الامام الحسين بن علي بن ابي طالب علیهما السلام

اشارة

الكتاب: الإمام الحسين بن علي بن ابي طالب..

الكاتب: الشيخ محمد البغدادي.

الناشر:قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة.

مراجعة: وحدة الدراسات والنشرات / شعبة الإعلام.

التدقيق اللغوي: مصطفى كامل محمود.

الاخراج الطباعي والتصميم : علاء سعيد الاسدي.

رقم التسجيل في دار الكتب والوثائق في بغداد 769 لعام 2013 م.

المطبعة:دار الكفيل للطباعة والنشر.

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: 2000 .

ربيع الثاني 1434 -آذار 2013

ص:1

اشارة

العتبة العباسية المقدسة

قسم الشؤون الفكرية والثقافية

شعبة الإعلام

الإمام الحسين بن علي بن ابي طالب

دراسة فی الظروف المحیطة بالنهضة الحسینیة المبارکة و فی طرق مواجهة الامام سیدالشهداء صلوات الله علیه و سلامه لمحنة الاسلام و الامة یومذاک الاسلام و الامة، بلغا مفترقاً، من الخطورة بمکان و الحسین علیه السلام صحح المسار و أعاد ارتباط الامة بالاسلام

تأليف الشيخ محمد البغدادي

وحدة الدراسات والنشرات

ص: 2

روايتان

عن الإمام سيد الشهداء (علیه السلام) في خطابٍ له في صحبه الأبرار:

«إن كنتم وطّنتم أنفسكم على ما وطّنتُ نفسي عليه فاعلموا: أَنَّ اللهَ إنّما ه يَبُ المَنازِلَ ال ر شيفَةَ لِعبادِهِ لاحتمالِ المكاره.َ

وانّ الله كان خصّني مع من مضى من أهلي الذين أنا آخرهم بقاءً في الدنيا من الكرامات، بما يسهل عليّ معها احتمال المكروهات، فإنّ لكم شطراً من كرامات الله.

واعلموا: إنّ الدنيا حلوها ومرّها حلم، والانتباه في الآخرة، والفائز من فاز فيها، والشقيّ من شقي فيها»(1).

وعن مهدي آل محمد - إمام زماننا، وحجّة عصرنا -:

«فَلَئِنْ أخّرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة مناصباً، فلأندبنّك صباحاً ومساءً، ولابكينّ لك بدل الدموع دماً، حسرةً عليك، وتأسفاً على ما دهاك، وتلهفاً، حتى أموت بلوعة المُصاب، وغُصّة الاكتئاب»(2).

ص: 3


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج45 ص 90 .
2- بحار الأنوار، ج98 ص 317 ، ومزار محمد بن المشهدي، ص 501 .

دراسة في الظروف المحيطة بالنهضة الحسينية المباركة وفي طرق مواجهة الإمام سيد الشهداء صلوات الله عليه وسلامه لمحنة الإسلام والأمة يومذاك.

الإسلام والأمة، بلغا مفترقاً، من الخطورة بمكان والحسين (علیه السلام) صحّح المسار

وأعاد ارتباط الأمة بالإسلام.

ص: 4

التقديم

أرفع كتابي هذا

إلى ثائر الحسين

إلى بقيّة الله تعالى في أرضه (1)

إلى أمل الأنبياء والأوصياء والشهداء والصلحاء إلى الغائب المنتظر سميّ رسول الله (صلی الله علیه و آله)

الإمام الحجة أبي القاسم - محمّد بن الحسن - المهدي صلوات الله تعالى وسلامه عليه وأرواحنا وأرواح العالمين لمقدمه الفداء

أرفع هذه الأوراق فيمن سطّر بدمه ودم أعزائه ملحمة الفداء الخالدة مشاركة خجولة

في تلبية نداء سيد الشهداء وأبي الأحرار

يوم عاشوراء

والأمر إليك سيدي ومولاي

يا صاحب الأمر

ص: 5


1- ورد في بعض الروايات أن الإمام المهدي (علیه السلام) هو «بقيّة الله» المقصود في الآية الكريمة «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» سورة هود الآية 86 ، وانه (علیه السلام) يُسَلَّمُ عليه بعد ظهوره بالقول له: السلام عليك يا بقيّة الله في أرضه، فراجع تفسير كنز الدقائق، للشيخ محمد بن المشهدي، ج 4 ص 536 وما بعدها.

الفصل الاول

اشارة

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربّ العالمين موجدهم عن عدم، ومكرّم آدم وولده من بينهم فلذلك قضى عليهم السير طبق مناهج أنبيائه وخلفائه وحتّم، والصلاة والسلام على خير رسله - محمّد- الذي به رسالاته ختم، وعلى آله وخلفائه المعصومين المطهّرين خير من لبّى وعزم، واللعنة الدائمة على أعدائه أعداؤهم من غلبهم الشيطان حقاً وهزم.

آفاق الثورة الحسينية

آفاق الثورة الحسينية: (1)

إن دراسة الثورة الحسينية تفتح للمرء آفاقاً:

1- لِفَهْمِ الكِتابِ والسُنّة بشكل أوضح وأصحّ، وذلك لأنّ مواقف الإمام الحسين (علیه السلام) هي التطبيق العملي للقوانين الإلهية التي تضمنتها الآيات الشريفة والأحاديث المباركة، فمراحل تعامله مع تفاصيل الحدث، ينبوع متدفق لأحكام إلهية كثيرة لا نجدها في مطاوي الروايات، هذا في الجانب الفقهي.

2- وفي السيرة: ح تدّثنا كربلاء عن بعض جوانب العظمة في هذه الشخصية الربانية، وعن ملكاتها، وعن صلابة الإيمان، والفدائية، والإيثار في صحبه، وعن إخلاصهم المنقطع النظير.

3- وفي الجانب الخُلُقي: أنّ المرء مهما أحدقت به الكوارث والأهوال، فأحرى أن لا تزلّ به قدم، وأن لا يضطرب، ولا يتزلزل، ويتقدم بثبات حسبما أمره الله سبحانه،

ص: 7


1- أُلقي أصل هذا الكتاب، ومادته الأساسية، على بعض السجناء الكِرام في سجن أبي غريب- قسم الأحكام الخاصّة ببغداد- في محرم 1409 ﻫ.ق أيام كنت أقضي حكماً بالسجن المؤبد فيه.

وبهذا يكون المفاز.

4- في الجانب الإيماني: الاقتداء بالحسين، الذي وهب كل شيء لله سبحانه، وضحّى بكل غالٍ ونفيس لربه المتعال.

وهب ذاته، وفلذات كبده -أولاده- صغيرهم وكبيرهم، بل وهب تمام عائلته وذوي رحمه، وأردفهم بخُلّص أحبائه وصحبه، أي كل ما يتعلق به، فأعرض عن الدنيا بكل شؤونها ونفائسها، واختار الله سبحانه، فما تظنّ بمن هذا شأنه، كيف يشكر الله سبحانه له هبته، وهو يُجازي على القليل الكثير.

لقد وهب الله تعالى للحُسين ما لم يهبه لأحد، وميّزه على كل خلقه بمزايا لا تُحصى، وكلها عظيمة وجليلة.

الحقيقة: إنّ الهبة الإلهية للحسين لا تقف عند حد، ويصح لنا أن نسميها: المطلق.

وهذه نتيجة متناسبة مع الموقف الحسيني، لأن الحسين قدم غاية ما يمكنه، لله، وللأمة، ولأهل بيته، وصحبه، بل حتى لأعدائه.

إذ استمات في سبيل تحكيم الإرادة الإلهية، وفعل جميع ما يحبه الله ويرضاه.

كما نصح أمة جده، وحاول إنقاذها من الفئة التي أنشبت براثنها فيها، وأوقعتها في التيه، وتأخذ بها حثيثا إلى هاوية سحيقة، لا مفلت من هلكتها.

بل بلغ الغاية في سبيل إنقاذ قتلته، مما ينتظرهم من غضب الهي محقق، وإستمر في هذا حتى لحظاته الأخيرة.

بالإضافة إلى إنّه بالغ في النصيحة لأرحامه ولصحبه، فقد عرض عليهم الرجوع، وسهّله لهم، واستمر في هذا إلى أواخر أزمنة الإمكان.

فلا عجب أن يفيض عليه البارئ سبحانه من كرم عطائه، ما لا حدّ له، وما ورد:

ص: 8

من أن الله عوضه عن قتله، أن جعل الأئمة من ذريته، والشفاء في تُربته، والإجابة تحت قبته (1)، إنما هو بعض الجزاء بلا ريب، وقد قدمنا أنه بلا حد.

وممّا ورد بشأن الحسين (علیه السلام):أن المهدي ثائره (2)، إذ سيقتل به أمةً عظيمة من البشر -لعدوانهم عليه، ولرضاهم بقتله-.

وسيميّز الله سبحانه قتلته بهون العذاب في كل مراحل مسيرتهم الوجودية.

كما قد بارك الله تبارك وتعالى في ثورته، فقام الدين على سوقه بتضحياته، وستشرق الآخرة بنوره، ويشفع الشفاعة العظيمة فيها، إذ له مقام محمود في ذلك اليوم.

بل إنّ البكاء عليه، وحرقة القلب له، وانكسار النفس لمصيبته ومظلَمَته، فيها من الثواب الجزيل والثناء الجميل ما لا يُستهان به ولا يُزهد فيه، ولا تنتهي الإفاضات والمقامات، والتي تتكفل ببيانها كتب الروايات.

إننا ما نزال بحاجة إلى الدراسات العلمية العميقة والرصينة لأحداث الطف وما يرتبط بها من موقف وحدث، لإستدرار الموقف العملي لنا من خلالها، فما زلنا نفتقر إلى الدراسات الجادّة الواعية لثورة الإمام الحسين، والتي تخرج عن حدود حكاية الثورة بتفاصيلها -رغبة في الثواب- إلى تحليل أحداثها وتجسيم وقائعها، بما يُعرب عن التشريع الإلهي الذي يغذّي فكر الأمة بقوانين وتوجيهات تدفع مسار الحركة الإسلامية ومجتمعها إلى أمام، ويظهر الموقف الحسيني جليّاً، لا أن تبقى قضيته على نحو: «قضية في واقعة» (3) لها ظروفها وأسرارها، مما لا يُمكن القياس عليها، واستجلاء أحكامنا وتكاليفنا من خلالها.

ص: 9


1- بحار الأنوار، ﺟ 44 ، ص 221 ح 1.
2- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 295 ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة، ﺟ 3 ص 286 .
3- التزم بهذا جمع من الأعلام، نحتفظ بأسمائهم.

إنّ السُنّة المطهّرة -وهي أهم مصدر تشريعي، لاستيعابها أكثر التفاصيل التشريعيةالمعروفة فِعلاً- إنما هي قول المعصوم وفعله وتقريره، وملحمة كربلاء المقدسة ومايرتبط بها تشتمل على الكثير مما هو فعل للمعصوم أو قولٌ له أو تقريره، وقد نُقلت إلينابتفاصيل كثيرة، وبدقة لم ترزقها غيرها من الوقائع، وقد نقلها المخالف والمؤالف، بل العدو والناصب.

إنّ ملحمة عاشوراء معينٌ ثَرّ لاستنباط أحكام الدفاع عن الإسلام وتشريعاته ومقدساته، وأحكام مناهضة السلطة الجائرة المتغلبة على بلاد المسلمين، بل لأحكام الدفاع عن النفس والعِرض.

ملحمة الطف التي ما خبت جذوتها غروب يوم عاشوراء حتى أعلنت خِسّة أولئك المجرمين المغفلين الذين حاولوا إطفاء نور الله سبحانه، ودحر دينه، وإنهاء وجوده في مسرح الحياة الدنيا وإعادتها جاهلية، هذا الدين الذي حمل مشعله ولوائه عشرات الآلاف من الأنبياء والأوصياء، والعلماء والصلحاء وَمِنْ ورائِهم الله جلَّ جلاله بكل جبروته وعزّته وحكمته وجنده: «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» (1). «وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» (2).

وقد استأصل المولى سبحانه أعدائه بالطير الأبابيل وبالصيحة والريح والمسخ بل استأصل أعدائه بأعدائه وما ذلك من الظالمين ببعيد.

«وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ .

ص: 10


1- سورة الفتح، الآية 7.
2- سورة المدثر، الآية 31 .

فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (1).

وما كانت سُنّة الله سبحانه مع الحسين ومظلوميته ببدعٍ عن تلك السنن الإلهية، فقد ابتدأ النصر الإلهي للحسين في ساحة المعركة قبل بدءِ القتال (2)أمام جيش الكفر والضلال اليزيدي مُنذراً ومحذّراً بسوء العاقبة لهم لبيع دينهم بدنياهم -وهو الثمن الأبخس- فما ازدادوا إلاّ عتوّا، غير نفرٍ قليل انعطفوا إلى الحسين تائبين، فنالوا الكرامة مخلَّدين.

ثم أنزل المولى سبحانه العذاب الهُون بيزيد وابن زياد وعمر بن سعد وشمر وحرملةوجميع القتلة فأخذوا قتلاً وتنكيلاً ولاحقتهم اللعنات في عصرهم وبعده، وتبرأ منهم قومهم ومن إليهم ينتمون، ولهم يُشيدون: «فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ». (3)

ملحمة الطف التي ما غربت عنها الشمس حتى ألهبت مشاعر المسلمين وفجّرت طاقاتهم، وأدرّت أموالهم بل نفوسهم، لله سبحانه بغية رفعة الإسلام وعزّه، وأشعلت الثورات، ما تهدأ واحدة حتى تنطلق أُخرى، وكلها من الحسين أخذ، وبه ينادي، وبمشعله يستنير -حقيقة، أو ادعاءً بُغية التزلف للجماهير ولتحريك عواطفهم ورجاءإسنادهم-.

والواقع: أنّ حركة الإمام (علیه السلام) كانت دافعاً ومحركاً ومرشداً لكثير من ثورات التأريخ، ولكن هيهات أن تنتمي إليها -حقيقةً- إلاّ من انتسبت إليها، واستلهمت منها، .

ص: 11


1- سورة النمل، الآية 50 - 52 .
2- نقلت الكتب المُفَصِّلة لأحداث الطف ما أُصيب به بعض جند الضلالة من عذاب قبل بدءالقتال.
3- سورة الدخان، الآية 29 .

وحملت أهدافها ومعتقداتها، وإلاّ فحركة بني العباس دعت إلى الأخذ بثأر الحسين (علیه السلام) ثم هدمت قبره، وحرثت الأرض لتضييع أثره (1)ومنعت شيعته ومحبيه من مجرد زيارته، وكم لبني العباس من مثيل.

فما دام الأمر كذلك، علينا أن لا نتناول واقعة كربلاء بوصفها -فقط- ظلماً أحاط بأهل بيت العصمة والطهارة، بل بما يرفدنا بالمعطيات العقائدية والتوجيهات السلوكية، فيرفع عنّا الحيرة، ويحدّد لنا التكليف الإلهي، في أمور قلَّ توفّر النصوص الواضحة بشأنها، ووُجد التعارض بين المتوفر منها، وأحاط بمداليلها الغموض، وفُقد من بعضها الأسانيد، وكل هذا نتيجة مئات من السنين عاشها أئمة أهل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم في تقية شديدة، وضغط من السلطات الحاكمة السائرة على خط يزيد، وقلّة في إمكانيات المواجهة مع المتلاعبين بالإسلام وأهله، مما دعا إلى قلة بحث في هذه المسائل، وإلى طول إمساك، بل إعراض عنها، حتى أحاطها الغموض، وأضحت معه من غرائب المسائل، ولا زلت تجد الإعراض عن التفقه فيها، والاندهاش من نتائجها.

***

ما إن مالت شمس يوم العاشر من محرم الحرام عام 61 من الهجرة النبوية المباركة إلى الغروب، إلاّ وكانت أرواح خير أهل الأرض قد انطلقت إلى المولى سبحانه حاملة معها شكواها من أمةٍ مجرمة اقترفت الجريمة الأعظم في تأريخ الإنسانية الطويل المليء بالمآسي والعظائم.

جريمة ما أعظمها، اق فُرتِت بحق وديعة الرسول الأکرم (صلی الله علیه و آله) وريحانته من الدنياي.

ص: 12


1- فعل هذا المتوكل العباسي- لع- فراجع كتاب بحار الأنوار ﺟ 45 ص 390 ، ونقله أيضا السيد محسن الأمين في كشف الارتياب ص 310 عن تأريخ الخلفاء للسيوطي، ومروج الذهب للمسعودي.

وسيد شباب أهل الجنة.

ابتدأ بهذه الشكوى سيد الكائنات في حياته المقدسة على ما روي عنه (1).

وهذا سبطه المظلوم يوم الطف: بسط يده تحت حنكه، فامتلأت راحتاه بالدم، فرمى به إلى السماء ثم قال:

«اللهم إني أشكو إليك ما يُفعل بابن بنت نبيّك». (2)

الإمام السبط الذي أوصى به جدّه الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) أُمّته، وب هّرشم بهذا الإمام المنقذ لهم في الدنيا والآخرة، وأبان عن محاسن ملكاته، وجليل إنعام المولى سبحانه عليه بما يقتضي علوّ مقامه، وصلاحية قيادته للأمة، وقيامه مقام جدّه النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله)، بل امتيازه بانحصار استحقاق هذا المقام فيه -وفي أبيه وأخيه من قبله- وانّ الله ورسوله قد اختاراه لإمامة الأمة وزعامتها: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا» (3).

وضع النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) إحدى يديه تحت قفا الحسين (علیه السلام) والأخرى تحت ذقنه ثم وضع فاه على فيه فقبّله وقال:

«حسين مني وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط». (4)

تأمل في هذه الرواية واعجب، وانظر إلى التفاوت العظيم بين صنيع خاتم المرسلين، ومن لا ينطق عن الهوى مع الحسين، وإلى صنيع الأمة بالحسين، كي تتيقن أيّة أمة هذه، .

ص: 13


1- معالم المدرستين، ﺟ 3 ص 29 .
2- الإرشاد للمفيد، ﺟ 2 ص 109 ، وحياة الإمام الحسين(علیه السلام)، القرشي، ﺟ 3 ص 286 .
3- سورة الأحزاب، الآية 36 .
4- الحسين(علیه السلام)، الجلالي، ص 38 عن مختصر تأريخ دمشق لابن منظور، ﺟ 7 ص 120 .

وعلى منهاج مَن تسير.

هذه الأمة التي شارك بعضها في جريمة قتل الحسين (علیه السلام) ، وتخاذل بعض، وسكت آخرون حتّى وقعت الفاجعة، ومن الأمة من تس على المجرم، وعلى تفاصيل ما أجرم، وترى البعض يهوّن جريمته، أو يبرر لها، بالتماس الأعذار، وتسقّط أو افتعال أخبارالتوبة، كيما تندثر معالم الجريمة، وأخيراً يأتي من يغضّ في مؤلفاته عن تفاصيل الجريمة، أو ليحذف من الكتب التي يحققها - كطبقات ابن سعد (1)- ما سُجّل فيها حول مقتل الإمام (علیه السلام) والفجائع التي تمّت يوم الطف: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ» (2).

عجباً إنه نور الله فكيف يمكن إطفاؤه: «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» (3).

ومهما حاول هؤلاء، ويحاول أمثالهم من الخلف لبئس السلف، فلن يتداركواأمرهم، بل فلت من أيديهم الزمام، ولن يحصدوا إلاّ الخيبة والخُسران، وعكس ما يأملون في مسعاهم.

هذه الكتب والمقالات في الحسين، وثورة الحسين، وفضل الحسين، وإمامة الحسين، وقضية الحسين، بالعشرات بل المئات تُكتب وتُنشر في شرق الأرض وغربها بِيَد الشيعة والمحبين والمنصفين بل بيد الأعداء والنواصب -والحق ينطق منصفا وعنيدا- ولا يمر عام إلاّ ويُكتب في الحسين ويُنشر.

طُبع كتاب بعنوان «كتاب شناسي إمام حسين(علیه السلام)» وهو فهرست لأسماء ما طُبع في الحسين (علیه السلام) وثورته باللغتين العربيّة والفارسيّة، كما أورد السيد عبد العزيز8.

ص: 14


1- وجد السيد عبد العزيز الطباطبائي رحمه الله تعالى في نسخةٍ خطية منه ما يتعلق بالمقتل فنشره فراجع: الحسين، للجلالي، ص 166 الهامش.
2- سورة الصف، الآية 8.
3- سورة الصف: الآية 8.

الطباطبائي (رحمة الله) في كتابه «أهل البيت في المكتبة العربية» أسماء مجموعة كبيرة من الكُتب اُلّفت في الحسين (علیه السلام) وثورته بأقلام مؤلفيّ العامّة.

وقد سجّل بعض الأعلام في مدونات مستقلة، أو في أثناء كتاباتهم، ما وقع من تحريف في التأليف أو الطباعة، لما يتعلق بأهل بيت النبی (صلی الله علیه و آله) من فضائل، أو بأعدائهم من رذائل، فمّمن تعرّض لهذا: الشيخ الأميني في موسوعته الغدير، فراجع كتاب:

على ضفاف الغدير -عنوان: التحريف والتصحيف (1)- وكذلك كتاب: تدوين السُنّة الشريفة (2).

ومن الغريب خلوّ تأريخ ابن عساكر(3) بالرغم مِن موسوعيّته من أخبار مقتل سيد الشهداء وسبط رسول الله(صلی الله علیه و آله).

يقول(صلی الله علیه و آله): «الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا»(4) أو أنّ ابنيّ هذين ريحانتاي (5).

ويقول: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة». (6)ا.

ص: 15


1- الكتاب اُلّف تحت إشراف السيد فاضل الميلاني، فراجع: ص 64 منه.
2- الكتاب للسيد محمد رضا الجلالي، راجع: كتاب الحسين (علیه السلام) له، ص 164 .
3- راجع الحسين (علیه السلام) للجلالي، ص 164 .
4- الحسين(علیه السلام)، الجلالي، ص 43 ، عن مختصر تأريخ دمشق لابن منظور ﺟ 7 ص 118 ، وفضائل الخمسة، للفيروز آبادي ﺟ 3 ص 183 ، عن مصادر الجمهور المعتبرة عندهم كالترمذي ومسند أحمد والبخاري في بعض كتبه وغيرهم.
5- الإرشاد، المفيد ﺟ 2 ص 28 ، ولاحظ: فضائل الخمسة من الصحاح الستة، الفيروز آبادي، ﺟ 3 ص 183 .
6- الحسين (علیه السلام) للجلالي، ص 43 عن مختصر تأريخ دمشق، ﺟ 7 ص 119 ، وفضائل الخمسة، للفيروز آبادي، ﺟ 3 ص 212 عن الترمذي وابن ماجة والحاكم في المستدرك وأبي نعيم في حلية الأولياء والخطيب في تأريخ بغداد وابن حجر في الإصابة وفي كنز العمال ومجمع الهيثمي وكنوز الحقائق للمناوي وذخائر العقبى وغيرها.

فبربك قل لي: هل سيادة الحسن والحسين لشباب أهل الجنة -وكلهم شباب- فيها استثناء لأحد غير جدهما وأبيهما وأمهما -وهذا الاستثناء استفدناه من نصوص عدة- ومنه تعلم عظم مقامهما، وانه مقام ينحدر عنه السيل، ولا يرقى إليه الطير، ومن غير المعقول أن مفاد الرواية كونهما في الجنة سادة على من عدا مئات الآلاف من البشر أو عشرات الآلاف، إذ لا مُقيّد في البين، وحاشا سيد المرسلين، وسيد الفصحاء، والذي لا ينطق عن هوى، إلاّ أن يكون كلامه حاكياً عن عين الحقيقة بأجلى بيان وأوضحه.

وكلامنا هنا، مع من يُقدّم عليهما غيرهما، من صحابة أو غيرهم، ومع من يرى تفضيل عامة الأنبياء (علیهم السلام) عليهما -صلوات الله عليهما- إذ كيف يكون الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنة، وأكثر من مائة ألف نبي أفضل منهما؟

أبداً، فالحسن والحسين بحسب مفاد هذه الرواية المذكورة عند الفريقين أفضل الخلق أجمعين، باستثناء النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) ووصيه أمير المؤمنين، والزهراء البتول(علیها السلام).

وعنه(صلی الله علیه و آله): «من أحبهما أحببته، ومن أحببته أحبّه الله، ومن أحبّه الله أدخله الله جنات النعيم، ومن أبغضهما أو بغى عليهما أبغضته، ومن أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله ادخله نار جهنم وله عذاب مقيم». (1)

وقوله (صلی الله علیه و آله) لعلي وفاطمة والحسن والحسين(علیهم السلام): «أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم». (2)

وهما-الحسن والحسين- من الخمسة أصحاب الكساء (3)، ومن الثقلين (4)اللذين .

ص: 16


1- الحسين (علیه السلام) للجلالي ص 43 ، عن مختصر تأريخ دمشق ﺟ 7 ص 121 ، وفضائل الخمسة ﺟ 3 ص 202 ، عن عدة من مصادر الجمهور.
2- الحسين (علیه السلام) للجلالي ص 55 ، وفضائل الخمسة ﺟ 1 ص 251 ، عن الترمذي وأحمد وغيرهما.
3- فضائل الخمسة ﺟ 1 ص 224 وما بعدها.
4- راجع له: نفحات الأزهار، للميلاني ﺟ 1- 2- 3 فهذه الأجزاء خاصة بحديث الثقلين، وأيضاً كتاب: حديث الثقلين، للميلاني، وفضائل الخمسة ﺟ 2 ص 43 .

هما منار الهداية إلى يوم القيامة، وهما من أهل البيت الذين هم سفينة نجاة الأمة (1) والذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً (2) وهما إمامان إن قاما وإن قعدا (3).

في الحقيقة: أنّه منذ غروب يوم العاشر من محرم الحرام سنة 61 ﻫ تغير تأريخ المسلمين، وانفرطت وحدتهم وإلى الأبد، إلاّ أن يشاء الله سبحانه، ويغ ما بنا بتغيير واقعنا.

فنحن نفهم ما تشتمل عليه بعض النفوس الخائرة الضعيفة من حبٍ للدنيا، ومن تهالك على الجاه والمال والسلطة، ومن الرغبة في الترؤس وإصدار الأوامر.

أمّا أن يُسلّط الطلقاء، وأصحاب الملك العضوض، والمتجاهرون بالخلاعةوإرتكاب عظائم المحرمات، سيفهم على رقبة ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسيد شباب أهل الجنة، وما أراد إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يصدر عنه للتعبير عن الأمر والنهي غير ترك البيعة، وإذا بهم يزعجونه عن مسكن نفسه ومأنس روحه -المدينة الطيبة- فيرتحل بعائلته وأهل بيته من أرض إلى أرض، وأخيراً يذبحونه صبراً من الوريد إلى الوريد، ويس وّرين الخيل على صدره، ويسلبونه كل ما عليه من ثياب مع إنها ممزقة (4)ويتركونه عارياً في فلاةٍ من الأرض، ويفعلون من الأفاعيل به وبصحبه وأطفاله ونسائه -ونساؤه نساء بيت النبوة- ما لا يسمح به الإسلام مع أسارى المشركين، فهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض، ولا يُغفر عمر الدهر، ولا ينمحي أثره حتى تصفية حسابه.د.

ص: 17


1- فضائل الخمسة ﺟ 2 ص 56 .
2- فضائل الخمسة ﺟ 1 ص 224 .
3- مسند الإمام المجتبى ص 184 ، وذكر اجتماع أهل القبلة على روايته.
4- الحسين (علیه السلام) للجلالي ص 178 : إنّ سيد الشهداء سُلب وجُرّد من ثوب ممزق لا يرغب فيه أحد.

ويكفيك أن والي المدينة الوليد بن عتبة -وهو أموي ومأمور من يزيد بأخذ البيعةمن الإمام أو قتله (علیه السلام) - يقول لمروان بن الحكم المصرّ على قتل الإمام إن أصر الإمام (علیه السلام)

على رفض البيعة:

يا مروان، إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني، والله ما أحبّ أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأ قتلت حسيناً.

سبحان الله! أقتل حسيناً أن قال لا أبايع.

والله إ لأظنّ أنّ إمرءا اُحيسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة (1).

هذا أموي، وابن عمٍّ ليزيد، والوالي المُطالب بأخذ البيعة من سيد الشهداء، يستغرب أن يكون جزاء ترك الإمام (علیه السلام) للبيعة هو القتل، بل ويعتقد أن قاتل الحسين سينتهي إلى الخسران والهلاك.

عجباً لهذه الأمة: ترفع الطلقاء على منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتأتمر بأوامرهم وتأخذ الدين منهم، لكنّها تُقصي آل محمد (صلی الله علیه و آله) عن موقع قيادة الأمة، وتشكك في ما لایحصى

من النصوص في حقهم، وتذر علومهم ظهريّا، وآخر الأمر تقتل أولاد محمد بسيف آل حرب، ومع ذلك تدّعي الإسلام، وتأمل الفوز بالجنان.

لا وألف لا.

أيها المنتسبون لدين أفضل الرسل، والمبلّغ لأفضل الأديان وأكملها (صلی الله علیه و آله) حدّدوا موقفكم من هذه الجريمة واصطفوّا مع من قرّرتم أن تُحشروا معه أمام الله في يوم الله، يوم الفصل، يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه، ففريق في الجنة وفريق في السعير، ويومهالا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. .

ص: 18


1- الإرشاد، الشيخ المفيد، ص 33 - 34 .

فما ترون: إلى أين سيُحشر آل محمد وأنصارهم؟

وما مآل من خذلهم، أو أعان عليهم، أو اصطفّ مع أعدائهم وقتلتهم، ولو بأن يلتمس لهم المعاذير، ويهوّن من جرائمهم، كل ذلك من أجل حفنةٍ من المال، وعمرٍ لو طال فمائة عام، وحلوه - إن كان فيه حلو- عشرون أو ثلاثون عاماً.

وكيف يختار عاقل الأدنى، ويُعرض عن ملك طويل عريض، يُخلّد فيه مع الأنبياء والأوصياء والشهداء والصلحاء.

بزثج ثم ثى ثي جح جم حج «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ» (1).

كيف يُستبدل ذلك النعيم، بالسُكنى مع المجرمين، في أسفل دركٍ من الجحيم، فانتظروا، فستعلمون من يأتيه عذابٌ يُخزيه، ويحلُّ عليه عذابٌ مقيم.

***

إن الثورة الحسينية قد استطاعت أن تخترق كل أجواء الحصار والتعتيم والتشويه التي اصطنعها آل أمية، إذ انطلقت من هوّة المكان الذي شهد النزال ضد جيش النفاق، واخترقت كل الهوس الإعلامي للنظام الحاكم وأذنابه، فتداركت ما لفّقه آل أمية من تحريف للحقائق، ومن ذرٍّ للرماد في العيون، للتعتيم على إبطال الثورة وأهدافهم.

استطاعت أن تفضح طغاة الأمة وعُبّاد الشهوات، أولئك الفراعنة الذين استأسدوا على الأمة وليسوا هم بأسود بل قرود (2)، نزوا على منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غفلةمن الزمن، وفي مؤامرةٍ واسعة النطاق، لإقصاء أوصياء النبی (صلی الله علیه و آله) وعلماء الأمة وقادتهاالربانيين الحقيقيين، عن مقاعدهم التي رتبهم الله سبحانه فيها.ه.

ص: 19


1- سورة المطففين، الآية 34 - 36 .
2- راجع فضائل الخمسة، للفيروز آبادي، ﺟ 3 ص 248 ، فقد نقل هذا عن الرازي وغيره.

لقد فضحت ثورة الحسين العظيم فراعنة الأمة أمام أوليائهم و أعدائهم، فلم تُبق عذراً لمعتذر يقتفي آثار أولئك الظلمة ومحرّفي الشريعة الذين حاولوا بكل ما أوتوا إطفاء نور الله سبحانه، ولكنّ المولى تبارك وتقدّس وعد التمام لنوره مهما بلغ سعيهم ومكرهم وعديدهم وعجيجهم ولكن هذا ممالم يستوعبه البعض إلى الآن، فدين الله سبحانه إن كبا فإنه ينهض، وهكذا الأمر باستمرار، رغم كل الأهوال، وألوان الإجرام التي اُحيط بها من فرعون ونمرود وأمثالهما، وتنتهي سلسلة فرعونية، وتقوم أخرى، والدين باقٍ قائم على سوقه:

«قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ» (1).

لا تستبدلوا الحسين بآل حرب، فإنها بئست الصفقة الخاسرة.

هذا شأنكم.

أما نحن فمن حقنا أن نحتفل كل عام بل كل يوم بالحسين وهل لأمٍة مثل الحسين (علیه السلام)؟ ومن حق الحسين أن يدوم فينا ذكره، وهذا شأن كل أمةٍ مع عظيمها ومحقق ذاتها وسبب بقائها (2)، إذ لا أمة من الأمم -ولا دين أو مذهب في عموم الأرض وعبرالتأريخ- ظهر فيها كالحسين فمن حقنا الفخار به والحزن له، ومن حق أجيالنا أن تنمو في ظلّ قضية الحسين ومراميه، أن لا يجرفها تيار الانحراف والضلالة.

روي عن جدّه فيه، وفي أخيه الحسن المجتبى: «من أحبّ الحسن والحسين (علیهما السلام)أحببته، ومن أحببته أحبّه الله، ومن أحبّه الله(عزوجل)أدخله الجنة، ومن أبغضهما أبغضته، ومنء.

ص: 20


1- سورة الأنعام، الآية 31 .
2- إذ الإسلام، محمدي الوجود، حسيني البقاء.

أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله خلّده في النار». (1)

هذا هو الحسين، والذي هو كما قالت فيه عقيلة بني هاشم زينب بنت علي(علیها السلام) -ملاذ حيرتنا ومفزع نازلتنا (2)-.

كان على الأمة بأجمعها أن تنهض لنصرته، لمِا تعلم من طهارة ذاته، وللحمته برسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولما ورد في حقّه ممن لا ينطق عن هوى، ولما تعلمه الأمة من وضاعةعدوّه، وقدم كفره، ولئيم خصاله، وخساسة ذاته.

كان على الأمة أن تهبّ لنصرته بعد أن كرّر النبی (صلی الله علیه و آله) عليهم مرات ومرات أن ولده سيُقتل(3) وبعد أن كرّر الحسين (علیه السلام) على بعضهم قطعية استشهاده.

كان على الأمة أن تهبّ وتتخذ -في الأقل- التدابير لمنع وقوع هذه الفاجعة، بالتوسل بكل وسيلة، وما أكثر الوسائل، لكن الأمة تماهلت وتقاعست وتواكلت فشربت بهذا كأس السُمّ حتى آخر قطرة.

كانت الأمة سكرى، فاستفاقت ودماء الحسين تصبغ الأفق، استفاقت بعد أن اشترك الجميع في جريمة قتل سبط رسول الله ولكن كل بقدر، ومن جهة.

ثم من بعدُ ينقل التأريخ لنا قصص احتفالات (4)قام بها بعض النواصب هنا وهناك في العالم الإسلامي فرحاً بقتل الحسين(علیه السلام).

ويذكر السيد الشهيد دستغيب: أن أناساً من الخوارج والنواصب استمروا يحملون الهدايا لذرية من داسوا صدر الحسين(علیه السلام). .

ص: 21


1- المفيد، الإرشاد، ﺟ 2 ص 28 .
2- مقتل الحسين، السيد محمد بحر العلوم، ص 94 .
3- فضائل الخمسة، الفيروز آبادي، ﺟ 3 ص 282 وما بعدها.
4- الثورة الحسينية، السيد دستغيب، ص 75 .

كما ذكر البيروني: لقد فعلوا بالحسين مالم يُفعَل في جميع الأمم بأشرار الخلق من القتل بالسيف والرمح والحجارة وإجراء الخيول، وقد وصل بعض هذه الخيول إلى مصرفقُلِعَت نِعا اُهل، وسُمِّرَت على أبواب الدور تبرُّكاً، وجرت بذلك السُنّة عندهم، فصارأكثرهم يعمل نظيرها، ويُعلّق على أبواب الدور (1).

يحتفل هؤلاء بقتل الحسين (علیه السلام) و يفرحون لفرح آل أبي سفيان، إن كانوا مسلمين وكانوا على نهج النبي، فيوالون أولياءالله ورسوله، ويعادون أعدائهما.

لقد خرج الكثير على الحكام عبر التأريخ، وعلى بني أمية بالخصوص، فلم يحتفل هؤلاء إلاّ بقتل الحسين(علیه السلام)، وسبي أهل بيته، وهم عائلة النبی (صلی الله علیه و آله)، ودمه، ولحمه، والدعاة إلى اتباع أمره ونهيه.

***

طريق الحسين: طريق الكرامة إذ هو السبيل إلى الله جلَّ وعلا.

طريق الحسين: هو الطريق الذي فيه استشراف للمستقبل غير المنظور.

هو الطريق الذي يوصل إلى النصر من جميع الجهات، وإن بدا لأوّل وهلة أنه مسار خسارة، إلاّ إنها خسارة دنيوية آنيّة سرعان ما تنجلي غبرتها عن نصرٍ عظيم.

من يوصله طريقه إلى الجنة فهو المنتصر، ومن يصل بطريقه إلى النار فهو الخاسر الأعظم، فكيف إذا كان طريق الأول كله نصر إلاّ الخطوة الأولى، وطريق الثاني كله هزائم وانكسارات إلاّ الخطوة الأولى.

طريق الحسين: طريق الكرامة بكلّ المقاييس.

لا فرق فيه سواءً قلنا: .

ص: 22


1- مسند الإمام الشهيد، للعطاردي، ج 2ص 202 .

إنّ خروج الحسين كان لإنقاذ أناس مستضعفين مقهورين من جبابرة العصر. أو كان خروجه لإحياء دين جدّه، ولنفخ الروح فيه من جديد.

أو لإزاحة سكّيرٍ فاجر -لا يؤتمن على قطيع غنم، فضلا عن أن يؤتمن على مقام الأنبياء والأوصياء- عن مقام خلافة الله ورسوله في الأرض.

أو دفاعاً عن نفسه المقدسة، وحُرمه وعياله وأهل بيته.

أو دفاعاً عن السيرة التي يريد سلوكها في حياته، فلا يحيا بما يأباه الشريف والأبيّ، إذ يريدون منه الموافقة على تدمير الإسلام، وانتهاك كل الحرمات، وإقرار نهج الجاهليةالثانية -وهيهات من الحسين-.

حتى نصل باحتمالية خروجه طلباً للسلطة وهو طريق نوافقه للإمام ونرتضيه.

إذ فارق عظيم: بين أن يتولى الخلافة سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وسيد شباب أهل الجنة، ومن عُجن الإسلام والإيمان بلحمه ودمه وكل وجوده، بل هو عِدْلُ القرآن، وأحدالثقلين اللَّذَين من تمسك بهما فقد نجا.

وبين إن يتولاها السكير العابث الكافر والقائل:

لعبت هاشم بالملك فلا

ملك جاء ولا وحي نزل

إذ تنازع مثل الحسين -والحسين إمام الأمّة بنصّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) - لطلب السلطة مقام كرامة له، وفوز للامة، لأنّه إن تو الأمر أزهرت الدنيا به، وبإزاحته لذلك الفاجر إراحة للعباد والبلاد من المباذل، ومن دناءة المقاصد، ومن ظلمات لا حدَّ لها ولا منتهى.

حركة الحسين: انفجار النور في أعتم الظلمة، وإخراج للأمة من خطرٍ عظيم أحاط بها بعد ما استكلب عليها كل رذل، وكل من يعدّ من اكثر أبنائها انحطاطاً وفجوراً، فهذا: أزنى ثقيف، وذاك: من لا يُعرف له أب، وآخر: الطليق بن الطليق، ورابع: طريد

ص: 23

رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وإلى آخر قائمة من هم وصمة عار في جبين الأمة مدى الدهر.

***

فائدة البحث في أطراف القضية الحسينية

1- إن القضية الحسينية وتفاصيلها مشوشة في أذهان بعض المسلمين نتيجة عوامل عدّة منها: عدم متابعة المؤلفات والمصادر المعتبرة في هذا الشأن، ولتلاعب وعبث بعض المؤلفين والباحثين من ذوي الغرض السيئ والمشبوه بالنصوص نقلاً وتأويلاً.

2- إن تفهّم الوجه في مجريات القضية الحسينية عسرٌ على بعض الأذهان، فيحتاج الأمر إلى صياغة برهانيّة إقناعية -بحيث يؤدي الاستدلال فائدة البرهنة والإقناع، أي إحداث أثر صناعتي البرهان و الخطابة معاً- لجعلها سهلة الفهم و التناول.

3- إن الظلم الواقع على الحسين (علیه السلام) لم تتضح معالمه عند عامة المسلمين بما يبصرّهم بعظم الجريمة التي وقعت في تلك المساحة من الزمان والمكان من العالم الإسلامي، ويظهر لهم بجلاء حقيقة القائمين بالجريمة وأهدافهم.

وفائدة هذا: كشف المجموعة التي قادت العالم الإسلامي، ووجّهت الحدث والفكر فيه، حيث سامت الأمة الذل والهوان، وجرّعت أبناءها الغصص، وأرتهم ألواناً من الظلم يبرأ منها الإسلام، ويندى لها جبين الإنسانية، ومع ذلك سُحيب أولئك من رجال المسلمين وقادتهم، ويُعتبر الحكم نظاماً إسلامياً.

إنّ تعريف الأمة بقادتها الحقيقيين الربانيين الرساليين المضحين، واجب على الجميع وهو على ذوي العلم أوجب، وبعنقهم ألزم.

كما إن من أعظم الواجبات، وأفضل القُرُبات إلى المولى سبحانه، تعريف الأمةبالخونة والمجرمين الذين حرفوا مسيرة الإسلام والمسلمين عن النهج الصحيح،

ص: 24

وأدغلوا في الدين، وأذاقوا الأمة كل غصة، وتركوا في كل بيت نائحة، وأوردوا ما لايُعَدُّ و يحصى من أفراد الأمة إلى دركات جهنم، وأضحوا حجاباً بين الأمم وبين الدخول في دين الله أفواجاً، بل أعظم مانع.

ألقِ نظرك إلى بلاد الهند - مثلاً- واعجب:

بلد ذو حضارة وثنية عريقة، تحوي ساحته مئات الديانات، فهذا يقدّس البقر، وذاك يعبد البشر، و الفأر معبود عندهم أيضا، و للنار حصة من العبادة، ثم هذا بوذي، وذاك سيخيّ، وهكذا.

جاءهم الفتح الإسلامي، وانحسر عنهم، بعد مئات من السنين، وبقي الكفرمستولٍ على البلاد، وهم الآن أكثر من ألف مليون إنسان، أغلبهم كافر بالله العظيم، ويعتنق ديانات من أرذل ديانات البشرية، وأكثرها إثارة للسخرية.

كيف بقي الكفر في تلك البلاد إلى يوم الناس هذا، والإسلام دين الفطرة، يهواه ويحبّه ويقتنع به ويعتقده من عاش تفاصيله، ورأى محاسنه عن قرب، وخصوصاً إذا كانت الأمة المعاشرة هي الأمة الهندية، المستعدة طبعاً وسليقةً لقبول الإسلام السهل السمح.

رسول الله (صلی الله علیه و آله) أزال الشرك من جزيرة العرب كلها في أقل من عشر سنين وبدأ بنشرالإسلام في مصر والحبشة والشام والعراق وفارس والبحرين.

أم أنّ هدف أولئك كان توسيع الرُقعة، وجلب الغنائم والعبيد، وإن بقي الناس في ضلالتهم ومتاهتهم.

كان الإعرابي يسمع القرآن فيُؤمن، ويسمع بتشريعات الإسلام فيُؤمن، ويرى محاسن خُلُقِ الإسلام فيُؤمن، حتى ظهر دين الله سبحانه، والعتاة كارهون.

ص: 25

الجريمة كل الجريمة: في استيلاء تلك الزمر على دست الحكم في بلاد الإسلام، ولمّا يتجذّر الإسلام في العقول والنفوس، وقبل أن يأخذ أبناء الأمة بقوانينه القرآنيةوالمعصوميّة - معاً- كدستور أبدي للحياة، فعلاً وتركاً.

لابدّ من تعريف الأمة بالقادة المرضيين عند الله سبحانه، الدعاة إليه والدالين عليه، وفضح أولئك المحرّفين والمجرمين من عشقة الجاه والمنصب، لتأخذ الأمة بنهج وفكرالربانيين، وتنبذ نهج وفكر المحرفين، الحجبة عن ساحة رحمة الله سبحانه.

4- إن القضية التي ثار الحسين لأجلها ما زالت حيّة لم يُغلق سجّلها بَعْدُ، والهدف الذي استشهد الحسين (علیه السلام) لأجله لم يتحقق إلى اليوم، والجريمة قائمة الذيول، والجرح لم يندمل.

ص: 26

في رحاب حياة الإمام (علیه السلام)

الميلاد المبارك:

وُلد الإمام الحسين (علیه السلام) في المدينة المنورة، يوم 3/شعبان/ 3 ﻫ.ق، على المعروف بين الشيعة(1)، بعد أخيه الإمام الحسن(علیه السلام).

والوارد إن حمل سيدة النساء بالحسين (علیه السلام) كان أقلّ الحمل، أي: ستة أشهر فقط.

موقعه:

ينتمي الحسين وينتسب إلى أشرف خلق الله سبحانه، وإلى مصطفاه:

رسوله الأكرم محمّد (صلی الله علیه و آله)، فهو سبطه -ابن ابنته-.

ثم الأب: علي بن أبي طالب(علیه السلام)، وصيّ الرسول، وخليفته في أمته، وقسيم الجنة

والنار، وتلو الرسول الأعظم في الاصطفاء الإلهيّ(2).

والأم: فاطمة الزهراء(علیها السلام) ، سيدة نساء العالمين، ومن يغضب الله لغضبها ويرضى

ص: 27


1- لم يذكر الشيخ القرشي في ج1ص 28 من كتابه «حياة الإمام الحسين(علیه السلام)» اليوم الثالث من شعبان بالخصوص مع كونه المعروف بين الشيعة، وعملهم عليه، وهو مذكور في البحار، وما أدري مل مَل لم يرجع الشيخ للبحار 43 ص 260 لغرض الإحاطة بالأقوال في هذه المسألة مع جامعية البحار ﺟللمطالب المذكورة فيه.
2- عن النبيّ الأعظم (صلی الله علیه و آله): في قوله لبضعته الزهراء: «أما علمتِ أنّ الله(عزوجل)اطّلع إلى أهل الأرض فاختار منهم أباكِ فبعثه نبيّاً، ثُمّ اطّلع الثانية فاختار بعلكِ، فأوحى إليَ فأنكحته واتخذته وصيّاً»، كنز العمال، للهندي، ج 6ص 153 ، فراجع: فضائل الخمسة من الصحاح الستّةج 1ص 173 .

لرضاها (1)، فهي معصومة، وهي المعصومة الوحيدة في الإسلام، بل في المجموعةالبشريّة، ولاتشاركها في العصمة إمرأة غير مريم ابنة عمران، إلاّ إ اّهن تليها في الفضل والمرتبة.

والأخ: الإمام الحسن السبط(علیه السلام)، سيد شباب أهل الجنة.

والأخت: زينب(علیها السلام) ، عقيلة بني هاشم، وشريكة الحسين في جهاده ومحنته.

والعم: جعفر الطيار(علیه السلام).

.. وهكذا يحف به الجمع من بني هاشم.

والبيت الهاشمي أشرف بيت في قريش، بل في العرب، بل في الدنيا بأسرها.

وهذا الموقع النسبي للحسين، وفّر له ملكات وخصائص وذاتيات لا نظير له فيها -إلا أخوه الحسن السبط- كما وفّر له تربيةً عاليةً جداً، بعد أن عاش في كنف النبي والوصي والبتول، وبرفقة الحسن المجتبى وزينب العقيلة، بالإضافة إلى مواهب ربانيّة عظيمة، قام الدليل القطعي على توفرها فيه، كل هذا دعى النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) إلى كشف حقيقة حاله، وعلو خصائصه، وجليل ميّزاته، إلى الأمة، بأحاديث بقيت تدوّي عبر التأريخ، بالرغم من كل الجهود الجبّارة لطواغيت الأمة وأتباعهم، لمحاصرة تلك الأحاديث وطمسها وإعفائها من ساحة الوجود، بهدف الحيلولة بين الأمة ومنقذها الحقيقي، وكي تبقى الأمة تتقلب تحت أفياء فروع الشجرة الملعونة في القرآن: بنو أمية، ولن نخلي كتابنا من بعض تلك الأحاديث الجليلة.

قضى الحسين (علیه السلام) من العمر بصحبة جدّه الرسول الأعظم سنين سبع -بعد إن كانت ولادته في شعبان سنة ثلاث من الهجرة، ووفاة جدّه النبی (صلی الله علیه و آله) في صفر سنة إحدىة.

ص: 28


1- راجع: فضائل الخمسة من الصحاح الستّة، للفيروزآبادي، ج 3ص 155 ، فقد نقله عن عِدّة من مصادر السُنّة، منها كنز الع لّام وأُسد الغابة.

عشرة للهجرة المباركة-.

ومن خلال النصوص المتوفرة في كتب السُنّة والشيعة على السواء، عن النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) في سبطه الحسين، نعلم أنّ السنيّ السبع للحسين، والتي قضاها في كنف أصحاب الكساء -وهو أحدهم-لم تكن بالصيغة التي يحياها كل طفل -بطبيعة الحال- بل هي حياة خاصة، تناسب الموقع الذي هو فيه، والمقام الذي سيصير إليه، من خلافة الله ورسوله في الأرض.

وما تقدّم: يحكي عنه بأحسن بيان، نصّ النبي الأكرم:

«الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» (1).

فبأيّ مزيّة يكون الحسين سيد شباب أهل الجنة، لولا توفّر كمالات وخصائص ذاتية فيه، ولولا صدور أعمالٍ جليلةٍ منه، هي الأفضل والأكمل والأزكى بحيث تعلو به على كل ذي كمال بشري، وكل ذي عملٍ جليل، فهو الأعلى مرقاة في الجنّة، حتى من جميع الأنبياء والأوصياء، فضلاً عمّن عداهم -باستثناء النبي ووصيّه وبضعته الزهراء وذلك لنصوص خاصة- وإلاّ فالمولى سبحانه لا يهب المقامات جُزافاً ولا النبي ينطق عن هوى.

والحسين من أهل البيت الذين هم:

أ- أحد الثقلين: اللذين تركهما النبی (صلی الله علیه و آله) في الأمة، لا يضلّ أبداً من اتبعهما، وأخذ بهديهما.

ب- وسفينة نوح هذه الأمة: فكما أنّ من ركب السفينة نجا، فمن اتبع آل محمد -والحسين منهم- فسينجو أيضاً. .

ص: 29


1- راجع: فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ﺟ 3 ص 212 ، وراجع: مسند الإمام الحسين، للعطاردي، ﺟ 1 ص 130 ، فقد نقل هذا عن مصادر عدّة منها: صحيح الترمذي، ﺟ 2 ص 306 .

ج- وقربى النبی (صلی الله علیه و آله) الذين أوجب الله مودتهم ومحبتهم -لا أن يناصبهم المرء العداء، ويقتلهم، ويسقي الأرض من دمائهم، ويملأها من قبورهم-.

وهو أحد إمامي الأمة، الثابتة إمامتهما -بالنصوص القطعية- إن قاما وإن قعدا.

والمضامين المتقدمة: يكفي أحدها ليركس كل مناوئي الحسين ومن يتعصّب لهم على رؤوسهم في جهنم، لصراحتها في عظمة الحسين(علیه السلام)، ولنقل كتب المسلمين قاطبة لها فالمتمرد عن الانصياع لها، متمرد على إرادة الله، وتبليغات رسوله، وليس لهذا المتمرّد إلاّ النار كما صرّحت النصوص بهذا.

إنّ جميع ما صدر عن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) لبيان حقيقة الحسين، وواقع مقامه عند الله ورسوله، بما يفصح عن ذاتياته، وملكاته، وكفاءاته، صراحةً، أو ضمنا، أو بالملازمة، إنما صدر ولم يبلغ الحسين (علیه السلام) التاسعة من عمره المبارك.

و ذلك المدح، وتلكم الإشادات، إنما صدرت ممن بعثه الله رحمةً للعالمين، وممّن جاء ليغ العالم كُلّه إلى النهج المستقيم، وليبدّل دار الدنيا من وضعها المقيت إلى الحياة الأسعد.

ومن المعلوم أنّه (صلی الله علیه و آله) لا ينطق عن هوىً أبداً، وأنه يضع الشيء في موضعه الصحيح، وان ما تضمنته النصوص من تصريحات وتلميحات وإشارات، كان بمحضر من الصحابة، ومع ملاحظة استعداداتهم وانتماءاتهم وإمكانياتهم.

ومع توفّر مجموع الظرف والمظروف، فإنّه (صلی الله علیه و آله) صرّح بأن الحسين إمام المسلمين إن

قام وإن قعد، وأنه سيّد شباب أهل الجنة في الآخرة، فإذن:

له السيادة على الأمة كلها إلى يوم القيامة، وفي الدارين.

بل المستفاد بوضوح من النصّ، إن الحسين سيد الدنيا والآخرة على جميع من عدا

ص: 30

النبی (صلی الله علیه و آله) والوصي علي والزهراء والحسن المجتبى (علیهم السلام) وهذا الاستثناء لنصوص خاصةأوجبته، وأمّا عموم سيادته، فلاقتضاء إطلاق سيادته على شباب الجنة دون استثناء أحد أبداً، إلاّ من قدمنا ذكرهم(علیهم السلام).

وليست السيادة الدنيوية والأخروية للحسين على البشرية كلها إنما تقتضي له الاحترام والتوقير ونحو هذه من العناوين فقط -وان لم تحصل هذه أيضاً من معظم الأمة- كما يصر بعض من ينتمي لطائفة السُنّة، على فهم ما ورد في أهل البيت بهذه الشاكلة، إذ هذا مراد ضيّق الدائرة جداً، عما تفيده النصوص الكثيرة، وهو مفاد لايفهمه من يعرف الكلام العربي، وَيُنَزَّه عن أن يقصده النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله)، في أن يكون هذا حدّ مراده واقعاً.

وما أدري كيف يقف هؤلاء من أهل البيت عند حدود الاحترام والتوقير، والنصوص -الكثيرة والمتواترة- تفرض طاعتهم على الأمة جمعاء، بل البشرية، وبدون استثناء، إذ تب إنّ طاعتهم طاعة لله، ومعصيتهم معصية لله، وحبّهم حبّ لله، وبغضهم بغض لله، ومحاربتهم محاربة لله، والسلم معهم سلم مع الله، وعلى هذه الوتيرة، وحديث السفينة من حججنا العظيمة عليهم، وكم لدينا من نظير.

رحيل الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله):

وبرحيل الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) إلى ربّه المتعال، تكون أبواب الفجائع قد انفتحت على مصراعيها في حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، وابتدأت الانهيارات -منظورة وغير منظورة- في الكيان الهائل الذي بناه رسول الرحمة لأمة أتى بها إلى الوجود مِن لا شيء، وأنعشها بعدطول جاهلية وخمول.

وفاجعة رحيل الرسول الأعظم، في حياة الحسين -بل في حياة كل مؤمن حق-

ص: 31

عظيمة ومهولة فكيف إذا تتالت الرزايا العظام.

ها هو الرسول الأكرم الأبرّ، بعد محاولات اغتيالٍ عديدة و كُحمَْمَة انتهت جميعها إلى الفشل، يموت مسموماً بيد عصابة ماكرة منافقة، وما أكثر الشواهد على هذا، ولعل نسبة التسبُّب بتسميم النبيّ إلى اليهودية الخيبرية لتنبيه المؤمن والإشارة إلى ما ومن ينبغي الالتفات إليه، نعم، لعلّ القاتلة يهودية إلاّ إنها من سنخ غير خيبري.

ثم ها هو النبی (صلی الله علیه و آله) متروك بلا تغسيل، وبلا تجهيز، أياماً ثلاثة، إذ الصحابة مشغولون في حسم قضية الخلافة، وها هو الأمر يُتَّفَقُ عليه بين عَمجٍْ، ويُفرَض فرضاً على الآخرين، بمن فيهم الأسرة القريبة جداً من خاتم المرسلين، والتي لها موقع خاص في الإسلام، بل أوجب الله ورسوله على الأمة جمعاء -من دون أي استثناء- الإطاعة المطلقة لسيد هذه الأسرة: علي(علیه السلام).

ويرفض بيعة أبي بكرٍ جمع، يتصدّرهم علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلامه، وعامة بني هاشم، وجمع من خيرة صحابة النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) كسلمان وعمار والمقدادوآخرين.

وقد ذكّرهم الإمام الوصي (علیه السلام) بوصايا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أمر الخلافة وبتعيينه له من بعده -وهذا التعيين، كما هو حق للإمام الوصي فكذلك هو من الواجبات الملقاةعلى عاتقه، فليس هو من الحقوق الخاصة المحضة، كي يتنازل عنها أو يتسامح بشأنها-.

وكان نتيجة موقف أبي بكر ومن معه، مقابل إصرار الإمام وأهل بيته وصحبه على الامتناع، أن طُوّق بيت الإمام من مجموعة يقودها عمر بن الخطاب، ثم قامت هذه المجموعة بتهديد من فيه بإحراقه عليهم، وفي البيت فاطمة الزهراء بنت النبي(صلی الله علیه و آله)، و الحسن والحسين سبطا النبي وريحانتاه، و جمع من الصحابة، بالإضافة إلى الإمام الوصي أخو الرسول وخليفته في أمته، ومن قام الإسلام بسيفه، ثم ينتهي الأمر إلى

ص: 32

كسر الباب، وعصر ابنة الرسول بالباب وهي حامل -وهي التي يغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها-، وإسقاط جنينها، وضربها على وجهها -تلك الضربة التي تركت أثراً في عينها إلى آخر حياتها- ثم اَرضِْهب بالسوط على عضدها، وكسر ضلعها، ونفوذ مسمارٍ إلى صدرها -بسبب عصر الباب- وبعد كل هذا يبدأ الهجوم على الوصي، فيُسحب من رقبته إلى مقر أبي بكر، ويطالب بالبيعة قهراً، ويهدّد بالقتل، ومع التهديد إطلاق اليمين بقتله لو استمر في امتناعه (1)، ولا تسل بعد كل هذا عن الأجواء القاتمة في حياة الحسنين يومذاك، وعمرهما لا يتجاوز السنوات التسع.

وتمر الأيام كئيبة حزينة، و تستشهد الزهراء، سيدة نساء العالمين، بعد فترة قليلة جداً، نتيجة أمور ثلاث:

أ- رحيل أبيها(صلی الله علیه و آله).

ب- المصائب التي حصلت بعد أبيها، من اغتصاب الخلافة، والاعتداء على الوصي، بل على عامة أسرة النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله).

ﺟ- الاعتداء عليها: بالضرب، وكسر الضلع، وإسقاط الجنين، بالإضافة إلى الآلام النفسية الهائلة، مما عجّل بشهادتها.

وها هي ابنة الرسول، وسيّدة نساء العالمين، تُدفن سراً فلا يُعلم قبرها إلى اليوم، كشاهد صارخ على الجريمة التي ارتكبتها الفئة الحاكمة ومن ساندها، بحقّها.

ثم ها هُم أهل البيت النبوي يعتزلون الأوضاع، وتلهو عنهم الفئة الحاكمة ومن يسايرها، فتخفت أخبارهم، ولا يُنقل عن تفاصيل حياتهم، ومن فقههم وعلومهم الدينية إلاّ قليل، مع إنّ علياً باب مدينة علم النبي، وهو وأهل بيته سفينة نجاة الأمة، ي.

ص: 33


1- راجع: مأساة الزهراء، للسيد جعفر مرتضى العاملي، للإطلاع على تفاصيل ومصادر هذه الواقعة العظيمة في التاريخ الإسلامي.

وأحد الثقلين اللذين تركهما النبي للأمة، عصمة من الضلالة.

ولا يُفهم من كلامنا المتقدّم أن لا خبر عنهم، ولا تحرك لهم على الإطلاق في هذه المرحلة، بل هناك الكثير مما يُذكر في المقام، إنّما المقصود إن المستوى الموجود في التعامل معهم هو دون المطلوب بكثير، بحيث ينزّل المنزلة التي ذكرناها.

ولا يفوتنا التنبيه إلى طبيعة النهج الذي سلكه المعصومون الثلاثة (علیهم السلام) في هذه المرحلة مع الخلفاء الثلاثة، وهو الإرشاد والتنبيه على الخطأ والانحراف، لحماية الإسلام وصيانته، ولم يكن فيه ما يدل على تصحيح استلام الثلاثة للخلافة أبداً، فموقفهم من هذه المسألة ثابت ومعروف، ولم يتراجعوا عنه قيد أنملة مدى حياتهم، هم، وذريتهم المعصومون، وشيعتهم، ومن يلتزم نهجهم، ولعلّ هذا واضح، ومن نافلة القول.

فترة الوصي والمجتبى:

صحب الإمام الحسين (علیه السلام) والده الوصي (علیه السلام) طيلة حياة الوالد العظيم، بما فيها أيام تمكّن الوصيّ من الخلافة الظاهريّة، وكان بمعيّته في تمام الأحداث التي واجهها.

كما سار الإمام الحسين (علیه السلام) على منهاج أبيه، في طريقة العيش، وذلك:

1- لأن علياً لم يكن يسمح إلا بهذا النمط من العيش لنفسه، ولمن هو لصيق به.

فهو -صلوات الله عليه وسلامه- يروّض نفسه على خشونة العيش في جميع أمره، ويأمربهذا من يقتدي بهديه، ويستنير بمناره، بل كان (علیه السلام) صارماً في هذا الأمر، وقضيّته (علیه السلام) مع أخيه عقيل من الشواهد.

والقاعدة في منهاج علي - صلوات الله عليه وسلامه - أنه:

كلما كان المرء أقرب له نسباً وسببا، وعقيدةً ومنهاجاً، كان أبعد عن أن ينال من عليٍ شيئاً من التفضيل والتميّز في شؤون الرفاهية ودعة العيش، أو أن يحيا في هذه الأجواء،

ص: 34

وهذا الأمر دستور في حياة علي، والشواهد عليه متعدّدة.

2- على أن لا تفاوت أصلاً في منهاج حياة الإمام علي(علیه السلام)، ومنهاج حياة ولده الحسين(علیه السلام)، فهما يصدران عن منبع واحد «الرسول (صلی الله علیه و آله) والقرآن الكريم» كما إن الحسين (علیه السلام) تلميذ والده، وأفضل متمسّكٍ بنهجه، ومن أراد معرفة عليٍ(علیه السلام)، فلينظر إليه من خلال ولده الحسين(علیه السلام)، فحياة الحسين (علیه السلام) مرآة لحياة علي(علیه السلام)، وفيها الكاشفية عن تلك الحياة، وذلك المنهج، غير إنّ فرقاً في جانب أثّر فرقاً في المنهج الحياتي بعض الشيء وهو استلام عليٍ صلوات الله عليه للخلافة الظاهرية وهو مالم يحصل للحسين صلوات الله عليه.

والحاصل أنّ علياً لم يستفد من الخلافة شيئاً من مباهج الدنيا، ولم تزده الخلافة غير المسؤوليات، والتكاليف، والآلام، والمحن، فلم يعش عيشةٍ إلاّ دون ما يحياه أقل فردٍ من رعيّته، فلم ينزل القصور، ولم يلبس ناعم الثياب، ولا أكل الطيبات، ولا استفاد من منصبه ما يغتنم الآخرون معه فرصة القدرة التي يوفرها المنصب لنيل آمالهم ومطامحهم، أو للانتقام من عدوٍّ أو مشاغب.

كان أقوى الناس عندما يريد تحكيم إرادة الله ورسوله، غير أنّه حينما يتعلق الأمربالمغانم ورغد العيش، فإن علياً له خبر مختلف تماماً، لم تتعارف البشرية مثله قط.

والنصوص كُثر فيما قدمناه، فراجع لها نهج البلاغة، والمجلدات الخاصة بأميرالمؤمنين في بحار الأنوار، وما كُتب عن علي (علیه السلام) مما حوى أخباره يستعصي على الإحصاءوالاستقصاء، كيف وقد كتب عنه الشيعة، والسُنّة، والمسيحيون، ونُظم الشعر في مدائحه، ومناقبه، وسيرته العديمة النظر، فهذه القصيدة الأُزريّة الألفيّة (1) -وهي قرابة ألف بيتٍ من الشعر، يوجد منها الآن اكثر من خمسمائة- في مدحه، لناظمها ال».

ص: 35


1- هذه القصيدة، مطبوعة في كتاب خاص بها، بعنوان: «الازريّة».

كاظم الأُزري وهو من الشيعة، والقصيدة العُمريّة لشاعر الموصل السُنّي عبد الباقي العُمري (3):

أنت العَليّ الذي فوقَ العُلا رُفِعا

ببطن مكّة وسط البيت إذ وُضعا

وأنت أنت الذي حُطّت له قدم

في موضع يده الرحمن قد وضعا

سمّتك أُمك بنت اللّيثِ حيدرةً

أكرم بلبوة ليثٍ أنجبت سَبُعا

وهذه قصيدة الغدير، للشاعر المسيحي بُولِس سَلامة، وهي تُقارب الثلاثة آلاف بيت (4)، وأخرى للقاضي المسيحي عبد المسيح الانطاكي وهي «5515» بيت (5)، وقصائد ابن أبي الحديد، المعتزلي عقيدةً، السنّي تفقهاً:

يا برق إن جئت الغريّ فقل له

أتراك تعلم من بأرضك مُودع

فيك ابن عمران الكليم وبعده

عيسى يقفّيه وأحمد يتبع

بل فيك جبريل وميكال وإسرافيل

والملأ المقدّس أجمع

بل فيك نور الله جل جلاله

لذوي البصائر يستشفّ ويلمع

فيك الإمام المرتضى فيك الوص

يّ المجتبى فيك البطين الأنزع

يا قالع الباب الذي عن هزّه

عجزت أكف أربعون وأربع (6)

وهذه القصائد الطويلة، مع اختلاف ناظميها في الأديان والمذاهب، تكشف عن

(3) قصائد العمري، مطبوعة في ديوانه: «الترياق الفاروقي».

(4) قصيدته مطبوعة في كتاب بعنوان: «الغدير».

(5) راجع: الغدير، الأميني، ﺟ 3 ص 21 ط مركز الغدير.

(6) القصائد العلويات السبع، لابن أبي الحديد، وهي مطبوعة مع الهاشميات، للكميت بن زيدالأسدي

ص: 36

مقدار ما أحدثته شخصيّة علي بن أبي طالب، وسيرته العظيمة، في المتقدم ذكرهم، علىاختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، حتى اخذوا ينضمون القصائد المئوية والألفية، للتعبير عما يجيش في صدورهم، من إكبار وإعجاب، بهذا الإنسان الكامل الفرد، والذي ما سمح الدهر بمثله -باستثناء أخيه خاتم المرسلين (صلی الله علیه و آله) والذي لا يدانيه إنسان قط-.

لقد سبق الكتاب والسُنّة الجميع، إلى رفع عليٍ(علیه السلام)، على كل أفراد الجنس البشري.

فالقرآن أوجب طاعته على الكل دون استثناء -باستثناء رسول الله (صلی الله علیه و آله) بطبيعة الحال، وهذا واضح- حيث قال:

«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» (1).

وبحسب نصوص الشيعة والسنة، فان صاحب هذه الآية، المعبر عنه فيها ب:

«وَالَّذِينَ آمَنُوا».

هو علي (علیه السلام) لا غير، وتجري في أولاده المعصومين الأحد عشر صلوات الله عليهم لتوفر المِلاك فيهم.

وأمّا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فم نُقل عنه، ما رواه المحب الطبري - وهو من أعلام العامة - في كتابه - الرياض النضرة -:

«كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى، قبل أن يخلق آدم (علیه السلام) بأربعة عشر ألف عام». (2)

الرجاء أن تتأمل في أبعاد هذا النص الشريف، وأن تجعله بمحضرك حينما تريدأن تتصور علياً في نفسه، أو أن تقايسه بغيره، والله يهدي من يشاء إلى صراطه، ودينه، .

ص: 37


1- سورة المائدة، الآيات 55 - 56 .
2- فضائل الخمسة، ﺟ 1 ص 168 ، عن الرياض النضرة، ﺟ 2 ص 164 .

ونعمته.

أقول: من يتربى في مدرسة علي(علیه السلام)، ويعيش في عوالمه، لا يكون إلاّ أعجوبة من أعاجيب الدنيا، وليس هو إلاّ واحد دهره، وهكذا كان الحسين طول حياته.

كان الإمام الحسين (علیه السلام) يحيا في ظِلال أجواء مدرسة أبيه، وينهج نهجه، وقد شارك أبيه في جهاده للناكثين والقاسطين والمارقين، والذين نبّه إلى أمرهم سيد الرسل (صلی الله علیه و آله) إذ اخبر الوصي (علیه السلام) بمقاتلته لهم (1)، وذكر للأمة مؤكّداً أنّ هذه الفئات الثلاث هي الطرف الضالّ في تلك الحروب، والحق مع علي دائماً، وفي تلك الحروب أيضاً.

غير إنّ الحسنين كان لهما وضعٌ خاص في دولة الوصي(علیه السلام)، يجدر التنبيه إليه، والفات النظر نحوه.

ففي الوقت الذي لم يكن للحسنين تميّز خاص، فيما يتعلق بالرفاهية الدنيوية، أيام خلافة أبيهما الوصي- إذ إنّ سياسته كانت قائمة على أن يأخذ لنفسه، ويعطي للآخرين-من يتعلق به أو غيره- بمستوىً واحد، دون تمييز لآله في كثير أو قليل إلاّ أنهّ كان يميّزهما في شيءٍ آخر، ومن حيثيّة مهمة.

ذلك انّه كان يتعامل معهما من منطلق إنهما ابنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فكان يصونهما، ويذود عنهما المخاطر، حفظا لهذه النسبة، وتنبيهاً للامة على ما ينبغي لها أن تصنعه معهما.

وأمارة ذلك وشاهده، أنّه (علیه السلام) كان يقذف بولده محمد في المخاطر، ويصون الحسنين منها، وقد تكرر هذا منه، والوارد عنه تصريحه بان السبب في هذا، انتساب الحسنين للنبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) فهو يصونهما ويفدّيهما بولده محمّد.

في حرب صفين، هجم الحسن (علیه السلام) لمقاتلة القاسطين -معاوية وحزبه- فنادى .

ص: 38


1- راجع: فضائل الخمسة من الصحاح الستة، الفيروز آبادي، ﺟ 2 ص 358 .

الوصي (علیه السلام) في صحبه وجنده:

«املكوا عنّي هذا الغلام لا يَهُدّني، فإننّي أنفس بهذين -يعني الحسن والحسين(علیهما السلام)- على الموت لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول الله(صلی الله علیه و آله)». (1)

وفي عبارة ابن أبي الحديد:

«املكوا عنّي هذين الفتيين، أخاف أن ينقطع بهما نسل رسول الله(صلی الله علیه و آله)». (2)

وسُئل محمد بن الحنفيّة: لِِمَ يغرر بك أبوك في الحرب، ولا يغرر بالحسن والحسين؟

فقال: إ ماّهن عيناه، وأنا يمينه، فهو يدفع عن عينيه بيمينه (3).

وكان الوصيّ (علیه السلام) يقول: «أين يقع ابني من ابنيّ رسول الله(صلی الله علیه و آله)». (4)

وهذا الأمر الذي عظّم فيه الوصيّ ولديه، لم تبال به الأمة، ولم تعرف للحسين هذه الحرمة -حرمة بنوته لرسول الله (صلی الله علیه و آله) - مع أنه كذلك في القرآن العزيز:

«أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ»(5).

و أمّا حركة الحسين (علیه السلام) أيام المجتبى(علیه السلام):

فالإمام الحسين (علیه السلام) كان ركناً من أركان دولة أخيه الحسن (علیه السلام) ومن معاضديه، ومن الممتثلين لأمره حرباً وسلماً.

ومن الخطأ العظيم: الالتزام بعدم طواعية الإمام (علیه السلام) لأخيه الإمام المجتبى(علیه السلام)، بشأن عقد الصلح مع معاوية.

ص: 39


1- نهج البلاغة، الخطبة 207 .
2- بحار الأنوار، المجلسي، ﺟ 42 ص 98 .
3- بحار الأنوار، ﺟ 42 ص 99 .
4- بحار الأنوار، ﺟ 42 ص 100 .
5- سورة آل عمران، الآية 61 .

فأمّا أصل الصلح، فلم يكن أحدٌ مريداً له ولا راضياً به، الإمام الحسن، والإمام الحسين، وبقية صحبهما وجيشهما.

ذلك لأن الإمام الحسن إنما اختار الصلح لضرورةٍ قاهرةٍ كما اختار رسول الله صلح الحديبية لضرورة قاهرة.

وأمّا رضا الحسين (علیه السلام) بما صنعه أخوه المجتبى فهو حاصل قطعاً، بل هو معتقد بأن ما صنعه المجتبى هو التصرف الصحيح، وفقاً للحالة المعاشة، ولو كان مكانه لما صنع غير هذا، وهذا من الحسين (علیه السلام) ليس لتسليمه لأخيه فقط، أو لمحض اعتقاده بإمامته، بل الأمر أجلى من هذا.

إذ إنّ الناظر بإمعانٍ لظروف المجتبى، والمطّلع على تفاصيلها وجزئياتها، يعلم أن لا طريق للمجتبى يسلكه غير هذا، فليس حبّ المجتبى للمسالمة هو دافعه للصلح، ولا إنّ لروح الحسين (علیه السلام) الجهادية مدخلية في رفضه، فالحسن والحسين في المسالمة والجهادية روح واحدة، وفكر واحد، وإنّما للظرف الخاص مدخليته في إختيار الحسنين لموقفيهما، ويعضدهما في كل حركة لهما واختيار، التسديد الإلهي، المعبر عنه ﺑ: العصمة.

الحسين بعد الحسن(علیهما السلام):

حمل الحسين (علیه السلام) مشعل الإمامة بعد أخيه المجتبى، وحمل هموم الإسلام -تركةرسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمانته، عند خلفائه المعصومين من ذريته-.

حافظ الحسين (علیه السلام) على مضمون عقد الصلح الذي عقده أخوه المجتبى مع معاوية، وترك النهضة إلى أن حان حينها بعد موت معاوية، وكتابنا هذا يتعرّض لتفاصيل كثيرةمتعلقة بحركة الإمام الحسين (علیه السلام) بعد أخيه الإمام المجتبى صلوات الله عليهما وسلامه.

غير إننا نقول في مفتتح كتابنا:

ص: 40

إن الحسين بن علي بن أبي طالب، أظهر عزّ الإمامة، ومنعتها، وصلابتها، وضرورتهاللإنسانية.

ذلك انه لم يُقتل في ساحةِ معركة، من المعصومين الأربعة عشر، غيره، كي ترى الأمة صنيعهم في تلك الساعات إلاّ إنّ الحسين مثّلهم جميعاً، وكان مرآة صادقة حاكيةعنهم، وقد ظهر منه في تلك المواقف التي تزلزل الصمّ الصلاب، من السّمو، والرفعة، والطهارة، والشموخ، ونكران الذات في جنب الله سبحانه، ما لا نظير له فيه ولا عديل.

بل إنّ شهادته تعلو على كُلّ شهادة، فقد أُصيب إصابات قاتلة، وعجز عن القتال، ومع ذلك بقي يصدر عنه من أسباب الرشاد والهداية، ما به استنقاذ ذلك الجمع من وهاد جهنم ووديانها -لو لا موت قلوب فئة الضلالة والارتداد-.

وهكذا خُتمت حياة الحسين بأن يُذبح من الوريد إلى الوريد، وكان ما يزال به رمق من الحياة، بل كان حينها يتحدث مع قاتليه - وياويلهم -.

اللّهم اجعلنا في حمى الحسين(علیه السلام)، في طول مسيرتنا الوجودية، يا عادل، يا رحيم.

***

لقد ق تّرص الأمة يومذاك تقصيراً عاماً فيما يتعلّق بالحسين، وما اغتنمت وجوده للتعلق بأذيال النجاة والسعادة في الدارين، بل استمرت هذه الأمة في بخس حظ نفسها، حين استمرت في مؤازرة الخط المناهض للحسين.

وإلى يومنا هذا يتعامل كثير من أبناء أمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بلا أُباليّة مع الحسين ونهجه وهدفه وهو ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، لكنّ هؤلاء يستشيطون غيظاً إذا ذُكر آل أمية بسوء وهم

في القرآن:«وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ» (1). .

ص: 41


1- سورة الإسراء، الآية 60 .

بينما الحسين في كتاب الله:«فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ» (1).

والحسين:«إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(2).

والحسين:«قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» (3).

والحسين: «إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا» (4).

والحديث في الحسين يبتدأ ولا ينتهي -اقتباساً من القران والسنة-ويكفي في أمره ما أجمعت عليه الأمة الإسلامية، أنّه: سيّد شباب أهل الجنة5.

ص: 42


1- سورة آل عمران، الآية 61 .
2- سورة الأحزاب، الآية 33 .
3- سورة الشورى، الآية 23 .
4- سورة الإنسان، الآية 5.

الإمام السبط قبل الطف

ورد: أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) اعترض عُمَراً -والأخير على المنبر یخطب أيام خلافته- بقوله(علیه السلام): «إنزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك».

فأجابه عمر: ليس لأبي منبر.

وفي رواية: إنّ الإمام (علیه السلام) لم يزل یجبذه حتى قطع خطبته ونزل عن المنبر، ثم أرسل عمر إلى الإمام (علیه السلام) وقال ل ه: «يابن أخي من أمرك بالذي صَنَعْتَ»، فأجابه الإمام: «ما أمرني به أحد».

وأعاد عليه السؤال، فأجابه (علیه السلام) بنفس الجواب تتمة ثلاث مرات.

كل هذا والإمام دون حدّ البلوغ الشرعي، ويقول ل ه عمر في نهاية الرواية:

إنما أثبت في رؤوسنا ما هدى الله وأنتم(1).

موقف الإمام هنا وموقف عمر مستحقان للتأمل، ولاقتناص الفوائد:

إذ من جهة يدلّ على استماتة الإمام في استرجاع الحق المغتصب في الخلافة لوضوح انحصار هذا الحق في أبيه المجاهد المظلوم(علیه السلام)، وهذا وحده حجة على الجميع في إثبات هذا الحق للإمام الوصي، لأن الحسين علم هداية في الأمة.

ص: 43


1- تأريخ المدينة المنورة، عمر بن شبة النميري المتوفى في 262 ﻫ.ق، ج3 ص 798 - 799 ، ونقل صاحب كتاب: كلمات الإمام الحسين(علیه السلام)، اعتراض الإمام (علیه السلام) على عمر في ص 116 ، كما ذكر مضموناً مشابهاً في اعتراض له على أبي بكر في ص 110 ، وذكر أيضاً اعتراضه (علیه السلام) على أبي سفيان عند مخاطبته للصحابة المدفونين في البقيع، فراجع ص 122 .

ومن جهة يوضّح الركائز التي يستند إليها عمر وإلاّ لردّ على الإمام بحجّة ما، وإن كانت هزيلة، كما هو الحال في -إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث- والتي تُردّ بالآيات القرآنيّةالمتعدّدة بسهولة.

إذ كيف لم يُجبه أنّه مستخلف من رسول الله، أو مِن صاحب الحق في الاستخلاف -أي أبي بكر بحسب زعمهم- أو أنّ المسلمين اختاروه، أو يستند إلى إجماع المسلمين، أو إلى أهل الحل والعقد، أو أن هذا المقام لمن غَلَب وتمكّن منه، خصوصاً إن الإمام (علیه السلام)قد هتف به أمام الصحابة كافة وغيرهم حتى أنزله عن المنبر وقطع خطبته.

وكذلك تكشف هذه الحادثة بعض نواحي العظمة في شخصية الإمام الحسين(علیه السلام)، والذي لم يبال بجند عمر وحرسه، ولا بجميع من يجلس تحت منبره، وهم وجوه المجتمع من المهاجرين والأنصار، وبعضهم ممّن يُساند عمر في توجهاته، كما لم بَهيَْ عمرا مع إنّ هيبته أخافت جمعاً كبيراً من المسلمين، بل إنّ تلك الهيبة تصاغرت أمام عظمة الإمام وهيبته، وقوة منطقه وأحقيّة ما صرّح به.

لقد كشفت سيرة الإمام الحسين (علیه السلام) -ومن قبله سيرة والده الإمام الوصي علي أميرالمؤمنين، وسيرة أخيه الإمام المجتبى- عن أن الخلافة والزعامة ليست بذات قيمة عندأهل البيت عليهم آلاف التحية والثناء.

إن الخلافة عند الإمام الحسين (علیه السلام) -وكذا عند أبيه وأخيه- مسؤولية عُظمى إذ هي عندهم وراثة لمقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) بما تحمله هذه الوراثة من مسؤوليات ومهام- وإلاّفمقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليس فيه محل ومجال للمتع والملاذ التي تَقَلَّبَ فيها من ارتقى مقام النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله).

مقام النبي يعني:

أ- تبليغ أحكام الدين وأوامر الله ونواهيه إلى الأمة.

ص: 44

ب- المحافظة على القرآن من التحريف والضياع، مع بيانه وتفسيره للأمة.

ج- الحفاظ على مقدسات الإسلام، ومشاعره الحرام.

د- المحافظة على الدين بالوقوف سدّاً منيعاً أمام جريمة التلاعب به، والمسارعةبإجهاض وتلافي أيّة عمليّةٍ من هذا القبيل، وكذلك القيام بتبيينه للناس، ونشره في مساحة أوسع.

ﻫ- مراقبة تطبيق أفراد الأمة لأحكام الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

و- فصل المنازعات بين الناس وفق أحكام الله.

ز- الدفاع عن بلاد الإسلام، وعن المسلمين من العدو الخارجي والداخلي، وصيانة المكتسبات الإسلامية.

ح- رفع الفقر عن كاهل أفراد الأمة، بتسهيل أسباب العمل والارتزاق لهم، أوبتمويلهم مع عدم إمكانية الإرتزاق.

ط- العمل على تقريبهم لر مّهب المتعال، بتكميل نفوسهم، وتربيتهم التربية الإيمانيةالصالحة.

ي- مقام النبی (صلی الله علیه و آله) يعني الزهد، والتقوى، والعدل، والإنصاف، والإيثار، ونكران الذات، والإعراض عن الدنيا بالكلية، ومراقبة النفس ومحاسبتها على كل حركةوسكون.

ك- مقام النبوّة – وكذا مقام الإمامة – هو مقام الارتباط والتوسط بين العباد ور مّهب فلا ينزل شيء من المولى سبحانه إلى عباده ا بواسطة النبيّ أو الإمام الذَين هما واسطةالفيض الالهي إلى العباد كما أنّ المولى سبحانه لايقبل من أحدٍ عمله إلا ما كان مأخوذاًمن طريق المعصوم وعبر البخوع لولايته وأمره ونهيه وليس هذا إ لانّ المعصوم-النبيّ

ص: 45

أو الإمام – هو واسطة الفيض والكلام في هذا الامر يبتدأ ولاينتهي والكلام في أرجائه طويل وعريض ومن الله التسديد والتوفيق وهنيئاً لمن تقلّب في هذه الافياء.

ولا أتمكن في هذه العُجالة من الإحاطة بمسؤوليات النبی (صلی الله علیه و آله)، غير أ اُلخّص الأمر بالقول: إن مقام النبي أعظم المقامات مسؤولية في أمور الدين والدنيا، وأقلّها في مجال الانتفاع الدنيوي، فهذا المنصب يُلازمه الحرمان من الراحة الدنيوية، ومن المتع والملاذ والرفاهية ونحو هذي من العناوين.

سيرة النبيّ وسيرة علي أيام خلافته تكشف لنا عن حقيقة هذا المقام -مقام الخلافةوالزعامة الدينيّة والدنيوية في الأمة- وما يلزم المتصدّي له من سلوك، ولنأخذ عليه مثالاً من رسالة أمير المؤمنين علي (علیه السلام) لواليه على البصرة عثمان بن حُنيف الأنصاري -وهو من خيار الصحابة-:

«ولو شئتُ لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولُباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القُرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيتُ مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكبادٌ حرَّى...

أأقنع من نفسي بأن يُقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أُشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أُسوة لهم في جُشوبةِ العَيش، فما خُلِقتُ ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطةهمّها علفها، أو المرسلة شُغلُها تقمّمها...

وأيم الله يميناً أستثني فيها بمشيئة الله، لأروضّن نفسي رياضةً تَهِشُّ معها إلى القُرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، وَ دَألََعَنَّ مُقلتي كعين ماءٍ نَضَبَ مَعينُها مستفرغةً دموعها.

أتمتلئ السائمة من رَعيِها فتبرُك، وتشبع الرَّبيضةُ من عُشبها فَتربض، ويأكل عليٌّ

ص: 46

من زاده فيهجَع، قرَّت إذاً عينهُ إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمپة الهاملة، والسائمةالمرعيّة.

طوبى لنفسٍ أدّت إلى ربِّها فرضها، وعركت بجنبها بُؤسها، وهجرت في الليل غُمضها، حتى إذا غَلَبَ الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسّدت كفّها، في معشرٍأسهر عيونهُم خوفُ معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنو مُهب، وهمهمت بذكر ربّهم شفاههم، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم «أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»» (1).

لم ننقل الرسالة بطولها، بل اقتبسنا منها بعض نورها.

ولو أردنا نقل المتوفر في الموسوعات من سيرة علي، وأقواله في هذا الميدان، لألّفنا كتاباً بل مجلدات، وكل المنقول عنه يحمل هذه الروح وهذا الاتجاه في بيان الحُكْمِ وأبعاده ومسؤولياته (2).

حينما تتأمل في سيرة علي وكلماته في هذا الميدان، وتبدأ بتطبيقها على المرئيّ والمسموع من سلوك حكام المسلمين من أول دهرهم إلى اليوم لقضيت عجباً، ولقطعت إنّ هذاغير ذاك، بشكلٍ لا يجمع بينهما جامع، ولقطعت أنّ سيرة علي وسلوكه هو الإسلام، وهو صراط الله، وان سيرة غيره ليست من الإسلام في شيء أبداً.

من ملاحظة سيرة علي عليه آلاف الصلاة والسلام وسيرة ولديه السبطين الحسن والحسين، ومن ملاحظة المنقول عنهم من كلامهم تعلم أن أهل البيت ليسوا من طلاّب .

ص: 47


1- نهج البلاغة، الرسالة 45 ، ص 572 ، والآية المباركة من سورة المجادلة، الآية 22 .
2- ويكفيك من روائع بياناته في هذا السبيل عهده لمالك الأشتر لمّا ولاّه على مصر وهو من حسنات الزمان ومن مفاخر الإسلام، فراجعه في كتاب «نهج البلاغة» للسيّد الرضي، قسم الرسائل، الرسالة 53 .

الحكم ومحبي الزعامة وإن قاتلوا في سبيلها.

إذ الذي يريد الحكم للحكم لا يسلك الدرب الذي سلكه علي وولده المعصومين الأبرار(علیهم السلام).

علي بن أبي طالب (علیه السلام) خليفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، أعلن هذا النبي في أول البعثةالإسلامية كما في حديث الدار، وفي آخر بعثته المقدسة في يوم الغدير العظيم، و أعلن هذا مرات كثيرة فيما بينهما، كما أعلن عن هذا في أيامه الأخيرة -في حديث رزية يوم الخميس- بل جاد بروحه الطاهرة وهو يعهد لعلي (علیه السلام) بوصاياه ويلقنه كُلّيات أحكام دينه، وقد أُلّفت موسوعات تحوي روايات الشيعة والسُنّة في هذا الأمر، ثُبِّتَت فيها مئات من الأدلة لا تقبل خلافاً ولا جدالاً، فلما توفي النبي الأعظم، وتم لأبي بكر ومن معه ما أرادوا من أخذ الخلافة من صاحبها الحقيقي المع من الله ورسوله، سَلَكَ الإمام (علیه السلام) معهم سلوكاً ثبّت فيه حقّه، بما لا يسمح نفي قضية عدوان الجماعة -أبي بكر ومن معه- عليه، بل قام أيضاً بتجذير هذه القضية في الذاكرة التاريخية، وبين هذه وتلك سار بنحو حثيث في تحصين الكيان الإسلامي والبناء الذي شاده رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحافظ على ودائعه بكل وجوده، حتى إنّ البعض قد يشكّ في خلاف علي مع المتقدمين عليه -أبي بكر وعمر وعثمان- مع إنّ هذا الأمر من أوضح الواضحات، لمن اطلع على عامة الواردعنه، أَحْسَنَ التأمّلَ فيهِ أمْ لا.

لقد أَلِفَتِ الأمم: إنّ النزاع على الحكم يجرّ الطرفين إلى إشعالِ فتن وإراقةِ دماءٍ لاتنتهي، ولم تَرَ الأمة من أحد ما رأته من علي (علیه السلام) حينما هضم الآخرون حقوقه ومنهاحقّه في زعامة الأمة، والذي نص الكتاب والسُنّة عليه، فكان علي (علیه السلام) بفعله هذا مناراًللبشرية جمعاء.

لو كان علي يعمل من أجل الحكم والمُلك لما سلك سيرته المعروفة عنه مع الخلفاء

ص: 48

الذين قبله، ولم يكن ليتمنّع حين أراد عبد الرحمن بن عوف مبايعته على الشروط المعروفة والتي قَبِلَ بها عثمان فوراً، كما لم يكن ليتمنّع حين أقبلت الأمة عليه تبايعه بعدمقتل عثمان، ولسار سيرةً أخرى حين تو الحكم وزمام الأمر.

من يُريد الحكم للحكم: يجمع الأعضاد، ويبني التحالفات، ويبيع، ويشتري، ويتنازل، ويهب، فمعاوية أقطع مصر لعمرو بن العاص على أن يسانده على كل حال، وعلي صلوات الله عليه رفض أن يعطي الزبير ولايةً وحصةً في الحكم مع أنه ابن عمّته ونصيره منذ يوم السقيفة مروراً بمهزلة الشورى التي أنتجت خلافة عثمان، وذلك لأن الحكم ليس ملكاً شخصياً وإنما هو أمانة الله العُظمى وكل من تو هذه الأمانة استحق النار إلاّ: الأنبياء والأوصياء ومن سار على نهجهم كحدّ السيف ودقّة الشعرة.

أهل البيت: مثّل نهجهم الإمام الحسن (علیه السلام) إذ ترك الحكم الذي كان بيده حين رأى مصلحة الإسلام العليا وحفظ دين الله في الترك.

ومثّل نهجهم الإمام الحسين (علیه السلام) حين رأى أن الدفاع عن الإسلام وحفظ الدين يقتضي الثورة والتضحية بكل غال ونفيس.

ولو شاء الإمام الحسن (علیه السلام) لأخذ الحكم بدون استشارةِ أحد، وبدون عرض الأمرعلى الناس، ولما ترك الحُكم فيما بعد لمعاوية، ولماّ يزل أكثر العالم الإسلاميّ بيده، ولسارهو وأخوه الحُسين سيرةً مختلفةً ع صنعا من بعد الصُلح حتى استشهادهما.

ومن قبل: سكت علي (علیه السلام) حين أخذ أبو بكر الخلافة منه بالقهر والغَلَبَة، مع إنّ أبا بكر قد بايعه مع بقيّة الصحابة في يوم الغدير العظيم، لكن حين تو الوصي الأمرحارب عائشة وطلحة والزبير ومعاوية والخوارج، وما ألقى السيف من يده حتى ضربه ابن ملجم على ناصيته بسيف مسموم ففتح جمجمته وأظهر -من شدّة الضربة وهولها-مخّه المقدّس.

ص: 49

مسيرة علي وولده بحسب التكليف الإلهي، وحسب رضا الله، على حدّ السيف ودقّة الشعرة، أما الآخرون فإنهم يسخّرون كل إمكانيات الأمة ليبلغوا بها أقصى ما يمكن لهم التمتع به من طعام وشراب ولباس وحلي وقصور، و لِملأ قصورهم بالنساء والجواري والعبيد والمغنين والمغنيات، ولتحشيد الجيوش بُغية توسعة الرقعة وجلب المغانم، ولكسر كبرياء الأمة.

هذا كله، وما لا صُحيى من الحرس والجواسيس لحراستهم وقصورهم ومتعهم، ولإحصاء أنفاس أئمة الدين وعلماء الأمة وأبدالها وصالحيها، ثم لإلجائهم إلى التصوف والسكنى في التكايا، لعزلهم عن الأمة وتركهم في بؤس العيش، وإلا فالمشانق والمقابرتنتظرهم.

تأريخ كُلُّهُ مرارة، وخزي، وظلمات، وتمرد على الله ورسوله وتحدٍ لهما، حتى إذا جاء أولئك الجبابرة الموت بكوا وقالوا: يا من لا ينقضي ملكه إغفر لمن انقضى ملكه، ثُمّ تراهم يفتحون أعينهم رعباً وهلعاً وجزعاً(1) ويموتون غير مأسوفٍ عليهم تلاحقهم اللعنات والبصقات.

إقرأوا التأريخ جيداً، وسدّوا آنافكم من الجيف التي خلّفها أولئك الطواغيت بسبب جرائم سوّدت صحائف التاريخ، وما خفي اعظم، فما كل ما يُعلم يُقال، وليس على كل بائقة شهود، إلاّ إنّ المعلول يدل على العلة.

ويبقى علي وولده أنوار في ظلمات الأرض، وحجة على جميع الخلق، ومنار لكلّ من أراد دخول الجنة، ولكلّ من خاف يوم الوعيد، ذلك اليوم الذي تلتقط فيه جهنم حصتها من بني آدم حتى يُقال لها: هل امتلأت؟

وجوابها: هل من مزيد (2).ق.

ص: 50


1- نقلت هذا: المدوّنات التأريخيّة عن غير واحدٍ من أولئك الظالمين.
2- الآية الكريمة 30 من سورة ق.

محمّد وآل محمّد (صلی الله علیه و آله)

أيّة أسرة في الأرض قدّمت كل وجودها لتحقيق إرادة الله سبحانه في الأرض كالأسرة التي ضمت محمداً وآل محمد(صلی الله علیه و آله).

أعلنوا أن لا اله سواه، فأثبتوا وجوده، ووحدانيته في الخلق، والربوبية، وإستحقاق العبادة، والطاعة، ودعوا الخلق إلى الإعتراف به، وإلى طاعته، باللين والقوة، حتى ظهرت كلمته، وترسخت جذورها في الأرض، ونمت شجرة دينه حتى بسقت في كل جانب، بعد ما اتفقت الأرض على الضلالة، وعبادة الأوثان، والنيران، والثيران.

رفعوا شأن الإنسانيّة المنحطّة من أسفل درك تحيا فيه إلى حيث النبل والسموّ، وأنتجت تربيتهم وتعاليمهم أفرادا بلغوا القمة في عرصات العلم والفضيلة وكل خصلة كريمة، وأكثر الناس يحيون كالأنعام أو أضلّ، همّهم السلب، والنهب، والعَلف، ويموتون كما يحيون: نَكِرات.

انظر بلاد الإسلام طولاً وعرضاً، قبل الإسلام وبعده.

فكم من عالم في مختلف مجالات العلم والمعرفة.

كم مِن مُصلحٍ للعباد والبلاد.

وكم من مذكور بعمله وآثاره لسموّها ورفعتها.

وأين هم قبل الإسلام، لا عمل لهم إلاّ القتل والإستحواذ على ما للغير، وبهذا بَنَوا صِيتَهم وأمجادهم.

ص: 51

كُلُّ تغ نحو الأفضل إنما هو من بركات الإسلام، ومن ثمرات جهود النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الميامين (علیهم السلام) الذين ورثوا علمه ومقامه ومسؤولياته وهمومه.

بهذا إستحق محمد وآل محمد أن يكونوا الصلة بين الخالق والخلق، فما من أمر ينزل من الخالق إلى خلقه إلاّ مرّ عبرهم.

ولا ينجح عمل ولا سؤال من الخلق إلى الخالق إلاّ بشفاعتهم، وعبر الاعتراف بهم، والسير على منهاجهم، والأخذ منهم، ورسوخ الولاء لهم.

إن البركات التي تحياها البشرية من يوم ظهور الإسلام بل مِنَ اليوم الذي قدم فيه محمد وآل محمد إلى ساحة الحياة الدنيا بل إلى ساحة الوجود مما لا يمكن الإحاطة بها، نعم يمكن لنا أن نذكر بعض العموميات والكليّات، دون الاستقصاء والاستيعاب لاستحالته.

ولا يفوتنا أن ننبّه إلى أن مقصودنا بآل محمد هنا وحيث ذكرناهم فإنما هم -على ما دلّت عليه نصوص الشيعة والسنّة-:

علي بن أبي طالب، وفاطمة الزهراء وولداهما: الحسن، والحسين.

والتسعة من ذرية الحسين: علي السجاد، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، ومحمد الجواد، وعلي الهادي، والحسن العسكري، ومحمد المهدي صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهم بالاضافة إلى النبيّ الاعظم (صلی الله علیه و آله) يُشكلون الأربعة عشر المعصومين الذين تعتقد الإمامية بشأنهم اعتقادات خاصة سُجّلت في مدوّنات لا تُعَدّ ولا تُحصى.

ومما يكشف عن أعمالهم العظيمة وخدماتهم لدين الله سبحانه، وجليل إنجازاتهم في المجتمع البشري، خلال سنّي حياتهم القصيرة نسبياً، مدح الله سبحانه لهم في كتابه،

ص: 52

وما أسبغه عليهم من صفات ومقامات ومناصب في الدنيا والآخرة.

وذلك إنّ الله سبحانه لا يمدح أحداً، ولا يُسبغ عليه منصباً، إلاّ لطاعةٍ فاقت إطاعةالغير، فليس لأحدٍ مع الله قرابة، والمولى سبحانه لا اُحيبي أحداً بلا استحقاق.

وقد أكدت النصوص الشريفة، ببيانات كثيرة، ومقامات جليلة، رفعة مقام محمد وآل محمد عند الله سبحانه بما لا يلحقهم لاحق ولا يفوقهم فائق كائناً من كان، ولو أردنا الاسترسال في سرد هذه الروايات -المتواتر منها والمستفيض بالخصوص- وفي بيان مفادها لتوصلنا إلى نتائج عظيمة يعلم كل مسلم منها مقدار هضمه لحقوق محمد وآل محمد ومقدار تقصيره في هذا الجانب بما لَعَلّه يُلحقه تقصيره بمرتبة ذوي الذنوب العظيمة، فخذ منها واحدة واستنتج منها المستوى الذي توفره النصوص لمحمد وآلمحمد.

فقد روى عدّة من أعلام العامة في مدوناتهم هذه الرواية الشريفة:

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله):

«من مات على حُبّ آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حبّ آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حبّ آل محمد مات تائباً، ألا ومن مات على حبّ آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشّره ملك الموت بالجنّة ثم منكرٍ ونكير، ألا ومن مات على حبّ آل محمد يُزفّ إلى الجنة كما تُزفّ العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حبّ آل محمد فُتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا ومن مات على حبّ آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حبّ آل محمد مات على السُنّة والجماعة، ألا ومن مات على بُغض آل محمد مات كافراً، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله». (1)ن.

ص: 53


1- أخرج هذه الرواية: الثعلبي والزمخشري عند تفسيرهما لآية المودة، فراجع الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء ص 34 ، والمراجعات ص 50 ، وكلا الكتابين للسيد عبد الحسين شرف الدين.

إن الرابح في دولة محمد وآل محمد: الإسلام والأمة، وإلاّ ما الذي استفاده محمدوآل محمد -عندما تولوا إدارة شوؤن المسلمين- من منافع دنيوية ومن أسباب رفاهيّة.

والزهراء صلوات الله عليها في خطبتها توضّح هذا وتذكّر الأمة بتلك الأيّام:

«فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي محمد- (صلی الله علیه و آله) -بعد اللُتيّا والتي، وبعد أن مُني بِبُهَمِ الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كُلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أونجم قرنُ الشيطان، أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صِماخُها بأخمصه، و مُخيد لهيبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله، مشمّراً، ناصحاً، دُجمّا، كادحاً، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العَيش وادعون، فاكهون، آمنون، تتربصون بنا الدوائر، وتتوكّفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرّون من القتال». (1)

وقالت -صلوات الله عليها-:

«وما الذي نقموا من أبي الحسن-(علیه السلام)- نقموا والله منه نكير سيفه، وقلّة مبالاته لحتفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات الله، وتالله لو مالوا عن المحجّة اللايحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة، لردّهم إليها، وحملهم عليها، ولسار بهم سيراً سجحاً، لا يكلم خشاشه، ولا يكلّ سائره، ولا يملّ راكبه، ولأوردهم منهلاً نميرا، صافياً، رويّاً، تطفح ضفتاه، ولا يترنّق جانباه، ولأصدرهم بطاناً، ونصح لهم سِراً وإعلاناً، ولم يكن يتح من الغنى بطائل، ولا يحظى من الدنيا بنائل، غير ريّ الناهل، وشبعة الكافل، ولبان لهم الزاهد من الراغب، والصادق من الكاذب «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا .

ص: 54


1- الإحتجاج، ﺟ 1 ص 262 .

لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (1)، «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ»(2)» (3).

ولذلك أناط الله سبحانه كل الأمور بمحمدٍ وآل محمد، فأوجب طاعتهم، ومودتهم، وأنزل في حقوقهم، ومناصبهم، وولايتهم على الأمة ما أنزل، وإن كان لسيد المرسلين بخصوصه شأنٌ عظيم ومنزلةٌ عند الله لا يرقى إليها أحدٌ، وقد قال الله سبحانه فيه:«إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» (4).

إلاّ أن النصوص تجعل آله بعده مباشرة في المقام، في الدنيا والآخرة، وتجعل الإقرار بإمامتهم من أصول الدين، وتهدد عدم المعتقد بها بدخول جهنم بل الخلود فيها، إذ لازم عدم الإقرار بأصول الدين سقوط المرء في ساحة الكفر ولحوق أحكام الكفر له.

وكما أن النصوص أوجبت الصلاة على النبي أو ندبت إليه بحسب اختلاف الموارد، فإنها قرنت آله به في الصلاة المفروضة والمستحبة، بل في كل حال وآن، وذكرت انهم شركاؤه في معظم مناصبه ومقاماته الدنيوية والأخروية، إلاّ في بعض الخصوصيّات، كاختصاصه (صلی الله علیه و آله) بالنبوة والرسالة، وبالزواج من تسع، وبوجوب صلاة الليل عليه، وأحكام قليلة مذكورة في محلّها من كتب العقائد، وأما ما ورد من خصوصيات لعنوان أهل البيت وما يفيد فائدته فالمقصود منه:

علي وفاطمة والحسنين والتسعة من ذرية الحسين -صلوات الله عليهم أجمعين- .

ص: 55


1- سورة الأعراف، الآية 96 .
2- سورة الزمر، الآية 51 .
3- الاحتجاج، ﺟ 1 ص 288 .
4- سورة الأحزاب، الآية 56 .

دون غيرهم من ذرية النبي، وأزواجه، و بني هاشم، أجمعين.

نعم لخديجة بنت خويلد(علیها السلام) خصوصية، إذ وردت النصوص في كتب الشيعة والسُنّة في أنها من سيدات نساء العالمين الأربع في الدنيا والآخرة، فهي من أعلى النساء مقاماً في الإسلام بعد الزهراء بلا فصل (1)، غير إنّ مقامها هذا -مع عظيم رفعته- لا يُلحقها بأهل البيت النبوي من جهة الأحكام المتعلقة بهم، وإن كانت هي جزءاً أصيلاً منهم دنياً وآخرة.م.

ص: 56


1- بحار الأنوار، ﺟ 6 ص 2، والكلمة الغراء في تفضيل الزهراء، السيد شرف الدين، ص 60 وقد نقل هذا عن أبي داود والترمذي وابن عبد البر في الاستيعاب وغيرهم.

آل أمية

اشارة

ذكروا: أن معاوية أوصى ولده يزيداً بالتعامل الليّن مع الإمام الحسين (علیه السلام) وبأن يتجاوز عنه إذا خرج عليه (1).

لكن معاوية كتب إلى الإمام مرّة: ولكنني قد ظننت يا ابن أخي أنّ في رأسك نزوة، وبودي أن يكون ذلك في زماني فاعرف لك قدرك، وأتجاوز عن ذلك، ولكنني والله أتخوّف أن تُبلى بمن لا يُنظرك فواق ناقة (2)

ونُقل أيضاً وصيته ليزيد بأن يأخذ الإمام (علیه السلام) -إذا نهض عليه- بالقسوة والإبادة(3).

ومن دراسة شخصيّة معاوية وسيرته مع عموم أهل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم عبرسنين طوال نتوصّل إلى لابُديّة أنّ تكون وصيّته الصادرة عنه إلى يزيد هي الأخيرة دون الأولى.

وذلك: لان مسألة الحكم تمثّل عند معاوية الأهم، وفي سبيل الحكم حَرَّك فتنةالجمل(4)، وقاتل في صفين، وحرك الكتائب لإقلاق دولة أمير المؤمنين(علیه السلام)، وأرسل جيشاً فاحتل مصراً، وقتل هناك محمد بن أبي بكر، وأرسل جيشاً آخر من الشام إلى اليمن فعل الأفاعيل بالمناطق التي مرّ بها كالمدينة، و مارس ابشع الجرائم في اليمن حتى

ص: 57


1- راجع: مسند الإمام الشهيد، العطاردي، ج1 ص 151 ، ص 156 .
2- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ج2 ص 232 ، ومسند الإمام الشهيد، العطاردي، ج1 ص 168 .
3- في كلام معاوية المتقدّم قبل سطرين إشارة إلى مثل هذه النيّة وهذا التصميم.
4- راجع: بحار الأنوار، ج32 ص 5.

بيعت النساء المسلمات في الأسواق (1).

واستمر معاوية في إفساده وإجرامِهِ حتى استشهاد الإمام الوصي (علیه السلام) وواصل بعدها سياسته تلك، والتي أدّت بالإمام الحسن (علیه السلام) إلى إبرام عقد الصلح معه، وَتَرْكِ إدارة الأمور له، لترى الأمة وجه طلب معاوية للحكم، ولتجرّب ما يصنع خال المؤمنين، وكاتب الوحي، والصحابيّ، بالإسلام والمسلمين إذا حكم، إذ أغرق البلاد في بحارٍ من الدماء وشجّع عملية وضع الأحاديث، وَقَتَل الصُلحاء، ومكّن أدعياء الأمة وأراذلها من مساند الحكم كابن سمية وابن شعبة ونحوهما، وسنّ سبَّ عليٍّ أمير المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، وعظيمة العظائم قتله الإمام الحسن السبط (علیه السلام) وهو الذي ترك له الحكم وصالحه، مع إنّ الدولة كانت بيده (علیه السلام) والجيوش تحت سلطانه، وعاش تحت حكم معاوية يتجرّع الغُصص ويعاني مُرّ الآلام، وما دعا إلى ثورة ولا جندّ جيشاً، ومع كل هذا عدا عليه فقتله بالسُم، أَفَبَعْدَ كل هذا يوجِّه يزيداً إلى ترك الإمام الحسين (علیه السلام) في حال خروجه عليه، هذا المستحيل بعينه.

ومما أطمئن به: إنّ رسالة معاوية إلى الإمام الحسين (علیه السلام) المتقدم ذكرها، والذي قال له فيها:

وبودّي أن يكون ذلك في زماني فاعرف لك قدرك.

إنّما هي محاولة من معاوية لطمأنة الإمام (علیه السلام) واستدراجه للنهضة، على أساس أنه إذا انتصر فقد بلغ هدفه، وإذا انكسر جيشه فان معاوية سيغضّ عنه، والصحيح ما قدمناه، وإن نيّة معاوية كانت استعجال الأحداث، كي يقضي على الإمام وثورته القضاء المبرم، ويسلّم الأمر إلى يزيد غنيمةً باردةً، وأمّا إذا تركه فانّه سيبقى في غُصّة إذ لايدري ما ستؤول الأحداث إليه بعد هلاكه، وهل سينتصر الحسين ويعيد دولة محمد (صلی الله علیه و آله) .

ص: 58


1- راجع: الفصول المهمّة، السيد شرف الدين، ص 122 .

وعلي(علیه السلام)، وتكون بهذا نهاية أمجاد العائلة الأموية، بل وجودها -لأن لكثير من الناس دماء في ذممهم، بسبب فظاعة إجرامهم أيام معاوية، ولتجبرهم وصلفهم- أم سيتمكّن يزيد من ضبط الأمور لصالحه.

ولعل من خِطط معاوية في سبيل حسم مجرى الأحداث لصالح بني أمية كتابة عهدٍأيام مرضه الأخير بولاية الكوفة إلى ابن زياد مع ولايته الفعليّةِ على البصرة، ولم يمهله الأجل لتنفيذ ما عزم عليه، فل استشار يزيد سرجوناً في أمر الكوفة أخرج له كتاب معاوية فأفهمه أنّ هذا رأي معاوية لضبط الأمور، وخطته لاستحكامها، فوافق يزيد (1) فوراً على التعيين مع كراهيته لابن زياد، فاندفع ابن زياد لتحصيل مقام الرضا والقُرب من يزيد، وليشفي غليله من آل محمد (صلی الله علیه و آله)، ففعل أقصى ما يُمكنه فعله للإنتقام منهم، وقد ورد عن السجاد(علیه السلام):

«والله لو أنّ النبی (صلی الله علیه و آله) تقدّم إليهم في قتالنا، كما تقدّم إليهم في الوصاءة بنا، لما ازدادواعلى ما فعلوا بنا». (2)

إننّا نشكّ في كل فضيلة تنسب لأحدٍ من رجالات السلطة من بعد النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله)إلى اليوم، باستثناء الإمام علي أمير المؤمنين، وولده الإمام الحسن (علیه السلام) وحفيده الإمام الرضا(علیه السلام)، ومن يتعلق بهم.

وذلك إن غالب من كَتَبَ في تاريخ المسلمين، فهو من خط الدولة، ومن المحسوبين عليها، وممن يرتزق من فضل موائدها، ولا يكتب إلاّ بما يحققّ رضا السلطة عنه، ولما به الزُلفى عندها.

فهؤلاء الكتبة ينقسمون قسمين: .

ص: 59


1- الإرشاد، الشيخ المفيد، ﺟ 2 ص 42 .
2- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 149 ، عن الملهوف، ص 229 .

إمّا سُعاةٌ في رضا هؤلاء حتى لو اقتضى الأمر وضع الأحاديث والحكايات التاريخيةمن عنديّات الكاتب، أو بالنقل عن وضّاعٍ مفتري.

والقسم الثاني: حاطب ليل، ينقل كل ما يجد دون أن يتأمل فيه، ولذا ترى أنهم نقلوا المضحكات والسفاسف بل الكفريّات، وما تنشقّ منه الأرض وتنهدّ السماء.

ومن بين كل هذا وذاك، برزت لعلي وولده وشيعته من أحاديث النبي في فضائلهم، وما يُثبت حقوقهم، ويسجّل مظلوميتهم، الكثير الكثير، ممّا دونه هؤلاء وذكروه لسبب أو لآخر، وعلى كل حال فقد أبلغه المولى سبحانه لنا بلطفه، وثبتت الحجة لنا وعليهم بنقلهم، وبما خطّته أيديهم.

وقد سُجّلت فضائل علي وولده وشيعته في فترة هي احلك فترات التاريخ، والسيف يقطر دماً، والهبات الجزيلة تعطى لمن يظلم علياً ويستنقصه ونهجه بأية وسيلة، حتى إنّ أحدهم تقرّب إلى الحجاج بقوله: إنّ أهلي عقوّني فسمّوني علياً، فابتهج له الحجّاج وأجازه.

فالقاعدة: كل ما ورد في مدح أولئك الملوك أو ولاتهم أو من يتعلق بهم فهو مطعون فيه.

ويُتعامل معه بتشدّدٍ سندي ومتني.

وكل ما ورد في ذمّهم فهو مقبول في الجملة ولا يحتاج لمؤنةٍ في قبوله واثباته.

وكل ما ورد في مدح عدو السلطة فهو مقبول.

وكل ما ورد في ذمِّ عَدُوِّها يُتَأمّلُ فيه ويُتشددّ.

والاستثناء الوحيد لهذه القاعدة فترة حكم علي وولده الحسن السبط(علیهما السلام).

والسر في كل هذا ما قدمناه، وما يظهر من مطاوي الكتاب، ولعل وجه الأمر من

ص: 60

الواضحات، إلاّ على من كان على شاكلة أولئك العُتاة والمتمرّدين على أحكام الكتاب والسنّة.

ونختم فنقول: إنّ معاوية قتل الإمام الحسن (علیه السلام) مع إنّ الإمام ترك السلطة، ولم يحرّض أحداً، ولا جنّد جيشاً طيلة عشر سنوات، ويزيد همّ بقتلِ السجّاد (علیه السلام) بعد ما أفنى الطاغية البيت النبويّ ومع أنّ السجّاد كان في مرضِهِ بغايةٍ بحيث يُخاف عليه الموت السريع.

فكيف يُدّعى إنّ معاوية أوصى يزيداً بترك الإمام الحسين (علیه السلام) لو ثار عليه.

وكيف يُفترى بندم يزيد لقتله الحسين (علیه السلام) أو بعدم توجيه أمرٍ صريح منه لابن زيادٍ لقتله.

على إنّ التاريخ سجّل انّه أوصى عدّة مِن ولاتِِه وقادته بقتل الإمام في المدينةومكة والكوفة، والجأ الإمام إلى الانتقال من أرضٍ إلى أرض حتى استشهد بيد جيش الانحراف والضلالة والارتداد وبعد محاصرته من جيش الفئة الحاكمة لمدة تزيد على خمسة عشر يوماً، فالقضيّة ليست بنت ساعتها، كي تُوجّه ويُلتمس لها الوجوه والمعاذير.

وليعلم من يُبرّر لهم انّه منهم، ومن كان منهم فهو من أهل النار قطعاً.

أبوسفيان:

هو جدّ يزيد، ووالد معاوية، وأول من بدأ مسيرة الصراع ضد الإسلام ونبيّه وعقائده وأحكامه من هذه الأسرة -الشجرة الملعونة في القرآن الكريم- (1).

وتأريخ أبي سفيان في مضادّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) معلوم ومشهور لكل أحد ككفر

ص: 61


1- راجع: فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ﺟ 3 ص 248 فقد نقل هذا عن الفخر الرازي في تفسيره، والسيوطي في تفسيره الدر المنثور، وغيرهما.

إبليس، وكان أحد أركان كل فتنة وكل حرب على الله ورسوله، حتى نقل أحد أعلام العامة عنه:

أنّه ضمن للوليد بن المغيرة عند موته أن لا يكون للإسلام ظهور في مكّة (1) -بسعيه وجهوده ومؤامراته-.

ثُمّ لم يُسلم حتى فَتْحِ مكة، إذ أسلم قبله بيوم أو نحوه، بعد ما علم بعزم النبی (صلی الله علیه و آله) على فتح مكة، وبعدما حثّه العباس بن عبد المطلب على إظهار إسلامه، فحضر إلى النبی (صلی الله علیه و آله)بحماية العباس، وأظهر الإسلام بعد تردّد منه للشهادة بنبوة النبي أمام النبي(صلی الله علیه و آله).

ثُمّ إن هذا الرجل قضى السنتين الباقيتين من عمر النبی (صلی الله علیه و آله) بعد فتحه لمكة في سلوكٍ كُلّه نفاقٌ وتآمر مع إنّ النبی (صلی الله علیه و آله) كان يتألّفه فيعطيه من سهم المؤلفة قلوبهم ليكفّ شرّه عن حوزة الإسلام وليحبّب الإسلام إلى قلبه، دون أن تُزيل هذه العطايا أرجاس قلبه، بل إنّ تعامل النبی (صلی الله علیه و آله) معه كان باهتمام أكثر مما يوليه لغيره من المؤلفة قلوبهم، ومما نُقل إعطاء النبی (صلی الله علیه و آله) له مائة من الإبل من غنائم الطائف دون أن يعطي منها شيئاً لبقيّةالمسلمين، وكل هذا يوضّح مدى اهتمام النبي بمحو السخائم من نفسه، ولكن كان وراء الأكمة ما ورائها.

وشماتته بالهزيمة التي حصلت لجيوش المسلمين في غزوة حنين سنة تسعٍ من الهجرة مسجّلة تأريخياً.

وتراه يجلس يوماً في قبال النبي الأكرم الأطهر (صلی الله علیه و آله) بعد إظهاره للإسلام، ويتأمل في وجه النبی (صلی الله علیه و آله) -مخاطباً النبي في سرّه-:

ليت شعري، بأي شيءٍ غلبتني.-.

ص: 62


1- بحار الأنوار، ﺟ 19 ص 133 عن المنتقى - للعامّة -.

فيعلم النبی (صلی الله علیه و آله) ما في نفس أبي سفيان ويخاطبه: «بالله غلبتك». (1)

ولو لم ينقل عنه إلاّ هذه القضيّة لكانت الكافية في الدلالة على نفاقه، وعلى عدم دخول نور الإسلام في قلبه، إذ كيف لم يعلم انّه غلبه بالله، وقد أظهر الشهادة بالوحدانية، وأن محمداً رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فكيف ودلائل كفره ونفاقه تترى.

وهاك منها أخرى: إذ حضر إلى الإمام الوصي أيام السقيفة وحرّضه على محاربةأبي بكر وعمر ومن معهم وانّه -لو أمر الوصي (علیه السلام) - بإمكانه أن يملأها عليهم خيلاًورجالاً، فأبان له الوصي (علیه السلام) أنّ هذا من كيده للإسلام، وَرَفَضَ عَرْضَه، مع أنّ الإمام كان يدعو أبناء الأمة إلى نصره، وإلى إطاعة أوامر الله سبحانه فيه وأوامر النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) والذي لم يزل مسجّىً بين أهله لم يُدفن، كما لم يمضي شهران على مبايعة الأمة جمعاء له بالخلافة والإمامة في يوم الغدير العظيم.

ومع كل هذا رفض عَرْضَ أبي سفيان مع ما لأبي سفيان من قوّة اجتماعية، وَمِن أعضاد.

والذي يتأمل في سلوك أبي سفيان يرى أنّه لا يخرج عن حدود الأغراض التالية:

1- إشعال الفتنة في المدينة بين المسلمين، كي يطحن بعضهم بعضاً، وقد شارك الكثير منهم في هدم سلطانه وأمجاده، وفي سحق أصنامه التي كان يعبدها: اللاة، العزى، هبل، مناة، ومعها مئات بل آلاف من الأحجار المنحوتة وغير المنحوتة - والمع عن الأخيرة منها بالأنصاب إذ كان بعض العرب رُبَّما أعجبته قطعة حجارةٍ ما في طريقه وسفره فيأتي بها ويعبدها دون نحتٍ أصلاً -.

2- تمهيد الأمور من خلال إشعال الفتنة في المدينة إلى إشعالها في كل الجزيرة .

ص: 63


1- بغية الباحث، نور الدين الهيثمي، ص 284 .

العربية، وتسهيل عملية تمرّد العرب كلهم على الإسلام، وعلى القيادة المستقرّة في المدينة - وقد حصل تمرد مجموعةٍ من القبائل فيما بعد، وهو الذي اشتهرت أحداثه في التأريخ بما عُ عنه بحروب الردّة، والتي سُحِقَ فيها المرتدّ حقيقةً، كما سُحِقَ فيها الرافض لخلافة أبي بكر لعدم ارتضائه خلافته، إذ لا استحقاق له -مع وجود المستحِقّ لها بالمؤهلات وبالنص من القرآن والسُنّة- ومن جملة القسم الأخير سحق قبيلة مالك بن نويرة، وقتل مالك، واغتصاب خالد بن الوليد لزوجته في ليلة مقتله، مع لابُديّة العِدّة لها، وإلاّ عُدّ الواطئ لها عن عقدٍ زانياً، فضلاً عمن يرتكب الأمر بلا عقدٍ، على ما هو المعروف من فقه الشيعة والسُنّة، ولذلك دعا عمر بن الخطاب إلى قتل خالد بن الوليد، وأصر على هذا، لأنّه قتل مسلماً وزنا بزوجته.

3- إبادة العائلة النبوية بل الهاشمية وعلى رأسها الإمام العظيم علي بن أبي طالب -صلوات الله عليه- والذي نكّس كل راية لأبي سفيان حتى أظهر أمر الله، وأبو سفيان كاره ماقت.

4- توجيه إشارةٍ للقيادة الجديدة، لإعطائه موقعاً متميّزاً في السلطة، بعد إشعارهم بمدى قدرته على ال والنفع، وهو الذي حصل فيما بعد إذ لم يُسمع عنه أبداً أية كلمة إلى جانب علي (علیه السلام) من قريبٍ أو بعيد، أو في مضادّة السلطة القائمة، كما إنّ القيادة الجديدة ميّزته بما لم يحصل لأحدٍ أبداً.

هذا عمر بن الخطاب ترك أعاظم الصحابة وأماثلهم وعبّادهم ومجاهديهم وفقهائهم وقرائهم، ووّلى فرع الشجرة الملعونة -معاوية- على منطقةٍ من أعاظم أمصار العالم الإسلامي -بلاد الشام- ولم اُحيسبه ولم يناقشه ولم يعزله، وكذلك صنع عثمان من بعده مع إنّ الصرخات ضِدّه ملأت الدنيا خصوصاً من أحد أركان الإسلام -أبي ذرٍ الغفاريّ- والذي شهد له رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأنّه من أصدق الناس لهجة، وشهد له

ص: 64

بالمقامات الرفيعة في الدنيا والآخرة.

ثم إنّ عمر حاسب كل ولاته على ما نهبوه من خزائن بيت المال ومن أموال الخراج ومن الغنائم حتى إنّه ضرب أبا هريرة ضرباً شديداً وسبّه (1)وصادر منه أموالاً كثيرةوعزله، غير انّه لم يحرّك ساكناً مع معاوية، وهو الناهب الأعظم، وكل المدونات التأريخيةتشهد على معاوية بهذا، صريحاً أو باللوازم، ويكفي بأبي ذر الأصدق الأبرّ شاهداً.

ومن نافلة القول إنّ نب :ّني إن صنيع عمر وعثمان مع معاوية هو الذي مهّد الأمورلابن أبي سفيان كي يُشعل الفتن في العالم الإسلامي، ويحارب الإمام الحق علي بن أبي طالب بزعم الطلب بدم عثمان في الظاهر -مع إنّ عثماناً استنجد به فتهاون في أمره إلى أن بلغه خبر مقتله -ولطلب الخلافة العظمى في الواقع وكما هو معلوم، ثم بقيةتأريخ الإسلام معروف بعد إشعاله لتلك الفتن الكبرى، والتي لا زالت آثارها الوخيمةإلى اليوم، وستستمر، إلى ظهور سيّد العصر وخليفة الله ورسوله في الأرض: الإمام المهدي(علیه السلام).

ثم تعال معي لنستمر في التأمل في مسيرة أبي سفيان، فها هو يركل قبر حمزة سيدالشهداء بقدمه، ويقول له: يا أبا عمارة، إن الأمر الذي إجتلدنا عليه بالسيوف، أضحى كرة يتلاعب بها صبياننا.

ثم تجده يذهب إلى البقيع، ويتفوّه يمثل هذا مع شهداء الصحابة المدفونين هناك.

وفي أواخر حياته يقول في مجلس عامر بفروع الشجرة الملعونة، بعدما عمي بصره1.

ص: 65


1- يُنقل عن عمر قوله لأبي هريرة حين جلده له: ما رجّعت بك أميمة إلا لرعية الحمر. وأميمة هي أم أبي هريرة، والرجيع:الغائط، والحمر:الحمير، والمعنى: إن أمك لم تتغوطك إلا لرعيةالحمير، فكنى عن الولادة بالتغوط، وبأنه لا يصلح للحكم بل لرعية الحمير، راجع: العقد الفريد لابن عبد ربّه ج 1.

-وكان علي (علیه السلام) جالساً غير أنه لم يعلم بوجوده-:

تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما مِن جنّة ولا نار.

غير إن الإمام الوصي (علیه السلام) ردّ عليه ردّاً شديداً.

وما أدري يَرُدّ عليه أحدٌ من الجالسين، و يقتله خليفة المسلمين عثمان -ذوالنورين- وقد صرّح أبو سفيان بارتداده على رؤوس الأشهاد.

وذكر الأميني في الغدير ما يستحق نقله:

في الاستيعاب لأبي عمر عن طائفة: كان كهفا للمنافقين منذ أسلم وكان في الجاهليةينسب إلى الزندقة.

قال الزبير يوم اليرموك لما حدثه ابنه أن أبا سفيان كان يقول: إيه بني الأصفر: قاتله الله يأبى إلا نفاقا، أو لسنا خيرا له من بني الأصفر؟.

وقال له علي(علیه السلام): «ما زلت عدوا للإسلام وأهله».

ومن طريق ابن المبارك عن الحسن: إن أبا سفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه فقال: صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أمية فإنما هو الملك ولا أدري ما جنة ولا نار. فصاح به عثمان: قم عني فعل الله بك وفعل (1).

وفي تاريخ الطبري (2): يا بني عبد مناف، تلقفوها تلقف الكرة فما هناك جنة ولا نار.

وفي لفظ المسعودي: يا بني أمية، تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان .

ص: 66


1- الاستيعاب، ج 2ص 690 .
2- ج 11 ص 357 .

ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة (1).

وأخرج ابن عساكر في تاريخه(2) عن أنس: إن أبا سفيان دخل على عثمان بعد ما عمي فقال: هل هنا أحد؟ فقالوا: لا. فقال: أللهم اجعل الأمر أمر جاهلية، والملك ملك غاصبية، واجعل أوتاد الأرض لبني أمية.

وقال ابن حجر: كان رأس المشركين يوم أحد ويوم الأحزاب.

وقال ابن سعد في إسلامه: لما رأى الناس يطئون عقب رسول الله حَسَدَه، فقال في نفسه: لو عاودت الجمع لهذا الرجل. فضرب رسول الله في صدره ثم قال: إذاً يخزيك الله.

وفي رواية: قال في نفسه: ما أدري لم يغلبنا محمد؟ فضرب في ظهره وقال: بالله يغلبك (3).

وإن سألت مولانا أمير المؤمنين عن الرجل فعلى الخبير سقطت، قال في حديث له:

معاوية طليق ابن طليق، حزب من هذه الأحزاب، لم يزل لله(عزوجل)ولرسوله صلى الله عليه وآله وللمسلمين عدوا هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين.

وحسبك ما في كتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان من قوله(علیه السلام): «يا ابن صخر يا ابن اللعين» ولعله (علیه السلام) يوعز بقوله هذا إلى ما رويناه من إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعنه وابنيه -معاوية ويزيد- لما رآه راكبا وأحد الولدين يقود والآخر يسوق فقال(صلی الله علیه و آله): «أللهم إلعن الراكب والقائد والسائق». .

ص: 67


1- مروج الذهب ج 1 ص 440 .
2- ج 6 ص 407 .
3- الإصابة ج 2 ص 179 .

وذكر ابن أبي الحديد في الشرح(1) من كتاب للإمام (علیه السلام) كتبه إلى معاوية قوله: فلقد سلكت طرائق أبي سفيان أبيك وعتبة جدك وأمثالهما من أهلك ذوي الكفر والشقاق والأباطيل.

ويعرفك أبا سفيان قول أبي ذر لمعاوية لما قال له «يا عدو الله وعدو رسوله»: ماأنا بعدوّ لله ولا لرسوله بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله، أظهرتما الإسلام و أبطنتما الكفر (2).

هلك أبو سفيان -أعمى بصرٍٍٍ وبصيرةٍٍ- ما بين سنة 31 - 34 عن عمر 88 - 93 عاماً (3).

معاوية:

هو الفرع الأعظم للشجرة الملعونة في القرآن بعد أبيه.

وهو رأس الكفر والنفاق والفتنة إبتداءاً من توليّ الإمام الوصي (علیه السلام) للخلافة وإلى اليوم، إذ ما زلنا نعيش في الآثار العظيمة لجرائمه الكثيرة التي لا تُعدّ ولا تُحصى.

لم يُسلم معاوية إلاّ بعد فتح مكة، ويكفيك للدلالة على مدى رسوخه في الكفر والضلالة، أنّه ع أباه على إسلامه، مع انه قد تقدّم كيفية إسلام أبيه، وطريقته، والسبب

فيه.

ص: 68


1- ج 4 ص 220 .
2- الغدير، الشيخ الأميني، ﺟ 8 ص 278 .
3- مستدركات علم رجال الحديث، الشيخ النمازي، ﺟ 4 ص 255 ، وراجع لكثير من أقوال أبي سفيان وكفرياته التي نقلها العامة، كتاب: المقتطفات، للشيخ عيدروس الاندونيسي، ﺟ 1 ص 230 .

ولذلك كان معاوية معدوداً في الطلقاء، ومن المؤلفة قلوبهم(1) وقد استوعب العلامة الأميني في موسوعته الجليلة -الغدير- في الجزئين 10 - 11 منه، ما يتعلّق بمعاوية من رذائل -وكُلّه رذائل- ودحض ما يُنسب إليه من فضائل، كما ألف فيه العلامة محمد بن عقيل كتابٍ: النصائح الكافية لمن يتولى معاوية (2).

وقد استدلّ سلطان الواعظين في كتابه «ليالي بيشاور» بآيات كريمة على كفر معاوية (3)، ولا حاجة للاستدلال على كفر معاوية فمن يُريد الاستدلال لهذا الأمر، فسيملأ كتاباً بالأدلّة على كفره، وبأسماء القائلين به.

ويكفي للدلالة على كفره، سبّه لِعَلَمِ الإيمان والهدى في الدنيا والآخرة، أميرالمؤمنين وأخي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ووصيّه في أمته علي بن أبي طالب -صلوات الله عليه- بل سنّ سبّه في طول العالم الإسلام وعرضه واستمر السبّ قرابة الستين سنة، وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي(علیه السلام):

«من سبّك فقد سبّني، ومن سبني فقد سبّ الله، ومن سبّ الله عزّ وجلّ أكبّه الله على منخريه». (4)

هلك معاوية في سنة 60 ﻫ ق (5)، فرحل بمخازي لو تُوزّع على أهل الأرض بأجمعهم، لأهلكتهم. .

ص: 69


1- أضواء على السُنّة المحمّدية، الشيخ محمود أبو ريّة -وهو من علماء الجمهور في مصر- ص 128 .
2- راجع ترجمة معاوية في: المقتطفات، ﺟ 1 ص 252 .
3- ليالي بيشاور، سلطان الواعظين، ص 920 .
4- فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ﺟ 2 ص 224 .
5- تأريخ الطبري، ﺟ 4 ص 239 .

يزيد:

هلك في 14 ربيع الأول 64 ﻫ ق، فبينه وبين قتله للإمام الحسين السبط (علیه السلام) ثلاث سنين وشهران وأربعة أيام (1).

ويُقال أنه هلك بقرية من قرى صِمح يقال لها حوّارين، وعمره 38 سنة (2). لعنات الله تعالى عليه تترى.

وصفه الإمام الحسين (علیه السلام) في رسالةٍ له إلى معاوية:

«وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله، وسياسته لأمة محمد (صلی الله علیه و آله) تُريد أن تُوهم الناس في يزيد كأنّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو بُختر عما كان ممّا احتويته بعلم خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائِهِ الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السُبّق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر اِممّ أنت لاقيه».

وقوله (علیه السلام) في رسالة له إلى معاوية أيضاً:

«وأخذك الناس ببيعة ابنك، غلام حدث، يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب». (3)

ويزيد لا تُعدّ جرائمه ومخازيه كأبيه وجدّه، غير إنّ أفظع ما صدر عنه من جرائم:

أ- الجريمة الأعظم، في قتله سيد شباب أهل الجنة، ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وابن علي وفاطمة الزهراء عليهم الصلاة والسلام، ومعه أهل بيته وصحبه في محرم 61 ﻫ ق.

ب- جريمته العظيمة في استباحة مدينة الرسول، وقتل جمعٍ كبيرٍ من المهاجرين

ص: 70


1- تأريخ الطبري، ﺟ 4 ص 432 .
2- هامش مقتل ابن أعثم، ص 170 ، ويظهر انه نقل هذا عن الطبري.
3- بحار الأنوار، ﺟ 44 ص 214 .

والأنصار وأهل المدينة، وهتك أعراض المئات من نساء وبنات المدينة، إلى أن بايع الناس على أنهم عبيد ليزيد (1)، ولم يسلم من جريمتهم غير الإمام السجاد (علیه السلام) وعائلة النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) -لاتخاذ الإمام السجاد (علیه السلام) الاحتياطات اللازمة، ولكون أهل البيت (علیهم السلام) حديثي عهدٍ بالفاجعة العظمى في كربلاء- وكانت هذه الجريمة الجديدة في سنة 62 للهجرة.

ﺟ- جريمته العظيمة في محاصرة مكة المكرمة، وضرب الكعبة المكرّمة بالمنجنيق -وهو بمنزلة المدفعية في زماننا هذا-.

والدلائل على كفر يزيد، كالدلائل على أبيه وجدّه، لا تُحصى، ويكفي منها قتله لسيّد شباب أهل الجنة، ومن لا يكتفي بهذا الدليل، فلا ينفع معه ألف دليل ودليل.

نُقل عن يزيد أنّه لما ورد عليه أسارى وسبايا آل الرسول، بصحبة رؤوس شهداء كربلاء -الحسين (علیه السلام) وأهل بيته وصحبه- قال:

لما بدت تلك الحمول وأشرفت تلك الرؤوس على شفا جيرون نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل فقد اقتضيت من الرسول ديوني وللآلوسي كلام مهمّ في يزيد، من تعداد فظائعه، وبيانه اتفاق علماء الأمة على لعنه إلاّ من شذّ، بل الحكم بخروجه عن الملّة، عند تفسيره للآية الكريمة: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ» (2).

قال: واستُدِلّ بها أيضا على جواز لعن يزيد عليه من الله تعالى ما يستحق.

نقل البرزنجي في الإشاعة، والهيثمي في الصواعق:

إن الإمام أحمد، لما سأله ولده عبد الله عن لعن يزيد، قال: كيف لا يلعن من لعنه).

ص: 71


1- التنبيه والإشراف، المسعودي، ص 264 .
2- الآية الكريمة 22 مِن سورة محمّد(صلی الله علیه و آله).

الله تعالى في كتابه، فقال عبد الله: قد قرأت كتاب الله(عزوجل)فلم أجد فيه لعن يزيد، فقال الإمام: إن الله تعالى يقول:

«فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ القِتَالُ...» الآية.

وأيّ فساد وقطيعة أشد مما فعله يزيد «انتهى -ما نقله البرزنجي والهيثمي-».

..وعلى هذا القول لا توقف في لعن يزيد لكثرة أوصافه، وارتكابه الكبائر في جميع أيام تكليفه، ويكفي ما فعله أيام استيلائه بأهل المدينة ومكة.

فقد روى الطبراني بسند حسن:

«اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صرف ولا عدل». (1)

والطامّة الكبرى ما فعله بأهل البيت (علیهم السلام)، ورضاه بقتل الحسين، على جدّه وعليه الصلاة والسلام، واستبشاره بذلك وإهانته لأهل بيته مما تواتر معناه، وإن تفاصيله آحاداً.

وفي الحديث: «ستة لعنتهم - وفي رواية - لعنهم الله وكل نبي مجاب الدعوة:

المحرف لكتاب الله - وفي رواية - الزائد في كتاب الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت ليعز من أذل الله ويذل من أعز الله والمستحل من عترتي والتارك لسنتي». (2)

وقد جزم بكفره وصرّح بلعنه جماعة من العلماء منهم: .

ص: 72


1- المعجم الأوسط- الطبراني - ج 4-ص 53 -الناشر: دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع: 1415 - 1995 م
2- تفسير روح المعاني - الآلوسي - ج 26 - ص 72 .

الحافظ ناصر السنة ابن الجوزي.

وسبقه القاضي أبو يعلى.

وقال العلامة التفتازاني: لا نتوقف في شأنه بل في إيمانه، لعنة الله تعالى عليه وعلى أنصاره وأعوانه.

وممن صرّح بلعنه الجلال السيوطي.

وفي تاريخ ابن الوردي، وكتاب الوافي بالوافيات:

أن السبي لما ورد من العراق على يزيد، خرج فلقي الأطفال والنساء من ذرية علي والحسين رضي الله تعالى عنهما، والرؤوس على أطراف الرماح، وقد أشرفوا على ثنيّة جيرون، فلما رآهم نعب غراب، فأنشأ يقول:

لما بدت تلك الحمول وأشرفت *** تلك الرؤوس على شفا جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل *** فقد اقتضيت من الرسول ديوني

يعني أنه قتل بمن قتله رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم بدر، كجده عتبة وخاله ولد عتبة وغيرهما، وهذا كفر صريح، فإذا صح عنه فقد كفر به.

ومثله تمثّله بقول عبد الله بن الزبعري قبل إسلامه: ليت أشياخي «الأبيات».

..وأبو بكر بن العربي المالكي -عليه من الله تعالى ما يستحق- أعظم الفرية، فزعم أن الحسين قُتِل بسيف جَدِّهِ ص الله تعالى عليه وسلّم، وله من الجهلة موافقون على ذلك، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذبا.

قال ابن الجوزي عليه الرحمة في كتابه السر المصون:

من الاعتقادات العامة التي غلبت على جماعة منتسبين إلى السنة أن يقولوا:

إن يزيد كان على الصواب، وأن الحسين رضي الله تعالى عنه أخطأ في الخروج عليه.

ص: 73

ولو نظروا في السِ لعلموا كيف عُقدت له البيعة، وأُلزم الناس بها، ولقد فُعل في ذلك كل قبيح.

ثم لو قدّرنا صحة عقد البيعة فقد بدت منه بوادر كلها توجب فسخ العقد، ولايميل إلى ذلك إلاّ كل جاهل عاميّ المذهب، يظنّ أنه يُغيظ بذلك الرافضة.

..وأنا أقول-الآلوسي-: الذي يغلب على ظنيّ، أن الخبيث لم يكن مصدِّقا برسالة النبي ص الله تعالى عليه وسلّم.

وأنّ مجموع ما فعل مع أهل حرم الله تعالى وأهل نبيّه عليه الصلاة والسلام وعترته الطيّبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات وما صدر منه من المخازي ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر، ولا أظن أن أمره كان خافياً على أجلّة المسلمين إذ ذاك، ولكن كانوا مغلوبين مقهورين لم يسعهم إلا الصبر ليقضي الله أمرا كان مفعولا.

