهة فوق اشرف الجهات و الباري تعالي أشرف الموجودات فيختص بها للمناسبة العقلية.الثاني ان الخلق بمجرد طباعهم و قلوبهم السليمة يرفعون أيديهم الي جهة فوق عند الدعاء و التضرع،و ذلك يدل علي شهادة فطرتهم بأن معبودهم في جهة فوق.
و اما المنقول فهو الآيات الموهمة لاثبات الجهة كقوله تعالي اَلرَّحْمنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوي (1) (2)و قوله هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ (3) (4)و قوله يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ (5) (6).
(و جواب الشبهة الاولي)منع الحصر في قوله«كل موجود فاما أن يكون ساريا في غيره كالعرض في الجوهر او مباينا له بالجهة»،و ظاهر أن هاهنا قسما ثالثا في العقل،و هو ما لا يكون ساريا في غيره و لا مباينا له بالجهة،فلم لا يجوز أن يكون الباري تعالي من هذا القسم.و دعوي الضرورة في الحصر في القسمين مقابل بمثله في عدم الحصر فيهما.
و قوله في المقدمة الثانية«اشرف الجهات جهة فوق»ساقط من وجهين:0.
ص: 72
احدهما ان هذه مقدمة خطابية لا تكفي في اثبات المطالب العلمية.الثاني انا بينا ان فوقية الجهة اضافية،فانها و ان كانت فوقا للبعض فهي تحت بالنسبة الي بعض آخرين،فلا تكون مستلزمة للشرف المطلق.
و اما الاستدلال برفع الايدي في الدعاء،فان دل علي كون المعبود في جهة فوق فليدل وضع الجبهة علي الارض علي كونه في جهة تحت،و اللازم باطل فالملزوم مثله و الملازمة ظاهرة.
و اما الجواب عن الظواهر النقلية فهو أن العقل و النقل اذا تعارضا فاما أن نعمل بهما معا و هو جمع بين النقيضين،او نطرحهما معا و هو خلو عن النقيضين، او نرجح النقل علي العقل و هو باطل،لان النقل فرع علي العقل،فلو كذبنا العقل لتصحيح النقل لزم تكذيب العقل و النقل معا،فتعين ترجيح العقل علي النقل ثم تأويل النقل او تفويض علمه الي اللّه تعالي.
اذا عرفت ذلك فنقول:الدليل العقلي قد دل علي امتناع الجسمية و الجهة علي اللّه تعالي و الظواهر النقلية المذكورة و نحوها مشعرة بثبوتها له،فيجب تأويلها او تفويضها.و من اراد الاستقصاء في تأويلها و ضبطها فعليه بكتاب تأسيس التقديس للامام فخر الدين الرازي رحمه اللّه.
في انه تعالي لا يحل في شيء،خلافا للنصاري و بعض المتصوفة.
لنا:ان المعقول من الحلول قيام موجود بموجود علي سبيل التبعية بحيث لا يتعين الحال الا بتوسط تعيين محله،فان أريد بحلوله تعالي في غيره هذا المعني فهو باطل،لان واجب الوجود لو كان تعينه بواسطة غيره لكان معلولا لذلك الغير فكان ممكنا هذا خلف،و ان اريد به معني آخر فلا بد من بيانه
ص: 73
لننظر هل يصح اثباته للّه تعالي أم لا.
في انه تعالي لا يتحد بغيره،خلافا للنصاري و بعض الحكماء السابقين و بعض المتصوفة.
لنا:ان المراد من الاتحاد ان كان هو صيرورة الشيئين شيئا واحدا كما هو المفهوم من لفظه فهو باطل،لان المتحدين ان بقيا موجودين فلا اتحاد،و ان عدما معا فالموجود غيرهما فلا اتحاد أيضا،و ان عدم احدهما دون الاخر فلا اتحاد،اذ المعدوم لا يتحد بالموجود.و ان كان المراد به معني آخر فلا بد من افادة تصوره لننظر فيه.
لا يجوز قيام الحوادث بذاته تعالي،خلافا للكرامية.
لنا:لوحل في ذاته شيء من الحوادث لانفعلت ذاته عن ذلك الشيء،و اللازم باطل فالملزوم مثله.
اما الملازمة:فلان حلول الشيء في الشيء مشروط بقبوله له و امكان قبوله المستلزمين لانفعاله و تأثره عنه.
و اما بطلان اللازم:فلان الانفعال مستلزم للغير المستلزم للامكان،فلو انفعلت ذاته عن شيء لكان ممكنا.
ص: 74
اتفق المسلمون علي عدم اطلاق هذين اللفظين عليه تعالي:
اما أولا:فلامتناع معناهما عليه،اذ كان المرجع عندهم بالالم الي الحالة الحاصلة عن تغير المزاج الي الفساد،و باللذة الي الحالة الحاصلة عن تغير المزاج الي الاعتدال،سواء كانت الحالتان غنيتين عن التعريف كما عليه بعض المتكلمين او أنهما عبارتان عن ادراك متعلق الشهوة كما عليه جمهور المعتزلة.و اذ الباري تعالي تنزه عن المزاج فهو منزه عن توابعه و عوارضه.
و أما ثانيا:فلعدم الاذن الشرعي في اطلاق احد هذين اللفظين عليه.
و أما الفلاسفة فانهم لما فسروا الالم بأنه ادراك المنافي و لم يكن لذاته مناف لم يصدق ادراك المنافي عليه فلم يصدق عليه الالم،و لما فسروا اللذة بأنها ادراك الملائم اطلقوا عليه لفظ اللذة و عنوا بها علمه بكمال ذاته.
فلا نزاع معهم اذن في المعني،اذ لكل احد أن يفسر لفظه بما شاء،لكنا ننازع في اطلاق هذا اللفظ عليه لعدم الاذن الشرعي.
حقيقة اللّه تعالي غير معلومة لغيره بالكنه،خلافا لجمهور المعتزلة و الاشعري.
لنا:انها غير معلومة بالبديهة و هو بديهي و لا بالنظر،لان تعريف الشيء اما ان يكون بنفسه و هو باطل مطلقا كما علمت،أو بما يكون داخلا فيه،أو بما يكون خارجا عنه،او بما يتركب عنهما.
ص: 75
و الاول و الثالث في حق الواجب لذاته محال،اذ لا جزء له،و الثاني هو التعريف بالاسم أو بالرسم الناقص،و قد علمت ان التعريف بالاسم أو الصفة أنما يفيد تصور أمر ما له ذلك الاسم او تلك الصفة،فأما حقيقة ذلك الشيء مما لا يفيد الاسم أو الصفة،فاذن شيء من اسماء اللّه تعالي و صفاته التي تعتبرها اذهاننا له لا يوجب تصور حقيقته بالكنه.
احتج الخصم:بأن حقيقة اللّه تعالي عين وجوده،و وجوده معلوم،فحقيقته معلومة.و المقدمتان قد سبق بيانهما.
جوابه:ان الاوسط في هذه الحجة غير متحد في المقدمتين،فان وجوده الّذي هو عين حقيقته هو وجوده الخارجي الخاص و وجوده المعلوم هو المحمول عليه و علي غيره بالتشكيك كما سبق بيانه،و حينئذ لا تتمّ الحجة.
انه تعالي ليس بمرئي بحاسة البصر،خلافا للاشعرية.
لنا:المعقول و المنقول:
اما المعقول:فمن وجهين:
(احدهما) ان المراد بلفظ الرؤية:اما حقيقتها-اعني الادراك بحس البصر- و هو غير صادق عليه تعالي،لان ذلك الادراك مستلزم لاثبات الجهة له تعالي بالضرورة،سواء كان بحصول الشبح في العين المسمي بالانطباع او بخروج خارج منها يتصل بسطح المرئي كما يقال من خروج الشعاع أو علي وجه آخر ان امكن،لكن اثبات الجهة له تعالي محال،فالقول برؤيته علي الحقيقة محال و أما مجازها-كما يقال مثلا انه الكشف التام للعقل او نحوه مما لا يكون بآلة
ص: 76
حس البصر-فذلك غير محل النزاع.
(الثاني) ان الباري تعالي ليس بمقابل المرائي و لا في حكم المقابل له، و كل مرئي بحس البصر فانه يجب أن يكون مقابلا للرائي او في حكم المقابل ينتج ان الباري تعالي ليس بمرئي بحس البصر:اما المقدمة الاولي فلان المقابلة او ما في حكمها كالوجه في المرآة و نحوها انما تصح من الجسم ذي الجهة او ما يقوم به،و قد علمت تنزهه تعالي عن الجسمية و الجهة و لواحقهما.و اما الثانية فضرورية.
و اما المنقول فمن وجهين:
احدهما قوله تعالي لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ (1) (2)وجه الاستدلال ان سلب الادراك البصري من صفات الجلال و التنزيه للّه تعالي،و كل ما كان سلبه من صفات الجلال و التنزيه للّه كان ثبوته لشخص ما في وقت ما نقصا في حق اللّه تعالي، ينتج ان ثبوت الادراك البصري نقص في حق اللّه تعالي.
اما المقدمة الاولي:فلان مقتضي الآية التمدح بسلب الادراك البصري عنه، لانها في معرض المدح،و اما الثانية فبينة بنفسها،و حينئذ تبين ان القضية سالبة كلية دائمة.
الثاني قوله تعالي لموسي عليه السلام لَنْ تَرانِي (3) (4)وجه الاستدلال ان كلمة«لن»تفيد نفي الابد باجماع اهل اللغة،فلو كان اللّه تعالي ممكن الرؤية بحاسة البصر لكانت الأنبياء عليهم السلام أولي الناس برؤيته،لكن موسي عليه السلام لا يراه فغيره كذلك لعدم الفرق،فليس تعالي مرئيا بحس البصر.3.
ص: 77
لا يقال كلمة«لن»تفيد التأبيد،بدليل قوله تعالي في حق أهل الكتاب وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ (1) (2)مع انقطاع ذلك بقولهم في النار يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ (3) (4).
لانا نقول:انه مجاز،بدليل سبق الذهن عند اطلاق هذه اللفظة الي التأبيد دون عدمه،و المجاز و ان كان خلاف الاصل الا انه خير من الاشتراك،كما علم ذلك في اصول الفقه.
اما الخصم فربما فسر مراده بالرؤية أولا ثم استدل علي ثبوتها في حقه ثانيا.
اما الاول فقال فخر الدين الرازي رحمه اللّه:مرادنا بأنه تعالي هل يصح أن يري أنه هل يصح ان يحصل لنا حالة من المكاشفة يكون نسبتها الي ذاته تعالي نسبة الابصار و الرؤية الي هذه المرئيات أم لا.ثم نبه علي تلك الحالة فقال:لا شك انا اذا علمنا شيئا ثم رأيناه فانا ندرك تفرقة بين الحالتين،فالحالة الحاصلة المفيدة للتفرقة غير عائدة الي ارتسام الشبح في العين و لا الي خروج الشعاع منها،فهي عائدة الي حالة اخري نحن نسميها بالرؤية و ندعي تعلقها بذات اللّه تعالي.
و اما الثاني فقد احتجوا بالمعقول و المنقول:
اما المعقول هو أن الجوهر و العرض اشتركا في صحة الرؤية،و لا بد لتلك الصحة من علة مشتركة،و لا مشترك بينهما الا الوجود و الحدوث،لكن الحدوث لا يصلح للعلية لانه عبارة عن وجود حاصل و عدم سابق و العدم يمتنع أن يكون7.
ص: 78
علة أو جزءا من العلة فبقي الوجود،و الباري تعالي موجود فوجب أن تصح رؤيته.
و اما المنقول فمن وجوه:
(الاول) قوله تعالي حكاية عن موسي عليه السلام رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ (1) (2)وجه الاستدلال:لو كانت الرؤية ممتنعة عليه تعالي لما سألها موسي،لكنه سألها فلا تمتنع.
بيان الملازمة:انه لو سألها علي تقدير كونها ممتنعة علي اللّه تعالي لكان بعض حثالة المعتزلة اعلم من موسي عليه السلام بما يجوز علي اللّه و ما لا يجوز و هو ظاهر البطلان.و اما انه سألها فلانه سأل النظر إليه،و ليس المراد من النظر هاهنا تقليب الحدقة،لان ذلك انما يكون نحو ذي الجهة،فلو سأله موسي لكان قد اثبت للّه جهة،تعالي اللّه عن ذلك.فكان جاهلا به فوجب حمله علي الرؤية اطلاقا لاسم السبب علي المسبب.
(الثاني) قوله تعالي اُنْظُرْ إِلَي الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي (3) (4)وجه الاستدلال:انه علق الرؤية علي امر ممكن،و كل معلق الوجود علي أمر ممكن فهو ممكن،فالرؤية ممكنة.
بيان الاول انه علقها علي استقرار الجبل و هو أمر ممكن،و اما الثانية فظاهرة.
(الثالث) قوله تعالي وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلي رَبِّها ناظِرَةٌ (5) (6)وجه الاستدلال3.
ص: 79
ان النظر اما ان يحمل علي حقيقته و هو توجيه القوة الباصرة نحو المرئي،او علي مجازه و هو اما الانتظار او الرؤية،و الاول باطل لان ذلك انما يصح في حق ذي الجهة و اللّه تعالي منزه عنها،و الثاني أيضا باطل لان النظر هنا مقرون بحرف الي و بالوجوه،لان الانتظار يكون سببا للغم و الآية مسوقة لبيان النعمة،و ذلك مانع من حمله علي الانتظار،فتعين حمله علي الرؤية اطلاقا لاسم السبب علي المسبب.
و الجواب اما عن تفسيرهم فنقول:ان سلمنا ان الحالة المفيدة للتفرقة غير عائدة الي الانطباع أو الي خروج الشعاع لكن لم لا يجوز ان تكون عبارة عما حصل للنفس من زيادة اليقين علي العلم الاول،و ذلك ان العلم مقول بالتشكيك لكن ذلك مشروط بالانطباع او اتصال الشعاع بسطح المرئي الممتنعين في حق اللّه تعالي.
و عن معقولهم:لا نسلم ان صحة الرؤية تستدعي علة مشتركة،و لم لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين.سلمناه لكن لم قلتم انه لا مشترك بين الجوهر و العرض الا الحدوث او الوجود.
ثم انا نتبرع بذكر مشترك آخر و هو الامكان،و هو و ان كان امرا اعتباريا الا ان صحة الرؤية أيضا اعتبارية،و تعليل بعض الاعتبارات ببعضها جائز.سلمناه لكن لم قلتم ان الحدوث لا يصلح للعلية.
قوله«لان العدم لا يكون جزء العلة»قلنا ليس جزء مفهوم الحدوث هو العدم بل كون الوجود مسبوقا به،و هو امر اعتباري،فلا يمتنع ان يكون جزءا من علة صحة الرؤية.سلمناه،لكن لم قلتم انه اذا كان الوجود في الجوهر و العرض علة لصحة الرؤية وجب في الباري كذلك.و بيانه:ان وجود الباري
ص: 80
نفس حقيقته و وجود الممكنات زائد علي ماهياتها كما علمت فتخالفا،و المختلفان لا يجب اشتراكهما في الاحكام.
و عن منقولهم:
(اما عن الاول) فلا نسلم ان موسي عليه السلام سأل الرؤية لنفسه،و لم لا يجوز ان يكون سؤالها عن لسان قومه حيث قالوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً (1) (2)لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّي نَرَي اللّهَ جَهْرَةً (3) (4).
و مما يؤيد هذا الاحتمال ما روي انهم لما سألوا الرؤية اخبرهم بأن اللّه لا يري،فلم يقبلوا فأجابهم و سأل ليقيم عذره عندهم.
فان قلت:إضافة السؤال الي نفسه و مطابقة الجواب بمنعه مما يشهد أن السؤال كان لنفسه.
قلت:يحتمل تلك الاضافة وجهين:احدهما ما روي انه عليه السلام لما اجابهم الي سؤالهم قالوا لا تسأله لنا بل لنفسك ليكون أقرب الي الاجابة،فاذا رأيته رأيناه نحن.الثاني لعل اضافته الي نفسه لغرض انه اذا منع هو من الاجابة كان ذلك أحسم لمادة سؤالهم للرؤية.
(و عن الثاني) لا نسلم انه علق الرؤية علي امر ممكن،قوله«علقها علي استقرار الجبل و هو ممكن»قلنا:متي هو ممكن حال النظر الي ذاته أو حال النظر إليه و تجلي الرب له،الاول مسلم لكن لا نسلم ان الرؤية معلقة عليه بذلك الاعتبار،و الثاني:لا ينفعكم اذ الجبل في تلك الحال متحرك و الا لما صار دكا و الاستقرار في حال الحركة ممتنع لامتناع اجتماع الحركة و السكون،فكانت5.
ص: 81
الرؤية معلقة علي امر ممتنع،فكانت ممتنعة.
(و عن الثالث) لم لا يجوز ان يحمل النظر هنا علي حقيقته و يكون«الي» لا حرف جر بل اسما لواحد الآلاء و هو النعمة أي ناظرة نعمة ربها.
سلمناه لكن لم لا يجوز أن يكون الي واحد الآلاء و يكون النظر هنا بمعني الانتظار،و قرينة الوجوه لا يمنع من ذلك.قوله«لان الانتظار يكون سببا للغم» قلنا:لا نسلم ان كل انتظار كذلك،بل انتظار الخير سبب الفرح و السرور و هاهنا كذلك.
سلمناه،لكن لم لا يجوز ان يحمل النظر علي حقيقته،و يكون في الآية اضمار تقديره الي ثواب ربها و جزائه ناظرة،و الاضمار و ان كان خلاف الاصل الا ان المجاز خلاف الاصل أيضا،و قد ثبت في اصول الفقه انهما في درجة واحدة و عليكم الترجيح.و باللّه التوفيق و العصمة.
و فيه ابحاث:
اختلف الناس في معني كونه تعالي قادرا،فذهب الاقدمون من مشايخ المعتزلة الي ان ذلك عبارة عن كونه علي صفة لاجلها يصح منه الفعل،و ذهب بعض متأخريهم و منهم العجالي الي ان ذلك عبارة عن حقيقته المتميزة التي تفعل بحسب الدواعي المختلفة،و قال آخرون انه عبارة عن كونه بحيث اذا شاء فعل
ص: 82
و اذا شاء لم يفعل.
و الاصح انه عبارة عن كونه بحيث اذا شاء فعل و اذا شاء لم يفعل،و بين هذا المفهوم و الّذي قبله فرق يدق فليتنبه له،فربما لا يحتمل شرحه هذا المختصر.
و الفرق بينه و بين الموجب كالشمس في الاشراق و النار في الاحراق امران:
احدهما ان القادر عالم بأثره و الموجب ليس كذلك،الثاني انه يصح منه مع وجوده أن لا يفعل باعتبار ذاته و لا كذلك الموجب فانه يمتنع منه ان لا يفعل.
اذا عرفت ذلك فنقول:مذهبنا أنه تعالي قادر.برهانه:انه يصح منه أن لا يفعل اذا لم يشأ و يصح منه ان يفعل اذا شاء،و كل من كان كذلك كان قادرا مختارا.
اما المقدمة الاولي:فلانا لما بينا ان العالم محدث فقبل وجود العالم لم يدعه الداعي الي ايجاده فلم يوجده،و دعاه الداعي الي ايجاده فيما لا يزال فأوجده،فوقوع الترك منه ازلا لعدم الداعي الي ايجاده.ثم وقوع الفعل عنه لتعلق الداعي به مستلزم لصحتها عنه تعالي.
و اما الثانية:فلانا لا نعني بالمختار الا من صح منه الفعل و عدمه بحسب المشية و عدمها.
فان قيل:لا نسلم ان الفعل و الترك ممكنان بالنسبة إليه.و بيانه من وجوه:
(الاول) انه ان استجمع جميع ما لا بدّ منه في المؤثرية وجب عنه الفعل، و ان لم يستجمع امتنع منه،و الوجوب و الامتناع في الفعل ينافيان صحته.
(الثاني) ان الممكنة من الطرفين اما ان تحصل حال حصول احدهما أو قبل ذلك،و الاول باطل،لان الحاصل منهما حال حصوله واجب و نقيضه محال، و الثاني أيضا باطل،لان شرط الحصول في الاستقبال حصول الاستقبال الممتنع
ص: 83
الحصول في الحال،و الموقوف علي المحال محال،فحصوله يفيد كونه في الاستقبال ممتنع الحصول في الحال ممتنع و الممتنع لا يمكن.
(الثالث) ان الترك عبارة عن البقاء علي العدم الاصلي،و العدم الاصلي غير مقدور:أما أولا فلان القدرة صفة مؤثرة و العدم نفي محض فلا يعقل فيه التأثير.و أما ثانيا فلانه باق مستمر،و الباقي غني عن المؤثر.
(و الجواب عن الاول)ان الفعل و ان وجب عن الفاعل عند تمام مؤثريته الا ان ذلك الوجوب بالنظر الي الداعي لا بالنظر الي القدرة التي يستوي الطرفان بالنسبة إليها في الصحة،و حينئذ لا يكون ذلك الايجاب منافيا للاختيار كما علمت معناهما.
(و عن الثاني)ان الممكنة من الطرفين حاصلة حال حصول احدهما و قبله بالنظر الي القدرة و امكان الطرفين في ذاتيهما،سواء كان أحد الطرفين واجب الوقوع عن الداعي في الحال او ممتنع الوقوع في الحال لعدم الداعي واجب الوقوع في الاستقبال،فان شيئا من ذلك لا ينافي المكنة الحاصلة في الحال بالنظر الي القدرة و امكان الاثر في نفسه.
(و عن الثالث)هب ان مطلق العدم غير مقدور،فلم قلت ان العدم المقيد -أعني عدم الفعل المسمي بالترك-غير مقدور،لا نسلم انه نفي محض بل هو عبارة عن عدم الفعل عما من شأنه ان يفعل.
قوله«ثانيا انه باق كما كان و الباقي غني عن المؤثر»قلنا:لا نسلم ان الباقي غني عن المؤثر،و قد سبق تقريره.
(تنبيه)و اعلم ان الفلاسفة ربما ساعدونا علي أن الشرطيتين المذكورتين في الحد صادقتان علي اللّه تعالي،لكنهم يقولون انه لا يلزم من صدق الشرطية
ص: 84
صدق كل من جزئيها،فلا يلزم من صدق قولنا«انه اذا لم يشأ يصح منه ان لا يفعل»صدق انه لم يشأ حتي يلزم صحة ان لا يفعل،و حينئذ لا يمكن اثبات الممكنة من الطرفين.
الا انا لما بينا أن العالم حادث ثبت وقوع ان لا يفعل لعدم الداعي،فلزمت صحة أن لا يفعل كما اشرنا إليه.و حينئذ صدقت الشرطيتان بأجزائهما علي اللّه تعالي،و تحقق الخلاف معهم.و باللّه التوفيق.
اتفق جمهور العقلاء من المتكلمين و غيرهم علي أنه تعالي عالم،الا قوما من الفلاسفة،فان منهم من نفي عنه العلم اصلا.
لنا:ان أفعاله تعالي محكمة متقنة،و كل من كان كذلك فهو عالم،و المقدمة الاولي حسية و الثانية بديهية.
لا يقال:ان عنيت بالفعل المحكم ما يشتمل علي المصلحة من كل وجه فلا نسلم ان شيئا من مخلوقات اللّه تعالي كذلك،و هو ظاهر،لكثرة ما نشاهده في العالم من الشرور.و ان عنيت به ما يشتمل عليها من بعض الوجوه،فلا نسلم ان ذلك يدل علي علم الفاعل.ثم هو منقوض بأفعال النائم و الساهي،فانها قد تشتمل علي المصلحة من بعض الوجوه مع عدم شعور فاعله به.سلمناه،لكن لا نسلم ان الاحكام تدل علي علم الفاعل.
و مستند المنع وجوه:
(احدها) ان الجاهل قد تتفق منه الاحكام مرة،و جواز المرة منه مستلزم لجواز المرار،لان حكم الشيء حكم مثله،مع أن تلك الاحكام لا تدل علي علمه.
ص: 85
(و ثانيها) ان النحل تبني البيت البيت المسدس المشتمل علي الحكم التي لا يهتدي إليها الا المهندسون،و كذا بيت العنكبوت المشتمل علي الترتيب العجيب و الغاية منه،و كذلك باقي الحيوانات تأتي بالافعال العجيبة التي يعجز عنها كثير من الاذكياء،مع انه ليس لشيء منها علم.
