الوسيط في اصول الفقه: كتاب يبحث عن الادلة اللفظية و العقلية بين الايجاز و الاطناب

اشارة

عنوان قراردادي:الوسيط في اصول الفقه: كتاب يبحث عن الادلةاللفظية و العقلية بين الايجاز و الاطناب

عنوان و نام پديدآور:الوسيط في اصول الفقه/ تاليف جعفر السبحاني

مشخصات نشر:دارالجواد(ع) - بيروت - لبنان

مشخصات ظاهري:2ج.

شابك:160000 ريال: ج.1 978-600-316-066-8 : ؛ 160000 ريال: ج.2 978-600-316-067-5 : ؛ 250000 ريال(ج.2،چاپ سوم)

وضعيت فهرست نويسي:فاپا

يادداشت:فارسي- عربي.

يادداشت:ج.2 (چاپ اول: 1392).

يادداشت:ج.2(چاپ سوم : 1395).

يادداشت:عنوان ديگر: الوسيط في اصول الفقه.

يادداشت:كتابنامه.

عنوان ديگر:الوسيط في اصول الفقه.

موضوع:اصول فقه شيعه

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (1) ) التوبة: 122

ص: 3


1- سوره 9 - آيه 122

ص: 4

مقدمة المؤلف

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد للّه ربّ العالمين، و الصّلاة و السلام علي أفضل خليقته، و أشرف بريّته، و خاتم رسله، محمّد و علي آله حفظة سننه، و عيبة علمه، و خزنة سره، صلاة دائمة ما دامت السماء ذات أبراج، و الأرض ذات فجاج.

أمّا بعد، فقد ألّفتُ في سالف الزمان كتاب »الموجز في أُصول الفقه« للمبتدئين في دراسة هذا الفن، توخّيت منه التعرض لأهمّ المسائل الأُصولية بنحو موجز يتلاءم مع روح العصر و قد انكبَّ عليه الدارسون بالبحث و المطالعة حتي غدا محور الدراسة في الجامعات الإسلامية.

و لمّا كانت الغاية من تأليفه هو بيان أُمّهات المسائل الأُصولية علي وجه الايجاز، فقد أوجزت الكلام في بعض المسائل، و تركت التعرّض لبعضها الآخر رعاية لحال الدارسين،فدعا الأمر إلي تأليف كتاب آخر يتميز عن سابقه بميزتين:

1. تبسيط ما أوجز في الكتاب الأوّل.

2. طرح المسائل الأُصولية التي لم نتعرض إليها في الموجز.

و ربما مست الحاجة إلي تكرار بعض ما ذكرناه في »الموجز« حفظاً لنظام البحث و تسلسله و ليعلم انّ المتن الدراسي يتميز عن غيره بمزية خاصة و هي انّه يأخذ علي عاتقه التعبير عن المطالب و المحتويات بأقصر العبارات و أوجزها،

ص: 5

خالية من التعقيد و الغموض.

و علي ذلك جري ديدن القدماء في تأليف المتون الدراسية و قد راعينا هذا الأُسلوب في كتابنا، و احترزنا عن الاسهاب و الاطناب كما احترزنا عن التعقيد و حرصنا علي أن تكون لغته علي مستوي اللغة الدارجة في الحوزة العلمية.

و اسميته ب»الوسيط« لتوسطه بين الايجاز و التبسيط.

و نستهلُّ البحث بنبذة موجزة عن تاريخ علم الأُصول و كيفية نشوئه و تكامله و الأدوار التي مرّ بها و الجهود التي بُذلت بغية ارساء قواعده.

و ختاماً أرجو من اللّه سبحانه أن ينتفع به رواد هذا العلم و ينير لهم الدرب في تذليل الصعوبات التي تعترض سبيلهم.

ص: 6

إلماع إلي تاريخ علم الأُصول

الإسلام عقيدة و شريعة; فالعقيدة هي الإيمان باللّه سبحانه و صفاتِه و التعرّفُ علي أفعاله، و الشريعة هي الأحكام و القوانين الكفيلة ببيان وظيفة الفرد و المجتمع في حقول مختلفة تجمعها العبادات، و المعاملات، و الإيقاعات، و السياسات.

فالمتكلِّم الإسلامي مَن تكفّل ببيانِ العقيدة و برهَن علي الإيمان باللّه سبحانه و صفاتِه الجمالية و الجلالية، و أفعاله من لزوم بعث الأنبياء و الأوصياء لهداية الناس و حشرهم يوم المعاد.

كما أنّ الفقيه من قام ببيان الأحكام الشرعية الكفيلة بإدارة الفرد و المجتمع، و التنويه بوظيفتهما أمام اللّه سبحانه و وظيفة كلّ منهما بالنسبة إلي الآخر.

بيد أنّ لفيفاً من العلماء أخذوا علي عاتقهم بكلتا الوظيفتين، فهم في مجال العقيدة أبطال الفكر و سنامه، و في مجال التشريع أساطين الفقه و أعلامه، و لهم الرئاسة التامّة في فهم الدين علي مختلف الأصعِدة.

إنّ علم أُصول الفقه يعرّف لنا »القواعدَ الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية و ما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل«، و قد سُمِّي بهذا الاسم لصلته الوثيقة بعلم الفقه، فهو أساس ذلك العلم و ركنه، و عماد الاجتهاد و سناده.

الاجتهاد: عبارة عن بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية، أو الوظائف

ص: 7

العمليّة من مصادرها، و هو رمز خلود الدين و حياته، و جعله غضّاً طريّاً، مصوناً عن الاندراس عبْر القرون و مغنياً المسلمينَ عن التطفّل علي موائد الأجانب، و يتّضح ذلك من خلال أُمور:

1. انّ طبيعة الدين الإسلامي أي كونه خاتم الأديان إلي يوم القيامة تقتضي فتح باب الاجتهاد لما سيواجه الدين في مسيرته من أحداث و تحدّيات مستجدَّة، و موضوعات جديدة لم يكن لها مثيل أو نظير في عصر النص، فلا محيص عن معالجتها إمّا من خلال بذل الجهود الكافية في فهم الكتاب و السنّة و غيرهما من مصادر التشريع و استنباط حكمها، و إمّا باللجوء إلي القوانين الوضعية، أو عدم الفحص عن حكمها و إهمالها.

و الأوّل هو المطلوب، و الثاني يكوّن نقصاً في التشريع الإسلامي، و هو سبحانه قد أكمل دينه بقوله:

( اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (1) ) (2) و الثالث لا ينسجم مع طبيعة الحياة و نواميسها.

2. لم يكن كل واحد من أصحابِ النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) متمكناً من دوامِ الحضورِ عنده(صلي الله عليه و آله و سلم) لأخذ الأحكام عنه، بل كان في مدّة حياته يحضره بعضهم دون بعض، و في وقت دون وقت، و كان يسمع جواب النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) عن كلّ مسألة يسأل عنها بعض الأصحاب و يفوت عن الآخرين، فلمّا تفرّق الأصحاب بعد وفاته(صلي الله عليه و آله و سلم) في البلدان، تفرّقت الأحكام المروية عنه(صلي الله عليه و آله و سلم) فيها، فتُروي في كلّ بلدة منها جملة، و تُروي عنه في غير تلك البلدة جُملة أُخري، حيث إنّه قد حضر المدنيّ من الأحكام، ما لم يحضره المصري، و حضر المصريّ ما لم يحضره الشاميّ، و حضر الشاميّ ما لم يحضره البصري، و حضر البصري ما لم يحضره الكوفي إلي غير ذلك، و كان كل منهم3.

ص: 8


1- سوره 5 - آيه 3
2- . المائدة:3.

يجتهد فيما لم يحضره من الأحكام. (1)

إنّ الصحابي قد يسمع من النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) في واقعة، حكماً و يسمع الآخر في مثلها خلافه، و تكون هناك خصوصية في أحدهما اقتضت تغاير الحكمين غفل أحدهما عن الخصوصية، أو التفت إليها و غفل عن نقلها مع الحديث، فحصل التعارض في الأحاديث ظاهراً، و لا تنافي واقعاً; و من هذه الأسباب و أضعافِ أمثالها احتاج حتي الصحابة الذين فازوا بشرف الحضور، في معرفة الأحكام إلي الاجتهاد و النظر في الحديث، و ضمّ بعضه إلي بعض، و الالتفات إلي القرائن الحالية، فقد يكون للكلام ظاهر، و مراد النبي خلافه اعتماداً علي قرينة في المقام، و الحديث نُقِلَ و القرينة لم تنقل.

و كلُّ واحد من الصحابة، ممّن كان من أهل الرأي و الرواية، تارة يروي نفس ألفاظ الحديث، للسامع من بعيد أو قريب، فهو في هذا الحال راو و محدث، و تارة يذكر الحكم الذي استفاده من الرواية، أو الروايات بحسب نظره و اجتهاده فهو في هذا الحال، مفت و صاحب رأي. (2)

3. و هناك وجه ثالث و هو انّ صاحبَ الشريعة ما عُني بالتفاصيل و الجزئيات لعدم سنوح الفرص ببيانها، أو تعذر بيان حكم موضوعات لم يكن لها نظير في حياتهم، بل كان تصوّرها لعدم وجودها أمراً صعباً علي المخاطبين، فلا محيص لصاحبِ الشريعةِ عن إلقاء أُصول كلية ذات مادة حيويّة قابلة لاستنباط الأحكام وفقاً للظروفِ و الأزمنة.

4. انّ حياة الدين مرهونة بمدارسته و مذاكرته و لو افترضنا أنّ النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) ذكرة.

ص: 9


1- . المقريزي: الخطط:2/333.
2- . أصل الشيعة و أُصولها: 147، طبعة القاهرة.

التفاصيل و الجزئيات و أودعها بين دفّتي كتاب ، لاستولي الركود الفكري علي عقلية الأُمة، و لانحسر كثير من المفاهيم و القِيَم الإسلامية عن ذهنيّتها، و أوجب ضياع العلم و تطرق التحريف إلي أُصوله و فروعه حتي إلي الكتاب الذي فيه تلك التفاصيل.

علي هذا، لم تقم للإسلام دعامة،و لا حُفِظَ كِيانُه و نظامه، إلاّ علي ضوء هذه البحوث العلمية و النقاشات الدارجة بين العلماء، أو ردّ صاحب فكر علي ذي فكر آخر بلا محاباة.

ص: 10

تاريخ أُصول الفقه عند الشيعة الإمامية

اشارة

لم يكن علم الأُصول بمحتواه أمراً مغفولاً عنه في عصر الأئمّة(عليهم السلام) ، فقد أملي الإمام الباقر (عليه السلام) و أعقبه الإمام الصادق(عليه السلام)علي أصحابهما قواعد كلّية في الاستنباط، رتّبها بعض الأصحاب علي ترتيب مباحث أُصول الفقه.

و ممن ألّف في ذلك المضمار:
1. المحدّث الحرّ العاملي(المتوفّي 1104ه)

مؤلف كتاب :»الفصول المهمة في أُصول الأئمّة« و هذا الكتاب يشتمل علي القواعد الكلية المنصوصة في أُصول الفقه و غيرها.

2. السيد العلاّمة الشبّر عبد اللّه بن محمد الرضا الحسيني الغروي(المتوفّي 1242ه)

له كتاب »الأُصول الأصلية«.

3. السيد الشريف الموسوي، هاشم بن زين العابدين الخوانساري الاصفهاني، له كتاب: »أُصول آل

الرسول«، و قد وافته المنيّة عام 1318 ه.

فهذه الكتب الحاوية علي النصوص المروية عن أئمة أهل البيت في القواعد و الأُصول الكلية في مجال أُصول الفقه، تعرِبُ عن العناية التي يوليها أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) لهذا العلم.

و قد تبعهم أصحابهم، منهم:
اشارة

ص: 11

1. يونس بن عبد الرحمن(المتوفّي 208ه)

يقول النجاشي: كان يونس بن عبد الرحمن وجهاً في أصحابنا، متقدّماً، عظيم المنزلة، روي عن أبي الحسن موسي و الرضا(عليهما السلام). فقد صنف كتابَ: »اختلاف الحديث و مسائله« (1) و هو قريب من باب التعادل و الترجيح في الكتب الأُصولية.

2. أبو سهل النوبختي إسماعيل بن علي(237 311ه)

يقول النجاشي :كان شيخ المتكلمين من أصحابنا و غيرهم، له جلالة في الدنيا و الدين، إلي أن قال: له كتاب »الخصوص و العموم«،و »الأسماء و الأحكام«. (2)

و يقول ابن النديم: هو من كبار الشيعة، و كان فاضلاً عالماً متكلّماً، و له مجلس يحضره جماعة من المتكلّمين، إلي أن قال: له كتاب »إبطال القياس«. (3)

3. الحسن بن موسي النوبختي

عرّفه النجاشي بقوله: شيخنا المتكلّم، المبرّز علي نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة و بعدها. و ذكر من كتبه»خبر الواحد و العمل به«. (4)

يقولُ ابن النديم: الحسن بن موسي ابن اخت أبي سهل بن نوبخت، متكلّم فيلسوف، كان يجتمع إليه جماعة من النقَلة لكتب الفلسفة. (5)

ص: 12


1- . رجال النجاشي:2/420 برقم 1209.
2- . رجال النجاشي:1/121 برقم 67.
3- . الفهرست: 225.
4- . رجال النجاشي:1/179 برقم 146.
5- . الفهرست: 225.

يقول ابن حجر: الحسن بن موسي النوبختي، أبو محمد من متكلّمي الإمامية، و له تصانيف كثيرة. (1)

أُصول الفقه و أدواره
اشارة

اجتاز علم الأُصول من لدن تأسيسه إلي زماننا هذا مرحلتين، و لكلّ منهما أدوار، و امتازت المرحلة الثانية بالإبداع و الابتكار و طرح مسائل مستجدّة لم تكن مذكورة في كتب الفريقين.

المرحلة الأُولي: مرحلة النشوء و الازدهار
اشارة

ابتدئتْ المرحلةُ الأُولي منذُ أوائل القرن الثالث إلي عصر العلاّمة الحلي(726648) و قد اجتازت أدواراً ثلاثة.

الدور الأوّل:(دور النشوء)

و قد بُدئ هذا الدور بإفراد بعض المسائل الأُصولية بالتأليف دون أن يعمَّ كافّة المسائل المعنونة في هذا العلم يومذاك، و لم نقف في هذا الدور علي كتاب عام يشمل جميع مسائله، و قد عرفت أنّ يونس بن عبد الرحمن صنَّف كتابَ »علل الحديث« ، و أبا سهل النوبختي كتابَ »الخصوص و العموم« و »إبطال القياس«، و الحسن بن موسي النوبختي كتاب »خبر الواحد و العمل به« و بالرغم من ذلك فقد ازدهرتْ حركة الاستنباط و الاجتهاد بين أصحابنا في هذا الدور، فهذا هو »الحسن بن علي العماني« شيخ فقهاء الشيعة، المعاصر للشيخ الكليني(المتوفّي 329 ه) ألّف كتاب »المتمسِّك بحبل آل الرسول«.

ص: 13


1- . لسان الميزان:2/258، برقم 175.

يقول النجاشي: أبو محمد العماني، فقيه متكلّم، ثقة، له كتب في الفقه و الكلام، منها كتاب »المتمسّك بحبل آل الرسول « كتابٌ مشهورٌ في الطائفة.

و قيل: ما ورد الحاج من خراسان إلاّ طلَب و اشتري منه نسخاً. (1)

كما ألّف الشيخ الكبير أبو علي الكاتب الإسكافي(المتوفّي381ه) كتاب »تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة« في الفقه، و هو كتابٌ كبيرٌ جامعٌ، ذكر فهرس كتبه، الشيخ النجاشي في رجاله، و له كتاب »الأحمدي في الفقه المحمدي«.

يقول النجاشي: وجهٌ في أصحابنا، ثقةٌ، جليلُ القدرِ، صنّف فأكثر. (2)

الدور الثاني:(دور النمو)
اشارة

إنّ حاجة المستنبط في علم الأُصول لم تكن مقصورة علي عصر دون عصر، بل كلّما تقدّمتْ عجلة الحضارة نحوَ الإمام، ازدادت الحاجة إلي تدوين قواعد الاستنباط للإجابة علي الحوادث المستجدّة و ملابساتها التي كان الفقهاء يواجهونها طيّ الزمان، مما ترك تأثيراً إيجابياً علي علم الأُصول و ساهم في نموّه، فأفردوا جميع المسائل(بدل البعض كما في الدور الأوّل) بالتأليف، و قد تحمّل ذلك العبء ثلّة من أساطين العلم و سنامه، منهم:

4. محمد بن محمد بن النعمان المفيد(336 413ه)

هو شيخنا و شيخ الأُمّة محمد بن محمد بن النعمان المشهور بالمفيد، صنف كتاباً باسم »التذكرة بأُصول الفقه« و طبع في ضمن مصنّفاته (3) و نقل خلاصته شيخنا الكراجكي(المتوفّي 449ه) في كتابه »كنز الفوائد«.

ص: 14


1- . رجال النجاشي:1/153.
2- . رجال النجاشي:2/306: برقم 1048.
3- . المؤتمر العالمي بمناسبة الذكري الألفيّة لوفاة الشيخ المفيد، المصنّفات: 9/5.
5. الشريف المرتضي(355 436ه)

هو السيد الشريف علي بن الحسين المعروف بالمرتضي.

قال عنه النجاشي: حاز من العلوم ما لم يدانه أحد في زمانه، و سمع من الحديث فأكثر، و كان متكلماً، شاعراً، أديباً، عظيم المنزلة في العلم و الدين و الدنيا، و عدّ من كتبه »الذريعة« (1) و قد طبع الكتاب في جزءين طباعة منقّحة، و قد عثرت علي نسخة خطية منها في مدينة »قزوين« جاء في آخرها انّ المؤلف فرغ من تأليفها عام 400ه، و قد نقل عنه جلُّ من تأخّر من السنّة و الشيعة.

6. سلاّر الديلمي(المتوفّي 448 ه)

هو سلاّر بن عبد العزيز الديلمي. يعرّفه العلاّمة بقوله: شيخنا المقدّم في الفقه و الأدب و غيرهما، كان ثقة وجهاً ألّف »التقريب في أُصول الفقه«، ذكره في الذريعة. (2)

7. الشيخ الطوسي(385 460ه)

هو محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي.

يقول عنه النجاشي: أبو جعفر، جليل من أصحابنا، ثقةٌ، عينٌ، من تلامذة شيخنا أبي عبد اللّه المفيد، و عدَّ من كتبه كتاب »العدّة في أُصول الفقه« (3)، و قد طُبِع غير مرّة، و هو كتابٌ مفصلٌ مبسوطٌ يحتوي علي الآراء الأُصولية المطروحة في عصره.

ص: 15


1- . رجال النجاشي: 1/102 برقم 706.
2- . الذريعة: 365 4/ و ذكر أنّه توفّي في السفر سنة 448.
3- . رجال النجاشي:2/332 برقم 1069.
الدور الثالث:(دور الازدهار)
اشارة

بدأ هذا الدور منذ أواخر القرن السادس إلي أواسط القرن الثامن، و قد صنف أصحابنا كتباً خاصّة في أُصول الفقه تعرب عن الإنجازات الضخمة، و المنزلة الراقية التي بلغها علمُ الأُصول من خلال دراسة مسائله باسهاب و دقّة و إمعان أكثر، و من المصنّفين في هذا الحقل:

8. ابن زهرة الحلبي(511 558ه)

هو الفقيه البارع السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي مؤلف كتاب »غنية النزوع إلي علمي الأُصول و الفروع« و كتابه هذا يدور علي محاور ثلاثة، العقائد و المعارف، أُصول الفقه، و الفروع.و قد طبع الكتاب محقّقاً في مؤسسة الإمام الصادق(عليه السلام) في جزءين، و الناظر في قسم أُصول الفقه يري فيه التفتح و الازدهار بالنسبة إلي ما سبقه.

9. سديد الدين الحمصي(المتوفّي نحو 600 ه)

هو الشيخ سديد الدين محمود بن علي بن حسن الحمصي الرازي و قد صنف »كتابه المنقذ من التقليد، و المرشد إلي التوحيد« عام 581ه في الحلة الفيحاء عند منصرفه من زيارة الحرمين بالحجاز. (1)

قال منتجب الدين الرازي: الشيخ الإمام سديد الدين علاّمة زمانه في الأُصوليين، ورع ثقة، و ذكر مصنّفاته الّتي منها: »المصادر في أُصول الفقه« و »التبيين و التنقيح في التحسين و التقبيح«. (2)

ص: 16


1- . لاحظ المنقذ من التقليد: 17، مقدّمة المؤلف.
2- . الفهرست: برقم 389.
10. نجم الدين الحلي(602 676ه)

هو نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا الهذلي الحلي، المكنّي بأبي القاسم، الملقّب بنجم الدين، و المشتهر بالمحقّق.

قال ابن داود في رجاله:جعفر بن الحسن، المحقّق المدقّق، الإمام، العلاّمة، واحد عصره كان ألسَنَ أهل زمانه، و أقومهم بالحجة، و أسرعهم استحضاراً، قرأت عليه و ربّاني صغيراً، و كان له عليّ إحسان عظيم،و ذكر من تآليفه:»المعارج في أُصول الفقه« (1) و قد طبع غير مرّة، و هو و إن كان صغير الحجم، لكنّه كثير المعني شأنُ كلِّ ما جادت به قريحتُه في عالم التأليف، فهذا كتابه»شرائع الإسلام« عكف عليه العلماء في جميع الأعصار، و كتبوا عليه شروحاً و تعاليق و قد طبع في إيران و لبنان.

و قال في أعيان الشيعة: و من كتبه »نهج الوصول إلي معرفة علم الأُصول«. (2)

11. العلاّمة الحلّي(648 726ه)

الحسن بن يوسف المطهر المعروف بالعلاّمة الحلّي و هو غنيٌّ عن التعريف، برع في المعقول و المنقول، و تقدَم علي العلماء الفحول و هو في عصر الصبا، أخذ عن فقيه أهل البيت الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن، خاله، و من أبيه سديد الدين يوسف بن مطهر الحلّي، و أخذ العلوم العقلية عن نصير الدين الطوسي و غيره.

ص: 17


1- . رجال ابن داود: 83.
2- . أعيان الشيعة:4/92. لاحظ الذريعة: 24/426.

و قد ألّف في غير واحد من الموضوعات: النقلية و العقلية، كما ألّف في أُصول الفقه تصانيف عديدة ذكرها السيد الأمين في »أعيان الشيعة« نشير إليها:

1. النكت البديعة في تحرير الذريعة للسيد المرتضي.

2. غاية الوصول و إيضاح السبل في شرح مختصر منتهي الوصول لابن الحاجب.

3. »مبادئ الوصول إلي علم الأُصول« مطبوع في ذيل المعارج للمحقّق.

4. »نهاية الوصول إلي علم الأُصول« في أربعة أجزاء. (1)

5. »تهذيب الوصول في علم الأُصول« صنّفه باسم ولده فخر الدين، و هو مطبوع.

و قد كتب عليه شروح و تعاليق مذكورة في أعيان الشيعة. (2)

12. عميد الدين الأعرجي(المتوفّي عام 754 ه)

عبد المطلب بن أبي الفوارس بن محمد بن علي الأعرجي الحسيني ابن أُخت العلاّمة الحلّي.

وصفه الشهيد الأوّل بقوله: السيد، الإمام، فقيه أهل البيت(عليهم السلام) في زمانه، عميد الحقّ و الدين، أبو عبد اللّه عبد المطلب بن الأعرج الحسيني.

كما وصفه غيره بقوله: درّة الفخر و فريد الدهر، مولانا الإمام الرباني و هو ابن أُخت العلاّمة الحلّي (رحمه الله) و قد ألّف كتباً كثيرة في الفقه و غيره، كما ألّف في أُصول الفقه كتابه »منية اللبيب في شرح التهذيب« (3) لخاله العلاّمة الحلي و قد فرغ منه في

ص: 18


1- . نحتفظ بنسخة منها في مكتبة مؤسسة الإمام الصادق(عليه السلام) في قم المقدّسة.
2- . أعيان الشيعة:5/404.
3- . نحتفظ بنسخة من هذا الكتاب في مكتبة مؤسسة الإمام الصادق(عليه السلام) في قم المقدّسة. و ربما ينسب المنية لأخيه ضياء الدين الأعرجي و النقول في تهذيب الأُصول لعميد الدين.

الخامس عشر من رجب سنة 740ه. (1)

13. ضياء الدين الأعرجي

هو السيد ضياء الدين عبد اللّه بن أبي الفوارس ابن أُخت العلاّمة الحلّي فقد شرح كتاب تهذيب الأُصول لخاله و أسماه »النقول في تهذيب الأُصول«، و قام الشهيد بالجمع بين الشرحين و أسماه »جامع البين الجامع بين شرحي الأخوين«.

14. فخر المحقّقين(682 771ه)
اشارة

هو محمد بن الحسن نجل العلاّمة الحلّي، فقد شرح تهذيب والده و أسماه »غاية السئول في شرح تهذيب الأُصول«.

كان الأمل أن يواكب التأليفُ تقدّمَ العصر و لكن الركب توقف عن متابعة هذا التطور و أخلد إلي الركود، فلا نكاد نعثر علي تصانيف أُصولية بعد شيخنا عميد الدين إلاّ ما ندر كمقدّمة المعالم للمحقّق الشيخ حسن صاحب المعالم، نجل الشهيد الثاني(المتوفّي 1011 ه). قد صار محور الدراسة قرابة أربعة قرون و عكف عليه العلماء بالتعليقة و الشرح.

نعم انصبّت الجهود علي تدوين القواعد الفقهية و تنظيمها بشكل بديع نستعرض بعضها:

1. محمد بن مكي المعروف ب»الشهيد الأوّل«(786734ه) قد ألّف كتاب »القواعد و الفوائد« و قد استعرض فيه 302 قاعدة، و مع الاعتراف بفضله و تقدّمه في التأليف، لم يفصل القواعد الفقهية عن الأُصولية أو العربية، كما لم

ص: 19


1- . السيد الخوانساري: روضات الجنات: 261.

يرتِّب القواعد الفقهية علي أبواب الفقه المشهورة ممّا حدا بتلميذه المقداد عبد اللّه السيوري بترتيب تلك القواعد كما سيوافيك.

2. الفقيه المتبحر و الأُصولي المتكلّم مقداد بن عبد اللّه السيوري(المتوفّي 826ه) من أكابر رجال العلم و التحقيق، فقد قام بترتيب كتاب القواعد لشيخه الشهيد و سمّاه ب »نضد القواعد الفقهية علي مذهب الإمامية« و قد طبع محقّقاً عام(1404ه).

3. الشيخ الأجل زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد المعروف ب»الشهيد الثاني« (966911ه)، ولد في عائلة نذرت نفسها للدين و العلم، و قد ألّف في غير واحد من الموضوعات و من آثاره كتابه:»تمهيد القواعد« جمع في هذا الكتاب بين فني تخريج الفروع علي الأُصول و تخريج الفروع علي القواعد العربية، و هو كتاب قلّ نظيره عظيم المنزلة ، طبع مرّة مع كتاب الذكري للشهيد الأوّل، كما طبع أخيراً محقّقاً في مشهد الإمام الرضا استعرض المؤلِّف فيه مائتي قاعدة و فرغ منها في مستهل عام 958ه.

***

عصر النكسة و الركود

ظهرت الأخبارية في أواخر القرن العاشر و بداية القرن الحادي عشر علي يد الشيخ محمد أمين الاسترابادي(المتوفّي1033 ه) فشنَّ حملة شعواء علي الأُصول و الأُصوليّين و زيّف مسلك الاجتهاد المبني علي القواعد الأُصولية، و زعم انّ طريقة أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)و أصحابه تخالف ذلك المسلك، فممّا قاله في ذم الاجتهاد:

ص: 20

و أوّل من غفل عن طريقة أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) و اعتمد علي فن الكلام، و علي أُصول الفقه المبنيّين علي الأفكار العقلية المتداولة بين العامة، محمد بن أحمد ابن الجنيد العامل بالقياس، و حسن بن علي بن أبي عقيل العماني المتكلم، و لما أظهر الشيخ المفيد حسنَ الظن بتصانيفهما بين أصحابه منهم السيد الأجل المرتضي، و شيخ الطائفة شاعت طريقتهما بين متأخري أصحابنا، حتي وصلت النوبة إلي العلاّمة الحلّي، فالتزم في تصانيفه أكثرَ القواعد الأُصولية من العامة، ثمّ تبعه الشهيدان و الفاضل الشيخ علي رحمهم اللّه تعالي. (1)

أقول: الأخبارية منهج مبتدع، و لم يكن بين علماء الشيعة إلي زمان ظهورها منهجان متقابلان متضادان في مجال الفروع باسم المنهج الأُصولي و الأخباري حتي يكون لكل منهج مبادئ مستقلة يناقض أحدهما الآخر، بل كان الجميع علي خطّ واحد، و كان الاختلاف في لون الخدمة و كيفية أداء الوظيفة.

يقول شيخنا البحراني: إنّ العصر الأوّل كان مملوءاً من المجتهدين و المحدّثين مع أنّه لم يرتفع بينهم مثل هذا الخلاف و لم يطعن أحد منهم علي الآخر بالاتصاف بهذه الأوصاف و إن ناقش بعضهم بعضاً في جزئيات المسائل. (2)

و العجب انّ الشيخ الاسترابادي(رحمه الله) استدلّ علي انقسام علماء الإمامية إلي أخباريّين و أُصوليّين بأمرين:

1. ما ذكره شارح المواقف، حيث قال:

كانت الإمامية أوّلاً علي مذهب أئمّتهم حتي تمادي بهم الزمان فاختلفوا و تشعّب متأخّروهم إلي المعتزلة و إلي الأخباريين، و ما ذكره الشهرستاني في أوّلة.

ص: 21


1- . الفوائد المدنيّة: 44، الطبعة الحجريّة.
2- . الحدائق الناضرة: 1701/167، المقدمة الثانية عشرة.

كتاب الملل و النحل: من أنّ الإمامية كانوا في الأوّل علي مذهب أئمّتهم في الأُصول ثمّ اختلفوا في الروايات عن أئمّتهم حتي تمادي بهم الزمان، فاختارت كلّ فرقة طريقة، فصارت الإمامية بعضها معتزلة إمّا وعيدية و إمّا تفضيلية، بعضها أخبارية مشبِّهة و إمّا سلفية.

2. ما ذكره العلاّمة في »نهاية الوصول إلي علم الأُصول« عند البحث عن جواز العمل بخبر الواحد، فقال:

أمّا الإمامية فالأخباريون منهم لم يعولوا في أُصول الدين و فروعه إلاّ علي أخبار الآحاد، و الأُصوليّون منهم كأبي جعفر الطوسي و غيره وافقوا علي خبر الواحد و لم ينكره سوي المرتضي و أتباعه.

لكن كلا الشاهدين أجنبيان عمّا يرومه الأمين.

أمّا الشاهد الأوّل: فقد نقله بالمعني، و لو نقل النصّ بلفظه لظهر للقارئ الكريم ما رامه شارح المواقف، و إليك نصه:...و تشعب متأخّروهم إلي »المعتزلة«: إمّا وعيدية أو تفضيلية(ظ.تفضلية) و إلي »أخبارية« يعتقدون ظاهر ما ورد به الأخبار المتشابهة، و هؤلاء ينقسمون إلي »مشبّهة« يجرون المتشابهات علي أنّ المراد بها ظواهرها، و »سلفية« يعتقدون أنّ ما أراد اللّه بها حقّ بلا تشبيه كما عليه السلف و إلي ملتحقة بالفرقة الضالة«.

و بالتأمل في نصّ كتاب المواقف يظهر فساد الاستنتاج، و ذلك لأنّ مسلك الأخبارية الذي ابتدعه الشيخ الأمين ليس إلاّ مسلكاً فقهياً قوامه عدم حجّية ظواهر الكتاب أوّلاً، و لزوم العمل بالأخبار قاطبة من دون إمعان النظر في الاسناد، و علاج التعارض بالحمل علي التقية و غيرها ثانياً، و عدم حجّية العقل في استنباط الأحكام ثالثاً.

ص: 22

و ما ذكره شارح »المواقف« و »الشهرستاني« من تقسيم الشيعة إلي أخبارية و غيرها راجع إلي المسائل العقائدية دون الفقهية، فعلي ما ذكراه فالشيعة تشعّبت في تفسير الصفات الخبرية كاليد و الاستواء و الوجه و غير ذلك ممّا ورد في الأخبار بل الآيات إلي طوائف ثلاث:مشبِّهة، و سلفية، و ملتحقة بالفرق الضالة.

و الحكم بأنّ ما ذكره شارح المواقف راجع إلي المسلك الذي ابتدعه الاسترآبادي عجيب جداً مع اختلافهما في موضوع البحث، فأين العمل بظواهر الأخبار في صفاته سبحانه، عن الأخبارية التي ابتدعها الأمين الاسترآبادي في سبيل استخراج الأحكام الشرعية من الكتاب و السنة، مضافاً إلي أنّ مسلكه مبني علي أسس و قوائم لم تكن معروفة عند غيره.

و أمّا الشاهد الثاني أعني ما ذكره العلاّمة، فهو أيضاً لا يمتُّ بصلة إلي مسلك الأخبارية المبتدَع، بل هو راجع إلي مسألة خلافية بين علماء الإمامية منذ زمن بعيد، و هو هل الخبر الواحد حجّة في الأُصول كما هو حجّة في الفروع أو لا؟ فالمحدّثون و الذين سبروا غور الأخبار، ذهبوا إلي القول الأوّل، و الأُصوليون الذين حكَّموا العقل في مجال العقائد قالوا بالثاني.

فالأخباري في كلام العلاّمة هو ما يمارس الخبر و يدوّنه شأن كل محدّث، لا من يسلك مسلك الأخباريّين في استنباط الأحكام الشرعية.

إنّ هذه الفكرة الخاطئة الشاذة عن الكتاب و السنّة و إجماع الأصحاب الأوائل شغلت بال العلماء من أصحابنا ما يقرب من قرنين، و أضحت تلك البرهة فترة ركود الأُصول و تألق نجم الأخبارية، فتري أنّ أكثر مؤلّفاتهم تعلو عليها صبغة الأخبارية، و هم بين متطرِّف كالأمين الاسترابادي، و معتدل كالشيخ يوسف البحراني(المتوفّي 1186ه) صاحب الحدائق الناضرة.

ص: 23

و من سوء الحظ انّ النزاع بين أصحاب المسلكين لم يقتصر علي نطاق المحافل العلمية، بل تسرّب إلي الأوساط العامة و المجتمعات، فأُريقت دماء طاهرة و هتكت أعراض من جرّاء ذلك، و قتل فيها الشيخ أبو أحمد الشريف محمد بن عبد النبي المحدِّث النيسابوري المعروف بميرزا محمد الأخباري (12331178ه) لمّا تجاهر بذمِّ الأُصوليين قاطبة و النيل منهم، فلقي حتفه عند هجوم العامة عليه عن عمر يناهز 55 عاماً.

بالرغم من الهجوم العنيف الذي شنّه الأمين الأسترآبادي و أتباعه علي الحركة الأُصولية، نري أنّ هناك من أخذ بزمام الحركة بتأليف كتب استطاعت حينها أن تصمد بوجه الأخبارية و تذود عن كيانها و قاموا بمحاولات:

15. الفاضل التوني(المتوفّي 1071 ه)

هو عبد اللّه بن محمد التوني البشروي. وصفه الحر العاملي بقوله: عالم، فاضل، ماهر، فقيه، صنّف »الوافية« في أُصول الفقه فرغ منها عام 1059 ه، و قد طبعت و انتشرت و له حاشية علي معالم الأُصول.

