التواضع رأس الخير وأساس العبادة

اشارة

الكتاب : التواضع رأس الخير وأساس العبادة .

تأليف: حسن الهاشمي.

الناشر: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة .

التدقيق اللغوي: موفق هاشم الرحال.

التصميم والاخراج الطباعي : علاء سعيد الأسدي.

المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر.

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: 2000.

ربيع الأول 1436 - كانون الثاني 2015

ص: 1

اشارة

التواضع رأس الخير و أساس العبادة

مقاربات في مديات التواضع مفهوما وفقها وتطبيقا

حسن الهاشمي

قسم الشؤون الفكرية والثقافية شعبة الدراسات والنشرات

كربلاء المقدسة

ص.ب (233) هاتف: 322900، داخلي: 175-193

www.alkafeel.net info@alkafeel.net

الكتاب : التواضع رأس الخير وأساس العبادة .

تأليف: حسن الهاشمي.

الناشر: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة .

التدقيق اللغوي: موفق هاشم الرحال.

التصميم والاخراج الطباعي : علاء سعيد الأسدي.

المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر.

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: 2000.

ربيع الأول 1436 - كانون الثاني 2015

ص: 2

كلمة لابد منها

هل نتواضع أم نتكبر؟! لعل الفطرة السليمة تقول نتواضع، أما النفس الأمارة بالسوء تنادي وبأعلى صوتها نتكبر، وطالما علمتنا التجارب أن المتواضع يحفر اسمه وحبه في قلوب الآخرين، على العكس تماما مما هو عليه المتكبر الذي يكون منبوذا ومحتقرا بين الناس أجمعين.

مرة يكون التواضع عن رفعة وقدرة وهو أفضل أنواعه، وتارة يكون عن نظير وهو أوسطها، وأخرى يكون لغنى وجاه وما شابه ذلك وهو أتعسها، والتواضع المطلوب عقلا و شرعا هو ذلك الذي يكون عن رفعة ونظير، إذ إن الباعث عنها سجية مغروسة في النفس تعطي ولا تأخذ وتهب ولا تنتظر، وإنما عطاؤها وهباتها يترتب عليها آثار وضعية

ص: 3

سرعان ما يقطف المتواضع ثمارها، لعل أهمها الرفعة والكرامة والمحبة في قلوب الناس.

ولكي تكرس هذا المفهوم المتعالي في نفسك ما عليك إلا أن تروضها بأمور قد تبدو صغيرة وحقيرة ولكنها في واقع الأمر كبيرة وعظيمة في صقل النفس وكبح جماح التكبر المنغرس فيها، وأول خطوة في هذا الاتجاه أن تبدأ بالسلام على من لقيته، وتليها الرضى بالدون من شرف المجلس، وهذه الأمور وغيرها تنمي شجرة التواضع في النفس البشرية وتقلع عنها أشواك الرياء والسمعة والكبر.

حري بنا كأمة تتطلع إزاء مستقبل واعد، وحري بالإنسانية المعذبة نتيجة المهاترات الناجمة عن حب النفس والتشبث بالأنانية والغرور والتباهي والتماهي، علينا جميعا إن أردنا النجاة إلى شاطئ الأمان، أمان الرفعة والكرامة والسيادة أن نسير على

ص: 4

نهج التواضع النير الذي ما سلكه سالك إلا ظفر ونجی وما تخلف عنه أحد إلا هلك وهوى، لهذا كله قمنا بهذا الجهد المتواضع لعله يكون المنجي والسبيل لتحقيق ما نصبو إليه من ايجاد أمة متراحمة تسودها المحبة والألفة والتواضع.