سلمناه،لكنه معارض بما أن العلم ان لم يكن صفة كمال وجب تنزيه اللّه تعالي عنه،و ان كان تعالي بدون تلك الصفة ناقصا بذاته مستفيدا للكمال من غيره.
هذا محال،لانا نجيب عن الاول بأنا نعني به الترتيب العجيب كترتيب الاجرام العلوية و نضدها و التأليف اللطيف كأجزاء بدن الانسان مواقفة لمنافعه، و العلم باستلزام ذلك العلم الفاعل بديهي.
قوله«هو منقوض بأفعال النائم و الساهي»قلنا:لا نسلم كونهما غير شاعرين بما يصدر عنهما.نعم لا يكونان شاعرين بشعورهما بذلك.
(و عن الثاني)انه بديهي،و لا نسلم ان الجاهل بالشيء يصدر عنه علي وجه الاحكام،بل يكون عالما به من جهة ما هو محكم،و كذلك النحل و العنكبوت و سائر الحيوان لا نسلم انها غير شاعرة بآثارها،بل كل منها شاعر بما يصدر عنه.
(و عن الثالث)ان العلم بصفة كمال و سنبين في واجب الوجود أنها نفس ذاته،و حينئذ لا يكون مستفيدا للكمال من غيره.
و أما المنكرون لكونه تعالي عالما فانهم لما فسروا العلم بأنه حصول صورة مساوية للمعلوم في ذات العالم قالوا:لو كان تعالي عالما بغيره للزم أن يحصل له في ذاته صورة غيره،فتلك الصورة ان كانت منه كانت ذاته قابلة فاعلة لها،
ص: 86
فكانت في ذاته جهتا وجوب و امكان،و قد ثبت انه تعالي واجب من جميع جهاته هذا خلف.و ان كانت من غيره كان ناقصا بذاته مستفيدا للكمال من الغير،و لو كان عالما بذاته،مع أن العلم يقتضي اضافة ما بين العالم و المعلوم لم تعقل تلك الاضافة له الا ان يكون فيه اعتباران متغايران فيكون فيه الكثرة و قد بينا انه منزه عن الكثرة و التركيب.هذا خلف،فلهذه الشبهة نفوا عنه العلم مطلقا.
(و جوابهم)انا سنبين ان علمه تعالي نفس ذاته لا بحصول صورة مساوية للمعلوم في ذاته،و حينئذ لا يلزم كونه قابلا و فاعلا و لا كونه مستكملا بغيره، و كذلك لا يلزمه الكثرة لوجود الاضافة،اذ الاضافة امر تحدثها عقولنا عند الاعتبار.و باللّه التوفيق.
اتفق العلماء علي انه تعالي حي،الا انهم اختلفوا في معناه،فمن جوز أن يكون له صفة زائدة علي ذاته قال الحياة صفة ثبوتية،و هم جمهور المعتزلة و الاشعرية الاقدمين،و من منع من ذلك-و هو ابو الحسين البصري و من تابعه من متأخري المعتزلة-جعل ذلك اعتبارا سلبيا يلزم ذاته في العقل،و فسره بكونه لا يستحيل أن يعلم و يقدر،و هو سلب ضرورة العدم الصادق علي الواجب و الممكن،و يقرب منه اعتبار الفلاسفة بهذه الصفة في حقه تعالي.
و الحق ما ذهب إليه ابو الحسين،لما سنبين انه تعالي ليس له صفة تزيد علي ذاته.
حجة الاشعري:انه لو لا اختصاص ذاته تعالي بصفة لاجلها يصح أن يعلم
ص: 87
و يقدر لم يكن حصول هذه الصفة أولي من لا حصولها.
الجواب:انا سنبين ان علمه تعالي و قدرته نفس ذاته،و حينئذ جاز أن يكون مجرد اعتبار ذاته المخصوصة المخالفة لما عداها كافيا في استلزام اعتبار هذه الصفة،فلم قلتم أنه ليس كذلك.
اتفق المسلمون علي وصفه تعالي بكونه مريدا و كارها،لكن اختلفوا في معناهما،فالاشعرية و جمهور المعتزلة أثبتوا الإرادة و الكراهة زائدتين علي العلم في الشاهد و الغائب،و اثبتهما ابو الحسين و من تابعه زائدتين عليه في الشاهد دون الباري تعالي.و هو المختار.
و تحقيق الكلام في شرح الإرادة و الكراهة:ان الانسان اذا علم أو ظن او توهم مصلحة له في بعض الافعال فانه قد يجد من نفسه شوقا ينبعث له الي تحصيله لما يتخيل أو يعقل فيه من الملائمة له،و كذلك ان علم أو ظن فيه مفسدة فانه قد يجد من نفسه انصرافا و انقباضا عنه بحسب ما يعقل فيه من المنافاة،فذلك العلم أن الظن بالمصلحة هو مرادنا بالداعي و بالمفسدة هو مرادنا بالصارف، و ذلك الشوق و الميل الحاصل عنه هو المسمي بالارادة،و ذلك الانصراف و النفرة عنه هو المسمي بالكراهة.
أما في حق الباري تعالي فلما امتنع عليه الظن و الوهم لم يكن دواعيه و صوارفه الا علوما،و لما كان الشوق و النفرة من توابع القوي الحيوانية لم تصدق الإرادة و الكراهة بالمعني المذكور في حقه تعالي،فمعني كونه اذن مريدا هو علمه باشتمال الفعل علي المصلحة الداعية الي ايجاده،و معني كونه كارها
ص: 88
هو علمه باشتماله علي المفسدة الصارفة عن ايجاده.و هذان العلمان أخص من مطلق العلم.
اذا عرفت ذلك فنقول:كل واحد من هذين العلمين يصلح لتخصيص الفعل الممكن بحال دون حال،و كل ما يصلح لهذا التخصيص فهو المعني بالارادة و الكراهة.
اما الصغري:فلان العلم بالفعل المعين المشتمل علي المصلحة أو المفسدة المعينة مخصص و مميز له من بين سائر الافعال،و هو ظاهر.
و أما الكبري:فلان الحاجة الي اثبات الإرادة و الكراهة لتميز بعض الافعال عن بعض ليخصها الفاعل بحال دون حال،و اذا كان العلم المخصوص صالحا لذلك فلا حاجة الي اثبات ان الإرادة امر زائد.
فان قلت:هذا مبني علي تعليل أفعال اللّه برعاية المصالح،و لا نسلم انه تعالي يفعل لغرض.
قلت:سنبين انه تعالي لا يفعل الا لغرض.
احتج الخصم بأنه لا بد للفعل من مخصص،و ليس هو القدرة لاستواء الطرفين بالنسبة إليها،و لا العلم اذ قد يعلم ما لا تتعلق الإرادة و الكراهة به كالممتنع و لان العلم تابع للمعلوم و الإرادة و الكراهة متبوعتان للمراد و المكروه.و ظاهر ان السمع و البصر و غيرهما لا يصلح لذلك التخصيص،فلا بد من امر آخر هو المسمي بالارادة و الكراهة.
و جوابه:لم لا يجوز أن يكون المخصص هو العلم المخصوص بما في الفعل من المصلحة أو المفسدة.
قوله«قد يعلم ما لا يتعلق الإرادة و الكراهة به»قلنا:بالعلم المطلق لا بالعلم
ص: 89
المخصوص الّذي بيناه.
قوله«العلم تابع للمعلوم»قلنا:لا نسلم ذلك مطلقا،بل اذا كان العلم مستفادا من المعلوم في ذاته أو في هيئته المقتضية لكونه مطابقا له،اما اذا لم يكن كذلك فلا.
اتفق المسلمون علي وصفه تعالي بهما،لكن اختلفوا في معناهما فذهب ابو الحسين البصري و الكعبي الي انهما عبارتان عن علمه تعالي بالمسموعات و المبصرات،و هو مذهب فلاسفة الاسلام.و ذهب الجمهور من الاشعري و المعتزلة و الكرامية الي انهما صفتان زائدتان علي العلم،و الاول هو الحق.
لنا:ان وصفه تعالي بالسميع و البصير اما ان يراد به حقيقته اللغوية او مجازه و الاول باطل لان حقيقة هذين الوصفين مشروطة به آلتي السمع و البصر الممتنعتين عليه تعالي،فتعين الحمل علي المجاز،فنحن نحملهما علي العلم المخصوص اطلاقا لاسم السبب علي المسبب،و هو أقوي وجوه المجاز.
فان قلت:ليس حمله علي العلم أولي من حمله علي مجاز آخر.
قلت:هذا المجاز انما صرنا إليه لمكان المناسبة،و الاصل عدم مجاز آخر و لان سببية السماع و الابصار لحصول العلم مع العلم بخروج حقيقتهما عن الإرادة استلزمت ظن إرادة العلم مجازا،فلا يدفع ذلك الظن باحتمال إرادة مجاز آخر.
احتج الخصم بالمعقول و المنقول:
اما المعقول فمن وجهين:
ص: 90
(احدهما) انه تعالي حي،و الحي يصح اتصافه بالسمع و البصر،و كل من صح اتصافه بصفة فلو لم يتصف بها لا تصف بضدها،فلو لم يكن اللّه تعالي سميعا بصيرا لا تصف بضدهما،و هو نقص محال عليه تعالي.
(الثاني) لو لم يكن تعالي سميعا بصيرا لكان الواحد منا اكمل منه،و اللازم باطل فالملزوم مثله.بيان الملازمة:ان السميع و البصير اكمل ممن ليس كذلك و اما بطلان اللازم فظاهر.
و اما المنقول فقوله تعالي إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَري (1) (2)و قوله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (3) (4)و نحوه.
(و الجواب عن الاول)لا نسلم أن حياته تعالي مصححة للسمع و البصر، و بيانه ان حياته تعالي مخالفة لحياتنا في الحقيقة،و المختلفتان لا يجب اشراكهما في الاحكام.سلمناه،لكن متي يقتضي حياته هذه الصحة،و اذا لم يكن هناك مانع او اذا كان الاول مسلم و الثاني ممنوع،اذ يجوز أن يكون صحة اتصافه بالسمع و البصر مشروطا بحصول آلتيهما الممتنعتين في حقه تعالي.سلمناه،لكن لا يلزم من صحة الاتصاف بهما وجود الاتصاف.
قوله«لو لم يكن يتصف بهما لا تصف بضدهما»قلنا:لا نسلم،لجواز خلو المحل عن الشيء و ضده كالهواء فانه لكونه جسما يصح اتصافه بالسواد و البياض مع خلوه عنهما.نعم لا يخلو عن الشيء و عدمه،لكن لم قلتم ان عدم السمع و البصر في حقه تعالي نقص.
(و عن الثاني)منع الملازمة.قوله«السميع و البصير اكمل ممن ليس1.
ص: 91
كذلك»قلنا:هو اكمل ممن يكون من شأنه ان يكونان له،أما من غيره فممنوع و لا نسلم انهما بالمعني الّذي ثبته الخصم كما لان للّه تعالي.ثم هو معارض بما ان حسن الوجه اكمل من قبيحه،فلو لم يكن اللّه تعالي كذلك لكان احدنا اكمل منه،و هو محال.
فان قلت:هذا من صفات الاجسام،و اللّه تعالي منزه عنها.
قلت:لم لا يجوز أن يكون السميع و البصير كذلك.
و عن ادلة السمع:ان العقل منع من اجرائها علي ظواهرها،فوجب تأويلها بالعلم كما سبق أو تفويض علمها الي اللّه تعالي كسائر الآيات المشعرة بالتجسيم.
اتفق المسلمون علي اطلاق لفظ المتكلم عليه تعالي،لكن اختلفوا في معناه.فقالت المعتزلة معناه كونه تعالي خالقا لاصوات مخصوصة دالة علي معان مخصوصة في محال مخصوصة عند ارادته امرا ليعبر بها عنه،و ظاهر أن كلامه تعالي بهذا التفسير حادث.
و قالت الاشعرية:انه متكلم بمعني قائم بذاته قديم دلت عليه هذه العبارات الحادثة.
و الكلام عند بعضهم لفظ مشترك بين ذلك المعني و العبارة الدالة عليه، و عند بعضهم حقيقة في المعني مجاز في العبارة،و عند بعضهم بالعكس.و قالت الحنابلة انه عبارة عن الحروف و الاصوات المسموعة مع ان كلامه قديم.
و الحق انه حقيقة في العبارة دون المعني المدلول.
لنا:انه المتبادر الي الفهم عند اطلاق لفظ الكلام دونه،و اذا كان كذلك
ص: 92
لم يمكن اطلاق لفظ المتكلم عليه بذلك الاعتبار،لتنزهه عن اللفظ المستلزم لاثبات الجوارح له،فوجب اطلاقه عليه باعتبار خلقه للكلام في بعض الاجسام اما حقيقة أو مجازا اطلاقا لاسم المسبب علي السبب،ولانا سنبين انه تعالي ليس له صفة تزيد علي ذاته،فلا يكون الكلام معني قائما به كما هو مذهب الاشعرية.
اما الاشعري فانه بين مراده من الكلام النفساني أولا ثم استدل علي اثباته للّه تعالي ثانيا ثم بين انه قديم ثالثا ثم بين كونه واحدا مع انه امر و نهي و خبر و استخبار و غيرها.
أما الاول:فقد ثبت ان الالفاظ موضوعة بإزاء الصور الدهنية،فاذا نطق أحدنا بخبر فالحكم المدلول عليه بذلك اللفظ ليس نفس الاعتقاد،لجواز أن يكون الاعتقاد بخلافه،و لا نفس الإرادة لان الخبر يتعلق بالواجب و الممكن،و لا شيء من الإرادة كذلك،فهناك امر آخر هو مرادنا بكلام النفس،و دليل تسميته كلاما قول الشاعر:
ان الكلام لفي الفؤاد و انما جعل اللسان علي الفؤاد دليلا
و قول القائل في نفسي كلام.
و اما الثاني:فلقوله تعالي وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسي تَكْلِيماً (1) (2)و قوله إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبي وَ يَنْهي عَنِ الْفَحْشاءِ (3) (4)و نحوه.و وجه الاستدلال:ان التكليم و الامر و النهي اما أن يكون من باب الحقائق و المعني او من باب العبارات.و الاول هو المطلوب،و أما الثاني فتلك العبارات لا بدّ و أن0.
ص: 93
تكون دالة علي معان،و ليست نفس الاعتقادات و الارادات لما سبق،فهي اذن صفة اخري للّه تعالي.
و اما الثالث:فلان ذلك المعني لو كان محدثا لكان اما قائما بذاته تعالي فيكون محلا للحوادث و هو محال،و اما بغيره من المحال أن يقوم صفة الشيء بغيره أولا في محل فيقوم العرض في الوجود بلا محل.هذا محال،فثبت انه صفة قديمة.
و اما الرابع:فلان المرجع بالامر الي الاخبار عن لحوق العقاب علي الترك،و بالنهي الي الاخبار عن لحوق العقاب علي الفعل،و كذا في سائر أصناف الكلام.
و أما الحنابلة فاستدلوا علي أن كلامه هو الحروف و الاصوات بأن كلامه مسموع و لا مسموع الا الحرف و الصوت فكلامه ليس الا الحرف و الصوت:
اما الصغري فلقوله تعالي وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّي يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ (1) (2)و اما الكبري فظاهرة.
ثم اثبتوا كونه قديما بأنه لو كان حادثا لكان اما قائما بذاته أو بغيره أو لا في محل،و الاقسام الثلاثة باطلة لما مر.
و الجواب عن المقالة الاولي للاشعرية:لم لا يجوز ان يكون ذلك المعني من قبيل العلوم،فان الصور الذهنية اما تصورات او كيفيات تلحقها كالتصديق و نحوه،و هي من اقسام العلم عندنا،فلا نسلم اطلاق لفظ الكلام عليها حقيقة.
اللهم الا بوضع عرفي اشعري،و ليس كلامنا فيه.
و اما البيت فلا نسلم صحة نقله عن الاخطل،و ان سلمناه فلا نسلم قوله حجة،6.
ص: 94
و لانه يقتضي ان يسمي الاخرس متكلما لحصول ذلك المعني في نفسه.
و عن الثاني:انها من باب العبارات،و هي دالة علي معان هي عندنا من قبيل العلوم كما مر.
و عن الثالث:انا سنبين انه تعالي ليس له صفة زائدة علي ذاته في الخارج حتي توصف بالقدم أو الحدوث،و لان التقسيم مبني علي وجود صفة تغاير العلم،و الخصم لم يثبت ذلك.
و عن الرابع:ان الامر و النهي و الخبر مفهومات مختلفة الحقائق بالضرورة فدعوي ايجادها مكابرة.نعم قد يشترك الامر و النهي في استلزام الخبر،و ذلك لا يوجب اتحادها في الحقيقة.
و جواب الحنابلة ان كونه حرفا و صوتا يستلزم حدوثه بالضرورة.ثم علي تقدير كونه حرفا و صوتا لم لا يجوز أن يقوم بغيره و ان اشتق له منه صفة،و لا امتناع في ذلك.
هل هو زائد علي اعتبار العلم له أم لا،اختلف العلماء في ذلك:فذهب الجبائيان و المرتضي و الاشعري الي كونه زائدا عليه،و اباه ابو الحسين البصري.
و الحق انه زائد علي العلم في الاعتبار العقلي غير زائد عليه في الخارج:
اما الاول فلان الادراك قدر مشترك بين ادراك الحس و العقل كالجنس لهما، فكان اعم من العلم في الاعتبار العقلي و زائد عليه.و أما الثاني فلانا سنبين انه تعالي لا صفة له تزيد علي ذاته في الخارج.
احتج المثبتون:بأنا نعلم ما لا ندرك كالمعدومات،و ندرك ما لا نعلم كادراك
ص: 95
النائم قرص البراغيث مع انه لا يعلمه.
و احتج النفاة:بأن كونه مدركا ان كان هو كونه عالما فهو المطلوب،و ان كان غيره فاما أن يكون عبارة عن الاحساس و هو باطل لاستحالة الحواس عليه تعالي،او عن امر آخر و هو غير معقول.
و جواب الاول:لا نسلم ان المعدومات غير مدركة لنا،فان المفهوم المتعارف من الادراك هو لحوق العقل أو الحس للمعقول أو المحسوس،و هو بهذا الاعتبار صادق علي المعدومات،و لا نسلم انا ندرك ما لا نعلم،و لا نسلم ان النائم لا يعلم قرص البراغيث.نعم قد لا يعلم علمه بذلك،و ليس كلا منافيه.
و عن الثاني:انا بينا ان الادراك أعم من العقلي و الحسي،فكان معقولا زائدا عليهما.
خلافا للجبائيين و البلخي و النظام و عباد الضميري.
لنا وجهان:
(احدهما) ان صح ان يكون تعالي قادرا علي كل مقدور وجب أن يكون كونه قادرا كذلك،و الملزوم حق فاللازم حق.بيان الملازمة:انه تعالي واجب الوجود من جميع جهاته،فكل ما يصح له فواجب ان يجب له،و يكفي في تحققه ذاته.و اما حقيقة الملزوم فلان المصحح لذلك هو الامكان،و هو قائم في كل مقدور.
(الثاني) انه تعالي ان كان قادرا علي بعض المقدورات وجب ان يكون قادرا علي كلها،لكن الملزوم حق فاللازم حق.بيان الملازمة:أن ما لاجله صح ان
ص: 96
يكون البعض مقدورا و هو الامكان قائم في الكل علي سواء،و نسبة قدرته الي الكل علي سواء،فلو اختصت قادريته بالبعض دون البعض لكان ذلك ترجيحا بلا مرجح و هو محال.و أما بيان حقيقة الملزوم فقد سبق.
اما المشايخ فقد منعوا من كونه تعالي قادرا علي أعيان افعال العباد،و حجتهم أنه لو قدر علي ذلك لصح مقدور بين قادرين،و اللازم باطل فالملزوم مثله.اما الملازمة فظاهرة.و اما بطلان اللازم فلان احدهما اذا أراد الفعل و كرهه الاخر فليس وقوعه بإرادة المريد أولي من عدم وقوعه بكراهة انكاره،فاما ان يقع أولا يقع فيكون ترجيحا بلا مرجح او يقع و لا يقع فيجتمع النقيضان.
و أما البلخي فانه منع من كونه قادرا علي مثل فعل العبد،و حجته أن فعل العبد اما طاعة أو سفه و عبث،و هي ممتنعة علي اللّه تعالي.
و أما النظام فزعم أنه تعالي لا يقدر علي فعل القبيح،و حجته انه لو قدر علي ذلك لقدر وقوعه منه،اذ كل ممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال،لكن وقوعه منه يستلزم الجهل و الحاجة المحالين عليه،و المستلزم للمحال محال فوقوعه منه محال،فهو غير مقدور له.
و أما عباد فزعم ان ما علم اللّه تعالي وجوده وجب و ما علم عدمه امتنع، و الواجب و الممتنع غير مقدورين.
و جواب الاولين:لا نسلم امتناع مقدور بين قادرين.قوله«اذا أراد احدهما الفعل»الي آخره.قلنا:يقع بإرادة المريد،و الكراهة انما تعارض الإرادة في القادر الواحد،اما انها تعارض إرادة قادر آخر فممنوع.
و جواب البلخي:أن كون الفعل طاعة و سفها و عبثا صفات تعرض للفعل بالنسبة الي العبد،فلم قلت ان ذلك يمنع من كون ذات الفعل مقدورة.
ص: 97
و جواب النظام انه انما لا يلزم من فرض وقوع الممكن محال بالنظر الي ذاته،و لكن لم قلت انه كذلك مطلقا،فانا نقول انه ممتنع الوقوع منه نظرا الي عدم الداعي،و ذلك لا يمنع من كونه مقدورا.
و هذا هو الجواب عن حجة عباد،اذ الفعل و ان وجب أو امتنع نظرا الي العلم فلا يمنع ذلك كونه ممكنا مقدورا لذاته.و باللّه التوفيق.
خلافا للفلاسفة و بعض المتكلمين.
لنا:انه تعالي ان صح ان يكون عالما بكل معلوم وجب كونه كذلك، لكن المقدم حق فالتالي مثله.بيان الملازمة ما سبق في كونه قادرا علي كل مقدور بيان حقية الملزوم ان المصحح لذلك هو الحياة،و قد ثبت انه تعالي حي، فصح كونه عالما بكل المعلومات لاستواء نسبة هذه الصحة إليها.
اما الفلاسفة فقد علمت أن منهم من انكر كونه عالما بذاته،و منهم من انكر كونه عالما بغيره،و قد سبق تقرير شبههم و الجواب عنها.
و منهم من أنكر كونه عالما بالجزئيات علي الوجه الجزئي المتغير،و انما يعلمها من حيث هي ماهيات معقولة.و حجتهم:انه لو علم كون زيد جالسا في هذه الدار فبعد خروجه منها ان بقي علمه الاول كان جهلا و ان زال لزم التغير،و لان واجب الوجود ليس بزماني و لا بمكاني و ليس ادراكه بالآلة و كل مدرك بجزئي زماني من حيث هو متغير يجب أن يكون كذلك،فواجب الوجود لا يدرك الجزئي من حيث هو متغير.
و جواب الاول:انه علمه تعالي نفس ذاته كما سنبين،و التغير انما يقع في
ص: 98
الاضافات و الاعتبارات التي يحدثها عقولنا له بحسب كل معلوم متغير،فلم قلتم ان ذلك يوجب التغير في ذاته.
و جواب الثاني:بمنع الكبري.
و اما المتكلمون فمنهم من زعم أنه لا يعلم الجزئيات الا بعد وقوعها،و انما يعلم قبل ذلك ماهياتها،و هو المنقول عن هشام بن الحكم.و حجته انه لا شيء من الجزئيات قبل وجوده بمتميز عن غيره لكون المعدوم نفيا محضا،و كل معلوم متميز عن غيره فلا شيء من الجزئيات بمعلوم.
و جواب منع الصغري،فانا نميز بين الجزئيات المشخصة قبل وجودها، كتميز الكاتب لجزئيات كلمات يريد كتبها.نعم لا تكون متميزة في الخارج،لكن اذا كان مراده ذلك التميز لم يتحد الاوسط.
و منهم من انكر كونه عالما بما لا نهاية له.و حجتهم أن المعلوم متميز عن غيره،و كل متميز عن غيره متناه،فالمعلوم متناه،و لانه لو لم يتناه المعلومات لم يتناه المعلوم،لكن اللازم باطل فالملزوم مثله.بيان الملازمة:فلان العلم بكل معلوم يغاير العلم بالآخر.و اما بطلان الثاني فلانه يلزم أن يكون في ذاته علوم موجودة غير متناهية.هذا محال.