16. حسين الخوانساري(المتوفّي 1098 ه)

هو المحقّق الجليل السيد حسين بن محمد الخوانساري مؤلّف كتاب »مشارق الشموس في شرح الدروس« و كتابه هذا يشتمل علي أغلب القواعد الأُصولية و الضوابط الاجتهادية، طرح فيه أفكاراً أُصولية بلون فلسفي.

17. محمد الشيرواني(المتوفّي 1098ه)

هو محمد بن الحسن الشيرواني.

له تعاليق علي »المعالم« و مصنّفات جمة، مثل حاشية علي »شرح المطالع«

ص: 24

و أُخري علي »شرح المختصر« للعضدي.

18. جمال الدين الخوانساري(المتوفّي عام 1121 ه أو 1125)

هو المحقق الكبير جمال الدين محمد بن الحسين الخوانساري، له تعليقة علي شرح مختصر الأُصول للعضدي كما هو مذكور في ترجمته.

و هذه الكتب المؤلفة في فترة انقضاض الحركة الأخبارية علي المدرسة الأُصولية مهّدت لظهور حركة أُصولية جديدة تبنّاها المحقّق الوحيد البهبهاني(1118 1206 ه) الذي فتح بأفكاره آفاقاً جديدة في علم الأُصول.

إلي هنا تمت المرحلة الأُولي التي طواها علم الأُصول و حان استعراض المرحلة الثانية التي هي مرحلة الإبداع و الابتكار.

المرحلة الثانية مرحلة الإبداع و الابتكار
اشارة

ابتدأت هذه المرحلة من عصر المحقّق البهبهاني و امتدت إلي يومنا هذا، مع ما لها من أدوار مختلفة، و إليك بيانها:

19. المحقق البهبهاني(1118 1206ه)

كان للأُستاذ الأكبر الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني دور فعال في إخماد نائرة الفتنة، بالرد القاطع علي الأخباريين، و تزييف أفكارهم، و تربية جيل من العلماء و المفكّرين علي أُسس مستقاة من الكتاب و السنّة و العقل الصريح، و اتّفاق الأصحاب، و استطاع أن يشيِّدَ للأُصولِ أركاناً جديدةً، و دعامات رصينة، فنهض بالأُصول من خموله الذي دام قرنين، مذعناً بانتهاء عصر الركود و ابتداء عصر التطور و الابتكار.

ص: 25

و بلغت تصانيفه 103 ما بين رسائل مختصرة و كتب مفصّلة، منها: الرسائل الأُصولية، إبطال القياس; إثبات التحسين و التقبيح العقليين; الاجتهاد و التقليد، و الفوائد الحائرية، و غيرها.

و بذر البذرة الأُولي لهذه المرحلة التي تلقّفها العلماء بعده بالرعاية حتي أينعت و أثمرت ثمارها علي أيدي أساطين من العلماء في غضون الأدوار: و بها امتازت هذه المرحلة عمّا سبقها من المرحلة الأُولي:

الدور الأوّل:(دور الانفتاح)
اشارة

ابتدأ هذا الدور بنخبة من تلامذة الوحيد البهبهاني و في طليعتهم:

20. جعفر كاشف الغطاء(1156 1228ه)

هو الشيخ الأكبر جعفر بن خضر بن يحيي النجفي المعروف بكاشف الغطاء، تلمّذ عند: الشيخ محمد مهدي الفتوني، و المحقّق البهبهاني.

قال عنه شيخنا الطهراني :و هو من الشخصيات العلمية النادرة المثيل، و انّ القلم لقاصر عن وصفه و تحديد مكانته و إن بلغ الغاية في التحليل، و في شهرته و سطوع فضله غني عن إطراء الواصفين.

و من جملة تصانيفه »كشف الغطاء«، و »غاية المأمول في علم الأُصول«. (1)

21. أبو القاسم القمي(1151 1231ه)

هو أبو القاسم محمد حسن الجيلاني القمي، تلمّذ عند: المحقّق البهبهاني، و الشيخ محمد مهدي الفتوني، و محمد باقر الهزار جريبي.

ص: 26


1- . الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة:1/248 برقم 506.

حطّ الرحال في قم، و عكف فيها علي التدريس و التصنيف حتي أصبح من كبار المحقّقين و أعاظم الفقهاء المتبحّرين، و اشتهر أمره و طار صيته و لقب بالمحقّق القمي.

من تصانيفه الأُصولية »القوانين«.

22. السيد علي الطباطبائي(12311161ه)

هو السيد علي بن محمد بن علي الطباطبائي، يعرفه الرجالي الحائري بقوله: ثقة، عالم، جليل القدر، وحيد العصر، و من تآليفه في الأُصول: »رسالة في الإجماع و الاستصحاب«، و تعليقة علي معالم الدين، و تعليقة علي مبادئ الوصول إلي علم الأُصول. (1)

الدور الثاني:(دور النضوج)
اشارة

ابتدأ هذا الدور بتلاميذ خرّيجي مدرسة البهبهاني، فقاموا بوضع صياغة جديدة للأُسس الأُصولية من منظار جديد و علي رأسهم:

23. محمد تقي بن عبد الرحيم الاصفهاني(المتوفّي 1248ه)

هو محمد تقي بن عبد الرحيم الطهراني الاصفهاني عالم جليل، محقّق، له: »شرح الوافية«، و »شرح طهارة الوافي« من تقرير أُستاذه بحر العلوم، و »حاشية علي المعالم«. (2)

24. شريف العلماء(المتوفّي 1245 ه)

هو الشيخ الجليل محمد شريف الآملي المازندراني المعروف بشريف العلماء،

ص: 27


1- . راجع ترجمته في مقدّمة كتاب »رياض المسائل« الذي طبع عام 1412ه.
2- . أعيان الشيعة:9/198.

و كفي به فخراً انّ الشيخ مرتضي الأنصاري ذلك النجم اللامع في سماء الأُصول، ممّن استسقي من فيّاض علمه، و قد بقيت من آثاره العلمية رسالة »جواز أمر الأمر مع العلم بانتفاء الشرط«.

25. محمد حسين بن عبد الرحيم الاصفهاني(المتوفّي 1261ه)

الفقيه الأُصولي الشهير، أخذ عن أخيه الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين، و عن الشيخ علي بن الشيخ جعفر، قطن كربلاء فرحل إليه الطلاب.

له مؤلفات في الأُصول، منها: »الفصول« و هو من كتب القراءة في هذا الفن، أورد فيه مطالب القوانين و حلّها و اعترض عليها، و هو مشهور. (1)

الدور الثالث:(دور التكامل)
اشارة

بلغ فيه علم الأُصول الذروةَ في التحقيق و التعميق و البحث و تطرّقت إليه مسائل جديدة لم تكن مألوفة فيما سبق، و يُعتبر الشيخ مرتضي الأنصاري هو البطل المِقْدام في هذا الحقل حيث استطاع بعقليّته الفذّة أن يشيّد أركاناً جديدة لعلم الأُصول بلغ بها قمةَ التطور و التكامل.

و أنت إذا قارنت المؤلفات الأُصولية في هذه البرهة مع ما ألّف في المرحلة الأُولي و حتي مستهلّ المرحلة الثانية تجد بينهما بوناً شاسعاً يُتراءي في بادئ النظر كعلمين، و ما هذا إلاّ بفضل التطور و التكامل الذي طرأ علي بِنْية الأُصول بيد هذا العبقري الفذّ و لم يزل ينبوعه فيّاضاً إلي يومنا هذا.

ص: 28


1- . أعيان الشيعة:9/233.
26. مرتضي الأنصاري(1214 1281ه)

هو مرتضي بن محمد أمين الدزفولي الأنصاري، مؤسس النهضة الأُصولية المعاصرة، قرأ أوائل عمره علي عمّه الشيخ حسين من وجوه علماء دزفول، ثمّ مكث في كربلاء و تلمّذ عند السيد محمد المجاهد و شريف العلماء، ثمّ عزم علي الطواف في البلاد للقاء علمائها، فخرج إلي خراسان مارّاً بكاشان حيث فاز بلقاء النراقي صاحب المناهج و تلمذ عنده نحو ثلاث سنين، ثمّ إلي أصفهان، ثمّ إلي دزفول، و منها إلي النجف، فحط الرحال فيها، و قد انتهت الرئاسة العلمية فيها آنذاك إلي الشيخ علي بن الشيخ جعفر و صاحب الجواهر، فتلمذ عندهما إلي أن انتهت إليه الرئاسة الإمامية العامة بعد وفاتهما، و كان مجلس درسه يغص بالفقهاء، و قد تخرّج به أكثر الفحول من بعده، مثل: الميرزا الشيرازي، و الميرزا الرشتي، و السيد حسين الكوهكمري، و المامقاني، و الخراساني. و قد ذاع صيته و انتشرت آثاره في الآفاق.

أمّا مصنّفاته الأُصولية فيعد كتابه »فرائد الأُصول« من أهم الكتب الأُصولية التي عوّل عليها قاطبة الأُصوليين من الإمامية في كلّ زمان و مكان، و هذا الكتاب يضم في طياته خمس رسائل أُصولية هي:

1. أحكام القطع.

2.رسالة حجّية الظنّ.

3. أصل البراءة و الاشتغال.

4. الاستصحاب.

5. التعادل و الترجيح.

و قد طبعت مراراً، و علق عليها مشاهير العلماء بعده، أخص منهم بالذكر:

ص: 29

موسي التبريزي، و الشيخ حسناً الآشتياني، و الشيخ محمد حسن المامقاني، و الشيخ محمد كاظم الخراساني، و الشيخ محمد رضا الهمداني. (1)

إنّ عصر الشيخ الأنصاري كوّن منعطفاً رائعاً في تاريخ علم الأُصول، و قد تخرّج في مدرسته مئات المحقّقين، و أُلّفت عشرات الكتب في الأُصول التي تحمل في طياتها الفكر الأُصولي الذي صاغه الأنصاري، و هذه الكتب بين تأليف مستقل أو تعليقة أو تحشية علي فرائد الشيخ الأنصاري، أو علي كفاية الأُصول لتلميذه المحقّق الخراساني، أو بين تقرير يمليه الأُستاذ و يكتبه التلميذ أثناء الدرس أو خارجه.

و بما انّ الإفاضة في هذا المجال علي ما هو حقّه تورث الإطناب، فلنقتصر علي سرد أسماء المشاهير من الأُصوليين في هذا العصر اعتماداً علي ما فصلنا ترجمتهم و ترجمة تلاميذهم إلي نهاية القرن الرابع عشر في آخر موسوعة طبقات الفقهاء.

و خرج من مدرسته العديد من الفطاحل و العباقرة، و أخص بالذكر منهم:

27. السيد المجدّد الشيرازي(1224 1312ه)

هو السيد محمد حسن بن محمود بن إسماعيل الحسيني الشيرازي، كان فقيهاً، عالماً، ماهراً، محقّقاً، مدقّقاً، ورعاً، تقياً، انتهت إليه رئاسة الإمامية العامة في عصره، و طار صيته و اشتهر ذكره و وصلت رسائله التقليدية و فتاواه إلي جميع الأصقاع.

من مؤلّفاته الأُصولية:رسالة في اجتماع الأمر و النهي، و تلخيص إفادات

ص: 30


1- . أعيان الشيعة:10/117 118.

أُستاذه الأنصاري، و رسالة في المشتق. (1)

28. محمد كاظم الخراساني(1255 1329ه)

هو المحقّق الكبير الشيخ محمّد كاظم الخراساني الهروي، مؤلّف كتاب »كفاية الأُصول« و يُعدّ كتابه هذا محور البحوث الأُصولية في الحوزات العلمية إلي يومنا هذا.

و قد تخرّج علي يديه، نخبة من رجال الفكر و العلماء البارعين في علم الأُصول.

29. الميرزا حسين النائيني(13551274ه)

المحقّق البارع الميرزا حسين النائيني له محاضرات قيّمة في الأُصول و قد دوّن آراءه تلميذه البارع الشيخ محمد علي الكاظمي(1309 1365ه) و قد نشرت باسم »فوائد الأُصول«، كما دوّن تلك الآراء أيضاً تلميذه الآخر المرجع الديني السيد أبو القاسم الخوئي و نشرت باسم »أجود التقريرات«.

30. عبد الكريم الحائري(1274 1355ه)

هو الشيخ الكبير عبد الكريم بن محمد جعفر الحائري اليزدي مؤسس الحوزة العلمية في قم المحمية، و شيخنا هذا ضمّ إلي عمله و فقهه الجمّ حصافة في العقل و دراية في الحياة، مؤلّف كتاب »درر الفوائد« و كان محوراً لمحاضراته التي كان يلقيها علي طلاب الحوزة العلمية، و تخرج علي يديه نخبة من الفطاحل و جيل من الأعاظم لو قام باحث بتدوين أسمائهم و سيرتهم لخرج بكتاب مفرد كبير.

ص: 31


1- . أعيان الشيعة:5/304.
31.ضياء الدين العراقي(13611278ه)

الأُستاذ الكبير الشيخ ضياء الدين العراقي صاحب كتاب »المقالات في علم الأُصول« و قد دون أفكاره العلاّمة الحجّة الشيخ محمد تقي البروجردي و نشرها تحت عنوان »نهاية الأفكار« طبعت في ثلاثة أجزاء، و العالم البارع الشيخ هاشم الآملي(14121322ه) في كتاب »بدائع الأفكار«.

32. محمد حسين الاصفهاني(13611296ه)

المحقّق الكبير الشيخ محمّد حسين الأصفهاني من أعاظم تلاميذ المحقّق الخراساني، و قد تخرّج عليه طليعة من العلماء، منهم: المحقّق العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي(14011321ه) و السيد المحقّق محمد هادي الميلاني(13951313ه) و من مصنفاته كتاب »نهاية الدراية في التعليقة علي الكفاية« طبعت في أجزاء ثلاثة.

33. السيّد محمد الحجّة الكوهكمري(1301 1372ه)

أُستاذنا الكبير و الفقيه البارع السيد محمّد الحجّة الكوهكمري تخرج علي أعلام عصره في النجف الأشرف كالسيد الطباطبائي اليزدي و شيخ الشريعة الاصفهاني و المحقّق النائيني. لعب دوراً كبيراً في تنشيط حوزتي النجف و قم و تخرّج علي يده العديد من الفقهاء و المجتهدين. و دوّن غير واحد من تلاميذه آراءه و أفكاره و أخصّ بالذكر سماحة آية اللّه الحاج علي الصافي الكلبايكاني فقد نشر ما تلقي عنه تحت عنوان »المحجة في تقريرات الحجّة«.

ص: 32

34. السيد حسين البروجردي(1392 1380ه)

هو السيد حسين البروجردي الطباطبائي سيد مشايخنا العظام تخرج علي أعلام عصره في النجف الأشرف و تردد كثيراً إلي أندية دروس المحقّق الخراساني و نال منه إجازة الاجتهاد(عام 1328ه) ، و للسيّد البروجردي دور كبير في تنقيح مباني الاجتهاد و أُصول الفقه و الرجال، و قد حضرنا درسه سنين طوالاً و كتبنا شيئاً من تقريراته و له تعليقة علي كفاية الأُصول في جزءين لم تر النور.

35. السيّد روح اللّه الموسوي الخميني(1320 1409ه)

المجاهد الكبير قائد الثورة الإسلامية المباركة و الذاب عن حياض الإسلام بقلمه و لسانه و ما أُوتي من حول و قوة السيّد روح اللّه بن السيد مصطفي الخميني فقد ربي جيلاً كبيراً في الجامعة الإسلامية و درّس الأُصول دورة بعد دورة. و قد برز بقلمه الشريف »مناهج الوصول إلي علم الأُصول« في المباحث اللفظية ، و »الرسائل« في المباحث العقلية، إلي غير ذلك و قد قمنا بتدوين محاضراته الأُصولية و نشرناها تحت عنوان »تهذيب الأُصول« عام 1375 1383.و له علي الإسلام و المسلمين أياد بيضاء تشكر.

36. السيد أبو القاسم الخوئي(1317 1411ه)

هو السيّد أبو القاسم بن السيد علي أكبر الخوئي أحد المراجع العظام و زعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف.تخرج علي يديه جيل كبير من الفضلاء و المحقّقين، و قد ألقي محاضرات في الأُصول سنين عديدة حتي تجاوزت دوراته عن الخمس. و دوّنت آراؤه عن طريق تلامذته و انتشرت بعنوانات مختلفة، و قد تألّق نجمه في علم الأُصول منذ شبابه إلي أوان رحيله.

ص: 33

هذه إلماعة عابرة إلي تاريخ أُصول الفقه عند الشيعة الإمامية و قد اقتصرنا في ذلك علي أعلام العصر في كلّ قرن، و لو قمنا بترجمة كلّ من له دور في تنشيط هذا العلم لأحوج الأمر إلي تأليف مفرد.

و في الختام أرفع أسمي آيات الاعتذار إلي المشايخ الّذين لعبوا دوراً فعالاً في تصعيد نشاط الحركة الأُصولية و لم أُوفق لذكر أسمائهم و تقدير جهودهم و العذر عند كرام الناس مقبول.

*** ثمّ إنّ كتابنا هذا يشتمل علي مقدمة و مقاصد، و المقدّمة علي أُمور ،و إليك الخوض فيها واحداً تلو الآخر:

ص: 34

الوسيط في أُصول الفقه كتاب يبحث عن الأدلة اللفظية و العقلية بين الايجاز و الاطناب تأليف جعفر السبحاني كتاب دراسي أُعِدَّ لطلبة الحوزة العلمية، السنة الخامسة

ص: 35

ص: 36

مقدمة الكتاب:و فيها أمور تسعة:

الأمر الأوّل: في تعريف علم الأُصول و بيان موضوعه و مسائله و غايته

قد جري ديدن العلماء في مقدّمة الكتاب علي التعرض لأُمور أربعة:

1. تعريف العلم، 2. بيان موضوعه، 3. الإلماع إلي مسائله، 4. و الإشارة إلي غايته.

أمّا الأوّل: فقد عُرّف علم الأُصول بتعاريف أدقّها هي: »القواعد الآليّة التي يمكن أن تقع كبري لاستنباط الأحكام الكلية الفرعية الإلهية، أو الوظيفة العملية«.

و المراد ب»القواعد الآلية« هو ما ينظر بها إلي الحكم الشرعي و تكون ذريعة إلي استنباطه; فخرجت القواعد الفقهية، فانّها تتضمن نفس الحكم الشرعي، و لا ينظر بها إلي حكم شرعي آخر بل هي ممّا ينظر فيها. (1)

كما أنّه دخل بقولنا:»يمكن« الظنون غير المعتبرة كالقياس و الاستحسان

ص: 37


1- . و الأوّل كقولنا: خبر الواحد حجّة، فيقع ذريعة لاستنباط الحكم الشرعي بخبر زرارة علي وجوب شيء أو حرمته. و الثاني كقولنا: كلّ شيء طاهر حتّي تعلم انّه قذر و هو يتضمن نفس الحكم الشرعي و سيوافيك التفصيل في الأمر الثاني.

و الظن الانسدادي، فإنّ الجميع قواعد أُصولية تصلح لأن تقع في طريق الاستنباط، لكن أحجم الشارع عن إعمالها.

و خرج بقولنا: »تقع كبري« مسائلُ سائر العلوم التي ليس لها هذا الشأن.

كما دخل بقولنا:»الوظيفة العملية« ما إذا انتهي المجتهد إلي استنباط الوظيفة الفعلية، لا استنباط الحكم الشرعي، كما هو الحال في حكم العقل بالبراءة عند الشك في أصل التكليف، و حكمه بالاحتياط عند العلم بالتكليف و الشك في المكلّف به فكلا الحكمين، أعني: البراءة و الاحتياط في الموردين وظيفة عملية لدي الشك، لا حكم شرعيّ.

بقي في المقام علم اللغة الذي ربما يقع في طريق الاستنباط كالعلم بمعني »الصعيد« و»المفازة« و »الوطن«، فربما يقال: إنّه يخرج بقيد الآليّة، فإنّه ليس آلة للاستنباط و إن كان ربما يترتب عليه فانّ الغاية من علم اللغة أوسع من ذلك بكثير.

و يمكن أن يقال بعدم دخوله في التعريف حتّي يحتاج إلي الخروج إذ ليس في علم اللغة »قواعد« كلّية بل هو علم كافل لبيان معاني المفردات، و لا يوصف مثل ذلك بالقواعد.

و بما انّ مضامين سائر القيود المأخوذة في التعريف واضحة نترك البحث فيها روماً للاختصار.

و أمّا الثّاني: فقد اختلفت كلمة الأُصوليّين في بيان موضوع ذلك العلم، و النظر الحاسم عندنا هو انّ موضوعه: »الحجّة في الفقه«.

فنقول إيضاحاً: قد اشتهر بينهم انّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية.

فالشيء الذي يبحث في العلم عن خصائصه و آثاره المطلوبة منه، هو

ص: 38

الموضوع، و الخصائص و الآثار المترتبة علي ذلك الشيء هي العوارض و إليك بعض الأمثلة:

1.انّ موضوع علم الطب هو البدن، و الخصائص و الآثار المطلوبة منه هي عوارضه من الصحة و المرض.

2. انّ موضوع علم النحو هو الكلمة و الكلام، و الآثار المترتبة عليه من الرفع و النصب و الجر هي العوارض المترتبة عليها.

3. انّ موضوع العلم الطبيعي هو الجسم و الآثار المترتبة عليه، أعني: الحركة و السكون، و الحرارة و البرودة و غيرهما هي العوارض الطارئة عليه. إلي غير ذلك من العلوم.

و علي ضوء ذلك فعلم الأُصول كسائر العلوم له موضوع، و موضوعه هو الحجّة في الفقه، و يمكن استكشاف ذلك(كون موضوعه هو الحجّة في الفقه) من امعان النظر في الغرض المطلوب من ذلك العلم، فانّ الغاية القصوي للفقيه هو معرفة الحجج الشرعية أو العقلية سواء أ كانت حجّة شرعية للحكم الشرعي أم حجّة للوظيفة العملية كما في مورد الأُصول فيصبح موضوع ذلك العلم هو الحجّة في الفقه.

و أمّا عوارضه أي الخصائص و الآثار المترتبة عليه فهي عبارة عن البحث عن تفاصيلها و حدودها و خصوصياتها، حيث إنّ الفقيه يعلم بوجود حجّة بينه و بين ربّه لكن لا يعلم بخصوصياتها علي وجه التفصيل فيبحث عن تشخّص »الحجّة في الفقه« بخبر الواحد أو بالشهرة أو بالإجماع أو بالسيرة أو بالأُصول العملية، فتعيناتها و خصوصياتها هي عوارضها، و البحث فيها يتكفله علم الأُصول.

و بالجملة العلم بالحجّة الإجمالية بيننا و بين ربّنا لا يُسمن و لا يغني من جوع

ص: 39

ما لم تُعلم حدودها و تعيّناتها، فالعلم الذي يقوم بهذه المهمّة هو علم الأُصول حيث يُحدِّد و يعيِّن حدودَ ذلك الموضوع و خصوصياته و تعيّناته بإحدي الحجج ، كما أنّه ربما ينفي تعيّنها و تحددها بأُمور أُخري كالقياس و الاستحسان.

فتلخص من ذلك انّ الموضوع هو »الحجّة في الفقه« بوجه مطلق غير متعيّن الحدود و الخصوصيات، و أمّا العوارض فهي ما يُخرج الموضوع عن الإطلاق و يحدده و يقيده بإحدي الخصوصيات.

و أنت إذا تفحّصت المسائل الأُصولية تقف علي أنّ روح البحث في جميعها يرجع إلي تعيين الحجج علي الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية، و ما من مسألة من المسائل الأُصولية إلاّ و يحتج بها علي أحد الأمرين بنحو من الاحتجاج.

و أمّا الثالث أعني مسائله فقد تبين ممّا ذكرنا، فإنّها عبارة عن المحمولات(العوارض) التي تعرض للموضوع أي الحجّة في الفقه علي وجه الإطلاق، فالخصوصيات المحمولة علي الموضوع من كونها خبر الواحد أو الاستصحاب أو غير ذلك هي مسائل ذلك العلم. (1)

و إن شئت قلت: انّ الحجّة في الفقه بوصف الإطلاق هي الموضوع، و تعيناتها و تشخصاتها بإحدي الخصوصيات هي المسألة.

و أمّا الرابع أعني غايته فقد تبين ممّا ذكرنا فانّ غاية ذلك العلم هي تحصيل ملكة استنباط الحجج علي الأحكام أو الوظيفة العمليّة.ه.

ص: 40


1- . فانّ الحق انّ المسائل عبارة عن نفس المحمولات المنتسبة إلي موضوعاتها في مقابل من يقول بانّها عبارة عن المركب من الموضوع و المحمول و النسبة. و التفصيل موكول إلي محلّه.

الأمر الثاني: الفرق بين المسألة الأُصولية و القاعدة الفقهية

قد عرفت أنّ المسألة الأُصولية عبارة عن القاعدة الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية أو الوظيفة العملية، و علي هذا فالمسألة الأُصولية تتميّز بالخصوصيات التالية:

1. انّها تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية أو الوظيفة العملية.

2. أنّها لا تختص بباب دون باب، كحجية خبر الواحد التي يُستند إليها في عامّة الأبواب.

3. انّها لا تتضمّن حكماً شرعياً و لا وظيفة عملية، بل يستنبط منها الحكم الشرعي و الوظيفة العملية.

و أمّا القاعدة الفقهية فهي تمتاز بميزتين:

1. انّها تشتمل علي حكم شرعي كلّي أو منتزع من عدّة أحكام، و الأوّل كقاعدة الطهارة و الثاني كقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

ص: 41

2. لا تجري في عامة الأبواب بل تختص بباب أو بأبواب معدودة، كقاعدة الطهارة و قاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.

و هذه الميزة الثانية هي الغالبة خرجت منها قاعدتا نفي الضرر و الحرج فانّهما تعمّان جميع أبواب الفقه.

و أمّا المسألة الفقهية فهي ما يبحث فيها عن أحكام الموضوعات الخاصة كطهارة الماء و نجاسة الدم، و ربما يبحث فيها عن ماهية الموضوعات كماهية الصلاة و أجزائها و موانعها و شرائطها.

هذا هو المختار عندنا و ربما تذكر هنا ضابطتان أُخريان:

إحداهما للشيخ الأنصاري، و الأُخري للمحقّق العراقي تطلبان من محلّهما. (1)3.

ص: 42


1- . و من أراد التفصيل فليرجع إلي المحصول:1/43.

الأمر الثالث: في الوضع

اشارة

لا شكّ انّ الإنسان العارف باللسان، إذا سمع لفظ »الماء« ينتقل إلي معناه، أعني: الجسم السيّال الرطب، إنّما الكلام في سبب الانتقال، فهنا احتمالان:

1. وجود الرابطة الذاتية بين اللفظ و المعني التي تكون سبباً لحضور المعني. لكنّه احتمال ساقط إذ لازم ذلك، حضور المعني لكلّ من سمع اللفظ سواء كان عارفاً باللسان أم لا.

2. انّ سبب الحضور، هو وضع الواضع اللفظ للمعني، و بما انّ الوضع أمر اعتباري تكون العلقة الحاصلة بين اللفظ و المعني كذلك غير انّهم اختلفوا في تفسير حقيقة ذلك الأمر الاعتباري.

فذهب المحقّق النهاوندي(المتوفّي 1317ه) إلي أنّ حقيقة الوضع ليس إلاّ التعهد بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعني، و تبعه عدّة من الأعلام منهم المحقّق الخوئي، قال: الوضع عبارة عن الالتزام النفسي بإبراز المعني الذي تعلّق قصد المتكلّم بتفهيمه بلفظ مخصوص. (1)

يلاحظ عليه :مضافاً إلي استلزامه أن يكون كلّ مستعمل واضعاً لصدق

ص: 43


1- . أجود التقريرات:1/12 و لاحظ المحاضرات:1/48.

حدّه عليه:أنّ التّعهد، أو الالتزام النفسي غير داخل في حقيقة الوضع، بل هو من دواعيه، الخارجة عن حقيقة الشيء، فيكفي في تحقّق الوضع »جعل اللّفظ في مقابل المعني« بداعي الانتقال إليه عند التكلّم كما هو الحال في سائر الدوال كالعلامات الرائجة لإدارة المرور، فلا فرق بين وضع الألفاظ و نصب العلامة علي رأس الفرسخ، فالوضع في الجميع علي نسق واحد، فليس عمل ناصب العلامة علي رأس الفرسخ إلاّ وضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه من دون تعهّد منه.

و يدلّ علي ذلك انّ الملموس في المجامع العلمية المختصة لوضع الألفاظ للمعاني المستحدثة، غير ذاك فانّ الأخصّائيّين من علماء اللغة، ليس لهم شأن إلاّ تعيين الألفاظ في مقابل المعاني، و لا يخطر ببالهم عند الوضع غير هذا، و أمّا التزام الواضع بأنّه متي أراد تفهيم المعني، يتكلّم بهذا اللّفظ فهو من دواعي الوضع و ليس نفسَه و لا جزءه.

فالحقّ أن يقال: إنّ وضع الألفاظ للمعاني، أمر اعتباري يُعلم كنهه من حال سائر العلامات و الدوال التي تضعها إدارة المرور للانتقال إلي وظائف خاصة، ككون الدخول في الشارع مجازاً أو ممنوعاً، فإنّ ماهية جعل تلك الدوال ليس إلاّ جعلها للانتقال إلي مقاصد خاصة، فيكون وضع الألفاظ أيضاً من هذه المقولة، و يعرف بأنّها »جعل اللفظ في مقابل المعني« بداعي الانتقال إليه عند سماعه; أو تعينه علامة علي المعني بسبب كثرة الاستعمال. و الأوّل كما في الوضع التعييني،و الثاني كما في الوضع التعيّني.

ثمّ إنّ وضع اللفظ في مقابل المعني أو استعماله فيه بداعي الوضع كما إذا قال: ائتني بولدي الحسن بداعي تسميته به عمل اختياري صادر من الفاعل المختار الذي لا يرجِّح أحد الطرفين إلاّ بمرجّح.

و امّا ما هو المرجّح لاختيار لفظ

ص: 44

خاص علي سائر الألفاظ فيختلف حسب اختلاف المقامات.

لكن التتبع يكشف عن انّه يُستند في تسمية الحيوانات إلي أصواتها كالهدهد، و البوم، و الحمام، و العصفور، و الهرة.كما يستند في حكاية الأفعال و الحركات إلي أصواتها كالدقّ و الدكّ و الشقّ و الكسْر، و الصرير، و الدَّويّ و النهيق. و لأجل ذلك يمكن أن يقال: إنّ كلّ إنسان في الأدوار السالفة، كان ينتخب لإبراز ما في ضميره ألفاظاً يري مناسبة خيالية أو وهمية بينها و بين معانيها، كالمشابهة في الشكل و الهيئة و غير ذلك من المناسبات ، فها هو لفظ الهيولي يستعمله العرف الخاص في الموجود المُخيف و المَهيب لمناسبة يري بين اللّفظ و المعني.

و قد جرّبنا ذلك في بعض الأطفال فرأيناهم يخترعون لبعض الأشياء و المعاني عند الحكاية عنها ألفاظاً مهملة، لمناسبة خيالية بينهما عندهم، و ربما يكون هذا هو السرّ لتكثّر الألفاظ و تكامل اللغة من دون أن يكون هناك وضع تعييني، و لعلّ هذا هو مقصود من قال بوجود العلقة بين اللفظ و المعني لا ما هو المعروف عن قائلها من رابطة ذاتيّة بينهما فلاحظ.

في أقسام الوضع
اشارة

إذا كان الوضع بمعني »جعل اللّفظ في مقابل المعني« فلا بدّ حينَه من تصوّر اللفظ أوّلاً، و المعني ثانياً، أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فله أقسام:

1. الوضع العام و الموضوع له العام

و هو أن يتصوّر المعني الكلّي بلا واسطة و يضع اللّفظ عليه، كوضع لفظ الإنسان للحيوان الناطق.

2. الوضع الخاص و الموضوع له الخاص

و هو أن يتصوّر المعني الجزئي مباشرة و يضع اللّفظ عليه كما في الأعلام.

ص: 45

3. الوضع العام و الموضوع له الخاص

و هو أن يتصوّر المعني الجزئي من خلال العنوان الكلّي المنطبق عليه، كتصوّر المعاني الجزئية للابتداء من خلال تصوّر مفهوم الابتداء الكلّي و يضع اللّفظ علي مصاديقه.

4. الوضع الخاص و الموضوع له العام

و هو أن يتصوّر المعني الكلّي من خلال تصوّر الفرد و يضع اللّفظ علي المعني الكلّي.

لا شكّ في وقوع الأوّلين، إنّما الكلام في الثالث و الرابع فقد ذهب المحقّق الخراساني إلي إمكان الثالث و امتناع الرابع، و قال في وجههما ما هذا توضيحه:

إنّ العام باعتبار انّه كلي يصلح لأن يكون مرآة لأفراده و آلة للحاظ مصاديقه لوضوح كون العام حاكياً عن المصاديق التي تحته و عندئذ يصحّ أن يتصور الواضع المفهوم العام و يجعله مرآة لأفراده التي يشملها ثمّ يضع اللفظ بإزاء تلك الأفراد.

مثلاً: إذا تصوّر الواضع »المفرد المذكر« علي النحو الكلّي من دون لحاظ الخصوصيات و مشخصات الأفراد، ثمّ وضع لفظ »هذا« لكلّ فرد و مصداق من ذلك الكلي فعندئذ يكون الوضع عاماً لكون الملحوظ عاماً و الموضوع له خاصاً لانّ المفروض انّه عبارة عن الأفراد الخارجية و المصاديق العينيّة.

هذا في الوضع العام و الموضوع له الخاص، و أمّا القسم الآخر أي الوضع الخاص و الموضوع له العام، فوجه امتناعه انّ الملحوظ إذا كان خاصاً(كزيد) فهو بما انّه متشخص بخصوصيات، لا يصدق إلاّ علي مصداق واحد و لا يحكي عن المعني العام، حتّي يوضع اللفظ بإزاء ذلك المعني العام.

مثلاً: إذا تصوّر الواضع مفهوم »زيد« الذي هو علم لشخص معيّن فلا يتصور أن يضع لفظ الإنسان إزاء المعني العام كالحيوان الناطق بواسطة ذلك

ص: 46

الملحوظ الخاصّ لانّه لا يحكي عن المعني العام حتّي يوضع اللفظ له، و من المعلوم انّ الواضع ما لم يتصور الموضوع له بنحو من الأنحاء لا يمكن له أن يضع اللفظ بإزائه.

يلاحظ عليه: بانّ الخاص بما هو خاص كما لا يكون مرآة للعام و لا يمكن تصوره من خلال تصور الخاص، كذلك لا يمكن تصور الخاص من خلال تصوّر العام و ذلك لأنّ العام لم يوضع إلاّ لنفس الحقيقة المعرّاة من كلّ قيد و شرط، فعندئذ كيف يمكن أن يكون مرآة للخصوصيات و الجزئيات؟ فإنّ المرآتية فرع الوضع و المفروض انّه وضع للمعرّاة عن الخصوصية.

و بذلك ظهر انّه لا فرق بين الثالث و الرابع في امتناع الحكاية و المرآتية، فالعام لسعته لا يحكي عن الجزئيات، و الخاص لضيقه لا يحكي عن الحقيقة المجرّدة المعرّاة عن كلّ قيد.