ولو سُلِّم أنّ الخبيث كان مسلماً، فهو مسلم جمع من الكبائر ما لا يحيط به نطاق البيان، وأنا أذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين، ولو لم يتُصور أن يكون له مثل من الفاسقين، والظاهر أنه لم يتُب، واحتمال توبته أضعف من إيمانه، ويلحق به ابن زياد، وابن سعد، وجماعة، فلعنة الله(عزوجل)عليهم أجمعين، وعلى أنصارهم، وأعوانهم، وشيعتهم، ومن مال إليهم إلى يوم الدين، ما دمعت عين على أبي عبد الله الحسين.

ويعجبني قول شاعر العصر، ذو الفضل الجلي، عبد الباقي أفندي العمري الموصليّ وقد سُئِل عن لعن يزيد اللعين:

يزيد على لعني عريض جنابه فاغدو به طول المدى ألعن اللعنا ومن كان يخشى القال والقيل، من التصريح بلعن ذلك الضلّيل، فليقل: لعن الله(عزوجل)من رضى بقتل الحسين، ومن آذى عترة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بغير حق، ومن

ص: 74

غصبهم حقّهم، فإنه يكون لاعناً له، لدخوله تحت العموم دخولا أوليّاً في نفس الأمر.

ولا يُخالف أحد في جواز اللعن بهذه الألفاظ ونحوها سوى ابن العربي المار ذكره وموافقيه، فإ مّهن على ظاهر ما نُقل عنهم لا يجوّزون لعن من رضي بقتل الحسين رضي الله تعالى عنه، وذلك لعمري هو الضلال البعيد الذي يكاد يزيد على ضلال يزيد «إنتهى كلام الآلوسي». (1)

ولابن العماد في تأريخه «شذرات الذهب» كلامٌ أيضاً نوقفك عليه:

ونقل الاتفاق أيضا على تحسين خروج الحسين على يزيد، وخروج ابن الزبير وأهل الحرمين على بني أمية، وخروج ابن الأشعث ومن معه من كبار التابعين وخيار المسلمين على الحجّاج.

ثم الجمهور رأوا: جواز الخروج على من كان مثل يزيد والحجّاج، ومنهم من جوّز الخروج على كل ظالم.

وعدّ ابن حزم خروم الإسلام أربعة:

قتل عثمان، وقتل الحسين، ويوم الحرة، وقتل ابن الزبير.

ولعلماء السلف في يزيد وقتلة الحسين خلاف في اللعن والتوقف، قال ابن الصلاح:

والناس في يزيد ثلاث فرق:

فرقة تحبه وتتو هّال، وفرقة تسبه وتلعنه، وفرقة متوسطة في ذلك لا تتولاه ولا تلعنه.

قال: وهذه الفرقة هي المصيبة، ومذهبها هو اللائق لمن يعرف سير الماضين ويعلم قواعد الشريعة الطاهرة، انتهى كلامه.

ولا أظن الفرقة الأولى توجد اليوم، وعلى الجملة، فما نقل عن قتلة الحسينا.

ص: 75


1- تفسير روح المعاني، الآلوسي، ج 26 ص 72 وما بعدها.

والمتحاملين عليه، يدلّ على الزندقة، وانحلال الإيمان من قلوبهم، وتهاونهم بمنصب النبوة، وما أعظم ذلك.

فسبحان من حفظ الشريعة حينئذ، وشيّد أركانها حتى انقضت دولتهم. وعلى فِعْلِ الأمويين وأمرائهم بأهل البيت لُمحَِ قوله:

«هلاك أمتي على أيدي أغيلمة من قريش»

..وقال التفتازاني في شرح العقائد النسفية: اتفقوا على اللعن على من قتل الحسين، أو أمر به، أو أجازه، أو رضى به.

قال: والحقّ أن رضا يزيد بقتل الحسين واستبشاره بذلك وإهانته أهل بيت رسول الله مما تواتر معناه، وإن كان تفصيله آحاداً.

قال: فنحن لا نتوقف في شأنه، بل في كفره وإيمانه، لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه.

وقال الحافظ ابن عساكر: نُسِبَ إلى يزيد قصيدة منها:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لعبت هاشم بالملك فلا

مَلَكٌ جاء ولا وحيٌ نزل

فإن صحّت عنه فهو كافر بلا ريب «انتهى بمعناه».

وقال الذهبي فيه: كان ناصبيا فظّاً غليظاً، يتناول المسكر، ويفعل المنكر، افتتح دولته بقتل الحسين، وختمها بوقعة الحرة، فمقته الناس، ولم يُبارك في عمره، وخرج عليه غير واحد بعد الحسين -وذكر من خرج عليه-.

وقال فيه، في الميزان، أنه: مقدوح في عدالته ليس بأهل أن يُروى عنه.

وقال رجل في حضرة عمر بن عبد العزيز: أمير المؤمنين يزيد، فضربه عمر عشرين

ص: 76

سوطاً.

واستفتى الكيا الهراسي فيه فذكر فصلاً واسعاً من مخازيه حتى نفدت الورقة، ثم قال: ولو مُددت بياض لمددت العنان في مخازي هذا الرجل.

وأشار الغزالي إلى التوقف في شأنه والتنزه عن لعنه مع تقبيح فعله.

..وقال اليافعي: وأما حُكْمُ من قتل الحسين، أو أمر بقتله، ممّن استحلّ ذلك، فهوكافر، وإن لم يستحل ففاسق فاجر (1)، والله أعلم (2) «إنتهى كلام ابن العماد، من كتابه شذرات الذّهب».

وقد أوردنا كلامي الآلوسي، وابن العماد، وقدّمت أقوال أعلام العامة في يزيدلفوائد لعلها لا تخفى منها:

1- كي تطّلع على لون تفكير هؤلاء في هذه المسألة وكيفية معالجتهم لها وأخذهم الموقف منها، وطريقة إستدلالهم عليها.

2- أن تعرف أنّ القوم لا يقفون موقفاً واحداً من القضيّة الحسينية فهم قد إتخذوا مواقف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والذي أدّى للموقف حقّه قليل.

3- أنّ الموقف الذي اتخذه معظم هؤلاء يبتعد عن موقف أهل البيت النبوي حول هذه القضية بُعدُ المشرقين.

ومن هنا تعلم: أنّ كل من لم يستضيء بنور أهل البيت ولم يأخذ بما أخذوا به في جانب العقيدة أو في جانب الفقه فهو متح تائه، بل..

أما قصة إختيار يزيد لاعتلاء دست الخلافة الإسلامية، فقد ذكرها الشيخ الأمينيا.

ص: 77


1- مبنى الإمامية - تبعاً للأدلّة- أن كل من رفع السلاح على أيّ واحدٍ من المعصومين الأربعة عشر فهو كافر قاتل أم لا، بل كل من أبغضهم، بل كل من ردّ عليهم ورفض حكمهم.
2- شذرات الذهب، ابن العماد الحنبلي، ج 1 ص 67 وما بعدها.

في كتابه الغدير (1)بتفصيلٍ.

وفي الحقيقة إنّ التوسع في أمر يزيد هنا نافلة من القول بعد الالتزام بخروجه عن حيّز الإسلام عند الشيعة والسُنّة، إلاّ عند من يرضى بسبي نساء النبي وأهل بيته، وبذبح ذرّيته وصبيته، غير أنّه يُقيم الدنيا ولا يقعدها على خال المؤمنين معاوية فرع الشجرة الملعونة، وكيف كان فكتابنا هذا يتضمّن الكثير ممّا يتعلق بيزيد «لع».

ونختم كلامنا بأمرين:

الأمر الأول: ما التزمه الكاتب السلفي من تبرئة يزيد بن معاوية من مسؤوليته في قتل الإمام الحسين(علیه السلام). (2)

وما ادري ما أُجيب به هذا الكاتب، إذ أيّ خبرٍ ليزيد في صفحات التأريخ غيرالخزايا والجرائم العِظام؟

وكل من يتحدث عنه، يتحدث عن قتله للإمام الحسين (علیه السلام) وعن استباحته لمدينةالرسول (صلی الله علیه و آله)، وعن هدمه للكعبة بالمنجنيق بعد محاصرة جيوشه لمكّة.

الأمر الثاني: ما نقله صاحب البحار، عن البلاذري:

لمّا قُتل الحسين -(علیه السلام)- كتب عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية: أمّا بعد، فقد عظُمَت الرزيّة، وجلّت المصيبة، وحدث في الإسلام حدثٌ عظيمٌ، ولا يومَ كيومِ الحُسين.

فكتب إليه يزيد:

أمّا بعد يا أحمق: فإننا جئنا إلى بيوتٍ منجّدة، وفرش ممهّدة، ووسائد منضّدة، فقاتلنات.

ص: 78


1- راجع: الغدير، ﺟ 10 ص 323 ، وراجع لترجمة يزيد: المقتطفات للاندونيسي، ﺟ 1 ص 201 .
2- راجع: مجلة المنهاج، العدد التاسع، ربيع 1418 ﻫ ق ص 254 وهي تصدر عن مركز الغدير، بيروت.

عنها، فإن يكن الحق لنا فعن حقّنا قاتلنا، وإن كان الحقّ لغيرنا، فأبوك أول من سنّ هذا، وابتزّ، واستأثر بالحقّ على أهله (1). .

ص: 79


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 328 .

ص: 80

بنو أمية وعداوا هم لمحمدٍ وآل محمد (صلی الله علیه و آله)

كل من عايش الأئمة من أهل البيت (علیهم السلام) وعايش شيعتهم، أو اطّلع عن قرب على منهجهم في الحياة، يعرف تصلبهم تجاه كل كافر وكل ظالم وجائر بما لا إمكانية فيه للمساومة أو الإغضاء، فهذا أمر- من شدة تمسكهم به- كأنه كأصل من أصولهم، وركن من أركان فكرهم، وهو من معالم منهجهم، ومتعارف تماماً في سلوكهم.

وعلى هذا الأساس كانت بذرة العداوة بين محمد وآل محمد (صلی الله علیه و آله) من جهة وبين بني أمية من جهة أخرى، فالعداوة الحقيقية بدأت مع إظهار النبی (صلی الله علیه و آله) لرسالته ودعوته إلى الله سبحانه، وإلى نبذ الأصنام.

وأمّا ما يُدّعى من مظاهر وأسباب للعداء قبل بعثة النبي الأكرم فإنها-كُلّها-ليست بشيءٍ بأزاءِ هذا السبب.

والسبب الأعمق للعداء بين النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام)، وبين بني أمية، ينبع من جهتين:

أ- إنّ النبي الأعظم جاء بالدين التوحيدي السماوي المناقض لما يلتزمه الناس عموماً وبني أمية خصوصاً.

والدين الإلهي: دين يدعو إلى الله سبحانه، الواحد الذي لا شريك له ولا مثيل، ولا حدّ لجماله وجلاله، فهو يهدم كل معتقدات الجاهلية وكل متبنيات أولئك القوم مع أُلفَتِهِم لتلك العقائد والتقاليد والسُنن والمواريث ومع تأصُّلِها في أنفسهم.

ب- إنّ الإسلام أفاض على بني هاشم عموماً، والنبي وأهل بيته (صلی الله علیه و آله) خصوصا، ما

ص: 81

ميّزهم به عن كافة أفراد الجنس البشري.

ولم يخصّص الإسلام النبي وأهل بيته (صلی الله علیه و آله) بما ميّزهم به إلاّ لخصائص ذاتية فيهم، ولخصال وصفات حميدة ينطوون عليها، ولحمل هذه الأسرة مشعل التوحيد، ولجهادها العظيم في جنب الله تأسيساً ونشراً وترسيخاً.

وهذا الأمر جرّ لبني هاشم حسد جماعات كثيرة في الأمة، منها: الأسرة الأمويةالتي سخّر أغلب أفرادها إمكانياتهم في سبيل إنهاء الإسلام ونبيّه، حتى ظهر أمر الله وهم كارهون.

وقد صرّح أهل البيت (علیهم السلام) بأنهم محسودون، وأن هذه الآية الكريمة فيهم:

﴿أَمْ سَحيُْدُونَ النَّاسَ عَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ (1).

فكانوا يقولون بأنهم المحسودون المقصودون بهذه الآية (2).

وعن إمامنا جعفرٍ الصادق(علیه السلام): «إنّا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله، قلنا:صدق الله، وقالوا: كذب الله، قاتل أبو سفيان رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقاتل معاويةعليّ بن أبي طالب(علیه السلام)، وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن عليّ(علیه السلام)، والسفيانيّ يقاتل القائم(علیه السلام)». (3)

وعن عليّ(علیه السلام): «ودّ معاوية أنّه ما بقي من بني هاشم نافخ ضرمة». (4)

والأمر لا يحتاج لنص آية، بل هي لتأكيد المطلب وتعضيده، والأمر أوضح من الشمس وأبين من الأمس.م.

ص: 82


1- سورة النساء، الآية 54 .
2- شواهد التنزيل، الحاكم الحسكاني، ﺟ 1 ص 183 .
3- بحار الأنوار، ﺟ 52 ص 190 .
4- بحار الأنوار، ﺟ 32 ص 592 ، والضرمة: النار، ومفاد العبارة: رغبة معاوية في إبادة بني هاشم.

إنقلاب الأُمّة على الأعقاب

اشارة

حدث خطير هائل عاشته الأمة الإسلامية، وتعيشه على طول خطّها من يوم رحلةالنبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) إلى بارئه المتعال، وإلى يوم الناس هذا.

ذلك الحدث هو ما نبّهت إليه مجموعة مهمة، مِن آياتٍ ورواياتٍ، في إنقلاب الأمةعلى أعقابها، ومن إكفائِها الإسلام على وجهه، ومن افتتانها بعد نبيّها، ومن ركوبها كل محظور، ومن انتهاء كثير من أبناءها إلى الخُسران، وإلى النار الكبرى، - والعياذ بالله العظيم-.

قال الله تبارك وتعالى:«وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» (1).

والتعبير بالفعل الماضي -إنقلبتم- يفيد وقوع هذا الأمر لا محالة.

وليس هذا بمنقطع الجذور، فالقوم -عند رحلة النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) - حديثو عهدٍ بالشرك والجاهليّة، كما كانت صدور جمع مهم منهم تنطوي على النفاق، وتجيش فيها المطامع، وكل الذي حصل إنّ الذي كان باطناً فيهم في حياة النبی (صلی الله علیه و آله) أصبح بعد رحلته (صلی الله علیه و آله) ظاهراً، وكان غيباً فصار مشهوداً، ثُمّ منهم توسعت رقعة الانحراف والانقلاب على الأعقاب بما فَتَنُوا، وبما مَكَرُوا.

وقد صرّح الكتاب والسُنّة كلاهما بما تقدّم، بل استعملا مختلف البيانات

ص: 83


1- سورة آل عمران، الآية 144 .

والإيضاحات القرآنية والسُنّتية، بما به كشف حقيقة الحال، ورفع اللبس عن المتحیر.

ولا خلاف في إنّ القوم كانوا على الشرك ثم دخلوا في الإسلام.

كما لا خلاف في توفّر المنافقين بينهم.

ولا خلاف في حصول الردّة بمجرّد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله).

إنّما الخلاف في تشخيص المصداق، وسعة رقعة المنافقين، وأهل الردة.

ومن هو اصل ومحور النفاق والارتداد، ومن الفرع.

ومن الذي فتن الأمة عن نهج نبيّها، وأعادها على أعقابها القهقرى لا تلوي على شيء.

ثم ما الذي أمر به الله ورسوله للنجاة من هذه الدوامة، وللثبات في هذا المزلق، ومن هو عَلَمُ الهداية الذي أعدّه الله ورسوله في مقابل عَلمِ الضلالة.

وما هي الشواهد والأدلّة على ما تقدّم.

إنّ بحث هذا الموضوع - لغرض الإحاطة بنواحيه- يحتاج لمجلّداتٍ كي تظهر الصورة بتمام انجلائها، بذكر البناء والمبنى، والقول وأدلّته، وحتى يتم إعطاء الموضوع حقّه، ليتحقق الجميع من صحّة ما نذكره على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، ومع بُعدهم عن مثل هكذا موضوعات أو قُربهم.

وما سنقوم به الآن هو بمقدار التنبيه إلى هذا البحث، وما به الالتفات إلى هذه الحقيقة، وللتفصيل محلّ آخر.

إنّ الآية الكريمة المتقدمة تكفي للدلالة على تحقق الانقلاب على الأعقاب من بعض الأمة - في الأقلّ- بعد رحيل النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله).

وليس الانقلاب على الأعقاب، والارتداد عن الدين، منحصر بما بعد رحلة النبي

ص: 84

الأعظم (صلی الله علیه و آله) بل من ضروري التأريخ وجود فئة المنافقين أيام النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) وقد تحدّث عنهم القرآن في آيات كثيرة، ويكفيك أنّ في القرآن سورة باسم: المنافقون.

بل يظهر من مجمل ما ورد فيهم وعنهم أنهم كانوا جمعاً غير قليل، وكان لهم دور مهم في حركة الأحداث داخل المجتمع الإسلامي، وإنهم كانوا مصدر إزعاجٍ للنبي، وسبب كبير لهمومه وقلقه على المستقبل الإسلامي.

ومراجعة بسيطة للمنقول عن النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) نعلم إنّ مساحة الفتنة والانحراف بعده لن تنحصر بزمانٍ قليل، ولا بجماعة معينة، ولا بما جرى في أنحاء من الجزيرة من إعلان ارتدادٍ تمّ إخماده بسرعة وحسم، بل إن الأمر أعظم وأدهى ممّا يحتمله خيال.

فها هو النبی (صلی الله علیه و آله) يُخبر: إنّ أمته ستفترق بعده ثلاثة وسبعين فرقة، لا يدخل منها الجنة إلاّ فرقة واحدة (1).

ونراه يكلم سكان قبور البقيع قبل وفاته بأيام: ليهن لِكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها (2).

ونراه (صلی الله علیه و آله) ينبّه إلى محاذير كثيرة ستقع عقيب رحلته عن الدنيا، ويرشد إلى حلولها أو يَذْكر عواقبها ونتائجها.

منها: إنّ أهل بيته سيلقون بعده بلاءً وتشريداً وتطريداً حتى يأتي قوم من قبل المشرق (3).

ومنها: ذكره (صلی الله علیه و آله) لما سيقع في أمته من فجور، وانحراف عن الدين، وتكالب علىه.

ص: 85


1- مسند أحمد، ﺟ 3ص 120 ، ومجمع الزوائد، الهيثمي، ﺟ 6ص 226 ، والمستدرك على الصحيحين، الحاكم، ﺟ 1ص 129 ، ومن طرقنا: بحار الأنوار، ﺟ 30 ص 76 .
2- تاريخ الطبري، ﺟ 2 ص 226 .
3- فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ﺟ 3 ص 328 عن صحيح ابن ماجة وغيره.

الدنيا، وسقوط في حبالة الشيطان (1).

ومنها: نفس تبشيره برجل من ذريته لقبه المهدي (2)يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما لُمتأ ظلماً وجوراً.

إذ هذا التبشير في حد نفسه دال على وقوع عظائم في المجتمع الإسلامي اقتضت من النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) أن يبادر فيخفف من وطأتها عن أمته، ويشد من أزرها في المحن التي ستواجهها من خلال تبشيرها بالعاقبة الأحمد التي كتبها المولى لهذه الأمة لو صبرت إلى حين انقشاع الغموم بحفيده: المهدي.

وهذه بلاد المسلمين من شرق الأرض إلى غربها فألقِ بصرك في كل زاوية من زواياها، فهل تجد عطر الإسلام في ربوعها، أم الانتكاص على الأعقاب من أهلها -إلاّ ما شذّ وندر-.

فإذن: تيار النفاق والانحراف ابتدأ من أيام الإسلام الأولى، واستمر طيلة عهد النبي الأكرم الأبرّ (صلی الله علیه و آله) ومن بعده أيضاً، وما زال سيره حثيثاً بامتداده في طول الزمان وفي عرض الأرض، في علو من الأمر وفي استمكان راسخ- ظاهراً-.

والمهم في محلّ البحث نقطتان:

1- مركز انطلاقة الانحراف في الأمة.

2- إنّ الانحراف والضلالة قد تفشيا في الأمة.

وسنفصل الأمر فيهما بمقتضب من القول.

***ي.

ص: 86


1- تضمّنت ذلك: الكتب التي تتحدث عن الملاحم، وعن أخبار المهدي(علیه السلام).
2- ألف السُنّة كتباً عدةً في المهدي، منها: العُرف الوردي في أخبار المهدي للسيوطي، وعقد الدرر في أخبار المنتظر للمقدسي.

الأمر الأول:

مركز انطلاقة الانحراف في الأمة كان من الجيل الأول الذي عاصر فجر الإسلام، وعاصر سيد الرسل ومنار الهداية(صلی الله علیه و آله).

ففي الوقت الذي يمدح فيه الكتاب العزيز جمعاً من صحابة النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) في عدةٍٍٍٍٍِِِِِِِ من آياته، فإنه يتخذ موقفا صارما ومهددا من جمع آخر منهم:

«مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا» (1).

فالتفت إلى قيد -منهم- في آخر الآية، وتأمل فيه، يظهر لك إنّ هذا المدح، وهذه البشارات، ليست لجميع من شمله العنوان الوارد في صدر الآية- والذين معه- بل يختص بمن اتصف منهم بصفتي الإيمان والعمل الصالح، كما تُشعر به هذه الآية، وتعضده آيات أُخر، كالآية المتقدمة في صدر البحث (2).

وتتّبع حال الصحابة وسيرتهم مع النبی (صلی الله علیه و آله) يرشد ويؤكّد إلى: لابُديّة انتهاء بعضهم، إن لم نلتزم بانتهاء كثير منهم إلى عاقبةٍ وخيمة.

ويظهر هذا بانجلاءٍ أكثر، من خلال تتبع عامة الآيات الواردة فيهم، والشارحةلسلوكياتهم مع النبي الأقدس (صلی الله علیه و آله)، وكذا بتتبع سيرتهم المحكيةّ في السُنّة النبوية، وتأريخهم المسطور في المدونات التأريخية.

فمن الآيات، الآية الكريمة: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ

ص: 87


1- سورة الفتح، الآية 29 .
2- سورة آل عمران، الآية 144 .

وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (1).

حاكياً سبحانه موقفهم في أُحد، بهربهم من ساحة المعركة، وتركهم النبی (صلی الله علیه و آله)وحيداً ليس من أحدٍ معه يدافع عنه، ويدافع عن كيان الإسلام بالنتيجة، غير علي (علیه السلام) وأبي دُجانة الأنصاري والذي أُصيب هو أيضاً، فلم يبق مع النبی (صلی الله علیه و آله) غير الوصي(علیه السلام)،

والذي أبهر ببطولاته في ذلك اليوم ملائكة السماوات.

ومن الشواهد العظيمة على ما كان عليه حال كثير من الصحابة مع النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله)ما أشارت إليه الآية الكريمة - وشرحته السُنّة المتعلقة بها-:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(2).

ذلك إنّ الله سبحانه أمر المسلمين بتقديم صدقة عند إرادة توجيه سؤالٍ للنبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) فترك الصحابة بأجمعهم سؤال النبی (صلی الله علیه و آله) غير علي أمير المؤمنين(علیه السلام)، فانّه أكثرمن توجيه الأسئلة، واكثر من تقديم الصدقات، فنزلت الآية المباركة معاتبةً للصحابةعلى فعلتهم العجيبة، مع سهولة ما كلفوا به:

«أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (3).

فتأمل في قوله سبحانه: «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ... صَدَقَاتٍ».

وألتفت إلى أن تركهم للسؤال، ولإطاعة الأمر الإلهي، ومحادثة النبی (صلی الله علیه و آله) هو التعلّق .

ص: 88


1- سورة آل عمران، الآية 153 .
2- سورة المجادلة، الآية 12 .
3- سورة المجادلة، الآية 13 .

بالمال والشحّ به، وهذا التمسك بالمال والتفضيل له، على تعلّم العلم من رسول الله (صلی الله علیه و آله)هو الذي أدّى فيما بعد إلى ظهور جهلهم الكبير بالشريعة، بل إلى تشريع الأحكام في قبال أوامر الكتاب والسُنّة، حتى خالفوا ما لا يُمكن مخالفته، وممّا يمكن عده من معالم الكفر في سلوكهم، وقد قال سبحانه وتعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» (1).

وأخيراً ننبّه إلى حادثة تَرْكِ معظم حاضري إحدى صلوات الجمعة مع النبی (صلی الله علیه و آله)

لموقع الصلاة حال خطبة النبی (صلی الله علیه و آله) بمجرد سماعهم لصوت منبّه حضور القافلة التجارية

من الشام، ولم يبق منهم أحد غير تسعة، مما أدّى هذا إلى غضب النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) وتأذّيه،

ونزلت الآية المباركة بشأنهم: «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ» (2).

وليس هذا كل شيء فهناك عدة أخرى من الآيات، والتي تصلح شاهداً لمحور حديثنا، حول الأوضاع السيئة التي كان عليها جمع ممّن عاصر النبی (صلی الله علیه و آله) وصاحبه وعاش تحت ظل رحمته وهدايته ونوره، ومع ذلك فلم يقتبس من نوره ما به رَفَعْهُ إلى مراتب عليا من الكمال البشري، والطامّة الكبرى تو بعضهم لأمور المسلمين فيما بعد مما أهلكهم، وانفتح بتوليهم هذا باب الهلكات والضلالات على الأمة جمعاء.

ما تقدّم هو ما تحدّثت عنه آيات الكتاب العزيز، وأمّا السُنّة فإن لسانها أصرح، وهي أكثر تفصيلاً للمطلب.

فروى البخاري، عن ابن عباس، عن النبي(صلی الله علیه و آله): «وإن أُناساً من أصحابي يُؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي، فيقول: إ مّهن لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ .

ص: 89


1- سورة المائدة، الآية 44 .
2- سورة الجمعة، الآية 11 .

فارقتهم». (1)

وروى البخاري أيضاً عن أبي هريرة، عن النبي(صلی الله علیه و آله): «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيُحلأون عن الحوض فأقول: يارب أصحابي، فيقول: انك لا علم لك بماأحدثوا بعدك، انهم ارتدوا على أعقابهم القهقري».

وروى أيضاً عن أنس، عن النبی (صلی الله علیه و آله) قال: «ليردنَّ عليّ ناس من أصحابي الحوض، حتى عرفتهم إختلجوا دوني، فأقول: أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك».

وروى عن النبي(صلی الله علیه و آله): «إِ فرطكم على الحوض، من مرّ عليّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، وليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثُمّ اُحيل بيني وبينهم.. فأقول إ مّهن منّي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي».

وفي الصحيحين، عن أنس، إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «ليردنّ عليّ الحوض رجال ممّن صاحبني، حتى إذا رفعوا إختلجوا دوني، فلأقولن: أيّ ربّ أصحابي، فليقالن: أنك لاتدري ما أحدثوا بعدك».

وروى احمد بن حنبل في آخر الجزء الخامس من مسنده: إنّ جمعاً من الصحابةدحرجوا حجارة كبيرة في الموضع الضيق من الجبل الذي مرّ النبی (صلی الله علیه و آله) فيه راكباً ناقته وذلك ليفزعوا الناقة وليقتلوا الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) بإسقاطه من أعلى الجبل إلى اسفل الوادي (2).

وحديث النفاق في عصر النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) يبتدأ من أيام الإسلام الأولى، ثم يتعاظم في المدينة ويستمر إلى آخر لحظة من حياة النبی (صلی الله علیه و آله) حيث نجد المنافقين يمنعون النبی (صلی الله علیه و آله)وهو يحتضر -روحي وأرواح العالمين لكلِ نَفَسٍ من أنفاسه الفداء -من كتابة كتابٍ لاا.

ص: 90


1- فضائل الخمسة، ﺟ 1 ص 403 عن صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق.
2- راجع لهذه الروايات جميعها: الفصول المهمة، السيد شرف الدين، ص 190 وما بعدها.

تضلّ أمته به- بسبب ما فيه من هدي وإرشاد- من بعده.

ثم لم يكتف أولئك بمنع النبي من الكتابة، بل أصحروا بنفاقهم بمقولتهم الشهيرة«حسبنا كتاب الله» فاسقطوا الحاجة إلى سُنّة النبی (صلی الله علیه و آله) والنبي في ساعاته الأخيرة، وبمحضر منهم، مع إنّ معظم الدين، وتفاصيل الكتاب مأخوذان من سنة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله).

ثم إن الإعراض عما شخصه النبی (صلی الله علیه و آله) لهم من سببٍٍ للنجاة والهداية، معناه: إن هناك من يعرف المصالح والمفاسد بأفضل من معرفة النبی (صلی الله علیه و آله) ولا يقول بهذا عاقل ولا مسلم، بعد ارتباط النبی (صلی الله علیه و آله) بربّ الوجود وخالقه تبارك وتقدس، وبعدما كانت ملائكة الله عليه تترى، وأين خاتم الرسل والسراج المنير، ممّن قضى معظم عمره يعبدالأصنام، وقضى أيام صحبته للنبي بالصفق في الأسواق باعترافه وتصريحه.

ومقولة «حسبنا كتاب الله» كلمة حق يُراد بها باطل، إذ هل يحتمل مسلم عدم التفات النبی (صلی الله علیه و آله) وعدم إحاطته بمدى ما يُمكن للأمة أن تستفيده من الكتاب العزيز، على إن الكتاب نفسه ينادي بلزوم الأخذ بما صدر عن النبي: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (1).

ولينظر كل مسلم يقظ الضمير ما آل إليه أمر المسلمين من بعد النبی (صلی الله علیه و آله) إلى اليوم، وكيف لم يعصمهم الكتاب العزيز عن الاختلاف والتفرق والتقاتل وسفك الدماءوهتك الأعراض لأكثر من «1400» عام وما زال الأمر مستمراً، ولن يقف ثم لن يقف إلاّ بصارم المهدي(علیه السلام).

نعم لا عصمة للأمة ولا خلاص لها من مخالب الضلالة إلاّ بركنين:

«الكتاب، والعترة».7.

ص: 91


1- سورة الحشر، الآية 7.

وقد كرّر النبی (صلی الله علیه و آله) هذا الأمر من يوم الدار-أيام الإسلام الأولى- إلى يوم الغدير، وحاول التأكيد الأخير عليه وهو يحتضر، لكن منعه جمع النفاق، والطامحين إلى بلهنية العيش، والذين تجيش في صدورهم المطامع.

والحاصل: إنّ الكتاب والسُنّة يسجّلان -والتأريخ أيضاً- إنّ في الجمع المتابع للنبی (صلی الله علیه و آله) - في حياته المباركة- صنفان من المنافقين:

أ- صنف معروف مذكور مشهور مفضوح، وهو عبد الله بن أُبيّ ومن تابعه.

ب- صنف غير مفضوح ولا مشهور، إلاّ إنّ النبي ووصيه كانا على معرفة تامة بهم وإحاطة بأشخاصهم وأمورهم بتعليم من الله تبارك وتقدس، وكان يعرفه كذلك بعض علية الصحابة كحذيفة بن الي نّام بتعليم من النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله)، وهذا الصنف لم يتم فضحه بشكل كامل غير إنّ في النصوص ما يُشير إليه وينبّه على نفاقه وخطره، منها النصوص التي يُذكر فيها تكليف هؤلاء بتكاليف شتّى، وتكون النتيجة عصيانهم للأمر، أو فشلهم في أداء المهمة، و تكرر هذا التكليف من النبي إليهم، مع تكرر العصيان أو الفشل من نفس المجموعة، ينبّه إلى أمر يريد النبي بيانه، مع وجود محذور من تصريحه به، فيلفت النظر إليه بهذه الطريقة.

وقد تحدّث الكتاب العزيز عن هذه الفئة في قوله تعالى: «وَمِمَّنْ حَوْلَکُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِینَةِ مَرَدُواْ عَلَی النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَیْنِ ثُمَّ یُرَدُّونَ إِلَی عَذَابٍ عَظِیمٍ».

فتأمل في تنبيه المولى سبحانه: «لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ»

وهذه الفئة هي محل كلامنا، ومشتبك رماحنا.

ثم لاحظ وتأمل: إن الذين ارتدوا بعد النبي، وحاربهم الخليفة الأول، هم أهل

ص: 92

الأطراف، فأين منافقوا المدينة الذين مردوا على النفاق، وما خبرهم، وإلام آل أمرهم؟

هل آمنوا فجأةً بمجرد وفاة النبی (صلی الله علیه و آله) وانتهى خطرهم؟!!!

مع إنّ القرآن يحذر من الارتداد بعد رحلة النبی (صلی الله علیه و آله) ولا يب بانتهاء ظاهرة النفاق بعده.

أم إنهم انشغلوا بأمرٍ آخر بعد رحلة النبی (صلی الله علیه و آله) وتهيأت لهم أسباب الهدوء!!!

النفاق والارتداد بعد رحيل النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله):

ورد عن النبی (صلی الله علیه و آله) حديث الثقلين المتواتر والمجمع على روايته من فريقي الأمة -الشيعة والسُنّة- وبلغ رواته من الصحابة فقط «35» ، وهو عدد ضخم بالنسبة لحديث أجمعت السلطات الحاكمة في المجتمع الإسلامي على طمس نوره.

فعنه(صلی الله علیه و آله): «وإنكم واردون على الحوض فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين.

قيل: وما الثقلان يا رسول الله.

قال: الأكبر كتاب الله(عزوجل)سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسّكوا به لن تزالوا ولن تضلّوا، والأصغر: عترتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، وسألت لهما ذاك ربی فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تعلموهما فإنهما أعلم منكم (1).

وورد عنه (صلی الله علیه و آله) كما في مصادر السُنّة:

«افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرّقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة». (2)

وفي مصادر الشيعة: «إن أمة موسى افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة، فرقة

ص: 93


1- راجع: ﺟ 1- 2- 3 من كتاب نفحات الأزهار، للميلاني.
2- الميزان، ﺟ 3 ص 379 ، عن الدر المنثور للسيوطي، ونقله السيوطي عن جمع.

منها ناجية وسبعون في النار، وافترقت أمة عيسى بعده على اثنين وسبعين فرقة، فرقةمنها ناجية وإحدى وسبعون في النار، وإن أمتي ستفترق بعدي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية، واثنتان وسبعون في النار». (1)

فإذن: التفرّق والاختلاف والتمذهب أخذ بالأمة ذات اليمين وذات الشمال عن الطريق المرسوم لها، والذي يلزمها السير فيه كي يتحقق الغرض الإلهي من الخلقة، ويتحقق الغرض من إرسال الأنبياء والأوصياء وإنزال الكتب وتحديد المشاعر وبيانالتكاليف من أوامر ونواهي، فالتفرق مرفوض بحسب الإرادة الإلهية وهو أمارة هلكة إحدى الفرقتين إن كان الانقسام إلى فرقتين ويزداد عدد الفرق الهالكة بتكثّر الانقسامات في الأمة، و العجب إنّ بعض الأمة يرى مطلوبية الاختلاف في الشريعة، ومحبوبيته عند الله سبحانه، وأنه علامة عافية في الأمة، مع إنّ الكل يروون إنّ الأمة كلها هالكة بسبب الاختلاف إلاّ فرقة واحدة تسير على المنهاج الذي رسمه الله ورسوله، وتأخذ بالكتاب والسُنّة عبر عترة النبي الذين تركهم النبی (صلی الله علیه و آله) منار هداية للبشرية ووسيلة نجاة، وهم اثنا عشر إماماً من ذريته على نحو الخصوص وبالتحديد، يبتدأون بعلم الهدى وسفينة النجاة علي بن أبي طالب ثم يتبعه الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة والإمامان إن قاما وإن قعدا، وتنتهي سلسلتهم بالمهدي، وهو من ذرية النبي، من نسل فاطمة، ومن الحسين بالذات، وبين الحسين والمهدي أئمة ثمانية، وليس في فرق المسلمين كلها من يقودها اثنا عشر إماماً، منهم علي باب مدينة علم النبي ووصيّه، والذي بايعه أكثر من «100» ألف صحابي يوم الغدير، كما أمر النبي بإطاعته يوم الدار في بدء البعثة.

وقد روت كتب السُنّة روايات الإثني عشر إماماً، معترفةً بها، غير إنها فسرّتها بما يُضحك الثكلى، ويهيج الغيور على دينه. .

ص: 94


1- تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ﺟ 3 ص 379 .

إذن: النصوص من الكتاب والسُنّة والتأريخ، والمبيِّنة لحال الأمة في عصر النبی (صلی الله علیه و آله)وفيما سيؤول إليه الحال بعده تؤكد تحقق الانحراف والارتداد، بل واستمرار ظاهرةالنفاق إلى يوم ظهور ثائر آل محمد «المهدي»ناشر الإسلام المرضي عند الله ورسوله في العالم، ومرسّخه إلى حيث لا عودة لتيار الانحراف أبداًبعد النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله): برز إلى العيان ما كان مكتوماً، وأصبح علناً ما كان محبوساً في الصدور، مما نبّه إليه القرآن العزيز وحذّر منه، وأخبر عن حتميّة وقوعه، من انقلاب الأمة على أعقابها، وعودتها إلى جاهليتها، وإعراضها عن بعض - أو كل- ما أراده الله ورسوله منها، وينجلي هذا عبر ذكر أمور:

1- إنّ أول عملٍ توجّه إليه المسلمون، بعد استشهاد خاتم الرسل (صلی الله علیه و آله) وقبل دفنه، هو: التدافع والتنازع حول الخلافة، وفي: من يتو زعامة المسلمين ويخلف النبی (صلی الله علیه و آله) في

مقامه.

والمفروض: أنّ هذه المسألة قد حسمت سلفاً في حياة النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) بأمر من الله سبحانه وتبليغ من نبيه (صلی الله علیه و آله) ولا يشك المسلم الحقيقي في أنّ النبي لا ينطق عن هوىً أبداً وإنما هو: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحَی».

ثم حتى إن افترضنا -من باب فرض المحال- إنّ هذه القضية لم تكن محسومةمن جهة النبي الأكرم، فلم يكن يصحّ من الصحابة التنازع حول الخلافة والنبی (صلی الله علیه و آله)لم يرحل عن الدنيا إلاّ منذ ساعات، وعظم الفاجعة ورجاحة عقل المتنازعين وتديّنهم وتأثرهم -عقيدة وسلوكاً- بالكتاب والسُنّة وصدورهم عنهما يقتضي عدم الانثيال والتهالك على دست الحكم بل المسألة تقتضي الالتقاء والتفاهم حول من سيتو الأمر.

ولا ينقضي العجب ممّن يزعم عدم حسم أمر الخلافة بتشخيص من سيتولاّها من جهة النبي الأكرم، وما أدري ما هي الخصوصية في النبی (صلی الله علیه و آله) ولا في الدين الإسلامي

ص: 95

حتى يُترك مثل هذا الأمر المصيري والعقلاني، والذي مارسته البشرية عبر تأريخها الطويل إلى يوم الناس هذا، في عامة مجالات حياتها، فضلا عن مثل هذا الأمر العظيم الذي لا يمكن إغفاله أبداً.

ونجد في تشريعات الإسلام الاهتمام بمن يتولى تدبير تركة الميت ويتاماه عبر تعيين من يُصلح حال اليتامى والتركة، وأمر تدبير الأوقاف عبر تعيين ولي وقيّم، وهكذا، فكيف يترك النبی (صلی الله علیه و آله) أمر الإسلام والأمة من بعده بدون أن يرتِّب الأمر، وعِظم لمفاسد على الدين والأمة، من ذلك اليوم وإلى اليوم، والناتجة عن تلك الشورى الأضحوكة، حتى عاد الإسلام غريباً، و الكتاب مهجوراً، وأحكام الدين مهملة، ورّث القطع بلابديّة وجود منهج آخر مُ عَرشٍَّ من الله سبحانه ومبلّغ من رسوله لقضية الخلافة، والبلاغات النبوية طيلة ثلاثة وعشرين سنة تنادي بانحصار الخلافة بعد النبي في علي (علیه السلام) وإلاّ فان الغضب الإلهي سيحيق بالرافض لهذا فضلاً عمن سَيُضادّه ويجابهه ويُصادِمُه، وقضية:

«سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ» (1)إحدى الشواهد.

والحقّ: إن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) أعلن خليفته في أيام الإسلام الأولى، ونصوص يوم الدار التي حكت إبلاغ النبی (صلی الله علیه و آله) لبني هاشم خلافة علي (علیه السلام) له متوفرة في كتب السُنّة والشيعة.

كما إنه (صلی الله علیه و آله) استمر في البيان والتبليغ طيلة حياته المقدسة بصيغ مختلفة وعبر آيات الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة، وكلها تشير إلى علي أمير المؤمنين -صلوات الله عليه وسلامه- فمن الآيات: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَا.

ص: 96


1- سورة المعارج، الآية 1، وراجع للقضية كتاب الغدير للأميني ﺟ 1ص 460 ففيه تفصيل مهم لها.

الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» (1).

والآية واضحة جداً وهي تب بل وتحصر خليفة رسول الله ووليّ أمر الأمة بجهة ما، كما وتبين إنّ من سيقبل السير على هذا النهج ويتمسك بهذا الولي فانّه من حزب الله -وتأمّل في البشارة: من أنّ هذه الجماعة غالبة على غيرها وتأمل في مسار التأريخ وأحداثه وصعود هذه الطائفة دون غيرها من مذاهب الأمة إلى صدر الأحداث يوماً فيوماً «وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَی أَمْرِهِ»- ثم إنّ النصوص الكثيرة والقطعية الصدور أكملت البيان بأن المقصود فيها هو علي(علیه السلام).

ومن الأحاديث: حديث السفينة: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق». (2)

وأعظمها -موقفاً ودلالةً- حديث الغدير الذي نصّب النبي فيه علياً وليّاً على الأمة كلها، وانه أولى بالناس من أنفسهم في كل ما كان النبي أولى به، وبعد التنصيب أمرالحضور كلهم بمن فيهم أبي بكر وعمر بالسلام على المولى علي (علیه السلام) فسلم عليه وبايعه في ذلك اليوم أكثر من مائة ألف صحابي، ونزلت الآية: «الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَکُمُ الإِسْلاَمَ دِینًا» (3).

وكان هذا قبل استشهاد النبي الأكرم بشهرين.

فليتأمل عاقل في جوانب حديث الغدير وظروف صدوره، بعد الاطلاع على تفاصيله، كي يقطع إنّ الأمر كُلّه متعلّق بالخلافة.

وإن لم يقتنع فليب لنا: لو كان النبي يريد أن ينصّب علياً من بعده، فماذا كان1.

ص: 97


1- سورة المائدة، الآيات 55 - 56 .
2- راجع لمعرفة مصادر حديث السفينة من كتب السُنّة: الغدير، ﺟ 2 ص 423 .
3- راجع: الغدير، الشيخ الأميني ﺟ 1.

سيقول للمسلمين بدل تلك النصوص المتناثرة عبر ثلاثة وعشرين عاماً، إذ كان يقول فيه: خليفتي، وصيي، علي مني بمنزلتي من ربي، أنت مني بمنزلة هارون من موسى، من كنت مولاه فهذا علي مولاه..

لعلّ النبي لم يترك صيغة بيانية تفيد هذا المعنى إ واستعملها، فَلْيُعِدّ المعاند جواباً.

2- هجوم الصحابة - الذين استولّوا على الخلافة ومقدّرات الأمة في الأيام الأولى لاستشهاد النبی (صلی الله علیه و آله) - على البيت الذي يضمّ سيدة نساء العالمين، وسَيّدَي شباب أهل الجنة، ويضم أيضاً من نزل القران شاهداً له بأنه نفس رسول الله -في آية المباهلة- و أعلنه النبي قبل شهرين خليفةً له على الأمة، وأولى بالمسلمين من أنفسهم، فهدّدوا بإحراق الدار ثم قاموا بكسر الباب، وكانت سيدة النساء -والتي يغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها- خلفه وهي حامل، فعصروا السيدة بين الباب والحائط حتى دخل مسمار الباب في صدرها، وسقط جنينها، ثم دخلوا فضربوها على وجهها فتركت الضربة أثرها في وجهها وأذنها وعينها، ثم ضربوها على عضدها فسقطت الزهراء على الأرض صارخة (1).

ولا يُزيل رُمحة العين سِوى بيض السُيوف يوم يُنشر اللِوا بعد هذا توجّه الجمع إلى علي (علیه السلام) -والذي لا تنتهي العناوين التي جعلها الله ورسوله له- فسحبوه بالحبال إلى مقر الحكم الجديد وكان تصميمهم القطعي على قتله لو لم يبايع.

هذه واحدة من عمر، والثانية قراره بقتل علي (علیه السلام) -والقرار مثبّت في عدة من مدونات التأريخ- حينما ع أهل الشورى ليقوموا بتعيين الخليفة من بعده- وكاني.

ص: 98


1- راجع لمصادر السُنّة في هذه القضية الفاجعة: «الحجة الغراء على شهادة الزهراء» للشيخ جعفرالسبحاني.

علي (علیه السلام) أحدهم- إذ أمر بقتل الستة الذين هم مجلس الشورى إن لم يحسموا أمر تعيينهم للخليفة خلال ثلاثة أيام، ومن تأمل صيغة الشورى التي جعلها عمر قطعاً بان عمراًرتب الأمر بحيث لا تصل الخلافة إلى علي (علیه السلام) بل سيصل إلى القتل حتماً.

فبأي دين، وأي ميزان، يتم إصدار قرار قتل من هو نفس النبي، ومن هو أولى بأمرالأمة من نفسها -وما يوم آلِ محمدٍ من عُمرٍ بِواحد-.

إذن: خلال أيام من استشهاد النبی (صلی الله علیه و آله) يكون التوجّه الأول الذي تقوم به فئة الحكم الجديدة هو الهجوم على بيت النبی (صلی الله علیه و آله) - بيت علي وفاطمة والحسنين- ثم محاولة حقيقيةلإحراق الدار بمن فيها، فَكَ حرمة الدار بدخولها عنوة، وَ بَرضْ أقدس من في الدار، بل اقدس من في الأرض بعد النبی (صلی الله علیه و آله) -سيدة نساء العالمين- إلى أن ماتت خلال أيامٍ شهيدةً بسبب هذه الفاجعة وهي معلنة لغضبها على زمرة الحكم -والله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها بنصّ النبي الأكرم الذي لا ينطق عن هوىً أبداً -.

أيّ انحرافٍ، وأيّ انتكاصٍ على الأعقاب، أوضح من هذا وأرذل.

3- إقصاءُ آل محمدٍ الذين نزل فيهم من الآيات، وورد بحقهم من الروايات، ومنها: أنهم سفن نجاة الأمة، وأحد الثقلين اللذين لا يضلّ من اتبعهما، عن ساحة الحلّ والعقد، والأمر والنهي، في شؤون الدين والحياة وإدارة الأمة، وتقديم كل من له تاريخ مظلم في معاداة الإسلام ونبيّه إلى صدارة الأحداث، وإلى تبوء مواقع القيادة في الأمة، فتجد معاوية ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وسمرة بن جندب ونحوهم من أراذل الأمة وأعداء الإسلام يتولّون أعظم المناصب في الإسلام، بل بيدهم الحل والعقد لأمر الأمة، بينما تجد من الجانب الآخر انزواء علي بن أبي طالب والحسن والحسين (علیهم السلام) وعيون الصحابة من شيعتهم قرابة الخمس والعشرين عاماً، واستمر الحال على هذا، إلى أن قتلت الأمة عثماناً فازدحمت حول علي(علیه السلام)، مناشدةً له

ص: 99

قبول بيعتها بإصرار، وهي البيعة الوحيدة التي حصلت بهذه الصورة من أول تاريخ الإسلام إلى اليوم، ولم تحصل إلاّ لصاحب الأمر الحقيقي الذي قال الله فيه: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ».

والآية في حقّه قطعاً.

وقال النبی (صلی الله علیه و آله) فيه: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، والعن من نصب له العداوة والبغضاء إلى يوم الدين»آمين.

هذه الأمور الثلاث المتقدّم ذكرها هي مَعْلَم الانحراف في الأمة، وأوضح مظاهره، وقد حصل هذا مع توفر الكثير من الآيات والروايات التي تنهى الأمة وتردعها عن السير في هذا الطريق.

وقد نتجت عما تقدم محاذير كان النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) يبذل عمره الشريف لتفاديها، من

أهمها:

4- ظهور توجّه: تغيير الأحكام الشرعية وتبديلها بأحكام مبتنية على الرأي والاستحسان وما يرتئيه المرء من عنديّاته، مقابل حكم الله ورسوله، حتى يصل الأمربعمر أن يصعد المنبر ويخطب في صحابة رسول الله (صلی الله علیه و آله) قائلاً: «متعتان كانتا على عهدرسول الله وأنا احرمهما وأعاقب عليهما» (1).

فانظر وتأمل واعجب واحكم من إقراره بأنها موجودة على عهد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله)، وان التحريم من عنده، وأنت تعلم حكم القرآن فيمن لا يحكم بما أنزل الله، والقرآنا.

ص: 100


1- لاحظ بحثاً مفصّلاً في قضية نكاح المتعة، ومن يجيزه من السُنّة، وغير هذا مما له تعلق بالموضوع: الغدير، ﺟ 6 ص 289 وما بعدها.

يقول: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً» (1)

وكتب السُنّة والشيعة تشهد بأن هذه الآية في نكاح المتعة -النكاح المنقطع- وعمر يقول بان التحريم منه، ومع ذلك تترك الأمة حكم الله ورسوله وتأخذ بحكم عمر.

ولاستقصاء الموضوع عليك بمراجعة كتاب «النص والاجتهاد» للمجتهد الكبيرالسيد عبد الحسين شرف الدين فقد أثبت بمصادر السُنّة اجتهادات أولئك في مقابل نصوص الكتاب والسُنّة.

5- ظهور حركة الوضع بشكل واسعٍ جداً في المجتمع الإسلامي، حتى كاد الحق أن ينتهي نهايةً أبديةً، في أصول الدين وفروعه، لولا لطف الله سبحانه وعنايته، والذي لا يُطفأ نوره أبداً وقد وعد التمام له.

ونظرة إلى كتب الصحاح الست لترى الأعاجيب والتناقضات، ولتجد روايتهم لأحاديث كثيرة جداً، تبطل مذاهبهم في أصول الدين وفروعه، وتهدمها هدماً.

وإذا اطلعت على كتب الرجال، وجدت أنهم يذكرون ما لا يحصى من أسماء الوضّاعين من رواتهم، وبعضهم كان لهم دور خطير في هذا الميدان، بل أنهم يذكرون مجموعة كبيرة من موثّقيهم مع تضعيفٍ لهم وتفسيقٍ حسب رأي آخرين من رجالييهم.

وكمثال: أبو حنيفة، النعمان بن ثابت يترجمه الخطيب البغدادي في كتابه الشهير-تأريخ بغداد ﺟ 14 - في ثمانين صفحة وينقل عن عِّدةٍ، أقوالاّ في الطعن فيه -أبي حنيفة- حتى ينقل عن أحدهم: قَدِمَ أبو حنيفة إلى الإسلام فهدمه عروة عروة.

6- تمزّق المجتمع الإسلامي إلى فرق ومذاهب وأحزاب وتكتلات دينية وسياسية واجتماعية، ومن ثم إلى دول بلغت الستين دولة، وأضحت أُكلةً لكلّ آكل، وهذا ممّا حذّر .

ص: 101


1- سورة النساء - من الآية 24 .

الله ورسوله منه: «وَلاَ تَکُونُواْ کَالَّذِینَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَیِّنَاتُ وَأُوْلَ-ئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِیمٌ».

وعن الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله): «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

فحكم بأن تضاربهم هذا كفر، أو أنّ عملهم هذا من شؤون الكافرين.

وخرج عن هذا الوصف حروب الإمام الوصي (علیه السلام) مع الناكثين والقاسطين والمارقين، لأنها كانت ببلاغ وعهد وأمرٍ من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكذا حرب الحسين مع يزيد وحزبه، لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر بنصره، بالإضافة إلى كونه سيد شباب أهل الجنة، ولازم هذه السيادة عصمته، وصحة جميع مواقفه، ووجوب نصرته ومعاضدته، ولزوم الدفع عنه وإن أدى هذا إلى الاستشهاد في سبيله.

هذا وقد أخبر خاتم الرسل (صلی الله علیه و آله) بأن أمته ستفترق بعده ثلاثة وسبعين فرقة كلها في

النار إلاّ واحدة.

والذي حصل أنّ أمته (صلی الله علیه و آله) افترقت في كل الأمور العقائدية والفقهيّة والأخلاقية والسلوكية -مذاهب التصوف والطرق- وما بقي أمرٌ نهى الله عنه وحرّمه إلاّ وفُعل، ولا أوجبه إلاّ وتُرك.

ومضافاً إلى ما تقدم فالأمة الإسلامية اليوم من أذلّ أمم الأرض، وما ذلك إلاّلعدم غيرة المسلمين على دينهم، ولعدم إظهار تعصّبهم له، ومع إن الهجمة من العدوشديدة حقاً، لكنّ المشكل ليس في قوة المُهاجم، وإنّما في تخاذل وجبن الجمهور المسلم، مما أدّى إلى نتائج مروّعة لا تُصَدّق، ومع إنّ عدد المسلمين في العالم اليوم مليار ونصف.

نعم، الأمة الإسلامية -قياساً إلى ماضيها- في تحسُّنٍ وانتعاش من بعض الجوانب، فأجواء النُصب والبغض والعداء لأهل بيت النبی (صلی الله علیه و آله) وشيعتهم تخفّ شيئاً فشيئاً في

ص: 102

هذا القطر وذاك، ومظاهر الخضوع والخنوع للحكام الظلمة والفسقة والمتمردين على أحكام الكتاب والسُنّة تتبدّل إلى حالات مسائلة واعتراض وتصادم، بعد ما كان الحال عند بعض المسلمين هو الإطاعة المطلقة لأولئك الحكام بدعوى أ مّهن أولوا الأمر الذي أوجب الله إطاعتهم في كتابه العزيز -وحاشاه سبحانه-.

ونظرة تأمليّة في أوضاع المسلمين في عالم اليوم، وقياسه إلى الأمس، يدعو المرءإلى التفاؤل، وترقب الخير والمستقبل الأفضل، لو كان يُسند هذا الحال حركة بالاتجاه الصحيح.

ص: 103

ص: 104

الجمهور والإطاعة المطلقة للجبابرة

منطق لابُديّة إطاعة الأمير، تشبثت به الدولة الجائرة اليزيدية لإخضاع الأمةولاستغفال الناس، وَلِسَلْبِ إرادتهم.

بل يرى المرء حضور هذا المنطق في العقليّة الإسلامية على امتداد التاريخ، وتأثيرهُ الكبير على الحركة الإسلامية، حتى أصبح أمراً مسل ما مًا عند أمةٍ كبيرةٍ تعترف بمرجعية الكتاب والسنّة في تشخيص ما يلزم عليها أن تعتقدهُ أو تسلكه، فهل في الكتاب أوالسنّة أوامر توجه الناس إلى إطاعة الحكام وأولياء الأمور مطلقاً ولو كان الهدف سحق المقدّسات، أو عصيان أوامر الله ورسوله لصالح إطاعة الحاكم الفاقد لكلّ صفة فضيلة، والذي هو اخطر على الأمّة من الأسود الكواسر؟

من هم هؤلاء الحكام الذين تأمر الشريعة بإطاعتهم، وما حدود هذه الإطاعة؟

فهل يُعقل أن تأمر الشريعة بإطاعة كل من هبَّ ودبّ، وكل متغلب على رقاب الناس، وهل يصلح لذلك المجتمع، القاتل لسبط رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، الاتكال على هذه المعاني لتسويغ جريمتهم، إطاعةً لمجمع المنكرات يزيد، وهو الذي شاع فجوره واستهتاره؟

وكيف لم یخضعوا لحكم الإمام أمير المؤمنين، وهو الإمام الحق، والحاكم العادل، العالم، أخو رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأول الناس بشريعته إيماناً، وأزهد الأمة، ومن ليس له نظير في مكرمة.

ثمّ كيف لم یخضعوا للإمام الحسن المجتبى، وهو سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وابن البتول

ص: 105

الطاهرة، شبيه جدّه رسول الله في خُلُقِهِ ومكارمه، وأعلم الأمة وأعدلها، وأفضلها بعدأبيه، حتى إضطرّوه إلى الصلح مع معاوية.

أحدهم يقول للحسين (علیه السلام): يا حسين ألا تتّقي الله، تخرج من الجماعة، وَتُفَرِّق بين هذه الأمة.

والآخر يقول له: بايع أمير المؤمنين يزيد، فهو خير لك في الدارين (1).

أما منطق الحسين (علیه السلام) ونهجه:

«والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية».

أية جماعة كانت تحياها الأمة، حتى يكون تفرقها بسبب خروج الحسين(علیه السلام)، إذ الأمة في واد، ويزيد وعصابته في وادٍ آخر.

الأمة تحمل معتقداً وتسلك منهجاً مختلفين ع يريده الحكم الأموي الجاهلي المنحرف الفاسد.

الأمة تريد الإسلام طريقاً وهوية، وبنو أمية لا همّ لهم إلاّ طمس الإسلام بكل معالمه، وفصل الأمة عن قادتها الحقيقيين، والحؤول بينها وبين تطلعاتها.

ثمّ إن الناس كانت قريبة عهد بجاهلية وكفر، ولم تستوعب بَعْدُ الإسلام وفكره وقوانينه وثوابته ومتغيراته، فقد أُشغل القادة الحقيقيون بتثبيت الإسلام ومكافحة الفتن ومواجهتها، وهؤلاء يريدون إنهاء وجود الإسلام، وطريقهم إلى ذلك مسخ عقيدتهوتشويه تعاليمه، بمختلف الطرق المُتَيَ ةِّرس، وهذه جاهليتهم الثانية والتي لها حدودها ومقاييسها.

زعموا دلالة الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ .

ص: 106


1- معالم المدرستين، السيد العسكري، ﺟ 3 ص 302 .

مِنْكُمْ» (1).

على لزوم إطاعة كل متغلب على دست الحكم، وأول ما يُردّون به النقض عليهم بإطاعتهم معاوية ويزيداً بزعم أمر الآية المتقدمة بهذا، وبعدم إطاعتهم لعليٍ أميرالمؤمنين، ومن ثُمّ خليفته سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله) الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام)، على أساس دلالة نفس هذه الآية الكريمة.

وزعموا أيضاً دلالة الروايات الآمرة بإطاعة الأمراء وإن فعلوا ما فعلوا، فللناسِ حسابهم، وللأمراء حسابهم، والفصل يوم الحساب.

حاشا الله ورسوله أن يسمحا بتسلُّط القتلة والأراذل على الأمة، وأن يأمرا بإطاعتهم.

هذه الأمة انتسابها لسيد المرسلين والذي أخرجهم به الله من الظلمات إلى النور، فهل يخلف محمد (صلی الله علیه و آله) في مقامه من لا يحترم شرعه، ولا يخضع لحكمهِ، ولو أردنا أن نخلف أحداً في غنم لنا لما عهدنا بها إلى هؤلاء وأمثالهم، لهمجيتهم ورذالتهم ولجرأتهم في العدوان على كل كريمة، فكيف يأمر الله سبحانه بطاعتهم، والسير وفق مرادهم، وإسلاس النفس بأيديهم، بل الحق أنّه يأمر بمجاهدتهم ومقارعتهم حتى يتم اجتثاثهم ومحوهم من جديد الأرض، مع ما يقوم بهم من كيان جبروتي وعناصر إفساد.

الله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» (2).

وهؤلاء لم يحكموا بما أنزل الله، وإذا حكموا به فبما لا ينافي رغباتهم، وما عارضها دَمّروه وغ وّريه، بل لم ينجُ من تحريفهم وتدليسهم حتى ما لا ينافي رغباتهم.

إن إبطال مزعمة لزوم إطاعة الحكام الذين هم من سنخ بني أمية مما يكتفى معه .

ص: 107


1- سورة النساء، الآية 59 .
2- سورة المائدة، الآية 44 .

بأقل من هذا البيان، إذ يتعقل بطلان هذه القضيّة كل من رجع إلى نفسه، وأصغى لنداءفكره وضميره، بأنه كيف يأمر رب السماوات بإطاعة الجبابرة، والمتخذين لعباد الله خولا، ومن لا يخضع لقانون أو لضوابط.

وغير خفي: أن هذا الفهم للكتاب والسنّة إنما دلّسته وروجّته صنائع الحكم الأموي، وبطانة ذلك الحكم الظالم، لتمرير جرائمهم، ولإخضاع الأمة لسلطانهم، فبقيت الأمة -ما خلا شيعة آل محمد (صلی الله علیه و آله) - مِن ذلك اليوم، خانعة، خاضعة، خائرة، لا يد لها، ولا رِجْلَ، ولا لسان، ولا إرادة تحفزها للدفاع عن شرع الله، ولنصر دينهِ، وللمطالبة بحقوقها السليبة المنهوبة حتى أصبح الخضوع ديناً، والمطالبة بالحقوق فتنةً وتفريقاً لجمع الأمة، وأية أمةٍ تلك، والتي يريدون مِنّا أن نَحسِبْ لها حساباً، إنها الفئةالحاكمة فقط، والباقي خارج إطار التأريخ.

النصوص دلّت على أن مقاتلة الحسين (علیه السلام) كفر، وبمثابة الحرب على الله ورسوله، ولا يتوقف مسلم في أن محاربة الله ورسوله كفر.

وقد أكّد الإمام الحسين (علیه السلام) -وهو في طريقه إلى كربلاء- لبعض من التقاهم المعنى السابق، والوارد عن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله):

قال الإمام لعبيد الله بن الحر الجعفي: «إن استطعت أن لا تسمع اُرصخنا، ولا تشهدوقعتنا، فافعل، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا، إلاّ أكبّه الله في نار جهنم».

وهذا النصح من الإمام من عظيم نبله، وهو يع عن عظمة الأئمة من آل محمد، إذ إنهم ينصحون خاذليهم، فيجنبونهم السخط الإلهي الأعظم في القيامة.

إن خذلان الحسين يستوجب الخذلان الإلهي في الدارين، وانحدار الإنسان إلى مهاوي المساخط وطرق الضلال، فكيف لو رفع المرء السيف بوجهه، وأصبح حجرعثرة أمام تحرّكه لإزالة المفاسد والانحرافات في الأمة، ثم كيف به وهو يشارك في

ص: 108

ذبحه وسحق جسده المقدّس أمام عشرات الآلاف ممن يدّعون الانتساب لامة جدّه، والاستظلال تحت حكم الكتاب والسنّة.

هل الكتاب والسنّة يأمران بتشييد مُلْكِ يزيد، وذبح الحسين(علیه السلام)، ويزيد بؤرة المفاسد وسليل أبي سفيان الذي قضى عمره في تجييش الجيوش على النبي، وسليل معاوية رأس البغي والفتنة على الإمام الحق أمير المؤمنين وهو الذي سنّ سبّ علي (علیه السلام) في أرجاء العالم الإسلامي مع إن النبی (صلی الله علیه و آله) يقول:

«مَنْ سبّ علياً فقد سبّني، ومن سبني فقد سبّ الله، ومن سبّ الله أكبه الله على منخريه في نار جهنم».

أما الحسين فهو سيد شباب أهل الجنة، وابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بِنَصِّ الكتاب والسنّة، وابن سيدة نساء العالمين، وابن أحبّ الناس إلى الله ورسوله -بنص حديث الطائرالمشوي - وهو إمام الأمة إن قام أو قعد.

فهل الكتاب والسنّة يأمران بخذلان الحسين وقتله، وبنصرة يزيد وحماية سلطانه، مع كل ما تقدّم وغيره؟!

وهل تهديد يزيد وابن زياد يُسَوِّغُ للأمة جريمتها؟

فعلى هذا يجوز لهم قتل كل نبي ووصي، وتهديم شرايع الله، وسحق دينه وأحكامه، لأجل أمثال يزيد مِن أولياء الأمور، ومعادن الشر والفساد، ولأجل خوف الإنسان على نفسه.

الكتاب والسنّة بريئان والله من هذا الهذيان.

ص: 109

ص: 110

الحسنان (علیهما السلام) ووجه الفرق بين موقفيهما

الحسنان (علیهما السلام): يصدران عن منبعٍ واحد، فالموقف منهما تجاه الحادثة الواحدة، واحد.

غير أنّ ما واجهاه من حدثٍ، متعدد، فتعدّد الموقف منهما واختلف، ولذا لا يعتبر موقفهما نابع من اختلاف نفسيتيهما، أو نتيجة مزاج وأريحيّة تختلف فيهما.

بل إن الموضوع الخارجي متعدد، وله حكم في شريعة الله سبحانه متعدّد، فاختلف الموقف منهما.

هذا مما لا ريب فيه ولا شك أصلاً، والدليل المُقنع متوفر له.

ولو كان أحدهما مكان الآخر، لما اختار إلاّ ما اختاره أخوه.

هذا معتقد الإمامية من أول دهرهم إلى يومنا هذا، لا یختلفون فيه مقدار أنملة.

ولذا لا يمكن لأحدنا، كائناً ما كان ومن كان، أن یختار موقف أحد الحسنين منهجاً لحياته على مدى دهره.

بل الإختيار يقوم على أساس اتحاد الحالة الفعلية الخارجيّة التي نواجهها، مع إحدى الحالتين اللتين واجههما الحسنان، فأن انطبق على الحالة الحسنية اخترناها، وإن انطبق على الحالة الحسينية اخترناها، وإن لم ينطبق على إحدى الحالتين تفحصنا عن الحكم الخاص بحالتنا لتنفيذه.

ص: 111

هذا الكلام، ألقيناه بِعمومِهِ، على نحو المسلمات العقائدية والفقهية، ويبقى أن نُشبع الكلام في وجه الفرق بين حالتي الإمامين (علیهما السلام)والذي أدى إلى الفارق في اختيارالإمامين العظيمين لأحد ذينك الموقفين.

ونبدأ بأبي محمد الحسن الزكي(علیه السلام):

أبو محمد الحسن: قطعة من كبد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ذاقت كُلّ مُرّ مِن فئات عِدّة في الدولة الإسلامية، بل لم يخرج عن عُهدة القيام بحقها إلاّ أقل القليل.

وهو يشترك مع أخيه الحسين (علیه السلام) في أشياء، فيشتركان معاً فيها حكماً.

ويفترق كل واحدٍ منهما عن الآخر في ظرفٍ خاصٍّ عاشه، وهذا الظرف استوجب لكل واحدٍ منهما حكماً خاصّاً به.

والخطأ الأكيد في التعامل مع حالتي الإمامين (علیهما السلام) إعتبار كل حالةٍ من هاتين ثُمتَِّلُ منهجاً خاصّاً للإمام في التعامل مع الأحداث، وفي إدارة دفّة الصراع مع الفئة المنحرفة عن خط الإسلام الأصيل، والمتمردة على الأوامر الشرعية في أمور عدة من أهمها: أهل البيت النبوي، وأحقيتهم باستلام السلطة، ولزوم انقياد الجميع لهم.

وهذا الفهم إنّما يصحّ لو كانت قضية الإمام الحسين (علیه السلام) هي نفس قضية أخيه الحسن من كُلّ وجه، ومع ذلك تعامل معها بشكلٍ مختلف، أما إذا كانت هذه غير تلك وبينهما فارقٌ ب ، ّني فإنّ اختلاف التعامل، لهذا الفارق، ومع مُلاحظته.

يشترك الحسنان في بنوّتهما لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، وإمامتهما للأمة، وقد ترتّب على هذا مجموعة من الأحكام والحقوق -للحسنين وعليهما- على الأمة الالتفات إليها ومراعاتها في حركتها:

- فيجب تعظيمهما واحترامهما فوق كل تعظيم وإحترام.

ص: 112

- لهما حق الطاعة المطلقة على أبناء الأمة جميعاً دون أيّ استثناء إلاّ من ثلاثة بطبيعة الحال: الرسول (صلی الله علیه و آله) والوصي (علیه السلام) وسيدة النساء(علیها السلام).

- وجوب نصرتهما وتفديتهما والتضحية بكل نفيس من أجلهما.

- التعامل معهما على أساس أن إطاعتهما إطاعة لله ورسوله، وعصيانهما عصيان لله ورسوله، وحبهما حب لله ورسوله، وبغضهما بغض لله ورسوله، ومحاربتهما محاربة لله ورسوله، ونصرتهما نصرة لله ورسوله، وعداوتهما عداوة لله ورسوله، وعلى هذا فقِسْ.

- لابُدّيّة تحصيل القرب إلى الله سبحانه من خلال أخذ الدين من طريقهما، إذ يستحيل تحصيله عن طريق غيرهما مع حياتهما، بحسب النصوص القطعيّة الصدوروالواردة في كتب الفريقين، إذ العمل بأحكام الدين عن طريقهما -مع بقية المعصومين الأربعة عشر- له خصوصيّة، وهما سفينة نجاة الأمة دون غيرهما كائناً من كان.

وتفصيل هذه الأمور مما يقتضي مقاماً آخر، والهدف هنا هو الإشارة فقط إلى هذا المطلب، أمّا الدليل المفصّل على ما تقدّم فمتوفر من كتب كافة فرق المسلمين، وقد ثبت ما تقدّم وغيره بآيات الكتاب العزيز، وبالسُنّة النبوية المطهّرة، وباعتراف أمة كبيرةمن المسلمين، ومن مختلف الشرائح والمستويات، رغم كل ما تعرّض له أهل البيت، وذريتهم، وشيعتهم، والنصوص المتضمنة لمقاماتهم.

والفرق المهم بين الحسنين إنما هو في الرتبة، فإمامة الحسن متقدمة على إمامةالحسين، فكان للحسن حق الطاعة على الحُسين بحُكم تقدّم إمامته، وإلاّ فهما سيدا شباب أهل الجنة، وإمامان إن قاما وإن قعدا، كما أنهما ريحانتا رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الدنيا، وولداه بنصّ القرآن والسُنّة.

نعود إلى ما يفترقان فيه من جهة الحالة التي عاشاها والتي استوجبت منهما موقفاً مختلفاً، وهذا أمر يلزم دراسته بدقةٍ شديدةٍ، مع تمحيص وغربلة لما بلغنا من نصوص

ص: 113

وشواهد:

1- ظرف الإمام الحسن (علیه السلام) ظرف تكاسل الناس عن الجهاد والكفاح وظرف ميل إلى الدعّة والراحة، وظرف الإمام الحسين (علیه السلام) ظرف ثوران الناس وتصميمهم على مقارعة السلطة الأموية والتخلّص من نير حكمهم.

2- وجود مؤامرة لاعتقال الإمام الحسن وتسليمه (1)حياً إلى معاوية، ثم ليقوم معاوية بالمنّ على الإمام الحسن (علیه السلام) بإطلاقه من الأسر، كما فعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمشركي مكة - ومنهم معاوية-.

والجزء الثاني من المؤامرة عقد معاوية العزم على إبادة واستئصال شيعة أهل البيت (علیهم السلام) حيث كانوا، وفق قوانين الانتصار في شريعة الغاب، كل هذا دعا الإمام الحسن (علیه السلام) إلى القيام بعملية الصلح لإجهاض هذه المؤامرة وتفويت الفرصة على معاوية.

عن الإمام الحسن(علیه السلام): «ولو لا ما أتيت، لما تُرك من شيعتنا على وجه الأرض أحدٌ إلاّ وقُتل». (2)

3- إنّ الصلح مع معاوية (3)بالإضافة إلى الإضطرار الشديد إليه بسبب ما قدّمنا وغيره، فإن أثره التضحية بفترة قليلة نسبياً من الخسائر -مع القطع بأن معاوية كان سيأخذ العالم الإسلامي بالقوة والحيلة على كل حال ولغير رجعة- إلاّ أن احتمالية عودة الخلافة إلى أحد الحسنين متوفرة، إذ أنّ عقد الصلح كان يتضمن إرجاع الخلافة .

ص: 114


1- مسند الإمام المجتبى، ص 303 ص 325 .
2- مسند الإمام المجتبى، العطاردي، ص 283 .
3- راجع - لتحليل وجه صلح الإمام الحسن (علیه السلام) مع معاوية- كتاب: اليوم الموعود، للسيد محمدالصدر، ص 620 .

إلى الإمام الحسن (علیه السلام) (1)بعد هلاك معاوية على روايةٍ، وفي أخرى ترك الأمر شورى بين المسلمين (2)، والمسلمون لو تُركوا وشأنهم بدون ضغط لا يختارون على آل محمدٍ أحداً، كما ظهر هذا في مبايعة الأمة لأمير المؤمنين علي (علیه السلام) بعد مقتل عثمان إذ توجهت إليه جماهيرها طواعيةً، وفي مبايعتها للإمام الحسن (علیه السلام) بعد استشهاد أمير المؤمنين(علیه السلام)، وكذلك في توجهها للإمام الحسين السبط (علیه السلام) طيلة عشر سنوات.

بل إن الإمام الحسن السبط كان عازماً على النهضة لاسترجاع الخلافة بالقوّة وحدّ السيف بعد هلاك معاوية (3).

بل هناك ما يمكن الاستدلال به على أن الإمام الحسن (علیه السلام) حاول الاصطدام بمعاوية في مسجد الكوفة عند دخول الأخير إليها بعد الصلح من خلال تصعيد الأمور إلى حد المواجهة المسلحة المؤدية إلى قتل معاوية، إلاّ أن معاوية ضبط نفسه وتماسك، مما فوّت الفرصة على الأمة -لنجاتها ديناً ودنياً- بتماسكه الناتج عن رُعبِهِ وَجُبنِهِ دائماً (4).

ذلك أنّه بالتأمل الدقيق في القضية المتقدمة يتج أن مسار الأحداث سيأخذ بُعداً معيّناً، إذ بعد دخول معاوية الكوفة وحضوره إلى مسجدها الأعظم وإلقائه لخطبته أمام الجيشين - الكوفة والشام - بحضور الإمامين الحسن والحسين، استغلّ الفرصة وبدأ بتنفيذ خطّته المُضْمَرَة في كيفيّة حكم الأمة والتي تقوم على أساس إذلالها وكسر أنفتها وكرامتها وإرادتها وابتدأ بتمزيق عقد صلحه مع الإمام الحسن على رؤوس الأشهاد وبحضور الإمامين الحسنين -كما قدّمنا- فشرع بسب الإمام الوصيّ والذي سبّه سبٌّ .

ص: 115


1- مسند الإمام المجتبى، ص 275 ح 20 ، ص 320 ، وراجع أيضاً كتاب: صلح الإمام الحسن، للشيخ راضي آل ياسين، وقد نقل مصادر حول هذا المطلب من طرق الجمهور.
2- بحار الأنوار، ﺟ 44 ، ص 65 ، وراجع: مسند الإمام المجتبى، ص 385 .
3- مسند الإمام المجتبى، ص 386 .
4- مسند الإمام المجتبى، ص 315 .

لله ورسوله وفي المكان الذي طالما أقام علي فيه بخطبه دعائم التوحيد وأحيا في ربوعه السيرة الغرّاء لسيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) فنهض الإمام الحسين ليردّ عليه غير أن الإمام الحسن أجلسه وشرع هو في جوابه على رؤوس الأشهاد أيضاً:

«أيها الذاكر عليا، أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة، وأمك هند، وجدي رسول الله، وجدك حرب، وجدتي خديجة، وجدتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرا، وألامنا حسبا، وشرنا قدما، وأقدمنا كفرا ونفاقا، فقال طوائف من أهل المسجد: آمين آمين» (1).

والردّ الطبيعي الذي كان سيصدر عن معاوية في ذلك الظرف الذي ملأه بنشوة الانتصار هو الاعتداء على الإمام الحسن وقتله، فقيام الإمام الحسين بالرد السريع والانتصار للإمام الحسن ولكل المقدّسات المهتوكة على يد معاوية فيقتل معاوية ويسترجع السيطرة على الأوضاع وعلى جيش الشام بواسطة جيش الكوفة وأهلها ويصبح بهذا الحسن هو حسين هذه الأمة والحسين هو مهد اّهي، لكنّ دهاء معاوية بل في الحقيقة جُبنه وتخوّفه من مسار الأحداث ونتائجها عطّل على الأمة يوم حريّتها إلى عصر ظهور المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ولله أمر هو بالغه.

هذا وإنّ تأسيس نظام الوراثة الملكي بتولية يزيد، والذي معناه استمرار الوضع الفاسد، وبقاء بني أمية في الحكم إلى أمدٍ غير منظور، مع استمرار نفس الخط الإنحرافي، ألزم الإمام الحسين (علیه السلام) النهضة لإيقاف المسيرة الأموية عند هذا الحدّ، وعدم السماح لها بالاستمرار.

ثم إننا ذكرنا في فصل -السر في النهضة أيام يزيد- ما ينفع المقام لتشخيص حقيقة الظرف، والحالة التي كان يحياها الإمام الحسن (علیه السلام) مع معاوية، وحالة الإمام الحسين (علیه السلام) .

ص: 116


1- الإرشاد، الشيخ المفيد ﺟ 2ص 15 .

مع يزيد.

ونُجمل هنا فنقول:

إن سبب صلح الإمام الحسن (علیه السلام) أحد أمرين:

أ- تبعثر جيش الإمام الحسن وانفراطه، وكذا وضع دولته حقيقةً، فالنتيجةمحسومة لصالح معاوية «لعنه الله» على كل حال، فالصلح بترتيب، خير من استيلاءمعاوية بالقوة على مقاليد الأمور، وتحمّل تعامله مع النتيجة تعامل الفاتح المنتصر -أي التعامل بحسب قانون الغاب-.

ب- إن هذا التبعثر لم يبلغ إلى حدّ الانكسار الموجب لانتصار معاوية بشكل محسوم وسريع.

وعليه: لماّ تخاذلت الأمة، وركنت إلى الدعة، وآلت الأمور إلى هذا الحال، فالنتيجةهي مواصلة القتال طويلاً، مما يؤدي إلى انهدام الكيان الإسلامي ككل، وبالنتيجة: عدم حصول أيّ طرفٍ على شيءٍ مهم.

فضحّى الإمام، بترك الأمر، كي يبقى الكيان العام للإسلام مستمراً وقويّاً وواحداً، وإن حصلت خسائر جسيمِة في البين إلا إنها اقلّ أهميةً من النتائج التي ستحصل لواستمر الإمام في تولي أمر الحكم.

إذ نتيجة استمرار الإمام في الحكم مع استمرار الصراع: ضياع جهود رسول الله (صلی الله علیه و آله) وانفراط الوضع الإسلامي ككل وإلى الأبد.

بينما نتيجة الصلح: المحافظة على الكيان العام للإسلام، والمسيرة الإسلامية، وإن تحمّلنا خسائر مهمة إلى حين إعادة الأمور إلى نصابها، إلا إن استمرار الركائز الإسلاميةفوق كل اعتبار.

ص: 117

وقد أعطى الإمام الحسن (علیه السلام) بحسب ما تقدم درساً عظيماً لكلّ حكام العالم، من الذين لا يتركون كراسيهم، وإن انهدم كل شيء، وبلغت الدماء عنان السماء.

ص: 118

الفصل الثانی

اشارة

ص: 119

ص: 120

مُسَلَماتّ

اشارة

لابُدّ لنا من ذكر أُمور، هي: مسلّمات، ومفروغ عن بحثها، لنستطيع السير في ثنايا البحث وتتمهّد لنا سبل اصطياد النتائج، وَتَعَرّفَ أسباب الحوادث، ضمن نطاق الحركة الحسينية المباركة.

المُسلَّمة الاولى:

وهي أهمّهن، والتي لابدّ من تسجيلها كأمر مفروغ منه.

وهي: علم الإمام القطعي باستشهاده، وأنه أمر واقع لا محالة، والنتيجة التي سينتهي إليها تحرّكه ضد الطاغوت الأموي (1).

وما أجاب به المفيد: من عدم قطعه بعلم الإمام (علیه السلام) بان أهل الكوفة خاذلوه(2) فلمصالح يراها في هذا الجواب، وزمنه كان زمن جدلٍ ومنازلاتٍ كلامية، والعكس هو الصحيح بلا ريب إذ من يراجع المدارك الروائية والتأریخية يقطع بعلم الإمام بهذا.

ويمكن ذكر مجموعة من النصوص عليه.

روي عن عمر الأطرف -وهو أخو الإمام الحسين لأبيه (علیهما السلام)- قوله:

«لما امتنع أخي الحسين (علیه السلام) عن البيعة ليزيد بالمدينة، دخلت عليه فوجدته خالياً فقلت له: جُعِلت فداك يا أبا عبد الله حدثني أخوك أبو محمد الحسن عن أبيه (علیه السلام) ثم

ص: 121


1- الملحمة الحسينية، المطهري ج1 ص 210 ، ذكر إن صاحب كتاب - الشهيد الخالد- يرى عدم تيقن الإمام من استشهاده.
2- أجوبة المسائل الحاجبيّة، الشيخ المفيد، ص 86 .

سبقتني الدّمعة وعلا شهيقي فضمّني إليه وقال:

أحدَّثَكَ أني مقتول.

فقلت: حوشيت يابن رسول الله.

فقال: سألتك بحق أبيك بقتلي خبّرک.

فقلت: نعم، فلولا تأوّلت وبايعت.

فقال: حدثني أبي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبره بقتله وبقتلي، وأن تربتي تكون بقرب تربته، فتظن أنك علمت ما لم أعلمه، وأني لا أُعطي الدنيّة من نفسي أبداً، ولتلقين فاطمةأباها شاكية ما لقيت ذريتها من أمته، ولا يدخل الجنة أحد آذاها في ذريتها». (1)

وعنه (علیه السلام) أنه قال لعمرو بن لوذان قبل أن يلتقي بجيش الحر:

«والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم من يذ مّهل حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم». (2)

وعنه (علیه السلام) أنه قال لولده علي الأكبر:

«يا بُني إني خفقت خفقة فعنّ لي فارس على فرس وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم فعلمت أنها أنفسنا نُعيت إلينا». (3)

وروي عنه (علیه السلام) أنه لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً وهو بمكة وقد اجتمع للاستماع إليه خلق كثير:

«الحمد لله، ما شاء الله، ولا قوّة إلاّ بالله وصلى الله على رسوله وسلّم. .

ص: 122


1- معالم المدرستين، ﺟ 3 ص 48 ، والملهوف، ص 99 - 100 باختلاف بينهما مع ان الأول نقل عن الثاني.
2- الإرشاد، المفيد، ﺟ 2 ص 76 .
3- الإرشاد. الشيخ المفيد. ﺟ 2 ص 82 ، وبمعناه في الملهوف ص 131 .

خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القِلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطّعها ذئاب الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشاً جُوَفاً وأجربة سُغبا لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا اجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقرّ مِهبِْ عينه، وينجز بهم وعده، من كان باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإ راحلٌ مصبحاً إن شاء الله». (1)

وعنه (علیه السلام) أنه قال لأخيه محمد المعروف بابن الحنفية:

«أتاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) - أي: في المنام- بعد ما فارقتك فقال: ياحسين أخرج فإنّ الله

قد شاء أن يراك قتيلاً».

فقال محمد بن الحنفية: إنّا لله وإنا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال.

قال: فقال له: «قد قال لي، إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا». (2)ه.

ص: 123


1- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 48 ، والملهوف ص 126 .
2- الملهوف، السيد ابن طاووس، ص 128 ، وأمّا معنى المشيئة الواردة في الرواية، فإنّ هناك فرق بين الارادة والمشيئة: فإنّ المولى سبحانه إذا أراد شيئاً فيعني هذا أنّه أحبّ وقوعه في الخارج، فيأمر به استحباباً أو وجوباً، وإذا كره أمراً لم يُرده ويعني هذا أنّه يُبغض وقوعه في الخارج فينهى عنه كراهةً أو تحريماً. وأمّا المشيئة: فإنّ كلّ ما يجري في ساحة الوجود حتى ما يصدر من اختيارات عباده إنما يقع ضمن نطاق مشيئته وإن لم يكن موافقاً لإرادته، فإنه سبحانه هو الذي أقدر عباده وأفاض عليهم القابليات والامكانات ليفعلوا مايشاؤون لكنه أمرهم ونهاهم فمن جرى في فعله طِبقاً لإرادة المولى فقد أطاع واستحق الثواب العظيم، ومن فعل كلما أحبّ واشتهى دون أن يُبالِ بأوامر الله سبحانه أو تعمّد المعاندة والمخالفة وتحدى إرادة الله العظيم فقد استحق العقاب الهائل وعرّض نفسه لعذابٍ لا تقوم له السماوات والارض. فما يقع في الخارج إنّما هو ضمن نطاق المشيئة الالهية لكنّه قد لايكون ضمن المراد الالهي كالمعاصي فإنّ المولى سبحانه لا يريدها ونهى عنها وهدّد عليها بالعذاب الهائل وسيفعل هذا فيمن شاء – والعياذ بالله العظيم- فكون الشيء ضمن المشيئة أي ضمن مجال الإقدار الالهي إذ هو سبحانه أعطى القدرة على فعلها وفسح المجال –تكويناً لفعلها كما هو حال كل أمرٍ يصدر من عباده اختياراً وإن لم بُحيّ ويُرد وقوعه في الخارج تعالى المولى سبحانه وتقدّس، وتقدّست مشيئته وإرادته.

وعنه (علیه السلام) قوله لأبي هرّة الأزدي:

«وأيم الله، لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسنّهم الله ذُلاً شاملا، وسيفاً قاطعاً، وليسلطنّ الله عليهم مَن يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ، إذ ملكهم امرأة منهم فحكمت في أموالهم ودمائهم حتى أذلتهم». (1)

وعنه (علیه السلام) إجابة لمن سأله:

«هذه كتب أهل الكوفة إليّ ولا أراهم إلاّ قاتلي». (2)

ومنها ما عنه (علیه السلام) انه رأى رؤيا عند وداعه لقبر جده (صلی الله علیه و آله) تتضمن قول النبي له:

«يا بني كأنك عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كرب وبلاء بين عصابةٍ من امتي وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى وظمآن لا تُروى وهم مع ذلك يرجون شفاعتي يوم القيامة فما لهم عند الله من خلاق.

حبيبي يا حسين إن أباك وامك وأخاك قد قدموا عليّ وهم إليك مشتاقون، إنّ لك في الجنة درجات لن تنالها إلاّ بالشهادة». (3)

وعنه (علیه السلام) لأخيه محمد بن الحنفية: .

ص: 124


1- الملهوف، السيد ابن طاووس الحلي، ص 132 .
2- السيد الجلالي، الحسين (علیه السلام) ص 149 .
3- القرشي، حياة الإمام الحسين (علیه السلام) ﺟ 2 ص 260 .

«لو دخلت في جُحْرِ هامةٍ من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقتلوني». (1)

وعنه (علیه السلام) في قوله لأم سلمة:

«يا اماه إن لم أذهب اليوم ذهبت غدا، وإن لم أذهب غداً ذهبت بعد غد، وما من الموت بَدّ، وإني لأعرف اليوم الذي أُقتل فيه...كما أعرفك». (2)

وعن الإمام (علیه السلام) أنه كتب إلى بني هاشم من مكة:

«من لحق بي منكم استشهد، ومن لم يلحق لم يشهد الفتح». (3)

إلى غيرها من الأقوال المنقولة عنه صلوات الله وسلامه عليه.

ثم إن تحديث الإمام مراتٍ عدةٍ وهو في طريقه إلى الكوفة باستشهاد يحيى بن زكريا، مما فيه الاشارة إلى انتهاء حركته باستشهاده، وإنّه موطّن نفسه المقدسة على ذلك.

كما أنّ هناك الكثير من النقل عن النبی (صلی الله علیه و آله) في أنّه أخبر باستشهاد ولده الحسين، وأنّ

هذا يتم في كربلاء، وأنه أرى تربته لأم سلمة، كما دعا عموم المسلمين لنصرته (4)وهذا مما تناقله المسلمون وعرفوه قبل استشهاده، وكان جمعٌ يترقبونه ويحذرونه.

كما حدّث بهذا الإمام الوصي أمير المؤمنين وولده الإمام الحسن(علیهما السلام).

وكل هذا كان يصل لسيد الشهداء بالاضافة إلى طرقٍ اخرى مسطورة في المدونات الحديثية والتاريخية، ومن هذه الطرق: مالها مدخلية وارتباط بإمامته وخلافته عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقيامه مقام الوصاية له، وهذا المقام السامي المفاض على الإمام الحسين (علیه السلام) من الله تعالى وبتبليغ من النبی (صلی الله علیه و آله) بالنصوص الكثيرة الصريحة والثابتة من .

ص: 125


1- المصدر نفسه ﺟ 3 ص 43 .
2- المصدر نفسه ﺟ 3 ص 33 .
3- القرشي، حياة الإمام الحسين (علیه السلام) ﺟ 3 ص 45 .
4- راجع لها: الفيروزآبادي، فضائل الخمسة ﺟ 3 ص 282 .

خلال كتب الفريقين، يُسَهِّلْ للإمام سُبُلاً لمعرفة حقائق الأشياء، وتفاصيل الوقائع،

قديمها وحديثها ومستقبلها، ولو لم يكن عند الأئمة مِن أهل البيت النبوي الطاهر إلاّ

ما اختصهم به النبي لكفاهم، كيف وقد أُردِفُوا بما لا مجال لاستيعابه وتفصيل شؤونه في

هذا المقام من البحث، ويكفيك ما ورد في تفسير سورة القدر: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» (1).

كما أن كتاب فاطمة الزهراء سلام الله عليها والمصطلح عليه بين الأئمة وشيعتهم بمصحف فاطمة به الاكتفاء في هذا الجانب من جوانب المعرفة، فكيف وهو أحد وسائل استقاء العلم عندهم (علیهم السلام)

ومصحف فاطمة صلوات الله عليها وسلامه يتضمن أسماء وتفاصيل عمّن سيتولى أمر هذه الأمة بعد النبی (صلی الله علیه و آله) وهو مما حدّثت به الملائكة سيدة نساء العالمين، ولا عجب في هذا ولا غرابة أو استبعاد، فإن الملائكة حدّثت مريم، وليست هي بنبيّ ولا وصي، وقد جاء النص(2) بتحديث الملائكة لفاطمة بضعة النبي وسيدة النساء، كما جاء النص بتحديث الملائكة لمريم، والمسألة من الوضوح بمكان.

«وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا»(3). .

ص: 126


1- سورة القدر، الآيات 2- 5.
2- راجع: الكافيﺟ 1 ص 297 ، وبصائر الدرجات ص 150 ، وفضائل الخمسة ﺟ 3 ص 147 حول شباهة الزهراء(علیها السلام) بمريم.
3- سورة مريم، الآيات 16 - 18 .

«وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ»

«إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» (1).

ومن مصادر علم الحسين (علیه السلام) إخبارات الملائكة له فإنّه ُّحمََدث وبهذا وردت (2) نصوص قطعية لا لبس فيها ولا ريب، إذ لا مانع من تحديث الملائكة لعبد مؤمن، فضلاً عن الحسين الشهيد الذي هو أحد الأربعة عشر الذين لأجلهم خلق المولى سبحانه الكون، والذين لا يتم الهدف الإلهي من الخلقة إلاّ بهم (3)، وبهم تدور رحى الدارين.

وكل من يُجادل في إمكانية تحديث الملائكة للزهراء أو للحسين (علیهما السلام) فليرجع إلى التزامات علماء مذهبه في مثل هذا الأمر فسيجد التزامهم بإمكانه بل بتحققه لأُناس لهم مرتبة دنيا من مراتب الفضل-تسليماً- وأين هم ممّن صرّح الله في كتابه بأنّه أذهب الرجس عنهم وطهّرهم تطهيرا، وورد في حقّهم ما لا صُحيى من الايات والروايات.

«فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا» (4).

وممّا يُعطي القطع بالاستشهاد نافلةً على ما تقدم، رؤى الإمام بهذا الشأن، ورؤيا المعصوم مقطوعة الصحة، ومثيلها رؤيا إبراهيم الخليل بذبحه لولده النبي إسماعيل واستجابته للأمر الإلهي بهذا غير أن المولى سبحانه فداه واستنقذه.

ولو كانت الرؤيا وحدها في البين لكفتْ، كيف وإخبارات النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) قدملأت القراطيس وانتشرت بين الكثير من المسلمين، وتحدّث بها أهل تلك الفترة قبل .

ص: 127


1- سورة آل عمران، الاية 42 ، والاية 45 .
2- راجع: الكافي، ﺟ 1 ص 329 ، وبصائر الدرجات، ص 319 .
3- راجع -كمثال-: ينابيع المودة، للقندوزي الحنفي، ﺟ 1ص 71 .
4- سورة النساء، الآية 54 .

وقوع الواقعة بكثير (1).

إذن: يعرف الإمام (علیه السلام) نتيجة المعركة مسبقاً، وأنه مقتول حتماً.

وهذا مهم لنا، إذ حينئذ يُلحظ هذا بنظر الاعتبار حين دراسة الحركة الحسينية، وعند متابعتنا لأحداثها، وعلى هذا فلابدّ أن الإمام (علیه السلام) كان يُراعي هذا في تخطيطه لمعركته الفاصلة مع بني امية، وفي دعوته للناس، وفي مجمل حركته ضد الدولة التي يتزعمها فرعون -في كفره و أساليبه وإجرامه-.

لا يُعقل: إخباره (علیه السلام) لأهله وخلّص صحبه، بل لعامة الناس بهذا الأمر كثيراً، وإغضاؤه عنه عند اتخاذه لقراراته وتحديده لوجهة مساره.

نعم، هناك أمرٌ قد يعترضنا في استنتاجاتنا إن سلّمنا به - ولا يتم لنا فعلا- وهو:

إنّ الإمام -صلوات الله عليه- مع إخبارات النبی (صلی الله علیه و آله) بمقتله، وعلمه (علیه السلام) بهذه النتيجة من هذا الطريق وغيره، فله أن لا يبني على هذه النتيجة في تحركه نحو أهدافه، وفي اختياره لإسلوب مواجهته للأحداث.

اذ أنّ لاحتمالية حصول البداء الربوبي، وتحقق الإرادة الإلهية بمنع جريان الأحداث حسبما تسير فيه، مدخلية في أن لايبني الإمام (علیه السلام) على قضية شهادته في تخطيطه لتحركه - إذ لله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد، وهو تعالى كل يوم في شأن، وأنه أخذ على خلفائه الإقرار بالبداء، وإن له سبحانه أن يُقدّم ما يشاء، ويؤخر ما يشاء (2)، ويثبت ما يشاء، ويمحو ما يشاء، وأنه سبحانه قد يُغ تقادير الأشياء في لحظةٍ ما، ويؤثر فيا.

ص: 128


1- لا بأس بمراجعة ما كتبه السيد عبد الرزاق المقرّم حول علم الإمام وجوانبه فهو نافع، وقد طُبع هذا في مقدمة كتابه: مقتل الحسين(علیه السلام)، وطبع ايضاً في حاشية الجواهر، طبعة مؤسسّة المرتضى، ﺟ 1 ص 122 .
2- راجع: الكافي، الكليني، ﺟ 1 ص 200 وما بعدها.

الموازين فتتغير تصاريف الامور - مما يُعطي للإمام إمكانية للتحرك وفق إمكانية نجاحه لا قطعية شهادته.

فإذن هو (علیه السلام) يلاحظ في تحركه احتمالية البداء، و امكانية تحقق الإرادة الإلهية المقدسة بتغيير المسار، لا لأنّه (علیه السلام) لم يعلم باستشهاده وفق أسباب العلم المتوفرة للمعصوم -والتي من جملتها إخبارات النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) - فإنّه (علیه السلام) يعلم بقطعيّة ستشهاده لو سارت الامور على هذا المنوال، ودون تدخّل الإرادة الالهيّة بالمنع من حصول هذه النتيجة، كما حمى الله سبحانه نبيّه الأكرم وعموم أوليائه في المواقف الحالكة، ولا لأنه لا يعمل وفق ما ثبت عنده بالإخبارات الغيبية عن جدّه الأکرم (صلی الله علیه و آله) وبالطرق الاُخرى التي سهّلها المولى لخلفائه في ارضه، أي أنه يعمل فقط بالعلم الذي يحصل عنده من الطرق الطبيعية التي يبني الناس عملهم عليها في حياتهم اليومية، فإن الوجه الأخير مما لاملزم له ولا دليل على لابديّة حصر تحرك المعصوم بمفاده.

وما تقدّم: وإن كان مما لا بأس به في الجملة - بالنسبة لمسألة البداء واحتمالية تأثيرها في المقام، وبالنسبة لتعويل الأئمة (علیهم السلام) على ما عرفوه من الطرق الطبيعية في عملهم اليومي، إلاّ أنه ليس على نحو الموجبة الكلية في القسم الثاني-.

وأما القسم الأول وهو مسألة البداء، فلم تتضح تماميته من جهتين:

الاُولى: أنه قد ورد في بعض الروايات، أن ما أخبر الله سبحانه خلفائه به بشأن الحوادث المستقبلية فهذا لا تغ فيه ولا يقع فيه بداء، فان تم هذا فما احتملناه منتفٍ ولا اعتناء به، ومع عدم تماميته، فاحتمالنا قائم.

الثانية: إن خصوص القضية الحسينية مما يُستبعد تحقق البداء بشأن نتيجتها، ومسار الأحداث فيها، والسبب:

إن الاخبارات الكثيرة للنبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) باستشهاد ولده وريحانته الإمام الحسين،

ص: 129

وقوتها وتفصيلها، لا تسمح لنا بحرية الاختيار والقبول والتصحيح لهذا الإتجاه، خصوصاً مع توفر رواياتٍ تحدثت عن إخبار المولى سبحانه لبعض أنبيائه بقضية الحسين ومآل الحال فيها، وإن صَحَّ لنا أن نذر احتمالنا حول البداء في بقعة الإمكان حتى..

المُسلَّمة الثانية:

إنَّ على المعصوم - الإمام والخليفة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أمر الدين والأُمة- إقامةالحكومة الإلهية في الأرض، وبسط سلطانها على مشارق الأرض ومغاربها، والعمل على تثبيتها، وإزاحة كل طاغوت وظالم ومتجبر عن مقام الخلافة عن رسول الله، بل إزاحة كل متسلط على رقاب الناس يحكم في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم سواءً أَحَكَمَ بحكم الله تعالى أم لا، ما دام لم يُرتضَ لهذه الخلافة والإمرة من الله ورسوله، ولم يكشف نص الكتاب والسُنّة عن توفّر هذا الارتضاء والقبول.

على أن افتراضنا في هذا الطاغوت أنه يحكم بحكم الله تعالى مسألة لا تخرج عن دائرة الافتراض، لأن أوّل ما يُواجه المؤمن مسألة حصر مقعد الخلافة عن النبي بالمعصوم المنصوص عليه بالنص الواضح بالاسم والصفة، فكل من قام مقامه ولم تتحقق الضابطة فيه فهو غاصب وطاغوت.

ومن الطبيعي ان المولى سبحانه لا يحصر خلافته في شخص، إلاّ لإستحالة قيام الحكومة الإلهية، وتحقيقها لأهدافها بما اراده المولى سبحانه بغير وجود هذا الشخص المنصوب على نحو الحصر، بالاضافة إلى توفر ذاتيات فيه وخصائص يفوق بها من عداه، تُأهّله لحمل عنوان: خليفة الله.

فإذن: الأمر المتقدم هو أول حكم إلهي - وهو من مهمات الأحكام -لم ينفذه هذا المتصدي على وجهه المطلوب، والوجدان يشهد أن الخطأ يجرّ أخطاءً حتى يخرج الأمر

ص: 130

عن الحصر والإحصاء ويتسع الخرق على الراتق فيرجع المتصدي بالأُمّة إلى جاهليةلعلّها تكون ألعن من جاهليتها الأولى، وهو ما حصل.

ثم إن كل إنسان -غير المعصوم- لا يعلم التشريع الإسلامي المقدس بحدوده كي يطبقه، إذ التشريع يُؤخذ من المعصوم باعتباره الوارث لعلوم النبي، والمف لها، والحافظ لحدودها، والمتصدّي -محل البحث- غير معصوم وغير مسدّد من المولى سبحانه، وغيرمأذون بالتصدي وفق ضوابط مرسومة له ومحددة، فلا يتمكن من القيام بشؤون الحكم بالشكل المراد إلهياً، إذن: يسقط في متاهة الانحراف والضلالة والطغيان شاء أم أبى، فإذن لا تسلم هذه الفرضية مِن أساسها.

ونؤكد: أن على المعصوم إزاحة كل من يتصدى لعرش الإمامة والخلافة غيره، فما ظنّك بموقف المعصوم ممن تصدّى وقد ملأ سمع الدنيا وبصرها بكفره وفجوره وخلاعته واستهتاره، حتى تداول هذا آحاد الناس عنه -مع أنه لم يكن في تلك الفترة من وسائل إعلام تنقل أخبار الفئة الحاكمة وغيرها لعموم الناس، خصوصا ما يجري عادة في الخفاء، وخلف جدران القصور، وبعيدا عن أعين غير الخصوصيين، فشياعها شاهد على شدة وقاحة وصلف واستهتار المنقول فيه-.

ثم هلمّ إلى ما عُرف عنه من شربه للخمور، وقتله للأبرياء، وتجاوزه على عموم التشريعات المقدسة، بل يصدر عنه بين آونة واُخرى ما يؤكد كفره وانحرافه عن خط الشريعة الإسلامية ومعتقدها.

وكيف لو علمنا من حاله، وبلغنا من أخباره أنه يُزمع تدمير الإسلام، والعودة بالامة إلى الجاهلية، وفتنة الناس عن دينهم، والتخطيط لقتل كبراء المسلمين وعظمائهم، وأنه سيملأ الأرض ظلماً وتجربا، ويرفع على منابر المسلمين من يذ مّهل، ويستبيح مقدساتهم، ويذر الناس في رعبٍ وخوفٍ وأيامٍ حمراءَ لا تنتهي.

ص: 131

نعم، يعتذر البعض عن أمثال هذا الوالي بأنه م مصراً، وكرى نهراً، ويالها من مقاييس.

أترى ان من بنى مدينةً أو كرى نهراً، غير أنه أرهب العباد وارعبهم، واستباح نفوسهم وأعراضهم، وغنم أموالهم، وفتنهم في دينهم، خليقاً بولاية أمر الأمة ومُصَحِّحاً لتمكينه ولتثمينه.

وألقِ ببصرك إلى مقادير هائلة من الأموال بُجتى من شرق الأرض وغربها لسدّ حاجة المعوزين والترفيه عن المحرومين والعاجزين والأرامل والأيتام وإذا بها تغدو مغنماً لأنفارٍ من عُتاة الأمة وولاة أُمورها.

وقد شهدنا توفر كتاب في مكتبات العراق يحمل اسم -الحجاج بن يوسف رجل الدولة المفترى عليه- ووجهة الكتاب:

تبرير جرائم الحجاج بحق الإسلام والمسلمين، وأنه إنما فعل ما فعل قمعاً للمعارضين كما هو شأن كل حاكم، وأن المؤرخين - وتبعهم عامة الناس- قد غفلوا عن إنجازاته في تمصير مدينة وفي إنشاء كيان إداري ونحو هذا، فلم يلتفتوا إلى ميزاته هذه، وحصروا جهة التفاتهم إلى ما صدر عنه من ذبحٍ ومجازرٍ وتدميرٍ وإنحرافٍ عقائديٍ وسلوكي، وإنما هو رجلُ دولةٍ من الطراز الأول.

وصدور هذا الكتاب كان جزءاً من خطةٍ شاملةٍ بأمرٍ وتوجيهٍ وإشرافٍ من سفّاح العراق «صدّام» لإحياء ذكر جميع من حكم العراق- باستثناء الجيّد منهم طبعاً، وهو نادر- لغرض تخليدهم عبر جعل تماثيل لهم في الساحات العامة والشوارع والحدائق، وعبر كتابة جديدة للتأريخ يُكتب فيه بمنظارٍ أُسمّيه بالمنظار الصدّامي -لعجائبيته وخبثه- وما سرّ هذا إلاّ محاولة من حاكم العراق وهادمه لطمس الحقائق وقلب الموازين عبر التلاعب بالتأريخ، والتعتيم على ما يأخذ بالأمة إلى رشادها، و مايُبَ هِّرصُا لما

ص: 132

به تصحيح مسيرتها، وكذلك للتعتيم على جرائمه واحدوثاته، لأن اولئك الحكام الخونة إنما كان ديدنهم وشأنهم طعن الإسلام من الخلف، وفي الظلام، وإكفائه على وجهه، وكذلك سفك دماء شعب العراق - وشيعة آل محمد منهم بالخصوص- فلعنتهم الأمة طوال دهرها، وعبر أجيالها المتتابعة وفضحتهم مدونات تأريخها، وهو -صدام- قد زاد عليهم بما لا مثيل له إلاّ من عتاتهم ومردتهم، فكيف سيكون شأنه مع التأريخ والأجيال.

إنما هو وصمة عارٍ أبدية في جبين الجهة التي دعمته وقوّمته، ومثّلها بكل جبروته وخساسته، وﺳ «يعرف التالون غِبّ ما أسَّسَ الأوّلون» (1)وصلوات الله على الزهراءالبتول.

لا نطيل في المقام إذ محل إثبات أصل هذا المطلب في حيّز آخر يُشبَع فيه بحثاً واستدلالاً، غير أننا نختصر فنقول:

إنّ هذه مقاييس السفّاحين لتبرير جرائمهم ومخازيهم أمثال جرائم يزيد والحجاج.

أرجع فأقول:

لما كانت الخلافة من المناصب المجعولة شرعاً للإمام المعصوم على نحو الحصر في حال حضوره وظهوره المقدّس.

ومن الواجب عليه إزاحة كل من يعلو عرشها لتصدّيه لما ليس من شؤونه وهو غاصب لما لا يستحقه.

والأوجب عليه: التصدي لكل طاغوت يحكم بغير ما أنزل الله، ويستضعف عباده.

ص: 133


1- الاحتجاج، الطبرسي، ﺟ 1 ص 291 ، من خطبة لسيدة نساء العالمين أمام نساء المهاجرين والأنصار في مرضها الذي نتج عن ضربها وإسقاطها لجنينها، والذي أدى بالتالي إلى وفاتها صلوات الله عليها وسلامه.

الله تعالى، ويسعى في تدمير أمانة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أو يكون حجر عثرة في طريق انتشار

الإسلام أو هداية الناس وإيمانهم لتحقيق سعادتهم الدنيوية والآخروية.

من هنا: يتضح سرّ إصرار الإمام الحسين (علیه السلام) في رفض البيعة ليزيد، وعزمه الأكيدعلى مناجزته مهما تكن النتائج ولو دفع حياته المقدّسة ثمناً لإقدامه.

وقد يُعترض علينا بالآئمة (علیهم السلام) قبل الحسين وبعده، وهذا له جواب.

إذ أننا قدمنا: أن الحاكم الذي اُحيول التظاهر بالمحافظة بعض الشيء على الشعائرالإسلامية، وعلى بعض احكام الإسلام، لا يُعامل كالذي يعتزم تدمير الإسلام نهائياً، وإعادة الأمة إلى جاهليتها الاُولى، أو إلى جاهليةٍ أشنع من تلك وأخسر، هذا أولاً.

وثانياً: إن جميع الولاة بعد يزيد -عبر إمتداد التأريخ- اتعظوا بحركة الحسين، وما آل إليه مصير آل أبي سفيان من دمار سلطانهم وسرعة انمحاقهم (1)

والقسم الكبير من هؤلاء الخلفاء والولاة واجهوا عملياتٍ عسكريةٍ ضخمةٍ وحركاتِ تمردٍ مؤثرةٍ تهدف إلى هدم سلطانهم، وأغلبها متأثر بالنهضة الحسينية، مما حدّد وقلّص من استهتارهم وخلاعتهم وفجورهم وطغيانهم، بينما لم يحصل مثل هذا في الفترة السابقة على خروج الإمام سيد الشهداء، أي:في أيام معاوية، والأشهر الأولى من حكم يزيد.

ثمّ، وهذا هو المهم والأساس:

إن الحسين (علیه السلام) تي تّرس له ظروف هامّة لإسقاط حكم الطاغوت، لم تتي قبله4»

ص: 134


1- كان عبد الملك قد كتب إلى الحجّاج وهو على الحجاز:جنّبني دماء آل أبي طالب، فإني رأيت آل حرب لما تهجّموا بها لم يُنصروا، فكتب إليه علي بن الحسين (علیه السلام): إني رأيت رسول الله ليلة كذا في شهر كذا يقول لي إن عبد الملك قد كتب إلى الحجاج في هذه الليلة بكذا وكذا، وأعلمه أن الله قد شكر له ذلك، وزاده برهة في ملكه «تأريخ اليعقوبي، ﺟ 2ص304»

ولا بعده لأحدٍ من الأئمة (علیهم السلام) فكان عليه -صلوات الله عليه وسلامه- استثمارها إلى أقصى حدّ، لاستنقاذ الإسلام، ومستضعفي الأمة، من أيدي جبابرتها ومفسديها.

فل حصل ما حصل للإمام نتيجة:

1- خذلان الأمة، وتقاعس العموم عن إعانة ابن رسول الله(صلی الله علیه و آله).

2- وَغَدْر من عاهده منها.

وقد أدّى الخذلان والتقاعس و الغدر إلى استشهاد الإمام، وإبادة أهل بيته وخيرةصحبه، وبقاء الأمة تحت حكم الفراعنة.

ما تقدم يوضّح الموقف قبل وبعد حركة الإمام الحسين(علیه السلام).

وقد تكون نتائج الحركة الحسينية هي السبب الرئيس لعدم استجابة الأئمة (علیهم السلام)ابتداءً من الإمام السجاد (علیه السلام) لأيّة دعوة للنهضة لغرض إسقاط الفئة الحاكمة.

وفي الحقيقة: إنّ كلّ الدعوات التي هي في هذا السياق، كانت منقوضة الأركان.

فإمّا أن تكون مشبوهة كدعوة الطاغية أبي مسلم الخراساني لمولانا الإمام الصادق (علیه السلام) لاسقاط ابي جعفرٍ المنصور.

أو مهزولة، وغير حاصلة على العمق الشعبي، أو الإعداد العسكري المطلوب.

أو إرتجاليةٍ كحركة فخ.

أو تلوح منها لوائح الغدر والنكث، ويُشمّ منها روائح الطف.

أو ناجحة قُحمَِقَة لأهدافٍ محدودةٍ، لا تقتضي من الإمام المشاركة فيها ودعمها على نطاق واسع.

أو جيدة، غير أنها تستعقب فجائع وكوارث أعظم من النتائج المفيدة التي تحققها في المرحلة الأُولى.

ص: 135

ومن العجيب: ما ذُكر، من حادثةٍ مقاربةٍ لعصرنا، حصلت بين جمع من الشيعة وبين إمام عصرنا المهدي المنتظر أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء، وقد أبان الإمام (علیه السلام) عن أن الروحية التي أدّت بالناس إلى التقاعس عن سيد الشهداء وعرّضته للاستشهاد ما زالت تحكم النفوس وتهيمن على أفراد المجتمع وما زال حب الدنيا والقعود عن معالي الدرجات ذي أثر في اختيارات الناس وبالتالي فهم غير صالحين بعدُ للاعتماد عليهم في العملية التغييرية الكبرى لإعادة الاُمور إلى نصابها الصحيح (1).

أن الحركة التغييرية تحتاج لمن يتعطش للشهادة على ما كان عليه أبطال الطف، إذ

كانوا يُلقون أنفسهم على الموت، ولذلك قتلوا المئات في ساحة المعركة، وكان اليزيديّون

يفرّون أمامهم كحمر مستنفرة فرّت من قسورة، ولا قبول بعد الطف لمن يتمنى على

الله الأماني، ويريد من المعصوم أن يغ دنياه ومحيطه الفاسد قائلاً له: «فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّکَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ» (2).

أو يعاهد قائده، وحين يحمى وطيس المعركة يعيدها طفاً أخرى.

المَُسلَّمة الثالثة:

إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الفرائض الإلهية، وبهما تستقيم باقي الفرائض، وينتشر العدل في أرجاء المعمورة.

وإنّ تكليف الإمام المعصوم أعلى من تكليف بقية الناس في هذا المجال:

1- بحكم منصبه ومسؤوليته ومدى تأثيره.

2- ولاختصاصه بحمل الأمانة المحمدية، ولزوم الحفاظ عليها.

ص: 136


1- السيد محمد الصدر، موسوعة الإمام المهدي(علیه السلام)، قسم الغيبة الكبرى، ﺟ 2 ص 118 .
2- سورة المائدة، الآية 24 .

3- وإنه إذا استلزم الحال بذل النفس والنفيس في الموارد التي يتعرض فيها وجود الإسلام أصلاً للخطر، وكان حفظه متوقفاً على حركة تضحوية لإيقاف تدميره، وجب على الإمام النهضة وفداء الدين بنفسه المقدسة، ولا أقل من تخيير الإمام المعصوم في مثل هذا الموقف.

وقد اختار الحسين (علیه السلام) الفداء، وإحياء الشرع بنفسه وماله وعائلته وكل ما يملك وهكذا كان.

فعلينا إذن أن نُسَلّم بأن المرحلة التي نهض فيها الحسين (علیه السلام) هي من هذا القبيل، وتصريحات الإمام، وما سنستكشفه من خلال دراستنا لأوضاع تلك الفترة السفيانيةالجاهلية الجائرة ليس غير هذا.

المَُسلَّمة الرابعة:

ضرورة الخروج على الظالمين لكفّهم عن الظلم، ولرفع الاستضعاف عن الأمة، وهذا من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخصصناه بالذكر لأهميته.

قال المولى تبارك وتعالى:

«وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا» (1).

ومثل هذا المنكر لا يكتفى معه بمراتب رفع المنكر الثلاث المعروفة بالمقدار المعهود، بل يُمكن المصير معه إلى المرتبة الثالثة بأعلى مراتبها، إذا توقف رفع الاستضعاف عن الأمة بتحقيق هذه المرتبة، اذ يجوز مقاتلة الظالم والطاغوت المسبّب للاستضعاف، وبهذا

ص: 137


1- سورة النساء: الآية 75 .

صرّحت الآية المباركة المتقدمة.

وسيأتي - إن شاء الله تعالى- أن الأمة كانت تعيش الاستضعاف بمرتبته العاليةتحت ظلّ حكم بني امية، وأ اّهن استنجدت بالإمام لانقاذها مما هي فيه، وقد نهض الإمام -صلوات الله عليه- لجملة أسباب، منها: رفع الاستضعاف الذي كان يعاني منه عامةالمسلمين، وأهل الكوفة منهم بالخصوص، والشيعة بالشكل الأخص، وقد لزمه هذا بعدما استنهضه الناس.

ومن النصوص الواردة في إن الإمام خرج لاستصراخ الأمة له بسبب استضعافها، ما عن سيد الشهداء (علیه السلام) في خطابه إمام جيش يزيد:

«تبّاً لكم أيّتها الجماعة وَتَرَحا، أفحين استصرختمونا ولهين متحيرين، فأصرختكم مؤدين مستعدين، سللتم علينا سيفا في رقابنا، وحششتم علينا نار الفتن خباها عدوكم وعدونا، فأصبحتم إلبا على أوليائكم، ويدا عليهم لأعدائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيش طمعتم فيه، من غير حدث كان منا ولا رأي تفيل لنا، فهلا -لكم الويلات- إذ كرهتمونا وتركتمونا تجهزتموها والسيف لم يُشهر، والجأش طامن، والرأي لم يستحصف، ولكن أسرعتم علينا كطيرة الذباب، وتداعيتم كتداعي الفَراش، فَقُبحا لكم، فإنما أنتم من طواغيت الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرّفي الكتاب، ومُطفئ السنن، وقتلة أولاد الانبياء، ومبيري عترة الاوصياء، وملحقي العهار بالنسب، ومؤذي المؤمنين، وصراخ أئمة المستهزئين، الذين جعلوا القرآن عضين.

وأنتم ابن حرب وأشياعه تعتمدون، وإيانا تخاذلون، أجل والله الخذل فيكم معروف، وشجت عليه عروقكم، وتوارثته اصولكم وفروعكم، وثبتت عليه قلوبكم، وغشيت صدوركم، فكنتم أخبث شئ سنخا للناصب، واكلة للغاصب، ألا لعنة الله

ص: 138

على الناكثين الذين ينقضون الإيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا فأنتم والله هم». (1)

على إن للإمام أن ينقذ الأمة من هذه الطامة، استغاثت به أم لا، فكيف وقد تحققت الاستغاثة، وعلى مدى اكثر من عشر سنين.

ومسألة المقاتلة من أجل رفع الاستضعاف عن الأمة، كُلاً أو بعضاً، من أقلّ المسائل ذِكراً وتأليفاً وبحثاً ومذاكرة، مع أن هذه المسألة ظهرت جليّة واضحة في القضيةالحسينية.

نعم، طُرحت هذه المسألة بشدّة على لسان الإمام الخميني (قدس سره) وأصبحت من شعارات الثورة الإسلاميةالإيرانية، وتلاقفتها الأمة على نطاقٍ واسعٍ، ثم عادت إلى الضمور من جديد.

المَُسلَّمة الخامسة:

مقاتلة المعصوم عموماً، والحسين خصوصاً، كفر.

كل من شارك في قتل الحسين: بقتلٍٍ مباشرٍٍ، أو إعانةٍٍ، أو أمرٍ به، فَقَد كَفَر.

بل من رضي بقتل الحسين فقد كفر.

وهذا الحكم عامٌ يشمل مقاتلة أيّ معصوم من المعصومين الأربعة عشر عليهم الصلاة والسلام، و يُمكن استفادته من كتب المسلمين عامة، ولا يختص مدركه بما هو مرويّ في كتب الإمامية، الذين لهم خصوصية مع أهل البيت وارتباط يتميزون به عن غيرهم من المسلمين، وبحثنا هذا هو لبيان ما لَهُ عُلقة بالحسين (علیه السلام) دون بيان كل ما يتعلق بعنوان المعصوم، والمسألة نصّيّة، وإن كان الاستدلال العقلي لها ممكن.

ص: 139


1- بحار الانوار، ﺟ 45 ص 8.

واستقصاء النصوص لها من كتب الإمامية غير مجدٍ، لأن الآخرين لا يرتضونها في مقام البرهنة أو المحاججة، مع أن حجية أقوال الأئمة من آل الرسول (علیهم السلام) ثابتة عن مصادر المسلمين كافة، والتي تؤكد بالنصوص المعتبرة المروية عن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) أنهم عِدْلُ القرآن، وا مّهن سفن نجاة الأمة، وهذا يعني أن لا معذورية لمسلم في الاعراض عن اتّباع أقوالهم ونهجهم، واما الإمامية فللنصوص المتوفرة من طرقهم والمفيدة لهذا الحكم فوق حدّ الاستفاضة، بل هو عندهم من الوضوح بمكان.

فالأفضل: استقاء النصوص من مصادر بقيّة فرق المسلمين، لتعزيز يقين شيعةأهل البيت فيما ذهبوا إليه، وايضاح الحكم لغير الشيعة، لازالة كل غبش عن العيون، ولرجاء استعادة ارتباطهم بالسلف الصالح الحق، الذين هم الربّانيون والورثة لمقام النبی (صلی الله علیه و آله) وعلمه، إذ آل محمد المطهّرون من الرجس، هم ورثة علم النبي ومقامه، وهم أولى بالأمة من نفسها، لا كعب الاحبار، ولا أبو هريرة الدوسي، ولا غيرهما، خفضه الزمان، أو وأتته الظروف بما يشتهي.

النصوص:

وهي كثيرة ومتنوعة ويُمكن تقسيمها إلى طوائف غير أنا نأتي بالأوضح الذي لا يستدعي خلافاً ولا جدالاً، ومن يُجادِل في هذا وأمثاله فهو بانٍ على المجادلة في الواضحات، لسيرة مستمرة مع آل محمد، ثبتّها معاوية، وزاد عليها، واتبعه فيها، من لا يقرأ ما كتبه أعلام السُنّة بأيديهم، وتحدثت به شفاههم، من فضائل آل محمد (علیهم السلام)وحقوقهم ومناصبهم في الدنيا والآخرة.

لقد عثرت بعض الأمة عثرة لا تُقال اذ لم تحسم أمرها مع الحسين (علیه السلام) أيام ثورته، ولافيما بعدها وإلى يومنا هذا، مع أن النبی (صلی الله علیه و آله) صرّح كثيراً بقضّيته، وأوجب على الأمة

ص: 140

كلها نصرته، إلاّ أن الأمة خافت من الدعي ابن الدعي - ابن زياد- ولم تخف عذاب القبر، ولا جهنم الكبرى، كما أنها أخلدت إلى الكسل، والراحة، والمائة درهم، ولم تخلدإلى وعود الله سبحانه بنعيم الأبد، وبمرافقة النبيين، في جنان تحوي ما لا عين رأت، ولاأذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

نعود فنقول:قال النبی (صلی الله علیه و آله) لعلي وفاطمة والحسن والحسين(علیهم السلام): «أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم».

بألفاظٍ متعددة، وقد أخرج هذا النص، أو هذا المضمون:الترمذي في صحيحه، وابن ماجة في صحيحه، والحاكم في مستدرك الصحيحين، وابن الأثير في أسد الغابة، والهندي في كنز العمال، والخطيب البغدادي في تأريخه، وغيرهم كثير (1).

ومعلوم أن مقاتلة النبی (صلی الله علیه و آله) ومحاربته كفر، فمحاربة الحسين (علیه السلام) كذلك، وكل حربٍ يكون أحد طرفيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) يكون الطرف الآخر طرف كفر.

وأما نصوص إيجابه (صلی الله علیه و آله) لنصرة الحسين، فمنها:عن النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله): «إن ابني هذا يُقتل بأرضٍ من أرض العراق، فمن أدركه فلينصره». (2)

والنصوص كُثْرٌ وقد اكتفينا بما تقدّم لانّ غرضنا الإشارة إلى المطلب لا الاستقصاء.).

ص: 141


1- راجع: فضائل الخمسة من الصحاح الستة ﺟ 1 ص 251 ، للاطلاع على المصادر وأرقام الصفحات.
2- راجع: فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ﺟ 3 ص 282 ، عن أسد الغابة لابن الأثير، وكنز العمال للهندي، وغيرهما، وراجع ايضاً: حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، للشيخ القرشي، ﺟ 1 ص 102 - 105 فقد نقل روايات عدّة عن العامة تفيد لزوم نصرة الإمام الحسين(علیه السلام).

ص: 142

أسباب الثورة الحسينية

اشارة

الحيثية التي انطلقت منها الثورة الحسينية المباركة هي أن:

«الإسلام في خطر»

فالحسين العظيم خرج على دولة هي في تلك الفترة أقوى وأعتى دولة في العالم، وقوتها أتت من كونها الدولة الإسلامية الباعثة لروح الإنسانية، والتعاليم الربانيةالرفيعة، في عالم ميّت وثنيّ أخلدت فيه الخرافات، وعشعشت في عقول الناس الخزعبلات، فمن عابد وثن، إلى عابد صليب، إلى عابد بقر، وهلمّ جرّاً.

فعظمة وقوة هذه الدولة أتت من الإسلام الذي غزت تعاليمه وجيوشه العالم وشادَ صرح كيانٍ ما كان للعرب أن يُنشئوا مثله في مئات من السنين، وما شاد هذا الكيان إلاّ قادته المؤمنون به والمضحّون في سبيله إذ بدأه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسار على دربه اتباعه العقائديون يرأسهم أمير المؤمنين وسيد الوصيين وقائد الغُرّ المحجّلين علي (علیه السلام).(1)

وقد أحدث رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنهضته المقدسة موجاً كاسحاً لم يستَطِع مناوئوه إلاّ مجاراته فيه، إلاّ إ هن هنم أهملوا أهدافه، وما قامت ل ه هذه النهضة من نشر التوحيد وإيصال ّّ الإنسان إلى كماله بتحسين معاشه وتأمين معاده، وقصروا إهتمامهم على توسعة رقعة الدولة وجباية الخراج والفوز بالغنائم.

ص: 143


1- وردت بهذه الأوصاف الثلاثة نصوص عن النبي الاعظم (صلی الله علیه و آله) في علي (علیه السلام) روتها كتب جميع فرق المسلمين فراجع لها: فضائل الخمسة من الصحاح الستة بأجزائه الثلاث.

ثُمّ إِنّ هذه الدولة عتت على قادتها المنصوص عليهم، وعلى مبادئ دينها، لوصول أُناس إلى سدّة الحكم لم يتغلغل الإسلام في نفوسهم، بل كانوا ولم يزالوا أعدى أعدائه، فما يُنْتَظر منهم وقد تسلّموا زمام الأُمور.

كفأوا الإسلام على وجهه، وعادوا بالناس القهقرى إلى جاهلية تفتقد بعض عناصر حُسْنٍ كانت في الجاهلية الاُولى، فحرّفوا عقائد الإسلام وأحكامه، واغتصبوا مقام الأوصياء، وقتلوا أو شرّدوا كل من يلتزم بعقيدته، ولا ينصاع لتوجيه السلطة الباغية، واشتروا الضمائر، وسلّموا المناصب لأراذل الأمة، فتجد أزنى ثقيف (1)يحكم الكوفة، ومن لا يُعرف له أب حتى قيل له ابن أبيه يحكم البصرة، وعلى هذه الشاكلة فقس.

وحين خرج سيد الشهداء (علیه السلام) ليوجّه لهذه السلطة الضربة الماحقة المزلزلة لاركانها، فإنما يخرج على كيان هو أقوى نظام متسلط في العالم مع عظم إمكانيات الفئة الحاكمةوقلة إمكانيات محاربيها، إلاّ أن الفرق أنّ الدولة الاُموية كانت على حافّة زلزال، لموت معاوية، ولغيره من الأسباب المتقدمة والتي ستأتي ان شاء الله تعالى.

وما أرادت الدولة الاُموية تحقيقه -ويُريد طغاة اليوم تحقيق نفس ذلك الهدف، والفَرْقُ إنما هو في طرق تحقيق الهدف، إذ الامكانيات مختلفة بحسب اختلاف الزمان والمكان- هو إزاحة أية عقبة تعترض سبيل وجودهم في سدّة الحكم، واستطالة هذا الوجود، لتحقيق تمتّعهم بالدنيا بأقصى ما يمكن، وفعلهم ما يشاؤون بدون حسيب أورقيب أو مانع.

وأعظم مانع بل المانع الوحيد هو الإسلام بركنيه:

القرآن العزيز والعترة المطهرة.ا.

ص: 144


1- الشيخ الأميني. الغدير. ﺟ 6 ص 196 فراجعه، لتعرف تفاصيل قصته وحيثياتها.

فما دام الإسلام في الساحة يوجّه الجماهير ويدفعها لساحة الصراع فلا بقاء لهم ولا هناءة.

ومن وسائل السلطات الجائرة في ازاحة الأئمة من أهل البيت (علیهم السلام) عن ساحةالتوعية والتأثير في الأمة هو قطع سبل الاتصال بينهم وبين الأمة بمختلف الوسائل الواقعة تحت دائرة سيطرتهم من ترغيبٍ وترهيب.

وتحت نفس هذه القاعدة نلمس عدم نقل حديثٍ واحدٍ في فروع الفقه عن سيّدالشهداء في فترة إمامته، وهذا يعني أنّ اقبال الناس على أهل البيت (علیهم السلام) وصل إلى مستوى الصفر (1).

الكوفة كمنطلق للثورة، لماذا؟

البعض أشار على سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه وسلامه بعدم التوجه إلى الكوفة لأن أبيه وأخيه قد خُذلوا في تلك الربوع من أهلها، وفي هذا ما ينأى بالمرء عن الثقة بهم، وجاءت الأحداث فيما بعد لتؤكد صحّة هذا الرأي بحسابات الربح والخسارة الظاهرية الآنية، وبقي هذا الأمر مثاراً للتساؤل عبر التأريخ، والوحيد الذي شخّص الظرف بما يقتضي المسير إلى الكوفة والأخذ برسائل أهلها هو: مسلم بن عقيل(رضی الله عنه).

والفرق بينه وبينهم أنه دخل الكوفة، واتصل بأهلها وزعمائها، وسمع كلامهم، ورأى حالهم، واطّلع عن قُرب على وضعهم النفسي والإجتماعي والعسكري والسياسي، فشخّص صحة اعتماد موقف أهل الكوفة، وصحة العزم على المضي في

ص: 145


1- مقالات تأسيسيّة، السيد الطباطبائي، ص 198 ، ولكن هذا غير تامٍ، لوجود مجموعة من الاحاديث الفقهية المنقولة عن سيد الشهداء، وان كانت قليلة ولا تدفع المطلب الذي طرحناه في المتن، فراجع لتلك النصوص: مسند الإمام الشهيد، للعطاردي، ﺟ 3ص 220 وما بعدها.

طريق مقاومة الفئة الحاكمة اعتماداً عليهم، مع أنه خبير بنفسية أهل الكوفة وغدرهم، إذ كان أهل البيت (علیهم السلام) لا زالوا يعيشون آثار محنة أمير المؤمنين (علیه السلام) في الكوفة، ومحنةتسليم الإمام الحسن السبط (علیه السلام) العالم الإسلامي إلى معاوية، وكل المآسي التي جَرَتْ يعود ركنها الركين إلى عاملين:

أ- إجرام معاوية ومؤامراته وحملاته العسكرية.

ب- غدر أهل الكوفة في عهودهم مع الإمام، وتقاعسهم عن نصرته، وعن حماية أنفسهم ودينهم، ظناً منهم أن الأمر ينتهي بتسلّم معاوية للحكم، وما دروا أن تسلّم معاوية لدفّة الحكم أول أهدافه، وإن البقية تأتي، فما صدّقوا بحرارة النار حتى لمسوها بل دخلوها بنسائهم وصبيتهم فاكتووا بنارها عشرين عاماً، وقد استغاثوا بالإمام كل هذه السنين وعاهدوه على النُصرة، واكدوا له سلامة موقفهم هذا وواقعيته بمختلف أنواع التأكيدات، وما أعجب فعلهم وما أشد انطباقه على ما حكاه الله سبحانه عن أهل جهنم: «وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَکَاذِبُونَ»، «اسْتَحْوَذَ عَلَیْهِمُ الشَّیْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِکْرَ اللَّهِ».

فمسلم عارف بغدرهم، وعمره حينذاك قرابة الخمس والأربعين عاماً، فقد عاش مأساة عمه وابن عمه، فتشخيصه عين الواقع إلاّ أن الأمور انقلبت بحضور ابن زياد وإظهاره القسوة، وبغدر أهل الكوفة، وانهزامهم دون أن يواجهوا خطراً يُذكر.

ولعل هذا من أسرار إرسال الإمام لمسلم -مع علمه بحقيقة الوضع فعلاً وَبِمآلِهِ - فإن مسلماً قد شخّص الأوضاع الفعلية بما يقتضي الاعتماد تماماً حتى أنه استعجل حضور الإمام.

لكن، ما الذي دعا الإمام (علیه السلام) إلى الاستجابة لنداء أهل الكوفة، واعتمادهم في حركته، وترتيب الأثر على كتبهم وعهودهم، وتصديقهم في دعواهم نصرته، وقد عاش

ص: 146

تقاعسهم بل تقاعس عموم الأمة -غير ثُلّة من الربانيين- عن نُصرة أبيه أمير المؤمنين وأخيه الحسن السبط (علیهم السلام) من قبله، بل إهمالهم لأوامر النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) ووصاياه، ومن أهمها تولية أمير المؤمنين (علیه السلام) للخلافة بعده، وكذلك رعاية أهل بيته من بعدما أخذ عليهم النبي العهود والمواثيق الغِلاظ.

وناهيك بما انتهت إليه وصايا يوم الغدير حيث خطب النبی (صلی الله علیه و آله) فيهم تلك الخطبة (1)العظيمة الطويلة في الهاجرة عند غدير خُمّ، إذ أعلن فيها تنصيب علي (علیه السلام) خليفةً له من بعده بأمر من الله سبحانه، كما أعلن أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهذا مقام ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه طير- فلاحظ: ما أفاض الله ورسوله على علي(علیه السلام)، ومن جهةٍ اخرى: موقف الأمة من علي (علیه السلام) ومقدار وفائها لعهد نبيّها ووصاياه- ثُمّ إنّ النبيّ دعا الله تعالى أن: ينصر من ينصرعلي، ويخذل من يخذله، وأن يلعن من ينصب له العداوة والبغضاء، ثم أمر عموم المسلمين بالسلام عليه بأمرة المؤمنين وممن قال له:

السلام عليك يا أمير المؤمنين: أبو بكر وعمر، وقال له عمر ايضاً: بخٍ بخٍ يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة (2).

ثم ما هي إلاّ أيام حيث أغمض النبي -روحي له الفِداء- عينيه مرتحلاً إلى ربّه، وإذا بالأمة تتكاسل عن دعم وليّها ونصرته وتخلد إلى الدعة، فلم يأل الإمام جهداً في دعوتهم إلى نُصرته، فما وجد إلاّ طريق الحرب مسلكاً، ولمّا لم يجد له في هذا الدرب أنصاراً وأعضاداً غير أهل بيته، وثُلّة قليلة من خيرة الصحابة- والإسلام العزيز في أول بذره- وعلم أن قيامه بالسيف سيؤدي إلى إبادته وأهل بيته وخيرة صحبه، وإلى إحاطة .

ص: 147


1- راجع: نفحات الأزهار، السيد علي الميلاني، ﺟ 6 ص 17 ، حيث نقل خطبة الغدير بطولها، وراجع: الغدير، الشيخ الاميني ﺟ 1 ص 31 .
2- الغدير، الشيخ الأميني، ﺟ 1 ص 510 .

الخطر العظيم بالإسلام والقرآن والجهود المحمدية - وقد بذل النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) عمره القدسي كله لإقامة ذلك الصرح الإلهي العظيم - توقف الإمام عن منازلتهم ومقارعتهم حتى جرّبت الأمة غيره - والبشرية طول تأريخها تأخذ العِظات من التجارب المُرّة ولا تُصغي لناصح أو مُرشد - ورأت ممّن اغتصب مقامه بدون مؤهلاتٍ فيه- بل مع كثرة الموانع من توليّه- أثرةً في المال، ومحاباة للأرحام بلا كفاءة أو استحقاق، وتوليته للفاسق الماجن المستهتر بأمر الاُمة، وإخماله للعالم الورع التقي الغيور على الإسلام والحريص لأجل الفوز بالجنان في الآخرة، وتغييره أحكام الكتاب والسُنّة، واضطهاده لكبراء المسلمين وأفاضل الصحابة الكرام وعظمائهم، ومن أعظم ما وقع - بنظر بعض، والاّ فاعظمها على الإطلاق ما جرى على آل محمد (صلی الله علیه و آله) من مظالم لم تجرِ على أية فئةٍ أو أسرةٍ في تأريخ الإسلام- تبذير الأموال، وتفضيل أفرادٍ غير مستحقين بها، والأمة كلها تعيش تحت مستوى الفقر(1) فانتفضت الأمة، وجرى ما جرى، وسارعت لتبايع أميرالمؤمنين (علیه السلام) فتمنّع عليها أولاً، ثم قام بالأمر، وأحسن الخلافة والسيرة، وساوى بين الناس جميعاً في العطاء، وما ترك مكرمة إلاّ وشادها، ولا رذيلة إلاّ ونكّسها، غير أن الأمة نكثت بيعتها بعد ان حليت الدنيا في أعينها، وملّت الحروب التي أشعلها من سماهم (2) النبی (صلی الله علیه و آله) بالناكثين- الزبير وطلحة وعائشة وأتباعهم -والقاسطين- معاوية وأتباعه -والمارقين- الخوارج- فما ترى إلاّ متكاسل عن نُصرة إمامه، أو متهالك على الرئاسةوالزعامة، أو ساخط لعدل الإمام في عطائه، أو متح عن قصد سبيله، وأما الأنصاروالأوفياء الربانيّون فقليل ما هم، حتى انتهت الأمور بأمير المؤمنين صلوات الله عليه .

ص: 148


1- راجع: لتفاصيل هذه الأحداث: كتاب الغدير، للشيخ الأميني، والنص والاجتهاد، للسيد عبد الحسين شرف الدين.
2- راجع: فضائل الخمسة، للفيروز آبادي، ﺟ 2 ص 358 .

إلى اضطراب كبير في أطراف دولته، وعيث المجرمين فساداً في أرجائها، واقتطاع أجزاءمهمة من بلاد المسلمين التابعة لحكومته، إلى أن آل الأمر إلى استشهاده في محراب المسجدالأعظم في الكوفة، ولمّا تتحقّق أهدافه كاملةً.

استلم قيادة الأمة الإسلامية وقام بالخلافة بعده ولده الإمام الحسن سبط رسول الله (علیه السلام) ، هذا الإمام العظيم الذي هضمت الأمة سابقاً حقّه، وجرى المتأخرون في مضمار من سبقهم فلا يذكرونه في جملة من تو الخلافة قبل الملك العضوض(1) -ملك بني أمية- وهذا إن دلّ فانما على موازين الأمة وَجٍٍِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِهَة ولائها، فتُغمِض عين اهتمامها عن أهل بيت النبي المطَهّرين، وتحتضن من زوى عنهم حقوقهم، وشمرّ الساعد، وحشّد الأنصار، في عداوتهم، ولاستئصالهم.

الإمام الحسن (علیه السلام) لم يأخذ بزمام الخلافة الظاهرية إلاّ بطواعيةٍ تامّةٍ من الناس فبايعوه على النُصرة والطاعة، لكنّهم ما لبثوا غير أيامٍ قلائل حتى دبّ فيهم الوهن، وروح التواكل، وفتور الهمم، وتخاذلوا وتقاعسوا عن نصرة الإمام، وتركوه لعدوّه، وغارات الطليق وشيعته مستمرة على الأطراف، يمعنون فيها قتلاً وهتكاً وسلباً حتى باعوا نساء المسلمين في الأسواق (2)وأعادوها جاهلية (3)بل تخجل الجاهلية من فعالهم، فماة.

ص: 149


1- المُلك العضوض: مُلكُ بني أمية، إذ ورد عن النبي(صلی الله علیه و آله): «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم الملك العضوض». وفعلاً فإن نظام الحكم قد تغ منذ استلام معاوية لزمام الحكم، فاصبح على النهج الملكي، أي: تسليم المنصب الأعلى في الدولة للأبناء، فراجع لمصادر هذه العبارة: النصائح الكافية لمن يتولى معاوية، للسيد محمد بن عقيل، ص 190 ، ومنها: الإبهاج، ﺟ 2 ص 367 .
2- الغدير، الأميني ﺟ 11 ص 31 ، عن الاستيعاب لابن عبد البر.
3- القرآن العزيز يقول: «وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِیَّةِ الْأُولَی» أي: هناك جاهلية ثانية، وهي التي عاشتها الأمة بعد رحيل الرسول الأکرم (صلی الله علیه و آله) وتعيشها إلى اليوم بسبب غياب القادة الحقيقيين للأمة - وهم من نصّ النبی (صلی الله علیه و آله) عليهم اسماً وصفة- عن مقام الخلافة.