و الجواب عن الاول:منع الكبري،فان غير المتناهي متميز عن المتناهي مع انه لا يلزم تناهيه.
و عن الثاني:نمنع الملازمة.قوله«كان العلم بكل معلوم يغاير العلم بالآخر»قلنا سنبين أن علمه تعالي ذاته،فلا تعدد فيه اذن،و انما يقع التعدد و التغاير في نسب اذهاننا له الي كل معلوم،و تلك النسب غير متناهية عند انقطاع الاعتبار،فلا يلزم اذن تعدد علوم موجودة لذاته.
ص: 99
و منهم من انكر كونه تعالي عالما بكل معلوم.و حجتهم:انه لو علم كل معلوم لعلم كونه عالما به و كونه عالما بكونه عالما به و هلم جرا،فيترتب هناك مراتب من العلوم غير متناهية.
و جوابه ما مر قبله.
و برهانه المعقول و المنقول:
اما المعقول فمن وجهين:
(احدهما) تعين واجب الوجود ان كان لانه واجب الوجود،فأين صدق واجب الوجود صدق ذلك التعين.فواجب الوجود ليس الا ذلك الواحد المتعين و ان كان لغيره كان معلولا لذلك الغير في وجوده فكان ممكنا.هذا خلف.
(الثاني) لو كان في الوجود واجبا وجود لاشتركا في واجب الوجود، فذلك المشترك اما أن يكون تمام ماهية كل منهما أو جزءا منهما او خارجا عنهما.
و الاول باطل لانه لا بدّ أن ينفصل كل واحد منهما عن الاخر بعرضي،فذلك العرضي ان لزم عن واجب الوجود فقد اختلف اللازم للمعني الواحد.هذا محال.و ان لزم عن غيره فكل منهما مفتقر في وجوده الي غير خارجي،فكان ممكنا.هذا خلف.
و الثاني أيضا باطل،لانه لا بدّ و ان ينفصل كل منهما بفصل ذاتي،فكان كل منهما مركبا فكان ممكنا.هذا خلف.
و الثالث يستلزم أن يكون واجب الوجود معلولا اما لهما او لغيرهما.
و هو باطل.
ص: 100
و اما المنقول:فاعلم ان هذه المسألة لا يتوقف اثبات السمع عليها،فجاز اثباتها بالسمع،و الكتاب العزيز مشحون بدلائل التوحيد،كقوله تعالي قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1) و قوله تعالي لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا (2) (3)و قوله إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ (4) (5).
في انه لا شيء من الصفات المعتبرة له تعالي زائدة علي ذاته الا بحسب اعتبار عقولنا عند مقايسته الي الغير.و برهانه من وجهين:
(احدهما) لو كان شيء منها زائدا علي ذاته في الخارج لكان اما واجبا أو ممكنا،و اللازم بقسميه باطل فالملزوم كذلك.أما الملازمة:فلان كل موجود فاما واجب أو ممكن.و أما بطلان اللازم فلانها ان كانت واجبة الوجود لذاتها فواجب الوجود لذاته اكثر من واحد و قد علمت فساده،و ان كانت ممكنة الوجود افتقرت الي مؤثر،فمؤثرها اما تلك الذات و هو باطل،لانه اما أن يعتبر في مؤثرية اللّه تعالي في وجود الممكنات جميع الصفات التي تنبغي له او لا يعتبر، فان اعتبر لزم تقدم ذاته بجميع صفاته علي جميع صفاته و هو محال.و ان لم يعتبر كانت تلك الصفات فضلا مستغنيا في تحقق صفاته الي غيره.هذا خلف.
(الثاني) إله العالم و مبدعه اما أن يكون عبارة عن الذات فقط مع قطع النظر عن صفاته المعدودة،او عنها مع تلك الصفات.و الاول باطل،لان الذات الخالية عن هذه الصفات لا تصلح للالهية.و الثاني أيضا باطل،لان واجب
ص: 101
الوجود يصير اذن عبارة عن كثرة مجتمعة من امور موجودة،فكان مركبا فكان ممكنا كما سبق.هذا خلف.
و لما بطل كون هذه الصفات امورا زائدة علي الذات بطل ما يفرع الخصم علي ذلك،كحكم الاشعري بكونها قديمة،و كحكم ابي هاشم في الإرادة انها حادثة موجودة لا في محل،و كذلك حكمه بتلك الاحوال،و ارتكابه الشناعة في قوله انها ليست بموجودة و لا و لا مختلفة و لا مختلفة و لا متماثلة و نحوه.
و باللّه التوفيق.
ص: 102
و فيها اركان:
و فيه ابحاث:
اما حقيقته فغنية عن التعريف،و اما اقسامه فمنه ما لا صفة له تزيد علي حدوثه كحركة النائم و الساهي،و منه ماله ذلك.
و هو اما حسن أو قبيح،اما الحسن فاما ان لا يكون له صفة تزيد علي حسنه او تكون،و الاول هو المباح،و يرسم بأنه ما لا مدح و لا ذمّ في احد طرفيه،
ص: 103
و الثاني اما ان يستحق المدح بفعله و الذم بتركه مع العلم بحاله و التمكن منه و هو الواجب،او يستحق المدح بفعله دون الذم بتركه اذا علم فاعله أو دل عليه و هو المندوب،و يقابلهما المحضور و المكروه.
الحسن و القبح قد يراد بهما ملائمة الطبع و منافرته،و قد يراد بهما صفة كمال او نقصان،و هما بهذا المعني مما يحكم العقل بهما عند الكل،و قد يراد بهما كون الفعل علي وجه يكون متعلق المدح و الذم عاجلا و الثواب و العقاب آجلا،و هما بهذا المعني شرعيان عند الاشعرية نظريان عند الفلاسفة، اذ عليهما بناء مصالح هذا العالم و نظام اموره.
اما عند اهل العدل فمنهما ما يستقل العقل بدركه و منهما ما ليس كذلك، و الاول فمنه ما يعلم بالضرورة كشكر المنعم ورد الوديعة و الصدق النافع و قبح الكذب الضار و الظلم و تكليف ما لا يطاق،و منه ما يعلم بالنظر كالعلم بحسن الصدق الضار و قبح الكذب النافع،و ما لا يستقل العقل بدركه فكحسن صوم آخر يوم من رمضان و قبح صوم اليوم الّذي بعده،فانه لا طريق للعقل الي العلم بذلك لو لا ورود الشرع.
اما الامور الضرورية فقد نبهوا عليها بصورتين:
(احداهما) ان العقلاء متفقون علي حسن الامور المذكورة و قبحها،و ليس ذلك من جهة الشرع فقط،فان الكفار كالبراهمة و غيرهم مع انكارهم للشرائع يحكمون بذلك،و لا لملائمة الطبع و منافرته،فان الطباع في الخلق مختلفة،
ص: 104
فكثير من الامور تنفر عنها طبع انسان و يميل إليها طبع آخر مع اتفاقهم علي الحكم بهذه القضايا.فظهر انها قضايا عقلية كلية و ليست نظرية و الا لما حصلت لمن لا يتأهل للنظر كالعوام،فهي اذن قضايا تضطر العقول الي الحكم بها.
(الثانية) ان العاقل اذا قيل«ان صدقت فلك دينار و ان كذبت فلك دينار» و استوي الصدق و الكذب بالنسبة إليه بحيث لا يتصور وراء كونهما صدقا و كذبا مرجحا آخر لاحدهما،فانا نعلم بالضرورة انه يختار الصدق علي الكذب.
و ذلك لاضطرار عقله الي الحكم بحسنه و قبح الكذب لذاته.
لا يقال:لو كان العلم بحسن هذه و قبحها ضروريا لما حصل التفاوت بينه و بين العلم بسائر القضايا البديهية،لكن اللازم:باطل فالملزوم مثله.بيان الملازمة ان مقتضي البديهة لا تفاوت فيه.بيان بطلان اللازم:انا لما عرضنا هذا العلم علي العقل مع قولنا الواحد نصف الاثنين وجدنا التفاوت حاصلا بينهما بالضرورة الثاني لو كان ضروريا لما اختلف العقلاء فيه و قد اختلفوا فليس بضروري.
و الملازمة و بطلان اللازم بينان.
لانا نجيب عن الاول بمنع الملازمة،و لا نسلم ان الاوليات غير قابلة للاشد و الاضعف،فان العلم بأن الواحد نصف الاثنين اجلي بكثير من العلم بكونه نصف عشر العشرين مع كونهما ضروريين.
و عن الثاني:بمنع الملازمة أيضا،و الاختلاف انما كان لقبول القضايا الضرورية التفاوت كما بيناه،و اما القضايا النظرية فبرهانها انه ان كان مطلق الصدق و الكذب يلزمهما الحسن و القبح لكونهما صدقا و كذبا فالصدق الضار و الكذب النافع كذلك،لكن الملزوم حق فاللازم حق.بيان الملازمة ان مطلق الصدق و الكذب جزءان من الصدق الضار و الكذب النافع،و قد لزمهما الحسن و القبح
ص: 105
لذاتيهما فلزم ما تركب عنهما،اذ لازم الجزء لازم للكل.و اما حقية الملزوم فقد سبق بيانها.
و أما ما يحتاج العقل في الحكم بحسنه و قبحه الي الشرع فقالوا:لو لا اختصاص كل من الحسن و القبيح بما لاجله حسن و قبيح لكان تخصيص الشارع احدهما بالحسن و الاخر بالقبح ترجيحا بلا مرجح.
احتج الخصم بأمور:
(احدها) ان من صور النزاع تكليف ما لا يطاق،فنقول:لو كان قبيحا لما فعله اللّه تعالي،لكنه فعله كما في تكليف الكافر بالايمان مع علمه بأنه لا يؤمن و علمه بأنه متي كان كذلك كان الايمان منه محالا،فأنتج انه غير قبيح.
(الثاني) لو قبح شيء فاما من اللّه و هو باطل بالاتفاق،أو من العبد و هو أيضا باطل،لان ما يصدر منه يكون علي سبيل الاضطرار،لما ثبت أنه يستحيل صدور الفعل عنه بدون الداعي،و مع وجود الداعي يجب الفعل،فلا يقبح من المضطر شيء.
(الثالث) ان الكذب قد يحسن اذا تضمن خلاص نبي من ظالم يريد قتله.
و الجواب عن الاول:لا نسلم انه فعله،و اما تكليف الكافر بالايمان فلا نسلم أنه مما لا يطاق.و بيانه:ان الايمان ممكن في نفسه و الكافر عالم بقدرته عليه،فكان اذن تكليفا بما يطاق.فأما علم اللّه تعالي فلا نسلم انه موجب لعدم الايمان،بل يطابق بقبح الفعل منه،علي معني أنه لو فعله لذم عليه،و الخصم ينكر وجود القبيح العقلي اصلا و يقول فيما هو قبيح عندنا لو فعله اللّه تعالي لما قبح منه، فالاتفاق منه اذن لفظي.سلمناه لكن لم لا يقبح من العبد.
فأما وجوب الفعل عن الداعي فقد بينا أن ذلك لا ينافي الاختيار.
ص: 106
و عن الثالث من وجوه:
(أحدها) ان عندنا اذا تعارض قبيحان حكم العقل بوجوب العمل بأضعفهما قبحا مع الشعور بقبح الاقوي،و هناك كذلك فان الكذب و ان كان قبيحا الا ان ترك انجاء النبي مع القدرة عليه أقبح،فجاز القبيح للخلاص مما هو أقبح منه.
(الثاني) لا نسلم حسن الكذب،و انما يحسن هناك التعريض،و ان في المعاريض لمندوحة عن الكذب.
(الثالث) ان القبح و ان لزم عن الكذب لكن قد يتخلف الاثر عن المؤثر لمانع.
فان قلت:علي تقدير التعريض لا يقطع بكذب في العالم،اذ لا كذب الا و يمكن الاضمار فيه بحيث يصير صدقا،و كذلك علي تقدير القول بتخلف الاثر،لاحتمال ان يتخلف الحكم هناك لمانع لا نطلع عليه.
قلت:علي الاول ان العقل هو الحاكم بالقطع بالكدب،و لا يندفع ذلك باحتمال الاضمار،و كذلك لا يندفع جزمه بقبح الكذب باحتمال التخلف للمانع كما في سائر الاحكام العقلية الضرورية التي لا ينثلم بالاحتمالات السوفسطائية.
اتفق اهل العدل علي أن العبد فاعل بالاختيار خلافا للاشعرية،و ان اختلفوا في العلم بذلك،فالجمهور منهم علي أنه نظري و ابو الحسين البصري علي أنه ضروري،و هو المختار.
ثم الّذي ينبه علي كونه ضروريا المعقول و المنقول:
اما المعقول فمن وجوه:
ص: 107
(الاول) ان كل عاقل يعلم بالضرورة حسن المدح علي الاحسان و الذم علي الاساءة،و ذلك فرع كون المحسن و المسيء فاعلين.
(الثاني) انا نجد أفعالنا تابعة لقصودنا و دواعينا و منتفية عند صوارفنا،و لا معني للمختار الا من كان كذلك.
(الثالث) ان احدنا يزجر غيره و يعده و يلومه،و ذلك يستلزم العلم بكونه فاعلا بالضرورة.
(الرابع) ان العلم بذلك حاصل للاطفال و المجانين،فان احدهم اذا رماه انسان بآجرة يذم الرامي دون الاجرة،بل للبهائم فان الحمار يفر من الانسان اذا قصد اذاه دون الحائط و النخلة،و ذلك لانه قد تقرر في فهمه قدرة الانسان علي اذاه دون الجماد.
و اما المنقول:فالقرآن و السنة مشحونان بنسبة الفعل الي العبد و ذمه علي المعصية و مدحه علي الطاعة،و ذلك أشهر من أن يذكر.
أما ابو الحسن الاشعري فانه زعم أن قدرة العبد و مقدوره واقعان بقدرة اللّه تعالي و انه لا تأثير لقدرته في مقدوره اصلا،الا ان اللّه تعالي اجري عادته بأنه متي اختار الطاعة أو المعصية خلقها فيه و خلق فيه القدرة عليها،و العبد متمكن من الاختيارين،و سمي تلك المكنة كسبا.و كذلك لاصحابه مذاهب في ذلك لا يحتمل ذكرها هذا المختصر لكنها مشترك في منع اختيار العبد.
حجتهم من وجوه:
(الاول) ان العبد حال الفعل اما أن يمكنه الترك أو ليس،فان لم يمكنه فلا اختيار،و ان امكنه فاما أن لا يتوقف وجود الفعل علي مرجح و هو محال،أو يتوقف عليه فذلك المرجح ان كان من فعله عاد التقسيم فلا بد أن ينتهي الي
ص: 108
مرجح لا يكون من فعله دفعا للدور أو التسلسل.
ثم ذلك المرجح اما ان لا يجب معه الفعل،فيكون الطرفان ممكنين،فيفتقر رجحان احدهما علي الاخر الي مرجح آخر،فلا يكون المرجح الاول كافيا، و قد فرض كذلك هذا خلف.و اما أن يجب معه،و ذلك مناف للتمكن من الطرفين الّذي هو معني الاختيار.
(الثاني) لو كان العبد فاعلا لكان عالما بتفاصيل أفعاله،و اللازم باطل فالملزوم مثله.بيان الملازمة:ان تخصيص الشيء بالايجاد و القصد إليه يستدعي تصوره و تميزه عن غيره،و لا يكفي في حصول الجزئي قصد كلي،لان نسبة الكلي الي الجزئيات واحدة،فلا تخصيص لاحدهما اذن بالايجاد،فلا بد من قصد جزئي،و هو مشروط بالعلم الجزئي.و اما بطلان اللازم:فان الانسان يتحرك حركات جزئية كثيرة لا شعور له بها كحركات اجفانه و جزئيات حركاته في طريقه الطويلة و حركات النائم و الساهي.
(الثالث) لو كان العبد فاعلا مختارا امكن ان يخالف مراده مراد اللّه تعالي فبتقدير أن يريد الكفر و يريد اللّه منه الايمان فاما أن لا يقع و هو محال،لانه اخلاء عن النقيضين،او يقعا معا و هو جمع بين النقيضين،أو يقع مراد احدهما دون الاخر و هو باطل،لان قدرة كل من القادرين مستقلة بالتأثير في مراده،فليس وقوع احدهما أولي من الاخر،و اذا بطلت هذه الاقسام علي ذلك التقدير بطل ذلك التقدير اللازم لكونه مختارا.
و الجواب عن الاول:انا لا نسلم ان الفعل يتوقف علي مرجح يجب معه الفعل،و هي إرادة تتبع تصور ان في ذلك الفعل مصلحة هو الداعي،و ذلك الداعي قد يكون ضروريا فيكون من اللّه و قد يكون نظريا فيستند الي علوم ضرورية
ص: 109
دفعا للدور أو التسلسل،لكن لا نسلم أن استناد ذلك المرجح بالاخرة الي اللّه.
و وجوب الفعل عنه ينافي الاختيار،فان استواء الطرفين بالنسبة الي القدرة و الي الممكن نفسه و تصور العبد لامكانهما امور لا تنافي الوجوب المذكور عن الإرادة.
و عن الثاني:لا نسلم بطلان اللازم،و لا نسلم ان شيئا من حركات العبد في نومه او يقظته غير شاعر بها.نعم قد لا يكون شاعرا بشعوره بها،و ليس كلامنا فيه.
و عن الثالث:لم لا يجوز أن يقع مراد أحدهما دون الاخر،فيقع مراد اللّه تعالي.و لا نسلم تساوي القدرتين بل تتفاوتان بالقوة و الضعف،و الضعيف ينازع القوي.او يقع من العبد،لان اللّه تعالي لما خلقه و هيأه للفعل و خلق القدرة و العلوم التي تنتهي إليها ارادته فيه فوض إليه فعله ليستحق بطاعته الثواب و معصيته العقاب اللذين لا يحسن في العقل ايصال احدهما إليه باجباره عليه.
فان قلت:فيلزم ان يتخلف مراد اللّه تعالي عن مجموع قدرته و ارادته مع تحققهما.
قلت:فرق بين إرادة اللّه تعالي لما يفعله و بين ارادته لما يفعله العبد،و الإرادة الاولي هي التي يجب معها الفعل،فلم قلت ان الثانية كذلك،فأما حديث الكسب فهو اسم بلا مسمي،لان تلك الممكنة و ذلك الاختيار ان كان من فعل العبد فهو فاعل أو من فعل اللّه تعالي فهو كسائر الافعال المخلوقة فيه.
الباري تعالي لا يفعل فعلا الا لامر لا يخلو في فعله عن غرض هو الداعي الي ذلك الفعل،و إلا لزم الترجيح بلا مرجح،و هو محال.
ص: 110
احتج الخصم بوجهين؛ (احدهما) ان كل من فعل فعلا لامر كان حصول ذلك الامر أولي به من لا حصوله كان ناقصا بذاته مستكملا بتلك الاولوية،و ذلك علي اللّه تعالي محال، و ان لم يكن أولي به بل كانا علي سواء امتنع الترجيح.
(الثاني) ان كل غرض يفرض فان اللّه تعالي قادر علي ايجاده ابتداء،فيكون توسط ذلك الفعل عبثا.
و الجواب عن الاول:ان عنيت بكون ذلك الامر أولي به كونه أليق بحكمة وجوده،فلم قلت ان ذلك يستلزم نقصان ذاته و استكماله بغيره،و ان عنيت به كونه مستفيدا للكمال لو لم يكن حاصلا له لكان ناقصا بذاته،فلا نسلم ان الاولوية بهذا الاعتبار صادقة في حقه تعالي.
سلمناه،لكنه معارض بما أن الخصم اثبت للّه تعالي معاني كالعلم و القدرة و غيرهما،فحصول تلك المعاني لذاته ان كان أولي به كان ناقصا بذاته مستكملا بغيره و هو محال،و ان كان مساويا بلا حصولها فلا ترجيح.
سلمناه،لكن هذه الحجة تستلزم ان لا يقع من اللّه تعالي فعل اصلا او يقع بلا مرجح،و كلاهما محال.
و عن الثاني:ان الغرض هو الغاية من الفعل،و ايجاد الغاية من دون ما هي غاية له و هو شرط فيها محال.و اللّه الموفق.
و برهانه:انه تعالي لا داعي له الي فعل القبيح،و كل من كان كذلك امتنع وقوع القبيح منه.بيان الصغري:ان علمه تعالي بقبح القبيح و غناه عنه صارف
ص: 111
له عن فعله،و العلم به ضروري،و مع تحقق الصارف يمتنع الداعي لامتناع اجتماع الضدين.بيان الكبري:ان الفعل يعتمد الداعي لامتناع الترجيح بلا مرجح،و اما انه تعالي لا يخل بواجب فلان الاخلال به قبيح و قد علمت امتناع صدور القبيح منه.
الباري تعالي مريد لجميع الطاعات غير مريد لشيء من المعاصي،خلافا للاشعرية.
لنا:المعقول و المنقول:
اما المعقول فوجهان:
(احدهما) انه تعالي عالم بكل معلوم،و كل من كان كذلك كان مريدا للطاعة و كارها للمعصية:اما الصغري فقد سبق،و اما الكبري فلانه عالم بحسن الطاعات و ما يشمل عليه من المصالح،و علمه بذلك هو الداعي إليها و الاراده لها و عالم بقبح المعاصي و ما يشتمل عليه من المفاسد،و علمه بذلك هو الصارف عنها و الكراهة لها،و مع تحقق الكراهة لها يمتنع تحقق الإرادة لها،لامتناع الجمع بين الضدين.
(الثاني) لو كان مريدا للمعاصي لكان علي صفة نقص،و اللازم باطل فالملزوم مثله.بيان الملازمة:انه علي ذلك التقدير يكون مذموما عند العقلاء العالمين بحاله،و ذمهم له مستلزم النقصان و العلم به ضروري.و أما بطلان اللازم فبالاتفاق.
و اما المنقول:فمنه ما يدل علي إرادة الطاعة كقوله تعالي وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ (1)
ص: 112
وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (1) (2) وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ (3) (4) الآية.وجه الاستدلال ان اللام هنا للغرض الداعي الي الخلق و الامر بالعبادة و هو المعني بإرادة الطاعات.
و منه ما يدل علي كراهة المعصية كقوله تعالي وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ (5) الي قوله كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (6) (7)و نحوه.
احتج الخصم بالمعقول و المنقول:
و اما المعقول فوجهان:
(احدهما) انه تعالي خالق أفعال العباد بالقدرة و الاختيار،و كل من فعل فعلا كذلك فهو مريد له.
(الثاني) انه كلف أبا لهب بالايمان مع علمه بامتناعه منه،و العالم بامتناع الشيء يستحيل أن يريده،فامتنع ان يريد الايمان منه.
و اما المنقول:فقوله تعالي وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها (8) (9)و قوله وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً (10) (11)و قوله فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً (12) (13)دلت هذه الآيات علي عدم ارادته للهدي و الايمان و علي ارادته للاضلال.
و الجواب عن الاول:بمنع الصغري،فانا بينا أن العبد فاعل حقيقة،فلا5.
ص: 113
تكون افعاله مخلوقة للّه تعالي.
و عن الثاني:ان وجود الايمان و ان كان محالا نظرا الي عدم إرادة ابي لهب و علم اللّه بذلك،لكنه ليس بمحال نظرا الي ذاته و قدرة القادر عليه،فلم لا يجوز ان يتعلق إرادة اللّه تعالي به من حيث هو ممكن غير محال.
و عن الآيتين الاوليين:لم لا يجوز أن يكون المراد لاتينا كل نفس هداها و لا من في الارض علي سبيل الالجاء و الجبر،و حينئذ لا يدل الاستثناء نقيضي لازمي الشرطيين علي عدم إرادة مطلق الهدي و الايمان من المكلفين.
و عن الثالث:انه لا يلزم من صدق الشرطية صدق كل من جزئيها حتي يلزم أن يريد الاضلال فيجعل الصدور كذلك.و باللّه التوفيق.
و فيه ابحاث:
أسد ما قيل في تعريفه أنه بعث من يجب طاعته ابتداء علي ما فيه مشقة ما من فعل أو ترك بشرط إرادة الباعث و اعلام المبعوث بها و من يجب طاعته كالخالق و النبي و الوالد لولده و المالك.
و قلنا«ابتداء»لان بعث الوالد لولده علي الصلاة مثلا لا يسمي تكليفا لسبق بعث اللّه له و ان سمي به مجازا.