و الحقّ أن يقال: إنّ القسمين مشتركان في الامتناع علي وجه و في الإمكان علي نحو آخر، فلو قلنا بأنّه يشترط أن يكون الملحوظ عند الوضع حاكياً عن الموضوع له، و مرآة له فهو غير ممكن في القسمين لما عرفت انّ عنوان العام كالإنسان لا يحكي إلاّ عن حيثية الإنسانية دون ما يقارنها من العوارض و الخصوصيات لخروجها عن حريم المعني الكلي، و الحكاية فرع الدخول في الموضوع له.

كما انّ عنوان الخاص كزيد بما انّه متشخّص في فرد خاص لا يمكن أن يكشف عن الماهية المعرّاة المجرّدة.

و أمّا لو قلنا بأنّه يكفي في الوضع، الانتقال إلي الموضوع له بأي نحو تحقّق فالظاهر إمكان كليهما، فإنّ الانتقال من تصوّر العام إلي تصوّر مصاديقه أو بالعكس أمر ممكن، فإنّ التداعي ليس رهن الحكاية بل ربما ينتقل الإنسان من

ص: 47

الضدّ إلي الضدّ الآخر.

و الظاهر انّه لا يتوقف الوضع علي الحكاية و المرآتية بل يكفي العنوان الإجمالي المشير إلي الموضوع له فيكون القسمان كالأوّلين من الأقسام الممكنة.

انقسام الوضع إلي شخصيّ و نوعيّ

قد تقدّم انّ الوضع يتوقّف علي لحاظ اللّفظ أوّلاً و لحاظ المعني ثانياً، و قد عرفت الثاني علي وجه التفصيل، و أمّا الأوّل فربما يكون اللّفظ ملحوظاً بشخصه، فيكون الوضع شخصياً كوضع الأعلام، و ربما يكون ملحوظاً بعنوان كلّي ينطبق عليه و علي غيره فيكون الوضع نوعياً و هذا كأسماء الفاعلين و المفعولين و غيرهما. فانّ هيئة الفاعل وضعت لمن قام به الفعل بنحو من الأنحاء، و لكن الموضوع ليس هو الهيئة الشخصية القائمة بمادة »فعل« بل الهيئة النوعية المتحقّقة فيها و في غيرها، و ذلك لأنّ إحضار تمام المواد عند وضع الهيئة أمر صعب للغاية فتوضع الهيئة في ضمن مادة خاصة كفاعل و نحوه و لكن يراد منه كلّ ما كان علي هذه الهيئة في ضمن أيّة مادّة تحققت.

ص: 48

الأمر الرابع: في المعاني الحرفية

يقع الكلام في الحروف في موضعين:

1. ما هو معانيها و مفاهيمها؟ 2. في كيفية وضعها.

أمّا الأوّل فقد عُرِّف المعني الحرفي بما ذكره ابن الحاجب في »كافيته« حيث قال: الاسم ما دلّ علي معني في نفسه، و الحرف ما دلّ علي معني في غيره.

و المراد من قوله»ما دلّ« هو اللفظ، و الضمير في كلّ من: »في نفسه« و »في غيره« يرجع إلي المعني، و انّه في حدّ ذاته علي قسمين:

قسم يكون مفهوماً محصَّلاً في نفسه، لا يتوقّف تصوّره في الذهن إلي معني آخر.

و قسم يكون مفهوماً متحقّقاً في الذهن بتبع غيره.

»فمعاني الأسماء معان مستقلة ملحوظة بذواتها، و معاني الحروف معان آلية حيث إنّها تلحظ بنحو الآلية و المرآتية لملاحظة غيرها«.

توضيحه: إنّ الغاية من وضع الألفاظ سواء أ كان بالوضع التعييني أو التعيّني، هي رفع الحاجة و إظهار ما يقوم في النفس من المفاهيم و المعاني التي ينتقل إليها الذهن من طرق الحواس و غيرها من أدوات المعرفة و لمّا كانت النشأة

ص: 49

الخارجية علي أقسام، كانت المفاهيم المتّخذة منها علي غرارها، ذاتَ أقسام.

إنّ الإنسان إذا أجال نظره في صحيفة الوجود يجد انّ ثمّة أقساماً من الحقائق:

الأوّل: ما هو مستقل ذاتاً و ماهية، كما هو مستقل خارجاً و وجوداً، كالجواهر كلّها. و هذا ما يعبر عنه ب »ما وجوده في نفسه لنفسه« و يشير قولهم:» في نفسه« إلي كونها ذات مفاهيم مستقلة، كما يشير قولهم:»لنفسه« إلي كونها غير ناعتة علي خلاف الأعراض المتأصّلة.

الثاني: ما هو مستقل ذاتاً و ماهية، غير مستقل خارجاً و وجوداً و هذا كالأعراض مثل البياض و السواد، فانّ لكلّ مفهوماً مستقلاً، فيعرّف الأوّل بأنّه نور مفرّق لنور البصر، و الثاني بأنّه نور قابض لنور البصر لكنّه غير مستقل في عالم الوجود حيث لا يوجد إلاّ في الموضوع.

الثالث: ما هو غير مستقل ذاتاً و وجوداً، فهو اندكاكيّ المعني كما هو اندكاكيّ الوجود، فمفهومه فان في غيره كما أنّ وجوده في الخارج كذلك. و هذا ما يسمّي ب»الوجود الرابط« و»المعني الحرفي« فهو لا يتصوّر إلاّ تبعاً للمعني الاسمي، كما لا يتحقّق إلاّ مندكاً في الغير، و هذا نظير قولنا: زيد في الدار، فكلّ من »زيد« و»الدار« من المعاني الاسمية أمّا كونه فيها من المعاني الحرفية، إذ لا يتصوّر الكون إلاّ مضافاً إلي زيد و الدار، كما لا يتحقّق إلاّ بهما، فالكون قائم بهما تصوّراً و خارجاً، و لو أردنا إضفاء الاستقلالية لهذا المعني الحرفي لزم انسلاخه عن حقيقته، فالمعني الحرفي من أضعف مراتب الوجود.

و بما انّ وضع لفظ لمعني يتوقف علي تصوّره، و المعاني الحرفية لا يمكن تصوّرها و إلاّ لا نسلخ عن المعني الحرفي و انقلب إلي المعني الاسمي، فيُحتال في مقام الوضع، بملاحظة المعاني الاسمية كالابتداء و الانتهاء و يوضع اللّفظ لا

ص: 50

بإزائها بل بإزاء مصاديقها الخارجية التي هي معان حرفية.

فلفظة »مِن« موضوعة لمصداق الابتداء لا لمفهوم الابتداء الكلّي و إلاّ ينقلب المعني الحرفي اسمياً، فالمحكيّ بلفظة »من« في قولك: »سرت من الكوفة إلي البصرة« ليس هو مفهوم الابتداء بل مصداقه الخارجي الذي لا يتحقّق إلاّ بطرفيها، أعني: »السير«و »الكوفة«. (1)

نعم هناك حروف ربما لا تنطبق عليها ما ذكرنا من الضابطة، و هذا نحو »واو« الاستئناف و»تاء« التأنيث في »ضربتْ« و »قد« في الفعل الماضي، فالأولي عدّها علامات لا حروفاً.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

و أمّا الثاني، أعني كيفية وضعها، فقد ظهر ممّا ذكرنا انّ وضع الحروف من قبيل الوضع العام و الموضوع له الخاص، فانّ الواضع لاحظ المعني الاسمي، فوضع اللّفظ بإزاء مصاديقه التي هي معان حرفية.

فإن قلت: إذا كان الملحوظ معني اسمياً فلا بدّ أن يكون مصداقه أيضاً كذلك، فحينئذ كيف يصحّ أن يقال»انّ الواضع لاحظ المعني الاسمي و وضع اللفظ بإزاء مصاديقه التي هي معان حرفية مع انّ مصداق كلّ شيء بحسبه.

قلت: انّ المعاني الاسمية علي قسمين:

1. ما يتمتع بالاستقلال تصوراً و مصداقاً، لحاظاً و تطبيقاً و ذلك كاسماء الأجناس مثل الإنسان فله مفهوم مستقل كما انّ له مصداقاً كذلك عند التطبيق علي الخارج.2.

ص: 51


1- . و ما ذكرناه هو المعروف بين الأُدباء في معاني الحروف، و هناك نظريات أُخري كنظرية المحقّق الرضي في شرح الكافية:10، ط مصر، التي اختارها المحقّق الخراساني، و نظرية المحقّق صاحب الحاشية، و نظرية المحقّق النائيني و تلميذه المحقّق الخوئي و قد بسطنا الكلام في نقد هذه النظريات في محاضراتنا المدونة باسم »المحصول«:681/62.

2. ما يتمتع بالاستقلال في مقام التصور و اللحاظ دون التطبيق علي الخارج و ذلك كمفهوم الابتداء أو الانتهاء فانّهما من المفاهيم الاسمية فيخبر عنهما كما يخبر بهما و يقال: الابتداء خبر من الانتهاء، و لكنّهما عند التطبيق لا ينطبقان إلاّ علي الموجود القائم بالغير المندك فيه، من السير و القراءة و الكتابة و غيرها و هذه خصيصة هذا القسم من المعاني الاسمية.

فالابتداء عند اللحاظ و التصور يتجلي بصورة مفهوم اسمي و عند التطبيق علي الخارج يتحقّق في معني قائم بالغير، كالابتداء المندك في السير إلي البصرة و غيره.

إذا عرفت ذلك فاعلم إذا حاول الواضع أن يضع لفظاً لمصاديق الابتداء و الانتهاء فلا محيص له من تصور تلك المصاديق و لو إجمالاً فعندئذ يلاحظ تلك المصاديق من خلال ذينك المفهومين الاسميين و يقول:

وضعت لفظة »مِن« أو لفظة «إلي« لما ينطبق عليه لفظ الابتداء أو يصدق عليه الانتهاء في الخارج.

فاتضح بما ذكرنا أمران:

1. انّه ربما يكون المفهوم اسمياً، و ما ينطبق عليه معني حرفياً.

2. انّ الواضع في وضع الحروف يلاحظ الحقائق الحرفية من خلال المفاهيم الاسمية.

ثمّ إنّ المعاني الحرفية علي قسمين:

1. معان حاكية. 2. معان ايجادية.

فالقسم الأوّل يحكي عن معني متحقق في الخارج، مثل قولك: سر من البصرة إلي الكوفة.

و القسم الثاني موجد للمعني بنفس الاستعمال، كالنداء و الخطاب في قولك: يا زيد أو قوله سبحانه:

( إِيّاكَ نَعْبُدُ (1) ).

ص: 52


1- سوره 1 - آيه 5

الأمر الخامس: في علامات الوضع

اشارة

ذكر المشهور لتمييز الحقيقة عن المجاز علامات نذكر منها ما يلي:

الأوّل: التبادر

إنّ سبق المعني من اللّفظ إلي الذهن بلا قرينة ، دليل علي أنّه هو الموضوع له، و المعني المجازي و إن كان ينسبق إليه أحياناً لكنّه يتبادر بمعونة القرينة.

و قد أُشكِل علي كون التبادر علامة الوضع بالدور و حاصله:

انّ العلم بالوضع متوقّف علي التبادر، و هو متوقّف علي العلم بالوضع، إذ لو لا العلم بأنّ اللّفظ موضوع لذلك المعني، لما تبادر.

و الجواب: انّ المراد من التبادر في المقام، هو التبادر عند المستعلم الذي هو من أهل اللسان و قد نشأ بينهم منذ نُعومة أظفاره إلي أنّ شبّ و شاب، و عندئذ العلم التفصيلي بالوضع موقوف علي التبادر عند ذاك الشخص، و لكنّ التبادر عنده غير موقوف علي ذلك العلم التفصيلي، بل يكفي العلم الإجمالي الارتكازي للوضع حيث إنّ المستعلم من أهل اللغة، له علم بالوضع منذ نشأ بين أهل اللّسان و إن لم يكن ملتفتاً إلي علمه هذا و بالجملة: العلم التفصيلي بالوضع موقوف علي التبادر، و التبادر موقوف علي العلم الارتكازي الحاصل للإنسان

ص: 53

الناشئ بين أهل اللغة من لدن صباه و إن كان غير ملتفت إلي علمه بالوضع.

و هذا النوع من العلم الإجمالي لا صلة له بالعلم الإجمالي المبحوث عنه في باب البراءة و الاشتغال.

هذا إذا كانت الحجّة للمستعلم تبادرَ نفسه الذي هو من أهل اللسان و أمّا إذا كانت الحجّة للمستعلم، تبادرَ الغير فهو كما إذا كان المستعلم من غير أهل اللسان و رأي أنّه كلّما يطلق الماء يتبادر عند بعض أهل اللسان، الرطب السيّال، فهو أيضاً غير مستلزم للدور، لأنّ العلم التفصيلي للمستعلم متوقّف علي التبادر بين بعض أهل اللسان، و التبادر لديه يتوقّف علي علمه الارتكازي بكون اللّفظ موضوعاً لذلك المعني. و يحصل ذلك العلم الارتكازي له بنشوئه بين أهل اللسان منذ صباه. (1)

الثاني: صحة الحمل

إنّ من علامات الوضع صحّة الحمل، توضيحه:

ص: 54


1- . و ربما يجاب عن الدور بأنّه لا محل له أساساً، لأنّه مبني علي افتراض انّ انتقال الذهن إلي المعني من اللّفظ فرع العلم بالوضع مع أنّه فرع نفس الوضع أي وجود عملية القرن الأكيد بين تصوّر اللّفظ و تصوّر المعني في ذهن الشخص، فالطفل الرضيع الذي اقترنت عنده كلمة »ماما« برؤية أُمّه، يكفي نفس هذا الاقتران الأكيد ليتصوّر أُمّه عند ما يسمع كلمة »ماما« مع أنّه ليس عالماً بالوضع إذ لا يعرف معني الوضع.1 يلاحظ عليه: أنّه ليس شيئاً جديداً بل هو عبارة أُخري عن العلم الارتكازي بالوضع، فإنّ مرجع اقتران كلمة »ماما« برؤية الأُمّ، في حياته إلي علمه الارتكازي بالوضع فانّ التقارن الممتد بين لفظ »ماما« و رؤية الأُمّ، يورث الملازمة بينهما عند الطفل فإذا سمع الأوّل من دون الرؤية ينتقل إلي الثانية بلا اختيار، و هذا هو المراد من العلم الارتكازي بالوضع. 1. دروس في علم الأُصول، الحلقة الثانية: 86.

إنّ الحمل علي قسمين:

1. حمل أوّلي ذاتي، و هو عبارة عن الوحدة بين المحمول و الموضوع مفهوماً، كما إذا قيل: الحيوان الناطق إنسان.

2. حمل شائع صناعي، و هو عبارة عن اختلاف الموضوع و المحمول مفهوماً و الاتحاد مصداقاً و وجوداً، كما إذا قلنا: زيد إنسان.

إذا أردنا أن نتعرف علي أنّ لفظ الإنسان هل هو موضوع للحيوان الناطق، فنجعل المعني موضوعاً، و اللّفظ الذي بصدد استعلام حاله محمولاً، فنقول: الحيوان الناطق إنسان، فنستكشف عن صحّة الحمل مفهوماً، كون الثاني موضوعاً للمعني المفروض، أعني: الحيوان الناطق. و بعبارة أُخري: نجعل ما نتصوّر انّه معني، موضوعاً للقضية و ننظر إليه بما انّه معني محض ليس معه لفظ، و نجعل اللّفظ الذي نريد تبيين معناه محمولاً، فيقال: الحيوان المفترس، أسد.

هذا إذا كان اللّفظ و المعني متميّزين كما في المثالين، و أمّا إذا لم يكن كذلك كما في المترادفات التي يصلح أن يكون كلّ مبيّناً و موضحاً للآخر، فيجعل المعلوم موضوعاً و المبهم محمولاً، و يقال: المطر هو الغيث و إن جاز العكس.

فكما أنّ صحّة الحمل آية الوضع، فكذلك صحّة السلب آية عدمه، كما إذا قال: الرجل الشجاع ليس بأسد.

هذا كلّه حول الحمل الأوّلي، و أمّا الحمل الشائع الصناعي فيجعل المصداق موضوعاً و اللفظ الذي بصدد استعلام حاله محمولاً و يقال:زيد إنسان، لكنّه لا يثبت به كون الموضوع هو الموضوع له للمحمول، و إنّما يُثبت كونه من مصاديق المعني الذي وضع له المحمول.

فتحصل من ذلك انّ الحمل الأوّلي يثبت كون المعني هو الموضوع له، لكن الحمل الثاني يثبت انّه مصداق للمعني الذي وضع له اللّفظ.

ص: 55

ثمّ إنّه أورد علي كون صحّة الحمل علامة بأُمور نذكر منها أمرين أحدهما في المتن و الآخر في الهامش:

الأوّل: انّ الاستكشاف و الاستعلام حاصل من التبادر الحاصل من تصوّر الموضوع السابق علي الحمل، فيكون إسناده إلي الحمل في غير محلّه. (1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه إنّما يرد إذا كان المستعلم عن طريق صحّة الحمل من أهل اللسان، فيتقدم التبادر عنده علي صحّة الحمل دون ما إذا لم يكن من أهله فليس عنده تبادر حتي يتقدم علي صحة الحمل، و من صحّ عنده الحمل، بما انّه ليس بصدد استكشاف المعني، غافل عن تبادره.

و ثانياً: سلمنا انّ المستعلم من أهل اللسان لكنّه إنّما يرد إذا كان زمان الاستكشاف مقارناً لزمان الحمل فيسبقه التبادر و يغني عن غيره.و أمّا إذا كان زمان الحمل مقدماً علي زمان الاستكشاف كما إذا ألقي محاضرة و اشتملت علي أحد الحملين من دون أن يكون بصدد استكشاف المعني الموضوع له، ثمّ صار بصدد الاستكشاف فرجع إلي خطاباته و محاضراته و رأي أنّ حمل المحمول بما له من المعني الارتكازي علي الموضوع متلائم جداً، فيستكشف انّ الموضوع الذي حمل عليه اللّفظ، هو المعني الحقيقي. (2)7.

ص: 56


1- . تهذيب الأُصول: 1/58.
2- . الثاني: ما يقال انّ صحّة الحمل إنّما تكون علامة علي كون المحمول عليه، هو نفس المعني المراد في المحمول أو مصداق المعني المراد، امّا انّ هذا المعني المراد في جانب المحمول هل هو معني حقيقي للّفظ أو مجازي؟ فلا سبيل إلي تعيين ذلك عن طريق صحّة الحمل، بل لا بدّ أن يرجع الإنسان إلي مرتكزاته لكي يعيّن ذلك.(1) يلاحظ عليه: هذا الشرط أنّ كون المعني المراد في جانب المحمول معني حقيقي، حاصل و ذلك من خلال كون الحمل عارياً عن كلّ شرط و يكفي هذا في كون المعني حقيقياً، بخلاف المعني المجازي فلا يصحّ الحمل إلاّ مع شرطين: الأوّل: وجود الادّعاء المصحّح للاستعمال، و انّ هذا هذا أو من مصاديقه. الثاني: كون المقام مناسباً لإعمال الادّعاء دون ما إذا لم يكن. و هذان الشرطان متوفران في قوله سبحانه:( وَ قُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ )(يوسف:31) حيث تخيّل للنساء الجالسات انّ فتي امرأة العزيز قد ارتقي من الجمال بمكان صيَّره ملكاً. و بما انّ المفروض كون الحمل فاقداً لكلّ من الشرطين يثبت كون المعني المراد في جانب المحمول معني حقيقياً. 1. دروس في علم الأُصول: الحلقة الثانية: 87.
الثالث: الاطراد

الاطراد هو العلامة الثالثة و قد قرر بالنحو التالي:

إذا اطرد استعمال لفظ في أفراد كلّي بحيثية خاصة، كرجل باعتبار الرجولية في زيد و عمرو مع القطع بعدم تعدّد الوضع، استكشف منه وجود علاقة الوضع بينها و بين ذاك الكلّي، و علم أنّه موضوع للطبيعي من المعني.

و احتمال كونه مجازاً لأجل وجود العلاقة، مدفوع بعدم الاطراد في علائق المجاز، فانّ علاقة الجزء و الكلّ ليست مطردة بشهادة انّه يصحّ استعمال »العين« في المراقب و لا يصحّ استعمال الشعر فيه، و يصحّ استعمال اللسان في الوكيل دون الصدر فيه و غير ذلك.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بما هذا توضيحه:

1. انّ المجاز و إن لم يطرد في نوع علائقه و مطلق المشابهة، إلاّ أنّه في خصوص ما يصحّ معه الاستعمال في المجاز مطرد كالحقيقة، فاستعمال الجزء في الكلّ مطرد في خصوص ما إذا كان للجزء دور خاص في المورد، كالمراقبة في العين، و التبيين في اللسان، و العمل في اليد. (1)

ص: 57


1- . كفاية الأُصول: 1/28 29.

يلاحظ عليه: أنّ المجاز غير مطرد حتي في صنف العلاقة الذي وصفه لما عرفت من أنّ صحّة المجاز وراء العلاقة قائمة بأمرين:

أ. حسن الادّعاء.

ب. كون المقام مناسباً لإظهار هذا الادّعاء.

و علي ذلك فالمجاز غير مطرد حتي في صنف العلائق بل يتوقّف مضافاً إلي صنف العلاقة علي توفُّر الشرطين المذكورين و لذا لا يصحّ استعمال الأسد في الرجل الأبخر لعدم حسن الادّعاء، كما لا يصحّ نداء الرجل الشجاع بلفظ يا أسد إذا لم يكن المقام مناسباً لإظهار الادّعاء كما إذا كان النداء لأجل تناول وجبة طعام.

هذا كلّه حول تقرير القوم.

و لكنّ التحقيق انّ العلامة المفيدة التي يدور عليها كشف الحقيقة و تمييزها عن المجاز هو هذه العلامة و لكنّ القوم أنار اللّه برهانهم لم يعطوا للمسألة حق النظر، و لو أمعنوا فيها لأذعنوا بأنّه من أنجع العلائم و أشملها، و ذلك انّ الجاهل باللغة إذا أراد أن يعرف معاني اللغات الأجنبية من أهل اللسان، فليس له طريق إلاّ الاستماع في مقامات مختلفة لمحمولات عديدة علي موضوع واحد، كما إذا رأي أنّ الفقيه يقول: الماء طاهر و مطهّر، أو قليل أو كثير، و الكيمياوي يقول: الماء رطب سيال، و الفيزياوي يقول: الماء لا لون له، و رأي اطراده في الموضوع الخاص، يحدس انّ اللفظ موضوع علي ما استعمل فيه في هذه الموارد، لأنّ المصحّح:

إمّا الوضع أو العلاقة، و الثاني لا اطراد فيه و المفروض انّه مطرد فتعين الأوّل.

و هذا هو الطريق الرائج في تحصيل معاني اللغات، و علي ذلك بُني منهج التفسير البياني في تحقيق كلمات الذكر الحكيم، حيث يتتبَّع موارد استعمال اللفظ

ص: 58

في القرآن إلي استخراج المعني الحقيقي له.

و قد ذكرنا لذلك مثالاً في الموجز (1) فلاحظ.

الرابع: تنصيص أهل اللغة

قد ذكروا انّ تنصيص أهل اللغة من أسباب التعرّف علي الوضع و تمييز الحقيقة عن المجاز.

و قد استشكل عليه بانّ ديدن أهل اللغة بيان المستعمل فيه لا الموضوع له، فتري أنّهم يذكرون للفظة القضاء معاني عشرة و للوحي معاني كثيرة مع أنّهما ليسا من المشترك اللفظي، فلا يكون تنصيص أهل اللغة علامة للوضع.

أقول: إنّ علماء الأُصول لم يُولوا هذا الموضوع أهمية نظيره في الاطراد، و يعلم ذلك من خلال النقاط التالية:

1. انّ المعاجم و القواميس ليست علي نحو واحد، فليس الجميع علي ما وصفوه من ذكر موارد الاستعمال، بل هناك مَنْ تطرّق إلي تمييز المعني الحقيقي عن المجازي، و المعني الأصلي عن المعاني المتفرعة منه، و قد ألّف علي هذا المنوال كتاب المقاييس لأحمد بن زكريا(المتوفّي 395ه) و أساس البلاغة للزمخشري(المتوفّي 538ه)، فالكتابان يعدّان من أحسن ما أُلّف في هذا الباب.

2. انّ الإمعان في المعاجم المعروفة المتداولة التي تتكفل لبيان موارد الاستعمال ربما يوصل الإنسان الذكي إلي تمييز المعني الحقيقي عن المجازي شريطة أن يكون له ذوق لغوي و فطانة خاصة، مثلاً: إذا رجع إلي »القاموس« يري انّه ذكر للفظ القضاء معاني عشرة و للوحي معاني متنوعة، لكن لو أمعن النظر

ص: 59


1- . الموجز:1312.

يقف علي أنّ الجميع صور مختلفة لمعني واحد و هو إتقان العمل، في مورد القضاء، و الإفهام بخفاء في مورد الوحي، و الباقي صور لهذين المعنيين، و لذلك يجب علي الفقيه، ممارسة المعاجم و مطالعتها مع ما فيها من الخلل كمطالعة الكتب الفقهية و الأُصولية حتي يخالط علمُ اللغة دمَه و لحمَه، عندئذ يتسنّي له القضاء في اللغة و يميّز المعني الحقيقي عن المجازي كما هو ديدن الأوائل من علمائنا كالصدوق و المفيد و المرتضي و الطوسي و الطبرسي، فكانوا ذوي باع طويل في اللغة قبل أن يكونوا فقهاء.

3. انّ الأوائل من مدوني اللغة كالخليل بن أحمد الفراهيدي(المتوفّي 170ه) و الجوهري(المتوفّي 299ه) قد أخذوا كثيراً من المعاني من ألسن سكّان البوادي الذين قطنوا الجزيرة العربية، فإذا أخبر الخليل في كتاب العين عما سمعه من سكان البوادي، يُصدَّق كما يصدَّق قوله في النحو و الصرف و العروض و غيرها من العلوم العربية.

ص: 60

الأمر السادس: الجمل الإخبارية و الإنشائية

ذهب مشاهير الأُدباء و الأُصوليين إلي أنّ دور الصيغ الإنشائية هو دور الإيجاد لمعانيها فإذا قال:

زوّجت، فقد أوجد علقة الزوجية بين الزوجين، و إذا قال: بعت بقصد الإنشاء، فقد أوجد علقة الملكية بين البائع و المشتري، و إذا قال: هل قام زيد؟ فقد أنشأ استفهاماً بالحمل الشائع، إلي غير ذلك من الجمل الإنشائية بخلاف الجمل الإخبارية فإنّها بصدد الإخبار عن واقع المعاني المتحقّقة مع قطع النظر عن اللّفظ من دون أن تكون فيها رائحة الإنشاء و الإيجاد.

و إن أردت التشبيه فلاحظ معاني الحروف فانّ قسماً منها حاك عن معني متحقّق في الخارج، كما إذا قال: سرت من البصرة إلي الكوفة، فالحرفان مشيران إلي الابتداء و الانتهاء الآليين المتحقّقين في الخارج قبل تكلمه.

كما أنّ قسماً منها موجد للمعني من دون أن يكون له واقع وراء الاستعمال كما هو الحال في الخطاب و النداء، فإذا قال: يا زيد، فقد أوجد نداءً و خطاباً بنفس الاستعمال. و هكذا الجمل فهي بين إخبارية تحكي عن شيء وراء الاستعمال، و إنشائية موجدة للمعني بنفس النطق بها.

ص: 61

هذا هو المشهور، و لأجل المزيد من التوضيح، نقول:

إنّ الزوجية و الملكية و الرئاسة مفاهيم اجتماعية تدور عليها رحي الحياة، إنّما الكلام في كيفية اعتبارها أوّلاً، ثمّ إنشائها و إيجادها في عالم الاعتبار ثانياً.

نقول: إنّ الإنسان إذا نظر إلي صحيفة الوجود رأي أنّ هناك أشياء مزدوجة يُعدّ كل منها عدلاً للآخر تكويناً ، كالعينين و الأُذنين و الرجلين ، هذا من جانب و من جانب آخر رأي انّ بين الرجل و المرأة تجاذباً جنسيّاً و عاطفيّاً علي نحو تقتضي حالهما أن يجعل كلٌّ عِدلاً للآخر.

و هذا ما يدعو المقنِّن إلي تصوير الرجل و المرأة كالزوجين التكوينيين يتساهمان في الحياة. لكن الزوجية الاعتبارية كالزوجية التكوينية بحاجة إلي جعل متناسب لها، فالزوجية التكوينية لها عامل تكويني يؤثر في خلق الأُذنين و اليدين و أمّا الزوجية الاعتبارية فلا بدّ لها من عامل اعتباري يُضفي للرجل و المرأة وصف الزوجية انشاءً و اعتباراً و لها أسباب و أدوات، أوضحها هي الألفاظ التي يستعان بها علي الجعل و الإيجاد في ظرف الاعتبار.

و منه يعلم حال سائر الأُمور الاعتبارية التي تنشأ بالألفاظ، فمثلاً انّ الملكية الاعتبارية استنساخ للملكية التكوينية للإنسان بالنسبة إلي سائر أعضائه فيري نفسه مالكاً لأعضائه ملكية تكوينيّة فتكون مبدأً لاعتبارها في غير واحد من الموارد، كاعتبار المقنّن كون البائع مالكاً للثمن مقابل ما دفع إلي المشتري من المثمن.

و بالعكس غير انّ هذا الاعتبار، أمر ذهني لا يعتبر عند العقلاء إلاّ بإيجادها في خارج الذهن بسبب من الأسباب أوضحها قولهما: بعت و اشتريت.

و بذلك يعلم أنّ الأُمور الاعتبارية المنشأة لها جذور في التكوين فيقتبس المقنِّن ما هو الموجود في التكوين و يعتبره في عالم الاعتبار بين الزوجين أو بين

ص: 62

المالين، و هكذا سائر الأُمور الاعتبارية.

كما يعلم أنّ الإنشائيات لا توصف بالصدق أو الكذب، و ذلك لأنّ الجمل الإنشائية وضعت للإيجاد اعتباراً بالاستعمال و المفروض تحقق السبب و يتلوه المسبب.

و ما ذكرناه هي النظرية المعروفة ، و هناك نظريّات أُخري في الفرق بين الإخبار و الإنشاء موكولة إلي دراسات عليا.

ص: 63

الأمر السابع: في الحقيقة الشرعية

إنّ ألفاظ الصلاة و الصوم و الزكاة و الحجّ كانت حقائق لغوية في الدعاء و الإمساك و النمو و القصد، غير انّ المتبادر منها في عصر الصادقين(عليهما السلام) بل قبله أيضاً هو المعاني الخاصة، فيقع الكلام في كيفية كونها حقائق في هذه المعاني الثانية، فهناك أقوال أربعة:

القول الأوّل: ذهب أبو بكر الباقلاني(المتوفّي403ه) من أكابر الأشاعرة إلي نفي موضوع البحث، و هو انّ هذه الألفاظ باقية في معانيها اللغويّة و قد استعملت فيها و طُبِّقت علي مصاديق، كشف عنها الشارع، فالصلاة بالهيئة المخصوصة من مصاديق الدعاء، و الصوم بالنحو المعين من مصاديق الإمساك و أمّا سائر الخصوصيات فقد علمت من دوال أُخر، فهذه النظرية لا تعدّ في الحقيقة قولاً في المسألة لأنّها نافية للموضوع من أساسه.

مضافاً إلي أنّ ادّعاء بقاء الألفاظ في نفس المعاني و انّ المصاديق الفعلية من جزئياتها، من السخافة بمكان، إذ أين الدعاء من الصلاة؟ و اشتمالها علي الدعاء لا يجعلها من مصاديق الدعاء. و مثلها سائر الألفاظ.

القول الثاني: إنّما نقلت في لسان النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) من معانيها اللغوية إلي المعاني

ص: 64

الشرعية بالوضع التعييني أو التعيّني فصارت حقائق في تلك المعاني في عصره.

ثمّ إنّ صيرورتها حقائق شرعية في لسانه يتصوّر لها وجوه ثلاثة:

أ: أن يقوم الشارع بوضعها لها بالوضع التعييني و يخبر الناس بها، و هو بعيد جداً.

ب: حصول الوضع التعيّني بكثرة الاستعمال في عصر الرسول، و هو أمر غير بعيد لطول زمان الرسالة.

ج: الاستعمال بداع الوضع كما إذا احتفلت الأُسرة بتسمية المولود الجديد و الكل ينظرون إلي كبيرهم، فإذا هو يقول: ائتوني بولدي الحسن، فهو بنفس هذا الاستعمال يسمّيه حسناً، و لعل النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)عند ما قال: صلّوا كما رأيتموني أُصلّي، قام بنفس هذا العمل.

و بالجملة انّ القول الثاني علي الوجهين الأخيرين أمر قريب لو لم يكن هناك وجه أصح.

القول الثالث: إنّها استعملت في لسان النبي في تلك المعاني مجازاً ثمّ صارت حقائق فيها في لسان المتشرّعة بعد رحيل الرسول، فهي حقائق متشرعية لا شرعية.

يلاحظ عليه: أنّ عصر الرسالة لم يكن عصراً قصيراً، فقد كان المسلمون في المدينة المنوّرة يصلّون مع النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) في أوقات خمسة و المؤذِّن ينادي في كلّ نهار و ليل بقوله:(حيّ علي الصلاة) فهل يمكن لنا عدّ هذه الاستعمالات مجازاً مع طول الزمان؟ فتحصّل من ذلك إنّ القول الأوّل لا يعتدّ به، و القول الثاني أي كونها حقائق شرعيه في عصره أقرب من القول الثالث، و لكنّ هناك قولاً رابعاً هو أقوي

ص: 65

الأقوال و أسدِّها بل هو المتعيّن، و إليك بيانه.

القول الرابع: إنّ هذه الألفاظ كما كانت حقائق في المعاني اللغوية كذلك كانت حقائق في هذه المعاني الشرعية أيضاً قبل بعثة النبي و نزول القرآن عليه، و ذلك لأنّ هذه العبادات لم تكن من ابتكارات الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم)، بل كانت موجودة في الشرائع السابقة، و من البعيد جدّاً أن لا يكون في لغة العرب لفظ يعبر عن هذه المعاني و قد كان في الجاهليّة حنفاء يصلّون و يحجّون.

و يشهد علي ذلك أي كون تلك الحقائق موجودة في الشرائع السابقة الآيات التالية:

قال تعالي:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (1) ). (2)

و قال تعالي:( وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلي كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (3) ). (4)

و قال تعالي:( قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا* وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (5) ). (6)

و قال تعالي:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا* وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (7) ). (8)

نعم وجود تلك الماهيات قبل البعثة غير كاف إلاّ إذا انضمّ إليه أنّ العرب قبل عصر الرسالة كانت عارفة بها و كانت تعبّر عنها بهذه الألفاظ، إذ من البعيد5.

ص: 66


1- سوره 2 - آيه 183
2- . البقرة:183.
3- سوره 22 - آيه 27
4- . الحج:27.
5- سوره 19 - آيه 30
6- . مريم:3130.
7- سوره 19 - آيه 54
8- . مريم:54و55.

أن لا يكون لها لفظ تشير به إليها.

و يؤيد ذلك انّ النبي كان يعبّر عن هذه الماهيات بهذه الألفاظ في بدء البعثة، و ذلك لأنّ لفظ الصلاة ورد في السور المكية 35 مرة، و كان تشريع الصلاة ليلة المعراج في العام العاشر من البعثة و قد نزلت كثير من الآيات المشتملة علي هذه الألفاظ في أوائل البعثة قبل المعراج، كقوله سبحانه في سورة القيامة:

( فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلّي * وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّي (1) ) (2). و في سورة المدثر( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (3) ) (4)، و في سورة العلق( أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهي * عَبْداً إِذا صَلّي (5) ) (6) و في سورة الأعلي( وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّي (7) ) (8) ، و في سورة الكوثر:( إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (9) ) (10) إلي غير ذلك من الآيات الواردة في بدء البعثة، الشاملة للصلاة و الزكاة الحاكية عن تبادر المعاني الشرعية منها منذ صدع النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)بالرسالة.