ص: 5

معا لنتصف بخصلة التواضع

التواضع وهو أن يرى الإنسان نفسه من حسن خلقه وجميل عشرته للناس أن لا يتعالى على أحد منهم ولا يرى أنه فوقهم، بل يشكر الله على كل نعمة فضله بها عليهم، ويعلم أن هذا كله من الله وإن شاء سبحانه سلب تلك النعم منه، فالتواضع يبدأ باحترام الناس حسب أقدارهم، وعدم الترفع عليهم، ويعد التواضع من أشرف الخصال وكيف لا؟! وهو خلق کریم، وخلّة جذابة، تستهوي القلوب، وتستثير الاعجاب والتقدير، ناهيك في فضله أن الله تعالى أمر حبيبه وسيد رسله (صلّی الله علیه وآله ) بالتواضع، فقال تعالى : «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » .(1)

وخفض الجناح هو مبالغة في التواضع وحب الخير

ص: 6


1- الشعراء: 215.

و اسداء المعروف للآخرين، والقائد الناجح هو الذي يتمتع بسعة الصدر والكياسة والتحمل ومداراة الناس، فهذه البصمات هي التي تحفر محبته في قلوبهم من دون استئذان، أما علاقة الظلمة والمستبدين بشعوبهم فمهما يلمعها الإعلام والمظاهر العامة على أنها واقعية، بيد أنها لا تعدو كالزبد المتجمع على سواحل البحار سرعان ما يذهب جفاء ويضمحل من دون رجعة.

ولقد كانت سيرة رسول الله (صلّی الله علیه وآله ) جامعة لجميع ما يحتوي عليه التواضع من تداعيات ومواقف وأقوال وأفعال وتقاریر، بريئة عن جميع ما يصدر من الكبر من الأفعال والحركات، فحري بكل مؤمن أن يقتدي به، وقد روى أبو سعيد الخدري أنه (صلّی الله علیه وآله ) هين المؤنة، لين الخلق، کریم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بسّاما من غير ضحك، محزونا من غير بؤس،

ص: 7

شديدا في غير عنف، متواضعا في غير مذلة، جوادا من غير سرف، رحيما لكل ذي قربی، قريبا من كل ذمي ومسلم، رقیق القلب، دائم الإطراق.

قال رسول الله (صلّی الله علیه وآله ) : «ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله، وطوبى لمن تواضع في غير مسكنة، وأنفق مالا جمعه من غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة»(1).

يتضح مما سبق أن التواضع هو أن تعطي الناس ما تحب أن تعُطى، وأن يكون هذا الخلق الرفيع سجية في الإنسان من دون تصنّع، وأن تكون نفسه منه في تعب والآخرين منه في راحة، يحب الخير للجميع كما يحبه لنفسه ويدفع عنهم الشر كما يدفعه عن نفسه، يتصف في علاقاته مع سائر الناس بالتسامح والإيثار والمواساة والسخاء والرحمة والعلم والمعرفة .

ص: 8


1- أمالي الطوسي، ج1 ص185.

وطالما كان التواضع حلها يراود المحسنين، لما له الأثر البالغ في صقل النفس الإنسانية إلى مدارج الكمال، والمتواضع يسعى حثيثا أن يرى انكسار و نفسه لكي يمنعها من أن ترى ذاتها متفوقة على الغير، وتلزمه أفعال وأقوال موجبة لاستعظام الغير وإكرامه، والمواظبة عليها أقوى معالجة لاستدامة التواضع ولإزالة الكبر وروي أن الله سبحانه أوحی إلى موسی علي(علیه السّلام) : إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ولم يتعاظم على خلقي، وألزم قلبه خوفي وقطع نهاره بذكري، وكف نفسه عن الشهوات من أجلي .

من صفات الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين التواضع أمام جبار السماوات والأرض، فالكبرياء رداء الله تعالى ولا يليق بأحد كائنا من يكون إلا به، فالتواضع لكبرياء الله وعظيم خلقه وأمره، هو زوج في الحقيقة عزة وكرامة وسؤدد وسداد، والتواضع لله

ص: 9

تعالى بمثابة جهاز شحن للمتواضع عند معاشرته السائر الناس، وعدم الاستعلاء عليهم، فالله تعالى يتقبل الأعمال من المتواضع لأنه أقرب إلى الإخلاص والتوجه والانقطاع إليه من غيره فيما إذا شاب عمله شيئا من الكبر والرياء والسمعة.