و شرطنا المشقة لان ما لا شقة فيه كالاكل بالطبع لا يسمي تكليفا.
ص: 114
و شرطنا الإرادة و الاعلام بها لان ما لا يعلم المكلف أن مكلفه أراد منه لا يكون تكليفا.
اما الاول:فلانه من فعل اللّه،و قد مر انه تعالي لا يفعل القبيح.
و أما الثاني:فهو أنه تعالي لما خلق العباد و هيأهم للثواب و العقاب لم يكن ايصالهما إليهم من غير تقديم التكليف بالطاعة،لكون الثواب مشتملا علي التعظيم و الاجلال و العقاب مشتملا علي الاهانة و الاحتقار،و ذلك في حق غير المستحق بامتثال التكليف و عدم امتثاله محال لعدم الشرط و هو الاستحقاق و قبيح عقلا من الحكيم.
التكليف واجب من الحكيم تعالي خلافا للاشعرية.
لنا:لو لم يكلف من أكمل شرائط التكليف فيه لكان مغريا له بالقبيح، و اللازم باطل فالملزوم مثله.
بيان الملازمة:انه اذا أكمل شخص و خلق فيه الشهوة للقبيح و النفرة عن الحسن مع أن عقله لا يستقل بمعرفة كثير منهما،فلو لم يقرر في عقله وجوب الواجب ليمتثله و حرمة الحرام ليجتنبه لكان بخلقه فيه الشهوة للقبيح مغريا له به.
و أما بطلان اللازم:فلان الاغراء بالقبيح قبيح بالضرورة،و لذلك كان العقلاء كما يذمون فاعل القبيح يذمون المغري به،فلو فعله اللّه تعالي لكان فاعلا للقبيح،لكن القبيح منه محال فالاغراء منه محال.
ص: 115
فان قلت:الملازمة ممنوعة.بيانه:ان العاقل و ان وجد الشهوة للقبيح و النفرة عن الحسن الا انه يعلم بالضرورة ان العقلاء يمدحونه علي فعل الحسن و يذمونه علي فعل القبيح،و كفي بالمدح و الذم داعيا الي فعل الحسن و صارفا عن القبيح و حينئذ لا يتحقق الاغراء.
قلت:المدح و الذم انما يكون من العقلاء فيما يستقل عقولهم بحسنه و قبحه دون ما ليس كذلك و هو اكثر التكاليف،فلا يكفي المدح و الذم في الدعاء الي كل واجب و الانصراف عن كل قبيح،و حينئذ يتحقق الاغراء.سلمناه، و لكن كثيرا من الخلق لا يعبأ بهما و تترجح شهواتهم و ميولهم الطبيعية علي احتفالهم بالمدح و الذم،فلا يفارقانها،و حينئذ يتحقق الاغراء.و باللّه التوفيق.
و هو اما ان يرجع الي المكلف او المكلف به:اما الاول فثلاثة:
(الاول) كونه تعالي عالما بصفات الافعال و إلا لجاز التكليف بما لا يستحق عليه ثواب و هو قبيح،و بمقدار الثواب المستحق و إلا لجاز ايصال بعض الاستحقاق فيكون ظلما،و هو محال عليه تعالي.
(الثاني) كونه قادرا علي ما يستحق من الثواب للعلة المذكورة.
(الثالث) أن يكون منزها عن فعل القبيح و إلا لجاز الاخلال ببعض المستحق فيقبح التكليف.
و اما الراجع الي المكلف فثلاثة:
(احدها)قدرته علي ما كلف به.
(الثاني)التمييز بينه و بين غيره.
ص: 116
(الثالث)تمكنه من الشرائط الخارجة من ذاته كالآلات،اذ التكليف بدون كل من هذه الامور تكليف بالمحال.
اما ما يرجع الي المكلف به فأمران:احدهما كونه ممكنا،و الثاني كونه حسنا.
و هي اعتقاد و عمل:
اما الاعتقاد فقد يكون علما و قد يكون ظنا،و كلاهما اما ان يستفادا من العقل أو السمع او منهما،و قد مرت الاشارة الي ذلك.
و اما العمل فعقلي و سمعي:فالعقلي كرد الوديعة و شكر المنعم و الصدق و الانصاف و ترك الظلم و الكذب من الواجبات و الفضل و حسن السيرة و نحوهما من المندوبات،فأما السمعي فكالعبادات الخمس و نحوها مما لا يستقل العقل بدرك وجوبه و لا ندبيته من الاعمال الشرعية.
و فيه بحثان:
مرادنا باللطف هو ما كان المكلف معه اقرب الي الطاعة و أبعد من فعل المعصية و لم يبلغ حد الالجاء.
و اما وجوبه فبرهانه انه لو جاز الاخلال به في الحكمة فبتقدير أن لا يفعله
ص: 117
الحكيم كان مناقضا لغرضه،لكن اللازم باطل فالملزوم مثله.
بيان الملازمة:انه تعالي أراد من المكلف الطاعة،فاذا علم أنه لا يختار الطاعة أو لا يكون اقرب إليها الا عند فعل يفعله به لا مشقة عليه فيه و لا غضاضة وجب في الحكمة أن يفعله،اذ لو اخل به لكشف ذلك عن عدم ارادته له،و جري ذلك مجري من اراد من غيره حضور طعامه و علم أو غلب ظنه انه لا يحضر بدون رسول،فمتي لم يرسل عد مناقضا لغرضه.
بيان بطلان اللازم:ان العقلاء يعدون المناقضة للغرض سفها،و هو ضد الحكمة و نقص،و النقص عليه تعالي محال.
اللطف اما من فعل اللّه تعالي و يجب في حكمته فعله كالبعثة و الا عد تركه نقضا لغرضه كما مر،أو من فعل المكلف فاما ان يكون لطفا في تكليف نفسه و يجب في حكمته تعالي ان يعرفه اياه و يوجبه عليه لما مر أيضا،فان قصر المكلف في فعله فقد أتي من قبل نفسه،و ذلك كمتابعة الرسل و الاقتداء بهم أو في تكليف غيره،و لا يجوز في الحكمة أن يكلف ذلك الغير الا مع علمه تعالي بأن ذلك اللطف لا بدّ أن يقع ثم كلفه بما ذلك لطف فيه لكان مناقضا لغرضه،و كذلك يجب في الحكمة ايجابه علي فاعله كما مر،و ذلك كتبليغ الرسل للوحي.
ثم لا بدّ و ان يشتمل علي مصلحة تعود الي فاعله،اذ ايجابه عليه لمصلحة غيره مع خلوه عن مصلحة تعود إليه ظلم،و هو عليه محال.
ص: 118
و فيه ابحاث:
اما الالم فقد سبق،و اما العوض فهو النفع المستحق الخالي عن تعظيم و تبجيل.و فصلناه بالمستحق عن التفضل،و بالخالي عن التعظيم عن الثواب، فانه مستحق يقارنه التعظيم و الاجلال.
انه اما حسن او قبيح،و الثاني مختص بفعلنا و العوض فيه علينا،و الاول فاما من فعلنا و هو اما من المباح كذبح الحيوان للاكل أو من المندوب كذبحه للاضحية أو الواجب كدم النذر و الكفارة،و العوض في هذه الثلاثة علي اللّه تعالي.
و اما من فعل اللّه،فاما علي جهة الاستحقاق كالعقاب أو الابتداء كالايلام الواصل في الدنيا من غير استحقاق و هو حسن،و وجه حسنه امران:
(احدهما) كونه مقابلا بعوض يزيد عليه اضعافا،بحيث لو مثل العوض و الالم للمؤلم و خير بين الالم مع عوضه أو العافية لاختار الاول.
(الثاني) ان يكون فيه مصلحة لا تحصل من دونه،و هي اللطف اما للمؤلم او لغيره،اما الاول فلان الايلام بدون العوض ظلم،و اما الثاني فلان الايلام مع العوض من دون غرض عبث،و هما محالان علي اللّه تعالي.
ص: 119
انه اما ان يكون مساويا للألم و هو كل ما يستحق علينا،أو أزيد و هو كل ما يستحق عليه تعالي اما بفعله او اباحته أو امره او تمكينه لغير العاقل من الحيوان بخلق الشهوة للايلام و نحوه فيه و خلقه غير عاقل بقبح و حسن فيفعل.
و قال قوم من العدلية:ان العوض علي الحيوان المؤذي.و قال بعضهم:
انه لا عوض في جنايتها اصلا.
و ادعي من أوجب العوض في حكمة اللّه تعالي الضرورة،و حجة من أوجب العوض علي المؤلم نفسه قوله صلي اللّه عليه و آله«يوم يقتص للجماء من القرناء»و القصاص يومئذ بأخذ العوض،و حجة من لم يوجب عليهما عوضا قوله صلي اللّه عليه و آله«جرح العجماء جبار».
و الجواب عن الاولي:لم لا يجوز ان يريد بالجماء المظلوم و بالقرناء الظالم علي وجه الاستعارة،و وجه المشابهة مشاركة المظلوم للجماء في عدم القوة علي دفع العدو و ظلمه و مشاركة الظالم للقرناء في القوة علي ذلك.
و عن الثانية:لم لا يجوز أن يريد بالجبار أنه لا يستحق به قصاص في الدنيا، و ذلك لا ينافي وجوب العوض في حكمة اللّه تعالي،اما في افعاله فقد مر الكلام فيه،و اما الاعواض في افعالنا فلان السلطان اذا لم ينتصف للمظلوم من الظالم ذمه العقلاء و عدوه جائرا،و ذلك علي اللّه محال،فوجب في حكمته الانتصاف و اخذ الاعواض.و باللّه التوفيق.
ص: 120
و فيه مقدمة و اركان:
فاعلم ان الكلام في النبوة مبني علي خمس مسائل يسأل عن كل منها بكلمة مفردة،و تلك الكلمات:ما،و هل،و لم،و كيف،و من.
فأولها قولنا«ما النبي»و البحث فيها عن مفهوم هذه الكلمة في الاصطلاح العلمي.
الثانية قولنا«هل النبي»اي هل يجب وجوده في الحكمة أم لا.
الثالثة قولنا«لم يجب وجود النبي»و يبحث فيها عن العلة الغائية لوجوده و وجه الحكمة فيه.
ص: 121
الرابعة قولنا«كيف النبي»و يبحث فيها عما ينبغي ان يكون عليه من الصفات التي بها يتم النبوة.
الخامسة قولنا«من النبي»و يبحث فيها عن تعيينه.
و سنذكر الاركان علي هذا الترتيب إن شاء اللّه تعالي.
و فيه ابحاث:
انه الانسان المأمور من السماء باصلاح احوال الناس في معاشهم و معادهم العالم بكيفية ذلك،المستغني في علومه،و أمره من السماء لا عن واسطة البشر، المقترنة دعواه للنبوة بأمور خارقة للعادة.
و احترزنا بقولنا«المستغني»مع تمام القيد عن الامام،فانه و ان كان عالما و مأمورا من السماء باصلاح الخلق لكن بواسطة النبي.
و قيد الامر من السماء هو العمدة في خواص النبوة.
وجود النبي ضروري في بقاء نوع الانسان و اصلاح احواله في معاشه و معاده،و كل ما كان ضروريا في ذلك فهو واجب في الحكمة الالهية،فوجود النبي واجب في الحكمة الالهية.
ص: 122
بيان الصغري:انه لما كان الانسان يفارق سائر الحيوان في أنه لو انفرد لا يستقل وحده شخصا بتحصيل معاشه و بتولي تدبيره امره من غير مشاركة و معاونة علي ضروريات حاجته،بل لا بد له من شخص و اشخاص اخر من ابناء نوعه يكون كل منهم مكفيا بصاحبه.و نظيره كأن يخبز هذا لذاك و يخيط ذاك لهذا الي غير ذلك،استلزمت هذه الضرورات وجود الاجتماع بين اشخاص الانسان و التشارك بينهم،و استلزم التشارك وجود المعاملة في العناية و الحكمة الالهية وجود سنة عادلة يرجع إليها فيها،اذ لو ترك الناس و آراؤهم في ذلك لاختلفوا اذ كان كل منهم يري ماله عدلا و ما لغيره عليه ظلما،و ذلك مستلزم للتنازع و التقاتل و فناء النوع.
ثم لا بد لتلك السنة من سان عادل بشري ليتمكن من مخاطبة الناس بتلك السنة و الزامهم بها،و لا بد ان تكون تلك السنة بوحي من السماء مقرونة دعواه الرسالة بها بشواهد خارقة للعادة يتميز بها عنهم،و الا لكان في قدرة غيره الاتيان بمثلها،فكانت مظنة المعارضة و المخالفة فلم يقبل.
و لما كان من مقتضي حكمة الحكيم و عنايته بالانسان انبات الشعر علي أشفار عينيه مثلا و حاجبيه و غير ذلك من الامور التي ليست ضرورية في بقائه و صلاح حاله،فبالاولي ان يقتضي وجود مثل هذا الانسان الموصوف،فاذن وجوده ضروري في بقاء نوع الانسان.
و اما الكبري:فلان بقاء نوع الانسان لغاية تكليفه و بلوغه كماله لما كان واجبا في الحكمة الالهية ان يكون،و كان من ضرورة ذلك و شرائطه وجود النبي كان وجوده واجبا ان لا يكون،لان ما لا يتم الواجب المطلق الا به كان واجبا.
ص: 123
و بعبارة اخري:وجود النبي شرط في وجود التكليف بالسمعيات،و كل ما كان كذلك كان واجبا،فوجود النبي واجب.اما الصغري فظاهرة،و اما الكبري فلان التكليف واجب في الحكمة علي ما مر فلو لم يجب شرطه لجاز الاخلال به، فجاز الاخلال بالمشروط الواجب من الحكيم تعالي،و قد بينا انه لا يجوز عليه الاخلال بالواجب،و قد بان مما ذكرناه الغاية من وجوده.
انكرت البراهمة بعثة الأنبياء،و زعموا انه لا فائدة فيها،لان النبي اما ان يأتي بما يوافق العقل او بما يخالفه،فان كان الاول ففي العقل به غنية عنه،و ان كان الثاني قبح اتباعه،لان اتباع ما يخالف العقل قبيح في العقل.
الجواب:لا نسلم انه اذا اتي بما يوافق العقل كان فيه غنية عنه،اذ ليس كل ما يوافق العقل يجب ان يكون عالما او مستقلا بادراكه،بل جاز ان يكون عالما به علي الجملة،و يجب البعثة لتعريفنا ذلك مفصلا.و هذا كما يعلم المريض علي سبيل الجملة ان كل ما ينفعه يجب تناوله و كل ما يضره يجب اجتنابه و ان لم يعلم تفصيل الضار و النافع،فاذا عرفه الطبيب ان شيئا معينا ينفعه او يضره لم يكن ذلك مخالفا لعلمه الجملي بل موافقا بتفصيله،مع انه ليس في عقله غنية عنه.
ص: 124
و فيه ابحاث:
صفة للانسان يمتنع بسببها من فعل المعاصي و لا يمتنع منه بدونها.
و عندنا:ان النبي معصوم عن الكبائر و الصغائر عمدا و سهوا من حين الطفولية الي آخر العمر.
و جوز بعض الخوارج صدور جميع الذنوب عن الأنبياء.
و جوزت المعتزلة و الزيدية وقوع الصغائر عنهم فيما يتعلق بالفتوي دون الكبائر.
ثم منهم من جوزها سهوا فقط و هو مذهب الاشعرية.
فأما ما يتعلق بأداء الشريعة فأجمعوا علي انه لا يجوز عليهم فيه التحريف و الخيانة لا عمدا و لا سهوا،و كذلك أجمعوا علي ان وقت العصمة هو وقت النبوة دون ما قبله.
لنا وجوه:
(احدها) ان غرض الحكيم من البعثة هداية الخلق الي مصالحهم و حثهم بالبشارة و النذارة و اقامة الحجة عليهم بذلك لقوله تعالي رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَي اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (1) (2)فلو لم يجب في حكمته عصمة
ص: 125
النبي لناقض غرضه من بعثه و ارساله،لكن اللازم باطل فالملزوم مثله.فعصمة النبي واجبة في الحكمة.
اما الملازمة:فلان بتقدير وقوع المعصية منه جاز أن يأمرهم بما هو مفسدة لهم و ينهاهم عما هو مصلحة لهم،و ذلك مستلزم لاغوائهم و اخلالهم،فكان في بعثه غير معصوم مناقضة للغرض من بعثه.
و اما بطلان اللازم:فلان مناقضة الغرض يستلزم السفه و العبث،و هما محالان علي الحكيم كما تقدم في باب اللطف.
(الثاني) لو جاز صدور المعصية عن النبي لوجب علينا فعل المفسدة او ترك المصلحة الواجبة،لكن اللازم باطل فالملزوم مثله.
بيان الملازمة:انه يجب علينا فعل ما أمرنا به و الانتهاء عما نهانا عنه لقوله تعالي ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (1) (2)،فبتقدير أن يجوز المعصية عليه جاز أن يوجب علينا ما هو محرم و يحرم علينا ما هو واجب، و يجب علينا اتباعه في ذلك.
و اما بطلان اللازم:فلان امر الحكيم لنا باتباعه مطلقا يستلزم امره لنا بفعل القبيح اذن،لكن الامر بالقبيح قبيح ممتنع عليه تعالي.
(الثالث) لو جاز صدور المعصية عنهم لكان بتقدير وقوعها منهم لا تقبل شهاداتهم،لقوله تعالي إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (3) (4)لكن اللازم باطل لانها اذا لم تقبل في محقرات الامور فكان اولي أن لا تقبل في الاديان الباقية الي يوم القيامة.6.
ص: 126
و اعلم ان الوجه الاول كما يدل علي عصمة النبي فهو أيضا يدل علي عصمة الرسل من الملائكة.
ينبغي ان يكون منزها عن كل امر تنفر عن قبوله،اما في خلقه كالرذائل النفسانية من الحقد و البخل و الحسد و الحرص و نحوها،او في خلقه كالجذام و البرص،او في نسبه كالزنا و دناءة الاباء،لان جميع هذه الامور صارف عن قبول قوله و النظر في معجزته،فكانت طهارته عنها من الالطاف التي فيها تقريب الخلق الي طاعته و استمالة قلوبهم إليه.
قد بينا انه يجب ان يكون له شواهد بدعواه لغرض تصديقه،و تسمي معجزات.
و المعجز هو الامر الخارق للعادة المطابق لدعوي النبوة المتعذر في جنسه او صفته.
و قلنا«الخارق»لان المعتاد و ان كان قد يكون متعذرا كطلوع الشمس من المشرق الا انه ليس بدليل علي النبوة.
و احترزنا«بالمطابق للدعوي»عما لا يطابق،كما اذا ادعي من المعجز أنه يثير ماء بئر فغاض ماؤها،فان ذلك خارق للعادة متعذر لكنه ليس بدليل لعدم مطابقته للدعوي.
و قلنا«المتعذر في جنسه أو صفته»لان المعجز من فعل اللّه تعالي و لا يقطع
ص: 127
بكونه من فعله الا اذا كان متعذرا من غيره،اما في جنسه كخلق الحياة او في صفته كالحركة الي السماء.
و فيه ابحاث:
محمد رسول اللّه حقا،و برهانه انه ادعي النبوة و ظهر المعجز علي يده موافقا لدعواه،و كل من كان كذلك كان نبيا حقا،فمحمد نبي حق.
اما الصغري فادعاء النبوة منه معلوم بالتواتر،و أما ظهور المعجز علي يده موافقا لدعواه فمن وجوه:
(احدها) انه ظهر عليه القرآن كذلك،و القرآن معجز.
اما ظهور القرآن عليه فبالتواتر،و اما ان القرآن معجز فلانه تحدي به العرب الذين هم اهل الفصاحة و البلاغة فعجزوا عن الاتيان بمثله فكان معجزا.
اما انه تحداهم بالقرآن فلانه بلغ امر ربه في قوله تعالي قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ (1) (2)فلما لم يأتوا بذلك قال قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (3) (4)فلما لم يأتوا قال قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ (5)
ص: 128
اَلْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلي أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ (1) (2) الآية.و هو معلوم بالتواتر أيضا.
و اما انهم عجزوا عن معارضته فلانهم لو كانوا قادرين علي ذلك لما عدلوا عنه الي قتل انفسهم و اتلاف اموالهم في محاربته و اطفاء مقالته،لكن اللازم باطل فالملزوم كذلك.بيان الملازمة:ان غرضهم الاكثر من محاربته ليس الا دفع مقالته،و قد كان الاتيان بمثل القرآن لو امكن مع سهولة الكلام عليهم و علو درجاتهم في الفصاحة و البلاغة كافيا في دفعه و اسكاته،فلو كانوا قادرين علي دفعه من تلك الجهة مع سهولتها عليهم لما عدلوا عنها الي الاشق الّذي هو قتل النفوس في الحرب،و العلم به ضروري.
و اما بطلان اللازم:فظاهر.
و اما انهم لما عجزوا عن معارضته كان معجزا فلصدق حد المعجز حينئذ عليه،و اما موافقته لدعواه فمعلوم بالتواتر أيضا.
(الثاني) لو سلمنا ان القرآن لم يبلغ الي حد الاعجاز الا انه لا نزاع في كونه كتابا شريفا بالغا في الفصاحة و الاشتمال علي العلوم الكثيرة الشريفة من المباحث الالهية و علوم الاخلاق و علم السلوك الي اللّه تعالي و علم احوال القرون الماضية.
ثم ان محمدا عليه السلام نشأ في مكة،و هي خالية عن العلماء و الكتب و المباحث الحقيقية،و لم يسافر الا مرتين في مدة قليلة،و علم من حاله في سفره و حضره أنه لم يواظب علي القراءة و الاستفادة من أحد،و انقضي من عمره أربعون سنة علي هذه الصفة،ثم بعدها ظهر مثل هذا الكتاب الشريف علي لسانه8.
ص: 129
و ذلك معجزة قاهرة ظاهرة،اذ ظهور مثل هذا الكتاب علي مثل ذلك الانسان الخالي عن البحث و الطلب و المطالعة و التعلم لا يمكن الا بوحي من اللّه و إلهام و العلم به ضروري.
(الثالث) انه عليه السلام نقلت عنه معجزات كثيرة:كنبوع الماء من بين اصابعه،و تسبيح الحصي في كفه،و حنين الجذع إليه،و انشقاق القمر،و اقبال الشجر،و اطعام الخلق الكثير من الطعام القليل شبعا في مواضع،و نحو ذلك مما دونه العلماء و رووا أنه ألف معجزة.فهذه المعجزات و ان كان كل واحد منها مرويا بطريق الآحاد الا انا نعلم بالضرورة أنها ليست بأسرها كذبا،بل لا بد ان يصدق بعضها،و ايها صدق ثبت به ظهور المعجز علي يده موافقا لدعواه.
و هذا هو المسمي بالتواتر المعنوي كشجاعة علي عليه السلام و سخاوة حاتم.
و اما بيان كبري القياس الاول فمن وجوه:
(الاول) ان ظهور المعجز علي يد مدعي النبوة مقارنا لدعواه و موافقا لها لما كان من خواص النبي كان كل من اتصف به نبيا،فلما اتصف به محمد عليه السلام علمنا كونه كذلك.
(الثاني) انه لو كان كاذبا فيما ادعاه من النبوة لما جاز أن يخلق اللّه تعالي المعجز علي يديه مقارنا لدعواه،لكن اللازم باطل فالملزوم مثله.
بيان الملازمة:ان العقل يضطر عند مشاهدة المعجز مقرونا بدعوي المدعي الي تصديقه،فلو كان كاذبا لكان تعالي قد صدق الكاذب،لكن تصديق الكاذب مستلزم لتجهيل الخلق و اغرائهم بالقبيح،و هو غير جائز علي اللّه،فثبت انه لو كان كاذبا لما جاز اظهار المعجز علي يده.
و اما بطلان اللازم:فلما مر.
ص: 130
(الثالث) دعوي الضرورة،و نبئوا علي ذلك بأن قالوا ان الملك العظيم اذا حضر في المحفل العظيم فقام واحد و قال ايها الناس اني رسول هذا الملك إليكم ثم قال يا ايها الملك ان كنت صادقا في كلامي فخالف عادتك و قم عن سريرك،فاذا قام الملك عند سماع هذا الكلام علم الحاضرون بالضرورة كون ذلك المدعي صادقا في دعواه،فكذلك حال محمد عليه السلام في دعواه النبوة و اظهار اللّه تعالي الامر الخارق للعادة علي يديه عقيب دعواه.