رأى السبط غير ترك الخلافة بعد أن عزّ النصير، وقارب معاوية تحقيق آماله بالاستيلاءعلى عموم حواضر العالم الإسلامي، واعتقال الإمام وشيعته المخلصين، وتسيير الاُمور وفق ما يشتهي، فصالحه الإمام السبط على شروط يُمكن من خلالها المحافظة على أصل الإسلام بل على عمومه، وكذلك المحافظة على البقية الباقية من رجالات المسلمين العقائديين، ريثما ترى الاُمة من خذلت وعن جهاد من تقاعست.

فموقف الاُمة عموماً وأهل الكوفة خصوصاً من النبی (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين والإمام الحسن السبط -ولا ننسى موقف الأمة المخزي من الزهراء البتول- صلوات الله عليهم أجمعين بمرأىً من الإمام ومسمع، إذ كانت دولة الإسلام المترامية الأطراف بيد أبيه وأخيه، فسلب معاوية الطليق -الذي ما أسلم حتى فَتْحِ مكة، بل ع أباه إذ أسلم قبل الفتح بساعات، واتهمه بالجبن- تلك الدولة التي بناها سيد المرسلين (صلی الله علیه و آله) خلال سنين طوال مليئة بالأحداث الجِسام، وَرَكِبَ معاوية بالناس كُلّ صعبٍ وذلول، تهالكاً منه على الدنيا، والناس معه عليها عكوف.

خذلان أهل الكوفة بالخصوص للإمامين (علیهما السلام)من الواضحات، فما الذي جعل الإمام (علیه السلام) يختار الطريق الذي مشى فيه، والذي انتهى به إلى تلك الفاجعة العُظمى؟

فلنحاول استكناه جوهر الأحداث قدر ما يُمكن لنا، مَعَ أننا لا نشك أن لثورته أسراراً غيبية سيكشفها الزمان شيئاً فشيئاً، كما كُشف بعضها عبر السنين الخالية، وقد يكشف الولي الغائب إمام عصرنا عجَّل الله تعالى فرجه الشريف بعضاً منها، بل إنّ قسماً منها سينكشف مغزاه يوم القيامة بعد العرض على المولى سبحانه حين لا محذور من رفع الحجب وتبيين حقائق الخلقة والتشريع كما هي، وبعد انقضاء زمن التكليف، فلابد حينذاك من ظهور الحقائق كما هي، واتضاح علل التكوين والتشريع.

وكيف كان، فالجواب عن هذا التساؤل المشروع جداً سيتّضح مما سنسرده في ثنايا

ص: 150

البحث.

قد يقال: أنّ كل ما قدمناه يزيد الإشكال تجذُّراً، ويُبقي التساؤل قائماً -بالإضافةإلى إشكال أصل قيام الثورة- عن الوجه في اختيار الكوفة منطلقاً لها، وحال أهلها ما قدّمناه من مواقفهم الغادرة المعروفة حتى أصبحت سمةً لهم يُعرفون بها، ثم إنّ بعض الشخصيات (1)المهمة أشارت على الإمام بالتوجّه إلى اليمن، فلم يرتضِ الإمام ما أشارت به وأصر على التوجه إلى الكوفة.

أما مسألة التوجه إلى اليمن فإن الشبهة قد تنقدح بادئ ذي بدء في الذهن، وتتأكدبعدما نعرف أنّ من طرحها على الإمام إنّما هو ابن الحنفية أو ابن عباس وكلاهما من الإخلاص للإمام بمكان، كما لهما من التجرية الاجتماعية، والمعرفة بالناس، ما لايستهان به.

لكن هذا الطرح غير صحيح لوجوه:

أ- وهذا جواب عام: إن الإمام الحسين (علیه السلام) معصوم من الخطأ بالنصوص القطعيةمن القرآن والسُنّة، وعدم اختياره لليمن في حركته أمارة على خطأ هذه الفكرة، وهذاواضح.

ب- إن اليمن دخلت في الإسلام - أيام النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) -على يد أمير المؤمنين، إذ أن النبی (صلی الله علیه و آله) بعث خالد بن الوليد مع جماعةٍٍٍٍٍٍِِِِ لدعوةِ أهلِ تلك البلاد إلى الإسلام فلم يُفلح خالد ومن معه في قليل ولا كثير مع أن مدة مهمتهم هذه طالت قُرابة الستة أشهر، فبعث النبی (صلی الله علیه و آله) أمير المؤمنين لإنجاز المهمة، فقام الوصي (علیه السلام) بتلك المهمة ودخلت قبائل بأكملها في الإسلام خلال أيام، وتتابع انتشاره هناك بدون قتال، إلى إن عمّ الدين .

ص: 151


1- منهم: محمد بن الحنفية، أخو الإمام الحسين (علیه السلام) راجع: الملهوف، ص 128 وحياة الحسين (علیه السلام) ﺟ 3 ص 31 ، وكذلك: ابن عباس، راجع: حياة الحسين (علیه السلام) ﺟ 3 ص 26 .

الجديد ارض اليمن.

فاليمن اعتنقت مع الإسلام ولاء علي(علیه السلام)، كما كان لها دور أيام خلافته في مكافحةمناهضيه في حروبه المختلفة، واستمر دورها معه وبعده في أُمور مهمة جداً ليس هنامحل التعرض لها.

ولولاءهم العميق هذا لسيد الأوصياء جهّز معاوية جيشاً ضخماً أيام خلافةالوصي وأرسله من الشام إلى اليمن فدَمّر هذا الجيش مناطق عدّة، ثم لمّا بلغ اليمن فَعَلَ الأفاعيل بأهلها حتى ذبح أطفالها وباع نسائها في الأسواق، وكل هذا لتشيّعهم لعلي(علیه السلام)، فتشيّع اليمن وولاؤهم لعلي (علیه السلام) وانتهاجهم خطّه مما لا ريب فيه ولا شبهةتعتريه، فإشارة من أشار على الإمام بالذهاب إلى اليمن، بلحاظ هذه التفاصيل كلها وغيرها، في محلها وقد أصابوا فيما به أشاروا.

ولكنّ الملاحَظ: أنّ أهل اليمن لم يُرسلوا رسائل إلى الإمام، أو يتصلوا به بأي شكلٍ من الأشكال يدعونه فيها إلى المصير إليهم والسكنى عندهم.

كما لم يلتمسوا منه مساعدتهم في التخلص من حُكْمِ بني أمية، أو يعاهدوه على تأييده في حركته ودعم نهضته، وإسناد عدم مبايعته ليزيد.

وباختصار: لم يتحرك منهم ساكن في محنة الإمام هذه، فما الذي جرى لهم؟

وللجواب عن هذا:

أ- إن بعض قبائل اليمن الموالية للإمام الوصي(علیه السلام)، قد انتقلت في سكناها من اليمن إلى الكوفة أيام حكم الوصي(علیه السلام).

ب- إن الضربة التي وُجِّهت إلى اليمن أيام حكم الوصي، والإسلوب القمعي الذي اتبعه معاويه أيام حكمه مع مناطق العالم الإسلامي عامة، والمناطق الموالية للإمام

ص: 152

الوصي (علیه السلام) خاصة، أوجعا أهل اليمن، وأدّيا إلى تبديد قوتهم، وتشتيت شملهم، وإخراجهم من ساحة الصراع.

ﺟ- إنّ في الكوفة خصائص لا تتوفر في اليمن، تجعل الإمام (علیه السلام) لا يُقَدِّم أيّة منطقةٍ عليها - مع ملاحظة أهدافه في حركته-.

فَعَدَمُ تواصل أهل اليمن مع حركة سيد الشهداء يَصْلُحُ سبباً لعدم الالتفات إلى اليمن، ولعدم التوجه إليها، إذ لا اعتماد عليها في حماية الإمام وضمان سلامته، وتقوية حركته.

وأمر آخر: إن هدف المشيرين على الإمام بالذهاب إلى اليمن إذا كان لحماية الإمام ودفع خطر الدولة عنه من اغتيال ونحوه.

فان هذا النظر خاطئ، لأن اليمن لا تعصم الإمام من هذه الجهة إذ أن جيوش بني أمية كان بإمكانها الوصول بسهولة إلى اليمن وتدميرها، كما حصل أيام معاوية من الجيش الذي قاده بُسر بن أرطأة إذ دمّر قبائل اليمن تدميراً.

فاليمن التي لم تكن قوتها كافية لتحمي نفسها، وكانت يومها تحت حكم الوصي، كيف تحمي الإمام في هذا اليوم، ولو اعتصم الإمام بها لجهّزت الفئة الحاكمة له جيشاًهائلاً، ووصلت إلى نفس النتائج.

هذا كله، مع أن الأهم في الملاحظة خصوصية الكوفة، وجوانب تفضيلها على بقيةالبقاع في الحركة الحسينية، ويُمكن ذكر ما يلي:

1- ان مجرّد إعلان أهل الكوفة إستعدادهم لمعاضدة الإمام (علیه السلام) ومناصرته إلى حين تحقيق أهدافه التي هي في نفس الوقت هدف لهم، خصوصاً ما كان يتعلق منها بإزاحة الفئة المتسلّطة على الحكم والتي عانى منها أهل الكوفة مختلف صنوف الامتهان

ص: 153

والاذلال، هو أمرٌ مهم جداً في حدّ ذاته فإن توجّه الإمام لهذه البلدة واعتماده على أهلها يصبح أمراً منطقياً.

2- طول فترة إبداء أهل الكوفة لاستعدادهم، فقد بدأ هذا الإبداء والاعلان للاستعداد عند البعض من الكوفيين منذ صلح الإمام الحسن، والبعض الآخر منذاستشهاد الإمام الحسن (علیه السلام) أي قبل نهضة الإمام الحسين بعشر سنوات، وجمع آخر عندهلاك معاوية، وهكذا..

3- أدى اختيار أمير المؤمنين (علیه السلام) الكوفة كعاصمة له -وليس من الواضح فعلاً إن اتخاذه لها كعاصمة كان بشكل مؤقت، وذلك للبقاء على مقربةٍ من معاوية رأس الفتن كلها في عهد أمير المؤمنين، أم كان الاتخاذ بشكل دائم لمصالح في البين- إلى تجمّع محبيّه وشيعته وأنصاره فيها، بالإضافة إلى من هو مِن أهلها أصلاً، وهذا يرجّح ولا ريب كفّة الكوفة عند المفاضلة بينها وبين غيرها كمركز لإعلان الثورة على بني أمية.

4- إن السبب المحتمل لاختيار الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) الكوفة كعاصمة له -وهو الكون على مقربة من مقر الحكم الأموي، لتوجيه الضربات المتتالية لمعاوية، لشلّ حركته ولإسقاط حكمه- هو بنفسه السبب لإختيار الإمام الحسين (علیه السلام) لها كمركز لمحاربةالسلطة الأموية بغية إسقاطها.

ومن المُلفت للنظر إن الإمام المهدي (علیه السلام) سيختار الكوفة أيضاً مقراً لحكمه، وسيكون في دمشق في الفترة المتزامنة مع ظهوره (علیه السلام) رجل من نسل معاوية يحكمها، ويحتوي إهابه على نفس جوهر الذات الخبيثة التي تتوفر في معاوية ويزيد، ويُدعى بالسفياني.

5- إن الظُلم الأشدّ حصل من طرف بني أمية تجاه الكوفة بشكل خاص، فقد عانى الكوفيّون من إجرام معاوية ووُلاتِهِ بما لا نسبة فيه مع مقدار معاناة أهل بقية

ص: 154

أقطار العالم الإسلامي، ولذلك كاتبوا الإمام سنين كثيرة، واستنهضوه وعاهدوه على الاستماتة في سبيله، فكان من الطبيعي أن يُقدِِِِِّم الإمام اختياره للكوفة على غيرها.

إنّ هناك أمر ينبغي الالتفات إليه جيداً، وهو أن الكوفة بقدر ما عُرف عنها من غدرٍ ونكول عن الالتزام بالوعود والعهود- وهذا له مصاديق كثيرة، منها: مع الإمام الوصي، ومنها: مع الإمام الحسن، ومنها: مع مسلم، ومنها: مع سيد الشهداء الحسين، ومنها: مع التوابين، ومنها: مع زيد بن علي، وغيرهم- إلاّ أنها مدينة دائمة الثورةوالفوران، وقد لقي منها الطرف الآخر من أهل الحكم صِداعاً دائماً وأَرَقا، وعاملهاالبعض منهم بالحديد والنار.

هذا عمر يقول: غلبني أهل الكوفة، أستعمل عليهم المؤمن فيضعف، واستعمل عليهم الفاجر فيفجر (1).

وهذا عثمان: تحرّك ضدّه أهل الكوفة بعدما ضربوا صاحب شرطته عليهم، وساروا إليه - عثمان- منهم: مالك الأشتر، وكميل بن زياد، وجندب، وصعصعة بن صوحان، وزيد بن صوحان، وآخرون، فوجّه عثمان إلى واليه أمراً بما يُشغل هؤلاء ويبعدهم عن الكوفة، فلما قدموا الشام، قال لهم معاوية:

إنّكم قَدِِمتم بَلداً لا يعرف أهله إلاّ الطاعة، فلا تجادلوهم فتُدخلوا الشكّ قلوبهم.

فأجابه الأشتر: إنّ الله قد أخذ على العلماء مَوْثِقاً أن يبيّنوا علمهم للناس، فإن سألنا سائل عن شيء نَعْلَمْهُ، لم نَكْتُمْهُ.

فقال معاوية: قد خفت أن تكونوا مرصدين للفتنة، فحبسه (2).

ولم يقتصر حال الكوفة على هذا أيام عمر وعثمان ومعاوية والحجاج وغيرهم، بل .

ص: 155


1- النصائح الكافية لمن يتو معاوية، للسيد محمد بن عقيل، ص 210 .
2- تأريخ المدينة المنورة، ﺟ 3 ص 1141 .

هي كذلك إلى اليوم، أرق دائم وصداع لكل من يتو حكمها من الطرف الثاني.

إننا لا نغفل معصومية الإمام صلوات الله عليه في اختياره، ولا نغفل حقيقة توفّر سبب غيبيّ أو توجيه ربّاني مؤثر في حركة المعصوم، إلاّ أن هذا لا يُمكن اعتماده كقاعدة في تفسير تحركات المعصوم وكيفية إدارته لشؤون الأمة واحتياجاتها، بل العكس هو الصحيح بعدما كان أهل العصمة أعلام هداية، وبعدما كان عملهم أمارةَ تكليفٍٍ بالنسبة لنا كقولهم وتقريرهم، فلابدّ -دائمًا- من البحث عن النصوص والقرائن الصالحة لتفسير قول المعصوم وفعله وتقريره، للاستنارة بهدي توجيهه، ولا تباعه في عقيدتنا وسلوكنا، كي نُبرئ ذمتنا، ونسعد في حياتنا، ونرتكب الصواب المؤدي إلى رضا المولى سبحانه بغضّ النظر عن نتائج العمل الفعلية، كما أننا لا ندّعي الإحاطة بأسرار حركة المعصوم وعللها - وأنّى لنا ذلك أو لغيرنا- وإنما علينا إلقاء دلونا في الدلاء، للمشاركة قدر ما يتهيأ لنا في خدمة هذا النهج، وفي إحياء أمر أهل البيت صلوات الله عليهم وسلامه، والتوفيق من المولى جلّ وعلا.

نقطة إبتداء الأحداث، والسبب الأول للثورة:

تحرّك أهل الكوفة بعد شهادة الإمام الحسن السبط(علیه السلام)، ذكر الشيخ المفيد عن جمع:

أنه لما مات الحسن بن علي (علیهما السلام)تحركت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين (علیه السلام) في خلع معاوية والبيعة له، فامتنع عليهم وذكر أن بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدة فإن مات معاوية نظر في ذلك (1).

يظهر من ابتداء الشيخ المفيد (قدس سره) بيانه حول نهضة الإمام بما تقدّم إن أول نقطة تبتدأ

ص: 156


1- الشيخ المفيد، الإرشاد ﺟ 2 ص 32 ، وذكر جمع سببيّة طلب أهل الكوفة من الإمام النهضة كعلّة لحركته (علیه السلام) وممّن تعرّض له: السيد محمد الصدر، في كتابه: اليوم الموعود، ص 618 .

منها الحركة الحسينية هي هذه بنظره الشريف.

والذي نستقربه أن اعتبار هذه الخطوة هي الأولى في مسيرة الحركة الحسينية له ما يبرره، غير أنها على نحو الأول الإضافي لا الحقيقي، إذ يُمكن جعل أمور أخرى نقطةً لابتداء الأحداث، منها:

صلح الإمام الحسن(علیه السلام)، بل استشهاد أميرالمؤمنين (علیه السلام)

ويمكن اعتبار الخطوة الأولى المباشرة هي هلاك معاوية، وما استتبع هذا من هيجانٍ للناس، ورغبة عندهم في استباق الأحداث قبل أن يعتلي يزيد دست الحكم، أو يستقرّ عليه.

إننا لا نملك نصاً ينسب البادرة الأولى إلى الإمام (علیه السلام) وإن كان عدم الوجدان لايدلّ على عدم الوجود، وعدم المثبت لا يدلّ على عدم الحصول، خصوصاً مع معتقداتنافي المعصومين، وما قد يحصل لنا من يقين، بسبب تراكم شواهد وقرائن متعددة، بوجودتحرك مع لهم (علیهم السلام) في تلك الظروف العصيبة المصيرية من تأريخ الإسلام والمسلمين.

فالمانع لسيد الشهداء عن الاستجابة لمقترحات الشيعة في العراق بخلع معاويةوالبيعة له إنما هو لوجود عهدٍ وعقدٍ بينه وبين معاوية لا يُمكن نقضه شرعاً، فإن مات معاوية فقد تحلّل الإمام من عهده، وكان له النظر في بيعة أهل الكوفة له.

ويظهر: أنّ بموت معاوية، واستمرارية أهل الكوفة على موقفهم في معاضدة الإمام، وإصرارهم على بيعته ونصرته حتى تتحقق أهدافه المقدسة، فإنّ هذا يوجب على الإمام القبول وترتيب الأثر (1)، وهذا له أمثال في مواقف أهل العصمة، مِن قَبْلِ الحسين، ونصوص معاضدة له من بَعْدِ عَ هْرصِ، ويمكن استنباط قاعدة كلية في هذا

ص: 157


1- بحار الأنوار، ﺟ 44 ص 369 عن ابن نما: إن سبب عدم رجوع الإمام، وعده لأهل الكوفة.

المجال، بأنّه:

«مع مُعاهَدة الناس الجدّية على معاضدة المعصوم، وكان بهم الكفاية، وجب على المعصوم النهضة، مع عدم مزاحمة تكليف آخر في البين».

فإذن السبب الأول للنهضة هو: تحرك الشيعة في العراق، ومعاهدتهم الجديةللمعصوم على نصره، وتحققّ الكفاية بهم، وليس من محذور آخر واضحٍ في البين، بل الدواعي متوفرة على لزوم النهضة واستغلال الفرصة لأقصى حد.

وما تقدّم: مجيب لبعض الشيء على التساؤل المتقدم في علة استجابة الإمام (علیه السلام) لنداء أهل الكوفة، وترتيبه الأثر عليه، وفي وجه اتخاذه الكوفة منطلقاً للثورة، وما يكمل الصورة واضحة يأتي إن شاء الله تعالى.

هذا وقد كتب جعدة بن هبيرة (1)- وهو ابن عمة الإمام الحسين، وكان من أخلص الناس له على حدّ تعبير الشيخ القرشي - بعد اجتماع الشيعة عنده، والحاحهم عليه، لغرض الكتابة للإمام لدعوته للثورة:

أمّا بعد، فإنّ مَنْ قِبَلَنا مِنْ شِيعَتِك مُتطلعةٌ أنفسهم إليك لا يعدلون بك أحداً، وقدكانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب، وعرفوك باللين لأوليائك، والغِلظة على أعدائك، والشدّة في أمر الله، فإن كنت تحب أن تطلب هذا الأمر فاقدِم علينا، فقد وطّنا أنفسنا على الموت معك.

فأجابه الإمام (علیه السلام) على ما روُي:

«أما أخي فإ أرجو أن يكون الله قد وَفَّقَهُ وسدّده، وأما أنا فليس رأيي اليوم ذاك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنّة، ما دام معاويةف.

ص: 158


1- عن الأخبار الطوال وأنساب الأشراف.

حياً، فإن دُحيِث الله به حدثاً وأنا حيّ كتبت إليكم برأيي، والسلام».

يرى الشيخ القرشي: إنّ سرّ هذا لِعِلْمِ الإمام بفشل الثورة، فان إمكانات معاويةتسهّل له إخراج الثورة من إطارها الإسلامي إلى حركة متمردة (1).

أقول: لعل السر هو وجود العهد بين الإمام ومعاوية، وإلاّ فمع تهيؤ إمكانيات النصر للإمام فلا يهمّ ما سيصوّره معاوية وينشره حول ثورة الإمام، لأن الإمام سينتصربالتالي، أو سيدوّي صوته في الإرجاء، ويصحح نظرة الأمة حول ثورته.

ورجحّ الشيخ القرشي: إنّ رسالة جعدة هذه صدرت أيام زياد الذي سمل عيون الشيعة وصلبهم على جذع النخل ودمّرهم تدميراً ساحقاً (2).

وقد ذكرنا: إن استجابة الإمام لنداء أهل الكوفة واستغاثتهم، فَلِعِلّة توفر الأنصاروكفايتهم، ولهذة الاستجابة أمثال: فمنها:

1- إن الإمام الحسن السبط (علیه السلام) لم يخرج إلى الناس لأخذ بيعتهم بعد استشهادالإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) مع أنه الإمام المعصوم والخليفة عن رسول الله بالنص إلاّ بعدعرض الأمر على الناس وإعراب الحاضرين عن رغبتهم في مبايعة الإمام (3).

2- إن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد خذلان الناس له يوم السقيفة -وكان قد دعاهم إلى نصرته وأكّد هذا عليهم وحاول ما حاول فل يئس من نصرهم ومؤازرتهم إلاّ من نفرٍ قليلٍ دون الحدّ الأدنى المطلوب لتحقيق النصر والهدف- اعتزل الحياة العامة بعض الشيء، لكنّه بعد مقتل عثمان وانثيال الناس عليه وإصرارهم على مبايعته (4)، حاول أمراً .

ص: 159


1- الشيخ القرشي، حياة الإمام الحسين (علیه السلام) ﺟ 2 ص 230 .
2- الشيخ القرشي، حياة الإمام الحسين (علیه السلام) ﺟ 2 ص 230 .
3- مسند الإمام المجتبى، العطاردي، ص 267 وما بعدها.
4- السيد الرضي. نهج البلاغة، الخطبة 3، الخطبة 229 .

غير هذا، ولعلّه لمعرفة تصميمهم وإصرارهم- فلما رأى منهم العزم والحزم في تأييده نهض بالأمر، وحمل لواء الخلافة الظاهرية.

3- ولعلّ مبايعة الأنصار للنبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) حين كان بمكة بيعة العقبة الأولى والعقبة الثانية ودعوتهم إياه إلى ديارهم ومعاهدتهم إياه على نصرته وحمايته من أعدائه ضِمن هذا السياق، ممّا أدّى بالنبی (صلی الله علیه و آله) إلى دعوة المسلمين إلى الهجرة إلى حيث المأمن والمستقر -يثرب- ثم مهاجرته بنفسه المقدسة، وبدئه ببِناء كيان الدولة الإسلامية، وشروعه بتحطيم معاقل الشرك والوثنية بل الكفر عموماً.

وكذلك الحال في بيعة الرضوان، إذ مبايعة المسلمين للنبی (صلی الله علیه و آله) تفسح المجال له (صلی الله علیه و آله)في اتخاذ تدابير حاسمة ضد أعداء الدين، وفي العمل دِهلَِّ معاقلهم وكيانهم.

ولعل سر أخذ البيعة والمعاهدة إنما هو هذا، فالبيعة لا تكون السبب في تأهيل أهل العصمة(1) لمقاماتهم، ولقيادتهم للإسلام والمسلمين، ولاعتلاء مقام الإمامة، ولا لتسنّم ولاية الأمر أو الخلافة الظاهرية، وباختصار لا سببيّة فيها لأيّ منصب من مناصبهم أبداً، فهذا أمرٌ استحقّوه بتعيين الله سبحانه لهم فيه، وبتبليغ النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) بالنصّ القطعيّ الواضح، لمكان مَلَكا مِهتِ وطهارتهم وتفرّدهم عن عموم أفراد الجنس البشري بمراتب من الإيمان والقُرب من المولى سبحانه لا نظير لها، أنتجت إفاضة المولى عليهم مواهب خاصّة ميّزتهم عن عامّة الخلق، وسهّلت لهم أمر قيامهم بخلافة الله في أرضه، بل الأولى الاعتراف بالعجز عن الإحاطة بخصائصهم بعدما ورد في حقهم ما ورد في كتب عامة المسلمين، ومن طرق أوليائهم وأعدائهم على السواء ما يُخضع الأعناق. .

ص: 160


1- راجع لمعنى البيعة ما ذكره الشهيد المطهري في الملحمة الحسينية ﺟ 3 ص 106 ، وراجع أيضاً: دراسات في ولاية الفقيه، للشيخ المنتظري ﺟ 1 ص 523 ، وكتاب: المرجعيّة والقيادة، للسيدكاظم الحائري، ص 72 .

إنما البيعة إذا تمّت، والمعاهدة على النُصرة لو تحققت، والاستماتة في سبيل المعصوم وأهدافه، وإعلان الإطاعة التامة لأوامره، تُلزم المعصوم بالقيام بالأمر وتحتّم عليه الاستجابة، وما كان الله ليذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيى من حيّ عن بيّنة.

ومن المعلوم: أنّ النهضة، واستلام الأمر، وتحكيم الشريعة في مسرح الحياة، هي من أولويات أهداف المعصومين (علیهم السلام)، وهم والناس مأمورون بالتعاضد لتنفيذها، كما أن الأئمة (علیهم السلام) في دعوةٍ دائمةٍ للناس إليها، لكن لمّا جرت الأحداث في المجتمع الإسلامي بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالشكل الذي حصل، وَتَقاعَسَ(1) الناس عن أهل البيت (علیهم السلام) ، لم يتصدّ الأئمة مباشرة للدعوة لنصرتهم - إلاّ فيما قلّ- لأن أمارات الفشل لائحة، لكن لو أعلنت الأمة معاهدتهم ومساندتهم وطاعتها المطلقة لهم، فإن تصدي الأئمة للقيادة لازم، واستلامهم لزمام الخلافة الظاهرية متعين.

في نهج البلاغة، عن أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه وسلامه:

«فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لو لا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء، أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، وسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه عندي أزهد من عفطة عنز». (2)

ومما قاله أحد شيوخ عشائر الكوفة وهو عبد الله بن الحصين الأزدي للإمام الشهيدصلوات الله عليه: .

ص: 161


1- راجع حول هذه النقطة من النهضة الحسينية ما كتبه الشهيد المطهري في الملحمة الحسينية ﺟ 2 ص 236 .
2- نهج البلاغة: تحقيق صبحي الصالح، الخطبة الشقشقية ص 50 .

يا حسين سنشكوك إلى الله تعالى يوم القيامة إذا لم تُلبّ طلبنا (1).

فبورود الرسائل إلى سيد الشهداء (علیه السلام) تستصرخه وتعاهده على النُصرة لزم على الإمام (علیه السلام) الاستجابة وتوليّ الأمر والنهضة بمن معه.

وقد نقل عن الإمام (علیه السلام) إجابته للطرماح حين ذكر له بأن في طي عشرين ألفاً يدفعون عنه إن لجأ إليهم: بأن بينه وبين أهل الكوفة عهداً لا يستطيع مخالفته (2).

هذا ما كان من أمر السبب الأول من أسباب إعلان الثورة الحسينية المباركة وهو:

معاهدة الناس للمعصوم على النُصرة، فلزم القيام وإعلان الثورة.

السبب الثاني: الإمتناع من البيعة (3)

عن سيد الشهداء(علیه السلام): «والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايَعْتُ يزيد بن معاوية أبداً». (4)

وعنه (علیه السلام) قوله يوم الطف: «أما والله لا أُجيبهم إلى شيءٍ مما يريدون حتى ألقى الله .

ص: 162


1- الشيخ القرشي. حياة الإمام الحسين (علیه السلام) ﺟ 2 ص 272 .
2- بحار الأنوار، للشيخ المجلسي، ﺟ 44 ص 369 ، وحياة الحسين (علیه السلام) الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 85 ، ولاحظ: مقتل الحسين (علیه السلام) للسيّد المقرّم ص 187 ، إذ نقل عن الإمام (علیه السلام) قوله للطرماح: «ان بيننا وبين القوم عهداً وميثاقاً ولسنا نقدر على الانصراف حتى تتصرّف بنا وبهم الامور في عاقبة».
3- يؤكد الشهيد المطهري على مسألة رفض البيعة كعامل أساس في إنطلاق الحركة الحسينية، وينفي مدخلية دعوة الناس للإمام، بحجة أن حصولها بعد رفض الإمام للبيعة بشهرين، وتأكيده على أن دعوة أهل الكوفة مُسَّبَبة عن رفض الإمام للبيعة، ويقول أن رفض البيعة اعطى للحركة أهميتها، ويؤكد على أن الإمام رفض البيعة لتخوفه من تحول الخلافة إلى كسروية. راجع الملحمة الحسينية، له: ﺟ 1 ص 22 ، ﺟ 2 ص 30 - 32 ، ﺟ 2 ص 237 - 238 . اقول: إنما رفض الإمام البيعة لتوفّر الأنصار، ولمعاهدتهم على الطاعة، كما أن تخوفه من تحولها إلى كسروية، وانحصار رفض البيعة بهذا يفتقر إلى دليل.
4- معالم المدرستين ﺟ 3 ص 302 .

وأنا مخضّب بدمي». (1)

لا يبايع سيد الشهداء وقد نُقل مبايعة الإمامين قبله لمن استحوذ على مقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) بل مبايعة عموم الأئمة (علیهم السلام) لمن ترأس في زمانهم.

ورد عن مولانا صاحب العصر المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف): «إنّه لم يكن أحدٌ من آبائي إلاّ وقدوقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإ أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي». (2)

ثم ما علّة أن يبايع سيد الشهداء لمعاوية، ويمتنع عن المبايعة ليزيد، حتى مع تأديةهذا الامتناع إلى دفع الإمام حياته المقدسة في قِبالِه؟

والجواب: فرق شاسع طبعاً بين من يتولى الخلافة ويتظاهر بالإلتزام ببعض المظاهرالدينية، ويحافظ بعض الشيء على مقدّسات المسلمين، ولا يُلقي جلباب الإسلام، ولايتجاهر بالكفر والزندقة والمعاصي الكبيرة أمام الملأ، وبين من لا يكون مسلكه هذا.

فرق كبير بين الحاكم الذي يكتفي بكسر شوكة المعارضة، وبين من يحاول سحق شخصيتها، بكُلّ ما تعنيه كلمة السَّحق من أبعاد.

ولو ألقينا نظرة على سيرة يزيد وطريقة حكمه وحكم ولاته لرأينا انطباق الشكل الثاني من إشكال الحاكم عليه بألعنِ صوره.

فعن الإمام(علیه السلام): «ألا وإنّ الدعيّ بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون، وحجور طابت وطهُرت، وانوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن تُؤثِر طاعة اللئام على مصارع الكرام». (3) .

ص: 163


1- مقتل الحسين (علیه السلام) ، السيد محمد بحر العلوم، ص 36 .
2- الاحتجاج، ﺟ 2 ص 544 ، والبحار ﺟ 45 ص 12 .
3- معالم المدرستين، السيد العسكري، ﺟ 3 ص 101 .

وعنه(علیه السلام): «لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد». (1)

ونرقب طريقة ابتداء يزيد لعهده، فقد بعث لوالي المدينة بلزوم أخذه للبيعة من الإمام أو قتله.

وكذلك طريقة معالجته لثورة أهل المدينة، وثورة ابن الزبير، وطريقة تعامله مع ثقل آل محمد في كربلاء حيث أخذهم أسرى، وعاملهم أشدّ المعاملة وأسوءها ابتداءًمن قطع المياه عنهم، وقتل أطفالهم في ساحة المعركة، ثُمّ تسييرهم مِنْ بَعْدُ إلى الكوفةفالشام.

وأمّا ماحصل من مراعاة جانبهم عند سفرهم من الشام إلى المدينة فهذا كان بتصرّف شخصي من أحد الحرس دون اهتمام حقيقي من يزيد، إلى غيرها من الوقائع التي يُستكشف منها نفسيّة هذا الأموي، وتوجهاته الفكرية والسلوكية.

فمعاوية يمثّل مرتبةً عاليةً من مراتب الحاكم الظالم المفسد الكافر إلى حدٍّ بعيد، ويزيديمثّل المرتبة الأعلى، فهو أظلم وأفجر وأكفر من والده بمراتب، وفجوره وخلاعته لاتُقاس بفجور والده، ولذلك رفض الإمام (علیه السلام) مبايعته مهما تكن النتائج المترتبة على امتناعه (2).

فعن الإمام أنه خاطب والي المدينة حين امتنع عن البيعة:

«إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختمر.

ص: 164


1- الإرشاد، الشيخ المفيد، ﺟ 2 ص 98 .
2- في إيضاح لقادة وقعة الحرة حين خرجوا على يزيد بعد استشهاد الإمام(علیه السلام): «إنا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويدع الصلاة، ويعزف الطنابير، وتضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسامر الخُرّاب والفتيان، وإنا نشهدكم إنا قد خلعناه». فراجع: جهاد الإمام السجاد (علیه السلام) للجلالي ص 75 ، عن عدة من المصادر.

الله، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن الفسق، ليس له هذه المنزلة، ومثلي لا يُبايع مثله». (1)

وبلغ من فجور هذا الرجل - يزيد - وسفالته وانحطاطه وخروجه عن الخط الإسلامي بشكل لا شبهة فيه أنه قد تبرأ منه جمهور المسلمين - من أهل السُنّة - وهم المعروفون بموالاة عموم الخلفاء والولاة الذين استولوا على زمام الأمور في بلاد المسلمين وبالاهتمام بتبرير جناياتهم وإن بلغوا ما بلغوا ظلماً وتجبراً وجهلاً وفسقاً وتجاهراً بالعظائم، ولا زالوا على هذا في الجملة -وإن وُجد منهم سابقاً ولاحقاً من لم يقرّهم على مبناهم هذا ودفعته غيرته وحميّته على الدين المحمدي الخاتم إلى نبذ هذه المباني وما يتفرّع عنها- ومع مسلك الجمهور هذا إلاّ إ مّهن تبرأوا من يزيد وفعاله التي هي وصمة عار وإلى الأبد في جبين من ارتضاه، و البعض في تبرير أعماله حتى أتى وتفوّه بالمخازي، ومن رضي عمل قوم عُدّ منهم، وحُشر معهم، وسيعلم الذين ظلموا آل محمد أيّ منقلبٍ ينقلبون، والعاقبة للمتقين.

ثم ألقِ بصرك إلى الصيغة التي طرحها من يمثّل ابن زياد في ساحة المعركة على الإمام: فإمّا النزول على حكم ابن زياد، أو القتل.

ومع أن الإمام (علیه السلام) قد طرح عليهم -على ما روي (2)- استعداده للرجوع، أوالذهاب إلى أماكن بعيدة في العالم الإسلامي، إلاّ أنهم لم يرتضوا منه إلاّ الاستسلام بتلك الصيغة المهينة، وهيهات.

فالإمام - صلوات الله وسلامه عليه - كان قد صمّم على عدم البيعة، لما في يزيد من تهتّك واضح، وتجاهرٍ بعظائم المعاصي، ولما في إسلوب يزيد في التعامل مع رجالات .

ص: 165


1- الملهوف، السيد ابن طاووس، ص 98 .
2- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 128 .

المسلمين عموما، ومع الحسين بالخصوص، من إرادةٍ للإذلال وتحطيمٍ للشخصية، وهذا له آثار ونتائج وخيمة إن سكت الحسين عنها وخضع وبايع، غير أنه (علیه السلام) ذكر:

«وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون، وحجور طابت وطهُرت، وأنُوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارِع الكِرام». (1)

فَ كَرتْ البيعة كان من الأمور التي لا محيص عنها، لكنّ تَرْكَها أدّى إلى قرار السلطةالقطعيّ بقتله، وهذا أدّى إلى اتخاذه (علیه السلام) لقراره بالدفاع عن نفسه المقدّسة(2) وعن حرمةأهل البيت النبوي الطّاهر، وما يمثّله من مَعانٍ ومُثُل، وعن أهدافه المقدّسة العليا، والتي تطلّبت منه الاستناد إلى أنصار، وتوفّر الأنصار من أهل الكوفة وغيرهم جعل التوجّه إليهم أمراً مؤكداً.

وممّا ذكره الشيخ القرشي (3)من سببٍ لرفض البيعة:

إن الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان، الطلقاء وأبناء الطلقاء -كما عن الإمام(علیه السلام).-

الخلافة محرّمة على جميع الأمة ولا تصلح إلاّ لآل محمد الأطهار، ولا تصحّ مسيرتها إلاّ بهم، بجعلٍ وتنصيبٍ من الله سبحانه وتبليغٍ من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، هذا مع حضورهم وظهورهم، ومع غيبتهم كما هو حال عصرنا، فهذا له شأن آخر وبيان آخر يختصّ به.

لكن حتى لو جاز لغيرهم تو هذا الأمر -افتراضاً، أو في مثل زمن الغيبة- فإنّ .

ص: 166


1- الملهوف ص 156 ، والحسين (علیه السلام) للجلالي باختلاف يسير بينهما، ومعالم المدرستين ﺟ 3 ص 101 ، وحياة الحسين (علیه السلام) للقرشي ﺟ 3 ص 193 عن ابن عساكر. كما أن رسالة ابن زياد للإمام فيها شاهد على إرادة المجرم لإذلال الإمام، وهو ما لا يرتضيه الإمام (علیه السلام) أبداً، فراجع:حياة الحسين (علیه السلام) ، للقرشي ﺟ 3 ص 102 .
2- التزم السيد القائد الخامنئي: بأن موقف الإمام (علیه السلام) من الجهاد الدفاعي، فراجع: العدد 8 ص 14 من مجلة فقه أهل البيت(علیهم السلام).
3- حياة الإمام الحسين (علیه السلام) للقرشي، ﺟ 2 ص 257 .

آل أبي سفيان وبقية الطلقاء وأبناءهم مِن أبعد الناس عن توليّ الخلافة، إذ لم يُسلموا عن طواعية أبداً بل أصرّوا على كفرهم حتى إلقاء القبض عليهم، وتمّ استعبادهم بحسب قانون الحرب الإسلامي، ثم أصدر النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) قراره بالعفو عنهم وإطلاقهم، ومن بعدها أسلموا خوفاً ورهبة، أو طمعاً لجر المغانم، أو للكيد للإسلام وأهله من داخل كيانه، فكيف يصلح هؤلاء لتو مقاليد الأمور وكيف يَرْشُحُ عنهم الدفاع عن حياض الإسلام، وعن أهله، والقيام بإعلاء شأنه، وإعزاز اسمه، ونشر دعوته وأحكامه.

وطرح الشيخ محمد اليزدي: أنه حتى لو سُمح للإمام بالرجوع، فإنه لن يُبايع، ولن يسكت (1).

ونقول: إن هذا يحتاج إلى دليل يُثبته ويؤكده، وسيرة أئمة الهدى قائمة على إعطاء البيعة مع عدم وجود ناصرٍ، وتوفّر خطر عظيم متوجّه من طرف السلطة الظالمة لآل البيت النبوي، فهذا التوجيه للشيخ اليزدي خلاف القاعدة، فلابدّ من مُثْبِتٍ وهو مفقود ظاهراً، والإمام أصرّ على عدم البيعة لتوفر الناصر، ثم فُقِدَ الناصر مع خطرٍ عظيمٍ متوجهٍ إلى الإمام من السلطة الظالمة، فما الذي يمنع منها، والتكليف الإلهي في مثل هذه الموارد هو التزام التقية، وهم صلوات الله عليهم أطوع الناس لأمر الله، ومقتضى التقية والضرورة هنا مبايعة الظالم إلى إن تنجلي الغمة.

هذا مع التأكيد على أ مّهن لم يعرضوا عليه البيعة، من بعد خروجه من مكة، بل قبلها، وهذا أحدهم يقول له:أولا تنزل على حكم بني عمّك فإنهم لن يُروك إلاّ ما تحب.

فأجابه(علیه السلام): «أنت أخو أخيك، أتُريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم، لا والله لا أعطيك بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ قرار العبيد» - ولعل هذا إشارةً إلى غدرهم بمسلم بعدما أمّنوه ثم قتلوه-.1.

ص: 167


1- الحسين بن علي نحو معرفةٍ أفضل، للشيخ محمد اليزدي، ص 161 ﻫ 1.

ما نُريد قوله بالنتيجة: إنّ عدم البيعة معلول لشيءٍ آخر هو السبب في النهضةالحسينية، لا أن النهضة معلولة لعدم البيعة إذ لولا ذلك لما تحرّك الإمام ضد السلطةالفاجرة كحالِ من تقدّمه و من تأخّر عنه من أهل العصمة(علیهم السلام).

السبب الثالث: «التشيع في خطر».

إن ترك الإمام الاستجابة لنداء أهل الكوفة واستصراخهم واستغاثاتهم يعرّض التشيع في أهم قواعده للخطر العظيم، وهو اَملّ يزل طريّ العود كالإسلام نفسه، والضربات القاصمة المهلكة تتوالى عليه.

فقاعدة آل محمد والتي تضم أنصارهم وشيعتهم هي في العراق، وفي الكوفة على نحوٍ أخص، وهذه القاعدة نمت وترعرعت على يد سيد الأوصياء الإمام علي أميرالمؤمنين (علیه السلام) أيام حكمه بعد ما اتخذ الكوفة عاصمةً ومقراً لخلافته الرشيدة.

وهذا الرأي - أي نموّ التشيّع في الكوفة، وبالنتيجة في خصوص العراق من أطراف العالم الإسلامي وحواضره على يد الإمام علي (علیه السلام) هو الصحيح والثابت تأريخياً بل من الواضحات -.

فما يحاوله بعض محرِّفي التأريخ وأدعياء القومية والمرجفين، من إشاعة أنّ التشيع إنّما دخل العراق من جهة إيران أيام الحكم البويهي والصفوي فمن المضحكات، والعكس هو الصحيح تماماً (1).

إذ تَغَلْغَلَ التشيع وسرى في أنحاء إيران من العراق عدّة مرّات، حتى استولى على كلّ أطرافها تقريباً، ومنها:

أ- حملات التسفير والتهجير التي قام بها حكام الكوفة، منها: تهجير خمسين ألفن.

ص: 168


1- للاطلاع، يراجع: الشيعة في إيران، لرسول جعفريان.

شيعي من الكوفة إلى نواحي خراسان (1)- وقد نتج عن تسفيرهم إلى تلك الديار نشرهم للتشيع فيها، وهو خلاف رغبة الحكام النواصب الساعين لدفن مذهب أهل البيت بكلّ ما أُوتوا من حَوْلٍ وَطَوْلٍ وقوّة -.

ب- رحيل الكثير من الشيعة خوفاً من بطش السلطة الجائرة إلى تلك الأطراف، ومنهم الأشاعرة الذين قَدِمُوا من اليمن وسكنوا الكوفة ثم غادروها إلى قم واستوطنوها، فأصبحت قم قاعدة ثانية للتشيع، ومناراً عبر التاريخ.

ﺟ- رحيل كثير من بني هاشم نتيجة بطش السلطة إلى تلك الأطراف، فأعانواكثيراً على إشاعة التشيع، ولذلك تجد في إيران العشرات من مراقد أولاد الأئمة (علیهم السلام)وأحفادهم معروفة مشهورة.

د- ما حدث نتيجة النشاط الهاشمي في تلك الأطراف لإسقاط الدولة الأموية، وقد أدى هذا النشاط إلى تعاطف الأمة هناك مع الدعوة الهاشمية التي كانت تدعو إلى الرضا من آل محمد، وإلى انضواء الكثير تحت رايتها في جيش كثيف أسقط الدولة الأموية، غير أن بني العباس ركبوا الموجة، واستأثروا بها دون باقي أولاد عمومتهم في غفلةٍ من الزمن.

ﻫ- ما نتج عن سفر الإمام الرضا (علیه السلام) إلى خراسان، وَتَوَلِّيهِ لولاية العهد، وظهوره أمام الأمة على نطاق أوسع، إذ أدّى هذا إلى معرفة كثيرٍ من أبناء الأمة به، وتعاطفهم معه، وتفضيلهم له على من سواه.

و- ما نتج عن مناظرة العلاّمة الحلي مع أقطاب وعلماء مذاهب العامّة، بمحضرٍ من السلطان المغولي محمد خدابنده، ممّا أدّى إلى تشيّع السلطان وقادة دولته، وانتشارٍة.

ص: 169


1- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، القرشي ﺟ 2 ص 178 ، عن تأريخ الشعوب الإسلامية لأحمد دحلان ﺟ 1 ص 147 ، وخراسان في تلك الفترة تعتبر قريبة من الثغور والحدود الإسلامية.

أكثر للتشيّع في إيران.

لكنّنا لا نُنكر ما نتج عن قيام الدولة الصفويّة في إيران، واستمرارها لمئات من السنين، واعتناء هذه الدولة بالتشيّع وعلمائه، ونشرها لعقائده، وفسحها المجال لبيان تفاصيل التشيع عَقيدةً وفِقْهاً للامة، وكذا أسباب أخرى يضيق عنها المقام، غير إنّنا أردنا أن نب أصلاً لعلّه من الواضحات عند أكثر الناس من المنصفين وغير المغرضين، من أن دخول التشيع إلى إيران، وانتشاره فيها، وتجذّره، جاء من العراق بأسبابٍ شتّى أنتجت المطلوب، وليس العكس.

فالتشيع إذن وَفَدَ على إيران من جهة العراق، ومن الكوفة بالذات (1)، وإنّما عمّ إيران بنسبة عالية وبقي في العراق بنسبة أقل لقيام دول شيعية عِدّةٍ عبر التأريخ في إيران استمرت مئاتٍ من السنين وساهمت هذه الدول في حماية التشيع وإنمائه بينما استمر العراق في حكم الأكاسرة والقياصرة إلى عصرنا الحاضر، ومع ذلك حافظ الشيعة في العراق على نسبة عالية من جهة عددهم مع إن الظروف كلها، بما فيها الضغوط العالية والإرهاب والدمار الهائل الذي لحق بشيعة العراق عبر تأريخهم الصعب، كل هذي تقتضي إبادتهم واستئصالهم، وما هذا إلاّ من آيات الله سبحانه، وبركات أهل العصمة والطهارة، بعدما تعاهد الإمام أمير المؤمنين وأهل بيته (علیهم السلام) سقي هذه النبتة المباركة حتى قامت على سوقها بالرغم من كثرة الفتن والمظالم.

لكن الشيعة في الكوفة أيام سيد الشهداء، مع تزايد أعدادهم، ونموّ وعيهم العقائدي، كانوا قلّة، بأزاء عدد أهل الكوفة الذين كانوا على خط غير علي، سواءا أكانواق.

ص: 170


1- يحاول جمع من النواصب عكس الحقيقة، ومنهم: أدعياء القوميّة في العراق - وإرجافهم هذا فضح كَذِبَ تَعَصُّبِهِمْ لقوميتهم - وكل هذا لالتماس السبب لمقاومة التشيع وتدميره، ولنفي الشيعة من العراق.

من خط الخلفاء الذين سبقوه، أم من خط الخوارج، ونحوهم.

بل كان جمع من الذين يميلون للإمام (علیه السلام) ، إنما يقودهم حبهم للإمام وأهل بيته، لعدلهم وسماحتهم وجميل سيرتهم، مِن دون أن تتعزّز في نفوسهم العقيدة الشيعيةالسليمة نحو الإمام(علیه السلام)، بإدراك معنى الإمامة ومستلزماتها.

وكيف كان، فإن هؤلاء لَقُوا من معاوية وَوُلاته بعد عام الصلح شدّةً وَعَنَتاً، و واجهوا ضغوطاً وفتناً، اكثر بكثير مما لاقاه غيرهم.

بل إن القضية المركزية التي شغلت معاوية هي:

عليّ، وحبّه، وفضائله، وشيعته

فعمل بكل ما أوتي من خبث ودهاء وقسوة وحقد -هو وولاته- قلما شهد التاريخ له نظيرا، على اقتلاع جذور علي (علیه السلام) من جديد الأرض، فوجّه أقسى ولاته، وأخلاهم من الدين و الإنسانية، إلى مناطق تمركز الشيعة، للعمل على استئصالهم، وكان للكوفة النصيب الأوفر من الجور والتنكيل، فاستباحوها قتلاً، وسجناً، وتعذيباً، ونفياً، وهدماً للمنازل، ومصادرةً للأموال، حتى سملوا العيون، وباعوا نساء الشيعة في الاسواق (1).

وبعبارةٍ: إ مّهن استعملوا معهم كلّ ما توفّر في عصرهم من وسائل للضغط والتدمير منذ بداية بغي وتمرد معاوية على أمير المؤمنين (علیه السلام) وهي سنوات خمس تقريباً والتي تنتهي بالصلح مع الإمام الحسن(علیه السلام)، ثم من سنة 41 إلى سنة 60 وهي فترة ملك معاوية والتي تنتهي بموته، واغتصاب يزيد لزمام الملك، سنة ستين من الهجرة، سنة قدوم معاويةعلى عمله وبئس ما قدّم، فقد ترك من خلفه دماراً هائلاً في المجتمع الإسلامي يعسر

ص: 171


1- حدث هذا في اليمن، من جيش معاوية، بقيادة بسر بن ارطأة، إذ فَعَلَ الأفاعيل بشيعة اليمن، فراجع: الفصول المهمة، السيد شرف الدين، ص 122 .

بل يتعذر استيعاب وإحصاء نتائجه وآثاره، وأحدث بدعاً لا نزال إلى اليوم نعاني من مساوئها ومرارتها، ومنها صيغة إيراث المُلك وزعامة الأمة الإسلامية من الأب لابنه ومن الأخ لأخيه.

ذلك إنّ لنظام الخلافة الإسلامية طبيعة أخرى وضوابط، غير ما عليه النظام الملكي، والقائم على أساس توريث الزعامة من الأب لابنه.

عن ابن رُشد الفيلسوف المعروف:

إنّ معاوية أقام دولة بني أمية وسلطانها الشديد، ففتح بذلك باباً للفتن التي لا تزال إلى الآن قائمة قاعدة حتى في بلادنا هذه: الأندلس (1).

كتب معاوية إلى ولاته إن خذوا شيعة علي(2) على الظِنّة، وِبتلفيق الروايات لذمّ علي(علیه السلام) (3)، ثم أمرهم بتلفيق الروايات في فضائل الخلفاء الذين قبله.

وبائقة البوائق، وفاقرة الظهر، سنّه سبّ علي أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، ووصي رسول الله، وابن عمه، وزوج ابنته، بل أخوه بنص الحديث، بل نفسه بنصّ الآية الكريمة، وهو أول الناس به إيماناً، ومن نزل في فضله وتكريمه الكثير من آيات الكتاب العزيز، بل لا تنتهي فضائله ومكارمه (4).ي.

ص: 172


1- راجع: مقدمة الوسائل، طبعة المؤسسة ص 49 ، في جرائم معاوية، عن شرح النهج لابن أبي الحديد وغيره، ص 36 وما بعدها.
2- راجع: الغدير، الشيخ الأميني، ﺟ 11 ص 25 ، تحت عنوان: معاوية وشيعة أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیهم السلام) ، وليالي بيشاور، سلطان الواعظين، ص 922 تحت عنوان: معاوية قاتل المؤمنين.
3- الاحتجاج، الطبرسي، ﺟ 2 ص 83 حيث نقل الحال بتفصيل.
4- ورد في روايات الفريقين أنه لو كان البحر مداداً والأشجار أقلاماً.. لما أُحصيت فضائل علي (علیه السلام) فراجع: بناء المقالة الفاطمية، السيد جمال الدين ابن طاووس، ص 164 إذ نقل هذا عن الخوارزمي.

سنّ سبّه على منابر المسلمين في خطبة صلاة الجمعة، وأشاع هذا، وأكره الناس عليه في مشارق الأرض ومغاربها، حتى شاب عليها الصغير، وهرم الكبير، واستمر هذا زهاء الستين سنة، حتى نهى عنها عمر بن عبد العزيز، والسُنّة المحمدية القطعية التي نقلها الكثير من أعلام السُنّة في أهم مدوناتهم تنادي: «من سبّ علياً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله». (1)

فما قولك في أمةٍ تسبّ الله ورسوله قرابة الستين سنة، ما ترى الله صانعٌ بها؟

وقد قُتل بسبب الامتناع عن السبّ الكثير من شيعة علي وأنصاره ومحبيه، ويالها محنة تذر الحليم حيراناً، ولذلك ترى تحرك هؤلاء الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسن (علیه السلام) لما لقوه من عذاب واضطهاد أيام معاوية، ولحبّهم للإمام أبي محمد الحسن السبط وانتقاماً له، غير أن الإمام الحسين (علیه السلام) امتنع عن النهضة أيام معاوية بسبب وجود عهدٍ يلزم الوفاء به، والذي اُبتلي به سيد الشهداء وأخوه الإمام الحسن واضطُرّا إليه، وقد تحمل الإمامان الكثير من الآلام والمصائب بسبب هذا الصلح، لكن كيف السبيل ولا حلّ غيره.

عانى الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسن السبط (علیه السلام) سنواتٍ عشر أخرى كلها قهر وإذلال وفتنة، وقُتل منهم من قُتل، كعمرو بن الحمق الخزاعي، وحجر بن عدي الكندي وأصحابه، ويكفيك إن بعض أهل التأريخ ينصّ على أنه: «لم يبق في الكوفة شيعي يُعرف»

فماذا صنع معاوية بالكوفة في هذه الفترة، حتى أوصل الحال إلى هذا المستوى المرعب.

بقي الحال على هذا إلى أن هلك معاوية، وأهوِن به مِنْ هالك، فكاتب الشيعة من .

ص: 173


1- فضائل الخمسة، ﺟ 2 ص 223 .

جديد إمامهم، وأعلنوا استعدادهم لقلب نظام حكم بني أمية، وعزمهم على نصرةالإمام (علیه السلام) ، فما يصنع الإمام؟

هؤلاء شيعة لأبيه وأخيه وله ولأهل البيت جميعاً، عانوا ولاقوا من الشرّ ما لاحدّ له لإرتباطهم القلبي والولائي بأهل البيت، وقد استصرخوا الإمام سنين طوالاً لانجائهم، فلم يفعل لوجود عهدٍ مع معاوية، وها هو معاوية قد هلك.

إن الإمام كان يواجه -ولا شك- خطر تضعضع مذهب أهل البيت (علیهم السلام) في العراق -والعراق قاعدة التشيّع وكهفه- وخطر ارتداد الناس عن المذهب الحق، وتغ القلوب على الإمام، وهم شيعته وهو ملاذهم (1)، وهم على كل حال مستضعفون يطلبون إنقاذهم من الظلمة، ومن أحطّ مجرمي الأرض، من ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) منقذ البشرية ووليها..

لا شك أن هذا خطر أكيد لا يمكن للإمام أن يتغاضى عنه، وعليه اتخاذ التدابير الحاسمة لتثبيت مذهب أهل البيت في الأرض وإلى الأبد، قبل رحيل أهل العصمة عن الدنيا.

والواقع إن الطريق الذي سلكه سيد الشهداء -ولم تكن أمامه طرق متعدّدة يسلكها لبلوغ هدفه المقدس- والدم الطاهر الذي جرى على أرض كربلاء، والتضحية والقربان الذي قدّمه للمولى سبحانه، أورث مذهب أهل البيت وشريعة جدّه المصطفى رسوخاً وصلابة لا يمكن قهرها على مدى الدهر، وهذا أمر ثبت تأريخياً بل وجداناً، وإنما كان للحسين المدخلية الكبرى في تحققه، ولذلك اشتهر:

إن الإسلام حسيني البقاء، بعد ما كان محمديّ الوجود. .

ص: 174


1- في خطبة العقيلة(علیها السلام) في الكوفة، تصف الإمام السبط الشهيد: «وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم»(علیه السلام) فراجع البحار، ﺟ 45 ص 109 .

فسلام على الحسين الذي بتضحيته استنشقنا الإسلام، وصُمنا، وصلّينا، ووحّدنا، وآمنّا.

سلام على الحسين، وعلى أخيه وأبيه، وعلى جده وأمه، وعلى ذريته الطاهرين، الذين أفنوا وجودهم، ووهبوا حياتهم، للإسلام والقرآن، ولترسيخ إرادة المولى سبحانه في الأرض، ولإحياء أفراد الجنس الإنساني في طهارة وسعادة وإنسانية حقّة، ورضا من المولى سبحانه عنهم.

سلام على الأئمة الطاهرين الذين حفظوا أمانة رسول الله وجهوده وتضحياته، أن يقضي عليها بنو امية وبنو العباس وكل الطغاة من أعداء الله والإنسانية.

سلام على محمد وآل محمد، سادة الأمم، وأولياء النعم، ورؤساء الدين والدنيا، وأولى الناس بالناس.

ولعنة الله على كل من ظلمهم وآذاهم وأعان عليهم بيد أو لسان أو قلم أو إشارة أو ميل قلب.

وفي الحقيقة: انّ ما كان يخطط له بنو أمية ليس القضاء على التشيع وحسب، فأنت تعلم انّ معاوية إنما دخل الإسلام عند فتح مكة بعد دخول النبی (صلی الله علیه و آله) إليها، والقاءالقبض على المشركين، وجمعهم بمحضر الرسول الأکرم (صلی الله علیه و آله) فروي أنه قال لهم:

ما تظنون أني فاعل بكم؟

ثم عدّد جرائمهم، وما فعلوه للقضاء عليه، وعلى الإسلام، وما أفنوا من أجله حياتهم- لدفن كلمة التوحيد- ثم قال لهم:إذهبوا فأنتم الطلقاء (1).

فأصبح لقب الطليق لهم مائزاً، وعليهم سُبّة، إلى آخر الدهر، وسيد الطلقاء: .

ص: 175


1- راجع: البحار، ﺟ 21 ص 106 ، وأيضاً: المقتطفات، ﺟ 1 ص 192 .

معاوية.

كما لا ريب أن معاوية كان في المؤلفة قلوبهم بعد فتح مكة، وهم الذين يعطيهم النبی (صلی الله علیه و آله) اعطيات خاصة من الغنائم ليحبّب الإسلام إلى قلوبهم (1)، وما كان هذا إلاّلبغضهم الإسلام وتنفرهم منه، فما بالك بهذا يتسلم مقاليد الأمور في بلاد المسلمين، بل ويرقى مقام الخلافة.

فإنه خليق -وقد فعل- ان يردّ الناس على أدبارهم القهقرى، ويعيدها جاهلية، فبأي عذر يعتذر يوم القيامة من مكّنه من رقاب المسلمين، وسلّمه الامانة الكبرى، وترك اكارم الصحابة، وأوفياءهم، وعلمائهم، ومن أفنوا حياتهم في الدفاع عن رسول الإسلام، وعن الإسلام، عقيدة وسلوكا ومقدسات كأبي ذر، حتى غدا أمثال ابي ذرالطاهر الفدائي الصدوق غرباء بين المسلمين، وهم في غيرتهم على الإسلام، ونصيحةًونفعاً للمسلمين.

السبب الرابع: قرار الفئة الحاكمة القطعي بقتل الإمام على كل حال:

إن امتناع الإمام من البيعة أدّى إلى اتخاذ يزيد لقراره بقتله(علیه السلام).

وفي الحقيقة: انّ هذا القرار قد ا ذُختِ مسبقاً قبل امتناعه (علیه السلام) لعلم يزيد بتوجّهات الإمام من خلال مواقفه السابقة أيام معاوية، ولهذا كتب إلى والي المدينة، يطلب منه أخذ البيعة من الإمام (علیه السلام) وكتب له: إن أبى عليك فاضرب عنقه، وابعث إليّ برأسه (2).

وأرسل إليه رسالة أخرى يؤكد عليه فيها قتل الإمام(علیه السلام). .

ص: 176


1- بحار الأنوار، ﺟ 21 ص 158 . وراجع: النص الاجتهاد، ص 43 .
2- الملهوف ص 97 ، ومعالم المدرستين ﺟ 3 ص 46 ، وحياة الإمام الحسين (علیه السلام) للقرشي ﺟ 2 ص 247 ، ص 258 .

بل أمر يزيد جماعةً من شيعته بأن يقتلوا الحسين ولو وجدوه متعلقاً بأستار الكعبة (1).

وورد ان يزيداً أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكرٍ، وأمّره على الحاج، وولاّه أمر الموسم، وأوصاه بالفتك بالحسين (علیه السلام) أينما وجده (2).

وفي نصٍّ تأريخي: أن الإمام (علیه السلام) التقى بأحدهم -وهو (علیه السلام) في طريقه إلى الكوفة -فحذّره هذا الرجل من مسيره، فأكّد له الإمام (علیه السلام) أنّه يعلم أن بني أُميّة لا يكفّون يداً عنه، وانما سيلاحقونه إلى أيّ مكان يذهب إليه، حتى يقتلوه (3).

إذن فقد بدأ يزيد الحرب، وعلى الحسين (علیه السلام) الدفاع عن نفسه بما أمكنه، ولو بأن يجعل موته ثورةً وبركاناً تقضي على بني امية بعد استشهاده، وتحقق له الأهداف التي يرجوها من امتناعه عن البيعة.

وفائدة ذكر هذا السبب مستقلاً، إلفات النظر إلى أنه:

حتى لو عدل الإمام عن قراره بلا بُديّة النهضة، لإسقاط الحكم الأموي، بسبب نكث أهل الكوفة عهودهم، فإن على الإمام أن يستمر في مقاومته للسلطة، لأنها قررت قتله على كل حال، والقضاء على منهجه، فعليه الدفاع عن ذاته المقدسة، وعما يمثّله.

ويُمكن أن يُدرك هذا ببساطة وبوضوح من محاورة جرت بين الإمام (علیه السلام) وبين السيدة

زينب(علیها السلام) ، شقيقته في النسب والجهاد، إذ قال لها فيما قال: «لو تُرك القطا ليلاً لنام» وهو مثل عربي معروف مشهور، وقد أجابته السيدة(علیها السلام) :

«يا ويلتاه، أفتُغتصب(4) نفسك اغتصاباً، فذلك أقرح لقلبي، وأشدّ على نفسي».ه.

ص: 177


1- في بعض الكتب أنهم ثلاثون شخصا، وفي الثورة الحسينية للشهيد دستغيب ص 68 أنهم ثلاثة.
2- راجع: مقتل الحسين، السيد المقرّم، ص 165 .
3- مقالات تأسيسيّة، السيد الطباطبائي، ص 204 .
4- ذكر المح على نسخة البحارﺟ 45 ص 2: أن - أفتغتصب- هنا مصحّفة عن -أفتحتسب- بدعوى أن لا وجه لها، والظاهر أنه لها وجه، بل لعلّه واضح، من خلال ربط هذه العبارة بالمقصود من المثل، ووجه التمثيل به.

إذ أن الإمام (علیه السلام) لم يكن عازماً على المواجهة على كل حال، بل لأمرين - بعد ملاحظة الأسباب الاُخرى التي نذكرها هنا، والتي لم تنجّز الحكم عليه بشكلٍ حاسم، بل لهذين الأمرين مدخليّة مهمة في التنجيز، خصوصاً الأول منهما -:

أ- معاهدة أهل الكوفة على مساندة الإمام في تحركه، لو أجاب استغاثتهم واستصراخهم.

ب- ان السلطة الظالمة كانت عاقدة العزم على قتله على كل حال، لمجموعة اُمور.

فلما نكل أهل الكوفة وخذلوا فقد سقط تكليف لزوم النهضة عنه، إلاّ أنّ بني أُميّة غير تاركيه، ولذلك عب (علیه السلام) بالمثل: «لو تُرك القطا ليلاً لنام»

أي: لو انهم يتركوه فسوف يترك المواجهة معهم، وحاله في ظرفه هذا حال والده الوصي قرابة الخمس والعشرين عاماً، إلاّ أنهم لم يكونوا ليتركوه، وسيستمرون في ملاحقته ومضايقته ومحاصرته حتى يظفروا به، ويغتصبوا نفسه المقدسة اغتصاباً، و بحدّ تعبيره(علیه السلام): «حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي». (1)

فالسلطة المجرمة لم ترتضِِِ منه إلاّ أحد خيارين، كلاهما مُرّ:

أ- الاستسلام المذل أي: النزول على حكم ابن زياد.

ب- القتال والقتل.

والخيار الأول تأباه كرامة كل إنسان بل هو أمر منهيٌّ عنه:

«ان الله تبارك وتعالى فوض إلى المؤمن كل شيء إلاّ إذلال نفسه» (2)3.

ص: 178


1- الإرشاد، ﺟ 2 ص 76 .
2- وسائل الشيعة، ﺟ 16 ص 157 ح 3.

والإمام بالخصوص منهي عن هذا: «يأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون، وحجور طابت، وحجور طهرت، وانُوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام». (1)

فهم لا يرضون منه إلاّ الاستسلام وهو يرفضه، ويقبل بالرجوع وهم يمنعونه منه، فعلى هذا فالإمام مضطرّ إلى القتال على كل حال، ونتيجة القتال الاستشهاد مهما بذل من جهد أثناء القتال، لكثرتهم ولقلة أنصاره.

يقول المجرم عمر بن سعد بن أبي وقاص، قائد جيش الضلالة والعمى: والله لايستسلم الحسين، إن نفس أبيه لبين جنبيه.

فهم يعرفون هذا منه، ومع ذلك خ وّريه، فمعنى هذا أنهم عاقدوا العزم على قتله، بل لا يريدون غيره.

السبب الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (2)

قال الإمام (علیه السلام) لأصحابه يوم الطف: «ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقاً، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما». (3)

وعنه (علیه السلام): (4)

«اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أوليائه من سوء ثنائِهِ على الأحبار إذ يقول: .

ص: 179


1- الملهوف، ص 156 .
2- في كلام مسلم (رضی الله عنه) في الكوفة:إنهم أتوا للأمر بالمعروف، فراجع حياة الإمام الحسين (علیه السلام)، للقرشي، ﺟ 2 ص 406 .
3- الملهوف على قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس، ص 138 .
4- تحف العقول، الشيخ ابن شعبة الحراني، ص 237 ، والحسين(علیه السلام)، السيّد محمد رضا الجلالي ص 109 - 112 .

«لَوْلاَ یَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِیُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ»».

وقال: «لُعِنَ الَّذِینَ کَفَرُواْ مِن بَنِی إِسْرَائِیلَ عَلَی لِسَانِ دَاوُودَ وَعِیسَی ابْنِ مَرْیَمَ ذَلِکَ بِمَا عَصَوا وَّکَانُواْ یَعْتَدُونَ (78) کَانُواْ لاَ یَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنکَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا کَانُواْ یَفْعَلُونَ» وإنما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون

منهم ورهبة مما يحذرون، والله يقول: «فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ»

وقال: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیَاء بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنکَرِ»

فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضةً منه لعلمه بأنها إذا أُديت وأُقيمت استقامت الفرائض كلها هيّنها وصعبها، وذلك ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام، مع ردّ المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها، ووضعها في حقها.

ثم أنتم أيها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس الناس مُهابة، يهابكم الشريف، ويكرمكم الضعيف، ويؤثركم من لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طُ بّالها، وتمشون في الطريق بهيئة الملوك وكرامة الأكابر، أليس كل ذلك نلتموه بما يُرجى عندكم من القيام بحق الله، وإن كنتم عن حقّه تق وّرصن، فاستخففتم بحق الأئمة، فأما حقّ الضعفاء فضيّعتم، وأما حقّكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالاً بذلتموه، ولا نفساً خاطرتم بها للذي خلقها، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله.

أنتم تتمنّون على الله جنّته، ومجاورة رسله، وأماناً من عذابه، لقد خشيت عليكم أيها المتمنّون على الله أن تحلّ بكم نقمة من نقماته، لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضلّتم بها،

ص: 180

ومن يُعرف بالله لا تُكرِمون، وأنتم بالله في عباده تُكْرَمون، وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمة رسول الله مخفورة، والعمى والبكم والزمنى في المدائن مهملة لا ترحمون، ولا في منزلتكم تعملون، ولا من عَمِل فيها تُعينون، وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، كل ذلك مما أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون، وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون، وذلك بأن مجاري الاُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سُلبتم ذلك إلاّ بتفرقكم عن الحق، واختلافكم في السُنّة بعد البيّنة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤونة في ذات الله، كانت اُمور الله عليكم تَرِد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم، وأسلمتم اُمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات، سلّطهم على ذلك فراركم من الموت، وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبدٍ مقهور، وبين مستضعفٍ على معيشته مغلوب، يتقلّبون في المُلك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم، إقتداءً بالأشرار، وجرأة على الجبّار، في كل بلدٍ منهم على منبره خطيب مصقع.

فالأرض لهم شاغرة، وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبار عنيد، وذي سطوةٍ على الضعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد، فيا عجباً ومالي لا أعجب، والأرض من غاشٍ غشوم، ومتصدِّقٍ ظلوم، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شَجَرَ بيننا.

اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، والتماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك،

ص: 181

ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك.

فانكم إنْ لا تنصرونا وتنصفونا، قويت الظلمة عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيكم»

وهذا الخطاب المبارك يحوي في ثناياه ما يبصرنا بحقيقة الثورة الحسينية كثيراً خصوصاً أنه قد صدر عن الإمام قبل هلاك معاوية بعامين -بحسب الرواية-.

فأول ما فيه: بيانه للأهمية العظيمة لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتوقف قيام بقية الفرائض بقيامها، وتنديده بإهمال الناس لها وتكاسلهم عنها -خصوصاًأهل العلم والدين- مع ان ذلك يستوجب العذاب الإلهي العاجل.

كما انّ في خِطابه هذا تحليلاً لنفسية أفراد المجتمع الإسلامي، وتشخيصاً لمرضهم، والذي أدّى إلى إنحراف عام في الاُمة، وإلى تسلط الطغاة على اُمورها ومقدراتها.

ثم إسهاب الإمام في بيان ما تعانيه الأمة من جور وظلم، وان كل ما تقدم سببه تمسك الناس بالدنيا وتعلّقهم بالحياة، وفقدانهم للروح التي حارب بها البدريّون العتاةَ المشركين، مع الفارق العظيم في الإمكانيات البشرية والتسليحية والأمور الأُخرى والتي تكون ظهيراً في المنازعات والصراعات، وهو ما لامهم الإمام عليه وعنّفهم بسببه، ثم أعطاهم درساً عملياً خالداً مدى الدهر في الإعراض عن الدنيا ومتعها ومبهجاتها، إذ قذف بنفسه المقدسة في لهوات الموت لتغيير ما رسخ من جور وفجور.

وأخيراً يبي (علیه السلام) سبب نهضته: «لنري - لنرد - المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك».

ويحثهم على نصرته.

وعنه (علیه السلام) في كتابه الشهير إلى أخيه محمد بن الحنفية(رضی الله عنه) :

ص: 182

«وإ لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين». (1)

وعنه (علیه السلام) في خطبته أمام جيش الحر (2):

«أيها الناس، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: من رأى سلطاناً جائرا، مستحلاً رِحلَُمِ الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسُنّة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يُدخله مدخله.

ألا إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفئ، واحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر».

وقد خاطب الإمام جدّه المصطفى عند قبره المقدّس قبل خروجه من المدينة بأنه يحب المعروف ويُنكر المنكر (3)وفيه إشارة إلى أن هذا من أسباب تصلبّه ضد يزيد، و علةً لخروجه عليه.

وعنه (علیه السلام) أنه كتب إلى رؤوساء عشائر البصرة: «إن السُنّة قد أُميتت، وان البدعة قداُحييت». (4)

بل إن خروج الإمام سيد الشهداء (علیه السلام) للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من .

ص: 183


1- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، القرشي، ﺟ 2 ص 264 . ويُمكن إعتبار رسالة الإمام هذه كأنها البيان الرسمي للثورة كما هو متعارف أيامنا.
2- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 80 .
3- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 259 .
4- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 2 ص 322 .

الواضحات التي لعلها تستغني عن الحاجة لإقامة الدليل عليها، لظهورها في حدّ نفسها، ولكثرة الشواهد عليها.

السبب السادس: خصوصيّة شخصيّة يزيد.

طلب معاوية عند قدومه إلى المدينة البيعة ليزيد من الناس عامة، ومن بعض وجوه المدينة خاصة، وخصّ باهتمامه الإمام سيد الشهداء صلوات الله عليه، وذكر معاوية ليزيد محاسن وخصال، فردّ عليه الإمام(علیه السلام):

«وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد، من اكتماله وسياسته لامة محمد (صلی الله علیه و آله)، تُريد أن تُوهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثرمما أنت لاقيه..». (1)

وفي رسالته (علیه السلام) الجوابية لمعاوية، والتي يستنكر عليه فيها أعماله وجرائمه، ويختمها بقوله:

«وأخذك الناس بالبيعة لابنك، غلام سفيه، يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب»(2)

وهذه الرسالة قرأها معاوية بمحضر يزيد، وقد حاول يزيد أن يستفزّ أباه ليتخذ من الإمام موقفاً انتقامياً، فلم يُفلح، فهل يترك هو ثأره حين يقبض على زمام المُلك بكل جبروته وصلافته؟

من الطبيعي أن تحفز مواقف الإمام هذه أرعناً مثل يزيد ليتحين الفرص للانتقام .

ص: 184


1- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 2 ص 219 ، عن الإمامة والسياسة ﺟ 1 ص 195 .
2- الحسين(علیه السلام)، الجلالي، ص 120 ، والاحتجاج، الطبرسي، ﺟ 2ص 93 .

دون المبالاة بقدسية الإمام أو بغرضه الدافع له لمثل هذا الموقف، وهو مصلحة الإسلام، وسلامة الأمة في دينها وعيشها ومصيرها.

السبب السابع: الأمة مستضعفة وتستنجد بالحسين ابن النبي (صلی الله علیه و آله):

عن الإمام صلوات الله وسلامه عليه في خطبته الأخيرة يوم الطف:

«تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين». (1)

تقدّم، ويأتي: إن الأمة كانت في درجة من الاستضعاف عالية، وشرحنا بعض حالها واستقصاؤه يحتاج لمجلدات.

من النصّ المتقدم يتضح إن الأمة كانت تستغيث، والحسين نهض استجابةً لاستصراخها، واستنقاذاً لها من مخالب طاغوتها، كموسى صلوات الله عليه، غير أن موسى تُرك وحده مع جبار الأرض يومذاك، وقالت له امته:

«فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ» (2)

بعد ما استصرخته.

والحسين خرجت عليه أمته التي استصرخته، وأعانت طاغوتها، فذبحت من استصرخته، ذبحت ابن رسولها، ذبحت منقذها وابن منقذها.

الله سبحانه يقول: «وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا» (3).

صحيح أنّ حالة الاستضعاف التي بلغتها الأمة عموماً -باستثناء الشام- والكوفة .

ص: 185


1- الملهوف ص 155 .
2- سورة المائدة، الآية 24 .
3- سورة النساء، الاية 75 .

خصوصاً، فاقت كلّ حَدّ، كما طالت مدّتها، وأخذت الناس تستغيث من حين بدأ معاوية يشدّد وطأته، بعد صلحه مع الإمام الحسن السبط(علیه السلام)، إلاّ أن أيّ من الإمامين السبطين لم يبادر للنهضة، وذلك لوجود عقد صلح، وما التزما به إلاّ بسبب هذه الأمة المتقاعسة المتكاسلة عن القيام بواجباتها الشرعية، وعن الدفاع عن دينها ومقدساتها، بل عن نفسها، من الظالمين والجبابرة، ولو لم تكن سطوات هؤلاء الطغاة تمس كل فردٍ، لكان حرياً بالكلّ المشاركة في مضادة هذا الظلم والطغيان، والنهضة ضدّه، كيف وظلم هؤلاء الطغاة يمسّ كلّ فردٍ مباشرة في كل نواحي الحياة.

نعم، كان الإمام الحسن بصدد النهضة لو هلك معاوية، لانقضاء عقد الصلح وآثاره الشرعية، إلاّ إنّ معاوية عاجل الإمام الحسن بقتله بالسم، فحمل الراية بعده الإمام الحسين (علیه السلام) ، وامتناع الإمام من المبايعة ليزيد في عهد معاوية كان مما لابدّ منه لئلا يلزمه الاستمرار في هذا الوضع فيما بعد.

كانت هناك خطوط متوازية فباستمرارها يلزم الإمام النهضة:

أ-خطورة معاوية، وكيانه، والنهج الذي أسسه.

ب-إعلان أهل الكوفة استعدادهم للمعاضدة حتى تحقيق الهدف.

ج-لزوم النهضة على الإمام بالعنوان الأوّلي مع تحقق بقيّة الشرائط.

هذه الأمور بقيت مستمرة، فاستمر هو (علیه السلام) متصلباً أزاء طلبات معاوية وضغوطه لمبايعة يزيد لأنه (علیه السلام) كما التزم بنتائج صلح الإمام الحسن(علیه السلام)، فكذلك قد وعد الأمة بالاستجابة لها عند هلاك معاوية فمثلما التزم بذلك فعليه أن يلتزم بهذا ما بقي أهل الكوفة على عهدهم وقد استمر هذا منهم فاستمر هو (علیه السلام) بوعده أيضاً.

والواقع إن موضوع الاستضعاف حيوي جداً، ولم يُبحث في الكتابات والمجالس

ص: 186

العلميّة بحثاً شافياً يُحيط بجوانبه، مما يُعطي صورة متكاملة عنه، وبما يجعل من هذا المطلب واضحٌ جماهيرياً، مع أنه من أركان النهضة الحسينية المباركة، كما أنه من أهم الشعارات ما بعد انتصار الثورة الإسلامية المعاصرة في إيران.

السبب الثامن: الخروج على الطاغوت هو القاعدة.

الخروج على الطاغوت، وإزاحته عن مقام الأنبياء والأوصياء، من أحكام الإسلام الأوّليّة بل لعلّه من بديهيّات الأحكام، وإن أصبح من المعضلات في هذا الزمان عندالبعض، ومعلوم أنّ الحكم الأوّليّ لابدّ من تطبيقه مع توفّر شرائطه وعدم مانع في البين.

وفي قضية الإمام الشهيد الحسين (علیه السلام) فقد كان هناك مانع من النهضة، وهو عقد الصلح الذي وقع بين الإمام الحسن السبط وبين معاوية، والذي التزم به الإمام الحسين (علیه السلام) أيضاً بحكم تبعيته للإمام الحسن (علیه السلام) لأنه الإمام المتقدّم والمتصدّي، ولأن الإمام الحسين لو عاش نفس ظرف الإمام الحسن لَعَقَدَ نَفْسَ الصُلْحِ جَزْماً.

و المانع من النهضة -وهو عقد الصلح- يؤثّر حكماً اضطراريّاً وعنواناً ثانويّاً، بلزوم السكون حتى زوال سبب الاضطرار، وهو وجود معاوية وحياته -بحسب عقدالصلح-.

فل زال سبب الاضطرار بموت معاوية، والمنتج لانتهاء أمد عقد الصلح، وكذلك استمرار توفّر أهمّ شرائط تنجّز النهضة ولزومِها، وهو: التزام أهل الكوفة بنصرة الإمام(علیه السلام)، فان العنوان الأولي محكّم في المقام، والنهضة لازمة، إذ القاعدة الفقهية «الضرورةُ تُقَدَّرُ بِقَدَرِها» وهنا بلغت الضرورة غايتها بهلاك معاوية، فارتفع الحكم المترتب عليها، ورجعنا إلى الحكم الأولي، وهو:

لزوم مناجزة الظالم الطاغوت، وتحرير الدين والبلاد والأمة من قبضة عدوّ الله والإنسانيّة والمُثل النبيلة.

ص: 187

السبب التاسع: انحراف الحاكم انحرافاً أساسياً.

استدلّ الشيخ المنتظري، لجواز أو وجوب القيام ضد الحاكم الجائر، إذا صارانحرافه أساسيّاً، بحركة الإمام سيد الشهداء (علیه السلام) ، فيظهر أنّه يرى انّ علة الحركة هو هذا الاتجاه، أولا أقل في كونه أحد عللها (1).

وبيان مقصوده، بقوله: إذا انحرف الحاكم انحرافاً أساسيا عن موازين الإسلام والعدالة وصار متهتكاً، وجعل أساس حكمه الإستبداد والهوى، وجعل مال الله دولاً، وعباده خولاً، أو صار عميلاً للاستعمار، ومنفّذاً لأهواء الكفرة الأجانب، وتغلّبوا من هذا الطريق على سياسة المسلمين وثقافتهم واقتصادهم، ولم يرتدع هو بالنُصح والتذكير، بل لم يزده ذلك إلاّ عتوّاً واستكباراً -وإن فُرض أنه يُظهر الإسلام باللسان، بل ويتعبّد ببعض المراسيم الظاهرية من الصلاة والحج والشعارات الإسلامية، كما تراه ونراه في أكثر الملوك والرؤساء في بلاد المسلمين في أعصارنا- ففي الوزراء والأمراء والعمال يُرفع أمرهم إلى الوالي الذي نصبهم حتى يكون هو الذي يعزلهم إن رآه صلاحاً، وفي الوالي الأعظم يجوز بل يجب السعي في خلعه ورفع يده ولو بالكفاح المسلّح مع حفظ المراتب، ولكن يجب إعداد الأسباب في إيجاد الوعي السياسي في الأمة، وتشكيل الفئات والأحزاب والجمعيات واللجان وتهيئة القوى والمعدّات، خُفية أو عَلَناً، حسب اقتضاء الشرائط والظروف، فإن حصل المقصود بالتكتل والمظاهرات فهو، وإلاّ فبالكفاح المسلّح، فتجب رعاية المراتب والأخذ بالأقلّ ضرراً والأكثر نفعاً إلى أن يحصل النصر والظفر، بل الظاهر أنه ينعزل قهراً وإن لم تقدر الأمة على خلعه، فليست حكومته حينئذٍ حكومة مشروعة (2). .

ص: 188


1- دراسات في ولاية الفقيه، الشيخ المنتظري، ﺟ 1 ص 605 .
2- دراسات في ولاية الفقيه، ﺟ 1 ص 594 .

أقول: يحتاج البيان السابق إلى تتمة، وزيادة إيضاح، كي يُبنى عليه، وهو:

إن إلتزام الإمامية- في الإمامة، واستحقاق منصب زعامة الأمة الإسلامية- مبنيّ على إن هذا المنصب هو للمعصوم عيناً وشخصاً دون أن يحق لأي شخص أو جهةإعتلاء هذا المقام كائنا من كان.

فهذا المقام لخليفة الله في الأرض، وهو الرسول المعصوم المبعوث من الله، والمسدّد في كل حركاته وسكناته.

ومع فقد الرسول فإنّ هذا المنصب ينحصر حق استلامه بالمعصوم، وهو في ديننا الإسلامي الحنيف:

علي بن أبي طالب -من بعد الرسول الأکرم (صلی الله علیه و آله) - و بعده ولده الحسن، ثم الحسين، وهكذا الامر إلى تمام اثني عشر معصوماً، والذين ختامهم بالمهدي صلوات الله عليهم اجمعين.

وكل هذا بنصّ من الله ورسوله، على أصل المبنى، وفي تشخيص الأئمة الخلفاء المعصومين بأوصافهم وأسمائهم - دون لَبْسٍ أو غُمُوضٍ - بما لا عُْذرَ لأحدٍ في الانحراف عنهم أو اختيار بديلٍ لهم.

وبناءً على ما تقدّم:فإن تصدّي أيّ شخص للمنصب المختصّ بالمعصوم من أعظم الكبائر، مهما بلغ علم هذا المتصدّي وعدالته -وهذا على سبيل الفرض، لأنّ العالم العادل لا يُقدم على مثل هذه الجريمة بعد ما دلت النصوص الكثيرة الواضحة على انحصار حق الزعامة والخلافة بالمعصوم- ويجب على كل أحد مضادته وإزاحته من باب الدفاع، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمراتبه المقرّرة، لا أقل من اللزوم بالنسبة إلى المعصوم نفسه مع وجوده وظهوره.

ص: 189

وإذا أزاحه أحد غير المعصوم فيلزمه تسليم المنصب إلى المعصوم فوراً ودون انتظار، أو تسليمه إلى من له حق التصدي لمناصب الإمام، مِجلَْعِهِ الشرائط المطلوبة-وهذا الحق قد ثبت له بتفويضٍ وتنصيبٍ من الإمام على نحو الخصوص أو العموم، لا من جهات أخرى كالتفويض الشعبي أو غيره- وإلاّ عُدّ غاصباً کالمخلوع.

هذا إذا لم يترتب على الإزاحة مفسدة خطيرة كقيام الفتن وسفك الدماء وغيرها، ومع تَرَتُّبِها يقع التزاحم، ويقدّم الأهم على المهم بنظر الشارع الأقدس، ولذلك -كما هو الظاهر- ع الشيخ المنتظري بصيرورة إنحرافه أساسياً كي يجب خلعه، إذ انّ الخلع دائماً -لا غالباً- يلزم منه الفتن وسفك الدماء ونحوها -إلاّ ما شذّ- وإلاّ فالمسألة عقائدياً وفقهياً محسومة للمعصوم على ما بينّاه.

ولذلك فإنّ تكليف كل الأئمة المعصومين (علیهم السلام) هو نفس ما صدر عن الحسين المظلوم، كما انّ تكليفهم في حال التزاحم والضرورات هو ما قام به أمير المؤمنين بعد أيام السقيفة، والإمام الحسن حال صلحه مع معاوية وبعده، وحال كل الأئمة في أيامهم.

جَهنُْ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعليٌّ (علیه السلام) أيام خلافته، والحسن (علیه السلام) أيام خلافته، والحسين (علیه السلام)أيام نهضته، هو الحكم الأصليّ الأوّلي في الإسلام، ومع التزاحمات والضرورات وقيام المصالح فالسلوك المشروع هو ما سلكه النبي أيام الإسلام الاولى قبل الهجرة، وسلوك علي وبقية المعصومين (علیهم السلام) ايام تقيّتهم.

علي (علیه السلام) أراد النهوض لو تم له الأربعون، ونُقل ما هو من قبيله عن بعض المعصومين، والمهدي يبتدأ في انطلاقته المباركة بعدد قليل، إلاّ أن الركن الركين لتحركهم (علیهم السلام) هو توفّر المناصر والسند الذي به اندفاع المسيرة إلى أمام-إلاّ ما قيل من استثناء النبي الأعظم من هكذا حكم، وانه مكلف بالتحرك على كل حال، استنادا إلى الآية المباركة: «فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ

ص: 190

بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا» (1).

وأما ما ورد عنهم (علیهم السلام) في لزوم السكوت، والمهادَنة، ولزوم الأرض، وغيرها من التعابير، فله محامل: منها: التقية.

ومنها: محامل أخرى تقتضيها الضرورات والظروف الاستثنائية التي يمر بها المجتمع المؤمن المنضوي تحت راية النبي وأهل بيته الابرار، وهذا واضح، لمخالفة هذه النصوص للثابت الأصلي الأوّلي.

ثُمّ انّ هذه الروايات قد يكون بها الكاشفية عن عدم تمامية الظرف، وإن ظهرللوهلة الأولى صلوحه واستحكامه، كما هو الحال في نهضة الإمام (علیه السلام) -ومع ذلك نهض الإمام- فمن يلتزم بلزوم النهضة، عند ظهور الصلاح والتماميّة والاستحكام فهو، وإلاّ التجأ إلى الروايات على أساس استفادة كاشفية عدم تمامية الظرف من خلالها.

وعلى كل حال، فمحل كلامنا الأصلي في هذا المبحث، هو: عند تو أيّ أحدٍ لمقام المعصوم أيام وجوده وظهوره، وأما أيام الغَيْبَة فالمبحث يطول، والكلام له تشعبات، ليس هنا محلّها.

ومردّ هذه المسألة بالنتيجة إلى السبب الثامن الذي ذكرناه، وهو أن:

«الخروج على الطاغوت هو القاعدة»

وذلك لأن كل متصدٍ بغير أمر المعصوم أيام ظهوره فهو طاغوت بحسب النصوص الشريفة.

ومن منابع استقاء هذه القاعدة حركة الإمام المظلوم أبي عبد الله الحسين عليه آلاف الصلاة والسلام. .

ص: 191


1- سورة النساء، الاية 84 .

ص: 192

أيضاً في سبب الثورة

يُمكن من خلال التدقيق في محتويات كتب التاريخ والسيرة والمقاتل -بمقدار ما يتعلق منها بالثورة الحسينية- ملاحظة ما يُمكن مدخليّته كعنصر من عناصر علل قيام الإمام على الدولة الكافرة الفاجرة.

فيُمكن العثور على اكثر مما قدمناه كأسبابٍ للثورة الخالدة، ويمكن زيادتها بتفصيل وتشقيق أكثر لنفس الأسباب المارّة الذكر.

وقد قدّم أعلامٌ وكتّابٌ طروحاتٍ عدّة حول علّة الحركة الحسينيّة ومسبّباتها، ومن خلال مراجعة ما كتبوه فإننا سنعثر على أنظار في الثورة الحسينية وعللها تستحق التعرّض لها، وتقتضي تأملاً في وجهها ومدركها، لما في بعض هذه الأنظار من أهميّةٍ بالغة بحسب الجهة الصادرة عنها، وبحسب مدى تأثيرها في فكرنا وسلوكنا وقناعاتنا، وبحسب ما نجم عنها من آثار، فسنسرد بعضاً منها، ثمّ نتعرض لمناقشة ما يستدعي المناقشة، وأوّلها نصٌ فقهي، لابُدّ من الالتفات إليه:

قال السيد الخامنئي حفظه الله: (1)

وأمّا ما ذكره من فِعْلِ الإمام الحسين(علیه السلام)، فمضافاً إلى أنه من الجهاد الدفاعيّ-على وجه- فتأمّل، فأنّه قضيّة في واقعة، وهو من السُنّة الفعليّة التي ليس لها لسان الإطلاق والتقييد، ولذا لا يُمكن الأخذ بإطلاق الحكم المستفاد منها.

وفي جواهر الكلام للفقيه الكبير الشيخ محمّد حسن النجفي عند بيان القول

ص: 193


1- راجع: مجلة «فقه أهل البيت»، العدد 8 ص 14 ، في مقالٍ لسماحته بعنوان «المهادنة».

في وجوب الهدنة مع العدوّ أو جوازها، فذكر القول بجوازها -للمحقق صاحب الشرائع- وأنّ اختياره هذا:

جمعاً بين ما دلّ على الأمر بها المؤيّد بالنهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة، وبين الأمر بالقتال حتى يلقى الله شهيداً.

بحمل الأول: على الرخصة في ذلك، ومنها ما وقع من النبی (صلی الله علیه و آله) والحسن(علیه السلام).

كما أنّ من الثاني: ما وقع من الحسين (علیه السلام) ومن النفر الذين وجّههم النبی (صلی الله علیه و آله) إلى هذيل -وكانوا عشرة- فقاتلوا حتى قُتلوا ولم يفلت منهم إلاّ حبيب فإنّه أُ وقُتِلَ بمكّة.

إذ القتل في سبيل الله ليكون من الشهداء الذين هم أحياء عند ربهّم يُرزَقون ليس من الإلقاء في التهلكة.

وما وقع من الحسين (علیه السلام) -مع أنّه من الأسرار الربّانيّة والعلم المخزون- يمكن أن يكون لانحصار الطريق في ذلك علماً منه (علیه السلام) أ مّهن عازمون على قتله على كل حال، كما هو الظاهر من أفعالهم وأحوالهم وكفرهم وعنادهم، ولعل النفر العشرة كذلك أيضاً.

مضافاً إلى ما ترتب عليه من حفظ دين جدّه (صلی الله علیه و آله) وشريعته، وبيان كفرهم لدى المخالف والمؤالف.

على أنّه له تكليف خاص قد قَدِمَ عليه وبادر إلى إجابته.

ومعصوم من الخطأ لا يُعترض على فعله ولا قوله فلا يُقاس عليه من كان تكليفه ظاهر الأدلة والأخذ بعمومها وإطلاقها مرجّحاً بينها بالمرجحات الظنّية التي لا ريب في كونها هنا على القول بالوجوب (1). .

ص: 194


1- جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ج 7ص 642 .

ثمّ ذكر صاحب الجواهر إنقسام الهدنة إلى الاحكام الخمسة وخالف صاحب الشرائع في مختاره.

وتعرّض السيد الخوئي (قدس سره) لقضيّة أبي الأحرار (علیه السلام) عند تفصيله لأحكام التقيّة في التنقيح:

والصحيح ان يُمَثَّل للتقيّة المحرمة.. بما إذا كانت المفسدة المترتبة على فعل التَقيّة أشدّ وأعظم من المفسدة المترتبة على تركها، أو كانت المصلحة في ترك التقيّة أعظم من المصلحة المترتبة على فعلها كما إذا عَلِم بأنّه إن عَمِلَ بالتقيّة ترتّب عليه اضمحلال الحق واندراس الدين الحنيف، وظهور الباطل، وترويج الجبت والطاغوت، وإذا ترك التقيّة ترتب عليه قتله فقط أو قتله مع جماعة آخرين ولا إشكال حينئذٍ في أن الواجب ترك العمل بالتقيّة وتوطين النفس للقتل، لان المفسدة الناشئة عن التقيّة أعظم وأكثر كما إذا كان العامل بالتقيّة ممن يترتب على حياته ترويج الحق بعد الاندراس وإنجاء المؤمنين من المحن بعد الابتلاء ونحو ذلك.

ولكنّه أمرٌ آخر، والتقيّة بما هي تقيّة متّصفة بالحرمة في تلك الصورة كما عرفت.

ولعلّه من هنا أقدم الحسين -سلام الله وصلواته عليه- وأصحابه-رضی الله عنهم- لقتال يزيد بن معاوية وعرّضوا أنفسهم للشهادة وتركوا التقيّة عن يزيد وكذا بعض أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) بل بعض علمائنا الأبرار قدّس الله أرواحهم وجزاهم عن الإسلام خيراً كالشهيدين وغيرهما (1).

وعلّق الميرزا التبريزي على كلام السيد الخوئي المتقدّم بما يلي:

التقية المحرمة: ما إذا كان الشخص بحيث لو عمل على طبقها لم يتوجه الضرر إلى شخصه، ولكن يوجد في التقية ضرر عام أهم يترتب على ذلك، مثل الفساد في الدين .

ص: 195


1- التنقيح، تقرير بحث السيد الخوئي للميرزا علي الغروي، ج 4 من كتاب الطهارة ص 257 .

ومجتمع المسلمين، أو يستمر الفساد فيهما، بحيث يعلم أن الشارع لا يرضى بوجود هذه المفسدة، واستمرارها، ففي مثل ذلك لا يجوز فعل التقية، والتقية الواجبة على العكس من ذلك، يترتب على رعايتها الخلاص من المفسدة، ولم يكن في تركها والعمل بالوظيفة الاولية إ مصلحة غير لازمة الاستيفاء، وفي هذه الصورة تكون التقية غير واجبة، واما قضية الحسين (علیه السلام) فكانت المصلحة في شهادته بيد الاعداء والمتربعين على كرسي الخلافة، حيث أفسد عليهم الامر، بحيث لو لم يفعل لما ترتب الاثر العظيم من الحفاظ على الدين الإسلامي، وما عليه عقائد الشيعة المغفول عنها حين حكم المتسلطين على الخلافة، وكان قيام الحسين (علیه السلام) تنبيهاً للناس عن غفلتهم، وإظهارا للعقائد الحقة، التي يجب اتباعها، والحفاظ عليها، ولكي تستفيد الأجيال الآتية من قيامه والله العالم (1).

كما علّق الشيخ اللنكراني على كلام السيد الخوئي المتقدّم بما يلي:

مع إنّ اصل هذا المطلب من وجهة النظر الفقهي صحيح لا ريب فيه، إلاّ انّ تطبيقه على عمل الحسين (علیه السلام) وأصحابه لعلّه مخدوش من جهة أنّ وظيفة الإمام المعصوم (علیه السلام) وظيفة خاصّة لا تنكشف إلاّ له ولمثله ولعلّه فوق وظيفة... وبعبارةٍ أخرى كان عمله (علیه السلام) فوق عنوان ترك التقيّة بل لا ينطبق هذا العنوان بالنسبة إلى ما فعله (علیه السلام) في مورد بعض أولاده وإساقته لأهله.

والمصداق الكامل لهذه الكليّة في عصرنا هو الأمام الراحل قدّس سره في الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة حيث أنّه هيّأ نفسه فداءً في مقام المخالفة مع الطاغوت الذي كان بصدد هدم الإسلام فروعاً واصولاً (2).ل.

ص: 196


1- صراط النجاة، الميرزا جواد التبريزي، ج 3 ص 431 .
2- جواب للشيخ محمّد فاضل اللنكراني على استفتاء خطي خاص، ومحلّ النقط غير واضحٍ في الاصل.

وللميرزا التبريزي: كان الإمام الحسين (علیه السلام) مخ اّريً في الخروج واختيار الشهادة حتى مع وصوله إلى كربلاء ولكن كان له عهدٌ من جدّه وأبيه بأنّ له منزلة لا ينالها إلاّ باختيارالشهادة (1).

وذكر السيد صاحب تفسير الميزان: في الواقع لم يكن تكليفه الإلهي -أي الإمام(علیه السلام) - سوى الامتناع عن البيعة، والقتل في هذا السبيل (2).

وأكّد رأيه هذا في محلٍ آخر من الكتاب (3).

وقال أيضاً: لقد قرّر الإمام سيد الشهداء (علیه السلام) الامتناع عن البيعة رعايةً لمصلحةالإسلام والمسلمين ورجّح القتل في سبيل ذلك على الحياة (4).

وذكر الشيخ المنتظري: ان الحسين (علیه السلام) لمّا رأى انطماس آثار الحق رأساً، ترك التقيةوالمسالمة (5).

وعرض الشهيد المطهري أسباباً ثلاثة اعتبرها الأركان الاساسية التي تستند إليها الثورة الحسينيّة وهي:

أ- رفض البيعة.

ب- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ﺟ - إتمام الحجة مقابل وصول الرسائل إليه (6).

وطرح الشيخ محمّد اليزدي نظره في أنّ سياسة يزيد وانحرافاته ليست من قبيل ترك .

ص: 197


1- صراط النجاة، الميرزا جواد التبريزي، ج 5 ص 276 .
2- مقالات تأسيسية، السيد الطباطبائي، ص 201 .
3- نفس المصدر السابق، ص 204 .
4- نفس المصدر السابق، ص 201 .
5- ولاية الفقيه، الشيخ المنتظري، ﺟ 2 ص 255 .
6- الملحمة الحسينيّة، الشهيد المطهري، ج 1 ص 142 .

المعروف أو فعل المنكر -بحسب الدقّة- بل هي من باب الابتداع وأنّ يزيد بصدد السير في طريق تحريف الإسلام وأحكامه ومعتقداته.

فنهضة الإمام: لإعادة الأمور إلى نصابها ولكشف خطّة الدولة، بل لإجهاضها، إذ عند ظهور البدع: على العالم ان يُظهر علمه، وعليه الانكار في موارد الابتداع كي لا تتمّ الجريمة وتنقلب صيغة الإسلام إلى صيغة ثانية في نظر الأُمة (1).

وطرح السيد محمّد الصدر اغراضاً خمسة للثورة الحسينيّة ثمّ ذكر تحليلاً واستنتاجاتٍ له حول الخط العام الذي ترسمه الثورة للأُمة في حينها وبعدها.

قال: يمكن أن ترقى هذه الأغراض إلى عدة أشكال:

الشكل الأول: قوله(علیه السلام): «اني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب».

الشكل الثاني: إيكال ذلك إلى القضاء الالهي الذي لا يُرَدّ، بقوله: «وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي مشردين وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيدين وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً».

الشكل الثالث: إن بني أمية عازمون على قتله على كل حال.. «وإنهم لن يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي. فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم من يذلهم» وإذا كانوا على ذلك، كان الأولى مناجزتهم القتال.

الشكل الرابع: إنه (علیه السلام) رأى جده نبي الإسلام (صلی الله علیه و آله) في المنام، فأمره بالمضي في وجهته وعدم العدول عنها، وقال: .

ص: 198


1- الحسين بن علي (علیه السلام) نحو معرفةٍ أفضل، الشيخ محمّد اليزدي ص 218 .

«حبيبي يا حسين كأني أراك عن قريب مرملاً بدمائك مذبوحاً بأرض كربلا، بين عصابة من أمتي، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى وظمآن لا تُروى».

الشكل الخامس: وهو الشكل الرسمي أو القانوني للثورة الحسينية، وهو كونها استجابةً لطلب أهل الكوفة القدوم عليهم وَوَعْدِهِ بِنُ مْرصَِهتِ ضد الأمويين حيث نسمعه يقول -فيما قال- مخاطباً لأهل الكوفة:

«انها معذرة الله واليكم وإني لم آتكم حتى أتتني كتبكم، وقدمت بها علي رسلكم أن أقدم علينا فانه ليس لنا إمام، ولعل الله يجمعنا بك على الهدى»

ولمّا توفر للقائد الإسلامي المقدار الكافي من الناصرين والمؤازرين، وجب عليه إسلامياً اجتثاث حكم الظالمين، وأما حصول مقتله فباعتبار غدرهم به وخيانتهم له، بدلاً عن أن ينصروه.

ولا نريد الآن الدخول في تفاصيل ذلك، فمن أراده فليرجع إلى مصادره، وإنما المهم الاطلاع على المبرر «التخطيطي» لهذه الثورة المقدسة.

وحاصل فكرته: اننا قلنا فيما سبق أن ظروف الظلم والانحراف لا يمكن أن تكفي في وجود المخلصين ما لم تقترن بالأسس الإسلامية الموفرة للإخلاص، وإلا فان هذه الظروف تكون موجبة لضلال البشرية وانطماس العدل، وفشل التخطيط العام في النتيجة.

وإنّ من أهم الأسس لتوفير الاخلاص وتقوية الإرادة في أذهان الأمة، هو إيجاد القدوة والمثال الأعلى للتضحية أمام الفرد في مجابهة تلك الظروف الظالمة، وقد كانت ثورة الحسين (علیه السلام) أعظم مثال لذلك، حيث أفهمت الأمة بأجيالها المتطاولة، والبشرية بمجتمعاتها المختلفة، مقدار ما ينبغي أن يكون عليه الفرد من درجة الإخلاص والصمود وقوة الإرادة ونكران الذات تجاه العدل، ومن أجل محاربة الظلم والانحراف..

ص: 199

والتضحية بالنفس والنفيس والصحب والأهل والولد.

وقد كان لهذه الثورة، خلال عشر التخطيط الثالث الذي نعيشه، الأثر الأهم في إيجاد التحسس العام من أيّ ظلم، ذلك التحسس المنتهي بالثورة، صغيرة كانت أو كبيرة، وكشفت هذه الثورة أمام المخلصين، لزوم عدم اعتدادهم بأنفسهم، والاكتفاء بما هم عليه، وضرورة الصعود في خط التكامل التدريجي والتربية الحقيقية في هذا الطريق، إنهم مهما أدّوا من تضحيات سيكون الحسين (علیه السلام) وأصحاب الحسين (علیه السلام) أمامهم مثالاً يحتذى لن يصلوه إ بعد لأي.

وسيكون الفرد -نتيجة لذلك- شاعراً بكل وضوح بأهمية أطروحته العادلة، ومثمّناً ضرورة الإخلاص لها، ومتّجهاً بكل رحابة صدر إلى تقديم المصلحة العامة على كل مصالحه الخاصة، لكي يكون مؤهّلاً بالتدريج للقيادة بين يدي القائد المهدي(علیه السلام)، ومشارِكاً بالتالي في إنجاز الشرط الثالث.

وسيكون لهذه الثورة صداها المؤثّر الكبير، خلال عصر التخطيط الرابع، حتى ورد أنّ الإمام المهدي (علیه السلام) يُعلِن خلاله حربه للسيطرة على العالم شعار الأخذ بثأر جده الحسين(علیه السلام)، وسيكون المؤدّى الحقيقي لهذا الصدى الكبير شعور الأفراد في ذلك الحين بضرورة اطاعة الحق المتمثل بالقائد المهدي (علیه السلام) ودولته العالمية، كما سبق للحسين(علیه السلام)، أن ضحّى في سبيل هذا الحق نفسه، باعتبار أن الأطروحة العادلة الكاملة، هي نفسها التي كانت لدى الحسين (علیه السلام) ستكون لدى المهدي(علیه السلام). (1)

وذكر الشيخ باقر القرشي ثمانية عشر سبباً للثورة المباركة في كتابه: حياة الإمام الحسين(علیه السلام).

1 .1 المسؤولية الدينيّة.ا.

ص: 200


1- موسوعة الإمام المهدي(علیه السلام)، قسم: اليوم الموعود، السيد محمّد الصدر ص 617 وما بعدها.

2 .2 المسؤولية الاجتماعية.

3 .3 إقامة الحجّة عليه.

4 .4 حماية الإسلام.

5 .5 صيانة الخلافة.

6 .6 تحرير إرادة الأمة.

7 .7 تحرير اقتصاد الأمة.

8 .8 المظالم الاجتماعية.

9 .9 المظالم الهائلة على الشيعة.

110 محو ذكر أهل البيت.

111 تدمير القيم الإسلاميّة.

112 انهيار المجتمع.

113 الدفاع عن حقوقه.

114 الأمر بالمعروف.

115 إماتة البدع.

116 العهد النبوي.

117 العزّة والكرامة.

118 غدر الأمويين وفتكهم (1).

وطرح البعض: انتهاء بني هاشم إلى الانقراض نتيجة حقد بني أمية عليهم، وطبيعةالسياسة التي يتبعونها، كجزء علّة في طريقة إدارة الإمام (علیه السلام) لصراعه مع السلطة الجائرةالمنحرفة عن الإسلام وتعاليمه.ا.

ص: 201


1- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ باقر القرشي، ج 2 ص 270 وما بعدها.

ويؤسفني أن انقل لوناً غريباً في فهم وتحليل الثورة المباركة لأبي الأحرار (علیه السلام) لكن الأمر لا يخلو من فائدة.

فهذا تحليل للكاتب علي الوردي:

رَفَعَ راية الثورة بعد علي بن أبي طالب ابنه الحسين وسار في ذلك سيرة من يُريد أن يموت كما سار ابوه من قبل.

ثم يقول: الظاهر أن هؤلاء الناس قد جُبلوا من طينة الشهادة فهم يثورون ولايتّخذون في ثوراتهم سبيل النجاح، إنهم القوا بانفسهم إلى التهلكة وكُتِبَ عليهم الفشل في كل سبيل سلكوه إلاّ سبيل الشهادة.

ويقول: والظاهر إن الحسين كان يُريد أن ينتحر.

ثم يقول بعد ذلك: ومهما يكن الحال فقد كان مقتل الحسين من أقوى العوامل التي قوّضت دعائم الدولة الأموية في المشرق (1).

وكلامه كثير التهافت كما هو ظاهر لمن يُلاحظه «انتهى نقل الاقوال».

لا ريب انّ قسماً مما خرج له الإمام هو حالة دفاعية، كدفاعه عن نفسه بعد قرار السلطة بقتله على كل حال، وكدفعه عن الأمة المستضعفة، المستنجدة به، وغير المستنجدة، وكدفع المخاطر عن الدين الحنيف، إلى غيرهذا مما هو من مصاديق الدفاع وموارده، وما كان كذلك فلا معنى لأن يهادن المرء فيه ما دام الطرف المقابل مستمرّاً في حالة عدوانه، فالموقف المطلوب منه والمتعين عليه هو الاستمرار في الدفاع ولا غير، لأنّ الغير بالنسبة لحالته هو استسلامه لخصمه المريد لاستعباده أو قتله - والعياذ بالله العظيم -. .

ص: 202


1- وعاظ السلاطين، علي الوردي، ص 224 .

إنّ الباعث على النهضة الحسينيّة ليس أمراً واحداً، بل بواعث عدّة يصلح كل واحدٍ منها سبباً للنهضة ومنجّزاً لوجوبها مع عدم المانع، والمانع منها عدم توفّر الناصر تارةً، ووجود المعاهدة مع معاوية تارةً أُخرى، فل توفّر النصير وانقضت أيام معاوية تنجّز الحكم بالوجوب على الإمام وخرج للقيام بمجموعة التّكاليف التي كان هناك مانع من تنفيذها.

إننا لم نأخذ الثورة الحسينية وحيثياتها مِن فعل الإمام فقط، بل لدينا نصوص متعددة عنه (علیه السلام) وعن بقية المعصومين (علیهم السلام) ، وكما نُقِلَت أخبار هذه الثورة المدويّة على لسان المعصومين، فكذلك على لسان من حضرها من الحسينيين واليزيديين مما يقطع المرء أو يظنّ -بظنٍّ معتبرٍ- بحصول وصدور جملة من المنقول، والمنقول لفظي وفعلي، فالسُنّة الفعليّة أي ما نُقِلَ عن المعصوم من فعل فهو ممّا لا يمكن الأخذ بإطلاقه دون اللفظيّ من السُنّة إذ يُمكن الأخذ بإطلاقه مع تماميّة مقدمات الحكمة.

إن الحالات التي واجهها سيد الشهداء سلام الله عليه متعددة وتقتضي أحكاماً عدة ومواقف مختلفة، فبعضها قد يقتضي من الإمام التوقف عن الاسترسال في الثورة على الوضع القائم كما حصل هذا حينما عرض عليهم التوجّه إلى بلاد الله العريضة مثلاً، أو الرجوع من حيث أتى، غير أنّ تسلسل الأحداث والمجريات أدّى بالتالي إلى الموقف الصُلب الذي وقفه الإمام (علیه السلام) راضياً صابراً محتسباً ورفض معه كلّ وجهٍ من وجوه المهادنة بل هُم في الواقع لم يعرضوا عليه غير الإستسلام المذلّ الذي يُؤدّي بالراضي به إلى معاملته بما هو شأن العبيد - والعياذ بالله العظيم- والذي رفضه الإمام رفضاً قاطعاً ومضى إلى رَبِّهِ مظلوماً عطشاناً شهيداً هو ومن معه من أهل بيته وأنصاره الأبرار.

إنّ مراجعة مسيرة الحركة الحسينية تُنْتِج انّ ثورة الإمام (علیه السلام) لم ينحصر سببها في اضمحلال الحق واندراس الدين الحنيف وظهور الباطل ورواج الجبت والطاغوت.

ص: 203

المقام ليس مقام ترك تقية وتعريض النفس للشهادة لأنّ في تقيّتِهِ (علیه السلام) ما تقدّم، إذ هذا يُثير تساؤلاً وايراداً بِمَسْلَكِ الأئِمة (علیهم السلام) قبل الطف وبعده إذ إنّ هذا الحال مستمر من بعد الرسول الأکرم (صلی الله علیه و آله) إلى تمام أيام المعصومين باستثناء فترة قليلة هي أيام حكم الإمام الوصي وولده السبط(علیهما السلام).

بل قد يُقال -مع ملاحظة ما قدّمنا آنفاً- انه لا مفسدة اعظم من قتل الإمام المعصوم والذي بقتله وفقدانه من الساحة اندراس اكثر للدين واضمحلال للحق وترويج للجبت، إذ ما دام الإمام حياً فإنّه يتدارك الخراب في الدين بإعماره، واضمحلال الحق بإنعاشه وترويجه.

والذي استنتجناه هو: أنّ توفر الأنصار ومعاهدتهم على السير قُدُماً لاسقاط دولة الجور هو الذي نجّز الأمر وادّى بالإمام إلى السير قُدُماً في طريقه الاستشهادي كي تتّضح حقائق القضيّة واطرافها.

أصبح تكليف الإمام رفض البيعة وإنْ أدّى الامتناع إلى قتله؟

كان على الإمام إختيار القتل؟

هل لمجرد تحريك مشاعر الأمة مستقبلاً كي تنهض بثوراتٍٍ، وتتجرأ للاقدام على إسقاط النظام القائم، أم غير هذا؟

لا ينبغي إغفال الظروف المحيطة بسيّد الشهداء ومدخليتها في تحديد طريقة عمله وبالنتيجة في تحديد تكليفه.

إنّ لرسائل أهل الكوفة مدخليّة كبيرة في ثبوت تكليف لزوم الامتناع عن البيعة بالنسبة للإمام (علیه السلام) فإنّ عدم هذه الرسائل من أصلها أو تراجع أهل الكوفة عن تعهداتهم في وقت يُمكن فيه تدارك الأمر قد يُوجب تغيير الإمام لموقفه وتحقق امكانية

ص: 204

مبايعته للطاغية -بحسب العنوان الثانوي لاقتضاء ظروف التقية ذلك- فيزيد ليس وحده من يشرب الخمر من الخلفاء، ولا المتهتك الفرد بينهم، ولا ينحصر عنوان -قاتل النفس المحترمة- به دون غيره من الخلفاء من قبله أو من بعده، وليس لعبه بالقرود والفهود يقتضي هذا الحزم والعزم لترك مبايعته، ومِن ثَمّ إعلان هذه الثورة العظيمة ضدّه، ولعلّ لغيره من الخصال ما يجعله يفوق خطورةً على يزيد ويقتضي معه موقفاً أشدّ، نعم: يزيد يلعب بالقرود والكلاب والفهود، وهو يحضرهم في مجلس حكمه، بعد أن يلبسهم الملابس الفاخرة، ويجلسهم معه على دست حكم بلاد الإسلام، وهو تهتك يتميز به ومشتهر عنه، وهو من جملة أسباب النهضة، غير أنه ليس كل شيءٍ في المقام حتى يتخصص وجوب الثورة به دون غيره.

إن الإمام لمّا سُئل الثورة أيام معاوية قال أن بيننا عهداً، فلم يُبرئه عن لئيم الخصال وعظيم الجرائم، ولم يقل انّه غير مستحق للخروج عليه، بل على العكس تماماً إذ ورد في الرسالة المروية عنه (علیه السلام) إلى معاوية أنه ترك جهاده وهو يخاف الله تعالى في هذا الترك بل يرى ان جهاد هذا الطاغوت من عوامل القرب من المولى سبحانه وَ قُحمَِّقاً لِرِضاه جَلّ وعلا: «وما اظن الله راضياً مني بترك محاكمتك إليه، ولا عاذري دون الاعتذار إليه فيك، وفي اوليائك القاسطين المُلحدين، حزب الظالمين وأولياء الشياطين». (1)

فإن علة الخروج لا تنحصر في الصفات الرذلة التي يتّسم بها يزيد، لانّه غير متفرد بها، بل يعود هذا لمجموعة عوامل، أدّت إلى إصرار الإمام صلوات الله عليه على عدم البيعة، وإلى استشهاده المفجع بالتالي.ة.

ص: 205


1- راجع: الاحتجاج، الشيخ الطبرسي ﺟ 2 ص 89 ، والحسين، السيد الجلالي، ص 117 عن مصادر العامة.

ص: 206

السرّ في النهضة أيام يزيد

بعد ملاحظة «المسلّمات» التي قدمناها، والتسليم بها، وبعد ملاحظة بواعث الثورة وأهدافها، تتضح مجموعة من الأسباب التي قد تكون جميعها أو بعضها سبباً للحركةالحسينية المظفرة في عهد يزيد دون عهد أبيه.

انّ كل من سَبَرَ التاريخ، وعرف تلك الفترة الكالحة المظلمة من تاريخ المسلمين، يعلَمُ أنّ معاوية لا يقلّ خطورةً وَهَوْلاً عن يزيد، بل يزيد.

فالأب أحقد، إلاّ أنّه أدهى وأمكر في تحقيق مرامه، والتوصل إلى أهدافه، والاّ فدفن الشريعة المقدسة، وذكر نبيّها، هدف مشترك بين الولد والوالد، غير أن الأخير يُنضج مرامه على نارٍ هادئة، والابن يستعجل، واستعجاله كاد أن يؤدّي في غفلة من الزمن إلى إنهاء الدين المحمدي وإزاحته عن ساحة الوجود سريعاً، غير أن الإمام الحسين (علیه السلام) كان لأهدافه بالمرصاد، فقلب المعادلات، وأزاح آل أبي سفيان بشكلٍ أسرع عن سدّة الحكم، وعن ساحة الوجود، ثم انتهى الأمر إلى إزاحة بني امية قاطبة ببركة التضحية الحسينية.

فأول ما يُطالعنا في الثورة الحسينية إباؤها الانطلاق في عهد سيد البغاة معاوية، وانفجار بركانها بعد نزو يزيد على منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) و تحكيم قبضته على البلاد والعباد بالرغم من اشتراك العهدين بالمساوئ والمظالم والفتن والعداء السافر للإسلام والإنسانية، ولآل محمد خير البريّة وأنفعها للنوع الإنساني، فما السر وأين يكمن الفرق؟

السبب الأول:التزام الإمام الحسين (علیه السلام) بصلح الإمام الحسن (علیه السلام) ولوازمه.

وهذا الصلح -كما هو معلوم- عقد بين خليفة المسلمين الإمام الحسن السبط(علیه السلام)،

ص: 207

وبين الباغي الأكبر معاوية، وتمّ عقده نتيجةً للمفاسد والمخاطر الكبيرة التي انتهت إليها شوؤن المجتمع الإسلامي، من إغارة جيوش معاوية على المدن الإسلامية، وما انتجته تلك الإغارات من قتل ونهب وهتك وغيرها من الجرائم، وبسبب رشاويه لمختلف الشخصيات، ولمحاولته اعتقال الإمام الحسن (علیه السلام) وإيقاعه في محنة، واستعداده للبدء بتنفيذ خطةٍ مهولة في القضاء على البيت الهاشمي وشيعة عليٍّ أمير المؤمنين وكل ما يرتبط بهذا النهج، وبالنتيجة:

التمكّن من القضاء على الكيان الإسلاميّ كلّه -والذي قضى على كيانهم وأحلامهم وجبروتهم في مكة- لو لا إن الإمام (علیه السلام) تدارك الأمر، ورضي بالصلح والتهدئة، مما أفشل خطة معاوية في الإبادة، وإن لم يترك الغادر أمر الانتقام بكلّيته.

وقد التزم الإمام سيد الشهداء بهذا العقد والصلح، ولعل هذا من مقتضيات إمامته وعصمته ورفيع مقامه- وإن التزمنا بأنّ مثل هكذا عقدٍ غير مُلْزِ مٍ لغير المعصوم بحكم الظروف المحيطة التي انتجت ظهوره- إذ التفريط بالعهود والعقود ممّا يُوهن مقام الإمام ويفقده مصداقيته، والعكس بالعكس، كما أن القرآن الكريم يؤكد على الوفاء بالعقد والعهد.

بل إنّ من أسباب ضياع الخلافة من سيد الأوصياء (علیه السلام) هو نكث الناس للعهد والعقد الذي جرى بينهم وبينه في غدير خم وغيره.

وكذا هو من أسباب الزلزال الذي حصل في دولة الإمام الوصي حتى اشتهر جماعة من مناوئيه - من موقدي الفتن في دولة الإسلام الفتيّة - بالناكثين.

ومن أسباب انهيار الحكم الحق في دولة الإمام الحسن، والتجاء الإمام لترك الخلافة الظاهرية، حتى ركب معاوية صهوتها، وأين هو منها.

ومن أسباب الفاجعة الحسينية فيما بعد، وسيطرة يزيد بالتالي على ديار الإسلام.

ص: 208

كل ما تقدم وغيره كثير لم يحصل الاّ بنكث العهود ونقض المواثيق، فمرض النكث كان مستشرياً في المجتمع الإسلامي وبقي، وهو من الأدواء المستعصية على العلاج، والحسين (علیه السلام) نفسه سيحتاج حين قيام دولته المقدّسة - لو قُدّر لها القيام - إلى وفاء الناس بعهدهم والتزامهم ببيعتهم، أفيكون أُسوةً لهم في هذا الميدان، وحجّة يتشبثون بها.

لكن هنا ملاحظة:

أن عقد الصلح الذي عقده الإمام الحسن (علیه السلام) مع معاوية، والمرتكز على شروط اشترطها الإمام، والزم بها معاوية، قد فقد أثره الشرعي والقانوني منذ ساعاته الاولى، وذلك:

لأن معاوية أعلن من على منبر مسجد الكوفة إمام الجيشين، وبحضور الإمامين، أن كل شرط شرطه للإمام، فهو تحت قدميه ولا يلتزم به، فقد نقض هو عهده وعقده علانيةً، وعلى رؤوس الاشهاد، فعلى هذا لا يلزم الطرف الثاني أيضاً، لانهدام أصل العقد.

كما أنّه - معاوية - مارس نقض الشروط عملياً، بعدما أعلن قولاً عدم التزامه بالوفاء بها، فإذن: ما الذي يدعو الإمام (علیه السلام) لاحترام هذا العقد ومراعاته، ولعدم اتخاذ خطوةٍ مسلحةٍ خلال الفترة ما بين الصلح وأيّام الطف؟

في الواقع: أنّه لم يكن أمام الإمامين السبطين (علیهما السلام) غير التمسك بالصلح، والإبقاء على حالة الهدنة الظاهرية، لأن الالتزام بانتهاء أثر الصلح - وإن تسبّب عن غدر معاوية ونكثه - معناه: العودة إلى حالة الحرب، ودولة الإمام وجيوشه قد إنهارا، فالعودة إلى الحرب معناها إبادة الإمامين العظيمين ولدي رسول الله، وإبادة البيت الهاشمي وشيعتهم، وتحقيق أمر كان يبيّت له معاوية ويتمناه، ويدفع عجلته بمختلف الوسائل، وإنما عقد الإمام الحسن (علیه السلام) الصلح وترك قيادة الأمة الإسلامية الناكلة عن وعودها

ص: 209

للحيلولة دون هذه المحاذير، فالظرف الذي اقتضى من الإمامين الصلح وترك القيادة الظاهرية للأمة ما زال قائماً، فمعاوية الذي أوصل الأُمور إلى هذا المدى من الانهيار ما زال حياً هو وامكانياته، فلا فائدة تُرتجى من النهضة من جديد، وهذا بخلاف ما حصل بعد هلاك معاوية، إذ استعدّت بلدان كثيرة للثورة على معاوية، فالكوفة مستعدة وهي من أعظم مدائن العالم الإسلامي يومذاك، وكذا مكة والمدينة والبصرة، بل قد حدثت الثورات في بعضها فيما بعد، الاّ ان عدم تآزرها مع الإمام سيد الشهداء (علیه السلام) مكّن يزيداً من القضاء على جميع الثورات، بالاضافة إلى غدر أهل الكوفة وخذلانهم.

بينما الإبقاء الظاهري على الصلح يفوّت الفرصة على معاوية، وهذا وإن يؤدّي إلى تحمّل خسائرٍ هي حاصلةٌ على كل حال، إلاّ أنه يوفّر الأرضية للمقاومة المستقبلية، وقداستشهد الإمام الحسن المجتبى بغصّته، وورث الحسين ثأره وقضيته واهدافه.

فإذن: هذا سبب لعدم هدم كيان الصلح.

والسبب الآخر المحتمل: إن ذلك الالتزام بين الإمام ومعاوية بنظر عامة المسلمين ما يزال قائماً، ولا يمكن للإمام وهو يريد هداية الأمة وإراءتها طريق الحق رحمةً بها الا احترام العهد الذي بينه وبين السلطة المُدَلِّسَة، وعدم الخروج عليه الاّ بمسوّغ بنظر العموم، كي لا ينقض غرضه.

إلاّ أنّ مما لابد من التنبيه عليه، أنّ في الصلح شقيّن:

أ- الصلح وشروطه، وهذا قد نقضه معاوية بمنظرٍ من الجميع ومسمع، وعند دخوله للكوفة.

ب- بيعة الإمام وجنده لمعاوية اثر الصلح، والبيعة تقتضي عدم الخروج على المبايع، ولابُدّ ان معاوية قد اخذ البيعة من الإمامين، ومن قادة جندهما، وعامة جيشهما، بل من الناس كافة، بمن فيهم أهل الكوفة، والكوفة هي القاعدة العسكرية للإمامين(علیهما السلام).

ص: 210

وما ذكره معاوية في رسالته للإمام، إنما يخص بيعة الإمام، لا لتأكيد عقد الصلح.

قال معاوية: «وإنّ أحقّ الناس بالوفاء نِملَْ أعطى بيعته، من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها». (1)

فهو قد اخذ على الإمام عهداً أن لا يخرج عليه.

إذن الصلح لا أثر له، بل الأثر للبيعة الملزمة، والإلتزام بالبيعة هو الذي أدى بالإمام إلى عدم ترتيب الأثر على رسائل أهل الكوفة ما دام معاوية حيّاً، وهكذا كان.

السبب الثاني:خصوصية شخصية يزيد، وسلوكه المنحرف.

يزيد يختلف عن أبيه في السيرة الشخصيّة والسلوك الظاهري، وفي إسلوب الإدارة والحكم، وإن كان الجوهر فيهما واحداً.

فمعاوية لم يكن بذلك التظاهر بالفجور والتهتك الذي كان عليه يزيد، إذ كان يُداري أمره ويُراعي بعض ما تتحسس الأمة منه، للإبقاء على نفسه ومُلكه.

التهتك العظيم والاستهتار الظاهرين في يزيد كان يمثّل تحدياً من هذا الطاغية للامة ومشاعرها ولقادتها الربانيين، وينذر بخطر عظيم على الدين، كمثل خطر تحريض بعض الأمة بل دفعهم دفعاً إلى تجاوز كل الخطوط الحمراء في الشريعة، والتمرد على التشريع الالهي بكل إبعاده وحدوده، ومعنى هذا إعلان دفن الإسلام وتشريعاته على الملأ، وضياع الجهود الجبارة للنبي وأهل بيته وصحبه الأبرار الذين هم على دربه لبناء الكيان الإسلامي.

إن تحدي يزيد السافر للأمة باستهتاره المُعلَنْ كان استخفافاً بالأمة كلها، واذلالاً وامتهاناً للإسلام ولقادته الحقيقيين، بل لجميع المسلمين قاطبةً إمام العالم كله يومذاك. .

ص: 211


1- الغدير، الشيخ الاميني، ﺟ 10 ص 340 .

دولة الإسلام الفتيّة التي أرهبت دول الكفر وجموعه واستمالت مختلف تيّارات الكفر للانضواء تحت لوائِها - اقتناعاً أو طمعاً أو رهبة - كيف يعلو عرشها من يستخفّ ويستهتر بكل قيمها ثم يسكت عنه قادة الإسلام وجماهيره خوفاً من الموت، أو الأذى والضرر.

عن الإمام الشهيد (علیه السلام) عند مخاطبته لوالي المدينة:

«إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ليس له هذه المنزلة، ومثلي لا يُبايع مثله». (1)

وعن التاج في اخلاق الملوك: إن يزيد كان لا يمسي إلاّ سكراناً، ولا يُصبح إلاّ مخموراً (2).

وفي بيان أهل المدينة حين خروجهم على يزيد بعد استشهاد الإمام بأشهر، وكان وفد منهم قد زار يزيد في عاصمة ملكه:

«قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويضرب الطنابير، ويعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، وَيَسْمُر عنده الخُرّاب والفتيان، وإنّا نُشهِدُكُم أَنّا قدخلعناه». (3)

وفي رسالة الإمام لمعاوية عند تعداده لجرائِمِه:

«وأخذك الناس بالبيعة لابنك، غلام سفيه، يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب». (4)ة.

ص: 212


1- الملهوف، السيد رضي الدين ابن طاووس. ص 98 .
2- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 2 ص 145 ، عن التاج ص 151 .
3- معالم المدرستين، السيد العسكري، ﺟ 3 ص 181 .
4- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 2 ص 227 ، عن الإمامة والسياسة.

وفي خطاب الإمام (علیه السلام) إمام الحر وجيشه:

«أيها الناس، ان رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسُنّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغَيَّرْ ما عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يُدخله مدخله، ألا إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرموا حلاله». (1)

فما العمل؟

الحسين (علیه السلام) بعمله النهضوي لقّن كل الطواغيت الحاكمين لبلاد المسلمين درساً لن ينسوه أبد الدهر.

إنّ تجبر الحاكم واستهتاره لابُدّ أن يكون له حدود، والتقية قبالهم لها حدودها، فلا يُترك الحاكم يطحن الكيان الإسلامي، ويُنهي وجوده أمام سمع الناس وبصرهم من دون تحرّك تغييري يُوقف عملية التدمير.

الأئمة (علیهم السلام) مع عدم تمكنهم من التحرك التغييري قد يتص وّربن تجاه حاكم الجور ما دام جوره لا يمس جوهر الإسلام ولا يُنهي وجوده، فإذا بلغ الأمر هذا المقدار فلابدّ من عمل أي شيءٍ لتغيير مجرى التدمير، أو للتخفيف من غلوائه.

السبب الثالث:لا خيار الاّ القتل.

إنّ يزيداً ألجأ الإمام (علیه السلام) إلى اختيار القتل من بين الخيارات المطروحة أَمامه، وهي:

الخيار الاول: البيعة.

الخيار الثاني: النزول على حكم الفئة الحاكمة - أي الاستسلام دون قيدٍ أو شرط، .

ص: 213


1- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 80 .

شأن العبيد، والعياذ بالله العظيم -.

الخيار الثالث: المناجزة والقتل.

- البيعة تعني ضياع جهود الإمام لقلب نظام الحكم، وتضييع الإمكانات والفُرص المتاحة لتحقيق هذا الهدف في هذا الوقت، وهو أنسب ممّا قبله، وبمبايعته ليزيد يستحيل عمل شيءٍ بعد هذا الوقت، فكان على الإمام الإسراع باستثمار كل الإمكانات المتوفرة لتوجيه الضربة القاصمة لكيان تلك الدولة - دولة الجور والفجور - كي يتصدع وينهار عاجلاً أم آجلاً.

البيعة معناها: إنهيار معنويات الأمة، وخضوعها لارادة الحاكم القاهر، والذي يعمل بكل ما أمكنه رِحلَْف الأمة عن سبيل سعادتها، ولسلب إرادتها، وحرية الاختيار عندها، وعن الخضوع لأحكام الإسلام.

- والنزول على حكم الفئة الحاكمة يعني الاستسلام بدون قيد أو شرط، وللحاكم أن يفعل ما يشاء بالمستسلم، وهذا شأن العبيد، فالمرء حين يستسلم يُؤسر ويُستعبد ويُباع ويُشترى ويُستخدم وقد يختار آسره قتله أو فدائه.

الحسين ابن رسول الله محرّر الإنسانية وسبب سعادتها ونجاتها في الدارين.

الحسين خليفة الله في الارض.

الحسين وارث مقام آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وعلي والحسن، أي وارث مقام كلّ الانبياء والاوصياء عبر تاريخ الإنسانية الطويل.

الحسين وصي محمد وعلي والحسن صلوات الله عليهم أجمعين.

الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم فضلاً عن غيرهم.

الحسين حبّه حبّ لله، وبغضه بغض لله، حربه حرب لله، طاعته طاعة لله، كلمته

ص: 214

عن الله ورسوله، وهو عِدْلُ القرآن، وسفينة نجاة الأُمّة، وأحد أصحاب الكِساء، وآية التطهير، وآية المباهلة.

كيف يستسلم الحسين لهم وَكَ حرمته كَ رِحلُْمَةِ كُلّ من يُمَثِّلُهُمُ الحسين ويرث مقامهم؟

ولمن يستسلم؟

ليزيد وابن زياد؟

لأَراذِلِ الأمة؟

لأحطّها قدراً، واقذرها منبتاً، واشدّها كفراً وَعَداءاً لله ورسوله.

الحسين يقول: «لا والله لا اعطيكم بيدي إعطاء الذليل». (1)

ويقول صلوات الله عليه وسلامه: «ألا وانّ الدعيّ بن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذِلّة، وهيهات منا الذِلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وحجور طهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن تُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام». (2)

نعم: عَرَضَ عليهم الذهاب في بلاد الله العريضة والرجوع من حيث أتى - بحسب المروي - لكنّهم أبوا عليه إلاّ ما قدّمنا ذكره، فاختار الموت ليبقى دين الله حُرّاً ناصعاً، وَليُكْمِلْ مَن بَعْدَهُ مِنْ أوصياءِ الرسول الأكرم مسيرته.

وقد التزم السيد المرتضى في كتابه - تنزيه الأنبياء - بأن الإمام مقتول على كلّ حال، وا مّهن إنما كانوا وّرييخنه فإنما بين أمور يعلمون عدم رضاه بها قطعاً، وانّه سيختار الموتر.

ص: 215


1- الإرشاد، الشيخ المفيد، ﺟ 2 ص 98 .
2- الملهوف، ص 156 ، وحياة الإمام الحسين (علیه السلام) للقرشي ﺟ 3 ص 139 ، عن ابن عساكر.

عليها - على إنّ نتيجة الخيارات الأخرى هي الموت أيضاً - (1).

ولم يكن هذا مسلك يزيد فقط، وإنما كان طريق ابن زياد (2)أيضا في التعامل مع الإمام، والذي يُرشد إلى إن غايتهم هي قتل الإمام على كل حال، ما صدر منهم تجاه سفيره مسلم (رضی الله عنه) إذ إ مّهن أمّنوه ثُمّ قتلوه، إذ الغدر ونكث العهد لهم عادة، وهو القاعدة في سلوكهم مع الجميع، وفي كافة مجالات الحياة، ولو لم يكونوا على هذا المسار لاسْتَبْقَوا مُسْلِماً للمساومة مع الحسين(علیه السلام)، أو للتدليل على حسن النيّة، وأين هم منها؟

الحسين لم يطلب الموت، ولم ينحصر تحقيق هدفه بالموت، وإنما اختار الموت من بين الخيارات المتاحة إمامه، فاختاره وحافظ بهذا على البقية الباقية من معالم الإسلام.

المؤمن غير مخوّل بإذلال نفسه (3)، فكيف بإمام المؤمنين، وفي أمرٍ يتعلّق بالدين، وبشخصيته كقائم مقام النبی (صلی الله علیه و آله)، أفيُلقي اليهم بيد، فيختاروا في أمره ما شاءت لهم أمانيّهم، وهذا عين المستحيل من خليفة الله ورسوله.

السبب الرابع: شراسة معاوية وحيلته.

طغيان معاوية وجبروته وشراسته، جعلت حالة من الرعب والخوف وخور النفوس تهيمن على الأمة.

ولهذا لم يُعرف عن أيامه قيام حركات مسلحة مناهضة له لها أهميتها، فكان وضع الدولة في عهده بعد صلحه مع الإمام الحسن (علیه السلام) هادئاً تقريباً بالنسبة له، وأما بالنسبة للناس فقد كانوا في مرجل وما هُم الاّ مُصابُّ في دينه أو مُصابٌ في دنياه. .

ص: 216


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ، ص 99 عن تنزيه الانبياء.
2- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 100 .
3- عن مولانا الصادق(علیه السلام): «إنّ الله تبارك وتعالى فوّض إلى المؤمن كل شيء إلاّ إذلال نفسه» فراجع: وسائل الشيعة، ﺟ 16 ص 157 .

نعم، قام معاوية بحملات إبادة وتنكيل واسعة النطاق لتشتيت شمل الأمة وهدّ قواها واشغالها عن واجبها ومهمّها - وهو اقصاؤه عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) - كيف وقد ورد عن النبي الأكرم الأمر بقتلِهِ إن وجدوه على منبره، فعنه(صلی الله علیه و آله): «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه». (1)

ويكفي - لأخذ فكرة عن الأبعاد الإجرامية لمعاوية - الالتفات إلى كتابه الذي أرسله نسخة واحدة إلى عموم وُلاته في العالم الإسلامي، يأمرهم فيه بأخذ الناس على التُهْمَةِ والظِنّة، وإنزال أشدّ العقاب بكلّ من احتملوا في حقّه الولاء لسيد الأوصياء (2)، إذ عليهم أن يهدموا داره، ويشرّدوه، بل يفعلون به الأفاعيل.

وبقراره هذا ترك كل من شمله في عِداد الأموات، فإمّا ميت بجسده، أو ميت بالنسبة للوضع المعاشي العادي للناس، إذ لا دار له ولا ملجأ ولا مال ولا مستقر إن لم يُسجن ويُنَكَّل به.

ومِن أشكال ريادته للإجرام قطعه لرأس العبد الصالح عمرو بن الحمق الخزاعي وتسييره في البلدان وهو أوّل من فعل هذا في الإسلام.

نعم سبقه خالد بن الوليد عند ما قطع رأس مالك بن نويرة، وجعله ثالث الأثافي لِقِدْرِ الطبخ، ونزا على زوجته في ليلة مقتله بدون عِدّة لها من زوجها الشهيد (3).

وقد قتل معاوية عمراً بعدما اعتقل زوجته وأودعها السجن إلى أن تمكّن من زوجها، وهو أول من اعتقل امرأةً لغرض الظفر بزوجها في الإسلام، وأول من سجن امرأة لا لظلم منها، وقد فعل هذا بعمرو بعدما أمّنه وأعطاه من العهود والمواثيق ما لوء.

ص: 217


1- فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ﺟ 3 ص 243 .
2- راجع: النصائح الكافية لمن يتولى معاوية.
3- الاستغاثة، ص 9، وذكرها الطبري وابن الأثير والواقدي والعسقلاني وابن سعد وأبو الفداء.

أعطاه لطائر لنزل إليه من رأس جبل على حدّ ما كتبه الإمام الحسين (علیه السلام) لمعاوية في رسالةله طويلة، وفي آخرها:

«وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولامة محمد، واتق شقّ عصا هذه الأمة، وأن تردّهم إلى فتنة، وإ لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولامة محمد (صلی الله علیه و آله) علينا أفضل من أن أُجاهدك فإن فعلت فانّه قُربةٌ إلى الله، وإن تركته فإ استغفر الله لذنبي وأسأله توفيقه لإرشاد أمري». (1)

كما قام معاوية بقتل حِجْر بن عَدِيّ الكِنْدي وأولادهِ وصَحْبِه لحبّهم علياً (علیه السلام) وهو أوّل من قتل في حب علي «والحق أنّ الزهراء البتول أوّل من قُتِل في حُبّ عليّ، ولأجلِ عليّ، وفدائيّةً لعليّ -صلوات على الوصيّ عليّ وعلى زوجته البتول الشهيدة وعلى أولادهم الأحد عشر المعصومين، وبارك الله في كلّ ما صدر عن الوصيّ والبتول بلا حدٍّ ولا أمد-».