أفضل أنواع التواضع واتعسها

إن سيرة العقلاء والتجربة الانسانية تؤكد أن الذي يتواضع يرتفع شأنه بين الناس ويكون محبوبا في محيطه الاجتماعي ويضع الجميع ثقتهم وما يملكون لمن هو متواضع يألف ويؤلف دمث الأخلاق طيب العشرة، بخلاف المتكبر فإن علية القوم وكل من يحمل بصمات العزة والكرامة يبتعد عنه لئلا يصاب بظلمه وسوء خلقه الوضيع، فسنة الله في الكون تكمن في أن المتواضع في تألق ورفعة مستمرة والمتكبر في انحطاط ووضعة متعاقبة، وهذا هو السر الكامن

ص: 10

من إشراقة صفحة الأنبياء والأولياء وعتمة صفحة الظالمين والطواغيت عبر التاريخ.

وأفضل أنواع التواضع هو أن يكون مع الرفعة و والقوة کالعفو مع القدرة، وجاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء، طلباً لما عند الله، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء إتكالاً على الله».

وفي موضع آخر من نهج البلاغة يصف فيه التواضع المكروه والممقوت بقوله: «من أتى غنيا فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه».(1)

وجدير بالذكر أن التواضع الممدوح، هو المتسم بالقصد والاعتدال الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، فالإسراف في التواضع داع إلى الخسّة والمهانة، والتفريط فيه باعث على الکِبر والأنانية.

ص: 11


1- نهج البلاغه، خطب الإمام علي (علیه السّلام) ، ج4 ص 95.

وعلى العاقل أن يختار النهج الأوسط، المبرّأ من الخسّة والأنانية، وذلك بإعطاء كل فرد ما يستحقه من الحفاوة والتقدير، حسب منزلته ومؤهلاته.

لذلك لا يحسن التواضع للأنانيين والمتعالين على الناس بزهوهم وصلفهم، إن التواضع والحالة هذه مدعاة للذل والهوان، وتشجيع لهم على الأنانية والكبر، كما يقول المتنبي:

إن أنت أكرمت الكريم ملكته ***وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

وفي المثل: «تواضع الرجل في مرتبته، ذبّ للشماتة عند سقطته» فالتواضع المتزن أن تعطي كل ذي حق حقه في الاحترام والتقدير من دون إفراط و أو تفريط، فالحالة الوسطى في التعامل الأخلاقي مع الناس هي التي تسحب البساط من تحت أقدام و المتربصين والمتصيدين بالماء العكر، إذ أنها بعيدة عن

ص: 12

مهاترات التكبر والذلة ولا يزال الإنسان يقطف ثمارها سواء كان قائما بالأمر أو قاعدا عنه .

هل التواضع يشمل الفاسق؟؟

قد يتبادر سؤال لدى الكثير وهو كيف يحسن أن يتواضع العالم الورع للجاهل الفاسق ويراه خيرا من نفسه مع ظهور جهله وفسقه؟! علما أن العالم يقطع باتصاف نفسه بالعلم والورع، وكيف يجوز له أن يحب فاسقا أو كافرا أو مبتدعا ويتواضع له ولا يعاديه، مع أنه مبغوض عند الله فيكون مأمورا يبغضه، والحال أن الجمع بين التواضع والبغض جمع بين النقيضين؟!

والجواب: إن حقيقة التواضع ألّا يرى النفس لذاتها مزية وخيرية حقيقية على الغير، لا أن لا يرى مزية لذاتها عليه في الصفات الظاهرة التي يحزم باتصاف نفسه بها أو عدم اتصافه بها كالعلم والعبادة

ص: 13

والسخاوة والعدالة والاجتناب عن الاموال المحرمة وغير ذلك.