لا يقال:لا نسلم ان شيئا مما ذكرتموه معجز،و لا نسلم انه من فعل اللّه،و لم لا يجوز أن يكون لنفس هذا الانسان او لبدنه خاصية لاجلها قدر علي ما لم يقدر عليه احد غيره.
سلمناه،لكن لم لا يجوز أن يكون اعانه عليه بعض الجن و الشياطين،كما يقال ان الجن يدخل في بدن المصروع،و حينئذ يكون كلام الذئب و البعير و غيرهما من ذلك القبيل.
سلمناه،لكن لم لا يجوز أن ينسب ذلك الي بعض الكواكب او الملائكة المجردة او ابليس اما بالاستقلال او بالاعداد له و المعونة علي فعل ذلك.
سلمنا ان فاعلها هو اللّه تعالي،لكن لم قلتم انه فعلها لغرض التصديق، و لم لا يجوز أن يكون ابتداء عادة او تكرير عادة متطاولة متباعدة.
سلمناه،لكنه لعله خلقها معجزة لنبي آخر في بعض أطراف العالم أو لملك او كرامة لواحد من جن البر أو البحر.
سلمناه،لكن لعله خلقها علي يده مع كونه كاذبا حتي تشتد البلية و تقوي الشبهة،فيستحق بسببها الثواب العظيم.
لانا نجيب عن الاحتمالات الاولي انه عليه السلام ادعي كون هذه المعجزات
ص: 131
قد فعلها اللّه تعالي علي يديه تصديقا لدعواه الرسالة من عنده،فلو كان شيء منها من فعل غيره لا لغرض تصديقه لكان كاذبا فيما ادعاه.و كان اللّه تعالي قد مكنه مما يروج به كذبه و مكن غيره من مساعدته علي ذلك،فيكون مصدقا للكاذب لكن تصديق الكاذب مستلزم لاضلال الخلق و افسادهم و هو قبيح عقلا،فيمتنع عليه.
و عن الاحتمالات العائدة الي اللّه تعالي انه تعالي لما خلقها علي يديه عقيب دعواه مطابقة لها علمنا بالضرورة كون الغرض بها تصديقه دون سائر الاحتمالات المذكورة.
و اذا ثبت انه صلي اللّه عليه و آله نبي حق وجب ان يكون موصوفا بسائر خواص النبوة و لوازمها من العصمة و البراءة عن وجوه النقائص المنفرة عنه.
اختلف المتكلمون في سبب اعجاز القرآن:
فذهب اكثر المعتزلة الي ان سببه فصاحته البالغة.
و ذهب الجويني الي انه الفصاحة و الاسلوب،و لذلك كان في شعر العرب و خطبهم ما فصاحته كفصاحة القرآن دون اسلوبه،و كان في كلامهم ما اسلوبه كأسلوبه دون فصاحته ككلام مسيلمة.
و ذهب المرتضي رحمه اللّه الي ان اللّه تعالي صرف العرب عن معارضته، و هذا الصرف يحتمل أن يكون لسلب قدرهم،و يحتمل ان يكون لسلب دواعيهم و يحتمل أن يكون لسلب العلوم التي يتمكنون بها من المعارضة.و نقل عنه انه اختار هذا الاحتمال الاخير.
و الحق أن وجه الاعجاز هو مجموع الامور الثلاثة،و هي الفصاحة البالغة
ص: 132
و الاسلوب و الاشتمال علي العلوم الشريفة.فأما كلام العرب فيوجد في بعضه الفصاحة البالغة،و اما الاسلوب فنادر و ممكن عند التكلف،و قلما يمكن اجتماعهما لان تكلف الاسلوب يذهب بالفصاحة.
و اما العلوم الشريفة الموجودة في القرآن فتعود الي علم التوحيد و علم الاخلاق و السياسات و كيفية السلوك الي اللّه و علم احوال القرون الماضية،فربما وجد في كلام بعض حكمائهم كقس بن ساعدة و نحوه ممن قرأ الكتب الالهية السابقة شيء من تلك العلوم،فيكون ذلك منه علي سبيل النقل،و مع ذلك فلا يوجد معه اسلوب القرآن و فصاحته.
و الحاصل:ان كلامهم قد يوجد فيه ما يناسب بعض القرآن في الفصاحة، و هو في مناسبته له في الاسلوب ابعد.و أما في العلوم و المقاصد التي اشتملت عليها فأشد بعدا،فان للقرآن باطنا و ظاهرا كما قال صلي اللّه عليه و آله«ان للقرآن ظهرا و بطنا و حدا و مطلعا فيأخذ كل منه بحسب فهمه و استعداده».
و فيه آيات كثيرة بشرت و انذرت بحوادث مستقبلة،و ذلك مما لا يفي به القوة البشرية الا بتأييد و وحي إلهي،فتكون تلك ممتنعة في كلامهم فضلا ان يعبروا عنها بما يناسب لفظ القرآن في فصاحته و اسلوبه.و باللّه التوفيق.
نبوة نبينا محمد صلي اللّه عليه و آله مبنية علي جواز النسخ،و من اليهود من منع منه عقلا و سمعا،و منهم من اجازه عقلا و سمعا،و منهم من اجازه عقلا و منع منه سمعا.
لنا في جوازه عقلا و سمعا وجوه:
ص: 133
(احدها) انه عبارة عن رفع مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم بنص آخر متراخ عنه علي وجه لولاه لاستمر ذلك الحكم و دام.
ثم ان التكليف بذلك الحكم تابع للمصلحة علي ما مر،و لا يمتنع ان يصير ما هو مصلحة في وقت مفسدة في وقت آخر،و جواز صيرورته كذلك يستلزم جواز نسخه،و الا لكان التكليف به علي تقدير صيرورته مفسدة تكليفا بالقبيح الممتنع علي اللّه تعالي.
(الثاني) انا قد دللنا علي صحة نبوة نبينا محمد صلي اللّه عليه و آله،و لا شك ان شريعته مستلزمة لنسخ كثير من أحكام الشرائع السابقة،فقد ثبت وجود النسخ،و هو مستلزم لجوازه.
(الثالث) انه كان من شريعة آدم عليه السلام جواز تزويج الاخ بالاخت، ثم رفع ذلك الحكم.
و حجة من منع منه عقلا انه يستلزم البداء المستلزم للجهل الممتنع علي اللّه تعالي.
و حجة المانعين منه سمعا ما روي عن موسي عليه السلام انه قال:تمسكوا بالسبت ابدا.و قوله:شريعتي لا تنسخ.
و جواب الاول:لا نسلم انه مستلزم للبداء،لان البداء يستلزم اتحاد الوقت و الفعل و المكلف و وجه التكليف،و ظاهر أن النسخ ليس كذلك،لعدم بعض الشرائط.
و عن الثاني:لا نسلم صحة الخبر.
سلمناه،لكن لا يفيد اليقين،لجواز أن يريد بقوله«أبدا»المدة الطويلة أو الممكنة لوجود مخصص.
ص: 134
سلمناه،لكن لعل فيه اضمارا،و هو قوله«ما لم يأت صاحب شريعة يرفعه»لكن استغني عن اظهاره للعلم به،أو نطق به و لم ينقل إلينا.
سلمناه،لكن قد علمت ان الدليل النقلي لا يفيد اليقين الا اذا لم يقم الدليل العقلي في معارضته،و هاهنا قد قام الدليل العقلي الدال علي نبوة محمد عليه السلام معارضا لما ذكرتم،فيسقط الاستدلال به علي العموم.و باللّه التوفيق.
محمد عليه السلام افضل الأنبياء،و يدل عليه المعقول و المنقول:
أما المعقول فهو انه صلي اللّه عليه و آله اكثر فيضانا للعلوم و أعم نورا من سائر الأنبياء،فوجب أن يكون افضل.
اما الاول:فلان شريعته بلغت اكثر بلاد العالم و انتشرت في اطراف الارض،بخلاف سائر الأنبياء،فان دعوة موسي عليه السلام كانت مقصورة علي بني اسرائيل و هم بالنسبة الي امة محمد عليه السلام في غاية القلة.و اما عيسي عليه السلام فالدعوة الحقة التي جاء بها لم تبق البتة،و أما ما في أيدي النصاري مما يدعونه شريعة له فهو جهل محض و كفر صريح و الاستقراء يحققه،فوجب ان لا يكون شريعة له.
و اما المنقول:فالقرآن و الخبر:
اما القرآن فقوله تعالي بعد ذكر النبيين أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَي اللّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ (1) (2)امره ان يقتدي بهم بأسرهم،فوجب ان يأتي بكل ما أتوا به،فوجب ان يحصل علي مثل كمالات جميعهم،فيكون افضل من كل واحد منهم.
ص: 135
و اما الخبر فقوله عليه السلام:آدم و من دونه تحت لوائي يوم القيامة.
فكان عليه السلام مقدم ولده عند اللّه تعالي و افضلهم،و هو المطلوب.
ان محمدا عليه السلام لم يكن قبل نزول الوحي علي شريعة تختص بأحد من الأنبياء السابقين،لان الشرائع التي كانت قبل عيسي عليه السلام كانت منسوخة بشريعة عيسي،و اما شريعة عيسي فأكثر الناقلين لها كانوا كفارا بطريق القول بالتثليث و الحلول و الاتحاد،و السالمون من هذه الاعتقادات لو وجدوا كانوا علي غاية من القلة،فلا يجوز الاعتماد علي نقلهم و الوثوق بقولهم.
فأما الامور الكلية و القواعد الحقيقية التي اتفقت الأنبياء علي القول بها و شهدت البراهين العقلية بصحتها كالعلم بوجود الصانع و وحدانيته و ما ينبغي له من الصفات و الافعال و القول بالمعاد و استكمال النفوس بالعلوم و مكارم الاخلاق فقد كان عليه السلام متعبدا بها،و إليه الاشارة بقوله تعالي قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلي صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ*دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً (1) (2)الآية،و نحوها من الآيات.
الا ان تعبده بتلك لا من حيث انهم كانوا متعبدين بها،بل لانها في أنفسها كمالات واجب اعتقادها و الاستكمال بها.
انه عليه السلام مبعوث الي جميع الخلق،خلافا لبعض اليهود فانهم زعموا أنه مبعوث الي العرب خاصة.
لنا:انهم سلموا كونه نبيا فوجب كونه معصوما،و قد أخبرنا بالتواتر انه
ص: 136
ادعي الرسالة الي جميع الخلق،فلو كان كاذبا لم يكن معصوما.هذا خلف.
و ان كان صادقا لزم بطلان قولهم.
لما ثبت كونه نبيا حقا وجب ان يكون كل ما اخبر به صادقا من القول بالاسراء و القول بثواب القبر و عذابه و الحساب و الميزان و سائر ما أخبر عنه من احوال القيامة،لانها بأسرها ممكنة و اللّه تعالي قادر علي جميع الممكنات و قد أخبر الصادق عنها،فوجب القول بصحتها.
فان وقع فيها تشكك لبعض الاذهان فسببه الجهل بكيفية وقوع تلك الامور المخبر عنها و كونها علي أي وجه هي.و باللّه التوفيق.
في الطريق الي معرفة شرعه لمن بعده صلي اللّه عليه و آله.اما عندنا فالطريق الي ذلك قول الامام المعصوم الّذي لا يخلو زمان التكليف منه في حق من يحضره.
و اما في حق من نأي عنه فأصول الشريعة معلومة له بالتواتر عن النبي و الائمة عليهم السلام،و أما الفروع فمعلومة بالطرق المظنونة من النقل و الاجماع و الاجتهاد في بعضها.
و اما عند من لم يقل بعصمة الامام فالطريق له هو ما عدا قول المعصوم من الطرق التي ذكرناها.و باللّه التوفيق.
ص: 137
و فيها مقدمة و اركان:
فنقول:الّذي يشير إليه كل انسان بقوله«انا»اما أن يكون جسما او جسمانيا او لا جسما و لا جسمانيا او مركبا من هذه الاقسام،و الي كل واحد منها ذهبت فرقة من الناس:
اما القائلون بأنه جسم فهو مذهب طوائف،و لهم في تعيين ذلك الجسم مذاهب كثيرة،و اشهر مذاهب المتكلمين في ذلك مذهبان:
(احدهما) قول المشايخ كأبي علي و ابي هاشم،و هو انه عبارة عن هذا الهيكل المحسوس.
ص: 138
(و الثاني) قول اكثر المحققين من المتكلمين و اختيار ابي الحسين البصري و هو انه في هذا البدن اجزاء اصلية باقية من اوّل العمر الي آخره من غير أن يتطرق إليها شيء من التغيرات بالزيادة و النقصان،و فيه اجزاء عارضة تبعية تزيد و تنقص،فالانسان المشار إليه بقوله«انا»هو عبارة عن تلك الاجزاء الاصلية دون الفاضلة.
و اما القائلون بأنه جسماني:فمنهم من قال هو عبارة عن الحياة،و منهم من قال عبارة عن التخطيط و الشكل،الي غير ذلك.
و اما القائلون بأنه ليس بجسم و لا بجسماني فهم جمهور الفلاسفة،و من قدماء المعتزلة معمر بن عباد و المفيد من الامامية،و من المتأخرين الغزالي و ابو القاسم الراغب.
و المختار انه عبارة عن اجزاء اصلية باقية من أول العمر الي آخره.
لنا:انه اما ان يكون جسما غير ما ذكرنا او عرضا أو لا جسما و لا عرضا او مركبا من هذه الاقسام،و الاقسام الثلاثة الاخيرة باطلة،فتعين الاول.
انما قلنا انه يستحيل ان يكون عرضا لانه اما ان لا يكون عبارة عن نفس الحياة او ما هو مشروط بها او يكون،و الاول باطل بالضرورة و الاتفاق،و اما الثاني فلانه لو كان عبارة عن احدهما لزم من عدم الحياة ان لا يصل الي مستحق ثواب و لا عقاب،لكن اللازم قبيح غير جائز في الحكمة فيمتنع ملزومه.و اما الملازمة:فلما سنبين من امتناع اعادة المعدوم.
و انما قلنا انه يستحيل أن يكون لا جسما و لا عرضا لانه يكون حادثا،لما دللنا علي أن كل ممكن محدث،و قد ثبت في اصول الفلاسفة ان كل حادث فهو مشروط بمادة أو ما يقوم مقامها،و ثبت أن هذا الجوهر عندهم مشروط
ص: 139
الحدوث بحدوث البدن،و ثبت ان هذا البدن يعدم،فوجب ان يعدم ذلك الجوهر لعدم شرطه.و سنبين ان المعدوم لا يعاد،فلو كان الانسان عبارة عن هذا الجوهر لوجب ان يمتنع عوده علي تقدير عدمه،فوجب ان لا يصل الثواب و العقاب الي مستحقهما،و هو غير جائز من الحكيم.و سنؤكد ذلك بالكلام علي ادلتهم في اثباته و بقائه.
و بمثل هذا البيان بطل ان يكون الانسان عبارة عما تركب من هذه الاقسام لعدم المركب لعدم جزء و امتناع اعادة المعدوم.
و اذا بطلت الاقسام الثلاثة بقي ان يكون جسما،و محال ان يكون عبارة عن هذا الهيكل المحسوس بما فيه أيضا،لان كل عاقل يعلم بالبديهة ان بدنه زمان الشيخوخة غيره زمان الصغر،و ذلك لان البدن ينتقل من الهزال الي السمن و يتحلل بسائر انواع التحللات،فلو كان الانسان عبارة عن هذا الهيكل لزم في كل يوم أن يخرج الانسان عن كونه انسانا و يحدث مثله،و ذلك جهالة.
و اذا بطل ذلك بقي ان يكون عبارة عن اجزاء فيه أصلية باقية من أول العمر الي آخره لا يجوز عليها التبدل و التغير و العدم،لما بيناه و هو المطلوب.
اذا عرفت ذلك فاعلم ان اكثر العالم متفقون علي القول بالمعاد،و هو اما ان يكون جسمانيا فقط و هو قول اكثر المتكلمين،او روحانيا فقط و هو قول كثير من الفلاسفة الالهيين،او جسمانيا و روحانيا و هو قول كثير من المحققين.
و انكره الطبيعيون من قدماء الفلاسفة.و نقل عن جالينوس التوقف،فانه قال لم يظهر لي أن النفس غير المزاج،فبتقدير أن يكون الانسان عبارة عن المزاج-و هو مما يعدم بالموت-فيمتنع اعادته،و بتقدير أن يكون امرا وراء المزاج يجوز بقاؤه بعد فناء المزاج كان المعاد ممكنا،فلذلك توقف.
ص: 140
و فيه ابحاث:
(احدها) اثبات الجوهر الفرد،لان الانسان عبارة عن اجزاء اصلية في البدن يكون اعادتها بجمعها بعد تشذبها و تفرقها،و قد دللنا علي وجوده.
(الثانية) اثبات الخلاء،لان احياز اجسام العالم لو كانت ملاء لما صحت حركة بعض الاجزاء الي بعض عند التأليف و الاعادة بعد تشذبها و تفرقها، و برهان ذلك ان نقول:ان كان الجوهر الفرد حقا فالخلاء حق،لكن الملزوم حتي فاللازم مثله.
بيان الملازمة:انه لو كان العالم ملاء علي ذلك التقدير لكان الجوهر الفرد
ص: 141
اذا انتقل من حيزه الي حيز جوهر آخر فذلك الاخر اما أن ينتقل الي حيز الاول او الي حيز جوهر ثالث،و الاول باطل لان انتقال كل منهما الي حيز الاخر يصير مشروطا بانتقال الاخر الي حيزه،فيكون حركة كل منهما مشروطة بما هو مشروط بها،فيكون شرطا في نفسها هذا محال.و الثاني أيضا باطل،لان الكلام في انتقال الثالث كالكلام في الثاني،فأما ان يلزم كون الشيء شرطا في نفسه او أن يدافع الجواهر بعضها بعضا الي نهاية اجسام العالم،فيلزم من حركة البقة في الهواء و السمكة في عمق الماء ان تتحرك كرة العالم بأسرها،و هو باطل بالبديهة.و اما حقية الملزوم فقد سبق بيانها.
حجة الخصم في نفي الخلاء:لو كان الخلاء موجودا لكانت الحركة فيه اما ان تقع في زمان او لا تقع،و القسمان باطلان،فوجود الخلاء باطل.
اما الملازمة فظاهرة،و اما بطلان القسم الاول فلانا نعلم بالضرورة ان المتحرك فيه كلما كان أدق كانت الحركة فيه أسرع،و بالعكس.و نسبة الرقة الي الغلظ كنسبة السرعة الي البطء،فلو فرضنا ملاء ارق من الماء بحيث يكون نسبة رقته الي رقة الماء كنسبة زمان الحركة في الخلاء الي زمان الحركة في الماء لكانت الحركة مع العائق كهي لا مع العائق.هذا محال.و أما بطلان الثاني:
فلان كل حركة فعلي مسافة،فتكون الحركة الي نصفها سابقة علي الحركة الي كلها،و السبق و التأخر من لواحق الزمان،و كل حركة واقعة في زمان.
و الجواب:لا نسلم وجود ملاء نسبة رقته الي رقة الماء كنسبة زمان الحركة في الخلاء الي زمانها في الماء حتي تكون الحركة مع العائق فيه كهي لا مع العائق.و بيانه:ان الحركة تستدعي لذاتها قدرا معينا من الزمان بناء علي القول بالجوهر الفرد.ثم لا بد لها من قدر آخر بسبب المعاوق في الملاء الرقيق،
ص: 142
فيستحيل ان تتساوي نسبتها مع ذلك القدر الي الماء نسبة الحركة في الخلاء الي الحركة في الماء.و باللّه التوفيق.
(الثالثة) اثبات كونه تعالي قادرا علي جميع الممكنات.
(الرابعة) كونه تعالي عالما بجميع المعلومات الكلية و الجزئية ليميز بين الاجزاء الاصلية لزيد و لعمرو و الفاضلة فيهما و يرد كل اصل الي بدن صاحبه، و هاتان المقدمتان قد بينا صحتهما.
و اذا ثبتت هذه المقدمات ظهر أن تلك الاجزاء التي تفرقت يمكن تركيبها بعينها كما كانت،و هو مرادنا بجواز المعاد الجسماني،و الي هذا اشار القرآن الكريم بقوله وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ (1) الي قوله اَلْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) (3)استلزم ذلك كمال قدرته تعالي و كون الاعادة ممكنة و الا لما تعلقت بها القدرة و دل قوله «وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (4) علي كمال علمه تعالي و قدرته.
اما المنكرون للمعاد الجسماني من الفلاسفة فقد احتجوا بوجوه:
(احدها) لو صح حشر الاجسام لصحت اعادة المعدوم بعينه،لكن اللازم باطل فالملزوم كذلك.بيان الملازمة:ان الانسان ليس عبارة عن تلك الاجزاء الاصلية فقط،لانها اذا تفرقت و صارت ترابا من غير حياة و لا مزاج فان كل احد يعلم ان ذلك التراب ليس عبارة عن زيد بل انما تكون تلك الاجزاء هي زيد اذا تألفت علي وجه مخصوص و قامت بها حياة و علم و قدرة،و اذا كان كذلك فعند تفرق تلك الاجزاء تزول تلك الصفات و تفني،و حينئذ تبطل ماهية زيد من حيث أنه ذلك الشخص المعين،فحينئذ لا تصح اعادته من حيث هو كذلك الا باعادة اعراضه التي زالت و فنيت،و ذلك يستلزم صحة اعادة المعدوم.و اما بطلان7.
ص: 143
اللازم فلما سيأتي إن شاء اللّه تعالي.
(الثاني) انه اذا اغتذي انسان بإنسان آخر حتي صارت اجزاء المأكول اجزاء من المغتذي فيوم القيامة لا بد ان ترد تلك الاجزاء الي بدن احد الشخصين فيضيع الاخر،فعلمنا بطلان حشر الاجساد.
(الثالث) انه تعالي اذا أعاد بدن شخص فاما ان يعيد الاجزاء التي كانت موجودة وقت الموت او جملة الاجزاء التي كانت في مدة الحياة،و الاول يقتضي ان يعاد الاعمي و المجذوم و الاقطع علي تلك الصور و هو باطل بالاتفاق، و الثاني باطل لان المسلم اذا كان سمينا ثم كفر فهزل يلزم ان تعذب الاجزاء التي كانت موصوفة بصفة الاسلام،و كذلك لو كان كافرا سمينا ثم اسلم و هزل يلزم ايصال الثواب الي الاجزاء الكافرة،و ذلك ظلم و هو غير جائز من الحكيم.
و الجواب عن الاول:لم لا يجوز أن يكون الانسان عبارة عن اجزاء اصلية في هذا البدن باقية من اوّل العمر الي آخره لا يجوز عليها التبدل و التغير،و هي التي ينسب إليها الطاعة و المعصية،ثم عند الموت تنفصل تلك الاجزاء و تبقي علي حالها و عند الاعادة تؤلف و تضم معها اجزاء اخر زائدة و يوصل إليها الثواب و العقاب.و علي هذا يكون المثاب و المعاقب في القيامة عين من كان مطيعا و عاصيا في الدنيا.
و عن الثاني:انا بينا ان المعتبر في الحشر و النشر اعادة الاجزاء الاصلية دون الفاضلة،فالاجزاء الاصلية لكل بدن تكون فاضلة في غيره.
و بهذا الحرف يظهر الجواب عن الثالث،لان المطيع و العاصي و المثاب و المعاقب ليس الا تلك الاجزاء الاصلية الباقية من أول العمر الي آخره،فأما الاجزاء الزائدة المتبدلة بالسمن و الهزال فلا عبرة بها.
ص: 144
و يدل عليه المنقول و المعقول:
اما المنقول فاعلم انه قد ثبت بالنقل المتواتر عن الأنبياء عليهم السلام العلم بوقوعه،فوجب القطع بذلك،لان الصادق اذا أخبر عن وقوع امر ممكن الوقوع وجب القطع به.
فان قلت:لم لا يجوز أن يقال ان الأنبياء عليهم السلام انما اثبتوا المعاد الجسماني ليحصل به نظام العالم،لان معرفة المعاد الروحاني موقوفة علي معرفة النفس المجردة و أحوالها المعقولة،و ذلك امر لا يتصوره العوام و النساء،فلو خوطبوا به لم يتصوروه و لم يصدقوا به،فلم ينتفعوا و لم يحصل ما هو مقصود الشارع من جمع الخلق علي نظام واحد و معتقد واحد،فاني لهم بالمعاد الجسماني الظاهر لانه المتصور لهم،كما فعل ذلك في تفهيمهم للصانع حيث اتي بالظواهر المشعرة بالجسمية و الجهة للمبدإ.ثم ان من كان قوي العقل عرف انه لا بد من تأويل هذه الظواهر،كما انه لا بد من تأويل تلك.