وأرسل إلى اليمن جيشاً فعل بأهلِها الافاعيل، ومما فعلوا: أنهم باعوا نساء المسلمين المحبّين لعلي (علیه السلام) في الاسواق لحبّهم علياً(علیه السلام)، ومعاوية أوّل من باع نساء المسلمين في بلاد المسلمين.

وبائقة الدهر: قتله ريحانة رسول الله (صلی الله علیه و آله) مولانا أبي محمد الحسن المجتبى سيد شباب أهل الجنة، والخليفة القائم مقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأمْرٍ من الله تعالى، وَنَصٍّ من النبي، وباختيار ومبايعة من الأمة.

ومن عظائمه: سَنُّهُ لِسَبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) في جميع أرجاء العالم الإسلامي قَهْراً ومحنةً للأُمّة مع إنّ عامة المسلمين قد رووا عن النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) قوله: .

ص: 218


1- الحسين(علیه السلام)، الجلالي، ص 117 .

«من سبّ علياً فقد سبّني ومن سبّني فقد سبَّ الله». (1)

ومن عظائمه - وعظائمه لا أوّل لها ولا آخر - تأميره يزيداً على الأمة من بعده، بمحضر أهل بيت النبي الأعظم، وخيرة صحابة النبی (صلی الله علیه و آله) وما لا يحصى من قرّاء الأمة، وعلمائها، وافاضلها، وكل ذلك مبارزةً لله سبحانه، واستعلاءً عليه، وطغياناً لم يُعْهَد مثله في الإسلام أبداً.

بل هو الذي سنّ الطغيان لجبابرة الأمة وفراعنتها وطغاتها من بعده.

ويكفيك للدلالة على عتوّه وبلوغه الغاية في إجرامه، قول مورخٍ في فترة ما بعد توليته زياد بن أبيه على الكوفة: «فلم يبق بالعراقين أحد مشهور إلاّ مقتول أو مصلوب أو طريد أو هارب»(2) من شدّة أفاعيله بمحبّي علي (علیه السلام) وبمهبط شيعته ومقرّ حكمه وانصار خلافته.

ومما كتبه لعماله أنّه: برئت الذمة ممن روى شيئاً في فضل أبي تراب وأهل بيته.

السبب الخامس: شراء معاوية للذمم.

إن معاوية قد أسرف في شرائه لضمائر وذمم كثير من رؤساء العشائر، ووجهاء المُدن(3) وناكثي العهود، ممّن لهم القدرة على تحريك الجماهير، أو التأثير فيها، لدعم كيان دولته، أولمنعهم من المشاركة في هدّها.

استغلّ معاوية ظرف تأثّر هؤلاء من سياسة أميرالمؤمنين (علیه السلام) في المساواة بين شيوخ العشائر وأفراد الأمة العاديين في العطاء وفي الحقوق وفي الغنائم، إذ ما فضّل أميرالمؤمنين رئيساً ووجيهاً لمقامه، ولا غَبَنَ ضعيفاً لضعفه، فجاء معاوية وهؤلاء المتهوّسون .

ص: 219


1- فضائل الخمسة، السيّد الفيروز آبادي، ﺟ 2 ص 229 عن المستدرك على الصحيحين وغيره.
2- السقيفة، سُليم بن قيس الهلالي، ﺟ 2 ص 784 .
3- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ﺟ 2 ص 84 .

للتميّز على باقي افراد الأمة، والمتهالكون في الاستحواذ على كل شيء، في تأثّرٍ من سياسة الإمام فبذل لهم الاموال الطائلة، والوعود بعطايا ومناصب، فاعرضوا عن الدين، وعن تذكر المعاد، وعن الاتعاظ بسنن الله تعالى في عباده، فتسابقوا لنيل عطايا معاوية، وإيقاع الهزيمة في جيش الإمام، عبر تخذيل الناس، وإحداث الفتن، والتقاعس عن المسير للحروب، والتثاقل عن الانصياع لأوامر الإمام.

هؤلاء اعتادوا على سياسة عثمان الذي اعطى سُمخ غنائمغ أفريقيا لعبد الله بن أبي سرح(1) طريد رسول الله (صلی الله علیه و آله) لكونه أخاً له بالرضاعة، فكيف تلائمهم سياسة الإمام الذي يحرم أخاه عقيل من أقلّ القليل.

فعنه صلوات الله عليه:

«والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتى استماحني من بُرّكم صاعا، ورأيت صبيانه شُعثَ الشعور، غبر الالوان من فقرهم، كأنّما سُوّدت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكداً، وكرّر عليّ القول مُرَدِّداً، فأصغيت إليه سمعي، فظنّ أني أبيعه ديني، وأتّبع قياده مفارقاً طريقتي، فأحميت له حديدة، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجّ ضجيج ذِي دنَفَ مِنْ ألمها، وَكاد أنْ يحترق مِنْ مَيْسَمِها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئنّ من حديدةٍ أحماها إنسا اُهن للعبه، وتجرّني إلى نارٍ سجرها جبّارها لغضبه، أتئنّ من الأذى ولا أئنّ مِن لظى». (2)

فسياسة معاوية هذه أدت بهؤلاء المرتشين إلى التقاعُس عن النهضة، والتصامُم عن نداء الدين، والضمير، والأمة المفجوعة، والإمام الثائر، فلابُدّ من الانتظار ريثما يتغ الظرف. .

ص: 220


1- الغدير، الشيخ الاميني، ﺟ 2 ص 394 عن مجموعة من مصادر العامّة.
2- نهج البلاغة، السيد الرضي، ص 472 ، الخطبة 224 .

السبب السادس: إن سيد الشهداء بحكم عقد الصلح المبرم بين الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) وبين معاوية هو صاحب الحقّ الوحيد(1) والسهم الأوفر في خلافة الأمة الإسلامية مع هلاك معاوية، ووفاة الإمام الحسن (علیه السلام) قبله.

وبالرغم من أن معاوية قد أعلن فور دخوله الكوفة بعد الصلح، نكثه لعهوده مع الإمام الحسن (علیه السلام) إلاّ أنّه لم يجرِ ترتيب آخر لمسألة ما بعد معاوية إلى آخر أيامه حين عزم على استخلاف يزيد.

فلم يكن من المناسب الخروج على معاوية مع إمكانيّة الظرف لاستلام الإمام الحسين (علیه السلام) للخلافة بهدوء، ويكفي لإثبات أحقيّتِهِ في التقدّم على كُلِّ أحد، ما ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بشأنه ممّا رواه جميع المسلمين على اختلاف مذاهِبِهم ومشارِ مِهب.

السبب السابع: الظروف السيئة والتي بسببها صالح الإمام الحسن (علیه السلام) معاوية لازالت قائمة فمعاوية وبطشه وأمواله وَغشّهُ ومكائده واستماتته من أجل البقاء في الحكم وكثرة انصاره عقبات إمام النهضة فلا مجال للنهوض، إذ لا مجال للتغيير.

أما مع هلاك معاوية فإن أمور الدولة ستنفرط بعض الشيء مما ينفع في استغلال الظرف لزعزعة أركان النظام القائم، وهدّه بخسائر أقل، وبنتائج مضمونة.

السبب الثامن: إن خروج سيد الشهداء على القائم مقام معاوية فيه المشروعية الكاملة بنظر عموم المسلمين، وليس هذا كخروجه على معاوية.

أما عند الشيعة: فَ نِألََّهُ الإمام المعصوم، وخليفة رسول الله ووصيّه، وهو صاحب الحق الوحيد في زعامة المسلمين، وقيادة الدولة، وولاية الأمر، وهو أولى بكل مسلم من نفسه. .

ص: 221


1- راجع كتاب صلح الإمام الحسن(علیه السلام)، للشيخ راضي آل ياسين، ص 260 من منشورات ناصرخسرو، وقد نقل هذا عن عُمدة الطالب لابن مهنا ص 52 .

وإما عند غير أوليائه: فلملكاته، ولفضله على غيره، ولما ورد في حقّه عن النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله)، ولحُسن سيرة أهل البيت (علیهم السلام) في الأمة، خصوصاً بعدما ذاق الناس من غيرهم الأمرّين.

ويُلفت إلى علو مقامِهِ عند غير شيعته:

1- إن الناس حين يُؤخذون بالقوة، فإ مّهن ينكلون عن أهل البيت ويجبنون ويتخاذلون، وقد حدث هذا في السقيفة وغيرها.

أمّا حين يُتركون وشأنهم فلا يختارون غير محمد وآل محمد، كما حدث هذا بعد مقتل عثمان، وبعد استشهاد أمير المؤمنين، وبعد هلاك معاوية، إذ رغبت الأمة في الحسين دون غيره - وهذه الفقرة تشمله مع بقية ال البيت(علیهم السلام).-

ومقصودنا من الناس هنا غير الشيعة، والاّ فالشيعة لا خيار لهم ولا اختيار غيرالأئمة من أهل البيت، وإن جرى ما جرى، والحوادث على طول التاريخ خير شاهد.

2- إن خوف الأمويين في الدرجة الأولى كان منه(علیه السلام)، مع قلة شيعته الذين هم محلّ اعتماده، وما هذا إلا لعظم موقعيته في نفوس عامة أبناء الأمة، ولتاثيره الشديد في نفوسهم وحركتهم.

3- ومما يثير التأمّل والشجون، ويصلح شاهداً هنا، قول الفرزدق أو الطرماح أو غيرهما - على الخلاف - له (علیه السلام) وهو في طريقه إلى الكوفة:

قلوب الناس معك، وسيوفهم عليك (1).

4- إن توجه الأمة كان إليه لاستنقاذها من حكم بني أمية وطغيانهم، ولم يكن هناك توجه عام إلى شخصٍ أخر غيره.ك.

ص: 222


1- الدرجات الرفيعة، السيد علي ابن معصوم، ص 548 ، والأخبار الطوال، الدينوري، ص 245 ، بحذف: معك.

5- إنّه حيثما حلّ (علیه السلام) فان قياد الأمة كان بيده، وما هذا إلاّ لخضوع الناس له وتعظيمهم لمقامه، مع أنهم لم يكونوا شيعةً له بالمعنى المصطلح، ولهذا كان ابن الزبير في ضيقٍ من وجود الإمام معه في مكة في نفس الفترة لأنه يعلم أن لا أمر له فيها ولا نهي ما دام الإمام بمكة، فكان يتمنى خروج الإمام منها لتصفو له طاعة اهلها.

وما قدمناه، مشترك بين أيام معاوية وأيام يزيد، والفارق هو:

إن في معاوية جوانب تثير التردد لدى بعض الناس من الخروج عليه، وليست هي بمتوفرة في ابنه، ككونه صحابياً، أو خالاً للمؤمنين، أو كاتباً للوحي، أو ولياًّ لدم عثمان، ونحو هذه من المبررات التي لا يسوغ معها لاحدٍ اعتمادها في مقابل النصوص الكثيرة والعظيمة في الكتاب والسُنّة والمنادية بمحورية الإمام الحسين سبط النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله)في حركة الأمة، وبلزوم انضواء كلّ فردٍ في الأمة تحت رايته وإلا فهو متمردٌ على الله، ومتحدٍّ لإرادته - تعالى وتقدّس-.

أمّا يزيد فكان ظاهر الاستهتار، والغٌ في المحرمات، هاتك لحجاب ستره، مع فقده لصفات الشيطنة التي كان متوفرة في أبيه، والتي مكنته من خداع الأمة وكسر إرادتها كي يحكمها ويصنع في أمرها ما يحب ويشتهي، كما كان فاقداً للصفات والعناوين المتقدم ذكرها، والتي كان البعض يروجها لأبيه كي كُحيم له أمره وسلطانه، ولذلك لم يتم ليزيد أمره، كما تمّ لأبيه، وأصبح الظرف للإمام مهيئاً أكثر للنهضة.

فما دام الأمر كذلك، فإنه مدعاة لأن يتوقف الإمام عن الخروج أيام معاوية، ويعزم على الخروج أيام يزيد، واللازم حينها على الكل نُصرته وتأييده وإطاعته وإرغام عدوه.

ومما يُساعد على نهضة الكل معه أيام يزيد أنّه لم تترسخ في الأمة مسألة طبيعيّةاستلام الولد للخلافة بعد أبيه، وهناك رفض في الجملة لاستلام يزيدٍ بالخصوص لها، لِكُلّ ما تقدّم، مع اشتهاره بالملكات الخبيثة والرذائل، فمن السهل الخروج عليه حين

ص: 223

يتطلّب الموقف.

وأمّا عدم صحة خروج الإمام أيام معاوية، فلأجل توفّر عوامل عِدّة - وتقدّم ذكربعضها، والتي منها قضيتا الصلح والبيعة - والتي تؤدّي إلى عدم نجاح حركة الإمام.

السبب التاسع: خصوصيات معاوية:

يزيد ضعيف الشخصية، فاقد الاهلية لصغائر الامور فضلاً عن مقام الخلافة الذي لا يستحقه الاّ الاوحديّ من الأمة، كما انه لا ديانة له وذائع الصيت باقترافه للمنكرات والفواحش والاستهتار بشرع الله سبحانه علانيّة- والكل يعلم ما يفعله أبناء الحكام والزعماء وهم تحت مظلّة آبائهم من استغلالٍ للنفوذ، وعبثٍ بممتلكات الأمة، وجورٍبالناس، واستدرارٍ لمنافع تخصّ المجتمع-.

أمّا معاوية فمع منكراته وموبقاته وجرائمه، فليس كابنه في الخلاعة والمجون والميوعة، وهو -بنظر البعض من السُذّج- خال المؤمنين وكاتب الوحي، فيصعب الاعتراض عليه أو الخروج ضدّه لنسف قواعد حكمه، وكأنّ خوولته للمؤمنين تخوّله ان يحكم في عباد الله كما شاء ويشاء له الهوى، فغاية خطيئته عندهم أنّه اجتهد فأخطأ، مع أَنّ سب الصحابة عندهم كفر، ومعاوية سبّ أمير المؤمنين ما لا صُحيى من المرات وعلى رؤوس الاشهاد، بل سَنَّ سبّه على منابر المسلمين في شرق العالم الإسلامي وغربه، واستمر هذا زهاء ستين سنة، وَمَنْ سَنّ سُنّةً سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، كما إنّ من سبّ علياً كمن سبّ النبي، ومن سبّ النبيّ كمن سبّ الله تعالى، فمعاوية سنّ سبّ الله تعالى على منابر المسلمين ومن لا يَسِبّ يُقتل، فما حكم هؤلاء في خال المؤمنين وكاتب الوحي؟

معاوية الذي تجرأ على المقام الأقدس للنبي العظيم (صلی الله علیه و آله) إذ لمّا سمع المؤذن يشهدللنبی (صلی الله علیه و آله) بالرسالة قال:

ص: 224

لله ابوك يا ابن عبد الله، لقد كنت عالي الهمة، ما رضيت لنفسك إلاّ أن تَقْرِن اسمك مع اسم الرب تعالى (1).

وكلامه ظاهر في نسبة هذا إلى النبی (صلی الله علیه و آله)، لا إلى تشريع الله تعالى له، وهو منه كفر صريح.

ومقولته: «إلاّ دفناً دفناً» مشهورة، وفي الكتب مسطورة (2).

وهي: ابن بكار في «الموفقيات» قال: سمعت المدائني يقول: قال مطرف بن المغيرة:

وفدت مع أبي المغيرة إلى معاوية فكان أبي يأتيه يتحدث عنده ثم ينصرف إلي فيذكرمعاوية. ويذكر عقله ويعجب مما يرى منه إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء فرأيته مغتما فانتطرته ساعة وظننت إنه لشيء حدث فينا أو في عملنا فقلت له: مالي أراك مغتما منذ الليلة؟

قال: يا بني إني جئت من عند أخبث الناس.

قلت له: وما ذاك؟

قال: قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت منا يا أمير المؤمنين ! فلو أظهرت عدلا، وبسطت خيرا، فإنك قد كبرت ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فوالله ما عندهم اليوم شيئ تخافه.

فقال لي: هيهات هيهات ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فوالله ما غدا أن هلك .

ص: 225


1- شرح النهج لابن ابي الحديد ﺟ 10 ص 101 ، والبحارﺟ 33 ص 202 ، والكنى والألقاب للشيخ عباس القمّيﺟ 1 ص 89 جميعاً عن كتاب أخبار الملوك لأحمد بن أبي طاهر.
2- راجع: الأخبار الموفقيات، الزبير بن بكار، ص 576 ، ومروج الذهب، المسعودي، ﺟ 3 ص 454 ، وكشف اليقين، العلامة الحلي، ص 474 عن كشف الغمّة، والغدير، الاميني، ﺟ 10 ص 284 ، وشرح النهج، ابن أبي الحديد، ﺟ 9 ص 238 .

فهلك ذكره إلا أن يقول قائل: أبو بكر، ثم ملك أخو عدي فاجتهد و شمر عشر سنين، فوالله ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلا أن يقول قائل: عمر، ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه فعمل ما عمل وعمل به فوالله ما غدا أن هلك فهلك ذكره وذكر ما فعل به، وإن أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمدا رسول الله. فأي عمل يبقى مع هذا لا أم لك، والله إلا دفنا دفنا؟.

وكيف كان، فإنّ اندفاع الأمة بمختلف توجهاتها لمناهضة يزيد ومقاتلته، أشدّ من اندفاعها ضد أبيه، فحالة يزيد المزرية تدفع الأمة إلى التقاعس عن نُصرته، والاشمئزاز منه، ورفض خلافته، يُشجّعهم في الخروج عليه احتساب هذا عند الله تعالى، ورجاء الجنة.

السبب العاشر: عدم مبايعة الإمام ليزيد.

إن سيّد الشهداء لم يُبايع يزيداً أبداً، في حياة معاوية أو من بعده، وهذا مما يسمح بإعلان الحرب عليه بخلاف الحال مع معاوية، لصدور البيعة عنه صلوات الله عليه اضطراراً.

إذ موقف الأئمة (علیهم السلام) من الامتناع عن نكث البيعة معروف من خلال سلوكهم (علیهم السلام) ابتداءً من أمير المؤمنين حتى الإمام الحسن العسكري، فلا نكث ولا تشجيع على النكث، ولا لفتح باب النكث إمام هُمجور الأمة، وهذا منهم تبعاً للتأكيد الشرعي في المنع منه، فهم: لا يبايعوا طاغوتاً أبداً، وإذا اضطرهم الظرف لمبايعته لحكمٍ شرعيٍّ ثانويٍ فإ مّهن لا ينكثون بيعتهم، ولايغدرون أبداً.

وقد ورد عن الإمام المنتظر «المهدي» أرواحنا له الفداء بهذا الخصوص ما يعزّز هذا الرأي:

«إنّه لم يكن أحد من آبائي الاّ وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنّی أخرج

ص: 226

حين أخرج ولا بيعة لأحدٍ من الطواغيت في عنقي».

فبيعة المعصوم مُلزمةٌ له، ولذلك لم يبايع الإمام يزيداً في حياة معاوية لئلا يلزمه الالتزام بها، فلا يتمكن من التحرك والنهضة ضدّه.

وهذا مبنى بعض الاعلام، إذ يرى لا بُديّة التزام المعصوم بالعهود والعقود، والاّ يرتفع الوثوق بكلامه وعقوده، ولمكان منصب خلافته عن الله ورسوله(صلی الله علیه و آله).

إنّ من أمراض المجتمع في تلك الفترة نكث البيعة والعهد، ومن المعلوم أنّه لا تقوم دولة، ولا يستقر مجتمع، ولا تهنأ حياة، بغير الوفاء بالعقود، واحترام العهود.

وقضية النكث موجودة في الساحة الإسلاميّة منذ أيّام الإسلام الأولى، يحكي عنها بأجلى بيان توفّر أشخاصٍ ضعفاء الإيمان، أو لا إيمان لهم أصلا، بين آخرين كانوا القمّة في الإيمان والفدائيّة في سبيل الإسلام، ووجود مجموعاتٍ منافقةٍ في عصر النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) ليس سرّا، على ان انحصار هذه الظاهرة فيهم ليس صحيحاً بإطلاقه.

وأعظم ظاهرة نكث في تاريخ الإسلام، ما جرى يوم السقيفة، والذي أنتج ما به نكث البيعة العظمى من المسلمين لأمير المؤمنين علي (علیه السلام) والحاصلة يوم الغدير بمحضر النبي الاعظم وبأمره (صلی الله علیه و آله)، والاخرى نكث الكوفيين بيعتهم لسيّد شباب أهل الجنّةالحسين(علیه السلام)، وقد ادى نكثهم إلى استشهاده وأهل بيته وصحبه بتلك الصورة الفظيعةالمعروفة.

السبب الحادي عشر: إنّ الغضب الشعبي قد بلغ أَوْجَهُ وتَفَجَّرَ بعد هلاك معاوية، لما لاقته الأمة من الظلم والهوان والإهمال لمصالحها، وَلِوَصْل ليلهم بنهارهم رعباً وعبوديةً وهواناً، وذلك لاستيلاء الفراعنة على مُقَدَّرات البلاد، وبناء سياستهم مع الناس على القسوة والإهمال.

ص: 227

أفترتضي الأمة من يجدّد لها ذلك العهد ويستمر به إلى أمد لا يعلمه الاّ الله، بل وتخضع لهوان أقسى منه وجاهلية أخسّ، إذ جاهلية يزيد غير جاهلية معاوية، لما شاع عن يزيد من شربه للخمور وولعه بالفجور ولهوه بالقرود، فجاهلية يزيد أعتى، ومعاوية أمكر وأغدر وأضلّ.

السبب الثاني عشر: إن الإمام الشهيد (علیه السلام) قد ضرب للثائرين موعداً وهو هلاك معاوية، فالنفوس متحيّنة لتلك الفرصة ومتأهبة لها، ولم تزل المعارضة تستجمع قواها وإمكانياتها، وفي هذا ما يُلهي معاوية عن الثوار بعض الشيء لعدم تهديدهم الفعلي لسلطانه، كما ان التعامل مع خليفة معاوية سيكون مُباغتاً ومعجلاً، لأنه سيطلب البيعة، فإذا بايعته الناس، فإنها ستخضع للازم البيعة وتسترخي عن نصرة الحركات الثائرة، وفي هذا فساد أمر الثورة، فلابُدّ من إتمام الامر في الأيام الأولى، ولمّا يتأهب الحاكم الجديد للمعركة، وقبل أن يستنفر قواه.

فالفرصة الأنسب للثورة إذن عند هلاك معاوية، وهي فرصة لا يصحّ تفويتها لهدم الدولة الجاهلية.

السبب الثالث عشر: تَنَجُّز لزوم النهضة بوجود الناصر.

إنّ المعصومين-كما هو معروف- يتعاملون مع الأحداث وفق ما يقتضيه ظاهر حالها بالوسائل المقرّة في الشرع الإسلامي، لا بحسب العلم المكنون لديهم عن الواقع الخارجي، وبحسب ما تقتضيه طرق العلم الخاصّة بهم، والمفاضة من الله سبحانه إعانةً لهم على ما أُنيط بهم في القيام بشؤون الإسلام والأمة- وليس هذا على نحو الموجبة الكليّة-، وذلك على أساس ان للواقع الخارجي بحسب ظاهره مدخليّة كبيرة في ترتيب التكاليف عليهم، بل على جميع أفراد الأمة.

وعلى هذا الأساس، فإنّ من جملة شرائط تنجّز النهضة ولزومها على الإمام

ص: 228

المعصوم (علیه السلام) توفّر الأنصار له، بحيث تتحقق بهم الكفاية ويتم الغرض، لإنجاز المهمة وتحقيقها خارجاً، مع عدم وجود مانع في البين.

وقد تحقق للإمام توفراً في الأنصار أيام معاوية، لكن لوجود محاذير وموانع فإن الظرف كان قاصراً عن قابليّة تحقيق النتائج المرجوّة من خلاله.

ثمّ انّ الظرف المرجوّ تَحَقَّقَ بجميع حيثيّاته في الأيام الأولى ليزيد، فكان لابُدّ من استغلاله عاجلاً، والاّ ساءت الامور أكثر من ذي قبل بما لا يُرجى معه تدارك.

ولو عُدنا - تاريخياً - إلى الوراء لرأينا أن سيد الاوصياء دعى الناس لنصرته بعد رحيل النبي الاعظم (صلی الله علیه و آله)، إلاّ أنّ عامّتهم نكلوا عنه وخذلوه، مع غِلظةٍ وقسوةٍ من الحكّام الجدد يحكي عنها بأتمّ بيان ما جرى على سيدة نساء العالمين وصدّيقة آل محمد «فاطمة» بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) مِن ضربةٍ باليد على وجهها -من أرذل الخلق وأكفرهم - وضرب سوطٍ على عضدها، وكسرٍ لضلعها، وعصرٍ بباب الدار حتى إسقاط جنينها، وَصاحَبَ هذا دخول مسمارٍ في صدرها...الخ، ولا يستطيع قلم تسجيل حقيقة ما جرى عليها جسدياً ونفسياً ومعنوياً، وهي من يغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها، ثم هي المُصابة باعظم مُصاب وهو استشهاد والدها سيّد الانبياء والمرسلين(صلی الله علیه و آله).

فما أن رأى الوصيُّ هذا، حتى تركهم وترك الأمر كلّه، إلى أن أعلنوا الاستعداد لنصرته بعد مقتل عثمان وعاهدوه على معاضدته، فنهض بالأمر مِن جديد. وكذلك بقية المعصومين، ومنهم سيد الشهداء، والذي لزمه القيام أيام يزيد لمّا اعلن الكثيرمبايعته والاستعداد لنصرته، فالحجة قد ثبتت لهم عليه بحسب ظاهر الحال، لكن:

بز ڈ ژ ژ بر (1) .

ص: 229


1- سورة الانعام، الآية 149 .

و «مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» (1).

و «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ» (2).

كان لابُدّ من تعريض الناس للجهاد إذ تمتّ شرائطه بحسب الظاهر، ومنها عدد المقاتلين، وإمكانية تحقيق النصر بهم.

وتوفر الأنصار بتلك الكمية والنوعية إنما حصل بعد هلاك معاوية، إذ بدأت الرسل والكتب تترى عليه (علیه السلام) تعاهده وتستغيثه.

السبب الرابع عشر: إنّ المنازلة والمعركة بين الإمام الحسين (علیه السلام) ويزيد قد بدأت من طرف يزيد قبل أن يتحرك الإمام نحو الكوفة، وليس أمام الإمام غير الاستعداد والمواجهة، ومن مظاهرها:

أ- كَتَبَ يزيد إلى والي المدينة بأخذ البيعة من الإمام، فإن أبى فعلى الوالي ان يقتله، غير ان الإمام تدارك الامر، وسارع بالخروج من المدينة إلى مكة.

ب- بعث يزيد بثلاثين رجلاً من جلاوزته لاغتيال الإمام في مكة أثناء موسم الحج ولو وجدوه متعلقاً بأستار الكعبة، واستغلال ظروف الحج وشعائره لتنفيذ جريمتهم وتضييع دمه المقدس في مكة المكرمة في تلك الأيام الحرام، غير أن الإمام سارع بالخروج من مكة يوم التروية قبل البدء بمراسم الحج، لئلا تُنتهك بقتله حرمة الحرم وتوجّه إلى الكوفة.

ج- أنفذ يزيد إلى موسم الحج جيشاً عظيماً بقيادة عمرو بن سعيد بن العاص وولاّه أمر الموسم، وأمّره على الحاج كلّهم، وكان قد أوصاه باعتقال الإمام سِرّاً، وإن لم يتمكّن3.

ص: 230


1- سورة آل عمران، الآية 179 .
2- سورة العنكبوت، الآيات 2- 3.

منه، بقتلِهِ غِيلَةً (1).

د- قام يزيد بتعيين ابن زياد والياً على الكوفة، وأمره بتدارك وضع الكوفة عبر أوامر دقيقة للقضاء على الثورة فيها، وتتضمن قتل الإمام صلوات الله عليه.

ومن أوائل ما فعله هذا الطاغوت، أنْ قَتَلَ سفير الحسين - وقائد جماهير الكوفة عن رغبتهم واختيارهم وإعضادهم - وهو السيد الجليل والقائد الحكيم مسلم بن عقيل (رضی الله عنه)، وقتل معه أحد أكابر قادة الشيعة ووجهائهم بل من أكابر رجالات المجتمع الإسلامي قاطبة وهو هاني بن عروة (رضی الله عنه) ذلك العبد المجاهد الغيور على دينه والملتزم بقيمه وعهوده والمتعلق بربّه وقد تمسك بعهوده ووفى بها في أحلك الظروف، وهو ما لا يفهمه أذناب السلطة الحاكمة إذ لم يفوا بعهدهم مع قائدهم مسلم، وأي وفاء لهم وقد نكثوا عهدهم مع الله تعالى ونبيّهم وإمامهم وأحلّوا أنفسهم وقومهم دار البوار.

قَتْلُ مُسْلِمٍ وهاني يعني أنّ يزيداً قد بدأ المعركة مع الإمام، وإن الأمور على هذا المسار، وعلى الإمام المواجهة.

ﻫ- ومن مظاهر بدء المنازلة مطاردة ابن زياد للشيعة الثوار ونفيهم وتشريدهم وملء السجون بهم، حتى نُقِل أنّ في سجون ابن زياد قبل مقدم الإمام إلى كربلاء ما يُقارب الاثنا عشر ألفاً من المقاتلة (2)، وفيهم أكابر الشيعة كالعبد الصالح والعالم الرباني ميثم التمار، والذي صلبه ابن زياد قبل ورود الإمام، كماكان في السجن أيضاً المختار بن ابي عبيدة الثقفي، والذي ضربه ابن زياد فأصاب بصره.

و- ومن مظاهر بدء المنازلة إرسال ابن زياد لطلائع جيشه للبحث عن الإمام واعتقاله والقدوم به أسيراً، ومن جملتهم الطليعة التي قادها الحر بن يزيد الرياحي، .

ص: 231


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 99 .
2- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 2 ص 416 .

والتي عثرت على ركب الإمام وَقامتِ بحجْزِهِ عن الرجوع إلى أن تجمعت جيوش ابن

زياد في عرصات كربلاء.

كل ما تقدم وغيره يدلّك على أن المعركة كانت قد بدأت، وعلى سيد الشهداء أن يخوضها بما أمكنه من قدرات متوفرة لديه.

السبب الخامس عشر:

إنّ الفترة التي أعلن فيها أبو الشهداء ثورته المحمدية كانت من أنسب الفترات وأكثرها تأثيراً في خلخلة أسس النظام القائم وإسقاطه، أو أحداث مقتضيات الانهيار فيه.

إذ حدث فيها هلاك معاوية، ومعنى هذا إن تلك اليد المتجبرة والتي كانت تقبض على زمام الامور بإسلوبها الفرعوني المعروف قد رُفعت عن كاهل الامة.

ولم تستحكم البيعة ليزيد في الأمة بعد.

بل في الأمة الكثير ممّن يرفض البيعة ليزيد.

ولم تترسخ في الأمة بَعْدُ ظاهرة وراثة الابن لأبيه في المُلك.

ووجود الجماهير الرافضة للفئة الحاكمة، والمكتوية بنارها عبر سنين طويلة، ولعلها بموت معاوية وتغ الحاكم تنطفئ جذوة حقدها، وتتغير عن وجهتها عبر السنين، فالمسارعة إلى استثمار موقفها هو الصحيح.

ولاستعداد مجاميع عدة للانقضاض على الوضع القائم، فابن الزبير في مكة وأهل الكوفة يعدّون العدّة منذ سنين، وهناك حركة في البصرة، وأخرى في المدينة، وكذا الحال في أماكن أخرى.

إن سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) هو ابن سيد الانبياء (صلی الله علیه و آله) -بنص الروايات الموجودة في

ص: 232

كتب الفريقين - وعلى الأمة أن تتعامل معه على هذا الأساس.

وهو ابن البتول الزهراء سيدة نساء العالمين، وابن أمير المؤمنين أخو رسول الله ووصيّه وخليفته في امّته، وأخو الإمام الحسن المجتبى سيّد شباب أهل الجنّة.

وهذه العائلة المطهَّرة - وفي حقها نزلت آية التطهير وآية المباهلة وغيرها - قدّمت أروع صورة لأولياء الامور، وقادة الأمم، وساسة البلاد، خلال فترة إدارتها للمجتمع الإسلامي، مما لم يألفه الناس من قبل، ولم يعهدوه من بعد.

ومن جهة أخرى حكم هذه الأمة معاوية، وطالت فترة حكمه، وذاقت الأمة خلالها ما لا يوصف من الهوان والإهمال والفقر.

وما تقدّم يقتضي من الامّة أن تتأمل حالها، وتعلم عِظم جريمة تقاعسها عن اوليائها وقادتها الحقيقيين.

ومن العجيب الغريب أن الأمة جرّبت حكماً أموياً وغيره، ما بين وفاة النبي القائد (صلی الله علیه و آله) وبين مصرع عثمان، مما أرهقها، وفجر كوامن غضبها، ووجّهها إلى الإمام الحق، الناصح الرحيم بها، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) ، فجرّبت حكمه أيضاً، ذلك الإمام الذي ما عرفت اُمّ الدهر له نظيراً ولا قريناً، إلاّ ما سبقه إليه أخوه سيد المرسلين(صلی الله علیه و آله).

فهو في كل صفة كمال وسموّ، الأفضل الأكمل.

وهو عن كل صفة يجدر بالإنسان ان يتسامى عنها، الأسمى الأبعد.

تأمّل ما تحدثت به عنه كتب المسلمين قاطبة، من عدله وزهده وانصافه ومساواته بين أفراد الأمة وبقية خصاله الكريمة فو الله ثم والله لن تجد له نظيراً أبداً، إلا في أخيه النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله).

ص: 233

و لنعرض لمسلكه مع الأمّة مثالاً، لنقيس عليه:

تشتكي له امرأة ظُلْمَ عامله في أقاصي البلاد، فيبعث له بعزله، بكتاب يكتبه للفور، ويرسله بيد المشتكية، ليكون أسرع وصولاً، وأذلّ للظالم (1).

ومع هذا الإسلوب في إدارة الأمر، فسرعان مَا دَبّ الوهن في الأمة، وتراخت عن معاضدة وليّها، ومن أسباب الوهن:

كثرة الفتن المسلّحة العابثة بأمن البلاد والعباد والدين:

أوّلها: فتنة الصحابة الناكثين لعهدهم - عائشة وطلحة والزبير -والمعروفة بالجمل.

ثانيها: فتنة القاسطين - معاوية -، والتي تفرعت عنها فتنة رفع المصاحف «وهي فتنة على حدة».

ثالثها: فتنة المارقين (2)- الخوارج -.

وقدمنع من تصفية الآثار الوخيمة لهذه الفتن جريمة ابن ملجم عليه لعائن السماوات والأرضين، بقتله لخليفة الله ورسوله، صاحب بيعة يوم الغدير، وإلاّ فالإمام (علیه السلام) كان يواصل اجتثاث جذور الفتن من أرض الإسلام، وكان الموقف تحت سيطرته، ولم يفلت الزمام من يده.

والإمام الحسن - السبط المظلوم - رفض كما رفض أبوه من قبل أن يفعل كلّما تناله يد قدرته للمحافظة على الخلافة، فالخلافة لإقامة موازين العدل ولتطبيق الأحكام الألهية وإحياء الكتاب والسُنّة وأمّا إذا كان الحكم ومقوماته وشرائط بقائه تجعلنا نخسرا.

ص: 234


1- بحار الأنوار، ﺟ 41 ص 119 .
2- س هّامم النبي بهذه الاسماء وأخبر عن هذه الفتن، فراجع: فضائل الخمسة ﺟ 2 ص 358 فقد نقل الروايات عن النبي بهذا الشأن عن كتب الجمهور مثل: تاريخ بغداد، وأسد الغابة، وكنز العمال وغيرها.

الكتاب والسُنّة وننحرف عن طريقهما فلا نفع في حكم كهذا، ولا فرق بينه وبين حكم المنحرفين، فإما حكم وعدل، وإما لا حكم.

والحسين (علیه السلام) على نهج جدّه وأبيه وأخيه، معتقداً وسلوكاً، وحكماً للأمة، وهو في استقامته وتمثيله لشخصيّةِ أبويه واخيه، وفي هيبته وعبادته وزهده وشجاعته ما يجعله المستحق الاوحد لخلافة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في نظر الأمة، ويؤكد في الأمة صحّة اعتقادها بحتمية قيام الحكم الإسلامي الحقيقي باسمه ومضامينه وأهدافه على يديه المباركتين.

وأخيراً:

إنّ الأمة - ولا شك - تفرّق بين الحسين (علیه السلام) وغيره، وهو الذي - بالإضافة إلى ما تقدّم - له سابقة في إدارة أمور الأمة بمعيّة أبيه، كما قاد بعض جيوش أبيه فشهد الناس حسن سياسته وقرآنية معتقده ومسلكه، ولا عجب في هذا، فالحسين من البيت النبوي الذي بقي ثلاثة أيام بلا طعام تفضيلاً لأسير ومسكين ويتيم.

كم من مرة جاع فيها سيد الأنبياء (صلی الله علیه و آله) فيقوم الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) بسقي نخيلات مقابل كفٍ من تمر، ثم ليجلس النبی (صلی الله علیه و آله) والوصي (علیه السلام) ليتناولا من هذا الطعام معاً (1).

بل لقد أشتكى عقيل لأخيه الإمام فقره، أيام حكمه في الكوفة، وشكى له جوع أطفاله، فما رقّ له الإمام، ولا فضّله بشيءٍ من عطاء سواه (2)، بينما يتنازل الإمام(3) عن نصيبه من غنائم المعارك لرجلٍ لم يحضرها لسببٍ أعاقه عن الحضور، وكان عازماً عليه، كما أنّه في حاجةٍ شديدة.

فمن أجاع نفسه وأطفاله حتى بلغوا من الضعف أن أدّى بالنبي إلى القول حين .

ص: 235


1- بحار الأنوار، ﺟ 41 ص 39 ح 17 .
2- نهج البلاغة، الخطبة 224 .
3- النصرة لسيد العترة، الشيخ المفيد، ص 401 .

دخل عليهم:

«الهي هؤلاء أهل بيتي يموتون جوعاً»

فأغاثهم الله سبحانه بطعامه وآياته الغُرّ.

هؤلاء هم أولياء الأمور، وسادة الأمم، وأولى الناس بالناس، ومن تتمنى الأمة أن تحيا في ظِلِّهِمْ.

لم يكن سيد الشهداء ليتوقف عن جهاده في هدم دولة البغي والطغيان والكفر لمجرّد عقد الصلح مع معاوية، فمعاوية دفن التزامه بعهوده في مسجد الكوفة بمحضر أهل الشام واهل الكوفة، وبمحضر الإمامين الحسن والحسين.

غير إنّ الإمام القائد أخذ يمهّد للانقضاض على دولة الجور، في نفس وقت سعيه لتطويق آثار تدميرهم الواسع النطاق.

وقف الإمام في موسم الحج في عرفات، وَ عَمجََ الناس، وخطب بهم، مُبيِّناً فضائل بيت النبوة ككل، وفضائل أبيه المظلوم سيد الاوصياء بالخصوص، مستشهداً بهم على صِحّة كلامه، فشهدوا بصحّة كلّ ما قاله، فأمرهم عندها بِنَ ما سمعوه في بُلدانهم.

وهذا منه تعريةً للسلطة، وفَضْحاً لها، ولأبواقها الإعلامية، التي سلكت كلّ سبيل من كذبٍ ودجلٍ ووضعٍ للاحاديث، رِحلَْف الأمةِ عن أهل البيت.

وهذا منه أيضاً تحريضٌ للمجتمع الإسلامي، لغاية مواجهة الهجمة الإعلامية للدولة، ومناقضةً لدعاواها، وصدّاً للفئة الحاكمة ع تحاوله من المشي خطوة ثالثة بعدخطوة استلام السلطة، وخطوة قهر الأمة وتذليل إرادتها.

تلك الخطوة، هي:

تشويه الحقائق، وغسل الأدمغة، وتغيير العقيدة، واصطناع مجتمع جديد محل

ص: 236

المجتمع الإسلامي، أي:

مجتمع يحمل خصائص بني أمية، وفكر بني أمية، وعقيدة بني أمية، ومنهج بني أمية في الحياة.

مجتمع الدولة الأموية الجاهلية المستعبِدة لرعاياها، فلا يوالي هذا المجتمع غير بني أمية، مع جهل كل شيء عن الإسلام: أصولاً، وفروعاً، وقادةً، بل يكون حرباً على الإسلام، وعلى أولئك القادة.

كان سيد الشهداء يرى الأمور تسير مِن إلى أسوأ في ظلّ الحكم القائم، فكان عليه تدارك الأمر ولو بالتخفيف من حجم الخسائر قدر الإمكان حتى يحين أمد التغيير، وقد وصلت أنباء تحركات الإمام القائد لمعاوية، فارتأى الإرهابي معاوية أرهاب الإمام، ليحدّ من نشاطه، فكتب إليه يتهدده ويتوعده.

فَرَدّ عليه الإمام القائد بأغلظ كتاب خلّده لنا التاريخ(1) حطّم به شموخه وأذلّ كبريائه، يُعْلِمُه فيه بأنّه لم يسكت عنه لخوف، أو رِحلُمَةٍ ونهي ديني، في الخروج عليه.

ومما قام به الإمام أيضاً إنه امتنع عن بيعة يزيد بالمرّة حتى قارب الأمر قتله أيام معاوية، لان مبايعته ولو صورياً تعني الإجهاز على حركته وإلى الأبد، بل كل حركة، إذ ستُعلن الأمة استسلامها الأبدي لبني امية، لكنّه في الوقت نفسه حافظ على حياته المقدسة لأن نهاية حياته تعني نهاية المقاومة.

وكما أنه لم يبايع، فكذلك لم ينقض عهداً ولا صلحاً أبرمه الإمام المجتبى، إلى أن تحين ساعة المنازلة. .

ص: 237


1- بحار الأنوار، ﺟ 44 ص 212 .

ص: 238

مسار واحد أم متعدّد

مَن يُلاحظ الفصول: «أسباب الثورة» و «أيضاً في سبب الثورة» و «السر في النهضة ايام يزيد»

قد لا يتشكّل لديه تصوّرٌ واضح المعالم عن السبب المركزي في النهضة الخالدة، وعن ترابط هذه الأسباب ببعضها، بما یجعل تسلسلها منطقياً ومقنعاً.

وقد حاولنا فيما تقدّم، وسنحاول فيما سيأتي، من خلال فصول الكتاب المختلفة، التأكيد على وجودِ سببٍ مركزيٍّ هو الباعث على التحرك، كما ان هناك علل معاضدة، بالاضافة إلى أنّ الأسباب تكثّرت بحسب حركة الأحداث، ولعلنا نُوفّق بفضلٍ من الله سبحانه لإعطاء تصوّر واضح متكامل مَرْ يض يّض يربط بين عموم هذه الأسباب.ِِ

والنتيجة التي توصلنا إليها: ان سبب بدء الإمام (علیه السلام) لحركته، غير سبب الاستمرار في الجُملة، ولو كان أمام الإمام (علیه السلام) مساحة اختيار أكثر، لتغ ير يرت صيغة حركة الإمام(علیه السلام)، وطريقة تعامله مع الحدث إلى نحو آخر.

نحن نقول هكذا: إن حركة الإمام ابتدأت لتوفر عوامل عدة أوجبت النهضة، فلما انتكس بعض هذه العوامل كان مصير الإمام قد تحدّد، وهو لابُديّة قتله من طرف الفئة الحاكمة، إذ هي قررته من البداية وأصرت عليه في طول مسيرتها مع الإمام، نعم كان أمام الإمام صلوات الله عليه خيارات، أهونها الموت بحسب نهجه وبحسب المحبوب الالهي، فاختار (علیه السلام) ان يموت، وإلاّ لكانت الفئة الحاكمة تربح عليه أكثر من ربحها ببيعته.

ص: 239

فمسار الحسين (علیه السلام) متعدد.

ابتدأ بلزوم الخروج ضمن أجواء هُممَِّدَة للانتصار المحتّم.

وحصلت الانتكاسة من جهات.

فتحدّد مصير الإمام: بالموت، أو بما هو أشنع منه.

فرضي بالموت بشكل حقق من خلاله أهدافه.

فالذي نفهمه أن قضية الإمام ليست على نحو - القضيّة في واقعة - فليست هي بغير مفهومة ولا مخالفة للقواعد أو الاحكام المشرّعة والمعروفة والمفهومة، أي: ليست هي على نحو التكليف الخاص للإمام، فلا يُفهم وجهه بحيث لا يصح الاقتداء به، لكون حركته سرّاً ربانياً غير واضح المعالم لنا.

إن الإمام لم يُبادر إلى الثورة ضد النظام القائم على كل حال، كي يُستفهم عن السرّ في موقفه هذا، ولا إمكانيات متوفرة عنده (علیه السلام) للثورة، فَتُفَ على أساس السرّ الرباني المحض.

الإمام نهض لوجود معاهدة من جهة أهل الكوفة على النهضة معه منذ أكثر من عشر سنين.

ومسار الحركة إنما تحدد بحسب تفاعلات الأحداث.

و انتهاء الحركة الحسينية إلى الاستشهاد، مع العلم القطعي للإمام بهذه النتيجةوالعاقبة، لا يجعل القضية سرّاً الهياً، وأمراً غير مدركٍ وغير مفهوم، وإنها قضية في واقعة، فحصر توجيهها بهذا أمرٌ غير مُدرك بوضوح، والسبب:

أ- مُلاحظة القضيّة ودراستها، من أول بدء انقداحها، وملاحظة تسلسل تفاعلاتها.

ب- إنّ هذا ليس ببدعٍ من الحال في مجريات الأحداث مع المعصومين، فالإمام

ص: 240

الوصي (علیه السلام) قَبِلَ مبايعةالناس له بعد عثمان، وقد آلت الأحداث بعد تلك البيعة إلى خروج الناكثين والقاسطين والمارقين ضِدّه في سنين ثلاث، واستمرت تفاعلات آثار تلك الفتن، بحيث لم يتمكّن الإمام من تصحيح المعوجّ في الأمة مما ارتكبه من سبقه، إلى أن آل امره إلى ما هو معروف، وإلى شهادته في المحراب مضمخاً بدمائه المقدسة، فهل يُف هذا على اساس السرّ المحض؟

وابو محمد الحسن نهض بالأمر لمّا بايعه أهل الكوفة، مع أن الوضع استمر في التدهور إلى ان بلغ الحال به إلى مصالحة معاوية، فهل ان قبوله قضيّة في واقعة، وسرّ محض، أم ماذا؟

ومن قبلهما خرج النبی (صلی الله علیه و آله) لغزوةِ أُحُد، وإلى حنين، والنتائج معروفة.

بل أن التأمل في بعض مجريات الاحداث في عصر النبي الأقدس (صلی الله علیه و آله) يزوِّدنا بأمثلة كثيرة تُقارب في المفاد والنتائج الامور المارّة الذكر.

فلا سَحيُْن أن يُف كل هذا على انه قضيّةٌ في واقعة، وسرٌّ ربانيٌّ محض، فإنّ في الشريعة حدوداً وأحكاماً على الإنسان أن يسير بحدّها، والعواقب وإن خالفت المبنى في المدى القصير، إلاّ إ اّهن وفق التخطيط الالهي العام، ولا تمنع من انتصار الخطّ الايماني في نهاية المسار، كما لا يُمكن لنا ان نقتصر على سلوك ما به تحقيق مأمولنا بشكلٍ دائم، فإن الدنيا دار امتحان، ودار تمحيص، ودار كشفٍ عن معادن الناس، فمرحلة الانتصار، ووراثة الارض للمستضعفين، وتحقيق الاستخلاف الالهي لعباده المؤمنين، مرحلة مستقبلية، هي متحققة على كل حال.

ص: 241

ص: 242

دور الإمام (علیه السلام) في إنضاج الثورة، وإشعال فتيلها

اشارة

أمّا دور الإمام (علیه السلام) في إشعال فتيل ثورتِهِ الإلهية فواضح، إذ هو الذي بدأ الخطوة الأولى في هذه النهضة المباركة حين رفض مبايعة يزيد بمحضر أمير المدينة ومروان ثم تتابعت الأحداث الجسام.

وأمّا بدؤه الخطوة الأولى قبل شهادة الإمام الحسن (علیه السلام) أو بعدها، وإنضاجه لروح الثورة في الأمة، فهذا ما يحتاج لتأمل وبيان.

لم نجد - بحسب تتبعنا- ما يدلّ على أن سيد الشهداء (علیه السلام) ابتدأ الناس بإعلان الثورة والجهاد والعزم على الإطاحة بالنظام القائم.

والذي نقله الشيخ المفيد: إن أهل العراق تحركوا بعد شهادة الإمام الحسن، وكتبوا للإمام الحسين معلنين له استعدادهم للنهضة والنُصرة، فأبى عليهم، للعهد الذي بينه وبين معاوية.

نعم أكّد شعورهم، وصحّح توجّههم في الجملة.

إذن الحسين (علیه السلام) لم يشخّص الظرف، ظرف قيام وانتصار.

غير أنّه (علیه السلام) إمتنع فيما بعد عن البيعة، لرذالة يزيد، ولترتب مفاسد عدّة على مبايعته، ولتمامية الحجة بوجود الناصر، فنهض بالأمر كي يؤدّي ما عليه، ولتتحمّل الأمّة ما عليها دُنياً وأُخرى.

ص: 243

إلاّ إننا نعلم أن أصل رفض خلفاء الجور المعرضين عن أحكام الله سبحانه، بل كل خليفة غير الأئمة الاثني عشر من أهل البيت، نابع من الكتاب والسنة، وهو منهج أهل البيت (علیهم السلام)، فإنّ الإمام (علیه السلام) وبقيّة أهل البيت ممّن قَبْلَه قد صدعوا بمثل هذه الأحكام، ونفخوا روحها في الأمة.

فهو (علیه السلام) إذن الأساس لهذا التيار في المجتمع، وهو المنادي به، والداعي إليه، والمشجّع عليه، والناشر له، وهو المؤيد لهذا التوجه - إن وُجد- في الأمة، لانه تَوَجُّهٌ إسلامي أصيل، نابع عن مبدأ إسلامي، قام الإسلام على ركنه، وتواصل عليه، وانتعش به، كما به بقاؤه، وهو سر بقاء الأمة ضمن الإطار العام للإيمان، بل الإسلام، هذا من جهة أصل المطلب.

أما أوان التحرك ضدّ الفئة الظالمة المتجبرة فهو محلّ الكلام، إذ أنّه (علیه السلام) امتنع عن النهضة أيام معاوية ومنع الآخرين، للحاجة إلى توفر ظرفٍ معين يَسُوغُ مَعَهُ القيام، ويحققّ الهدف.

نُقل: إن جمعاً كتبوا له بعد صلح الإمام الحسن (علیه السلام) معلنين استعدادهم للثورة بقيادته، فامتنع عليهم، معلناً لهم تبعيته المطلقة للإمام الحسن، والتزامه بما فعل، أي أن الإمام الحسن ما دام في الحياة فهو القائد والإمام، وعلى الكل الطواعية له، لأنه هو الذي يقوم بتشخيص الظرف، وما يصلح فيه، وتشخيصه نفس تشخيص سيد الشهداء، لأنهما يصدران عن منبع واحد، ويسعيان لهدف واحد، وكلاهما يتدرّع بالعصمة الالهيّة.

إن ما يحدث عادة هو بدء المريد للثورة ببث الدعاة وترغيب الناس لنصرته، والعمل على تهييجهم وبعث غيرتهم وشهامتهم، ثم بعد اكتمال نصاب الأنصار سواءً أكان اكتمالهم لقناعة أم لخجل، تُعْلَنُ الثورة ويُشرع بالقتال والكرّ والفرّ، وكثيراً ما يخذل الأتباع قائدهم، ويتركونه يُواجه مصيره القاتم وحده، وتنطوي صفحات الحركة، وقد

ص: 244

ينجح في مسعاه، وهذا يحدث نادراً.

أهل البيت دعوا الناس لاتّباعهم مرات

مرة: حينما تولى النبی (صلی الله علیه و آله) دعوة الناس إلى نبذ الاصنام والتزام كلمة التوحيد، وإلى معاضدته في دعوته، فاستجاب له من استجاب بعد اللتيا والتي، وبعد أن مُني بِبُهَمِ الرجال وذؤبان العرب (1).

وكانت الاستجابة بطيئة وقليلة للغاية، إلى أن بانت بشائر النصر فسارعت الناس حينها إلى دخول دين الله افواجاً.

ومرة ثانية: بعد وفاة النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) إذ دعا أمير المؤمنين عامّة المهاجرين والأنصارالى الوفاء بوصايا رسول الله فيه، ومعاهداتهم للنبی (صلی الله علیه و آله) بشأنه، وإلى العمل على إعانته لاسترجاع حَقِّهِ في الخلافة، فلم يجد إلاّ آحاداً من الأنصار الفدائيين، مع إن أكثر من مائة الف صحابي بايعوه قبل أيام في غدير خم على الخلافة والولاية العظمى (2).

وثالثة: دعوة سيدة نساء العالمين(علیها السلام) المهاجرين والأنصار إلى النهوض لنصرتها، وإلى إعضاد أمير المؤمنين في محنته بعد وفاة النبی (صلی الله علیه و آله) وذلك لما جرى عليهما فور أن أغمض النبي عينيه، وأرتحل إلى ربه، وقد اطلقتها صيحة في مجلس الحكم بمحضر المهاجرين والأنصار، فوجدت النفوس خانعة قد بُرضت عليها الذِلّة والمسكنة (3).

وما بين هذه الدعوات ونهضة الإمام الحسين دعوات عدة لأمير المؤمنين في النهضة لنصرته في جهاده ولاعلاء كلمة الدين وكفّ أيدي العابثين في أمن الأمّة، وذوي الأطماع

ص: 245


1- من خطبة للزهراء(علیها السلام) في المهاجرين والأنصار بعد استشهاد النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله)، فراجع: الاحتجاج، الطبرسي، ﺟ 1 ص 262 .
2- راجع الغدير، الاميني، ﺟ 1 ص 37 .
3- راجع: مأساة الزهراء(علیها السلام) ، للسيد جعفر مرتضى العاملي.

من محبّي الامرة. وكذا دعوة الإمام الحسن للجهاد...الخ.

وأمّا سيد الشهداء فمع تمسك أهل البيت (علیهم السلام) بمناهضة الحاكم الظالم والأخذ على يده، فإن الدعوة الخاصة للنهضة على معاوية، ومِنْ بعدها على يزيد، قد صدرت عن أهل الكوفة بالحاح، مع معاهدة على النصرة، ومع استغاثة لتخليصهم من جور بني امية، وهذا وغيره حتّم على الإمام النهضة، فعرض بعدها على الناس -أفراداً ومجاميع-مساندته ومناصرته، ويأتي إنْ شاء الله تعالى بيان سببه.

نعم ورد عن الإمام مكاتبته لأهل الكوفة بعد مجئ كتاب مسلم إليه:

«فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وَجدّوا». (1)

لكنّ هذا حصل بعد ان قطعت الحركة شوطاً طويلاً، وهو غير الابتداء بالأمر، لكننا على كل حال قد قدّمنا اننا نعلم من خارج هذه الادلة ان الإمام له الدور الأساس في التوجيه لإسقاط عروش الظالمين عموماً وبني أمية خصوصاً، وان تحريم الظلم ومعاونة الظالمين والركون اليهم والدعوة لاقامة حكم الله في الارض من أعظم اهتماماته ومسؤولياته التي كرّس لها حياته المقدسة.

ومما ورد أيضاً في كتب التاريخ والسيرة من نصوص، مما يمكن من خلاله تعرّف وجود حركة من الإمام نحو إيقاد الثورة في النفوس، والتهيئة للنهضة، ما روي عنه(علیه السلام):

«إ أرجو أن يعطي الله أخي على نيّته في حبّه الكف، وأن يُعطيني على نيّتي في حُبّي جهاد الظالمين». (2)

ولا يعني هذا إننا نلتزم بما يشيعه البعض ويتوهمه - خصوصاً بعض الكُتّاب من الجمهور- من ان الإمام الحسن محبّ للموادعة والسلم، وكاره لسفك الدماء، ة.

ص: 246


1- الإرشاد، الشيخ المفيد، ﺟ 2 ص 70 .
2- الحسين(علیه السلام)، الجلالي، ص 113 ، والرواية عاميّة.

والإمام الحسين محبّ للجهاد، فإنّ هذا مما لا يُرتضى بحكم الأدلة الكثيرة القطعية على خلاف هذا، فان الحسن والحسين معتقد واحد ومنهج واحد، ولو كان الحسين مكان الحسن لاختار نفس طريقه، والعكس أيضاً صحيح، فالكلام إنما هو في تشخيص الموقف السليم المناسب للحالة الفعلية الخارجيّة، لا أنّ الرغبة والمزاج والميل النفسي لاحدهما (علیهما السلام) بهذا الاتجاه أو ذاك، إذ الحسنان معصومان مسدّدان من الله تعالى لا يختاران إلا ما يختاره الله تعالى، ولا يعملان الاّ عن توجيه عام من النبي لمثل هذه المواقف، بل وبتوجيهٍ خاص لخصوص ما واجههما من ظرف دقيق في حياة الإسلام وأهل البيت والأُمّة.

وقد قطع النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) خطّ الرجعة على كل شيعيّ وسنّي توسوس له نفسه أمراً بشأن الإمامين، إذ قال(صلی الله علیه و آله): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا». (1)

هذا وقد كتب مروان لمعاوية: «ا لست آمن أن يكون حسين مرصداً للفتنة، وأظن يومك من حسين طويلاً».

إذن الفئة الحاكمة كانت تُتابِعُ تحركات الإمام الحسين (علیه السلام) وكانت على علم مسبق بنشاطه، فالحسين كان على هذا النهج لمدة طويلة، وليست حركته وليدة ظرف عجّل بها دونما حساباتٍ طويلة مسبقة.

وفي نصٍ آخر إن مروان كتب لمعاوية: «أما بعد فقد كثُر اختلاف الناس إلى حسين، والله إ لأرى لكم منه يوماً عصيباً». (2)

فأمره معاوية بترك الإمام (علیه السلام) ما تركهم، غير ان مرواناً اقترح على معاوية نفي الإمام إلى الشام، وفَرْضَ الإقامة الجبرية عليه لقطعه عن أهل العراق، فلم يرتض منه معاوية .

ص: 247


1- مسند الإمام المجتبى، العطاردي، ص 184 .
2- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، القرشي، ﺟ 2 ص 223 .

ذلك - ولعلّ مرارة معاناته من أبي ذر(1) يوم كان بالشام، يندّد بجرائِمِهِ وأُحدوثاتِهِ، ويحرّض الأمة عليه ما تزال في نفسه - فكتب إلى مروان:

«أردت والله أن تستريح منه وتبتليني به». (2)

ولعلّ هذه التحذيرات المستمرة أدت بمعاوية أن يكتب للإمام برسائل تحذيرية وتهديدية عدة.

منها ما كتبه للإمام السبط (علیه السلام): ا لأظن أن في رأسك نزوة، فوددت أني ادركتها فاغفرها لك (3).

وبالتعبير الذي نقله ابن أبي الحديد في شرح النهج:

ولكنّي قد ظننت يابن أخي أن في راسك نزوة، وَبِوُدّي أن يكون ذلك في زماني، فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك، ولكنّي والله أتخوّف أن تُبلى بمن لا يُنظرك فواق ناقة (4).

وهذه الرسالة كتبها معاوية للإمام (علیه السلام) حينما أمر الإمام (علیه السلام) صحبه بالاستيلاء على قافلة للدولة متجهة من والي اليمن إلى معاوية (5).

وهذه الرسالة تفيد طبيعة التوجّه وكيفية التعامل مع الإمام (علیه السلام) في العهد اليزيدي وأنّ هذا التوجّه ذو جذور منذٍ ايّام معاوية بل لعلّه هو المؤسس له، وحاصل عن أمره، وهذه النتيجة تنفع في تكذيب ما ورد وراج من وصيةٍٍ معاوية ليزيد للاهتمام2.

ص: 248


1- راجع: الغدير، ﺟ 8 ص 413 - 534 لتطّلع على قضيّة أبي ذرّ كاملة.
2- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، القرشي، ﺟ 2 ص 223 .
3- الحسين(علیه السلام)، الجلالي، ص 114 ، عن تاريخ ابن عساكر.
4- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، القرشي، ﺟ 2 ص 232 .
5- مقتل الحسين، السيد المقرّم، ص 173 ﻫ 2.

بالإمام (علیه السلام) والأغضاء عنه إن خرج عليه.

بل الذي استقربه جِدّاً: ان رسالة معاوية للإمام (علیه السلام) كانت مخادعة منه، لغرض التغرير به وتحفيزه للخروج لاستسهال نتائجه، إذ يُصوّر للإمام انّ ثورته إن نجحت فَبِِِِِها، وإن فشلت فانّه سيتركه ولا ينتقم منه، فهو غير خاسرٍ على أيّ حال.

بينما الحقيقة هي عكس هذي تماماً، وإنّ معاوية كان يهدف لدفع الإمام لإعلان الثورة كي ينتقم منه ويعجّل ما تأخر إلى عهد يزيد- وذلك لما قام به الإمام من استفزازٍ لمعاوية وتحدٍّ لمقامه باعتراض جماعةٍٍٍبأمر الإمام (علیه السلام) للقافلة المرسلة لمعاوية واستيلائهم عليها، ولمكاتباته واجتماعاته المستمرة مع أهل العراق من المعارضين المتهيئين للانقضاض على نظام الحكم الأموي - ولتحقيق انتقامٍٍ من أهل البيت بأجمعهم يطمح إليه معاوية منذ سنين كثيرة ولا تتهيأ له فرصته كما يشتهي ويُخَطِّط، لكن الإمام (علیه السلام) فوّت عليه مكيدته وأفشلها.

ومن الشواهد المهمّة على تحرّكات الإمام الكثيرة والواضحة ضد النظام الحاكم لدرجة اطّلاع معاوية عليها - وَحَنَقِهِ منها - و التي أدّت إلى كتابته رسالة تهديدية يتوعّد الإمام بها، فردّ عليه الإمام بأغلظِ كتابٍ وأعنفه، حطّم به كبرياء معاوية وغطرسته وأذلّ جبروته، وأعلن فيه الإمام عن موقفه من جهاد معاوية، وحكم الله سبحانه في هذا الأمر، وعن مدى استعداده للنهضة، مما دعى معاوية إلى القول:

إن أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً (1).

رسالة معاوية إلى الإمام السبط المطهّر:

أما بعد: فقد انتهت إليّ أمور أرغب بك عنها، فإن كانت حقاً لم أُقارّكَ عليها، ء.

ص: 249


1- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 2 ص 228 عن سِیر أعلام التبلاء.

ولعمري إنّ من أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء.

وإن كانت باطلاً فأنت أسعد الناس بذلك، وبحظّ نفسك تبدأ، وبعهد الله تفي.

فلا تحملني على قطيعتك والاساءة بك فإني متى انكرك تنكرني، وإنك متى تكدني أكدك، وقد أُنبئت أنّ قوماً من أهل الكوفة قد دَعَوك إلى الشقاق فاتقِ شقّ عصا هذه الأمة وأن يرجعوا على يدك إلى الفتنة.

وأهل العراق من قد جرّبت، قد أفسدوا على أبيك وأخيك، وقد جرّبت الناس وبلوتهم، وأبوك كان أفضل منك، وقد كان اجتمع عليه رأي الذين يلوذون بك، ولاأظنه يصلح لك ما كان فسد عليه.

فاتّقِ الله، واذكر الميثاق، وانظر لنفسك ودينك، ولا يستخفّنّك الذين لا يوقنون.

والجواب المروي للإمام الشهيد (علیه السلام) على رسالة الطليق:

«فقد بلغني كتابك تذكر أنه بلغك عني أمور ترغب عنها فإن كانت حقاً لم تقارّني عليها ولن يهدي إلى الحسنات ولا يسدّد لها إلاّ الله.

فأما ما نُمي اليك، فإنما رقاه الملاّقون، المشاؤون بالنمائم، المفرّقون بين الجمع، وما أريد حرباً لك ولا خلافاً عليك، وأيم الله لقد تركت ذلك وأنا أخاف الله في تركه، وما أظن الله راضياً مني بترك محاكمتك إليه، ولا عاذري دون الاعتذار إليه فيك، وفي اوليائك القاسطين الملحدين، حزب الظالمين وأولياء الشياطين.

ألست قاتل حجر بن عدي وأصحابه المصلّين العابدين الذين يُنكرون الظلم ويستعظمون البدع ولا يخافون في الله لومة لائم ظلماً وعدواناً بعد إعطائهم الأمان بالمواثيق والأيمان المغلّظة.

أَوَ لَسْتَ قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي أبلته العبادة فصفّرت

ص: 250

لونه وأنحلت جسمه بعد ان آمنته وأعطيته من عهود الله عزوجل وميثاقه ما لو أعطيته العُصم ففهمته لنزلت إليك من شُعف الجبال ثم قتلته جرأةً على الله عز وجل واستخفافاً بذلك العهد.

أَوَلَسْتَ المدّعي زياداً ابن سميّة المولود على فراش عبيد عبد ثقيف وزعمت أنّه ابن أبيك وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله):

«الولد للفراش وللعاهر الحجر».

فتركت سُنّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخالفت أمره متعمداً واتبعت هواك مكذّباً بغير هدى من الله ثمّ سلّطته على العراقين فقطع أيدي المسلمين وسمل أعينهم وصلَبَهم على جذوع النخل كأنك لست من هذه الأمة وكأنها ليست منك وقد قال رسول الله(صلی الله علیه و آله)«من ألحق بِقومٍ نسباً ليس منهم فهو ملعون».

أَوَلَسْتَ صاحب الحضرمي الذين كتب إليك ابن سميّة أنهم على دين علي فكتبت اليه: اقتل من كان على دين علي ورأيه، فقتلهم وَمَثَّلَ بهم بأمرك.

ودين علي دين محمد (صلی الله علیه و آله) الذي كان يضرب عليه أباك والذي انتحالك إياه أجلسك مجلسك هذا ولو لاهمو كان أفضل شرفك تجشمّ الرحلتين في طلب الخمور. وقلت انظر لنفسك ودينك والأمة واتقّ شقّ عصا هذه الأمة وأن تردّ الناس إلى الفتنة فلا أعرف فتنةً أعظم من ولايتك أمر هذه الأمة ولا أعلم نظراً لنفسي وديني أفضل من جهادك فإن أفعله فهو قربة إلى ر وإن اتركه فذنب استغفر الله منه في كثير من تقصيري واسأل الله توفيقي لارشد اموري.

وقلت فيما تقول: إن أُنكرك تنكرني، وإن أكدك تكدني، وهل رأيك الاّ كيد الصالحين منذ خُلِقْتَ فَكِدْني ما بدا لك، فإني أرجو أن لا يضرّني كيدك وأن لا يكون على أحد أضرّمنه على نفسك، على أنك تكيد فتوقط عدوّك، وتوبق نفسك، كفعلك بهؤلاء الذين

ص: 251

قتلتهم ومثّلت بهم، بعد الصلح والأَيمان، والعهد والميثاق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قُتِلوا إلاّ لذكرهم فضلنا، وتعظيمهم حقّنا، بما به فَرشُْتَ وعُرِفْتَ مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم مِتّ قبل أن يفعلوه، أو ماتوا قبل أن يُدركوه.

فأبشر يا معاوية بالقصاص، وأيقن بالحساب، واعلم أن لله كتاباً لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها.

وليس الله بِناسٍ لك أخذك بالظنّة وقتلك أولياءه على الشبهة والتهمة و نفيك إياهم عن دار الهجرة إلى الغربة والوحشة.

وأخذك الناس بالبيعة لابنك، غلام سفيه، يشرب الشراب ويلعب الكلاب، ولا أعلمك إلاّ قد خسرت نفسك، وأوبقت دينك، وَأَكَلْتَ أمانتك، وغششت رعيتك، وسمعت مقالة السفية الجاهل، وأخفتَ التقيّ الورع الحليم، وتبوأت مقعدك من النار، فبعداً للقوم الظالمين، والسّلام على من اتّبع الهدى». (1)

ومن الدلائل المهمة على أنّ الإمام كان يتهيأُ للثورة، ويستعدّ ليوم المنازلة ويعمل على توعية الأمة وإيقاظها رغماً عن معاطس الفئة الحاكمة وإرادتها، ما روي عنه (علیه السلام) قوله بمنى قبل هلاك معاوية بعامين، إذ خطب (علیه السلام) في الناس فقال:

«أما بعد فإنّ هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم وإني أريد أن اسألكم عن شيء فان صدقت فصدّقوني وإن كذبت فكذّبوني، اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقّنا فإ أتخوف أن يدرس هذا الأمر ويذهب الحق ويغلب .

ص: 252


1- الحسين(علیه السلام)، السيد الجلالي، ص 117 عن ابن عساكر واللفظ له، والاحتجاج، للطبرسي ﺟ 2 ص 89 وحياة الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي ﺟ 2 ص 227 ، ومعجم السيد الخوئي، ﺟ 18 ص 192 .

«وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ کَرِهَ الْکَافِرُونَ»...» (1) وهي طويلة.

وفي هذا الصدد أيضاً ما ذكره في الاحتجاج (2)من خطبته (علیه السلام) بمحضر معاوية في بيان فضل أهل البيت عموماً وفضله - الإمام - خصوصاً، وأمره الناس بإطاعته لأ اّهن مفروضة، وبطاعة الله ورسوله مقرونة، وحذّرهم الاصغاء إلى هتوف الشيطان، فهو (علیه السلام) كان-وعلى الدوام- يوضّح للامة حقوق أهل البيت (علیهم السلام) عليهم، وما يلزم الأمة من سلوك تجاه آل محمد (علیهم السلام) ، وحقيقة اعدائهم، ليزيل عنهم العمى، الناتج عن التهاون الشخصي في البحث عن الحقائق، وعن التضليل الاعلامي، وليؤجج نار الثورة فيهم ضد الفئة الحاكمة، وليعزّز فيهم روح التمرد على الجبابرة المستهترين بقيم الإسلام والإنسانية.

ومن مظاهر إنضاج الإمام لبواعث الثورة، مواصلته التكاتب مع الناقمين على معاوية وحكمه، وتأييدهم في توجّههم الثوري.

واحترامه (علیه السلام) لمعاهدته مع معاوية، وإعلانه لهذا الالتزام، كان يخدّر معاوية عن متابعته والتربص به كي يتمكن (علیه السلام) من تهيئة الأجواء المناسبة لإعلان نهضته.

ولذلك تعجّب معاوية من شدّة ثورة الإمام في كتابه ومن تهديده له، وقال حينها:

لقد أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً.

فيقتضي أنّ هدوء الإمام الظاهري بنظر الدولة، والذي أسدل على ثورته ستاراً، كان يُخفي وراءه بركاناً هادراً. .

ص: 253


1- راجع الحسين(علیه السلام)، للجلالي ص 106 فقد نقلها بطولها، وذكر في الاحتجاج بعضها ﺟ 2 ص 87 وذكرها القرشي في حياة الإمام الحسين، ﺟ 2 ص 228 .
2- الاحتجاج، ﺟ 2 ص 94 .

ص: 254

مقوّمات الثّورة

متيقناً: إن الإمام الحسين (علیه السلام) لم يتحرك لهدّ النظام الجاهلي القائم، ولإحياء الدولة الإسلامية المحتضرة الاّ وهناك مقوّمات تقتضي نجاح هذه الثورة، وإمكانيّة تحقيقها للمرجوّ منها.

غير ان هذه العوامل والأسباب بقيت غير محلّ التفاتٍ تام، ودراسة مستوفية لها، وتتبع تام لمفرداتها، وهذا أنتج جهالة البعض بها، والذهاب إلى القول بان قضيّة الإمام وحركته ليست بأمر يُمكن استكشاف أسبابه وبواعثه، وهي قضيّةٌ في واقعة، وأمر رباني خاص لا يُقاس عليه، ولا يُستنتج من خلاله حكم حياتي لنا، وبالنتيجة عدم التفاعل مع معطياتها.

غير أنه - بملاحظة مايأتي- يتّضح ان الحركة الحسينية كانت مُكَمَّلة الأركان، مستوفية لأسباب النجاح، مضمونة النتائج، بمقتضى الحسابات الظاهرية، ومجريات الاحداث الفعلية، لولا الإجراءات السريعة والإجرامية التي قام بها ابن زياد، والتي أدّت إلى انهيار في جوانب تلك الأركان، وحالت بين تلك الحركة وجنيها لثمار نصرها سريعاً، وأدّت بالتالي إلى وقوع الفاجعة الكبرى.

وقد صرّح السيد المرتضى (قدس سره) إن أسباب ظفر الحسين (علیه السلام) بالأعداء كانت لائحة، وإن الاتفاق السيّء عكس الأمر(1).

بل إنّ النتيجة الأكيدة التي يتوصل اليها الباحث من دراسته واستطلاعه لثنايا

ص: 255


1- بحار الأنوار، ج45 ص 98 ، عن تنزيه الانبياء للسيد المرتضى.

القضية الحسينية هي:

ان القضية الحسينية كانت تصادف في عِّدةٍ من مراحل سيرها سبباً للانتصار الشامل أو الجزئيّ، لكن السبب ينتكس فجأة، وقد تكرّر هذا مرات.

ولعل اهم ما يُشار إليه: ما كتبه ابن سعد إلى ابن زياد من إمكانية إطفاء النائرة، وان الإمام قد رضي بالعود ونحو هذا، فاقتنع ابن زياد بكتابه، وأراد أن يوافق له على ما توصل إليه من انهاء حالة الحرب، لو لا ان شمراً كان بجانبه فَحَرّضَهُ على الامتناع وزيّنه له، واقترح عليه ان يكتب له بان يعرض على الإمام (علیه السلام) النزول على حكمه - وهو الاستسلام المذلّ - فان أبى الإمام (علیه السلام) ذلك قاتله وقتله، فاقتنع ابن زياد باقتراحه، وكتب بهذا إلى ابن سعد.

فانظر: إلى انّه لو لا وجود الشمر في تلك الساعة لانتهى الأمر، ولتوقفت مسيرة المأساة والكارثة المهولة التي حصلت في الطف، ولكن....

وكيف كان، فلنسرد بعض مقوّمات الثورة ومؤشرات نجاحها:

1- الجو الاجتماعي مع الثورة:

ان عموم البلاد الإسلامية كانت كالمرجل، تغلي حقداً وبغضاً للفئة المتسلِّطة على رقاب الأمة لأسباب تقدم ذكرها.

إذ أنّ ظلم بني اميّة عمّ أرجاء العالم الإسلامي كافّة، واستمرّ هذا زمناً طويلاً دون أن يبدو في الأجواء بصيص أملٍ للخلاص، وهذا يعني ان حركةً قويّةً لو حصلت في مكان ما واشتعل بسببها لهيب الثورة فسينتج تفاعل بقية الأرجاء معها وتضعضع أركان دولة الطغيان والكفر والجبروت ب عُرسة كبيرة دون خسائر تُذكر، ولم يكن في العالم الإسلامي ولاء وطاعة بشكلٍ مطلقٍ لبني امية في غير الشام.

ص: 256

ولا يخفى: انّه تتوفر في المجتمع يومذاك فئات رافضة للوضع الأموي كُليّةً، وكان وجودها يوفّر ركناً من أركان نجاح الثورة وُيَعّجِلْ بضعضعة الكيان الأموي:

فئةٌ: كانت مع الإمام الحسن (علیه السلام) إلى حين عقده للصلح مع معاوية، ولم ترتضِ الصلح.

فئة: كانت مع الإمام الحسن (علیه السلام) إلى حين عقده للصلح، وقبلت بالصلح باعتباره تكليفاً شرعياً، إلاّ أنها مستعدّة للنهضة حالما تتوفّر فرصتها.

فئة الخوراج: والتي كانت متمردة على الجهتين، دولة أهل البيت (علیهم السلام)، ودولة بني أمية، فلما استتبّت الامور لبني أمية وجّهوا عداوتهم وحقدهم وسيوفهم نحو الدولة الامويّة الجائرة الضالّة.

فئات عِدّة:لها اتجاهاتها ومصالحها الخاصّة، إلا أ اّهن جميعاً مستعدّة لإسناد ايّ تحرّكٍ ضدّ الامويين، وان كانت غير مستعدّة فيما بعد للانضواء تحت راية الإمام السبط (علیه السلام)، كعبد الله بن الزبير ومن يسير في فلكه.

ثُمّ هناك بَعْدُ التيار الاجتماعي العام المتذمّر من الاوضاع المقيتة المعاشة، والمستعد لإسناد ايّة حركة تقوم بقلب نظام الحكم الامويّ الفاسد، فكيف إذا كانت هذه الحركةهي حركة ابن رسول الله، وسيّد شباب أهل الجنّة.

والمهمّ في البين انّ مجموعة مهمة رفضت صلح الإمام الحسن (علیه السلام) بل أعلنت رفضها هذا أمام الإمام(علیه السلام)، ثم بدأ بعضها بمكاتبة الإمام الحسين (علیه السلام) مع المعاهدة على المعاضدة

والنُصرة وكان هذا أيّام حياة الإمام الحسن(علیه السلام).

ولم تكن في الأمة فئة كثيرة العدد، قويّة الجناح، قد استفادت من نظام الحكم الأمويّ كي تعضده وتكون ظهيراً له فتمنعه من السقوط، باستثناء أهل الشام.

ص: 257

فما كانت الأمة والاوضاع في تلك الفترة بحاجة لغير حركة بسيطة كي يحدث زلزال في كل مكان، وحركة الإمام (علیه السلام) كانت أكثر من حاجة الامة.

فإذن: كان على الأمة ان تنهض، وقد نهضت فيما بعد، لكن بشكل متفرق الأجزاء، متباعد الزمان والمكان والهدف، ومتعدد القيادة، فأُجهضت كل الحركات ولحقها الفشل والدمار، كحركات أهل الكوفة فيما بعد، وحركة المدينة - أهل الحرّة - وحركة مكة والبصرة مع ابن الزبير.

2- إنّ بعض أهل الكوفة لم يرتضِ صلح الإمام الحسن (علیه السلام) مِن أوّلِه، وِبقي على اعتراضه إلى مراحل متقدمة، كما قام قسم من الزعماء وجمعٌ من أهل الكوفة بمكاتبةالإمام الحسين (علیه السلام) أيام حياة الإمام الحسن (علیه السلام) فامتنع الإمام عليهم مع حياة الحسن السبط (علیه السلام) وَعَضَدَ صلح السبط المجتبى ومسيرته (1).

ثم كاتبوه بعد استشهاد الإمام الحسن السبط (علیه السلام) فامتنع عليهم لوجود العهد والميثاق مع معاوية، فما دام معاوية حياً فلا نهضة، وهكذا دام الأمر، تترى على الإمام الكتب والرجال استنهاضاً له، وهو يتمنّع عليهم أكثر من عشر سنين، فإصرار جمع كثير، وهم من طبقاتٍ اجتماعيّة مختلفة، فيهم رئيس القبيلة، وقارئ القرآن، والوجيه الاجتماعي، ونحوهم من ذوي النفوذ، يسندهم في هذا الكثير من اتباعهم على موقف واحد خلال هذه المدة كلها، لهو مما يبعث على اليقين أو الاطمئنان بصحة الاعتماد على هؤلاء مع كفايتهم - وكانوا كذلك - لإعلان النهضة، وهدّ أركان دولة الضلالة.

3- انّ المُكاتِبين لسيّد الشهداء كانوا قد تنعّموا في ظلال عدالة دولة أمير المؤمنين، د.

ص: 258


1- راجع: كلمات الإمام الحسين(علیه السلام)، ص 205 ، ففيه شاهد على إقبال الشيعة على الإمام الحسين (علیه السلام) بعد صلح الإمام الحسن (علیه السلام) لغرض النهضة، وبيان الإمام الشهيد لهم عدم مناسبة هذا الظرف للمراد.

كما أنهم عاشوا في ظِلال دولة معاوية وعانوا منها كلّ مرّ، وقد جعلهم هذا في حنين دائم لدولة آل محمد، وفي إصرار على استرجاع الأمور لسابق عهدها، وتحدّيهم لدولة آل امية وهي في اشد عنفوانها، يؤكد ان هؤلاء لا يتراجعون عن موقعهم، وأنهم على الطريق، يواصلون تحقيق الهدف.

4- إنَّ الإمام الحسين (علیه السلام) كان قد كاتب زعماء البصرة وشيوخها (1)- إذ لأهل البيت (علیهم السلام) شيعةٌ اشدّاء في تلك الأنحاء-وحثّهم على نصرته، فوافق البعض(2) ومنهم يزيد بن مسعودالنهشليّ (3)، فبعث الأخير بجيشٍ من البصرة لهذا الغرض، غير إنّ الخبر وصل اليهم باستشهاد الإمام (علیه السلام) وهم في الطريق، فرجعوا خائبين.

5- كان ابن الزبير في مكّة معارضاً للدولة، وبسبيل إعلان المشاقّة لها، والثورة عليها، وفي هذا ما يُعين على هدم الدولة لو أعلن الإمام حركته، سواء كانت دعوة ابن الزبير تصبّ في صالح الإمام (علیه السلام) وحركته، أم بمنأىً عنه.

6- إن ولاة يزيد الذين كانوا في بعض المناطق المهمة لم يكونوا على استعداد لمواجهةالثورة بعنف، وهذا يُعينها على اتمام مهمتها بانسيابيّة أكثر وأمن.

فوالي المدينة لم يقتل الإمام (علیه السلام) مع أمر يزيد المؤكد له بذلك، ووالي مكة لم يعتمده يزيد لاغتيال الإمام، بل أناط المهمة بمن أرسلهم من دمشق خصيصاً لأداء هذه المهمة، ووالي الكوفة النعمان يتضعّف، أو هو ضعيف، فلم يواجه حركة مسلم بما يتطلّبه الموقف، وبما تأمله الدولة. .

ص: 259


1- الملهوف، ص 110 ، وحياة الإمام الحسين (علیه السلام) للقرشي، ﺟ 2 ص 321 .
2- حياة الإمام الحسين (علیه السلام) ، القرشي، ﺟ 2 ص 321 .
3- رسالة يزيد بن مسعود إلى الإمام في: الملهوف ص 113 ، وحياة الإمام الحسين (علیه السلام) للقرشي، ﺟ 2 ص 324 .

7- ان سيد الشهداء (علیه السلام) حاول كثيراً إستمالة عمر بن سعد، مع إنّه (علیه السلام) لم يكاتب يزيداً أبداً، وامتنع عن ردّ جواب رسالة ابن زياد (1)، ولم يُظهر اهتماماً بشخصية اخرى غير ابن سعد، وتتحدث كتب السيرة(2) والمَقاتل ان الإمام (علیه السلام) كان يلتقي بعمر بن سعد على حِدةٍ من الجيشين يتحدث معه، حتى بلغت اخبار هذه اللقاءات إلى ابن زياد، فقام بقطع الطريق على تلك المفاوضات، والتي لا تُبَ نتائجها بأيّ خيرٍ لَهُ على كل حال.

إن اهتمام الإمام (علیه السلام) باستمالة ابن سعد له ما يبرّره، لأنّه قائد الجند كما ان فيه مجالاً للقبول وللميل، وقد نقل المؤرّخون انّه كان كارهاً للخروج على سيد الشهداء، واستعفى ابن زياد من ذلك فأعفاه على أن يردّ عهد توليته الري وجرجان فطلب مهلةً للتفكيرفامهله ليلةً الاّ انه اختار الدنيا على الآخرة ورضي بالخروج لحرب الإمام الحسين (علیه السلام)على ان يتوجه بعدها إلى ولايته - والتي حُرم منها طبعاً فيما بعد-.

فما دام الميل فيه موجوداً، وأمكن التأثير عليه، بتحصيل دعمه أو انسحابِهِ من ساحة المعركة، فانّ هذا سيكون عملاً مهماً في دعم الثورة الحسينيّة، إذ سيؤثّر هذا على الكثير، ولا أقل من أن يأتمر بأمره بعض من هم تحت قيادته مباشرةً وكانوا أربعة آلاف، كما أنّ استمالته ستؤدي إلى احداث انشقاق هائلٍ في الجيش الاموي، وإلى إيقاع الوهن والا رتباك فيه، وتعزيز عامل الهزيمة والتردُّد والانسحاب والتقاعس عن ممارسة القتال، إذ كثير من الجيش مدفوع دفعاً بالأساس إلى الخروج لحرب الإمام(علیه السلام).

وحتى مع فرض ان هذا مما لا يقع، أو لا يقع منه الشيء المؤثر، فان إستمالة إبن سعد ستؤدّي إلى تقاعسه عن القتال، وإلى امكانيّة فتح ثغرةٍ من خلاله لنصرة النهضةالحسينيّة أو للدفع عنها، أو لفكّ الطوق من حولها، وقد أفاد هذا الجهد سعي ابن سعدٍ .

ص: 260


1- بحار الأنوار، ﺟ 44 ص 383 .
2- منها: الإرشاد، ﺟ 2 ص 87 .

لِلَمْلَمَةِ المسألة سلماً وتسويتها، بكتابته رسالةٍ لابن زياد يُب له فيها امكانية تدارك الامر واصلاحه عبر السبل الممكنة - وصدق في بعض ما طرحه في رسالته تلك، وكذب في بعضٍ آخر - وقد إقتنع ابن زياد بما كتبه ابن سعد إليه، لولا.... (1)لو لا دخول شمر في المعادلة، وتخويفه لابن زياد من قبول ما عرضه عليه إبن سعد، وتحريضه على جعل الحسين (علیه السلام) أمام خيارين، فاما القتال والقتل، أو الاستسلام بالصيغة التي يريدها آل أمية، وهو ما لا يرضى به الإمام أبداً، فإذن الإمام مُلْجَأٌ إلى القتال بحسب خطة شمر، والتي وافقه عليها ابن زياد.

قال شمر لابن زياد: فلا تُعطيه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فان عاقبت فأنت أولى بالعقوبة، وان عفوت كان ذلك لك (2).

استمالة ابن سعد كانت مهمة جداً، وتترتب عليها فوائد كثيرة، كتفتيت الجيش الاموي، وادخال الوهن والتخاذل عليه، ودخول كثير منهم في جيش الحسين(علیه السلام)، الا ان عارضاً مَنَعَ لهذا الأمر التماميّة، كما هو الحال في بقيّة العوامل المتوفرة لنجاح الثورة.

كانت هناك ثغرة في شخصية ابن سعد حاول الإمام الاستفادة منها لنصرة الإسلام، ولانقاذ هذا الرجل من السقوط والارتداد، ولو اطاع لتغيرت الأمور رأساً على عقب.

8- ان أعظم خطر واجه الثورة الحسينيّة هو تعيين ابن زياد والياً على الكوفة، بل لعلّ هذا هو السبب الوحيد والفرد، لانتكاس مقومات الثورة كُلِّها.

وخطر ابن زياد كان من الممكن مواجهته وتحجيمه بل جعله صفراً على الشمال والقضاءعليه قضاءً مُ مْربَاً عبر وسائل سنذكرها، ولو تَمَّ أحدها لعادت الأمور إلى نصابها، ولاستقرّت كفّة الميزان لصالح الإمام السبط(علیه السلام)، والوسائل هي: .

ص: 261


1- الإرشاد، ﺟ 2 ص 88 .
2- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 74 .

أ- تحشيد جيش ضخمٍ يُقارع الجيش الذي يمكن لابن زياد إعداده، وهذا ممكن إذ إنّ العدد الذي ابتدا الإمام به مسيرته قُرابة الخمسة آلاف شخص- على روايةٍ - وأقلّ عددٍ هو ما ذكره المسعودي، وهو ألف فارس، وماءة راجل(1) - وهذا طبعاً قبل تفرق الناس عنه من بعد وصول خبر شهادة مسلم 2- ثم أن الإمام كان قد كاتب شيوخ القبائل في البصرة وقد أرسلت البصرة جيشها إليه، يُضاف إلى هذا أهل الكوفة انفسهم لو ثبتوا على وعودهم - روي: ان الإمام كتب عند وصوله قرب الكوفة وبعدما التقى بالحر كتاباً إلى زعماء الكوفة يدعوهم لنصرته وللوفاء بمعاهداتهم معه (2)- ثم هناك اثنا عشر الفاً من الشيعة والمحبّين سجنهم ابن زياد بعد وروده إلى الكوفة وقتلهِِ لمسلم - وهؤلاء السجناء في الحقيقة جزء من أهل الكوفة، ولعلّهم يمثّلون الجزء الأعظم ممن كاتب الإمام ودعى إلى النهضة وليسوا بجميعهم إذ معهم ايضاً مجاميع اخرى من شرائح عقائدية متعدّدة ومختلفة، والجامع بينها سخطها على النظام الأموي - بالإضافة إلى اعتقاد بعضها بإمامة الحسين (علیه السلام) على نحو الحصر وكل هذه الأعداد كانت تمثل القاعدة العسكرية للإمام في بداية تحرّكه، وهي تكفل نجاحاً تاماً حتى لو اختزلنا هذا العدد، أو حسبنا حساب الناكلين والناكثين بحسب متعارف هذه الحالات، فان العدد الباقي به الكفاية لتحقيق الغرض.

ب- كانت هناك إمكانيات لاغتيال ابن زياد، ولو تحقق واحد منها لانتهت الازمة في مهدها.

منها: إمكانية اغتياله حين دخوله لوحده إلى الكوفة.

ومنها: إمكانية اغتياله في بيت هاني بالطريقة المقترحة أو بغيرها.

ومنها: محاولات عدة جرت لاغتياله في النخيلة، وهو يسرّح الجيوش لمقاتلة الإمام .

ص: 262


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 74 .
2- بحار الأنوار، ﺟ 44 ص 381 - 382 .

السبط(علیه السلام).

ﺟ- لقد قام الإمام السبط (علیه السلام) بحركة مهمة في الطف قبل أيام من بدء القتال في سبيل هداية ابن سعد وارجاعه إلى صوابه، وكان من ثمار هذا العمل ان كتب ابن سعد لابن زياد بوصوله إلى حلّ مع الإمام يُؤدّي لإطفاء النائرة وانتهاء الأزمة ببيان استعداد الإمام إلى الرجوع من حيث أتى، وعلّق ابن زياد على رسالة ابن سعد بأنها رسالة ناصح مشفق ووافق عليها فورا، ً غير إن شمرا أخذ يحرّض ابن زياد ويزيّن له التشدّد والتصلّب ويخوفّه السير في الطريق الذي ينصحه به ابن سعد، فمال ابن زياد من جديد لرأي شمر، ولو لا هذا الاتفاق السَيّئ لسارت الأمور إلى واقعٍ أحسن.

ص: 263

ص: 264

على طريق إنجاح الثورة

اشارة

بمتابعتنا وتدقيقنا في ثنايا التاريخ المُدوّن عن المسيرة المباركة للإمام الحسين (علیه السلام) والمنتهية باستشهاده، فاننا سنظفر بما يؤكّد للمتأمّل انّ الإمام المظلوم كان يتحرّك بما ينفع في إنجاح الحركة المباركة، دون أن يكون تحرّكه لغاية تحقيق الاستشهاد فقط.

وقد تسأل: إنّ الحركة لم يُقدَّر لها النجاح، وكان الإمام يعلم بالمصير الذي سينتهي إليه، وتنتهي إليه حركته، فما معنى صدور افعالٍ له بقصد تحقيق الانتصار. وهو سؤالٌ وجيهٌ بلا ريب، والجواب:

1- إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قد سار مسيرته المباركة وهو يعلم بانتهائه إلى الإستشهاد ومع ذلك سارها - ويصعب الالتزام بأنّ جميع تحركات الإمام (علیه السلام) كانت مبتنية على السير قُدُماً باتجاه تحقيق الاستشهاد فقط -، فما يُقال عن مجموع المسيرة، يُقال عن ابعاضها، وهذا جوابٌ نقضيّ.

2- إنّنا تركنا الباب مفتوحاً بمقدارٍ ضئيلٍ أمام احتماليّة توفّر عنصر البداء في البين، بمعنى امكانيّة تغيّر مسار الحركة إلى حيث انتصار الإمام الميداني على أعدائه، استناداً إلى انّ المولى بحانه أخذ على أوليائه القول بالبداء، وأنّ له ان يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء، وأنّ قلم التقدير لم یجف، ومعنى هذا انّ على أوليائه العمل وفق امكانيّة تبدّل المسار، وأنّ عليهم البقاء دائماً بين الخوف والرجاء، وإن كان مستوى وقوع المحذور أو المأمول عالياً.

وبحث هذا الجانب في حياة الإمام (علیه السلام) مهم، لانّه يقدّم منهجاً حياتياً لنا في مسيرة

ص: 265

صراعنا الطويلة مع أحداث الحياة، ومع قوى الكفر والطغيان.

فأوّل قاعدة يمكن تأسيسها في هذا المسار:

إن هناك سُبُلاً يُمكن سلوكها لأجل كسر جناح السلطة الجائرة، كما أنّ من السبل ما يحرم سلوكها، أو على المرء ان ينزّه نفسه بالترفّع عن انتهاجها.

فمبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» مرفوض ومنبوذ في التشريع الالهي، لأنّ أخذه بسعته هذه يؤدي إلى اقتراف جرائم لا حدّ لها ولا منتهى.

نعم يُمكن ملاحظة العناوين الثانوية، والمصالح الإسلامية العليا، ومصالح الأمة، ضمن حدود وضوابط ذكرها الفقهاء الكرام في كتب الفقه وأصول الفقه تسمح بحريةالحركة في مجالات يخرج بها المرء عن انحطاط تلك القاعدة الشيطانية الخبيثة إلى مبدأإسلامي عقلاني مقبول يُنجح مقاصد الإنسان المؤمن ولا يقع معه في مستنقع الرذيلة.

ومن أروع ما قدّمته الحركة الحسينية كمثال يُتلى على مسامع الدهر في كل جيل عدم إقدام بطل الإسلام مسلم بن عقيل على قتل عبيد الله بن زياد (1)مع أن الأخير رأس الفتنة، ويد يزيد في مواجهة المدّ الحسيني وإيقاف موجه، وما تركه مسلم - والمجال مُتاحٌ أمامه لقتل ابن زياد بكل يُسرٍ وسهولة - إلاّ لانّ في قتله بتلك الصورة وفي ذلك المقام شائبة غدرٍ ومحذورٍ شرعيٍ، لا يُقدم عليه من اتخذ قوانين الإسلام شِعاراً ودِثاراً ومنهجاً ومسلكاً في حياته، وإن ادّى ما ادّى.

والأمثلة على ما قدّمناه من القاعدة لا تُعدّ ولا تُحصى، وسيأتي ذكر بعضها، وكتابنا هذا مليءٌ بالشواهد على نصاعة الحركة الحسينية في هذا الجانب، فليتعظ بها من لم يزل إلى حدّ هذا اليوم في حَ ةْريٍَ بين تيار الضلالة والانحراف والارتداد والرذيلة - بنو اميةونحوهم - وبين تيار الهدى والحق وعُشّاق درب الله سبحانه - رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل-.

ص: 266


1- بحثنا في كتابنا - مسلم بن عقيل- حول هذا المطلب في فصل بعنوان- الإيمان قيد الفتك-.

بيته الأبرار(علیهم السلام).-

وممّا صنعه الإمام (علیه السلام) لحثّ الأمة ككل، وجيش الضلالة بشكل خاص على اتخاذ موقف ايجابي - في الجُملة - من حركته المقدسة:

1- إزالة الغشاوة عن أبصار وبصائر الأمة، من جهة الكشف عن حقيقة الواقع الخارجي وملابساته، وعن حقيقة ما جاء به الإسلام من عقائد واحكام.

أي ان الإمام بدأ بتبصير الأمة باتجاه:

معرفة الموضوعات كما هي، والأحكام كما هي.

وهذا الامر في حياة الإمام سلسلة متصلة فليس لها مكان مع ولا زمان معين بل هو شأنه وشأن آبائه وابنائه من المعصومين مع الأمة في تمام أيام وجودهم.

ومن أهمّ ما صدر عن الإمام في هذا السبيل وقوفه بمنى قبل هلاك معاوية بسنتين وقيامه بجمع الناس حتّى بلغوا قُرابة الألف وفيهم جمع مهم من الصحابة فاستشهدهم على مجموعة كبيرة من النصوص قد صدرت من النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) تجاه أهل البيت (علیهم السلام) فشهدوا بصدورها، فأمرهم بالرجوع إلى اوطانهم ونشر هذه الاحاديث إذ أنّ الحق يكاد ان يُطمس (1)بفعل تعتيم بني أمية وتشويههم وتشجيعهم لحركة وضع الاحاديث وكذلك لقيامهم بالتنكيل بكلّ من يصدر عنه شيء من قبيل هذه النصوص، بل قتله.

ولو تتبعنا مسيرة الإمام إلى كربلاء لرأينا مصاديق لهذه الكليّةِ كثيرةً، فإنه (علیه السلام) ما فَتئَِ يحدّث كل من يلقاه بحقيقة بني أمية، وبالموقف الإسلامي الواقعي من الحالة المُعاشة، وبحقيقةِ حركته، وما ستؤول إليه الاحداث، وغير هذا.

ونصل إلى كربلاء فنرى سيد الشهداء (علیه السلام) يقف أمام الجيش الأموي، يوضِّحُ لهم .

ص: 267


1- راجع لهذه القضيّة: الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ﺟ 2 ص 87 .

حقيقة شخصيّته، وما ورد فيه من النصوص، وحقيقة آل أمية، وحقيقة موقفه في هذه الحركة والنهضة، وذلك كلّه كي يتخذوا موقفهم عن بصيرة، وكي يتخذ معهم الموقف المناسب لوعيهم.

2- مواجهة السلطة وفضحها وكشف زيفِها وحقيقتها في حدّ نفسها وكذلك حقيقة أهدافها، ومن الأمثلة على هذا كتابته لرسالته الطويلة إلى معاوية ردّاً على رسالته التهديدية وكانت رسالة الإمام من العنف والفضح لمعاوية أن أبهتته و جعلته يقول:

إن أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً.

وحصل هذا أيضاً مع والي المدينة ومروان والحر وابن سعد.

3- ان الإمام (علیه السلام) كان يصرّح في مواقف كثيرة بان أهل الكوفة خاذلوه، وأن بني أمية سيقتلونه.

وكما ان هذا التصريح قد يزيد في جُبن البعض وتقاعسه عن السير قُدُماً مع الإمام، الاّ انه في نفس الوقت يقضي على حالة التواكل لدى بعضٍ آخر، باعتمادهم فِرصاً على حركة أهل الكوفة في نُصرة الإمام، وتجعلهم في مواجهة التكليف الالهي الواضح بلزوم نُصرة الإمام والسير معه قُدُماً ومعاضدته.

4- كان الإمام يسعى في طريقه لتغيير قلوب الناس على بني امية (1).

وفي هذا النهج فوائد، فإمّا أن تلتحق الناس به، أو تتكاسل عن الالتحاق ببني اميةوتصمّ آذانها عن ترغيبهم وترهيبهم، بل هذا الأمر نافع على المدى الطويل فيما لو قدّرلحركة الإمام عدم تحقيقها للانتصار العاجل على الدولة الظالمة - كما حصل فيما بعد-.

5- كان الإمام يطلب - وبوضوح وصراحة تامّين - من الآخرين اتباعه ونُصرته .

ص: 268


1- تحفة العالم، ﺟ 1 ص 316 .

بما يقطع معه عذرهم - بأي نحوٍ كان - وفي هذا بيان للتكليف العام المُوَجَّه للامة ككل، كما فيه تكليفاً شخصياً لهؤلاء بتَحَمُّل المسؤولية في نُصرته ومعاضدته، غير أن أكثرهم خالفوا التكليف العام والتكليف الخاص.

الإمام في مواجهة جيش الضلالة:

لقد سعى الإمام جاهداً إلى هداية الجيش الاموي - والمكوّن بشكلٍ كاملٍ من جمهور أهل الكوفة، والذين هم في معظمهم ممّن لاقى كُلّ مُرّ في ظلّ الدولة السفيانيّة - وسعي الإمام هذا يُمكن ان يكون لبواعث عِدّة غير ان ماله مدخليّة بموضوعنا هذا انّ هدايتهم تّنتج صحوتهم وعودتهم إلى ساحة الصفّ الإيماني، أو لا أقل انسحابهم من أجواء المعركة بشكل كامل، وهذا بحدّ ذاته مرتبة مهمة من مراتب الانتصار للإمام(علیه السلام).

وكانت وسائل الإمام (علیه السلام) لإحداثِ الصحوة فيهم:

1- توضيح وتأكيد ارتباطه المميّز برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وفائدة هذا التوضيح والتأكيد:

أ- ان المجتمع العربي كان يُولي أهميّةً كبرى لمسألة النسب في حياته اليومية وكان لارتباط إنسان بشخصٍ ما أو قبيلةٍ ما مدعاة لتكريمه عندهم أو للاستهانة به، ويختلف الأمر شِدّة وضعفاً بحسب موقع تلك الجهة أو ذلك الشخص عندهم، وطِبقَ هذا السياق فينبغي ان يكون اهتمامهم بالحسين عظيماً، وذلك لموقعه النسبي من رسول الله (صلی الله علیه و آله) تبعاً لأهمية موقع الرسول الاعظم (صلی الله علیه و آله) في الامة.

ب- ان الإمام (علیه السلام) أكّد ارتباطه بالنبی (صلی الله علیه و آله) بشكل يوضّح للأمة ان نوع هذا الارتباط بمرتبةٍ أعلى من الارتباط النسبي البحت.

2- قام الإمام (علیه السلام) بوعظ الحشود المتجمّعة لمقاتلته وأبلغ في وعظهم ونصحهم وتحذيرهم من غضب الله سبحانه ومن عظيم أخذه ومن النيران وحذّرهم من العواقب

ص: 269

الدنيوية الوخيمة لما هم بصدد الإقدام عليه.

ومن مهمّ ما قام به الإمام:إبرازه لكتاب الله سبحانه ونشره، وخطبته عند ذاك بهم.

ووجه الاهمية: ان جمعاً مهماً من الجيش الضال إنما كان من فئة الخوارج وهؤلاء أشعلوا فتنةً هائلة في جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) لمّا رفع معاوية وصحبه المصاحف وقاموا من جهتهم برفع سيوفهم بوجه أمير المؤمنين (علیه السلام) مطالبينه بوقف القتال والدخول في مفاوضاتٍ مع معاوية واستمروا في نهجهم وفكرهم هذا سنين كُثر، غير انهم لم تتحرّك لهم شعرة حين رفع ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) والداعي إلى المعروف والناهي عن المنكر المصحف إمامهم.

3- أعلن لهم أهدافه من حركته المقدّسة.

4- ذكّرهم بجرائم بني أمية مع الأمة جمعاء، ومع الكوفيين بشكلٍ خاص.

5- ب لهم أنّه إنّما قَدِمَ عليهم بناءً على طلبهم ومعاهدتهم وإصرارهم.

6- صدور بعض الكرامات من ساحته المقدّسة ليعلموا - يقيناً - صدقه وارتباطه بالله سبحانه.

7- عَرَض أمامهم عرضاً وسطاً بين المبايعة المستحيلة التي يريدونها والقتال، والعَرْضُ هو: الرجوع من حيث أتى، أو الذهاب في بلاد الله العريضة - على ما روي -.

8- سقى الإمام (علیه السلام) جيش الحر وهم ألف فارس وألف فرس، وكان المناسب كَرَدِّ فعلٍ على صنع الإمام (علیه السلام) هذا معهم الانحياز إلى الإمام أو العمل على ايصال الماء إليه وإلى أسرته النبوية، أو ترك ساحة المعركة في الأقل، لكن لم يُنقل شيء من هذا عنهم أبداً غير ما صدر من قائدهم الحر الرياحي من الانتقال إلى جيش الإمام (علیه السلام) وفدائِهِ له بنفسه ومن جمعٍ قليلٍ من المقاتلين.

ص: 270

9- أكثر الإمام (علیه السلام) من إلقاء الخُطب ومن بيان الحقائق ومن دعوة الجمع المحتشد ضدّه إلى التفكّر في قضيّته وإلى المقارنَةِ بينه وبين بني أمية بالنسبة لهم إذ قال لهم:

«أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون»

ومن هنا يتب ان الرذالة العظيمة لبني امية وقداسة الإمام من الامور البيّنة عندهم، وكان عليهم استغلال ظرف حضور الإمام (علیه السلام) للانتقال إلى الجمع المُصاحِب له، ومعاضدته، وتغيير مسار الاحداث، على ما وعدوه ببذلِ النفس والنفيس، لكنّ رداءة الذات ورذالتها استحكمت فيهم، فلا حياء، ولا إيمان بآخرة، ولا رغبة بالمكارم.

10- اهتم الإمام بشكل خاص بمحاولته التأثير على عمر بن سعد وزحزحته عن موقفه المؤيد للسلطة الجائرة.

ولم يكن ابن سعد راغباً بالخروج لحرب الإمام (علیه السلام) غير أن ابن زياد خدعه بتعيينه له والياً على بلاد الريّ وجرجان - وهي بلاد واسعة ومهمة في تلك الفترة - وسلّمه كتاب التعيين ثم فتنه بطلبه منه الخروج لحرب الإمام وهدّده بسحب كتاب تعيينه لولاية الري لو أصرّ على الامتناع فوافق على مضض.

وقد حاول الإمام هدايته بطرق شتّى منها تذكيره بانتسابه إلى رسول الله - لو كان الحافز الديني فيه حيّاً بنسبةٍ ما - ونحو هذا، وخوّفه الآخرة وعذابها، فبدأ الطاغية بالاعتذار بأمور لا تصلح وجهاً للاعتذار حينما يكون الخيار المقابل ضرب الإسلام في اقدس مقدساته، وتوجيه أعنف ضربة للتوجه الإسلامي الحقيقي في المجتمع، في مقابل تيّار الارتداد، والانقلاب على الأعقاب.

قال الإمام لابن سعد: «يابن سعد، أتُقاتلني؟ أما تتّقي الله الذي إليه معادك، فإ ابن مَنْ قد علمت، ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنّه أقرب إلى الله تعالى».

ص: 271

- فأجاب: أخاف أن دُهتم داري.

«- أنا ابنيها».

- أخاف أن تُؤخذ ضيعتي.

«- أنا أخلف عليك خيراً منها في الحجاز».

- إنّ لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم من ابن زياد القتل «والعجيب أنّه يخاف على أولاده ولايأبه إلى أنّ ذريّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ستتعرّض للإبادة وعلى رأسهم سبط رسول الله وريحانته من الدنيا».

فأنهى الإمام (علیه السلام) محاولاته معه وواجهه المواجهة الأخيرة الحاسمة لأمر هذا التح والتذبذب والنفاق:

«مالكَ ذبحك الله على فِراشِكَ عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرِك، فوالله إ لأرجو أن لا تأكل من بُرّ العراق إلاّ يسيراً».

فكان جواب ابن سعد الساخر: إنّ في الشعير كفاية (1).

فأعلن ابن سعد بجوابه هذا: ارتداده وانحرافه، بشكل حاسم ومصيري، إلى الفئةالاموية الفاسدة، فروع الشجرة الملعونة في القرآن.

هذا: مع أن محاولات الإمام آتت نتائج مهمة في بادئ الأمر، إذ كتب ابن سعد إلى ابن زياد بامكانية رجوع الإمام وانتهاء الازمة وَعَرَضَ الأمر بشكلٍ وافق عليه طاغية العراق - ابن زياد - غير أن شمراً كان بالمرصاد لمحاولات ابن سعد إذ حرّض ابن زياد على التشدّد وجرت الاحداث فيما بعد كما هو معروف.

قضى الإمام - مع صحبه الكرام - ليلة العاشر في الصلاة وقراءة القرآن والدعاء .

ص: 272


1- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 133 .

والذكر وكان الأجدر بالجيش المرتد الضال أن يُراجع نفسه وهو يرى ابن رسول الله ومعه أوتاد الارض وخيار الأمة - صحابة الإمام الكرام من بني هاشمٍ وغيرهم - وهم بمحضر المولى سبحانه في آخر ليلة من عمرهم المقدّس وقد قضوها بالدعاء إليه سبحانه وكان على جيش الضلالة أن يخاف سوء الحساب والعاقبة وهو يتهيأ لإبادة صفوة الأمة الإسلاميّة وَخِ اَريَِهت، لكنّ حبّ الحياة وعاجل الدنيا، والخوف من الموت، وخبث الذات، استحوذ على تلك النفوس الخائرة، والتي انحسرت عنها كل صفة كريمة وكل خلق حسن، إلى ان اقترفوا الجريمة الأعظم في تاريخ الإنسانية المليء بالجرائم والعظائم.

يوم عاشوراء:

ولم يتوقف الإمام (علیه السلام) عن سعيه الحثيث لصدّ العُصبة الآثمة عن اقتراف الجرائم إلى قُرْبِ ساعة شهادته المقدّسة.

فلم يبتدئهم بقتال.

وجعل شعار جيشه: يامحمد - وأين من يرعوي منهم، أو تثور فيه النخوة الدينيّة، لو بقي في ذواتهم منها أثر-.

وواصل خطبه فيهم ووعظه لهم.

بل أخذ يستغيث وسط ذلك الجمع المرتدّ:

«هل من ناصرٍ ينصرنا.

هل من مغيث يغيثنا.

هل من مغيثٍ يرجو الله في اعانتنا.

هل من ذابٍّ يذبّ عن حُرم رسول الله(صلی الله علیه و آله)».

ونحو هذه، فلم تؤثر إلاّ فيما يقاربَ الثلاثين منهم إذ انعطفوا إلى الإمام مقاتلين

ص: 273

معه ومستشهدين بين يديه.

رفع الإمام يديه إلى السماء وسط ساحة المعركة وأمام الجمع المحتشد كُلّه يبتهل إلى الله سبحانه ويتقوى به:

اللّهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شِدَّة، وأنت لي في كل امرٍ نزل بي ثقة وعُدّة، كم من هَمٍّ يضعف منه الفؤاد، وَتَقِلُّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك، وشكوته اليك، رَغْبَةً بي اليك عمّن سواك، فأذهبته وفرّجته وكشفته، فأنت وليّ كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كُلّ رغبة.

وبقي فكر وقلب الجيش المحتشد أقسى من الحجر.

واين انت عن أعظم منظر فجيع في عرصات كربلاء وهو منظر عائلة النبي الاعظم (صلی الله علیه و آله) مِن نساء أهل بيته وصبيته وهم يئنّون من العطش وقد احتوشهم ذئاب الأمة وأعضاد فراعنتها ولم يتحرك من ذلك الجمع ساكن.

وها هو الإمام (علیه السلام) يدعو الله سبحانه على هذه الفئة بأن يأخذها أخذ عزيز مقتدر في الدنيا والآخرة وينتقم له منهم عاجلاً.

فلم يجد منهم غير الإصرار على نهج الجريمة و بُرشِْ كأس السّم إلى آخر قطرة.

ها هو الإمام (علیه السلام) يوم الطف يستعدّ لمواجهة هجمة الجاهلية والارتداد عن حقيقة الإسلام وعن لوازم عقائده واحكامه، إذ لم يبق من الإسلام عند هذه الفئة غير الاسم وبعض المظاهر والاّ فهم يقاتلون تحت أمثال الشعار الذي رفعه عمرو بن الحجّاج:

يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم.

ثم يؤكدّ عليهم التمسك بعدم مخالفة الإمام - أي يزيد- (1). .

ص: 274


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 19 .

وهذا المنطق يُضحك الثكلى فايّة جماعةٍ هذه، والتي تُنتج صعود السفلة الأراذل على منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) واستلام مقام الإمامة والخلافة كما تُنتج قتل ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسيد شباب أهل الجنة لأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويريد السير بسيرة ابيه أميرالمؤمنين (علیه السلام) - أزهد العالمين بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) - وسيرة جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) المبعوث رحمةً للعالمين.

نعم ها هو الحسين (علیه السلام) يقارب خيام أصحابه ويحفر الخندق من خلف الخيام وحولها ويرتّب جيشه.

ويصنع المستحيل في سبيل هداية الجمع الضال فما مِن أثر الاّ مِن افراد.

ولا ينسى الحسين الوصيّة في تلك الساعات الهائلة.

هذا الإمام الباقر (علیه السلام) يُروى عنه:

«لما حضر علي بن الحسين (علیهما السلام) الوفاة ضمّني إلى صدره وقال:

يا بُنيّ أُوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة.

ومما ذكر أن اباه أوصاه به، قال:

يا بُنيّ، إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله». (1) .

ص: 275


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 153 .

ص: 276

استغاثة وغدر

لو لا أن أهل الكوفة استغاثوا بالإمام الحسين (علیه السلام) وطلبوا حضوره إليهم، ووعدوه المعاضدة، والمجاهدة بين يديه دفاعاً عنه، وعن قضيته، لما اختار الإمام (علیه السلام) الكوفة مُنطَلَقاً لمسيرته، ولا اعتمدها في حركته أبداً.

بل يُمكن القول ويصحّ: أنه لو لا مكاتبة الكوفيين للإمام (علیه السلام) لأكثر من عشر سنين مستصرخين به ومستغيثين، ومؤكدين لمطالباتهم ومستميتين، ململا نهض الإمام (علیه السلام) بتلك الصيغة، ولاكتفى بالامتناع عن البيعة، كأبيه أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد السقيفة، بل لعلّه كان يبايع كحال بقيّة المعصومين في مثل هذه الظروف.

إذ بعد مكاتبة الكوفيين للإمام الحسين (علیه السلام) أيام معاوية، وكذلك بعد استشهاد الإمام الحسن(علیه السلام)، أضحى ظرف الإمام (علیه السلام) بين مشكلين:

المشكل الأول:الصلح القائم مع معاوية، وهو يقتضي من الإمام الحسين (علیه السلام) عدم النهضة وترك الخروج، لوجود معاهدات ومواثيق، بالإضافة إلى أُمور أخرى شرحناها فيما تقدم، فلا يسعه والحال هذا الاستجابة لدعوة الكوفيين وهدم ما تَمَّ مع معاوية، خصوصاً وان أهل الكوفة هم الذين أوقعوا أنفسهم في المحذور-ظلم معاوية- بسبب تكاسلهم عن نصرة أمير المؤمنين، وتكرّر غدرهم به.

الثاني: استغاثة أهل الكوفة من ظلم معاوية وولاته، والآية الكريمة تقول:

«وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ

ص: 277

نَصِيرًا» (1).

وقد ب الإمام أن حالة أهل الكوفة باستنجادهم إياه سبب لحركته المقدّسة، فقد قال لهم يوم عاشوراء:

«تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً، حين استصرختمونا والهين، فاصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في إيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم أولياء لأعدائكم على أوليائكم، بغير عَدْلٍ أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، ...أهؤلاء تعضدون، وعنّا تتخاذلون، أجل والله غدرٌ فيكم قديم، وَشَجَت إليه اصولكم، وتأزّرت عليه فروعكم، فكنتم أخبث شجاً للناظر، وأكلةٍ للغاصب». (2)

فالإمام (علیه السلام) كان بين محذورين:

ا-لزوم ترك النهضة لوجود المواثيق بينه وبين معاوية - كجزء علة أساسي -.

ب-ولزوم النهضة، لاستنجاد أهل الكوفة واستغاثتهم به، لكونهم مستضعفين من بني اُمية.

وقد تَحَفَّظَ الإمام (علیه السلام) على التكليفين، إلاّ أنّه قدّم اللازم تقديمه في ذلك الظرف، وهو المحافظة على عهوده ومواثيقه، غير أنه وعد أهل الكوفة إنجادهم بمجرّد هلاك معاوية.

واستمر أهل الكوفة على مواثيقهم ومعاهداتهم، واستمر الإمام على وعده إلى أن هلك معاوية.

وهرع أهل الكوفة «زعماء وعامّة» بالكتابة إلى الإمام(علیه السلام). .

ص: 278


1- سورة النساء، الآية 75 .
2- الملهوف، ص 155 .

الكثير من الرسائل وآلاف المبايعين.

إذن: جاءَ حينُ إنجاز الإمام لوعده.

فكان لابُدّ من تنفيذ الوعد على كل حال، وهو أمرٌ غير سليم باطلاقه.

أو تركه على كل حال وهو مستحيل في حق الإمام المعصوم.

أو بلوغ مرحلةٍ بحيث يتراجع فيه أهل الكوفة عن طلبهم واستغاثتهم.

أو الانتظار لحين ظهور معالم غدرهم ونكولهم عن عهودهم.

وهو ما لم يحصل إلاّ بعد ان ابتدأت المواجهة واستحكمت.

فانتقل الأمر إلى مرحلته الثانية بعد تحقّق غدر أهل الكوفة، وهو كفّ يد الدولة

عن الأعتداء على حياته المقدّسة، وعلى ما يلزم المحافظة عليه من مقدّسات الإسلام.

وامتنعت عصبة الحكم والارتداد، إلاّ باستسلام الإمام الاستسلام المذلّ - ونتيجته القتل وزيادة -.

ومثل هكذا استسلام، مستحيل جِدّاً في حق الإمام(علیه السلام)، إذ الإمام (علیه السلام) يمثّل في حركته وسكونه وقداسته مقام خِلافة الله ورسوله في الارض.

فأصبح الإمام(علیه السلام) «في هذه المرحلة» في موقف الدفاع عن نفسه المقدّسة.

فهو بين أن يحاول كفّهم عن أصل محاولتهم لتنفيذ مخططهم بِصيغَتِهِ الدنيئة، وبين مدافعته عن نفسه وَحُرَمِهِ.

سقط شهيداً في عرصات كربلاء مغدوراً به من أهل الكوفة، ومخذولاً من معظم الأمة، مع بيان النبی (صلی الله علیه و آله) المتكرّر بأن الأُمّة ستقتل ولده من بعده، وبلزوم نُصرته، ومع انتشار هذا البيان، فكان على الأُمة الحذر والاستعداد، فلا يستصرخونه، لأن الأحداث ستأخذ هذا المسار، أو لا يغدرونه، ولا يخذلونه.

ص: 279

كان على الأمة كلها: الاستعداد.

وكان جمع منهم ملتفتون إلى ما بيّنه النبی (صلی الله علیه و آله) لكنهم ما اتخذوا الخطوة المناسبة غيرالإشارة على الإمام بترك الخروج.

لم يرد نصّ واحد عن النبي «مهما كان ضعيفاً أو مفتعلاً» ينهى الحسين عن الخروج، بل توفّرت نصوصٌ كثيرة يأمر النبي فيها أمته جماعات وآحاداً بنصرة الحسين إذا خرج، إلاّ انه لم يخرج غير نجوم الأرض من الأسرة والصحب، وهم قرابة المائة، يزيدون قليلاً أو ينقصون.

وحذّرهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) أيضاً (1)، ولم يقل لولده: لا تخرج، بل قال للأمة: انصروا ولا تخذلوا.

والعجب من أهل الكوفة:اذ أعابوا على الإمام الحسن صُلحه مع معاوية، واستنهضوا الإمام الحسين (علیه السلام) سنين، فلما أجاب الإمام استصراخهم غدروه بل قتلوه (2).

ثم أنهم لم يعترضوا على قتل الإمام (علیه السلام) فيما بعد، أي في بقيّة أيام يزيد، مع عظمة ما قام به، وشناعة ما اقترفه، من قتل ولد رسول الله، واعتقال نسائه وصبيته، وتسييرهم من بلد إلى بلد بحال الأسر والقهر، ونقلهم من سجن إلى سجن.

وتابت الاُمة من ظاهرة الاستغاثة، بعد مجزرة الطف.

فبالرغم مما مرت به الأمة من كوارث وأهوالٍ - فيما بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام)- على يد حكامها الظلمة المستهترين بكل القيم والشرائع، فإنّه لم يُنقل توجيه فئة من الاُمة استغاثةً واستنجاداً إلى الأئمة المعصومين (علیهم السلام) لإنقاذهم من الاستضعاف، كما .

ص: 280


1- بحار الأنوار، ﺟ 41 ص 314 .
2- كشف المحجة، السيد ابن طاووس ص 96 .

لم تصدر معاهدة - بشكل جماعي -على النصرة والمعاضدة، نعم هناك حالات فردية.

ولعل قضية الإمام الحسين (علیه السلام) أورثت الاُمة عُقَداً بالذنب، واستحياءً من المعاودة، بعد ما فشلت عن الوفاء بوعودها وعهودها مرات - مع الوصي والمجتبى والحسين الشهيد (علیهم السلام) - كما أن الأئمة (علیهم السلام) كانوا يردّون الدعوات الفرديّة بعدم وجود الناصر المستميت بعددٍ يزيدُ على العشرات، أو هو دون المستوى المطلوب على كل حال.

ص: 281

ص: 282

أثر علم الإمام (علیه السلام) باستشهاده

الإمام الحسين (علیه السلام) كان يَعلم عِلماً قطعياً بأنّ مآله في حركته هذه إلى الاستشهاد، بل يعلم بتفاصيل استشهاده، كعلمه بمكانه، وبالجهة التي ستتولاه، وبحركة الأحداث بعده، وما سيؤول إليه حال أهله، وقضيته، وحال قتلته وخاذليه، كل هذا عن طُرُق العلم المتاحة لخلفاء الله سبحانه في أرضِهِ وأوصياءِ نبيّه، ومنها إخبارات النبی (صلی الله علیه و آله) بهذا الشأن، وإخبارات وصيّه.

وليس العلم بالاستشهاد بتفاصيله مقتصراً على الإمام الحسين (علیه السلام) بل هو شأن كل المعصومين الأربعة عشر -صلوات الله عليهم وسلامه - بل فازت مجموعة من الشيعة، خصوصاً من أصحاب الوصي (علیه السلام) بالعلم بتفاصيل عن نهايات حياتهم من نفس الوصي (علیه السلام) بل نال مثل هذا ايضاً بعض اصحاب النبي بتعليمه(صلی الله علیه و آله).

والتساؤل الوارد على قضيّة الإمام الشهيد (علیه السلام) -بعد الاخبات لهذا المطلب - عن الوجه في تحرك الإمام (علیه السلام) مع علمه بشهادته، مع وجوب المحافظة على النفس، وبعد قوله سبحانه: «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (1).

وهكذا طرح يشمل حال المعصومين الأربعة عشر (علیهم السلام)، ومن بلّغوه بكيفيةشهادته وخاتمته، فهو غير مختصٍ به (علیه السلام) في الواقع.

البعض يعتقد أن الإمام الشهيد تعامل مع الأحداث دون أن يبني خططه و تحرّكه وتفاصيل توجيهه للأحداث على أساس ما علمه عن طريق آبائه أو عن طريق التأييدات

ص: 283


1- سورة البقرة، الاية 195 .

والتسديداتِ الربانية له، وهذا كلام لا يُمكن قبوله بإطلاقه أبداً.

إذ كيف يُخبر النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) باستشهاد ولده عن جبرئيل (علیه السلام) عن ربّ العزّة تبارك وتقدّس، بل ويتعدّد إخباره لهذا الأمر سراً وعلانية، ويسمع إخباره هذا الكثير من الصحابة، وكذلك يُخبر به الإمام الوصي علي(علیه السلام)، بل يُخبر به سيد الشهداء عدة مرات، وفي اماكن متعددة، مِن قَبْلِ البَدْءِ بحركته إلى قرب انتهائها، ثم لا يُرَتِّب الإمام الشهيد أثراً على هذا الأخبار النابع عن علم قطعي بالتحقّق، لمجرد كون العلم به لم يحصل من الطرق الطبيعية العادية المتعارفة للعلم، بل بالطرق الالهامية والإعجازية، هذا أمر لا يمكن قبوله واعتماده، مع خطورة الموقف ومصيريته وكثرة الإخبار به.

أفلا يصحّ التساؤل والحال هذا: كيف لم يمنع هذا، الإمام (علیه السلام) من اعتماد كتب ورسائل أهل الكوفة، وَ سار الإمام (علیه السلام) مسيرته دون أن يأخذ أمر استشهاده بالحسبان مع أنه يُبَيّنهُ في حِلِّه وترحاله.

والذي نراه، أنه يلزم الأخذ بنظر الاعتبار لملاحظة الإمام مسألة استشهاده عند تخطيطه لحركته، وهذا ظاهِر من دراسة أقوال الإمام وتحركاته، بل هو واضح جدا.ً

من البعيد جداً أن يغضّ الإمام النظر عن هذه المسألة لمجرّد ان العلم بها لم يحصل عن الوسائل الطبيعية وإنما عن طريق الوحي والإلهام، بل مع ملاحظة كثرة الأخبار عن النبي والوصي والإمام نفسه يصبح التصديق بهذه المقولة غير مقبول بل غير معقولٍ أيضاً، ويُنزّه أهل العصمة والحكمة عنه.

والآثار التي ستترتب على علمه القطعيّ بانتهائه إلى الشهادة:

أ- إخباره أهل بيته، وخُلّص صحبه، بل عامة الناس، به.

وفائدة هذا الأخبار والبيان - بل التأكيد عليه مِراراً وتكراراً - هو حثّ الناس على

ص: 284

نصرته، وقطع الطريق على معاذيرهم وتقاعسهم اتكالاً على دعم أهل الكوفة وغيرهم للإمام، بسبب كثرة المكاتبين والمعاهدين والمناصرين له(علیه السلام)، وكذلك استدعاءاً لغيرتهم وحميتهم، وتفجيراً لمكامن الشهامة فيهم، ودفعاً لتواكلهم.

فكان على الأمة - بعد إخبارات النبي والوصي والإمام الشهيد - أن تتعامل مع الحركة الحسينية بجدٍّ ونشاط، وأن تُدرك الخطورة الهائلة التي تحيط بالإمام وحركته، فلا تتهاون في نصرته، فتشرب بهذا كأس السُم، و لُهتِك نفسها، والأجيال التي بعدها.

ب- اتخاذه الخطوات المناسبة في تحركاته لمواجهة الجمع الأموي.

وكونه (علیه السلام) معصوماً مؤيداً مُسَدَّداً من الله سبحانه لا يُنافي قيامه بالتخطيط استناداً إلى الطرق الطبيعية للعلم عند اتخاذه لقراراته في شوؤنه الشخصيّة وفي شوؤن إمامته، إذ هذا العلم من طرق تسديده وعصمته(علیه السلام)، كما لا مُلزم للالتزام بغضّه النظر تماما ع وقع إليه من علم عن الطرق الخاصّة التي ي هّرسا الله سبحانه لخلفائه الكرام(علیهم السلام).

لكن من المهمّ الالتفات: إلى انّ بعض ما صدر عن الإمام ممّا يصعب علينا تصوّر اختياره بدون أمرٍ وإرشادٍ الهيّ مباشرٍ إنّما هو بالقياس إلى مستوى أدراكنا وقابلياتنا، والمعصوم يمتلك مستوىً من الإدراك يعلو بما لانسبة معه ع عليه غيره كائناً من كان، فلا وجه لتفسير بعض ما صدر عن الإمام بأنّه وفق أمرٍ ربوبيّ خاص لمجرّد صعوبة أدراكنا لوجه اختياره، ومن هذا القبيل تفسير اصطحاب الإمام لعائِلَتِهِ معه من المدينة إلى مكة فكربلاء والذي أدّى إلى اظهار خساسة الجمع الأموي وحقيقة مبادئه واهدافه وعظم مظلوميّة النبي وآله مع هذه الفئة وإيضاح حقيقة النهضة الحسينية للجمهور المغفّل والمخدوع وإحداث هزّةٍ في ضمير المتقاعسين والمتخاذلين، وكان هذا جزء علّة في إشعال ثوراتٍ عِدّةٍ فيما بعد، ولايعني كلامنا هذا نفي صدور فعلٍ له (علیه السلام) عن إرشادٍ ربوبيّ خاص، بل مرامنا الإثبات على نحو الموجبة الجزئيّة للموردين، في

ص: 285

مقابل الاثبات أو النفي على نحو الموجبة الكليّة أو السالبة الكليّة-أي:اعتماده (علیه السلام) خططاً في حركته مستنداً فيها إلى ما استقاه من طرق العلم الطبيعيّة، كما أنّه يستند في بعض خططه إلى ما يستفيده من الطرق الخاصّة بالمعصومين- وهذا كلّه لا يصادم تسديده وتاييده الربوبي في تمام شؤونه والمع عنه بالعصمة، فهو (علیه السلام) معصوم في كلّ آن، واختياره دائماً عين الصواب.

ومن أهم النصوص الشاهدة بعلمه باستشهاده، ما أعلنه الإمام إمام الملأ اَملّ عزم الخروج إلى العراق:

«خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطّعها ذئاب الفلوات بين النواويس وكربلا، فيملأنَ منّي أكراشاً جُوَفاً وأجربة سُغبا، لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم». (1) .

ص: 286


1- الملهوف، السيد ابن طاووس، ص 126 ، مع ملاحظة الهامش 167 .

هدف الحركة الحسينية

إنَّ أول ما يلزم وضعه نُصب العين حين استعراض النهضة الحسينية المحمدية المباركة هو الهدف الحسيني المُعلَن إذ كَتَبَ - عليهِ أفضل الصلاة والسلام - في وصيته إلى أخيه محمد بن الحنفية:

«إني لم أخرج أ شر شراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المُنكر وأسیر بسیرة جدي وأبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن ردّ عليّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خیر الحاكمين» (1).

وقال صلوات الله عليه في خطبته لجيش الحر:

«أیها الناس، إن رسول الله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً عهده مخالفاً لسُنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغیر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يُدخله مدخله ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقّ من غیّر» .(2)

كما قال(علیه السلام): «خُطّ الموت على وِلْدِ آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى

ص: 287


1- المقرم. مقتل الحسين (علیه السلام) ص 139 ، والسيد العسكري. معالم المدرستين ج3 ص 50 نقلها عن مصادر عدة.
2- المقرم. مقتل الحسين (علیه السلام) ص 185 ، ومعالم المدرستين ج3 ص 71 .

أسلافي إشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلا، فيملأن منّي أكراشاً جُوَفاً وأجربة سُغبا، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا اجور الصابرين». (1)

إن صدور هذه النصوص عن سيد الشهداء (علیه السلام) يوضّح بجلاء أن المسيرة التي سارها الإمام الحسين (علیه السلام) إنما هي عن إرادة وتصميم وإدراك لأبعاد الوضع الخطر الذي يعانيه المسلمون بل الدين الإسلامي الحنيف الغضّ، الذي لمّا يزل يتغلغل في أبنائه ومعتنقيه، تتشرّبه نفوسهم وعقولهم، إذ هجم ذئاب الكفر وصعاليك العرب بكل شراسةٍ ووقاحة، يتخذون عباد الله خولا، وماله دولا، ولم يزل الكفر وعشق أصنام مكة يملأ كل جوانحهم، إدراكاً منهم أن لابقاء لمجدهم، ولا لهم، ولا بُلهنية في العيش، ما دام الإسلام يحيا ناصعاً واضحاً بوجود الكتاب العزيز، وبوجود القادة الربانيين.

إنَّ الدعوة الإلهية التوحيدية التي بدأها أبو البشر آدم(علیه السلام)، وقام بتبليغها مائة وأربعة وعشرون الف نبي، ومثلهم عدداً من الأوصياء، والكثير الكثير من العلماء والصلحاء والربانيين والمؤمنين، والتي انتهت إلى خاتم الأنبياء محمد (صلی الله علیه و آله)، الذي أحيا من دين الله تعالى ما اندرس، وأنار الله به درب الهداية للبشرية جمعاء، وجعل شريعته الخاتمة والباقية إلى يوم القيامة والتي ناضل من أجلها سيد الأوصياء علي (علیه السلام) وأبو محمد الحسن المجتبى (علیه السلام) والكثير من الصحابة المخلصين.

أقول: إن هذه الدعوة وصلت إلى منعطفٍ خطر جداً، وكانت جهود الماضين وآمالهم تستصرخ الحسين (علیه السلام) إذ انّ بني أُمية قد عقدوا العزم على إطفاء تلك الشعلة الإلهية واماتة الدين الحنيف وطمس حقيقته وإلى الأبد وقد أعلن هذا الهدف جدّهمف.

ص: 288


1- المقرم. مقتل الحسين (علیه السلام) ص 166 ، ومعالم المدرستين ﺟ 3 ص 61 عن مُثير الأحزان والملهوف.

ابو سفيان وأبوهم معاوية سيد البغاة في قوله للمغيرة بن شعبة:لا والله إلاّ دفناً دفناً، في قصة مشهورة (1).

إنّ مسألة الخلافة واستلام زعامة الأمة الإسلامية مركزيّة جداً في أهداف الأئمة المعصومين من أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام وهي الوسيلة الوحيدة الطبيعية الغير لُخمّة بالتخطيط الإلهي لمسيرة الكيان البشري وتكامله وللمحافظة على سلامة مسيرة الدين الإسلامي وبقاء تعاليمه واحكامه وعقائده، بل وعلى قادته وافراده والكيان الاسري والإجتماعي العام للامة.

فاذن: لابدَّ من استلام الخلافة، فإن أمكنت بالطريقة المُثلى الأسهل فبِها، وإلاّ فبكل طريقة ممكنة لا تتعارض وقوانين الإسلام ما وُجِدَ المعُاضد وأمكنت الفُرص، إلاّ ا مّهن (علیهم السلام) لا يعملون لإستلام الحكم لو نتج عن ذلك فساد يكون حصوله أعظم شرّاً من فوت الولاية، كما لو ينتج عن الحركة فناء الإسلام أو هتكه أو وقوع أحداث تؤدي إلى تشويه صورته الحقيقية في أنظار الجماهير وتؤدي إلى اشمئزازهم منه أوتصوير حركة الأئمة (علیهم السلام) على أنها تنافس لأجل سلطان وأمثال هذه من الأمور التي تعيق الأئمة (علیهم السلام) عن أداء دورهم الأصيل، وهو المحافظة على الأسلام، أو إحياؤه بعد طمس الظالمين لمعالمه. .

ص: 289


1- القصة بتمامها في كتاب حياة الحسين (علیه السلام) للقرشيﺟ 2ص 151 ، عن شرح النهج ﺟ 2 ص 297 ، ونقلها السيد علي الشهرستاني في منع تدوين الحديث ص 388 ، عن صحيح مسلم بشرح النووي ﺟ 1 ص 81 ومسترشد الطبري ص 174 . ولدور بني امية الريادي في الإجرام بحق الإسلام وقادته ومبادئه ورد ورودهم يوم القيامة بِ حال واسوء مصير، ففي الخصال للصدوق ﺟ 2 باب السبعة: للنار سبعة ابواب، ح 51 عن النبي(صلی الله علیه و آله) «للنار سبعة ابواب..إلى أن قال: وهذا الباب الآخر يدخل منه بنو أمية لأنه هو لأبي سفيان ومعاوية وآل مروان خاصة يدخلون ذلك الباب فتحطمهم النار حطماً لا تسمع لهم منها واعية ولا يحيون فيها ولا يموتون» راجع معجم الرجال للسيد الخوئي ﺟ 18 ص 197 .

نعم ذهاب الأنفس والاستشهاد، فضلاً عن بذل الأموال ونفائس المقتنيات، في هذا السبيل مما لا توقف للائمة (علیهم السلام) فيه أبداً، كيف و: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (1).

ويترتب على ما تقدم حقيقة: أنّ الأئمة (علیهم السلام) من بعد وفاة سيد الأنبياءدوالمرسلين (صلی الله علیه و آله) كان همّهم الدائم إقامة حكومة إسلامية كُحيم فيها بحكم الله تعالى ويُؤخذ فيها للمظلوم من الظالم وتترسخ فيها مضامين الإسلام في قلوب معتنقيه بما يؤدي إلى تطابق سلوكياتهم مع قوانينه.

وهم (علیهم السلام) لم يغفلوا عن هذا الأمر لحظةً واحدةً لضرورته، واستحالة تصحيح المسيرة والمحافظة على ما يجب المحافظة عليه بدونه، إلاّ أ مّهن (علیهم السلام) توقفوا في بعض الأحيان عن إعلان الثورة على الوضع القائم لعدم المعُاضد والمُناصر بما يكفي لنجاح الحركة، وللخوف على الكيان الإسلامي من التصدع، وَمِن ثمّ الدمار، والخوف من هيجان فتنة تكون عاقبتها انهيار البناء الذي شاده سيد المرسلين (صلی الله علیه و آله) وانطفاء نور التوحيدوإلى الأبد، فيذهب الإسلام بالمرّة، كما انتهت الأديان السابقة من قبله، قبل أن تضرب في الأرض جذورها، وتستوي على سوقها، ويوضّح هذا المعنى ما نُقل عن الإمام أميرالمؤمنين صلوات الله عليه وسلامه - على ما في نهج البلاغة-:

فعنه(علیه السلام): «أما بعدُ، فإن الله سبحانه بعث محمداً- (صلی الله علیه و آله) -نذيراً للعالمين ومهيمناً على المرسلين، فلما مضى (علیه السلام) تنازع المسلمون الأمر مِن بعدهِ، فوالله ما كان يُلقى في روعي ولا

يخطر ببالي، أنّ العرب تُزعج هذا الأمر من بعده- (صلی الله علیه و آله) - عن أهل بيته، ولا أنهم منحوّه .

ص: 290


1- سورة التوبة، الآية 111 .

عنّي مِن بَعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فُلان يُبايعونه فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد - (صلی الله علیه و آله) - فخشيت ان لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزَهق واطمأنّ الدين وتنهنه». (1)

ثم لما حانت الفرصة لسيد الأوصياء (علیه السلام) قام بالأمر، لكن حدث ما حدث من الفتن والاضطرابات التي أثارها الطامعون في السلطان والإمرة والتمتع بميزات منصب الرئاسة للعالم الإسلامي مما لا يكون مسوّغاً لترك تحمل المسؤولية وترك الحبل على غاربه وفسح المجال للجهلة بالتشريع الإسلامي بل غير المبالين بتطبيقه لإدارة دفّة الحكم، وترك الناس في محنة تحت سيطرة هؤلاء.

ثم قام بالأمر الإمام الحسن السبط سلام الله عليه، وانتهى الأمر إلى ضرورة عقد الصلح مع أمير البغاة وإمام الطُغاة معاوية لاستيلاء معاوية على أطراف العالم الإسلامي المهمّة، ولشرائه ذِِمم مجموعة من رؤساء العشائر ووجهاء المجتمع وقادة الجند، ولإحداثه الفتن والبلبلة في أوساط جيش الإمام(علیه السلام)، وبين جماهير المسلمين المتشعّبة آراؤهم ونزعاتهم.

ثُمّ، ولوجود مؤامرة تستهدف تسليم الإمام (علیه السلام) حياً إلى الطليق معاوية كي يُضفي على الإمام الطاهر (علیه السلام) نفس اللقب الذي حمل معاوية عاره وإلى الأبد فلا لقب له مدى الدهر كلقب الطليق (2)، فقد روي أنّ خاتم الرسل (صلی الله علیه و آله) قام بفتح مكّة ثم اعتقال جمعٍ من المشركين وتأنيبه لهم. .