و أمّا الثمرة فتظهر في الألفاظ الواردة علي لسان النبي بلا قرينة، كما إذا قال: إذا رأيتم الهلال فصلّوا، فعلي القول الثاني يحمل علي الحقيقة المعروفة بخلافه علي القول الثالث.

و أمّا علي القول الرابع فالثمرة معدومة، لأنّها تحمل علي الماهية الشرعية علي كلّ حال و إنّما طرحنا المسألة لأجل إيقاف القارئ علي سير التشريع علي وجه الإجمال.2.

ص: 67


1- سوره 75 - آيه 31
2- . القيامة:31و32.
3- سوره 74 - آيه 43
4- . المدثر:43.
5- سوره 96 - آيه 9
6- . العلق:9و10.
7- سوره 87 - آيه 15
8- . الأعلي:15.
9- سوره 108 - آيه 1
10- . الكوثر:1و2.

الأمر الثامن: هل أسماء العبادات و المعاملات

اشارة

موضوعة للصحيح أو للأعم؟

و يقع الكلام في مقامين: الأول في اسماء العبادات:

و قبل الخوض في المقصود، نقدم أُموراً:
الأوّل: في إمكان جريان النزاع علي عامّة الآراء

إنّ عنوان البحث يعرب عن أنّ الهدف تعيين ما هو الموضوع له لأسماء العبادات عند الشارع فيصح البحث علي أحد المبنيين:

أ: ثبوت الحقيقة الشرعية في لسان الشارع(القول الثاني) في المبحث السابق.

ب: ثبوت الحقيقة العرفية لهذه الألفاظ في الماهيات الشرعية قبل البعثة(القول الرابع).

و أمّا علي القول باستعمالها في لسان الشارع مجازاً و صيرورتها حقائق متشرعة فلا ينطبق عليه عنوان البحث. إلاّ إذا تغيّر عنوانه بأن يقال:هل لاحظ الشارع في استعماله، العلاقة بين المعاني اللغوية، و الماهيات الشرعية الصحيحة أو لاحظ العلاقة بينها و بين الأعمّ من هذه الماهيات.

ص: 68

كما أنّه يجب تغيير عنوان البحث علي القول ببقاء الألفاظ علي معانيها اللغوية و انّ إرادة الخصوصيات حصلت عن طريق الدوال الأُخر،(كما هو خيرة الباقلاني (1) بأن يقال: انّ القرينة التي نصبها الشارع لإفادة الخصوصيات هل كانت دالّة علي إرادة المعني الصحيح أو الأعمّ و يكون الأصل في الاستعمال هو المعني الذي نُصِبت عليه القرينة في هذا الاستعمال بحيث تحتاج إرادة المعني الآخر إلي القرينة.

فتلخّص من ذلك انّ عنوان البحث إنّما يصحّ علي القولين الأوّلين دون الأخيرين إلاّ بتغيير عنوانه.

الثاني: في تفسير الصحّة لغة و شرعاً

قد تطلق الصحّة و يراد بها أحد المعنيين:

1. ما يقابل السقم و المرض، فيقال: صحيح و مريض. و علي هذا فهما أمران وجوديّان، و كيفيّتان عارضتان للشيء باعتبار اتّصافه بكيفية ملائمة أو منافرة.

فالصحيح بهذا المعني يقابله في العبادات و المعاملات الفاسد.

2. ما يقابل المعيب، فيقال: صحيح و معيب، و علي هذا تكون الصحة أمراً وجودياً و ما يقابلها أمراً عدمياً. و الصحّة بهذا المعني يقابلها النقص لا الفساد، هذا هو تفسير الصحّة حسب اللغة.

و أمّا حسب الاصطلاح، فالصحّة تارة تقع وصفاً للعبادة أو المعاملة

ص: 69


1- . هو أبو بكر محمد الطيب بن محمد القاضي المعروف ب»ابن الباقلاني« وليد البصرة، و ساكن بغداد، متكلم علي مذهب أبي الحسن الأشعري معاصر للشيخ المفيد، توفي عام 403ه و له كتاب »اعجاز القرآن« و»التمهيد« و »الانصاف« لاحظ ترجمته في كتابنا »بحوث في الملل و النحل«:3142/311.

المتحقّقة، فتكون نتيجة الصحّة كون العمل الخارجي مطابقاً لما اعتبره الشارع فيهما و يترتب عليه إسقاط القضاء و الإعادة في العبادات، و لزوم الوفاء في المعاملات; و أُخري تقع وصفاً للعنوان الكلّي منهما ،فيقال: ألفاظ العبادات و المعاملات وضعت للصحيح منهما فيكون مفادها في العبادات كون ألفاظها موضوعاً لما تمّت أجزاؤها و كملت شروطها، و في المعاملات علي القول بوضعها للأسباب(العقود) كون ألفاظها موضوعة للأسباب الحاوية لتمام الأجزاء و الشرائط.

و أمّا علي القول بوضع ألفاظها للمعاني المسببية كالملكية و الزوجية فيرجع النزاع إلي كونها موضوعة للماهية الاعتباريّة بحيث لو وجدت في الخراج لَوُصِفَت بالصحة شرعاً. (1)

الثالث:لزوم وجود جامع علي القولين

يجب علي كلّ من القولين تصوير جامع منطبق علي الأفراد المختلفة، فعلي الصحيحي أن يصور جامعاً شاملاً لجميع أفراد الصلاة علي اختلافها في الأجزاء و الشرائط قلّة و كثرة.

أقول: انّ تصوير الجامع علي القول بالصحيح أمر مشكل، لأنّ لازم كونها موضوعة للأجزاء القليلة هو جواز الاكتفاء بها أوّلاً، و كون الأجزاء الأُخر أمراً

ص: 70


1- . و من ذلك يعلم ضعف ما ربما يقال من عدم إمكان تصوير النزاع علي القول بأنّ المعاملات موضوعة للمسببات، و ذلك لأنّها من الأُمور البسيطة التي يدور أمرها بين الوجود و العدم فلا يتأتي علي هذا الفرض النزاع السابق، لأنّ الملكية إمّا موجودة أو غير موجودة، و الزوجية إمّا متحقّقة أو غير متحقّقة، فلا معني للزوجية أو الملكية الفاسدتين. وجه الضعف فإنّ المتصوّر الذهني للمسبب و إن كان أمره دائراً بين الوجود و العدم، لكن الكلام في أمر آخر، و هو:هل ذلك المعني البسيط بعد الاتيان به علي نحو ينطبق عليه عنوان الصحيح شرعاً، أو ينطبق عليه الأعم منه و من الفاسد.

خارجاً عنها ثانياً، كما أنّ لازم كونها موضوعة للأجزاء الكثيرة خروج المشتمل علي الأجزاء القليلة عن تحت الصلاة. فلا يكون للصحيح إلاّ مصداق واحد.

و أمّا علي القول بالأعم فتصوير الجامع أمر سهل جدّاً إذ في وسعه أن يقول: بانّه موضوع للأركان، و أمّا الباقي فهو اجزاء للمأمور به و ليست جزءاً للمسمي.

و بذلك يعلم أنّ الصحيحي لا محيص له إلاّ عن جعل الجميع جزء المسمّي و هو أمر غير ممكن في بادئ النظر لاختلاف الصحيح حسب اختلاف حالات المكلّف من حيث الأجزاء و الشرائط، و هذا بخلافه علي القول بالأعم، فالأجزاء الثابتة(الأركان)علي كلّ حال من أجزاء المسمّي و الباقي من أجزاء المأمور به.

و قد بذل القوم جهودهم لتصوير الجامع علي القول بالصحيح الذي يصدق علي جميع المراتب. و ذكروا تقريبات حول تصوير الجامع أوضحها ما ذكره السيد الإمام الخميني، و هذا خلاصته:

المركبات الاعتبارية علي قسمين:

قسم يكون الملحوظ فيه كثرة معينة، كعدد العشرة فإنّها علي وجه لو فقد منها جزء تنعدم العشرة.

و قسم يكون علي نحو لم تلحظ فيه كثرة معينة في ناحية المواد و لا صورة معينة في جانب الهيئة.

أمّا في جانب المواد فيصدق اللّفظ ما دامت هيئتها و صورتها موجودة قلّت موادها أو كثرت، و هذا نظير لفظ الدار و البيت، فانّ الميزان للصدق هي هيئة الدار و صورتها، و أمّا من حيث المادة، كيفية و كمية فهي لا بشرط، و لذلك يصدق البيت علي ما أخذت موادها من الطين أو الآجر أو الحجر أو الحديد أو الاسمنت.

أمّا في جانب الهيئة فلم تلحظ هيئة معيّنة فيصدق سواء بُنيت علي هيئة

ص: 71

مربعة أو مثلثة، بنيت علي طبقة واحدة أو طبقات، فهو موضوع لهيئة مخصوصة غير معينة، فهو لا بشرط من جانب المادة و الهيئة.

إذا عرفت ذلك نقول: إنّ لفظ الصلاة موضوعة لنفس الهيئة اللابشرط، الموجودة في الفرائض و النوافل قصرها و تمامها، و ما وجب علي الصحيح أو المريض بأقسامها، فيكفي في صدقها، وجود هيئة بمراتبها إلاّ بعض المراتب التي لا تكون صلاة كصلاة الغرقي، لعدم وجود مواد من ذكر و قرآن و سجود و ركوع. (1)

المقام الأوّل: في وضع أسماء العبادات للصحيح

استدلّ للقول بوضع أسماء العبادات للصحيح بوجوه:

1.تبادر الصحيح.

2. صحّة السلب عن الفاسد بسبب الإخلال ببعض أجزاء العبادة.

3. الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص و الآثار للمسمّيات كقوله: الصلاة عمود الدين أو معراج المؤمن ممّا يترتب علي الصحيح.

و قد نوقشت هذه الأدلّة بوجوه لا حاجة لذكرها.

و الأولي أن يستدلّ عليه بأنّ الصلاة ماهية اعتبارية، اعتبرها المعتبر لأغراض خاصة وردت في الكتاب و السنّة، و تلك الأغراض إنّما تترتّب علي الصحيح منها دون الأعمّ.

ص: 72


1- . تهذيب الأُصول: 781/77.

و إن شئت قلت: إنّ الشارع لمّا أراد تهذيب الإنسان و تربيته، من جانب، و من جانب آخر انّ ذلك الغرض، إنّما يترتب علي العبادة الصحيحة. و من المعلوم انّ الفعل يُتحدّد من ناحية العلة الغائية فلا يكون العمل أوسع من الغرض و الغاية المحرِّكة، و المعلول الوضع يتضيق من ناحية علته الغائية.

و بعبارة أُخري:انّ طبيعة الحال تقتضي أن يضع اللّفظ لما تعلق به غرضه و يفي به و هو الصحيح لا الأعم، فانّ الداعي للاعتبار هو الداعي للوضع، فوضع اللفظ للأوسع من الغرض يحتاج إلي داع آخر غير موجود.

نعم الإتيان بما يتعلق به الغرض يقتضي وجود قسم آخر و هو الفاسد، فيطلق عليه الاسم(الصلاة) عناية. و مقتضي ذلك أن يكون الموضوع له هو ما يترتّب عليه الغرض، و استعماله في الفاسد من باب العناية و المجاز.

المقام الثاني: في وضع اسماء المعاملات للصحيح

انّ العبادات من مخترعات الشارع فيصحّ فيها البحث عن انّ ألفاظها هل هي موضوعة في الشرع للصحيح أو للأعم منها، و أمّا المعاملات فهي من مخترعات العقلاء و هم الذين وضعوا ألفاظ المعاملات في مقابل ما اعتبروه بيعاً أو نكاحاً أو إجارة و ليس للشارع فيها دور سوي تحديدها بحدود و قيود فعلي ذلك فلا بدّ من تخصيص النزاع في كونها موضوعة للصحيح فحسب أو الأعم عند العرف.

و مع القول بامكان وضعها للأعم عند العرف لكن الدليل السالف الذكر

ص: 73

في ألفاظ العبادات هو الدليل أيضاً علي انّ ألفاظ المعاملات عند العرف موضوعة للصحيح لما عرفت من انّ الغرض يُحدِّد فعل الإنسان فلا يصدر عن الإنسان الحكيم فعل أوسع من غرضه.و بما انّ المصالح التي تدور عليها رحي الحياة قائمة بالمعاملات الصحيحة و هم أيضاً قد اعتبروها لتلك الغايات فلا بدّ أن يُحدَّد عملهم(وضع الألفاظ) بما يناسب الغاية و هو الوضع للقسم الصحيح دون الأعم.

إذا عرفت أنّ اسماء العبادات و المعاملات اسماء للصحيح منها لا للأعم، يقع الكلام في ثمرات النزاع.

ثمرات النزاع
اشارة

قد ذكر للنزاع أربع ثمرات نذكرها، واحدة بعد الأُخري:

الأُولي: عدم صحّة التمسّك بالإطلاق علي الصحيح
اشارة

قد اشتهر انّ ثمرة البحث هو عدم صحّة التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في جزئية شيء علي القول بالوضع للصحيح، و صحّة التمسك به علي القول بالأعم.

توضيحها: انّه إنّما يصحّ التمسّك بالإطلاق فيما إذا أحرز صدق الموضوع علي المورد و شك في مدخلية شيء آخر وراء صدقه، كما إذا أمر المولي بعتق رقبة، و شك في اعتبار الإيمان فيها، فحينئذ يتمسّك بالإطلاق في رفع احتمال اعتبار الإيمان، إذ لو كان الإيمان دخيلاً في غرض المولي وراء صدق الرقبة لكان اللازم ذكره و أمّا إذا لم يكن الموضوع محرزاً و صار الشكّ في مدخلية الأمر المشكوك سبباً للشكّ في صدق الموضوع فلا يصحّ حينئذ التمسك به، كما إذا أمر المولي بالتيمّم

ص: 74

علي الصعيد و شكّ في معناه و أنّه هل هو خصوص التراب، أو مطلق وجه الأرض من الحجر و الجص و النورة و غيرها؟ ففي مثله لا يمكن التمسّك بالإطلاق لدفع احتمال مدخلية التراب، و لا يصحّ لنا القول بأنّه لو كان التراب دخيلاً في صحّة التيمم كان علي الشارع بيانه لاحتمال انّ الشارع قد بيّن مدخلية التراب في موضوع حكمه باستخدامه لفظ الصعيد.

و يتّضح علي ضوء هذين المثالين:انّه لو شكّ في اعتبار السورة في صدق الصلاة، فعلي القول بالصحيح و أنّها موضوعة للماهية الجامعة للأجزاء و الشرائط، يكون المورد من قبيل المثال الثاني، حيث يشكّ المصلي في أنّ ما أتي به هل هو صلاة أو ليس بصلاة؟ لانّها موضوعة للصحيحة و الشكّ في الصحّة يلازم الشكّ في صدق الموضوع.

و أمّا علي القول الآخر أي وضعها للأعم من الصحيح فيكون من قبيل المثال الأوّل، لأنّ الموضوع (الصلاة) محرز بحكم كونها موضوعة للأعمّ، سواء أ كانت السورة دخيلة في الفريضة أم لا، فإذا لم يدلّ علي وجوبها دليل يُتمسك بالإطلاق و ينفي وجوبه.

فصارت الثمرة عدم جواز التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في جزئية شيء أو شرطيته للعبادة علي القول بالصحيح و جوازه علي القول بالأعم.

نقد الثمرة في العبادات

لكن يمكن أن يقال بصحّة التمسّك علي القول بوضعها للصحيح و ذلك انّ لفظة الصلاة موضوعة لنفس الهيئة اللابشرط الموجودة في الفرائض و النوافل قصرها و تمامها، و في ما وجب علي الصحيح أو المريض بأقسامها فيكفي في صدقها، وجودُ هيئة الصلاتيّة بإحدي مراتبها إلاّ بعض المراتب التي لا تكون

ص: 75

صلاة كصلاة الغرقاء.

كما أنّها من حيث المادة لم تؤخذ فيها كثرة معينة بل أخذت لا بشرط، و يكفي فيها التكبير و الركوع و السجود و الطهور و تصدق علي الميسور من كلّ واحد منها، و من المعلوم انّ هذا المقدار من الموضوع محرز عند الشكّ في جزئية شيء كالسورة أو شرطيته، فلا يكون الشكّ فيهما شكّاً في صدق الموضوع بل الموضوع محرز و إنّما الكلام في وجوب الجزء الزائد علي الموضوع و هكذا الشرط.

هذا كلّه في العبادات، و أمّا المعاملات فربما يقال بنفس الثمرة و انّ التمسّك بالإطلاق إنّما هو علي القول بالأعم دون الصحيح.

توضيح ذلك إذا قال الشارع:( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) ) (2)، فلو قلنا بأنّ الألفاظ موضوعة للأسباب التامة من حيث اجتماع الأجزاء و الشرائط، و مع ذلك شكّ في جزئية شيء أو شرطيته للأسباب، كتقدّم الإيجاب علي القبول و عدمه، فعلي القول بالصحيح لا يصحّ التمسّك بالإطلاق لأنّ مرجع الشكّ فيه إلي الشكّ في صدق الموضوع.

و من المعلوم انّ التمسّك بالإطلاق فرع إحراز الموضوع، بخلافه علي القول بالأعم فانّ الإيجاب إذا تأخّر يتحقّق البيع أو النكاح قطعاً، و إنّما يشكّ في مدخلية التقدم في صحّته لا في صدقه و كونه جزءاً للمسمّي و عندئذ يتمسك بالإطلاق و تنفي شرطية التقدّم.

نقد الثمرة في المعاملات

و يمكن أن يقال بصحّة التمسّك بالإطلاقات حتي علي القول بوضعها

ص: 76


1- سوره 5 - آيه 1
2- . المائدة:1.

للصحيح و يكفي في صحّة التمسّك إحراز الموضوع عرفاً، و ذلك لأنّ المعاملات مخترعات عرفية، و قد أمضاها الشارع بما لها من المعني العرفي، غير انّه أضاف شروطاً أو اعتبر موانع من الصحّة، فعلي ذلك فيمكن استكشاف ما هو المؤثر عند الشارع من خلال ما هو المؤثر عند العرف(إلاّ إذا دلّ الدليل علي عدم التطابق). إذ لو كان المؤثر عنده غير ما هو المؤثر عند العرف لزمه البيان لئلاّ يلزم نقض الغرض و لغوية الأدلّة الإمضائيّة.

و بعبارة أُخري: انّ أسماء المعاملات التي وقعت مورد الإمضاء سواء أ كانت اسماً للسبب كما في قوله:( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) )أم كانت اسماً للمسبب أي العلقة الحاصلة من الايجاب و القبول كما في قوله سبحانه :( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ (2) ) (3) و قوله: »الصلح جائز بين المسلمين« (4) ألفاظ واضحة المعاني عند العرف غير انّ الشارع تصرّف فيها بإضافة قيد أو شرط أو غير ذلك، فإذا كان كذلك يكون الفهم العرفي في هذه الألفاظ طريقاً شرعياً إلي ما هو المعتبر عند الشارع إلاّ ما خرج و ذلك أخذاً بمقتضي الإطلاق، إذ لو كان ما هو السبب المؤثر عنده غير ما هو المرتكز في أذهان العرف كما في بيع المنابذة (5)، أو كان المسبب المعتبر عنده غير المعتبر عند العرف كما في نكاح الشغار. (6) كان عليه البيان و إلاّ تلزم لغوية هذه الإمضاءات التي تصبح مجملات.2.

ص: 77


1- سوره 5 - آيه 1
2- سوره 2 - آيه 275
3- . البقرة:275.
4- . الوسائل: الجزء 13، الباب 3 من أبواب كتاب الصلح، الحديث 2.
5- . و هو بيع القاء الحجر أو بيع الحصاة فيحضر الرجل قطيع الغنم فينبذ الحصاة و يقول لصاحب الغنم انّ ما أصاب الحجر فهو لي بكذا.
6- . نكاح الشغار: أن يزوج الرجل ابنته أو أُخته و يتزوج ابنة المتزوج أو أُخته و لا يكون بينهما مهر غير التزويجين لاحظ الوسائل: الجزء 14، الباب 27 من أبواب عقد النكاح الحديث2.

و إلي هذا الوجه يشير الشيخ الأنصاري في آخر تعريف البيع حيث يقول:

»و أمّا وجه تمسّك العلماء بإطلاق أدلّة البيع و نحوه، فلأنّ الخطابات لما وردت علي طبق العرف حمل لفظ البيع و شبهه في الخطابات الشرعية علي ما هو الصحيح المؤثر عند العرف فيستدل بإطلاق الحكم بحله أو بوجوب الوفاء، علي كونه مؤثراً في نظر الشارع. (1)

الثانية:عدم صحّة التمسّك بالبراءة علي الصحيح

انّ الثمرة الثانية للبحث هي انّ الفقيه إذا شكّ في شرطية شيء أو جزئيّته للمسمّي، فعلي القول بالوضع للصحيح يكون الشكّ في شرطية شيء أو جزئيته ملازماً للشكّ في صدق المسمّي، و معه يجب الاحتياط حتي يعلم أنّه أتي بالمسمّي. بخلاف ما إذا قلنا بالوضع للأعمّ فإنّ الفاقد للمشكوك يكون مصداقاً للمسمّي و يعود الشكّ إلي الشكّ في شرطية شيء زائد علي المسمي أو جزئيته، فيكون الشكّ من قبيل الشكّ في تكليف أمر زائد. و يقع مجري للبراءة،و هذا بخلاف ما إذا قلنا بالوضع للصحيح.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يصحّ إذا كان الموضوع له أمراً بسيطاً حاصلاً من الأجزاء و الشرائط كعنوان »الناهي عن الفحشاء« فعندئذ يرجع الشكّ في جزئية شيء أو شرطيته إلي صدق الناهي عن الفحشاء و عدمه، و أمّا إذا كان الموضوع له أمراً مركباً ذا أجزاء و شرائط و ذا مراتب كما مرّ فيصدق الجامع علي الفاقد من الجزء المشكوك و يكون الشكّ في وجوب أمر زائد و المرجع عندئذ البراءة.

و الحاصل انّه إذا كان الجامع ذا أبعاض و كان تعلّق التكليف بالمقدار المتيقن معلوماً و بغيره مشكوكاً ، يكون المرجع هو البراءة لانحلال العلم الإجمالي.

ص: 78


1- . المتاجر: آخر تعريف البيع.
الثالثة: صدق الوفاء بالنذر علي الأعم

إذا نذر الرجل أن يعطي درهماً للمصلّي فعلي القول بوضعها للصحيح لا يُجزي و لا تبرأ ذمّته إلاّ باعطائه لمن صلّي صلاة صحيحة، بخلافه علي القول بالأعم فيجزي مطلقاً، كانت صلاته صحيحة أم فاسدة.

يلاحظ عليه: انّ الاجزاء و براءة الذمة تابع لكيفية النذر، لا للوضع فلو نذر أن يعطي لمن صلّي صلاة صحيحة فلا يجزي الدفع لغيره و إن كان الوضع للأعم، و لو نذر أن يعطي الأعم ممّن صلّي صلاة صحيحة، يجزي و إن كان الوضع للصحيح.

الرابعة: صحّة صلاة الرجل عند المحاذاة مع المرأة

ربما يقال: انّه تظهر الثمرة فيما إذا ورد النهي عن محاذاة المرأة للرجل في حال الصلاة و علمنا بفساد صلاة المرأة، فعلي القول بوضعها للصحيح، تصحّ صلاة الرجل و لا يشملها النهي، بخلاف ما إذا قلنا بأنّها للأعم، فيشملها النهي. (1) و مثلها إقامة صلاتي جمعة في أقلّ من فرسخ مع بطلان إحداهما.

يلاحظ عليه: مضافاً إلي أنّ النهي في هذه المقامات منصرف إلي الصلاة الصحيحة، سواء كان لفظ الصلاة موضوعاً للصحيح منها أو للأعمّ أنّه ليس ثمرة للمسألة الأُصولية إذ غاية ذلك هو البحث عن إمكان تطبيق الحكم الكلّي، علي هذا المورد و ليس ذلك ثمرة لها.

و منه تظهر حال الثمرة الثالثة أيضاً فلاحظ.

ص: 79


1- . المحاضرات:1/193.

الأمر التاسع: المشتق

اشارة

اختلفت كلمة الأُصوليّين في أنّ المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدإ أو الأعم منه و ما انقضي عنه المبدأ، مثلاً:

مثلاً إذا قيل لا تتوضأ بالماء المسخَّن بالشمس، فهل يختص بالموصوف بالمبدإ بالفعل، أو يعمّ ما زال عنه المبدأ و بَرَدَ الماء؟ و يرجع النزاع إلي بيان تحديد مفهوم المشتق من حيث السعة و الضيق و انّ الموضوع له، هل هو خصوص الذات المتلبّسة بالمبدإ أو الأعمّ من تلك الذات المنقضي عنها المبدأ؟ فعلي القول بالأخص، يكون مصداقه منحصراً في الذات المتلبّسة، و يختص النهي بالمسخّن بالفعل و علي القول بالأعمّ يكون مصداقه أعمّ من هذه و مما انقضي عنها المبدأ. و يعمّ النهي المسخّن بالفعل و غيره.

و بعبارة ثانية: انّ العقل يري جامعاً حقيقياً بين الأفراد المتلبّسة بالمبدإ، و لا يري ذاك الجامع الحقيقي للأعمّ منها و ممّا انقضي عنها المبدأ و إنّما يري بينها جامعاً انتزاعياً. فالنزاع في أنّ الموضوع له هو ذاك الجامع الحقيقي أو جامع انتزاعي آخر.

فعلي القول بالأخصّ فالموضوع في قولك: صلّ خلف كلّ عالم عادل، مَنْ

ص: 80

متلبّساً بالمبدإ الذي بين مصاديقه جامع حقيقي دون من كان متلبّساً و زال عنه المبدأ، الذي ليس بين مصاديقه إلاّ جامع انتزاعي.

و هذا بخلاف القول بالأعم فالموضوع هو الأعم منه و ما انقضي عنه المبدأ. و يكفي وجود نسبة ما بين الذات و المبدأ.

دليل القول بوضع المشتق للمتلبّس
اشارة

و قد استدلّ علي القول بوضعه للمتلبّس بوجوه، ذكرنا بعضها في الموجز (1) غير انّ أمتن الأدلّة هي ما يلي:

انّ مفهوم المشتق ليس هو تلوُّن الذات(زيد) بأنحاء النسب حتي يكون الركن الوطيد هو الذات سواء أبقي المبدأ أم انقضي، بل مفهومه هو تلوّن المبدأ بأنحاء النسب و انّ المشتقات عامة منتزعة عن المبدأ باعتبار الوان النسب الحاصلة بينه و بين الذات ، فتارة يلاحظ المبدأ بما انّه منتسب إلي الذات بالصدور عنها(كاسم الفاعل)، و أُخري بالوقوع عليها(كاسم المفعول)، و ثالثة بالثبوت فيها كما في الصفة المشبهة، و رابعة بكونها واقعاً فيها له زماناً و مكاناً، و علي ذلك فالمشتق هو المبدأ الملحوظ مع الذات بنسبة خاصة و مضاف إليها نحو إضافة، و ما هذا شأنه يكون هو المحور، لا الذات، فالنسب المختلفة المتداولة تصاغ من المبدأ عند الإضافة إلي الذات.

و إن شئت قلت: إنّ واقع الصيغ المختلفة عبارة عن جعل المبدأ في قوالب مختلفة، فكأنّ المعاني تتوارد علي المبدأ، و هو الذي يتجلّي بصور أشكال مختلفة و ليس واقعُ الصيغ جعلَ الذات في أشكال مختلفة، فإذا كان هذا هو واقع الصيغ

ص: 81


1- . الموجز:28، 29.

فكيف يمكن أن تصدق الصيغة مع عدم المبدأ؟ و يدلّ علي ذلك انّ علماء الصرف و الاشتقاق يحولون المبدأ(المصدر) إلي صور لا الذات إلي صيغ.

و علي ذلك فلا مناص من التحفظ علي المبدأ في صدق الصيغة.

نعم لما كان المبني عند المشهور هو تلوّن الذات و تلبسها بأنواع النسب أخذوا يستدلّون عليها بالتبادر و صحّة السلب عمّن انقضي عنه المبدأ. و الأولي إقامة البرهان حسب ما عرفت.

استدلّ القائل بالأعم بوجوه ثلاثة:

الأوّل التبادر

المتبادر من المشتق مطلق من تلبس بالمبدإ سواء أ كان باقياً أم لا.

يلاحظ عليه :أنّ المتبادر هو المتلبّس لا الأعم، فإذا قيل لا تصلِّ خلف الفاسق، يتبادر المتلبس به حين الاقتداء لا من كان متلبّساً و انقضي عنه المبدأ قبل الاقتداء.

الثاني: صحّة الحمل

نري بالوجدان انّه يصحّ حمل المقتول و المضروب علي من قتل و ضرب و انقضي عنه المبدأ ثانياً.

يلاحظ عليه: بأنّ هذه الصفات تحمل علي الذات باعتبار اتحادها مع المبدأ في ظرف من الظروف.

و بتعبير آخر انّ الحمل بلحاظ حال التلبّس و الجري خصوصاً في المقتول، فإنّ عدم كونه قابلاً للتكرار قرينة علي أنّ الإطلاق بلحاظ حال التلبّس و الجري،

ص: 82

و مثله السارق و الزاني فانّ عدم كونهما قابلين للاستمرار قرينة علي أنّ الإطلاق بهذا اللحاظ.

الثالث: استدلال الإمام(عليه السلام)

استدل الإمام بقوله سبحانه:( لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ (1) ) (2) علي عدم صلاحية من عبد وثناً أو صنماً أو أشرك باللّه طرفة عين للخلافة و الإمامة و إن أسلم بعد ذلك. و قال(عليه السلام):الظلم وضع الشيء في غير موضعه و أعظم الظلم الشرك باللّه، قال اللّه تعالي:( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (3) ) (4)«. (5)

ثمّ إنّ الاستدلال مبني علي صغري مسلّمة و كبري قرآنية.

أمّا الصغري:هؤلاء كانوا ظالمين عند التصدّي.

و أمّا الكبري: و الظالمون لا تنالهم الإمامة.

فينتج:هؤلاء لا تنالهم الإمامة.

و إنّما تصحّ الصغري إذا قلنا بوضع المشتق للأعمّ، حتّي يصحّ عدّهم من الظالمين حين التصدّي للخلافة و إلاّ تبقي الكبري بلا صغري.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال علي عدم الصلاحية للإمامة يصحّ علي كلا القولين.

أمّا علي الأعم فواضح، لأنّهم علي هذا القول ظالمون عند التصدّي حقيقة.

و أمّا علي القول الثاني، فوجه الاستدلال ليس مبنيّاً علي كونهم من مصاديق الظالمين حين التصدّي، بل علي أساس آخر و هو انّ الإمامة منصب إلهي خطير،

ص: 83


1- سوره 2 - آيه 124
2- . البقرة:124.
3- سوره 31 - آيه 13
4- . لقمان:13.
5- . البرهان في تفسير القرآن:1/149.

لأنّ صاحبها يتصرّف في النفوس و الأعراض و الأموال، فالمتصدّي لهذا المنصب يجب أن يبتعد عن ألوان الشرك و قبائح الأعمال طيلة عمره، لأنّ الناس يتنفّرون من مقترفي هذه الأعمال و إن طابوا و طهروا.

فالاستدلال ليس مبنياً علي الظهور الوضعي بل مبني بقرينة المقام و عظمة المنصب علي أنّ الممنوع هو المتلبّس بالظلم آناً ما سواء أ بَقي عليه أم لا.

ثمّ إنّ هناك تحليلاً دقيقاً لبعض أساطين العلم و حاصله: انّ الناس بحسب التقسيم العقلي علي أربعة أقسام:

من كان ظالماً في جميع عمره، و من لم يكن ظالماً في جميع عمره، و من هو ظالم في أوّل عمره دون آخره،و من هو بالعكس.

هذا و إبراهيم أجلّ شأناً من أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل و الرابع من ذرّيته، فيبقي القسمان الآخران، و قد نفي اللّه أحدهما، و هو الذي يكون ظالماً في أوّل عمره دون آخره، فبقي الآخر و هو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره.

تطبيقات

إنّ البحث عن كون المشتق موضوعاً للمتلبّس أو للأعم ليس عديم الثمرة، و إليك بعض ما يترتب عليه.

1. قال أمير المؤمنين(عليه السلام):»لا يصلّينّ أحدكم خلف المجذوم و الأبرص و المجنون و المحدود و ولد الزنا، و الأعرابي لا يؤم المهاجرين«. (1)

2. عن أبي عبد اللّه(عليه السلام):في المرأة إذا ماتت و ليس معها امرأة تغسّلها، قال:

ص: 84


1- . الوسائل: 5، الباب 15 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 6.

»يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسّلها إلي المرافق«. (1) فلو قلنا بكون المشتق حقيقة في المنقضي يجوز للزوج المطلق لها، التغسيل عند فقد المماثل.

و ربما يمثل كما مرّ في صدر البحث بالماء المشمَّس أو المسخّن،و لكن الوارد في لسان الأدلّة، التعبير عنه بصيغة الفعل لا بصيغة المشتق، فقد ورد عن رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): »الماء الذي تسخّنه الشمس لا تتوضّئوا به،و لا تغتسلوا به و لا تعجنوا به، فإنّه يورث البرص«. (2)

*** هذه أُمور تسعة بحث فيها علماء الأُصول في مقدّمة كتبهم، و بما انّها كانت ذات فوائد حجة، تعرضت لها بمزيد من التفصيل.

و أمّا البحث في المجاز و الاشتراك و الترادف أو البحث في بساطة مفهوم المشتق و تركّبه، فقد ضربنا عنها صفحاً، لما تقدّم بعضها في الموجز، و عدم مساس بعض آخر كالأخير بفن الاستنباط. فمن أراد التفصيل فليرجع إلي محاضراتنا. (3)ل.

ص: 85


1- . الوسائل: 2، الباب 24 من أبواب غسل الميت، الحديث 8.
2- . الوسائل: 1، الباب 6 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.
3- . راجع المحصول: الجزء الأوّل.

ص: 86

المقصد الأوّل: في الأوامر

اشارة

التشريع الإسلامي في الكتاب و السنّة يدور حول الأوامر و النواهي، و قد أولي الأُصوليون لهما أهمية خاصة و عقدوا لكلّ منهما مقصداً خاصاً، و بما انّا قد استوفينا البحث في بعض ما يرجع إليهما في الموجز، نأتي في المقام ما أوجزناه فيه أو لم نتعرض له و يأتي كلّ ذلك في ضمن فصول:

الفصل الأوّل: في دلالة صيغة الأمر علي الوجوب الفصل الثاني: دلالة الجملة الخبرية علي الوجوب الفصل الثالث: أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر الفصل الرابع: في دوران مفاد صيغة الأمر بين الأمرين الفصل الخامس: الإتيان بالمأمور به علي وجهه يقتضي الإجزاء الفصل السادس: في المقدّمة، أقسامها و أحكامها الفصل السابع: في ترتّب الثواب علي امتثال الواجب الغيري الفصل الثامن: في تقسيم الواجب إلي مطلق و مشروط الفصل التاسع: في تقسيم الواجب المطلق إلي منجَّز و معلَّق الفصل العاشر: في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه الفصل الحادي عشر: متعلّق الأوامر الفصل الثاني عشر: التخيير بين الأقلّ و الأكثر

ص: 87

ص: 88

الفصل الأوّل: في دلالة صيغة الأمر علي الوجوب

من البحوث المهمة هي تحقيق مفاد صيغة الأمر و انّها هل هي موضوعة للوجوب أو للأعم منه و من الندب؟ و المشهور عند الأُصوليّين دلالتها علي الوجوب علي نحو يأتي، و لتحقيق ذلك نقدّم بحثاً في تبيين حقيقة الوجوب و الندب و الآراء المطروحة في هذا الصدد.