و الجواب:ان التأويل انما يصار إليه اذا لم يكن الحمل علي الظاهر جائزا كما في الظواهر المشعرة لجسمية الصانع،و أما عند جوازه كما في المعاد فالظاهر اولي.
و أيضا فانما يصار الي التأويل ان لو كان احتماله قائما،و لما علمنا بالنقل المتواتر من دين محمّد صلّي اللّه عليه و آله انه كان مثبتا للمعاد الجسماني مكفرا لمن انكره لا جرم لم يبق للتأويل فيه مجال.
و اما المعقول فمن وجهين:
ص: 145
(احدهما) لو لم يكن الحشر و النشر حقا لبطل الثواب و العقاب المستحقان بالطاعة و المعصية و الاحسان و الاساءة،لكن اللازم باطل فالملزوم كذلك.
بيان الملازمة:انا نري المطيع و العاصي يدركهما الموت من غير أن يصل الي احد منهما ما يستحقه من ثواب او عقاب،فان لم يحشرا ليوصل إليهما ذلك المستحق لزم بطلانه اصلا.
و اما بطلان اللازم:فلان ذلك ظلم و تبعة لا يجوزان علي الصانع الحكيم، و قد اكد اللّه تعالي هذه الحجة بآيات من القرآن،كقوله تعالي إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزي كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعي (1) (2)و قوله تعالي وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا (3) الي قوله كَالْفُجّارِ (4) (5).
(الثاني) ان يقال:انه تعالي خلق الخلق اما للراحة او للتعب و الالم أو لا لواحد منهما،و الثاني باطل لقبحه و امتناعه من الغني الحكيم الرحيم،و الثالث باطل لكونه سفها و عبثا يمتنع من الحكيم أيضا،فبقي ان يقال انما خلقهم للراحة و هي اما ان تصل إليهم في الدنيا،و هو باطل لان كل ما يعتقد في الدنيا لذة فانما هو دفع للألم،كالذي يظن من لذة الاكل فانما هو دفع ألم الجوع، فلذلك فانما ألذ لقمة تؤكل هي الاولي لشدة ألم الجوع هناك،و كل لقمة تأخرت فهي اقل لذة لضعف ألم الجوع هناك،و كذلك سائر اللذات الحاصلة في هذا العالم.و بتقدير أن يحصل في هذا العالم لذة فانها قليلة و الغالب اما الآلام او دفعها،و ليس من الحكمة تعذيب الحيوان بنيران الآلام و المكروهات لاجل الفوز بذرة من اللذات،فاذن ليس المقصود من خلق الانسان ايصال الراحة إليه في8.
ص: 146
الدنيا،فلا بد من القطع بوجود لذة اخري و عالم آخر تحصل فيه الراحة التامة التي تستحقر في الوصول إليها هذه الآلام،و تلك هي الدار الآخرة في المعاد الجسماني.
اختلف العقلاء في ان الشيء اذا فني و عدم هل يمكن اعادته بعينه أم لا، و اتفقت جملة مشايخ المعتزلة علي ان اعادته ممكنة،و هو تفريع علي مذهبهم ان المعدوم شيء في عدمه،فاذا عدم لم يبطل ذاته المخصوصة و انما زالت عنه صفة الوجود،و لما كانت ذاته المخصوصة باقية في الحالين كانت اعادته ممكنة.
و اتفقت الفلاسفة علي ان اعادته غير ممكن،و هو قول ابي الحسين البصري و محمود الخوارزمي،و لذلك ذهب ابو الحسين البصري الي ان الشيء اذا عدم فمعني عدمه تفرق اجزائه و خروجها عن حد الانتفاع لا فناؤه بالكلية كما اشرنا إليه،و هو المختار.
و اما الاشعرية فانهم يقولون ان الشيء اذا عدم فقد بطلت ذاته و صار نفيا محضا.ثم انهم قالوا انه يعود بعينه.
لنا:لو كانت اعادة المعدوم جائزة لكانت اعادة الوقت الّذي حدث فيه أولا جائزة،لكن اللازم باطل فالملزوم كذلك.بيان الملازمة:ان الوقت الاول من شرائط وجود ذلك الشخص المعين و مشخصاته،فيستحيل وجوده ثانيا بعينه من دون ذلك الشرط.بيان بطلان اللازم:انه لو اعيد ذلك الوقت بعينه لكان ذلك الايجاد احداثا له في وقته الاول،فيكون من حيث هو معاد مبتدأ.
هذا خلف.
ص: 147
احتجت الاشعرية علي جواز اعادة المعدوم بعد فنائه:بأن ماهيته بعد العدم باقية علي الجواز العقلي كما كانت،و الا لخرج الشيء من الامكان الذاتي الي الامتناع الذاتي،و انه محال.و اذا كان ممكنا و اللّه تعالي قادر علي جميع الممكنات كانت اعادة المعدوم مقدورة للّه تعالي.
و الجواب:ان امكان الماهية لا نزاع فيه،انما النزاع في اعادة الشخص الّذي عدم من حيث هو ذلك الشخص،و لا نسلم انه ممكن،و الا فبتقدير وقوعه يلزم ان يكون معادا من حيث هو مبتدأ كما سبق.
لنا:ان الاجسام حادثة و مركبة من الاجزاء التي لا تتجزي علي ما سبق بيانه، فكل ما يلاقيه كل واحد من تلك الاجزاء بأحد طرفيه فانه يصح ان يلاقيه بطرفه الاخر،لاستواء طرفيه في تمام الماهية و وجوب اشتراك المتساويين في اللوازم، و متي لقي بأحد طرفيه الشيء الّذي كان يلقاه بطرفه الاخر فقد وقع الانحلال و الانخراق.
(الثاني) ان تأليفها من تلك الاجزاء لما كان حاصلا بعد العدم كانت ماهيته قابلة للوجود و العدم،و لا معني لجواز الخرق علي الافلاك إلا جواز عدم التأليف بين الاجزاء المركبة منها.
(الثالث) ان تركب الفلك من الجواهر الفرد يستلزم عدم صحة الشكل المستدير عليه،و ذلك يستلزم كون حركته مستقيمة،و كل ما كانت حركته مستقيمة فالخرق جائز عليه عندهم،فاذن الخرق جائز علي الافلاك.
ص: 148
الطريق الي الحكم بذلك ليس الا من جهة السمع،لان العقل ليس له الا الحكم بجواز ذلك،لكن ليس كل ما جاز وقع.
و احتج من قطع بالوقوع بآيات:
(احدها) قوله تعالي كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ (1) (2)دلت الآية علي ان كل ما سوي اللّه فهو هالك.و لا يمكن حمل الهلاك علي الفناء المحض،لما ثبت من وجوب الحشر و النشر و امتناع اعادة المعدوم بعينه،فوجب حمله علي تفرق الاجزاء و تشذبها و خروج المركب عنها عن حد الانتفاع به،و صدق الهلاك علي ذلك ظاهر.
(الثانية) قوله تعالي إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ* وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (3) (4)و قوله تعالي إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (5) (6)و انفطار الافلاك و انشقاقها و انتثار الكواكب منها تخريب لها.
(الثالثة) قوله تعالي يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (7) (8)الآية، و ظاهر ان طي السماء تخريب لها.
(الرابعة) قوله تعالي يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ (9) (10)و التبديل تغيير و اهلاك.
ص: 149
و الآيات الدالة علي هذا المطلوب كثيرة.و باللّه التوفيق.
و فيه ابحاث:
اعلم انه مبني علي ان النفس جوهر مجرد ليس بجسم و لا جسماني،و احتج القائلون بذلك بالمعقول و المنقول:
اما المعقول:فهو أن العلم باللّه تعالي غير منقسم،اذ لو انقسم لكان كل واحد من اجزائه-ان كان-علما باللّه و ان كان الجزء هو الكل هذا محال، و ان لم يكن فعند اجتماع الاجزاء ان لم يحدث هيئة زائدة لم يحصل العلم به تعالي و هو محال،و ان حدثت فان انقسمت عاد التقسيم و ان لم تنقسم فهو المطلوب.
و عند ذلك نقول:وجب أن لا يكون محله منقسما،و كل متحيز و كل قائم به منقسم،فمحله ليس بمتحيز و لا قائم به.اما الاولي فلان الحال في المنقسم منقسم،و اما الثانية فلما مر من نفي الجوهر الفرد.
و اما المنقول فمن وجهين:
(احدهما) قوله تعالي وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ (1) (2)الآية.وجه الدليل:انه لا شيء من الانسان المقتول في سبيل اللّه بميت،
ص: 150
و كل بدن و ما يقوم به ميت.اما الصغري فلقوله تعالي وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ (1) الآية،و اما الكبري فبالضرورة،فاذن هو جوهر مجرد.
(الثاني) قوله عليه السلام في بعض خطبه«حتي اذا حمل الميت علي نعشه رفرفت روحه فوق النعش و تقول يا اهلي و يا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي».
وجه الدليل:ان الروح باقية بعد الموت بصفة الرفرفة،و لا شيء من البدن و ما يقوم به بعد موته بباق،فلا شيء من الروح ببدن و زنا تقوم به.
الجواب عن المعقول:لا نسلم ان الهيئة الزائدة اذا لم تنقسم حصل المطلوب و انما يكون كذلك لو كان العلم عبارة عن تلك الهيئة فقط،و ذلك ممنوع، بل هي احد اجزائه،و هو منقسم.
سلمناه،لكن لم قلتم انه اذا لم ينقسم العلم لا ينقسم محله،و انما يلزم ذلك ان لو كان من الاعراض السارية،و هو ممنوع.
سلمناه،لكن الكبري ممنوعة،لما بينا من صحة الجوهر الفرد.
و عن المنقول:ان الدليلين انما يدلان علي ان هناك امرا آخر وراء البدن و ما يقوم به من الاعراض الفانية،لكن لا يدلان علي انه جوهر مجرد،بل صريح الآية و الخبر يدلان علي انه جسم،لان صفة القتل و الرفرفة تستلزم ذلك.
مذهب محققي الفلاسفة ان النفوس البشرية متحدة بالنوع.و حجتهم:
انها يشملها حد واحد،و كل ما كان كذلك فنوعه واحد.
ص: 151
و منهم من زعم انها مختلفة بالحقيقة.و حجتهم:انها مختلفة بالعفة و الفجور و الذكاء و البلادة،و ليس ذلك بسبب حرارة المزاج،لان بارد المزاج قد يكون في غاية الذكاء و قد يكون بضده حار المزاج،و قد يتبدل المزاج و الصفة النفسانية باقية،و لا من اسباب خارجية لانها قد تكون بحيث تقتضي خلقا و الحاصل ضده فكان ذلك من لوازم النفس،و اختلاف اللوازم يدل علي اختلاف الملزومات.
و الجواب:لم لا يجوز أن يكون ذلك بسبب المزاج،و لا نسلم أن علة الذكاء هي حرارة المزاج فقط،بل اعتدال القوي النفسانية كما ينبغي.و كذلك لا نسلم تبدل مزاج تلك القوي مع بقاء تلك الصفات،بل اذا صارت ملكات لكن ذلك لا ينافي كونها عوارض مستفادة من المزاج.
مذهب محققيهم انها حادثة.و حجتهم انها لو كانت قديمة فاما أن تكون واحدة او كثيرة،و الاول باطل لانها بعد تعلقها بالابدان ان بقيت واحدة فكل ما علمه زيد علمه عمرو و بالعكس،و هو ظاهر البطلان،و ان تكثرت فتلك الكثرة ان كانت حاصلة قبل ذلك لم تكن واحدة و قد فرضت كذلك.هذا خلف.و ان لم تكن كانت كل واحدة منها حادثة و النفس التي كانت واحدة قد عدمت،و اما ان كانت كثيرة فهو باطل أيضا،اذ لا بد للمتكثرات من مميز،و لا تمييز لها قبل بالذاتيات لاتحادها في النوع،و لا بالعوارض لان ذلك من توابع الابدان الجارية مجري المواد و قبل الابدان فلا ابدان،فلا اختلاف بالعوارض،فثبت أنها لو كانت قديمة لكانت اما واحدة أو كثيرة،و ثبت فساد القسمين،فبطل كونها قديمة،و ذلك يستلزم كونها حادثة.
ص: 152
و الاعتراض لم لا يجوز أن يكون الاختلاف بالعوارض.قوله«لان ذلك من توابع الابدان و قبل الابدان فلا ابدان»قلنا لا نسلم،و لم لا يجوز أن يكون قبل هذه الابدان ابدان اخري لا الي اوّل،و النفوس انتقلت مما قبل الي بعد علي سبيل التناسخ.
اتفق القائلون بحدوث النفس علي فساد التناسخ،لان النفس حادثة فيكون حدوثها عن المبدأ القديم موقوفا علي حدوث شرط،و الا لم يكن حدوثها الآن اولي من حدوثها قبل ذلك،و ذلك الشرط ليس إلا حدوث البدن،فأذن حدوث الاستعداد البدني علة لفيضان النفس عن المبدأ القديم،فالبدن الّذي يقبل النفس المستنسخة لا بد ان يستعد لقبول نفس اخري ابتداء،فيجتمع النفسان علي بدن واحد.و هو محال،لان كل عاقل يعلم بالضرورة نفسه شيئا واحدا لا شيئين،و لانه لو قامت به نفسان للزم اختلاف احواله،بأن يحصل التقابلان معا كالنوم و اليقظة و الحركة و السكون.و هو محال بالبديهة.
و اعترض الامام بأن قال:هذه الحجة مبنية علي حدوث النفس،و دليلهم في حدوث النفس مبني علي فساد التناسخ،فيلزم الدور.
اتفقت الفلاسفة علي بقاء النفوس.و حجتهم:انها لو صح العدم لكان لامكان عدمها محل متقدم عليه،و هو امر ثبوتي،فيستدعي محلا ثابتا مغايرا للنفس، لان القابل واجب البقاء مع وجود المقبول،و لا شيء يبقي عند عدمه،فاذن
ص: 153
كل ما يصح عليه العدم فله محل هو مادته.
لكن ذلك باطل،لما بينا انها ليست بجسم و لا بجسماني،و لان ما فرض مادة يجب ان لا يقبل العدم و الا لافتقر الي مادة اخري،و لا محالة ينتهي الي مادة لا مادة لها،فذلك الشيء غير قابل للفساد.
و اعترض الامام:بأنا لا نسلم ان الامكان امر ثبوتي،و حينئذ لا يستدعي محلا ثابتا.سلمنا،لكن النفس مسبوقة الحدوث بالامكان و الالم تحدث،و لما لم يوجب الامكان السابق كونها مادية فكذلك امكان عدمها.
سلمناه،لكن لا يلزم من بقاء مادة النفس بقاء النفس،لان المركب لا يبقي ببقاء واحد من اجزائه،و حينئذ لا يمكن القطع بحصول السعادة و الشقاوة للنفس و بقاء كمالاتها لكونه مشروطا ببقاء صورتها الفانية.
و اجابوا عن الاول:بأنا نعني بالامكان الاستعداد التام،و ظاهر كونه ثبوتيا.
و به ظهر الجواب عن الثاني أيضا،لان الامكان السابق هو الامكان الخاص اللازم للماهيات في العقل،و امكان عدمها المستدعي مادة هو الاستعداد التام، و فرق بينهما و ان اشتركا في لفظ الامكان.
و عن الثالث:انهم انما يكتفون ببقاء المادة لان المادة اذن تكون جوهرا مجردا غنيا عن المادة باقيا مع فناء ما يحل فيه،و يلزم بالدليل الّذي ذكروه في وجوب كون النفس المجردة مدركة لذاتها و لمبدئها كونه كذلك،فيكون هو النفس،و الصورة التي فرضت كانت عرضا زائلا و كمالاتها علمها بمبادئها و ذلك من لوازمها.
ص: 154
النفس عندهم تدرك الجزئيات،لان هاهنا شيئا يحمل الكلي علي الجزئي و ذلك الشيء مدرك لهما،لان التصديق مسبوق بالتصور،و المدرك للكلي هو النفس فالمدرك للجزئي هو النفس،لكن ادراكها للكليات و الجزئيات المفارقة بذاتها و ادراكها للجزئيات المحسوسة بواسطة القوي البدنية،لانا اذا تخيلنا مربعا مجنحا بمربعين و ميزنا بين الجناحين فهذا الامتياز ليس في الخارج فهو في الذهن،فمحل احد الجناحين ان كان محل الثاني استحال حصول الامتياز، لان امتياز احدهما عن الاخر ليس بالماهية و لا بلوازمها المشتركة بين الافراد، لكن الامتياز حاصل فمحل احدهما غير الاخر.و ذلك لا يعقل لا في الجسم و الجسماني،فتلك الصورة منطبعة في آلة جسمانية و هي الخيال،و النفس تدركها بواسطة تلك الآلة.
اتفقوا علي سعادة النفوس الكاملة في قوتيها النظرية و العملية،و كمال القوة النظرية بالعلوم،و اهمها في تحصيل السعادة الباقية معرفة اللّه،لان اللذة هي ادراك الملائم،و لا مدرك اكمل منه تعالي،فادراكه اتم اللذات.و كلما كان استغراق الانسان في معرفته اتم و اوفي كانت سعادته بعد الموت اكمل و اعلي و ذلك امر يحققه العارفون به.
و اما كمال القوة العملية فحصول الملكات الخلقية الفاضلة،و ليست من اسباب السعادة الباقية بالذات،بل غرضها ان لا تصير النفس اميل الي التعلق بالبدن،
ص: 155
فيشتد تعلقها به فيحصل بذلك العذاب،فكانت مستلزمة لنفي التعذيب عن النفس، و ذلك من الامور العرضية في تحصيل السعادة.
اتفقوا علي شقاوة النفوس الجاهلة لانها عادمة للكمالات،فاذا انقطعت عن تعلق الابدان بقيت علي ذلك الجهل دائما و ادركت فوات كمالاتها التي كانت الشواغل البدنية عائقة عنها،فصارت معذبة بتلك الحسرة كما قال تعالي أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتي عَلي ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ (1) الي قوله فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (2) (3)و نحوه.
و اما عادمة الكمالات الثانية الحاصلة علي احدي رذيلتي التفريط و الافراط فربما تزول فيزول عذابها بها.
اما نفوس البله و الصبيان الخالية عن العقائد و الاخلاق فربما قالوا انها تتعلق بضرب من الاجرام السماوية و تستكمل بها،اذ لا معطلة في الطبيعة عندهم.
و اعلم ان حاصل المعاد الروحاني علي رأي من ينكر المعاد الجسماني هو عود النفوس عن هذه الابدان و مفارقتها لها الي مبادئها و حصولها علي ما تحصل عليه من سعادة أو شقاوة،و تقرير هذه الابحاث مستقصي في كتبهم.
اعلم ان جماعة من المحققين أوجبوا المعاد الروحاني و الجسماني معا، و ذلك انهم حاولوا الجمع بين الحكمة و الشريعة،فقالوا:دل العقل علي ان
ص: 156
سعادة النفوس و معرفة اللّه تعالي و محبته،و علي ان سعادة الاجساد في ادراك المحسوسات،و دل الاستقراء علي ان الجمع بين هاتين السعادتين في الحياة الدنيوية غير ممكن،و ذلك لان الانسان حال كونه مستغرقا في تجلي انوار عالم الغيب لا يمكنها الالتفات الي شيء من اللذات الجسمانية،و حال كونه مشغولا باستيفاء اللذات الجسمانية لا يمكنه الالتفات الي اللذات الروحانية،لكن هذا الجمع انما يتعذر لضعف النفوس البشرية في هذا العالم،فاذا فارقت ابدانها و استمدت من عالم النفوس النفوس و الطهارة قويت و شرفت،فاذا أعيدت الي الابدان مرة اخري لم يبعد أن تصير هناك قوية قادرة علي الجمع بين الامرين.
و ظاهر ان تلك الحالة هي الغاية القصوي في مراتب السعادات،و لم يقم علي امتناع هذا المعني دليل،و هو جمع بين الحكمة النبوية و القوانين الحكمية فوجب المصير إليه.
و من الناس من ينكرهما معا،و هو قول من قال ان النفس هو المزاج فقط فاذا مات الانسان فقد عدمت نفسه.ثم انه ينكر اعادة المعدوم،فحينئذ يلزمه انكار المعاد مطلقا،الا ان المقدمة الاولي قد علمت فسادها.و باللّه التوفيق.
و فيه ابحاث:
الوعد هو الاخبار بوصول نفع الي الغير او دفع مضرة عنه في المستقبل
ص: 157
من جهة المخبر،و الوعيد هو الاخبار بوصول ضرر الي الغير أو فوت نفع كذلك.
ثم المستحق بالافعال الاختيارية ستة:مدح،و شكر،و ذم،و ثواب،و عقاب، و عوض:
فالمدح هو القول المنبئ عن عظم حال الغير مع القصد الي ذلك.
و الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع نوع من تعظيم المنعم بقول أو فعل.
و الذم هو القول المنبئ عن اتضاع حال الغير مع القصد الي ذلك.
و الثواب هو النفع الخالص المستحق المقارن للتعظيم و التبجيل.
و العقاب هو الضرر المحض المستحق المقارن للاستخفاف و الاهانة.
و العوض هو النفع المستحق الخالي من تعظيم و تبجيل.
و يستحق المدح و الثواب بفعل الواجب و المندوب و ترك القبيح،و اما الذم و العقاب فيستحقان بفعل القبيح و الاخلال بالواجب،و أما الشكر فيستحق بالنعم و الاحسان،و اما العوض فيستحق بالمشقة الواصلة من الغير لا علي جهة الاستحقاق.
المكلف اما أن يكون مطيعا او عاصيا،فان كان مطيعا فانه يستحق بطاعته الثواب،خلافا للاشعرية و ابي القاسم البلخي من المعتزلة.
لنا:العقل و النقل:
اما العقل فمن وجهين:
(احدهما) ان التكليف اما لفائدة او ليس،و الثاني عبث لا يجوز من الحكيم
ص: 158
تعالي،و الاول فتلك الفائدة اما ان تعود الي اللّه او الي العبد او إليهما،و الاول و الثالث باطلان لتنزهه تعالي عن فائدة تعود إليه،فتعين الثاني.فهي اما ان تعود الي العبد في العاجل،و هو باطل لان اشتغال العبد بالعبادة الشاقة محض الضرر او راجح الضرر،فتعين ان تعود إليه في الاجل،و هو نفس الثواب المستحق بالطاعة التي يقبح بدونها الابتداء به.
(الثاني) ان التكليف الزام مشقة،و الزام المشقة من غير عوض قبيح عقلا فالتكليف من غير عوض قبيح عقلا.و المقدمتان ضروريتان.
و اما المنقول:فقوله تعالي جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (1) و أمثاله (2).
ثم الثواب اما ان يكون مما يجوز الابتداء بمثله او لا يجوز،و الاول باطل و الا لكان توسط التكليف لاجله عبثا.و هو محال من الحكيم.
احتج الخصم بوجهين:
(احدهما) ان الانعام يوجب علي المنعم الشكر و الخدمة،و نعم اللّه علي العبد لا تحصي كما قال تعالي وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها (3) (4)فكانت موجبة لاداء شكره،و اداء الواجب لا يكون علة لاستحقاق شيء آخر عليه تعالي.
(الثاني) انا بينا ان صدور الفعل عن العبد يتوقف علي الداعي،و ان مجموع القدرة و الداعي يوجب الفعل،و ان الجميع من فعل اللّه تعالي،و ما كان فعله لا يوجب عليه ثوابا.
و جواب الاول:لا نسلم ان اداء الواجبات لا يكون علة لاستحقاق شيء آخر لما بينا انه لا بد فيه من فائدة تعود الي المكلف في الاجل،و هي الثواب.4.
ص: 159
و عن الثاني:انا بينا ان العبد مستقل بفعله،ففعله لا يكون فعل اللّه تعالي، فجاز أن يستحق به الثواب منه.