ص: 291


1- نهج البلاغة، الكتاب 62 من كتبه (علیه السلام) ص 626 .
2- راجع: الغدير، الأميني، ﺟ 10 ص 46 .

قال (صلی الله علیه و آله) لهم: «ما تظنون أني فاعل بكم ؟»

فقالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم.

فقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». (1)

فاعتقهم بعد أن صاروا عبيداً، وأضحوا موالي لبني هاشم بعد أن كانوا سادة مكة.

أقول: قد صالح الإمام الحسن (علیه السلام) الباغي معاوية على شروط (2)، وعلى أساس تلك الشروط توقفت الحرب وانتقلت ذمة الحكم إلى معاوية، لترى الامة: عن مؤازرة من تخاذلت، وعن جهاد من تقاعست.

ففعل معاوية الأفاعيل، وما أبقى للجاهلية عادةً إلاّ أحياها، ولا للإسلام مكرمةًإلاّ وأعفاها وطمسها، ولا لله ولياً إلاّ وشرّده أو قتله، وتتبع أولياء علي (علیه السلام) فحصدهم، فأحدث في الإسلام أحداثاً يشيب لها الولدان وينماث منها قلب المؤمن كالملح في الماء، وهذا ما دعا أوليائه وأعدائه إلى الثورة عليه، وكاتب الناس ورؤساء العشائر ملجأهم ومفزع نازلتهم سيد شباب أهل الجنة وحفيد النبی (صلی الله علیه و آله) - الحسين (علیه السلام) - طالبين منه النهضة، ووعدوه النُصرة والموت دونه، وأخذت الكتب والرسائل تترى.

فالهدف الأساس من الحركة هو:

إسقاط النظام الأموي الفاسد، وإقامة صرح الحكومة الإسلامية المحمدية بامتدادها الحقيقي المتمثل بحكومة علي امير المؤمنين(علیه السلام)، فحكومة الحسن السبط المجتبى(علیه السلام)، ثم تَسَلْسُلِ الأمر بالحسين(علیه السلام)، ومن بعده السجاد، فالباقر، ثم الصادق (علیهم السلام)، وهكذا إلى آخر سلسلة أهل البيت (علیهم السلام)، المقصودين بآية التطهير، وآية ﴿إنّما وليّكم﴾، .

ص: 292


1- فضائل الخمسة من الصحاح الستة، الفيروز آبادي ﺟ 3 ص 242 عن الاستيعاب.
2- راجع: صلح الحسن (علیه السلام). الشيخ راضي آل ياسين، ومسند الإمام المجتبى، العطاردي، ص 281 وما بعدها، وراجع ينابيع المودة للقندوزي الحنفي، ﺟ 2 ص 425 .

والمقصودين بحديث الثقلين، وحديث السفينة: «إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق»

وكل الأدلة واللوازم والقرائن تصرخ بهذا الهدف الحسيني وتنادي، وهي كثيرة منثورة في اطراف هذا الكتاب، ولعله يكفي منها: «وأسير بسيرة جدي وأبي» فكيف يسير بسيرة أبيه وجدّه -صلوات الله عليهم اجمعين- بدون أن يسعى ويعمل جاهدا لاستلام الدولة.

ص: 293

ص: 294

سرد مختصر لأحداث الحركة الحسينية

اشارة

ذكرت كتب التأريخ والمقاتل:

إن الناس كاتبوا الإمام سيد الشهداء (علیه السلام) - بعد صلح الإمام الحسن (علیه السلام) -مؤكدين له مناصرتهم إياه، لو نهض ضد معاوية، فأبان لهم عن التزامه بصلح أخيه الإمام الحسن(علیه السلام)، وأنه تبعٌ له، وعلى نهجه.

فلما استشهد الإمام الحسن السبط(علیه السلام)، بسعي معاوية ودسيسته، كتب أهل العراق إلى الإمام الحسين (علیه السلام) بخلع معاوية والبيعة ل ه، لكنه أبى عليهم لعهدٍ وعقدٍ بينه وبين معاوية، فإن مات الأخير نظر في ذلك- والعقد المقصود هو ما صالح الإمام الحسن (علیه السلام) معاوية عليه لسريان العقد ما دام معاوية حيّاً -.

وقد حاول معاوية استحصال بيعة الإمام الحسين بشأن استخلافه ليزيد، فأبى (علیه السلام) إباءً شديداً.

فلما مات معاوية كتب يزيد إلى والي المدينة بأخذ البيعة من الإمام (علیه السلام) فوراً وإلاّ فليقتله، فامتنع الإمام (علیه السلام) من البيعة، لرذالة يزيد، وتجاهره بالمعاصي، وتهتكه المشهور والمعروف، ولظلمه، ولأسباب اُخرى منثورة في ثنايا هذا الكتاب.

وأعقب الإمام (علیه السلام) امتناعه، بالخروج عن مدينة الرسول وحرمه، مع عياله، إلى حرم الله الأكبر- مكّة المكرّمة- وهناك اشتهر أمر امتناعه عن البيعة وذاع، فكاتبه أهل العراق بآلاف العهود والمواثيق على نصرته وإطاعته والموت دونه.

ص: 295

في الوقت ذاته بعث يزيد ثلاثين من شيعته ومردته لاغتيال الإمام (علیه السلام) بمكة - حرم الله ومأمنه- ولو وجدوه متعلّقاً بأستار الكعبة، والفرصة لهذا في موسم الحج، فخرج الإمام (علیه السلام) من مكة يوم التروية، وهو الثامن من ذي الحجة، ولم ينتظر للقيام بشعيرة الحج، لئلا تُنتهك بقتله حرمة الحرم، وتوجه إلى العراق، بعدما أعلن أهدافه ومواقفه بشكل واضح، ودعا البعض لنصرته، كما أوضح لبعضٍ أنّه مقتول، وأن عياله مَسبيّة.

سار الإمام (علیه السلام) بجمعٍ فيهم عياله - نسوته وصبيته- وبعض خُلّص أنصاره، كما صحبه أُناس كُثْر لأغراضٍ شتى، ويُقال أن مجموع القافلة كان قُرابة الخمسة آلاف نسمة.

وكان (علیه السلام) وهو بمكة قد بعث ابن عمه مسلم بن عقيل سفيراً عنه لاستعلام خبر أهل الكوفة، وأخذ البيعة منهم، والكتابة إليه، كي يحزم أمره، ويتّخذ موقفه، فكتب إليه بالقدوم لمّا رأى من تصميم الناس وصدق نيّتهم في نصرة الإمام.

ذلك أنّ مسلماً حين قدم الكوفة، وكان واليها النعمان بن بشير، وهو غير ميّالٍ لاستعمال العُنف والقسوة مع هذه الحركة - والأصح أنه قد يكون خائفاً من نتائج مواجهتها، وإلاّ فلا أثر للرحمة في قلوب بني أُميّة وشيعتهم- أقبلت الناس عليه تبايعه وتعاهده، وأخذ مسلم يجمع الرجال المقاتلين والسلاح والأموال تهيؤاً لاستقبال الإمام عليه أفضل الصلاة والسلام.

غير أن بعض شيعة بني أمية كاتب يزيد بحال الكوفة وتطوراتها ليتدارك الوضع قبل أن يفلت منه زمام الأمور، فبعث يزيد إليها واليه على البصرة عبيد الله بن زياد بن أبيه بعد أن جمع له ولاية الكوفة والبصرة، وابن زياد من أقسى وأرذل الولاة في التأريخ الإسلامي، فقدم الكوفة وأعمل الحيل للتعرّف على مكان استخفاء مسلم - والذي كان في دار المختار، فتحوّل عند قدوم ابن زياد إلى دار هانيء بن عروة- فلما اكتشف

ص: 296

ابن زياد مقر مسلم وعرف أنه ضيف هانيء بعث إليه مطالباً بتسليمه مسلماً، فأبى هانيء عليه فما كان منه إلاّ أن ضربه وهشم أنفه وسجنه في قصر الإمارة، حينها أعلن مسلم الثورة المسلحة واحتلّ الكوفة بأسرها، وسيطر عليها بواسطة رجاله، فذعر ابن زياد وأغلق قصره عليه مع ما يُقارب الخمسين من رجاله، غير أنه بثّ الجواسيس بين الناس لترغيبهم وترهيبهم وتهديدهم بقدوم جيش الشام عليهم عاجلاً، وبقطع الأرزاق عنهم، وبتفريق مقاتليهم في الثغور، فعملت الأراجيف والشائعات عملها في الناس، وَعَضَدَها تخذيل الناس بعضهم لبعض، فالزوجة ذُختَِّلُ زوجها، والأب ابنه، وهكذا، فلم تدم معاضدة الناس له يوماً واحداً كاملاً.

وانتهى الأمر إلى إلقاء القبض على مسلم بعد قتال عنيف، ثُمّ بَرضِْ عنقه المقدّس، ورمي جسده المطهّر من أعلى قصر الإمارة، وكذلك ضرب عنق هانيء بن عروة في السوق على مرأىً من الناس، وهو زعيم عشيرة كبيرة مرهوبة في الكوفة، وقام بعدها شيعة آل اُمية بِسَحْبِ جسديهما في السوق، وأنصارهما بالأمس اليهما ينظرون - صلوات الله عليهما وسلامه -.

دُفِنَ الجسدان الطيّبان حيث مقرهما الآن، والواقع عند الباب الشرقي لمسجد الكوفة وشمال قصر الإمارة، و مرقدهما اليوم من اهم معالم الكوفة.

وكان قتلهما في يوم التروية، الثامن من ذي الحجة، أو يوم عرفة، أي التاسع منه، سنة ستين للهجرة، وهو نفس وقت خروج الإمام (علیه السلام) من مكة، حيث ورد أنه خرج يوم التروية، أو كان خروج الإمام (علیه السلام) قبل استشهادهما بيوم.

بعد مسير الإمام مسافة طويلة باتجاه العراق بلغه خبر استشهاد مسلم رضوان الله علیه، وكان الإمام قد بعث رُسلاً وسفراء آخرين عنه إلى الكوفة إلاّ أنهم قتلوا جميعاً، كقيس بن مسهّر وعبد الله بن يقطر، غير أن الإمام لم يعدل عن خط سيره، وواصله

ص: 297

حثيثاً.

كانت السلطة متابعة لتحركات الإمام (علیه السلام) ومترصدة له، كما أن ابن زياد عَلِمَ بتوجّه الإمام إلى الكوفة وأنّه في طريقه إليها فاستعدّ له استعداد المناجزة، فالمعركة قد بدأت، ولابدّ للإمام (علیه السلام) أن يتصرّف مُلاحِظاً مجريات الأحداث وتصاعد وتيرتها، فَجَدَّ السير إلى أن التقى بطلائع جيوش ابن زياد بقيادة الحر بن يزيد الرياحي حيث ابتدأت بهم مأساة الحصار على الحسين (علیه السلام) وانتهت به إلى الاستشهاد والفاجعة العظمى.

رافق الحرّ بجيشه الإمام (علیه السلام) محاصراً، حتى بلغوا أرض كربلاء في اليوم الثاني (1)من محرم الحرام، سنة احدى وستين من الهجرة، حيث ألقى (علیه السلام) رحله هناك.

تتابعت جيوش ابن زياد إلى أرض كربلاء حتى بلغت قرابة الثلاثين ألفاً أو تزيد، بقيادة عامة معهودة لعمر بن سعد بن أبي وقاص عليه لعائن الله سبحانه والملائكة والناس أجمعين.

أرسل ابن زياد إلى ابن سعد أن أعرض على الحسين (علیه السلام) النزول على حُكمي وإلاّ فقاتله واقتله واوطئ الخيل جسده، فحاول عمر بن سعد حسم الأمر يوم التاسع من محرم الحرام عصراً، غير ان الإمام عرض عليهم تأخير الأمر إلى الغد فأجابوه طمعاً بتراجعه، وكان الإمام (علیه السلام) يريد الإكثار من الصلاة والذكر والدعاء وحزم أمره مع عائلته وأصحابه الربانيين، وهكذا قضى ليلته هو وأصحابه الميامين.

و تُحيمل- بالاضافة إلى ما تقدم- أنه (علیه السلام) أراد لجيشِ الضلالة ان يراجع نفسه ويحاسبها قبل أن تقع الواقعة ويضحى أفراده رهينة جريمتهم ويتحمّلون عبئها وعارهام.

ص: 298


1- في البحار ﺟ 44 ص 381 عن الملهوف أنه يوم الثامن، مع أن الموجود في الملهوف - الطبعة المحققة- ان بلوغهم كربلاء كان في اليوم الثاني، غير أن المحقق أشار في الهامش إلى ان الموجود في أحدى نسخ الملهوف: الثامن، ولا يبعد أن الثامن من سهو القلم.

مدى الدهر.

يوم عاشورا:

وفي صباح اليوم التالي - يوم العاشر من محرم الحرام سنة احدى وستين من الهجرة الشريفة - استعدّ الإمام (علیه السلام) لمواجهة ذلك العسكر الجرّار، بعشرات من الرجال يُحيطون بمجموعة من النسوة والأطفال في تلك الأرض المترامية وقد أنهكهم العطش، إذ قطع جيش ابن زياد عنهم الماء، فنظَّمَ الإمام جيشه كأحسن ما يكون التنظيم مع قلة عددهم وعُدّتهم وضعف إمكانياتهم.

أول ما صنعه الإمام في صبيحة اليوم العاشر، أن خطب خُطباَ عِدّة في جيش يزيد وابن زياد قاصداً تبصيرهم وإرشادهم وإزالة الغشاوة عنهم - إن وُجدت- وإزالة أعذار من يتكئ على عُذر، ومُلقياً لكلّ حجّة عليهم، وقد أثرّت خطبه في بعضهم لدرجة تغيير موقف قائدٍ من قادتهم وهو الحر بن يزيد الرياحي - وكفى في هداية مثل هذا الرجل وتغييره لموقفه حجة عليهم- إذ أعلن توبته وتحوّل من نُصرة ابن زياد مع أنه أحد قادة جنده، إلى نصرة الإمام وهو يعلم أن لا نتيجة لتحوّله إلاّ الموت، لكنه صرّح بأنّه ي نفسه بين الجنة والنار، وأقسم أنه لن يختار على الجنة شيئا، وكذلك اهتدى جمع آخر من الجند.

و اَملّ يئس الإمام من بقيتهم واجههم بخطبته الأخيرة الشديدة المندّدة بأفعالهم، وأعلن أمام الملأ أنّه قد صمّم على الامتناع عن البيعة من جهة، والامتناع أيضاً عن الاستسلام بتلك الصيغة المطروحة من قبَلِهم مهما تكن النتائج.

أوّل من ابتدأ القتال عمر بن سعد بن أبي وقاص عليه لعائن الله والسماوات والأرض، إذ رمى معسكر الإمام بسهم وتبعه جنده، فتحرك جند الإمام للدفاع عن

ص: 299

مقدساتهم، وشهدت كربلاء في ذلك اليوم أروع ملحمةٍ في التأريخ سطّرها الحسين وصحبه، وأرذل سلوكٍ بشريّ - في مواجهة أطهر إنسانٍ وأنبل جمعٍ- سطّره يزيد وجنده.

تقدم رتل الشهداء فدائيو الإسلام من الصحب والمحبين والصادقي التشيّع والولاء والعقيدة، ثم أعقبهم بنو هاشم بالفدائية والتضحية، وأول شهيد منهم أي:

من بني هاشم هو علي بن الحسين بن علي (علیهم السلام)، وهو أشبه الناس برسول الله(صلی الله علیه و آله)، واستمرت قافلة الشهداء تُردَف بكل ضيغم، إلى أن بقي الحسين (علیه السلام) وحده، فقاتل قتالاً ذكّر أهل الكوفة بأبيه أمير المؤمنين (علیهما السلام)وبحملاته وصبره على القتال والطِعان، وذلك بعد ظهر يوم العاشر، وبعد أن ص بأصحابه الصلاة المشروعة في مثل تلك الحالة، ومضى إلى ربه شهيداً صابراً مظلوماً عطشاناً غريباً مسلوباً بمنظرٍ ومسمع من نسائه وصبيته على ما مضى عليه من كان قبله من أهله أصحاب الكساء وأصحاب آية التطهير من أهل العصمة والاصطفاء الإلهي.

ولم يَنْجُ من الرجال في ذلك اليوم غير ولده الإمام السجاد (علیه السلام) إذ كان قد شارف الموت لشدّة مرضِهِ ف كُرتِ ليموت بمرضه - وما أنقذ السجاد غير اللطف والتدبير الربّاني- والثاني هو الحسن بن الحسن المجتبى (علیهما السلام) والذي قاتل وجُرِحَ فيساحة المعركة وأغمي عليه، فَظُنَّ موته ثم أنهم تركوه حتى تعافى، وكذلك نجا خادم للحسين (علیه السلام) هو عقبة بن سمعان.

تهالك الجيش الاموي على سلب الإمام وأنصاره وعائلته، فتركوا الشهداء عُراة على أرض المعركة، كما سلبوا من محتويات القافلة كل نفيسٍ ورخيصٍ، وقاموا بقطع رؤوس الشهداء وبضمنهم رأس الإمام وقد قطع رأسه - صلوات الله وسلامه عليه -وهو لا يزال في الحياة يُعالج جراحه وآلامه، والوحيد الذي سلم رأسه من القطع: الحر

ص: 300

الرياحي، لاستنقاذ عشيرته لجسده بحجة خدمته السابقة لبني أمية، وأما الحسين (علیه السلام) فلم يشفع له عندهم بنوّته لرسول الله كي يسلم رأسه من القطع.

بل نُقِلَ أَنَّ جيش الطاغوت قد قطع راس رضيع آل محمد، المذبوح المظلوم عبد الله بن الإمام الحسين (علیه السلام) بعد أن نبشوا قبره، وكان والده الإمام (علیه السلام) قد حفر له بجفن سيفه اثناء المعركة ودفنه في ساحتها، غير أنهم نبشوه لمنازعةٍ بين القبائل، وإصرار قبيلةٍ على استحصال رأس من رؤوس الشهداء للفخر به عند الطاغية ابن زياد ولنيل المغانم مِن خِلاله، فكان رأس الرضيع هو حلّهم لفض المنازعة (1).

كما قام جيش بني أمية باعتقال كل من بقي حياً من آل الحسين ومن شاركهم محنتهم، وسرّحوا الأسرى والرؤوس الشريفة إلى ابن زياد، مرتحلين عن كربلاء يوم الثاني عشر من محرم الحرام، تاركين ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) الحسين على صعيد كربلاء مع بقية الشهداء من عائلة النبي وأنصارهم.

آل محمد أُسارى:

دخل آل محمد الكوفة أُسارى، وتجمعت الناس لهم تبكيهم وتعتذر إليهم.

خطبت فيهم - والحال هذا- عقيلة بني هاشم زينب بنت علی اميرالمؤمنين (علیهما السلام)خطبتها العظيمة المجلجلة والمنكسّة لرؤوس أهل الكوفة والمحطمةلكبريائِهم والنافية لأعذارهم، ذكّرتهم بما حملوا من عار لخذلانهم الإمام، ونصرهم لأعدائه وأعدائهم عليه، كما خطب الإمام السجاد، واحدى نساء بني هاشم.

أُخذ آل محمد بعدها إلى قصر الإمارة حيث ابن زياد محور الفتنة والجريمة بهمجيته

ص: 301


1- ذكر لنا هذا مشافهةً استاذنا آية الله العظمى الشيخ بشير حسين صادق النجفي (دام ظله)، وهو اليوم من مراجع الاُمة في النجف الأشرف، وذكره السيد هادي المدرسي في كتابه «الشهيد والثورة».

المعروفة، والذي حاول قتل الإمام السجاد(علیه السلام)، غير أن العقيلة استنقذته منه و كان بين الإمام وبين الموت شعرة، ثم قام ابن زياد بتسفيرهم - بهيئة الأسرى- من الكوفة إلى دمشق حيث يزيد- لعنه الله- بصحبة الرؤوس الشريفة.

حين بلغ ركب اُسارى آل محمد (صلی الله علیه و آله) الشام، جدّد يزيد إعلانه لكفره بأبياته المشهورة

الذائعة، يُفصح فيها عن تحقيق مأموله بانتقامه من النبی (صلی الله علیه و آله)، ولا تقتصر مظاهر كفره

بهذا بل الدلائل عليها كُثْر، ومنها نفس قتله للإمام، وما فعله برأسه المقدس (علیه السلام) وهو

سيد شباب أهل الجنة، وإمام الأُمة بنصّ النبي الأقدس (صلی الله علیه و آله) وقد روى هذا الشيعة والسُنّة

وصرّحت به كتبهم المعتبرة.

قال يزيد -لعنه الله-:

لمّا بدت تلك الرؤوس وأشرقت

تلك الشموس على رُبى جيرونِ

نعب الغُراب فقلت نُح أو لا تَنُح

فلقد قضيت من النبيّ ديوني

وقال:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثُمّ قالوا: يا يزيد لا تُشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلناه ببدرٍ فاعتدل

لعبت هاشمُ بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

لست من خِندفِ إن لم انتقم

من بني أحمد ما كان فعل

قد أخذنا من علی ثأرنا

وقتلنا الفارس الليث البطل (1)57

ص: 302


1- راجع: ليالي بيشاور، سلطان الواعظين، ص 215 ، والمقتطفات للسقاف الاندونيسي، ﺟ 1ص 202 ومسند الإمام الحسين (علیه السلام) للعطاردي ﺟ 2 ص 257

ورد عن مولانا الإمام الرضا(علیه السلام):

«لما لُمح رأس الحسين (علیه السلام) إلى الشام، أمر يزيد لعنه الله فوُضع، ونُصبت عليه مائدة، فاقبل هو وأصحابه يأكلون ويشربون الفُقاع، فلما فرغوا أمر بالراس فوُضع في طست تحت سريره، وبسط عليه رقعة الشطرنج، وجلس يزيد لعنه الله يلعب بالشطرنج، ويذكر الحسين بن علي (علیهما السلام)وأباه وجدّه (علیهم السلام) ويستهزئ بذكرهم، فمتى قمر صاحبه تناول الفُقاع فشربه ثلاث مرات ثم صبّ فضله على ما يلي الطست من الأرض، فمن كان من شيعتنا فليتورع عن شرب الفقاع واللعب بالشطرنج، ومن نظر إلى الفقاع أو إلى الشطرنج فليذكر الحسين (علیه السلام) وليلعن يزيد وآل زياد يمحو الله عزّوجل بذلك ذنوبه ولو كانت بعدد النجوم». (1)

ثُمّ إنّ العقيلة زينب(علیها السلام) خطبت في القصر الملكي بالشام بمحضر سفراء الدول، وقادة الجند، وأركان دولة يزيد، بما فضحته به، وكسرت هيبته وشموخه، وبدّدت نشوته، وأذلّته على رؤوس الأشهاد (2).

كما خطب الإمام زين العابدين (علیه السلام) في الجامع الأموي بمحضر يزيد، بما عرّف به نفسه المطهّرة، ووالده الإمام المظلوم، وجدّه الإمام أمير المؤمنين (علیهم السلام)، وحقيقة صلتهم بالنبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) وحقيقة النهضة الحسينية وأهدافها، وما أصابهم من ظلم وجبروت يزيد.

ذكر الشيخ الطبرسي في الإحتجاج أنه (علیه السلام) قال:

«أنا ابن مكة ومنى، انا ابن المروة والصفا، انا بن محمد المصطفى، أنا ابن من لا يخفى، .

ص: 303


1- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ﺟ 4 ص 352 ح 911 .
2- راجع خطبتها في كتاب: السيدة زينب(علیها السلام) ، للشيخ باقر شريف القرشي، ص 300 . وبحارالأنوار، ﺟ 45 ص 133 .

أنا ابن من علا فاستعلى، فجاز سدرة المنتهى، فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى». (1)

فَضَجَّ أهل الشام بالبكاء حتى خشي يزيد أن يُؤخذ من مقعده (2).

أدى موقف الإمام زين العابدين وعمته زينب بنت علي (علیهم السلام) بِخُطَبِهِما وبياناتهما وتحريضهما إلى بدء إعصار في دولة يزيد، في الكوفة ودمشق، بل في كل مكان حلّ أسرى آل محمد فيه، وإلى هيجان الناس وانقلاب الاُمور على الطاغية، ومنهم زوجته أمام الملأ في القصر الملكي، وتصاعدت الأحداث بعدها من إعلان عصيان مدني إلى ثورات كاسحة ودارت الدائرة على بني اُمية وسقطت رؤوس القتلة الواحد تلو الآخر إلى ان أُطيح بالدولة السفيانية عاجلاً وبدولة بني اُمية ككل في خاتمة المطاف، ونُبشت كل قبور ملوك بني اُمية كما نُبش قبر رضيع آل محمد وهيهات أن يكون ذاك عدل هذا، أو تُختم الجناية بما جرى.

عادت بقية عائلة الإمام إلى المدينة، واستقبلتهم جماهيرها بكُلّ فِئاتها بالبكاء والعزاء، وابتدأت صفحة جديدة للخلفاء مع الأمة، والامة مع الخلفاء، وآل النبي مع كليهما.

أما الحسين (علیه السلام) وصحبه فقد بقوا أياماً على رمضاء كربلاء، ونال شرف دفنهم في مراقدهم المقدسة قوم من بني أسد، إذ دفنوا الإمام (علیه السلام) وولده علي الأكبر (علیه السلام) وولده الرضيع (علیه السلام) في قبر، وأبا الفضل العباس (علیه السلام) في قبر، والشهداء من الأصحاب في قبركبير، وقبر آخر لشهداء آل محمد، وآخر لحبيب بن مظاهر الأسدي، ودُفن الحر بن يزيدالرياحي بعيداً عنهم بمباشرةٍ من عشيرته.

وفي الرواية: ان الإمام السجاد (علیه السلام) دفنهم بالترتيب المارّ الذكر بمشاركة بني أسد .

ص: 304


1- الخطبة مذكورةٌ في الاحتجاج بشكل مختصر، وسائرها في: بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 138 .
2- الاحتجاج، الطبرسي، ﺟ 2 ص 133 .

له، وكان حضوره من محبسه على نحو الكرامة الإلهية.

ولا يفوتني التنبيه إلى ما نقله البعض(1) من أنّ الإمام السجاد (علیه السلام) قد قاتل في الطف يوم عاشوراء وأنّه أُثخن بالجراح وأُنقذ من الموت.

وهو أمر لا يُمكن قبوله بالمرّة وذلك لأنّ عدم مقاتلة السجاد (علیه السلام) يوم عاشوراء لعلة مرضه لعلّه من الضروريات، ولا يبعد كون الرواية موضوعة لتصحيح مذهب الزيدية الملتزمين بعدم صحة إمامة أحدٍ إلاّ لمن خرج بالسيف، وهم يلتزمون بإمامة السجاد(علیه السلام)، مع عدم خروجه بالسيف، وهذه ثغرة عقائدية ضدّهم، ولا بُدّ من معالجتهم لها ولا علاج في البين، فيظهر أنّ هناك من تطوّع لسدّ الثغرة بهذه الإكذوبة وهيهات، بل لاحاجة لنا إليها بعد ثبوت إمامته وخلافته ووصايته لرسول الله (صلی الله علیه و آله) بالادلّة القطعية المتوفرة بكثرة في كتب السُنّة والشيعة على السواء، وهو وكلّ ابائه وابنائه المعصومين خلفاء لرسول الله وأئمّة للأُمّة سواءاً قاموا أو قعدوا كالحسن والحسين لافرق، والدين بكلّ تفاصيله يُؤخذ منهم وقد قال رسول الله:

«ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم»(2)

نعم الحسن بن الحسن المجتبى (علیه السلام) قاتل بكربلاء وجُرح وأشرف على الموت ثم أُّنقذ وليس السجاد(علیه السلام)، ولعلّ المشكلة في الخلط حول هذه الحادثة دون الوضع.ق.

ص: 305


1- حياة الإمام السجاد، الجلالي، ص 50 - 51 .
2- المراجعات، السيد شرف الدين، ص 49 ، وذكر إخراج الطبراني له ونقله ابن حجر عنه في الصواعق.

ص: 306

ابن محمّد وعلي في ساحة المعركة

من الأمور التي تستحق الالتفات والذكر:

شجاعة الإمام الحسين(علیه السلام)، وإقدامه، وصولته، في ساحة مكافحة الفئة المرتدّة.

إذ إن هذا الجانب من البحث لم يتوفّر له في الدراسات الحسينية مجال واسع، والسبب المحتمل:

أ- التركيز على مظلومية الإمام (علیه السلام) والفجائع التي أصابته.

ب- البناء على أن ما صدر عن المعصومين إنما هو من إمداد الله سبحانه لهم بنحو الكرامة والامر الخارق، فلا عجب في البين كي يُحكى ويَلَقى الاهتمام عند المعتقد بإمامتهم.

- ان بطولات علي بن أبي طالب أخرجت امثال هذه الامور عن حيّز العجائب، فلا تجد من يهتم لها ذاك الاهتمام المطلوب.

د- نسج بعض الكتب - غير المعتبرة - لبعض الأكاذيب والمبالغات، أو نقلها للموضوعات والخرافات، ممّا زهّد الناس في متابعة هذا الجانب.

وكل ما تقدم، لا يقتضي إهمال هذا الجانب، والزهد في معرفته.

وذلك لأن الشجاعة من جملة الصفات اللازم توفرها في إمام الأمة وقائدها، وممّا لم نسمع عنه أبدا توفّر صفة الشجاعة لأي متصدٍّ لمنصب خلافة الأمة الإسلاميّة من الخليفة الأوّل إلى يوم الناس هذا، باستثناء علي أمير المؤمنين(علیه السلام)، وأما ولده الإمام الحسن (علیه السلام) فقد خاض أهوال الحروب أيام والده، أما في أيام خلافته فلم تقع معركة ما، نعم تصدّى لحرب

ص: 307

معاوية وخرج لها ولذلك بُرض وطُعن بالمدائن - صلوات الله عليه-إلاّ أنّه لم تقع هناك معركة شديدة وطويلة لتظهر فيها بسالة وشجاعة الإمام الحسن (علیه السلام) جليّة- أيام خلافته-.

من جملة مواقف الخليفتين - الأوّل والثاني- فرارهم يوم غزوة اُحد، ويوم حنين، وجبنهم الشهير يوم الأحزاب، ويوم خيبر، ويوم العاديات، ورجوعهم عن جيش اسامة مع انّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) لعن من تخلّف عنه، بالاضافة إلى أنّا لم نسمع عنهم إقداماً في حرب، وكذلك عثمان ومعاوية.

أما علي (علیه السلام) فقد قام الإسلام بسيفه، ونادى جبريل في السماء:

«لا سيف إلاّ ذو الفقار، ولا فتى إلاّ علي». (1)

وَكَشَفَ الكُربَ العِظام عن رسول الله يوم اُحد وحنين، إذ فرّ المسلمون بأجمعهم، وواجه وحده - في مواقع كثيرة - جبالاً من الحديد والرجال، والله يشهد له، بل كل عدووصديق.

والذي يفهمه كُلّ مُدرك في جبن أولئك ونكولهم عن ساحات الوغى، تعلّقهم الشديد بالدنيا، وحبّهم للحياة، وزُهدهم في مراتب الآخرة، وتشبثهم بالعيش، وبهذا ينكشف - من جملة الكواشف عن ذواتهم- أن الحكم عندهم لغاية دنيوية، ولتحقيق نزعات نفسيّة، ولأجل هذا تهالكوا عليه، وفعلوا الطامّات والمخازي في سبيله.

أما كون بطولات الإمام الحسين (علیه السلام) في حيّز المعاجز فهو مقبول من جهة، وغير مقبول من جهة اخرى.

إذ ان أصل تأييد المولى للمعصومين، ودعمه لهم بكل ما يمكنّهم من تأدية المهام العظام المناطة بهم بما فيها المعاجز والكرامات، حق لا ريب فيه.ه.

ص: 308


1- راجع لهذه: فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ﺟ 2 ص 317 فقد نقلها عن تاريخ الطبري وغيره.

إلاّ أن هناك فرق بين القوّة المعتادة للإمام (علیه السلام) بحسب وضعه المستمر -حياتياً- وبين القوة الإعجازية التي تظهر فجأة لتحقيق غرضٍ مهم كبقيّة المعجزات - ثم يعود الأمر إلى سابق عهده.

فقلع علي (علیه السلام) لباب خيبر (1)لم يكن أمراً عادّياً بحسب قوّته المتعارفة وإنّما كان من كراماته(علیه السلام).

وما ظهر من الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء لم يكن من هذا القبيل - ولا دليل عليه -ولذلك يحسن الالتفات إليه، والتأكيد عليه.

فلننقل الآن بعض نصوص المؤرخين وأهل السيرة فيما نحن بصدده:

قال السيد ابن طاووس: قال الراوي:

ثمّ إن الحسين (علیه السلام) دعا الناس إلى البراز، فلم يزل يقتل كُلّ من برز إليه، حتى قَتَلَ مقتلةًعظيمة...

وقال بعض الرواة:

والله ما رأيت مكثورا قد قُتلَِ وُلْدُه وأهلُ بيتهِ وأصحابه، أربط جأشاً منه، وإنّ الرجال كانت لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب، ولقد كان يحمل فيهم، وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً فينهزمون بين يديه كأ مّهن الجراد المنتشر... حتى أصابه اثنتان وسبعون جُراحة... فوقف يستريح ساعة وقد ضعف عن القتال، فبينما هو واقف إذ أتاه حجر فوقع على جبهته، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن جبهته، فأتاه سهم مسموم له ثلاث شُعب فوقع على قلبه... ثم أخذ السهم فأخرجه من وراء ظهره، فانبعث الدم كانّهي.

ص: 309


1- راجع: فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ﺟ 2 ص 324 فقد نقل هذه الكرامة الباهرة عن مسند أحمد وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي وكنز العمال، والاستيعاب لابن عبد البر، والتفسير الكبير للفخر الرازي.

ميزاب فضعف عن القتال ووقف، فكلّما أتاه رجل انصرف عنه كراهية أن يلقى الله بدمه (1).

وعن إبن شهر آشوب وغيره: ولم يزل يقاتل حتى قتل الف رجل وتسعمائة رجل وخمسين رجلاً، سوى المجروحين - أي «1950» عدد من قُتل بيد الإمام(علیه السلام).-

فقال عمر بن سعد لقومه: الويل لكم أتدرون لمن تقاتلون؟ هذا ابن الانزع البطين، هذا ابن قتّال العرب، فاحملوا عليه من كل جانب، وكانت الرُماة أربعة آلاف، فرموه بالسهام فحالوا بينه وبين رحله (2).

وذكر أيضاً: ثم حمل عليهم كالليث المُغضب، فجعل لا يلحق منهم أحداً إلاّ بعجه بسيفه فقتله، والسهام تأخذه من كلّ ناحية وهو يتقيّها بنحره وصدره... ثم لم يزل يُقاتل حتى أصابته جراحات عظيمة (3).

وذكر في البحار:قال صاحب المناقب والسيّد: حتى أصابته اثنتان وسبعون جُراحة.

وقال ابن شهر آشوب: قال أبو مخنف، عن جعفر بن محمد بن علي (علیهم السلام) قال: «وجدنا بالحسين ثلاثاً وثلاثين طعنة، واربعاً وثلاثين ضربة».

وقال الباقر(علیه السلام): «أُصيب الحسين (علیه السلام) وَوُجِدَ به ثلاث مائة وبضعة وعشرون طعنة برمح

وضربة بسيف أو رمية بسهم».

وروي: ثلاثمائة وستون جُراحة.

وقيل: ثلاث وثلاثون ضربة سوى السهام.

وقيل: الف وتسعمائة جُراحة. .

ص: 310


1- الملهوف: ص 170 - 172 وأكّد معظم هذه التفاصيل ابن أعثم في: مقتل الحسين ص 142-144 .
2- بحار الانوار، ﺟ 45 ص 50 .
3- بحار الانوار، ﺟ 45 ص 52 .

وكانت السهام في درعه كالشوك في جلد القنفذ، وروي أ اّهن كانت كُلّها في مُقدّمه (1).

والدُفعة الاخيرة من الضربات الخطيرة أو القاتلة الواصلة للإمام(علیه السلام):

ضربه أبو الحتوف بسهم فوقع في جبهته (2).

وأتاه حجر فوقع في جبهته أيضاً (3).

ثم بُرضَِ بِسَهْمٍ مسموم له ثلاث شُعب فوقع على قلبه... فأخرجه من قفاه فانبعث الدم كالميزاب، فضعف عن القتال وتوقف (4).

فأتاه مالك بن اليُسر فشتمه وضربه بالسيف على رأسه (5).

ثم طعنه صالح بن وهب المزُني في خاصرته فسقط عن فرسه إلى الارض على خدّه الأيمن (6).

بعدها ضربه زُرعة بن يُرشك على كتفه.

وضربه آخر على عاتقه المقدّس بالسيف ضربةً سقط بها لوجهه (7).

فجعل - صلوات الله عليه وسلامه - ينوء ويكبو.

فطعنه سنان بن أنس النخعي في ترقوته.

وانتزع الرُمح فطعنه في بواني (8)صدره. .

ص: 311


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 52 .
2- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 52 .
3- بحار الانوار، ﺟ 45 ص 53 .
4- بحار الانوار، ﺟ 45 ص 53 .
5- بحار الانوار، ﺟ 45 ص 53 .
6- بحار الانوار، ﺟ 45 ص 54 .
7- بحار الانوار، ﺟ 45 ص 54 .
8- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 55 ، والبواني: أضلاع الصدر، راجع: المنجد، ص 51 .

ثُمّ رماه سنان بسهم فوقع السهم في نحره فسقط (علیه السلام) وجلس قاعدا.ً

وحاول خوليّ بن يزيد أن يحتزّ رأس الإمام فأرعد.

فَنَزَلَ سنان أو شمر إلى سيد شباب أهل الجنّة فاحتزّ رأسه المقدّس.

ولم يكتفوا بكلّ ما صدر عنهم من إجرام وخساسة.

إذ ابتدأ فصل جديد من إجرامهم مع أُسرة النبيّ الأعظم(صلی الله علیه و آله).

وممّا جرى فيه:

أَمْرُ عمر بن سعد «لعنه الله» عشرة فرسانٍ فداسوا الحسين (علیه السلام) بحوافر خيولهم- إذ سیّروها عليه- حتّى ألصقوه بالأرض (1). .

ص: 312


1- البداية والنهاية، ابن كثير، ج 8ص 204 .

صرخة في وجه الطاغوت

لعلّ الإمام الحسين (علیه السلام) يومها لم يتجاوز السنيّ العشر من عمره المبارك، حين وقف أمام عمر- وهو الذي خافه كبار الصحابة لخشونته في التعامل- والأخير على المنبر، إذ خاطبه الإمام (علیه السلام) بقوله:

إنزل عن منبر أبي، واذهب إلى مِنْبر أبيك

فبهت عمر، ولم يملك غير أن یُجييب: ليس لأبي منبر (1).

وتمضي الأيام، والحسين (علیه السلام) الحسين.

يكتب مروان إلى معاوية يحرّضه على الإمام(علیه السلام)، فيكتب معاوية إلى الإمام (علیه السلام) یتهدّده، وإذا بالإمام (علیه السلام) یجيبه برسالة طويلة - يخلِّدُها التأريخ- ذكرناها في ثنايا كتابنا هذا (2) حطّم فيها كبرياء معاوية وشموخه بما أذهل معاوية وأنطقه:

إن أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسدا (3).

وتمرّ الأيام وإذا بالإمام (علیه السلام) في منى، إذ تجتمع له الحجيج، فلم يدع أحدا من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومن أبنائهم ومن التابعين، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنسك إلاّجمعهم، فاجتمع إليه بمنى أكثر من الف رجل، فخطب الإمام (علیه السلام) فيهم:

ص: 313


1- فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ج3 ص 69 ، عن تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، والاحتجاج 2 ص 77 .
2- راجع: ص من كتابنا هذا.
3- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ج2 ص 228 ، عن سِير ير اعلام النبلاء.

«أما بعد فانّ هذا الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم ورأيتم وشهدتم وبلغكم، وإني أريد أن أسألكم عن أشياء فان صدقت فصدّقوني وإن كذبت فكذّبوني، اسمعوا مقالتي واكتموا قولي، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ومن أمنتموه ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فإ أخاف أن يندرس هذا الحق ويذهب، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون».

فما ترك الحسين (علیه السلام) شيئاً أنزله الله فيهم من القرآن إلاّ قاله وف هّرس، ولا شيئاً قاله الرسول الأكرم (علیه السلام) في أبيه وأمّه وأهل بيته إلاّ رواه، وفي كل ذلك يقول الصحابة: اللهم نعم، قد سمعناه وشهدناه.

ويقول التابعون: اللهم نعم، قد حدّثناه من نصدّقه ونأتمنه.

حتى لم يترك شيئاً إلاّ قاله، ثم قال:

أُنشدكم بالله، إلاّ رجعتم وحدّثتم به من تثقُونَ به.

ثم تفرّق الناس على ذلك (1).

وكان هذا قبل هلاك معاوية بسنتين.

ثم هلك معاوية، وجاءت رسالة سرّية مستعجلة إلى والي المدينة من يزيد يأمره فيها بأخذ البيعة عاجلاً من الإمام (علیه السلام) وإلاّ فعليه قتله(علیه السلام).

فاستدعى الوالي الأموي الإمام (علیه السلام) وعرض عليه الأمر، فكان جواب الإمام (علیه السلام) في نهاية المطاف:

«إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، مُعلن بالفسق، ليس له هذه .

ص: 314


1- الاحتجاج، ﺟ 2 ص 87 ، وذكر محققه في الهامش وجوده في كتاب سُليم، وفي بحار الأنوار للمجلسي، والغدير للاميني ﺟ 11 ص 28 ، وشرح النهج لابن أبي الحديد، ﺟ 11 ص 45 .

المنزلة، ومثلي لا يُبايع مثله». (1)

ونتحول إلى حيث مرحلتين ما بين الإمام والكوفة حيث يلتقي (علیه السلام) بالحر وجيشه فيخطب فيهم:

«أيها الناس، إ اّهن معذرةً إلى الله وإلى من حضر من المسلمين، إ لم أَقدِم على هذا البلد حتى أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم، ان اقدم إلينا، إنّه ليس علينا إمام، فلعلّ الله أن يجمعنا بك على الهُدى، فإن كُنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطوني ما يثق به قلبي من عهودكم ومن مواثيقكم دخلت معكم إلى مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم كارهين لقدومي عليكم انصرفت إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم». (2)

وها قد وصلنا كربلاء، وللسبط فيها مواقف عدّة، يُجابه فيها أهل الضلالة ومرتدّي الأمة، لعلهم ينتهون، وإلى مخافة الله تعالى ينتبهون.

ومن أهم ما صنعه الإمام قبل يوم عاشوراء لقاءاته المتعددة مع ابن سعد في محاولةٍلهدايته وَرَدْعِهِ عن اقتراف الجرائم العظمى بحق الإسلام وأهل بيت النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله)خصوصاً أنه كان يكره الخروج لحرب الإمام (علیه السلام) غير أن ابن زياد أغواه بوعده له بولايةالريّ وجرجان، فوافق.

وقد كانت نتيجة هذه اللقاءات، ان كتب ابن سعد لابن زياد بأنّ المشكلَة قد حُلّت:

أمّا بعد: فإنّ الله أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمة، هذا حُسينٌ أعطاني عهداً أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى... وفي هذا رضا لك وللأمة صلاح (3).

ووافق ابن زياد اول الامر الا انه عاد ورفض بتحريض ووسوسة شمر، فكتب إلى .

ص: 315


1- الملهوف، ص 98 ، ومقتل الحسين (علیه السلام) لابن أعثم، ص 19 ، باختلاف طفيف بينهما.
2- مقتل الحسين(علیه السلام)، ابن أعثم، ص 90 .
3- حياة الإمام الحسين، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 128 .

ابن سعد بأن يعرض على الإمام النزول على حكمه، أو يبدأ بمناجزته(علیه السلام).

فكان اللقاء الأخير بين الإمام وبين ابن سعدٍ:

قال له الإمام(علیه السلام): «ويحك يابن سعد أما تتقي الله الذي إليه معادك ان تقاتلني وأنا ابن من علمت يا هذا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاترك هؤلاء وكن معي فانيّ أقرّبك إلى عزَّوجلَّ».

ابن سعد: أبا عبد الله، أخاف أن دُهتم داري.

قال الإمام(علیه السلام): «أنا أبنيها لك».

ابن سعد: أخاف أن تؤخذ ضيعتي.

قال الإمام(علیه السلام): «أنا اخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز».

فلم يجب عمر إلى شيء من ذلك، فانصرف عنه الحسين (علیه السلام) وهو يقول: «مالك ذبحك الله مِن على فراشك عاجلاً، ولا غفر الله لك يوم حشرك ونشرك، فوالله إ لأرجو ان لا تأكل من برّ العراق إلاّ يسيراً». (1)

وابتدأ عاشوراء، فبدأه الإمام (علیه السلام) بخطبة في جيش الضلالة:

«انشدكم، الله، هل تعرفونني ؟»

قالوا أللهم نعم، أنت ابن رسول الله وسبطه (2).

واستمر الإمام يعرّف نفسه واسرته، ومقامه عند الله ورسوله، ويشرح قضيته، ويحاول معهم - مستميتاً - ردّهم إلى جادة الصواب، وكفّهم عن العدوان، وعن تقديم مصالح الدنيا على الآخرة، فما وَجَدَ فيهم غير صخرةٍ ص ءّام، حتى إذا آيس منهم خطب .

ص: 316


1- مقتل الحسين(علیه السلام)، ابن اعثم، ص 110 .
2- الملهوف، ص 145 .

فيهم خطبته الاخيرة:

تباً لكم ايتها الجماعة وترحاً، حين استصرختمونا والهين، فاصرخناكم موجفين فَسُحْقاً لكم يا عبيد الأمة، وشُذّاذ الاحزاب، ونَبَذَة الكتاب، ومحرّفي الكلم، وعصبة الآثام، ونفثة الشيطان، ومطفئي السنن.

أهولاء تعضدون، وعنّا تتخاذلون (1)؟

وسقط الإمام، سبط الرسول، وسيد شباب أهل الجنة في كربلاء شهيداً صابراً محتسباً.

وما بين مخاطبته لعمر على المنبر، وبين استشهاده، ما لا يحصى من المرات، واجه فيها الطواغيت وجبههم بكلمة الحق والهداية، وصكّ بها وجوههم، وأثبت الحجة من خلالها على الجميع، الحاكم والرعيّة.

لكنّ صولة الحسين (علیه السلام) لم تنته بمصرعه في كربلاء.

لقد ابتدأت صفحة جديدة في مسيرة سبايا آل محمد (صلی الله علیه و آله) من كربلاء إلى حين عودتهم إلى مدينة الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله).

أول من ابتدأ النهضة الجديدة بطلة الإسلام:

زينب بنت علي بن أبي طالب(علیهما السلام).

وقفت في الكوفة تخطب وسط أهلها:

«أتبكون وتنتحبون؟ أي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسلٍ أبداً...

ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أيّ كبدٍ لرسول الله فريتم؟ .

ص: 317


1- الملهوف، ص 155 .

وأي كريمة له أبرزتم؟

وأيّ دم له سفكتم؟

وأي حرمة له انتهكتم...». (1)

وتبعها السّجاد (علیه السلام) بخطبةٍ له، ثم أم كلثوم.

ودخل أسارى آل محمد (صلی الله علیه و آله) قصر الإمارة حيث مقر الطاغية ابن زياد.

فزلزلت زينب(علیها السلام) عقيلة بني هاشم قصره، وكسرت شموخه، وأذلّت كبرياءه، وهو في قمة انتصاره الظاهري (2).

ثُمّ دَخَلَ أسارى آل محمد (صلی الله علیه و آله) قصر المُلْك في دمشق الشام، حيث مقر طاغية العصر، وعدو الله الأكبر يزيد بن معاوية بن ابي سفيان سليل الكفر والإلحاد، فأظهر ابن معاويةكفره، وأعلن ارتداده إمامهم، وإمام قذارات الأمة من حاشيته:

لعبت هاشم بالملك فلا

ملك جاء ولا وحي نزل

فخطبت ربيبة القرآن، وحفيدة محمد (صلی الله علیه و آله)، وابنة علي وفاطمة، وأخت الحسن والحسين (علیهما السلام)، في قصر يزيد، تلك الخطبة الخالدة (3)والتي فجّرت - كجزءِ عِلّةٍ - بركاناً في قصر يزيد، مما بدأ معه يزيد بالتخاذل وإظهار المعاذير والتنصّل من الجريمة، فضاع عليه الاحتفال بانتصاره، واحتاج إلى تطويق بدايات انقلاب الوضع عليه.

ركبت الآثام رقبته - بعد ما ذهبت لذة الانتصار- وابتدأ العد التنازلي له، كما ابتدأ آن تقاضي الحساب.

إنّ مواجهة السيدة زينب بنت أمير المؤمنين (علیه السلام) شملت كل اطراف الضلالة في .

ص: 318


1- الملهوف، ص 193 .
2- الملهوف، ص 201 ، والمقتل لابن أعثم ص 150 .
3- الملهوف، ص 215 .

فاجعة الطف، فقد صرخت في وجه يزيد وأركان حكمه، وفي وجه ابن زياد وحاشيته، وفي وجه ابن سعد ومن معه، كما وجّهت صرختها إلى جموع أهل الكوفة رجالاً ونساءً.

وقد أردف الإمام السجاد - صلوات الله عليه وسلامه - خُطبها بخُطب أتمّت مرادها ومسيرتها، وزاد عليها أنْ خَطَبَ أمام يزيد وجموع الشاميين مِن فوق منبر الجامع الاموي بدمشق بما أرهب يزيداً لخوفه انكشاف بعض حقائق الامور أمام الشاميين إذ قد يَعقب هذا انفلات الامور من يده.

كذلك خطب الإمام (علیه السلام) أمام جموع أهل المدينة بعد رجوع أُسرة النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) إليها مبيّناً ما جرى، وبعض أبعاد المأساة.

ولعل ما ذكرناه ليس كل شيءٍ في البين بل الأكيد هو انّنا نقلنا نزراً من الأحداث، لكن ما تقدّم هو في حدّ نفسه شيءٌ عظيم يصدر عن الإمام، وعن العقيلة، إمام الطاغوت المنتصر الجاثم على العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، ومن الب ان قضيّة أهل البيت (علیهم السلام)يومذاك بحسب ظاهر الحال قضيّة تُحم ةِرض، بل قد انتهت وإلى الأبد، لولا...لو لا أنّ الله سبحانه وعد التمام لنوره، وأنه يمكر بالطغاة الماكرين، والله خيرالماكرين.

وإلى يوم الناس هذا.

ما زالت نهضة الأمام سيد الشهداء (علیه السلام) صرخة في وجه كل طاغوت.

صرخة لم يتمكّن أحد أبداً من إخمادها وإسكاتها.

فهي تُرعب الطواغيت أبداً.

وهي - في الأمة - توقظ الضمير النائم، والغافل.

فأنت عند تذكّرك لكربلاء، تشعر بوخزة الضمير دائماً.

ص: 319

تستشعر أنّ عليكَ فِعْلَ شيء.

وأنّ كربلاء تستصرخك لحال الإسلام الفعلي، أو لأجلها.

إذ هي بركان لا يهدأ، إلاّ بعد أن تضع الحرب أوزارها.

وحينما ينتهي ولد الحسين(علیه السلام) «المهديّ»من وضع الأشياء مواضعها.

ص: 320

اختيار الموت

هناك ظاهرة كانت بارزة للعيان في المجتمع الإسلامي الأول، ولا تجدلها اليوم من أثر - الاّ ما ندر- وهي:

ظاهرة الجود بالنفس، واختيار الموت، وعدم التعلل بالتقية أو«وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ»(1) ولا بغيرها من الأعذار.

ظاهرة الفدائية كانت بادية في سوح القتال في الصدر الإسلاميّ الأول، ولا غرابة في بروز هذه الظاهرة يومذاك بعد ما كان قائد المسيرة ونافخ الروح فيها سيد الفدائيين وإمام المضحّين الرسول الأکرم (صلی الله علیه و آله) والذي قذف نفسه في لهوات الموت وعرّض نفسه القُدْسيّة لِكُلّ كريهة من أجل إخراج البشرية من الظلمات التي تتقلّب فيها، وانقاذها من المتاهة التي تسير فيها طول تأریخها.

برزت ظاهرة الفدائية في سوح القتال، وفي سوح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- وإن كان بروزها في الأخيرة بنسبةٍ أقلّ بكثير من سوح القتال- وهناك سوح للفدائية نستجليها هنا للتأكيد عليها:

أ- إنّ نهوض الأنبياء والمرسلين لإعلان دين الله، ودعوتهم إلى وحدانيته تبارك وتعالى، وإلى الأعراض عن كل شريك، مِن مَلِكٍ أو صنم أو هوى، و كذلك دعوتهم إلى العقائد المهمة الأخرى، وإلى اتّباع أمر الله ونهيه، وقيامهم بمقاومة أعتى الطواغيت الذين وقفوا سدّاً أمام تحقيق الإرادة الإلهيّة وأمام نجاح جهود الانبياء، وإن اقتضى

ص: 321


1- سورة البقرة، الاية 195 .

الامر تقديمهم لأنفسهم قرابين في سبيل ما أُرسِلُوا به.

هذه الروح التضحوية في هذا المسار يكاد ينعدم وجودها - في غير شخص الانبياء وأوصياءهم والقليل القليل من الربانيين مِن أتباعهم -.

ب- إيثار ولي الأمر بالحياة حين تَعَرُّض حياته المقدسة للخطر.

وأحسن الشواهد لهذه القضيّة مواقف علي (علیه السلام) مع النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله)، فهو يبيت على فراش النبي ليلة الهجرة دون ان يبالي بالخطرِ العظيم الذي ينتظره في مبيته هذا، وهو أيضاً يحطّم كتائب المشركين وحده في اُحد بعد فرار المسلمين وسقوط النبی (صلی الله علیه و آله) أرضا مثخناً بجراحِهِ مغميّاً عليه، حتى هدّ جموع الشرك وأنقذ النبی (صلی الله علیه و آله) من موت قطعي مرّات.

وكان أصحاب الحسين (علیه السلام) على نفس المسار، إذ فدوا الحسين (علیه السلام) بارواحهم وكل ما يملكون مع أنهم يعلمون ان هذا لا ينفع الحسين (علیه السلام) بشيء ينقذه من الموت، وانه لاحِقٌ بهم، ومع إذنه لهم إذناً شرعياً بالانسحاب مِن ساحة المعركة.

ﺟ - اختيار الحسين (علیه السلام) الموت من بين أحد خيارين ثانيهما المذلّة، قال(علیه السلام):

«ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السِلّة والذِلّة، وهيهات منّا الذِلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وحجور طهرت، وانوف حميّة، ونفوسٌ أبيّة، من ان تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام». (1)

ولعل المرء يطمئن من صحة صدور هذا النص عن الإمام فيما نُقِلَ من وقائع تلك الملحمة الحسينية الخالدة خلود الدهر.

وما قصده الإمام، إشارة إلى ما عرضه الطغاة عليه بقول قائلهم: .

ص: 322


1- الملهوف، ص 156 .

أَوَلا تنزل على حكم بني عمّك (1)

والنزول على حكمهم قد شرحه شمر لابن زياد، إذ هو المقْ حَرتِ عليه به:

ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت أولى بالعقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك (2).

وقد أجابهم الحسين (علیه السلام) على عَرْضِهِمْ بما تقدم، وبقوله(علیه السلام): «لا والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل»(3)

والظاهر ان نتيجة العرض الذي قدّموه للإمام (علیه السلام) هو أنّ يصبح الإمام أسيراً، لكن لا كأيّ أسير، بل أسير خاص، وهذا النوع الذي يقصدونه هو أنّ عليه أنْ يستسلم، لأنّه لا حيلة له ولا حلّ آخر أمامه إلا الموت، وأمّا هم، فا مّهن أحرار في اختيار طريقة التعامل معه، فلا ضَمانَ لَهُ بِ ءَيشٍ، لأنه نزل على حكمهم ولا يُعلم ماهيّة حكمهم.

فلعلّهم يختارون قتله، أو أَ هْرسَ مدى الحياة، أو - والعياذ بالله العظيم - استرقاقه و التعامل معه بما هو شأن الارقّاء، أو استرقاقه وإطلاقه، لِيُحَمِّلُوه - والعياذ بالله العظيم - ما حمله آباءهم بعد فتح مكة، إذ أصبح لقب الطلقاء لصيقاً بهم، وسُبّةً عليهم مدى الدهر.

سيد الشهداء رفض هذا العرض رفضاً قاطعاً، لأنه وَلَدُ رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وما يلحق به يلحق برسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولابُدّ ان تُنزّه ساحة رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن كل وصمةٍ وشائبةٍومنقصة، وقد أدّى الحسين (صلی الله علیه و آله) حق هذه الولادة والنسبة تماماً.

لأنّه وصيّ رسول الله. .

ص: 323


1- الإرشاد، ﺟ 2 ص 98 .
2- الإرشاد، ﺟ 2 ص 88 .
3- الإرشاد، ﺟ 2 ص 98 .

لأنه خليفة الله في أرضه.

لأنّه: بشموخه، وعزِّهِ، وكرامته، ومنعته، ورفعته: رفعة الرأس والكرامة لكل المؤمنين طول الدهر.

لو اختار الحسين (علیه السلام) - والعياذ بالله العظيم - طريقاً آخر، لرضيَ المؤمنون، لانّه المقدّم في كل الحسابات، لكنّ الحسين (علیه السلام) فدى نفسه، فرفع المؤمنون والهاشميون والإسلاميّون رؤوسهم شامخة في كل مكان، وعبر العصور، لإباء الحسين(علیه السلام)، وشموخ الحسين(علیه السلام)، ومواقف الحسين (علیه السلام) كلِّها بلا استثناء.

لقد انقصم ظهر المؤمنين، وأصابهم الذل لمّا سقط إمامهم على التراب معفّراً، وتناهشته سيوف أرذل الخلق، وسحقته خيولهم، وقطع الأنذال رأسه الشريف، وهو لا يزال حيّاً، لكن المؤمنون بأجمعهم شمخوا وفخروا بمواقف الحسين وإباءه في العالم كله وأمام الملل كلها.

الحسين مفخرة الرسول ومفخرة الإسلام ومفخرة الإسلاميين.

رفض الحسين (علیه السلام) الاستسلام لبني امية لرفضه الذلّ والمهانة، وقد ورد في الروايات الشريفة: «إنّ الله أَذِنَ لعبده المؤمن في كل شيء، إ في إذلال نفسه». (1)

ويمكن أن نفهم من هذا -خصوصاً إذا عضدناه بموقف سيّد الشهداء وماصدر عنه من نصوص - أنّ للمؤمن، أي مؤمن، ان يرفض خيار الذُلّ في حالات التزاحم، ويُعتبر غير ذي مصلحة، أو ذي المصلحة الأضعف في مثل هذه الحالات فيتم اختيار مقابله، لكن هذا الموضوع يحتاج لبحثٍ ومراجعة فقهيّةٍ، لاستيعاب المسألة بكل حيثيّاتها، لتجلية الموقف النهائي بشأنها، ومما ينبغي ملاحظته:ة.

ص: 324


1- راجع: وسائل الشيعة، ﺟ 16 ص 157 ، طبعة المؤسسة.

أ- ان اختيار الإمام الحسين (علیه السلام) للموت دون قبوله بما يجرّ الذّلّ والهوان، لعلّه لعنوان ثانوي، أو لعنوان اوليّ فيه، لموقع إمامته وخلافته عن الله ورسوله، ولنسبته من رسول الله، ولانّ الهوان الذي يُراد إدخاله عليه بما أنه ابن رسول الله، ولأنه جزء من عملية انتقام العصبة الحاكمة الفاسدة المرتدّة من رسول الله:

لعبت هاشمُ بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

لست من خِندفِ إن لم انتقم

من بني أحمد ما كان فعل

والمعروف أن هذا الشعر تلاه يزيدٌ كافر الأُمّة، بمحضر أسرة النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله).

فإباء الحسين عن الاستسلام، وتصلبه في موقفه، لكيلا يدخل الهوان والمنقصة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) من طريقه، فهو ضحّى في سبيل حماية شرف النبي، من أن يلوّث هؤلاء الاوغاد الاراذل ساحته المقدّسة، وهذا الحال امر آخر غير المطلب الذي نُريد إثباته.

ب- إننا نتبنّى من خلال مواقفنا في علم الأصول تقديم الأهم ملاكاً عند الشرع المقدس في حالات التزاحم على المهمّ، ففي حالة الحسين المتقدم شرحها يتقدم خيار الموت والتضحية بالغالي والنفيس من نفسٍ وولدٍ وأهلٍ على الطرف الآخر، الذي هو أنفس من كل نفيسٍ في نظر الشرع الاقدس.

ففي حالة التزاحم بين إنقاذ مؤمن من الغرق اوتطهير مسجدٍ يتقدم الامر الاول على الثاني لأهميته في نظر الشرع، إذ نعلم أن حفظ النفس من الهلكة في نظر الشرع أمرٌ مهم جداً لا يزاحمه ما هو من قبيل تطهير مسجدٍ وأن كان هذا أيضاً أمراً واجباً.

وفي الحالة التي هي من قبيل ما واجهه الإمام(علیه السلام)، أي الوقوع بين محذوري:

التضحية بالنفس وهو امرٌ محرّمٌ، أو فِعْلِ ما يوجب الذُلّ والمهانة وهو محرّمٌ ايضاً - على القول بحرمة ممارسة ما يوجبهما، مطلقاً أو في بعض مراتبهما وفروضهما- فإنّ حفظ

ص: 325

النفس يتقدّم على مقابله هنا لأهميّة حفظ النفس بحسب هذه الفرضيّة.

نعم، إذا توفّر عنوان ثانوي، بسبب كون حالة وظرف المرء المبتلى ممّا تقتضي منه ترجيح واختيار الموت، لأنّ في الرضا بالذلّ، حدوث وهن في الإسلام، وإضعافٌ لكيانِهِ، وتمكّن الأعداء من ديار الإسلام، مما قد يجعل حالته وظرفه من قبيل حالة الدفاع عن بيضة الإسلام وحياضه - وهذا يقتضي منه القتال وبذل النفس والنفيس - فهنا يُرَجّحُ الموت، لأن الموضوع غير الموضوع الأول، فيقتضي اختياراً جديداً، وحكماً خاصّاً به.

وممّا تقدّم يتضح بعض الشيء وجه تقديم الإمام صلوات الله عليه لجانب اختيارالموت على القبول بما يُنتجُ الذُلّ، فالمجموع المكوّر لظرف الإمام والحالة التي هو فيهاأنتج اختياره السير في طريق الموت.

ﺟ - ينبغي ملاحظة أن رفض الذُلّ في بعض الأحيان - وأن جوّزناه بحكم بعض النصوص والترجيحات - قد يُوقع المرء في الذُلّ الأعظم، لاستلزام الخيار الآخر لهكذانتيجةٍ، وان لم يكن واضحاً عند الابتلاء بدواً.

ويُسْتأنَسُ لهذا مِن أنّ الناس وإنْ مدحت مَنْ لا يرضى بالذُلّ، ولا ينام على ضيم - وهذا ديدن العرب بالخصوص، وهو موجود عند غيرهم بنسبةٍ، ومن سُلبت عنه الغيرة، وفقد معاني الكرامة لا يُقاس عليه لانّه شاذ - إلا أن الناس تلوم من يرفض ذُلاً ويقع في أعظم منه، ويقبل بأكثر مما رفضه وتأبّى عنه.

ص: 326

سياسة منع الماء

اشارة

لعنة الله تعالى، تتلوها ما لا ح تصى من اللعنات، على أُمةٍ تقتل ذريّة نبيّها عطشاً، أو توهن عزائمهم، وتفتّ في عضدهم بالعطش.

الماء مبذول للكل، إذ يشربه المؤمن والكافر والمنافق، بل يشربه الإنسان والحيوان، فلا يمنع عنه مانع.

فكيف تجرأت هذه الأمة أن تمنع الحسين الماء إلى ان قتلته عطشاناً.

مع أنه ابن من كان يسقي جيوشه وامّته بماءٍ يفور من أنامله المقدّسة.

وكذا ابن من سقى جيش عدوه الكافر في حرب صفّين، بعد ما مُنِعَ وجيشه الماء، فل ما أزاحهم عن شريعة الماء واستولى عليها، سقاهم.ّّ

بل هو ابن من أكرمه الله سبحانه بكوثر الآخرة.

ثم ما ذنب المرأة الضعيفة المسكينة أن يقتلوها عطشاً.

أما مِنْ رحمةٍ للاطفال وهم من أسرة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله).

ثم ما النفع من قتلِ طفلٍ رضيعٍ بسلاح العطش.

أليس هذا أقذر سلاحٍ يستخدمه صنف الارتداد ضد أعلام الهداية ومصلحي البشرية وأملها في تغيير الانحراف، وطمس معالم الفساد والرذيلة.

مع أن الحسين استسقى الله سبحانه لأهل الكوفة «بأمر والده الوصي» أيام جدبٍ

ص: 327

فسقاهم الله به (1).

مِنْ بين ما يهدي إلى حقيقة بني اُمية، ويكشف عن معتقدهم ومنهجهم في الحياة، ما يتبعونه من أساليب في حركة صراعهم مع من يناوئونه العداء.

تأمل في أساليبهم ضد النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) منذ البعثة إلى الهجرة، من سبّه، وإهانته، وتحريش النساء والأطفال والعبيد عليه، ورميه بالحجارة، وبالسحر والجنون وقول الشعر والكهانة، ومحاولة إيقاع الفتنة بينه وبين بقيّة بني هاشم خصوصاً عمّه أبي طالب «قلعة الإسلام الحصينة وحامي حماه» والتنكيل بصحبه من رجال ونساء، والشدّة في تعذيبهم، بل وقتلهم بأبشع الطرق وأقذرها، ومقاطعة النبی (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم- ومعهم بقيّة المسلمين أيضاً بلا ريب - في مختلف ألوان التعامل من بيع وشراء ونكاح وغيرها، حتى الجئوا النبيّ وعامة بني هاشم للعيش في شِعْبِ أبي طالب، وعامة المسلمين إلى الهجرة عن مكة إلى الحبشة (2)ويثرب.

ومجمل الكلام: أنهم استخدموا كل ألوان الحرب والضغط الجسدية والنفسيةوالاقتصادية والاجتماعية.....الخ.

هذه خديجة بنت خويلد، امتنعت نساء قريش من الدخول اليها، ومن معاشرتها سنين - بإيعاز من رجالهنّ طبعاً -وذلك للضغط عليها، ولتحقيق أكبر ضغطٍ ممكنٍ على النبی (صلی الله علیه و آله) كي يترك دعوته، فيُعرض عن تسفيه عقولهم، وعن محاربة معتقدهم الوثنيّ، حتى آلت النتائج إلى وفاة أبي طالب وخديجة، وهما ركنان من أركان النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) وإلى خروج النبی (صلی الله علیه و آله) من مكة، وهجرته إلى يثرب، وانتهاء الوجود الإسلامي في مكة.م.

ص: 328


1- كلمات الإمام الحسين(علیه السلام)، ص 133 .
2- لم يتركوا المهاجرين إلى الحبشة، وهم يقاسون الشدائد المختلفة، حتى اتبعوهم بعمرو بن العاص وجمعٍ معه، لاستردادهم منها وقتلهم، اولقطع طرق العيش والأمان عليهم.

ثم لننتقل إلى المرحلة الثانية من حربهم مع النبيّ (صلی الله علیه و آله)، مع أنّه ترك لهم ديارهم

وزعاماتهم، هو وعائلته وصحبه، فإذا بهم يحشّدون الجيوش على النبی (صلی الله علیه و آله) لإنهاء حياته

المقدسة، ودعوته المباركة، بل حرّضوا عليه عموم العرب، وأتباع الديانات الاُخرى، وعقدوا التحالفات المختلفة لهذا الغرض.

وخير ما يُعَ عن منهجهم وفكرهم وسلوكهم، ما صنعته هند زوجة أبي سفيان وأم معاوية، بحمزة سيد الشهداء، حين مزقت بطنه بحربة، وأخرجت أحشاءه، فلاكت كبده، غير أنها لَفَظَتْهُ لمرارته، وبعدها صنعت قلادة لها من اعضائه الشريفة، وقدعرفها القاصي والداني بآكلة الأكباد.

وقد أردف زوجها أبو سفيان فعلها، بحضوره إلى مكان استشهاد حمزة لينظر إليه وهو ممزق الجسد ليشتفي منه، ثم ما اكتفى حتى أخرج خنجره وأخذ يطعنه ويكرّر الطعن.

استمر بابي سفيان حقده هذا، ومن الكواشف عنه، مروره على قبر حمزة بعد تو عثمان الأُموي للخلافة، فقام بركل القبر الشريف وقال:

يا أبا عمارة، إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف، أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعّبون به (1).

وذلك بعد أكثر من ربع قرن على رحيل النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) إلى الملأ الأعلى، والأمثلةلا تنتهي على مدى قرنٍ ونصف من الزمان-الى حين انتهاء الحكم الأموي- مما به الدلالة على تأصّل الكفر في بني أميّة وتجذّره ورسوخه، وعلى خسّتهم ورذالتهم ودناءة أساليبهم. .

ص: 329


1- الغدير، الشيخ الأميني، ﺟ 10 ص 83 ، عن شرح ابن أبي الحديد 4: 51 .

وتعال معي نستطلع سياسة معاوية في حكم الشام، والتي -من جملة ما أثّرته- أن أدّت بأبي ذر إلى الثورة على معاوية في دار حكمه، وجعلته يقول:

عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه.

فالجوع والحرمان لعامة الأمة، والعطايا لكل من يمتّ بصلة إلى الكيان الحاكم، أويقدّم لهم خدمة ترسّخ لهم سلطانهم، وتُرضي لهم خواطرهم.

وتأمّل في فعله أيام صفين حين يستولي على شريعة الماء ويمنع جيش الإمام (علیه السلام) من الشرب منه، فما كان من الإمام (علیه السلام) إلاّ أن أمر جيشه بالهجوم واحتلال الشريعة فاحتلّوها، وَرَغِبَ جَيْشَهُ في منع معاوية وجنده من الاستفادة من الماء، غير أن الإمام (علیه السلام)أمرهم أن يفسحوا لهم مجالاً، ولم يعاملهم بمثيل صنعهم.

ومن فعله: سبّه لأمير المؤمنين (علیه السلام) بل سنّه لسبّه، إذ أَمَرَ بسبّ الإمام (علیه السلام) على منابرالمسلمين من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه وجعله سُنّة لازمة.

وغدره بمعاهداته ومواثيقه مع الإمام الحسن (علیه السلام) حتى أنه صرّح بمجرّد دخوله الكوفة بعد الصلح وبمحضر الإمامين الحسن والحسين (علیهما السلام) ولدي رسول الله (صلی الله علیه و آله)وأمام جُندِ الكوفة والشام ومن على منبر مسجد الكوفة ان كل ما شرطه للإمام الحسن(علیه السلام)، فهو تحت قدميه لا يفِ بشيء منه له.

ومن فعله: بدء الهجوم الكاسح على شيعة أهل البيت (علیهم السلام) لأوّل مرة في تاريخ الإسلام، سجناً، وتعذيباً، وسملاً للأعين، وقتلاً، ومصادرة للأملاك، وهدماً للدور، وتشريداً في أقاصي الأرض، حتى قُطع رأس الصحابي الجليل عمرو بن الحمق الخزاعي، وسُ رأسه في البلدان، ولا أدري لم لا يُدافع أنصار نظرية «عدالة الصحابة» عن هذا الصحابي الجليل العابد التقي المجاهد، والذي قُتل بأمر الطليق -معاوية- المفتون بالدنيا، والذي لعنه رسول الله، بل لعنه القرآن، ولعن اسرته كلها «في آية الشجرة

ص: 330

الملعونة» وما له من منقبة غير خؤولته للمؤمنين، مع أن محمد بن أبي بكر «عضد أميرالمؤمنين علي وحبيبه» لا يجد من أنصار نظرية «عدالة الصحابة» من يُلَقِّبُهُ بخال المؤمنين، ولا من يلعن قتلته، مع أنه قُتل ثم اُحرق في جيفة حمار، لأنه من شيعة علي، وأنصار علي، ومحبّي علي، وهذه جرائمُ كُبرى في قاموس خال المؤمنين «معاوية» وشيعته، مع أن علياً سيد المسلمين، وحبّه علامة إيمان المرء، وبغضه علامة النفاق، وقد ورد في حقّه ما لا صُحيى من الآيات والروايات.

ومن أفعال معاوية وخزاياته الأبدية: إلحاقه لزياد بن أبيه، أو ابن عبيد، أو ابن سميّة، بنسب عائلته التي س هّاما القرآن بالشجرة الملعونة، بدعوى زنا أبي سفيان بسميّة عند خمّارٍ فأولدها زياداً، وياله من نسب يعترف به خال المؤمنين معاوية على رؤوس الأشهاد مدى الدهر، ولا من مستحييٍ من مثل هذا الخال، ولا من دافنٍ لرأسه في التراب، فقد الحق شخصاً كله عار بأبيه الذي قضى حياته حرباً لله ورسوله (صلی الله علیه و آله)، بقصةكلها خزي وعار، وهي على كل حال خلاف قواعد الشريعة، والتي تنصّ على أن الولد

يلحق بالزوج الفعلي للمرأة إذا حصلت حادثة زنا الاّ إذا قُطِعَ بعدم ارتباطه بالزوج الفعلي، والقاعدة هي: «الولد للفِراش وللعاهر الحجر».

ومن أفعاله الخسيسة: تأميره وتوليته لأراذل الاُمة على أشرافها، وهذا يُظهر بجلاءٍ معدنه ومعتقده وأهدافه من هذا الحكم، ومن نزاعاته على السلطة، والتي أجرى لبلوغها أنهاراً من الدماء في أيامه، وانتجت كذلك بحاراً من الدماء على طول التأريخ إلى يومنا هذا، وهي كلها في رقبته، ورقبة شيعته، ومن يسانده، ويدافع عنه، ويلتزمه.

ومن جرائمه العظيمة: عدوانه الأثيم على ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله)وسبطه وريحانته من الدنيا سيد شباب أهل الجنة، وإمام الأمة ان قام أو قعد، وقاتَلَ أو صالَح، أبو محمد الحسن بن علي المجتبى(علیه السلام)، مع أنّه صالحه وأخذ عليه العهود والمواثيق وترك زمام

ص: 331

الحكم، واستقرّ عند قبر جدّه (صلی الله علیه و آله) فما تركه وشأنه حتى نغّص عليه كلّ عيشه إلى أن قتله

بالسمّ، فالى أين يفرّ من سطوات الله وأخذه، ولتنفعه خؤولته للمؤمنين.

ومن جملة جرائمه العظيمة التي لا تُحصى ولا تُستقصى: رفعه ولده يزيد على منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإسباغ عناوين: خليفة رسول الله، وأمير المؤمنين، وإمام المسلمين، ونحوها، والتي يُناقش أصحاب «نظرية عدالة الصحابة» في استحقاق أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً واستحقاق علي (علیه السلام) صاحب بيعة يوم الغدير والذي بايعه فيه ما لا يقلّ عن مائة الف صحابي على أمرته للمؤمنين، وأنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، في ثبوت هذه العناوين لهم، ثم يَخْضَعون ويَقْبَلون بإثباتها ليزيد الكافر الفاجر والذي قضى حياته بين الكلاب والقرود والفهود، وبين الغناء والسُكْر، في دار الخلافة، وبالأموال التي بُجتى من شرق العالم الإسلامي إلى أقصى غربه، من الفلاّح والأجير ونحوهم ليأخذها يزيد، فيرتع بها ويسكر ويشتري القيان المغنيات وليستورد القرود والفهود تحت حمى خال المؤمنين.

مثل هذا السك الفاجر- والذي أعلن كفره في موارد عدّة كأبيه وجدّه وبقيةالأسرة الأُموية- يُوَ على شَعْبٍ فيه الحسين (علیه السلام) والسجاد(علیه السلام)، وفيه آلاف الصحابة، وما لا صُحيى من العلماء والزُهّاد وقرّاء القرآن، ولا أقلّ أنّ فيهم حبر الأُمة ابن عباس والذي يخضع له أنصار نظرية «عدالة الصحابة»، فما بال هؤلاء كُحيَْمُونَ من يزيد وأمثال يزيد ممّن استلم الخلافة أو الولاية أو بيوت المال أو قيادة الجيوش أو القضاء ونحوهامن المراكز الحسّاسة في كيان دولة الإسلام والتي بناها محمد (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) بكفاح وجهاد مرير، بعد ما حاول أبو سفيان ومعاوية ونحوهما قتلهما - النبيّ والوصيّ- وإنهاء هذه المسيرة وإلى الأبد، غير أنّ الله سبحانه كسر شوكة المشركين وأذ مّهل وأخضعهم لحكم الإسلام، وأراهم عِزّ رسوله (صلی الله علیه و آله) وعزّة دعوته، غير أ مّهن انتهزوا فرصة وفاة الرسول

ص: 332

الأکرم (صلی الله علیه و آله) فَعَدَوا على آله فأخرجوهم من ساحة التأثير الاجتماعي- وذلك ظنّهم وإفكهم - واستغلّوا الفراغ الحاصل فانتشروا كالسرطان في كل حيّز من بلاد الإسلام، واستمرت مؤامراتهم وجرائمهم - وساندهم أهل الاطماع والكسل والغفلة - حتى تفرّدوا بالتربّع على مساند الحكم في بلاد المسلمين، وعاد الإسلام غريباً كما بدأ، وإلى يومنا هذا.

نُعرّج على كربلاء:

ابتدأ يزيد عهده، بالكتابة لواليه في المدينة، بالتّشديد على الحسين (علیه السلام) لأخذ البيعة منه، وإلاّ فعليه قتله وأن يبعث إليه برأسه المقدّس.

أفتستوجب عدم المبايعة قطع رأس إمام الاُمة، وسيد شباب أهل الجنة، وسبط رسول الله(صلی الله علیه و آله) ؟

واتَرَ يزيد كتبه ورجاله بقتل الحسين (علیه السلام) حتى حاصره في كربلاء بجيشٍ يُعَدّ لفتح دولة مُعادية مع انّ الحسين (علیه السلام) كان مَعَ أسرته - النساء والأطفال - ومجموعة قليلة من الصحب، وسبعة عشر رجلاً من بني هاشم- أو أقل-.

في كربلاء: عرض عليهم سيد شباب أهل الجنّة حُلولاً للقضية، غير أنهم رفضوها كلها، وخ وّريه بين أمرين، فتامّل فيهما لتزيد رقماً إلى رذائل بني أُمية.

خ وّريه بَ النزول على حكم ابن زياد، وبين بدء المنازلة، فَقَتْلِه.

عليّ أن أُعرّفك جيداً على ابن زياد، ثم أوضحّ لك مقصودهم من النزول على حُكمِهِ.

إنّ من يستقرأ بعض النصوص الشرعية، والواردة في شأن من يتو إدارة أمرالمسلمين وتسيير شؤونهم، ثم يحاول تطبيق ما قرأ على الخلفاء الأُمويين، ومن وَلّوه

ص: 333

لإدارة شؤون الأُمة، من والٍ، وقاضٍ، وخازنٍ لبيت المال، وقائد عسكري، ونحوهؤلاء يعلم علماً قطعياً ان لا عُلقة للفئة الحاكمة بمبادئ الإسلام ونصوصه وتشريعاته، ولا يعبئون بها اصلاً.

فعن رسول الله(صلی الله علیه و آله): «لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم». (1)

وعن أمير المؤمنين علي(علیه السلام): «وقد علمتم انه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين: البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيُضلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدُوَل فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطّل للسُنّة فيُهلك الأُمة». (2)

وعن الإمام الصادق(علیه السلام): «وذلك انّ في ولاية الوالي الجائر دوس الحقّ كلّه واحياء الباطل كُلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد وإبطال الكُتب وقتل الأنبياء والمؤمنين وهدم المساجد وتبديل سُنّة الله وشرائعه فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم إلاّ بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم والميتة». (3)

ولسنا في مقام إثبات المطلب وجمع النصوص له فهو من الواضحات، ولا يرى مسلم في دين الله إلاّ قيامه على مثل هذه التشريعات والأسس، وتشريعات الإسلام في .

ص: 334


1- الاُصول من الكافي، ﺟ 1 ص 470 ، كتاب الحجة، باب: ما يجب من حق الإمام على الرعية: ح 8.
2- نهج البلاغة، السيد الرضي، الخطبة 131 .
3- تحف العقول، الشيخ الحراني، ص 332 .

حدّ نفسها معجزة من معاجز النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) يُستشهد بها على حقّيته ومصدريته عن الله سبحانه.

غير أن استيلاء أمثال ابن زياد على مقاليد الأمور - الخلافة والولاية - في طول تاريخ الإسلام، أوقع بعض الاُمة في حيص بيص، وَجَعَلَهُ يفقد التمييز، ويذهل عن هذه النصوص الواضحة، وما ذلك إلاّ لتقاعسهم عن إتّباع آل محمد (صلی الله علیه و آله) واستبدال سواهم بهم، فاوقعهم هذا في التيه.

وابن زياد -من جهة خصائصه الذاتيّة- مِن أرذل الناس، وأبعدهم عن الاتصاف بصفات الإنسانية، وعن الاشتمال بخصلة حسنة، فما فيه غير رديء الخصال والصفات، ولا يصدر عنه إلاّ الخسيس الرَذِل، وهو ابن بغيّ معروفة، وبهذا نصّت كتب التراجم، كما أن أباه -زياد- من هذا السنخ، فالأب: ابن سميّة، والابن: ابن مرجانة.

ولا أدري، ولعلّ أنصار نظرية عدالة الصحابة يدرون، في وجه تأمير هذا وأمثاله على بلاد المسلمين، فليراجع منهم من لا يعرف حقائق وذاتيات قادته وقدوته.

لیُراجِع تراجم كل واحدٍ ممّن حكم بلاد المسلمين، ممّن اغتصبوا لقب أمير المؤمنين من وصيّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) الحق-عليّ (علیه السلام) - وكذلك تراجم ولاتهم وقادتهم وأعضادهم في الحكم.

زياد بن أبيه، عبيد الله بن زياد، المغيرة بن شعبة، الوليد بن عُتبة، الحجاج بن يوسف، يوسف بن عمر الثقفي، والقائمة تضمّ أسماءً بالمئات بل الآلاف من الجزّارين والمتهتكين وأراذل الاُمة وفسدتها.

أما في الاُمة من يحمل علماً وتقوىً وفضيلة وسابقة ومنقبة وكرامة وصفة حسنة، حتى يتولى أولئك الرئاسة والزعامة على رقاب الملايين.

ص: 335

النزول على حكم ابن زياد:

هذه العبارة: هي الحلّ الوحيد الذي طرحه ابن زياد بتحريضٍ من شمر بن ذي الجوشن على سيد شباب أهل الجنة وإمام الأمة الحقّ بنص رسول الله (صلی الله علیه و آله) والمتوفّر - هذا النص- في كتب الشيعة والسنّة.

معنى العبارة: الاستسلام من غير قيدٍ أو شرط، ولهم الحق-كل الحق- في الإسلوب الذي يختارونه في التعامل مع الإمام.

فقد يقتلونه، أو يسجنونه، أو يعذبونه، ولا يسع قلمي ولا لساني سرد بقيّةالمحتملات التي قد يسلكونها، والتي صدرت منهم تجاه أبناء الاُمة، وفي اُمور أخفّ من مواقف الإمام بكثير.

هذا مسلم بن عقيل أمّنوه، ثم حكم عليه ابن زياد بأن يقتله قتلة لم يُقتلها أحد في الإسلام، وهكذا اختياراتهم، وهذا الحكم يمثّل طبيعة تفكيرهم، وبهذا يواجهون الاُمور والأحداث، وهذه هي حلولهم.

لو أردنا معاقبتهم على أقل جريمة اقترفوها بحق الاُمة لما أبقينا لهم من أثر.

ولو طالبناهم بتنفيذ حكم الله في الأرض، وبالعمل وفق أحكام الكتاب والسنّة، أو بحق من حقوقنا، أو ان يتركونا وشأننا، لما توقفت الدماء عن المسيل، ولما أبقواجريمةً في وسعهم إلاّ واقترفوها.

أيّ دين يصلح كرداء لهؤلاء غير شريعة الغاب، وغير منهج الفراعنة.

منع الماء عن الحسين واسرته وصحبه:

من جملة الأساليب الأموية المعروفة في التعامل مع من يعادونه منع الماء عنه، وهو المُباح لكل كائنٍ حيّ.

ص: 336

هم ثلاثون ألفاً.

والحسين وصحبه من المقاتلين في حدود المائة، ومعهم مجموعة من النساء والأطفال من عائلة النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) فماذا يؤثّر في معادلة القتال لو سُقوا من الماء شيئاً.

وقد استسقى الإمام في ساعات حياته الأخيرة لولده الرضيع، والذي يكاد يقضي عطشاً، وعرض عليهم أن يأخذوه بأيديهم ويسقوه الماء إن خافوا أن يشرب هو من الماء ايضاً، فما كان جوابهم إلاّ رمي الرضيع بسهم فأصابوه في نحره وذبحوه، فتصوّر أيّ دينٍ لهؤلاء، وأيّة إنسانية، وأيّة صفةٍ يمكن أن نصفهم بها.

حرمان الحسين(علیه السلام)، وأسرة النبي، وصحابة الحسين (علیه السلام) الأخيار - وهذه المجموعة هم نُخبة الاُمة، وأوتاد الأرض، ومن يُستسقى بهم الغمام، ويُستجاب بهم الدعاء، وصحب الحسين (علیه السلام) وأمثالهم هُمْ الصحابة العدول في معتقدنا وفقهنا، وهؤلاء وأمثالهم تُوكَل اليهم إدارة شؤون الأُمة، وتسيير دفة المسيرة الإسلامية المظفرة - من الماء جريمةٌ عظيمةٌ وأيّة جريمةٍ لو تامّلنا فيها.

ثم قتل أطفال اسرة النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله)، بالإضافة إلى قتل بعض النساء عظيمة أخرى.

بل جرائمهم يوم الطف لا تُحصى ولا تُستقصى.

ومنها:

أ- محاولة إبادة البيت النبوي كُلّه، لو لا الإعجاز الإلهي، وتدخّل زينب بنت علي بن أبي طالب (علیهما السلام) لإنقاذ زين العابدين (علیه السلام) إمام الاُمة بعد الحسين(علیه السلام).

ب- قتل عامة الرجال في معسكر الحسين(علیه السلام)، وقطع رؤوس الجميع، باستثناء الحر إذ تشفّعت فيه أسرته لماضيه في خدمة الكيان الحاكم، والحسين (علیه السلام) سيد شباب أهل الجنة وابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا شفيع له بينهم.

ص: 337

ﺟ- إجراء الخيول على جسد الحسين (علیه السلام) وتكسير عظامه المقدّسة، وقد نقل أهل التأريخ:أنّ عمر بن سعد أمر عشرة فرسانٍ فداسوا الحسين (علیه السلام) بحوافر خيولهم حتّى ألصقوه بالأرض(1) عن أمر عبيد الله بن زياد.

د- نهب الشهداء ومخيّم الحسين (علیه السلام) كله، حتى تركوا الشهداء مجرّدين على صعيد كربلاء، وحتى ورد أنهم قطعوا إصبعاً من أصابع الحسين (علیه السلام) لنهب خاتمٍ من يده المقدّسة.

ﻫ- إحراق مخيّم الحسين(علیه السلام)، وإرعاب العائلة، وتشتيتهم في البيداء، لو لا زينب بنت علي (علیهما السلام)، والتي حرصت على جمعهم وحمايتهم وإنجائهم.

و- أسر عائلة النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) وأخذهم بأفجع حالةٍ وأشدّها إيلاماً من كربلاء إلى الكوفة وبينهما قرابة المائة كيلو متر، ثُمّ في مسيرةٍ طويلةٍ: الكوفة، دمشق، كربلاء، مدينة الرسول(صلی الله علیه و آله).

ز- ومئات من الجرائم غير ما تقدّم لو اراد أحد استقصائها.

عن مولانا الباقر (علیه السلام) في وصف استشهاد الإمام الحسين(علیه السلام):

لقد قتلوه قتلة نهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يُقتل بها....، لقد قُتل بالسيف والسِنان، وبالحجارة، وبالخشب، وبالعصا، ولقد اوطأوه الخيل بعد ذلك (2).

رفعوا رأسه ورؤوس أصحابه على الرماح لما لا يقلّ عن شهر.

تركوا جسده وصحبه دون دفن لما يقارب ثلاثة أيام لولا دفن بني أسد لهم.

أبقوا أُسرة رسول الله في الأسر والسبي والترحّل لما يُقارب الشهرين، وقرّروا إبادتهم وقتلهم غير مرّة في الكوفة والشام، لأن وجودهم أحياء كان فضيحةً مطبقةً لهم .

ص: 338


1- البداية والنهاية، ابن كثير، ج 8 ص 204 .
2- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 91 ح 30 .

غير ما يعتمل في نفوسهم من حقدٍ وهمجيّة، وحاولوا قتل السجاد (علیه السلام) غير مرة، ونجا بحماية الله وهمّة زينب(علیها السلام) بطلة الإسلام وجوهرة الدهر.

وما سُمِع مُنذ خُلِق العالم، ولن يُسمع حتى يَفنى، أفظع من ضرب ابن مرجانة بقضيبه ثغر ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ورأسه بين يديه، بعد أن كان سيد الخلق (صلی الله علیه و آله) يلثمه (1).

ومن عظائم بني أمية بعد كل جرائمهم وكفريّاتهم التي لا تُحصى هدم دور آل محمد (صلی الله علیه و آله) في المدينة المنوّرة انتقاماً من ثورة الإمام الحسين (علیه السلام) على يد واليها عمرو بن سعيد الأشدق (2)، وسرّ كل ما فعلوه يُستكشف من قول مروان بن الحكم لمّا سمع صرخة بني هاشم لقتل الحسين(علیه السلام):

يا محمد يوم بيوم بدر (3).

لكن تعالَ وألقِ بصرك:

هذا حرم الحسين(علیه السلام)، وأبو الفضل العباس(علیه السلام)، وعلی الأكبر، وعبد الله الرضيع(علیه السلام)، وزينب العقيلة(علیها السلام) ، وصحب الحسين(علیه السلام)، وهذه شيعتهم قرابة المائتي مليون، وهذا فكرهم وفقههم يملأ الأرض، وهؤلاء ذرية علي وفاطمة (علیهما السلام) - قُرابةالثلاثين مليون في أرجاء العالم.... الخ.

فأين أثر يزيد، وابن زياد، وشمر، وعمر بن سعد، وجيش ابن سعد، وأين شيعتهم، وأنصارهم، وأين فكرهم- إن كان لهم ذرّة من فكر- وأين ذريتهم....، أصابتهم اللعنة الإلهية في الدنيا، والسعير بانتظارهم، ولكل من يتعصّب لهم، ويدافع عنهم، ويبرّر لهم.

*** .

ص: 339


1- الشيعة في الميزان، الشيخ محمد جواد مغنيّة، ص 223 .
2- مقتل الحسين(علیه السلام)، السيد عبد الرزاق المقرّم، ص 335
3- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 422 .

ولم يقتصر كفر وفجور آل امية واذنابهم على منع الحسين (علیه السلام) وصحبه الماء لنستكشف من هذا خسّتهم وارتدادهم عن الإسلام.

بل عَرِّج على ما صنعوه من إجراء الخيل على جسد الحسين (علیه السلام) بعد شهادته حتى كسّروا عظامه المقدّسة.

ثم هجومهم على بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأُسرته، وأسر الهاشميين، وأُسر الصحابة الأبرار- أُسر أوتاد الأرض والأمة- فسلبُوهنّ.

ثم أضافوا إلى كلّ جرائمهم أُخرى بجعلهم صوم يوم عاشوراء سُنّة، فرحاً بقتل الحسين(1) الذي هو ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأقلّ ما يُقال بشان الحسين(علیه السلام)، أنّه خرج للأمربالمعروف، وللنهي عن المنكر، ولإنجاد المستضعفين وإنقاذهم من بطش أقذر زمرةحكمت بلاد الإسلام، واستولت على مقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) فكيف تُحيفل بقتله من هذه الامّة التائهة والتي ضيّعت طريق رشادها وما بقي لها الاّ الاهتداء بأمثال يزيدٍ وابن زياد. .

ص: 340


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 94 ، ص 96 .

أدعية الحسين (علیه السلام) في نهضته

لم يطلب الإمام الحسين (علیه السلام) من الله تعالى في أدعيته خلال مسيرته من المدينة إلى حين استشهاده قبل غروب يوم العاشر من المحرّم أن ينصره على عدوّه في معركته هذه، وأن یجعل الغلبة العاجلة له.

لم يسأل الله سبحانه شيئاً من هذا القبيل ابداً.

لا ينبغي أن يغيب عن ذهن المؤمن ما للدعاء من أثر عند الله سبحانه، ومن واقعيّةٍ في تغيير المصائر وجوداً وَعَدَماً، في الدنيا والآخرة.

في الذكر الحكيم: «مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ» (1).

في الآية دلالة لا خفاء فيها على أهمية عظيمة للدعاء، وبما له من أثرٍ في ربط الإنسان بربّه، بل أثره في عموم مسيرته الوجودية.

وقال جَلّ وعلا: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» (2).

فالدعاء عبادة في حدّ نفسه، ومن يستكبر عن العبادة مصيره جهنم، فمن يترك الطلب من الله سبحانه - استكباراً - مصيره جهنّم أيضاً.

طَلبُ أيّ شيء من خلق الله سبحانه ثقيل على الطرفين - والثقل نسبيّ، إلاّ ان أصل وجوده ولو بمرتبةٍ قليلةٍ أكيدٌ - باستثناء الطلب من المعصوم، فإن الكلام بشأنه

ص: 341


1- سورة الفرقان، الآية 77 .
2- سورة غافر، الآية 60 .

ينحو منحىً آخر.

أمّا الله سبحانه، فانّه يبلّغ عباده بأنّ الدعاء إليه وطلب شيء منه عبادة، فمن يطلب من الله سبحانه، فهو كمن يصلي له ويصوم ويحج ويزكي، أي يستحق الثواب على دعاءه، كما يستحق إجابة نفس الدعاء بمقتضى وعده سبحانه.

قال سبحانه: «وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» (1).

وَقال جَلّ وعلا: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ» (2).

وقال تعالى: «إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ» (3).

بالإضافة إلى عشرات الآيات المتضمنة لأدعية الأنبياء والصالحين والتي حكاها سبحانه عنهم في كتابه العزيز، أو الأدعية التي يلقّنها المولى لعباده من خِلال كتابه العزيز كي يتزلّفوا بها إليه، ولينالوا بها من فضله الواسع العظيم (4).

وما ورد في السُنّة أكثر، لأنها المُفَصِّلَة لما أجمله القرآن العزيز.

1- عن مولانا الصادق (علیه السلام) في قوله لمي :ّرس «ادعُ ولا تقل: انّ الأمر قد فُرغ منه، إنّ عند الله عزَّ وجلَّ منزلة لا تُنال إلاّ بمسألة، ولو أنّ عبداً سدّ فاه ولم يسأل لم يُعط شيئاً فسل تُعط، يا مي إنّه ليس من باب يُقرع إلاّ يُوشك أن يُفتح لصاحبه». (5)

2- في المعتبر عن مولانا الصادق(علیه السلام): «الدعاء أنفذ من السِنان الحديد». (6) .

ص: 342


1- سورة النساء، الآية 32 .
2- سورة البقرة، الآية 186 .
3- سورة الطور، الآية 28 .
4- راجع لها: الجامع لمواضيع آيات القرآن الكريم، محمد فارس بركات، ص 111 .
5- الأصول من الكافي، الشيخ الكليني، ﺟ 2 ص 455 ، الباب الأول من كتاب الدعاء.
6- الأصول من الكافي، ﺟ 2 ص 458 .

3- وفي المعتبر عن مولانا الباقر (علیه السلام) ، قوله لزرارة: «ألا أدلك على شيء لم يستثن فيه رسول الله(صلی الله علیه و آله)؟»

قلت: بلى.

قال: «الدعاء، يردّ القضاء، وقد أبرم إبراماً» - وضمّ أصابعه- (1).

4- وفي المعتبر، عن هشام بن سالم، عن مولانا الصادق(علیه السلام):

«هل تعرفون طول البلاء من قصره ؟»

قلنا: لا.

قال: «إذا أُلهم أحدكم الدعاء عند البلاء، فاعلموا أنّ البلاء قصير». (2)

5- في المعتبر، عن عمر بن أُذينة، قال سمعت أبا عبد الله - الصادق(علیه السلام) - يقول:

«إنّ في الليل لساعة ما يوافقها عَبْدٌ مسلم ثم يص ويدعو الله عزَّ وجلَّ فيها إلاّ استجاب له في كلّ ليلة».

قلت: أصلحك الله وأيّ ساعة هي من الليل.

قال: «إذا مضى نصف الليل، وهي السدس الأول من أول النصف». (3)

بل هناك مئات النصوص المتضمنة للأدعية الطويلة والقصيرة، والمنقولة عن النبي الأكرم والزهراء وآله الاطهار(علیهم السلام).

بل لعل ظاهرة الاهتمام بالدعاء ممّا يختص بائمة أهل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم - تبعاً للكتاب والسُنّة- دون بقيّة فرق المسلمين قاطبةً. .

ص: 343


1- الأصول من الكافي، ﺟ 2 ص 459 .
2- الأصول من الكافي، ﺟ 2 ص 46 .
3- الأصول من الكافي، ﺟ 2 ص 466 .

إذن: نحن مأمورون بالدعاء.

وبعدم اليأس من روح الله وفرجه وإغاثته وإعانته.

قال سبحانه: «وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ» (1).

وكيف ييأس المرء، وهو يلمس التفات الله سبحانه إليه في مواطن الشدّة والأزمات، وهناك وَعْدٌ الهي بإجابة دعائنا لو دعوناه سبحانه، وهو الذي لا يخلف الوعد أبداً.

لكننّا قد ندعو، وفي بعض الأحيان لا نقطع بتحققّ الإجابة، وحصولِ أثرٍ عن دعائنا.

لكنّ هذا مقتضى قدراتنا، ولقصورنا في هذا الميدان دَخْل، وقد عشت تجارب شخصيّةٍ عديدةٍ كنت أُلاحظ فيها بلوغي لمرامي، واستجابة المولى لدعائي، لكنّ هذه الملاحظة تتحقق بعد فترةٍ من الاستجابة، لأنّ الأخيرة قد تحصل بالتدريج، ولأسبابٍ أخرى، وفي المطلب تفاصيل، ليس هنا مجال استقصائها.

وشأن سيد شباب أهل الجنة، وإمام الأمة، ولد رسول الله وريحانته، الحسين(علیه السلام)، مختلف تماماً، فهو إذا دعا وطلب من الله سبحانه، وأراد ما دعا به حقيقةً، أجابه الله سبحانه حتماً، ولا يتخلّف هذا الأثر أبداً، كالحال في بقية المعصومين - محمّد وآل محمد أجمعين(صلی الله علیه و آله).-

وقد نقلت كتب الشيعة والسنّة أدعية سيد الشهداء (علیه السلام) على بعض أعدائِه، فاستجاب الله سبحانه دعاه في بعضهم فوراً، وفي بعضهم الآخر بعد حين، إلاّ أنّه ثبت لجميع من اطلّع على الأمر ان هذا كان لدعائه سلام الله عليه (2). .

ص: 344


1- سورة يوسف، الآية 87 .
2- راجع: فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ﺟ 3 ص 299 ، فقد نقل بعضها عن مصادر العامّة، منها ما عن الصواعق المحرقة، لابن حجر، ص 118 .

ومن ثمرات الاستجابة الفوريّة لدعائه (علیه السلام): ان تكون عَلَم هَداية لاعدائه، كي يكفوّا عن محاربته، بل لينتقلوا إلى معسكره، وقد التفت إلى هذا المعنى بعض جند بني أمية فكفّ عن مقاتلة السبط وأخذ جانباً، وهو وإن كان مستحقاً للعذاب الأليم لأنّه سمع واعية الإمام فلم ين هُرصُْ، وَبَلَغَتْهُ استغاثَتَهُ فلم يبذل له نفسه ونفيسه، إلاّ أنّ للعذاب مراتب، وَفَرْقٌ هائلٌ بين مرتبةٍ ومرتبة.

وإجمال الكلام: أنّ المتفحّص والمتأمّل في أدعية الإمام (علیه السلام) يلتفت إلى أنّه لم يدعُ لنجاته ممّا هو فيه أبداً.

بل أدعيته: تحميد، وتمجيد، وشكر لله سبحانه، ودعاء شامل على قتلته، أو على بعض أفرادهم، ونحو هذا.

ولنسرد بعض أدعيته، صلوات الله عليه وسلامه: «اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثِقةٌ وعُدّة، كم من كربٍ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، وَ ذَخيُْلُ فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك، وشكوته إليك، رغبة منيّ إليك عمّن سواك، ففرّجته وكشفته، فأنت وليّ كل نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة». (1)

ومنها: «اللهمّ احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مُص ةّرب، ولا يدع فيهم أحداً إلاّ قتله، قتلةٌ بقتلةٍ، وضربة بضربة، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم، فإ مّهن غرّونا وكذبوناوخذلونا، وأنت ربُّنا، عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير». (2) .

ص: 345


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 4.
2- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 10 .

ودعا على محمد بن الاشعث فأُخِذَ سريعاً في ساحة المعركة (1).

ومن أدعيته(علیه السلام): «اللهمّ أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولاتغفر لهم أبداً»(2)

ومن أدعيته(علیه السلام): «اللهمّ إ أشكو اليك ما يُفعل بابن بنت نبيّك». (3)

ودعا على مالك بن اليُ الكندي، والذي ضرب الإمام (علیه السلام) على رأسه بالسيف:

«لا أكلت بيمينك ولا شربت بها، وحشرك الله مع الظالمين». (4)

ومنها: «اللهمّ إن متّعتهم إلى حين، ففرّقهم فِرَقاً، واجعلهم طرائِقَ قدداً، ولا تُرْض الولاة عنهم أبداً، فإنهم دعونا لينصرونا، ثم عَدَوا علينا يقتلونا». (5)

ودعا على ابن حوزة: «اللّهُمّ حُزه إلى النار».

فعوقب فوراً وهلكَ (6).

ومن دعائه حين ذُبح وَلَدُهُ عبد الله الرضيع: «اللّهُمّ لا يكون أهون عليكَ مِنْ فصيل ناقة صالح». (7)

ومن أواخر أدعيته صلوات الله عليه وسلامه: «ربّ، إنْ تكن حَبَسْتَ عنا النصر مِن السماء، فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظالمين». (8) .

ص: 346


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 31 .
2- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 36 .
3- الإرشاد، ﺟ 2 ص 109 .
4- الإرشاد، ﺟ 2 ص 110 .
5- الإرشاد، ﺟ 2 ص 111 .
6- الإرشاد، ﺟ 2 ص 102 .
7- مقتل الحسين، السيد محمّد بحر العلوم، ص 75 .
8- الارشاد، ﺟ 1 ص 108 .

موقف الإمام (علیه السلام) مِن أنصاره

اشارة

قد یجزِمُ المرء بعد ملاحظة النصوص أنه لم يُعذر أحد أو صنف من أهل الكوفة في عدم نصرته للإمام الحسين(علیه السلام).

ولا إشكال: إن الذم في معظمه متوجه إلى الذين كاتبوا الإمام (علیه السلام) والتمسوا حضوره ووعدوه النصرة وعاهدوه على الوفاء والموت دونه ثمّ لم يفوا بعهودهم ومواثيقهم.

والذين كاتبوا الإمام (علیه السلام) أصناف:

فصنف التحق به في المدينة، أو مكّة، أو في الطريق، وبعضٌ في كربلاء.

وصنف حاول اللحاق به، وخرج من الكوفة قاصدا هذا، ثم قُبضَِ عليه، ومُنعَِ من تحقيق هدفه.

وصنف اعتُقل في الكوفة، وأُودع السجن.

وصنف قُتل قبل ورود الإمام.

والمتقدّمون كلّهم معذورون، بل مشكور لهم سعيهم ووفاؤهم.

بلى، من جَبُن خوف اعتقاله، أو لأنه حَسِبَ أنّ كلّ شيءٍ قد انتهى، ولا سبيل إلى نجاح الثورة، ولم يعبأ بما سيؤول إليه حال الإمام(علیه السلام)، فهو المدُان.

وهؤلاء يمكن تقسيمهم لأصناف أيضاً، واردؤهم من بلغ به جبنه حدّ الخروج مع جيش الطاغية ابن زياد وقاتل أو حضر المعركة فقط والحكم في الحالين واحد بحسب هدف بحثنا.

ص: 347

وهناك أصناف أخرى يجمعهم أنهم لم يكاتبوا الإمام (علیه السلام) والكلام فيهم أيضاً متفاوت.

وبطبيعة الحال ليس جميع هذه الأصناف تستحق العقاب أو الملام بل ينحصر في:

أ- من خرج للقتال، ولم يلتحق بالإمام، أو يضرب في خلفية الجيش الاموي.

ب- من ساهم في قوات ابن زياد بأي شكل من الأشكال، ككتائب البحث عن الإمام(علیه السلام)، أو قطع الطرق على الملتحقين ونحو هذا.

ﺟ- من قعد عن النصرة.

إن من لا يتمكّن من الالتحاق بالإمام(علیه السلام)، فإنّ عليه نصرته عن طريق تشكيل كتائب صغيرة-مثلا- والدخول في عملياتٍ قتاليّة هنا وهناك، لتخفيف الضغط عن الإمام، ولإرهاب الدولة الطاغوتية، كي تعلم بوجود أنصارٍ له، فتضطرّ للاستماع لما يطرحه(علیه السلام)، بل وللاستجابة لبعض المطروح، ويُمكن من خلال هذه الطريقة أو تلك اشغال ابن زياد، وإشعاره ببدايات ثورة عارمة عليه، وتشجيع الآخرين على الالتحاق بصفوف الجماعات المسلّحة المناهضة للحكم الفاسد، بل لعلّ هذا يشجع بعض من في جيش ابن زياد على الالتحاق بتلك الكتائب، ولا أقلّ من فرارهم من ميادين المواجهة.

ففي ميدان الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط الواجب ما دام يُمكن تحصيل النتيجة بوجه من الوجوه.

إن مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معروفة، لكن هذه المراتب تنطوي على مراتب متدرّجة، فإن لم كُمتن المرتبة الأخفّ انتقل المكلّف إلى مرتبةٍ أعلى، وإن لم تنفع هذه الطريقة استعملنا طريقةً أخرى، وهكذا حتى يتحقق المطلوب، ولا يسقط وجوب الأمر والنهي حتى يحصل العجز من كلّ جهة.

هذا وقد بدأ الإمام الحسين (علیه السلام) من حين ما وصل إليه خبر استشهاد سفيره مسلم

ص: 348

بن عقيل رضوان الله عليه ومعه هاني بن عروة، وعبد الله بن يقطر، بانتهاج ماصار سبباً للتساؤل والتحير في هِِّرس. إذ أخذ الإمام (علیه السلام) بترغيب بعض الناس لنصرته، ولمؤازرته في نهضته المقدّسة، وفي الوقت نفسه يفسح المجال لمن معه للانسحاب، ولترك مواصلة مسيرته معه، بل أنه عرض عليهم هذا بشكل مؤكد من قبل أن يلتقي بجيش الحر، ولم يترك التأكيد عليهم به في أصعب الظروف - أعني: ليلة عاشوراء -.

إذ تَيَقُّن الإمام من استشهاده، وأن لا فائدة من المقاومة، ولا أثر لها غير كثرة الخسائر، يقتضي إبعاد الجميع عن ساحة النزال.

واحتمالية النجاح تقتضي دعوة أكبر عدد ممكن من الأنصار- ولو بتألف بعض الناس-لغرض قلب الموازين في ساحة المعركة، علّ الدوائر تدور على ابن زياد وجنده.

فكيف نفسر النهج الذي سار عليه الإمام، وكيف نقتبس منه درساً وتوجيهاً.

ومما يلفت النظر: أن سيد الأوصياء سلام الله عليه لم يأذن لجنده بالانصراف أثناءمعاركه، مع تململهم، وكثرة ما معه من جند، وهذا عكس ما صدر عن الإمام سيد الشهداء، والذي كان جيشه عشرات من الرجال (1)، وكان يقابل عشرات الآلاف من جند السلطة .

ص: 349


1- من موارد الإذن بالانصراف، ما ذكره القرشي في حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، ﺟ 3 ص 171 ، وكذا ص 166 ﻫ 1 وص 165 ، وكان أول إذنٍ بالانصراف عند بلوغ خبر استشهاد عبد الله بن يقطر إلى الإمام (علیه السلام) وهو إذنٌ عامٌّ تُلي في رسالةٍ على الناس، فراجع: بحار الأنوار، ﺟ 44 ص 374 ، وقد ف الشيخ المفيد إذن الإمام بانه (علیه السلام) عَلِمَ بأن الأعراب الذين اتبعوه، إنّما اتبعوه وهم يظنّون أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون. غير ان توجيه المفيد تأباه الرواية نفسها، وهذا نصّها: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد فإنه قد أتانا خبر فظيع: قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف، في غير حرجٍ، ليس عليه ذِمام» فتفرّق الناس عنه، واخذوا يميناً وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة، ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه. راجع: الإرشاد، المفيد، ﺟ 2 ص 76 .

الكافرة.

قال الشيخ صاحب الجواهر: ثبات سيد الشهداء (علیه السلام) يوم عاشوراء بنيّف وسبعين رجلاً أمام ثلاثين ألف الذي هو أقل ما روي في نصوصنا (1).

وذكر العلاّمة القرشي خمسة أقوال في عدد أصحاب الإمام يوم الطف، وختم كلامه بقوله:

والذي نراه أنهم ثمانون رجلاً بما فيهم من أبناء الاُسرة النبوية، والذي يدعم ذلك ان الرؤوس التي احتزّت وبُعث بها إلى ابن مرجانة ويزيد بن معاوية كانت 79 رأساً لا غير (2).

أقول: هذا مع ملاحظة أن الراس الشريف للحر لم يقطع، وهو الوحيد في هذا الشأن، حيث استنقذته عشيرته، ودفنته بعيداً عن ساحة المعركة حيث مرقده اليوم معروف مشهور.

كما أن عبد الله الرضيع دفنه الإمام أثناء المعركة، و قيل بقطع رأسه الشريف بعد نبش جند الضلالة لمدفنِهِ المقدّس اثر انتهاء المعركة (3).

ونسأل: هل نحن مخيرون في نصرة الإمام وعدمها، والإمام المعصوم خليفة الله في أرضه، وهو في طريقه إلى الموت المحتم كما أخبر (علیه السلام) عن نفسه، وأخبر النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) بهذا من قبل.

فقد روي عن النبی (صلی الله علیه و آله) أنه قال حينما بكى أصحابه إذ ذكر لهم استشهاد الحسين(علیه السلام):

«أتبكون ولا تنصرونه». (4)

اذن بمقتضى هذا النص وأمثاله أن النبي أراد من الاُمة نصرته، فكيف يدعوهم .

ص: 350


1- جواهر الكلام، ﺟ 7 ص 521 .
2- القرشي، ﺟ 3 ص 126 .
3- الشهيد والثورة، السيّد هادي المدرسي.
4- معالم المدرستين: ﺟ 3 ص 29 ، عن مقتل الخوارزمي ﺟ 1 ص 163 .

الإمام (علیه السلام) للرجوع وترك النصرة؟

ومن المروي: أن حبيب بن مظاهر ذكر للإمام (علیه السلام) وجود جمع من عشيرته قُرْبَ معسكرهم وهو مستعد للذهاب إليهم كي يجلب مجموعةً مقاتلة منهم لتعزيز جبهة الإمام فوافق الإمام (علیه السلام) إذ ذاك ذهب حبيب وجاء بسبعين رجل غير أن جند ابن زياد حالوا بينهم وبين بلوغ معسكر الإمام ووقع قتال بينهم فرجع ذلك الجمع وعاد حبيب لوحده إلى معسكر الإمام(علیه السلام). (1)

إذن: ما زال الإمام (علیه السلام) بصدد دعوة الناس لنصرته.

سيد الشهداء (علیه السلام) وانصاره:

سيد الشهداء (علیه السلام) وانصاره (2):

لا شك أن النهضة الحسينية بل كل حركة تقاوم استبداد دولة قوية طاغية ظالمة لها أن تعتمد على اقتناع أفراد الأُمة بها وإيمانهم بصحتها واندفاعهم لنصرتها واخلاصهم واستماتتهم في سبيلها، وهذا لا يتحقق مع إكراه الناس، أو الاستفادة من حيائهم ومجاملتهم.

يروي التاريخ أن سيد الشهداء (علیه السلام) خرج من مكة بموكب يرافقه فيه ما يقارب الخمسة آلاف نسمة إلاّ أن هؤلاء لم يكونوا جميعهم من مستوى الجيش العقائدي المطلوب توفره في مثل هذا الظرف ولذلك حين بلغه خبر استشهاد مسلم بن عقيل رضوان الله عليه أَبْلَغَ الناس أنه:

«قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله بن يقطر،

ص: 351


1- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 142 .
2- راجع: معالم المدرستين، للسيد العسكري، حول رأي المؤلف في دعوة الإمام (علیه السلام) أُناساً لنصرته، والسماح لآخرين بالانصراف، ووجه الجمع بينهما.

وقد خذلنا شيعتنا فمن أحب منكم الإنصراف فلينصرف، غير حَرِج ليس عليه ذمام».

فتفرق الناس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممن انضووا إليه، وإنما فعل ذلك لأنه (علیه السلام) عَلِم أن الاعراب الذين اتّبعوه إنما اتّبعوه وهم يظنّون أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون (1).

وبدأ الإمام (علیه السلام) في موقفه الحازم منذ ذلك الحين والذي وقع مورد التساؤل. فتراه يُرغّب بعض الرجال لنصرته وَيُبَ له الكرامة الأخروية التي تنتظره، ومغفرة الذنوب الكثيرة التي بذمته، وممّن دعاه الإمام للنصرة عبيد الله بن الحر الجعفي الخائب، وزهير بن القين رضوان الله عليه.

وتراه من جانب آخر يعرض على أصحابه الرجوع، ويشرح لهم طريقة نجاتهم وهم في أشدّ الظروف، وذلك عند إحاطة جيش ابن زياد بهم إحاطة السوار بالمعصم.

لا شك أن حركة الحسين عليه الصلاة والسلام كانت بحاجة إلى من يستشهد مع الإمام المظلوم المهتضم، وإلى من يبقى بعد شهادته المقدسة.

أما وجه الحاجة إلى من يبقى فلمواصلة الجهاد عن طريق شرح مظلومية الحسين (علیه السلام) وشرح أهدافه وتحريض جمهور الأُمة على السلطة الحاكمة الغاشمة، وإشعال فتيل الثورة في أرجاء الدولة، وكذلك لنشر عقائد ومبادئ الأئمة مِن آلِ محمد (صلی الله علیه و آله)، وقد قيل أن الثورة الحسينية إنما آتت بعض ثمارِها بجهود الاسرى، وهذا يؤكد أن من بقي له أثر فعال في إيضاح حقيقة الحركة الحسينية وأحداثها، وفي نشر أريجها، وله الريادة في العمل من بعد الإمام (علیه السلام) على هدم الدولة الاموية بكل وسيلة، بالاستفادة من قضية الإمام المظلوم. .

ص: 352


1- الإرشاد، الشيخ المفيد، ﺟ 2 ص 75 - 76 .

ووجه الحاجة إلى من يستشهد: لأنّ من الطبيعي أن حركة الحسين (علیه السلام) تكتمل بوجود عناصر متعددة مساندة لها مما يقطع الطريق على أذناب السلطة لتشويهها، فترى في ثورة الحسين (علیه السلام): أهل بيته من أولاد علي (علیه السلام) وأولاد الإمام الحسن (علیه السلام) وأفلاذ كبد الحسين(علیه السلام)، وأولاد عقيل وأولاد جعفر.

ونرى أيضاً الشيخ الكبير والطفل الصغير، والمراة المسنّة والأخرى الشابة، والحر والعبد، وأعظم الناس تشيعاً والعثماني الهوى - زهير بن القين - وقائد جيش الأمويين - الحر الرياحي- وزعيم العشيرة، ومعه أيضاً نساؤه وصغاره ونساء أصحابه.

وكل من حضر كان من خيرة صنفه، ومن الوجوه، ومن النسّاك والزهاد، وقد اتّحدهذا الجمع في عقيدة إسلامية حسينية تحت راية الإمام القائد(علیه السلام).

إن وجود هذه المجموعة تحت راية الحسين (علیه السلام) مما يستوقف من لا يعرف الحسين (علیه السلام)وقضية الحسين(علیه السلام)، فما الذي يدفع زهير بن القين وهو العثماني إلى السير تحت راية الحسين (علیه السلام) وبذل حياته رخيصة في سبيله وفي سبيل قضيته ويهجر الأهل والولدان والأموال.

وهكذا القول في الحر قائد جيش ابن زياد حيث أعرض عن قيادة الجيش بعد ما أحاطت الجيوش بالحسين(علیه السلام)، وبعد ما تيقن الجميع من مقتله (علیه السلام) فما الذي يدعوه للتضحية بطيبات الحياة الدنيا، ثمّ لم تمنعه خطيئته عن أن يتوب إلى الحسين (علیه السلام) في وسط ساحة المعركة، ويكون هو أول مقاتل، وأول شهيد.

والعبد جون لو ترك القتال لتركه جيش ابن زياد - كما يروي التأريخ أنهم تركوا عبدا آخر بعدما انتهت المعركة -.

وسيد قومه حبيب بن مظاهر الأسدي، وهكذا، وصور اُخرى في منتهى الروعة،

ص: 353

وأعظم العبرة، تستوقف المتأمل لتشرح له بلسانها الذَلِق مظلوميّة الحسين(علیه السلام)، وطهارة أهدافه، وإسلامية ثورته، مما حفلت بها كتب الخاصة والعامة، وأودت بيزيد ودولته وآل اُمية، وحشرتهم في مزابل التاريخ، وعجّلت بفناء دولتهم، وصيرتهم ألعن دولة، وأخسّ عائلة في تأريخ الإسلام.

إن استشهاد الإمام الحسين (علیه السلام) وحيدا في ساحة المعركة مما تأبى نتائجه النفوس الأبيّة، فان في هذا استهانة بمقام المعصوم، وبخساً لقدره، وغضّاً من مقامه، واثارة لروح الشكوك حول قضيته، وهذا بخلاف ما لو كان معه أهل بيته، صغارا وكبارا، ً شباباً وكهولاً، رجالاً ونساءا، ً بأرفع بيوتهم شانا، ومعه من الأنصار عِلية المجتمع من زعماء ورؤساء عشائر وقرّاء للقرآن - كما هو المصطلح المتداول للإشارة إلى العلماء والفقهاء في تلك الفترة - بل وزعماء من جهاز الدولة وقادتها العسكريين وأفراد عِدّة من جندهم برفقته في نهضته المقدّسة، فإن هذا يضفي على قضية الحسين (علیه السلام) مع عظمته الشخصية التي هي في الظهور كالشمس في وضح النهار تمامية وصورة رائعِة من الالتحام وكون قضية الحسين (علیه السلام) إسلامية، لا شخصية ولا نفعية، ولهذا يندفع هذا الجمع المختلف الانتماء، وبتشكيلته القائمة إلى التضحية بكل غالٍ ونفيس لأجل الحسين(علیه السلام).

ويقف الإمام القائد لينقل للدنيا عبر الأجيال صورة لهؤلاء الصحب ولإيمانهم وتفانيهم وجليل خصالهم ممّا عجزت أُمّ الدهر عن أمثالهم إلا ما ندر.

يقول الإمام(علیه السلام):

«أما بعد فاني لا أعلم أصحاباً خيرا منكم، ولا أهل بيت أفضل وأبرّ من أهل بيتي».

إذ ها هو الإمام (علیه السلام) يعرض عليهم الرجوع - لمجموعهم ولآحادٍ منهم -.

عرض على الجميع بقوله: «ان هؤلاء يريدوني دونكم، فالنجا». (1) .

ص: 354


1- البحار، ﺟ 45 ص 89 .

وقال (علیه السلام) لهم أيضاً: «أنتم في حِلٍّ من بيعتي، فالحقوا بعشائركم ومواليكم». (1)

وقال (علیه السلام) لأهل بيته: «قد جعلتكم في حِلٍّ من مفارقتي، فانكم لا تطيقونهم لتضاعف اعدادهم وقواهم، وما المقصود غيري، فدعوني والقوم، فانّ الله عزّ وجلّ يعينني ولا يخليّني من حسن نظره، كعاداته في اسلافنا الطيبين». (2)

ويقول لجون - مولى أبي ذر الغفاري، وكان عبدا أسودا-ً:

«أنت في إذنٍ مني، فانّما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتل بطريقنا».

نرى بعضهم يجيبه(علیه السلام):

«و نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك ابدا».ً

وآخرون: «لا والله يابن رسول الله لا نفارقك أبدا، ً ولكنّا نقيك بأنفسنا حتى نُقتل بين يديك، ونرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك».

ويقول له زهير بن القين- والذي كان لأيام خلت على دين الدولة وفكرها العثماني -:

«والله يابن رسول الله لوددت أني قُتلت ثم نُشرت ألف مرة، وإن الله يدفع بذلك القتل عنك وعن هؤلاء الفتية من اخوتك وولدك وأهل بيتك».

وغيره: «اكلتني السباع حياً إن فارقتك». (3)

ولا يفوتنا التنبيه إلى أن الجهاد مرفوع عن المرأة في الإسلام، وقد أكّد الإمام - صلوات الله عليه - هذا الامر، وهو مرفوع عنهن في ملحمة كربلاء ايضاً (4).

يقيناً: لا دافع لمقال الصحب الكرام ومواقفهم إلاّ محض الإيمان، والوقوف إلى جهة دين .

ص: 355


1- البحار، ﺟ 45 ص 90 .
2- البحار، ﺟ 45 ص 90
3- راجع لكلمات الأصحاب: بحار الأنوار، ﺟ 44 ص 381 ، ص 393 .
4- البحار، ﺟ 45 ص 17 .

الله في مفترق الطرق، ومواجهة الموت وآلام المعركة وكل نتائجها مهما كانت.

وَدافعٌِ آخر: هو عدم ترك الإمام (علیه السلام) وحيدا يواجه الموت، وأكفر أعداء الله، في موقف إيماني وقضية تتعلق بوجود الإسلام ورسول الله (صلی الله علیه و آله) والقرآن.

والواقع: ان أعظم مشكلة واجهت المعصومين، بل كل الأنبياء والأوصياء تقريباً عبرالأزمان، هي مشكلة الأنصار وعقيدتهم وتفانيهم في الذبّ عن دين الله، والتضحية في سبيله كي يقوم على سوقه.

ومن جملة أسباب التخيير ما ورد في بعض النصوص من أن الإمام (علیه السلام) خیّرهم كي يستظهر أو يظهر ثباتهم (1).

ومما يلوح من القرائن:

إن الشهيد الصدر حاول القيام - في أواخر القرن الرابع عشر الهجري- بعمل ضد النظام الصدّامي، فقرر الذهاب إلى الحضرة العلوية المقدّسة وإعلان موقف جَرئ ضد الدولة مع جماعة من طلابه، بحيث يستمرّ في موقفه إلى أن يُلجئ الدولة إلى قتله وطلابه في الحضرة العلوية، في الوقت الذي يتفق فيه مع آخرين من طلابه الحاملين لأهدافه وفكره لاستثمار حركته إلى أقصى حد، من خلال تهييج المجتمع ضد النظام، وتوعيته بما يؤدي إلى إشعال فتيل الثورة لإسقاط الحكم الفاسد (2).

أقول: تؤكد القرائن ان الشهيد الصدر قد فهم العمل الحسيني بهذه الصيغة ولهذا الهدف - في عرض رجوع أصحابه، وفي دعوة آخرين لنصرته - ولذلك حاول ترسّم خطاه(علیه السلام).

إن الإمام (علیه السلام) كان يبحث عن أنصار ينضمّون تحت لوائه، ويبايعونه على الأمر .

ص: 356


1- كلمات الحسين(علیه السلام)، ص 410 - 411 .
2- الشهيد الصدر، الشيخ النعماني، ص 134 .

بالمعروف والنهي عن المنكر، واستنكار بيعة أئمة الضلالة -أمثال يزيد- على الحكم، أنصاراً واعين لأهداف قيامه، يقاومون الاغراء بالدنيا، ويصارعون الحكم الغاشم، حتى يقتلوا في سبيل ذلك (1).

واستنتاجنا:

ان الإمام (علیه السلام) دعى الاُمة جميعاً إلى نصرته، وبلّغها تكليفها المتعلّق بقضيته، وَحَثَّها عليه بمختلف صنوف التبليغ.

وقد سبقه لهذا جدّه الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) حين شرح لأُمته ما سيؤول إليه حال ولده الحسين (علیه السلام) وأمر حينذاك الأمة جميعها بنصره.

وقد استمر الإمام (علیه السلام) في نهجه هذا من الدعوة إلى الانضمام إلى جيشه المبارك دون استثناء، فلم يُرَخِّص لأحد ابتداءً في ترك القتال، ولم يتقدّم لاحدٍ بالمعذورية.

نعم: مرحلة الترخيص ابتدأت بعد بلوغ خبر استشهاد مسلم رضوان الله عليه للإمام(علیه السلام).

ذلك أنّ كل من اتبع سيّد الشهداء طواعية والتحق بركبه، فان الإمام (علیه السلام) قد رخّص له في تركه، والترخيص هنا يرفع التكليف الإلزامي، فالعقوبة الأخروية.

فمن انسحب من نصرة الإمام (علیه السلام) - بناءً على ترخيص الإمام (علیه السلام) - فإنه يفعل ماهو مناف للمروءة، بتركه للإمام المعصوم وخليفة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) في الأرض ومن لاتُحصى أياديه على الأمة جماعات وأفراد، غير أنه لا يُعاقب أخروياً بالنار، لمكان ترخيص الإمام(علیه السلام).

وأما من لم يلتحق به رأساً، فالتكليف ثابت في حقه، والإثم لاحق به، ولا ترخيص .

ص: 357


1- معالم المدرستين، ﺟ 3 ص 74 .

لمثله ابداً (1)، خصوصاً لمن طلب منه الإمام (علیه السلام) الا لتحاق به كعبيد الله بن الحر الجعفي والذي أبى على الإمام (علیه السلام) عرضه، غير أنه عَرَض عليه فرسه، فأجابه الإمام(علیه السلام): «إن كنت رغبت عنّا بنفسك، فلا حاجة لنا فيك ولا في فرسك».

ننقل ما ذكره الشيخ القرشي، عن بعض المقاتل، قول الإمام (علیه السلام) لبعض من صمد معه، وأصرّ على البقاء: «إن كنتم وطّنتم أنفسكم على ما وطّنت نفسي عليه، فاعلموا:

أنّ الله إنما يهب المنازل الشريفة لعباده لاحتمال المكاره، وان الله كان خصّني مع من مضى من أهلي الذين أنا اخرهم بقاءً في الدنيا من الكرامات، بما يسهل عليّ معها احتمال المكروهات، فإنّ لكم شطراً من كرامات الله، واعلموا ان الدنيا حلوها ومرّها حلم، والانتباه في الآخرة، والفائز من فاز فيها، والشقي من شقي فيها». (2)

لقد صنع الحسين (علیه السلام) وأصحابه المعاجز في قتالهم لجند بني امية.

اما الحسين (علیه السلام) فالحديث في أمره يبتدأ ولا ينتهي حتى قيل فيه من أحد الأمويين:

ما رأيت مكثوراً قط أربط جأشاً من الحسين (3)، .....

وورد أنه: كان يهزم الالف من الرجال، وأنه قتل الكثير منهم مع ان مقدّمه الشريف كان مفروشاً بالسهام، حتى صاح ابن سعد «لعنه الله :»

هذا ابن الأنزع البطين

- لعظيم شجاعته، ولما أظهر من بطولاتٍ تذكّر بملاحم والده الوصيّ(علیه السلام).-

وأما أصحابه فقد لقوا جبال الحديد، واستقبلوا الرماح بصدورهم، والسيوف .

ص: 358


1- تكلّمنا عن هذا المطلب بتوسعّ في كتابنا «العباس بن علي» (علیه السلام) وأوضحنا هناك ما نريد بيانه، فراجع فصل: الإمام (علیه السلام) وانصاره.
2- حياة الحسين(علیه السلام)، القرشي ﺟ 3 ص 166 ﻫ 1.
3- البحار، ﺟ 45 ص 50 .

بوجوههم، وهم يُعرض عليهم الأمان والأموال فيأبون ويقولون:

«لا عذر لنا عند رسول الله (صلی الله علیه و آله)، إن قُتِل الحسين(علیه السلام)، ومنّا عين تطرف.

حتى قتلوا حوله». (1)

ووصفهم أحد جند بني أمية: ثارت علينا عصابة، أيديها في مقابض سيوفها كالاسود الضارية، تحطّم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها وبين حياض المنيّة أو الاستيلاء على المُلك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها (2). .

ص: 359


1- البحار، ﺟ 45 ص 93 .
2- العباس(علیه السلام)، للمقرم، ص 185 ، عن شرح النهج الحديدي، ﺟ 1 ص 307 .

ص: 360

مسلم وما أدراك ما مسلم

دل اختيار الإمام المعصوم لمسلم رضوان الله عليه كممثل عنه وسفيرٌ له إلى أهل الكوفة على ملكات عظيمة نادرة في هذا الهاشمي الرباني، لم تكن لتبرز واضحة معلنة عن رِفعَةِ صاحبها، لو لا هذه السفارة الميمونة، على الرغم من كثرة بني هاشم بمحضر الإمام (علیه السلام) وتأهل جملة منهم لأمثال هذا المقام.

فالسفارة في مثل ذلك الظرف العصيب من عمر الإسلام والامة وأهل البيت (علیهم السلام) تستلزم و تحتّم توفر جملة من الملكات والخصال والمواهب من المتحَمِّل لها بما لا تقتضيها في ظرف آخر.

ذكر السيّد الخوئيّ (1) مبنىً له حول مَن يوكّله الإمام (علیه السلام) لمهمة معينة وهو:

«انّ الوكالة لا تقتضي وثاقة الوكيل، بل غاية ما تقتضيه كفائته فيما وكله الإمام فيه، وقدرته على القيام به، وتوفر الشروط اللازم توفرها فيمن يؤدي هذه المهمة، دون شروط الكمال، فالوكالة لوحدها لا تدل على توفر أكثر من المقدار الذي يلزم توفّره فيمن يتصدّى لوكالةٍ ما».

وهذا إن تم - ويمكن ذكر شواهد عدّة له - فهو في غير أمثال هذا التوكيل، وهذه السفارة حتماً، إذ أن ما أحاط بقضية الحسين (علیه السلام) من ملابسات، كانت تحتم توفر جملة من الخصال في سفير الإمام (علیه السلام) لأهل الكوفة ب ا به الدلالة على معتقدٍ عظيمٍ، ونزاهةٍ، وإخلاصٍ ملله سبحانه، وتفانٍ في جنب الإمام المظلوم.

ص: 361


1- معجم رجال الحديث، السيد الخوئي، ج1 ص 75 .

كما دلت سيرة مسلم في الكوفة على ديانة عظيمة بحيث نلتزم بأنها مما لا مثيل لها في تلك الايام المصيرية مِن عمر الاُمة، وان ذكرت بعض المصادر أن غاية ما كلفه به الإمام (علیه السلام) هو استعلام الموقف الحقيقي لأهل الكوفة، والكتابة إليه بصورة ذلك الواقع مع أخذ البيعةمنهم.

ومما يصلح ان يكون شاهداً له ما ذكره الشيخ المفيد:

إن سيد الشهداء (علیه السلام) كتب إلى أهل الكوفة كتاباً أرسله مع مسلم رضوان الله عليه حين بعثه اليهم:

«وإني باعث اليكم أخي، وابن عمي، وثقتي من أهل بيتي، فإن كتب الي أنه قد اجتمع رأيُ مَلَئكُِم، وذوي الحجى والفضل منكم، على مثل ما قدمت بهِ رسلكم، وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله». (1)

قال الشيخ المفيد (رحمة الله): ودعا الحسين بن علي (علیهما السلام)مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضي

الله عنه، فسرّحه مع قيس بن مسهّر الصيداوي، وعُمارة بن عبدٍ السلولي، وعبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي، وأمره بتقوى الله، وكتمان أمره، واللطف، فإن راى الناس مجتمعين مستوسقين عجل إليه بذلك (2).

وقال أيضاً - المفيد -: وقدّم أمامه ابن عمه مسلم بن عقيل «رضي الله عنه وأرضاه» للدعوة إلى الله، والبيعة له على الجهاد، فبايعه أهل الكوفة على ذلك، وعاهدوه، وضمنوا له النصرة والنصيحة، ووثقوا له في ذلك وعاقدوه، ثم لم تطل المدة بهم حتى نكثوا بيعته، وخذلوه، وأسلموه، فقُتل بينهم، ولم يمنعوه، وخرجوا إلى الحسين(علیه السلام) .....(3) .

ص: 362


1- الإرشاد، الشيخ المفيد، ﺟ 2 ص 39 .
2- الإرشاد، الشيخ المفيد، ﺟ 2 ص 39 .
3- الإرشاد، الشيخ المفيد، ﺟ 2 ص 31 .

فالإمام المظلوم (علیه السلام) لم يأمر مسلماً بالقتال وإنما أوصاه بكتمان أمره، واللطف، والكتابةإليه بما يكون عليه حال الناس- من الانقياد له - حتى يقدم عليه عاجلاً.

لكن هناك إيراد طرحه البعض، ونقله العلاّمة المطهري:

انّ كل المعترضين انتقدوا تقييم مسلم لأوضاع الكوفة وتتهمه بالضعف (1).

ويقول العلاّمة القرشي: إن جيش مسلم مُني بهزيمة مخزية لامثيل لها في التأريخ، من دون أن تكون قباله أية قوة عسكرية.

والإيراد الأخير يتعلق أولاً وبالذات:

بأهل الكوفة لأنهم جيش مسلم إذ فرّوا وتشتتوا مع عدم وجود أية قوة عسكريةقبالهم في داخل المدينة، ولم تتوجّه اليهم أية قوة من خارجها.

كما يتعلق هذا الإيراد بمسلم رضوان الله عليه:

من جهة أنه قائد الجيش، وأنه كان عليه استخدام قدراته ومهاراته وامكانياته للمحافظةعلى الجيش من الانهيار وإيجاد حالة التماسك لدى أفراده حتى قدوم الإمام(علیه السلام).

ولابأس بتسجيل إيرادات أخرى، لمناقشتها وللجواب عنها، تزلفاً إلى المولى سبحانه، وإن كان مسلم، وعظمته، وأوحديته في ميدانه، كالشمس في رائعة النهار.

فبالإضافة إلى الإيرادين المتقدمين، هناك ثالث، وهو:

إنّ مسلماً كتب - وهو في طريقه إلى الكوفة - إلى الإمام (علیه السلام) بعد موت الدليلين يستفهمه عن صوابيّة رجوعه إلى مكة من عدمها، وقد أجابه سيد الشهداء (علیه السلام) بجوابٍ حازم، بحسب ما ورد في كتب التاريخ.

الإيراد الرابع: إن مسلماً امتنع من قتل ابن زياد لماّ جاء عائداً لشريك في مرضه، وهذا .

ص: 363


1- الملحمة، الشيخ المطهري، ﺟ 3 ص 355 .

الامتناع أدى إلى نجاة ابن زياد، وكل الأحداث التي جرت فيما بعد، كان لوجود ابن زياد خصوصية في جريانها بالشكل الذي جرت به، فلو قُتل لتغيرت المعادلات، ولما قُتلَِ الإمام(علیه السلام).

الإيراد الخامس: إنهرضوان الله تعالى عليه أعلن القتال ولم يوصهِ الإمام (علیه السلام) بذلك وكانت المصلحة - ظاهراً- في التأني وتأخير البدء بالمواجهة إلى حين حضور الإمام (علیه السلام) أرض الكوفة - إذ في وجود الإمام (علیه السلام) حين إعلان الثورة خصوصية ومنفعة كبيرة، إذ تدفع بالثورة إلى الإمام(علیه السلام)، ويؤدي وجوده المقدس إلى كثرة التفاف الناس حول حركته المقدسة - غير أن استعجال مسلم رضوان الله عليه واعلانه المواجهة، هيأ فرصة ذهبية لابن زياد كي بُحيطُِها ويقلب الأُمور رأساً على عقب.

فتنهار الثورة.

ويُقتل مسلم.

وينتقل أهل الكوفة من صف الحسين (علیه السلام) إلى جندٍٍ لبني اُمية - أعداء الإمام والاُمة

جمعاء -.

بدءا:ً

يقول العلاّمة القرشي: ان مسلم في الشجاعة يأتي بعد الأئمة المعصومين، ومراجعة ما صنعه في قتاله عند بيت طوعة يؤكد هذا (1).

وقال: كان مسلم يوصي الكوفيين بكتمان أمرهم حتى قدوم الإمام(علیه السلام). (2)

أقول: إن الكوفة بلد مُ كقاعدة عسكرية للدولة في تلك الفترة كي تكون رديفاً للجيوش الفاتحة ومرجعاً لها في تعزيزها، فهي إذن بلد يغلب على أهله طابع الروح .

ص: 364


1- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، القرشي، ﺟ 2 ص 394 .
2- نفس المصدر، ﺟ 2 ص 345 .

القتالية والعسكرية، وكانت أيضاً عاصمة لسيد الأوصياء(علیه السلام)، فأهلها كانوا يشكّلون معظم جيشه، ومثل هذا البلد يمثل أهمية عظمى كقوة معتمدة للمهمات، من طرف الدولة، ومن طرف أية جهة تعارضها.

وثانياً: إن هذه البلدة تتسم بكثرة الفئات المتخالفة بينها، مع اشتراك أغلبها بقاسم مشترك، هو معارضة الدولة وَتَبَنّي العمل على إزالتها، كموقف ديني، وكموقف دفاعي، وذلك لعدوانية الدولة وشدّة وطأتها عليهم.

وثالثاً: إن هذه المدينة نالت من الاضطهاد والفجائع خلال حكم معاوية ما لم تُصَِبْ به أية حاضرة من حواضر الإسلام، فقد فعل زياد بالكوفة الأفاعيل بأمر معاوية.