والمناط بالمزية الواقعية حسن الخاتمة وهو أمر مبهم، إذ العواقب مطوية على العباد، فيمكن أن يسلم الكافر ويختم له بالإيمان، ويضل العالم الورع ويختم له بالكفر، وعلى كل عبد إن رأى من هو شرا منه ظاهرا أن يقول: لعله ينجو وأهلك أنا، وبالجملة ملاحظة الخاتمة والسابقة والعلم بأن الكمال في القرب من الله وسعادة الآخرة دون ما يظهر في الدنيا من الأعمال الظاهرة يوجب نفي الكبر والتواضع لكل أحد.

إضافة إلى ذلك فإن حب الفاسق والتواضع له ينبغي أن يكون لأجل ملاحظة الخاتمة، والبغض و عليه هو لأجل ما ظهر منه من الكفر والفسوق، وأي منافاة بين الغضب الله في صدور معصية من عبد وبين عدم الكبر؟! إذ الغضب إنما هو الله لا

ص: 14

لنفسك، ويكون خوفك على نفسك مما علم الله من خفايا ذنوبك أكثر من خوفك عليه مع الجهل بالخاتمة، فليس من الضروري الغضب لله أن تتكبر على الفاسق وتری قدرك فوق قدره، ومثال ذلك أن يكون لملك غلام وولد، وقد وكّل الملك الغلام على ولده بأن يراقبه ويضربه مهما أساء الأدب، ويغضب عليه إذا اشتغل بها لا يليق به، فإن كان الغلام مطيعا محبا لمولاه يغضب عليه إذا ساء أدبه امتثالا لأمر مولاه، ومع ذلك يحبه لانتسابه إلى مولاه بالولادة، ولا يتكبر عليه ويتواضع له، ویری قدره عند مولاه فوق قدر نفسه، لأن الولد أعز لا محاله من الغلام.

وللتواضع طرفان، فكما أن الكبر وهو من طرف الافراط مذموم فكذلك المذلة والتخاسس أيضا مذموم وهو من طرف التفريط، والمحمود هو التواضع من دون الخروج إلى شيء من طرفيه، وهو

ص: 15

أن يعطي كل ذي حق حقه وهو العدل - کما بینا سابقا۔

من نتائج التواضع

الطبع البشري يأبى التكبر وينساق ازاء خصال التواضع وعدم التكلف في الأقوال والمواقف، ربما الخصلة الوحيدة التي تأسر القلوب وتستحوذ على العقول أن ترى إنسانا فيه مقومات التكبر بيد أنه يدخل مدينة التواضع من أوسع أبوابها، تراه عصاميا يحمل شخصية ذات جاذبية مألوفة ومقبولة بعيدة عن التصنع والرياء، تتسم فيه الخير وتألفه لا يلتقي أحدا إلا ويرى له الفضل عليه، هذا هو مربط الفرس في التقمص برداء التواضع دونما تكلف واصطناع.

وفي هذا المضمار قال رجل لآخر علمني التواضع فقال: إذا رأيت من هو أكبر منك فقل : سبقني إلى العمل الصالح فهو خير مني، وإذا رأيت من هو أصغر منك فقل سبقته إلى الذنوب والعمل السيء

ص: 16

فأنا شر منه، هذا الإحساس إذا ما تولد عند المرء فإنه بذلك أرسى للتواضع أسسه الصحيحة وبني عليه بنيانه المتين الذي يمكن رؤية تداعياته من خلال تصرفاته وأقواله، فإنه يرشح من هكذا متمرس في خفض الجناح أن يرضى بالدون من شرف المجلس، ويبدأ بالسلام على من لقيه، ويترك المراء وإن كان محقا - والمراء هو الطعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه ولإظهار التفوق عليه . ولا يجب أن يحمد على التقوى، ويكره الرياء والسمعة.