لا شكّ انّ الوجوب و الندب من أقسام البعث الإنشائي ، و إنّما الكلام فيما يحصل به امتياز أحدهما عن الآخر، فقيل فيه وجوه:

أ: الوجوب هو البعث الإنشائي مع المنع من الترك، و الندب هو البعث الإنشائي لا مع المنع من الترك.

يلاحظ عليه: أنّ المتبادر من الوجوب و الندب هو الحتمية و عدمها، و ما ذكره تحليل عقلي لهذين المعنيين البسيطين و ليسا بموضوع له لهذين اللفظين.

ب: الوجوب هو الطلب الموجب لاستحقاق العقوبة عند مخالفته، و الاستحباب هو الطلب غير الموجب له.

يلاحظ عليه: أنّ الاستحقاق و عدمه من آثارهما بعد تحقّقهما، و الكلام في المقام في مقوّماتها، و المقوّم يجب أن يكون مقارناً لا متأخّراً.

ص: 89

ج: الوجوب هو البعث المسبوق بالإرادة الشديدة، و الندب هو البعث المسبوق بإرادة غير شديدة، و ذلك انّ البعث الإنشائي فعل اختياري للنفس فلا بدّ في تحقّقه من سبق إرادة تكوينية، فهي تختلف شدّة و قوّة حسب اختلاف الغايات و الأغراض و المصالح في لزوم إحرازها و عدمه. فالذي يميّز الوجوب عن الندب المشتركين في البعث، إنّما هو نشوء البعث عن الإرادة الشديدة أو الضعيفة، و هذا هو المختار.

هذا كلّه في امتيازهما حسب الثبوت، و أمّا امتيازهما حسب الإثبات فإنّما يحصل بالمقارنات، فإذا كان إنشاء البعث مقروناً بصوت عال و حركات خاصة تدلّ علي عدم رضا المولي بتركه فينتزع منه الوجوب، و إذا كان مقارناً بما يفيد عكس ذلك ينتزع منه الندب.

إلي هنا تبيّن مفاد الوجوب و الندب ثبوتاً و إثباتاً و انّ التفاوت بينهما ثبوتاً يرجع إلي شدّة الإرادة و ضعفها، و إثباتاً إلي المقارنات الحاكية عن أحدهما.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلي صلب الموضوع، أي دلالة الصيغة علي الوجوب، فنقول:

إذا تبيّن أحد الأمرين من خلال المقارنات في مقام الإثبات فيُتبع، إنّما الكلام فيما إذا لم يتبيّن أحد الأمرين، و كان الكلام مجرّداً عن المقارنات فالمعروف هو تبادر الوجوب، و اختلفت كلمتهم في سبب التبادر.

1. ذهب بعضهم إلي أنّ الصيغة تدلّ علي الوجوب دلالة لفظية.

ص: 90

يلاحظ عليه: أنّ الهيئة وضعت لإنشاء البعث و هو مشترك بين الوجوب و الندب، فكيف تدلّ علي الوجوب دلالة لفظية.

2. انصراف صيغة الأمر إلي الوجوب يلاحظ عليه: أنّ الانصراف إمّا لكثرة الوجود أو لكثرة الاستعمال، و كلا الأمرين موجودان في جانب الندب أيضاً.

3. كون الصيغة كاشفة عند العقلاء عن الإرادة الحتمية.

يلاحظ عليه: أنّ الكشف لا يمكن أن يكون إلاّ بملاك، و الملاك إمّا كونه موضوعاً للوجوب، أو الانصراف، أو كونه مقتضي مقدّمات الحكمة; و الأوّلان غير تامّين كما عرفت، و الثالث يعود إلي الوجه الرابع الذي نتلوه عليك.

4. انّ مقتضي مقدّمات الحكمة هو حمل الصيغة علي الوجوب و حاصله: انّ الإرادة الوجوبية تفترق عن الإرادة الندبية بالشدة، فانّها ليست شيئاً سوي الإرادة، و أمّا الإرادة الندبية فهي تفترق عن الوجوبية بالضعف و هو غير الإرادة، فالإرادة الوجوبية إرادة خالصة، بخلاف الإرادة الندبية فإنّها محدودة بحدّ خاص (الضعف) فتكون الإرادة الندبية أمراً ممزوجاً منها و من غيرها، و علي هذا فإطلاق الكلام كاف في مقام الدلالة علي الإرادة الوجوبية إذ لا حدّ لها ليفتقر المتكلّم في مقام إفادته إلي بيان ذلك الحدّ، بخلاف الإرادة الندبية فانّ الحدّ ليس من سنخ المحدود فيفتقر إلي تقييد الكلام به. (1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره غفلة عن حقيقة التشكيك، فهي عبارة عمّا يكون ما به التفاوت نفس ما به الاشتراك، و علي ذلك فالضعف أيضاً مثل الشدة من سنخ المحدود(الإرادة) و ليس الضعف أمراً وجوديّاً منضمّاً إلي النور كما أنّ4.

ص: 91


1- . بدائع الأفكار:1/214.

الشدّة كذلك، بل النور الضعيف مثل النور القوي، نور، لا انّه نور و ضعف، كما أنّ القوي ليس نوراً و قوة، فصار القيدان علي منوال واحد في لزوم البيان إذا كان المتكلّم في مقامه.

5. كون مطلق الأمر موضوعاً لوجوب الإطاعة عند العقل، و استحقاق العقوبة عند الترك ما لم يحرز كون الطلب ندبياً. و هذا معني كون الأمر ظاهراً في الوجوب.

و بعبارة أُخري: وظيفة المولي هي إنشاء البعث و إصدار الأمر، و أمّا بيان أنّه للوجوب أو الندب فهو ليس من وظائفه. بل علي العبد السعي، فإن تبيّن له أحدهما عمل علي طبق ما تبيّن، و إلاّ عمل علي مقتضي حكم العقل و هو أنّ أمر المولي لا يترك بلا جواب، و هذا هو المختار في وجه حمل الأمر علي الوجوب.

ص: 92

الفصل الثاني: دلالة الجملة الخبرية علي الوجوب

ربما تستعمل الجملة الخبرية في مقام الطلب و البعث، يقول سبحانه:( وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (1) ). (2)

و قال سبحانه:( وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَي الْمُتَّقِينَ (3) ). (4)

و قال سبحانه:( وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ (5) ). (6)

و نري مثل ذلك في الروايات حيث ورد في أبواب الطهارة و الصلاة، قولهم(عليهم السلام):»يغتسل«، »يعيد الصلاة«، »يستقبل القبلة« فالجمل الخبرية في هذه الموارد استعملت لداعي البعث، و إنّما الكلام في كيفية دلالتها علي الوجوب و كونها آكد في الدلالة علي الوجوب من الأمر بالصّيغة.

توضيحه: انّ الإخبار عن وجود الشيء في المستقبل بداع البعث يكشف عن شدّة رغبة المولي بالمراد إلي حدّ يراه موجوداً و محققاً في الخارج حيث يخبر عن وجوده فيكون حاكياً عن الوجوب و الإرادة الحتمية.

و أمّا عدم كونها كذباً فانّ ظاهر الكلام و إن كان هو الإخبار، و لكن جلوس المولي علي منصَّة التكليف قرينة علي أنّه بصدد البعث واقعاً لا بصدد الإخبار.

ص: 93


1- سوره 2 - آيه 228
2- . البقرة:228.
3- سوره 2 - آيه 241
4- . البقرة:241.
5- سوره 2 - آيه 233
6- . البقرة:233.

الفصل الثالث: أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر

أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر(1)

إنّ الواجب ينقسم إلي توصلي و تعبّدي، و انّ التعبّدي يفسر بوجوه ثلاثة:

1. التقرّب بقصد امتثال أمره.

2. الإتيان للّه تبارك و تعالي.

3. الإتيان بداع التقرّب إليه سبحانه، لكون الفعل محبوباً له.

و يقابله التوصّلي، فإذا علمنا أنّ الواجب تعبّدي أو توصّلي فيمتثل علي النحو الذي عُلم، إنّما الكلام فيما إذا شكّ في واجب انّه توصّلي أو تعبّدي، فهل ثمة أصل لفظي يعوّل عليه كالشكّ في وجوب ردّ السلام حيث إنّ أمره يدور بين كونه توصلياً أو تعبدياً، يجب قصد أمره حتّي يصدق الامتثال.

مثلاً إذا قال سبحانه:( وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها (2) ). (3)

فهل مقتضي الإطلاق هو كونه توصّلياً أو لا؟ و هناك أمر يجب إلفات النظر إليه، و هو انّ التمسّك بالإطلاق إنّما يصحّ إذا

ص: 94


1- . هذا الفصل جزء من الفصل الآتي و يعبّر عنه في الكتب الأُصولية كالتالي: إذا دارت صيغة الأمر بين كونه تعبديّاً أو توصليّاً فما هو مقتضي القاعدة؟ و بما أنّه طويل الذيل أفردناه بالبحث.
2- سوره 4 - آيه 86
3- . النساء:86.

أمكن أخذ الشيء المشكوك اعتباره في متعلّق الأمر، فإذا خلا منه متعلّقه، يحكم بعدم اعتباره فيه، مثلاً إذا شكّ في وجوب السورة في الصلاة فبما أنّه يمكن أخذها في متعلّق الأمر بأن يقول: صلِّ مع السورة، فيصحّ التمسّك بالإطلاق اللّفظي إذا خلا منها متعلّق الأمر عند الشكّ.

و أمّا إذا تعذّر أخذ المشكوك في متعلّق الأمر فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق، لأنّ التمسّك به فرع إمكان أخذه فيه و المفروض أنّه متعذّر.

ثمّ إنّ الأُصوليّين اختلفوا في إمكان أخذ التعبديّة في المتعلّق و عدمه، فلو أمكن أخذها في متعلّق الأمر، يصحّ التمسّك بإطلاقه إذا خلا منها، و إلاّ فلا.

فذهب الأكثر إلي إمكان أخذ التعبديّة في متعلّق الأمر، فإذا شكّ في اعتبارها في المتعلّق يتمسّك بإطلاقه ويحكم بالتوصلية.

و ذهب الشيخ الأنصاري إلي امتناع أخذها في متعلّق الأمر، فلا يمكن التمسّك بإطلاق المتعلّق و إثبات التوصّلية، فانّ من شرائط التمسّك بالإطلاق، إمكان الإتيان بالقيد في متعلّقه و المفروض عدم إمكان أخذ القيد فيه.

ثمّ إنّ محلّ الخلاف في إمكان الأخذ إنّما هو التعبدية بالتفسير الأوّل أي »قصد امتثال الأمر« ، و أمّا التفسيران الآخران للتعبدية، أعني: الإتيان للّه تبارك و تعالي، أو الإتيان لأجل محبوبية الفعل، فأخذهما فيه بمكان من الإمكان.

و بعبارة أُخري: انّ محلّ الخلاف في إمكان الأخذ و عدمه هو أن يأمر المولي بالنحو التالي:

صلّ صلاة الظهر بقصد امتثال أمرها، و أمّا إذا قال: صلِّ صلاة الظهر للّه تبارك و تعالي، أو لكونها محبوبة للّه، فأخذهما في المتعلّق ممّا لا شبهة فيه.

استدلّ القائلون بامتناع أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّقه بأُمور نذكر

ص: 95

واحداً منها و هو »انّ ما لا يتأتّي إلاّ من قبل الأمر يمتنع أخذه في المتعلّق شطراً أو شرطاً«.

توضيحه: انّ ما يتصوّر أخذه في المتعلّق علي نحوين:

النحو الأوّل: ما لا صلة للقيد بالأمر، فسواء أ كان هناك أمر أو لا، يمكن تصوّر القيد، و تقييد المتعلّق به و هذا كالإيمان في الرقبة، و يمكن إيجاده مع القيد في الخارج بلا توقّف علي الأمر و هذا كالسورة و القنوت في الصلاة فيصحّ في الجميع أخذ القيد بأن يقول: أعتق رقبة مؤمنة، أو صلّ مع السورة و القنوت، فإذا أطلق المولي و لم يأخذ القيد في المتعلّق، استكشف منه عدم مدخليته في الواجب.

النحو الثاني: ما لا يتأتّي إلاّ بعد تعلّق الأمر به، و هذا كقصد امتثال الأمر، فما لم يكن هناك أمر من المولي لا يمكن للمكلّف إيجاد متعلّقه في الخارج بقصد امتثال أمره.

و هذا النحو من القيد بما أنّه لا يتأتّي إلاّ من قبل الأمر لا يمكن أخذه في المتعلّق و لا يُستكشف من عدم أخذه، عدم مدخليّته في المتعلّق.

بعبارة أُخري: أنّ الأمر يتعلّق بالشيء المقدور قبل الأمر و »الصلاة مع قصد امتثال الأمر« ليست بمقدورة قبل تعلّق الأمر بها، لكي يتعلّق بها الأمر و يقول: »صلّ مع قصد الأمر«. و يُستكشف من عدم أخذه، عدمُ مدخليته.

يلاحظ عليه: أوّلاً:أنّ اللازم في صحّة الأمر كون المتعلّق مقدوراً في ظرف الامتثال لا قَبْل الأمر و لا حينه، و امتثال قصد الأمر و إن كان غير مقدور قبل البعث، و لكنّه أمر مقدور بعد تعلّق الأمر و في ظرف الامتثال، فيصحّ تعلّق الأمر به، و يستكشف من عدم تعلّقه، و عدمُ مدخليته و علي ذلك فمقتضي الإطلاق اللفظي كون الأصل هو التوصّلية إلاّ إذا دلّ دليل علي خلافها.

ص: 96

و ثانياً:أنّ مقتضي الإطلاق المقامي أيضاً هو التوصلية.

توضيحه: إنّ الإطلاق علي قسمين: إطلاق لفظي، و إطلاق مقامي.

الإطلاق اللّفظي: عبارة عن خلوّ المتعلّق من القيد، فيحتج بخلوّ المتعلّق عن القيد علي عدم مدخليّته في الواجب، فمصبُّ الإطلاق اللّفظي هو متعلّق الأمر مع إمكان تقييده. و هذا هو الذي مرّ بيانه و أمّا الإطلاق المقامي: فحاصله أنّ القيد المشكوك اعتباره في المأمور به إذا كان ممّا يغفل عنه أكثر الناس يجب علي المولي التنبيه عليه إذا كان دخيلاً في الغرض، إمّا بالأخذ في المتعلّق، أو بالتنبيه عليه بدليل منفصل، فلو افترضنا امتناع الأوّل، فإمكان الثاني بمرحلة من الوضوح، فسكوته حينئذ دليل علي عدم المدخليّة.

ثمّ إنّ بعض المحقّقين استدلّ علي امتناع أخذ قصد الأمر في المتعلّق بأنّ قصد الأمر إذا دخل في الواجب كان نفس الأمر قيداً من قيود الواجب، لأنّ القصد المذكور مضاف إلي نفس» الأمر«، و إذا لاحظنا الأمر وجدنا انّه ليس اختيارياً للمكلّف (1) كما هو واضح، و قد ثبت في محلّه انّ القيود المأخوذة في الواجب يجب أن تكون اختيارية. (2)

يلاحظ عليه:بالنقض أوّلاً: مثلاً إذا قال المولي: صلّ إلي القبلة، فتكون نفس القبلة من قيود الواجب، و هي خارجة عن اختيار المكلّف مع انّه جائز بالاتّفاق.5.

ص: 97


1- . لأنّه من فعل المولي لا المكلّف، هذا ما فهمناه من عبارته، و لعلّ كلامه ناظر إلي ما نقلناه سابقاً من القائلين بالمنع.
2- . دروس في علم الأُصول: الحلقة الثانية: 265.

و ثانياً بالحلّ، لأنّ قيد الواجب هو القصد المضاف إلي الأمر علي نحو يكون التقيّد داخلاً و القيد خارجاً، فليس نفس الأمر قيداً للواجب، بل القيد، القصد المضاف إليه و هو باختيار المكلّف بعد صدور الأمر من المولي. اللّهمّ إلاّ أن يريد قبل صدوره من المولي فيرجع إلي الوجه السابق.

إلي هنا تبين انّ مقتضي الأصل اللّفظي و الإطلاق المقامي هو التوصّلية إلاّ أن يدلّ دليل علي كون الواجب قُربياً.

مقتضي الأصل العقلي و الشرعي قد ظهر ممّا ذكرنا من جواز التمسّك بالإطلاق اللّفظي أو المقامي ، مقتضي الأصل العملي إذا لم يكن إطلاق لفظي و دليل اجتهادي، و ذلك لأنّ هذا الشرط يقع في عداد سائر الشروط فيجري فيه أصل البراءة العقلية و الشرعية كما يجري في غيره.

بل يمكن أن يقال بأنّ المرجع هو البراءة حتّي علي القول بامتناع أخذه في المتعلّق، و ذلك لإمكان بيانه بدليل مستقل آخر كما ذكرنا، فإنّ الممتنع هو البيان في ضمن الأمر الأوّل لا في ضمن الأمر الثاني كما عرفت.

فخرجنا بالنتائج التالية:

1. انّ مقتضي الأصل اللّفظي و الإطلاق المقامي هو التوصّلية.

2. انّ مقتضي الأصل العقلي و الشرعي عند عدم وجود الإطلاق هو البراءة العقلية و الشرعية.

ص: 98

الفصل الرابع: في دوران مفاد صيغة الأمر بين الأمرين

ينقسم مفاد صيغة الأمر إلي كونه نفسياً و غيرياً، و عينياً و كفائياً، و تعيينياً و تخييرياً (1)، فإذا دار الأمر بين أحد القسمين، فما هو مقتضي الأصل؟ و إليك الأمثلة:

أ: إذا قال: اغتسل للجنابة، و دار أمر الغسل بين كونه واجباً نفسياً أو غيرياً للصلاة و الصوم.

ب: إذا قال :قاتل في سبيل اللّه، و دار أمر القتال بين كونه واجباً عينياً و عدم سقوطه بقتال الآخرين أو كفائياً ساقطاً بقتال الآخرين.

ج: إذا قال:( فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللّهِ (2) ) الذي أُريد منه فريضة الجمعة و دار أمرها بين التعييني و عدم عِدْل له أو التخييري بوجود عِدْل له يسقط بالظهر مثلاً، فيقع الكلام في مقتضي القاعدة ، و لنأخذها بالبحث و التمحيص.

ذهب بعض المحقّقين إلي أنّ مقتضي الإطلاق اللّفظي هو الحمل علي النفسي و العيني و التعييني، و ذلك لأنّ كلاً من الغيرية و الكفائية و التخييرية يحتاج إلي قيد بخلاف مقابلاتها.

ص: 99


1- . أو تعبديّاً أو توصلياً و قد مرّ البحث عنه في الفصل السابق و قد أوضحنا حال الأقسام في الموجز فلا نعيد.
2- سوره 62 - آيه 9

توضيحه: انّ أحد القسمين يحتاج إلي بيان زائد دون الآخر، فالنفسي غني عن البيان الزائد دون الغيري، و ذلك لأنّ الوجوب النفسي لمّا كان نابعاً من مصالح كامنة في المتعلّق، كفي إلقاء الحكم علي وجه الإطلاق، و يكون البيان وافياً بما أراد. و أمّا لو كان غيرياً فبما أنّ وجوبه منبعث عن وجوب غيره، فيجب تقييده بما يفيد ذلك.

و بعبارة أُخري: أنّ الواجب النفسي في متلقّي العرف هو الإيجاب بلا قيد، بخلاف الغيري فإنّه الإيجاب مع تقييده بأنّه واجب لغيره، فلو فرضنا كون المتكلم في مقام بيان تلك الخصوصية ، فالإطلاق كاف في تفهيم الأوّل، دون الثاني.

و منه تظهر الحال في دوران الأمر بين العيني و الكفائي، فانّه يكفي في بيان الواجب العيني، الأمرُ بالشيء و السكوت عن أيّ قيد بخلاف الواجب الكفائي فلا يكفي في بيانه، الأمر به مع السكوت عن القيد بل يحتاج إلي القيد نظير: ما لم يقم به الآخر، فالقتال في سبيل اللّه لو كان واجباً عينياً كفي فيه قول المولي: قاتل في سبيل اللّه، و لو كان كفائياً فلا يكفيه ذلك إلاّ أن ينضم إليه قيد آخر، أعني: ما لم يقاتل غيرك.

و إن شئت قلت: إنّ العيني هو الواجب بلا قيد و لا حدّ، بخلاف الكفائي فانّه الواجب المقيّد المحدود، فالعيني في متلقّي العرف بلا قيد، و الكفائي مقيّد، فإذا أمر و لم يأت بالقيد، يكون كافياً في إفادة المقصود العيني.

و منه تظهر حال القسم الثالث أي دوران الأمر بين كون الواجب تعيينياً أو تخييرياً.

فالواجب التعييني هو الواجب بلا أن يكون له عدل،كالفرائض اليومية، و الواجب التخييري هو الواجب الذي يكون له عدل كخصال كفّارة الإفطار

ص: 100

العمدي في يوم شهر رمضان، حيث إنّ المفطِر مخيّر بين عتق رقبة وصوم شهرين متتابعين و إطعام ستين مسكيناً.

و هناك بيان آخر لوجوب الحمل علي النفسية و العينية و التعيينية، و هو انّ أمر المولي لا يُترك بلا عذر، و مقتضي ذلك هو الحمل علي ما ذكر إذ فيه امتثال لأمر المولي علي كلّ تقدير بخلاف ما إذا حمل علي مقابلاتها فلا علم فيه بالامتثال كما لا علم بترك الامتثال عن عذر.

كلّ ذلك إذا كان المتكلّم في مقام بيان الجهات المختصّة كالنفسية و الغيرية، و العينية و الكفائية، و التعيينية و التخييرية، و إلاّ يكون الأمر مجملاً من الناحية المشكوكة.

هذا كلّه حول الأصل اللّفظي، و أمّا مقتضي الأصل العملي إذا قصرت اليد عن الأصل اللّفظي فسوف يوافيك بيانه في مبحث البراءة و الاشتغال. (1)م.

ص: 101


1- . فقد أخّرنا بيانه تبعاً للقوم.

الفصل الخامس: الإتيان بالمأمور به علي وجهه يقتضي الإجزاء

اشارة

قد عنونت مسألة الإجزاء في كتب الأُصوليّين بعنوانات مختلفة و ما ذكرناه من العنوان هو المختار عند أغلب الأُصوليين، و المراد من قولهم »علي وجهه« هو الكيفية المعتبرة شرعاً و قد عرفت أنّ قصد الأمر من هذه الكيفية.

و هذه المسألة غير مسألة دلالة الأمر علي المرة و التكرار فانّ هناك مسألتين بملاكين، فالبحث في المسألة الثانية عن مقدار مفاد الأمر و انّه هل هو نفس الطبيعة أو الطبيعة المقيدة بإحداهما؟ و أمّا المقام فالكلام فيه بعد الفراغ عن المفاد فيقال هل الإتيان بالمأمور به سواء أ كان الطبيعة المطلقة أو المقيدة بالمرّة أو التكرار يقتضي الإجزاء أو لا.

كما أنّ هذه المسألة غير مسألة كون القضاء بأمر جديد أو بنفس الأمر الأوّل و ذلك لاختلاف المسألتين من حيث الموضوع، فإنّ موضوع مسألتنا هو الإتيان بالمأمور به بنحو من الأنحاء و الموضوع لمسألة تبعية القضاء للأداء هو فوت المأمور به في وقته فكيف تكونان مسألة واحدة؟ علي أنّ النسبة بينهما من حيث المورد عموماًً من وجه، فلو أتي بالمأمور به علي وجهه الواقعي، يقع الكلام فيه في الإجزاء، و لا موضوع لمسألة التبعية كما أنّه إذا فاته الواقع، و لم يأت بالواجب أصلاً، فلا موضوع للإجزاء. و يجتمعان فيما إذا

ص: 102

أتي بالواجب بأمر اضطراري أو ظاهري، فيصحّ البحث عنه من الجهتين، و معه يصحّ عقد المسألتين، فلاحظ.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام في مقامات ثلاثة:

الأوّل: في إجزاء امتثال كلّ أمر عن التعبد به ثانياً

إنّ إجزاء امتثال الأمر عن التعبّد به ثانياً من أوضح القضايا و أبدهها، و الوجه في ذلك أنّه لو لم يسقط، فإمّا أن يبقي ملاك الأمر، أو لا. و الأوّل خلاف الفرض، إذ لا معني لبقاء الملاك مع الإتيان بالمأمور به، لأنّ إتيان المأمور به محصِّل لغرض المولي، بلا زيادة و لا نقيصة، و لولاه لما أمر به، و مع ذلك كيف يمكن القول ببقاء الغرض و عدم حصوله؟و الثاني أوضح فساداً لاستلزامه ثبوت الإرادة الجزافية للمولي، إذ لا يأمر إلاّ لتحصيل الغرض، و قد حصل بالامتثال الأوّل، فلا معني لبقاء الغرض ثانياً، و هل هذا إلاّ كبقاء المعلول مع زوال علّته.

و إن شئت قلت: إنّ عدم السقوط ، سببه أُمور كلّها محكومة بالبطلان، فعدم السقوط إمّا:

لأجل تعدّد المأمور به، و المفروض عدمه، إذ هو نفس الطبيعة.

أو لأجل عدم حصول الغرض. و هو خلف أيضاً، لأنّ المفروض انّ المأتي به علّة، لحصوله و إلاّ لما أمر به.

أو لأجل بقاء الأمر مع حصول الغرض، و هذا يستلزم الإرادة الجزافية.

فإن قلت: إنّ أبا هاشم(المتوفّي321ه) و القاضي عبد الجبار(المتوفّي 415ه) المعتزليَّين ذهبا إلي أنّ الإتيان بالمأمور به علي وجهه لا يقتضي الإجزاء، و استدلاّ عليه بما إذا أفسد المكلّف حجَّه بالجماع فتجب عليه الإعادة كلّما تمكّن.

قلت: إنّ الحجّ إمّا أن يكون فاسداً، كما إذا جامع عن علم; أو صحيحاً،

ص: 103

كما إذا كان جاهلاً بالحكم علي القول بالصحّة في هذه الصورة فكلتا الصورتين خارجتان عن محطّ البحث.

أمّا إذا كان فاسداً، فلأنّه لم يأت بالمأمور به علي ما هو عليه، و البحث فيما إذا أتي به علي النحو المطلوب.

و أمّا إذا كان صحيحاً فالأمر الثاني من باب العقوبة لا لعدم الإجزاء، و قد ورد به التصريح في رواياتنا.

قال زرارة: قلت: فأي الحَجَّتين لهما؟ قال: »الأُولي التي أحدثا فيها ما أحدثا، و الأُخري عليهما عقوبة«. (1)

و علي ذلك فهناك أمران: أمر بنفس الحجّ بما انّه واجب عباديّ ماليّ و قد امتثله، و أمر به بما انّه عقوبة و كفّارة لما أحدثا في أثناء العبادة من الجماع.

فإن قلت: ربما يجوز تبديل امتثال بامتثال آخر، كما إذا طلب المولي ماءً ليشربه فأحضره، فانّ للعبد تبديل هذا الامتثال بامتثال أفضل، كما إذا أتي ثانياً بماء حلو أكثر، أو وعاء انظف قبل أن يقضي المولي حاجته بالشرب.

قلت: إنّ الأمر الأوّل قد سقط بإحضار الماء و ليس المقام من قبيل تبديل امتثال بامتثال آخر، بل من قبيل تبديل فرد من المأمور به إلي فرد آخر أحلي منه، و الفرق بينهما واضح فانّ تبديل الفرد لا يتوقف علي بقاء الأمر بل يصحّ و إن كان الأمر ساقطاً، بخلاف تبديل الامتثال فانّه فرع بقاء الأمر حتي يصدق عليه انّه تبديل امتثال بآخر.

فإن قلت: إذا أحضر الماء و أُهرق و اطّلع العبد عليه وجب عليه إتيانه ثانياً.

قلت: إنّ الأمر الأوّل قد سقط بالامتثال، و أمّا الأمر الثاني فهو امتثال آخر0.

ص: 104


1- . الوسائل: 9، الباب 3 من أبواب كفارة الاستمتاع، الحديث 10.

للغرض غير الحاصل للمولي لأجل إهراق الماء، فكأنّ هناك أمرين: أحدهما تعلّق باحضار الماء و قد امتثل، و الثاني تعلّق بحكم العقل بتحصيل غرض المولي و هو بعد لم يُمتثل.

و الحاصل انّ العلم بالغرض القطعي موضوع عند العقل بوجوب الامتثال و إن لم يكن هناك أمر ظاهري من المولي كما إذا غرق ابن المولي أو احترق البيت و وقف عليه العبد، دون المولي، ففي هذه المقامات العلم بالغرض موضوع تام للامتثال و تحصيل غرض المولي.

و بما ذكرنا تقف علي ما ورد من إعادة الصلاة في أبواب الكسوف (1). أو إذا وجد جماعة و قد صلي فرادي (2)، أو صلّي مع المخالف (3)و وجد فرصة للإعادة. إذ ليس الامتثال الثاني من باب تبديل الامتثال الأوّل بآخر حتي يكون الثاني بداعي الأمر الأوّل، بل من باب استحباب الإعادة بأمر ثان استحبابي لا بملاك الأمر الوجوبي الأوّل.

الثاني: إجزاء امتثال الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي

إذا كان المكلّف فاقداً للطهارة المائية فيجب عليه الصلاة بالطهارة الترابية، فالفرد الأوّل فرد اختياري، و الفرد الثاني فرد اضطراري، و مثله ما إذا ابتلي بالتقية و لم يتمكّن من الامتثال بالفرد الاختياري، كان عليه الامتثال بالفرد الاضطراري كغسل الرجلين مكان مسحهما، إلي غير ذلك من الأمثلة، فهل يجزي الامتثال بالفرد الاضطراري عن الامتثال بالفرد الاختياري عند ما زال الاضطرار؟

ص: 105


1- . الوسائل: 5، الباب 8 من أبواب صلاة الكسوف، الحديث 1.
2- . الوسائل: 5، الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.
3- . الوسائل: 5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.

أقول: ظاهر عنوان المسألة انّ هنا أمرين: أمراً بالفرد الواقعي، و أمراً بالفرد الاضطراري، و الكلام في إجزاء الامتثال الثاني عن الامتثال الأوّل. و يظهر ذلك من أكثر المتأخّرين الذين عكفوا علي دراسة هذه المسألة بعد الشيخ الأنصاري(قدس سره).

و لكن الحقّ انّ هنا أمراً واحداً و خطاباً فارداً لعامة المكلّفين من دون فرق بين المختار و المضطر، و هو قوله سبحانه:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلي غَسَقِ اللَّيْلِ (1) ) (2)، غير انّ امتثال ذلك الأمر يختلف حسب اختلاف حالات المكلّفين من صحة و سقم، و قدرة و عجز، فيصلي السليم المتمكن، قائماً بالطهارة المائية كما يصلّي السقيم العاجز قاعداً بالطهارة الترابية، فالاختلاف يرجع إلي كيفية امتثال الأمر الواحد بالنسبة إلي اختلاف حالات المكلّفين، و نظير الآية السابقة قوله سبحانه:( إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ (3) ) (4) حيث إنّ ظاهر الآية وحدة الأمر في الحاضر و المسافر غير انّ المسافر يجوز له أن يُقصِّر تلك الصلاة و يجعلها ركعتين من دون أن يختلف أمر الحاضر و المسافر.

و مثل الآيتين قوله سبحانه:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرافِقِ (5) ) (6) إلي أن قال:( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (7) (8)، فالآية ظاهرة في أنّ كلاّ من الواجد و الفاقد للماء يقصد أمراً واحداً لكنّهما يختلفان في كيفية إيجاد الجامع الصادق علي الفردين، فأحدهما يأتي بها بالطهارة المائية و الآخر يأتي بها بالطهارة الترابية، فكلا الفردين من مصاديق الصلاة التي أمر بها جميع المكلّفين علي اختلاف حالاتهم.

و المبرِّر لوحدة الأمر مع اختلاف المتعلّق في الكيفية هو كون الطبيعة ذات6.

ص: 106


1- سوره 17 - آيه 78
2- . الإسراء:78.
3- سوره 4 - آيه 101
4- . النساء:101.
5- سوره 5 - آيه 6
6- . المائدة:6.
7- سوره 5 - آيه 6
8- . المائدة:6.

عرض عريض و ذات مراتب مختلفة. و قد مرّ في مبحث الصحيح و الأعم (1) انّ الصلاة بمعني واحد تصدق علي جميع المراتب المختلفة من دون أن يكون اللفظ مشتركاً لفظيّاً بين المراتب.

فعلي هذا الأساس يتجلّي الإجزاء بصورة واضحة، لأنّ المفروض انّ الأمر واحد و الطبيعة المتعلّقة للأمر، صادقة علي فعل المتمكّن و المضطر و ينطبق علي كليهما عنوان الصلاة و عند ذاك لا وجه لعدم الإجزاء بعد تمامية المقدّمات.

ثمّ إنّ القول بوحدة الأمر إنّما يوجب الإجزاء في صورتين:

أ: إذا كان العذر مستوعِباً لتمام الوقت فامتثل الأمر بالفرد الاضطراري الموجب للإجزاء.

ب: إذا لم يكن العذر مستوعباً و لكن دلّ الدليل علي كفاية العذر غير المستوعب في البدار إلي امتثال الأمر بالفرد الاضطراريّ و عدم اشتراط العذر المستوعب، فإذا كان الامتثال بإذن من الشارع و انطبق عليه عنوان الطبيعة سقط الأمر قطعاً، و لا يبقي لعدم الإجزاء وجه.

نعم لو كان العذر غير مستوعب و لم يدلّ دليل علي جواز البدار إلي الامتثال بالفرد الاضطراري فلا وجه للقول بالإجزاء، لأنّ المقام يكون من قبيل الشكّ في سقوط الواجب بالفرد المشكوك فتجب عليه الإعادة في الوقت، و القضاء خارجه، و لو لم يُعِد و الوقت باق فعليه القضاء.

هذا كلّه علي القول بوحدة الأمر ، و أمّا علي القول بتعدد الأمر و انّ هناك أمراً بالفرد الاختياري، و أمراً بالفرد الاضطراري، فإثبات الإجزاء علي عاتق الدراسات العليا.1.

ص: 107


1- . لاحظ صفحة 71.
الثالث: اجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي
اشارة

الثالث: اجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي (1)

إنّ العمل بالأمارات و الأُصول تارة يكون لأجل استكشاف أصل التكليف و الوظيفة، كالأمارة القائمة علي كون الواجب هو صلاة الجمعة في ظهرها، أو الاستصحاب الدالّ علي كونها الواجب.

و أُخري لاستكشاف كيفية التكليف، كما إذا قامتا علي عدم كون شيء شرطاً أو جزءاً أو مانعاً، أو علي كونه شرطاً أو جزءاً أو مانعاً.

فيقع الكلام في موردين:

الأوّل: العمل بالأمارات أو الأُصول لاستكشاف كيفية التكليف، سواء أ كانت الشبهة حكمية أو موضوعية.