ورابعاً: إن أهل الكوفة بالنسبة لمستوى ارتباطهم بآل البيت (علیهم السلام) مراتب:

ا-فمجموعةٍ غير قليلة منهم، من الشيعة الموالين المخلصين لأهل البيت(علیهم السلام).

ب- و أُخرى من المحبين لهم- أي أنّ مرتبتهم دون الفئة الأولى من جهة قوّة الرابطة باهل البيت(علیه السلام).-

ﺟ-ونسبة اُخرى ممن يفضلهم على آل اُمية، وعلى حكمهم الجاهلي المقيت.

د-ونسبة عالية من فئاتٍ اُخرى، معارضة للدولة وكارهةً لها وإن لم تلتق مع أهل البيت (علیهم السلام) برابط عقائدي، إلاّ أن البعض منهم بلا شكّ يُفَضِّلُ أهل البيت (علیهم السلام)لصراحة آل اُمية في مخالفة أحكام الإسلام، ولهمجيتهم في حكم الناس، ولعدوانهم المستمرّ عليهم.

ﻫ- هناك نسبةٌ في الكوفة تبغض أهل البيت (علیهم السلام) وتعاديهم وتتبنّى محاربتهم، وهي فئة قليلة نسبةً لبقيّة الفئات إلاّ أ اّهن كانت قويّة ومؤثّرة لمساندة الدولة لها ماديّاً ومعنويّاً.

فالنتيجة:أنّ عامّة شرائح الكوفة مع الإمام الحسين لو خُلّيت ونفسها، ورُفِعت

ص: 365

عنها الضغوط.

خامساً: ان أهل الكوفة - نسبةً إلى باقي أهل المدن الإسلامية الأُخرى - يتمتعون بوعي فكري وسياسي عالي يؤهلهم أكثر من غيرهم للاعتماد عليهم في مثل هذه المهمات والظروف.

سادساً: إن أهل الكوفة أعلنوا خلال سنوات طويلة استعدادهم لمقارعة السلطة الاُموية ومنازلتها بقيادة أهل البيت (علیهم السلام) بل إن قسماً كبيراً منهم لم يكونوا راضين عن التحكيم بين الإمام (علیه السلام) ومعاوية وأحدثوا فتناً وفوضى ومجازر لرفضهم هذا، وقسم مهم آخر لم يكونوا راضين أصلاً عن صلح الإمام الحسن (علیه السلام) مع معاوية مع تشيعهم وولائهم للأئمة (علیهم السلام) وهذا التصميم منهم استمرّ لسنوات طويلة مع ما عرفوه وقاسوه خلال تلك السنوات من بطش آل أُمية، وكلّ هذا يدل على صلادة في الموقف، يُقطع معها بصدق نياتهم، وصحة الاعتماد عليهم.

هذه العوامل مجتمعة وغيرها تجعل من الاعتماد على أهل الكوفة في النهضة ضد دولة آل اُمية أمراً منطقياً جداً وراجحاً، كما أن طواعيتهم مع هذه النهضة لابد أن تكون بنسبة عالية للوجوه المارّة الذكر، وهذا يؤدي أيضاً إلى صحّة رسم خطة العمل معهم بناءاً على مقتضيات ما مر.

ومع ملاحظة كل ما تقدم نضيف: ان آلاف الرسائل وصلت إلى الإمام (علیه السلام) معبّرة عن تضامن أهل الكوفة معه واستنصارهم به ومعاهدتهم إيّاه على النصرة والثبات، والرسل الكُثر الذين حضروا إلى مكّة حيث الإمام (علیه السلام) كانوا من شخصيات أهل الكوفةومن الواعين وقد اكدوا للإمام (علیه السلام) عزمهم، وصدق الناس في نياتهم، وعزموا عليه الحضور، وبدء النهضة، كل هذا والدولة قائمة وقوية.

ثم جاء مسلم إلى الكوفة فاقبلت الناس عليه من ارجائها لمعاهدته ومبايعته، فأي

ص: 366

تشخيص لأوضاع الكوفة - مع ملاحظة كل ما قدمناه - أصحّ من تشخيص مسلم وتقييمه لأوضاعها، ومن الأكيد أن يكتب للإمام (علیه السلام) والحال هذا بالقدوم سريعاً لقيادةثورة أهلها على السلطة القائمة.

رئيس واحد من شيوخ عشائر الكوفة مع أفراد عشيرته كافٍ لإنجاح الضربةالاُولى ضد الدولة واحتلال الكوفة وترتيب الأوضاع للمنازلة الكبرى مع العُصبةالأمويّة الفاجرة وهانئ رضوان الله تعالى عليه مع عشيرته المطاوعة كان كافياً جداً في هذا المجال كما كان متضامناً مع مسلم ومخلصاً له.

المسألة لم تنبع من سوء تشخيص مسلم (علیه السلام) بل من جوانب أُخرى من الأهمية بمكان:

1- ان ضربات الدولة المتجبرة لأهل الكوفة خلال سنين كثيرة احدثت فيهم غضباً وحقداً هائلاً، وكذلك أودعت في نفوسهم رعباً منها ووهناً من مواجهتها، وقناعة لاستحالة قلعها من جذورها وإنهاء وجودها، ولذلك فبمجرّد أن نشر ابن زياد جواسيسه وأزلامه وقام هؤلاء ببثّ أكذوبة أن جيوش الشام في طريقها إلى الكوفة، فأن التخاذل بدأ يدب فيهم وروح الاستسلام تتغلغل في جوانحهم حتى استولت عليهم.

2- إن بمقتضى النظام العشائري الجاري في بلاد العرب فإن أكثر الناس تتّبع شيخ العشيرة وتحترم كلمته وتطيع أمره، وكثير من هؤلاء الرؤساء يتخذون قرارهم تبعاً لمصلحة الساعة وما يقتضيه الوضع الفعلي، دون أن يحسب لأوامر الدين حساباً، ودون أن يجعل قوانين الإسلام مرجعه في المهمات والملمات، فهؤلاء يستطيعون بسهولة تامة تغيير مجرى الأحداث وجهة اطاعة اتباعهم، وقد قام جمع منهم بالمشاركة في تثبيط الناس عن الإمام من جهة، وفي الدعوة إلى الخضوع لأوامر السلطان وللسير طبق رغباته لاستدرار عطاياه وللنجاة من سطوته وبهذا فقد وطّدوا الأركان كي يُنجز ابن

ص: 367

زياد جريمته.

3- ان ابن زياد قام بحركات عدّة - تنبع من دهائه وتجربته في الحكم - لتفتيت جمع الناس وتشتيت تكتلهم، بالتهديد بجيش الشام، وبقطع أرزاقهم، أو تهديد شيوخ العشائر والعرفاء وغيرهم لإحداث الأثر المطلوب.

فالوهن إذن ليس في سوء تشخيص مسلم (علیه السلام) وإنما لطبيعة الجبن والتقلب السريع وتقديم حب الدنيا على الآخرة وتقديم أسباب الراحة على التضحية والفداء، المودعة في نفسية أهل الكوفة والتي أدت إلى هذا الانقلاب الهائل في موقفهم وانهزامهم من غير أن يقابلوا جيشاً.

ولعل إدخال مسلم لأهل الكوفة في معركة مع قوات الدولة لأجل أن تتعززنفوسهم بالنصر، وينقطع عليهم خط الرجعة، ويكون أرجى في ثباتهم إلى حين وصول الإمام واستلامه دفّة الامور، ولكلّ هذا ما يبرره ظاهراً.

إلاّ أنّه رضوان الله تعالى عليه ما كان له أن يتخذ هذا القرار بدواً، لأنه لم يجدداعياً لذلك، ولم يُؤمر به-بحسب ما بلغنا- وكانت الأُمور تجري بشكل جيد، منتظراًلقدوم الإمام (علیه السلام) عليه، فيتخذ الإمام (علیه السلام) حينها الموقف المناسب، إلاّ أنّ الأحداث تسارعت، وتطلّبت منه اتخاذ إجراءٍ سريعٍ لتدارك الموقف، وهكذا تسلسلت الأحداث إلى ما بلغته.

وأما تطير مسلم رضوان الله تعالى عليه وما كتبه للإمام (علیه السلام) وجواب الإمام (علیه السلام)له فقد جزم الشيخ القرشي (1)بأنّ هذه القضية بتفاصيلها من الموضوعات ومن جملةالدسائس التاريخية لتشوية أحد أبطال القضية الحسينية وأنّى لمسلم هذا والواجب الشرعي يقتضي ما يأمره به الإمام (علیه السلام) ووضع الشيعة وأهل البيت قد بلغ الزُبى منذ .

ص: 368


1- حياة الحسين(علیه السلام)، القرشي، ﺟ 2 ص 343 .

قرابة العشرين عاماً، فلابُدّ من تضحيةٍ لإرجاع الأُمور إلى مجاريها، والحق إلى أهله.

وأما امتناع مسلم رضوان الله تعالى عليه عن قتل ابن زياد اَملّ جاء عائِداً لشريك في دار هانئ فقد تعرضنا له بشكل مفصّل في كتابنا - مسلم بن عقيل (1)- ووجهه:

أ- ما ذكره مسلم من امتناعه عن الاغتيال، وذلك لِنَصٍّ عن النبي الأكرم: «الإيمان قيد الفتك». (2)

ب- وفي نقل البعض ان هانئاً منعه من القتل.

ﺟ- وفي نقل آخر ان امرأة هانئ قد منعته من القتل (3).

والسر في موقف هانئ أو امرأته هو أنّ إهانة الضيف وطرده، أو فعل أمر من هذا القبيل معه - خصوصاً من قِبَلِ هانئ شيخ العشيرة، والذي ينبغي أن يكون مضيافاً كريماً مَلجئاً للناس، ومحطّاً لأمنِهِم - يكون سبباً لإدخال العار بين العرب على من اهانه، ومدعاة لمنقصته ومهانته ومذلته بين الناس، فكيف وقد قتل ضيفه، ومن دخل داره، وجلس على بساطه، وشرب وأكل من طعامه وشرابه، وارتاح إلى أمنه فإن في هذا أعظم العار عليه بين العرب.

كما أن قتل ابن زياد في دار هانئ شيخ العشيرة سبب لإبادة الدولة لهذه العشيرة وسبب لتحريش أتباع ابن زياد على هذه القبيلة فيستفحل فيها القتل، ثم أن ابن زياد على كل حال قد أحس بدقة الوضع وتخوف فخرج سريعاً.

على أن الشيخ المفيد في الإرشاد، والسيد ابن طاووس في الملهوف لم يذكرا حضورابن زياد في دار هانئ مع أهمية القضيّة إذ لابُدّ لهما من ذكرها، وهذا ما يُثير الشك في .

ص: 369


1- راجع كتابنا «مسلم بن عقيل» ص.
2- نقلتها مصادر عدة، راجع كتابنا «مسلم بن عقيل» ص.
3- مسلم، للمقرّم، ص 94 .

أصل حصولها.

ومن المفيد جداً الاطلاع على ما أفاده الشيخ القرشي (1)توجيهاً لعدم إقدام مسلم على قتل ابن زياد في دار هانئ بن عروة.

ونزيد عليه بأن الرواية: «الإيمان قيد الفتك»

تعني أن المؤمن مرتبط بإيمانه ما دام لم يصدر منه فتك، فإذا فتك انحل قيد ارتباطه بإيمانه، وهذا البيان يُفيد حرمة الفتك، بل كونه من كبائر الذنوب والتي تستوجب نار الآخرة والعذاب العظيم.

والفتك ليس نفس معنى الاغتيال بالتمام - كما ذكر هذا البعض -، بل الفتك اغتيال وزيادة، والزيادة هي كون الشخص المراد قتله في أجواء تأمين بما يعني استلزام قتله لصدق عنوان الغدر على العملية، فتحرم.

إن البعض قد لا يستوعب وجه ترك الفتك بابن زياد وامثاله، ووجود مساحة في التشريع لمثل هكذا حكم، بعد أن أَلِفَ كثير من أفراد النوع الإنساني ارتكاب ما يُريد، بالتوسل بايّة وسيلةٍ تكوينيةٍ أوتشريعيةٍ لتحقيق ما يصبو إليه، وإن وجد بينه وبين ما يصبوا إليه ألف مانعٍ ومانع.

إذ ان نهج التبرير، والغاية تبرّر الوسيلة، وتحقيق المُراد وان كان بيننا وبينه مانع، فضلاً عن حالة توفّر الموانع الكُثر، هو سلوك منبوذ في الإسلام، وفي منهج الحركةالحسينية بالتالي.

ولا نعدم الشواهد المتعددّة على ان أهل البيت (علیهم السلام) كانوا يسيرون سيرة مبدئيّةليس لها نظير في تأريخ الدنيا، ولا يُقعدهم عن مبدئيتهم رغبة لهم أو أمنية، كائنةً ما .

ص: 370


1- حياة الحسين(علیه السلام)، للقرشي، ﺟ 2 ص 365 .

كانت، ما دامت غير مطلوبة من الله تبارك وتقدّس، فعن الإمام الصادق(علیه السلام): «اتقوا الله وعليكم بأداء الامانة إلى من ائتمنكم فلو أنّ قاتل علي ائتمنني على أمانة لأدّيتها إليه». (1)

وعن الصادق(علیه السلام): «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك وأراد منك النصيحة ولو إلى قاتل الحسين(علیه السلام)». (2)

وعن مولانا الإمام زين العابدين(علیه السلام): «عليكم بأداء الأمانة، فوالذي بعث محمداً بالحقّ نبيّاً لو أنّ قاتل أبي الحسين (علیه السلام) ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته إليه». (3)

وهذا سيد الشهداء (علیه السلام) يخرج من مكة كيلا تُنتهك به حرمة الحرم.

ومسلم على هذا النهج إذ ترك قتل ابن زياد فتكاً لقيام الحجة على عدم جواز اتخاذ الفتك سبيلاً.

وأمّا إعلان مسلم رضوان الله تعالى عليه للثورة وَ َّملا يحضر الإمام (علیه السلام) فَلِدِقَّةِ الوضع وصرامته، وللقبض على هانئ، وللخوف من فشل القضية والحركة بكل كيانها، وللابُديّة المحافظة على الموجود لحين مقدم الإمام(علیه السلام)، والرغبة في السيطرة على الموقف، فقد صدر عن مسلمٍ هذا الإعلان.

وقد نجح مسلم في هذا نجاحاً هائلاً وسيطر على الموقف وتعززت نفوس مقاتليه، ولكن...

إن الله ورسوله أرادا للأمة الحياة الأسعد الأطهر، غير انّ حب الدنيا، وبغض الوصي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) غلب على نفوس جمع فحالوا بين الوصيّ والخلافة. .

ص: 371


1- وسائل الشيعة، ﺟ 19 ص 72 ح 2.
2- وسائل الشيعة، ﺟ 19 ص 73 ح 4.
3- وسائل الشيعة، ﺟ 19 ص 76 ح 13 .

فالاُمة تخاذلت عن نصرة الوصي، فحرمت نفسها من استدرار البركات الإلهية.

لكن الاُمة انتفضت ورجعت إلى أحلامها حينما نكّل عثمان بها وأذلها ومنعها عطائها وفضل أقاربه عليها فقُتل، ومالت الاُمة إلى الوصي من جديد فبايعته وأكدت رغبتها فيه.

فقام الوصي بالأمر ونهج بهم نهج الكتاب والسنّة لكن الأُمّة أصابها الملل من مقارعةالفتن وغلب عليها حب الراحة فخذلت الوصي وولده المجتبى حتى لم يبقَ من يقاتل بأمرالإمام المجتبى الا نزر لا يقوم بهم قتال فترك الإمام الخلافة.

اغتصبها معاوية وفعل بالاُمة الأفاعيل مما حَدَّثَ به التاريخ وهي من أكثر الصفحات قتامةً وخزياً في تاريخ الإسلام فنشطت الاُمة من جديد فوجدت الإمام سيد الشهداء مستعدا لقيادتها وانتشال الإسلام وبلاده واهله، فمشت الأمة مع الحسين (علیه السلام) خطوة، لكنها خذلته -كعادتها- حُباً بالراحة والسلامة فوقعت الجريمة الأعظم في الدنيا، وهذه هي المرة الثالثةالتي تخاذلت الأُمة عن الأوصياء من أصحاب الكساء وحرمت نفسها من العيش في كنف أهل البيت والكِتاب والسنّة بعد ما ذاقت فترتين من فترات المحنة والاضطهاد، فمن حينها لم يأذن الله سبحانه بالفرج ولأوليائه بالخروج والنهضة إلى ما شاء تبارك وتعالى.

حتى ترى الاُمة مَنْ خذلت، وعمن تكاسلت وتقاعست، ولقتال من تركت، وبمن ابتليت.

لابُدّ للاُمة من عقوبة، ولابُدّ للأثر الوضعي أن يأخذ أثره ويكون ما ذكرته الزهراء لأهل المدينة:

فأبشروا بسيفٍ صارم، وسطوة معتدٍ غاشم، واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيدا، ً وعيشكم حصيداً.

نعم خروج الإمام المهديّ (علیه السلام) ورفع العقوبة عن الأُمة منوط برجوع الأُمة إلى ربها،

ص: 372

ولبسها لأكفانها، وقطع ارتباطها بالراحة والكسل والتواكل وحب الدنيا وإيثار الحياة على الموت، وهذا إلى حد الآن لم يحصل بالمستوى المطلوب، فالبلاء مستمر.

نسأل المولى سبحانه أن يحمينا بحصنه -الحسين (علیه السلام) - ويعفو عن جرائمنا بحق أنفسنا وبحق قادتنا الربانيين وبحق ديننا.

نسأل الله سبحانه أن يعفو عن تقصيرنا بحقوقه علينا، ونعمه الكُثر عندنا، وإنّها لَفِتَنْ تذر الحليم حيراناً، وهكذا أوعدنا.

ص: 373

ص: 374

المرأة في كربلاء

اشارة

حالما يتحدّث المرء عن هذا الجانب من المسيرة الحسينيّة، فَأَوّلُ ما يحضر في الذهن مواقف وخُطب وجهاد عقيلة بني هاشم.

بنت علي وفاطمة(علیهما السلام).

وأخت الحسن والحسين والعباس(علیهم السلام):

زينب(علیها السلام)

إمرأةٌ أحاطَها الله سبحانه - بعنايته وكرمه - بابطال البشرية وسادتها، ومن هم الأقرب إليه سبحانه من بين جميع خلقه على الاطلاق، فنهلت- سلام الله عليها- من هذه المناهل، وسخّرت ما اكتسبته من تربية علي وفاطمة (علیهما السلام) في خدمة الحسين (علیه السلام) ونهضته وأهدافه، وما زالت اصداء خطبها تدوّي في اصول آذاننا، ولا زلنا نتفيأ -نحن واولادنا ومن ل ه عُلقةٌ بنا- في ظلال بركات تلك الجهود وتلك الصرخات المدويّة في قصور الظالمين والجبابرة.

تتحدّث كتب التاريخ والسيرة عن مواقف لها قليلة قبل يوم عاشوراء، وأخرى أكثر منها في أثنائه، غير أنّ جُلّ المنقول عنها واهمّه هو ما صدر عنها بعد استشهاد الإمام(علیه السلام).

تحمّلت السيّدة زينب(علیها السلام) العبء الرئيسي من بعد استشهاد الإمام السبط (علیه السلام) في جمعِ شَمْلِ عائلة الإمام (علیه السلام) وفي حمايتهم من سطوات الظالمين، وفي القيام بالجزء الثاني من المسيرة الحسينية المظفّرة.

ص: 375

ومن المنقول عنها في تلك المسيرة خُطبتاها العظيمتان، الأُولى في الكوفة، والثانيةفي القصر الملكي في دمشق.

أمّا التي ألقتها في الكوفة:

«الحمدلله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار:

أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر أتبكون، فلا رقأت الدمعة ولاهدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف، وملق الإماء وغمز الأعداء أو كمرعى على دمنة، أو كفضة على ملحودة ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون أتبكون وتنتحبون إي والله فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا، فلقد ذهبتم بعارها وشنآنها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم الانبياء، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجتكم، ومدره سنتكم ألا ساء ما تزرون، وبعدا لكم وسحقا فلقد خاب السعي وتبت الايدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.

ويلكم يا أهل الكوفة أي كبد لرسول الله فريتم، وأي كريمة له أبرزتم وأي دم له سفكتم، وأي حرمة له انتهكتم، لقد جئتم بهم صلعاء عنقاء سواء فقماء «وفي بعضها:

خرقاء شوهاء» كطلاع الأرض، وملاء السماء، أفعجبتم أن قطرت السماء دما، ولعذاب الآخرة أخزى، وأنتم لا تنصرون، فلا يستخفنكم المهل فانه لا تحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثأر، وإن ربكم لبا المرصاد». (1)

وهذه التي ألقتها في دمشق:

«الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله كذلك يقول: .

ص: 376


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ﺟ 45 ص 108 .

«ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ» (1)

أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الاسارى أن بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة وأن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسرورا، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والامور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، مهلا مهلا أنسيت قول الله تعالى:

«وَلاَ یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ کَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِی لَهُمْ خَیْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِی لَهُمْ لِیَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِینٌ» أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدو بهنّ الاعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من رجالهن ولي، ولامن حماتهن حمي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الازكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء وكيف يُستبطئ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والاحن والاضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:

وأهلّوا واستهلّوا فرحاً *** ثُمّ قالوا: يا يزيد لا تُشل

منتحيا على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة، تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة، باراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه وآله ونجوم الارض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردن وشيكا موردهم، ولتودن أنك شللت وبكمت، ولم يكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت اللهم خذ بحقنا، وانتقم من ظالمنا، وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا فوالله مافريت إلا جلدك، ولاجززت إلا لحمك، ولتردن على رسول الله بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم ويلم .

ص: 377


1- سورة الروم، الاية 10 .

شعثهم، ويأخذ بحقهم، ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون، حسبك بالله حاكما، وبمحمد خصيما وبجبرئيل ظهيرا، وسيعلم من سوى لك ومكنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلا، وأيكم شر مكانا وأضعف جندا ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك إني لاستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك واستكبر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا والافواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفوها امهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنما لتجدنا وشيكا مغرما، حين لاتجد إلا ما قدمت وما ربك بظلام للعبيد، فالى الله المشتكى، وعليه المعول، فكد كيدك واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم يناد المناد ألا لعنة الله على الظالمين، فالحمد لله الذي ختم لاولنا بالسعادة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل». (1)

لقد طُرح - بتأكيد- التساؤل حول وجه اصطحاب الإمام الحسين (علیه السلام) لمجموعةمن العوائل معه.

ذلك أنّه (علیه السلام) لم يكتفِ باصطحاب عائلته الخاصّة به فقط، إذ عيال المرء: زوجاته واولاده ومن يتصل بهم من أحفادٍ وزوجات أبناء ونحو هؤلاء.

بل نجد معه: زينب عقيلة بني هاشم(علیها السلام) وابناها- ولا يحسبوا من عائلةالإمام (علیه السلام) بالمعنى الأخص المعروف المتقدم ذكره بل بمعنى أعمّ قليلاً وأشمل-.

و أيضاً: جمعٌ من آل الإمام الحسن(علیه السلام)، وآل جعفر، وآل عقيل، فهناك إذن في الجمع .

ص: 378


1- بحار الانوار، ﺟ 45 ص 133 .

نساء تتعلق بهم، بالاضافة إلى من تتعلّق بصحبه المرافقين له.

وعلى كُلّ: فانّ هذا الجانب - أي تحديد من حضر مع الإمام (علیه السلام) من النساء والصبية- أمرٌ غير مستقصىً في كتب السيرة والتأريخ بشكلٍ يتّضح به المقام جلياً.

ونؤكِّد: ان مسألة أخذ الإمام (علیه السلام) نساءً وصبيةً معه، مما كَثُر طرحها، كما ذُكِرَت بشانها مجموعةٌ من الأجوبة.

ولنا في هذا المجال جواب نسرده كالتالي:

إنّ المعروف والواضح من سياسة بني أميّة، وطريقة حكمهم للعالم الإسلامي -كطريقة أخذهم لأصل الحكم - أ مّهن لا يأبهون لضوابط وموازين دينٍ أو عُرفٍ، كما لا يترشّح عنهم من السلوك ما هو مقتضى الخصال والصفات النبيلة.

فكلما أحوجهم شيء أخذوا به.

وكلّما يتوقف عليه غَلَبَتهُمُ فعلوه دون ايّ وازع من عقل أو دينٍ أو ضمير يحدّد لهم ما يصح الاخذ به وما لايصح، وما يلزم الاستحياء من فعله وما ليس كذلك.

ومن جملة ما صدر عنهم، تعرّضهم للنساء و الأطفال، للفتّ في عزائم الرجال، ولإرباك تحركاتهم، ولتحطيم معنوياتهم.

منه: ما صدر عن جيوش معاوية - أيّام حكم أمير المؤمنين (علیه السلام) للعالم الإسلامي-من الإغارة على أطراف دولته قتلاً وسلباً، فلا ينجو من شرّها أحد، بما فيهم المرأةالمسلمة والمعاهدة.

في نهج البلاغة، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصف أفعال جيش معاوية:

«ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخُلُ على المرأة المسلمة، والاُخرى المُعاهَدَة، فينتزع حِجلها، وقُلْبها، وقلائدها، ورُعثها، ما تمتنع منه الاّ بالاسترجاع

ص: 379

والاسترحام.. فلو أنّ امرءاً مُسلماً مات من بعد هذا أسفاً، ما كان به ملوماً، بل كان به عِندي جديراً». (1)

ومن مآثر معاوية - مخازيه- الجيش الذي ارسله بقيادة بُسر بن ارطأة من الشام إلى اليمن - وكانت اغلب هذه المناطق تحت حكم أمير المؤمنين (علیه السلام) - ففعل بُسر الافاعيل بالناس حتى وصل إلى اليمن فقتل وسلب وذبح الاطفال وباع نساء المسلمين في أسواق اليمن، وكانوا يكشفون عن سيقان النساء في الاسواق فيتم تقدير اسعارهن على هذا الأساس (2).

وهذا عمرو بن الحمق الخزاعي، الصحابي الجليل، والعابد الزاهد، طلبه معاوية للتنكيل به لأنّه كان مِن نُخبةِ شيعة علي بن أبي طالب (علیه السلام) ومحبّيه وأهل ولاءه فامتنع منه واختفى في بعض كهوف الموصل، فما كان من معاوية إلاّ أن أمر باعتقال زوجته وارسالها إليه في الشام، فلّما بلغت الشام أودعها السجن، فلبثت فيه حتى تمكنت جيوش معاوية من زوجها فقطعوا رأسه وارسلوه إلى معاوية، فأمر بالقائه اليها في سجنها، فَرُمِيَ به اليها، فِعْلَ الأراذل الجبناء.

هذه سياسة معاوية وافعاله قبل تولّيه للخلافة وبعدها، ودَعْ عَنْكَ عشرين عاماً سامَ خلالها الأمة الإسلامية كُلّ ما تفتّقت عنه عَقْليّتُهُ الجاهلية والشيطانية من ذُلّ وإهانة وتحقير وقتل وسملٍ للأعين وهدم للدور وما لا صُحيى من ألوان الإجرام، ولم تشفع للامة الإسلامية خُؤولة معاوية لهم، ولا كتابته للوحي !!!ا.

ص: 380


1- نهج البلاغة، الخطبة 27 ، والمعاهدة:المراة الكتابية التي لها معاهدة ومعاقدة مع وليّ المسلمين تصون لها دمها وعرضها ومالها إن عاشت في بلد المسلمين وفق شروطٍ عدّة، والحجل: الخلخال، والقُلَب: جمع قَلْب وهو السوار، والرُعُث جمع رعاث وهو ضِربٌ من الخرز، راجع: نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص 59 .
2- راجع:الغدير، الأميني، ﺟ 11 ص 31 وما بعدها.

نعم تستذكر الأمة جيداً انّ النبی (صلی الله علیه و آله) قال لهم: «إذ ارأيتم معاوية على منبري هذا فاقتلوه» أو: «فابقروا بطنه»

وما فَعَلَتْ.

بل تراخت عنه، فذاقت عاقبة إهمالها وتقاعسها وَحُبِّها للراحة ولرخيّ الحال.

فإذن:كان التعرّض للنساء والاطفال من السياسة الثابتة للدولة الأموية، وذلك لاستغلال ضعف هذين الصنفين كثغرة للضغطِ من خلالها على الرجال، أوعلى اولي الأمر من قادة الأمة الإسلامية الحقيقيين، أو للضغط على كل جهة معارضة للفئة الحاكمة.

ومعلوم: أن الباعث لهذه السياسة، هو استغلال نُقْطَةِ ضَعْفٍ في كلّ امرى مهما كانت ديانته وخِصالُه، من المحافظة على عرضه وصيانته والدفاع عنه بكل غالٍ ونفيس، حتى قد يدفع المرء حياته ثمناً في سبيل هذه المحافظة والصيانة والذود عن العرض.

وقُل في جانب المحافظة على الصِبْيَةِ كذلك، فترى كل إنسان يسعى للمحافظة على صغيره، وتلبية مطاليبه، ودفع المكاره عنه، ويتحمّل مُرّ متاعب الحياة ومشاقّها لتحقيق هذه الاغراض.

وكل ما تقدم مقتضى الإنسانية وفطرتها، كما أن الدين الإسلامي الحنيف أكّد عليها وعضدها وأمر بها تشييداً لحكم الفطرة وتكميلاً لإنسانية الإنسان، إلاّ أنه - شأنه في جميع جوانب الحياة- هذّبها واعطاها موقعها الصحيح.

وقد استمر نهج معاوية - الخياني للإسلام والأُمّة - طيلة عهده، بل بقي إلى آخر عهد بني امية نهجاً ثابتاً للطواغيت وللمتمردين على احكام الإسلام والفطرة معاً.

فهذا عصر يزيد مليء بالمصاديق المفجعة لهذه السياسة، وكذا فترة من جاء بعده،

ص: 381

ومن جملتهم الحجاج والذي وُجِدَ في سجنه بعد موته آلاف النساء.

عَهدُ يزيد:

عُرف يزيد في حياة أبيه بأنه قرين لهوٍ وسفاسفٍ وفجور، فلم تُعرَف عنه خصلةٌكريمة، ولا حياة هادفة، ولا التزام ديني، وقد اعترضت جميع اطراف الأمة على توليةمعاوية له لفقدانه كلّ مؤهل.

بل الصحيح: إن توليته كانت اهانة كُبرى للأمة الإسلامية جمعاء إذ كان عنوان الكرسي الأول في السلطة يومذاك هو:

الخلافة عن الله ورسوله في الارض.

ومع وضوح قداسة هذا العنوان ومصيرية هذا المنصب للإسلام ولمقدساته وللامة، فان الأمة لم تُعط رأيها لأحدٍ أبداً كمستحق لهذا المنصب باستثناء أشخاص ثلاثة:

الأول: علي بن أبي طالب - صلوات الله عليه وسلامه-.

والثاني: الحسن بن علي بن أبي طالب - عليه الصلاة والسلام -.

والثالث: الحسين بن علي بن أبي طالب - عليه الصلاة والسلام -.

مع ان الجهة التي بايعتهم لم تكن منحصرة بشيعتهم أو أهل الولاء لهم أبداً، بل كانت شرائح مختلفة، وتوجّهات متعدّدة، وعقائد وسلوكيات متضادّة، ومع ذلك اتفقت كلمتها على تقديمهم لهذا المنصب عن طواعيةٍ ورغبةٍ وتسليمٍ وشوقٍ لم يُعْهَد مثله لأحد من أول تأريخ الإسلام إلى اليوم.

وأمّا أول الخلفاء - أبو بكر- فقد عقد البيعة له أفرادٌ، هم عُمَر وابو عبيدة وآخرون، ثم بايعه الأوس بغضاً لسعد بن عبادة سيد الخزرج ان يتناولها، وَخُبِطَ الناس بعدها خبطاً بالسيوف لإتمامها، والتاريخ الذي سجله الجمهور شاهد على هذا.

ص: 382

وامّا عمر فقد عيّنه أبو بكر تعييناً.

وعثمان: نال الامر عن طريق عمر، إذ جعل عمر الخلافة ضمن ستة وجعل أمرتعيين الخليفة بيدهم ومن بينهم، فسُلبت الأمة حقها - على رأي غير الإمامية في الأقلّ - في تعيين حاكمها ومتو أمرها، ثم رتب عمر الأمر بحيث جعله يصل بشكل قطعي إلى عثمان، إذ قال: إذا اتفق خمسة واعترضهم واحد فيُقتل هذا المعترض، واذا اتفق اربعة مقابل اثنين فيُقتل الاثنين.

واذا اتفق ثلاثة وثلاثة فيؤخذ برأي الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف - وهو صهر عثمان فسيميل إليه قطعاً - واذا لم يتفقوا إلى مدى ثلاثة ايام فيُقتل الستةبأجمعهم (1).

ومن التأمل في قانون الانتخاب الذي سنّه عمر يظهر أنّه كان يخطّط لحرمان علي أمير المؤمنين (علیه السلام) من الخلافة التي بايعه عليها مائة ألف أو أكثر من الصحابة يوم الغدير العظيم، بل انّه كان يسعى لقتله، ذلك أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) كان سيخالفهم على أيّة حال، وهذا هو الذي حصل واقعاً، كما أن مَيل طلحة إلى الأمير ليس بأكيد إذ أنّه تيميّ، وَالعَصَبيّة القبليّة والعائِليّة موجودة في تلك الفترة بقوّة، فمن شبه الأكيد وصول الحالة إلى ما به قتل الإمام (علیه السلام) غير أن الامور جرت على كل حال لما كان يخطّط له عمر-في الجملة- واعتلى عثمان الاموي مقام رسول الله(صلی الله علیه و آله).

هكذا بلغ الخلفاء الثلاثة سَدَّةَ الحكم، ومقام النبي الأطهر، ومنصب الحاكميةً.

ص: 383


1- تأمّل جيداً في أمره بقتل المخالف للأكثرية في هذه الشورى، وهل لهذا مثيل في الإسلام أو في امم الارض كلها، مع أن هؤلاء كانوا نخبة الأمة في تلك الفترة بتظر عمر، وفي نظرنا - الإمامية - ان نخبة الأمة هو علي بن أبي طالب وصي النبي وخليفة الله ورسوله في الارض والمعصوم بحكم الكتاب والسنّة ومن إذا خالفه أحد - كائناً من كان - فهو مستحق للنار قطعاً.

والولاية العظمى للامة، واما معاوية فقد فعل كل رذيلة وجريمة وأشعل بلاد المسلمين بالفتن لغرض نيل الزعامة والترؤس والاستيلاء على مقاليد الامور، فهو الذي قدح زِناد فتنة عائشة وطلحة والزبير-الناكثين- أملاً في التخلُّص من جميع الأطراف أو في بلوغها مرتبةً من الضعف بحيث يستولي على الأمر بسهولة إذ لا أمل له في الحصول على شيء مع وجود هذه الاطراف وقوّتها.

وهو رأس القاسطين.

وسبب فتنة المارقين-الخوارج-.

بل هو فرعون هذه الأمة كما ورد في النصوص (1).

وهذه كتب المسلمين قاطبةً تنقل كيف تو يزيد الأمر من بعد أبيه، إذ انّ: بذل الأموال نِملَْ يُشترى.

والتهديد بالقتل نِملَْ يأبى.

والغِشُّ لعامّة الأُمّة.

هي وسائل معاوية لرفع يزيد على منبر النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله).

والامر من بعد يزيد إلى يومنا هذا معلوم تقريباً.

فالعامل الوراثي.

والحروب والفتن.

ثم التآمر مع اعداء الإسلام في العصر الحديث.

والانقلابات العسكرية. .

ص: 384


1- نقلها في البحار في أماكن عدّة منه عن مصادر عدّة فراجع مثالً: البحار، ﺟ 31 ص 274 وص 438 ، وﺟ 33 ص 170 وص 171 .

هي الطريق إلى الزعامة.

فأين من أتى عن طريق اختيار الأمة واستشارتها استشارة حقيقية، أو أيّ طريق آخر هذا القبيل.

نعم علي بن أبي طالب وولداه (علیهم السلام) فقط اختارتهم الأمة حين تمكّنت ان تعبر رأيها، وحين استطاعت ان تَفْتَحَ فاها.

إذ بعد مقتل عثمان توجّهت الأمة إلى صاحب بيعة الغدير علي (علیه السلام) وعزمت عليه قبول بيعتها والتصدي لولاية أمرها، وهذا علي (علیه السلام) يصف تلك الايام، وذلك التوجه الجماهيري السابق الذي لم يُعهد له مثيل:

«وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثمّ تداككتم عَ تَداكَّ الإبل الهيم على حياضها يَوْمَ وِردها، حتّى انقطعت النعل وَسَقَطَ الرداء، ووُطيء الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي ان ابتهج بها الصغير، وَهَدَج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وَحَ تَرسَْ إليها الكعاب». (1)

وعنه(علیه السلام): «أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قُحافة، وإنّه ليعلم أنّ مح منها لَحمَّ القطب مِنَ الرَّحى، ينحدِرُ عنّي السيل، ولا يرقى إليّ الطير، فسدلتُ دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وَطَفِقْتُ أرتئي بينَ أن أصول بيد جّذّاءَ، أو أصبر على طخيَةٍ عمياءَ، يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه، فرأيتُ أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العينِ قَذىً، وفي الحلقِ شجاً، أرى تُراثي نهباً.

حتّى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى عمر من بعده، فياعجباً بينا هو يستقيلُها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لَشَدَّ ما تشطّرا ضرعيها - ثم تمثّل بِقَوْلِ الأعشى: .

ص: 385


1- نهج البلاغة، الخطبة 229 .

شتّان ما يومي علی كورها

ويوم حيّان أخي جابر

فصيّرها في حوزةِ خشناء، يخشُنُ مَسُّها، ويغلُظ كلمها، ويكثر فيها العثار، ويقلّ منها الاعتذار، فَصاحِبها كَراكِبِ الصعبةِ، ان أشنقَ لها خَرم، وإن أسلس لها تقحّم، فَمُني الناس لَعَمر الله بخبطٍ وشِماس، وتلوُّن واعتراض، فصبرت على طول المُدّة، وشِدّةالمحنة.

إلى أن حضرته الوفاة، فجعلها شورى في جماعة زعم أ أحدهم، فيالله وللشورى، متى اعترض الريبُ فيّ معَ الأوّلِ منهم حتّى تِرصُْ الآن أُقرن إلى هذه النظائر، لكنّي أسففتُ إذ أسفّوا، وَطِرتُ إذ طاروا، فصبرت على طول المحنة، وانقضاء المُدّة، فمالَ رجلٌ منهم لِضِغْْنِه، وصغى الآخر لصهره، مع هَنٍ وَهَن، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حِضنيه بَ نَثيله وَمُعتلفه، وقام معه بنو أبيه، يخضمون مال الله تعالى خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله وَكَبَتْ به بطنته وأجهز عليه عمله.

فما راعني إلاّ والناس رُسُلٌ إليَّ كعُرفِ الضَبْع ينثالون عليّ مِن كُلّ جانب، حَتّى لقد وُطِئَ الحسنان، وشُقّ عِطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلّما نهضتُ بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أُخرى، وقسط آخرون، كأ مّهن لم يسمعوا الله سبحانه وتعالى يقول: «تِلْکَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِینَ لَا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ».

بل والله لقد سمعوها ووعوها، ولكن حَلِيت الدُنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها.

أما والذي فَلَقَ الحبّة وبرأ النَسَمَة، لو لا حضور الحاضر ولزوم الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على أولياء الأمر أن لا يُقرّوا على كِظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم عندي أزهد من عفطة عنز...». (1)ر.

ص: 386


1- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ﺟ 1 ص 451 ، وهي الخطبة الشقشقيّة الشهيرة، وقد رواها السيدالرضي في نهج البلاغة، الخطبة الثالثة، وبين الكتابين اختلاف يسير.

ومحلّ الشاهد من الرواية غير خفيّ، وهو الذي في ثلثها الأخير، وقد نقلنا هذه الرواية الشريفة بطولها لتفصيلها ما نُريد قوله.

فهذا ما كان من أمرِ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلامه.

وأمّا ولده الإمام الحسن (علیه السلام) فقد نصّت كتب التواريخ والسيرة:

ان ابن عباس عرض أمر الخلافة على الأُمّة بعد استشهاد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) فرغب الناس في خلافة السبط واعلنوا رضاهم بها، فخرج لهم الإمام المجتبى (علیه السلام) وتمّت مبايعتهم له(علیه السلام)، ثم انّ معاوية اتعبهم بمؤامراته ومذابحه في الاطراف، فجبنوا وتكاسلوا وتقاعسوا عن مواجهته، فرأى الإمام أن حكم الله في تلك الظروف والتفاصيل هو ترك إدارة أمر الأمة، فتركها بشروطٍ غير أن معاوية نكث كلّ الشروط، واعاد الجاهلية إلى الساحة بكل جيفها وخصالها السيّئة، نعم ترك منها بعض ما كان عليه أهلها من خصال حسنة، فأحيا مِنَ الجاهلية جاهليتها، وترك منها بعض المكارم التي هي من بقيّة حنيفية ابراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام.

ولا يتوهّم متوهّم أن الأمة أعرضت عن أبي محمد الحسن (علیه السلام) سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله) وريحانته وسيد شباب أهل الجنة، بل هو التقاعس والإخلاد إلى الراحة من المعظم، فان الكثير من الشواهد متوفرة على اعتراض نسبةٍ مهمة من وجهاء الأمة وَعِلْيَةِ القادة على صلح الإمام(علیه السلام)، بل قام جماعة منهم بمكاتبة الإمام الحسين (علیه السلام) بعد الصلح مطالبينَهُ بقبول عرضهم لمبايعته ومناصرته على ان يُعرض عن صلح الإمام (علیه السلام) ويقوم بمجاهدة القوم ويُعيد الدولة إلى اهلها وقادتها الحقيقين «آل محمد(صلی الله علیه و آله)» إلاّ أَنّ الإمام الحُسين (علیه السلام)رفض هذا رفضاً قاطعاً، لإيمانه المطلق بصحة كل ما يفعله الحسن السبط(علیه السلام)، بل وبمطابقته للواقع.

ص: 387

ثم نأتي إلى أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) والذي أخذ الناس بالكتابة إليه قُرابة العشرين عاماً، أي منذ صلح الإمام الحسن (علیه السلام) واستمر الحال على هذا، والحكومة الطاغوتية المتجبرة قائمة بزعامة معاوية وهي تقتل وتفتك بالأمة ولا تفرّق بين طبقاتها وشرائحها في ذلك، فالكل في ظلمها سواء، باستثناء أهل الشام وبني أمية ومن هو لصيق بهم أو محسوب عليهم.

وقد استمرّ الناس يهتفون باسم الحسين(علیه السلام)، لو لا حركة ابن زياد السريعة، وما اختلط بدم الناس من بعد عصر النبی (صلی الله علیه و آله) من تكاسل، وتثاقل، وإخلادٍ للراحة، وكأنّ منطق قوم موسى قد أضحى منهجاً ثابتاً لهم: «فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّکَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ».

ومن بعد: ها هي الأمة تقف سِماطين عند الطواف لتفتح طريق وصول الإمام زين العابدين إلى الحجر الاسود، والزحام على أشدّه، ثم ليقف الفرزدق فيُخاطب هشام بن عبد الملك ومن معه:

هذا الذي تعرف البطحاء وَطأَتَهُ

والبيت يعرفه والحلّ والحرم

هذا ابن خير عباد الله كُلِّهُمُ

هذا التقي النقيُّ الطاهر العلم

وليس قولك مَنْ هذا بضائره

العُرب تعرف من انكرت والعجم

هذا علی رسول الله والده

بجدّه انبياء الله قد ختموا

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

وهذا بينما يحاول هشام بن عبد الملك شقّ الجموع ليصل إلى الحجر الاسود فلا يتمكن ولا يفتح له أحدٌ طريقاً، وكأنّ الأمة تريد ان تنتهز الفرصة لتع عن نبذها له، وحقدها عليه (1).ه.

ص: 388


1- ينابيع المودة، الشيخ سليمان القندوزي الحنفي، ﺟ 3 ص 107 ، عن حلية الاولياء لأبي نعيم و غیره.

وهذا رضا آل محمد (صلی الله علیه و آله): عليّ بن موسى (علیه السلام) يضطر المأمون لتوليته العهد ليستفيدمن شعبيّته العارمة وحبّ الأمة واكبارها له، فيهدّده لقبولها فيتقبلها نتيجةً للتهديد، إلاّ أنّه يشترط عليه عدم تدخله في شؤون الحُكم ليفهم الجميع رفضه للكيان الحاكم، وعدم شرعيته، ومخالفته لتشريعات الإسلام.

ثُمّ يخرج علي بن موسى الرضا (علیه السلام) لصلاة العيد فيخرج أهل مرو كلهم خلفه، ويذعر المأمون من احتفاف الناس بالإمام (علیه السلام) والتفافهم حوله ويأكله الحسد، فأهل مروسنّة وليسوا بشيعة، فكيف رفض السُنّة المأمون وتوجّهوا إلى الرضا(علیه السلام). (1)

الأمة كلها تُريد آل محمد (علیه السلام) لو تُركت وشأنها، وحيث يُمكنها التعبير عن رأيها، والمصاديق كثيرة وهذه بعضها.

عود على بدء:

إن النهج الذي كان يسير عليه معاوية من أخذ النساء والصبية لفتّ معارضةالرجال للفئة الحاكمة قد انتقل إلى فئة الحكم اليزيدي.

ومما يصلح كَمعْلَمٍ له -كي يتأكد أي امرءٍ من انّ هذا النهج سيكون مستمراً أيام يزيد- هو ما كان عليه يزيد قبل صيرورتِهِ ملكاً على بلاد المسلمين من: خِلاعة ومجون واستهتار بالحُرمات، وتظاهر بالمحرّمات حتى شاع هذا عنه في أطراف العالم الإسلامي يوم لم يكن اعلام ولا صحافة، ولم تكن للعامّة من وسائل ارتباطٍ بالفئة الحاكمة بحيث تطلّع على مجريات سلوك الحكّام كي تعرف هذا عنهم وتتناقله.

وقد كان الإمام الحسين (علیه السلام) مطلوباً من جهة يزيد طلباً حثيثاً بما لا مُساهلة فيه،

ص: 389


1- الارشاد، شيخ الامةالمفيد، ﺟ 2 ص 264 .

ودولة الشجرة الملعونة قد قامت سياستها -كما قدّمنا - على مُؤاخذة النساء والاطفال والأقارب بما يفعله المرء، وقد تجلّت هذه السياسة ايام يزيد في موردين هائِلين:

الأوّل: ما صنعه ببناتِ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وصبيته، وبقيّة أهل بيته (علیهم السلام)، في السنة

الاولى من حكمه.

الثاني: ما صنعه بنساء المدينة في وقعة الحرّة في السنة الثانية من حُكمِه.

انّ أَسرَ أُسرَةِ معارضٍ للفئة الحاكمة في حياة هذا المُعارض، لعلّ لها ما يبرّرها، وذلك كاحداثِ ضغطٍ نفسي عليه كي يترك المُعارضة، أو يسلّم نفسه إلى السلطة، ونحوهذا.

أمّا اَ عائِلَةِ المعارض بعد التمكّن منه، وبعدقتله بأشنع قتلة، فايّ مبرّرٍ لها، وقدارتفع الخطر عن الفئة الحاكمة، واشتفت من عدوّها.

فما بالك إذا كان القتيل سيد شباب أهل الجنة، وولد رسول الله(صلی الله علیه و آله).

وقد قتلته الدولة قتلة لم يُقتلها احدٌ، إذ قتلته:

«بالسيف والرمح والسهام والحجارة والخشب والضرب والركل والذبح»

وذبحته وما زالت الروح فيه، ثم قَطَعَتْ بعض أعضائه، ونهبته، ورفعت رأسه على الرماح، وتركت جسده عارياً في الفلاة، مع ولدين من أولاده، أكبرهم: شبيه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، واصغرهم ذو سِتّةِ أشهر، تركتهم مذبوحين، مقطوعي الرأس، مع خمسة عشرمن أهل بيته هم نجوم الأرض وأقمار بني هاشم، ومع العشرات من صَحْبِهِ أبرار الأمةوعلماءها وفرسانها، وقد رُفِعَتْ رؤوس الجميع على الرماح، وَطِيفَ بها في البلدان، وتُرِكَت جثت الجميع عارية في الفلاة.

فماذا تريد فئة الكفر والانحراف منهم أكثر من هذا حتى تلاحق النساء والاطفال

ص: 390

الباقين بعد المجزرة الرهيبة.

إنّه خبث الذات، ولئيم الخصال، والحقد على النبی (صلی الله علیه و آله) واهل بيته (علیهم السلام)، والتعطّش لإطفاء نور الإسلام، ونور الاسرة النبوية.

ما الذي يدفع الفئة الحاكمة لإحراق الخيام على الأسرة النبوية، وإلى نهب امتعتها بما فيها ملاحف النساء وخلاخيلِهِن، ثم اَخْذِ العائلة النبوية بأشنع حالة وبهيئةِ الاسرى من بلد إلى بلد، وإيداعها في السجون، واستعمال الشدّة والغِلظة معها، مع التهديد المستمر لها بالقتل إلى حين رجوعها إلى المدينة.

إنّ ما صنعه آل امية، ابتداءً من عصر السفّاح معاوية إلى نهاية عصر صاحب المجزرةالاعظم في آل محمد (صلی الله علیه و آله) - يزيد- يجعلنا نتساءل عن حقيقة الفئة التي تنتمي اليها هذه العُصبة، وجهة انتمائها وارتباطها.

فان كان ارتباطها بالإسلام، فإن مواقف الإسلام واحكامه في التعامل مع الضعفةمن امرأة أو طفل أو شيخِ كبير معروفة، وملؤها العفو والرحمة والرعاية.

واذاكان ارتباطها بالجاهلية الأولى، فإنّه: «كان الرجل ليتناول المرأة، فيعيّر بها وعقبه من بعده». (1)

نعم، إنها الجاهلية الثانية الذي أخذت حدوداً وأبعاداً أردأ بكثير عما كانت عليه الجاهلية الاولى، إلاّ ان هذه بقناع، وتلك مُسفِرة، بل والله هذه أشدّ إسفاراً من تلِك لذي البصر والبصيرة.

نساء بيت النبوّة:

مَرّ أبو خالد الكابلي - التابعي الجليل- بقرب دار مولانا الإمام السجاد (علیه السلام) فرأى

ص: 391


1- وسائل الشيعة، ﺟ 15 ص 95 ، عن الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام).

أن باب دار الإمام (علیه السلام) لم تكن مغلقة بشكلٍ تام، فاستفسر من الإمام (علیه السلام) عن ذلك

فأجابه - وتأمّل في جواب الإمام(علیه السلام):-

«يا أبا خالد، إنّ جارةٌ لنا خَرَجَت ولا عِلْمَ لها بالتواء الباب، ولا يجوز لبنات رسول الله أن يخرجن فيصفقن الباب». (1)

بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يخرجن عن فناء الدار إلى قرب الباب لغلقه، وهكذا سيرتهن واجواؤهن، ثم يأتي بنو أمية وجندهم الكافر لأسر بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد قتل عمادهن وحماهن ثُمّ ليسلبوا عن ظهورهن الملاحف والعباءات، كما يسلبوا خلاخيلهنّ، ويمتهنونهن بضرب السياط ويأسرونهن ويأخذونهن من بلدة إلى بلدة ومن سجن إلى سجن ويستعرضوا بهنّ البلدان فِعْلَ الجاهلية.

ومن المصائب العظيمة على أهل بيت النبوة، كما هي غصة في نفس كل غيور، ما صرّحت به سيدّة بني هاشم زينب بنت علي أمير المؤمنين (علیهما السلام) أمام يزيد في مجلس حكمه:

«أَمِنَ العدل يابن الطلقاء تخديركَ حرائرك، وَسَوْقِكَ بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهُنّ، وأبديت وجوههن، يحدو بهنّ الأعداء مِن بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناقل، ويبرزن لأهل المناهِل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والغائب والشهيد، والشريف والوضيع، والدنيّ والرفيع، ليس معهنّ مِن رجالهنّ وليّ، ولا مِن اُمحتهنّ حميم، عتوّاً مِنكَ على الله، وجحوداً لرسول الله، ودفعاً لما جاء به من عند الله.

ولاغرو منك، ولا عجب مِن فِعْلِك، وأنّى يُرتجى مُراقبة من لفظ فوه أكبادالشهداء، ونبت لحمه بدماء السُعداء، ونصب الحرب لسيّد الانبياء، وجمع الأحزاب، وشهر الحِراب، وهزّ السيوف في وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أشدّ العرب لله جحوداً، وأنكرهمي.

ص: 392


1- مقتل الحسين(علیه السلام)، السيد المقرم، ص 338 ، عن مدينة المعاجز للبحراني.

له رسولاً، وأظهرهم له عدواناً، واعتاهم على الربّ كفراً وطغياناً». (1)

ابداء الجيش الاموي لوجوه بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) بسلب مقانعهن، والتي ادّت إلى ان يتأمّل أهل البلدان في تلك الوجوه المقدّسة، انّما هي جريمة عظيمة، و مصيبة مهولة عند سيدة الاسرة النبوية: زينب، كما هي كذلك عند الله ورسوله.

لكن كيف نُفْهِمْ هذا المنطق لمن هو في الطرف المقابل مِن هذا الفَهِمِ والسلوك؟

المرأة في معركة الطف:

بشكل عام، لم اُمترس المرأة قتالاً في يوم عاشوراء.

إذ ينقسم القتال في التشريع الإسلامي الى: قتال جهادي، وآخر دفاعيّ.

والجهاد موضوع عن المرأة فلا يجب عليها.

أما الدفاع فيجب عليها إذا وصلت النوبة إليها، ولم يكفِ المقاتلون من الرجال للدفاع عن حياض الإسلام، وعن مقدساته، وع يلزم الدفاع عنه.

ومما يلزم الدفاع عنه بدون أدنى ريب: الإمام المعصوم(علیه السلام).

إذ هو من أقدس مقدسات الإسلام، ومن أهم ما يلزم الدفاع عنه.

ولو كان من الممكن إنقاذ الإمام الحسين (علیه السلام) يوم الطف لوجب على الجميع الدفع عنه.

إلاّ أن المعركة كانت محسومة قبل بدئها لصالح الجمع الأموي.

ولعلّه لذلك أسقط الإمام (علیه السلام) لزوم البقاء معه، عن بقية الصحب المرافقين له، وعن أهل بيته.

ص: 393


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 158 .

فإذن: لمّا اسقط الإمام هذا التكليف عن الرجال المرافقين له فسقوطه عن النساءأولى.

ولعل سقوط التكليف بالجهاد عن المرأة مفهوم لمن يعرف احكام الإسلام ويتأمّل فيها.

إذ طبيعة العمل القتالي مما لا يناسب طبيعة المرأة وامكانياتها بالاضافة إلى ما يهتمّ له الإسلام- بل المرأة ايضاً بحسب فطرتها- من لابُديّة الاهتمام بالحجاب والستر والمحافظة على العرض خصوصاً في تلك الأزمنة المعلوم حال وضعيّة القتال فيها وما ستُبتلى به المرأة لو مارست قِتالاً وكِفاحاً.

ومع انّ ما تقدّم مشترك بين الجهاد والدفاع، إلاّ أنّ في البين فرقٌ آخر وهو:

إنّ الجهاد يحتاج لاذن وليّ الامر-على قولٍ-، ووليّ الامر لاياذن مع عدم وجود العدد الكافي من الرجال الذين يتحقّق بهم الهدف وتتمّ من خلالهم المهمّة، فلا يصل الامر والحال هذا إلى الاحتياج للنساء.

وهذا بخلاف الدفاع فانّه امر تتعرّض له الأمة بدون اختيارٍ منها، ولعلّ الهجوم الذي تتعرّض له اكبر ممّا تحتمله امكانياتها، فيجب الدفاع على كلّ من يتحقّق به الدفع، وردّ عادية الهجوم، ولا يجب هنا على المراة ايضاً.

نعم إذا لم يتوفّر من يتمّ بهم الدفع وجب على النساء ايضاً المشاركة لتحقيق الدفع عن الإسلام، وعن مجتمعه.

بل قد يكون الهدف من الدفاع انّما هو دفع المرء عن نفسه وذلك إذا كان من أهداف المعتدين قتل المسلمين أو أسرهم أو الأعتداء على أعراضهم، فالمراة في مثل هذه الحالة إنّما تدافع عن نفسها وهو واجب عليها، خصوصاً مع عدم تمكّن الغير من الدفع عنها.

ص: 394

لكن:

برز للمرأة دور قتالي في ساحة الطف.

إذ خرج شاب قُتل ابوه في المعركة، وكانت أمّه معه، فقالت له أمه:

اخرج يا بُنيّ وقاتل بين يدي ابن رسول الله.

فخرج.

فقال الحسين(علیه السلام): «هذا شاب قُتِل ابوه، ولعلّ امّه تكره خروجه».

فقال الشاب: أُمي امرتني بذلك.

وقاتل حتى قُتل، وحُزّ رأسه، ورُمي به إلى عسكر الحسين(علیه السلام)، فحملت أُمه رأسه وقالت:

أحسنت يا بُنيّ، يا سرور قلبي، وياقرة عيني.

ثم رمت براس ابنها رجلاً فقتلته، ثم ضربت رجلين فقتلتهما.

فأمر الحسين (علیه السلام) بصرفها، ودعا لها (1).

وهذا آخر، وهو وهب بن عبد الله الكلبي، وكانت امّه معه أيضاً، فقالت له:

قم يا بُنيّ فانصر ابن بنت رسول الله.

فقال: أفعل يا اماه.

ثم حمل، فلم يزل يقاتل حتى قتل منهم جماعة، فرجع إلى امه وامرأته، فوقف عليهما فقال:

يا اماه أرضيتِ؟

فقالت: ما رضيت، أو تُقتل بين يدي الحسين(علیه السلام). .

ص: 395


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 27 .

فقالت امرأته: بالله لا تُفجعني في نفسك.

فقالت أُمّه: يا بُنيّ لا تقبل قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن رسول الله فيكون غداً في القيامة شفيعاً لك بين يدي الله.

فلم يزل يُقاتل حتى قتل تسعة عشر فارساً، واثني عشر راجلاً، ثم قُطعت يداه، فاخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه، وهي تقول:

فِداك أبي وامي، قاتل دون الطيبين حرم رسول الله.

فأقبل كي يردّها إلى النساء، فأخذت بجانب ثوبه وقالت:

لن أعود، أو اموت معك.

فقال الحسين: «جُزيتم مِن أهل بيتي خيراً، ارجعي إلى النساء رحمك الله».

فانصرفت، وجعل يُقاتل حتى قُتل رضوان الله تعالى عليه.

فذهبت امرأته تمسح الدم عن وجهه، فبَ بها شمر، فأمر غلاماً له فضربها بعمودكان معه فشدخها وقتلها.

وهي أوّل امرأةٍ قتلت في عسكر الحسين(علیه السلام).

وفي نصٍّ:ان وهب هذا كان نصرانيا، فأسلم هو وامّه على يدي الحسين(علیه السلام). (1)

ولو لا الحكم الإسلامي العام بشأن قتال المرأة.

ولو لا منع الإمام للنساء من دخول حومة الوغى، لكان للمرأة شأناً آخر في الطف، وان كانت الحالة رهيبةً بمكان، إلا أن خصوصية الحسين (علیه السلام) وقضيّته، وتميّزنساء الطف، كان سيجعل للمسيرة النسوية نهجاً مختلفاً.

وهذا الحسين (علیه السلام) يصرخ في جيش الضلالة حين ارعبوا النساء وطوّقوا الخيام: .

ص: 396


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 16 - 17 .

«ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إذ كُنتم أعراباً».

فناداه شمر- لعنه الله -: ما تقول يابن فاطمة.

قال: «أقول، أنا الذي أقاتلكم وتقاتلوني، والنساء ليس عليهن جُناح، فامنعوا عُتاتكم عن التعرُّض رِحلُمي ما دمت حياً». (1)

ثم يغتنم الإمام (علیه السلام) فرصةً، ويتوجه إلى نساء بيت النبوة لتوديعهنّ، وهنّ يتحرّقن من لوعة فراق الحسين(علیه السلام)، و قلوبهن متعلقات بمن سيضحى شهيد الإسلام الاول بعد سويعات، ومن سيكون ثأر الله في الدنيا والآخرة.

«استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ الله تعالى حاميكم وحافظكم وسينجّيكم من شرّالأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب عدوّكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما يُنقص قدركم». (2)

***

وأخيراً، ها هي زينب بنت علي وفاطمة (علیهم السلام) تنهج نهج اصحاب الكساء - جدها النبی (صلی الله علیه و آله) وابويها واخويها - في مقارعة الباطل وفضحه، والعمل على هدّ اركانه، فما ان بلغت المدينة بعد الفاجعة حتى أخذت بحركةٍ جديدة تحيي بها قضية الإمام الشهيد، وتب حدودها - مجرياتها وأهدافها - في الوقت الذي كانت السلطة واذنابها يحاولون التعتيم على القضيّة، أو تشويهها.

وبلغ تحرّك السيدة زينب(علیها السلام) من القوّة والأهمية والخطورة عند الدولة الفاسدةأن كتب والي المدينة إلى يزيد في أنّ وجود زينب بين أهل المدينة مهيّجٌ للخواطر، وَأ اّهن: .

ص: 397


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 51 .
2- السيدة زينب(علیها السلام) ، الشيخ القرشي، ص 267 .

فصيحة، عاقلة، لبيبة، وقد عزمت هي وقومها على القيام للأخذ بثأر الحسين(علیه السلام).

وقد ادّى هذا إلى إخراجها من المدينة (1). .

ص: 398


1- واقعة كربلاء، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ص 228 .

أسباب الانتكاسة

ذكرنا في ثنايا كتابنا هذا ان أسباب نجاح حركة الإمام سيد الشهداء (علیه السلام) متوفرة، ومعطياتها أكيدة، فما الذي قلب الامور رأساً على عقب م مّما أدّى إلى تمكُّن السلطة الجائرة من الإمام السبط وانصاره، وحرمان الأمة من فرصة حُريّتها ورجوعها إلى الصراط السويّ، وإغلاق باب الرشاد والسعادة بوجهها إلى الأبد بحسب الحسابات الطبيعية لو لا...

«لو لا الوعد الإلهي الحتميّ بلابُديّة يوم المهدي، وقيامه بقصم ظهر الكفر والنفاق، واقامة دولة الحق».

ما الذي حال بين الأمة وتربعها على عروش الجنان.

ما الذي قذف بالامة إلى دركات الجحيم - وبئست الأُمّة -.

بعض السبب يعود للأمة نفسها، وبهذا - باختيارها - استحقت الحرمان من الجنان، والفوز بالنيران.

وبعض: يعود للكيان الحاكم المستمسك بكرسي الحكم - رغم كل شيء - بمخالبه واسنانه، وبكل فعلة وإن بلغت ما بلغت من الرذالة والخسّة.

وبعض يعود لاختيارات وأخطاء وجنايات سابقة، وقد حصد التالون ما زرعه الأولون.

قالت لهم الزهراء البتول صلوات الله عليها حينما أحكموا فعلتهم واستمكنوا من

ص: 399

منبر رسول الله(صلی الله علیه و آله): «أما لعمري لقد لقحت، فَنَظِِرَةٌ ريثما تنتج، ثُمّ احتلبوا مِلأَ القعب دماً عبيطا، وذعافاً مبيدا، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبّ ما أسس الأولون، ثم طيبوا عن دنياكم انفساً واطمئنّوا للفتنة جأشاً، وابشروا بسيفٍ صارم، وسطوة معتدغاشم، وَ رِهبََجٍ شامل، واستبدادٍ من الظالمين، يدع فيئكم زهيدا، وجمعكم حصيداً».(1)

فما التفتوا إذ كانوا سكارى بما نالوا، فاستفاقوا على البيت النبوي الطاهر ودماءابنائه تملأ أراضي بلاد المسلمين في شرق العالم الإسلامي وغربه، وبناته سبايا، وابتدأت محنتهم بفاطمة وعلي والحسن والحسين (علیهم السلام) اصحاب الكساء واصحاب آية التطهيروآية المباهلة، ثمّ لم تنته بعد.

استفاقت الأمة على الحسين خامس اصحاب الكساء ورأسه على الرمح، وقد قتل بأمر حفيد من قضى عمره واستنفذ جهده في تجييش الجيوش على رسول الله (صلی الله علیه و آله) لمحق دينه ودولته وإنهاء حياته، بل إنّ مواجهة النبی (صلی الله علیه و آله) وإطفاء نوره كان همّاً واحداً وفعلاًمشتركاً بين الجد والأب - أبي سفيان ومعاوية -.

ولمّا اسلم الجد- أبو سفيان - يوم الفتح الأكبر أي: فتح مكة، خوفاً وحفظاً لدمه، عیّره ولده معاوية.

هذا الجد، وهذا الأب، وهذا الابن والحفيد.

رفع الجدّ- أبو سفيان - سيفه على النبي الأعظم.

ورفع الأب معاوية سيفه على الإمام علي وصي رسول الله (صلی الله علیه و آله)- والوصيّ مولى كل مؤمن كما الرسول (صلی الله علیه و آله) مولاهم بنص حديث الغدير، مهما اجتهدنا في فهمه، وبأيّة صيغةٍ قبلناه -. .

ص: 400


1- الاحتجاج، ﺟ 1 ص 290 .

ورفع معاوية سيفه أيضاً على الإمام الحسن (علیه السلام) سبط رسول الله(صلی الله علیه و آله).

ورفع سليلهم يزيد سيفه على الحسين(علیه السلام).

ورواية السنّة والشيعة تقول: ان بني امية ينزون على منبر رسول الله كما تنزو القردة، وأنهم الشجرة الملعونة الوارد ذكرها في القرآن (1).

مع كل هذا تولّت الأمة الشجرة الملعونة، وجنّدت نفسها لها، وذبحت ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ورفعت رأسه على الرماح، وأسرت نساءه واطفاله، وساقتهم من بلد إلى بلد.

وإلى اليوم لم تحسم الأمة أمرها مع هذه الشجرة.

في مكة سوق اسمه سوق الليل غ وّريا اسمه إلى سوق أبي سفيان.

وما سمّوه بسوق حمزة مثلاً- أسد الله وأسد رسوله -.

ألا يدلك هذا على جهة ولاء هذه العُصبة ومدى حقدها على البيت النبوي الطاهرومدى ولائها لاعداء الدين، بل والله اعداء الإنسانية والشرف والكرامة.

نعم: الأمة استفاقت من غفوتها لكنها لم تستفق من غفلتها، ولعلّ الحجة بن الحسن (علیهما السلام) يوقظها وينبهها فانه لهذا أُدّخر.

وما يعود للسلطة الجائرة من عوامل للانتكاسة:

1- قامت الفئة الحاكمة بِبَثِّ اجواء الرعب والارهاب في الكوفة(2) فخلعت بها القلوب و تّريتح الافهام واضطربت النوايا واختلفت الآراء وتضعضع الجمع وانهار التكتل (3).ح.

ص: 401


1- فضائل الخمسة من الصحاح الستة، السيد الفيروز آبادي، ﺟ 3 ص 248 فقد نقلها عن مصادر عدة عن الفخر الرازي في تفسيره الكبير، والسيوطي في الدر المنثور وغيرهما.
2- انظر: حياة الإمام الحسين (علیه السلام) ، الشيخ القرشي، ﺟ 2 ص 360 .
3- ورد أنّ ابن زياد قتل شامياً لعدم خروجه لحرب الحسين (علیه السلام) مع ان امر النفير العام كان لأهل الكوفة وسكانها ومقاتليها وما فعل هذا إلا لإرهاب الناس وبث اجواء الذعر والرعب بينهم وقد نجح.

2- مَلأَت السجون برجالات الشيعة ومخلصيهم بل بكل من يخاف منه هذا الوجه، حتى قيل ان في السجن اثني عشر الفاً، وهو رقم هائل بالنسبة لتلك الفترة كما انه رقم قادر على حسم الامور ولا ريب لصالح الحركة الحسينية، ويكفيك ان منهم ميثماً التمار والمختار والأصبغ والحارث الهمداني (1)، وكلهم اعتُقِلوا بعد حركة مسلم رضوان الله تعالى عليه.

3- اغلاق ابن زياد لحدود العراق كله، والكوفة بالخصوص، وارسالِهِ الكتائب للبحث عن الإمام (2)، ولمراقبة الخارجين والداخلين، فمنع هذا أهل الكوفة من اللحاق بالإمام، لكن نجح جمع في اختراق الحواجز العسكرية والالتحاق بالإمام(علیه السلام).

4- بذل الاموال والمناصب لبعض شيوخ العشائر والشخصيات المعروفة في المجتمع الكوفي مما دفعهم للالتحاق بابن زياد وتخذيل الناس عن الإمام (علیه السلام) وتوجيه عشائرهم وِجْهَةً ثانيةً نحو الولاء للدولة والاطاعة لأوامرها.

وبشكلٍ أوضح: انهم استعملوا اسلوب الترغيب والترهيب.

الترغيب: ببذل المال، ورضا الدولة عنهم.

والترهيب: بقطع العطاء، وبقدوم جيش الشام، وبتفريق المقاتلة في الثغور، ونحو هذا.

أي حمل الدرهم بيد، والعصا الغليظة باليد الاُخرى.

5- من الحيل التي سببت الكارثة: ما فعله عمرو بن الحجّاج - عميل السلطة- .

ص: 402


1- حياة الحسين (علیه السلام) ، للقرشي، ﺟ 2 ص 390 .
2- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، للقرشي، ﺟ 3 ص 56 .

والذي ترأس جموع (1)مذحج للسؤال عن هاني، فل أخبرهم موفد الدولة - يُرشح- بحياته، فإذا به يُعلن لهم انتهاء مشكلتهم مع السلطة، ويقوم بارجاعهم، ويُنهي بذلك ثورتهم، وكان عليهم اقتحام المكان، وإخراج زعيمهم.

وما صنعه ابن الحجاج حيلةً عجيبةً لم تلتفت لها مذحج، وانطَلَت عليها فخسرت زعيمها، ودفعت ثمن غفلتها من دنياها واخراها، ، وحُرمت بالنتيجة من التمكن من نصرة ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وانتهى أمرها إلى أن خرجت بقيادة ابن الحجاج لحرب الحسين(علیه السلام).

ومن قبيل هذه القضيّة - مع فارقٍ في النتيجة- ما حصل لشعلان ابو الجون، من استنقاذ عشيرته له، ثم إعلانهم للثورة العراقية الكبرى على الإجرام الانجليزي في ثورة العشرين.

6- من حيل الدولة: إرسالها أحد عناصرها مع مالٍ، للتمكن بهذا من معرفة مكان استخفاء مسلمٍ، وقد تمّ لها ما ارادت بالقاءها القبض على هاني، وإيصال الأمور إلى القبض على مسلم، بعد افشالها لحركته، وكان هذا بداية النهاية للحركة الحسينية.

ما يعود للأمة:

أ- إن الأمة لم تتحرك لنسف الدولة القائمة، ولرفع ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) على منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، بل كان دوافع تحركها مختلفاً حسب اختلاف الفئات المشاركة في أوائل هذه الحركة.

كان باعث جمع منهم نقمته على الدولة، لحرمانه من مزايا مادية معينة.

أو لمعاناته الأهمال والاضطهاد. .

ص: 403


1- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، للقرشي، ﺟ 2 ص 376 .

فلما هدّدوه باضطهاد أكبر، أو لوّحوا له بعطايا وهبات ومناصب سكت وهدأ وغیّر وجهة ولائه.

والتحرك الناتج عن تقوى وورع واطاعة للمولى سبحانه، هو الذي لا تُؤَثّر فيه النوازل، ولا تُزعزعه القواصف.

ب- إعطاء الوعد والمواثيق من بعض الأمة للإمام السبط على المعاضدة والمناصرة لحين تحقيق اهدافه، ثم غَدْر الكثير من المعاهدين، بل تحوّلهم إلى جيش الارتداد والجور، والذي منه استغاثوا، إلاّ أ مّهن تحت لواءه انضووا، وقاتلوا من به استغاثوا، ثم قتلوه واهل بيته في فلاةٍ من الأرض مضيعةٍ، لو لا ان الله للظالم بالمرصاد، ولوليّه بالمباركة وإعلاء الشأن.

فخصيصة الغدر والخذلان مما لَصِقَ بأهل الكوفة، وبها عُرفوا واشتهروا، وهذا سيد الشهداء (علیه السلام) ينعى عليهم خصلتهم هذه، إذ روي عنه خطابه الاخير فيهم:

«وأنتم ابن حربٍ وأشياعه تعتمدون، وإيّانا اُختذلون، أجل والله الخذل فيكم معروف، وشجت عليه عروقكم، وتوارثته اصولكم وفروعكم، وثبتت عليه قلوبكم، وغشيت صدوركم، فكنتم أخبث شيءٍ سنخاً للناصب، وأكلةٍ للغاصب، ألا لعنة الله على الناكثين، الذين ينقضون الأَيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، فأنتم والله هم». (1)

وموضوع غدر الكوفيين موضوع طويل، يحتاج لدراسة كاملة، ولا نُزمع التوسع فيه هنا.

ﺟ- روي عن الإمام (علیه السلام) قوله لجيش الضلالة حين رفضوا استماع خُطَبهِ:

«وكّلكم عاصٍ لأمري، غير مستمعٍ قولي، فقد مُلئتِ بطونكم من الحرام، وطُبعَِ على9.

ص: 404


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ، ص 8- 9.

قلوبكم». (1)

ومسألة ملأ البطن من الحرام، وكونها سبباً للانحراف عن طريق الحق، وعلّةً لقساوة القلب عن أن يستجيب لنصح ناصح، من الأمور العميقة والمجهولة بالتمام في ابحاث علمي النفس و الاجتماع الفعليين، وهي محل اهتمام في علم الاخلاق والتربية الإسلامية، وهذا المطلب يحتاج أيضا لسعةٍ في البحث، ولا نبتغي هنا غير الإشارة إلى اصل أسباب الانتكاسة، دون الحديث عنها مِن جميع أطرافها.8.

ص: 405


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 8.

ص: 406

من الذي قتل الإمام

اشارة

والسؤال عن الجهة، لا الشخص، وإلاّ فالشخص المباشر للجزء الأخير من جريمةقتل الإمام (علیه السلام) هو:

شمر بن ذي الجوشن الضبابي، أو سنان بن خوليّ الأصبحي.

والأكثر: على التصريح بالأوّل.

على الفاعل منهما لعائن الله والملائكة والناس أجمعين بل كل من وما في الوجود.

- والقاتل من هذين إنما صدر منه الجزء الأخير الذي حدث الاستشهاد عنه، وإلاّ فالذين صدر عنهم فعلاً قاتلاً للإمام: عِدّة.

- إذ قام - شمر أو سِنان - بذبح الإمام (علیه السلام) من الوريد إلى الوريد بعد أن أ هن هنكَِ الإمام (علیه السلام) وأثخنَ بالجراح، من ضرب السيوف والسهام والرماح والحجارة، من جيش يقارب تعداده الثلاثين الفاً أو يزيد، وقد قُطعت الرؤوس الشريفة لأنصار الإمام (علیه السلام) بعد تحقق شهادتهم غير سيد الشهداء، إذ ذُبح وهو ما يزال على قيد الحياة.

وقد قتله شمر أو سنان عن أمر عمر بن سعد بن أبي وقاص لعنة الله تعالى عليه، وقتله عمر بن سعد عن أمر عبيد الله بن زياد بن أبيه لعنة الله تعالى عليهم، وقتله عُبيدالله عن أمر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، كما ان يزيداً كان مندفعاً لقتل الإمام (علیه السلام) عن عللٍ.

منها: توجهه الشخصيّ لهذا الهدف.

ص: 407

ومنها: وصيّة والده معاوية له بهذا الأمر على ما ورد في بعض النصوص التأريخيّة.

بل أشار معاوية إلى هذا في رسالةٍ تهديديةٍ بعثها إلى الحسين السبط(علیه السلام).

فعلى كل من شارك في قتل الإمام السبط - بكل نوعٍ من أنواع المشاركة - لعنة الله تعالى والملائكة والخلق أجمعين.

كان يزيد قد تابع أوامره بقتل الإمام(علیه السلام):

إذ أمر به أولاً والي المدينة.

ثم أمر به ثلاثين من خاصته باغتياله أثناء موسم الحج ولو وجدوا الإمام (علیه السلام) متعلقاً بأستار الكعبة.

ثم أمر به ابن زياد.

بل وجّه أوامر اخرى لجهات عدّة بتنفيذ جريمة قتل الإمام أو اغتياله.

بل القاتل كل من شارك في جيش ابن زياد، إذ لم يقتل شمر ولا يزيد: الحسين (علیه السلام) إلاّ بهذا الجمع، المعاضد بعضهم لبعض حتى أتمّوا جريمتهم العظمى.

في الرواية المعتبرة:

أنه أُتي أمير المؤمنين صلوات الله عليه بثلاثة:

أحدهم أمسك بشخص.

والآخر قام بقتله.

والآخر ينظر.

فقتل الإمام (علیه السلام) القاتل.

وحبس الممسك مؤبداً.

ص: 408

وسمل عين الناظر (1).

وما هذا إلاّ لأن كلاً منهم اشترك في الجريمة بقدر.

بل كُلُّ من رضي بقتل الحسين صلوات الله عليه من حين وقوع الجريمة إلى يوم القيامة يُعتبر مشتركاً في القتل.

إذ ورد في الروايات: «من غاب مِن أمرٍ فرضي به، كان كمن شهده وأتاه». (2)

وعن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله):

«لو أنّ أهل السماء والأرض شركوا في دم امرئٍ مسلم ورضوا به لأكبّهم الله على مناخرهم في النار». (3)

وانه يُتعامل معه يوم القيامة على هذا الأساس.

وممّن يُتعامِل معه على هذا الأساس بالإضافة إلى من مرّ:

من يبغض الحسين(علیه السلام).

أو يحبّ قاتل الحسين(علیه السلام)، وعدو الحسين(علیه السلام)، ومبغض الحسين(علیه السلام).

أو يسير على خط من تقدم، وعلى نهجهم العقيدي، والسلوكي، والديني.

أو يُبرّرِ لمن تقدّم، ويلتمس المعاذير والوجوه، ويحاول اسنادها بدليل، كالكافر الفاجر الذي سطّر، وياويله مما سطر: الحسين (علیه السلام) قُتل بشريعة جدّه (4).

كل من يكتب ويوجّه ليزيد وجنده، ويبرّر ويلتمس لهم الوجوه والمعاذير، فلا .

ص: 409


1- وسائل الشيعة، ﺟ 29 ص 50 ح 3.
2- بحار الأنوار، ﺟ 5 ص 283 ح 1.
3- وسائل الشيعة، ﺟ 29 ص 18 ح 2.
4- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 403 ، والقائل هو ابن عربي، كما في العواصم، ص 232 .

ريب أنه على نهجهم ويأخذ حُكمهم، لأن قضية الحسين (علیه السلام) في نهضته، وما جرى عليه، ومقامه عند الله ورسوله، وما ورد بحقه، مِلأَ كتب الفريقين، ويكفيك أنه أحد الثقلين (1)اللَّذَينِ من تمسك بهما فلن يضلّ ابداً، و أنه سفينة نجاة الامة (2)، وأما من حاربه فقد حارب الله ورسوله (3)، فماذا بعد الحق إلاّ الضلال.

فو الله، ان كل محجمة دم سالت وتسيل في شرق الأرض وغربها ففي عُنقِ يزيدٍ، ومن و يزيداً، ومن أسسّ ليزيدٍ (4)، لأن بالحسين (علیه السلام) وآباء الحسين - النبي والوصيّ - واخ الحسين وأبناء الحسين (علیهم السلام) التسعة نهاية مأساة البشرية، والتي ابتدأت من يوم هابيل وقابيل، وما ذلك إلاّ لخلافتهم الله ورسوله في الأرض، ولما يتمتعون به من خصائص وملكات، ولتسديد وتأييد ربانيّ خاص يعينهم على إتمام هذه المهمة، والوصول إلى هذه النتيجة، لكنهم أبوا على هؤلاء الأطهار تسنّم مقام الخلافة الظاهريّة، وابوا على الأمة، بل على البشرية جمعاء عبر أجيالها كلها أن تعيش السعادة وترغد في العيش الطاهر الرباني كما أراده الله تعالى، والذي يهيئها لرغيد العيش في الآخرة.

أبوا ذلك لأجل أيامٍ قليلةٍ يأمرون فيها وينهون ويتلذذون، ويأخذهم الزهوه.

ص: 410


1- راجع: نفحات الازهار، السيد علي الميلاني، المجلد، 1- 2 - 3 فانها جميعاً في حديث الثقلين المبارك.
2- راجع: نفحات الازهار، المجلد الرابع، فهو خاص بحديث السفينة المبارك.
3- راجع: الخمسة من الصحاح الستة، السيد الفيروز آبادي، ﺟ 1 ص 251 فقد أورد الأحاديث الخاصة بهذا المضمون.
4- يحاول البعض رفع المسؤوليّة عن قتل الإمام (علیه السلام) عن كاهل يزيد وتبرءة ساحته مع أن مركزية يزيد في توجيه الأوامر بقتل الإمام (علیه السلام) وإيعازه إلى جهات عدّة بهذا، أظهر من الشمس وأبين من الأمس، والجدال فيه كالجدال والمخاصمة في البديهيات، وإلاّ فمن صاحب المصلحة - في المقام الأول - في قتل الإمام غير يزيد - لعنه الله - بعدما أعلن الإمام (علیه السلام) عن عدم رضاه بخلافة يزيد، وامتناعه عن المبايعة، وتأييده لكل من يريد الخروج عليه.

كالطاووس - بسبب الإمرة - أمام زوجاتهم وأولادهم وأقاربهم، ثم ما هي إلاّ أيام -وما تهنّأ أطولهم هناءةً بها أكثر من عشرين عاماً، لو تمت لهم هناءة طوال سنّي حكمهم - واذا بهم رحلوا بعارها وشنارها وتبعاتها إلى الحكم العدل الرقيب على كل خافية، والذي أوعد ان من يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره.

فأين المفرّ لهم يوم العدل الإلهي أمام ما لا صُحيى من الملائكة وجموع الخلق من الجن والانس بمحضر جميع الصدّيقين والشهداء والصالحين، وذلك يوم الحسرة.

كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية سيحاسب على:

موقفه من عترة النبی (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته(علیهم السلام).

موقفه من علي (علیه السلام) صاحب يوم الغدير.

موقفه من فاطمة الزهراء ومظلوميتها، من عصرها بالباب، وإسقاط جنينها، وضربها على عينها وخدّها، ومحاولة إحراق دارها بعد الهجوم عليه وكسر بابه وإعتقال من فيه، ثم موت ابنة النبي الأكرم جراء الحادثة، بعدما أعلنت غضبها على الأمة جمعاء-باستثناء آحاد- ويؤول أمرها إلى أن تُدْفَنُ سراً في عاصمة الخلافة الإسلامية، ولا يُعلم قبرها إلى يوم الناس هذا.

موقفه من الحسن (علیه السلام) ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسبطه وخليفته بالإضافة إلى موقفه من ابن آكلة الأكباد، والذي قسر الحسن السبط (علیه السلام) على تسليم الخلافة له، ليعيث في الأرض فساداً و لُهيك الحرث والنسل، وليأتي بيزيد هديةً منه إلى الاُمة التي آزرته على جرائمه.

موقفه من الحسين (علیه السلام) وذريته.

هذه قضايا إسلامية في الصميم ما زلنا نعيش آثارها وتتطلّب منّا اعادة ما يتعلق بها

ص: 411

إلى مكانه الصحيح.

ان السبب الذي دعانا لكتابة هذا الفصل هو ما يتداوله البعض، ببراءةٍ أوبسوء نيّة، من أن الذي قتل الإمام (علیه السلام) هم شيعته.

ومع اعتقادنا بكفر كل من حارب الإمام المظلوم، سيد شباب أهل الجنة الحسين صلوات الله عليه وسلامه.

ومع براءتنا من كُلّ مشاركٍ في هذا بأيّ شكل من أشكال المشاركة، بما فيها الرضا بهذا الفعل فما دونه.

إلاّ إننا لا نغفل عن أن القاتل الأعظم هو يزيد، ولا يقصر ابن زياد وابن سعد وشمر والخط الذي سوّغ لهؤلاء قتل الإمام (علیه السلام) عن مرتبة يزيد في الجريمة، وإن كان يزيد هو الآمر المحرّك.

إن هناك ملاحظات ينبغي الالتفات إليها، حتى يتحدّد بشكل واضح، الجهة التي قتلت الإمام بمساحتها الحقيقية.

لم يكن جميع من كاتب الإمام الحسين (علیه السلام) من الشيعة بمعنى:

من يعتقد بإمامة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وذريته الأطياب بتعيين من الله تعالى وتبليغ من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبأحقيتهم بالخلافة ورئاسة الدين والدنيا من غيرهم.

بل لم يكونوا من محبي الإمام الحسين وأهل البيت الكرام(علیهم السلام).

وإنما كان القاسم المشترك فيمن كاتب الإمام (علیه السلام) هو رفض الجميع لحكم يزيد وتوفّر العزم منهم والتصميم على تحطيمه وهدّه واستبداله بنظام آخر.

والفرصة السانحة للجميع لتحقيق هذا الهدف، والتي لا يصح تفويتها، هي ما بعد هلاك معاوية، وقبل تمامية البيعة ليزيد، كي تتهيأ لهم السعة في العمل، وَ اَملّ يتهيأ الحاكم

ص: 412

الجديد لوضعه الجديد، ويُمسك على أزمة الأُمور باقتدار تام.

بعض الرافضين لحكم يزيد كان يحمل هذا الرفض في نفسه دون أن يكون له ولاء لشخص الإمام الحسين (علیه السلام) أو لأهل البيت النبوي (علیهم السلام)، كفئة الخوارج، بل أن كرههم ومعارضتهم للكيان الحاكم دفعهم إلى دعم الحركة الحسينية في بادئ أمرها عبر المكاتبة، ثم فيما بعد انسلخوا عن تعهداتهم وقلبوا للإمام ظهر المجن، واصطفوا مع عدو الجميع - يزيد - ومثالهم في زماننا: الحركة الشيوعية، والتي تنادي بِمُثُلٍ عليا شِعارياً، وتسلك النهج الدموي سلوكياً، وتصطف بقوة مع الدولة المستأسدة، وتشاركها المظالم والمغانم، في الوقت الذي تنخرها من الداخل حتى تتمكن، فتفترس الحُكم والحاكم والمحكوم، وتعيث في الأرض فساداً، غير انهم لم تستقم لهم الاُمور - غالباً - ولم تجر معهم الريح، كالخوارج تماماً.

وبعض آخر من اولئك الرافضين، كان بالإضافة إلى رفضه بني امية، راغباً بحكم الحسين (علیه السلام) بالذات لما في الحسين من ملكات.

وبعضهم يعتقد باستحقاق الإمام لمنصب الخلافة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كأبيه وأخيه، لأنه ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأولى الناس بالناس.

وقسم قليل، هم زبدة المجتمع الإسلامي وخيرته وديّانيه، يعتقد ويرى إمامةالإمام الحسين صلوات الله عليه، ووراثته لمنصب الخلافة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبيه وأخيه بالنص من الله تعالى عليه على نحو الحصر والتعيين، وأنه وارث لمقام جميع خلفاء الله في أرضه من آدم إلى أخيه الحسن (علیهم السلام) من دون أن يكون نبياً وإنما هو وصي نبي، وهو (علیه السلام)بقية الله في أرضه، ولا يُقبل إيمان فرد ولا يصح له دينه الاّ باعتقاده إمامته وتقديمه على جميع من سواه، وانه واجب الطاعة كطاعة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بحكم رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأنه لا يأمر ولا ينهى إلاّ عن أمر الله ورسوله.

ص: 413

وهناك طائفة رفضت الحكم الاُموي لتضارب مصالحها معها أو لارتباطها بمصالح مع فئات اُخرى وهكذا...

وسبب رفض الأصناف المتقدمة الذكر وغيرها للحكم الاُموي القائم:

إمّا تديناً كما هو حال الشيعة المخلصين، والذين يرون بطلان الحكم الاُموي ولابُديّة نصرة أهل البيت النبوي لإقامة الحكم المحمدي الحقيقي كما نصّ النبی (صلی الله علیه و آله) على قادته وحدوده.

وقسم كانوا يعتقدون بفساد الحكم الاُموي واستهتاره وتج هّرب وتمرّده على الشريعةفلابُدّ من اسقاطه تقرباً إلى الله سبحانه، والفرد الأصلح لتولي حكم الأُمة هو الحسين(علیه السلام).

وقسم كبير كانوا يعانون صنوف العذاب والهوان والإهمال من قادة الحكم الاُموي، ويتجرعون كل غصّة، وأصبحوا في الاُمة كبني اسرائيل تُقتلّ أبناؤهم وتُسْتَحْيى نساؤهم، بعد ما سلّط معاوية عليهم أقسى من عرفهم التأريخ ظلماً وعتواً وطغياناً وخلّواً من كل فضيلة كزياد بن أبيه وعبيد الله بن زياد وأمثالهم من أقذر الولاة وأردأ الجنس البشري، إذ أمعنوا في الكوفة بل العراق قتلاً وسجناً وتعذيباً ونفياً وهتكاً ومصادرة للأموال والممتلكات وهدماً للدور وفتنة في الدين.

وعموم هؤلاء كانوا ينتظرون سنوح الفرصة للانتقام والنجاة من التجبر والبطش الأُموي، ووجدوا في الإمام الحسين (علیه السلام): المنقذ، والخصال المطلوبة للحاكم العادل القائم بحقوق الأمة، ورأوا إمكانية إتمام الأمر عبر مكاتبته ومعاهدته ونُصرته والمقاتلة معه، وما كان الحسين (علیه السلام) بالذي يترك نصرة امة جدّه من شيعته ومن سائر المظلومين لمستضعفين - من الذين اتخذهم آل امية خِولاً وأموالهم دولاً - وقد قال الله سبحانه:

«وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ

ص: 414

نَصِيرًا» (1).

بل يسعى الحسين (علیه السلام) بكل جهده لإطفاء حرائق ذلك الكيان الظالم الكافر، وينعش المستضعفين، ويستنقذ الموالين، ويعيد للعدل والحرية وجودهما في مجتمع شاده النبی (صلی الله علیه و آله)والوصي والآل الكِرام وخُلّص الصحب، بعد ما كادت هذه العصبة الباغية من الطلقاءأن تقضي عليه.

فإذن لم يكن جميع من كاتبوا الإمام (علیه السلام) ثم نكثوا العهد معه، وخانوا ذممهم، وتباطأوا عن نُصرته، أو سلّوا السيف عليه، وعاضدوا في قتله، هم ممن يعتقد فيه الإمامة بالنص، وممن يرى وجوب إطاعته، ولزوم الاستماتة في سبيل شخصه، وهم الذين نصطلح عليهم بالشيعة الإمامية في عصرنا الحاضر بما لهم من حدود عقائدية.

لكن، ما الشاهد على ما تقدّم؟

وأين ذهب المعتقدون بإمامة الحسين (علیه السلام) وعصمته؟

واين الذين كانوا مع أبيه وأخيه؟

أين شرطة الخميس الذين عاهدوا أمير المؤمنين (علیه السلام) على الموت حتى تحقيق أهدافه المقدّسة؟

أين من قامت بسواعدهم ومعاضدتهم ملاحم الجمل وصفين والنهروان، وكسرالله تعالى بهم تلك الفتن؟

عن الإمام الشهيد (علیه السلام) أنه قال في خطبته الاولى يوم الطف:

«يا شبث بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا زيد بن الحارث، ألم .

ص: 415


1- سورة النساء، الآية 75 .

تكتبوا إليَّ أن قد أينعت الثمار، واخضرّ الجناب، وإنما تقدّم على جندٍ لك مجنّد». (1)

ان شبث بن ربعي مثلاً كان من قادة الخوارج، وهو وإن كان كارهاً للخروج لحرب الإمام (علیه السلام) وتمارض حينها، إلاّ أنّ ابن زياد أحرجه وأخرجه في الفٍ من المقاتلين، وفي احداث الطف يُروى: أنه كان في بعض الأحيان يتجنب المقاتلة، وينأى عنها، لكن هذا لا يمحو سواد صحيفته، ولا العار والخزي وعظم المأثم الذي لحق به لجريمتين عظيمتين بل أربع:

أ- خروجه ومشاركته في مقاتلة خليفة الله تعالى، وابن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، والإمام الحق، والآمر بالمعروف والعدل.

ب- كونه من قادة الجند.

ﺟ- وهذه العظمى: كونه كتب للإمام(علیه السلام)، ثم نكل وخذل، فنقض عهده، وتسبّب في حصول ما حصل للإمام(علیه السلام)، ولعائلة بيت النبوة، وللإسلام ككل.

د- كونه جمع بين الجريمتين الكتابة للإمام، والخروج عليه لحربه.

وقد نقل الشيخ المفيد (2)أسماء آخرين شاركوا الذين ذكرهم الإمام صلوات الله عليه في إرسال تلك الرسالة كعمرو بن الحجاج الزبيدي - وهو من قادة جند ابن زياد في الطف - ومحمد بن عمرو - عمير- التميمي وعروة بن قيس.

وعن الإمام في خطبته الأخيرة يوم الطف قوله:

«تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً، حين استصرختمونا والهين، فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم أولياء - إلباً - لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل .

ص: 416


1- الإرشاد، الشيخ المفيد، ﺟ 2 ص 98 .
2- الإرشاد، ﺟ 2 ص 38 .

أصبح لكم فيهم، فَهَلاّ - لكم الويلات - تركتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لما يُستحصف...

أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون، أجل والله غدر فيكم قديم، وشجت عليه اصولكم، وتأزرت عليه فروعكم، فكنتم أخبث ثمرة، شَجاً للناظر، واكلةٍ للغاصب، ألا فلعنة الله على الناكثين.....». (1)

بعد التأمل في هذا النص، لا نلمح فيه ما يفيدنا ان الإمام (علیه السلام) كان يكلم شيعةًخذلوا إمامهم، أو محبين أظهروا خلاف ما انطوت عليه نفوسهم من الحُبّ، بل يكلم أُناساً لهم تأريخ مع أهل البيت في النكث والغدر، وهذا شأن الخوارج، وشأن من كانواعلى غير خط أهل البيت(علیهم السلام).

ومن يُراجع خُطب الإمام السجاد(علیه السلام)، والعقيلة (2)زينب(علیها السلام) ، وفاطمةالصغرى (علیهم السلام) في الكوفة، لوجد أنهم ينسبون الجُرم إلى أهل الكوفة، وإلى معشرٍمُسلمةٍ بألسنتهم، وإلى من كاتب الإمام (علیه السلام) وأعطاه العهد والميثاق ثم خذله، فلا ذكرلشيعة منقلبين ومرتدين ونحو هذي مما يفيد وجود شيعة موالين ومعتقدين بإمامة سيدالشهداء بما عليه طائفة الإمامية اليوم، وقد قدمنا أن قسماً ممن كاتب الإمام (علیه السلام) إنما هم من الخوارج، والجامع بين من كاتب الإمام، بُغض الفئة الحاكمة ونقمتهم عليها، بغضّ النظر عن معتقدهم، وعن نيّتهم في التقرب إلى المولى سبحانه في تمردهم على الدولة.

فأين الشيعة إذن؟

تذكر بعض المصادر التأريخية (3): أنّه ونتيجةً لإجراءات معاوية وولاته في محاربة .

ص: 417


1- الاحتجاج، ﺟ 2 ص 97 والحسين(علیه السلام)، الجلالي ص 170 ، وتحف العقول، ص 240 باختلاف بينهما.
2- الاحتجاج، ﺟ 2 ص 104 إلى ص 119 .
3- كتاب سُليم بن قيس الهلالي، ﺟ 2 ص 788 .

شيعة علي(علیه السلام): «فلم يبق وليٌّ لله إلاّ خائفاً على دمه، أو مقتول، أو طريد، أو شريد»

إذ أوعز معاوية إلى ولاته بقتلهم، وتشتيتهم، ومصادرة أموالهم، وفعل الأفاعيل بهم، وقد سوّد زياد صحائف التأريخ بما صنع بشيعة آل محمد في الكوفة إبّان تلك الفترة.

ويذكر التأريخ ان زياد بن أبيه نفى «50» ألفاً من شيعة الكوفة إلى خراسان يقول القرشي: إنهم نشروا التشيع هناك (1).

هذا قبل حركة الإمام سيد الشهداء(علیه السلام)، وأما بعد البدء بالتحرك:

فقد جاء ابن زياد من البصرة إلى الكوفة، وقتل فيها وسجن بعد حركة مسلم رضوان الله تعالى عليه حتى قيل إن عدد المعتقلين قد بلغ قرابة الاثني عشر ألفاً (2)وأغلبهم إن لم يكن جميعهم من الشيعة وأنصار الإمام وممن يُخاف منه النزوع نحو هذا الاتجاه.

كما قام ابن زياد بقتل البعض منهم، فقد قتل من القادة:

مسلماً، وهانئاً، وميثماً الت رّام، وعبد الله بن يقطر، وقيس بن مسهّر الصيداوي، وغيرهم.

على أنه التحق بالإمام (علیه السلام) جمع من أهل الكوفة أثناء إقامته بمكة، وفي طريقه إلى الكوفة، وبعد التقائه بجيش ابن سعد.

وقسم تسلل من الكوفة رغم المسالح والكتائب والتحق بالإمام القائد(علیه السلام).

وقسم اخر التحق بجيش ابن سعد ثم تركه والتحق بجيش الإمام(علیه السلام).

هؤلاء شيعة آل محمد وهذا وضعهم ومآلهم.

على المشانق، وفي السجون، وتحت سياط التعذيب، ومن وجد منفذاً توجه من .

ص: 418


1- حياة الإمام الحسين (علیه السلام) للشيخ القرشي، ﺟ 2 ص 178 عن تأريخ الشعوب الإسلامية، ﺟ 1 ص 147 .
2- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 2 ص 416 .

خلاله إلى الإمام والتحق به: في مكة، أثناء المسير إلى الكوفة، في كربلاء.

أما غيرهم ممن التحق بجيش ابن زياد فلم يكونوا بهذا المعنى من التشيّع أبداً، فهم بضرسٍ قاطع ليسوا من الشيعة ولا بحاملين لمعتقد التشيّع.

وإن ورد هذا فيهم، فهو بمعنى آخر، ولعلّه بالمعنى اللغوي الذي يُراد منه نحواً من المتابعة، أعم من حمل عقائد الأئمة من أهل البيت، والتزام خطهم ونهجهم العقيدي والسلوكي.

على اننا لا نُضايق لو التزمنا بوجود بعض من يعتقد بإمامة الإمام، وقد انقلب على عقبيه وانضمّ إلى جيش ابن زياد - جيش الكفر- طمعاً، أو خوفاً وجبناً، أو شكاً وارتداداً، فقد انقلب البعض عبر التأريخ ممن كانوا على ظاهر التشيع والاعتقاد بإمامة الأئمة إلى طائفة مقابلة، أو إلى طائفةٍ خاصّةٍ بهم ابتدعوها.

الواقفية مثلاً انقلب قادتها طمعاً بمال الإمام (1)منهم علي بن أبي حمزة البطائني، وزياد القندي، وأدى انقلابهما إلى التأثير على جمع من الشيعة، فانقلبوا معهم طمعاً أواّريتحً.

والفطحيّة، والخطابية، والنصيرية، وغيرهم- قديماً وحديثاً- انقلبوا لهذا السبب أو ذاك.

بل ذكر الشيخ الطوسي في مقدمة كتابه التهذيب أن بعض الأفراد رجعوا عن التشيع لدخول شبهة عليهم بسبب ورود روايات متعارضة منسوبة للأئمة المعصومين (علیهم السلام)واستعصى عليهم وجه الجمع بينها (2)، وهكذا، فالإيمان منه مستقر ومنه مستودع، غيراننا ننفي كون صبغة الجيش المنفّذ لقتل الإمام هي التشيع، بل العكس هو الصحيح. .

ص: 419


1- مقباس الهداية، الشيخ عبد الله المامقاني، ﺟ 1 ص 328 .
2- التهذيب، الشيخ الطوسي، ﺟ 1 ص 53 .

إذ الأعم الأغلب، بل جميع من حارب الإمام كان على خلاف خط الأئمة، وممن كان مضادّاً ناصباً العداء لهم، أو لا شأن له بهم، فهو يتبع الدولة في أوامرها ونواهيها سواءاً أحاربت الروم، أو الخوارج، بل حتى أولاد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله).

وأما الشيعة، فقد رُفعوا على المشانق، وامتلأت بهم السجون، وأخذ البعض منهم الرعب والجبن لإجراءات ابن زياد الإرهابية والتنكيلية، ومنهم من خرج فيما بعد تحت عنوان التوابين للأخذ بثأر الإمام، ولغسل خطيئته بالقعود والتهاون عن نصرة الإمام(علیه السلام)، ومنهم من حاصرته المسالح والكتائب فلم يتمكن من الالتحاق بالإمام (علیه السلام)حتى وقعت الواقعة، وقد ذكرت بعض المصادر التأريخية ان جيشاً من البصرة ورد للالتحاق بالإمام (علیه السلام) ولنصرته، غير أنه بلغته أخبار استشهاد الإمام (علیه السلام) وهو في الطريق، فرجع إدراجه.

فالإمام (علیه السلام) حين اتخذ قرار النهضة لم يتخذ قراره استناداً إلى كتب لأناس غير جادّين في نقض كيان الدولة الاُموية، وليس بينهم وبين الفئة الحاكمة عداوة حقيقية أبداً، فهم كلهم ذوو موقف عدائي مع الكيان الحاكم، وإن كان لأسباب مختلفة، ومع ذلك فلم يعتمد عليهم الإمام (علیه السلام) فقط، وهو العارف بهم والخبير بالكوفة منذ أيام أبيه الإمام (علیه السلام)وأيام أخيه، ولا يُعقل أبداً أن يعتمدهم الإمام (علیه السلام) فقط للنهضة، بل الإمام (علیه السلام) نهض اعتماداً على آلافٍ من مختلف الفئات بهم الكفاية لنقض قواعد الدولة ولهدّ كيانها، بالإضافة إلى العوامل الاُخرى المتوفرة غير أنّ الحال، وما آل إليه، ما شرحناه.

ونشير اشارةً نافعةً إلى أمرٍ خطیر، ٍ وهو:

إن بعض من كتب للإمام (علیه السلام) كان يكتب إليه ويحرّضه خدمة لبني اُمية، أو لإيقاع الإمام (علیه السلام) في الخطر والتهلكة، انتقاماً منه ومن آل البيت(علیهم السلام).

فقد نُقل أنّ بني هاشم بعد فاجعة الطف اتهموا يزيداً بأنه دسّ الرجال للإمام (علیه السلام)

ص: 420

ليخرج عن مكة إلى الصحاري، كي يسهل القضاء عليه (1).

وعن أنساب الأشراف أن الإمام (علیه السلام) قال لأصحابه المخلصين: «ما كتب إليّ من كتب، الاّ مكيدةً لي وتقرباً لابن معاوية». (2)

انّ هذا لا مانع من التزامه في الجملة، لكن لا يُمكن قبوله بإطلاقه، بل يُجزم بعدم واقعيته، إذ أن حركة الإمام (علیه السلام) نتجت عن معاناة سنين كثيرة لقيت الأمة فيها الويلات من آل اُمية، وعن وعود وعهود - لآلافٍ فيهم القادة والزعماء - للإمام (علیه السلام) والرواية عامية، والأمر فيها سهل.

ويُمكن توجيه القضية: بأنّ يزيداً حاول توسعة نطاق انتقامه من عموم بني هاشم بعد الطف، فواجهه بعض الهاشميين بإتهامه - يزيد- بسببيته في دفعه الإمام (علیه السلام) للخروج، بهذا الشكل أو ذاك، كي يتخلصوا من شَرهِّ-يزيد- وإلّا لا يُمكن أنْ يُخْدَع الإمام صلواته الله عليه وسلامه بهذه البساطة وهو من هو في خصائصه وذاتياته وعصمته، وبعد ملاحظة ظروف الحركة الحسينية.

وكيف كان فهذا الأمر كثير الحصول - وفي زماننا كذلك - إذ يعمد أحد طرفي النزاع إلى دفع الطرف الآخر - بالتضييق عليه أو استفزازه - لإعلان موقفه قولاً أو سلوكا، ليَتّخِذ هذا سبباً لضربه، وتحطيمه، وإنهاء دوره، وقتل شخصيته، أو قتله شخصاً.

وعجيبة اخرى: أن ذلك الجمع الاُموي المنحرف قتل الإمام الحسين سبط رسول الله وريحانته من الدنيا - صلوات الله عليه وعلى من معه في الركب - بعد ما ص صلاة الظهيرة في عرصات كربلاء أمام الجمع، وبعد ما قُتل من جيشه – الإمام - العشرات.ف.

ص: 421


1- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 155 .
2- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 170 ، عن أنساب الأشراف.

ومن قبل، ترك أبو بكر وعمر تنفيذ الأمر النبوي بقتل ذي الثدية، بدعوى إنهما وجداه على حال صلاة، مع تكرر الأمر النبوي بقتله، فلم يمتثلا ولم يراعيا الأمر (1).

فهذه الاُمة الفاجرة الكافرة لم تأخذ بهدي الحسين (علیه السلام) ونهجه، بل ذبحته وأطفاله وآله وصحبه، ولم تأخذ بنهج أبي بكر وعمر اللذين تركا تنفيذ أمر النبي بقتل من هو من أكابر المجرمين بدعوى أنه يص ، ّيل ومعروف أن النبی (صلی الله علیه و آله) قَبِلَ إسلام أبي سفيان- وهوالمنافق الذي قضى حياته في تجهيز الجيوش للقضاء على الإسلام، ولقتل النبی (صلی الله علیه و آله)- فإذن ما هو شأن الذي أمر النبي بقتله، لابُدّ أنه كان على درجةٍ من الكفر والإجرام عاليةجداً ليأمر النبی (صلی الله علیه و آله) بقتله، ومع هذا تركه أبو بكر وعمر لوجدانهم إياه في حال الصلاة-بحسب دعواهما-.

بل انّ من شيم العرب -حتى اجلافهم- احترام وتعظيم أولاد زعمائهم وقادتهم، بغضّ النظر عن حالهم وواقعهم، لانهم أبناء زعمائهم فقط.

فهلاّ غضّت الاُمة الفاجرة طرفها عن ابن رسول الله، وهوخير الناس، وملاذالقاصي والداني، وقد عرض عليهم ان يرجع من حيث أتى، أو يذهب في بلاد الله

العريضة.

ونُنهي كلامنا حول القاتل المباشر -شمر (2)-لعنة الله تعالى عليه.

إذ ابتدأت الفاجعة به، فهو الذي حرّض ابن زياد على قتل الإمام (علیه السلام) وعلى رفض عرض ابن سعد لمهادنته، بعدما كاد ان يُعرض عن أمر قتله.

وهو الذي قتل البطل نافع بن هلال الجملي رضوان الله تعالى عليه - وهنيئاً لنافعٍ .

ص: 422


1- راجع لتعرف تفصيل القصة: النص والاجتهاد، السيد عبد الحسين شرف الدين، ص 79 .
2- ورد في عدّة من النصوص توصيف شمرٍ بأنه كلب أبقع، وكان شمرٌ ابرصاً فراجع بحارالأنوار، ﺟ 45 ص 31 .

موقفه وخاتمته ومرتبته -.

وهو الذي في نهاية المطاف ارتكب الجريمة الأعظم في التأريخ، فذبح الإمام صبراً من الوريد إلى الوريد.

كما أنه حاول إحراق خيام الحسين (علیه السلام) قبل بدء المنازلة.

هذا بعض شأنه، وأما فعاله في ساحة المعركة ومع أسرى آل محمد (صلی الله علیه و آله) في حلّهم وترحالهم، فلا يحيط بها قلم، ولا يضيع مقدار خردل عند أسرع الحاسبين.

تنبيه:

من المسائل التي يُمكن إعتبارها من القواعد الفقهية في الشريع الإسلامي:

أن المرء إذا دُعي إلى الله تعالى وإلى طاعته، ووُضّح له الحكم، واُقيمت الحجة عليه، ثم أبى، فقد استحق العقاب في الدنيا والآخرة، وإن لم يتعدّ مرتبة الإباء إلى فعلٍ آخرمناهضٍ للتشريع أو للشريعة.

ومثاله: الكفار الذين يُدعون إلى الإسلام، وتوضّح لهم حقيقته، فإ مّهن إذا أبوا الأخذ بالإسلام، وأبوا اعتناقه، فلجيوش الإسلام مهاجمتهم ومقاتلتهم وتنفيذ أحكام الله فيهم من قتل، أو أسرٍ، أو مصادرةِ أملاك، وغيرها.

ومن هذا القبيل: استيجاب جيش ابن زياد للعذاب الإلهي قبل وقوع القتال بينهم وبين الإمام(علیه السلام)، إذ مع غضّ النظر عن مقدار وعيهم لحقيقة الإمام الحسين(علیه السلام)، وحقيقةيزيد، وعن بقية ما يتعلق بالحالة المُعاشة والتي اقتضت من الكوفيين الثورة على النظام الأموي الجائر، ومع الغضّ عن وضوح موقف الإسلام برفض الطبقة الحاكمة من فئةيزيد وابن زياد كقدرٍ متيقن عند الكل.

أقول: مع الغض عن كل ما تقدم، فإن الإمام الشهيد (علیه السلام) قد وقف أمام القوم مراراً،

ص: 423

من حين التقاءه بجيش الحر حتى استشهاده، يوضح لهم حقائق الاُمور، وما ورد بحقّه من نصوص، ويدعوهم إلى نصرته، أو إلى الابتعاد عن مساندة الفئة الحاكمة في الأقلّ، وكرّر عليهم الخطاب، ثم تقدم عدة من أصحابه ينصحون القوم ويدعونهم إلى نصرة من لا يجهلون قدره، وإلى خذلان من قد خبروا سوء ذاته وسيرته -يزيد- حتى تقدّم إليهم وألقى الحجة عليهم من كان أحدهم بل من قادتهم قبل ساعة - الحر الرياحي- وكذلك من كان على مذهبهم وخطّهم وفكرهم - زهير بن القين - إلى ما قبل أيام، لكنّ هذا لم يُغ من واقعهم شيء، نعم تحول جمع قليل منهم - الحر وعشرات من المقاتلين - إلى صف الإمام المظلوم وبقي عشرات الآلاف سادرين في غيّهم، قد أعماهم واصمّهم عن الاستجابة لنداء الحق حبّ السلامة، والخنوع تحت قهارية المُتَغَّلِب المتجبّر دون أن يرقبوا الله سبحانه أن يغضب عليهم، وقد حكى لهم في كتابه كيف غضب على من خالفه فصاد السمك يوم السبت، وعلى من عقر الناقة، فكيف بمن يقتل خليفته في أرضه، وابن رسوله الامين (صلی الله علیه و آله)، وإمام الأمة(علیه السلام)، ثم يسبي عائلة النبی (صلی الله علیه و آله) - نساءه وصبيته - ولا أقلّ من أن الإمام (علیه السلام) جاء للأمر بالمعروف وللنهي عن المنكر، ولتطبيق أحكام الإسلام، وما جاء الاّ عن طلبهم واستغاثتهم تنفيذاً لأمر الآية الكريمة: «وَمَا لَکُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَ-ذِهِ الْقَرْیَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنکَ وَلِیًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنکَ نَصِیرًا».

وإذا بهم يقلبوا له ظهر المِجَنّ، ويحيطوا به، لإحدى غايتين:

أ- اما للاستسلام المذلّ للدعي ابن الدعي.

ب- أو للقتال - بعدما اعطيت أوامر القتل لجهات كثيرة على مدى ستة أشهر تقريباً -.

فما وجد إمام (علیه السلام) الأمة ومفزعها وملاذها غير رفض كل الخيارات المتاحة، وإعلانه

ص: 424

استعداده لبذل روحه في سبيل إبقاء راية الإسلام مرفوعة، والتضحية بكل ما يتعلق به ما دام في هذا تحقيقاً لرضا الله سبحانه، وقد تقبّل الله سبحانه هذه التضحية الغالية، فكتب النصر المبين للحسين في الدنيا، والعذاب المهول على أعدائه في الدارين، وليس هذا تمام الكلام في الجزاء فجزاء الطرفين مما لا نُحيط به، والاعتذار عن بيانه أُولى.

وخلاصة ما مرّ: أن أهل الكوفة قد استوجبوا العذاب الأليم بمجردّ ردّ دعوةالحسين (علیه السلام) وإباءهم عن الإخذ بها، سواءً قاتلوه أم لا، فكيف بهم وقد فعلوا من الجرائم والخزايا ما لا يُحيط به قلم ولا فكر.

وقد ورد عن سيد الشهداء قوله للشهيد حنظلة بن سعد الشبامي، بعد ما خطب حنظلة في الجيش السفياني:

يا ابن سعد: «إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق، ونهضوا إليك يشتمونك وأصحابك، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين». (1) .

ص: 425


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 23 .

ص: 426

المرقد الطاهر

عن عقيلة بني هاشم زينب بنت علي بن أبي طالب (علیهم السلام) في قولها للإمام السجّاد(علیه السلام):

ولقد أخذ الله ميثاق اُناسٍ من هذه الأمة، لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات، أنهم یجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرّجة، وينصبون لهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيد الشهداء (علیه السلام) لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً، وأمره إلاّ علوّاً (1).

وحقاً ما نقل عن السيدة العقيلة(علیها السلام) ، فهذا ضريح الإمام (علیه السلام) سيد الشهداء شامخ عبر العصور، يقصده الشيعة والمحبّون والمنصفون من كافة أرجاء العالم، ولا يستطيع له الطغاة إلاّ السكوت على مضض، أو مماشاة الناس في تعظيمهم واهتمامهم، أو أن يرعد الطاغية ويزبد ثم یخنس دهراً.

من آخر ما روي ع ما صنعه الإمام الحسين صلوات الله عليه قبل استشهاده: أنّه أوصى إلى ولده علي بن الحسين السجاد - والمشرف على الموت أيضاً من شدة مرضه -:

قال له: «يا بنيّ، إيّاك وظُلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله»(2).

وتوجّه الإمام (علیه السلام) إلى حُرمه ونسائه، فأمرهنّ بلبس الأزُر، وقال لهن:

«استعدّوا للبلاء، واعلموا أن الله تعالى حاميكم، وحافظكم، وسينجيكم من شرّ

ص: 427


1- بحار الأنوار، ج28 ص 57 .
2- بحار الأنوار، ج46 ص 154 .

الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب عدوّكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النعِم والكرامة، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما يُنقص قدركم». (1)

وهكذا كان.

وسقط سيد شباب أهل الجنة في عرصات كربلاء، مضمّخاً بدمائه الزكية.

ذبحوه وما زال به رمق من الحياة، بخلاف صحبه الذين قطعت رؤوسهم بعد ما فارقت الروح أبدانهم.

ذبحوه وهو يكلّمهم ويعظهم.

ذبحوه، وقطعوا رأسه المقدّس، ثم سلبوه، وأجروا الخيل على جسده وطحنوا عِظامه.

ورفعوا رأسه على الرُمح.

وتركوا جسده في العراء بلا دفن هو وصحبه بعد أن دفنوا قتلاهم.

وقد قَيَّضَ الله سبحانه لتلك الأجساد الطاهرة من دفنها من عشيرة بني أسد.

وفي الرواية: أن الإمام السجاد (علیه السلام) حضر لدفن والده وشهداء الطف كافة، وكان حضوره على نحو الإعجاز والكرامة الربّانية - بما أنه خليفة الله ورسوله في الأمة -.

ومحل دفن الإمام وصحبه معروف لم يختلف فيه إثنان.

نعم الخلاف في محل دفن رأسه المقدّس.

والمعروف في الطائفة: أنه أعاده الإمام السجاد إلى كربلاء، حيث الجسد المقدّس.

وقول آخر: بدفنه في الشام.

وآخر: بأنه بعد دفنه في الشام، فأنه نُقل إلى مصر حيث مشهد الحسين في القاهرة .

ص: 428


1- السيدة زينب(علیها السلام) ، الشيخ القرشي، ص 267 .

اليوم، تجد تفاصيل نقل الرأس المقدّس وذكر حاله عند إخراجه، وأن دمه لم يكن قدجفّ بعد، وأنّ له ريح كريح المسك، في كتاب نسمة السحر (1).

كما ذكر تفاصيل مشهد الإمام الحسين (علیه السلام) في القاهرة العلاّمة الأميني في الغدير عن رحلة ابن جُبير (2).

وفي أفغانستان، في مدينة «مزار شريف» مشهد ضخم معروف هناك بأنه مشهد رأس الحسين(علیه السلام).

وفي رواية: إنّ الحسين (علیه السلام) يأتي إلى القيامة في موقفٍ من مواقفها بدون رأس، ولعل فيها بعض الإشعار بأن الرأس غير مدفون مع الجسد المقدّس. .

ص: 429


1- نسمة السحر، الصنعاني، ﺟ 1 ص 473 .
2- الغدير، الشيخ الأميني، ﺟ 5 ص 267 .

ص: 430

الفصل الثالث

اشارة

ص: 431

ص: 432

نتائج الطف

في الرواية عن مولانا الإمام الصادق(علیه السلام): «لمّا قَدِمَ عليّ بن الحسين وقد قُتِلَ الحسين بن علي صلوات الله عليهم استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقال: يا عليَ بن الحسين من غلب؟

وهو يغطي رأسه وهو في المحمل، قال: فقال له عليُّ بن الحسين: إذا أردت أن تعلم من غلب، ودخل وقت الصلاة، فأذِن، ثمَ أقم».(1)

في الواقع ان نتائج الحركة المباركة للسبط الشهيد لها آفاق واسعة لا ح تيط بها كتب، فضلاً عن وريقات متواضعة، نحاول عبرها تسجيل بعض هذه الآثار، ومنها:

1- إنهاء الدولة السفيانية:

وهذا الأثر قلّما يتم التأكيد عليه، مع أهميّته العظيمة، إذ إنّ الحركة الحسينية فجّرت الغضب في أبناء الأمة ورجالاتها، وهزّت ضمائرهم ومشاعرهم، وأثارت الحزن العميق في نفوسهم، وأورثتهم تأنيباً وملامة للنفس، وشعوراً بالتقصير، وحسرةً لا تنقطع.

وهذا أدى إلى تعجيل ثوران بعض الحركات المسلحة ضد يزيد، مما زاد في فضحه في الأمة، ودقّ الإسفين بينه وبينها، وجعله في خط اللا رجعة، فإما أن يزداد قتلاً وتدميراً وإيغالاً في الجريمة، وإما أن تقضي الأمة عليه.

وهلك يزيد، ولا ندري من حقيقة هلاكه ما جرى، غير إن اغتياله يبقى أمراً محتملاًجدّاً، وإنْ لم نَعْرِف ناقلاً له.

ص: 433


1- بحار الأنوار، ج45 ص 177 .

إذ هنالك نُقُولٌ مختلفة في كيفية هلاكه، منها:

أنه حمل قردته المفضّلة على أتانٍ، وهو سكران، ثم ركض خلفها، فسقط، فاندقت عنقه.

هذا بحسب رواية البلاذري، وأما بحسب ما نقله ابن كثير، فهو:

أنه حمل قردة وجعل ينقزها، فعضَّتْهُ، فمات مِن عَضّتِها (1).

ولا شك أنّ هذه موتة ذليلة فاضحة تليق بمثله.

بعد هلاكه، تو الأمر ابنه معاوية، والذي صدمته جرائم آبائه في أهل البيت (علیهم السلام) فخطب في أهل الشام، ففضح أبيه يزيد (2)، وجدّه معاوية، بما ارتكبا من جرائم، وخطّأهما فيما فعلاه لتولي الخلافة، وأقرّ بعدم استحقاقهما لها، وأعلن عظم جريمة أبيه في قتله سيد الشهداء (علیه السلام) ثم تخ عن الخلافة، وترك مقعدها خالياً، فلم يرشح لها أحدا -وقد قتله آل أمية فيما بعد-.

وبهذا انتهت السلالة السفيانية، وسقطت عن المُتّكأ الذي باعت من اجله كل المقدّسات، وكل فضائل الإنسانية، من اجل سنوات قليلة أكلوا فيها شيئاً من مخوخ الطيور، وسكروا، وعربدوا، ثم انطفأوا، لكن خلّفوا خلفهم سنناً ومآسي ومخازي لاتحصد لهم غير اللعنة.

نعم أنذرت الأحاديث بظهور السفياني(3) من نسلهم في آخر الزمان، يحمل نسبهم وأخلاقهم ومبادئهم، ويسير بسيرتهم، وينطفئ سريعاً أيضا، على يد ثائر الحسين (علیه السلام)ا.

ص: 434


1- معالم المدرستين، ﺟ 3 ص 22 .
2- الملحمة الحسينية، الشيخ الشهيد المطهري، ﺟ 2 ص 74 .
3- راجع لما ورد من روايات في السفياني: بحار الأنوار، ﺟ 52 ص 181 وما بعدها، وعقد الدرر للمقدسي الشافعي، ص 67 وما بعدها.

المهدي المنتظر(علیه السلام).

فالدولة السفيانية إذن انتهت سريعاً ببركة الحركة الحسينية.

انتهت بيزيد، ولولا الإمام (علیه السلام) لاستمرت الدولة التي تحمل روح أبي سفيان واسمه إلى ما شاء الله تعالى، إذ لا معوّق أمامها.

نعم، ابتدأت بعدها الدولة المروانية، وهي الشق الثاني للدولة الأموية، والحاملةلنفس فكرها وروحها، ولا تُنسى مواقف مروان الإجرامية:

ضد الدين وأهل البيت (علیهم السلام) والأمة أيام عثمان.

وفي عهد الإمام علي (علیه السلام) إذ هو أحد الناكثين والمثيرين للفتنة ضد أمير المؤمنين(علیه السلام).

ومواقفه ضد الإمام الحسن(علیه السلام).

وضد أبي الشهداء الحسين (علیه السلام) في المدينة.

وما يوم أهل البيت (علیهم السلام) من مروان بواحد.

وقد قضت الحركة الحسينية فيما بعد على الدولة المروانية، والحقتها بأختها السفيانية، وطوت بذلك وجود بني اُمية من دائرة الخلافة الإسلاميّة، بعد ما تركوا خلفهم تأريخاً كلّه أجرام.

وقد أقلق هؤلاء من قبل قلب النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) بعد ما رأى في منامه نزوهم على منبره كنزو القردة فنزلت الآيات: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤیَا الَّتِی أَرَیْنَاکَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِی القُرْآنِ».

والشجرة الملعونة هم بنو اُمية.

وكذلك الآيات: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» والألف شهر مدة الدولةالأُموية.

ص: 435

فما يُذكر من أنّ دولة بني اُمية استمرّت قرابة قرن من الزمن، ثم انتهت نتيجةًلحركة سيد الشهداء (علیه السلام) دون التأكيد على قضائها السريع على الدولة السفيانية، يؤدي إلى الغفلة عن التأثير السريع لحركة الإمام(علیه السلام)، وظهور الاستجابة لدعاء الإمام (علیه السلام) ضدهذه الحفنة المجرمة، من التعجيل بانتهاء عهد آل أبي سفيان.

ذلك انّ فترة القرن طويلة جداً لظهور الأثر للنهضة الحسينيّة، بينما الأكيد أنّ الأثر بدء فوراً، بثورات متتابعة إلى ثورة المختار الذي قتل منهم مقتلة عظيمة وأباد أكثر من شارك في الفاجعة، ثم استمرت سلسلة الثورات حتى اندلاع الثورة الهاشمية -والتي ركب بنو العباس صهوتها- وهي التي أبادت آل امية عن جديد الأرض.

2- إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

إنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الفرائض الإسلامية وبها تُقام باقي الفرائض وتُؤدّى، وعن طريقها تترسخ أحكام الإسلام وتتجذّر، وقد آل مصير هذه الفريضة في ظلّ مجموعة الحكم الأموي إلى ضمورها عملياً وخروجها عن حيّز فرائض الإسلام فكل مسلم يصلي ويصوم ويحج إلاّ إنّه ليس من الضروري إنّ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالقول فضلاً عن بقيّة المراتب الشديدة.

ومن المعلوم المجرّب -بل دلّت عليه نصوص أيضاً- انّ من يترك الأمر والنهي بالمراتب المطلوبة ينتهي به الأمر إلى أن تنتهي عنده المرتبة الأولى أيضاً وهي الإنكاربالقلب.

بل ينتهي عنده أصل رفض المنكر بالقلب، إذ ينتكس قلبه فيصبح أسفله اعلاه وبالعكس، ويرى الأمور حينها بعكس ما هي عليه من حقيقة فلا يتوقف عند حالة انّه لا ينكر منكراً ولا يأمر بمعروف، بل قد يرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ثم يأخذ بالأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وبهذا ينسلخ عن فطرته بالمرّة، ويخرج عن الإسلام

ص: 436

واقعياً وان كان فيه ظاهرياً، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يموت على غير ملة الإسلام أويكاد، كما نراه في زماننا عياناً.

لقد بلغ الحكام الجائرون بهذه الفريضة مبلغاً فضيعاً إذ شجّعوا مقولتي:

«الحريات الشخصية» و «عدم صحة التدخل في شوؤن الآخرين».

بنطاقٍ واسع جداً بحيث لا يبقى مجال لإعمال هذه الفريضة في مواردها، فأصبح الأمر والنهي تدخلاً مرفوضاً في شوؤن الآخرين وجريمة يُعاقب عليها القانون، وهو ما يأباه القانون الإسلامي والتشريع الإلهي إباءً شديداً، وقد وصل الأمر إلى حدّ بحيث لا يعتبر موقف اولئك الحكام من قبيل عدم الحكم بما أنزل الله سبحانه أو عند حدود عصيان أمره تعالى فحسب، بل هوتمرد وتحدّي وتشريع لما يقابل حكمه تعالى وتقدس، ثم التعدي منه إلى قسر الناس على اتباع ما يقابل حكم الله تبارك وتعالى، والأمر يستشري يوماً بعد يوم، ويزداد مساحة وتجذراً في عقر بلاد الإسلام فما بالك إذا كُنت تعيش خارجها.

لقد حطّم الحسين (علیه السلام) هذا التوجه في أيامه وإلى عصرنا هذا وأصبح مضادّة هذاالتوجّه ولو بحمل السلاح وسفك المهج أمراً مشروعاً واضحاً من شرع الإسلام ببركةنهضة أبي الأحرار سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومحيي شريعته.

نعم لا ريب أنّ الأمر والنهي قد يحرُمان في موارد، فليسا هما بصحيحين أو جائزين بشكلٍ مطلق، فالتمكن من اتباع النهج الحسيني سكوناً وانطلاقاً شيء، وإماتة هذه الفريضة في أغلب مواردها شيء آخر، والذي يريده الإسلام هو ما نهجه الحسين (علیه السلام) عند ما سكن، وما نهجه عندما أطلق صرخته المدويّة، ورفع عنده سيفه، وسفك لأجل تحقيقه: دمه.

الحسين قلب الموازين الأموية وتلك الخطط الماكرة على رؤوس أهل الكفر

ص: 437

والفساد، إذ هي التي سببت دماراً لا صُحير نطاقه في مجتمع الإسلام والذي بُني بجهادالنبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) سنين طوال، فما فتيء بنو أمية حتى ردّوا الناس على أعقابهم القهقرى وأعادوها جاهلية وأين منهم الجاهلية؟ بل هذه ألعن وأشد كفراً وإجراماً.

ويتب ممّا تقدّم: إنّ الحركة الحسينية انتجت التفات مجموعة من الأمة إلى وجود حدود في الإسلام وضوابط لا يصحّ تجاوزها والالتفاف عليها وغضّ الطرف عنها وإلاّ فسيخرج المرء عن ساحة الإسلام أو سيبقى ضمن دائرته اسماً ويخرج عنه حقيقةً حاله حال المنافق، وهو ما لم يَعِهِ من ترسّم خطى الحكام الظالمين المستأسدين على آل بيت الرسول (صلی الله علیه و آله) إذ نرى أبناء هذا النهج قد تجاوزوا جميع الخطوط الحمراء المرسومةفي الإسلام بمدى شاسع، وهم بَعْدُ يعتبرون أنفسهم من يمثّلون الخط الأصيل فيه، فتراهم يترسّمون نهج الأطياف المختلفة ويجمعون في الولاء والاحترام بين علي ومعاويةوبين الحسين ويزيد -وأين أقصى اليمين من أقصى اليسار- دون أن يستشعروا التناقض الصارخ الذي وقعوا فيه، أو إباء الإسلام بصورة أكيدة للجمع بين هذين المسارين.

وبناءاً على ما تقدّم: فقد تمّ -ببركة الثورة الحسينية، والتضحيات الهائلة التي قدّمها الحسين وصحبه- انفتاح جمع من جماهير الأمة على خط الولاء لأهل بيت الرسول والأئمة المعصومين من ذريته بعد ما نفخ الحسين (علیه السلام) الروح في هذا الكيان وقد كاد أن يقضي عليه معاوية ويزيد القضاء المبرم.

لقد تنسّم خط أهل البيت الرَوْحَ من جديد بالحسين وصحبه بعد ما أعرض الكثيرعنه بضغط الظالمين ودسائسهم فحالوا بين الأمة وبين أوليائها الحقيقيين ووجهوهانحو موالاة جزّارها.

ونتيجةً لما تقدّم: فقد ادى إبعاد الخلافة عن أهل البيت إلى مناوئيهم ممن لم تنحسرالجاهلية -عقيدة وفكراً وسلوكاً- عن ذواتهم، إلى ضياع الأهداف المنشودة من بعثة

ص: 438

الأنبياء وإنزال الشرايع، أو في الأقل حدوث التباطؤ في السير نحو إنجاز تلك الأهداف العظام، وإن ما كسبته البشرية من تحريفات الظالمين ودسائسهم هو: وجود دين منسوب إلى السماء إلاّ إنّه مشتمل على محاذير كثيرة تؤدي بالبشرية إلى نتائج خطيرة وإلى ما تأبى السماء نسبته إليها.

والمذهب الحق -مذهب آل البيت النبوي الذي يتصدره الوصي علي (علیه السلام) ويحمل اليوم رايته حفيده المهدي (علیه السلام) - يصارع دوماً لتحقيق الأهداف الإلهية ومصالح التشريع بالقدر الممكن، وإن كان الجو ملبداً بغيوم كثيفة.

ولما كانت حركة الإنحراف في الأمة خطيرة إلى درجة إمكانية تحقيق محقها للشريعةوإرجاعها الناس إلى الجاهلية الأولى، يدعم هذا ميل كثير من الأمة لسبب أو لآخر للفئةالظالمة فكان من اللازم:

أ- استنقاذ ما يمكن استنقاذه من أبناء الأمة عن السير في طريق الانحراف، وباتجاه الهاوية والخسران الابدي.

ب- إرجاع أهل البيت إلى موقع الصدارة في الأمة -بعد أن جعلهم الله ونبيه أحدالثقلين الذين يهتدي من سار وفق منهاجهما، ويضلّ من يحيد عن دربهما- كي تفيءالأمة إليهم وتثبت بهم الحجة على المتمرد.

ﺟ- كسر هيبة الفئة الطاغوتية أمام المجتمع المسلم كي تتسع حركة التمرد على الظالمين المتعمدين لمحق الدين، وذلك لكي تؤول الأمور إلى إسقاطهم عن منصب الأنبياء والأوصياء خلفاء الله في الأرض.

وكل ما تقدّم: قد حصل، ببركة الحركة الحسينية.

إن ذلك البيت الذي أغلقت -تقريباً- أبوابه أيام معاوية، حتى وصل إقبال الناس

ص: 439

عليه إلى درجة الصفر، حتى إنّه لم يُعثر للإمام الحسين (علیه السلام) على حديث واحد في جميع فروع الفقه، أصبح -ببركة نهضة الحسين (علیه السلام) - قبلة تؤمها أفواج الشيعة كالسيل من الأطراف والأكناف (1).

كما قطع الإمام (علیه السلام) بحركته على الشيعة الذوبان في النهج الذي اختطته حكومات الظلم والانحراف إذ قرابة الألف واربعمائة عام من وقوع الشيعة ضمن دائرة القبضة الفولاذية للظالمين مع جور منقطع النظير فقد كان هذا كافياً لسقوط الشيعة في حضيض الانحراف كما سقط غيرهم، أو إلى محق وجودهم كما حصل هذا للآخرين كالمعتزلة مثلاً بل للكثير من التيّارات الإسلاميّة.

وأدت حركة الإمام (علیه السلام) إلى سقوط دولة آل أبي سفيان عاجلاً إذ تهاووا سريعاُ، كما لم يطل أمد الحكم الأموي بشكل عام إذ لاحقهم غرماؤهم من بني هاشم حتى نبشوا قبورهم.

وقد ندر فيما بعد حركة الإمام (علیه السلام) خروج حركات تمرد ضد الإسلام وأسسه وتشريعاته، وانفتح باب التمرد على السلطات الكافرة الجائرة التي تحكم الأمة باسم الإسلام، والإسلام منها براء.

لقد ارتكب آل أمية الخطأ الفظيع بقتل الحسين (علیه السلام) ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) و خليفته في أمته وبتلك الصورة الشنيعة والتي لا يمكن معها لهاشمي أو مؤمن أن ينام عن الأخذبثأرها وهكذا كان.

لقد جعل الإمام الحسين السبط (علیه السلام) من موته بركاناً لا يهدأ أبداً بعدما أراد الأمويون أن يُغلق بقتله باب الإسلام المحمدي الأصيل وينفتح على مصراعيه باب إسلام بني أمية الذي لا يُفرّق في جوهره عن الجاهلية التي تركوها مرغمين إلاّ ببعض المظاهر، إلاّ .

ص: 440


1- مقالات تأسيسية، السيد محمد حسين الطباطبائي، ص 202 .

إنّ جوهر الأمر يبقى واحداً.

هذا وقد اكتفينا بذكر ما تقدم من نتائج لمنازلة الطف، وإن كان هناك الكثير مما يقال في هذا المجال، ولعل ما قدمناه يستبطن أسباباً عدّة لو أردنا تفصيلها والإسهاب فيها كما ستأتي غيرها في مطاوي بحثنا أو في فصولٍ مستقلة.

ص: 441

ص: 442

من نتائج الطف الانتقام الإلهي لسيد الشهداء (علیه السلام)

من المعلوم انّ لكل جريمة آثار عقابية دنيوية -تشريعاً وتكويناً- و اُخروية، وتختلف هذه الآثار شدة وضعفاً، كثرة وقلة، تبعاً لنوع الجريمة ولما يحيط بها ويرافقها من تفاصيل، ومن أعظم الجرائم واشدها اثراً: القتل.

وقد قتلت الزمرة الحاكمة «الحسين بن علي(علیهما السلام)» وهو ابن بنت رسول الله(صلی الله علیه و آله)، بل ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما صرّحت بهذا نصوص قطعية الصدور، وعلى الأُمة أن تتعامل مع الحسين (علیه السلام) على هذا الأساس، وهو إمام الأمة، وخليفة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) في الأرض، وسيد شباب أهل الجنة، وأفضل أهل الأرض أجمعين، فلابُدّ من عِقابٍ – دنيوي واخروي - جزاءً لقتله:

والعقاب الدنيوي: تشريعيّ، وتكوينيّ.

فالتشريعي: كالقصاص.

والتكويني: وهو الأثر الوضعي.

وقصدنا بالأثر الوضعي: ترتب اللوازم التكوينية لتلك الجريمة العظمى كمثل من يأكل سُمّاً، فإنّه يموت، أو يصاب بعوارض سيئة كثيرة، نتيجة لفعله، سواءً علم بأن ما تناوله سُمّاً أم لا.

ثُمّ يبقى من بَعْدُ العقاب الاخروي:وهو دخول النار الكبرى، والتي لايموت من

ص: 443

فيها ولا يحيا.

فماذا حصل نتيجة استشهاد الإمام (علیه السلام) المظلوم العطشان الغريب، من عقابٍ للقتلة، وماذا ينتظرهم من عذاب أليم، وماذا ترتب على استشهاده من آثار؟

هل انتقم المولى سبحانه للحسين(علیه السلام)؟

هل انتقمت أمة جده له؟

هل انتقم له شيعته وأحبابه؟

هل هناك انتقام الهي مؤجّل، سيهزّ الأرض في يوم ما؟

هل الإنتقام شمل الأمة كلها، بل الأرض، في يوم استشهاد الحسين(علیه السلام)، وما بعده، والامة غافلة؟

لقد بدأ الإنتقام للحسين (علیه السلام) قبل استشهاده ذلك لأن للجريمة بدايات وإرهاصات قبل الطف، والإنتقام مستمر، والحسين (علیه السلام) هو القضية المركزية في الدنيا والآخرة، لأن الحسين يمثل القضية الأعظم.

من جملة ما روي عن سيد الشهداء (علیه السلام) في هذا المجال:

«ألا ثم لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يركب الفرس، حتى تدور بكم الرحى، عهد عهده اليّ أبي عن جدي». (1)

«اللهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف، وسلط عليهم غلام ثقيف يسومهم كاساً مصبرة». (2)

ومن جملة أبيات الشعر التي نقل استشهاده بها في خطبته الأخيرة: .

ص: 444


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 9.
2- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 10 .

فقل للشامتین بنا أفيقوا

سيلقى الشامِتون كما لقينا (1)

وعنه(علیه السلام): «فإن متّعتهم إلى حين، ففرّقهم فِرقا، واقطعهم قطعاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترض الولاة عنهم أبداً، فانهم دعونا لينصرونا، ثم عَدوا علينا يقاتلوننا». (2)

ودعا الإمام (علیه السلام) عند استشهاد ولده علي الأكبر (علیه السلام) على ما رُوي:

«قتل الله قوماً قتلوك، ما اجرأهم على الرحمن، وعلى انتهاك حرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله)على الدنيا بعدك العفاء». (3)

وما روي عنه (علیه السلام) في قوله لشيخ من بني عكرمة، يقال له عمرو بن لوذان: «والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فاذا فَعلوا سلّط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا اذل فرق الامم». (4)

وفي رواية: «أذلّ من فَرم الأَمَة». (5)

وعنه(علیه السلام): «لا أراهم إلاّ قاتلي فاذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلاّ انتهكوها فيسلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فَرمِ الأَمَة». (6)

وفي الرواية: «اوحى الله تعالى إلى محمد (صلی الله علیه و آله): إ قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفاً، وأقتل بابن بنتك سبعين ألفاً، وسبعين ألفاً». (7)

وعن مولانا الإمام الرضا (علیه السلام) عن النبی (صلی الله علیه و آله) في عذاب قاتل الحسين(علیه السلام): .