الانسان كلما عرف قدره وجوهره و أصل خلقته ووجوده كلما توغل أكثر في التواضع والتذلل لا سيما للمؤمنين الذي يشاطرونه المعتقد نفسه، ولا يزال المتواضع يرتفع شأنه بين الناس ويلمع نجمه في و الآفاق مادام على نيته الصادقة بأن تواضعه لسجية في نفسه وليس لها دواع نفعية أخرى، وقد قيل في

ص: 17

التواضع:

تواضع لرب العرش علّك ترفع *** فما خاب عبد للمهيمن يخضع

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر *** على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسه *** إلى طبقات الجو وهو وضيع

ومن نتائج و ثمرات ما ذكرنا آنفا يمكن جني القطاف الآتية:

1- انتشار المحبة والمودة بين الناس.

2- العيش في مجتمع متجانس تسوده السلامة والأمان.

3- اضفاء هالة المهابة والاحترام على المتواضع بين اقرانه واصدقائه.

4- الطاعة والشكر للخالق العظيم على سوابغ

ص: 18

النعم وفواضل الكرم.

5- نشر الفضيلة والأخلاق الحميدة بين شرائح المجتمع.

أهل البيت قمة في التواضع

واليك طرفاً من فضائل أهل البيت (علیهم السّلام) ، وتواضعهم المثالي الفريد: كان النبي (صلّی الله علیه وآله ) أشدَّ الناس تواضعاً، وكان إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل، وكان في بيته في مهنة أهله، يحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويحمل بضاعته من السوق، ويجالس الفقراء، ويواكل المساكين.

وكان (صلّی الله علیه وآله ) إذا سارّه أحد، لا ينحّي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحّي رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر، وما قعد اليه رجل قط فقام (صلّی الله علیه وآله ) حتى يقوم، وكان يبدأ من لقيه

ص: 19

بالسلام، ويبادئ أصحابه بالمصافحة، ولم يُرقط ماداً رجليه بين أصحابه، یکرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويكّني أصحابه، ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمةً لهم، ولا يقطع على أحد حديثه، وكان يقسّم لحظاته بين أصحابه، وكان أكثر الناس تبسماً وأطيبهم نفساً وعن أبي ذر الغفاري: كان رسول الله (صلّی الله علیه وآله ) يجلس بين ظهرانيّ أصحابه، فيجئ الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا اليه أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكاناً من طين فكان يجلس عليها، ونجلس بجانبه ورُوي أنه(صلّی الله علیه وآله ) كان في سفر، فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: یا رسول الله عليّ ذبحها، وقال آخر: علي سلخها، وقال آخر: عليَّ طبخها، فقال(صلّی الله علیه وآله ) : وعليَّ جمع الحطب.

فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك. فقال: قد علمت أنكم تكفوني، ولكن أكره أن أتميَّز علیکم، فإن الله

ص: 20

يكره من عبده أن يراه متميَّزاً بين أصحابه، وقام فجمع الحطب . وروي أنه خرج رسول الله(صلّی الله علیه وآله ) إلى بئر يغتسل، فأمسك حذيفة بن اليمان بالثوب على رسول الله (صلّی الله علیه وآله ) وستره به حتى اغتسل، ثم جلس حذيفة ليغتسل، فتناول رسول الله (صلّی الله علیه وآله ) الثوب، وقام يستر حذيفة، فأبي حذيفة، وقال: بأبي وامي أنت یا رسول الله لا تفعل، فأبی رسول الله إلّا أن يستره بالثوب حتى اغتسل، وقال: ما اصطحب اثنان قط، إلّا وكان أحبهما إلى الله أرفقهما بصاحبه.(1)

أن لا تتعالى على الناس هي خصلة جميلة تعطي أكلها سریعا بين الناس، ولعل العظماء الذين يسيطرون على القلوب يتسمون بهذه الخصلة المباركة، ولا أخطى إذا أشرت إلى أن الأنبياء والأولياء جميعهم كانوا يتصفون نفسيا بهذا الخلق

ص: 21


1- ينظر سفينة البحار ج 1 ص415- 416

الكريم، بيد أن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه وآله ) يقف على رأس قائمة المتواضعين حتى أشار القرآن الكريم على خلقه بقوله: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ».(1) حيث إن المرتبطين بالله هم الذروة في التواضع ومعطياته، ولا تبلغ الرفعة والمحبوبية والسمعة الحسنة بين الناس أوجها إلّا بقدر قربها واندکاکها بالرضا الإلهي، فما كان الله ينمو، وما كان لغيره قد يكون ناؤه موسمیا ولكنه سرعان ما تذروه الرياح وتفسده الشمس.