الثاني: العمل بهما لاستكشاف أصل التكليف.

فلنقدم البحث في الأمارة علي الأُصول
اشارة

كما تقدم إعمالها لاستكشاف الكيفيّة، علي استكشاف أصل التكليف.

الف: العمل بالأمارة في استكشاف كيفية التكليف

لو صلّي إنسان أو توضّأ أو اغتسل أو حجّ علي وفق ما أخبر به الثقة اعتماداً علي حجّية قوله لدي الشارع ثمّ بان خطأ الراوي، فهل يكون العمل مجزياً أو لا؟ حكي سيّد مشايخنا البروجردي(قدس سره) تسالم القدماء علي الإجزاء في الأمارات و الأُصول في استكشاف كيفية التكليف، و إنّما طرأ القول بعدم الإجزاء من عصر الشيخ الأنصاري(1212 1281ه).

و يمكن أن يُستدلّ علي الإجزاء بوجود الملازمة العرفية بين الأمر بالعمل بها

ص: 108


1- . الحكم الواقعي هو كلّ لم يؤخذ في موضوعه الشكّ في حكم، مثل الغنم حلال. الحكم الظاهري هو كلّ حكم أخذ في موضوعه الشكّ في حكم شرعي نظير كلّ شيء حلال حتّي تعلم انّه حرام و سيوافيك تفصيلهما عند البحث في الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي في ج 2.

في موردها، و إجزائه في مقام الامتثال مطلقاً، وافقت الواقع أم خالفت، مثلاً إذا قال الإمام: »العمري ثقتي، فما أدّي إليك عنّي فعني يؤدّي، و ما قال لك عني، فعني يقول، فاسمع له و أطع، فانّه الثقة المأمون«. (1)

و هو يعلم انّ العمري إنسان غير معصوم ربما يخطأ و مع ذلك يأمر بالعمل بقوله علي وجه الإطلاق. فيكون معني هذا انّ المولي قد رضي في امتثال أوامره و نواهيه، و تحصيل أغراضه و مقاصده، علي حدّما، أدّت إليه الأمارة، التي تكون مطابقة للواقع بدرجة كبيرة، فكون الأمارة محصِّلة للمقاصد بهذا المقدار صحَّحَ الأمر بالعمل بقوله مطلقاً و بالتالي أوجب رفع اليد عن أغراضه فيما إذا أخطأ، كلّ ذلك لمصلحة عالية و هو تسهيل الأمر علي المكلّفين.

و ما استظهرنا من الملازمة بين الأمر بالعمل بقول الثقة، و الإجزاء مطلقاً سواء أ وافق الأمر أم لا، هو المتفاهم في العرف في هذه الموارد. مثلاً:

لو أمر المولي عبده بأن يهيِّئ له دواء ليتداوي به و أمره بأن يسأل صيدليّاً معيّناً عن نوعيّة أجزائه و كمّية و كيفية تركيبه، فاتبع العبد إرشادات الصيدليّ الذي جعل قوله حجّة في هذا الباب، ثمّ ظهر أنّ الصّيدليّ قد أخطأ في مورد أو موردين، فانّ العرف يعدّون العبد ممتثلاً لأمر مولاه، و يرون عمله مسقطاً للتكليف، من دون ايجابه بالقيام مجدّداً بتهيئة الدواء، اللّهمّ إلاّ أن يأمره المولي مجدّداً.

و هذه الارتكازات تدلّ علي الملازمة بين الأمر بالرجوع إلي الثقات و الخبراء، و الاكتفاء في امتثال الأمر بما أتاه بإرشادهم و هدايتهم، و هذا يعطي أنّ الشارع اكتفي في دائرة المولوية و العبودية فيما يرجع إلي مقاصده، بما يؤديه إخبار الثقة، و لو بان الخلاف، فهو يرفع اليد عن مقاصده، تسهيلاً للأمر علي العباد.

فإن قلت: فأي فرق بين هذا القول و بين القول بالتصويب، فانّ رفع اليد4.

ص: 109


1- . الوسائل: 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 4.

عن الحكم الواقعي في حقّ الجاهل كما هو المفروض تصويب و إنكار للحكم المشترك بين عامة الناس.

قلت: التصويب عبارة عن اختصاص الأحكام الواقعية بالعالم و عدم شمولها للجاهل من رأس، و هذا بخلاف المقام، فانّ الأحكام الواقعية علي هذا القول تشمل جميع الناس من دون تفاوت بين العالم و الجاهل، و لكنّه سبحانه و تعالي تسهيلاً للأمر علي العباد اكتفي في امتثال أوامره بإخبار الثقات، لمطابقتها للواقع بنسبة عالية، فأوجبت المصلحةُ التسهيلية عدمَ فعلية هذه الأحكام في موارد التخلّف.

و بالجملة فرق بين عدم جعل الحكم علي الجاهل و بين عدم فعليته في حقّه، لأجل قيام الأمارة علي خلاف الواقع.

فإن قلت: إنّ العبد و إن كان معذوراً في ترك الواقع و لكن غرض المولي بعدُ لم يستوف فتجب الإعادة و القضاء لذلك.

قلت: لو علم المكلّف بأنّ غرض المولي بعدُ لم يُستوف كما إذا أمر بإحضار الماء للتوضّؤ فأتي به ثمّ تلف يجب عليه تجديد الامتثال لأجل حفظ الغرض، و أمّا المقام فليس هناك علم بعدم استيفاء الغرض و ذلك لما عرفت من أنّ المصلحة التسهيليّة سبَّبت لأن يتضيّق غرض المولي بما أدّت إليه الأمارة التي تطابق الواقع بدرجة كبيرة، فليس له إلاّ هذا المقدار من الغرض.

نعم لو لا المصلحة التسهيلية لربما يتعلّق غرضه باستيفائه في عامة الموارد وافقت الأمارة للواقع أو خالف. و عندئذ يقوي القول بعدم الإجزاء.

و بالجملة رفع الحرج عن المكلّفين و إيجاد الرغبة للناس إلي الدين من الأُمور التي صارت سبباً لتضييق غرضه و تحدّده بما توصل إليه الأمارة و غض النظر عمّا إذا لم يُستوفَ.

ص: 110

هذا هو المختار عندنا و لكن المتأخرين كالشيخ الأنصاري و المحقّق الخراساني و غيرهما من الأعلام ذهبوا إلي عدم الإجزاء في الأمارات القائمة علي كيفية التكليف.

ب:العمل بالأمارة لاستكشاف أصل التكليف

إذا قامت الأمارة علي أصل التكليف، كما إذا قام علي أنّ الواجب هو صلاة الظهر و كان الواجب هو صلاة الجمعة، فالحقّ عدم الإجزاء و ذلك لوجود الفرق بين قيام الأمارة علي كيفية التكليف و قيامها علي أصل التكليف.

ففي الصورة الأُولي أتي بالمكلّف به و انطبق عليه عنوان الصلاة و لكنّه كان ناقصاً غير تام، فيمكن ادّعاء الملازمة العرفية بين الأمر بالعمل بالأمارة و الإجزاء في صورة التخلّف، و أمّا إذا لم يمتثل أصلاً، كما لو أمره المولي بخياطة ثوبه فاخبرت الثقة بانّ الواجب هو طبخ الطعام فلا وجه للامتثال.

فالملازمة العرفية التي اعتمدنا عليها مختصة بما إذا كان هناك امتثال لأمره، غاية الأمر لم يكن المأتيّ به مطلوباً تاماً، و أمّا إذا لم يمتثل أبداً، و لم ينطبق عليه عنوان المأمور به، يبقي الغرض علي ما كان عليه، فلا وجه لاجزاء امتثال أمر موهوم عن أمر حقيقي.

هذا كلّه حول العمل بالأمارة في كلا الموردين، و إليك البحث في العمل بالأُصول.

العمل بالأُصول العملية لاستكشاف كيفية التكليف

إذا امتثل الواجبَ، بالأُصول الشرعية كما إذا صلّي المكلّف في الثوب المتنجس اعتماداً علي قاعدة الطهارة أو استصحابها فهل يحكم بالإجزاء أو لا،

ص: 111

فالظاهر هو الحكم بالإجزاء لوجهين:

الأوّل: ما ذكرنا من حديث الملازمة بين الأمر بالعمل بالشيء لاستكشاف كيفية التكليف، و الإجزاء و قد مرّ مفصّلاً فلا نطيل.

الثاني: هو حكومة أدلّة الأُصول بالنسبة إلي أدلّة الأجزاء و الشرائط، فإذا قال: صلّ في ثوب طاهر، ثمّ قال: إذا شككت في كون شيء طاهراً أو لا فهو طاهر، فالظاهر منه هو حكومة دليل الأصل علي أدلّة الأجزاء و الشّرائط حيث إنّ الدليل الأوّل يدعو إلي إيقاعها في ثوب طاهر، و الدليل الثاني يُثبت انّ هذا المشكوك طاهر و مصداق للدليل الأوّل، فتكون نتيجة الحكومة هو كون الشرط للصلاة هو الأعمّ من الطّهارة الواقعية أو الظّاهرية، وعليه إذا صلّي في ثوب محكوم بالطهارة، فقد صلّي في ثوب حاصل للشرط واقعاً، إذ المفروض بعد الحكومة انّ الشرط هو الأعمّ من الواقعية و الظاهرية، و عندئذ ينطبق عليه عنوان الصلاة فيسقط الأمر، لما عرفت من أنّ الإتيان بالمأمور به يلازم الإجزاء.

فإن قلت: إنّ الامتثال بالثوب المحكوم بالطهارة ظاهراً، و النجس واقعاً يوجب الإجزاء بالنسبة إلي الحكم الظاهري، و أمّا الحكم الواقعي المتعلّق بالثوب الطاهر واقعاً فهو باق.

قلت: إنّ الإشكال مبني علي تعدد الأمر و انّ هناك أمرين:

أمر بالصلاة بالطهارة الظاهرية، و أمر بها بالطهارة الواقعية، فالامتثال الأوّل لا يغني من الثاني، و أمّا علي ما ذهبنا إليه من أنّ هناك أمراً واحداً متعلّقاً بالصلاة حسب اختلاف الحالات و حسب ما للصلاة من العرض العريض من الأفراد فليس هناك إلاّ أمر واحد و المفروض انّه امتثله بشهادة كون الفعل حائزاً لما هو الشرط فيه و بالتالي انطباق عنوان الصلاة عليه و معه لا يبقي أمر.

ص: 112

و بذلك يعلم الحال في سائر الأُصول كقاعدة الحلية و البراءة و التجاوز، فلو انّ القوم قاموا بدراسة واقع التشريع و وحدة الأمر مكان تعدده لسهل عليهم القول بالإجزاء في عامة المراتب إلاّ إذا لم يكن هناك أيُّ امتثال.

و بذلك يعلم حال الصورة الثانية من العمل بالأُصول و هو ما إذا قام الأصل علي أصل التكليف و بان الخلاف كما إذا استصحب وجوب الجمعة و كان الواجب في الواقع هو الظهر فعدم الإجزاء هو المحكم لما مرّ في مورد الأمارات.

تنبيه: في تبدّل القطع

لو قطع المكلّف بشيء ثمّ بان خلافه من غير فرق بين تعلّق قطعه بكيفية العمل أو أصله، فلا ينبغي الشكّ في عدم الإجزاء، و ذلك لأنّه لم يكن هناك أمر من المولي بالمقطوع به حتي يستدلّ بالملازمة علي الإجزاء. إذ القطع حجّة عقلية، و الآمر بتطبيق العمل علي وفقه هو العقل لا الشرع، و من جانب آخر لم يُستوف غرض المولي، فهو بعد باق، فلا وجه للإجزاء.

تطبيقات

1. لو صلّي اعتماداً علي يقينه بدخول الوقت فبان الخلاف، لاعاد صلاته لعدم الأمر الشرعي بها.

نعم لو صلّي اعتماداً علي البيّنة الشرعية فمقتضي القاعدة(الملازمة العرفية) هو الإجزاء لو لا قاعدة »لا تعاد« حيث إنّ الوقت أحد الأُمور الخمسة التي تعاد الصلاة في فوتها مطلقاً.

2. لو دخل الصبي في الصلاة و هو غير بالغ فبلغ في أثنائها، فيجب عليه إكمال الصلاة و الاجتزاء بها لما عرفت من أنّ البالغ و غير البالغ يقصدان أمراً واحداً

ص: 113

و هو( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلي غَسَقِ اللَّيْلِ (1) ) (2). غير انّ الدليل الخارجي دلّ علي شدّة الإرادة في البالغ و ضعفها في غيره.و هذا لا يكون سبباً لتعدد الأمر، و عندئذ فقد امتثل الأمر المتعلق بالصلاة، و انطبق عنوان الصلاة علي المأتي به فلا وجه لبقاء الأمر.

نعم ذهب صاحب الجواهر إلي لزوم الإعادة عملاً بتعدد الأمر، و قال: فيكون اللّذان تواردا علي الصبي في الفرض أمرين: ندبياً و إيجابياً و مع المعلوم عدم إجزاء الأوّل عن الثاني. (3)

3. إذا انحصر الثوب في النجس و لم يتمكن من غسله و نزعه لبرد و صلّي فيه، فإن كان العذر مستوعباً فلا كلام في الإجزاء، و إن كان غير مستوعب كما إذا تمكّن من الغسل أو النزع في فترة من الوقت فالاجتزاء به يتوقف علي إطلاق في دليل الاضطرار. بأن كان العذر غير المستوعب مجوزاً للبدار و إقامة الصلاة في النجس و إلاّ فالمرجع هو الاحتياط للشكّ في سقوط الأمر الواحد.

4. لو دفع الزكاة إلي شخص علي أنّه فقير فبان غنياً، ارْتجعت مع التمكّن، فإن تعذّر ارتجاعها كان في ذمّة الآخذ، إنّما الكلام في براءة ذمّة الدافع فإن اعتمد في الفحص عن حاله علي حجّة شرعية كالبيّنة أو خبر العادل بناء علي حجّيته في الموضوعات أو الاستصحاب أجزأ ، لقاعدة الملازمة العرفية و يكون الموضوع لبراءة الذمة، الدفع لمن ظهر منه الفقر لا الفقر الواقعي.

5. إذا قلّد من يقول بصحّة الصلاة بلا سورة أو بصحّة العقد باللغة الفارسية أو بجواز ذبح الحيوان بغير الحديد ثمّ مات المقلَّد و قلد مجتهداً آخر يقول فيها بخلاف ما قال الأوّل، فيقع الكلام في عباداته و معاملاته و التفصيل في مباحث الاجتهاد و التقليد.2.

ص: 114


1- سوره 17 - آيه 78
2- . الإسراء:78.
3- . الجواهر:7/262.

الفصل السادس : في المقدّمة: أقسامها و أحكامها

اشارة

عُرِّفت المقدّمة بأنّها ما يتوصّل بها إلي شيء آخر علي وجه لولاه لما أمكن تحصيله، و قد قسّموا المقدّمة إلي داخلية و خارجية، إلي عقلية و شرعية و عادية، إلي مقدّمة الوجود و الصحّة، إلي مقدمة الوجوب و العلم، إلي السبب و الشرط و المعد و المانع، إلي المقدّمة المفوّتة و غير المفوّتة، و إلي العبادية و التوصلية، و قد بحثنا في هذه الأُمور في كتاب الموجز (1) فلا نعيد.

و الذي تجب الإشارة إليه في المقام هو تقسيم الشرط إلي شرط التكليف و شرط الوضع، و شرط المأمور به.

فشرط التكليف كالأُمور العامّة، مثل: العقل، و البلوغ، و القدرة.

و شرط الوضع كشرط الصحّة مثلاً نظير الإجازة في بيع الفضولي، إذ لولاها لما وصف العقد الصادر من الفضولي بالصحّة التامّة.

و شرط المأمور به كالطهارة من الحدث و الخبث.

ص: 115


1- . الموجز:4845.
تقسيم الشرط إلي متقدّم و مقارن و متأخّر

قسَّم الأُصوليون الشرطَ إلي متقدّم و مقارن و متأخر، و إليك أمثلته:

أ: ما هو متقدّم في وجوده زماناً علي المشروط، كالوضوء و الغسل بالنسبة إلي الصلاة و نحوها، بناء علي أنّ الشرط نفس الأفعال لا أثرها الباقي إلي حين الصلاة.

ب: ما هو مقارن للمشروط للزوم وجوده طول العمل، كالاستقبال و طهارة اللباس.

ج: ما هو متأخّر عن المشروط في وجوده زماناً، كالاغتسال في الليل للمستحاضة، الذي هو شرط لصحّة صوم النهار السابق، و كإجازة المالك التي هي شرط لصحّة بيع الفضولي من أوّل إنشائه علي القول بأنّ الإجازة كاشفة لا من حين صدور الإجازة(علي القول بأنّ الإجازة ناقلة) و إلاّ يكون من قبيل المقارن.

دليل القائل بوجوب المقدّمة

اشتهر القول بأنّ مقدّمة الواجب واجبة، و مقدّمة الحرام حرام. و لنقدّم الكلام في حكم الأُولي، فنقول:

قد استدلّ علي وجوب المقدّمة بوجوه:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني، حيث قال: إنّ الوجدان أقوي شاهد علي أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً له مقدّمات أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها، بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله، و يقول مولوياً: ادخل السوق و اشتر اللحم مثلاً.

بداهة أنّ الطلب المنشأ بخطاب ادخل، مثل المنشأ بخطاب »اشتر« في كونه

ص: 116

بعثاً مولوياً و أنّه حيث تعلّقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ترشحت منها له إرادة أُخري بدخول السوق بعد الالتفات إليه و أنّه مقدّمة له. (1)

يلاحظ عليه: أنّ الوجدان يشهد علي خلافه، و انّه ليس هنا إلاّ بعث واحد، و الأمر بالمقدّمة إمّا إرشاد إلي المقدمية، أو تأكيد لذيها، و يشهد علي ذلك أنّه لو سئل المولي عن وحدة بعثه و تعدّده، لأجاب بوحدته و إن هنا بعثاً واحداً متعلقاً بالمطلوب الذاتي.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقّق النائيني، و حاصله انّه لا فرق بين الإرادة التكوينية و التشريعية في جميع لوازمها، غير انّ التكوينية تتعلّق بفعل نفس المريد، و التشريعية تتعلّق بفعل غيره; و من الضروري انّ تعلّق الإرادة التكوينية بشيء يستلزم تعلّقها بجميع مقدّماته قهراً.

نعم لا تكون هذه الإرادة القهرية فعلية، فيما إذا كانت المقدمية مغفولاً عنها، إلاّ انّ ملاك تعلّق الإرادة بها، و هو المقدّمية علي حاله. فإذا كان هذا حال الإرادة التكوينية، فتكون الإرادة التشريعية مثلها أيضاً. (2)

يلاحظ عليه: بالفرق بين الإرادة التكوينية و الإرادة التشريعية، و ذلك لانّ الإرادة التكوينية تتعلّق بنفس الفعل الصادر من المريد، و لا يصدر الفعل من الفاعل إلاّ بعد تعلّق الإرادة التكوينية بمقدّماته، فيريد كلّ مقدّمة بارادة خاصة.

و أمّا الإرادة التشريعية فلا تتعلق بنفس الفعل الصادر من الغير، من دون فرق بين نفس الفعل و مقدمته، لأنّ الإرادة تتعلق بما هو واقع تحت اختيار المريد، و فعل الغير نفسه و مقدّماته غير واقع تحت اختيار المريد، و عندئذ فإرادة4.

ص: 117


1- . كفاية الأُصول: 1/200.
2- . أجود التقريرات:1/231، و لاحظ فوائد الأُصول: 1/284.

المريد(الآمر) تتعلّق بما هو تحت اختياره و هو الأمر و البعث لا فعل الغير.

و قد صار تصوّر إمكان تعلّق إرادة الآمر بفعل الغير سبباً لإشكالات كثيرة نبهنا عليها في موضعها.

هذا كلّه حول دراسة أدلّة القائلين بالوجوب و قد ذكرنا بعض أدلّتهم، و أمّا دليل القائل بعدم الوجوب فأمتنه ما يلي:

دليل القائل بعدم وجوب المقدّمة

و هو انّ الغرض من الإيجاب المولوي هو جعل الداعي و إحداثه في ضمير المكلّف، لينبعث و يأتي بالمتعلّق، مع أنّ وجوبها إمّا غير باعث، أو غير محتاج إليه، فإنّ المكلّف إن كان بصدد الإتيان بذي المقدّمة، فالأمر النفسي الباعث إلي ذيها، باعث إليها أيضاً، و معه لا يحتاج إلي باعث آخر بالنسبة إليها. و إن لم يكن بصدد الإتيان بذيها و كان مُعرضاً عنه، لما حصل له بعث بالنسبة إلي المقدّمة.

و الحاصل: انّ الأمر المقدمي يدور أمره بين اللغوية إذا كان المكلّف بصدد الإتيان بذيها و عدم الباعثية و إحداث الداعوية أبداً ، إذا لم يكن بصدد الإتيان بذيها.

ما هو الواجب من المقدّمة؟

ثمّ إنّ القائلين بوجوب المقدّمة اختلفوا فيما هو الواجب:

1. الواجب هو نفس المقدّمة من حيث هي هي، و هذا القول هو المشهور.

2. الواجب هو المقدّمة الموصلة، و هو خيرة صاحب الفصول.

3. الواجب هو المقدّمة بقصد التوصل إلي ذيها، و هو خيرة الشيخ الأنصاري.

ص: 118

استدلّ صاحب الفصول علي مختاره: بأنّ الحاكم بالملازمة بين الوجوبين هو العقل، و لا يري العقل إلاّ الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب ما يقع في طريق حصوله و سلسلة وجوده، و فيما سوي ذلك لا يدرك العقل أيّة ملازمة بينهما.

و أُورد عليه: بأنّ العقل الحاكم بالملازمة دلّ علي وجوب مطلق المقدّمة لا خصوص ما إذا ترتب عليها الواجب، لثبوت مناط الوجوب أعني التمكن من ذيها في مطلقها و عدم اختصاصه بالمقيّد بذلك منها.

و لكن الحقّ انّه لو قلنا بوجوب المقدّمة لاختصّ الوجوب بالموصلة منها، و ذلك لأنّ الغاية تُحدِّد حكم العقل و تضيّقه، و ذلك لأنّ التمكّن من ذي المقدّمة و إن كان غاية لوجوبها لكنّها ليست تمامها، و الغاية التامة هي كون المقدّمة الممكِّنة، موصلة لما هو المطلوب، و إلاّ فلو لم تكن موصلة، لما أمر بها، لأنّ المفروض أنّ المقدّمة ليست مطلوبة و إنّما تطلب لأجل ذيها.

و إن شئت قلت: إنّ المطلوب الذاتي هو التوصّل خارجاً، دون التوقّف، فلو فرض إمكان التفكيك بينهما، لكان الملاك هو التوصّل خارجاً دون التوقف.

و بما انّ المقدّمة في متن الواقع علي قسمين يتعلّق الوجوب بالقسم الموصل في الواقع و نفس الأمر دون غيره.

و تظهر الثمرة بين القولين فيما إذا توقّف إنقاذ النفس المحترمة علي إتلاف مال الغير إذا كان أقلّ أهمية منها، و لو افترضنا أنّه أتلفه و لم ينقذ الغريق، فعلي القول بوجوب مطلق المقدّمة لم يرتكب الحرام، لامتناع اجتماع الوجوب و الحرمة في شيء واحد، بخلاف ما إذا قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة، فبما أنّها لم يكن موصلة لم تكن واجبة بل باقية علي حرمتها.

و استدلّ علي القول الثالث: بأنّ قصد التوصّل قيد للواجب، فالواجب هو خصوص ما أوتي به بقصد التوصّل.

ص: 119

يلاحظ عليه: أنّه دعوي بلا برهان، فإنّ ملاك الوجوب هو التوقّف إذا لم نقل بوجوب المقدّمة الموصلة و هو متحقّق فيما قصد به التوصّل و ما لم يقصد، و لا معني لأخذ ما لا دخالة له في موضوع الوجوب.

فخرجنا بالنتائج التالية:

أ. عدم وجوب المقدّمة علي الإطلاق.

ب. علي فرض وجوبها فالواجب هو المقدّمة الموصلة.

ج. علي القول بالملازمة بين الوجوبين يترتّب عليها وجوب المقدّمة في الواجبات و حرمتها في المحرمات، و بذلك تكون المسألة(وجوب المقدّمة) من المسائل الأُصولية لوقوعها كبري لاستنباط حكم شرعي كما في الموارد التالية:

1. إذا تعلّق النذر بالواجب، فلو قلنا بوجوب المقدّمة يكفي في الامتثال الإتيان بكلّ واجب غيري، و إلاّ فلا بدّ من الإتيان بواجب نفسي.

2. إذا أمر شخص ببناء بيت، فأتي المأمور بالمقدّمات، ثمّ انصرف الآمر، فعلي القول بأنّ الأمر بالشيء أمر بمقدّمته يصير الآمر ضامناً لها، فيجب عليه دفع أُجرة المقدّمات و إن انقطع العمل.

3. لو قلنا بوجوب المقدّمة شرعاً، يحرم أخذ الأُجرة عليها، كما إذا أخذ الأُجرة علي تطهير الثوب الذي يريد الصلاة فيه، لما تقرر في محلّه من عدم جواز أخذ الأُجرة علي الواجبات.

4. لو كان لواجب واحد مقدّمات كثيرة، كالحجّ من أخذ جواز السفر، و تذكرة الطائرة، يحصل الفسق بترك هذين الأمرين علي وجه لا يمكن تداركهما، لصدق الإصرار علي الصغيرة إذا كانت مخالفة الأمر المقدّمي معصية صغيرة، و لا يتوقف حصول الفسق علي ترك ذيها.

ص: 120

5. إذا كانت المقدّمة أمراً عبادياً، كالطهارات الثلاث، فلو قلنا بأنّ قصد الأمر الغير يكفي في كون الشيء عبادة، فعلي القول بوجوب المقدّمة يكفي قصد الأمر الغيري في عباديّتها، و إلاّ فلا بدّ في تصحيح عبادية الطهارات الثلاث من محاولة أُخري مذكورة في محلّها.

في حكم مقدّمة المستحب و المكروه و الحرام

لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب تكون مقدّمة المستحب مستحبة، كالمشي إلي زيارة الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) ، إنّما الكلام في مقدّمة المكروه فالظاهر انّها مكروهة بعامة أجزائها كالمشي إلي الطلاق، لأنّ لكلّ جزء مدخلية في تحقّق المبغوض فيسري إليها البغض كسريان الحبّ إليها في مقدّمة الواجب.

و يمكن أن يقال بكراهة الجزء الأخير من العلّة التامة لموضوع المكروه.

و منه يظهر حال مقدّمة الحرام، فإذا كان الملاك للحرمة هو المدخلية فيحرم كلّ مقدّمة من مقدّمات الحرام، شرطاً كان أو معدّاً.

و هناك احتمال آخر و هو حرمة الجزء الأخير من العلّة التامة الذي لا ينفك عنه وجود المبغوض و علي كلّ تقدير فالجميع فروض علي أساس غير محقّق و هو وجوب المقدّمة أو حرمتها.

مميّزات الوجوب الغيري

ثمّ إنّه إذا قلنا بالوجوب الغيري فهو يتميز عن النفسي عند المشهور بوجوه:

1. انّ الوجوب الغيري لا يوجد إلاّ بعد افتراض الوجوب النفسي، لكونه معلولاً له.

2. انّ الوجوب الغيري لا يترتب علي مخالفته العقاب لوضوح انّ العقاب

ص: 121

لا يتعدد، حسب تعدد مقدّمات الواجب النفسي.

3. الوجوب الغيري لا يكون مقصوداً بالذات في مقام الامتثال، و إنّما يكتسب المحبوبية من ناحية الوجوب النفسي الّذي يتوقف امتثاله علي امتثال الواجب الغيري.

ص: 122

الفصل السابع: في ترتّب الثواب علي امتثال الواجب الغيري

لا إشكال في أنّ ترك الواجب النفسي يستوجب العقاب، لأنّه تمرّد و طغيان علي المولي، و خروج عن رسم العبوديّة و زيّ الرقية، و هو قبيح عقلاً و شرعاً، فيستوجب اللوم و العقاب.

كما لا إشكال في أنّ ترك الواجب الغيري بما هو هو لا يستوجب العقاب، غير أنّه لمّا كان تركه ملازماً لترك الواجب النفسي، فالعقاب إنّما هو علي ترك النفسي لا علي مقدّمته.

كما لا إشكال في أمر ثالث، و هو ترتّب الثواب علي امتثال الواجب النفسي إذا قصد القربة و أتي به للّه سبحانه.

إنّما الكلام في أمر رابع و هو ترتّب الثواب علي الواجب الغيري إذا أتي به بقصد التوصّل، و عدم ترتّبه عليه، و قبل الخوض في المقصود، نشير إلي مسألة كلامية، و هي:

هل ترتّب الثواب علي امتثال التكليف علي وجه الاستحقاق أو علي وجه التفضّل؟ قولان: ذهب إلي الأوّل المحقّق الطوسي في تجريد الاعتقاد و تبعه العلاّمة الحلّي في كشف المراد و مال إليه المحقّق الخراساني في الكفاية، و ذهب إلي الثاني الشيخ المفيد علي ما نقل عنه.

ص: 123

أقول: أمّا الأوّل فالظاهر عدم ثبوته بل ثبوت خلافه، و ذلك لأنّ من عرف ربّه و عظمته، و عرف فقر نفسه، و أنّ ما يملكه من حول و قوة، و جارحة و جانحة، و ما يصرفه في طريق الطاعة، كلّه مفاض منه تعالي إليه، و ليس ملكاً للعبد، بل ملك له سبحانه، صدّق القول بعدم الاستحقاق، لأنّ القائل بالاستحقاق ذهب إلي أنّه يجب عليه سبحانه القيام به، و عَدّ تركه ظلماً منه للعباد، و هو لا يجتمع مع القول بأنّ المالك هو اللّه سبحانه علي الإطلاق، لا غير، و أنّ جميع شئون العبد و حوله و قوّته و إرادته و فعله ملك للّه تعالي، فما أتي به العبد ليس سوي ما أعطاه إيّاه تعالي.

و إن شئت قلت: إنّ مثَل المخلوق إلي خالقه، مثَل المعني الحرفي إلي الاسمي فلا يملك المعني الحرفي لنفسه شيئاً سوي كونه موجوداً غير مستقل في ذاته و فعله، و عند ذلك كيف يستحقّ شيئاً في ذمة المولي، بحيث لو لم يؤدّه يكون ظالماً في حقّه؟! و إلي ذلك يشير قوله سبحانه:( يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَي اللّهِ وَ اللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (1) ). (2)

و أمّا التّعبير في بعض الآيات »بالأجر« الظاهر في الاستحقاق كقوله سبحانه:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (3) ). (4)

و قوله سبحانه:( وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (5) ) (6) إلي غير ذلك من الآيات، فإنّما هو من باب المشاكلة نظير التعبير بالاستقراض في قوله سبحانه:( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (7) ). (8)1.

ص: 124


1- سوره 35 - آيه 15
2- . فاطر:15.
3- سوره 35 - آيه 7
4- . فاطر:7.
5- سوره 11 - آيه 115
6- . هود:115.
7- سوره 57 - آيه 11
8- . الحديد: 11.

و أمّا علي القول الثاني أي كون الثواب تفضّلاً من اللّه سبحانه فيكون الثواب و العقاب بالجعل و المواضعة فله أن يتفضّل علي العباد بالوعد كما أنّ له أن لا يتفضّل عليهم به.

نعم بعد ما وعد يمتنع عليه التخلّف لاستلزامه الكذب الذي هو قبيح علي الحكيم.

و علي ضوء ذلك يظهر حكم المسألة أي ترتّب الثواب علي الواجب الغيري، فلو قلنا بأنّ الثواب علي نحو الاستحقاق يكون المدار هو إطاعة أمر المولي، سواء أ كان المأمور به نفسياً أم غيرياً خصوصاً إذا أتي العبد بالمقدّمة بقصد التوصّل إلي الواجب فيعد مطيعاً و المطيع مستحق للثواب من غير فرق بين إطاعة أمر دون أمر و لا بين كون الواجب محبوباً بالذات أو لا، لأنّ ملاك الاستحقاق هو أن يكون فعل العبد لأجل امتثال أمره سبحانه من دون أن ينبعث عن أهواء نفسية و كون المتعلّق غير محبوب بالذّات كما في الواجب الغيري لا يؤثر في صدق الطاعة و كون الفعل للمولي المستتبع للثواب.

و أمّا لو قلنا بأنّ الثواب بالجعل و المواضعة فيتبع مقدار الجعل و حدوده، و الظاهر من الكتاب هو الأعم و انّ الثواب يترتب علي مقدّمة الواجب أيضاً كما في قوله سبحانه:( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (1) ) (2) فقد قدّر لطيّ الأرض و السفر إلي أرض المعركة، و ما يصيبهم في أثناء ذلك من ظمأ و تعب0.

ص: 125


1- سوره 9 - آيه 120
2- . التوبة:120.

و مشقة، أجراً، مع أنّها واجبات مقدمية غيرية ، و مثل ذلك ما ورد من ترتّب الثواب علي كلّ خطوة يخطوها المؤمن المتوجّه لزيارة الإمام الطاهر الحسين بن علي(عليهما السلام). (1)3.

ص: 126


1- . لاحظ كامل الزيارات: 133.

الفصل الثامن : في تقسيم الواجب إلي مطلق و مشروط

اشارة

الفصل الثامن : في تقسيم الواجب إلي مطلق و مشروط (1)

إذا كان وجوب الشيء مشروطاً بوجود شيء، سواء أ كان أمراً خارجاً عن الاختيار كدلوك الشمس بالنسبة إلي وجوب صلاة الظهر، أم داخلاً في الاختيار كالاستطاعة بالنسبة إلي وجوب الحجّ ، يطلق عليه الواجب المشروط.

و أمّا إذا كان وجوب الشيء غير مشروط بوجود الشيء بل يجب، سواء أ كان هذا الشيء موجوداً أو لا، يطلق عليه الواجب المطلق، و ذلك كوجوب الصلاة بالنسبة إلي الوضوء، فإنّ وجوبها ليست مشروطة بالوضوء علي نحو لو لم يتوضأ لم تجب عليه الصلاة، بل الوجوب مطلق غاية الأمر انّ الوضوء شرط الصحة.

و بذلك يعلم أنّ الإطلاق و التقييد من الأُمور الإضافية كالأُبوّة و البنوّة و لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة و يجتمعان فيه من جهتين، مثلاً وجوب الصلاة بالنسبة إلي دلوك الشمس وجوب مشروط و هو بالنسبة إلي الوضوء وجوب مطلق، و تظهر ثمرة كون الوجوب مطلقاً أو مشروطاً في خصوص المقدّمات الاختيارية، فإن كان الوجوب مطلقاً بالنسبة إلي أمر مثلاً كالوضوء لزم تحصيل

ص: 127


1- . عقدنا الفصلين: الثامن و التاسع بعد فصل مقدمة الواجب لوجود صلة بينهما باعتبار انّ الشرط و المعلق عليه يعدان من المقدمات.

الوضوء و بذل المال لشراء ماء الوضوء، و أمّا إذا كان وجوبه مشروطاً به، فالوجوب لا يتحقّق إلاّ بعد وجود الشرط فلا وجه لوجوب تحصيله.

و منه يعلم أنّ المقسم هو تقسيم الوجوب إلي المطلق و المشروط و وصف الواجب بهما من قبيل الوصف بحال المتعلّق.