المكلف العاصي اما ان يكون كافرا أو ليس،اما الكافر فأكثر الامة علي انه مخلد في النار،و اما من ليس بكافر فان كانت معصيته كبيرة فمن الامة من قطع بعدم عقابه و هم المرجئة الخالصة،و منهم من قطع بعقابه و هم المعتزلة و الخوارج،و منهم من لم يقطع بعقابه اما لان معصيته لم يستحق بها العقاب و هو قول الاشعرية،و اما لانه يستحق بها عقابا الا ان اللّه تعالي يجوز أن يعفو عنه، و هذا هو المختار.
حجة من قطع بعدم عقاب صاحب الكبيرة:ان كل من يدخل النار مخزي يوم القيامة،و كل من اخزي فهو كافر.بيان الصغري:قوله تعالي رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ (1) (2)و صيغة من تقتضي العموم.و بيان الكبري:قوله تعالي إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَي الْكافِرِينَ (3) (4)دلت الآية علي اختصاص الخزي بالكافرين،فكل مخزي يومئذ كافر،فمن ليس بكافر لا يكون مخزي فلا يدخل النار.
و اما حجة المعتزلة علي القطع بالعقاب فالقرآن و الخبر:اما القرآن فآيات:
(احدها) قوله تعالي وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً (5)
ص: 160
خالِداً فِيها (1) (2) و معلوم ان من ترك شيئا من الواجبات و ارتكب شيئا من المنهيات فقد تعدي حدود اللّه،فوجب ان يدخل النار.
(الثانية) قوله تعالي وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (3) (4).
(الثالثة) قوله تعالي إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيي (5) (6)و امثال هذه الآيات كثيرة.
و اما الاخبار فكثيرة:
(احدها) قوله عليه السلام:من كان ذا لسانين و ذا وجهين كان في النار.
(الثاني) قوله عليه السلام:من غصب شبرا من ارض طوقه اللّه يوم القيامة من سبع ارضين.
(الثالث) قوله عليه السلام:من شرب الخمر في الدنيا و لم ينتبه لم يشربها في الآخرة.
لا شك ان هذه العمومات متناولة للكفار و لمن عصي من اهل القبلة.
و الجواب الاجمالي عن هذه العمومات:انه انما يمكن التمسك بها عند عدم المخصص،لكن لا نسلم أنه لا مخصص،اقصي ما في الباب انه لا مخصص في وجدانكم،لكن عدم الوجدان لا يدل علي عدم الوجود.
سلمناه،لكنها معارضة بالآيات و الاخبار الواردة في الوعد،كقوله تعالي4.
ص: 161
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (1) (2) و قوله تعالي إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً (3) (4)و قوله وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلي ظُلْمِهِمْ (5) (6)كما سيأتي تقريره.
ثم ان الترجيح في جانب الوعد لوجوه:
(احدها) ان آيات الوعد اكثر،و الكثرة مستلزمة للرجحان.
(و الثاني) ان صرف التأويل الي جانب الوعيد احسن من صرفه الي جانب الوعد،لان اهمال الوعيد كرم و اهمال الوعد لؤم.
(الثالث) ان العاصي اتي بأتم الطاعات و اكبرها و هو الايمان،و لم يأت بما هو اكبر المعاصي و هو الكفر،فوجب ان نرجح جانب وعده علي جانب وعيده.
و بيان ذلك:ان المالك اذا أتي عبده بأعظم طاعاته و ارتكب بعض معاصيه التي دون الغاية،فلو رجح تلك المعصية الحقيرة علي تلك الطاعة العظيمة لعد لئيما مؤذيا بعيدا عن الكرم،و ذلك علي اكرم الاكرمين و ارحم الراحمين محال، فعلمنا ان الرجحان في جانب الوعد.و باللّه التوفيق.
و قوله وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (1) (2)فنقول:هذا العفو اما ان يكون عبارة عن اسقاط العقاب عمن يحسن عقابه،او عمن لا يحسن عقابه.و القسم الثاني باطل،لان عقاب من يقبح عقابه قبيح،و من ترك مثل هذا القبيح لا يقال انه عفا.و اما اذا كان له ان يعذبه فترك تعذيبه يقال انه عفا،فتعين الاول.
(الثاني) انه لو كان العفو عبارة عن اسقاط العقاب عن التائب لكان قوله «يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» (3) تكرارا من غير فائدة،فعلمنا أن العفو عبارة عن اسقاط العقاب عمن يحسن عقابه.
(الثالث) قوله تعالي إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ (4) (5)وجه الدليل:ان قوله «وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ» (6) يفيد القطع بأنه تعالي يغفر كل ما سوي الشرك،و يندرج في ذلك الصغيرة و الكبيرة بعد التوبة و قبلها ثم قوله بعد ذلك «لِمَنْ يَشاءُ» (7) يدل علي انه يغفر كل ذلك،لكن لا للكل بل للبعض،فكان غفران الكبيرة و الصغيرة منه صادقا.
(الرابع) قوله تعالي يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلي أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) (9).
فان قلت:لم لا يجوز ان يكون المراد انه تعالي يغفر جميع الذنوب مع التوبة،و هذا اولي لان حملها عليه يقتضي بقاء الآية علي ظاهرها،و علي ما ذكرتم يلزم ان يكون الكفر مغفورا قبل التوبة،و انتم لا تقولون به.
قلت:ما ذكرته يستلزم الاضمار،و ما ذكرناه و ان استلزم التخصيص بالكفر3.
ص: 163
لكن التخصيص خير من الاضمار علي ما علم في أصول الفقه.
(الخامس) قوله تعالي وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلي ظُلْمِهِمْ (1) (2)و كلمة «علي»تفيد الحال،أي ذو مغفرة لهم حال كونهم ظالمين.
(السادس)انا سنقيم الدلالة إن شاء اللّه تعالي علي تأثير شفاعة محمد عليه السلام في اسقاط العقاب عن عصاة امته.
اتفقت المعتزلة علي انه لا يجوز أن يجتمع للمكلف استحقاق الثواب و العقاب معا،ثم اختلفوا فيه اذا فعل طاعة و معصية.
فذهب ابو علي الجبائي الي القول بالاحباط و التكفير،و معناه ان الطاعة اذا تعقبت المعصية-سواء كان أزيد أو انقص-كفرت بها،و ان كان المتعقب هو المعصية أحبطت الطاعة.
و ذهب ابو هاشم الي القول بالموازنة،و معناها أن المكلف اذا فعل طاعة و معصية فأيهما كانت اكثر اسقطت الاخري.
و عندنا انه يجوز أن يجتمع له المستحقان الثواب و العقاب معا.
لنا وجهان:
(احدهما) ان بقاء العلة التامة يستلزم بقاء المعلول،و قد كان الايمان قبل المعصية علة تامة لاستحقاق الثواب،و هو بعينه باق بعدها،فوجب بقاء معلوله بعدها.و هذه الحجة مبنية علي ان الايمان عبارة عن التصديق القبلي،و سنبين ذلك.
و بهذه الحجة يظهر بطلان القول بالموازنة و القول بالاحباط.
ص: 164
(الثاني) ان استحقاق الثواب و استحقاق العقاب اما ان يتنافيا أولا،و الاول باطل،لان تنافيهما اما لذاتيهما و هو باطل،لان ماهية الاستحقاق ماهية واحدة أو باللوازم،و هو أيضا باطل،لان الماهية الواحدة لا يختلف لوازمها،او بالعوارض لكن العارض لما جاز زواله جاز زوال ما به تنافي الاستحقاقين فجاز اجتماعهما،فوجب ان يصلا الي المكلف العاصي بمقتضي قوله تعالي فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (1) .
عندنا ان العاصي من اهل الايمان لا يخلو من ثلاثة احوال:اما ان يعفو اللّه عنه ابتداء،أو بالشفاعة،او يعذبه منقطعا.
لنا في انقطاع عقابه:انه لما يثبت جواز اجتماع استحقاقي الثواب و العقاب فبتقدير حصولهما فان عفي عنه فلا عقاب عليه،و ان لم يعف وجب وصول الاستحقاقين إليه،فأما ان يثاب أولا في الجنة ثم ينقل الي عذاب النار و هو باطل لاجماعنا علي دوام الثواب و لقوله تعالي أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها (2) (3)او يعاقب أولا ثم ينقل الي الجنة و ينقطع عقابه و هو المطلوب.
احتج الخصم بالمعقول و المنقول:
اما المعقول:فهو أنه لما كان الفاسق يستحق نفسه العقاب وجب أن يكون ذلك الاستحقاق مزيلا لاستحقاق الثواب،لان العقاب مضرة خالصة دائمة و الثواب منفعة خالصة دائمة و الجمع بينهما محال،فكان الجمع بين استحقاقيهما محالا،فوجب أن ينفي استحقاق العقاب ما سبق من استحقاق الثواب.
و اما المنقول فهم انهم استدلوا بالآيات الدالة علي تخليد الفاسق كقوله
ص: 165
تعالي وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها (1) (2)و امثاله.ثم قالوا:
الخلود هو الدوام لقوله تعالي وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ (3) (4)،فلو كان الخلود هو المكث الطويل و قد سبق قبله من عمر زمانا طويلا لما كان هذا النفي صادقا.
و جواب الاول:لا نسلم العقاب خالص المضرة دائمها.
فان قلت:ان الموجب له و للمدح و الذم واحد،و هما دائمان،فكان هو أيضا دائما،لمشاركته لهما في المقتضي و هو الفعل.
قلت:لا نسلم أن الفعل موجب للمدح و الذم دائما،و لذلك فان العبد اذا أتي بجرم واحد فأخذ مولاه يلومه دائما نسبه جميع العقلاء الي السفه و الجنون.
سلمناه،لكن لا نسلم استلزام دوام المعلولين دوام الاخر.
و عن الثاني:ان الخلود كما يصدق علي المكث الدائم كذلك يصدق علي المكث الطويل المنقطع،و الاشتراك و المجاز خلاف الاصل،فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك،و هو مطلق المكث الطويل،لانه اعم من الدائم و المنقطع.
و اذا كان كذلك فنقول:انه ان دل في الآية المذكورة علي الدوام بقرينة فلا نسلم انه يدل في آيات وعيد الفساق علي الدوام.
اتفقت الامة علي ان شفاعة الرسول صلي اللّه عليه و آله حق،لكن المعتزلة
ص: 166
قالوا انما يؤثر في زيادة النعيم لاهل الجنة،و الاشعرية قالوا بذلك لكن من جملة تأثيرها اسقاط العقاب عن العصاة،و هو المختار.
لنا:القرآن و الخبر،اما القرآن فقوله تعالي وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ (1) (2)و الفاسق من هذه الامة مؤمن بايمانه علي ما سيأتي،فوجب ان يدخل فيمن يستغفر له الرسول.
ثم هذا الامر اما أن يكون واجبا أو ندبا،و علي التقديرين فالرسول عليه السلام يفعله و طلبه عليه المغفرة من اللّه لمؤمني امته لا يرد،لقوله تعالي وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضي (3) (4)،فوجب ان تتحقق شفاعته في حق فاسقي امته،و بها يسقط العقاب في حقهم.
و اما الخبر فقوله صلي اللّه عليه و آله«اعددت شفاعتي لاهل الكبائر من امتي».
الجنة و النار مخلوقتان:اما الجنة فلقوله تعالي أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (5) (6)و كل معدود موجود فالجنة موجودة،و اما النار فلقوله تعالي في صفتها أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (7) (8).
احتج من منع من ذلك بأنها لو كانت موجودة لوجب ان لا ينقطع نعيمها لكنه ينقطع فليست موجودة.اما الملازمة فلقوله تعالي أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها (9) (10)و اما
ص: 167
بطلان اللازم فلقوله تعالي كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ (1) (2).
الجواب:منع الملازمة،و حمل دوام اكلها و ظلها علي دوامها بعد وجودها و دخول المكلفين لها.و باللّه التوفيق.
التوبة مركبة من ثلاثة امور:احدها الندم علي الماضي من قول أو فعل، و الثاني الترك في الحال،و الثالث العزم علي الترك في الاستقبال.
و الباعث عليها هو اعتقاد كون فعل المعصية مستلزما للضرر العظيم في الآخرة ثم تحصل عن ذلك الاعتقاد نفرة عنها تستلزم تلك الامور الثلاثة.
التوبة واجبة علي العبد لقوله تعالي تُوبُوا إِلَي اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً (3) (4)و هي مقبولة قطعا لقوله تعالي وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ (5) (6).
و يسقط العقاب بها عندنا تفضلا من اللّه تعالي،و اوجبت المعتزلة و الفلاسفة قبولها و سقوط العقاب بها عقلا.
اما المعتزلة فقالوا:لو لم يجب سقوط العقاب بها لما حسن تكليف العاصي و اللازم باطل فالملزوم كذلك.بيان الملازمة:انها لو لم يسقط عقاب العاصي لم يبق له طريق الي الخروج من العقاب المستحق دائما،فلم يكن له طريق
ص: 168
الي حصول الثواب،لاستحالة اجتماع استحقاقيهما علي ما سبق.و اما بطلان اللازم فبالضرورة من دين محمد عليه السلام.
الجواب:منع الملازمة،فانا بينا ان له طريقا آخر و هو العفو.
و اما الفلاسفة فقالوا:المعصية انما تستلزم العذاب من حيث ان حب الدنيا و قنياتها انما بقي في جوهر النفس بعد المفارقة للبدن و لم يتمكن من الوصول الي محبوبها،فحينئذ يعظم بلاؤها.فاذا اطلعت في بدنها علي قبح هذه الامور الفانية و حصل لها الاعتقاد الجازم بذلك زالت تلك المحبة،فبعد المفارقة لا يكون هناك عذاب بسببها.
اكثر الامة علي ان التوبة تصح عن بعض المعاصي دون البعض،خلافا لابي هاشم.
حجتهم:ان اليهودي اذا غصب حبة ثم تاب عن اليهودية مع اصراره علي غصب تلك الحبة يقبل توبته،و العلم به ضروري من الدين.
حجة ابي هاشم:ان التوبة عن القبيح ان كانت لا من حيث هو قبيح فليس بتوبة،لانا بينا ان سبب التوبة عن القبيح هو العلم بقبحه،و ما لم يتحقق السبب لا يتحقق المسبب.و ان كانت عن القبيح لما هو قبيح فالتوبة عن قبيح دون قبيح يكشف عن كون التائب تائبا عن القبيح لا لكونه قبيحا،و قد قلنا ان ذلك يمنع من كونها توبة.
و الجواب:ان القبيح مقبول بحسب الاشد و الاضعف،فلم لا يجوز أن يتوب الانسان عن فعل القبيح لكونه ذلك القبيح،و لا يلزم من ذلك وجوب توبته عن كل قبيح.و باللّه التوفيق.
ص: 169
و فيه بحثان:
اما ان يكون الايمان و الكفر من اعمال القلوب أو من اعمال الجوارح او من اعمالهما.و الاول هو التصديق القلبي.
و اما الثاني:فاما أن يكون عبارة عن التلفظ بالشهادتين،و هو منقول عن الكرامية،أو من جميع افعال الجوارح من الطاعات،و هو قول قدماء المعتزلة و القاضي عبد الجبار،أو عن جميع الطاعات من الافعال و التروك،و هو قول ابي علي و ابي هاشم.
و اما الثالث فهو قول اكثر السلف،فانهم قالوا الايمان تصديق بالجنان و اقرار باللسان و عمل بالاركان.
و المختار أن الايمان عبارة عن التصديق القلبي باللّه تعالي و بما جاء به رسوله من قول أو فعل،و القول اللساني سبب ظهوره،و سائر الطاعات ثمرات مؤكدة له.
لنا:ان الايمان حقيقة في التصديق القلبي،فوجب أن لا يكون حقيقة في غيره دفعا للاشتراك:اما الاول فلقوله تعالي كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ (1) (2)و قوله
ص: 170
وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (1) (2) و امثاله،و المكتوب في القلب و الداخل فيه لا يجوز أن يكون هو القول اللساني،و لا شيء من اعمال سائر الجوارح.
و اما الثاني:فلما ثبت في اصول الفقه ان الاشتراك خلاف الاصل،و قد تبين أيضا ان شيئا من اعمال الجوارح لا يجوز أن يكون جزءا من الايمان، لوجوب اجتماع الجزء و الكل في محل واحد،و امتناع كون القلب محلا لشيء من اعمال سائر الجوارح.
الكفر هو انكار صدق الرسول عليه السلام و انكار شيء مما علم مجيئه به بالضرورة.
و النفاق هو اظهار الايمان و الاسلام و اسرار الكفر.
و أما الفسق فهو الخروج عن طاعة اللّه و رسوله في بعض الاوامر و النواهي الشرعية التي يجب امتثالها مع اعتقاد ذلك الوجوب،و هو عند المعتزلة منزلة بين الكفر و بين الايمان،و لا يصدق عندهم علي الفاسق انه مؤمن و لا كافر، و عند الحسن البصري انه منافق.
و عند جماعة من الزيدية و الخوارج انه كافر.
و عندنا انه مؤمن بايمانه فاسق بفسقه.
لنا:ان الفاسق من اهل الصلاة مصدق باللّه و رسوله و دينه،فكان مؤمنا.
ص: 171
و اما المعتزلة فلما ادخلوا سائر الطاعات في مسمي الايمان لزم علي أصولهم ان يخرج الفاسق عن الايمان لتركه بعضها،و اما أنه لا يدخل في الكفر فلانه يقام عليه الحدود و يقاد به و يدفن مع المسلمين و يغسل و يكفن و يصلي عليه.و لا واحد من الكفار كذلك،فاذن ليس هو بكافر.و اللّه أعلم بالصواب.
ص: 172
و فيه مقدمة و اركان:
فاعلم ان الكلام في هذه القاعدة أيضا كالكلام في قاعدة النبوة في ترتيبها علي خمس مسائل،يسأل عن كل واحدة منها بكلمة مفردة،و هي:ما،و هل، و لم،و كيف،و من.
فأولها قولنا«ما لإمام»،و البحث في هذه المسألة عن مفهوم هذه الكلمة في الاصطلاح العلمي.
الثانية قولنا«هل الامام»اي هل يكون الامام مما يجب في الحكمة وجوده أم لا،و هل يجب دائما بحيث لا يجوز خلو زمان التكليف عنه او في
ص: 173
بعض الاوقات.
الثالثة قولنا«لم يجب وجود الامام»،و يبحث فيها عن العلة الغائبة لوجوده و وجه الحكمة فيه.
الرابعة قولنا«كيف الامام»،و يبحث فيها عما ينبغي أن يكون عليه من الصفات التي بها يكون إماما.
الخامسة قولنا«من الامام»،و يبحث فيها عن تعيينه في سائر زمان الاسلام.
و نحن نذكر الفصول علي هذا الترتب إن شاء اللّه تعالي.
و فيه ابحاث:
هو انسان له الامامة،و هي رئاسة عامة في امور الدين و الدنيا بالاصالة.
فقولنا«رئاسة»كالجنس لها و الباقي من قبيل الخواص.
و احترزنا ب«العامة في امور الدين و الدنيا»عن الخاصة ببعضها.
و بقولنا ب«الاصالة»احتراز عن رئاسة النواب و الولاة من قبله.
و مفهوم كونه إماما و ان كان اعم من كونه انسانا لكن يعلم كونه انسانا بحسب العرف.
ص: 174
لانه اما ان يجب ذلك علي العباد أو علي اللّه او لا يجب اصلا.
و الاول اما ان يجب عقلا او سمعا،و الاول مذهب ابي الحسين البصري و الجاحظ،و الثاني مذهب الاشعرية و اكثر المعتزلة و الزيدية.
و الثاني قول الشيعة فمنهم من قال يجب علي اللّه نصبه ليعلمنا معرفته و يرشدنا الي وجوه الادلة و المطالب،و هو قول الاسماعيلية،و منهم من قال يجب علي اللّه نصبه ليكون لطفا لنا لاداء الواجبات العقلية و الاجتناب عن المقبحات و يكون حافظا للشريعة مبينا لها،و هو قول الاثني عشرية.
و الثالث قول من قال لا يجب نصبه،فمنهم من قال لا يجب في وقت الحرب و الاضطراب،لانه ربما كان نصبه سببا لزيادة البشر،و منهم من عكس،و منهم من قال لا يجب اصلا.و المختار انه يجب نصبه في حكمته تعالي.
لنا:ان نصب الامام لطف من فعل اللّه تعالي في أداء الواجبات الشرعية التكليفية،و كل لطف بالصفة المذكورة فواجب في حكمة اللّه تعالي أن يفعله ما دام التكليف بالمطلوب فيه قائما،فنصب الامام المذكور واجب من اللّه في كل زمان التكليف.
اما الصغري:فان مجموعها مركب من كون نصب الامام لطفا في الواجبات الشرعية،و من كونه من فعل اللّه.اما الاول فلان المكلفين اذا كان لهم رئيس تام الرئاسة عادل ممكن كانوا أقرب الي القيام بالواجبات و اجتناب المقبحات، و اذا لم يكن كذلك كان الامر بالعكس،و العلم بهذا الحكم ضروري لكل عاقل بالتجربة لا يمكنه دفعه عن نفسه بشبهة،و لا معني للطف الا ما كان مقربا الي الطاعة
ص: 175
و مبعدا عن المعصية،فثبت ان نصب الامام لطف في اداء الواجبات.و أما كونه من فعل اللّه فلما سنبين ان هذا الامام لا يجوز عليه الاخلال بالواجب و لا فعل القبيح،فحينئذ لا يمكن أن يكون نصبه الا من فعل اللّه،لانه القادر علي تمييز من يجوز وقوع المعصية منه عن غيره لاطلاعه علي السرائر دون غيره.
و اما الكبري فلانه لو لم يجب منه تعالي وجود ذلك اللطف في مدة زمان التكليف بالملطوف فيه لقبح التكليف به و انتقض الغرض منه،و اما تمكين هذا الامام فهو من افعال المكلفين،اذ المدح عليه و الذم علي عدمه راجعان إليهم.
لا يقال:لم لا يجوز أن يقوم غير هذا الامام مقامه من فعل اللّه او من فعل غيره،فلا يكون نصبه بعينه واجبا.سلمناه،لكن متي يجب هذا النصب اذا كان خاليا عن وجود المفاسد أو اذا لم يكن.و الثاني ممنوع،فلم لا يجوز ان يكون فيه مفسدة خفية لا نعرفها و بسببها لا يجب.سلمناه،لكن انما يجب نصبه لكونه لطفا،لكنكم شرطتم في كونه لطفا تمكينه،فعند عدم تمكينه لا يكون نصبه لطفا فلا يجب.
لانا نجيب:
عن الاول:ان قيام الغير مقامه لا يتصور الا في حال عدمه،و قد قلنا انا نعلم بالضرورة ان عدم نصبه و تمكينه مستلزم لبعد الخلق عن الصلاح و قربهم من الفساد، فيستحيل ان يكون له بدل.
و عن الثاني:ان قرب المكلفين من الطاعة و بعدهم عن المعصية مطابق لغرض الحكيم من التكليف و مقرب لحصوله،فيكون مرادا له،فلو كان فيه مفسدة لكان تعالي مريدا للمفسدة،و قد سبق بطلان ذلك.
و عن الثالث:انا لا نجعل التمكين شرطا في كون نصبه لطفا،بل من تمام
ص: 176
اللطف و كماله،اذ مجرد نصب الامام لطف لاوليائه و المعتقدين بصحة إمامته في قربهم من الواجبات و بعدهم من المقبحات،اذ لا يأمنون في كل وقت من تمكينه و ظهوره عليهم.و باللّه التوفيق.
و هي أمران:
(احدهما) ان يكون المكلفون مع وجوده اقرب الي الطاعات و ابعد عن المعاصي،لجواز وقوعها منهم،و ذلك بردعه لهم عنها و حمله اياهم علي اضدادها.
(الثاني) أن يكون الشرع محفوظا بوجوده،لما سنبين من وجوب عصمته و باللّه التوفيق.
و فيه ابحاث:
انه يجب أن يكون الامام معصوما،و يدل عليه وجهان:
(احدهما) لو لم يكن معصوما للزم وجوب اثبات ائمة لا نهاية لها،لكن اللازم باطل فالملزوم كذلك.بيان الملازمة:انه لو لم يكن معصوما فبتقدير
ص: 177
صدور المعصية عنه نفتقر الي امام آخر يؤدبه عليها و يثقفه عند الاعوجاج عن سبيل اللّه،و الا لم يكن ملطوفا له،و هو باطل علي ما مر،و يكون الكلام في ذلك الامام كالكلام فيه،و يلزم التسلسل.و اما بطلان اللازم فظاهر.