ص: 445


1- الملهوف، ص 157 .
2- مقتل الحسين، ابن اعثم، ص 138 .
3- الملهوف، ص 167 .
4- الإرشاد، ﺟ 2 ص 76 .
5- الحسين، الجلالي، ص 196 .
6- الحسين، الجلالي، ص 196 .
7- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 298 ح 10 ، ولاحظ الحسين، للجلالي، ص 197 .

«ان قاتل الحسين بن علي (علیهما السلام)في تابوت من نار، عليه نصف عذاب أهل الدنيا، وقد شُدّ يداه ورجلاه بسلاسل من نار، مُنَكَّس في النار، حتى يقع في قعر جهنم، وله ريح يتعوّذ أهل الدنيا إلى ر مّهب من شدّة نتنه، وهو فيها خالد ذائق العذاب الأليم، مع جميع من شايع على قتله، كلما نضجت جلودهم بدّل الله عزّ وجل عليهم الجلود «غيرها» حتى يذوقوا العذاب الأليم لا يُف عنهم ساعة ويسقون من حميم جهنم، فالويل لهم من عذاب النار». (1)

وهذه العقوبات، بهذا التفصيل، إنما ثبتت لاولئك المجرمين بعد اقترافهم لجريمتهم، أما أصل استحقاقهم للعقوبة فقد ثبت لهم بمجرد الرد على الإمام (علیه السلام) (2)قبل البدء بالقتال، وقد خطب فيهم الإمام (علیه السلام) ونصحهم وذكر لهم النصوص عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأنه سيد شباب أهل الجنة، وب لهم وجه الحق والباطل في القضية بأدلةٍ وجدانية مُعاشَةٍ لهم فلم يعبئوا بما قال، وأظهروا له عدم اهتمامهم، وإن المهم عندهم تسليمه لابن زياد، وتمكين الطاغية منه، وهذا منتهى الصلف والاستهتار المع عن انتفاء عُلقَةِ هؤلاء بالإسلام، وعدم مبالاتهم بغضب الجبّار (3).

ومن جملة ما ورد:

1- ان حركة الإمام المهدي (علیه السلام) جزء من الإنتقام الإلهي من قتلة الحسين (علیه السلام) حيث ورد أن الإمام المهدي (علیه السلام) سيقتل أثناء حركته المظفّرة ذراري قتلة الحسين (علیه السلام) .

ص: 446


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي ج 44 ص 300 .
2- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 23 .
3- بحار الأنوار، ﺟ 44 ص 300 .

لرضاهم بفعال آبائهم (1)أي انهم على نفس نهجهم ومعتقدهم وحقدهم وإجرامهم وانحرافهم، ويستفاد من التعليل شمولية العقاب لغير الذراري أي ان كل من رضي بقتل الحسين (علیه السلام) فسيقوم الإمام (علیه السلام) بقتله، إذ كيف يرضى إنسان يحترم إنسانيته فضلاً عمن يؤمن بالله ورسوله (صلی الله علیه و آله) بقتل الحسين(صلی الله علیه و آله).

إذ من هو الحسين (صلی الله علیه و آله):

إنه خليفة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) في الأرض.

والرضا بقتله رضاً بقتل من يمثّل الله ورسوله(صلی الله علیه و آله).

ومن لا ذنب له إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة لدين الله، وإرادة احقاق الحق، وإزهاق الباطل، وإحلال العدالة في الأرض، وإرجاع الناس إلى إنسانيتهم.

فكيف يُقتل من هذه صفاته وشمائله وكيف يُرضى بقتله؟

والواقع ان قتل ذراري قتلة الحسين (علیه السلام) لرضاهم بفعال آبائهم امر منطقي جداً، وله ما يبرره تشريعاً وتكويناً.

أما تشريعاً فلأن من يرضى بقتل الحسين (علیه السلام) مع معرفته بمقام الحسين(علیه السلام)، ورفيع صفاته وملكاته، ومع معرفته ايضاً بصفات قتلته وأهدافهم ودوافعهم، فلاشك أن رضاه نابع من بغضه لآل محمد (صلی الله علیه و آله)، بمرتبةٍ عالية من النُصب، والناصبي كافر بأدلة مسرودة في كتب الفريقين الشيعة والسنّة، والكافر لا حرمة له عند الله سبحانه دنيا واخرى، إذ حكم الناصبي في الدنيا هو مهدورية دمه وجواز قتله بدون مراجعة الحاكم الشرعي على رأي، وبعد مراجعته على رأي آخر، وحكمه في الاخرة حكم أيّ كافرٍ بل .

ص: 447


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 295 .

مرتبته عاليةٌ في الكفر- بحسب النصوص- فهو معدّ لمستوىً عظيم من العذاب.

واما تكويناً: فلأن من يرضى بقتل الحسين مع ما قدمنا من عظيم مقامه وخصاله، وفظاعة وخساسة أعدائه ورذالتهم، فلا شك انه على شاكلتهم بمرتبةٍ ما، وينهج نهجهم، ويستحلّ ما يستحلّون، ويميل حيث يميلون، ومثل هذه الطائفة من الخطورة بمكان على الإسلام والإنسانية، ومن المجازفة المؤدية إلى أوخم العواقب تركهم في عيشهم وشأنهم، اذ- تأريخياً، وفي واقع الحال - ما رأت الأُمة يوماً أسود إلاّ من هذه الطائفة -في الأكثر- فلابد من اتخاذ الإجراءات الصارمة والحازمة معهم، وهذا ما سيقوم به حجة الله المهدي (علیه السلام) حين ظهوره، فسيستأصلهم عن بكرة أبيهم، ويطهر الأرض من رجسهم، وينجي الجنس البشري منهم.

2- شيوع القتل، وسفك الدماء بما لا صُحيى في مشارق بلاد المسلمين ومغاربها، فلم تُرْعَ حرمةٌ لأحد كائناً من كان، فالرجل والمرأة، والصغير والكبير، والشاب والهرم، والمتدين والعالم، والمحسن للبشرية والمنعزل عن المجتمع، كلهم - لا فرق بينهم - تحت سياط وسيوف الجبابرة، بل استشهد الأئمة (علیهم السلام) من آل محمد (صلی الله علیه و آله) بأجمعهم بأيدي المجرمين من عتاة النوع البشري، وكذلك ذريتهم نساءً ورجالاً، أطفالاً وشيوخاً، كما قُتِلَ المخالفون لهم كأبي حنيفة والشافعي، وأصابت سيوف الدولة، المعتزلة والحنابلة وكل طوائف المسلمين على اختلافهم وتشرذمهم، ونالت السياط منالها من مالك بن أنس رئيس المذهب المالكي، وأحمد بن حنبل، كما قُتِل ونُكّل أيضاً بالملوك والخلفاء، والأمراء والقادة، وبكثيرٍ من الظالمين والمجرمين عبر التاريخ، ونَبش بنو العباس قبور بني أمية، وجاء المغول لبني العباس فقتلوهم قتلة، وهكذا دواليك، أما ذرية علي وفاطمة (علیهم السلام) وشيعتهم فالأرض مليئة بدمائهم، ومراقدهم في طول وعرض العالم الإسلامي بمالم تشهده فئة، وما أصاب آل محمد (صلی الله علیه و آله) من الخلفاء والملوك والأمراء الذين

ص: 448

حكموا بلاد المسلمين فبما لم تُصب به أيّة أُسرةٍ في المجتمع الإسلامي، وفي هذا ما يكفيك أن تتيقن وتعلم ما سيصنع الله تعالى بهذه الأمة القاتلة أو الخاذلة في الدنيا والآخرة، وبركات محمد وآل محمد (صلی الله علیه و آله) وشفاعتهم لن تنال من سفك دماء ذريتهم، وأبادهم من جديد الأرض «وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَی أَمْرِهِ وَلَ-کِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لاَ یَعْلَمُونَ» (1).

وقد ورد عن سيد الشهداء (علیه السلام) أنه قال لجيش يزيد وشيعته قرب استشهاده:

«أما انكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إياي، وأيم الله اني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون». (2)

3- الانتقام الذي جرى على القتلة - بما أبادهم تقريباً - بحركة المختار بن أبي عبيدة الثقفي.

ذلك أنّ المختار استولى بجنده على الكوفة وأطرافها، وتتبّع قتلة الحسين(علیه السلام)، حتى قيل أنه قتل في سنةٍ ونصف قرابة الثمانية عشر ألفاً من المجرمين أي بمعدل ألف لكل شهر.

وممن قتلهم:

الطاغية عُبيد الله بن زياد، إذ قتله إبراهيم بن مالك الأشتر في مواجهة عسكريةضخمة.

وقتل شمر بن ذي الجوشن (3)- القاتل المباشر للإمام(علیه السلام).-

وقتل حرملة بن كاهل قاتل الرضيع المظلوم. .

ص: 449


1- سورة يوسف، الآية 21 .
2- حياة الحسين(علیه السلام)، القرشي ﺟ 3 ص 285 .
3- راجع لترجمة الشمر: مقتل الحسين(علیه السلام)، السيد عبد الرزاق المقرّم، ص 207 .

وقتل عمر بن سعد (1)قائد جيوش ابن زياد.

أي انّه قتل كل رؤوس الجريمة-باستثناء المجرم الأعظم: يزيد-.

وقد أمر المختار بحمل رؤوس المجرمين الرئيسيّين المتقدّم ذكرهم إلى الإمام السجاد (علیه السلام) وإلى عمّه محمّد ابن أمير المؤمنين (علیه السلام) -ابن الحنفية- في المدينة وأدخلت الرؤوس على الإمام الطاهر الصابر (علیه السلام) وقت غذائه فما إن وقعت كريمتاه على تلك الرؤوس حتى سجد لله شكراً، وذكر (علیه السلام) أنه دعا الله سبحانه للانتقام من الطاغية ابن زياد حينما رأى رأس أبيه أمامه، وقد أجاب الله سبحانه الآن دعائه.

والواقع -رغم كل ما قيل ويُقال- في المختار، فإن حركته ووقعته بهؤلاء المجرمين، يوم من أيام الله سبحانه ضد أظلم الأمة وأشدها عتوّاً، ومن هو السبب الأكبر في استمرار محنتها ومآسيها وتسلط الجائرين عليها.

وقد ابتُليَ بعض من شارك ضد الحسين (علیه السلام) ببلايا ومصائب عجيبة أثناء المعركةوبعدها، نقلتها كتب التأريخ والمقاتل، وذكر السيد ابن طاووس في الملهوف(2) نصوصاًفيما سيؤول إليه قتلة الحسين (علیه السلام) في الآخرة من عذاب لا يعدله عذاب.

ومما يحسن الإشارة إليه والتأكيد عليه أن ما آل إليه حال الأمة بعد الحسين(علیه السلام)، .

ص: 450


1- المعروف إن عمر بن سعد «لعنه الله تعالى» قُتل في الكوفة بأمر المختار بن أبي عبيدة الثقفي - ثائر الحسين (علیه السلام) -إذ حصد الآلاف من المشاركين في الجيش المقاتل له (علیه السلام) والمهم أنه حصد الرؤوس المهمة، ورأس عمر بن سعد منها إذ لم يخرج من الكوفة لظنّه انّه في حرزٍ وأمن، وقيل انه قُتل في وقعة الجارز قرب الموصل، راجع: ص 144 ، ﻫ 5، من الحديقة الهلالية، والصحيح ما قدّمناه، والمقتول بوقعة الجارز هو عبيد الله بن زياد «لعنه الله تعالى» فراجع مثلاً: البحار، ﺟ 45 ص 336 عن أمالي المفيد، وكذا ص 334 ، والصحيح الخازر لا الجارز وهو اسم نهر في الموصل، هذا وذكر الشيخ عباس القمي في منتهى الآمال ﺟ 1 ص 548 إن سنّ عُمَر بن سعد، حين قتله لابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان «37» سنة.
2- الملهوف، ص 184 - 185 .

من تسلّط الجبابرة والظالمين والجهلة والقتلة على الاُمة ومقدراتها وعروشها، وخضوع الاُمة كلها حتى علمائها وزهادها لهؤلاء القتلة - والمقصود بالعلماء هنا غير علماء الإماميّة، إذ علماء الإماميّة يحرّمون عقد عقدةٍ للظالمين وبناء مسجد لهم فضلاً عن غير هذي من الاُمور، بينما نجد أن غيرهم قد أفتى بوجوب الخضوع لهؤلاء الحكّام القتلة، الخونة الجهلة، وأوجبوا إطاعتهم واعتبروهم أولياء للأُمور، وأن لزوم طاعتهم ينبع عن نصوص الكتاب والسُنّة - وكذلك ما آل إليه حال الاُمة من تشتتها وتفرقها واختلافها في دينها، والتباس معرفة الدين الصحيح عليها، من عقيدة أو تشريع، حتى اخذوا بالرأي، وحاولوا إصابة التشريعات الإلهية بالقياس والاستحسان، وجعلوا حكم الله تعالى تبعاً لاجتهاد المجتهد، بل اعتبروا النبي الذي لا ينطق عن الهوى مجتهداً من المجتهدين، يخطأ ويصيب كما هم يجتهدون ويخطئون ويصيبون – مع أن الله سبحانه يصفه فيقول: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى» (1).

وما آل إليه حال الأُمة من تشرذمها وتفتتها حتى استولى عليها كل من هب ودب، وأصبحت طعمة لكل آكل ومشتهي، واليوم يبصق اليهود الصهاينة في وجوه بعض الحكام العرب والمسلمين ليلاً ونهاراً فلا يستطيعون لهم رداً ولا جواباً «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» (2).

كل هذا المآل الذي عاشت فيه الاُمة من بعد الحسين (علیه السلام) إلى يومنا هذا، هو جزء من الانتقام الإلهي الرهيب منها، والذي أعقبها خسراناً لدينها، وخساسة في معيشتها، وفساداً عارماً في كثير من جوانب الحياة، فخسرت دنياها وفي الآخرة عذاب عظيم، وهذا كلّه فيمن رضي بقتل الحسين(علیه السلام)، واخذ نهج قتلته، وحاد عن الاهتداء بآل محمد(صلی الله علیه و آله).1.

ص: 451


1- سورة النجم الآية 3- 4.
2- سورة البقرة: من الآية 61.

وأما أتباع آل محمد (صلی الله علیه و آله) فقد ركبوا سفينة النجاة، ودخلوا باب حطة، وأخذوا بحبل الله، وتمسكوا بالعروة الوثقى، فعرفوا اصول الدين كما جاء بها النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله)، واستوعبوا فروع الدين وتشريعات الإسلام كما بلّغها النبي لآله وخلفائه في اُمته، وكتب الله تعالى لهم حياة طيبة خالية من بغض آل محمد (صلی الله علیه و آله)، ونصرة قتلة الاُمة، وهدمة الدين، ووعدهم الله سبحانه في الآخرة الخيرات الحسان ونعيم الجنان.

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» (1).

في شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني عن النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) حول هذه الآية قوله (صلی الله علیه و آله) لعلي(علیه السلام):

«هو انت وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضاباً مقمحين». (2)

وفي نصٍّ آخر: «ورب هذه البنيّة ان هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة». (3)

وأورد نصوصاً اُخرى، بأسانيد عدة، بنفس المفاد.

«وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا» (4) .

ص: 452


1- سورة البينة، الآية 7 - 8.
2- شواهد التنزيل، الحاكم الحسكاني، ﺟ 2 ص 461 .
3- شواهد التنزيل، ﺟ 2 ص 467 .
4- سورة الإسراء من الآية 33 .

محمّد بن الحسن المهدي (علیه السلام)

الإمام الثاني عشر من ائمة أهل البيت، ومن خلفاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) والتاسع من ولد الحسين(علیه السلام)، وخاتم سلسلة المعصومين (علیهم السلام) في الدنيا، هو:

ولي دم جدّه الإمام الحسين بن علي(علیهم السلام).

ايُّ امرئٍ مسلمٍ إذا قُتل، فان أولياءه يتابعون مسألة قتله من جهة رفع القضية إلى الحاكم الشرعي، إلى حين إثباتها، بتعلّق الجريمة بذمّة قاتل معين، سواءً قتله عمداً، أو بنحو شبه العمد، أو بنحو الخطأ، ثم يتم البتّ النهائي في القضية من طلب تنفيذ حكم القصاص به، أو أخذ الديّة منه، وهكذا (1)، وأولياؤه مراتب (2) وكل مرتبة تتقدم على التي تليها.

أما قضيّة الحسين (علیه السلام) والجريمة التي تمّت بحقّه، فلا يحتويهما هذا الإطار فقط، بل هو وغيره ممّا سناخذ بتفصيله.

الجريمة التي وقعت على الحسين(علیه السلام):

تُلحظ تارةً من حيثيتها الشخصية:

فلابُدّ من إيقاع القصاص بمن قتل الإمام(علیه السلام).

وتُلحظ تارةً أخرى من حيثيةِ أنّ المقتول هو إمام معصوم، وخليفة لله ورسوله فی الأرض، وسيّد الأمة وقائدها وزعيمها.

ص: 453


1- تُراجع: الأبواب المناسبة لهذا البحث من كتب الفقه لمعرفة تفاصيل الأحكام في هذه الجوانب.
2- يُراجع كتاب الميراث من الرسائل العملية الفقهية لمعرفة مراتب الورثة وأولياء الميت.

وحكم الإسلام في هذا المجال:

أ- قتل قاتله المباشر: وهو شمر بن ذي الجوشن عليه لعائن الله تعالى، بل كل من صدر منه فعلاً قاتلاً للإمام المظلوم(علیه السلام).

فالذي رمى السهم المثلث يُعتبر قاتلاً مباشراً وإن تأخر موت الإمام عن هذه الضربة لساعات كما قد تلاه غيره بضرباتٍ أخرى قاتلة - ولا يبعد أن تأخر شهادة الإمام بعد السهم المُثلّث كتأخّر شهادة أمير المؤمنين لمدة ثلاثة أيام، أي إنّه أمر إعجازي، لأن نتيجة هذه الإصابة هي الموت القطعي الفوري بسبب قوتها وموقعها -.

ب- قتل كل من رفع سلاحه على الإمام سواء ضربه به أم لا، لأن رفع السلاح في وجه المعصوم كفر وارتداد من جانب، ومحاربة وإفساد في الأرض من جانب آخر، وهذا يشمل الأثيم ابن سعد «لع» قائد جيش الجريمة والكفر.

ﺟ- قتل ابن زياد ويزيد، لجريمة المحاربة والإفساد في الأرض وذلك لأمرهما وتحريضهما ودفعهما الناس لمقاتلة الإمام المعصوم.

ونحن - هنا - لا نستقصي كل جوانب جرائم هؤلاء وكل ما يتعلق بذمتهم من عقوبات بل أخذنا جانباً منها فأقلّ ما يثبت بحقّهم ما قدّمناه.

د- كل من شارك في هذه الحرب بأي شكل من الأشكال وإن لم يرفع السلاح فلا ريب أنه ارتكب كبيرة من أعظم الكبائر بركونه إلى الظالمين وإعانتهم في جريمةٍ هي الأعظم ولا أقل من أنه سمع واعية الحسين (علیه السلام) فلم ينصره.

أما شمول عنوان الباغي والمحارب له، أو توسعته إلى الحكم بارتداده فلا تَتبُّعَ عندي فعلاً لهذا من أقوال أساطين المذهب - وإن لم يكن التزامه بذلك البعيد-.

ﻫ- كل من سمع واعية الحسين (علیه السلام) فلم ينصره- وإن لم يشارك الفئة المحاربة في

ص: 454

قتالها للإمام بأي شكل من الأشكال- فقد ارتكب جريمة من أعظم الكبائر، وقد ورد تصريح سيد الشهداء (علیه السلام) لبعض من التقاهم بأنه: «من سمع واعيتنا فلم ينصرنا أكبّه الله على منخريه في نار جهنم».

ولذلك نصحهم بالابتعاد عن ساحة القتال بحيث لا يسمعون له صوتاً.

و- كل من بايعه وعاهده وخذله فقد ارتكب كبائر عدة، والكبائر تستوجب النار في الآخرة، ولها قانون عقابي عام في الدنيا، اما هذه الجرائم باعتبار صلتها بالمعصوم وبقضيّة الحسين (علیه السلام) بالذات فلم يرد نصّ في مقدار عقابها الدنيويّ على ما هو متوفر بايدينا، غير الحكم العام في أصحاب الكبائر وهو التعزير.

ز- من شارك بدعم الحملة لقتل الإمام (علیه السلام) بأيّ شكل من الأشكال وإن كان بمقدمات بعيدة بعض الشيء إلاّ أنه يعلم ا اّهن ستكون في هذا المجال، كتسهيل جمع المياه للمقاتلين الخارجين لحرب الإمام من الكوفة.

ح- كل من رضي بقتل الإمام(علیه السلام).

قبل ان نذكر البقيّة وحكمهم أقول: أن هناك مواقف، لا نشكّ في جُرميّتها وإيجابها للإثم ولغضب الله سبحانه في الدارين خصوصاً إذا كانت واقعة على المعصوم، وليس كل معصوم، بل بخصائص الحسين (علیه السلام) بالذات، إلاّ انّ توفر أسباب التقية، وسعة دائرة القائمين بالجريمة، ولعدم إمكان تطبيق أمثال هذه العقوبات قبل عصر الظهور، فانّه لم يجرِ بيان تفاصيل كثيرة في أمثال هذه الجرائم.

ط- كل من عرف بقضية الحسين (علیه السلام) ونهضته ولم يبادر للمشاركة فيها وتقديم نفسه للإمام (علیه السلام) فقد فعل جُرماً كبيراً يستحقّ عليه النار الكبرى.

ي- بل تُحيمل شمول الحكم السابق في الفقرة المتقدمة، نِملَ لم يعرف بالقضية

ص: 455

أصلاً، وذلك لوجوب متابعة أحكام الإسلام والبقاء على ارتباط بمصدر التشريع كي لا يَصْدُق عليه عنوان - المتعرب بعد الهجرة - والتعرب في حدّ نفسه كبيرة، فكيف إذا نتج عنه كبيرة، أو كبائر، وبهذا المستوى.

وبهذا التصنيف تكون الروايات المصرّحة بأنه:

كفر الناس كلهم بعد قتل الحسين (علیه السلام) إلا......

مقبولة ومنطقيّة، والأصناف المتقدمة ليست من المستثنيات، فلم ينْجُ من نار هذه الجريمة إلا:

أ- من شارك في القتال إلى جانب الإمام (علیه السلام) سواءً استشهد أو قاتل واُغمي عليه ثم عولج بعد المعركة وتماثل للشفاء كالحسن بن الحسن(علیه السلام).

ب- أو حصل على إذن حقيقي من الإمام (علیه السلام) بعدم المشاركة.

ﺟ- أو اعاقه معوّق حقيقي عن نصرة الإمام (علیه السلام) فالإمام السجاد (علیه السلام) كان مريضاً أشد المرض بحيث تتابعت عليه حالات الإغماء وأمور اُخرى ولولا مرضه لكان في أول المتقدمين لنصرة الإمام وقد نهض الإمام لهذا مرةً وما كان به من قوة غير المشي لخطوات.

د- أو لم يسمع بقضية الإمام الحسين (علیه السلام) كما لم يكن مكلفاً باستطلاع الأوضاع ولم يمكنه هذا، أو كان غافلاً عن هذا بالمرة فيأخذ أحكام القاصر-والذي يسقط التكليف عنه في مثل حالته -.

فعلى ما تقدم: ان نطاق الجريمة في قضية عاشوراء يضمّ أصنافاً كثيرة، من الأمة بل من النوع الإنساني - بناءً على تكليف الكفار بالفروع وإن لم تصحّ منهم - والآثارالأخروية دائرتها واسعة جداً فتشمل من لم تُشرّع بحقه عقوبة في الدنيا، كمسألة الراضي

ص: 456

بالجريمة.

وبعد ما تقدّم كله نصل إلى محل الكلام نقول:

كيف يكون الإمام المهدي ولياً لدم الإمام الحسين(علیه السلام)، وأين عصره من عصر الحادثة وقد انتقل ذلك الجيل كلّه إلى العالم الآخر، وما هو الأثر من ولايته والحال هذا؟

إن الجريمة الواقعة على الإمام الحسين (علیه السلام) لا يُلحظ فيها الجانب الشخصي البحت فقط بل هذا الجانب، ويُلحظ أيضاً خلافة الإمام الحسين (علیه السلام) لله (عزوجل) ورسوله (صلی الله علیه و آله) في الأرض وإمامته وعصمته.

إذ أن الجريمة وقعت عليه مع الالتفات لتوفّر هذه الجوانب - كلها وبعضها - فيه، ومع افتراض عدم الالتفات فهذا لتقصير لا لقصورٍ ولا يُعذَرُ المرء فيما قصرّ به.

وقد ورد -بناءً على ما تقدم-:

بأنّ الإمام المهدي (علیه السلام) سيقتل عند ظهوره كل من رضي بقتل الإمام الحسين(علیه السلام).

ومن المعلوم عدم اقتصار من سيشملهم حكم الإعدام في زمن الإمام (علیه السلام) على هذه الشريحة بل هم من جملة من سيشملهم تطبيق هذه العقوبة بهم وإن كانت الدواعي مختلفة بين فئةٍ وأخرى فبعض من سيعدمون فلارتباطهم بشكلٍ وآخر بهذه الجريمة، وبعضهم لوقوفهم أمام زحف الإمام المهدي (علیه السلام) في إخضاع الأرض لحكم الله سبحانه وبعضهم لبقائه على كفره وهكذا.

أي أن جريمة الرضا سيقنّن لها عقوبة في زمن إمام العصر صلوات الله عليه ولعلها من الأحكام التي تُذكر بحسب تدرّج الزمان وبحسب إمكانيّة تنفيذها.

إن الإمام المهدي (علیه السلام) -في الواقع- سيفتح العالم لإقامة الدولة الإلهية العالمية.

وسيمحو الكفر، والعصيان.

ص: 457

وسيمحو الدواعي إلى الكفر والعصيان، فلا يبقى لمجرم عذر.

وسيقيم الحياة الأسعد على ظهر الكرة الأرضية والتي لن تر النور أبداً إلى يوم الناس ذاك إذ لم يتحقق هذا حتى في زمن النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله)، نعم كان سيد الإنسانيةوخاتم الرسل في سبيل تحقيق هذا والإيصال إلى تلك الغاية لكن منافقي المدينة ومن حولها ومشركي قريش أبوا عليه إلاّ ان يقتلوه ولمّا يتمّ هدفه واستلبوا منه ومن أخيه الوصي زمام الحكم فقضوا على الآمال وهدموا بعض تلك الجهود العظيمة.

هذا وقد ورد عن مهدي آل محمد مخاطباً الحسين (علیه السلام) في زيارته له:

«فلئن أخّرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة مناصباً، فلاندبنّك صباحاً ومساء، ولأبكينّ لك بدل الدموع دماً، حسرةً عليك، وتأسفاً على ما دهاك، وتلهفاً حتى أموت بلوعة المصاب، وغصّةالاكتياب». (1)

وهنا أمر: مسألة توقف ظهور الإمام المهدي (علیه السلام) على توفّر العدد الكافي من الأنصار مع كفاءة هذا العدد لهذه المهمة وتوفر الشروط اللازمة فيه كالإخلاص والإيمان والفدائية مما لا توقف فيها.

لكن...!

لعلّ - واقول لعلّ - توفّر العدد الكافي كماً وكيفاً له مدخليته في الظهور المبارك، ومعه يلزم المحافظة على هذا الوجود الشعبي بالمحافظة على الهدوء والسكينة واجواءالتقيّة - في الجملة - كي يُمكن ظهور الإمام(علیه السلام).

إذن للمسألة ركنان: .

ص: 458


1- بحار الأنوار، ﺟ 98 ص 320 .

1- الإكثار من المهيئين للسير تحت راية الإمام (علیه السلام) ووفق أمره ونهيه.

2- المحافظة على الهدوء ومعالم التقيّة.

وذلك للمحافظة على المكتسبات الكميّة والكيفية التي حصلنا عليها، ولإضفاء طابع مع على الطائفة يدفع الطواغيت والجبابرة إلى غضّ النظر عنهم والتلهي عن الإيقاع بهم وتفتيتهم فيضيع ما حصلنا عليه.

وذلك كله كي يساعد في ظهور الإمام (علیه السلام) بتهيئة الأنصار ولاشغال العدوّ المتج ببعضه.

أمّا أن نُتعب أنفسنا عشرات بل مئات السنين لتهيئة أسباب الظهور، ثم نمارس سلوكاً يدفع الظالمين إلى التنمّر بنا وتمزيقنا إرباً فانّ هذا هو الذي سيعطّل الظهور لضياع مرتكزاته.

لعلّ سيد الشهداء (علیه السلام) قد لاحظ هذا الأمر، فانه أمر الشيعة بالانتظار حتى تُتاح الفرصة ولذا أمرهم: «فانكمشوا في أمركم وجدّوا». (1)

والإمام الحسين (علیه السلام) لم يتحرك أيام بطش معاوية بل تحرّك أيام الرخاء وهي أيام الغفلة والفترة بين مرض معاوية ونهايته، وتسلّم يزيد لزمام الأمور، والشيعة في راحةٍ نسبيّة وفي تهيؤ عددي وكيفي - في الجملة -.

ولعل هذا التوجه يتأيّد بالروايات الداعية للانتظار، والناهية عن التحرّك قبل ظهور السفياني. .

ص: 459


1- الارشاد، المفيد، ﺟ 2ص 70 .

ص: 460

موقف الإمام السجاد (علیه السلام) بعد الطف

أوّل موقف للإمام علي بن الحسين السجاد زين العابدين (علیهما السلام) يُسجّل بعد أحداث الطف المروّعة ما صدر عنه صلوات الله عليه وسلامه بعد دخول ركب آل محمد (صلی الله علیه و آله) إلى

الكوفة وتجمّع أهلها حولهم، إذ خطب في أهل الكوفة بما يلي: «أیها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم.

أنا إبن المذبوح بشطّ الفرات، من غیر ذُحل ولا تِرات.

أنا إبن من انتهك حريمه، وسُلبَ نعيمه، وانتُهبَ ماله، وسُبيَ عياله.

أنا ابن من قُتل صبراً، وكفى بذلك فخراً.

أیها الناس، ناشدتكم بالله هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة، وقاتلتموه وخذلتموه.

فتبّاً لما قدّمتم لأنفسكم، وسوأةً لرأيكم، بأيةِ عينٍ تنظرون إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من اُمتي».

فارتفعت أصوات الناس من كل ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون.

فقال(علیه السلام): «رحم الله امرءاً قَبِلَ نصيحتي، وحفظ وصيتي في الله، وفي رسوله وأهل بيته، فإنّ لنا في رسول الله اُسوةٌ حسنة».

فقالوا بأجمعهم: نحن كُلّنا يابن رسول الله سامعون، مطيعون، حافظون لذمامِك،

ص: 461

غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمُرنا بأمرك، يرحمك الله، فإنّا حربٌ لحربك، وسلم لسلمك، لنأخذنّ يزيد، ونبرأ ممن ظلمك وظلمنا.

فقال(علیه السلام): «هيهات، هيهات، أيّها الغدرة المكرة، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا اليّ كما أتيتم إلى آبائي من قبل؟ كلاّ وربّ الراقصات (1)، فانّ الجُرح لمّايندمل، قُتل أبي -صلوات الله عليه- بالأمس وأهل بيته معه، ولم يُنسني ثكل رسول الله وثكل أبي وبني أبي، ووجده بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغُصصه يجري في فراش صدري، ومسألتي ان لا تكونوا لنا ولا علينا». (2)

وفي نص: «رضينا منكم رأساً برأس، فلا يوم لنا ولا علينا». (3)

يُستفاد من هذا النصّ بالاضافة إلى المعروف من سيرة الإمام السجاد (علیه السلام): ابتداءالإمام (علیه السلام) عهداً جديداً في طريقة التعامل مع الاُمة، ومع الأحداث الكبرى في المجتمع الإسلامي.

وفي أول خطابٍ له (علیه السلام) في أهل مدينة الرسول عند رجوع العائلة المكرّمة وهم بَعْدُ على مشارف المدينة:

«الحمدلله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بعد فارتفع في السماوات العلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الامور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاضعة، الكاظة الفادحة الجائحة.

أيها الناس إن الله -وله الحمد - ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، .

ص: 462


1- الراقصات، الابل، إذا أسرعت في السير وركضت.
2- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 113 .
3- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 114 .

قُتِل أبو عبد الله وعترته، وسبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية.

أيها الناس! فأي رجالات منكم يُسَرُّون بعد قتله؟ أم أية عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها، فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها والسماوات بأركانها، والارض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان، ولجج البحار، والملائكة المقربون، وأهل السماوات أجمعون.

أيها الناس، أيّ قلب لا ينصدع لقتله، أم أي فؤاد لا يحنّ إليه، أم أي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام.

أيها الناس، أصبحنا مطرودين مشرّدين مذودين شاسعين عن الأمصار كأنا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إن هذا إلا اختلاق.

والله لو أن النبي تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاءة بنا لما ازدادوا على ما فعلوا بنا، فانا لله وإنا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها، وأوجعها وأفجعها، وأكظها، وأفظها، وأمرّها، وأفدحها؟ فعند الله نحتسب فيما أصابنا وما بلغ بنا إنه عزيز ذو انتقام».

قال: فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان، وكان زَمِناً فاعتذر إليه صلوات الله عليه بما عنده من زمانة رجليه فأجابه بقبول معذرته، وحسن الظن فيه وشكر له وترحم على أبيه وروي عن الصادق (علیه السلام) أنه قال: «إن زين العابدين (علیه السلام) بكى على أبيه أربعين سنةصائما نهاره قائما ليله، فإذا حضر الإفطار جاءه غلامه بطعامه وشرابه، فيضعه بين يديه فيقول: كُلْ يا مولاي فيقول:

ص: 463

قُتل ابن رسول الله جائعا، قُتل ابن رسول الله عطشانا.

فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه، ثم يمزج شرابه بدموعه، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عزوجل».

وحدّث مولى له (علیه السلام) أنه برز يوما إلى الصحراء قال: فتبعته فوجدته قد سجد على حجارة خشنة فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه وأحصيت عليه ألف مرة: «لاإله إلا الله حقّاً حقّاً، لاإله إلا الله تعبّداًوَرِقّاً، لاإله إلا الله إيماناً وَصِدْقاً».

ثم رفع رأسه من السجود وإنّ لحيته ووجهه قد غمر بالماء من دموع عينيه فقلت:

يا سيدي أما آن لحزنك أن ينقضي، ولبكائك أن تقل؟ فقال لي: «ويحك، إن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم عليهم السلام كان نبياً ابن نبي كان له اثنا عشر ابنا فغيب الله سبحانه واحدا منهم فشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وذهب بصره من البكاء وابنه حي في دار الدنيا، وأنا فقدت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين، فكيف ينقضي حزني ويقل بكائي ؟» (1)

وورد: ان الإمام السجاد (علیه السلام) اعتزل الناس بعد استشهاد أبيه السبط، وسكن سنواتٍ عدّة في قرية خارج المدينة المنورة، وكان يذهب من هناك إلى زيارة جدّه أميرالمؤمنين وأبيه الحسين (علیهم السلام) من دون أن يُطلع أحداً على ذلك (2).

لكن هذه العُزلة ليست مطلقة في حياة السجاد (علیه السلام) ويُمكن للمرء أن يستنبط ما نُريد قوله من خلال سردِ نَصٍّ ورد في روضة الكافي.

فعن سيدنا ومولانا الإمام الباقر (علیه السلام) أنه قال: «قال أبي يوماً وعنده أصحابه:

من منكم تطيب نفسه أن يأخذ جمرةً في كفّه فيُمسكها حتى تطفأ؟ .

ص: 464


1- بحار الانوار -ج 45 -ص 146
2- منتهى الآمال، الشيخ عباس القمي، ﺟ 1 ص 795 .

قال: فكاع الناس كلهم ونكلوا.

فقمت وقلت: يا أبة، أتأمر أن أفعل؟

فقال: ليس إياك عنيت، إنما أنت مني وأنا منك، بل ايّاهم أردت.

قال: وكررها ثلاثاً.

ثم قال: ما أكثر الوصف، وأقل الفعل، إنّ أهل الفعل قليل، إنّ أهل الفعل قليل، ألا وإنا لنعرف أهل الفعل والوصف معاً، وما كان هذا منّا تعامياً عليكم بل لنبلواأخباركم، ونكتب آثاركم.

فقال: والله، لكأنّما مادت بهم الأرض حياءً مما قال، حتى إني لأنظر إلى الرجل منهم يرفضّ عرقاً، ما يرفع عينيه من الأرض.

فلما رأى ذلك منهم، قال:

رحمكم الله، فما أردت إلاّ خيراً، إن الجنة درجات، فدرجة أهل الفعل لا يدركها أحد من أهل القول، ودرجة أهل القول لا يُدركها غيرهم.

قال: فو الله لكأنّما نشطوا من عقال». (1)

وروي نظير هذا المقام والمفاد عن غير السجاد(علیه السلام) .(2)

والقصد: أنه يظهر من روايات عدة في مقامات متكررة، إن الأئمة (علیهم السلام) بمن فيهم السجاد (علیه السلام) كانوا يؤكدون أمرين:

عدم القعود مع توفر الناصر المطيع المستميت، وعدم القيام لعدم الناصر المطلوب.

وبتفصيلٍ آخر:ب.

ص: 465


1- روضة الكافي، الشيخ الكليني، ص 155 ح 289 .
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ﺟ 47 ص 123 ح 172 إذ روى نظيره عن الإمام الصادق (علیه السلام) نقلاً عن مناقب ابن شهر آشوب.

ان موقف المعصومين (علیهم السلام) تجاه المجتمع الإنساني في هذا النوع من الأحداث:

أ- عرض القضيّة على الناس، واستدعاء نُصرتهم.

وهذا ماقام به النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) قبل الهجرة من مكّة، والزهراء(علیها السلام) بعد استشهاد النبی (صلی الله علیه و آله)، والوصي بعد استشهاد النبی (صلی الله علیه و آله) كذلك، أي في فترة أحداث السقيفة وبعدها بقليل.

ب- إجابة الاُمة عند استغاثتها، وعند ابدائها الاستعداد لتحمّل المسؤولية في مبايعة المعصوم وفي معاضدته وحمايته ونُصرته.

وهذا ما صدر عن الوصي (علیه السلام) بعد مقتل عثمان، ومن الإمام المجتبى (علیه السلام) بعد استشهاد الوصي(علیه السلام)، ومن الإمام الحسين (علیه السلام) بعد استشهاد الإمام الحسن(علیه السلام).

ﺟ- عدم طلب النُصرة، وعدم إجابة استدعاء الاُمة في هذا الشأن وتأجيل الأمر وهذا قسمان:

1- بيان تأجيل الأمر إلاّ إذا تحققت شرائطه، كالذي صدر عن الصادق (علیه السلام) من أنه لو كان عنده أنصار حقيقيّون بعدد جِداء التقاها في الطريق - 17 جَدْي- لما ترك النهضة (1).

2- بيان تأجيل الأمر إلى غاية مبهمة.

والقسم الثالث ابتدأ من عصر إمامنا السجاد -وقد عرض عليه أهل الكوفةنُصرتهم، فابى عليهم، واستهجن سلوكهم، إذ لم ينفضوا ايديهم بعد من غدرتهم بابيه-إلى إمام (علیه السلام) عصرنا الحجة المهدي (علیه السلام) عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

ومن المُبهم: ما روي عن إمام عصرنا المهدي (علیه السلام) في جواب سؤال بعض الشيعة4.

ص: 466


1- الأصول من الكافي، ﺟ 2، كتاب الإيمان والكفر، الباب 100 ح 4.

بهذا الخصوص: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ».

فاغلقوا أبواب السؤال... واكثروا الدعاء بتعجيل الفرج فانّ ذلك فرجكم (1).

هذا، وقد ورد عن مولانا الإمام السجاد (علیه السلام) رواية بسندين، تب بعض الشيءمنهج الإمام بعد الطف.

إحداها: عن إمامنا الصادق(علیه السلام): «لقي عباد البصري عليّ بن الحسين (علیه السلام) في طريق

مكّة، فقال له: يا عليّ بن الحسين، تركت الجهاد وصعوبته، وأقبلت على الحجّ ولينه، إنّ الله عزّوجلّ يقول: «إِنَّ اللّهَ اشْتَرَی مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ» الآية.

فقال علي بن الحسين-صلوات الله عليه -: أتمّ الآية.

فقال «التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ» الآية.

فقال علي بن الحسين-(علیه السلام)-: إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم، فالجهاد معهم أفضل من الحج». (2)

ومن هنا يظهر وجه التوجه العبادي المكثّف للإمام السجاد (علیه السلام)على نحو يظهر شموله للمقطع الأكبر من حياته المقدّسة، والاّ فالكثافة العبادية في حياة المعصومين الاربعة عشر شأن طبيعي إذ جميعهم قاموا بالجانب العبادي بما لا يستطيع غيرهم تحمّله ابتداءاً من رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي كان يقوم للعبادة عامّة الليل وأكثره حتى قال له المولى:

«طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى» (3)2.

ص: 467


1- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ﺟ 2 ص 544 ، والآية من سورة المائدة، الآية 101 .
2- راجع: وسائل الشيعة، ﺟ 15 ص 46 ح 3، وكذا ﺟ 15 ص 48 ح 6 حسب طبعة المؤسسة.
3- سورة طه، الآية 1 - 2.

وقال جَلّ وعلا: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ» (1)

إلى المهدي - عجّل الله تعالى له الفرج -.

أي: ان السجاد (علیه السلام) لتركه ممارسة الجهاد، وادارة شوؤن المسلمين، بشكلٍ مباشر، وتعويضه عنهما بالعبادات، فقد ظهر فيه هذا الجانب بشكل أوضح من أكثر المعصومين، والاّ فالجميع في الانكباب على عبادة ر مّهب، والاستزادة منها سواء، فهي قرّة عين لهم، وراحة لنفوسهم، وساعة بُشراهم، حين الارتباط بر مّهب عبر الصلاة والدعاء.

وأمر اخر مهم: وهو بدأ تنفس الحركة العلمية الإسلامية الحقيقية لصبحها من جديد على يد الإمام السجاد (علیه السلام) - وكانت بدايتها الاولى على يد النبي الأعظم - (صلی الله علیه و آله) والتي ازدادت قوّة وسعة على يد سميّ رسول الله وحفيده وبشارته باقر علوم الاولين والاخرين الإمام محمد بن علي الباقر (علیه السلام) وبلغت أوجها وغاية مداها وعظمتها على يد حفيد رسول الله ووصيّه وخليفته الحق في أُمته الإمام جعفر بن محمد بن علي الصادق، ويظهر أنّ لفاجعة كربلاء ولطبيعة النهج الذي سلكه السجاد بعد الطف وما ولّده هذا السلوك عند السلطة من تصورات عن حقيقة التوجه وطبيعة اهتمامات أهل البيت في هذه المرحلة مما وجّه نظرات السلطة الحادة ومؤامراتها الشيطانية إلى جهة أخرى - كجهة ابن الزبير والذي أعلن ثورته على الحكم القائم - دون أن يغفلوا عن أهل البيت تماماً، كل هذا أدى إلى انفساح المجال للإمام ليبدأ بناء الكيان العلمي الإسلامي وإنهاض الأمة من كبوتها العظيمة التي لا تكاد أن تُستقال من جديد. .

ص: 468


1- سورة المزمل، الآية 20 .

الطواغيت في قلق دائم، والسبب: الحسين (علیه السلام)

اشارة

الحسين (علیه السلام): سببُ صداعٍ دائمٍ للطواغيت، ومصدرٌ للقلق الشديد.

كثيرون استشهدوا قبل الحسين (علیه السلام) وبعده، وأُقبرت ثوراتهم، ومات ذكرهم.

واستطاع الطواغيت التعتيم على قضيتهم، أو تشويهها، فأحدثت ثوراتهم نتائج عكسية، والمسألة لا تخلو من شواهد.

الثورةالحسينية، بقيت كما هي في وضوح أحداثها وأهدافها، عامِلُ دَفْعٍ وإحياء للإسلام وتعاليمه.

الحسين (علیه السلام) أقلق بني أُمية حياً، وأقلق مِنْ بَعْدِهِم جميعَ الطواغيت، وهو مضطجع في مرقده المقدّس.

زلزل تحتهم الأرض:

لم يهنأ لهم العيش بعد الحسين(علیه السلام)، ولا استساغوا متعةَ ولذةَ الحكم.

الثورات متتابعة مترادفة، وكلها تُنادي بثأر الحسين(علیه السلام)، ومظلومية الحسين(علیه السلام)، وبما جرى للحسين(علیه السلام)، حتى أسقط الحسين (علیه السلام) دولة بني اُمية، ومن بعدها دولة بني مروان.

جاء بنو العباس إلى الحكم تحت شعار الأخذ بثأر المظلومين من بني هاشم، وعلى رأسهم الحسين سيد الشهداء(علیه السلام)، غير أنهم سلكوا درب بني اُمية فتتالت الثورات عليهم.

ص: 469

وحرث متوكلهم قبر الحسين(علیه السلام)، ومنع زيارته، وعاقب عليها، فقُتِلَ قتلةً شنيعةً على يد ابنه الذي هو وليُّ عهده.

واستمر تيار الحسين(علیه السلام)، وذهب بنو العباس إلى مزابل التاريخ، تلعنهم الأرض وما عليها -بالاسم أو بالصفة- والسماء ومن يسبّح في أرجائها.

غير انه بدأ يظهر في ساحة الحكم في ديار الإسلام من ينحني لعاصفة الحسين (علیه السلام) ومن يُساير الأمة في حب الحسين(علیه السلام)، وفي البكاء على الحسين(علیه السلام)، وفي الاحتفال للحسين(علیه السلام)، وفي المناداة بمبادئ الحسين(علیه السلام).

تيار منافق يوطّد حُكمه بهذا ونحوه:

وشيء آخر:بدأ تيار الحسين (علیه السلام) بالوصول إلى مراكز القرار، وسّدة الحكم في أنحاءٍ شتى، وفي فترات متباعدة من حركة التأريخ، وتشتدّ الهجمة ممّن يخاف من اسم الحسين(علیه السلام)، وفكر الحسين(علیه السلام)، وروح الحسين(علیه السلام).

لكن زَرْعَ الحسين (علیه السلام) بدأينمو من جديد، ويقوم على سوقه، حتى تَعَذَّرَعلى الطواغيت قطعه.

لقد أثمر.

ها هو الحسين (علیه السلام) في كل أرجاء المعمورة.

ألا من ناصرٍ ينصرنا.

ألا من مغيثٍ يُغيثنا.

ألا مِن....

لقد آن للحسين (علیه السلام) أن ينهض من مرقده من جديد.

لقد تجذّر زرعه، ورسخ في أعماق الأرض، وتطاول في عنان السماء، وبدأ الجمع

ص: 470

الذي يلهج بالحسين (علیه السلام) يزداد ويتعاضد.

لكن اليزيديين في الساحة، لم يزالوا، غير أنهم مرعوبون، إذ لا يجرؤ من يصرّح منهم بيزيديته، إذ يعلم ان من ينتسب ليزيد فقد تجلبب بأعظم العار، لكنهم موجودون، ينعق منهم واحد بعد واحد بين فترة واخرى.

وفي العراق، طائفة مغلوبةٌ على أمرها، وأفرادها يتقلبون في شواذ الفكر والسلوك:

يعبدون الشيطان، ويقدّسون يزيد، اسمهم: «اليزيديّون».

عجباً للضلالة كيف تركب ضالّتها.

ولكن، إن وَجَدَ إبليس في بعض بني آدم من يقبل بعبادة البقر والجرذان والحجارة، فلا يعسر عليه إقناع أمثال هؤلاء بتقديس يزيد.

عجباً للإنسان، إذ يتمرد على أنبياء الله ورسله (علیهم السلام)، ويتمرد على ربّه وكتبه، ويتمرد على أفضل التشريعات وأزكاها مما بها ترقيته في مسيرة استكمال إنسانيته.

وإذا به يعبد البقر والحجارة ويخضع لعبادة الفرعون ولتقديس يزيد.

سُئل بعض اليزيديين: لم تعبدون الشيطان؟

فأجاب: إنه شرّ كله، فنعبده للنجاة من شرّه.

وعجباً لهذا النمط من التفكير، كيف يُضلّ الشيطان غنيمته من بني آدم:

يعبده للنجاة من شرّه، ولا يعصيه ويحاربه للنجاة منه.

عندما نكرة أحداً ونبغضه، وعندما نتوقع الشرّ والضر من أحد: نعصيه، ونحاربه، وفي الأقلّ نبتعد عنه، لا أن نخضع له ونستسلم له، ونعبده.

ص: 471

ص: 472

ضلال ما بعده ضلال: وهذه واحدة من جرائم يزيد وبني اُمية

اشارة

أسمعتم عنهم ارشادهم لأحد، وهدايتهم لفئة، وتلبّس اتباعهم بفضيلة.

كل رذائل النوع البشري مجتمعة في بعض أفرادهم، ومتفرقة في بقيّتهم.

ولذلك يقلق الطواغيت من الحسين ونهجه، إذ لا مسانخة بينهم وبين هذا النهج، فبحكم اختلاف الطباع يتنفّرون من هذا النهج، ومن هذه الخصائص والخصال.

واليوم:

إضافة للنهج القديم – نهج القسوة والاستئصال - في محاربة الحسين (علیه السلام) وفكره وطريقيّة قضيّته لاعادة الإسلام ومبادئه وقيمه وتشريعاته إلى الساحة.

نهج آخر، بقيم جديدة، وبناءٌ للإنسان بناءً آخر، يتناسب مع ما يريده مخالفي نهج الحسين، بما لا تلتفت معه الأُمة إلى عمق المؤامرة، والجريمة التي تُنفّذ بحق هذا الدين، والذي وعد الله سبحانه بشانه:«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»(1).

ص: 473


1- هذه الآية الكريمة وردت في ثلاثة مواضع في الكتاب العزيز، اثنتان منها تنتهي بجملة: «ولو كره المشركون» هما في سورة التوبة الآية 33 ، وفي سورة الصف الآية 9، والثالثة تنتهي بجملة «وكفى بالله شهيداً» وهي الآية 28 من سورة الفتح.

ص: 474

علماء السوء حصنٌ للطواغيت

ذُكر(1) صدور فُتياً من المجرم شر شُريح قاضي الكوفة لتسهيل جريمة قتل ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي (علیهما السلام) - وما يوم الأمة مع أمثال هذا المجرم الأفّاك بواحد-.

شر شريحٌ هذا أحبط محاولةً لإطلاق هانئ بن عروة (2) من معتقله، والتي ستساهم -مع نجاحها- في تقدّم الحركة الحسينية مرحلة مهمة إلى إمام(علیه السلام).

إذ مع خروج هانئ من المعتقل فأن عشيرته ستكون طوع أمره، وعندها سيتمكن من حماية نفسه وعشيرته، والأهم من هذا حماية مسلم رضوان الله تعالى عليه سفير الإمام (علیه السلام) ورائده لمعرفة أوضاع الكوفة وشؤون أهلها، وعند هذا فلن يحتاج مسلم لإعلان الثورة، وسيستبقي كل الإمكانيات لحين ورود الإمام(علیه السلام).

بل انّ خروج هانئ من السجن سيعجّل بنهاية إبن زياد، إذ سيشعر هانئ بخطأه في معارضته مسلماً في قتل ابن زياد، بعدما حصل الاتفاق على قتل مسلمٍ له في داره - لوكان تَرْكَ مسلمٍ لهذا الأمر عن طلب هانئ -.

لو حصل كل ما تقدّم لكان نجاح الحركة الحسينية أكيداً، استمراراً لمسارها قبل مجيء إبن زياد.

وممّا تقدم يتب ين ين مدى فداحة الجرم الذي صدر عن شر شريح، وعظم مدخليته كجزء

ص: 475


1- الإمامة الإلهية، بحث الشيخ محمد السند، ص 238 .
2- مقتل الحسين(علیه السلام)، ابن اعثم الكوفي، ص 59 .

علّةٍ مهم في انهيار الأوضاع في الكوفة، والذي أنتج في النهاية استشهاد الإمام (علیه السلام) وأهل بيته (علیهم السلام) وصحبه رضوان الله تعالى عليه، وانكفاء الإسلام، وتقهقر الاُمة، بل سقوطها في جهنم الأبديّة.

يُرشح هذا، عيّنه عمر للقضاء في الكوفة، فبقي فيها إلى حضور الإمام أميرالمؤمنين (علیه السلام) إليها بعد حرب الجمل، فعزله عن القضاء، غير أنه تحدّى الإمام (علیه السلام) (1)ولم يعتزل، بل استمر في ممارسته للقضاء، فتركه الإمام(علیه السلام)، غير أنه اشترط عليه أن يعرض عليه كل ما يقضي به قبل ان ينفّذ مضمونه - أي أن الإمام (علیه السلام) أفرغ عملية قضائه من مضمونها ومحتواها، ورجع الأمر في النهاية إلى أن الإمام (علیه السلام) كان يبتّ في كل القضايا التي تُعرض على شريح هذا -.

ولو تتبعنا المسيرة الإسلامية، لوجدنا الكثير من أمثال يُرشح، ممّن أوغروا الصدورضد الحق، أو أعانوا عليه، أو خذلوه في الأقّل، كما ثبّت هؤلاء عروش الظالمين، ومكنوهم من رقاب العباد، وبرّروا لهم، وسهّلوا سُبل الإجرام بفتاوى، بها تمنع السماءقطرها والأرض بركاتها.

وما زالت هذ الشريحة - إلى يوم الناس هذا - على نفس نسق اولئك، ومآل الجميع في الآخرة واحد، فلهم مستقر في الجحيم. .

ص: 476


1- راجع: وسائل الشيعة، ﺟ 27 ص 17 ح 1- 2، وتنقيح المقال، الشيخ المامقاني، ﺟ 2 ص 83 .

القضية الحسينية والوحدة الإسلامية

لعلّ هناك من يتساءل:

أليس طرح هذه الوقائع وأمثالها مما یُخِلُّ بأجواء الهدوء المُعاشة بين المسلمين في أيامنا هذه، مع اننا ندعو ونسعى لإقامة الوحدة الإسلامية ولترتيب البيت الإسلامي

من جديد بعد قرون من التناحر والصراع والتباعد والتباغض، إذ انّ هذا مما يُثير حفائظ البعض، للمسّ ببعض متبنياتهم من خلال أمثال هذا الطرح، كما أنه لا فائدة من نبش أحداث الماضي واستذكار تفاصيلها، إذ لا يترتب أثر على إحقاق جانب وإبطال دعوى الطرف الثاني.

والجواب:

إننا نؤكّد سعينا إلى تحقيق الوحدة الإسلامية، وإلى تحقيق أقصى ما يُمكن من تقاربٍ وتفاهمٍ وتعارفٍ بين فئات المسلمين كافة.

الاّ أن الوحدة لا تقتضي منّا ترك عقائدنا وفقهنا وفكرنا مع قيام الدليل القطعي عليه، إذ ما نحن فيه: دين، والدين مجموعة من القوانين والضوابط والعقائد تؤخذ من خالق الوجود عن طريق الرسول الأکرم (صلی الله علیه و آله) وغير قابلة للتغيير والتبديل فمن أخذ بها فهو متديّن، وإلاّ فهو كافر أو فاجر.

الوحدة لا تقتضي طمس حقائق التأريخ، ولا تغيير الواقع عما هو عليه، ولا محو ما كُتب، أو التعتيم عليه، أو عزله عن متناول الأيدي والأبصار والأفكار.

ص: 477

لا تقتضي تركنا لمتبنياتنا التي قام عليها ألف دليل ودليل، ولا تركنا لتربية أبنائنا وفق ما نهضت الأدلة اليقينية به.

لا تقتضي ترك ما قطعنا بإرادته كتكليف محتّم ثابت في ذمّتنا، وسنُطالَب به في الآخرة، وعلى أساسه سيتمّ التمييز والتفضيل.

فلابُدّ من بيان كيفية تحقيق الوحدة، مع المحافظة على التزاماتنا الدينية، وإلاّ نكون قد وقعنا فيما أردنا أن نفرّ منه.

إن غرضنا من الوحدة هو: تحقيق إرادة الله، كغرضنا من تأدية الصلاة وبقيةالفروض المطلوبة شرعاً، وذلك لأن الوحدة مطلوب شرعي أيضاً.

المرحلة الاُولى من الوحدة: تحقيق التعايش وعدم الاعتداء، وتقبّل الآخر كما هو.

إلاّ أنه وبطبيعة الحال لا يرتضي أحدٌ بأن يتواصل مع الآخرين في ظرفٍ أشبه ما يكون بحالة الحرب.

فلابُدّ من مراعاة كُلّ جانب الآخر بحدودٍ ما، كي يتحقق للتعايش رُكنه.

ورُكنه: ترك التصادم الجسدي بأشكاله كلها، مهما كان السبب.

وترك السباب والشتائم واللعن ونحوها.

والتهيؤ للمرحلة الثانية، والتي تُعين على تقوية أواصر المرحلة الاُولى.

المرحلة الثانية: التواصل الفكري بين الطرفين، وإبداء كل طرفٍ لوجهةِ نظره وما يعتنقه، بشرط توفّر الدليل -الحجة- على ما يُبديه ويلتزمه.

فإن تَوَفَّرَ الدليل لأحد الطرفين دون الآخر، أخذ الثاني بموقف الاوّل.

وإن توفر لكليهما الدليل -الحجة- وهذا بمرتبة المستحيل، إذا كان البحث منصفاً وعلى أسس شرعية صحيحة وعقلائية مستقيمة، فليتّبع كُلٌّ دليله.

ص: 478

وإن لم يتوفر الدليل لكليهما أعرض كُلّ ع يلتزمه، إلى وجهة أخرى يقتضيها الدليل.

إلاّ ان هناك ما يلزم قوله في هذا المقام، وبمقدار ما يتعلّق بالقضيّة الحسينيّة.

إن موقف أهل السُنّة من القضيّة الحسينية، ومستوى تفاعلهم معها، يحتاج لمراجعة في ضوء الأحاديث الكثيرة المرويّة في كتبهم عن الحسين وما يتميز به عن الأمة كلها في الدنيا والآخرة من خلال موقعيته في الإسلام.

فهو ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإمام الأمة إن قام وإن قعد، وسيّد شباب أهل الجنة، وسفينة نجاة الأمة، ومن الثقلين اللَذَين لا يضلّ من تمسّك بهما، ومن أهل آية التطهير، وممّن تجب مودته على الأمة كلها بحكم الآية الشريفة، إلى آخر ما توفر بحقّه من آيات وروايات لا يُمَلُّ من تعدادها وتسجيلها، غير أن ما أوردناه كافٍ لاستحصال النتيجةالمطلوبة وزيادة.

فكيف يمكن التعامل مع من تقدم شرح بعض حاله وموقعيته، ومن أمر النبي بنصره، وصرّح بأن الحرب معه -الحسين (علیه السلام) - كالحرب معه -النبی (صلی الله علیه و آله) - فكيف يسوغ لمن يدّعي الإسلام الاصطفاف مع أعداء الحسين ومناوئيه وقتلته، لا أقلّ بالتوجيه لهم والتبرير، وتهوين الجريمة العظمى التي اقترفوها بحق الإسلام، والحسين(علیه السلام)، والامةككل.

الحسين (علیه السلام) أمل الأمة وملاذها في الدنيا والآخرة، وبقتله أجهز بنو أمية على آخر أمل للأمة بالعودة إلى رحاب الإسلام الحقيقية، وَمِنْ قَبْلُ وَصَفَ الله تعالى في كتابه بني اُمية بالشجرة الملعونة، ووصفهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأ مّهن أصحاب المُلك العضوض، وبانّهم قردة ينزون على منبره.

ص: 479

بل بقتل الحسين(علیه السلام):

انقصم ظهر المجموعة التي طالما بذلت نفسها ونفيسها في سبيل الإسلام ورفعته.

وارتقت المجموعة التي طالما حاربت الله ورسوله، وكادت للإسلام المكائد، سدّة الحكم.

وأما الاعتذار بالفتوحات ونحوها، فإنها خدعة الصبي عن اللبن.

أفهل يصح لامرءٍ، كائناً من كان، قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو هدم الكعبة، أو فعل ما يؤدّي إلى امحاء الإسلام، بدعوى الفتوحات، وتوسعة رقعة الدولة، والحسين (علیه السلام) عِدْلُ القرآن بنصّ حديث الثقلين، فما قيمة الفتوحات التي يتفاخرون بها في قباله، وما كانت الفتوحات لغير توسعة رقعة دولتهم، ولزيادة الغنائم، ولتكثير العبيد والإماء، والاّ فهذه البلاد التي فتحوها لا يزال الكثير منها تسوده أديانٌ غير الإسلام، واما سياستهم فيها وفي غيرها فقد ضجَّت الارض من ظلمهم والسماء، وتلك عهودهم فساد كلها وقصورهم ملؤها المباذل والتفسّخ، فقلّب صفحات التأريخ والتي كتبها اولياؤهم لترى العار والخزي الذي لحقهم، ولحق الأمة بسببهم، فما قيمة الفتوحات، وما عائدتها للإسلام، أو للامّة، أو لاهل تلك البلاد.

المطلوب: على من يخاف يوم الحساب ان يُراجع نفسه، ويُصلح موقفه، خصوصاً:

من يعلم أنّه سيلحقه بسبب موقفه أوزار الناس كافة إن أصرّ على الضلالة.

وثواب الناس كافة ان اتبع ما نهجه الكتاب والسُنّة له، وأعاد الامور إلى نصابها، والأمة إلى مُحلتِها.

ولا نُنكر ان جمعاً من السُنّة، من محبّي الحسين(علیه السلام)، ومن المتأثرين لقضيّته وشهادته، لكن ما يصنعه هؤلاء وعامّة السُنّة، هو دون المطلوب الذي ذكرته الأحاديث المروية

ص: 480

عندهم، فيما يلزمهم مع الحسين(علیه السلام)، وفيما يلزمهم مع أعداء الحسين(علیه السلام)، وفيما يلزمهم مع هدف الحسين وقضيّته ونهجه في الحياة، الذي هو عين نهج الرسول (صلی الله علیه و آله) والقرآن.

ص: 481

ص: 482

شيعة الحسين (علیه السلام)

اشارة

الشيعة أوفياء للحسين (علیه السلام) ولقضيته -بحمد الله تعالى وتسديده وتأييده-.

إلاّ انّ هنا أمرٌ یجدر بنا ذكره، ولا يصحّ السكوت عليه.

والموضوع الذي نُريد إثارته، مما تكرّر في الروايات التنبيه عليه، والتأكيد له، وبإيضاحه نحقّق أهدافاً عدّة.

ونبدأ فنقول:

ان التكاليف الموجهة إلى الاُمة بشأن أهل البيت النبوي متعدّدة، ويلزم الأمة -بأجمعها- القيام بها، وتفريغ الذمة منها.

فمنها: -وهو أهمها- الاعتقاد بإمامتهم -لان هذا الاعتقاد من أصول الدين، وبه يكتمل ايمان المرء.

ومنها: متابعة الأئمة من أهل البيت في أقوالهم وأفعالهم بتمامها وفي مختلف شؤون الحياة -إلاّ فيما اختص من تكليف بهم-.

ومنها: نصرتهم على عدوهم.

ومنها: محبتهم ومودتهم.

قال تعالى: «قُل لَّا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی».

ومنها: الاعتقاد باحقيتهم لمقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) من بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) مباشرةً إلى غيرهامن التكاليف المتعلقة بهم.

ص: 483

ولا يخفى ان جميع ما ذكرناه، يُمكن أن ينطوي تحت فقرة: لزوم متابعة الأئمة في اقوالهم وافعالهم، وانما ننبّه على الاخص مع دخوله تحت الأعم، لأهميته، وللفت النظرإليه.

ومن المعلوم أن كل تكليف كليّ، مما تقدّم وغيره، بل كل تكليف جزئي، هو تكليف على حِدة- باستثناء التكاليف الارتباطية كأجزاء الصلاة مثلاً - يسقط بقيام المرء به العقاب عنه، ويستحق بسبب ادائه الثواب. و الأُمة -بملاحظة التكاليف المارّة الذكر-أقسام:

1- فقسم لم يقوموا بأيّ تكليفٍ الهي -مما تقدّم وغيره- تجاه أهل البيت النبوي، بل أعلنوا عداوتهم، وبغضهم، وشاركوا في ما جرى عليهم من مصائب وكوارث.

وهذا القسم ليسوا من الاُمة في حقيقة الأمر، لا دنيويّاً ولا اخرويّاً، بحكم مجموعةمن النصوص، وهم المع عنهم بالنواصب.

وقد مرّ زمان على ديار الإسلام اصطفّ فيها مجموعة كبيرة من الأُمة مع أعداءأهل البيت (علیهم السلام) ولبسوا معهم ثوب العداوة والبغض لآل النبی (صلی الله علیه و آله) فوالوا عدوّهم، وعادوهم، كما عادوا وليّهم، غير انه بمرور الزمان خفتت نيران هذه الطائفة، وانتكست أعلامها، وإن وُجد هنا أو هناك شُذّاذ يحملون فِكرهم وحقدهم.

2- والقسم الثاني: لم يُبغضوا آل محمد، كما لم يحملوا لهم مشاعر الود والمحبّة، فلم يوالوهم حق الموالاة، كما لم يبرؤوا من أعدائهم.

3- وقسم لم يبغضوهم، بل احبّوهم وحملوا لأهل البيت النبوي مشاعر الودّ والوفاء، واظهروا تعاطفاً معهم، إلاّ ان هذا بقي ضمن هذه الحدود، دون ان يتعدّاها لمراتب أعلى، يتوفر بشأنها نصوص منجّزة للتكليف، على وجوب موالاتهم، ونصرتهم، والاعتقاد بإمامتهم، والانضواء تحت رايتهم، واتباعهم في مناهجهم، والتحرّك أو

ص: 484

السكون وفقاً لأوامرهم.

وقد انضوى قسم من مخالفي خط أهل البيت ومنهجهم العقائدي والفقهي، تحت هذا القسم، فَهُمْ مع مخالفتهم لخطّهم، فإنهم يظهرون الحبّ والود لهم كذلك، وكانوا قلّة، وهم في ازدياد.

4- وآخرون أحبّوا أهل البيت (علیهم السلام) واعتقدوا بإمامتهم، وباستحقاقهم للقيام مقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) -بعد رحيله- في إمامة الأُمة وزعامتها، كما اعتقدوا بعصمتهم، و بلزوم نصرتهم وتفديتهم بالغالي والنفيس، والتزموا بكل الاُمور الكلية المطلوبة منهم تجاه أهل البيت(علیهم السلام).

والخلل في توجههم:

أنهم لم يلتزموا بكل ما جاء عن أهل البيت حرفياً، فهم عاملون بمجموعة أساسية من التكاليف تجاههم، ومتقاعسون عن اتباعهم في كل ما جاء عنهم حرفياً، فقصّروا في مجموعةٍ من التكاليف لثقلها ومشقتها أو لدواعٍ اخرى.

5- والطائفة الأخيرة هي التي أدت كل ما هو مطلوب شرعاً من المرء المسلم المؤمن حقيقةً تجاه أهل البيت النبوي، وصنعوا كل ما امروا به حرفياً، وانضووا تحت لوائهم في حياتهم، وحملوا مشعلهم بعد رحيلهم عن ساحة الدنيا، وهم اليوم عاملون بما هو مطلوب، ومنتظرون لغائبهم المهدي الموعود.

والطائفتان الأخيرتان هما اللتان يصدق عليهما عنوان الشيعة الوارد في الأخبار الشريفة، وتتبعهما الأحكام المختصة بالشيعة دنياً وآخرة.

غير انّ الطائفة الأولى -من هاتين الطائفتين الآخيرتين- مسلوب عنها بعض المراتب في الدارين، وبعض الأحكام المتعلقة بالشيعة، أي سُلب عنها بعض الجزاء الحسن الذي

ص: 485

وُعد به الثابت على الطريق والقائم بكل التكليف، وإن لم تخرج من دائرة الشيعة وحيّز الإيمان، ولعلّ أن تدركهم رحمة أو شفاعة تلحقهم بالطائفة الأفضل، وهناك وعدٌ بهذا في الجملة، ولايصحّ لامرىء الاتكال على هذا الوعد كي يتفلّت من التكاليف فإنّ الامر غير مقطوعٍ به لاحدٍ كي يعتمده.

والطائفة الأخيرة بالخصوص هي الشيعة بكل معنى الكلمة، وهي أمل الأئمة (علیهم السلام)في التغيير، والمراتب السامية لها، والوعد بأجمل الجزاء متوجه اليها، وعلى هذا مجموعةمن النصوص، وقد اورد الشيخ الصدوق في كتابه - صفات الشيعة - مجموعة مهمةمنها.

عن مولانا الإمام الصادق(علیه السلام): «شيعتنا أهل الورع والإجتهاد، وأهل الوفاءوالأمانة، وأهل الزُهد والعبادة، أصحاب إحدى وخمسين ركعة في اليوم والليلة، القائمون بالليل، الصائمون بالنهار، يزكّون أموالهم، ويحجّون البيت، ويجتنبون كلّ محرّم». (1)

وعن مولانا الإمام الرضا(علیه السلام): «شيعتنا المسلّمون لأمرنا، الآخذون بقولنا، المُخالفون لأعدائنا، فمن لم يكن كذلك فليس منّا». (2)

وفي بعض النصوص، التصريح بعدم كفاية حبّهم بدون اتّباعهم بالعمل بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى، وإظهار مكارم الأخلاق (3).

ومنها ما عن مولانا الإمام الباقر (علیه السلام) في قوله لجابر بن يزيد الجعفي: .

ص: 486


1- صفات الشيعة، الشيخ الصدوق، ص 189 ح 1.
2- المصدر السابق، ص 190 ح 2.
3- راجع الأحاديث 21 - 22 وغيرها من كتاب صفات الشيعة للصدوق، والبحار، ﺟ 65 ص 149 .

«يا جابر، أيكتفي من اتخّذ التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلاّ من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون إلاّ بالتواضع والتخشّع وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبرّ بالوالدين والتعهّد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلاّ من خير، وكانوا أُمناء عشائرهم في الأشياء...». (1)

وكما أورد الصدوق مقداراً مهماً من النصوص تتضمّن الصفات المطلوب توافرها في الشيعة الكرام، فكذلك أورد نصوصاً في فضائل الشيعة ومقاماتهم وعلوّ قدرهم في الدارين (2).

إن نتيجة ما تقدّم:

هو ان شيعة علي أمير المؤمنين والحسن والحسين وبقية الأئمة الأطهار (علیهم السلام) إلى المهدي (علیه السلام) بحقيقة الكلمة هم الطائفة الأخيرة، وبأمثال هؤلاء نهض النبی (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته، ولمثلهم ينتظر قائم آل محمد(صلی الله علیه و آله).

وقد ورد في حق هذه الطائفة مجموعة مهمة من النصوص، تمدحهم وتشيد بهم وتنوّه بالدور العظيم الذي قاموا به في إسناد حركة الإسلام وخط أهل البيت (علیهم السلام)ونشر العقيدة الصحيحة والفقه الإسلامي النقي والدفاع بالسيف واللسان عن كل مضامين الإسلام بدون انتقاء أو ملاحظة المنافع الشخصية مِن ورائها.

فلاحظ النصوص التي وردت في حقّ هذه الطائفة، ومثالها ما تقدّم - وغيره- عن كتاب صفات الشيعة للشيخ الصدوق (3).

ص: 487


1- صفات الشيعة، ص 200 ح 22 .
2- راجع: فضائل الشيعة، للصدوق.
3- وراجع أيضاً: بحار الأنوار، الشيخ المجلسي، ﺟ 65 ابتداءً من صفحاته الاُولى.

وأما ما ورد في بعض الشيعة فاليك نبذة منها:

عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله): «إن الله تبارك وتعالى أمرني بحبّ أربعة... علي بن أبي طالب، والمقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي». (1)

وعن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله): «سلمان منّا أهل البيت». (2)

وعن منصور بزرج قال:

قلت لأبي عبد الله الصادق (علیه السلام): ما أكثر ما أسمع منك سيّدي ذكر سلمان الفارسي.

فقال: «لا تقل سلمان الفارسي، ولكن قل: سلمان المحمدي، أتدري ما كثرة ذكري له ؟»

قلت: لا

قال: «لثلاث خِلال:

إحداها: إيثاره هوى أمير المؤمنين (علیه السلام) على هوى نفسه.

والثانية: حبّه الفقراء واختياره إيّاهم على أهل الثروة والعدد.

والثالثة: حبّه للعلم والعلماء.

إن سلمان كان عبداً صالحاً حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين». (3)

وعن مولانا الإمام الباقر (علیه السلام) عن آبائه عن علي بن أبي طالب(علیه السلام): «ضاقت الأرض بسبعة، بهم يُرزقون، وبهم يُنصرون، وبهم يُمطرون، منهم: سلمان الفارسي والمقداد وأبو ذر وعمار وحذيفة رحمة الله عليهم، وكان علي (علیه السلام) يقول: وأنا إمامهم، وهم الذين صلّوا .

ص: 488


1- بحار الأنوار، ﺟ 22 ص 321 ح 10 .
2- بحار الأنوار، ﺟ 22 ص 326 ح 28 .
3- بحار الأنوار، ﺟ 22 ص 327 ح 33 .

على فاطمة(علیها السلام) . (1)

ثم لاحظ ما ورد في حق بعض أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) مثل ميثم الت رّام، ورُشيد الهجري، وقنبر، وأويس القرني (2)، وكُميل، وعمرو بن الحمق، وحجر بن عديّ، وسُليم بن قيس الهلالي، والأصبغ.

ومن النساء: امّ سلمة، وأسماء بنت عميس، وحبّابة الوالبيّة.

وعن مولانا الإمام الكاظم(علیه السلام):

«إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين حواري الحسن بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيقوم: سفيان بن أبي ليلى الهمداني، وحذيفة بن أسيد الغفاري.

ثم يُنادي: أين حواري الحسين بن علي؟ فيقوم كل من استشهد معه ولم يتخلّف عنه». (3)

وعن مولانا الإمام الكاظم(علیه السلام): «إذ كان يوم القيامة نادى مناد: اين حواريّ علي بن الحسين؟

فيقوم: جبير بن مطعم، ويحيى بن ام الطويل، وأبو خالد الكابلي». (4)

وذكر ابن شهر آشوب في المناقب: أفقه الأولين ستة - وهم أصحاب أبي جعفروأبي عبد الله(علیهما السلام):

زرارة بن أعين، ومعروف بن خربوذ المكيّ، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن .

ص: 489


1- بحار الأنوار، ﺟ 22 ص 351 .
2- بحار الأنوار، ﺟ 42 ص 121 وما بعدها.
3- بحار الأنوار، ﺟ 44 ص 112 ح 8.
4- بحار الأنوار، ﺟ 46 ص 144 ح 28 .

يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي، وبُريد بن معاوية العجلي (1).

عن مولانا الصادق(علیه السلام): «ما أحد أحيا ذكرنا، وأحاديث أبي، إلا:ّ زرارة، وأبو بصير المرادي، ومحمد بن مسلم، وبُريد بن معاوية، ولو لا هؤلاء ما كان أحدٌ يستنبط هُدى، هؤلاء حُفّاظ الدين، وأُمناء أبي على حلال الله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا وفي الآخرة». (2)

وفي أصحاب الإمامين الكاظم والرضا (علیهما السلام): أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء، وتصديقهم، وأقرّوا لهم بالفقه والعلم، وهم ستة نفر..... يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى، ومحمد بن أبي عمير، وعبد الله بن المغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد بن محمد بن أبي نصر (3).

وعن مولانا الجواد (علیه السلام) في محمد بن سنان: «رضي الله عنه برضائي عنه، فما خالفني وما خالف أبي قطّ».

وقد ذكر علماء الرجال أصحاباً كثيرين للأئمة (علیهم السلام) ومنهم مجموعة مهمة كانوا على مرتبة عالية من التشيّع والتضحية والطاعة للأئمة (علیهم السلام) ولا يتسع المقام تتبع اسمائهم وأخبارهم إلاّ اننا أشرنا إشارة خفيفة إلى هذه الطائفة بما قدّمنا ذكره.

إن أمثال هؤلاء هم الشيعة الذين كان يبحث عنهم علي بن أبي طالب في الأحداث التي مرّت على الإسلام، وعلى الزهراء ابنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعليه، وعلى الخط الرساليّ القويم، والذين بحث عنهم ابو محمد الحسن المجتبى قبل تسليمه للدولة إلى الطليق معاوية، وبحث عنهم الحسين الشهيد حين كان يصدع يوم عاشوراء: .

ص: 490


1- بحار الأنوار، ﺟ 46 ص 345 ح 28 .
2- بحار الأنوار، ﺟ 47 ص 390 ح 112 .
3- كليات في علم الرجال، الشيخ جعفر السبحاني، ص 166 .

هل من ذابٍ يذبّ عن حرم الله.

هل من موحّد يخاف الله فينا.

هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا؟.

هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا؟

هؤلاء هم الشيعة الذين يطلبهم السجاد والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري عليهم آلاف الصلاة والسلام.

هؤلاء هم الشيعة الذين ورد عن مولانا الصادق (علیه السلام) ان لو كان له بعددهم سبعة عشر رجلاً لما حلّ له القعود.

هؤلاء هم الذين يطلبهم المهدي المنتظر (علیه السلام) لينهض بهم نهضته المقدّسة، كي لا تتكرّر أحداث الطف ثانية، مع أنه آخر معصوم في ساحة الوجود، ولابُدّ ان تنتهي به مهزلة دولة الكفر التي تحيا البشرية بين أكنافها منذ آدم (علیه السلام) وإلى اليوم، بل إلى حين ظهوره - باستثناء اشعاعات نور هنا وهناك في فترات متباعدة -.

وحين ينهض تبدأ صفحة ثانية من تاريخ البشرية.

صفحة الدولة الإلهية التي لا انقضاء لها، وتأخذ الدنيا شكلاً ثانياً لم لَحيُْمْ به أحد.

وإن كانت مسيرة التكليف مستمرة.

ولكل زمانٍ احكامه وتكاليفه وامتحاناته الخاصة به.

ومن أوّل يوم للبشرية إلى آخر يوم لها، فان الغربال يعمل عمله، إذ بتميّز من خلاله الجيّد والردئ.

إن الشيعة الذين يطلبهم جميع المعصومين -ومنهم الحسين المظلوم- هم من قبيل النُخبة التي صدقت الوعد مع الإمام الحسين(علیه السلام)، وتهافتت على الموت، دون أيّ حسابٍ

ص: 491

لمنافع عاجلة، أو لمناصب، أو لما ستسفر عنه ساحة الكفاح.

ما عليهم فقد صنعوه.

والعواقب بيد الله سبحانه، وهو الذي يرزق سبعمائة حبة من حبّةٍ واحدةٍ.

حِفْظُ جهود الأنبياء والأوصياء والشهداء والصلحاء ومن تبعهم بإحسان: عليه سبحانه، وهو ينمّيها لهم حتى يرزقهم إياها شجرة متجذرة راسخة في الأرض، وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين، على يد: «المهدي(علیه السلام)» أمل الجميع.

ص: 492

إحياء عاشوراء

اشارة

الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء، وحق أن يقال هذا في الحسين (علیه السلام) فقد قال النبی (صلی الله علیه و آله) من قبل: «حسين مني وأنا من حسين» فإذا كان الإسلام حسيني البقاء، فأحرى بالتشيع أن يكون كذلك.

وكما لرسول الله (صلی الله علیه و آله) المنّة على كل إنسان إلى أبد الدهر بما كان سبباً للهداية والنجاة من رذالة الكفر وخسرانه إلى مدارج الإيمان وشموخه، فقد أحيا العقائد الواقعية السليمة، والسلوك الطاهر، والإنسانية الرفيعة، وكل ما يسعد الناس ويهنئهم في الدارين، ويرقى بهم إلى ما هو أكمل وأسمى، ومن لم تعلُ به همته إلى مراتب الملائكة -عبر الأخذ بشريعة النبي الخاتم (صلی الله علیه و آله) - فهي حفظه في الأقلّ عن سقوطه عن مراتب الإنسانية، إلى حيث تأرذل من البهائم وأدنى.

فالحسين (علیه السلام) له المنّة أيضاً على كل البشر بما أحيا شريعة جدّه الخاتم، ولمنعه آل اُمية من دفنها وإلى الأبد، ولإعادته لها إلى حيّز الحياة والديمومة، لكنّه أقرح العيون بتضحيته التي ما سمع الدهر بمثلِها من مثله.

فأحرى بالدنيا كلها أن تُسخَّر للحسين (علیه السلام) بعدما وهب الحسين (علیه السلام) ذاته وما يرجع إليه للمولى سبحانه، وانقذ أمة عظيمة من البشر إلى حيث الحياة الطاهرة الزكيّة في الدنيا، والنجاة من السعير في الآخرة، ويتم هذا التسخير من خلال إحياء ذكرى الإمام الحسين صلوات الله عليه وسلامه.

فإحياء ذكرى الحسين (علیه السلام) ينطلق من حيثيتين:-

ص: 493

1- العمل للمحافظة على ما استشهد الحسين (علیه السلام) من أجله، وفداه بنفسه المقدسة، وأفلاذ كبده، وأهل بيته، وأحبّ أنصاره، وعرّض عائلته المقدّسة، وعوائل صحبه الأشراف للأسر، وبذل لأجله كلّ غالٍ ونفيس.

2- إحياء ذكر الحسين (علیه السلام): الإمام (علیه السلام) المنصوب من الله تعالى، وصاحب الملكات العظيمة، والمواهب الربانية، خامس أصحاب الكساء، وَأَحَدُ من خلق المولى سبحانه الدنيا لأجلهم، وليس للبشرية عند الحسين إلاّ الفوز والسعادة ونيل المكارم والمغانم.

افيُقتل إنسان كهذا، بعد ما يُنكب بكل ما جرى عليه مما سرده التأريخ، ويُذبح عطشاناً على شط الفرات بين نسائه وأهل بيته في فلاة قفر من الأرض؟

فاللازم الاهتمام في إحياء مراسم عاشوراء، أداءً لحق هذا العظيم، وإعلاناً لمظلوميته، وتحطيماً لمن عانده، وقاتله، وسفك دمه، أو شارك من بعيد أو قريب في محنته ومظلوميته، واماتةً لما حاول الأمويّون إحيائه وتخليده، من جاهلية عقائدية وسلوكية.

أما ما استشهد الإمام (علیه السلام) من أجله، فإن هذا الكتاب مُعَدّ لبيانه وتشخيصه، وطريق احياءه هو استمرار ذلك النهج وتلك الروح، حيثما أمكن - إلاّ أن يحصل ظرف يقتضي نهجاً آخر بعنوان ثانوي -.

وأما إحياء ذكر الإمام الحسين (علیه السلام) فله طرائق كثيرة بنصوص عليه، بعضها بالنص الخاص، وبعضها بنصٍ يتضمّن عنواناً عاماً تندرج تحته عناوين كثيرة تصلح كلها كتطبيقات ومصاديق لذلك العنوان العام، فلا يُعترض على واحدٍ منها لعدم ورود نصّ عليه بخصوصه وذلك لانه منصوص عليه أيضاً وانّما بحسب اندراجه تحت ذلك العام، وهذا العام يُمكن ان تزيد العناوين المندرجة تحته بحسب اختلاف الزمان والمكان كما يُمكن ان تُلغى منه بعضها للاختلاف الزماني و المكاني.

ص: 494

يقول السيد الجليل رضي الدين ابن طاووس الحلّی:

ولو لا امتثال أمر السُنّة والكتاب، في لبس شعار الجزع والمصاب، لأجل ما طُمِسَ من اعلام الهداية، وأُسّس من أركان الغواية، وتأسفاً على ما فاتنا من تلك السعادة، وتلهفاً على أمثال تلك الشهادة، وإلاّ كنّا قد لبسنا لتلك النعمة الكبرى أثواب المسرّة والبشرى.

وحيث إن في الجزع رضىً لسلطان المعاد، وغرضاً لأبرار العباد، فها نحن قد لبسنا سربال الجزوع، وآنسنا بإرسال الدموع، وقلنا للعيون جودي بتواتر البكاء، وللقلوب جدّي جدّ ثواكل النساء.....

... وكيف لا يكون كذلك، وقد أصبح لحم رسول الله (صلی الله علیه و آله) مجرّداً على الرمال، ودمه الشريف مسفوكاً بسيوف الضلاّل، ووجوه بناته مبذولة لعين السائق والشامت، وسلبهنّ بمنظر من الناطق والصامت، وتلك الأبدان المعظّمة عارية من الثياب، والأجساد المكرّمة جاثية على التراب (1).

فحقاً ما يقول السيد ابن طاووس، فكما ان في ملحمة الطف حيثية المأساة وموجبات الحزن والجزع، فإن فيها حيثية أخرى هي موجبات الاستبشار والفرح العظيم.

والسرّ في دواعي الاستبشار:

إن الثورة الحسينية حققت مكاسب هائلة للإسلام، والأمة، بل لكل مؤمن.

بالاضافة إلى المغانم العظيمة التي نالها نفس الحسين الشهيد صلوات الله عليه وسلامه.

إذ ان الدولة السفيانية كانت بصدد القضاء التام على الإسلام الحقيقيّ واقتلاعه .

ص: 495


1- الملهوف، السيد ابن طاووس، ص 83 - 84 .

من جذوره واستبداله بإسلام ممسوخ وفق المقاس الأموي الجاهلي عقيدة وسلوكاً، غير أن الحسين (علیه السلام) كان لخططهم بالمرصاد وقام بإجهاض تلك المؤامرة المحبكة، وأعاد الإسلام إلى تنسّم الأنفاس من جديد.

كما إن حركة الحسين (علیه السلام) أحدثت هزّة عميقة في ضمير الأمة، وأيقضتها من غفوتها، بل أحيتها بعد ما كادت تلفظ أنفاسها كامّةٍ إسلامية، وكمجتمع إنساني إذ أن الأمة كانت تدق أبواب الجاهلية من جديد والحسين أعادها إلى مسار الإسلام وانقذ منها ما أمكن إنقاذه من السقوط الأبدي في جهنم.

وبإعادة الإسلام والأمة إلى الارتباط من جديد يتضح وجه المكاسب التي حققها الحسين لكل مؤمن بالاضافة إلى إن ارتباط المؤمن بالحركة الحسينية أصبح سبباً جديداً لانفتاح هذا المؤمن على البركات الإلهية الخاصة في الدنيا والآخرة وهي بركات سببها الحسين تبتدأ بحطّ الذنوب العظام وآثارها في الدنيا وتنتهي بالشفاعة الحسينية والنجاة في الآخرة -ضمن الشروط المذكورة لهذه البركات- وأما المغانم التي نالها نفس الحسين (علیه السلام) السبط فغير محدودة.ومن أهمها ما ذكرته بعض النصوص من ان له منزلة خاصة لن ينالها بدون الشهادة وقد حققت له تضحيته وشهادته في سبيل الله النتائج المرجوة، ورفعته إلى أعلى منزلة.

فحقاً يقول السيد ابن طاووس، أنه لو لا الأمر الشرعي بإظهار الحزن والجزع على سيد الشهداء لكان الأجدر بأحباب الحسين (علیه السلام) هو إظهار السرور بهذه الشهادة التي حققت ما تقدّم وكثير غيره للإسلام وللمؤمنين وللحسين (علیه السلام) لكن حيثية الجزع تغلب الحيثية المتقدّم ذكرها، لأن جريمة الامويين بحق الحسين وآله (علیهم السلام) والإسلام يوم الطف، فاقت كل حدّ إذ اظهر اولئك المسوخ كل رذيلة باقصى مراتبها ذلك اليوم، وبلغوا مع الحسين (علیه السلام) وآله وصحبه غاية الخسّة، وطبيعة سلوكهم ذلك اليوم ينمّ عن

ص: 496

ان المسألة ليست قضيّة محاولة الإمام (علیه السلام) لإخراجهم من السلطة وانهم متمسّكون بها، بل تصرخ بحقدهم الدفين على الإسلام وبيت النبوة، وان جوانحهم لا تنطوي على ايّ كريمة وخلق إنساني فضلاً عن المبادئ والمعاني الإسلامية، والاّ كيف تف الأساليب التي استعانوا بها لتحقيق الانتصار على الإمام (علیه السلام) ابتداءً من نفس تخييرهم للإمام (علیه السلام)بين الموت أو الأسر المذلّ الاستعبادي - والعياذ بالله العظيم - وهو إمام الأمة بنص لرسول الله (صلی الله علیه و آله) المروي عند الشيعة والسُنّة - وابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسبطه وهو سيّد شباب أهل الجنة....الخ مروراً بالاعداد الهائلة - رجالاً وسلاحاً- التي حشدوها لابادة الإمام وأسرته وصحبه، ومنع الماء على الجميع بما فيهم النساء والاطفال الرضّع وانتهاءاً بقتل كل طفل حتى الرضيع إلى ذبح نفس الإمام (علیه السلام) - وهو يكلمهم مع انه فقد كل قدرة له على الحركة فضلاً عن المقاومة نتيجة الضربات الهائلة التي تلقاها -كمية ونوعية- وكان سيؤول إلى الموت المحتم بعد دقائق إلاّ انهم ذبحوه ذبحاً وهو يكلمهم ثم ك وّرسا عظام جسمه بإمرار عشرة من الخيول عليها.

ثم تعال إلى نهب النساء وإحراق الخيام وإدخال ما لا يوصف من الرعب والخوف على من بقي، ثم أخذ النساء والأطفال -مع إمام الامة (علیه السلام): زين العابدين حفيد رسول الله (صلی الله علیه و آله) - أسارى إلى الكوفة ثم إلى الشام في رحلة مهلكة مأساوية كما يقاد العبيد وفي اسوأ حال.

الله أكبر: أسرة النبي الاعظم (صلی الله علیه و آله) أسارى في بلادٍ تسمّى بلاد المسلمين، وبايدي من يسمّون انفسهم بالمسلمين، وإمام سمع وبصر من يسمّون بالمسلمين، ولا من منكر ولا من ثائر.

رأس ابن بنتِ محمدٍ ووصيّه

ياللرجال على قناةٍ يُرفع

ص: 497

والمسلمون بمنظرٍ وبمسمع

لا منكر منهم ولا متفجع

مع أن القرآن يقول: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» (1).

ويقول: «قُل لَّا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی» (2).

ولو كان كل احدٍ من المسلمين قد رأى نساءه بهذه الحالة لحمل السلاح وخرج وجازف بدمه في سبيل استنقاذهم ولا تجد احداً يحمل السلاح لانقاذ بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الاسر، وهذا يدل على مدى كفر وجبروت السلطة الأموية الكافرة الفاجرة، وعلى الحال الرذل الذي بلغته الأمة عقائديّاً وسلوكيّاً.

مراسم الاحياء:

لقد بيّنا في كتابين لنا شيئاً عن هذا الموضوع وهما «مسلم بن عقيل» و «العباس بن علي»، وليس هدفنا استيعاب الموضوع في ايّ من كتبنا فهذا يحتاج لكتاب خاصٍ به، ولعل التوفيق يحالفنا أو يحالف احد اخواننا من أهل العلم في القيام بهذا البحث الجليل، لكن مرامنا هنا هو التعرّض للموضوع ولتناوله جزئياً.

إن السلوك الذي أمر به الأئمة (علیهم السلام) في إحياء أمر الحسين (علیه السلام) ونهضته، وقام به الشيعة، من الإصرار في البكاء على الحسين، وإقامة المآتم، وزيارة القبر المقدّس، وتذاكرأمر الحسين وقضيّته وأهدافه، أدى بالنتيجة إلى جَعْلِ الوجود الحسيني بكافة جهاته أمراًواقعياً سُحيب له حسابه.

إذ بحسب ظروف المنع والضغط، فإنه كان على هذه الظاهرة أن تنتهي في مهدها،

ص: 498


1- سورة الاحزاب من الآية 33 .
2- سورة الشورى من الآية 23 .

ويخبو ضوؤها، مع انك تجد الحسين (علیه السلام) في العالم اليوم مذكوراً من أقصاه إلى أقصاه، وحيثما وُجد شيعي، وحيثما وُجد حُبّ للحسين(علیه السلام)، وأصبحت الثقافة الحسينية مفروضة على الاُمة الإسلامية، وتتسع يوماً بعد يوم، ليُشارك في إحياءها والكتابة بشأنها- بشكل أو آخر- شريحة أوسع من نطاق الشيعة، وكل ذلك من العمل الحثيث لأئمة الهدى من أهل البيت (علیهم السلام) ولنشاط الشيعة.

لئن ورد عن الإمام المظلوم الحسين (علیه السلام) في وصيّته لأخته زينب(علیها السلام) :

«أقسمتُ عليك فأبرّي قسمي: لا تشقّي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولاتدعي عليّ بالويل والثبور، إذا أنا هلكت». (1)

فقد ورد عن بقيّة الأئمة المعصومين (علیهم السلام) الشيء الكثير من النصوص الموضّحةللثواب العظيم الإلهي، لمن حزن للإمام الشهيد وبكاه وذكره وانشد فيه شعراً إلى غيرذلك من مظاهر الحزن والجزع عليه (2).

وهذا مهدي آل محمد -صلوات الله عليه وسلامه- يُروى عنه:

فلئن أخّرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم اكن لمن حاربك محاربا، ولمن نصب لك العداوة مناصبا، فلاندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينّ لك بدل الدموع دماً، حسرة عليك، وتأسفاً على ما دهاك، وتلهفاً، حتى أموت بلوعة المصُاب، وغُصّةالاكتئاب (3).

وورد ان السيدة زينب(علیها السلام) ضربت راسها بمقدّم المحمل، لما رأت رأس الإمام .

ص: 499


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 2.
2- راجع: كامل الزيارات، للشيخ ابن قولويه.
3- ضياء الصالحين، الحاج محمّد صالح الجوهرجي، ص 550 .

محمولاً على الرمح (1).

وورد انه: لم تختضب هاشميّة ولا رجّلت ولا أدّهنت حتى أتى الهاشميين رأس ابن زياد «لعنه الله تعالى». (2)

وهذا زين العابدين(علیه السلام) «الشاهد الأعظم على أحداث كربلاء» يقول لأهل المدينة في المروي عنه بعد أن يصف الحدث بأنه ثلمة في الإسلام عظيمة:

«قُتل أبو عبد الله الحسين وعترته، وسُبيت نساؤه وصبيته، وداروا براسه في البُلدان، من فوق عامل السنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة.

أيّها الناس: فأيّ رجالات منكم يُسرّون بعد قتله، أم أيّ فؤادٍ لا يحزن من أجله، أم أيّة عينٍ منكم تحبس دمعها، وتضنّ عن انهمالها....

أيها الناس: أيّ قلب لا ينصدع لقتله، أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه، أم أيّ سمعٍ يسمع بهذا الثلمة التي ثُلمت في الإسلام ولا يُصَمّ». (3)

ان مسألة الإحياء واستحبابه في اصلها هي مسالة ضرورية لا تحتاج إلى مراجعة مُفْتٍ اصلاً، إذ انّ استحباب إحياء قضية الحسين (علیه السلام) في الجملة مسألة لا تحتاج إلى إقامة الدليل عليها إذ بلغت مرتبة القطع بالجواز، بل هي من البداهة بمكان عند كل شيعي متدين قريب من الأجواء الدينية والفقهية.

نعم في تفاصيلها كلام فيرجع كُلّ إلى مقلده لمعرفة الحكم في بعض مراسم الإحياء وانها تصلح للممارسة بحسب الزمان والمكان والظروف المحيطة ام لا. فنقول: ان مجموعة من هذه المراسم وصلت إلى حدّ القطع بالجواز بل الاستحباب كأصل المسألة .

ص: 500


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 115 .
2- مستدرك الوسائل، ﺟ 1 ص 391 الباب 22 ح 1.
3- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 425 .

مثل البكاء على الإمام(علیه السلام)، وإقامة المجالس لذكر قضيّته، وزيارته، إذ وردت الادلة الكثيرة عليها ومارسها الأئمة المعصومون (علیهم السلام) وشيعتهم ايضاً في عصرهم، ثم تناولها الشيعة بالممارسة جيلاً بعد جيل يتقدمهم في هذا فقهاؤهم وكبراؤهم دون نكيرٍ من احدٍ اصلاً ولا يزداد الامر إلاّ علّوا وسعة وعادت هذه المراسم اسساً لا يُعترض عليها، نعم لعلّ المناقشة تحصل في امور اخرى استجدّت زماناً بحسب مسير العصور وتغ الظروف وحلول المستجدّات.

والذي نريد قوله هنا بكلام جامع هو:

كل امرٍ ثبت بدليلٍ، استحباب أو جواز اقامته، بعنوان خاص، فلا ريب في شأنه.

وما انطبق عليه احد العناوين العامة فكذلك.

لكن كل ما تقدّم بحيث لا يزاحمه حكم آخر اقتضاه ظرف خاص، وما تحققت فيه المزاحمة فيُلاحظ الأهم والمهم فيه، إذ يُقدّم الأهم بحسب القانون الاصولي في مسألة التزاحم.

وقد نبّه احد الفقهاء الكرام إلى التروّي والتثبّت في هذا المجال وعدم التسرُّع في الاقدام على المنع من المراسم الحسينية بحجة المزاحمة وتقديم الاهم، وذلك أن أهمية القضية الحسينية ومراسمها تجعلها هي الاهم في عدة من المزاحمات فالتزام اهمية غيرها يحتاج إلى تثبت وتدقيق للجزم به ثم البناء عليه (1).

لكن إذا تم التثبّت والتحقيق والتدقيق وجُزم بالمزاحمة فلا ينبغي التوقف ابداً في المنع من محل البحث، والكلام في مورد المزاحمة، إلا أن يزاحم المنع منه عنوان آخر، كانفتاح باب فتنةٍ، أو حلول التفرقة بين أبناء الطائفة المحقة، أو حصول وهن في مذهبص.

ص: 501


1- السيّد محمد سعيد الحكيم، رسائل للمبلغين، ص.

الحق، أو تقوّي الظالمين على المذهب وابناءه، أو انفتاح باب اكيد لضرب تلك المراسم والشعائر...الخ، فيلزم معالجة حالة التزاحم الجديدة إلى حيث مقتضيات قوانين علم أصول الفقه لمثل هذه الحالات حتى نصل إلى الموقف النهائي المطلوب إيصاله إلى المؤمنين والمسترشدين.

ثُمّ انّ في النصوص: عناوين عامة، وأخرى خاصة، تتعلق بقضية الإحياء.

فمن العناوين العامة: إحياء أمر أهل البيت (علیهم السلام)، وتذاكر أمرهم.

ومن الخاصة: البكاء على الإمام(علیه السلام)، وإقامة المآتم.

أما ما ورد بخصوصه في نصوص الشريعة، فيُؤخذ به، لورود النصّ بالأمر به، وإن خَفي وجه الفائدة فيه.

على ان كل ما ورد الامر بِهِ في الشريعة في هذا المجال، قد بانت فوائده، بل آثاره العظيمة، في إحياء قضيّة الإمام(علیه السلام)، بل في اعطائِهِ الديمومة للحركة الإسلامية ككل، ولا يزال يرفد الأمة بالعطاء.

ونتعرّض هنا لما ورد من أوامر لاحياء قضايا أهل البيت (علیهم السلام) عامة، وقضيّة الحسين بشكل خاص، لكن تحت عناوين عامة، تصلح لها تطبيقات كثيرة، قد تختلف بحسب الزمان والمكان.

فمنها: ما ورد بعنوان إحياء أمرهم(علیهم السلام):

عن الإمام الصادق(علیه السلام)، قال: «تجلسون وتحدّثون».

قال «الراوي» قلت: نعم، جُعلت فِداك.

قال: «تلك المجالس أُحبّها، فأحيوا أمرنا يا فُضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا». (1)4.

ص: 502


1- جامع أحاديث الشيعة، ﺟ 20 ص 180 ح 4.

وعن أبي جعفرٍ الثاني (علیه السلام) - الجواد - قال:

«رحم الله عبداً أحيا ذكرنا».

قلت: ما إحياء ذكركم.

قال: «التلاقي والتذاكر عند أهل الثبات»(1) - أي الشيعة المتمسكين بنهج أهل البيت(علیهم السلام).-

وعن الصادق(علیه السلام): «رحم الله امرءً أحيا أمرنا».

فقيل: وما إحياء أمركم يابن رسول الله؟

فقال: «تذكرونه عند أهل العلم والدين واللُبّ». (2)

وعن أبي جعفر، محمد بن علي (علیهما السلام)، قال:

«اجتمعوا وتذاكروا، تحفّ بكم الملائكة، رحم الله من أحيا أمرنا».

ومنها: ما ورد بعنوان ذِكْرِهِمْ، وقد روي فيه أحاديث عدة في الحث عليه (3).

كما ان هناك عناوين عامة اخرى تركنا استقصائها، وهناك عناوين عامة إلاّ أنها أضيق دائرة من العناوين المتقدّم ذكرها، وتندرج تحتها.

واما العناوين الخاصة فمنها:

ا- زيارة الإمام الحسين(علیه السلام).

فقد حفلت روايات كثيرة، واردة في كتب الشيعة والسُنّة، في الحثّ عليها، ببيان الثواب العظيم المُعدّ للعامل بها.ا.

ص: 503


1- المصدر السابق، ﺟ 20 ص 181 ح 5.
2- المصدر السابق، ح 6.
3- المصدر السابق، ﺟ 20 ص 182 وما بعدها.

فمن طرق السُنّة: ما ذكره المحبّ الطبري في ذخائر العقبى: سُئل جعفر بن محمد (علیهما السلام)عن زيارة قبر الحسين (علیه السلام) فقال: «أخبرني أبي ان من زار قبر الحسين (علیه السلام) عارفاً بحقّه كتب الله له في عليّين.

وقال: إنّ حول قبر الحسين (علیه السلام) سبعين الف مَلَك، شُعْثاً، غُ اْرب، ً يبكون عليه إلى يوم القيامة». (1)

ومن طرق الشيعة الإمامية (2): ما عن الإمام الباقر(علیه السلام): «مُروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين (علیه السلام) فإنّ إتيانه يزيد في الرزق، ويمدّ في العمر، ويدفع مدافع السوء، وإتيانه مفترض على كُلّ مؤمن يقرّ للحسين بالإمامة من الله». (3)

وعن مولانا الإمام الصادق(علیه السلام): «من أراد أن يكون في جوار نبيّه (صلی الله علیه و آله) وجوار علي وفاطمة (علیهما السلام)فلا يدع زيارة الحسين بن علي (علیهما السلام)». (4)

والروايات كثيرة جداً من طرق الإمامية وفيها ما يح الألباب من آثار الزيارة المباركة للحسين (علیه السلام) دنيوياً وأخروياً، فراجع واغتنم.

ب- البكاء على الإمام(علیه السلام).

ففي مصادر السُنّة: ما نقله المحبّ الطبري، عن الحسين بن علي(علیهما السلام): «من دمعت1.

ص: 504


1- فضائل الخمسة من الصحاح الستة، الفيروز آبادي، ﺟ 3 ص 321 ، عن المحب الطبري، ص 151 .
2- وردت روايات كثيرة جداً تجدها في كتاب: جامع احاديث الشيعة للسيد البروجردي ﺟ 15 ص 179 - 472 ، وفي:مسند الإمام الشهيد، للعطاردي، ﺟ 2 ص 319 - 471 ، وهذه الروايات تتعلق بأهمية زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) وفضلها العظيم عند الله سبحانه، والآثار الدنيويةو الأخروية المترتبة عليها، وتتعرّض لذكر نصوص الزيارات.
3- جامع أحاديث الشيعة، ﺟ 15 ص 320 باب 63 ح 1.
4- جامع أحاديث الشيعة، ﺟ 15 ص 182 ح 1.

عيناه فينا دمعة، أو قطرت عيناه فينا قطرة، آتاه الله عزّ وجلّ الجنة». (1)

وفي مصادر الإمامية:عن الإمام الحسين(علیه السلام): «أنا قتيل العَ ةْربَ، لا يذكرني مؤمن الاّ بكى». (2)

وعن الإمام الصادق(علیه السلام):

«نظر النبی (صلی الله علیه و آله) إلى الحسين بن علي (علیهما السلام)وهو مقبل فأجلسه في حجره وقال: إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً».

ثم قال(علیه السلام): «بأبي قتيل كُلّ عبرة».

قيل: وما قتيل كُلّ عبرة يابن رسول الله(صلی الله علیه و آله).

قال: «لا يذكره مؤمن الاّ بكى». (3)

بل إن البكاء على الحسين المظلوم قد صدر عن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) وقد روي هذا في مصنفات الشيعة والسُنّة.

فمنها ما رواه الخوارزمي في كتابه «مقتل الحسين» عن اسماء بنت عميس:

قالت أسماء: فل كان بعد حولٍ من مولد الحسن، ولدت-أي: فاطمة (علیها السلام) - الحسين، فجائني النبی (صلی الله علیه و آله)، فقال: «يا أسماء، هاتي إبني».

فدفعته إليه في خِرقةٍ بيضاء، فأذّن في أُذنه اليمنى، وأقام في اليُسرى، ثم وضعه في حِجْرِه وبكى.

قالت أسماء: فقلت: فِداكَ أبي وامي مِمّ بكاؤك؟

قال: «على ابني هذا». .

ص: 505


1- فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ﺟ 3 ص 321 عن مصادر عدّة.
2- جامع احاديث الشيعة، ﺟ 15 ص 441 ح 21 .
3- المصدر السابق، ح 18 .

قلت: إنّه وُلِدَ الساعة.

قال(صلی الله علیه و آله): «يا أسماء، تقتله الفئة الباغية، لا أنالهم الله شفاعتي».

ثم قال(صلی الله علیه و آله): «يا أسماء، لا بُختري فاطمة بهذا، فإ اّهن قريبة عهدٍ بولادته». (1)ا.

ص: 506


1- روى هذا جمع تجد ذكرهم في هامش، ص 572 من كتاب:ليالي بيشاور، وقد ذكر روايات عدّة عن مصادر كثيرة في بكاء النبی (صلی الله علیه و آله) على سبطه، فاغتنمها.

أربعينية الإمام الحسين (علیه السلام)

اشارة

ثلاثة أمور تتعلّق بأربعينية الإمام (علیه السلام) لا ارتباط لأحدها بالآخر، وإثبات واحدٍ منها أو نفيه، لا يؤثر على البقيّة:

أ- استحباب زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) الزيارة الأربعينية.

ب- ورود عائلة الإمام الحسين (علیه السلام) إلى كربلاء - وهي في طريقها من الشام إلى المدينة - وقد صادف وصولها يوم الأربعين من شهادة الإمام(علیه السلام).

ﺟ- ورود جابر بن عبد الله الأنصاري - الصحابي الجليل الموالي لاهل البيت النبوي - إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين (علیه السلام) وقد صادف وصوله اربعينية الإمام (علیه السلام)كما صادف أيضاً وصول عائلة الإمام (علیه السلام) من الشام، وهي في طريقها إلى المدينة.

ويُمكن جعل النقطة الثالثة نقطتين:

1- ورود جابر إلى قبر الإمام (علیه السلام) يوم الأربعين من شهادته.

2- التقاء جابر بعائلة الإمام (علیه السلام) عند قبره المقدّس.

والأمور الثلاثة المتقدّمة وقعت محلاً للنقض والإبرام والتساؤل - في الجُملة - والوجه في وقوعها كذلك هو:

أ- الوجه في استحباب زيارة الإمام يوم الأربعين من شهادته، وتخصيصه بهذا من دون بقيّة المعصومين عليهم الصلاة والسلام.

وقد أجاب الشيخ المجلسي - صاحب البحار- عن هذا التساؤل بقوله:

ص: 507

المشهور بين الأصحاب: أن العلّة في ذلك، رجوع حرم الحسين صلوات الله عليه في مثل ذلك اليوم إلى كربلاء عند رجوعهم من الشام، وإلحاق علي بن الحسين صلوات الله عليه الرؤوس بالأجساد.

وقيل: في مثل ذلك اليوم رجعوا إلى المدينة، وكلاهما مستبعدان جدّاً، لأنّ الزمان لا يسع ذلك كما يظهر من الأخبار والآثار.

وكون ذلك في السنة الاُخرى أيضاً مستبعد.

ولعلّ العلّة في استحباب الزيارة في هذا اليوم: هو ان جابر بن عبد الله الأنصاري - رضوان الله تعالى عنه - في مثل هذا اليوم وصل من المدينة إلى قبره الشريف، زاره بالزيارة التي مرّ ذكرها، فكان أوّل من زاره من الإنس ظاهراً، فلذلك يستحبّ التأسيّ به.

أو إطلاق أهل البيت (علیهم السلام) في الشام من الحبس والقيد في مثل هذا اليوم.

أو علّة اخرى لا نعرفه (1).

وقال: قال الكفعمي (رحمة الله): إنّما سُمّيت بزيارة الأربعين لان وقتها يوم العشرين من صفر، وذلك لأربعين يوماً من مقتل الحسين(علیه السلام)، وهو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبدالله الأنصاري صاحب النبی (صلی الله علیه و آله) من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين (علیه السلام) فكان أوّل من زاره من الناس، وفي هذا اليوم كان رجوع حرم الحسين (علیه السلام) من الشام إلى المدينة.

وقال السيد (علیه السلام)في كتاب الإقبال: فإن قيل كيف يكون يوم العشرين من صفر يوم الأربعين إذا كان قتل الحسين صلوات الله عليه يوم عاشر محرم فيكون يوم العاشر من جملة الأربعين، فيصير أحداً وأربعين، فيقال: .

ص: 508


1- بحار الأنوار، الشيخ محمد باقر المجلسي، ﺟ 98 ص 334 .

لعلّه قد كان شهر محرم الذي قُتل فيه صلوات الله عليه ناقصاً، وكان يوم عشرين من صفر تمام أربعين يوماً.

فإنّه حيث ضُبط يوم الأربعين بالعشرين من صفر فامّا أن يكون الشهر كما قُلنا ناقصاً أو يكون تاماً ويكون يوم قتله صلوات الله عليه غير محسوب من عدد الأربعين لأن قتله كان في أواخر نهاره فلم يحصل ذلك اليوم كلّه في العدد، وهذا تأويل كاف للعارفين، وهم أعرف بأسرار ربّ العالمين في تعيين أوقات الزيارة للطاهرين.

ثم قال (رحمة الله)-أي السيد ابن طاووس في الإقبال-:

ووجدت في المصباح أنّ حُرم الحسين (علیه السلام) وصلوا المدينة مع مولانا علي بن الحسين (علیه السلام) يوم العشرين من صفر.

وفي غير المصباح أنهم وصلوا كربلاء أيضاً في عودهم من الشام يوم العشرين من صفر، وكلاهما مستبعد، لأنّ عبيد الله بن زياد لعنه الله كتب إلى يزيد يعرّفه ما جرى ويستأذنه في حملهم، ولم يحملهم حتى عاد الجواب إليه، وهذا يحتاج إلى نحو عشرين يوماً أو أكثر منها، ولأنه لما حملهم إلى الشام روي أنهم أقاموا فيها شهراً في موضع لا يُكنّهم من حرٍّ ولابرد، وصورة الحال تقتضي أنهم تأخروا أكثر من أربعين يوماً من يوم قُتل (علیه السلام) إلى أن وصلوا العراق أو المدينة.

وأما جوازهم في عودهم على كربلاء فيُمكن ذلك، ولكنّه ما يكون وصولهم إليها يوم العشرين من صفر، لأنهم اجتمعوا على ما روي مع جابر بن عبد الله الأنصاري، فإن كان جابر وصل زائراً من الحجاز فيحتاج وصول الخبر إليه ومجيئه أكثر من أربعين يوماً، وعلى أن يكون جابر وصل من غير الحجاز، من الكوفة أو غيرها (1).

ويتضّح مما تقدم أن أربعينية الإمام تُصادف غير ما تقدم ذكره في بداية الفصل أي: .

ص: 509


1- بحار الأنوار، ﺟ 98 ص 334 .

رجوع الركب الحسيني إلى المدينة (1)، وهو بعيد غايته، إلاّ إذا التزمنا بأن هذا كان بعد عام من استشهاد الإمام (علیه السلام) وهو بعيد أيضاً.

استحباب الزيارة:

ورد عن مولانا الإمام أبي محمد الحسن العسكري صلوات الله عليه وسلامه أنه قال: «علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والتختّم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم». (2)

وفي تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي - وفي غيره أيضاً (3)- ذكر زيارةً بعنوان زيارة الأربعين، وذكر أنها تُزار عند ارتفاع النهار.

والنصوص غير معلّلة بأن هذه الزيارة لمكان رجوع السبايا إلى كربلاء، أو لوصول زائرٍ إلى قبر الحسين (علیه السلام) -جابرٍ أو غيره-.

رجوع السبايا وزيارة جابر:

ويُمكن حلّ الإشكال، في استبعاد وصول السبايا، أو جابر، يوم الأربعين إلى كربلاء، بفكّ المطالب، بأن نقول:

ان الزيارة مستحبة على حِدَة -مع ثبوت الإستحباب بادلّة خاصة، والاّ فالقول به بناءً على قاعدة التسامح في أدلّة السنن- ولا ربط لها برجوع السبايا، أو بزيارة جابر، وما

ص: 510


1- ذكر الشيخ عباس القمي في مفاتيح الجنان ص 361 ، ان هذا قول للشيخين أي -المفيد والطوسي-.
2- مصباح الزائر، السيد رضي الدين بن طاووس، ص 268 ، وتوجد في تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي، ﺟ 6 ص 47 ح 37 باختلافٍ طفيف، وأقدم من نَقَلَها: المفيد في مزاره.
3- راجع: بحار الأنوار، ﺟ 98 ص 331 - 334 ، وتهذيب الأحكام ﺟ 6 ص 97 .

ذُكر بهذا الخصوص إنما هو من توجيهات الأعلام لوجه استحباب الزيارة الأربعينيّة، وليس هو مفاد نصّ، فيُمكن عدم الالتزام بوجود رابطٍ ما بين هذه الحوادث، وبين استحباب الزيارة الاربعينيّة، ويكون وجه اختيار يوم الاربعين لاستحباب زيارة سيدالشهداء الحسين (علیه السلام) لعلة تكوينية أو تشريعية غير مرتبطة بتاتاً بمن زار الإمام(علیه السلام).

وأما زيارة السبايا وزيارة جابر، فيُمكن حصولهما في غير يوم الأربعين، مهما افترضنا طول مدة مكث عائلة الإمام في الكوفة أو الشام، وكذا طول مدة سفر جابر إلى كربلاء، ويُمكن اجتماعهما أيضاً في كربلاء، مع صلاحية المتوفر -روائياً وتأريخياً- لإثبات حصول هاتين الزيارتين، ولاجتماع جابر بعائلة الإمام(علیه السلام).

ويبقى عندنا:

أ- وجه مرور عائلة الحسين (علیه السلام) على كربلاء، مع ان المجرم يزيد -لعنه الله تعالى-أمر جنده بإرجاع العائلة المكرّمة إلى المدينة، ومع أن طريق المدينة لا يمرّ عبر كربلاء، بل يحتاج لكُلفةٍ ومسارٍ مختلفٍ تماماً، فطريق المدينة يأخذ بالنزول من دمشق، بينما طريق كربلاء يأخذ بالصعود من دمشق إلى حلب ثم الدخول إلى العراق من طرف الموصل والنزول إلى كربلاء.

ب- وجه الزيارة الأربعينية للإمام (علیه السلام) وتخصيصه بهذا من دون بقيّة المعصومين(علیهم السلام).

الجواب عن رجوع العائلة إلى كربلاء:

لعائلة الإمام الحسين (علیه السلام) مع السلطة الطاغوتية مرحلتان:

- المرحلة الأُولى: تبتدأ من تجمّع الجيوش حول سيد الشهداء (علیه السلام) وصحبه وعائلته وتنتهي بالفترة التي غ فيها يزيد سياسته مع العائلة الشريفة.

ص: 511

- والمرحلة الثانية: تبتدأ من حين تغيير يزيد لسياسته الغليظة مع الاسرة النبوية إلى سياسة اللين والمسايرة، وإلى حين رجوع الاسرة إلى المدينة.

ويُمكن تقسيم المرحلة الاُولى إلى مرحلتين: أي ما قبل استشهاد الإمام (علیه السلام) وما بعد استشهاده، بإعتبار أن ما قبل استشهاده (علیه السلام) يعود إلى ضغط الدولة بشكل مباشر على الإمام(علیه السلام)، ثم على عائلته بالتبع، أما ما بعد استشهاده فان الضغط موجّه بالأساس والمباشرة إلى العائلة المكرّمة.

أما المرحلة الاُولى-بشقّيها- من تعامل يزيد وابن زياد وجندهما مع اسرة النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) فإنها تتميّز بالغلظة والشدّة بما يزيد على ما يُتعامل به مع اُسارى الحرب، أي انّ السلطة الحاكمة كانت تتعامل مع الاسرة النبويّة تعاملها مع مهدوري الدم.

وقد حاول ابن زياد- كما حاول هذا يزيد أيضاً- قتل السجّاد (علیه السلام) إلاّ أن الاُمور لم تتم لهما.

إذ ان الأول أمر جنده بقتل الإمام(علیه السلام)، ولولا رمي العقيلة(علیها السلام) نفسها على السجاد (علیه السلام) وإظهارها مفاداته، لالتحق السجاد بأبيه (علیهما السلام)، وحاول يزيد امراً كهذا ولم عليه فلم يتم له ما أضمره وعقد عليه عزمه.

وبالاضافة إلى مخاطر من هذا النوع عاشها جمع الأسارى، فقد لقيت الأُسرة عنتاً شديداً من أول استشهاد الإمام (علیه السلام) إلى حين تغيير يزيد لسياسته، وما من قلم ولا فكربقادرين على ان يُحيطا بفاجعتهم في تلك الأيام.

إذ ابتدأ الأمر بهجوم الجيش عليهم وإرعابهم، ولمّا يزل في الإمام الحسين (علیه السلام) رمق، فصاح الإمام المظلوم المفجوع بجموع جيش الضلالة من نواصب الامة:

«ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين وكُنتم لا تخافون المعاد، فكونوا

ص: 512

أحراراً في دنياكم هذه، وأرجعوا إلى أحسابكم إن كُنتم عُرباً كما تزعمون».

ثم أكدّ عليهم بقوله(علیه السلام):

«أنا الذي أقاتلكم وتقاتلوني، والنساء ليس عليهنّ جُناح، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم وطُغاتكم من التعرّض لحُرمي ما دُمت حيّاً». (1)

وبعد استشهاد الإمام (علیه السلام) هجم الجيش عليهم من جديد، فأحرق الخيام وارعب النساء والأطفال، فهرب الجمع على وجوههم، ولو لا العقيلة التي جمعت شملهم، ودفعت عنهم بأس المجرمين، لزاد اولئك على ما صدر عنهم من أفاعيل تناسب ذاتياتهم ونهجهم.

وما بين استشهاد الإمام الحسين (علیه السلام) إلى تغيير يزيد لسياسته، فان معاملة السلطةلهم كانت باسوء ما يُمكن، فالقتل يتهددهم، وحال السبايا قد أحاط بهم، ولا يدّخرأذناب السلطة ولا رؤوسها جُهْداً في ايذائهم، وإيقاع الضرر بهم.

والذي غ من يزيد نهجه:

أ- خُطب الإمام السجاد والعقيلة (علیهما السلام) وغيرهما في الكوفة، وفي قصر يزيد، بل في تمام مسيرة الاسرة النبويّة المسبيّة، إذ انتجت من جملة ما انتجته امرين مُهِمّين:

1- توعية الناس بحقيقة أمرهم وأنهم عائلة النبي الأكرم، وحقيقة قضيّتهم وحقيقة السلطة الكافرة الفاجرة.

2- تهييج الناس وإثارة غضبهم وغيظهم على السلطة، وقد امتد الوعي والهيجان إلى داخل قصر ابن زياد بمواجهةٍ بين زيد بن ارقم وابن زياد، وكذا إلى قصر يزيد بمواجهة رسول ملك الروم ليزيدٍ، واعتراض زوجة يزيد عليه جرائمه وأفعاله. .

ص: 513


1- الملهوف، ص 171 .

ب- الزلزال الذي أصاب الاُمة باستشهاد ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وسيد شباب أهل الجنة، واحد المشمولين بآية التطهير، واية المودة، وآية المباهلة، وحديث الثقلين، وسفينة النجاة، والكثير الكثير من الآيات والروايات والأحداث، وقد شمل الزلزال المكان الذي يعتصم به يزيد ويستأسد.

وهذا الزلزال ونحوه أوصل يزيد وابن زياد وغيرهما إلى الندم على ما صدر منهما - والندم المقصود هنا: ما كان باعثه الخوف على أنفسهم وكيانهم ممّا ستؤول إليه الأحداث، لا الندم على ذنب صدر عنهم، إذ لم يندم أحد منهم ولم يتب أبداً، بل هم مصرّون على نهجهم، اذ استولت الظُلْمةُ واستحكمت على قلوبهم ونفوسهم -.

ﺟ- إحساس يزيد وابن زياد بإنهما قد حققا مأمولهما من خلال القَدْرِ الذي حصل.

فقد اشتفيا بقتل الإمام(علیه السلام)، والنخبة من عائلة النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله)، وخيرة شيعةآل محمد (صلی الله علیه و آله)، كما اشتفيا بأسر عائلة النبی (صلی الله علیه و آله) وتبديد شمل الثورة الحسينية، وتقطيع أوصالها، وبتحويل الناس من انصارٍ لعليٍ والحسين وأهل البيت (علیهم السلام) عامة، إلى شيعةلبني أُمية، وقد وطّدا بكلّ هذا أركان الدولة، واستتب الأمر لهما، وحقّقا كل المأمول، وبلغا الغاية فيما يريدان، فلا يضر يزيداً بعد هذا أن يسلك مسلكاً آخر، يمتصّ به النقمة، ويذهب بآثار الجريمة -بحسبانه-.

وبناءً على هذا فانه بدء بتغيير مسلكه مع أهل البيت (علیهم السلام)، ومما نُقل في هذا الباب:

انه استدعى حُرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال لهنّ:

ايّما أحبّ اليكن، المقام عندي، أو الرجوع إلى المدينة، ولكم الجائزة السنيّة. قالوا:

نحب اوّلاً أن ننوح على الحسين.

قال: افعلوا ما بدا لكم.

ص: 514

ثم اُخليت لهنّ الحُجر والبيوت في دمشق، ولم تبق هاشميّة ولا قرشيّة إلاّ ولبست السواد على الحسين، وندبوه على ما نُقل سبعة أيام، فلما كان اليوم الثامن دعاهنّ يزيد وَعَرَضَ عليهنّ المقام، فأبين وأصررن على الرجوع إلى المدينة، فاحضر لهُنّ المحامل وزيّنها، وأمر بالانطاع الابريسم وصبّ عليها الأموال، وقال:

يا أم كلثوم خذوا هذا المال عوض ما أصابكم.

فقالت أم كلثوم: يا يزيد، ما أقلّ حياءك، وأصلب وجهك، تقتل أخي، وأهل بيتي، وتعطيني عوضهم (1).

ومما يجدر الفات النظر إليه: أن يزيداً يعرض المال على العائلة الكريمة عوضاً عما أصابهم، ووالي المدينة يهدم بيوتهم، وهكذا ديدن بني اُمية دائماً وأبداً، وهذا هو نهج هذا التيار مع آل محمد وشيعتهم.

فبناءً على ما تقدم كله من تغيير يزيد لسياسته، فلا يمتنع أبداً أن يسمح لهم بزيارة الطف قبل رجوعهم إلى المدينة، إذ لا يخشى خطراً من رجوعهم إلى تلك الديار، وقدقلب كثيراً من الناس لهم هناك إلى أعداء ونواصب بعدما كانوا لهم انصاراً ومريدين.

وتؤيّد المطلب بل تشهد له، روايات إرجاع الرؤوس المقدسة- أو رأس الإمام (علیه السلام) فقط- إلى كربلاء، وإلحاقها بالأجساد الشريفة، إذ هذا يعني أن العملية كلها تمّت بعلمٍ من السلطة، وبموافقةٍ منها.

وكذلك: إن رجوع العائلة المحمدية إلى كربلاء قبل التوجه إلى المدينة منطقي جداً، وذلك لتوديع الإمام وتجديد العهد بقبره المقدّس إذ لم يقضوا من حقّه ولا أظهروا من عواطفهم تجاهه بعد استشهاده، وقد أوسعهم جند بني امية أسراً وضرباً وإرعاباً. .

ص: 515


1- بحار الأنوار، ﺟ 45 ص 196 .

فعودتهم إلى كربلاء منطقية جداً، لكن مع حذف الزوائد، كتحديد المدة بأربعين يوماً ونحو هذه.

على إننا لا نُضايَق لو أُلجئنا إلى الأخذ بموافقة وصولهم إلى كربلاء في يوم الأربعين من استشهاد الإمام(علیه السلام)، إذ توجد حلول أخرى هناك، بالتخ عن الالتزام ببعض المنقولات من مدة سفرهم ومكثهم في دمشق ونحو هذي، لتصحيح الزيارة الأربعينية الممكنة في حدّ نفسها، مع ترتيب تفاصيل الاحداث جيّداً، ما بين الاستشهاد وبين العودة الأربعينية.

ص: 516

الزيارة

مما امتاز به شيعة أهل البيت (علیهم السلام) عن بقية المسلمين بل جميع الملل والأديان اهتمامهم العظيم بزيارة مثوى قادتهم وأئمتهم وتعاهد مراقدهم، وزيارة قبورِ مَن يمتّ لهم بسببٍ ديني، أو نسبي - بحيث يعود الاهتمام به إحياءً لأمر الدين - بل الاهتمام بزيارة القبور عموماً، وإن اختلف مستوى الاهتمام بين كل من تقدّم شدّة وضعفاً.

وهو توجّه ورد الأمر الشرعي بالتعبد به، والتقرب إلى المولى سبحانه من خلاله.

فقد استمرت سيرة الشيعة الإمامية الاثني عشرية من أول يومهم - مع يوم الإسلام الأول - إلى يومنا هذا على الاعتناء بموتاهم عموماً، لما ورد من انّ حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حياً، ولما ورد في آثار تعاهده وزيارته بعد الموت، من منافع وبركات دنيوية وأخروية.

وكان اهتمامهم الأعظم بزيارة مرقد النبي الأكرم الأطهر (صلی الله علیه و آله) ومرقد البتول الطاهرة(علیها السلام) ، -وإن كان الأخير غير معلوم على التعيين، إلاّ أنه مردّد بين أماكن عدة منها البقيع- ومرقد الأئمة من علي أمير المؤمنين إلى الحسن العسكري صلوات الله عليهم بل ومراقد ذريتهم ومراقد من له صلة بهم من خيرة أصحابهم أو من علماء الطائفة المحقّة.

وبالإضافة إلى أن هذا النهج موافق للفطرة الإنسانية السليمة، ولما جُبل عليه الإنسان من رحمة وشدة عُلقة، بمن يحبّ، خصوصاً إلى من إليه ينتسب: لِرَحِمٍ أو دين أو خُلّة، فإن النصوص أكدت ما جُبل عليه وأحكمت وثاقه وعزّزت ذلك الميل بالوعد

ص: 517

بالثواب الجزيل والآثار الحسنة في الدنيا والآخرة وخصّت زيارة الحسين (علیه السلام) بخصائص ومزايا تكشف عن أهمية الحركة الحسينية عند الله تعالى، وفي مسار الأحداث، وحركة التأريخ على طول الدهر.

وقد ورد في زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) بالخصوص ما يُذهل العقول، بالإضافة إلى أن النصوص تحثّ المؤمن على عدم ترك هذه الزيارة حتى عند الخوف من الظالمين.

وقد ابتدأ تأريخ الزيارة للإمام الحسين (علیه السلام) من حين استشهاده إذ زاره عدّة ما بين يوم استشهاده إلى يوم الأربعين، ويُصادف هذا اليوم وصول ركب سبايا عائلة الحسين (علیه السلام) إلى كربلاء في طريق رجعتهم من الشام إلى المدينة، مصطحبين للراس المقدّس - على القول برجوع السبايا إلى كربلاء (1) - إذ أعاده الإمام السجاد (علیه السلام) معه، ودفنه مع الجسد المقدّس، وصادف هذا أيضاً مجيء جابر بن عبد الله الأنصاري لزيارة الإمام بعد وصول خبر استشهاده إليه - مع ملاحظة ما ذكرناه حول هذا الموضوع -.

وكما اهتم الأئمة من أهل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم - تبعاً لهم - بزيارة الإمام الحسين (علیه السلام) فقد حاربها اعداؤهم ومناهضوهم محاربة اختلفت شِدّةً وضعفاً عبر مراحل التاريخ، ففي الوقت الذي بلغ فيه الأمر أيام المتوكل العباسي إلى هدم كربلاء، وهدم قبرالحسين (علیه السلام) وحرثه وتضييع أثره، ومعاقبة زائريه بأنواع العقوبات والتي قد تبلغ القتل، د.

ص: 518


1- في هذه المسالة قول بالعدم عن بعض الأجلاء، ووجهه: أن طريق الشام إلى المدينة لا يمرّ عبر الكوفة ويحتاج الأمر إلى الصعود من دمشق إلى حلب ثم الدخول إلى العراق من طريق الموصل والنزول إلى كربلاء أي عبر الطريق الذي سار فيه ركب الأسرى عند الذهاب بهم إلى الشام -غير أنه يمكن توجيه الأمر مع ورود خبر هذه الزيارة عن طرق وكتب لها بعض الاعتبار، بل له وجه وجيه جداً بعد ما تُرك- صلوات الله عليه - مطروحاً على الرمضاء، وهذا من الاسرة محاولة للتأكّد مما آل إليه حال جسد الإمام (علیه السلام) ولتجديد العهد به قبل الرجوع إلى المدينة، مما لا يتیسر معه زيارة الإمام من جديد.

نرى استماتة الشيعة في زيارته عبر مختلف مراحل التاريخ بما فيها مرحلة المتوكل، والأمرعلى هذا إلى اليوم، ولا يزيده ضغط الظالمين وقسوتهم إلاّ كثرةً في عدد الزوّار، وبذلاً منهم للأموال، وقلة مبالاةٍ منهم بالنتائج.

وممّا ورد عن الائمّة المعصومين من أهل البيت (علیهم السلام) للترغيب بزيارة السبط الشهيد(علیه السلام):

1- عن أبي خديجة عن أبي عبد الله(علیه السلام):

قال:سألته عن زيارة قبر الحسين(علیه السلام).

قال: «انّه أفضل ما يكون من الأعمال». (1)

2- عن ابي الحسن الرضا(علیه السلام):

قال: «من زار قبر أبي عبد الله (علیه السلام) بشطّ الفرات كان كمن زار الله فوق عرشه». (2)

3- عن قايد عن عبدٍ صالحٍ (علیه السلام) قال:

دخلت عليه، فقلت له:جُعِلْتُ فِداك، إنّ الحسين (علیه السلام) قد زاره الناس، من يعرف هذا الأمر ومن يُنكره، وركبت إليه النساء، ووقع حال الشُهرة، وقد انقبضت منه لما رأيت من الشهرة.

قال: فمكث مليّاً لا يُجيبني، ثُمّ أقبل عليّ فقال:

«ياعراقي، ان شهروا انفسهم فلا تشهر أنت نفسك، فوالله ما أتى الحسين آتٍ عارفاً بحقّه إلاّ غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر». (3)

4- عن معاوية بن وهب قال: .

ص: 519


1- جامع أحاديث الشيعة، ج 15 ص 179 .
2- جامع أحاديث الشيعة، ج 15 ص 180 .
3- جامع أحاديث الشيعة، ج 15 ص 185 .

استأذنت على أبي عبد الله (علیه السلام) فقيل لي: أدخل فدخلت فوجدته في مصلاه في بيته، فجلست حتى قضى صلاته، فسمعته وهو يناجي ربه ويقول:

«يا من خصنا بالكرامة، وخصنا بالوصية، و وعدنا الشفاعة، وأعطانا علم ما مضى وما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولاخواني ولزوار قبر أبي عبد الله الحسين الذي أنفقوا أموالهم، وأشخصوا أبدانهم، رغبة في برّنا، ورجاء لما عندك في صلتنا، وسرورا أدخلوه على نبيك صلواتك عليه وآله، وإجابةً منهم لامرنا، وغيظا أدخلوه على عدونا، أرادوا بذلك رضاك، فكافهم عنا بالرضوان، واكلأهم بالليل والنهار، وأخلف على أهاليهم وأولادهم الذي خلفوا بأحسن الخلف، وأصحبهم واكفهم شر كل جبار عنيد، وكل ضعيف من خلقك أو شديد، وشر شياطين الإنس والجن، وأعطهم أفضل من أملوا منك في غربتهم عن أوطانهم، وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم.

اللهم إن أعدائنا عابوا عليهم خروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا، وخلافاً منهم على من خالفنا، فارحم تلك الوجوه التي قد غ تهيرا الشمس، وارحم تلك الخدود التي تقلبت على حفرة أبي عبد الله (علیه السلام) وارحم تلك الاعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم الصرخة التي كانت لنا.

اللهم إني استودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان، حتى نوافيهم على الحوض يوم العطش».

فما زال وهو ساجد يدعو بهذا الدعاء، فلما انصرف قلت:

جعلت فداك لو أن هذا الذي سمعت منك كان لمن لا يعرف الله لظننت أن النار لا تطعم منه شيئا، والله لقد تمنيت أن كنت زرته ولم أحج.

فقال لي: «ما أقربك منه فما الذي يمنعك من إتيانه».

ص: 520

ثم قال: «يا معاوية لم تدع ذلك ؟»

قلت: جعلت فداك لم أدر أن الأمر يبلغ هذا كله.

قال: «يا معاوية من يدعو لزوّاره في السماء أكثر ممّن يدعو لهم في الارض». (1)

5- عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام) قال:

«إنّ الحسين (علیه السلام) صاحب كربلا قتل مظلوماً، مكروباً، عطشاناً، لهفاناً، وحقّ على الله عزّ وجلّ أن لا يأتيه لهفان، ولا مكروب، ولا مذنب، ولا مغموم، ولا عطشان، ولا ذو عاهة، ثمّ دعا عنده، وتقرّب بالحسين (علیه السلام) إلى الله عزّ وجلّ، إلاّ نفّس الله كربته، وأعطاه مسئلته، وغفر ذنوبه، ومدّ في عمره، وبسط في رزقه، فاعتبروا يا اُولي الأبصار». (2)

وهذه الروايات الشريفة بعض الوارد عن المعصومين (علیهم السلام) ومن أراد الاستقصاء فعليه بمراجعة كتاب «جامع احاديث الشيعة» ﺟ 15 ص 179 - 472 .

كيفية الزيارة:عن أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا اتيت الحسين (علیه السلام) فما تقول»؟ قلت: أشياء أسمعها من رواة الحديث ممن سمع من ابيك قال: «أفلا أخبرك عن جدي علي بن الحسين (علیه السلام) كيف كان يصنع في ذلك» قال: قلت بلى جعلت فداك قال: «إذا اردت الخروج إلى ابي عبد الله (علیه السلام) فصم قبل ان تخرج ثلاثة أيام يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة فإذا أمسيت ليلة الجمعة فصل صلاة الليل ثم قم فانظر في نواحي السماء واغتسل تلك الليلة قبل المغرب ثم تنام على طهر فإذا أردت المشي إليه فاغتسل ولا تطيب ولا تدهن ولا تكتحل حتى تأتي القبر». (3) .

ص: 521


1- الكافي، الكليني، ج 4 ص 582 ، وعنه: جامع احاديث الشيعة، ج 15 ص 196 .
2- جامع أحاديث الشيعة، ﺟ 15 ص 212 .
3- تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ﺟ 6 ص 76 ، وجامع أحاديث الشيعة، ﺟ 15 ص 380 .

ص: 522

دروس من الثورة الحسينية

1- إن الحسين (علیه السلام) فدى الإرادة الإلهية بنفسه، وبكل ما يتعلق به.

قذف بنفسه المقدسة في لهوات الموت.

قذف بأفلاذ كبده -اولاده-.

قذف بعائلته ونسائه.

قذف بخلّص صحبه.

قذف بكلّ ما يتعلق به.

حتى الإمامين السجاد والباقر (علیهما السلام) أصبحا في معرض الفناء.

ما أبقى الحسين (علیه السلام) شيئاً يتعلق به ويعود إليه الاّ قدّمه للخالق العظيم.

ما حصل فيما بعد كان على الخالق العظيم، ومنه.

أنجى من مخالب الذئاب، السجاد والباقر (علیهما السلام)، ونساء الحسين(علیه السلام)، وبعض من صحبهم نساءً ورجالاً.

وتقبّل هذه التضحية الهائلة بكل تفاصيلها.

وعوّض الحسين (علیه السلام) عن شهادته وما قدّمه، بتعويضات في الدنيا.

وبارك فيما قدّمه الحسين (علیه السلام).

إذ نمت شجرة الإسلام من جديد، بعدما كادت أن تتحول إلى رماد، بمكر بني أمية وحقدهم ورعونتهم.

ص: 523

تنفسّ الإسلام صبحاً جديداً.

الحسين (علیه السلام) يعلّمنا هذا:

قدّموا كل شيء لله سبحانه.

لو كان كل ما عندكم منكم فقدّموه لله، فكيف وكل شيء منه.

كل شيء منه فلو كان لا جزاء على تقديمه، لكان يحق تقديمه.

فكيف وهو يجازي على القليل الكثير، ويستقرض عباده، ويعوّض عن الواحد عشرة، إلى سبعمائة ضعف، ويؤت من لدنه أجراً عظيماً.

2- وما تقدّم يكشف لنا:

إن المقام السامي، مقام الخلافة لله سبحانه، ورفيع الدرجات عند المولى الخالق المتعال، إنما يحصل عليهما المرء بالسعي لهما عبر التضحيات الجسام، وبتقديمه وجوده كله وما يرتبط به لله تبارك وتعالى.

اذ يُنال ما عند الله، بالتضحية في سبيله، وبالبذل لأجله.

والنتيجة عظيمة، وخالدة.

ولا نسبة بين ما يقدّمه الإنسان بالغاً ما بلغ.

وبين ما سيفيضه المولى عليه.

3- ونتعلّم ان أضمن النتائج وأحسن العواقب، ما كان ناتجاً عن اتباع امر الله سبحانه، والسير على منهاجه، وإن بدت الأمور للوهلة الأولى بخلاف المرضي والمراد.