نظرية الشيخ الأنصاري في الواجب المشروط

ذهب المشهور إلي أنّ الوجوب في الواجب المشروط مقيّد بالقيود المأخوذة في لسان الدليل، فالوجوب غير حاصل ما لم تحصل هذه القيود. و أمّا المادّة التي تلبّست بها الهيئة، فهي باقية علي إطلاقها. و معني قوله سبحانه:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلي غَسَقِ اللَّيْلِ (1) ) هو تجب عند دلوك الشمس الصلاة، فالوجوب مقيّد بدلوكها و إن كانت المادة أعني: نفس الصلاة باقية علي إطلاقها. فالقيد راجع إلي الهيئة.

و خالف في ذلك الشيخ الأعظم في تقريراته (2) فاختار انّ القيود كلّها من خصوصيات المادة و أمّا الهيئة فهي باقية علي إطلاقها. وعليه يصير معني الآية المذكورة: تجب الصلاة المقيدة بالدلوك، كما أنّه يصير محصل قولك: »أكرم زيداً إن جاء« أنّه يجب الإكرام المقيد بالمجيء.

و عند ذلك تختلف النتيجة، فعلي المشهور، لا وجوب ما لم يتحقّق القيد أي الدلوك. و علي قول الشيخ الوجوب حاليّ، و إن كان ظرف العمل استقبالياً.

يلاحظ علي نظرية الشيخ بأنّ القيود بحسب اللب و الواقع علي قسمين، و لا معني لجعلهما قسماً واحداً.

فإنّ قسماً منها يرجع إلي مادة الواجب كما إذا ترتبت المصلحة علي الصلاة

ص: 128


1- سوره 17 - آيه 78
2- . مطارح الأنظار:4645.

في المسجد و الطواف حول البيت لا علي نفس الصلاة و الطواف المطلق. فلا شكّ انّ القيد »في المسجد«، »حول البيت« من قيود الصلاة فلأجل ذلك يجب عليه تحصيل المسجد لإقامة الصلاة فيه و شدّ الرحال إلي مكة المكرّمة للطواف.

و أنّ قسما منها يكون مؤثراً في ظهور الإرادة و بعث المولي بحيث لو لا الشرط لما كان هناك بعث و لا طلب فلا شكّ انّه من قيود الهيئة، فإذا قال: إن أفطرت فكفِّر و إن ظاهرت فأعتق، فانّ تعلّق إرادة المولي بالتكفير بصورة الإيجاب، رهن صدور عمل محرم من العبد كالإفطار في شهر رمضان و الظهار بحيث لولاهما لما صدر منه بعث إلي التكفير و لا أمر بالعتق فيكون »الافطار« في قوله: »إن أفطرت فكفِّر« قيداً للبعث الحاكي عن الإرادة.

و لنمثِّل مثالاً آخر: انّ حجّ المتسكع ذو مصلحة، كما أنّ أداء الزكاة قبل بلوغ النصاب لا يخلو من مصلحة غير انّ إرادة المولي أو بعثه مشروطة بالاستطاعة و بلوغ الغلة حدّ النصاب، و ما ذلك إلاّ للزوم الحرج و الضيق علي المكلّفين لو لم يقيد الوجوب بالاستطاعة و بلوغ النصاب.

فإذا كانت ماهية الشروط علي قسمين مختلفين فلا وجه لجعلها قسماً واحداً كما عليه المحقّق الأنصاري.

ص: 129

الفصل التاسع: في تقسيم الواجب المطلق إلي منجَّز و معلَّق

اشارة

إنّ صاحب الفصول قد قسّم الواجب المطلق إلي قسمين: منجز و معلّق، فقال:

إذا تعلّق الوجوب بالمكلّف به كمعرفة اللّه و لم يتوقّف حصول الواجب علي أمر غير مقدور يسمّي منجزاً، و إن تعلّق به و توقّف حصول الواجب في الخارج علي أمر غير مقدور كالوقت في الحج يسمي معلّقاً فانّ وجوبه يتعلّق بالمكلف من أوّل زمان الاستطاعة أو خروج الرفقة و يتوقف فعله علي مجيء وقته و هو غير مقدور. (1)

و حاصله: أنّه إذا لم يكن وجوب الواجب، و لا امتثال نفس الواجب، متوقفين علي حصول أمر غير مقدور، فهو الواجب المنجز كالمعرفة.

و إن كان وجوبه غير متوقف علي شيء لكن كان امتثال الواجب متوقفاً علي حصول أمر غير مقدور، فهو الواجب المعلّق، أي عُلِّق الإتيان به علي مجيء زمنه، كما هو الحال في المستطيع عند وجود جميع المقدّمات قبل حلول أيّام الحجّ.

فالوجوب في كلتا الصورتين فعليّ، غير انّ الواجب في الأوّل(المعرفة) فعلي دون الثاني، فانّ الواجب فيه استقبالي.

ص: 130


1- . الفصول: 81 بتلخيص.
ثمرة التقسيم إلي المنجز و المعلّق

ثمّ إنّ الداعي إلي هذا التقسيم هو دفع الإشكال عن المقدّمات المفوِّتة حيث إنّ المشهور هو انّ فعلية وجوب المقدّمة يتبع فعلية وجوب ذيها، و مع ذلك نري في الشريعة الإسلامية موارد توهم خلاف ذلك حيث وجبت المقدّمة قبل وجوب ذيها و ذلك في الموارد التالية:

أ: وجوب الاحتفاظ بالماء قبل الوقت لواجده إذا علم عدم تمكّنه منه بعد دخول الوقت.

ب: وجوب الغسل ليلة الصيام قبل الفجر للجنب و المستحاضة.

ج: وجوب تحصيل المقدّمات الوجودية بعد الاستطاعة قبل فوت الحجّ.

د: وجوب تعلّم الأحكام للبالغ قبل مجيء وقت الوجوب إذا ترتّب علي ترك التعلّم فوت الواجب في ظرفه.

ففي هذه الموارد تنهدم القاعدة المعروفة من »انّ فعليّة وجوب المقدّمة يتبع فعلية وجوب ذيها« لوجوب المقدّمة فيها قبل وجوب ذيها.

هذا هو الإشكال و قد تخلّص منه صاحب الفصول بتقسيم الواجب المطلق إلي المنجز و المعلّق، و القول بأنّ الواجب في هذه الموارد من قبيل الواجب المعلّق، فالوجوب فعلي قبل الوقت و إن كان الواجب استقبالياً، فلا يلزم انهدام القاعدة. لأنّ وجوب المقدّمة المفوّتة في هذه الموارد لأجل فعلية وجوب ذيها و لا تنافي استقبالية الواجب لوجوب المقدّمة بالفعل.

ثمّ إنّ من أنكر تقسيم الواجب المطلق إلي المنجز و المعلّق، تخلص من الإشكال في هذه الموارد بوجوه أُخري مذكورة في دراسات عليا.

ص: 131

الفصل العاشر: في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه

اشارة

اختلفت كلمة الأُصوليّين في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه، و الضدّ علي قسمين:

أحدهما: الضدّ العام و هو بمعني النقيض، فلو أمر بالصّلاة يكون تركها محرماً.

ثانيهما: الضدّ الخاص و هو الفعل الوجودي الذي لا يجتمع مع الفعل الواجب، كما إذا أمر بإزالة النجس عن المسجد فوراً و قد دخل وقت الصلاة، فلو قلنا بالاقتضاء يكون الأمر بالإزالة نهياً عن الصلاة.

في حكم الضدّ العام

أمّا الضدّ العام فلا يخلو إمّا أن يكون الاقتضاء بالدلالة المطابقية بأن يكون الأمر بالشيء عين النّهي عن تركه، أو بالدلالة التضمنية بأن يكون الأمر بالشيء بمعني طلب ذلك الشيء و المنع عن تركه، فالوجهان لا يرجعان إلي شيء لما عرفت من أنّ مفاد الأمر هو البعث إلي الشيء و ليس فيه أيّ دلالة علي حكم الترك فضلاً عن كون النّهي عنه علي نحو العينية أو الجزئية، و أمّا الدّلالة علي النّهي بنحو الدلالة الالتزامية فهي تتصور علي نحوين:

الأوّل: الالتزام بنحو اللّزوم البين بالمعني الأخص بأن يكون نفس تصوّر

ص: 132

الوجوب كافياً في تصوّر المنع عن الترك.

الثاني: الالتزام بنحو اللّزوم البيّن بالمعني الأعم بأن يكون تصوّر الطرفين(الأمر بالشيء و النهي عن الضدّ العام) و النسبة كافياً في التصديق بالاقتضاء.

أمّا الأوّل فواضح الانتفاء، إذ كيف يصحّ ادّعاء الدلالة الالتزامية بهذا النحو، مع أنّ الإنسان كثيراً ما يأمر بشيء و هو غافل عن الترك فضلاً عن النّهي عنه؟ و أمّا الثّاني: ففيه انّ هذا النحو من النهي يدور أمره بين عدم الحاجة و اللغوية ، و ذلك لأنّ الأمر بالشيء إذا كان باعثاً نحو المطلوب يكون النّهي عن الترك غير محتاج إليه إلاّ إذا كان تأكيداً للأمر و لكنّه خارج عن محط البحث، و إذا لم يكن باعثاً نحو المطلوب، يكون النهي عن الترك لغواً لعدم ترتّب الفائدة عليه.

هذا كلّه حول الضد العام.

أمّا الضدّ الخاص، فقد استدلّ عليه بوجهين:

أحدهما:مسلك المقدمية.

الثاني: مسلك الملازمة.

أمّا الأوّل فهو مبني علي تسليم أُمور ثلاثة:

1. انّ ترك الضدّ كالصلاة مقدّمة للمأمور به كالإزالة.

2. انّ مقدّمة الواجب واجبة فيكون ترك الصلاة واجباً بهذا الملاك.

3. انّ الأمر بالشيء(و هو في المقام قوله: اترك الصلاة) يقتضي النهي عن ضدّه العام، أعني: نقيض المأمور به و هو هنا نفس الصلاة.

و أنت خبير بعدم صحّة واحد من هذه الأُمور.

أمّا الأمر الأوّل أي كون ترك الضد مقدّمة للمأمور به فغير صحيح، إذ لا

ص: 133

مقدّمية لترك أحد الفعلين لإيقاع الفعل الآخر، فلا ترك الصلاة مقدّمة للإزالة و لا ترك الإزالة مقدّمة للصّلاة، بل غاية الأمر انّ بينهما منافرة و معاندة لا يجتمعان في زمان واحد. و أمّا كون أحد التركين مقدّمة للآخر فلا، لأنّ السبب الحقيقي لتحقّق كلّ واحد من الضدّين، هو إرادة المكلّف و اختياره، فإذا وقع امام الضدين و رأي انّ الجمع بينهما أمر غير ممكن، يختار واحداً منهما ، و يترك الآخر، حسب اقتضاء غرضه، من دون أن يكون ترك أحدهما مقدّمة لفعل الآخر.

و يمكن إبطاله أيضاً بوجه آخر و هو انّ جعل العدم موقوفاً عليه غفلة عن حقيقة العدم، فإنّ العدم أمر ذهني لا وجود له في الخارج كما هو واضح، و ما هو هذا شأنه لا يكون مؤثّراً و لا متأثّراً و لا موقوفاً و لا موقوفاً عليه.

و أمّا الأمر الثاني، أي وجوب المقدّمة التي هي »ترك الصلاة« فقد عرفت ضعفه لما عرفت من أنّ وجوب المقدّمة دائر بين ما لا حاجة إليه أو كونه لغواً.

و أمّا الأمر الثالث أي كون الأمر بالشيء حتّي الأمر المقدّمي مثل »اترك الصلاة«، يقتضي النهي عن ضدّه العام و نقيضه أي الصلاة ففيه انّ هذا النهي(لا تصلّ) امّا غير محتاج إليه إذا كان الأمر بالترك باعثاً، أو لغو إذا كان الأمر بالترك غير باعث.

إلي هنا تمّ الكلام في اقتضاء وجوب الشيء حرمة ضدّه سواء أُريد منه الضدّ العام أو الخاص من باب المقدمية.

و أمّا المسلك الثاني، أي مسلك الملازمة فقد أوضحنا حاله في الموجز (1) فلا نطيل فلاحظ.6.

ص: 134


1- . الموجز:5756.
الثمرة الفقهية للمسألة

تظهر الثمرة الفقهية للمسألة في بطلان العبادة إذا ثبت الاقتضاء، فإذا كان الضدّ عبادة كالصلاة، و قلنا بتعلقّ النهي بها بأحد المسلكين السابقين تقع فاسدة، لأنّ النهي يقتضي الفساد، فلو اشتغل بالصلاة حين الأمر بالإزالة تقع صلاته فاسدة، أو اشتغل بها، حين طلب الدائن دينه.

ثمّ إنّ شيخنا بهاء الدين العاملي أنكر الثمرة، و قال: إنّ الصلاة باطلة سواء أقلنا باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه أم لم نقل.

أمّا علي الصورة الأُولي فلأجل النهي، و أمّا علي الصورة الثانية فلأجل سقوط الأمر بالصلاة، لأنّ الأمر بالشيء و إن لم يستلزم النهي عن الضدّ و لكن يستلزم سقوط الأمر بالضدّ في ظرف الأمر بالإزالة لئلا يلزم الأمر بالضدين في وقت واحد، فنفس عدم الأمر كاف في البطلان و ان لم يتعلّق بها النهي.

فالمسألة فاقدة للثمرة علي كلّ حال، لأنّ الصلاة باطلة إمّا لكونها محرّمة علي القول بالاقتضاء، أو غير واجبة علي القول بإنكار الاقتضاء، و معني عدم وجوبها، عدم تعلّق الأمر بها و هو يلازم البطلان.

ثمّ إنّ المتأخّرين من الأُصوليّين حاولوا إثبات صحّة الصلاة مع سقوط أمره من طريقين:

الأوّل: صحّة الصلاة لأجل وجود الملاك في الضدّ المبتلي به.

الثاني: الأمر بالضدّ علي نحو الترتّب، أي بشرط عصيان الأمر بالأهم، كأن يقول: أزل النجاسة و إن عصيت فصلِّ.

أمّا الوجه الأوّل، فقد اختاره المحقّق الخراساني، و ذلك لأنّ تعلّق النهي يلازم فساد العبادة لا عدم تعلّق الأمر، و المقام من قبيل الثاني لا الأوّل. فإذا

ص: 135

كانت العبادة غير منهية عنها يكون محكوماً بالصحّة و إن لم يكن هناك أمر و ذلك لكفاية الملاك و الرجحان الذاتي فيها، إذ الفرد المزاحِم للعبادة و غير المزاحِم سيان في الملاك و المحبوبية الذاتية، إذ غاية ما أوجبه الابتلاء بالأهم هو سقوط أمره و أمّا ملاكه فهو بعدُ باق عليه.

هذا هو حال الوجه الأوّل، و أمّا حال الوجه الثاني فهو المعروف بمسألة الترتّب يطلب من دراسات عليا.

ص: 136

الفصل الحادي عشر: متعلّق الأوامر

اشارة

هل الأوامر و النواهي تتعلّق بالطبائع أو بالأفراد؟ فنقول: المراد من الطبيعة: هو المفهوم الكلي من غير فرق بين أن يكون من الماهيات الحقيقية، كالأكل و الشرب; أو الماهيات المخترعة، كالصلاة و الصوم.

و المراد من الأفراد: هي الطبيعة مع اللوازم التي لا تنفك عنها لدي وجودها و لا يمكن إيجادها في الخارج منفكة عنها، فوقع النزاع في أنّ متعلّق الأمر هل هو نفس الطبيعة الصرفة بحيث لو قدر المكلّف علي الإتيان بها مجرّدة عن المشخصات الفردية لكان ممتثلاً لأوامر المولي، أو أنّ متعلّقه هو الطبيعة مع اللوازم الفردية ؟ و علي ذلك، فالمراد من الطبيعة هو ذات الشيء بلا ضم المشخّصات، كما أنّ المراد من الفرد ذاك الطبيعي منضماً إلي المشخّصات الفردية الكلية، مثلاً:

إذا قال: المولي أكرم العالم، فهل متعلّق الأمر هو نفس ذلك المفهوم الكلي أي إكرام العالم أو هو مع المشخّصات الملازمة للمأمور به، كالإكرام في زمان معين، أو مكان معين، و كون الإكرام بالضيافة، أو بإهداء الهدية إلي غير ذلك من العوارض.

ص: 137

إذا وقفت علي معني الطبيعة و الأفراد في عنوان البحث، فنقول:

الحق أنّ الأمر يتعلّق بالطبيعة دون الفرد، لأنّ البعث و الطلب لا يتعلّقان إلاّ بما هو دخيل في الغرض و يقوم هو به، و لا يتعلّقان بما هو أوسع ممّا يقوم به الغرض و لا بما هو أضيق منه، و ليس هو إلاّ ذات الطبيعة دون مشخّصاتها، بحيث لو أمكن للمكلّف الإتيان بذات الطبيعة بدونها لكان ممتثلاً.

و علي هذا فالطبيعة بما هي هي متعلّقة للطلب و البعث.

و بذلك يعلم أنّ متعلّق الزجر في النهي هو نفس متعلّق الأمر أي الطبيعة.

و الحاصل: أنّ محصّل الغرض هو المحدِّد لموضوع الأمر، و قد عرفت أنّ المحصّل هو نفس الطبيعة لا المشخّصات، كالزمان و المكان و سائر عوارض الطبيعة.

ثمرة المسألة

تظهر الثمرة في باب الضمائم، كما إذا توضأ في الصيف بماء بارد و قصد القربة في أصل الوضوء لا في الضمائم، فلو قلنا بتعلّق الأمر بالطبائع لكفي وجود القربة في أصل الوضوء بالماء و إن لم يقصد القربة في الضمائم، و أمّا لو قلنا بتعلّقه مضافاً إلي الطبيعة بالأفراد أي اللوازم لبطل الوضوء لعدم قصد القربة فيها بل لأجل التبريد مثلاً.

تفسير خاطئ للفرد في المقام

نعم ربّما يفسر الفرد، بالفرد الخارجي أو المصداق من الطبيعة و يقال: هل الأمر يتعلّق بالمفهوم الكلي كالصلاة، أو يتعلّق بالفرد الخارجي الذي يمتثل به المكلّف؟

ص: 138

لكنّه تفسير خاطئ، لأنّ الفرد بهذا المعني لا يتحقّق إلاّ في الخارج و هو ظرف سقوط التكليف، و ليس ظرفاً لعروضه، و البحث إنّما هو في معروض التكليف لا فيما يسقط به، بل المراد من الفرد في المقام هو الطبيعة مع العوارض و المشخّصات كما مثلنا، و هما كالطبيعة من الأُمور الكليّة.

نعم، المراد من الفرد في مبحث اجتماع الأمر و النهي عند القائل بالامتناع هو الفرد الخارجي، و المصداق المعين من الطبيعة، فاحفظ ذلك لئلاّ يختلط الاصطلاحان في المقامين عليك.

ص: 139

الفصل الثاني عشر: التخيير بين الأقلّ و الأكثر

لا إشكال في التخيير بين المتباينين كما هو الحال في خصال الكفّارة إنّما الإشكال في جوازه بين الأقلّ و الأكثر، كتخيير المصلّي بين تسبيحة واحدة أو ثلاث تسبيحات، و ذلك لأنّ الأقل يحصل دائماً قبل الأكثر فيسقط به الأمر، و لا تصل النوبة إلي الامتثال بالأكثر، و لأجل ذلك حمل الزائد علي التسبيحة الواحدة علي اجتماع الواجب مع المستحب.

و قد قام بعض المحقّقين بتصحيح التخيير بينهما بالبيان التالي و هو:

إذا كان الأثر مترتباً علي الفرد التام من الأقل و الفرد التام في الأكثر يصحّ التخيير بين الفرد الأقل و الفرد الأكثر، و ذلك لأنّ الأقلّ الموجود في ضمن الأكثر لا يكون مصداقاً للواجب الأقلّ و إنّما يكون مصداقاً له إذا وجد بحده و بصورة فرد مستقل و هو لا يتحقّق إلاّ بفصله عن الزائد، و أمّا إذا وجد متصلاً معه فلا يكون فرداً للأقل المأمور به و إن كان مصداقاً لذات الأقل.

نعم لو كان الأثر مترتباً علي مطلق الأقل الأعم من أن يكون مستقلاً أو موجوداً في ضمن الأكثر فلا يصحّ التخيير إذ لا تصل النوبة في مقام الامتثال إلي الامتثال بالأكثر، لأنّ المأتي به لا يخلو إمّا أن يكون فرداً مستقلاً للأقل فيسقط الأمر به، أو يكون في ضمن الأكثر فيتحقّق قبل تحقّق الأكثر.

ص: 140

و بعبارة أُخري يصحّ التخيير بين الفرد بشرط لا، و الفرد بشرط شيء و لا يصحّ التخيير بين الفرد اللابشرط و البشرطشيء ، لأنّ الأقل يتحقّق دائماً قبل الأكثر.

يلاحظ عليه: أنّ التخيير بين الفرد »بشرط لا« و الفرد »بشرط شيء« ليس من قبيل التخيير بين الأقل و الأكثر بل من قبيل التخيير بين المتباينين. و ذلك لأنّ الأقل الموجود بحده و بصورة »بشرط لا« لا يعدُّ أقلّ بالنسبة إلي الأكثر، بل هو فرد مباين للأكثر، فعندئذ يصبح التخيير بين المتباينين و هو خارج عن الفرض.

و أمّا التخيير بين ذات الأقل اللابشرط و الأكثر فهو كما أفاده أمر غير صحيح لوجود الأقلّ في ضمن الأكثر فيسقط الأمر بالإتيان بالأقل من دون حاجة إلي الأكثر، و علي ضوء هذا فالخط القصير المحدود بحد، و الطويل المحدود بحد، و إن كان يصحّ التخيير بينهما، لكنّهما ليسا من قبيل الأقلّ و الأكثر بل من قبيل المتباينين.

و أمّا ذات الخط القصير الأعمّ من المحدود، و الموجود في ضمن الأكثر، فهو و إن كان بالنسبة إلي الأكثر من قبيل الأقل و الأكثر، لكنّه لا يصحّ التخيير بينهما لسقوط الأمر مطلقاً بالأقل الأعم من المحدود، أو الموجود في ضمن الأكثر.

و مثله التسبيحات الأربع، فانّ الغرض إذا كان مترتباً علي التسبيحة الواحدة المقيّدة بالوحدة بحيث تخرج عن قابلية لحوق الزائد عليها بها، و إن صحّ التخيير لكنّه تخيير بين المتباينين. أمّا التخيير بين ذات الأقل و الأكثر فقد عرفت لغوية الأمر بهذا النحو.

قد تمّ الكلام في الأوامر ضمن اثني عشر فصلاً و يليه البحث في النواهي

ص: 141

ص: 142

المقصد الثاني: في النواهي

اشارة

الكلام في النّواهي علي غراره في الأوامر، فيبحث فيها تارة عن مفاد مادة النّهي، و أُخري عن مفاد هيئته، و ثالثة عن دلالتها علي المرة أو التكرار، إلي غير ذلك ممّا يمتُّ إليها بصلة. و بما انّا أشبعنا الكلام في هذه المقامات في »الموجز« عند البحث في الأوامر فلا نري حاجة إلي التكرار في المقام. فلنعطف عنان الكلام إلي تبسيط ما أوجزناه أو ما لم نتعرض له فيه. و يتم الكلام في هذين الأمرين ضمن فصول:

الفصل الأوّل: في اجتماع الأمر و النّهي الفصل الثاني: في اقتضاء النهي في العبادات للفساد الفصل الثالث: في اقتضاء النهي في المعاملات للفساد

ص: 143

ص: 144

الفصل الأوّل: في اجتماع الأمر و النّهي

و قبل الخوض في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:
1. في عنوان البحث

هل يجوز اجتماع الأمر و النّهي علي عنوانين متصادقين علي واحد في الخارج أو لا؟ كما إذا أمر بالصّلاة علي وجه الإطلاق و نهي عن الغصب كذلك فتصادقا في الصلاة في الدار المغصوبة، فيقع الكلام في أنّه هل يمكن الأخذ بإطلاق الدليلين في مورد التصادق أو لا ؟ لا شكّ انّه يجب الأخذ بكلّ من الأمر و النهي في موردي الافتراق إنّما الكلام في إمكان الأخذ بكلا الإطلاقين في مورد التصادق بأن يكون للمولي فيه أمر و نهي، بعث و زجر، أو لا. فيه قولان: قول بجواز الاجتماع، و قول بامتناعه.

فالقائل بجواز الاجتماع يأخذ بإطلاق كلا الدليلين و يُعدُّ المصلّي في الدار المغصوبة، ممتثلاً من جهة، و عاصياً من جهة أُخري و القائل بالامتناع يقول بلزوم الأخذ بأحد الإطلاقين و رفض الإطلاق الآخر في مورده.

و بما ذكرنا ظهر انّ متعلّق التكليف هو الطبيعتان المختلفتان باسم الصلاة و الغصب، و أمّا الواحد فهو ما يتصادق عليه المتعلّقان و يتمَّثلان فيه. فيرجع روح

ص: 145

النزاع إلي إمكان حفظ الإطلاقين في ذلك المورد و عدم حفظه، فالقائل بالاجتماع يحتفظ بهما دون القائل بالامتناع فيأخذ بأحدهما إمّا الأمر و إمّا النهي.

كما ظهر انّ النزاع كبروي و هو جواز الأخذ بالإطلاقين في مورد التصادق و عدمه.

2. الفرق بين المسألتين

قد ذكرنا في الموجز (1) انّ الفرق بين هذه المسألة و ما سيأتي من دلالة النهي في العبادات و المعاملات علي الفساد واضح جدّاً، لأنّ المسألتين تفترقان موضوعاً و محمولاً، و ما كان كذلك يكون غنيّاً عن بيان الفرق، فأين هذه المسألة(هل يجوز اجتماع الأمر و النهي علي عنوانين متصادقين علي واحد في الخارج أولاً) من قولنا: »هل النهي في العبادات أو المعاملات يدل علي الفساد أو لا؟« فليس بينهما وجه اشتراك حتي نبحث عن وجه الامتياز.

3. الفرق بين المقام و ما يأتي في باب التعارض

ربما يتبادر إلي الذهن أنّ البحث في المقام يُشبه البحث في حكم العامين من وجه في باب التعادل و الترجيح، توضيحه:

إذا تعلّق الأمر بعنوان، و النهي بعنوان آخر و كان بين العنوانين عموم و خصوص من وجه كما إذا قال: أكرم العلماء ثمّ قال: لا تكرم الفسّاق، فتصادقا في العالم الفاسق، فقد عدّ الأُصوليّون المسألة في مورد الاجتماع من أقسام التعارض مع أنّ هذا المقام يماثله إلي حدّ كبير، حيث إنّ الأمر تعلّق بالصلاة و النهي بالغصب و بين العنوانين عموم و خصوص من وجه و تصادقا في مورد واحد، فيقع

ص: 146


1- . الموجز:72.

الكلام فيما هو الفرق بين المقام و المذكور في باب التعادل و الترجيح حيث جعلوا الثاني من قبيل المتعارضين، دون الأوّل.

و الجواب وجود الفرق بين المسألتين و هو: انّه إذا كان لكلّ من العنوانين مناط و ملاك في مورد التصادق فهو من هذا الباب كما في المثال المعروف حيث إنّ الصلاة في الدار المغصوبة ذات مصلحة كما أنّها ذات مفسدة، و لذلك يعبر عنه بالمتزاحمين كانقاذ الغريقين، و هذا بخلاف ما ورد في باب التعادل و الترجيح حيث لم يحرز المناط إلاّ لأحد العنوانين دون الآخر، فالعالم الفاسق أمّا ذو مصلحة بلا مفسدة أو علي العكس و لذلك يعبر عنهما بالمتعارضين، بل يحتمل أن لا يكون لواحد منهما ملاك لاحتمال كذب كلا الخبرين واقعاً، و إن كانا حجّتين في الظاهر. (1)

إذا عرفت هذه الأُمور فلنرجع إلي ذكر أدلّة الطرفين، و لنقدم دليل القائل بالجواز ثمّ نردفه بذكر دليل القائل بالامتناع.

دليل القائل بجواز الاجتماع

قد استدلّ للقول بالجواز بوجوه ستة (2) نذكر وجهاً واحداً و هو أمتنها:

لو كان متعلّق الأمر و النهي شيئاً واحداً كان للامتناع وجه، كما إذا أمر بانجاز أمر في زمان خاص ثمّ نهي عنه في نفس ذلك الزمان ،فمن المعلوم انّه

ص: 147


1- . ما ذكرناه هو خيرة المحقّق الخراساني في الكفاية، و قد بسط الكلام فيه تحت عنوان الأمر الثامن و التاسع بتفصيل لا يخلو من تعقيد.
2- . من أراد الوقوف علي تلك الوجوه فعليه الرجوع إلي محاضراتنا: المحصول في علم الأُصول: 2/208 235، و ما ذكرناه في المتن هو عصارة ما ذكره سيد مشايخنا البروجردي و شيَّد أركانه السيد الإمام الخميني(قدس سرهما) لكن بتوضيح و تحقيق منّا.

محال، لأنّه تكليف بالمحال بل يمكن أن يقال انّه تكليف محال. (1)

و أمّا إذا كان مختلفاً كالصلاة و الغصب فلا مانع من تعلّق الأمر بحيثية و النهي بحيثية أُخري و إن تصادق المتعلّقان في مقام الامتثال في شيء واحد شخصي، لأنّ الحيثية التي تجعله مصداقاً للمأمور به غير الحيثية التي تجعله مصداقاً للمنهي عنه. هذا هو إجمال الدليل.

توضيحه: انّ الأمر لا يتعلّق إلاّ بما هو المحبوب دون الخصوصيات التي لا دخل لها فيه، سواء أ كانت ملازمة أو مفارقة، و هكذا النهي لا يتعلق إلاّ بما هو المبغوض و فيه الملاك دون اللوازم و الخصوصيات، و علي ذلك فما هو المأمور به هو الحيثية الصلاتية و إن قارنت الغصب في مقام الإيجاد، و ما هو المنهي عنه هو الحيثية الغصبية و إن قارنت الصلاة في الوجود الخارجي، فالخصوصيات الملازمة (كاستدبار الجدي عند الصلاة إلي القبلة) أو المفارقة(كالغصب بالنسبة إلي الصلاة في المقام) كلّها خارجة عن حريم الأمر و النهي و لو تعلّق الأمر أو النهي بها لكان من قبيل تعلّق الارادة بشيء لا ملاك فيه و ليس دخيلاً في الغرض و هو محال علي الحكيم.

و إن شئت قلت: إنّ الإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية فكما أنّ الثانية لا تتعلّق حسَب اللبّ إلاّ بما هو الدخيل في الغرض، المحصِّل له. و لا تسري إلي ما لا مدخلية له فيه فهكذا الإرادة التشريعية لا تتعلّق إلاّ بما هو المحصِّل لغرض المريد دون ما لا دخل له فيه، فالمتعلّق في كليهما واحد. و قد عرفت أنّ المحقِّق للغرض هو الحيثية الصلاتية في الأمر، و مثل الارادة التشريعية، الزجر التشريعي فانّه يتعلّق بالحيثية الغصبية لانّها المبغوضة من دون أن يتجاوز الزجر من الحيثية الغصبية إلي الحيثية الصلاتيّة.ر.

ص: 148


1- . الفرق بينهما واضح، ففي الأوّل الموصوف بالمحال هو المكلّف به، و في الثاني نفس التكليف و ظهور إرادتين مختلفين في ذهن الآمر.

نعم فرق بين الخصوصية المتلازمة و الخصوصية المفارقة، فانّ الأُولي كالزوجية بالنسبة إلي الأربعة لا يمكن أن يكون حكمها(لكونها خصوصية ملازمة) مضاداً للملزوم، فلو أمر بإيجاد الأربعة يمتنع عليه أن ينهي عن الزوجية. و هذا بخلاف ما إذا كانت الخصوصية(كالغصب بالنسبة إلي الصلاة في الدار المغصوبة) مفارقة فيمكن أن يكون الخصوصية محرّمة و نفس الفعل واجباً كما في المقام. و لا يلزم أي محذور فيه كالتكليف بالمحال إذ في وسع المكلّف امتثال المأمور به في غير المكان المغصوب، لكنّه إذا أتي به في المكان المغصوب فقد جاء بالواجب منضماً إلي الحرام الذي له فيه مندوحة. و لكلّ حكمه، فلو كان الواجب توصلياً برأت ذمة المكلّف و لو كان تعبدياً كما في المقام يتوقف الامتثال علي تمشّي قصد القربة كما في الجاهل.

فقد خرجنا بالنتيجة التالية:انّه لا مانع من حفظ إطلاق كلا الدليلين: »صلّ و لا تغصب« في مورد التصادق الذي جمع المكلف بين المأمور به و المنهي عنه في مصداق واحد بسوء اختياره، فالوجوب سائد غير ساقط كما أنّ النهي كذلك و أنّ البعث و النهي في زمان واحد لا يستلزم الأمر بالمحال لما عرفت من أنّ الخصوصية، مفارقة لا ملازمة، و لا يشترط في المفارق عدم التضاد في الحكم و إنّما يشترط في الخصوصية الملازمة.

و لك أن تقرر هذا الدليل بوجه آخر، و هو انّ محذور الامتناع أحد أُمور ثلاثة:

أ: أن يكون هناك تضاد في مقام الجعل و التشريع.

ب: أن يكون هناك تضاد في مبادئ الأحكام.

ج: أن يكون تضاد في ملاكات الأحكام.

د: أن يكون تضاد في مقام الامتثال.

و من حسن الحظ انّه ليس هناك أيُّ تضاد في واحد من هذه المقامات.

ص: 149

أمّا مقام الجعل و التشريع فقد عرفت أنّ الحكم يتعلّق بما هو دخيل في تحصيل الغرض و لا يسري إلي الخصوصيات الملازمة أو المقارنة، فالوجوب يتعلّق بالصلاة بما هي هي، و الحرمة بالغصب بما هو هو، و أمّا الأمر الخارج عن تينك الطبيعتين فلا يكون متعلقاً للأمر و لا للنهي.

و أمّا مبادئ الأحكام الّتي يراد بها الحب و البغض و المصلحة و المفسدة فيجتمعان بلا تضاد فيها. حيث إنّ الحب يتعلّق بالصلاة بما هي هي و الكراهة بالغصب بما هو هو، فالمحبوب هو الحيثية الصلاتية كما أنّ المبغوض هو الحيثية الغصبية.

و أمّا ملاكات الأحكام فالمصلحة قائمة بالصلاة، و المفسدة قائمة بالغصب، و العمل بما هو صلاة، ذو مصلحة و بما هو غصب ذو مفسدة، و بما انّ العمل ليس أمراً بسيطاً، فلا مانع من أن يكون ذا مصلحة و مفسدة لحيثيتين مختلفتين، نظير إطعام اليتيم في الدار المغصوبة فلا تضاد في ملاكات الأحكام.

و أمّا عدم لزوم المحذور(التكليف بغير المقدور) في مقام الامتثال فتوضيحه يتم ببيان أمرين:

1. إنّ تعلّق الوجوب بالحيثية الصلاتية، و تعلّق الحرمة بالحيثية الغصبية و تصادقهما في الصلاة في الدار المغصوبة، لا يوجد مشكلاً أبداً، و لا يدفعنا إلي الأخذ بأحد الإطلاقين و رفع اليد عن الإطلاق الآخر و ذلك لانّها لو كانت الحيثية الثانية من اللوازم غير المنفكة، كان لتوهم »التكليف بغير المقدور« مجال، إذ كيف يمكن أن يأمر بالصلاة و هي لا تنفك دائماً عن الغصب المبغوض، و أمّا إذا كانت الحيثية الثانية من الأُمور المقارنة، التي كثيراً ما تنفك عن الأُخري فلا يلزم المحال في مقام الامتثال إذ في وسع المكلّف امتثال الواجب في مكان مباح.