لا يقال:لم لا يجوز أن يكون انتهاؤه في الاحتياج الي النبي او القرآن و السنة،فلا يلزم التسلسل.سلمناه،و لكن لم لا يجوز أن يكون هو لطفا لكل واحد من الامة،و يكون مجموع الامة لطفا له،فينقطع التسلسل.و لا يلزم الدور لاختلاف جهة اللطف.
لانا نجيب عن الاول:ان نسبة المكلفين الي النبي و القرآن نسبة واحدة،فلو كان النبي او القرآن مغنيا لواحد من المكلفين مع جواز الخطأ عليه لكان مغنيا للجميع،و حينئذ لا يجب احتياجهم جميعا الي امام،لكن هذا اللازم باطل لما سبق فالملزوم كذلك.
و عن الثاني من وجهين:
احدهما-ان الامام واحد من الامة،فان جاز أن يكون مجموع الامة لطفا له فليجز في كل واحد منهم ذلك،و حينئذ لا حاجة بهم الي امام كما سبق.
الثاني-ان مجموع الامة سوي الامام لا يكون معصوما بالاتفاق،اما عندنا فظاهر و اما عند الخصم فلخروج الامام عن ذلك المجموع،و حينئذ يكون ذلك المجموع جائز الخطأ،فلا يصلح ان يكون لطفا في حق الامام.
(الوجه الثاني) في ان الشريعة التي جاء بها الرسول صلي اللّه عليه و آله واجبة علي جميع المكلفين الي يوم القيامة،فلا بد لها من حافظ ينقلها إليهم من غير تغيير و لا تحريف،و الا لكان التكليف بها تكليفا بما لا يطاق،فذلك الناقل يجب أن يكون معصوما و إلا لجاز فيها التغيير و التحريف و قد أبطلنا،فذلك الحافظ
ص: 178
المعصوم اما مجموع الامة او آحاد بعض منها،و الاول باطل لان عصمة مجموع الامة انما تعلم بالنقل،فهي مشروطة بصحته،فلو جعلنا النقل مشروطا بصحة عصمتهم لزم الدور و انه محال،فتعين الثاني و هو مرادنا بالأئمة المعصومين.
لا يقال:لم لا يجوز ان تبقي محفوظة بنقل اهل التواتر.سلمناه،لكن انما تكون محفوظة بنقل الناقل المعصوم أن لو كان ذلك الناقل بحيث يري و يستفاد الشريعة منه،اما اذا لم يكن كذلك فلا.
لانا نجيب عن الاول:ان نقل اهل التواتر انما يحفظ ما نقلوه و يدل علي صحته فاما لا يدل علي ان الّذي لم ينقلوه لم يوجد فأين احد البابين من الاخر.
و عن الثاني:لا نسلم انها لا تكون محفوظة بالناقل المعصوم الا اذا كان بحيث يري،فان عندنا أن الشريعة محفوظة في زمان غيبته،و هي التي في ايدينا لم يفت منها شيء،فاذا اختلت وجب ظهوره لبيانها.و باللّه التوفيق.
انا لما بينا انه يجب أن يكون معصوما وجب أن يكون مستجمعا لاصول الكمالات النفسانية،و هي:العلم،و العفة،و الشجاعة،و العدالة.
فأما العلم فلا بد و أن يكون عالما بما يحتاج إليه في الامامة من العلوم الدينية و الدنياوية كالشرعيات و السياسات و الآداب و فصل الحكومات و الخصومات، اذ لو جاز أن يكون جاهلا بشيء منها مع حاجة إمامته الي ذلك لكان مخلا ببعض ما يجب عليه تعلمه،و الاخلال بالواجب ينافي العصمة.
و اما العفة فلان عدمها يستلزم اما طرف التفريط،و هو خمود الشهوة و ذلك تقصير عما ينبغي،و اما طرف الافراط،و هو الفجور و ذلك أيضا مناف للعصمة.
ص: 179
و اما الشجاعة فان عدمها مستلزم لاحد طرفي الافراط و التفريط،و الاول رذيلة التهور و فيها القاء النفس الي التهلكة و ذلك معصية تنافي العصمة،و الثاني رذيلة الجبن المستلزم للفرار من الزحف و القعود عما يجب عليه من قمع الاعداء من اهل الفساد في الدين و هو ينافي العصمة.
و اما العدالة فلان عدمها مستلزم اما للانظلام و هي رذيلة منهي عنها منافية للعصمة أيضا،و اما للظلم و هو من كبائر المعاصي المنافية للعصمة.
فثبت ان الامام يجب ان يكون مستجمعا لاصول الفضائل النفسانية.و باللّه التوفيق.
يجب أن يكون افضل الامة في كل ما يعد كمالا نفسانيا،لانه مقدم عليهم و المقدم يجب أن يكون افضل،لان تقديم الناقص علي من هو اكمل منه قبيح عقلا.
يجب أن يكون متبرئ من جميع العيوب المنفرة في خلقته من الامراض كالجذام و البرص و نحوهما،و في نسبه و اصله كالزنا و الدناءة و الصناعات الركيكة و الاعمال المهينة كالحياكة و الحجامة،لان الطهارة عن ذلك تجري مجري الالطاف المقربة للخلق الي قبول قوله و تمكنه،فيجب كونه كذلك.
ص: 180
يجب كونه منصوصا عليه،و لا طريق الي تعيينه الا بالنص،خلافا لسائر الفرق.
لنا:انه واجب العصمة،و كل من كان كذلك فيجب النص عليه.اما الصغري فقد سبق بيانها،و اما الكبري فلان العصمة امر باطن لا يطلع عليه الا اللّه تعالي،و اذا كان كذلك وجب أن يكون تعيينه بالنص عليه،بل وجب ان لا طريق الي ذلك سواه.
لا يقال:لا نسلم وجوب النص عليه،و لم لا يجوز ان يفترض اللّه اختيار الامام الي الامة اذا علم انهم لا يختارون الا المعصوم.سلمناه،لكن لو وجب النص عليه لكان اللّه تعالي مخلا بالواجب لانه لم ينص عليه،لكن اللازم باطل فالملزوم كذلك.
لانا نجيب عن الاول:بأن الامة علي تقدير علمهم بأن الامام واجب العصمة اما ان يعلمهم اللّه بأن الّذي اختاروه هو الامام او لا يعلمهم،و الاول يستلزم كون الطريق الي العلم به النص،و الثاني يستلزم جهلهم،لكن ذلك المعين واجب العصمة مع علمهم بأن الامام يجب أن يكون واجب العصمة،فيلزم من ذلك شكهم في كون ذلك المعين هو الامام،و ذلك يستلزم توقفهم عن امتثال امره، و هو قادح في غرض الامامة من كونه لطفا لهم.
و عن الثاني:منع الملازمة،فانا سنبين انه وجد النص عليه.
ص: 181
يجب ان يكون مخصوصا بآيات و كرامات من اللّه،لان الحاجة قد تمس إليها في تصديق بعض الخلق له،فاذا ظهرت مقارنة لدعواه الامامة علم بها صدقه.
ثم الفرق بينها و بين المعجزات النبوية أن المعجزات مشروطة بدعوي النبوة و اما الكرامات فليست كذلك،بل جاز أن تقارن دعوي الامامة و قد تحصل بدونها.و باللّه التوفيق.
و فيه ابحاث:
الامام الحق بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله بلا فصل امير المؤمنين علي عليه السلام لوجوه:
(الاول) انه كان افضل الخلق بعده صلي اللّه عليه و آله،و كل من كان كذلك فهو أولي بخلافته و احق بأمره من غيره.
بيان الصغري:انه عليه السلام كان مستجمعا للفضائل الخلقية،و كان اكمل فيها من سائر الصحابة،و كل من كان كذلك كان أفضل منهم.بيان الصغري:
ص: 182
ان اصول الفضائل كما علمت أربعة و هو العلم و العفة و الشجاعة و العدالة،و قد كانت ثابتة له عليه السلام.اما العلم فقد كان عليه السلام اعلم الامة بعد رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله،و بيانه بالاجمال و التفصيل:
اما الاجمال فهو انه لا نزاع في انه كان في غاية الذكاء و الاستعداد للعلم، و كان رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله افضل الفضلاء،ثم انه بقي من أول صغره الي حين وفاة الرسول في خدمته يلازمه ليلا و نهارا و يدخل عليه في كل وقت، و لم يتفق ذلك لاحد من الصحابة.و معلوم ان التلميذ اذا كان بتلك الصفة من الفطنة و الحرص علي العلم و كان الاستاذ في غاية الفضل و الحرص علي ارشاده و تعليمه و كان الاتصال بينهما حاصلا في كل الاوقات فانه يبلغ ذلك التلميذ مبلغا عظيما في العلم.
و أما التفصيل فمن وجوه:
احدها -قوله عليه السلام«اقضاكم علي»و القضاء محتاج الي جميع انواع العلوم،فلما رجحه في القضاء علي الكل يلزم ترجيحه عليهم في كل العلوم،و اما سائر الصحابة فانما رجح بعضهم في علم واحد،كقوله عليه السلام «أفرضكم زيد»و«اقرأكم ابي».
الثاني -ان اكثر المفسرين سلموا ان قوله تعالي وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (1) (2)نزلت في حق علي عليه السلام،و اختصاصه بزيادة الفهم يستلزم اختصاصه بمزيد العلم.
الثالث -نقل عنه عليه السلام انه قال«لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا»، و ذلك يدل علي انه قد بلغ في كمال العلم الي اقصي ما يبلغ إليه القوة البشرية2.
ص: 183
و لم يدع احد ممن عداه هذه المرتبة.
الرابع -انه قال«لقد اندمجت علي مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الارشية في الطوي البعيدة»،و ذلك يدل علي اختصاصه بعلوم ليس في قوة غيره من الصحابة الوصول إليها.
الخامس -انه قال«لو كسرت لي الوسادة ثم جلست عليها لقضيت بين اهل التوراة بتوراتهم و بين اهل الإنجيل بانجيلهم و بين اهل الفرقان بفرقانهم، و اللّه ما من آية نزلت في بر او بحر او سهل او جبل و لا سماء و لا أرض و لا ليل و لا نهار الا و انا اعلم فيمن نزلت و في اي شيء نزلت».
و لئن قلت:التوراة منسوخة فكيف يجوز الحكم بها.
قلت:المراد أنه متمكن من تفصيل احكامها كما أنزلت و بيانها لمن له العمل بها من اهلها بعد اداء حق الجزية.
السادس -ما اشتهر و تواتر من رجوع اكابر الصحابة إليه في كثير من الاحكام كرجوع عمر في قصة المجهضة و قصة المرأة التي ولدت لستة اشهر فأمر عمر برجمها و التي اقرت بالزنا و هي حامل فأمر برجمها،و قول عمر بعد رده عليه السلام له و بيان ما اشكل عليه«لو لا علي لهلك عمر»و قوله«لا عشت لمشكلة لا تكون لها يا أبا الحسن»،فان كل ذلك يدل علي كمال علمه و مزيده فيه علي غيره.
السابع -ان اعظم العلوم و اهمها اصول الدين،و قد ورد في خطبه عليه السلام من أسرار التوحيد و العدل و القضاء و القدر و النبوة و احوال المعاد ما لم يأت في كلام احد من الأولياء و اكابر الحكماء،حتي ان جميع فرق العلماء من المتكلمين و الفقهاء و علماء الاخلاق و السياسات و علماء التفسير و النحو و الفصاحة
ص: 184
ينتهون إليه عليه السلام كما بين ذلك في مظانه،كما تجده عند استقراء كلامه عليه السلام و كلام من بعده من العلماء،و ذلك مستلزم لأفضليته علي سائر الخلق بعد رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله.
و اما العفة فقد كان له عليه السلام فيها الآية،و يكفيك في التنبيه علي حاله فيها مطالعة كلامه في نهج البلاغة،نحو كتابه الي عثمان بن حنيف الانصاري عامله بالبصرة و قد بلغه انه دعي الي وليمة قوم فأجاب إليها،و قوله فيه«ألا و إن إمامكم قد اكتفي من دنياه بطمريه و من طعمه بقرصيه،ألا و انكم لا تقدرون علي ذلك و لكن اعينوني بورع و اجتهاد و عفة و سداد»و قوله فيه«و ايم اللّه يمينا استثني فيها بمشية اللّه تعالي لأروضن نفسي رياضة تهش معها الي القرص اذا قدرت عليه مطعوما و تقنع بالملح مأدوما و لأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها أ تمتلئ السائمة من رعيها فتبرك و تشبع الربيضة من عشبها فتربض و يأكل علي من زاده فيهجع،قرت اذن عينه اذا اقتدي بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة و السائمة المرعية»الي غير ذلك من كلامه عليه السلام.و التواتر شاهد بأنه كان علي حالة تشهد بأنه ازهد الناس بعد الرسول صلي اللّه عليه و آله.
و اما الشجاعة:فالخوض في اثباتها له يجري مجري إيضاح الواضحات.
و اما العدالة:فهي ملكة تنشأ عن هذه الملكات الثلاث و تلزمها،و يكفي في التنبيه عليها قوله عليه السلام«و اللّه لو اعطيت الاقاليم السبعة بما فيها علي ان أسلب نملة جلب شعرة ما فعلته»،و ذلك ابلغ ما يوصف من ترك الظلم و الحصول علي وسط العدل و فضيلته.
فثبت بهذا أنه عليه السلام كان مستجمعا لاصول الفضائل و انه فيها اكمل من غيره و اما ان كل من كان كذلك فهو افضل فلانه لا معني للافضل الا الاكثر فضلا.
ص: 185
(الثاني) من التفضيل ان الرسول اللّه صلي اللّه عليه و آله لما آخي بين الصحابة آخي بينه و بين نفسه،و ذلك يستلزم أفضليته علي سائر الصحابة،اذ المؤاخاة مظنة المواساة في المنصب و قيام كل من الاخوين مقام الاخر،فلما كان محمد عليه السلام افضل الخلق كان القائم مقامه كذلك.
(الثالث) قوله صلي اللّه عليه و آله في ذي الثدية«شر الخلق و الخليقة يقتله خير الخلق و الخليقة»،و في رواية«يقتله خير هذه الامة»و كان قاتله عليا عليه السلام.
(الرابع) قوله صلي اللّه عليه و آله لفاطمة«ان اللّه اطلع علي اهل الدنيا فاختار منهم اباك فاتخذه نبيا،ثم اطلع ثانيا فاختار منهم بعلك».
(الخامس) روي عن عائشة انها قالت:كنت عند النبي اذ أقبل علي.فقال:
هذا سيد العرب.فقلت:بأبي انت و أمي أ لست سيد العرب؟فقال:انا سيد العالمين و هو سيد العرب.
فهذه الوجوه و امثالها مما يدل علي انه افضل الخلق بعد محمد عليه السلام.
و اما ان كل من كان افضل فهو أولي بالخلافة و احق بالتقديم فهي مقدمة جليه غنية عن البيان،اذ كان قبح تقديم المفضول علي الفاضل فيما يحتاج إليه في التقديم مركوزا في بداية العقول.
(الوجه الثاني) ان نقول:الامام يجب ان يكون واجب العصمة،و لا واحد من الصحابة سوي علي عليه السلام بواجب العصمة،فلم يجز ان يكون الامام من الصحابة غير علي.اما الصغري:فقد مر بيانها،و اما الكبري فلان الناس بعد الرسول اختلفوا،فمنهم من قال بأن الامام علي،و منهم من قال بأنه العباس،و منهم من قال بأنه ابو بكر،و اجماع الناس علي تعيين احد هؤلاء الثلاثة مما يدل علي ان غيرهم ليس في مرتبتهم،لكن العباس و ابو بكر
ص: 186
لم يكونا واجبي العصمة بالاتفاق و اما من دونهما فبالاولي،و حينئذ يتعين أن يكون الامام هو علي،و الا لخرج الحق عن الامة و خلا الزمان عن الامام المعصوم،و قد سبق بطلانه.
(الوجه الثالث) النص الجلي من رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله في حقه بحيث لا يقبل التأويل،كقوله«سلموا عليه بإمرة المؤمنين و اسمعوا له و اطيعوا» و قوله«انت الخليفة من بعدي»،و ذلك مما تواترت و نقلته خلفا عن سلف و هم يملئون وجه الارض،فيجب أن يكون هو الامام الحق بعده بلا فصل.
لا يقال:لا نسلم اصل هذا النص.سلمناه،لكن لا نسلم انه متواتر،لان من شرط التواتر استواء الطرفين و الواسطة،و ذلك غير معلوم في الامامية.
سلمناه،لكن لا نسلم انه تواتر إليهم،و الا لعلمناه كما علموا،لاشتراكنا و اياهم في سببه و هو السماع.
لانا نجيب عن الاول و الثاني:بأن شرط التواتر عند المحققين انما هو حصول اليقين من الخبر،و لا عبرة بالعدد كما تحقق ذلك في المطولات،و هذا النص مما حصل العلم اليقين به للامامية.
و عن الثالث:ان الامامية جاز أن يختصوا بعلم هذا النص،لانه لم يسبق الي اذهانهم نفي مقتضاه بشبهة،و ذلك من شروط العلم التواتري،و الخصم لما سبق الي ذهنه ذلك لا جرم لم يحصل له العلم به.
و لنا علي هذا المطلوب دلائل كثيرة،و فيما ذكرناه مقنع هاهنا.
و هي من وجوه:
ص: 187
(الاول) قوله تعالي وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَي* اَلَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّي* وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزي (1) (2)الآية،فنقول:هذا الاتقي يجب أن يكون افضل،لقوله تعالي إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ (3) (4)،و اجمعت الامة علي ان الاتقي اما علي و اما ابو بكر،و لا يمكن حمله علي علي،لانه قد كان للنبي عليه السلام عليه نعم كثيرة،فأما ابو بكر فانما كانت له عليه نعمة الارشاد الي الدين،و تلك النعمة لا تجزي البتة،فتعين ان المراد به ابو بكر،فكان افضل الخلق بعد النبي عليه السلام،فلو كان مبطلا في إمامته لكان ظالما،فلم يكن افضل لكنه افضل فهو محق في الامامة.
(الثاني) قوله عليه السلام«اقتدوا باللذين من بعدي ابي بكر و عمر» أوجب الاقتداء بهما في الفتوي،فوجب أن لا يكونا غاصبين للامامة و إلا لكانا فاسقين،فلم يجز الاقتداء بهما.
(الثالث) قوله عليه السلام في حقهما«ابو بكر و عمر سيدا كهول اهل الجنة»و لو كانا غاصبين للامامة لكانا ظالمين فلم يكونا من اهل الجنة لذلك.
و جواب الاول:لا نسلم ان نعمة الارشاد الي الدين لا تجزي.نعم قد لا يكون جزاؤها مساويا لها في الفضل،و ذلك لا يدفع اصل الجزاء.
سلمناه،لكن لا نسلم ان الاتقي الموصوف في الآية هو المشار إليه بالاتقي في الآية الاخري او صادقا عليه،بل جاز ان يكون مباينا له،و حينئذ لا يلزم ما ذكرتموه.
سلمناه،لكن قوله «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ» (5) انما يدل علي ان كل من3.
ص: 188
كان اكرم عند اللّه فصفة الاتقي ثابتة له،لا علي ان كل من كان اتقي هو اكرم، لان الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها،و حينئذ لا يلزم من كونه أتقي كونه اكرم عند اللّه و افضل.
و عن الثاني:لا نسلم صحة الخبر.سلمناه،لكن الامر بالاقتداء بهما امر مطلق محتمل للاقتداء بهما في الرأي و المشورة أو في الفتوي،و ذلك محتمل للمرة الواحدة و المرات،فأين ذلك من الدلالة علي صحه إمامتهما.و لا منافاة بين الاقتداء بهما في شيء يغلب علي الظن حقيقته منهما و بين غصبهما للامامة.
و عن الثالث:انا نمنع صحة الخبر و نعارضه بوجهين:احدهما انه بظاهره يقتضي ان يكونا سيدي كهول اهل الجنة حتي الأنبياء،و هو ظاهر البطلان.
الثاني انه ورد في صفة اهل الجنة انهم يحشرون يوم القيامة جردا مردا مبرءين من النقصانات موصوفين بالكمالات،و ذلك ينافي أن يكونوا كهولا.
اذا ثبت كونه عليه السلام إماما حقا معصوما وجب ان يحمل سكوته علي الطلب للخلافة و سائر حقوقه علي التقية و عدم الناصر و الاشفاق علي الدين كما صرح عليه السلام بذلك في مواضع من كلامه،كقوله«لو لا قرب عهد الناس بالكفر لجاهدتهم»و قوله لابنه الحسن عليه السلام«ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا علي منذ قبض اللّه نبيه صلي اللّه عليه و آله حتي يوم الناس هذا» و نحو ذلك.
و من يتبع كلامه وجد فيه امثال ذلك مما يدل علي انه كان يري ان الامامة
ص: 189
حق له دون غيره،و علي ذلك يحمل دخوله في الشوري و تحكيم الحكمين و غيرهما.
و بالجملة اذا ثبت عصمته وجب أن يكون كل ما فعله أو قاله صوابا و ان جهلنا وجه الحكمة فيه.
الحق ان الائمة بعده عليه السلام احد عشر نقيبا من ولده،و اسماؤهم مشهورة،و لنا في ذلك طريقان:
(احدهما) نص كل منهم علي من بعده،و ذلك مما تواترت به اخبار الامامية الاثني عشرية خلفا عن سلف.
(الثاني) ما روي عن رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله انه قال لابنه الحسين عليه السلام:ان ابني هذا امام ابن امام أخو امام ابو ائمة تسعة تاسعهم قائمهم حجة ابن حجة اخو حجة ابو حجج تسع.و هذا نص صريح في عددهم.
فأما معرفة عين كل واحد منهم في زمانه فبآيات و بكرامات تظهر علي يديه و تواترت به اخبار خواصهم و شيعتهم،و هي مسطورة في كتب الآثار عن الائمة الاطهار من رامها طالعها من مظانها.
و الكلام في سبب غيبته و استتاره و طول عمره:
(اما الاول) فنقول:انه لما وجب كون الامام معصوما علمنا ان غيبته طاعة و الا لكان عاصيا،و لم يجب علينا ذكر السبب،غير انا نقول:لا يجوز أن يكون
ص: 190
ذلك السبب من اللّه تعالي لكونه مناقضا لغرض التكليف،و لا من الامام نفسه لكونه معصوما،فوجب أن يكون من الامة،و هو الخوف الغالب و عدم التمكين و لا اثم في ذلك و ما يستلزمه من تعطيل الحدود و الاحكام عليهم،و الظهور واجب عند عدم سبب الغيبة.
لا يقال:فهلا ظهر لاعدائه و ان ادي ذلك الي قتله كما فعل ذلك كثير من الأنبياء عليهم السلام.سلمناه،لكن لم لا يجوز ان يكون معدوما الي حين امكان انبساط يده ثم يوجده اللّه تعالي.
لانا نجيب عن الاول:بأنه لما ثبت كونه معصوما علمنا ان تكليفه ليس هو الظهور لاعدائه و إلا لظهر.
و عن الثاني: انا نجوز ان يظهر لاوليائه و لا نقطع بعدم ذلك،علي ان اللطف حاصل لهم في غيبته أيضا،اذ لا يأمن احدهم اذا هم بفعل المعصية ان يظهر الامام عليه فيوقع به الحد،و هذا القدر كاف في باب اللطف.
و عن الثالث:ان الفرق بين عدمه و غيبته ظاهر،لوجود اللطف في غيبته دون عدمه.
فأما طول عمره فغاية الخصم فيه الاستبعاد،و هو مدفوع بوجوه:
(الاول) ان من نظر في اخبار المعمرين و سيرهم علم ان مقدار عمره و ازيد معتاد،فانه نقل عن لقمان انه عاش سبعة آلاف سنة و هو صاحب النسور،و روي ان عمرو بن حممة الدوسي عاش أربعمائة سنة،و كذلك غيرهما من المعمرين.
(الثاني) قوله تعالي اخبارا عن نوح عليه السلام«فلبث فيهم ألف سنة الا خمسين عاما» (1).4.
ص: 191
(الثالث) الاتفاق بيننا و بين الخصم علي حياة الخضر و الياس عليهما السلام من الأنبياء و السامري و الدجال من الاشقياء،و اذا جاز ذلك في الطرفين فلم لا يجوز مثله في الواسطة-اعني طبقة الاولياء.
و باللّه التوفيق و العصمة،و به الحول و القوة،و الحمد للّه رب العالمين.
ص: 192