ان الطريق الذي ساره الحسين(علیه السلام)، كان طريق الخطر والهلكة والفناء بحسب ظاهر الحال، وبالحسابات الآنيّة، لكنه كان طريق الحياة الحقيقية - الدنيوية والأخروية-.

طريق تحقيق المأمول.

ص: 524

طريق النصر.

طريق النجاة.

لأن مسير الحسين (علیه السلام) كان عن أمر الله ونهيه، وكان عن إرشاده، وكان طبق المراد الالهي، ولذلك هو عين النصر والنجاة.

من الحقائق التكوينية التي ينبغي لكل مؤمن ادراكها:

إن نظام التشريع في الدين الإلهي متوافق مع نظام التكوين في الدنيا والآخرة، فالنهي في التشريع لما يعقب المفسدة في التكوين، والأمر في التشريع لما يعقب المنفعة في التكوين.

كما إن نظام التكوين في الدنيا، ونظام التكوين في الآخرة متوافقان.

فالعمل الحسن في الدنيا يعقب الآخرة السعيدة، والعمل السيء في الدنيا يعقب الخسران في الآخرة.

وذلك ان المولى سبحانه بنى هذه العوالم الثلاث على وفق ارادته المقدسة، فما وافق إرادته أنتج الهناءة والسعادة، وما خالفها انتج التعب والعذاب والخسران، وهكذا الأمرطردياً ابداً، كما لا ينعكس أبداً، وما كان ظاهره عكس هذه القاعدة فإن هذا الظاهرللامتحان أو للاستدراج، وحقيقة الأمر كما قدّمنا.

ونتب من كل هذا تفسير عبارة سابقة وهي:

إن حركة الإمام الحسين (علیه السلام) كانت وفق المراد الالهي، فهي عين النصر والنجاة، ولعل المقصود منها أصبح جليّاً.

4- لابُديّة توفر القائد الموجه للامة، والذي تتوفر فيه الشرائط المطلوبة إسلامياً، وأن يكون هذا القائد أوحداً في الميدان، وأوحدية القائد شرط مهم جداً.

ص: 525

ومما يُلاحظ عند اجتماع عدة من المعصومين في وقت واحدٍ، فإن القيادة وما يعبّر عنه في النصوص الناطقية إنما هي لواحدٍ منهم فقط مع معصوميتهم أجمعين، فانحصار قيادة الأمة والحاكمية في واحدٍ، مطلبٌ مهم جداً، ينادي به التكوين قبل التشريع.

5- ومن مجريات أحداث الطف يتضحّ لنا مدى أهمية العصمة في إمام الأمة وقائدها، والذي هو خليفة الله في أرضه، وخليفة الرسول في أمته، إذ بتوفر هذا الشرط تكون الأمة تحت قيادته في مسارِ هدى صحيح مهما ادلهمت الخطوب، وكثرت الشبهات، وراودت الشياطين.

وكذلك فان خط الرجعة ينقطع على الانهزاميّين، لثبوت الحجة التامة عليهم بوجود المعصوم.

ومن النتائج المهمة لوجود المعصوم في الأمة:

صحة تشخيصه للموضوع والحكم، وصحة القرار الذي يتخذه في المنعطفات، بحيث لا يستريب الاتباع في هذا، فيندفعون للتنفيذ مهما تكن النتائج.

وقد حققت الأمة بقيادة المعصوم انتصارات على جميع الأصعدة، بشكل لا يصدّق.

وكل الهزائم التي حصلت في الأمة إنّما نتجت لنكول الأمة عن قائدها، والسبب:

عدم إيمانها الكلي بالإسلام، أو لعدم رسوخ عقيدة العصمة في نفوسهم، إذ نتيجة هذا عدم الاتباع الصحيح، فتحصل الهزائم المُرّة.

6- ومن كربلاء نتعلّم الاهمية العظيمة للصلاة، ولزوم الاهتمام بها، وإن على المؤمن عدم التسامح فيها في احلك الظروف.

يتج هذا بأروع بيان: ترك الإمام (علیه السلام) ومن معه حالة المقاتلة والتوجّه لأداء الصلاةجماعةً كما سيأتيك حديثه.

ص: 526

7- ومن دروس كربلاء: إنّ عند بدء المنازلة، على المؤمن ان يهدم كل حاجز بينه وبين الإمام -مهما كانت صلادته- حتى يصل إليه، ويجعل نفسه وفق أمره ونهيه، ولو افترضنا عدم امكانه، فعليه أن يتحرك لنصرة الإمام ضمن مكانه وظرفه لتبرئة الذمّة من التكليف، كما صنع أصحاب الحسين (علیه السلام) في الطف، وهذا الموضوع مهم جداً من الوجهة الفقهية ويحتاج لدراسة أوسع، ولتفريع أكثر، لاستبيان أحكام الظروف المختلفة.

8- ومن دروس كربلاء:

اتقان العمل الجهادي، وفق اقصى الممكن، وإيكال الباقي إلى المولى سبحانه وهذا هو عين المطلوب الإسلامي.

وقد ذكر المولى سبحانه في كتابه مخاطباً رسوله الأكرم (صلی الله علیه و آله):

«فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا» (1).

«وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (2).

«إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ» (3).

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» (4). .

ص: 527


1- سورة النساء، الآية 84 .
2- سورة آل عمران، الآية 123 .
3- سورة الأنفال، الآية 12 .
4- سورة الأنفال، الآيات 65 - 66 .

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (1).

«إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» (2).

«وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» (3).

والوارد عن علي (علیه السلام) تطبيقه هذه الآية على الناكثين -عائشة ومن معها- ولا ريب إن ناكثي الطف من قبيلهم.

فالقصد: ان التعليم القرآني، والتربية الإسلامية، يُرشدان إلى اخذ الأهبة للقتال، والاستعداد له بكل ما أمكن، خصوصاً إذا كان مفروضاً على المرء، والباقي على الله تعالى - ولا ينبغي صبّ الاهتمام على الحسابات الدنيوية المحضة، والاعتماد عليها، وتحديد الموقف من خلالها، ما دامت الحرب لله سبحانه، ووفق أمره ونهيه، فإن الغلبة له ولجنده قطعاً، عاجلاً أم آجلاً:

«وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ» (4). .

ص: 528


1- سورة الأنفال، الآيات 15 - 16 .
2- سورة آل عمران، الآيات 124 - 126 .
3- سورة التوبة، الآية 12 .
4- سورة الصافات، الايات 171 - 173 .

ومن النصر العاجل انتصار علي (علیه السلام) على الناكثين، ومن الآجل انتصاره في صفين، فإن صفين امتدت إلى الطف، ثم إلى انتهاء الدولة الأموية في الشام، ولعل انتصارها النهائي عند انتصار المهدي على السفياني، أي إنها طويلة، غير إنها منتصرة قطعاً، وهي انتصار تلو انتصار، بما فيها معركة الطف.

إذ إن الطف في واقعها بداية ارتقاء وانتعاش الخط الهاشمي، وبداية الانكسارالعظيم والهزيمة الأبدية لبني أمية.

9- لقد بذل الإمام الحسين (علیه السلام) غاية جهده في مسيرته التي انتهت باستشهاده وهودرس مهم أيضاً من دروس كربلاء وما كان هناك يومها أيّ احتمال بأيّ مكسب سينتج عن تلك الجهود والتضحيات ولكن...

ولم يقتصر بذل الجهد في تلك المسيرة على الإمام بل يظهر هذا ممّن سار معه مسيرته تلك وانتهى إلى التضحية والاستشهاد.

وقد ورد عن المعصوم مدح أبي الفضل العباس (علیه السلام) بهذه الفضيلة:

«وأعطيت غاية المجهود».

حيث بذل أقصى جهده في نصرة إمام الأمة(علیه السلام)، وخليفة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله)، ولدرسول الله (صلی الله علیه و آله) وبقيّته ووديعته بين أتباعه، وهو جانب مهمّ مشرق في شخصية أبي الفضل(علیه السلام)، ودرس مهم للأتباع المخلصين الحقيقيين لخط أهل البيت(علیهم السلام).

وهناك جانب من النصر الحسيني لم ولا ولن يلتفت إليه مخالفو خط أهل اليبت في كل زمان ومكان، وهو في الوقت نفسه من الدروس العميقة لكربلاء:

10- ذلك انّ الحسين بسيره طبقاً للأوامر الإلهية وعلى مرادها، فإنه كسب التأييد الإلهي وفاز بالرضا في الدنيا والآخرة، وستظهر آثار هذه الإطاعة:

ص: 529

في الدنيا: بمسير الأحداث وفق تحقيق الانتصار العاجل والآجل له ولخطّه ومن على نهجه.

وفي الآخرة: بنيله ومن اتّبعه أنواع الكرامات من الله سبحانه، وسقوط مناوئيه في محطّ الغضب الالهيّ- جهنّم الكبرى-.

لقد استطاع الإمام الشهيد (علیه السلام) من خلال النهج الذي سار فيه، حماية كل من يتعلق به ومن يقتدي بهُداه، من السقوط في مستنقع مباذل الدنيا وانحرافاتها وخسيس أجوائها، إذ سيحيا انصار الحسين (علیه السلام) واتباعه وفق ضوابط وقوانين تمثّل المصلحة الحقيقية للإنسان في درب الحياة، وهي في الوقت عينه أطهر حياةٍ يُمكن للمرء أن يحياها، وافضلها إيصالاً لسعادة النشأتين، ذلك بالسير على النهج الإسلامي الذي جاء به الرسول وأراده المولى، وعلى طبق الرضا الإلهي بالنتيجة.

وهذه الحياة المطابقة للمراد الإلهي والمؤيدة بتسديد الله والطافه الغيبية عين المصلحة للإنسان والتي توصل إلى أحسن النتائج، فأين الغرب والشرق الأقصى المنحلّين من المجتمع الإسلامي، وأين المجتمع الإسلامي من مجتمع آل البيت، في خصائص كثيرة لا تُستجلى بكتاب فضلاً عن فصل صغير في كتاب غير مخصصّ لبحث هذا الجانب المشرق العجيب، وإن حاول شهيد العراق بل الإسلام السيد محمد باقر الحكيم ولوج هذا الميدان في كتابه:

«دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة».

ص: 530

عاشوراء تنادي ﴿الصلاة، الصلاة﴾

ثلاثة مواقف صلاتيّة في عاشوراء:

أ- تعرّف المرء حقيقة طرفي معركة الطف، بالإضافة إلى المواقف الأخرى، وهي حجّة على من حضر معركة الطف، وعلى من سمع بها إلى آخر الدهر.

ب- تؤكّد لكلّ مسلم أهمية فريضة الصلاة، ومدخليتها في حقيق القُرب من المولى تسبحانه، ولزوم المحافظة عليها والإكثار منها للتزوّد من معينها.

ﺟ- توضّح أن نزاع أئمة أهل البيت (علیهم السلام) مع أعدائهم عامّةً، ومع بني أمية بالخصوص، ليس نزاعاً من أجل الحكم كمهمّ إسلامي لا يُمكن تركه للأراذل والمنافقين فقط.

بل النزاع لأجل تعاليم الإسلام كلها، فكل معالم الإسلام في خطر، وفي إهمال من طرف بني امية، ولذلك لم ينقل احدٌ أبداً اهتمام جيش يزيد بفريضة الصلاة، كأن يكونوا تركوا القتال لأجلها، أو ا هن هنم صلّوا جماعةً مع ابن سعد، أو تفرّقوا جماعات لأجل تأديتها، أو أدّاها بعضهم فُرادى، أو غير هذه من الفروض.

الموقف الصلاتيّ الأول:

طلب سيد الشهداء (علیه السلام) من أبي الفضل (علیه السلام) ان يفاوض جيش الضلالة في تأخير المنازلة حين ازمع ابن سعدٍ عليها عصر يوم التاسع من المحرّم، بقوله(علیه السلام):

ص: 531

«ان استطعت أن تصرفهم عنّا في هذا الليل فافعل، لعلّنا نص لربنا في هذه الليلة، فإنه يعلم أني أُحِبُّ الصلاة له، وتلاوة كتابه». (1)

فبات الإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه تلك الليلة، ولهم دويٌّ كدويّ النحل، ما بين راكع وساجد، وقائمٍ وقاعد، فعبر اليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً (2).

لقد تحققت أغراض متعددة نتيجة ما صنعه الإمام(علیه السلام)، ومن جملتها إن اهتدى هؤلاء الإثنين وثلاثين رجلاً، فإنّ من لديه أقل حسٍ ديني، وصحوة ضمير، لابُدّ ان يصنع ما صنعه هؤلاء المهتدون، إذ كيف يُقاتل ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحاله هو وصحبه هكذا وهم مستميتون ومتصلّبون في موقفهم في مقابل دولة طاغوتية لا ترحم أبداً.

أفمن أجل يزيد والذي شاع فجوره وخسّته يُقاتَلُ الحسين (علیه السلام) ومن معه مِن عُبّاد المصر؟

الحسين (علیه السلام) استنقذ بفعله هذا آخر ما يُمكن استنقاذه من فئة الضلالة والانحراف، وقد كشف تحوّل هذه المجموعة، والحر من بعدهم صبح يوم العاشر، عن استفحال الانحراف في نفوس من بقي، فلا أمل يُرجى فيهم من صحوة ضمير، أو نزعة نحو دين.

والموقف الصلاتي الثاني:

وقوف الإمام وصحبه ظهر يوم العاشر لتأدية صلاة الظهر، بعد أن قدّم الإمام عشرات الضحايا والقرابين لله سبحانه، من عُبّاد الاُمة وليوث الإسلام وأصحاب الضمائر الحيّة ومجيبي دعوة النبی (صلی الله علیه و آله) لنصرة ولده في عرصات كربلاء.

وقف الحسين وأصحابه، وأدّوا الصلاة، وهم بحالة...وايُّ قلمٍ يصف، وأيّ ذهنٍ .

ص: 532


1- الملهوف، السيد بن طاووس، ص 150 .
2- الملهوف، ص 154 .

يستجمع شوارده لينقل صورة تلك الكوكبة الطاهرة في تلك الساعة من عمر الزمن.

لقد ملأ جند السكّير الفاجر عيونهم من ذلك المنظر المهيب، فأيّ عُذر لهم بعد هذا.

لم ينقل أحد انّ صرخة صدرت من ذلك الجمع تعترض على قتل آل محمد ومن معهم من عبّاد الأمة، وعلى لابُديّة إيقاف المجزرة والبحث عن حلٍ آخر، ولو كان عندهم شيء من الإيمان بالله سبحانه، وبيوم المعاد والجزاء، لصدر عنهم ما ينبىء به، ولكن لم يحرّكهم وازع من دين، أو ضمير، أو خصلةٍ كريمة، ولاخوف سطوات الله وأخذه.

تنقل النصوص (1): أن النبيّ كلّف أبا بكر وعمر بقتل رجلٍ، فذهب الأول ورجع غير منفذٍ للأمر بدعوى أنه وجده يصلّي ورجع الثاني كذلك معتذراً بنفس العذر، وما أدري بم سَيُوَجَّه فعله هذا، مع إن النبي لم يرتضِ فعل الأول فكيف نهج الثاني نهجه، وخالف أمر النبی (صلی الله علیه و آله) والنبي أمر بقتله لنفاقه، بل لأنه من رؤوس الفتنة والضلالة.

فالعجب من هذه الأمة:

يترك أبو بكر وعمر رأساً من رؤوس الكفر والنفاق بدون تنفيذ أمر النبيّ بقتله بدعوى حرمة صلاته مع أمر النبي الصريح المتكرّر بقتله.

ويقتل شيعة بني امية -وهم من المعتقدين بإمامة أبي بكر وعمر وبلزوم الأخذ بنهجهم- ابن رسول الله وَمَنْ النصوص في حقه لا تُحصى بعد أن ص إمامهم، دون مراعاة أية حرمة منهم له، أو لصلاته.

لقد رماه حُثالة الاُمة بالسهام وهو في صلاته، غير أن سعيد بن عبد الله الحنفيم.

ص: 533


1- راجع: النص والاجتهاد، للسيد عبد الحسين شرف الدين، ص 79 ، فقد نقل تفصيل هذه القضية عن مصادرهم.

وزهير بن القين كانا يتقيان السهام، وسقط سعيد الحنفي ميّتاً بعد إتمام الإمام لصلاتِهِ (1).

والموقف الصلاتي الثالث:

صلاة السيّدة زينب(علیها السلام) نافلة الليل، ليلة الحادي عشر من المحرم بعد المجزرة الرهيبة، وقد صلّتها -صلوات الله عليها وسلامه- من جلوس.

أيّة أهميّة عظيمة يُعطيها محمد وآل محمد (صلی الله علیه و آله) للصلاة، لو تأملنا الأمر، ووعينا جوانبه.

أيّة ليلةٍ تلك، واية مصائب مرّت وتترى.

امرأة في منتهى الشرف والقداسة، هي حفيدة النبی (صلی الله علیه و آله) الأعظم، وابنة عليّ وفاطمة (علیهما السلام)، وسط عشرات الآلاف من احطّ أهل الأرض وأكثرهم اجراماً، هم قتلة أعزّتها ومَظهر سُؤددها:

الحسين (علیه السلام) خليفة الله في الأرض.

أبو الفضل العباس بن علي(علیهما السلام).

وبقية الأقمار من آل هاشم:

عِدّة من أولاد عليّ(علیه السلام).

عِدّة من آل جعفر

وجمع مهمّ من آل عقيل.

اثنان من أولادها.

عدّة من صغار الاُسرة.

ومع بني هاشم: عُبّاد الأرض، وأنصار الحق، من الصحابة الأبرار. .

ص: 534


1- الملهوف، ص 165 .

بين يدي السيّدة زينب(علیها السلام) تلك الليلة: الأبرار من أهلها مقطوعي الرؤوس قد غدوا أشلاء في صعيد كربلاء، وشاركهم في هذا الطريق أفضل أنصارٍ وصحب.

في عهدتها وكفالتها عدّة من نساء وصبية الاسرة النبويّة، وبعض عوائل الصحب الكرام.

وهناك ايضاً زين العابدين(علیه السلام)، وصي الحسين(علیه السلام)، وخليفة الله في الأرض، وإمام الأُمّة بعد الحسين السبط(علیه السلام)، منهوك القوى، يُعالج الموت، من تواتر الأحزان والأمراض عليه.

لقد أدّت العقيلة كل ما هو مطلوب منها في تلك الاحوال المهولة، وتوجّهت تصلي لر اّهب نافلةً من جلوس، ولو تركتها، لما كان في هذا أيّ محذور شرعي، بل لكان لها الف عذرٍ وعذر.

والاهتمام بالصلاة ليس بجديد في دار النبوة والإمامة ولا بغريب، إلاّ ان المثير لنا شدّة هذا الإهتمام، وكثرة المواصلة، فأين نحن عن هذا الأمر والذي بَلَّغَه محمد وآل محمد (صلی الله علیه و آله) لنا بالقول والفعل والتقرير.

صلاة علي (علیه السلام) ألف ركعة في اليوم، من المشهورات عنه، المسلّمات في حقه.

وورد عنه (علیه السلام) أنه وقف بين فريقي القتال في صفين ليلة الهرير لنافلة الليل، والسهام تأتيه كالمطر، وهو المقصود الأوحد في تلك الحرب.

ونقل الديلمي: كان علي (علیه السلام) يوماً في حرب صفين مشتغلاً بالحرب والقتال، وهو مع ذلك بين الصفّين يُراقب الشمس، فقال له ابن عباس:

يا أمير المؤمنين ما هذا الفعل؟

قال: «انظر إلى الزوال، حتى نصل».

ص: 535

فقال له ابن عباس: وهل هذا وقت الصلاة؟ إنّ عندنا لشُغلاً بالقتال عن الصلاة.

فقال(علیه السلام): «على ما نُقاتلهم، إنما نقاتلهم على الصلاة».

قال: ولم يترك صلاة الليل قط حتى ليلة الهرير (1).

ولو أردنا استقصاء حالات المعصومين مع الصلاة لطال بنا المقام.

وعبادة النبی (صلی الله علیه و آله)، والزهراء(علیها السلام) ، والوصي(علیه السلام)، والحسنين (علیهما السلام)، بل كل الأئمة (علیهم السلام) ، بل أولادهم وذريتهم، في السيرة والتراجم مسطورة، وبين الاُمة مشهورة، فأين المسلمون من هذا التبليغ، وهذا الاهتمام، والكلّ مطالبون بالتأسي بهم.

ومن الامثلة على حال بعض ذريتهم في العبادة:

كان محمد بن موسى من أهل الفضل والصلاح وقد حدثت عنه هاشمية مولاة رقية بنت موسى قالت: كان محمد بن موسى صاحب وضوء وصلاة، وكان ليله كله يتوضأ ويصلي فنسمع سكب الماء والوضوء ثم يصلي ليلا ثم يهدأ ساعة فيرقد، ويقوم فنسمع سكب الماء والوضوء ثم يصلي ثم يرقد سويعة ثم يقوم فنسمع سكب الماء والوضوء، ثم يصلي فلا يزال ليله كذلك حتى يصبح، وما رأيته قط إلا ذكرت قول الله تعالى: «کَانُوا قَلِیلًا مِّنَ اللَّیْلِ مَا یَهْجَعُونَ» (2).

فما بالك بحال خلفاء رسول الله وأوصياءه صلوات الله عليهم أجمعين. .

ص: 536


1- بحار الأنوار، ﺟ 80 ص 23 ، عن الإرشاد للديلمي.
2- الارشاد، الشيخ المفيد ج 2 ص 245 .

دروس من توبة الحر

اشارة

الحر قام بعمل خطير ضد الإمام الشهيد (علیه السلام).(1)

لكنه تاب توبةً لم يتبها أحد، ولا يتوبها أحد -إلاّ أوحديّ الناس-.

هو جندي من جنود الفئة الحاكمة، بل قائد من قادة أجنادها، فهو يتحمل أوزارهم أيضاً -لو بقي على ذلك النهج- من دون أن ينقص عنهم من أوزارهم شيئاً.

خرج قائداً لألف رجلٍ من جيش ابن زياد، للبحث عن الحسين (علیه السلام) ومن معه، ولجلب الإمام (علیه السلام) لابن زياد، فلما وجده حاول هذا معه فلم يُفلح -لصلابة الإمام (علیه السلام) وامتناعه عليه- فكان أن حاصر الإمام (علیه السلام) ومن معه، ومنعهم من التوجه إلى حيث يريدون، وضايقهم في المسير، والحسين (علیه السلام) يحاول الابتعاد، والحر يضغط لتقريب الإمام من الكوفة، حتى وصل القبيلان إلى كربلاء، فعسكر الحسين (علیه السلام) هناك مختاراً، وبقي الحر مُرصِداً له ومحاصراً، حتى تتابعت جيوش ابن زياد واكتمل عدّها.

إنّ جريمة الحر يومذاك، ليست فقط في محاصرة الإمام(علیه السلام)، وتسبيب تمكّن ابن زياد منه، بل ان له جرماً عظيماً آخر، وهو عدم انضوائه تحت راية الإمام (علیه السلام) المفترض الطاعة، وسبط رسول الله (صلی الله علیه و آله) بل ابنه -بالنص المنقول لدى الفريقين- وكذا وصيّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) وخليفته الحقّ في امّته.

لقد ترك نُصرة الإمام (علیه السلام) وصار سبباً لعدم انضواء جنده معه.

ص: 537


1- راجع للاطلاع على ما فعله الحر بشكلٍ مفصّل: الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2 ص 77 وما بعدها وص 99 .

وكل الفجائع التي وقعت بعد ذاك كان للحر سببيّة فيها، لكن:

لقد تاب الحر توبة قال له الحسين (علیه السلام) عندها: «أنت الحر كما سمتك أمك، وأنت حر في الدنيا والآخرة». (1)

وجوهر توبته: أنّهُ حُرّ، كما قال له الحسين (علیه السلام) المظلوم.

الحر كبا كبوةً عظيمةً، غير ان الحسين (علیه السلام) أنهضه منها.

لو بحثنا في أغلب أفراد النوع الإنساني عمّن يقف موقف الحر في عرصات الطف، ثم يُمتحن كامتحانه، أفهل يختار ما اختاره الحر.

أنا أكاد اُقسم إن لا نظير له إلاّ فيما ندر وشذ.

موانع تراجع الحر عن موقفه، وعن انضمامه لجيش الكرامة والحظوة الإلهية كثيرة:

1- هو قائد من قادة جند ابن زياد، وهذا في حدّ ذاته حجاب عن التراجع: حرمان المنصب، حرمان الامتيازات، الفضيحة الاجتماعية - ضمن الدائرة التي يحيا فيها - ونحو هذي.

2- الخوف من انتقام ابن زياد من عائلته، وممّن يتعلّق به، نتيجةً لتغييره لموقفه.

3- إن تغييره لموقفه لا ينفع الحسين (علیه السلام) شيئاً، إذ أن الإمام (علیه السلام) مقتول حتماً، غ الحر موقفه أم لا.

4- ان المصير القطعيّ للحر هو القتل لو انضم إلى الحسين(علیه السلام).

5- يحتمل احتمالاً كبيراً أن لا يرتضيه الحسين (علیه السلام) ولا يقبل توبته، لأنه - الحر- سبب مهم في النتيجة التي انتهى إليها الحسين (علیه السلام) وهذا له مثيل في الشرع، في أحكام التوبة، إذ هناك موردٌ أو أكثر، لا تُقبل فيه توبة العبد ظاهراً، بل واقعاً - كما ورد هذا .

ص: 538


1- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 223 .

فيمن أضلّ الناس مثلاً -.

6- الثقل النفسي الذي يحسّه المرء المقترف لذنب، إذ تأخذه العزة بالإثم، فلا يتنازل ولا يعترف بجرمه - والنتيجة انه لا يتدارك أمره بالسعي في محو خطيئته -.

7- يُمكن له ان يكتفي بالانسحاب من ساحة المعركة، أو ان يتحول عنها جانباً ويغمد سيفه، ما دام لا يستطيع نفع الإمام بشكل مهم ومؤثر.

ولعلك أخي القارئ، تستحضر معاني اخرى، وموانع كثيرة، تحجب الإنسان عن التراجع والندم.

لكن شيئاً واحداً غ موقف الحر، ونقله من حال إلى حال، وقد ذكره لمن كان بجنبه يوم الطف.

قال له:

إني أُخ نفسي بين الجنة والنار، والله لا أختار على الجنة شيئاً (1).

هذا التفكير في تلك الساعة لا يفكر به إلاّ عرفاني رباني، متعلقة روحه بالملأ الأعلى، وهذا هو مقياس السعادة، ومن هنا فاز الحر بكرامة الدارين، كان خائفاً من النار ومتشوقاً للجنّة، وهذا الحال علامة إيمان أكيد.

إيمان بالمعاد، وبالجنة والنار، وإيمان بوجود المولى ووحدانيته وصفاته الكريمة من عدل ورحمة وحكمة، وإيمان برسالة النبي، وكون أهل بيته سفينة النجاة، والصراط إلى الله، وإن موقفه من الحسين خطيئة، والطريق هو ترضية الحسين.

موقف الحر تلك الساعة ع عن إيمان كامل متحقق فيه، وأردف إيمانه بالتوبة عن الخطايا والرجوع إلى الله. .

ص: 539


1- بحار الأنوار، الشيخ المجلسي، ﺟ 45 ص 11 .

من هو الأقدر على تقييم ذلك الموقف البطولي المُتَوَلِّه لله سبحانه.

لقد رمى بنفسه على رحمة الله وعفوه، فتلقاه الله سبحانه صفحاً ورحمةً وحباءً، وأكرم الله الحر.

ومن العجيب، ولطيف الأمر، إن الحر لم يكن ممّن كاتب الإمام الشهيد (علیه السلام) مع أن الكوفة كانت لفترةٍ طويلة كالمرجل، تعجّ بحركة ثورية، ولم يكن الحر من المتفاعلين معها، بل لم يكن على علمٍ بتفاصيل ما يجري، وقد نبّه لهذا جوابه للإمام (علیه السلام) حين التقاه، والإمام في طريقه إلى كربلاء، وبمعيّة الحر ألف فارس، جنّدهم ابن زياد للبحث عن الإمام (علیه السلام) ومحاصرته.

قال الإمام (علیه السلام) للحر وجنده:

«أما بعدُ: أيها الناس فانّكم إن تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمدٍ، وأولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أبيتم إلاّ كراهيةً لنا والجهل بحقّنا، فكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت به عليّ رسلكم، انصرفت عنكم».

فقال له الحر: أنا - والله - ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر.

فقال الحسين (علیه السلام) لبعض أصحابه:

«يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللذين فيهما كُتبهم إليّ.

فأخرج خرجين مملوئين صُحفاً فنُشرت بين يديه».

فقال له الحر: إنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا اليك، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك ألاّ نُفارقك حتى نُقدمك الكوفة على عُبيد الله.

ص: 540

فقال له الحسين(علیه السلام): «الموت أدنى إليك من ذلك». (1)

والقصد أن الحر لم يكن ممن كاتب الإمام(علیه السلام)، فيُعاني عقدة الذنب إذ تسبّب في مجيء الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة ثم في وقوع الإمام (علیه السلام) ومن معه في حصار جند ابن زياد، فكان من السهل عليه أن يصل إلى نتيجة أن الحل الأمثل له هو إعتزاله القتال وعدم المشاركة في الجريمة الأعظم في تاريخ الإسلام، إلاّ أنه لم يرتض هذا لنفسه دون أن يقدّم نفسه قرباناً في سبيل الإمام(علیه السلام).

ويقيني ان جريان الأسباب لغاية عدم قطع رأس الحر وبناء ضريح منفرد له يقصده الناس تكريماً واعتزازاً، إظهارٌ من المولى سبحانه لمقام التوبة والتائب، وان بابه سبحانه تَسَعُ لولوج أصحاب الذنوب وإن عظم ذنب الراغب بالولوج منها.

«قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» (2)

لكن: «وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ» (3).

الدرس المقتبس من خطوات الحُرّ:

مع ملاحظة إننا نأخذ من الحر من حين توبته لا مما قبلها، لأن خدمته للدولة الطاغوتية قبل التوبة هي جناية بحق الدين والأمة والنفس، وهي الفخ الذي سقط فيه الكثير من أبناء الاُمّة المغلوبين على عقولهم، وجاء الحسين ليحرّر الأمة من شباك هذه الورطة فيما يحرّرها منه.

ص: 541


1- الإرشاد، الشيخ المفيد، ﺟ 2 ص 164 ، وبحار الأنوار، ﺟ 44 ص 377 .
2- سورة الزُمُر، الآية 53 .
3- سورة الزُمُر، الآية 54 .

فنقول: مما نستفيده كدرس من الحر الشهيد:

أ- التوقف عن ارتكاب الذنوب وإن فَعَلَ المرء ما فعل، لأن التوقف عن الذنب بعد اقتراف جريمة معينة - مهما عظم أمرها - أفضل من مواصلة اقتراف الذنوب.

وذلك أنّ صيرورة المرء في أول دركة من دركات الجحيم، خير له من ان يبلغ الدركة الثانية أو أسفل منها، إذ الفرق بين دركة واخرى عظيم وهائل، ومن يحتمل حر الصيف، ومضايقة الذباب والبعوض، كيف يستسهل عذاب الأبد في نار لو سقطت حلقة من حلقات سلاسلها على الأرض لأذابت الأرض وما عليها، ولعلّ وصفي هذا تقريبي وليس بواقعي، بتمام واقعية الحال وعينيته.

ب- التوبة عن الذنوب، لأن التوبة تمنع من دخول النار، بل عليك المسارعة إلى التوبة، فانّك لا تدري متى اُحيل بينك وبينها بالموت.

ﺟ- حتى مع بلوغ المرء مرحلة اليأس من مغفرة الله ونيل رضوانه -مع ان هذا لوحده موجب لدخول النار الكبرى وذلك لحرمة اليأس من عفو الله وَرَوْحِهِ - فانّ على المرء عدم التوقف عن التوبة، فعليه الارتماء على رحمة الله وعفوه والتوسل إليه سبحانه ليشمله بها وان لم يكن مستحقاً لها، فلعلّ الله سبحانه يجعل له من أمره فرجاً ومخرجاً، ويسببّ له بعظيم قدرته وواسع رحمته ما ينجيه من غضبه.

د- أن يصنع عكس ما صدر عنه من ذنب، فإن الحر الذي صار سبباً لمنع الإمام من الرجوع إلى مقرّه، أو التنقل في بلاد الله العريضة، وامتنع - في بادئ الأمر - عن الأخذ بهداية الإمام (علیه السلام) كما قام بمضايقة الإمام (علیه السلام) حتى ألجأه إلى أرض كربلاء، ثم حدث ما حدث:

1- فإنه عرض توبته على الإمام ملتمساً قبولها.

ص: 542

2- وتصدّى لدعوة جيش الضلالة إلى اتباع الإمام سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وإلى نبذ الفئة الحاكمة الطاغوتية، ولا أقلّ من تركهم لمواجهة الإمام ومقاتلته.

3- ثم أنّه بعدها تقدّم طالباً الرخصة من الإمام للقتال بين يديه والتضحية في سبيله، فنزل إلى ساحة المعركة وسطّر ملحمة ع تّرب عن صدق توبته، وعالي همّته وطهارة ذاته.

4- وكان خاتمة الأمر أن قدّم روحه قرباناً في سبيل السبط- إمام الأمة وقائدها ومنقذها في الدنيا والآخرة وسبب نجاتها-.

ولم ينُقل عنه أبداً الوصية بشيء، أو انّه التفت إلى شيء ما خلا الإحساس بعظم ما ارتكبه، وبحرصه على نيل عفو الحسين ورضا الله تبارك وتقدّس.

لقد ارتمى على رحمة الله ذاهلاً عن كل شيء... ونالها بشهادة إمام الأمة: الحسين(علیه السلام).

5- الطعن في السلطة الطاغوتية وفضحها وتسفيهها وكشف زيفها إمام اوليائها، ومن يلتزم بمشروعيتها، أو يخضع لها لأي سبب من الأسباب.

وقد تحوّل جمع من جند ابن زياد إلى صف الحسين(علیه السلام)، و تُحيمل ان لمواقف الحر وتحوّله إلى الجانب الحسيني مدخلية في تقوية قلوب هذا الجمع وتحوّلهم أيضاً.

ص: 543

ص: 544

إساءات للثورة الحسينية

وُجّهت للثورة الحسينية اساءات عِدّة عبر التأريخ.

منها: ان الإمام (علیه السلام) عرض على ابن سعد أن يضع يده في يد يزيد كي ينتهي الأمر وَتُبْترُ الأزمة.ََ

وهذه الاكذوبة الصلعاء، رُدّت بما ذكره من رافق الإمام (علیه السلام) من أول حركته حتى نهايتها، وهو خادمه عقبة بن سمعان، من أنه رافق الإمام (علیه السلام) حتى استشهاده فما سمع منه مثل هذا أبداً (1) وعموماً لم تلق هذه الإساءة غير التكذيب.

فما أصلها وباعثها؟

أساس هذه الاكذوبة: عمر بن سعد.

إذ ذكر هذا في كتاب أرسله من كربلاء إلى اخبن زياد.

وقد كتب فيه:

أما بعد، فإنّ الله قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الأُمة.

هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي أتى منه، أو أن يسير إلى ثغرٍ من الثغور فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده، فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا لكم رضىً وللامة صلاح (2).

والسر في كتابته لهذه الاكذوبة على ما يظهر من علاقة هذا الشخص بالملحمة

ص: 545


1- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ج3 ص 128 .
2- الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2 ص 87 .

الحسينية، أنه كان كارهاً لمقاتلة الإمام (علیه السلام) من أول الأمر، إلاّ أنه رضي فيما بعد، لتغلّب حب الدنيا على نفسه.

فقد ذُكر ان ابن زياد ولاّه بلاد الري وجرجان، وسلّمه كتاب توليته، فلما أراد التوجه لغايته، بعث إليه وطلب منه الخروج لحرب الحسين على إن يذهب إلى عمله - ولاية الري - بعد انتهائه من حرب الإمام، فطلب إعفائه من محاربة الإمام (علیه السلام) فأجابه ابن زياد بالموافقة على أن يردّ إليه كتاب توليته الري، فطلب مهلةً للتفكير والاختيار فأمهله، وبقي الشقي ابن سعد ليلته تلك متفكراً، و سمعه أهله يُنشد:

أأترك ملك الريّ والري بُغيتي

أم أرجع مأثوماً بقتل حسين

وفي قتله النار التي ليس دونها

حجاب وملك الريّ قرة عيني (1)

وانتهى به تفكيره إلى اختيار الدنيا وشقاء الأبد على الآخرة فرضي بالخروج لحرب الحسين ثم الذهاب إلى عمله حيث ولاية الري وجرجان لينهب ويترع في الملذات.

ونتيجة الأمر أن ابن زياد غدر به، فحرمه من ولاية الري وجرجان بعد أن أتم ابن سعد له المهمة كاملة، بما فيها تنفيذ وصيته بتعريض الجسد المقدّس للإمام إلى وطء الخيل(2) وقد تكسرت عظامه المقدّسة نتيجة لذلك.

أقول: ولعلّ الأمر حيلة من أوّلِهِ لغرض الإيقاع بابن سعد لنيل قبوله لحرب الإمام (علیه السلام) والاّ فلم تكن عند ابن زياد نية حقيقية لتأميره على الريّ، وهذا الاهتمام منه بتوليّ ابن سعد لقيادة الجيش المحارب للإمام الحسين(علیه السلام):

1- اِمل يُمثِّله عمر بن سعد بن أبي وقاص من ثقل اجتماعي لدى بعض الفئات المنحرفة عن أهل البيت(علیهم السلام). .

ص: 546


1- حياة الإمام الحسين (علیه السلام) ، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 113 .
2- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 303 .

2- القضاء على سمعة آل أبي وقاص، بل القضاء عليهم، وذلك انّ خروج عمر لحرب الإمام (علیه السلام) سيؤدّي إلى الإيقاع بينه وبين شريحةٍ واسعةٍ من الامّة وسيجعله في معرض خطر الاغتيال منهم، وبهذا سيتخلّص الأمويّون منه، بل ولعلّهم سيتخلّصون من عامّة هذه الأسرة لنفس السبب، إذ انّ هذه العائلة من العوائل الطامحة للخلافة منذ أيام الشورى العُمَريّة، حالهم في هذا حال طلحة والزبير.

3- ان لهذه العائلة تأريخ في الانحراف عن أهل البيت (علیهم السلام) منذ أيام تلك الشورى -المهزلة- وكذلك ايّام تولي الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لشوؤن المسلمين، إذ كان سعد بن أبي وقاص من الممتنعين عن بيعة أمير المؤمنين وسيد المسلمين (علیه السلام) وأخي رسول الله (صلی الله علیه و آله)ووصيّه، مع انّه من العارفين بفضله ومقامه حتّى انّه تحدّى معاوية فتحدّث أمامه بفضائل علي (علیه السلام) في الإسلام وبخصائصه، ومع كل هذه المعرفة به فقد خذله، -وياويله يوم يلتقي برسول الله (صلی الله علیه و آله) في عرصات القيامة- ولمّا كانت هذه الاسرة بمستوىً عالٍ من الانحراف عن أهل البيت (علیهم السلام) المطهّرين، فقد كان من الأفضل للأمويّين استغلال صيتهم وانحرافهم من خلال قيادة عمر لحرب الإمام المظلوم(علیه السلام).

حين وصل ابن سعد بجيوشه إلى كربلاء أرسل إلى الحسين (علیه السلام) متسائلاً عن سبب قدومه إلى العراق فأجاب الإمام(علیه السلام):

«كتب إليّ أهل مصركم هذا أن اقدم، فاما إذ كرهتموني فانا أنصرف عنكم». (1)

فقال ابن سعد: أرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله.

وكتب إلى ابن زياد بُخمراً له بجواب الإمام(علیه السلام).

فأجابه آمراً له بأخذ البيعة من الإمام(علیه السلام). .

ص: 547


1- الإرشاد، الشيخ المفيد، ﺟ 2 ص 85 .

فلما ورده كتاب ابن زياد قال: لقد خشيت ألاّ يقبل ابن زياد العافية.

وبدأ الأمر يشتد، إذ كتب إليه في إثر ذلك الكتاب أن حُلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء فلا يذوقوا منه قطرة.

ففي هذا الحال كتب ابن سعد إليه الرسالة - محل البحث - لكي يؤثّر على ابن زياد ويدفعه لتغيير موقفه، حباً بالسلامة لا حباً بالإمام (علیه السلام) ولا تديناً، وليغنم ما يُنجيه من خوض القتال مع الإمام(علیه السلام)، بالإضافة إلى مُلْكِ الري.

وكاد ابن زياد أن يوافق لو لا شمر لعنة الله تعالى عليه (1).

فشمرٌ زيّن لابن زياد الامتناع، ورجّح له عرض النزول على حكمه أي الاستسلام بما هو شأن العبيد، إذ قال له:

ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت أولى بالعقوبة وإن عفوت كان ذلك لك.

وافق ابن زياد فوراً على اقتراح شمر، وكتب إلى ابن سعد يأمره بهذا المضمون، وان يزحف إلى الإمام (علیه السلام) ويقتله ويمثّل به ان رفض الإمام (علیه السلام) ما يُعرض عليه (2).

وأضاف ابن زياد بأمر ابن سعد بأن يوطأ الخيل جسد الحسين (علیه السلام) بعد قتله (3).

يتضح مما تقدم ان إبن سعد كان كارهاً لمقاتلة الإمام (علیه السلام) وانه كان يحاول تجنب هذه النتيجة الخطرة لما يعلم من وخيم عواقب هذه الجريمة سواءً أكانَ تخوفه اِمل لِفِعْلِهِ من عظيم الخطر في الآخرة - لو كان ثَمَّتَ إحساس وإيمان عنده بالآخرة - ام لما له من .

ص: 548


1- راجع له: حياة الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 128 .
2- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 131 ، وراجع: مقتل الحسين(علیه السلام)، لابن أعثم، ص 110 .
3- حياة الإمام الحسين(علیه السلام)، الشيخ القرشي، ﺟ 3 ص 131 .

نتائج مُرّة ومرعبة في حياته، إذ سيكون في معرض الاغتيال والانتقام من شيعة الإمام وأصحابه فلا تهنأ له حياة، وهو ما وقع بعدئذٍ إذ ذُبح على فراشه بين زوجته وَوُلْدِه.

لمّا كره ابن سعد تلك المقاتلة حاول تجنبها فأفتعل بعض ما في الكتاب لتهدئة الأجواء ولينجّي نفسه من هذه الورطة.

والمنقول بتأكيد: إن الإمام (علیه السلام) عرض الرجوع من حيث أتى.

أما أن يعرض عليهم قبوله وضع يده في يد يزيد، فما فرق هذا عن البيعة التي يريدونها وقد رفضها الإمام (علیه السلام) بشدّة وتصميم، كما عرضوها عليه كآخر عرض قبل المناجزة، و أباها عليهم أشدّ الإباء.

ثم انّ هذا العرض من جهة الإمام (علیه السلام) على فرض وقوعه -وهو محال- يحتاج إلى مراجعة يزيد من طرف ابن زياد، لأن هذا تطور مهم في مواجهة السلطة مع الإمام(علیه السلام)، ذلك انّه (علیه السلام) أبى عليهم حالة وضع اليد هذه سنين عدة، ولو تحققت هذه المكاتبة لاستغرقت وقتاً، وعدم المكاتبة يعني أنّ ابن زياد قد استلم أوامر مؤكدة بقتل الإمام (علیه السلام) مهما آل إليه الحال وبأي نحو جرت الأحداث، وهو أمر مسلّم على كل حال، وهذا التصميم من يزيد لقتل الإمام (علیه السلام) لم يكن إلاّ ليأسه من توفّر فرصة حقيقية للتفاهم مع الإمام (علیه السلام) لإنهاء رفضه ليزيد وللحكم القائم، إذ لو أمكن هذا لهم لما تركوا هذا الخيار، فمبايعة الإمام (علیه السلام) تعني خضوع ومبايعة أمة كبيرة لهم، كما تعني كسر الهيجان المستفحل في المجتمع ضد يزيد، وإخماد للبراكين التي تفجّرت في عدة أماكن فيما بعد.

وإنما اصرّوا على الإمام(علیه السلام)، وصممّوا على قتله، لإصرار الإمام (علیه السلام) على المواجهة وعدم البيعة وإن أدّى هذا إلى تقديم ذاته المقدّسة قرباناً لله سبحانه دفاعاً عن دينه وإعلاناً لإرادة المولى سبحانه القدسية، فمن غير المعقول أن يصمموا على قتله ذاك التصميم، وهناك أقلّ احتمال لرضوخه - صلوات الله عليه وسلامه - لهم، إذ بهذا

ص: 549

تضيع كل الفوائد التي يترقبونها ويتمنونها إثر بيعته.

الإساءة الثانية:

وقد فصّل هذا: الشيخ الشهيد المطهري في كتابه «الملحمة الحسينية» حيث ذكر أسماء كتب حُشّدت فيها كمية كبيرة من الأكاذيب والموضوعات حول الثورة الحسينية عمداً، ولغرض التشويه في بعضها، كما هو الحال في كتاب «روضة الشهداء» للكاشفي، وغفلة عن الحال كما في «أسرار الشهادة» للدربندي.

والكاشفي -بحسب ما بيّنه المطهّري- أصلاً من غير الشيعة، لكنّه دخل في التشيع وأساء إليه كثيراً، ومن إساءاته كتابه هذا الذي بناه على الكذب والافتعال عمداً، وقد افتعل فيه ما يصدم النفس، وقد يجرّ بعضها الناس إلى الاستهزاء بالعلم والعلماء وكتب الدين، ولعلّ مطلوبه هو هذا.

وقد ذكر الشهيد المطهري بعض ما احتوته تلك الكتب، ومنها ما تقدم ذكره من الأكاذيب والمرفوضات.

وللمناقشة فيما تقدّم مجالٌ واسعٌ:

أ- أنّ هناك كلام في صحّة نسبة كتاب الملحمة الحسينيّة إلى الشهيد المطهّري، وقد تعرّض لهذا الأمر السيّد جعفر مرتضى العاملي في كتابه «كربلاء فوق الشبهات» حيث صرّح بجزمه بعدم صحّة نسبة الكتاب إليه (1).

ب- إنّ هذا الكتاب وإن صحّت نسبته كُ أو بعضاً إلى الشهيد المطهّري، إلاّ أنّ بعض ما سُجّل فيه لا يُمثّل آراءاً نهائيّةً للمؤلّف، فلا يُمكن اعتمادها كموقفٍ له فيي.

ص: 550


1- كربلاء فوق الشبهات، السيّد جعفر مرتضى العاملي، ص 15 ، وراجع ص 77 من الكتاب لملاحظة الدلائل على هذا الرأي.

المقام (1).

ج- إن ديدن أمثال هذه الكتب على جمع كل ما يمكن الوصول إليه مما يتعلق بالموضوع محل البحث وحصرها في كتابٍ واحد كي يتسنى ويسهل للباحثين والمحققين المراجعة والتحقيق والمقارنة ثم اتخاذ الموقف النهائي، فلا يصح الإشكال على مؤلفي أمثال هذه الكتب بما تحتويه مؤلفاتهم من نصوص شاذة وغير مرضية لانهم لا يلتزمون بصحة كل ما سطروه في هذه المدونات وقد قدمنا لك السبب في نحو هذا الجمع وهو عمل جليل ومفيد يُشكرون عليه ولا يُلامون بسببه بتاتاً.

وكيف كان فإنّ تنبيهات الشهيد المطهري في محلها وهي تقتضي التأ والحذر في الاقتباس من مضامين هذه الكتب لأنّ ما فيها إنّما هو لجمع كلّ ما هو متوفر دون لابديّة الاعتماد، وعلى المحققين والباحثين اعتماد الوسائل العلمية المقررة لفرز ماهو مرضيّ ومقبول، دون غيره مما هو مرفوض قطعاً أو باقياً ضمن نطاق المشكوك.

الإساءة الثالثة:

ما يحاوله البعض بشكل حثيث ويائس من اختلاق الأعذار وطرح التبريرات المختلفة لقتلة الحسين وخصوصاً لرأس الجريمة: يزيد.

والطريقة التي يطرح هؤلاء فيها الأعذار والتبريرات تنتهي بالنتيجة إلى إلقاء اللائمة على سيد شباب أهل الجنة وحفيد رسول الله (صلی الله علیه و آله) والثائر لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولإسقاط النظام الطاغوتي وإقامة حكم الكتاب والسُنّة في دولة إسلامية تقوم على القسط والعدل والأحكام الإلهية، والذي أقل ما يقال في تحرّكه أنّه نهض إستجابة لصرخات أهل الكوفة المستضعفين من السلطة الجائرة والتي أعملت فيهم مختلف صفوف الاضطهاد والإجرام طيلة عشرين عاماً.ا.

ص: 551


1- المصدر السابق، ص 90 وما بعدها.

ومع أنّ النبی (صلی الله علیه و آله) قد وصف الحسين (علیه السلام) بمختلف أوصاف التكريم والتعظيم حتى أعلن أمام الملأ بأنه سيد شباب أهل الجنة ولا يشك امرئ بعد ملاحظته لأقوال النبی (صلی الله علیه و آله) في الحسين (علیه السلام) أنّ الصراط المستقيم هو النهج الذي يخطّه الحسين (علیه السلام) ويأمر بسلوكه لأنّه علم الهداية في الأمّة وهو أحد الثقلين اللذين تركهما النبی (صلی الله علیه و آله) لأمته معلماً للنجاة.

أفهل يصح إتعاب النفس وشحذ الفكر لإيجاد التبريرات لقتلته ومحاربيه وللمشاركين في منع الماء عنه وعن عائلة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) مع أنّ كل ما يتعلق بهؤلاء القتلة قد دلّ على خستهم ذاتاً وفكراً وسلوكاً وسيرةً مع الحسين (علیه السلام) فما الداعي لهذه الجهود لو لا بغض أهل البيت (علیهم السلام) ولو لا النفاق المستتر بين الجوانح والذي فضحته هذه التبريرات.

ومجال البحث في هذا الجانب واسع اكتفينا منه فعلاً بما تقدّم.

ص: 552

أدلّة الإثبات

استنتاجُ أمرٍ من خلال البحث في الحركة الحسينية الخالدة:

إمّا يترتب عليه إثبات حكم شرعي وموقف عملي.

وامّا يترتب عليه إثبات حادثة وقعت في الخارج.

فما هي الوسائل التي يُمكن بواسطتها إثبات أحد هذين الأمرين.

وما قيمة المصادر المتوفرة الحاكية للحركة الحسينية، والمفصِّلة لأحداثها ووقائعها، من جهة امكانيّة اثبات المطالب من خلالها؟

وهل تنفرد الحركة الحسينية عن غيرها من احداث التأريخ، أو عن بقية الروايات الحاكية للاحكام الشرعية بطرق اثباتٍ خاصّةٍ بها، أم تأخذ نفس المنحى؟

التزم الشهيد المطهري -شكر الله تعالى مساعيه الجميلة- في الملحمة الحسينية:

في ان المرء لا یجد نقطة إبهام أو غموض واحدة، في تأريخ الإمام الحسين (علیه السلام) والحركة الحسينية (1).

وإن قضية كربلاء، من أندر الوقائع المدعمة بالاسناد التأریخية الموثوقة (2).

وإنّ إرشاد المفيد كافٍ في بابه.

وذكر أن الكتب:

ص: 553


1- الملحمة الحسينية، الشهيد المطهري، ج1 ص 45 .
2- نفس المصدر السابق، ج1 ص 23 .

«روضة الشهداء» للكاشفي.

و «اسرار الشهادة» للدربندي.

و «محرق القلوب» للنراقي.

تحتوي على الكمية الاكبر من المكذوبات والموضوعات والخرافات حول الثورة الحسينية، خصوصاً الأوّل منها، واتهم مؤلفه بالوضع، أما الثاني فبالنقل دون تحقيق.

ومدح كتاب اللؤلؤ والمرجان - وهو موجه إلى الخطباء - للميرزا حسين النوري، وذكر انه نفيس في بابه، وأكد على تحقيقه واخراجه للاستفادة منه.

وقد تقدّم القول بأنّه قد يكون مبنى مؤلفي هذه الكتب على جمع هذه الاحاديث وتحشيدها في مصنَّفٍ واحد واختيار المقبول والمعتَمَدِ منها إنّما هو مسؤوليّة أهل البحث والتحقيق.

لقد بحث علماء الإمامية في «علم أصول الفقه» هذا المطلب المهم -عناصر الإثبات- وانتهوا إلى النتائج التالية:

1- عناصر إثبات الأحكام الشرعية:

أ) القطع أو دليل مقترن بما يُفيد القطع على حكم شرعي معیّن.

ب) الظن المعتبر -وهو الذي قام دليل قطعي على صحة الرجوع والاستناد إليه لإثبات الأحكام الشرعية-.

ﺟ) الأُصول العملية -بعد عدم توفر دليلٍ من القسمين أ، ب- فیُرفع التحیر بواسطة الرجوع إلى الأصول العمليّة والتي من أهمها: البراءة، التخيير، الإحتياط، الاستصحاب.

وبعبارة أخرى فإنّ أيّ حكم شرعي لا يُمكن إثباته إلاّ بعلم وقطع، أو بعلمي

ص: 554

-وهو الدليل الظنّي إلاّ أنّ العلم والقطع قد توفّر على حجيّته وصحة الاستناد إليه لإثبات حكم شرعي فرعي به.

2- عناصر إثبات أصول الدين:

ولا يمكن إثباتها إلاّ بتوفّر دليل قطعيّ عليها ولا يكتفى لها بأيّ دليل ظنّي.

3- عناصر إثبات الوقائع الخارجية:

ويمكن إثباتها:

أ) بالعلم والقطع بها.

ب) قيام بيّنة جامعةٍ للشرائط الشرعيّة كي نثُبت الواقع الخارجي من خلال شهادتها.

ومن أهم الشرائط عدالة الشاهد وورعه، وتعدّده، فلا يكتفى بواحد وإن كان ثقةً، بل وإن كان عدلاً.

وينبغي الإلتفات إلاّ أنّ من محققات العلم والقطع بالواقع الخارجي: تحشيد مجموعة من الشواهد المنقولة عن جهات عِدّة والتي يقطع المرء بعدم إتفاقها على الكذب بافتعال المروي.

4- عناصر إثبات المستحبات والمكروهات الشرعية:

ويّمكن التسامح في إثباتها عن طريق أيّة رواية واردة وإن كانت ضعيفة وذلك إستناداً إلى «قاعدة التسامح في أدلة السنن» وما أخفّ مؤنة إثباتها والحال هذا، لكنّ هذا عند من ثبتت قاعدة التسامح لديه، وأمّا من لم تثبت عنده هذه القاعدة فلا بُدّ من ثبوت اعتبار الرواية التي يتم من خلالها إثبات الاستحباب أو الكراهة لأمرٍ ما.

5- عناصر إثبات روايات الفضائل والمناقب للمعصومين الأربعة عشر -الذين

ص: 555

وردت عنهم وفيهم ما لا تُحصى من الأدلة من طريق الشيعة والسُنّة، على فضلهم وعظمتهم وعلوّ مقامهم وشدّة قربهم من الله تعالى، والكثير من هذه الأدلة قطعية الصدور وواضحة الدلالة جدّاً-.

ويُمكن التسامح في روايتها ونقلها وإن كان في إسنادها ضعف، ولا غضاضة في هذا بعد قيام الأدلة الكثيرة والقطعية على أصل عصمتهم وعلى المقامات التي جعلهم الله تعالى فيها-.

وما تقدّم كله: القواعد العامة التي يصح سلوكها لإثبات الأمور المتقدمة.

ويتعلق بها تفاصيل كثيرة قد تكفّلت ببيانها والخوض في جنباتها مصنفات الاعلام في علم اصول الفقه فهناك محلّ التوسع فيما أُجمِل القول فيه هنا.

وبالنسبة لموضوع بحثنا:

فإنّ هذا الكتاب يتصدّى لتحليل الوقائع والمرويات دون السرد التفصيلي لها أو إثباتها بإيراد الشواهد على ذلك وإن توفّر مثل هذا في موارد عدّة خلال أبحاث الكتاب لكن المهم بالدرجة الأولى ما ذُكر.

وثانياً: فإنّ تفاصيل كثيرة عن النهضة الحسينية وتلك المسيرة المباركة قد رُفع اليد عن التصدّي لإثباتها كأ اّهن بحكم المفروغ منها والمُسَلّم من حصولها بقرائن كثيرة وعوامل مختلفة أوجبت هذا الموقف منها، فلا تجد أحداً يُنكرها أو يُناقش في أمر حصولها.

فلا تجد أحداً يتسائل عن واقعية مكاتبة أهل الكوفة للإمام(علیه السلام).

أو في أنّه - صلوات الله عليه- امتنع من البيعة.

أو أنّه ارتحل في مسيرته من المدينة إلى مكة فالعراق.

ص: 556

أو أن كربلاء هي منتهى مسيرته ومحط رحاله وساحة معركته ومحل استشهاده ومدفنه.

ولا شك في ملاقاة جيش الحر له وتضييقه عليه.

ولا في جملةٍ ممن صحبه كأخيه العباس.

ولا في اصطحابه لعياله معه بالرغم من الخطر العظيم الذي يتهدّد الجميع.

ولا في أن قائد جموع جيش الكفر والضلالة هو عمر بن سعد بن أبي وقّاص.

ولا في أ مّهن الجؤوه إلى اختيار القتال بعد أنْ ضيّقوا عليه دائرة الخيارات، وبعد أن حدّدوا خياراتهم له بين الاستسلام المذلّ أو القتال فالقتل الجتمي.

وهكذا الأمر في كثيرٍ من الوقائع والأحداث والتفاصيل.

ثمّ إنّ من طرق إثبات الوقائع والروايات في هذا الكتاب هو تحشيد النصوص المفيدة والمنتجة لثبوت النص أو الواقعة محلّ البحث وإن لم يحصل الإثبات بكل نصّ تمّ ذكره لضعفه لكن تظافر النصوص قد يفيد وثوقاً بالتحقق والصدور.

ثُمّ انّه لم تبتلِ النهضة الحسينية بحصول التعارض في التفاصيل المرويّة المنقولة بشأنها كما هو الحال فيما حصل لغيرها من الموارد ولو حصل في أمرها شيء من هذا القبيل فإنّ حلّه سهل غالباً كما هو الأمر فيما نُقِل من الإكذوبة على الإمام صلوات الله عليه في أنّه عرض عليهم أنّه مستعد لوضع يده في يد يزيد إذ لو أمكن هذا فما فرقه عن البيعة التي أباها عليهم أشدّ الإباء حتّى استشهاده.

ص: 557

ص: 558

المؤلفات في الحسين (علیه السلام)

اشارة

صُنِّفت عبر التاريخ كثير من الكتب التي تحكي سيرة الإمام الحسين صلوات الله عليه وسلامه عموماً، أو وقائع يوم الطف على نحو الخصوص، والمصطلح على الأخيرة منها بالمقاتل.

وعلى كل مؤمن بل كل إنسان يسعى لبناء ذاته استطلاع سيرة الإمام (علیه السلام) وتعرّف بعض ما ينكشف له من كمالات هذه الذات بما يدفع به إلى أعلى مراقي الكمال والفضل بحسب استعداده، عبر هذه الكتب وأمثالها.

من دواعي وعلامات السعادة، أن نتعلم من الحسين، وأن نستهدي بالحسين، فنأخذ منه العقيدة السليمة، والسلوك النزيه، ومكارم الخصال والصفات، ونتعلّم منه الإباء والإيثار والنجدة والإقدام والرأفة حتى بالعدو.

الحسين مجمع المكارم، وهو قرآن ناطق، قوله قول القرآن، وسلوكه وفق القرآن، وبعبارة أفصح:هو ترجمان القرآن.

فإذا أردت تعرّف معاني القرآن وكيفية تطبيقه وتمثّله سلوكياً فانظر إلى الحسين تعرف مضامين القرآن، ولا عجب فهو عدل القرآن وهو الثقل الثاني، إذ ترك النبي ثقلين في الأُمة، إن أَخَذَتِ الأُمّة بهما ركبت السفينة ونجت، وإلّا هوت، ولا عاذر لها ولا وليّ ولا نصير، ولا تلحقها شفاعة ولا رحمة، ولا تتداركها توبة أو توسل وتخضّع، والثقلان هما: كتاب الله والعترة، والحسين من العترة، بل من أفضلها.

الحسين أول شخصية من بيت النبوة رفعت السلاح بوجه ظلم وجبروت

ص: 559

واستعباد الطبقة الحاكمة للأمة العزلاء والحديثة العهد بالإسلام والتوحيد والمُثل العليا.

لقد ثنّى الحسين (علیه السلام) بثورته ثورة أمه الزهراء البتول(علیها السلام) ، والتي دوّى صوتها في أماكن عدّة من المدينة المنورة، تعلن غضبها على من هجر شرع أبيها بين ليلة وضحاها، وبين من جعل أول فعله بعد وفاة النبی (صلی الله علیه و آله)، وأول هدية للعترة والأُمة، وجعل وداعه للنبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) وهو ما يزال مسجّىً لم يُدفن:

أن عزل العترة عن ساحة التأثير، وَحَرَمَها املاكها وامتيازاتها، وسلب منها أسباب القدرة، فجعلها دون آحاد الأُمة في التمتع بتشريعات الإسلام.

فآحاد الاُمة يُقبل منهم شاهدين لاي إثبات حق، والزهراء(علیها السلام) لم يُقبل منها شهادة معصومين، وشهادة إمرأة شهد لها النبی (صلی الله علیه و آله) شخصاً بالجنّة.

وآحاد الاُمة ان كان بأيديهم شيء فهو لهم بلا بيّنة، والبيّنة على مدعي العكس، والزهراء(علیها السلام) تُطالَب ببيّنة على ما في يدها.

والاُمة تتمتع بالزكاة فينال فقيرها من حصصها، وآل محمد (صلی الله علیه و آله) لا حقّ لهم بالزكاة لحرمة الصدقة عليهم- بحسب التشريع- ولا حقّ لهم بالخمس لتحويل الخمس إلى حق عام للاُمة بعد النبی (صلی الله علیه و آله) - بحسب الموقف الذي اتخذه أهل الحكم خلافاً لموقف الكتاب والسُنّة من أهل بيت النبيّ(صلی الله علیه و آله) .-

وكلّ فردٍ في الأمة مِن حقّه أن يرث أبويه بعد وفاتهما، والزهراء لا حق لها بميراث أبيها - لأن الانبياء لا يورّثون، فما يتركونه صدقة - والقرآن يصرخ فيهم: «وَوَرِثَ سُلَیْمَانُ دَاوُودَ» ويُعلن: «یَرِثُنِی وَیَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ» والأجيال المتتالية على درب سلفها تلتزم بمقولة - الأنبياء لا يورّثون - ومن العجيب أن الأنبياء لا يورّثون أولادهم فقط، بينما أخذت عائشة وحفصة ميراثهما من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فكيف ورثتا

ص: 560

ولم ترث الزهراء(علیها السلام) ، وهي لحم رسول الله ودمه (صلی الله علیه و آله)، بل هي روحه التي بين جنبيه، وهي بضعته، وهي وهي...

الحسين (علیه السلام) ثار لاستنقاذ المستضعفين والمحرومين من أيدي الطاغوت والجبت.

قال تعالى: «وَمَا لَکُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَ-ذِهِ الْقَرْیَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنکَ وَلِیًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنکَ نَصِیرًا».

ثار الحسين (علیه السلام) على التحريف والتدمير لشريعة الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله).

الحسين (علیه السلام) ذات أبت أن تعيش الخنوع والذِلّة والقهر في سلطان الأكاسرة والقياصرة، ودلّت بمسلكها على ما جاء به سيد المرسلين وَ لَمحََهُ أهل البيت المحمدي الطاهر من موقف تجاه مثل هذه الحالات وهم فكر واحد وسيرة واحدة وان تعددت الذوات، فليست قضية الحسين - قضية في واقعة - بل هي: قضية الإسلام المركزية.

الإسلام يُزيح عن مقعد الصدارة من لم تتوفر فيه صفات معينة، ويُعطي زمام الأُمور ومقاليدها بيد المعصوم المسدّد من الله تعالى وَالمُعَلَّم منه، ليرفع كل إنسان إلى أعلى مرقاة يستطيع الارتقاء إليها، وليحقق أسعد حياة في الأرض وأطهر مسيرة للإنسان.

فقضية رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حياته وقضية الزهراء وعلي والحسن والحسين والسجاد والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري والمهدي (علیهم السلام) واحدة والاختلاف في جزئي القضية، وشخص المدافع عن الانحراف، والاّ فأصل القضية واحد، والقتال في جبهة واحدة.

بل قضية محمد وآل محمد (صلی الله علیه و آله) هي قضية كل الأنبياء والأوصياء ومن على نهجهم.

ص: 561

مؤلفات جليلة:

لم يقتصر التأليف في الحسين (علیه السلام) على شيعته ومتابعيه وأهل ولائه والمتمسّكين بالدين المأخوذ من طريقه عن أبيه عن جدّه المصطفى (صلی الله علیه و آله)، بل شمل عموم محبّيه، بل حتى من يخالفه في النهج، بل كتب في حقّه اتباع الديانات الأخرى.

نعم، بخسه حقّه النواصب، ومبغضو أهل البيت (علیهم السلام) ، ومن يسانخ بني أمية في الجوهر والميول والفكر.

وفي هذا المسار: الاهتمام بأعدائه ومناوئيه.

أحدهم يكتب كتيباً في سرد سيرة يزيد وقصة حياته، وما أدري ما الذي يريد أن يسجّله هذا غير المخازي، والوان العار والفجور، وغير الكفر والإلحاد.

وأين فعل هذا ممن كتب: «الردّ على المتعصّب العنيد المانع من ذمّ يزيد» والكتاب الثاني هو لأبي الفرج ابن الجوزي البغدادي الحنبلي (1).

وآخر يتّجه لجمع شعر يزيد ويخلّصه من شعر غيره.

وايّة شاعرية في يزيد تقتضي الاهتمام به، وصرف الجهد إليه، مع وجود فطاحل الشعر العربي وهم كُثر، كما أن يزيداً عدو الله ورسوله بل الإنسانية جمعاء والله، وعداوته هذه تقتضي إماتة ذكره وتوجيه الأمة نحو لعنه والبراءة منه.

نعم إنْ كان عَمجُْ شِعْرِهِ كيلا تضيع كفريّاته الشعريّة لِتَعْلَمها الاجيال، وَلِتُخَلََِّدَ ذكره في طواغيت الأمة وفراعنتها وَ كَفَرَ اِهت، كقوله:

لعبت هاشمُ بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

ص: 562


1- راجع كتاب: أهل البيت في المكتبة العربية، للسيد عبد العزيز الطباطبائي، ص 192 ، وقد فصّل حال الكتاب وأنّه كُتب ردّاً على من الّف في الدفاع عن يزيد.

لست من خِندفِ إن لم

انتقممن بني أحمد ما كان فعل

أو قوله يخاطب زوجته:

فإن مِتّ يا أُمّ الاحيمر فانكحي

ولا تأملی بعد الممات تلاقيا

في أبيات له يُنكر فيها المعاد، فلجمع هذا الشعر وجه وجيه.

ثم هل هذا العمل أجدى للدين والإنسانية، أم جمع شعر الحسين (علیه السلام) الذي هو أحد اركان الإسلام، بل الوجود، والذي كله رحمة وعطاء للإنسانية، وهو ملاذها

وَعَلَمُ هدايتها ونجاتها، وقد عَمجََ شعر الحسين (علیه السلام): محمد بن الرحيم (1).

لكن يبقى أن من تجرأ فمدح يزيد وأعداء الحسين (علیه السلام) أو كتب بما به المناوئة لسيدالشهداء (علیه السلام) هم أقل القليل، وغالبهم، بل جميعهم، ممّن لا يُعبأ بهم.

نعم، كتب في الحسين(علیه السلام)، وأدّى شيئاً من حقّه جمع كثير، بلغنا اسماء بعضهم وأسماء مؤلفاتهم، ولعلّ ما لم يبلغنا أعظم.

وفي ايامنا هذه أيضاً، توجد في مكتبات الدنيا مجموعة من المؤلفات في شهيد الأمة - الحسين السبط (علیه السلام) - كتبها محبّوه من شيعته وغيرهم، بل أخذت دائرة الإعلام الحسيني بالاتساع لتشمل غير الكتب والمقالات والخطب، بعدما اخذت دائرة الأساليب الإعلاميّة بالاتساع يوماً بعد يوم.

وقد تضمنت أسماء بعض هذه الكتب فهرستات، كُتبت لتوثيق ما صدر في الإمام (علیه السلام) إن تعبث به يد العدوان، أو يد الزمان.

هذا -مثلاً-: كتاب مقتل الحسين بن علي (علیهما السلام)، للشيخ الصدوق لم يصلنا منه .

ص: 563


1- راجع: أهل البيت في المكتبة العربية، السيد عبد العزيز الطباطبائي، ص 174 ، وقد ذكر انه جمعه ورتّبه وشرحه محمد عبد الرحيم و طُبع في بيروت سنة 1412 .

شيء، غير انه نبّه عليه في كتابه - الخِصال - (1).

ومثله كثير.

ومن اراد الإطلاع على أسماء مؤلفات في الإمام (علیه السلام) سيرةً وشهادةً، فله أن يراجع:

1- الذريعة إلى تصانيف الشيعة للشيخ محمد محسن الطهراني المشتهر بآغا بزرگ

2- أهل البيت في المكتبة العربية للسيد عبد العزيز الطباطبائي

وقد ضمّن كتابه هذا ما كُتب في أهل البيت (علیهم السلام) من غير شيعتهم وكذلك ما كُتب فيمن هو لصيق بهم، كأبي طالب(علیه السلام)، وأبي الفضل العباس(علیه السلام)، والعقيلة زينب(علیهم السلام).

وقد أحصيت فيه» 97 «كتاباً في الحسين (علیه السلام) أو للحسين (علیه السلام) من الكتاب مقدارمهم.

3- كتاب شناسي إمام حسين (علیه السلام) لنجف قلي حبيبي.

والكتاب باللغة الفارسية، وحوى أسماء مصنّفات كثيرة في الإمام الشهيد (علیه السلام)لمؤلفين من الشيعة والسُنّة، وقد قام بنشر الكتاب: مؤسسة تنظيم ونشر آثار إمام خميني في سنة 1374 ﻫ ش والموافق لسنة 1416 ﻫ ق، وقد تضمّن الكتاب «978» عنواناً.

فهاكها أسماء مصنفات يمكنك العثور عليها في المكتبات العامة أو الخاصة، ولايستعصيك تحصيلها، وهي تؤدّي بعض المطلوب في مجالها.

1- الإرشاد الشيخ المفيد.

هذا الكتاب: سرديٌّ لحياة الإمام وقضيته، ويعتبر من الكتب التراثية القديمة جداً، والمهمة، والمصدر الأصلي لكثير ممّن كتب عن الإمام. .

ص: 564


1- راجع: الخصال، ص 68 .

مؤلفه: الشيخ المفيد، عالم، محقق، متتبع، وهو شيخ الإماميّة في عصره، ولمنقولاته أهمية كبيرة، لمكان تحقيقه، وتثبّته، وغيرته على الدين.

2- مقتل الحسين (علیه السلام) السيد محمد تقي بحر العلوم وهو سرد لأحداث الطف مع تعليقات ممتازة ونافعة جداً لولد المؤلف السيد حسين بحر العلوم لا يُستغنى عنهما، وهو يسدّ فراغاً للمبلغين المحترمين إذ كُتِبَ على نهج مجالس عشر.

3- الملهوف على قتلى الطفوف السيد علي بن موسى بن طاووس ويتناول الثورة الحسينيّة بنحوٍ سرديّ.

4- حياة الإمام الحسين بن علي الشيخ باقر شريف القرشي هذا الكتاب يتناول الثورة الحسينيّة بنهجٍ سرديّ تحليليّ في مجلداتٍ ثلاث.

5- كلمات الإمام الحسين

6- بحار الأنوار ﺟ 44 - 45

7- مسند الإمام الشهيد 3مجلدات

ص: 565

ص: 566

الشعر: للتذكیر بالحسين (علیه السلام)

ذم القرآن الشعراء:

الذين في كل وادٍ يهيمون، والذين يقولون ما لا يفعلون، وذمّ من يتبعهم.

واستثنى منهم:

الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيراً، وانتصروا من بعد مادظُلموا(1).

وقد أكثر الشعراء من قول الشعر في الحسين ونهضته، وجمع الخطيب الشهير السيد جواد شبر بعضاً منه في مجلدات عشر، وسمّى مجموعته ب :

«أدب الطف». (2)

ولم يبنِ على الاستيعاب، وهيهات.

الشيخ أحمد البلادي من شعراء القرن الثاني عشر نظم ألف قصيدة في رثاء الإمام الحسين المظلوم، وجمعها في مجلدين ضخمين(3).

ولا أُجازف لو قلت أنه لو تصدى أحدٌ لجمع كل ما قيل في الحسين (علیه السلام) من شعرٍ

ص: 567


1- راجع الآيات 224 - 227 من سورة الشعراء المباركة.
2- طُبعت هذه الموسوعة الجليلة في حياة مصنفها السيد جواد شبر في التسعينات من القرن الرابع عشر الهجري.
3- ذكر هذا: الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه واقعة كربلاء ص 136 عن الغدير للشيخ الأميني.

لناهز كتابه بحار الأنوار ذي المجلدات المائة ونيّف.

فما عسى أن يقول المرء في هذا المقام ويسرد.

غير أ اذكر أُموراً ثلاثة:

الأمر الأول: ما ورد من نصوص في الحث على قول الشعر في الحسين (علیه السلام) وقضيّته وما فيه من ثواب جزيل أخروي.

الأمر الثاني: أثر الشعر في تربية الاُمة وشدّها إلى مبادئ الإسلام وقوانينه وأهدافه، وأثر الشعر الحسيني في هذا بالخصوص.

الأمر الثالث: بعض القصائد في الحسين (علیه السلام) وقضيّته.

النصوص:

بالإضافة إلى ما في الآية الكريمة من وجه حثٍ على قول الشعر في الحسين(علیه السلام).

إذ أن نصرة الحسين (علیه السلام) بكل وجهٍ مُباحٍ مما اكّدته النصوص- من كتاب وسُنّة- بعمومها، وبالخاصّ منها.

ذلك أن نُصرة الحسين (علیه السلام) بالشعر وغيره من محققات الإيمان ومن علائمه.

كما أنها من العمل الصالح.

وهي من ذكر الله سبحانه، لأن قضيّة الحسين قضيّة الله وفي سبيل الله ولأجل الله ولتحكيم إرادة الله ولذلك اضحى الحسين (علیه السلام) ثأر الله.

كما أن قول الشعر في الحسين (علیه السلام) انتصار من أعداء الله والحسين (علیه السلام) والاُمة، من بعد ظُلمٍ وقع بآل البيت (علیهم السلام)، وبالأُمة المتمسكة بالتعاليم المحمدية كاملة - حقيقةً- مع أنّ النبي الأکرم (صلی الله علیه و آله) قال: «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق».

ص: 568

وقال(صلی الله علیه و آله): «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا».

وقال لعلي وفاطمة والحسن والحسين(علیهم السلام): «أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم».

وقال في الحسين(علیه السلام): «ان ابني هذا يُقتل بأرض من أرض العراق فمن أدركه فلينصُره». (1)

أقول:يُعرض البعض عن مفاد هذه النصوص، ويأخذ برواية: «أصحابي كالنجوم بايّهم اقتديتم اهتديتم».

ومن المقطوع به ان هذه الرواية موضوعة، لأن بعض الصحابة من رؤوس المنافقين، وَمِن أعلام الضلالة، فكيف يأمر النبی (صلی الله علیه و آله) بالاقتداء بهم.

بل من أَخَذَ بالرواية الموضوعة - أصحابي كالنجوم - ولم يأخذ بأمر الرسول (صلی الله علیه و آله) في نصرة ولده الحسين(علیه السلام)، فليس من أمة محمد (صلی الله علیه و آله) - حقيقةً - ولا كرامة، وعلى هذا ستُعقد محكمة القيامة، والصحاح الستة، وما ينحو نحوها من كتب العامة، تشهد لنا.

عن الإمام الصادق(علیه السلام): «من أنشد في الحسين (علیه السلام) شعراً فأبكى خمسين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى أربعين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرة فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى واحداً فله الجنة، ومن أنشد في الحسين (علیه السلام) شعراً فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنة». (2) .

ص: 569


1- فضائل الخمسة، ﺟ 3 ص 282 .
2- كامل الزيارات، باب 33 ص 209 .

كما ورد الحث على هجو الأعداء بالشعر: فعنه(صلی الله علیه و آله): «اهجوا بالشعر، انّ المؤمن اُجيهد بنفسه وماله، والذي نفس محمد بيده كأنّما تنضحونهم بالنبل». (1)

وهناك روايات أُخرى كلّها على هذا النسق، وتؤدّي نفس المضمون، وما ناقشها أحد من الاعلام، على نحو التوقف في الأخذ بها دلالةً أو عملاً.

أثر الشعر في تربية الأُمّة:

يُستعمل الشعر لأغراضٍ كثيرة على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة، وهناك أمم -قديماً وحديثاً- اعتمدت الشعر واستذوقته واتخذته طريقاً في تحقيق هدفٍ لها متسامٍ أو متهافت.

ومهما تكن الأغراض التي يبتغيها الفرد من تناوله للشعر وتداوله له، أو التي تبتغيها الامم، فلا يُنكر انّه يُمكن اتخاذ الشعر طريقاً لتحقيق تطلعات سامية وأهداف رفيعة.

وَمِنْ قَبْلُ ب القرآن العزيز -كَحالهِِ في كُلّ شؤون النوع الإنساني- حقيقة الدور الذي يلعبه الشعر في الفرد والمجموع، عبر اختيارات الشعراء واهتماماتهم فقال:

«وَالشُّعَرَاء یَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِی کُلِّ وَادٍ یَهِیمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ یَقُولُونَ مَا لَا یَفْعَلُونَ»

فبین الحالة السائدة، واعطى الضابطة الفعلية لحال الشعر والشعراء، واستثنى:

«إِلَّا الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَکَرُوا اللَّهَ کَثِیرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَیَعْلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَیَّ مُنقَلَبٍ یَنقَلِبُونَ».

ولعلّه ممّا لا يخفى على أحدٍ دور الشعر في حياة الأمم والأفراد، لما له من قابليّةة.

ص: 570


1- الغدير، ﺟ 2 ص 23 ، عن مصادر العامة.

للعلوق في خواطر الناس وفي حافظتهم، وفي استمرارية دوران كلماته ونصوصه على ألسنتهم، مما يؤدي إلى التأثر بشكلٍ أوبآخر بما يحمله هذا الشعر من مضمون، وإلى سريانه فيما يحملونه من فكر، أو ما يصدر عنهم من سلوك.

ولذا كان ديدن جميع الامم الاعتناء بالشعر والاهتمام لترويجه في المجتمع وشحذ الهمم له نظماً وحفظاً.

وللعرب في هذا المضمار القدح المُع فهم أمة شعرٍ وأدب وفي حنايا لغتهم من مفردات وقواعد وضوابط بيانية وبلاغية ما يرفع من محلّ الشعر عندهم وما يدفع به إلى نيل اهتمامهم، وهو الذي حصل، حتى عظّموا المعلقات، ووضعوها في أشرف محلٍّ عندهم -الكعبة-.

واستمر الحال بالشعر في عصر الإسلام من صدره إلى يومنا هذا بعد ما أكرم النبی (صلی الله علیه و آله) بعض الشعراء -كعب بن زهير، وحسان بن ثابت- وبعد ما أبان لهم عن قيمة بعض أغراضه فهو حسن في الجملة لا بالجملة.

وتابع أئمة أهل البيت (علیهم السلام) نهج الصادع بالرسالة فأكرموا الشاعر وحثوا على الشعر، لكن ما كان منه ذكراً للحق وترويجاً له، بعد ما حاول الظالمون طمس كل حقٍ وحقيقة، وسعوا إلى إحلال الظلمات في مجتمع الإسلام - مجتمع النور والهداية -.

وقد نجح الظالمون أيّ نجاح في مخططهم ومكرهم الذي تزول منه الجبال، لكنّ العاقبة كانت لمحمدٍ وآلِ محمد (صلی الله علیه و آله) بما صبروا وبما ضحّوا وبما أرشدوا الأمة إلى سبل النجاة.

ومن سبلهم في ترويج الحق ودحض الباطل: الشعر.

وقد أدى الشعر والشعراء دوراً عظيماً في خدمة القضيّة الحسينيّة من أوّل يومها

ص: 571

إلى يومنا هذا حتى كتب الفاضل السيّد جواد ش كتاباً عنوانه «أدب الطف» ذكر فيه شعراء الطف بترجمة قصيرة وذكر لهم ابياتاً أو قصائد قليلة ومع ذلك بلغ كتابه مجلداتٍ عشر، ولم يمنعه عن مواصلة التأليف فيه غير الظالمين -صدام وأعضاده الذين هم بحق شيعة يزيد-.

كما كتبت كتب عدّة جمعت ما قيل من قصائد في الحسين (علیه السلام) وقضيّته ولم يقتصر النظم على ذكر الحسين (علیه السلام) بل قيل الكثير منه في أهل بيته وصحبه خصوصاً أو عموماً والأمر في تواصل.

ومما نُظم في ايامنا هذه ارجوزة تزيد على الف بيت من الشعر في الحسين (علیه السلام) واصحابه كما تمّ نظم قصيدة طويلة في أصحاب الحسين (علیه السلام) بعدّهم واحداً بعد واحد -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين-.

كما أنّ من سبل ترويج الباطل وإقامة الحق: الشعر.

فهو سلاح ذو حدّين.

وقد إستخدمه فراعنة الأمة، وبطّاليها، وذوي الأغراض الفاسدة والمنحرفة لإشاعة أجواء الانحراف عن الأخلاق العامة، وكذلك -وهو المهم- رِحلَْفِ الأمة عن خط أهل البيت النبوي ونهجهم الذي هو عين ما جاء به النبي وعين الإسلام دون زيادةأو نقصان، وكل زيادة أو نقصان عما جاء به الرسول الأکرم (صلی الله علیه و آله) فأهل البيت النبوي منه براء إلاّ أنّ تحديد ما جاء به النبی (صلی الله علیه و آله) إنما يؤخذ منهم بعد ما أعلن الله تعالى في كتابه طهارتهم من كل رجس -فهم معصومون عن كل خطأ وخطيئة- وأعلن النبی (صلی الله علیه و آله) أنهم سفن نجاة الأمة وأنهم أحد الثقلين -والثقل الآخر هو القرآن الكريم- اللذين باتباعهما تتحقق النجاة والسعادة في الدارين.

لقد ساهم الشعر في تربية الأمة وفي معاضدتها للثبات في المحن التي تعيشها في

ص: 572

مختلف جوانب الحياة فكان هناك الشعر التعليمي والشعر الحماسي والشعر الحكمي.

في الشعر التعليمي، قام جمع من أهل الفضل بنظم قواعد العلوم المختلفة ومسائلها في قصائد ساهمت في نشر هذه العلوم وتسهيل تناولها، ولعل من أشهرها الفية ابن مالك في النحو، وفي الشعر الحكمي اشتهرت قصائد أبي تمام بتضمينه لها مختلف المعاني الحكمية التي شدّت الأعلام لها على مدى أجيال.

وفي شعر الحماسة الكثير، الكثير مما تضمنته المدونات ولاكته الألسنة في المجامع، وليس ما تقدّم إلاّ للإشارة.

ولكن ينبغي التنبيه إلى أنّ الشعر قد أَسَفّ حين نحى الشعراء مناحي ينبغي بل يلزم للمرء التنزه عنها واتقاء الله سبحانه فيها حين مدح الشعراء الظالمين والطغاة لاستدرار المنافع منهم من أموالٍ أو مناصب.

أحيت التضحية الحسينية الشعر عموماً، والشعر العربي بالخصوص في جوانب:

- شعر الرثاء.

- شعر الحماسة.

بل جوانب عدة من أنحاء الشعر وأغراضه.

فقد أطلقت هذه الثورة ألسنة الشعراء، إذ نظموا البيت والبيتين حتى جاوزت بعض قصائدهم الألف من الأبيات، ونظم بعضهم القصيدة والقصيدتين في القضية الحسينية وبعضهم نظم ألف قصيدة كالشيخ أحمد البلادي وقد قدمنا ذكره، كما قدمنا أنّ الفاضل الخطيب الشهيد جواد شبر ذكر تراجم شعراء الطف وبعض شعرهم فجمع مجلدات عشر ولم يتوقف عن عمله لكنّما أوقفه عنه إعتقاله.

ص: 573

ص: 574

نصوص شعريّة

اشارة

النصوص الشعريّة في إمامنا الحسين- صلوات الله عليه وسلامه- لا تحصى ولا تُستقصى، ونكتفي هنا باضمامةٍ منها مشاركةً في نشرها:

الشيخ محمّد جواد البلاغي:

الشيخ محمّد جواد البلاغي: (1)

يا تريبَ الخدّ في أرضِ الطفوفِْ *** ليتني دونَكَ نهباً للسيوفْ

يا نصيرَ الدينِ إذْ عزَّ النصيرْ *** وحمى الجارِ إذا عزَّ المجيْر

وشديدَ البأسِ واليومُ عسيرْ *** وثمال الرفدِ في العامِ العسوفْ

يا صريعاً ثاوياً فوقَ الصعيدْ *** وخضيبَ الشيبِ منْ فيضِ الوَريدْ

كيفَ تقضي بين أجنادِ يزيدْ *** ظامئاً تُسقى بكاساتِ الحتوفْ

كيفَ تقضي ضامئاً حولَ الفراتْ *** دامياً تنهل منكَ الماضيات

وعلى جسمِكَ جت جتري الصافناتََ *** عافرَ الجسمِ لقىً بينَ الصفوفْ

سيّدي أبكيكَ للشيبِ الخضيبْ *** سيّدي أبكيكَ للوجهِ التريب

سيّدي أبكيكَ للجسمِ السليب *** مِنْ حشاً حّرانَ بالدمعِ الذروف

سيّدي إنْ منعوا عنكَ الفراتْ *** وسقوا منكَ ظماءَ المُرهفات

فسنسقي كربلا بالعبرات *** وكفّاً من عَلَقِ القلبِ الأسوف

سيّدي أبكيكَ منهوبَ الرحالْ *** سيّدي أبكيكَ مسبيَّ العيال

ص: 575


1- من لا يحضره الخطيب، داخل السيد حسن، ص 111 ، والشيخ البلاغي من مراجع الأُمة وهو أحد أساتذة المرجع الكبير السيد أبي القاسم الخوئي، وقد توفي البلاغي سنة 1352 ه .

بينَ أعداكَ على عجفِ الجمال *** في الفيافي بعدَ هاتيكَ السجوف

سيّدي إنْ نقضِ دهراً في بُكاك *** ما قَضينا البعضَ من فرضِ ولاك

لو عكفنا عمرَنا حولَ ثراك *** ما شفى غُلّتَنا ذاكَ العكوف

لهفَ نفسي لنساكَ المعوِلات *** واليتامى إذْ غدتْ بينَ الطغاة

باكياتٍ شاكياتٍ صارخاتْ *** و ّهلاً حولكَ تسعى وتطوف

يا حمانا مَنْ لنا بعدَ حماكَ *** ومَنْ المَفْزَعُ مِنْ أسرِ عداك

و ِملنْ نلجأُ إنْ طالَ نواك *** ودهتنا بدواهيها الصروف

يا حمانا مَنْ لأيتامٍ صغار *** ومذاعيرٍ تعادي بالفرار

راعَها المزعجُ من سلبٍ ونار *** حيثُ لا ملجا ولا حامٍ رؤوف

لستُ أنساها وقدْ مالتْ الى *** صفوةِ الأنصارِ صرعى في الفلا

أشرقتْ منها محاني كربلا *** كشموسٍ غالها ريبُ الكسوف

هاتفاتٍ بهمُ مستصرخاتْ *** باكياتٍ نادباتٍ عاتبات

صارخاتٍ أينَ عنّا يا ُمحاة *** يا بدورَ التمِّ ما هذا الخسوف

يا رجالَ البأسِ في يومِ الكفاحْ *** يا ليوثَ الحربِ في غابِ الرماح

كيفَ آذنتم جميعاً بالرواح *** ورحلتم رحلة القومِ الضيوف

الشيخ عبد الحسين شكر:

الشيخ عبد الحسين شكر (1):

البدارَ البدارَ آلَ نزارِ *** قدْ فُنيتمْ ما بينَ بيضِ الشِفار

قوّموا السُمْرَ كسّروا كلَّ غمدٍ *** نقّبوا بالقَتامِ وجهَ النهار

سوّموا الخيلَ أطلقوها عُراباً *** واتركوها تشقٌّ بيدَ القفار

طرّزوا البيضَ من دماءِ الأعادي *** فلّقوا الهامَ الظبا البتّار

ص: 576


1- من لا يحضره الخطيب، ص 114 ، وقد توفي الشاعر في طهران سنة 1285 ه.

واسطحوا مِن دمٍ على الأرضٍ أرضاً *** وارفعوا للسما سماءَ غبار

خالفوا السمرَ بينَ بيضِ المواضي *** وامتطوا للنِزالِ قُبَّ المِهار

وابعثوها ضوابحاً فاُميٌّ *** وسمتْ أنفَ مجدكم بالصغارِ

سلبتكم بالرغمِ أيَّ نفوسٍ *** ألبستكمْ ذُلاًّ مدى الأعمار

يومَ جَذّتْ بالطفِّ كلَّ يمينٍ *** منْ بني غالبٍ وكلَّ يسار

لا تلدْ هاشميةٌ علوياً *** إنْ تركتم أميةً بقرار

طأطأوا الرؤوسَ إنَّ رأسَ حسينٍ *** رفعوهُ فوقَ القنا الخَطَّار

لا تذوقوا المعينَ واقضوا ضمايا *** بعدَ ضامٍ قضی بحدِّ الغرار

لا تمدّوا لكمْ عنِ الشمسِ ظلاًّ *** إنَّ في الشمسِ مهجةَ المختار

حقَّ ألاَّ تكفّنوا هاشمياً *** بعدَ ما كفّنَ الحسينَ الذاري

لا تشقّوا لآلِ فهرٍ قبوراً *** فابنُ طه مُلقىً بلا إقبار

هتّكوا عن نسائِكم كلَّ خدرٍ *** هذه زينبٌ على الأكوار

أينَ منْ أهلها بنو شيبةِ الحمدِ *** ليوث الوغى حماةُ الذِمار

فليسدّوا رحبَ الفضا بالعوادي *** وليهبّوا طُراً لأخذِ الثار

وليقلّوا الأعلامَ تخفقُ سوداً *** بأيادٍ في الطعنِ غيرِ قصار

وليؤمّوا الى زعيمِ لؤيٍ *** أسدِ الله حيدرِ الكرار

وليضجّوا بعولةٍ وانتحابٍ *** ولينادوا بذلةٍ وانكسار

عظم الله في بنيكَ لَك الأجَر *** فهمْ في الطفوفِ نَهب الغرار

السيّد مهدي الأعرجي:

السيّد مهدي الأعرجي (1):

ما بالُ فهرٍ أغفلتْ أوتارَها *** هلاّ تثيرُ وغىً فتدركُ ثارَها

ص: 577


1- من لا يحضره الخطيب، ص 126 .

أغضتْ على الضيمِ الجفونِ وضيّعتْ *** يا للحميةِ عزَّها وفَخارها

عجباً لها هدأتْ وتلكَ أميةٌ *** قتلتْ سراةَ قبيلِها وخيارَها

عجباً لها هدأتْ وتلكَ نساؤها *** بالطفِّ قدْ هتكَ العدى أستارَها

من كلِّ ثاكلةٍ تناهب قلبَها *** أيدي الأسى ويدُ العدوِّ خمارها

لهفي لها بعدَ التحجّبِ أصبحتْ *** حسرى تقاسي ذ ّهلا وصغارها

تدعوا أميرَ المؤمنينَ بمهجةٍ *** فيها الرزيةُ أنشبتْ أظفارها

قمْ وانظرْ ابنكَ في العراءِ وجسمُهُ *** جعلتهُ خيلُ أميةٍ مضمارَها

ثاوٍ تغسّلُهُ الدماءُ بفيضِها *** عارٍ تكفّنُهُ الرياحُ غبارها

قد هشّمتْ منهُ الخيولُ أضالعاً *** فيها النبوّةُ أودعتْ أسرارها

وبيوتُ قدسِ من جلالةِ قدرِها *** كانتْ ملائكةْ السما زوّارها

يقفُ الأمينُ ببا ِهبا مستأذناً *** ومقبّالاً أعتا َهبا وجدارَها

أضحتْ عليها آلُ حربٍ عنوةً *** في يومِ عاشورا تَشنُّ مغارها

كم طفلةٍ ذعرتْ وكم محجوبةٍ *** برزت وقدْ سلبَ العدوُّ أزارها

ويتيمةٍ صاغَ القطيعُ لها سوا *** راً عندما بزَّ العدوُّ سوارَها

أينَ الكماةُ الصيدُ من عمرِو العلا *** عنها فتُرخصُ دو َهنا اعمارَها

أينَ الكماةُ الصيدُ من عمرو العُلا *** لتثيرَ للحربِ العوان غبارَها

السيّد رضا الهندي:

السيّد رضا الهندي (1):

كيفَ يصحو بما تقولُ اللواحي *** من سَقَتْهُ الهمومُ أنكدَ راحِ

وغزَتْهُ عساكرُ الحزنِ حتَّى *** أفردت قلبَهُ مِنَ الأفراحِ

كيفَ ُهتنينيَ الحياةُ وقلبيْ *** بعدَ قتلى الطفوفِ داميْ الجراحِ

ص: 578


1- من لا يحضره الخطيب، ص 152 .

بأبي مَن شرَوا لقاءَ حسينٍ *** بفراقِ النفوسِ والأرواحِ

وقَفوا يدرؤون سُمرَ العوالي *** عنهُ والنبلَ وقفةَ الأشباحِ

فَوَقَوهُ بيضَ الظُّبا بالنحورِ *** البيضِ والنبلَ بالوجوهِ الصباحِ

فئةٌ إن تعاورَ النقعُ ليلاً *** أطلعوا في سماهُ شُهبَ الرماحِ

وإذا غنَّتِ السيوفُ وطافت *** أكؤسُ الموتِ وانتشى كلُّ صاحِ

باعدوا بينَ قر ِهبم والمواضي *** وجسومِ الأعداءِ والأرواحِ

لستُ أنسى مِن بعدِهمِ طودَ عِزٍّ *** وأعاديهِ مثلُ سيلِ البطاحِ

وهو يحمي دينَ النبيِّ بِعَضبٍ *** بِسَناهُ لِظُلمةِ الشرکِ ماحي

فتطيرُ النفوسُ منه ارتياعاً *** كلَّما شَدَّ راكباً ذا الجناحِ

ثُمَّ لما نالَ الظَ منهُ والشمسُ *** ونزفُ الدِما وثقلُ السلاحِ

وقفَ السبطُ يستريحُ قليلاً *** فرماهُ القَضَا بسهمٍ مُتَاحِ

فهوى العرشُ لِلثرى وادْ مَهلََّت *** برمادِ المصابِ منها النواحي

حَرَّ قلبي لزينبٍ إذ رأَتْهُ *** تَرِبَ الجسمِ مُثخَناً بالجِراحِ

أخرسَ الخطبُ نطقَها فدَعتهُ *** بدموعٍ بما َِجتنُّ فِصاحِ

يا منارَ الضُّلالِ والليلُ داجٍ *** وظِلالَ الرميضِ واليومُ ضاحِ

كنتَ لي يومَ كنتَ كهفاً رفيعاً *** سجسجَ الظِّلِّ خافقَ الأرواحِ

أَترى القومُ إذ عليكَ مَرَرنا *** مَنَعونا من البُكا والنياحَ

إن يكنْ هيِّناً عليكَ هواني *** واغترابي مع العِدا وانتزاحي

فبرغمي أ أراكَ مقيماً *** بينَ سُمرِ القَنا وبيضِ الصِّفاحِ

لك جسمٌ على الرمِال ورأسٌ *** رفعوهُ علی رؤوسِ الرماحِ

ص: 579

السيّد محمّد القزويني:

السيّد محمّد القزويني (1):

أحلماً وكادتْ تموتُ السُننْ *** لطولِ انتظاركَ يا ابنَ الحسنْ

وأوشكَ دينُ أبيكَ النبيِّ *** يُمحى ويرجعُ دينُ الوثنْ

وهذي رعاياكَ تشكو اليكَ *** ما نا َهلا من عظيمِ المحنْ

تناديكَ معلنةً بالنحيب *** اليكَ ومبديةً للشجنْ

ولم ترمِ طرفكَ في رأفةٍ *** اليها ولمْ تصغِ منكَ الأذنْ

لقدْ غرَّ إمهالُكَ المستطيلُ *** عداكَ فباتوا علی مطمئنْ

فمذْ عمّنا الجورُ واستحكموا *** بأموالِنا واستباحوا الوطنْ

شخصنا اليكَ بأبصارنا *** شخوصَ الغريقِ ِملرِّ السفنْ

وفيكَ استغثنا فإنْ لمْ تكنْ *** مغيثاً مجيراً وإلاّ فَمنْ

أتنسى مصائبَ آبائِكَ التي *** هدَّ مما دهاها الركنْ

مصابَ النبيِّ وغصبَ الوصيِّ *** وذبحَ الحسينِ وسمَّ الحسنْ

ولكنَّ لا مثلَ يومِ الطفوفِ *** في يومِ نائبةٍ في الزمنْ

غداةَ قضی السبطُ في فتيةٍ *** مصابيحِ نورٍ إذا الليلُ جَنْ

تُغَسَّلُُ أجسامهمْ بالنجيعِ *** وتُسدي لها الذارياتُ الكفنْ

تفانوا عطاشى فليتَ الفراتَ *** ِلما نالهمْ ماؤهُ قدْ أجنْ

وأعظمُ ما نالكمْ حادثٌ *** لهُ الدمعُ ينهلُّ غيثاً هتِنْ

هجومُ العدوِّ علی رحلِكمْ *** وسلبُ العقائلِ أبرادهنْ

فغودرنَ ما بينهمْ في الهجيرِ *** ورُكّبنَ من فوقِ عجفِ البُدُنْ

تدافعُ بالساعدينِ السياطِ *** وتستُر وجهاً بفضلِ الردنْ

ولم ترَ دافعَ ضيمٍ ولا *** مغيثاً لها غيرَ مضنىً َحينْ

ص: 580


1- من لا يحضره الخطيب، ص 386 .

فتذريْ الدموعَ لما نالَهُ *** ويُذري الدموعَ لما نالهنْ

السيّد حيدر الحلّي:

السيّد حيدر الحلّي (1):

إن لم أقفْ حيثُ جيشُ الموتِ يزدحمُ *** فلا مَشَت بيَ في طُرُقِ العُلى قَدَمُ

لا بُدَّ أن أتداوى بالقنا فلقد *** صبرتُ حتى فؤادي كُلُّهُ أََملُ

عندي من العزمِ لا أبوحٌ بهِ *** حتى تبوحَ بهِ الهنديَّةُ الخُذُمُ

لا أرضعت لي العُلى ابناً صفوَ دَرَّتها *** إن هكذا ظلَّ رمحي وهو مُنْفَطِمُ

إليَّةً بظُبا قومي التي َِمحدت *** قدماً مواقعَها الهيجاءُ لا القِمَمُ

لأحلِبنَّ ثِديَّ الحربِ وهي قناً *** لبانُها من صدورِ الشمسِ وهو دمُ

مالي أُسالمُ قوماً عندَهم تِرَتي *** لا سالمتني يُد الأيامِ إن سلِموا

مَن حامِلٌ لِوَليِّ الأمرِ مَأْلُكَةً *** تطوي علی نفثاتٍ كُلُّها ضَرَمُ

يا ابنَ الأولى يُقعِدون الموتَ إن نهضت *** بهم لدى الروعِ في وجهِ الظبا الهِممُ

الخيلُ عندَك ملَّتها مرابطُها *** والبيضُ منها عَرى أغمادَها السَّأَمُ

هذي الخدورُ لها الأعداءُ هاتكة *** وذي الجباهُ ألا مشحوذةٌ تَسِمُ

لا تطهرُ الأرضُ من رجسِ العِدا أبداً *** مالم يُسَلْ فوقها سيلُ الدمِ العَرِمُ

بحيثُ موضعُ كُلٍّ منهمو لك في *** دِماهُ تغسلُهُ الصمصامةُ الخُذُمُ

أُعيذ سيفَك أن تصدا حديدتُهُ *** ولم تكن فيهِ تُجلی هذه الغُمَمُ

قد آنَ ان يُمطرَ الدنيا وساكنها *** دماً أغَرُّ عليهِ النقعُ مرتَكِمُ

حرَّ انَ تدمغُ هامَ القومِ صاعقةٌ *** من كفِّهِ وهي السيفُ الذي علِموا

نهضاً فمَن بظباكم هامُهُ فُلِقَت *** ضرباً على الدينِ فيهِ اليومَ يحتكِمُ

وتلك أنفالُكُمُ في الغاصبينَ لكمُ *** مقسومةٌ وبعينِ الله تُقتَسَمُ

ص: 581


1- من لا يحضره الخطيب، ص 158 .

جرائِمٌ آذَنَتهمُ أن تُعاجِلَهُم *** بالانتقامِ فهلاّ أنت منتقِمُ

وإنَّ أعجَبَ شيءٍ أن أبُثَّكها *** كأنَّ قلبَك خالٍ وهو محتدمُ

ما خلتُ تقعدُ حتى تُستثارُ لهُم *** وأنت أنت وهم في ما جَنَوْهُ همو

لم تُبقِ أسيافُهُم منكُم على ابنِ تُقىً *** فكيف تُبقي عليهم لا أباً لهمو

فلا وصَفْحِكَ إنَّ القومَ ما صَفحوا *** ولا وحِلمِك إنَّ القومَ ما حَلِموا

فحملَ أُمَّكَ قِدماً أسقطوا حَنَقاً *** وطفلَ جَدِّكَ في سهمِ الردى فطموا

لا صبرَ أو تضعَ الهيجاءُ ما حملت *** بطلقةٍ معها ماءُ المخاضِ دمُ

هذا المحرَّمُ قد وافتكَ صارخةً *** ممّا استحلُّوا بهِ أيَّامُهُ الحُرُمُ

يملأنَ سمعَك من أصواتِ ناعيةٍ *** في مسمعِ الدهرِ من إعوا لِها صَمَمُ

تنعى اليك دماءاً غابَ ناصرُها *** حتى أُرِيقت ولم يُرفعْ لكمُ عَلَمُ

مسفوحةً لم تُجَب عندَ استغاثتِها *** إلاَّ بأدمَعِ ثكلی شفَّها الأَلَمُ

حَنَّت وبينَ يَدَيها فتيةٌ شربَت *** من نحرِها نصبَ عينَيها الظُّبَا الخُذُمُ

موسَّدينَ على الرمضاءِ تنظُرُهُم *** حرَّى القلوبِ على وِردِ الرّدى ازدحموا

سُقياً لثَاوينَ لم تُبْلِلْ مضاجعَهُم *** إلاّ الدماءُ وإلاّ الأدمُُع السُّجُمُ

أفناهموا صبرُهُم تحتَ الظُّبا كرماً *** حتى قضَوا ورِداهم مِلؤُهُ كرمُ

وخائضينَ غمارَ الموتِ طافحةً *** أمواجُها البيضُ بالهاماتِ تلتِطمُ

مشَوا الى الحربِ مشيَ الضارياتِ لها *** فصارعوا الموتَ فيها والقَنَا أجَمُ

ولاَ غضاضةَ يومَ الطَّفِّ أن قُتِلوا *** صبراً بهيجاءَ لم تثبت لها قَدَمُ

فالحربُ تعلمُ إن ماتوا بها فلقد *** ماتت بها منهمُ الأسيافُ لا الهمَمُ

أبكيهمو لعوادي الخيلِ إن ركبت *** رؤوسَها لم تُكفكِفْ عزمَها اللُّجُمُ

وللسيوفِ إذا الموتُ الزؤامُ غدا *** في جَدِّها هو والأرواحُ يختصمُ

وحائراتٌ أطارَ القومُ أعيُنَها *** رُعباً غداةَ عليها خدرها هجموا

ص: 582

كانت بحيثُ عليها قومُها ضربت *** سُرادقاً أرضُهُ من عِزِّهِم حَرَمُ

يكادُ من هيبةٍ ألاّ يطوفَ بهِ *** حتى الملائِكُ لو لا أَّنمهُ خَدَمُ

فغودرت بينَ أيدي القومِ حاسرةً *** تُسبى وليس لها من فيهِ تعتصمُ

نَعَم لَوَت جيدَها بالعتبِ هاتفةً *** بقومِها وحَشاها مِلؤُه ضَرمُ

عجَّت بهم مُذ على أبرادِها اختلفت *** أيدي العدوِّ ولكن مَن لها بهمو

نادت ويا بُعدَهُم عنها مُعاتِبَةً *** لهمُ وياليتَهُم من عَتبِها أُمَمُ

قومي الأُولى عُقِدَت قدماً مآزِرهُم *** على الحميَّةِ ما ضِيموا ولا اهتُضِموا

عهدي بهم قصَرُ الأعمارِ شأنهُمُ *** لا َیهرمونَ ولِلهيَّيابَةِ الهرَمُ

ما با لُهُم لا عفَت منهمُ رسومهمُ *** فرُّوا وقد حملَتنا الأنُيُقُ الرُّسُمُ

يا غادياً بمطايا العزمُ حمَّلها *** همّاً تضيقُ بهِ الأضلاعُ والحُزُمُ

عَرِّج على الحيِّ من (عَمرِ العُلى) وأرَحْ *** منهم بحيثُ اطمأنَّ البأسُ والكرمُ

وحَيِّ منهُم حُماةً ليس بابنِهمو *** مَن لا يَرِفُّ عليه في الوغى العَلَمُ

المُشبِعينَ قِرىً طيرَ السَما ولهُم *** بمنعةِ الجارِ فيهِم يشهدُ الحَرَمُ

والهاشِمينَ وكُلُّ الناسِ قد علِموا *** بأنَّ للضيفِ وللسيفِ ما هشموا

كماةُ حربٍ تُرى في كلِّ باديةٍ *** قتلى بأسيافِهِم لم تَحوِها الرُّجُمُ

كأنَّ كُلُّ فلاً دارٌ لهُم وبها *** عيالُها الوحشُ أو أضيافُها الرّخمُ

قِفْ منهمو موقفاً تغلي القلوبُ بهِ *** من فورَةِ العتب واسألْ ما الذي يهمو

جَفَّت عزائمٌ فهرٍ ام تُرى بردَت *** منها الحميَّةُ أم قد ماتت الشِّيَمُ

أم لم تجد لذعَ عَتبي في حُشاشتِها *** فقد تَساقَط جمراً من فمي الكَلِمُ

أين الشهامةُ أم أينَ الحفاظُ أمَا *** يأبى لها شرفُ الأحسابِ والكرمُ

تُسبى حرائِرُها بالطفِّ حاسرةً *** ولم تكن بغبارِ الموتِ تلتثِمُ

لِمن أعَدَّت عِتاقَ الخيلِ إن قعدَت *** عن موقفٍ هُتِكت منها بهِ الحُرَمُ

ص: 583

فما اعتذارُكِ يا فهرٌ ولم تثبي *** بالبيضِ تُثلَمُ أو بالسُّمرِ تنحطِمُ

أَجَل نِساؤكِ قد هزَّتكِ عاتبةً *** وأنتِ من رقدةٍ تحتَ الثرى رقَمُ

فَلْتُلفِتِ الجيدَ عنكِ اليومَ خائبةً *** فما غناؤكِ حالت دونَكِ الرُّجُمُ

السيّد صالح الحلّي:

السيّد صالح الحلّي (1):

يا مدركَ الثارِ البدارَ البدارْ *** شنَّ علی حربِ عداكَ المغار

وأتِ بها شعواءَ مرهوبةً *** تعقِدُ أرضاً فوقَها من غبار

يا قمرَ التمِّ أما آنَ أنْ *** تبدو فقدْ طالَ علينا السرار

يا غيرةَ الله أما آنَ أنْ *** تُغيرُ أعدائكَ فالصبرُ غار

يا صاحبَ العصرِ أترضى رحى *** عصَّارةِ الخمرِ علينا تدار

فاشحذْ شَبا عضبِكَ واستأصلِ *** الكفرَ ولا تُبقي صغاراً كبار

عجّلْ فدتكَ النفسُ واشفي بهِ *** من غيضِ أعداكَ قلوباً حِرار

فهاكَ قلّبها قلوبَ الورى *** أذابها الوجدُ منَ الانتظار

قد ذهبَ العدلُ وركنُ الهدى *** قدْ هُدَّ والجورُ على الدينِ جار

أغثْ رعاكَ الله من ناصرٍ *** رعيةً ضاقتْ عليها القفار

متى تسلُّ البيضَ من غمدِها *** وتشرعُ السُمرَ و يُحيى الذمار

في فئةٍ لها التقى شيمةٌ *** ويالثاراتِ الحسينِ الشعار

كأنَّما الموتُ لهمْ غادةً *** والعمرُ مهرٌ والرؤوسُ النثار

تنسى على الدارِهجومَ العدى *** مذ أضرموا البابَ بجزلٍ ونار

ورُضَّ من فاطمةٍ ضلعُها *** وحيدرٌ يقادُ قسراً جهار

تعدو وتدعو خَلْفَ أعدائها *** يا قومٌ خلّوا عن علي الفخار

ص: 584


1- من لا يحضره الخطيب، ص 388 .

قدْ أسقطوا جنينَها واعترى *** من لطمةِ الخدِّ العيونَ احمرار

فما سقوطُ الحملِ ما صدرُها *** ما لطمُها ما عصرُها بالجدار

ما وكزُها بالسيفِ في ضلعها *** وما انتثارُ قرطِها والسوار

ما ضرُهبا بالسوطِ ما منعها *** عن البكا وما لها من قرار

ما دفنُها بالليلِ سراً وما *** نبشُ الثرى منهمْ عناداً جهار

تعساً لهم في ابنتهِ ما رعوا *** نبيَّهم وقدْ رعاهمْ مرار

قدْ ورثتْ من أمِّها زينبٌ *** كلَّ الذي جرى عليها وصار

وزادت البنتُ على أمِّها *** منْ دارِها تهدى الى شرِّ دار

تستُر باليمنى وجوهاً فإنْ *** أعوزَها الستُر تَمدُّ اليسار

لا تبزغي يا شمسُ كي لا تُرى *** زينبُ حسرى ما عليها خمار

صاحتْ بحادي العيسِ دعني على *** جسومِهمْ أُقيمُ لوثَ الازار

وخلّني عندَ ابن أمي ولو *** تأكلُ من لحمي وحوشَ القفار

وأعظمُ الخطبِ ترى حجةَ الله *** مضاماً بينهمْ لا يُجار

يقادُ في جامعةٍ جهرةً *** بالحبلِ موثوقاً يميناً يسار

السيّد رضا الهندي:

السيّد رضا الهندي (1):

يا صاحبَ الأمرِ أدركنا فليسَ لنا *** وردٌ هنيٌّ ولا عيشٌ لنا رَغُد

طالتُ علينا ليالي الانتظارِ فهلْ *** يا ابنَ الزكيِّ لِلَيلِ الانتظارِ غدُ

فاكحِلْ بطلعتِكَ الغرّا لنا مقلاً *** يكادُ يأتي علیإنسانها الرمدُ

ها نحنُ مرمىً لنبلِ النائباتِ وهلْ *** يُغني اطبارٌ وهى من درعهِ الزردُ

كم ذا يؤلفْ شملُ الظالمينَ لكمْ *** وشملُكمْ بيدي أعدائِكمْ بَددُ

ص: 585


1- من لا يحضره الخطيب، ص 390 .

فانهضْ فدتكَ بقايا أنفسٍ ظفرتْ *** بها النوائِبُ لما خانها الجلَدُ

هبْ أنَّ جندكَ معدودٌ فجدّكَ قدْ *** لا قى بسبعينَ جيشاً ما لَهُ عددُ

غداةَ جاهدَ من أعدائِهِ نفراً *** جدّوا بإطفاءِ نورِ الله واجتهدوا

وعصبة جحدوا حقَّ الحسينِ كما *** من قبلُ حقَّ أبيهِ المرتضى جحدوا

وعاهدوهُ وخانوا عهدَهُ وعلى *** غيرِ الخيانةِ للميثاقِ ما عهدوا

تجمعتْ عدةٌ منهمْ يضيقُ بها *** صدرُ الفضا ولها أمثالها مددُ

فشدَّ فيهم بأبطالٍ إذا برقتْ *** سيوفُهمْ مطروا حتفاً وما رعدوا

صالوا وجالوا وأدّوا حقَّ سيِّدهمْ *** في موقفٍ عقَّ فيهِ الوالدَ الولدُ

الشيخ محمّد حسين الأصفهاني:

بشراك يا فاتحة الكتاب *** بالمعجز الباقي مدى الاحقاب

منك اساس العدل والتوحيد *** منه بناء قصره المشيد

منك لواء الدين وهو حامله *** قام بحمله الثقيل كاهله

والمكرمات والمعالي كلها *** انت لها المبدئ وهو المنتهى

لك الهنا يا صاحب الولاية *** بنعمة ليس لها نهايه

انت من الوجود عين العين *** فكن قرير العين بالحسين

شبلك في القوة والشجاعه *** نفسك في العزة والمناعه

رافع راية الهدى بمهجته *** كاشف ظلمة العمى ببهجته

به استقامت هذه الشريعه *** به علت اركانها الرفيعة

بنى المعالي بمعالي هممه *** ما اخضر عود الدين الا بدمه

بنفسه اشترى حياة الدين *** فيالها من ثمن ثمين

احيى معالم الهدى بروحه *** داوى جروح الدين من جروحه

ص: 586

جفت رياض العلم بالسموم *** لو لم يردها دم المظلوم

فاصبحت مورقة الاشجار *** يانعة زاكية الثمار

اقعد كل قائم بنهضته *** حتى اقام الدين بعد كبوته

قامت به قواعد التوحيد *** مذ لجأت بركنها الشديد

واصبحت قويمة البنيان *** بعزته عزائم القرآن

غدت به سامية القباب *** معاهد السنة والكتاب

له مصائب تكلّ الألسن *** عنها فكيف شاهدتها الاعين

اعظمها رزء علی الاسلام *** سبي ذراري سيد الأنام

ضلالة لا مثلها ضلاله *** سبى بنات الوحي والرساله

وسوقها من بلد الى بلد *** بين الملا أشنع ظلم وأشد

وافظع الخطوب والدواهي *** دخولها في مجلس الملاهي

ولدغ حية لها بريقها *** دون وقوفها لدى طليقها

ويسلب اللب حديث السلب *** يا ساعد الله بنات الحجب

تحملت امية أوزارها *** وعارها مذ سلبت إزارها

وكيف يرجى الخير من خمارها *** تبت يد مدت الى خمارها

وادركت من النبي ثارها *** وفي ذراريه قضت اوتارها

واعجباً يدرك ثار الكفرة *** من اهل بدر بالبدور النيرة

فيا لثارات النبي الهادي *** بما جنت به يد الاعادي

وَمَنْ لَها إلّا الإمامِ المُنْتَظَر *** أعَزّه اللهُ بِفَتْحٍ وَظَفَر

ص: 587

ص: 588

الخاتمة

كانت سيرة النبی (صلی الله علیه و آله) درساً عملياً للامة، في كيفية التعامل مع المشركين والكتابيين والمنافقين.

وتعلمت الاُمة من الإمام الوصي (علیه السلام) كيفية التعامل مع البُغاة، والفتن الداخلية، والحركات الانقلابية.

وتعلمت من الإمام الحسن (علیه السلام) كيفية التعامل مع البُغاة والفتن الداخلية، حين يحيط الخطر بأصل الإسلام ومقدساته، مع عدم التمكن من دفع الخطر أو عند وجود مصالح أهم.

وتعلمت الاُمة من سيد الشهداء (علیه السلام) كيفية التعامل مع الحكام الظالمين الخائنين الجبابرة، حين يُخاطرون بالإسلام والامة.ُ

وتعلمت من باقي المعصومين كيفية التعامل مع الحكّام الظالمين في الظروف

المختلفة عن الظرف الحسيني.

ونتعلّم اليوم من إمام العصر والزمان -عجل الله تعالى له الفرج- أن لا نستسلم أبداً، وإنما ننتظر حتى يحين موعد الانطلاق لإسقاط عروش الظالمين، والى أن يحين الموعد، هناك مهام كثيرة علينا انجازها، منها تقوية العُلقة بالله تعالى والفناء فيه.

إن دراستنا للنهضة الحسينية تفيدنا تبصراً أكثر بحقيقتها وأهدافها وظروفها مما يُملي علينا موقفاً عقائدياً وفقهياً وسلوكياً نواجه به أعاصير الطغيان في أيامنا، فليست هي على نحو -القضية في واقعة- كما يُسبغ عليها البعض من إطار.

ص: 589

إن إدخال القضية الحسينية في هذا الإطار وإن كان له ما يبرّره نتيجةً للتامّل في مواضع مهمّةٍ منها، إلاّ انّ دراستها بامعان عبر التجوّل بين مختلف المصادر والتحليلات تلغي الكثير من علامات الاستفهام المطروحة من روّاد الحقيقة كما هو شأن المحبّين والمخلصين، بل من المرجفين، ومن قصيري النظر كذلك، وهم كُثْر.

ذلك لأنّ هذه الثورة المقدّسة وقعت محل اهتمام الأئمة (علیهم السلام) فكانوا دائمي التحدّث بها وعنها، وأضحت محل اهتمام الشيعة والناس عامة فأكثروا من الاستفسار حولها، وبالرغم من أجواء الكبت والضغط والحصار فإن الكثير مما يتعلق بهذه النهضة قد وصل إلينا، ويُمكن من خلال مقاييس معينة أن نحصل على يقين أو اطمئنان من قيمة هذا الواصل صدوراً أو رفضاً، فلا نبخس حق هذه الثورة، ولا نخرجها عن ساحة التأثير في حياتنا.

لقد نُظر إليها على انها:

أ- قضية في واقعة، وسرٌ من الأسرار.

ب- حكم تكليفي ظاهري، اكتملت له مستلزمات النصر، ثم حصل الانهيار فجأة.

ﺟ- تصميم على الشهادة، مع عدم تهيؤ ظرف الانتصار، إلاّ أن الأثر سيظهر على امتداد الزمان، وستنفخ تضحية الحسين الروح من جديد في جسم الاُمة، وتحرّك فيها غيرتها، لتثأر لله وللاسلام وللنبی (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته، بل تثأر لنفسها ولكرامتها المهدورة ولحقوقها السليبة، والتي استلبها اُرسّق الأُمّة، وأراذلها، في مؤامرةٍ واسعة النطاق، والاُمة تجري وراء هذا وذاك، فهذه تُتّبع لأنها زوجةٌ للنبی (صلی الله علیه و آله) ، وذاك يُتّبع لأنه خال المؤمنين، مع أن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) محرّر للامّة من الدجل والخرافات وعبادة الأوثان، وقد

ص: 590

منع زوجته تلك من الخروج، بأحاديث في كتب أنصارها مرويّة(1) -بل قد منعها الله تعالى من قبل بقوله سبحانه(وَقَرْنَ بُيُوتِكُنَّ) (2)- ولعن ذلك الخال (3)- بل قد أمر بقتله (4)- والذي قضى عمره :

قبل فتح مكة: بمحاربة الإسلام بكُلّ كيانه.

وبعد فتحها: يكفينا من أمره أن نحتكم الى عقل كل عاقل، فنقول له:

إذا قال رسول الله (صلی الله علیه و آله):

«من سبّ علياً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله، ومن سبّ الله عزّوجل أكبّه الله على منخريه». (5)

ومعاوية سبّ علياً (علیه السلام) علانيةً وجهارا، ومن وقائعه في هذا:

سبّه له أمام جيشه، وجيش الإمام الحسن(علیه السلام)، وبحضور أهل الكوفة عامة، بل بمحضر الحسن والحسين (علیهما السلام) - سيدي شباب أهل الجنة، وامامي الأُمة بنص رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالنصوص المتوفرة في كتب الجمهور-.

بل ما اكتفى بسبّه حتى أمر به، وعاقب تاركه، من أقصى العالم الإسلامي الى أقصاه، وجعله سُنّة، ومن أجزاء خطبة صلاة الجمعة من كل اسبوع.

فما حكم ذوي الدين على خال المؤمنين هذا ؟ا.

ص: 591


1- راجع: فضائل الخمسة، ﺟ 2 ص 369 ، ﺟ 2ص 375 .
2- سورة الأحزاب، الاية 33 .
3- أبو هريرة للسيد شرف الدين، ص 98 ﻫ 2، وبحار الأنوار، ﺟ 22 ص 416 .
4- فضائل الخمسة، ﺟ 3 ص 243 عن مصادر عدة منها ميزان الاعتدال للذهبي.
5- راجع: فضائل الخمسة من الصحاح الستة، السيد الفيروز آبادي، ﺟ 2 ص 224 ، فقد نقل هذا النص والمعنى عن مصادر عدّة، منها: مستدرك الصحيحين للحاكم، وذخائر العقبى للمحب الطبري، وغيرهما.

إنّ أفضل ما نختم به بحثنا هذا، ما ختم به الإمام السجاد (علیه السلام) صفحة الطف في مرحلتها الأُولى، وذلك بخطبته التي ألقاها في أهل مدينة الرسول (صلی الله علیه و آله) قبل دخول ركب الإمام (علیه السلام) وعائلة النبی (صلی الله علیه و آله) إليها، وقد خطب وهو جالسٌ على كرسي لما ألمّ به مِن مَرضٍ وألم، فقال(علیه السلام): «الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بَعُدَ فارتفع في السماوات العُلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأُمور، وفجائع الدهور، وألم الفواجع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة، الكاظّة، الفادحة، الجائحة.

أيها القوم: إن الله تعالى -وله الحمد- ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمةٍ في الإسلام عظيمة :

قُتلَ أبو عبد الله (علیه السلام) وعترته، وسُبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان، من فوق عامِل السّنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة.

أيها الناس، فأيّ رجالاتٍ منكم يُسرّون بعد قتله، أم أيّ فؤادٍ لا يحزن من أجله، أم أية عين منكم تحبس دمعها، وتضنّ عن انهمالها.

فلقد بكت السبع الشِداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان في لجج البحار، والملائكة المقرّبون، وأهل السماوات أجمعون.

أيها الناس: أيّ قلب لا ينصدع لقتله، أم أيّ فؤادٍ لا يحنّ إليه، أم أيّ سمعٍ يسمع هذه الثلمة التي ثُلمت في الإسلام ولا يُصَمّ.

أيها الناس: أصبحنا مطرودين مشرّدين، شاسعين عن الأمصار، كأننا أولاد تُركٍ أو كابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمةٍ في الإسلام ثلمناها، ما

ص: 592

سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، إن هذا إلاّ اختلاق.

والله، لو أن النبي تقدّم اليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنا إليه راجعون، من مصيبةٍ ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظّها، وأفظعها، وأفدحها، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وأبلغَ بنا، انه عزيزٌ ذو انتقام». (1)

وفي زيارة جابر بن عبدالله الأنصاري للإمام الحسين (علیه السلام) يوم الأربعين من استشهاده، عن عطية العوفي قال:

خرجت مع جابر بن عبد الله الانصاري (رحمة الله) زائرين قبر الحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام) فلما وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل ثم ائتزر بإزار، وارتدى بآخر، ثم فتح صرة فيها سعد فنثرها على بدنه، ثم لم يخط خطوة إلا ذكر الله حتى إذا دنا من القبر قال : ألمسنيه فألمسته فخر على القبر مغشيا عليه فرششت عليه شيئا من الماء فأفاق. ثم قال : يا حسين - ثلاثا - ثم قال:

حبيب لا يجيب حبيبه، ثم قال : وأنى لك بالجواب، وقد شحطت أوداجك على أثباجك وفرق بين بدنك ورأسك فأشهد أنك ابن النبيين وابن سيد المؤمنين، وابن حليف التقوى. وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيد النقباء، وابن فاطمة سيدة النساء، ومالك لا تكون هكذا وقد غذتك كف سيد المرسلين، وربيت في حجر المتقين، ورضعت من ثدي الإيمان، وفطمت بالإسلام، فطبت حيا وطبت ميتا غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة لفراقك ولا شاكّة في الخيرة لك فعليك سلام الله ورضوانه وأشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.

ثم جال ببصره حول القبر وقال :

السلام عليكم أيها الأرواح التي حلت بفناء الحسين، وأناخت برحله، أشهد أنكم .

ص: 593


1- السيدة زينب(علیها السلام) ، الشيخ باقر شريف القرشي، ص 320 .

أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وجاهدتم الملحدين، وعبدتم الله حتى أتاكم اليقين

والذي بعث محمدا بالحق لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.

قال عطية: فقلت لجابر: وكيف ولم نهبط واديا، ولم نعل جبلا، ولم نضرب بسيف، والقوم قد فرق بين رؤسهم وأبدانهم، واوتمت أولادهم وأرملت الأزواج ؟

فقال لي : يا عطية سمعت حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول : «من أَحَبّ قوماً حشر معهم، ومن أحبّ عمل القوم أُشرِك في عملهم».

والذي بعث محمداً بالحق نبيا إن نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه، خذوا بي نحو أبيات كوفان.

فلما صرنا في بعض الطريق فقال لي: يا عطية هل اوصيك؟ وما أظن أنني بعد هذه السفرة ملاقيك:

أَحِبّ محبّ آل محمد ما أحبّهم، وأبغض مبغض آل محمد ما أبغضهم، وإن كان صواما قواما، وارفق بمحب آل محمد فانه إن تزلّ «لهم» قدم بكثرة ذنوبهم، ثبتت لهم أخرى بمحبتهم، فإن محبهم يعود إلى الجنة، ومبغضهم يعود إلى النار (1). .

ص: 594


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ﺟ 65 ص 130 .

المصادر

1- القرآن الكريم

2- الإرشاد: الشيخ المفيد: محمد بن محمد بن النعمان المفيد البغدادي- تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام)لإحياءالتراث

3- الملهوف على قتلى الطفوف: السيد رضي الدين علي بن موسى بن طاووس الحلي - تحقيق: الشيخ فارس تبريزيان الحسون

4- الكاف: الشيخ الكليني: محمد بن يعقوب- تحقيق: الشيخ محمد جواد الفقيه

5- تهذيب الأحكام:الشيخ الطوسي: محمد بن الحسن- تحقيق: الشيخ محمد جواد الفقيه

6- الاحتجاج على أهل اللجاج:الشيخ الطبرسي: أحمد بن علي بن أبي طالب الإشراف على التحقيق: الشيخ جعفر سبحاني

7- تحف العقول:الشيخ الحراني: الحسن بن علي بن أبي شعبة

8- موسوعة كلمات الإمام الحسين (علیه السلام):لجنة

9- مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي:السيد محمد حسين الطباطبائي -تعريب: خالد توفيق

10- حياة الإمام الحسين بن علي (علیه السلام):الشيخ باقر شريف القرشي

11- الملحمة الحسينية:الشهيد الشيخ مرتضى المطهري

ص: 595

12- جهاد الإمام السجاد (علیه السلام):السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

13- العباس (علیه السلام):السيد عبد الرزاق المقرّم

14- مسلم بن عقيل (علیه السلام):السيد عبد الرزاق المقرّم

15- منتهى المقال في أحوال الرجال:الشيخ أبو علي الحائري: محمد بن إسماعيل- تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام)لإحياء التراث

16- الحسين (علیه السلام)سماته وسيرته:السيد محمد رضا الجلالي ترجمة مستقاة من تأريخ دمشق لابن عساكر

17- تحفة العالم في شرح خطبة المعالم:السيد جعفر بحر العلوم

18- مقتل الحسين (علیه السلام):السيد محمد بحر العلوم

19- معالم المدرستين:السيد مرتضى العسكري

20- الثورة الحسينية:الشهيد السيد عبد الحسين دستغيب

21- المقتل:أبو مخنف

22- تاج المواليد:الشيخ الطبرسي: الفضل بن الحسن - صاحب مجمع البيان، والتاج مطبوع حجرياً مع مجموعة بعنوان - مجموعة نفيسة-

23- تأريخ أهل البيت (علیهم السلام):لابن أبي الثلج البغدادي- تحقيق: مؤسسة ال البيت لإحياء التراث

24- مسند الإمام المجتبى:الشيخ عزيز الله العطاردي

25- فضائل الخمسة من الصحاح الستة:السيد مرتضى الحسيني الفيروز آبادي

26- نهج البلاغة:السيد محمد بن الحسين الرضي

27- الغدير:الشيخ عبد الحسين الأميني

ص: 596

28- على ضفاف الغدير:إعداد: مجموعةإشراف: السيد فاضل الميلاني

29- معجم رجال الحديث:السيد ابو القاسم الخوئي

30- نفحات الأزهار:السيد علي الميلاني

31- من لا يحضره الفقيه:الشيخ الصدوق: محمد بن علي بن بابويه

32- نسمة السحر فيمن تشيّع وشعر:الصنعاني

33- البحار:الشيخ محمد باقر المجلسي

34- تفسير كنز الدقائق:الشيخ محمد بن المشهدي

35- كشف الارتياب:السيد محسن الأمين

36- حديث الثقلين:السيد علي الميلاني

37- مسند الإمام الشهيد:الشيخ عزيز الله العطاردي

38- تأريخ المدينة:عمر بن شبة

39- الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء(علیها السلام): السيد عبد الحسين شرف الدين

40- المراجعات:السيد عبد الحسين شرف الدين

41- الفصول المهمة:السيد عبد الحسين شرف الدين

42- مرآة الكمال:الشيخ عبد الله المامقاني

43- بغية الباحث:التهيمي

44- مستدركات علم رجال الحديث:النمازي

45- المقتطفات:العيدروسي

ص: 597

46- أضواء على السنة المحمدية:الشيخ محمود أبو رية

47- ليالي بيشاور:سلطان الواعظين

48- الأنوار القدسية:الشيخ محمد حسين الاصفهاني

49- شذرات الذهب:ابن العماد

50- مجلة المنهاج:عن مركز الغدير

51- شواهد التنزيل:الحسكاني

52- تفسير الميزان:السيد محمد حسين الطباطبائي

53- الحجة الغراء على شهادة الزهراء:السبحاني

54- موسوعة الإمام المهدي (علیه السلام):السيد محمد الصدر

55- صلح الإمام الحسن:الشيخ راضي آل ياسين

56- أجوبة المسائل الحاجبية:الشيخ المفيد

57- بصائر الدرجات:محمد بن الحسن الصفار

58- ينابيع المودة:الشيخ سليمان الحنفي القندوزي

59- المقتل:السيد عبد الرزاق المقرم

60- النص والاجتهاد:السيد عبد الحسين شرف الدين

61- النصائح الكافية:محمد بن عقيل

62- الإبهاج

63- دراسات في ولاية الفقيه:الشيخ حسين علي المنتظري

64- المرجعية والقيادة:السيد كاظم الحائري

ص: 598

65- مجلة فقه أهل البيت:تصدر عن مؤسسة دائرة معارف الفقه الاسلامي

66- الحسين بن علي نحو معرفة أفضل:الشيخ محمد اليزدي

67- الشيعة في ايران:رسول جعفريان

68- وسائل الشيعة:الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي

69- بناء المقالة الفاطمية:السيد جمال الدين أحمد بن طاووس

70- جواهر الكلام:الشيخ محمد حسن النجفي

71- التنقيح:الميرزا علي الغروي

72- صراط النجاة:الميرزا جواد التبريزي

73- الاستغاثة:السيد علي بن أحمد الكوفي

74- السقيفة:سُليم بن قيس الهلالي

75- الكنى والألقاب:الشيخ عباس القمي

76- كشف اليقين:العلامة الحلي

77- النُصرة لسيد العترة:الشيخ المفيد

78- تحفة العالم:السيد جعفر بحر العلوم

79- كشف المحجّة:السيد رضي الدين بن طاووس

80- منع تدوين الحديث:السيد علي الشهرستاني

81- السيدة زينب:الشيخ باقر شريف القرشي

82- مقتل الحسين (علیه السلام):ابن أعثم

83- المنجد في اللغة:

ص: 599

84 الشيعة في الميزان:الشيخ محمد جواد مغنية

85- الجامع لمواضيع آيات القرآن:محمد فارس بركات

86- واقعة كربلاء:الشيخ محمد مهدي شمس الدين

87- مقباس الهداية:الشيخ عبد الله المامقاني

88- عقد الدرر:المقدسي الشافعي

89- الحديقة الهلالية:الشيخ البهائي

90- منتهى الآمال:الشيخ عباس القمي

91- الإمامة الإلهية:محمد سند

92- تنقيح المقال:الشيخ عبد الله المامقاني

93- صفات الشيعة:الشيخ الصدوق

94- كليات في علم الرجال:الشيخ السبحاني

95- كامل الزيارات:ابن قولويه

96- ضياء الصالحين:الحاج محمد صالح الجوهرجي

97- مفاتيح الجنان:الشيخ عباس القمي

98- مصباح الزائر:السيد رضي الدين بن طاووس

99- كربلاء فوق الشبهات:السيد جعفر مرتضى

100- أهل البيت في المكتبة العربية:السيد عبد العزيز الطباطبائي

101- الخصال:الشيخ الصدوق

102- من لا يحضره الخطيب:داخل السيد حسن

ص: 600

المحتويات

روايتان 3

التق ديم 5

آفاق الثورة الحسينية: 7

فائدة البحث في أطراف القضية الحسينية: 24

في رحاب حياة الإمام (علیه السلام) 27

الميلاد المبارك: 27

رحيل الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله): 31

فترة الوصي والمجتبى: 34

وأمّا حركة الحسين (علیه السلام) أيام المجتبى (علیه السلام): 39

الحسين بعد الحسن(علیهما السلام): 40

الإمام السبط قبل الطف 43

محمّد وآل محمّد(صلی الله علیه و آله) 51

آل أمية 57

أبو سفيان: 61

معاوية: 68

يزيد: 70

بنو أمية وعداواتهم لمحمدٍ وآل محمد(صلی الله علیه و آله) 81

ص: 601

انقلاب الأُمّة على الأعقاب 83

الأمر الأول: 87

النفاق والارتداد بعد رحيل النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله):

الجمهور والإطاعة المطلقة للجبابرة 105

الحسنان (علیهما السلام)ووجه الفرق بين موقفيه ما 111

مسُلمَّات 121

المُسَلَّمة الاولى: 121

المُسَلَّمة الثانية: 130

المُسَلَّمة الثالثة: 136

المُسَلَّمة الرابعة: 137

المُسَلَّمة الخامسة: 139

النصوص: 140

أسباب الثورة الحسينية 143

«الإسلام في خطر» 143

الكوفة كمنطلق للثورة، لماذا؟ 145

نقطة ابتداء الأحداث، والسبب الأول للثورة: 156

صلح الإمام الحسن(علیه السلام)، بل استشهاد أمير المؤمنين(علیه السلام) 157

عليّ، وحبّه، وفضائله، وشيعته 171

أيضاً في سبب الثورة 193

السرّ في النهضة أيام يزيد 207

مسار واحد أم متعدّد 239

ص: 602

دور الإمام (علیه السلام) في إنضاج الثورة، وإشعال فتيلها 243

أهل البيت دعوا الناس لاتّباعهم مرات. 245

مقوّمات الثّورة255

على طريق إنجاح الثورة 265

يوم عاشوراء: 273

استغاثة وغدر 277

أثر علم الإمام (علیه السلام) باستشهاده 283

هدف الحركة الحسينية 287

سرد مختصر لأحداث الحركة الحسينية 295

يوم عاشورا: 299

آل محمد أُسارى: 301

ابن محمّد وعلي في ساحة المعركة 307

صرخة في وجه الطاغوت 313

اختيار الموت 321

سياسة منع الماء 327

نُعرّج على كربلاء: 333

النزول على حكم ابن زياد: 336

منع الماء عن الحسين واسرته وصحبه: 336

أدعية الحسين (علیه السلام) في نهضته 341

موقف الإمام (علیه السلام) مِن أنصاره 347

سيد الشهداء (علیه السلام) وانصاره: 351

ص: 603

مسلم وما أدراك ما مسلم 361

المرأة في كربلاء 375

عَهدُ يزيد: 382

عود على بدء: 389

نساء بيت النبوّة: 391

المرأة في معركة الطف: 393

أسباب الانتكاسة 399

من الذي قتل الإمام407

تنبيه: 423

المرقد الطاهر 427

نتائج الطف 433

من نتائج الطف الانتقام الإلهي لسيد الشهداء(علیه السلام) 443

محمّد بن الحسن المهدي(علیه السلام) 354

موقف الإمام السجاد (علیه السلام) بعد الطف 461

الطواغيت في قلق دائم، والسبب: الحسين(علیه السلام) 469

زلزل تحتهم الأرض: 469

تيار منافق يوطّد حُكمه بهذا ونحوه: 470

ضلال ما بعده ضلال: وهذه واحدة من جرائم يزيد وبني أُمية. 473

واليوم: 473

علماء السوء حصنٌ للطواغيت 475

القضية الحسينية والوحدة الإسلامية 477

ص: 604

لعلّ هناك من يتساءل: 477

والجواب: 477

بل بقتل الحسين(علیه السلام): 480

شيعة الحسين(علیه السلام) 483

والخلل في توجههم: 485

إن نتيجة ما تقدّم: 487

إحياء عاشوراء 493

مراسم الإحياء: 498

أربعينية الإمام الحسين(علیه السلام) 507

استحباب الزيارة: 510

رجوع السبايا وزيارة جابر: 510

الجواب عن رجوع العائلة إلى كربلاء: 511

الزيارة 517

دروس من الثورة الحسينية 523

عاشوراء تنادي﴿الصلاة، الصلاة﴾ 531

دروس من توبة الحر 537

الدرس المقتبس من خطوات الحُرّ: 541

إساءات للثورة الحسينية 545

أدلّة الإثبات 553

المؤلفات في الحسين(علیه السلام) 559

مؤلفات جليلة: 562

ص: 605

الشعر: للتذكير بالحسين 567 (علیه السلام)

ذم القرآن الشعراء: 567

النصوص: 568

نصوص شعريّة 575

الشيخ محمّد جواد البلاغي: 575

الشيخ عبد الحسين شكر: 576

السيّد مهدي الأعرجي : 577

السيّد رضا الهندي: 578

السيّد محمّد القزويني: 580

السيّد حيدر الحلّی 581

السيّد صالح الحلّی 584

السيّد رضا الهندي: 585

الشيخ محمّد حسين الأصفهاني: 586

الخاتمة 589

المصادر 595

ص: 606

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.