وهكذا كان أمير المؤمنين(علیه السّلام) في سمو أخلاقه وتواضعه، قال ضرار وهو يصفه (علیه السّلام) : «كان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا

ص: 22


1- آل عمران:159.

دعوناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيّانا، وقربه منا، لا نكاد نکلمه هيبة له، فإن تبسَّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين، ويقرّب و المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله». وقال الإمام الصادق (علیه السّلام) :

«خرج أمير المؤمنين(علیه السّلام) على أصحابه، فمشوا خلفه، فالتفت إليهم فقال: لكم حاجة؟ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ولكنّا نحب أن نمشي معك. فقال لهم: انصرفوا، فإن مشي الماشي مع الراكب، مفسدة للراكب، ومذلة للماشي».(1)

وهكذا يقص الرواة طرفاً ممتعاً رائعاً من تواضع الأئمة الهداة (علیهم السّلام) وكريم أخلاقهم، فمن تواضع الإمام الحسين (علیه السّلام): أنه مرّ بمساكين وهم يأكلون كِسراً لهم على كساء، فسلَّم عليهم، فدعوه إلى

ص: 23


1- المحاسن الأحمد البرقي، ج2 ص 629.

طعامهم، فجلس معهم وقال: لولا أنّه صدقة لأكلت "معكم. ثم قال : قوموا إلى منزلي، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم.(1)

ومن تواضع الإمام الرضا(علیه السّلام) : قال الراوي: كنت مع الرضا(علیه السّلام) في سفره الى خراسان، فدعا يوماً بمائدة، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلت: جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال: «مه، إنّ الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال» (2)، وهذا غيض من فيض قصص أهل بيت الرحمة (علیهم السّلام) في التواضع واكتفينا بهذه العجالة خوفا من الإطالة.

التواضع سمة العظماء ووظيفة العلماء

بما أن التواضع هو الذي يرفع من شأن الانسان

ص: 24


1- مناقب ابن شهر آشوب ج3 ص222.
2- الكافي، ج8 ص 230.

ويقذف الله تعالى محبته في قلوب الناس، ترى العظماء الذين عزفوا عن زبارج الدنيا الفانية هم المتواضعون حقا، وإنهم يتصفون بهذه الصفة وهي معجونة في ذواتهم، ولا تزال تلك الذوات تتضوع من نسائم التواضع بعيدا عن عواصف الرياء والتبجح والتباهي والخداع، ومن هذا المنطلق تجد الناس يلتفون حول المتواضع ويثقون به من صميم قلوبهم لأنه سيد الخصال الأخلاقية دون منازع، ولا يلجأ إليه إلّا من امتحن الله تعالى قلبه بالإيمان ووجده صابرا عند الهزاهز والشدائد، لما توجد عند بني البشر من نوازع الكبر والظهور والتعالي، فإن القاهر لهذه النوازع إنما يتحلى بقدر كاف من العفة والورع يستطيع بهما التغلب على هواه والسير على جادة الحق مهما كلفه من نصب ولغوب.

وحينما يكون التواضع سجية عند الإنسان فإنه

ص: 25

يتعامل بمفرداتها مع جميع الشرائح على حد سواء، ولا يريد بذلك سوى رضا الله تعالى وتنفيذ أوامره التي هي- بلا شك - تضفي على الإنسان هالة وقداسة خاصة لا يمكن تلمسها حتى عند السلاطين والملوك، بل إنها مختصة بمن اصطفى الله تعالى من عباده المكرمين.

لما جعل سلمان الفارسي واليا على المدائن، رکب حماره و عزم على السفر إليها لوحده، ولما وصل الخبر لأهل المدائن، هرعوا لاستقباله خارج المدينة، وبعد أن طوي المسافة وهو شيخ كبير وكان يمتطي حمارا له والتقى وجها لوجه مع مستقبليه من أهل المدائن.

فسألوه: أيها الشيخ أين وجدت أميرنا؟!

قال: من هو أميركم؟

قالوا: سلمان الفارسي من أصحاب رسول الله(صلّی الله علیه وآله ) .

ص: 26

قال: أنا سلمان ولست بأمير، فارتجل الناس إكراما واجلالا له، وقدموا له من الخيول الأصيلة الركوبه.

فقال: ركوب هذا الحمار أفضل عندي ومناسب لشأني، ولما وصل المدينة أرادوا أن يأخذوه إلى دار الإمارة.

فقال لهم: أنا لست بأمير حتى أذهب لدار الإمارة، فاستأجر دكانا في السوق، يدير أمور الدين والدنيا منه، وكان ما يملكه من الأثاث: وسادة وإناء ماء وعصا.

الذين يمشون على الأرض هونا

بخطوات ثابتة متزنة هينة خالية من التبختر والتباهي والاستعلاء، تراه يمشي ويحث الخطى من دون أن يتأذى منه أحد، إنه هين لين في مشيته في

ص: 27

سلوكه في تصرفاته، وكيف لا يكون كذلك وهو من أدّبه الرحمن بأدبه فكان من عباده المكرمين الصديقين و قولا وعملا، وليس لله عز وجل عبادة يقبلها ويرضاها إلا وبابها التواضع، قال الله تعالى: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا » (1).

نعم إن التواضع مزرعة الخضوع والخشوع والحياء، وإن هذه الخصال لا يأتين إلّا منها وفيها، ولا يسلم الشرف التام إلّا للمتواضع، وإنه لا يزال يقف عند حقوق الإخوان يؤديها على أحسن ما يرام، يتواصل مع الجميع، يشد من أزرهم، يقضي حوائجهم، يسهل أمورهم، يفعل كل ذلك بلا منة أو أذى أو رياء، وإنما هي شجرة مغروسة في نفسه، سقاها ونماها بإيمانه والتزامه بالأوامر الإلهية، وما

ص: 28


1- الفرقان: 63.

أن تثمر وتونع وتخضر وتعشوشب حتى يستظل بها القاصي والداني والغريب والقريب، يرتعون ويأكلون ولكن كل حسب وسعه وكل حسب طاقته و وما يحمل من وعاء.

وخلاصة القول إن التواضع المطلوب والممدوح والمحمود هو ما عرفه سيدنا الإمام الكاظم (علیه السّلام) حينما قال: «التواضع أن تعطي الناس ما تحب أن تعطاه»، وسئل عن حد التواضع الذي إذا فعله العبد كان متواضعا، فقال: «التواضع درجات: منها أن يعرف المرء قدر نفسه، فينزلها منزلتها بقلب سليم لا يحب أن يأتي إلى أحد إلا مثل ما يؤتى إليه، إن رأي سيئة درأها بالحسنة، كاظم الغيظ عاف عن الناس، والله يحب المحسنين»(1).

ص: 29


1- جامع السعادات، محمد مهدي النراقي، ج 1 ص 311.

المحتويات

كلمة لابد منها .....3

معا لنتصف بخصلة التواضع .....6

أفضل أنواع التواضع واتعسها .......10

هل التواضع يشمل الفاسق؟! .....13

من نتائج التواضع ....16

أهل البيت قمة في التواضع ....19

التواضع سمة العظماء ووظيفة العلماء......24

الذين يمشون على الأرض هونا.....27

ص: 30

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.