2. انّ تصادق العنوانين علي الحركة الواحدة لا يستلزم اجتماع حكمين

ص: 150

متضادين في أمر واحد لما عرفت من انّ الأحكام لا تتعلق بالخارج بل تتعلّق بالعناوين الكلية، فالواجب و الحرام هما عنوانا الصلاة و الغصب الكليين، و معني اجتماع الوجوب و الحرمة في الصلاة في الدار المغصوبة هو بقاء الحكمين الكليين علي عنوانيهما في نفس المورد من دون إخراج المورد عن تحت أحدهما و إدخاله تحت الآخر.

و أمّا الحركة في الدار فمع انّها ليست متعلّقة للأحكام لكنّها بما انّها مصداق للعنوان الواجب يتحقّق بها الطاعة و بما انّها مصداق للعنوان المحرم يتحقّق به العصيان، فكونها محقّقة للطاعة و العصيان ليس بمعني كونها محلاً لتوارد الوجوب و الحرمة عليها لما عرفت انّهما يتواردان علي العنوانات الكلية.

دليل القائل بالامتناع
اشارة

استدلّ القائل بالامتناع بوجوه أتقنها و أوجزها ما أفاده المحقّق الخراساني بترتيب مقدّمات نذكر المهم منها:

أ: تضاد الأحكام بعضها مع بعض.

ب: انّ متعلق الأحكام هي الأفعال الخارجية.

دليل المحقّق الخراساني
أمّا المقدّمة الأُولي:

فتوضيحها: انّ الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها و بلوغها إلي مرتبة البعث و الزجر، ضرورة ثبوت المنافاة و المعاندة التامة بين البعث إلي شيء في زمان، و الزجر عنه في نفس ذلك الزمان، فاستحالة اجتماع الأمر و النهي في زمان واحد من قبيل التكليف المحال، أي يمتنع ظهور إرادتين جدّيتين مختلفتين في ذهن الآمر.

و أمّا المقدّمة الثانية:

فتوضيحها: انّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف و ما يصدر عنه في الخارج لا ما هو اسمه و عنوانه، و إنّما يؤخذ العنوان في متعلّق الأحكام للإشارة إلي مصاديقها و أفرادها الحقيقية.

ص: 151

ثمّ استنتج و قال: إنّ المجمع حيث كان واحداً وجوداً و ذاتاً يكون تعلّق الأمر و النهي به محالاً، و إن كان التعلّق به بعنوانين لأنّ الموضوع الواقعي للتكليف هو فعل المكلف بحقيقته و واقعيته لا عنواناته و أسمائه.

و علي ذلك فليس للقائل بالامتناع إلاّ الأخذ بأحد الحكمين و أقواهما ملاكاً، و هو إمّا النّهي كما هو المعروف أو الأمر.

يلاحظ علي المقدّمة الأُولي: بأنّ الضدّين أمران وجوديان حقيقيان كالسواد و البياض، و الأحكام الإنشائية من الأُمور الاعتبارية التي لا محل لها إلاّ في عالم الاعتبار بحسب المواضعة فلا توصف بالتضاد ما دام الحال كذلك.

و إن أُريد من تضاد الأحكام تضاد مبادئها في نفس الأمر من الحبّ في الأمر و البغض في النهي فقد عرفت أنّ الحبّ يتعلّق بالصلاة المجردة، عن كلّ قيد و البغض بالغصب كذلك فمتعلّق كلّ غير الآخر، و هكذا الأمر في المصلحة و المفسدة.

و إن أُريد من التضاد، التضاد في مقام الامتثال فقد عرفت عدم المطاردة في ذلك المقام إذ بإمكان المكلف الجمع بين الفعل و الترك.

هذا كلّه حول المقدّمة الأُولي.

و أمّا المقدّمة الثانية فهي مبنيّة علي تعلّق الأحكام بالأفراد أوّلاً، و تفسيره في قولهم(هل الأمر متعلّق بالطبائع أو الافراد) بالفرد الخارجي (1) ثانياً، و قد عرفت أنّ الخارج ظرف الثبوت لا العروض فكيف يمكن أن يتعلّق التكليف به.

و إن شئت قلت: إن أريد من تعلّق الأحكام بالفرد الخارجي هو تعلّقه بهد.

ص: 152


1- . تقدّم في ص 134 انّ مصطلح المحقّق الخراساني في الفرد هو المصداق الخارجي خلافاً لما هو المعروف بين المشايخ في تفسير الفرد.

قبل وجوده أو حين وجوده، فهذا نفس القول بتعلّق التكليف بالعنوانات و إن أُريد بتعلّقه به بعد الوجود فقد عرفت أنّه ظرف السقوط.

نعم بقي هنا سؤال، و هو انّه ربما يتبادر إلي الأذهان انّ العنوانات و الماهيات بما أنّها ليست إلاّ هي، لا تسمن و لا تغني من جوع، فكيف يمكن أن تقع متعلّقة للأمر و النهي؟ و الجواب عنه واضح لأنّ متعلق الأمر هي الطبيعة المعرّاة من كلّ عارض و لاحق، المنسلخة عن كلّ شيء لكن لغاية إيجادها، و الإيجاد غاية للبعث و ليس متعلّقاً له.

فالقوة المقننة إنما تنظر إلي واقع الحياة، عن طريق المفاهيم و العنوانات الكلية، و يبعث إليها، لغاية الإيجاد أو الترك، فيكون متعلّق كلّ في الأمر و النهي، مفهوماً فاقداً لكلّ شيء، إلاّ نفسه، لكن يبعث إليه لغاية الإيجاد، و كون الإيجاد غاية، غير كونه متعلّقاً للحكم، و علي ذلك لا يكون عندئذ أيُّ مطاردة في مقام العمل، لأنّه بوجوده الواحد، مصداق للامتثال، و مصداق للعصيان لكن كلاّ بحيثية خاصة.

إلي هنا تبيّن ما هو الحقّ في المسألة، و بذلك استغنينا عن ذكر سائر الأدلّة للطرفين.

ثمرة المسألة
أ: حصول الامتثال مطلقاً علي القول بالاجتماع.

إنّ القائل بجواز الاجتماع يحكم بحصول الامتثال في المقام عبادياً كان العمل أو توصلياً، إذ لا مانع من أن يتقرب المكلَّف بالمأتي به من حيثية دون حيثية، و إن كان المحبوب و المبغوض موجودين بوجود واحد، كما إذا مسح رأس

ص: 153

اليتيم في الدار المغصوبة، أو أطعمه فيها لأجل رضاه سبحانه، فيكون متقرّباً من جهة و عاصياً من جهة أُخري، و هكذا الأمر في المقام.

و مع ذلك فالحكم بصحّة العبادة أمر مشكل و ذلك لعدم إمكان التقرب بعمل يعدّ تمرّداً علي المولي، و طغياناً عليه، و تغاير الحيثية الصلاتية للحيثية الغصبية إنّما يصحح إمكان اجتماع الأمر و النهي،و الحفظ بالإطلاقين كما مرّ و لا يبرر التقرب إلي اللّه سبحانه بعمل يبغضه المولي.

و لذلك كان سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي قائلاً ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة مع القول بجواز اجتماع الأمر و النهي.

ب. حصول الامتثال علي القول بالامتناع و تقديم جانب الأمر:

قد عرفت أنّه ليس علي القول بالاجتماع إلاّ صورة واحدة، و أمّا علي القول بالامتناع فله صور مختلفة، فتارة يُقدَّم الأمر علي النهي و يقال: بأنّ الحكم الفعلي هو الوجوب، فيحكم بالصحة لأنّها مأمور بها و ليست بمنهيّ عنها ، و أُخري يقدّم النهي علي الوجوب و هو الذي سيأتيك بيانه في الفقرات التالية.

ج. حصول الامتثال علي القول بالامتناع، و تقديم جانب النهي مع الجهل القصوري:

إذا قيل بالامتناع مقدِّماً جانب النهي علي الأمر، و كان المكلّف جاهلاً بالحكم أو الموضوع جهلاً عن قصور فيحكم بالصحة، لعدم فعلية الحرمة لأجل الجهل بها فلا يكون العمل مصداقاً للتمرّد و الطغيان، و الأمر و إن كان مرفوعاً حسب الفرض(تقديم الحرمة علي الأمر) لكن يكفي في صحّة العبادة، التقرب بالملاك و هو كون العمل في هذه الحالة محبوباً للمولي.

د. بطلان العمل علي القول بالامتناع و تقديم جانب النهي مع الجهل التقصيري:

ص: 154

إذا قيل بالامتناع مقدِّماً جانب النهي و كان الفاعل جاهلاً بالحرمة أو الموضوع عن تقصير فالحكم هو البطلان; و ذلك لأنّ الصحة معلول أحد شيئين: إمّا الأمر و هو مفروض الانتفاء لتقديم جانب النهي علي الأمر و فعليته، و إمّا الملاك، و هو غير معلوم الوجود للفرق بين العمل الصادر عن جهل قصوري للفاعل، و العمل الصادر عن جهل تقصيري له و إحرازه فرع الأمر و المفروض عدمه.

و منه يعلم حال الناسي المقصِّر، فلا يحكم بصحة صلاته إذا نسي الحكم أو الموضوع عن تقصير.

ه.بطلان العمل علي القول بالامتناع و تقديم جانب النهي مع العلم بالحرمة:

إذا قيل بالامتناع مقدِّماً جانب النهي و كان الفاعل عالماً بالحرمة لا جاهلاً و لا ناسياً فالحكم هو البطلان، لأنّ الصحّة رهن أحد شيئين: إمّا الأمر و هو مفروض الانتفاء، و إمّا الملاك و هو غير معلوم، لما مرّ من انّ احرازه فرع الأمر و هو منتف.

هذا تمام الكلام في جواز الاجتماع و عدمه.

ص: 155

تنبيهان:
الأوّل: حكم الاضطرار لا بسوء الاختيار

كان النزاع في المسألة السابقة فيما إذا ارتكب الحرام بسوء الاختيار، فقد عرفت أنّ فيها قولين: جواز الاجتماع و عدمه، و أمّا إذا اضطرّ لا بسوء الاختيار إلي أحد الأمرين: امّا ترك الواجب أو ارتكاب الحرام، فالقولان متفقان في تقديم ما هو الأقوي من الحكمين، مثلاً:

إذا اضطر الإنسان ، للتصرف في ملك الغير لأجل إنقاذ غريق فيكون تصرفه في الأرض واجباً من جهة إنقاذ الغريق، و حراماً من جهة التصرف في ملك الغير، ففي هذا الفرض يقع التزاحم بين الواجب و الحرام في مقام الامتثال، و بما انّ ارتكاب الحرام ليس بسوء اختياره، فيُرجع إلي أقوي الملاكين فإن كان ملاك الأمر أقوي كما هو الحال في المثال المذكور قُدِّم جانب الأمر و يسقط النهي عن الفعلية، و إن كان ملاك النهي أقوي قُدِّم جانب النهي كما إذا توقّف إنقاذ حيوان محترم علي هلاك إنسان.

و منه تظهر صحة العبادة إذا اضطر إليها في تلك الصورة، كما إذا ضاق الوقت و لم يتمكن من الصلاة أداءً إلاّ في ملك الغير فتصح الصلاة لوجود الأمر دون النهي لسقوطه لأجل الاضطرار، قال رسول اللّه (صلي الله عليه و آله و سلم): »رفع عن أُمّتي تسعة:... و ما اضطروا إليه...« (1).

الثاني: حكم الاضطرار بسوء الاختيار

إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار، كمن دخل بيتاً مغصوباً متعمداً فبادر إلي الخروج تخلّصاً من استمرار الغصب، فإنّ الخروج يعدّ تصرفاً في البيت، لكنّه

ص: 156


1- . الخصال: 2/417، باب التسعة.

مضطرٌّ إلي ارتكابه للتخلّص من استمرار فعل الحرام و إن كان اضطراره إليه باختياره إذ دخل البيت غاصباً، و هذه المسألة هي المعنونة في لسان المتأخّرين ب»التوسط في الأرض المغصوبة« فيقع الكلام فيها في أمرين:

1. في حرمة التصرّف الخروجي أو وجوبه.

2. في صحة الصلاة المأتي بها حال الخروج إذا ضاق الوقت.

أمّا الأمر الأوّل، فالخروج محكوم بأحكام ثلاثة:

1. محرّم بالنهي السابق.

2. النهي ساقط بعد حدوث الاضطرار.

3. العقل حاكم بالخروج.

أمّا أنّه محرم، فلأنّ قوله: لا تغصب، شامل لأنحاء الغصب كلّها، و منها الخروج و هو من مصاديق الغصب، و قد كان في وسعه ترك هذا الفرد بترك الدخول.

و أمّا كون النهي السابق، ساقطاً فلعدم إمكان امتثاله حيث إنّ ترك التصرف في المغصوب و لو بمقدار الخروج غير ممكن.فالخروج بما أنّه تصرف في المغصوب غير مقدور الترك و معه لا يكون الخطاب فعلياً.

و أمّا حكم العقل بالخروج، فإنّما هو لدفع أشدّ المحذورين بارتكاب أخفّ القبيحين.

و أمّا الأمر الثاني، أعني: حكم الصلاة فيها بقاءً و خروجاً.

فلو قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهي، فمقتضي القاعدة، الصحة مطلقاً سواء أضاق الوقت أم اتّسع، و أمّا علي القول بالامتناع فتختلف النتيجة حسب اختلاف ما هو المقدَّم، فإن قدّم الأمر فالصحة هي المحكَّمة، و لو قدّم النهي

ص: 157

فاللازم هو البطلان، لأنّه حين الصلاة إمّا عالم بالحرمة أو جاهل مقصّر أو ناس كذلك، و قد عرفت أنّ الحكم فيها علي الامتناع هو البطلان، و أمّا الجهل القصوري فهو خارج عن محط البحث.

ص: 158

الفصل الثاني: في اقتضاء النهي في العبادات للفساد

اشارة

الكلام في دلالة النهي في العبادات علي الفساد، يقع في مواضع:

الأوّل: النهي المولوي التحريمي

إنّ تعلّق النهي التحريمي بالعبادات يتصوّر علي أنحاء:

1. أن يتعلّق النهي بنفس العبادة كالنّهي عن الصيام في العيدين، فهذا النوع من النهي يدلّ علي الفساد لوجهين:

الأوّل: انّ النهي يكشف عن المبغوضية، و لا يمكن أن يكون المبغوض مقرِّباً.

الثاني: انّ الصحّة بمعني مطابقة المأتي به للمأمور به فرع وجود الأمر، و من المعلوم أنّه إذا تعلّق النهي بشيء لا يتعلّق به الأمر لاستلزامه اجتماع الأمر و النهي في متعلّق واحد، و مع انتفاء الأمر لا يصدق كون المأتي به مطابقاً للمأمور به لعدم الأمر و بالتالي لا يكون مسقطاً للواجب كما لو صام يوم الفطر قضاءً.

و لو قلنا بأنّ الصحّة فرع أحد الأمرين إمّا الأمر أو الملاك، فالعبادة أيضاً فاسدة لعدم استكشاف وجود الملاك فيه بعد عدم الأمر لأجل تعلّق النهي بها.

و اعلم أنّ هذه الصورة تتميّز عن الصور التالية بوجود النهي فيها دون

ص: 159

الأمر، فلذلك اتّفقوا علي بطلان العبادة لعدم الأمر بها و عدم إحراز الملاك.

و أمّا الصور التالية فقد اجتمع فيها الأمر و النهي مع تغاير متعلّقهما و لذلك أشبه بمسألة اجتماع الأمر و النهي، مثلاً: إذا تعلّق الأمر بنفس العبادة و النهي بجزئها أو شرطها أو وصفها، فيقع الكلام في أنّ فساد الجزء العبادي باعتبار تعلّق النهي به هل يستلزم فساد المركب أو لا؟ و هذه الجهة هي التي يجب أن يركز البحث عليها دون سائر الجهات.

إذا علمت ذلك، فإليك بيان سائر الصور.

2. أن يتعلّق النهي بجزء العبادة كالنهي عن قراءة سور العزائم في الصلاة فلا شكّ في انّه يقتضي فساد الجزء للوجهين الماضيين(لكشف النهي عن المبغوضية و المبغوض لا يكون مقرباً، و عدم إحراز الملاك لعدم الأمر). و لكن فساد الجزء لا يكون دليلاً علي فساد الكلّ إلاّ إذا اقتصر علي ذلك الجزء المبغوض، و إلاّ فلو أتي بفرد آخر من ذلك الجزء غير منهيّ عنه يكون الكلّ محقّقاً، كما إذا قرأ بعدها سورة أُخري من غير العزائم.

نعم ربما يكون الإتيان بفرد آخر موجباً للفساد، لأجل طروء عنوان آخر و هو الزيادة في الصلاة، أو استلزامه القرآن بين السورتين و لكن الفساد من هاتين الجهتين غير مطروح لنا في هذا المقام.

3. أن يتعلّق النهي بشرط العبادة كالنهي عن الطهارة المائية عند ما كانت مضرة و لا شكّ انّ الشرط يكون فاسداً للوجهين السابقين(المبغوض لا يكون مقرباً و عدم إحراز الملاك لعدم الأمر) إنّما الكلام في سراية فساد الشرط إلي فساد المشروط، فالحقّ انّه كالجزء لا يوجب بطلان المشروط إذا أمكن التدارك و إلاّ فيكون المشروط فاسداً لا لتعلّق النهي بالشرط بل لفقدانه الشرط.

ص: 160

4. أن يتعلّق النهي بالوصف اللازم كالجهر بالنسبة إلي القراءة، و المراد من الوصف اللازم ما لا يمكن سلبه مع بقاء موضوعه حيث إنّه تنعدم القراءة الشخصية بانعدام وصفها فيكون المقام من قبيل اجتماع الأمر و النهي، و حيث إنّ القراءة تتحد وجوداً مع الجهر المحرّم فتفسد لأجل عدم إمكان قصد القربة علي ما مرّ.

5. أن يتعلّق النهي بالوصف المفارق كالغصبية بالنسبة إلي الصلاة، فقد عرفت حكمه فيما سبق.

الثاني: النهي المولويّ التنزيهي

إذا كان النهي التنزيهي متضمناً حكماً شرعيّاً و مُنْشَأ بداعي الردع و الزجر فهو أيضاً يلازم الفساد، فإنّه و إن لم يكشف عن كونه مبغوضاً للمولي و موجباً للعقوبة، لكن يكشف عن عدم حبِّه و استحسانه، و من المعلوم امتناع التقرب بشيء مزجور أو بأمر مرغوب عنه.

نعم يختلف النهي التحريمي عن التنزيهي بشدة الكراهة و ضعفها و لكن الجميع يكشف عن كون المتعلَّق مرغوباً عنه غير محبوب للمولي.

و الحاصل انّه إذا أحرز انّ النهي متضمن لحكم شرعي أُنشئ بداعي الردع و الزجر و إن كان علي وجه لا يبغضه المولي و لا يعاقب عليه و لكنّه لا يجبه و لا يستحسنه، فهذا يلازم الفساد لامتناع التقرب بالأمر غير المرغوب.

و صرّح المحقّق النائيني بما ذكرنا و قال: »لو تعلّق النهي التنزيهي بذات ما يكون عبادة لكان لدعوي اقتضائه الفساد مجال من جهة انّ ما يكون مرجوحاً ذاتاً لا يصلح أن يتقرّب به. (1)

ص: 161


1- . الفوائد الأُصولية: 1/456.

نعم انّ هذا النوع من النهي التنزيهي قليل جداً و الغالب في النواهي التنزيهية هو الإرشاد إلي قلّة الثواب مع كون العمل محبوباً في ذاته لو أتي به، ففي مثله لا يكون النهي مسوقاً لبيان الحكم التكليفي بداعي الزجر و الردع عنه، بل يكون مسوقاً لبيان قلّة الثواب و لأجل ذلك أفتي المشهور بصحّة الصلاة عند طلوع الشمس و غروبها أو الصلاة في مرابض الخيل و البغال و الحمير، و معاطن الإبل، أو الصلاة علي الطرق و الأرض السبخة و المالحة، أو في بيت فيه خمر أو مسكر، و ما هذا إلاّ لأنّ النهي في هذه الموارد إرشاد إلي قلّة الثواب و ليس متضمناً لحكم شرعي كاشف عن كونه مرغوباً عنه.

هذا كلّه حول النهي المولوي سواء أ كان تحريمياً أم كان تنزيهياً(كراهية) فقد عرفت دلالة النهي فيهما علي الفساد للوجهين الماضيين.

الثالث: النهي الإرشادي

إنّ النهي كالأمر ينقسم إلي مولوي و إرشادي، أمّا المولوي كقوله سبحانه:( وَ لا تَقْرَبُوا الزِّني إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً (1) ) (2) و أمّا الإرشادي كقوله سبحانه:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ (3) ) (4) علي القول بانّ النهي فيه إرشاد إلي الفساد.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ القضاء في دلالة النهي الإرشادي علي الفساد يتوقّف علي تعيين المرشد إليه للنهي، إذ له أقسام:

أ: أن يكون إرشاداً إلي الفساد كقوله: »دعي الصلاة أيّام أقرائك« فانّ معناه أيّتها المكلّفة لا تصلّ، لأنّ الصلاة في هذه الحالة لا تكون صحيحة.

ص: 162


1- سوره 17 - آيه 32
2- . الاسراء:32.
3- سوره 4 - آيه 22
4- . النساء:22.

ب: أن يكون إرشاداً إلي مانعية متعلّقه كما في قوله: »لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه« الدالّ علي مانعية لُبْس ما هو مأخوذ ممّا لا يؤكل لحمه.

ج: أن يكون إرشاداً إلي شرطية متعلّقة كقوله: »لا تبع بلا كيل« الدالّ علي شرطية الكيل. ففي الموردين الأخيرين أيضاً يلازم النهيُ الفسادَ باعتبار إرشاده إلي المانعية أو الشرطية، و من الواضح انّ المركب يختل بوجود المانع أو فقدان الشرط.

د: أن يكون إرشاداً إلي قلّة الثواب، كما في قوله: »لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد«. (1) فانّه بحكم الإجماع علي صحّة الصلاة لو صلّي في غيره، إرشاد إلي قلّة الثواب لا الكراهة المصطلحة.

الرابع: النهي إذا جهل حاله

إذا دار أمر النهي بين كونه نهياً مولوياً أو إرشادياً كما إذا قال: »لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه« (2) فلا يحكم عليه بشيء من الفساد و عدمه فلو كان مولوياً فهو يستلزم الفساد مطلقاً سواء أ كان تحريمياً أو تنزيهياً، بخلاف ما إذا كان إرشادياً، ففيه التفصيل المذكور من استلزامه الفساد إذا كان إرشاداً إلي الجزئية و المانعية، و عدمه إذا كان إرشاداً إلي قلّة الثواب.

و الحاصل انّه إذا دار أمر النهي بين الوجوه الثلاثة، لا يحكم عليه بشيء. اللّهمّ إلاّ أن يقال بظهوره في هذه المقامات في الإرشاد إلي المانعية كما إذا قال الطبيب: اشرب هذا الدواء، و لا تمزجه بالماء فعند ذاك يستلزم الفساد.

ص: 163


1- . الوسائل: 3، الباب 2من أبواب أحكام المساجد، الحديث 2.
2- . الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب لباس المصلي، الحديث 7.

الفصل الثالث: في اقتضاء النهي في المعاملات للفساد

اشارة

المراد من المعاملات في عنوان البحث ما لا يعتبر فيه قصد القربة، كالعقود و الإيقاعات.

ثم إنّ النهي الوارد في المعاملات علي أقسام أربعة كالعبادات:

و إليك البحث في كلّ واحد منها:

القسم الأوّل: إذا تعلّق النهي المولوي التحريمي بنفس المعاملة:

فهي علي أنحاء:

1. إذا تعلّق النهي المولوي التحريمي بالسبب بما هو فعل مباشريّ، كالعقد الصادر عن المُحْرِم في حال الإحرام بأن يكون المبغوض صدور عقد النكاح في هذه الحالة، من دون أن يكون نفس العمل(عقد النكاح) بما هو هو مبغوضاً و مزجوراً عنه، فهل يدلّ علي الفساد أو لا ؟ الظاهر عدم الاقتضاء، لأنّ غاية النهي هي مبغوضية نفس العمل(العقد) في هذه الحالة و هو لا يلازم الفساد و ليس العقد أمراً عبادياً حتي لا يجتمع مع النهي الكاشف عن المبغوضيّة.

2. إذا تعلّق النهي المولوي التحريمي بالمسبّب، كالنهي عن بيع المصحف

ص: 164

و العبد المسلم من الكافر، فإنّ الحرام ليس هو صدور العقد من المالك، و انّما المحرّم هو مضمون المعاملة و مسبَّبها، أي مالكية الكافر لهما التي هي فعل تسبيبي لا مباشري، و مبغوض لأجل انّه يعدّ سبيلاً علي المسلم و سلطة عليه، فهل يدلّ علي الفساد أو لا؟ الكلام في هذه الصورة فيما إذا كان العقد واجداً لشرائطه من سائر الجهات، كشرائط العوضين و المتعاقدين و ليس في البين إلاّ كون نفس العمل مبغوضاً حيث إنّه سبحانه لا يرضي بسلطة الكافر علي المسلم و المصحف، فهل يدلّ نفس النهي الكاشف عن المبغوضية علي الفساد أو لا؟ و التحقيق انّه لا يدلّ، و ذلك لأنّ المبغوضية أعم من الفساد في باب المعاملات لا العبادات.

و بما ذكرنا تقف علي وجود الفرق بين المقام و سائر المعاملات المنهية عنها كالنهي عن بيع السفيه و المجنون و الصغير، أو النهي عن بيع الخمر و الميتة، لأنّ الأوّل فاقد لشرائط المتعاقدين لشرطية العقل و البلوغ في البائع، كما أنّ الثاني فاقد لشروط العوضين لاشتراط إباحة المبيع و التمكّن من التصرّف فيه، ففي جميع تلك الصور يلازم النهيُ الفسادَ، لأنّه إرشاد إلي فقدان الشرط في هذه الموارد، و البحث في المقام إنّما هو في الجامع للأجزاء و الشرائط غير أنّه تعلّق النهي بمضمون المعاملة.

3. إذا تعلّق النهي بالتسبب أي لا بالسبب و لا بالمسبب، بل تعلّق بالتوصّل به إلي المسبب كتملك الزيادة عن طريق البيع الربوي، و التملّك عن طريق الحيازة بالآلة المغصوبة، و التسبب إلي الطلاق بقوله:

»أنت خلية«. فليس السبب و لا المسبب بما هما من الأفعال بحرام و إنّما الحرام هو التوصل بهذا السبب إلي المسبب.

ص: 165

و الكلام في هذا القسم نفس الكلام في القسمين السابقين، فلا منافاة بين مبغوضية التسبب و حصول الأثر بعده.

نعم ما ذكرنا من عدم الدلالة في هذه الأقسام الثلاثة إنّما هو فيما إذا كان النهي مولوياً تحريمياً لا إرشاداً إلي الشرطية و الجزئية و المانعية، و بالتالي إلي الفساد عند الاختلال و إلاّ فيدخل في القسم الثالث الآتي.

4. إذا تعلّق النهي بالأثر المترتب علي المسبب، كما إذا تعلّق النهي بالتصرف في الثمن و المثمن فهذا النوع عند العرف يساوق الفساد، فلا معني لصحّة المعاملة إلاّ ترتب هذه الآثار عليها، فإذا كانت تلك الآثار مسلوبة في الشرع فتكشف عن فساد المعاملة.

و إن شئت قلت: إنّ الصحّة لا تجتمع مع الحرمة المطلقة في التصرف في الثمن الذي دفعه المشتري أو المثمن الذي دفعه البائع.

القسم الثاني: إذا تعلّق النهي المولوي التنزيهي بالمعاملة:

إذا تعلّق النهي المولوي التنزيهي بالمعاملة بأحد الأنحاء الأربعة الماضية فلا يدل علي الفساد، و يُعْلم وجهه ممّا ذكرنا عند بيان أنحاء القسم الأوّل، فإنّ عدم المحبوبية في المعاملات لا يلازم الفساد، فالمعاملات المكروهة صحيحة حتي علي النحو الرابع، أي إذا تعلّق النهي بالأثر المطلوب من المعاملة كالتصرف في المبيع.

القسم الثالث: إذا كان النهي إرشاداً إلي الفساد :

إذا ورد النهي بداعي بيان فساد المعاملة كما في قوله تعالي:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ (1) ) (2) فلا كلام في الدلالة علي الفساد.

ص: 166


1- سوره 4 - آيه 22
2- . النساء:22.
القسم الرابع: إذا كان النهي مردّداً بين كونه مولوياً أو إرشادياً إلي الفساد :

إذا ورد النهي و لم يعلم حاله من المولوية و الإرشادية، فالظاهر انّه يحمل علي الإرشاد إلي الفساد و عدم ترتّب الآثار عليه، فإذا قيل »لا تبع ما ليس عندك« فهو إرشاد إلي عدم إمضاء ذلك البيع و لما ذكرنا يستدلّ الفقهاء بالنواهي المتعلّقة بالمعاملات علي الفساد، و ما ذلك إلاّ لأجل كونها ظاهرة في الإرشاد إلي الفساد، و أنّ المعاملة فاقدة للشرط أو واجدة للمانع.

و قد عرفت أنّ محط البحث هو القسمان الأوّلان، و أمّا الأخيران فلوضوح حكمهما خارجان عنه.

تمّ الكلام في المقصد الثاني

ص: 167

ص: 168

المقصد الثّالث: في المفاهيم

اشارة

و تحقيق الكلام ضمن فصول:

الفصل الأوّل: في مفهوم الشرط الفصل الثاني: في مفهوم الوصف الفصل الثالث: في مفهوم الغاية الفصل الرابع: في مفهوم اللقب و أمّا مفهوم الحصر و العدد فقد استوفينا الكلام فيهما في »الموجز« فلا نعيد.

ص: 169

ص: 170

تمهيد: في تعريف المفهوم

اشارة

نذكر في المقام أُموراً:

1. وصف المعني بما هو هو و وصفه بما هو مدلول

ما يقع وصفاً للمعني علي قسمين:

أ: ما يكون وصفاً له بما هو هو كتقسيم المفهوم إلي كلي و جزئي سواء دلّ عليه اللفظ أم لا مثلاً الإنسان المتصوَّر في الذهن كلي، كما انّ زيد المتصوّر فيه جزئي، فالكلية و الجزئية في هذه الحالة من أوصاف المعني بما هو هو، من دون نظر إلي دلالة لفظ عليهما و عدمها.

ب: ما يكون وصفاً للمعني لكن بما هو واقع في إطار الدلالة و دلّ عليه اللفظ، و هذا كوصف المعني بكونه معني مطابقياً أو تضمنياً فانّه فرع كون المعني مدلولاً للّفظ، فالحيوان الناطق بما هو مدلول لفظ الإنسان، يوصف بالمطابقية.

انّ وصف المعني بكونه منطوقاً أو مفهوماً من قبيل القسم الثاني، لانّ قسماً من المدلول لوضوح دلالة اللفظ عليه يوصف بكونه مدلولاً منطوقياً. و كأنّ المتكلّم نطق به في عالم المحاورة، و قسم منه، يوصف بكونه مدلولاً مفهومياً، يفهم من كلام المتكلّم، و إن لم ينطق به في ذلك الظرف.

ص: 171

و بذلك يعلم انّهما وصفان للمعني بما انّه مدلول اللفظ و واقع في إطار الدلالة و ليسا وصفين له بما هو هو.

ربما يقال »انّهما من أوصاف الدلالة حيث تقسم الدلالة إلي الدلالة المنطوقية و الدلالة المفهومية«.

أقول: انّ وصف الدلالة بهما باعتبار كون المدلول موصوفاً بأحدهما فالوصف للمدلول بالحقيقة و للدلالة بالعناية و المجاز.

و لذلك نري أنّ الحاجبي يُعرِّف المنطوق بقوله: ما دلّ عليه اللّفظ في محلّ النطق، كما يُعرِّف المفهوم بقوله ما دلّ عليه اللّفظ في غير محل النطق. (1)

2. تعريف المفهوم

عرّف المحقّق الخراساني المفهومَ بانّه:»حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصية المعني الّذي أُريد من اللّفظ بتلك الخصوصية، فالمفهوم حكم غير مذكور لا انّه حكم لغير مذكور«. (2)

توضيحه: إذا قال القائل: إن أكرمك زيد فأكرمه، يكون إكرام زيد منوطاً بخصوصية معيّنة تستفاد من الجملة الشرطية، إذ لزيد حالتان:

أ: حالة إكرامه المخاطب هذه هي الخصوصية التي تستتبع المفهوم.

ب: حالة عدم إكرامه إيّاه.

فقد دلّ بمنطوقه علي أنّه يُكْرم عند إكرام المخاطب.

كما دلّ بمفهومه علي ارتفاع الحكم أي وجوب الإكرام عند عدم تكريم

ص: 172


1- . منتهي الوصول و الأمل: 147، المعروف بمختصر الحاجبي، و قد شرحه العضدي و غيره و اشتهر بشرح المختصر.
2- . كفاية الأُصول: 1/301.

المخاطب.

فالموضوع في الحالتين واحد و هو زيد، و الحكم مختلف حسب اختلاف حالاته. و المفهوم كالمنطوق حكم انشائي: أي إذا لم يكرمك زيد فلا يجب إكرامه.

3. في الشرط المحقّق للموضوع

إنّ النزاع في وجود المفهوم في القضايا الشرطية إنّما هو فيما إذا عُدَّ القيد شيئاً زائداً علي الموضوع و تكون الجملة مشتملة علي موضوع، و محمول،و شرط، فيقع النزاع حينئذ في دلالة القضية الشرطية علي انتفاء المحمول عن الموضوع، عند انتفاء الشرط و عدمها مثل قوله(عليه السلام):»إذا كان الماء قدر كرّ لم يُنجّسه شيء« فهناك موضوع و هو الماء، و محمول و هو العاصمية(لم ينجسه) و شيء آخر باسم الشرط، أعني: الكرية، فعند انتفاء الشرط يبقي الموضوع(الماء) بحاله بخلاف القضايا التي يعد الشرط فيها محقّقاً للموضوع من دون تفكيك بين الشرط و الموضوع بل يكون ارتفاع الشرط ملازماً لارتفاع الموضوع، فهي خارجة عن محلّ النزاع، كقوله: إن رزقت ولداً فاختنه، فهذه القضايا فاقدة للمفهوم. فإنّ الرزق هنا ليس شيئاً زائداً علي نفس الولد.

فخرجنا بالنتائج التالية:

1. يكون الشيء تارة وصفاً للمعني بما هو هو، و أُخري وصفاً له بما هو مدلول و المنطوق و المفهوم من أوصاف المعني المدلول لا المعني بما هو هو، إذ المدلول باعتبار ظهوره و خفائه ينقسم إلي ما نُطق به و إلي ما فُهم منه 2.المفهوم قضية اخبارية أو انشائية، يستفاد من الخصوصية الواردة في الكلام.

3. الشرط المحقِّق للموضوع فاقد للمفهوم.

ص: 173

الفصل الأوّل: في مفهوم الشرط

مسلك القدماء في استفادة المفهوم

إنّ مسلك القدماء في استفادة المفهوم من القضايا الشرطيّة بل مطلقاً يختلف مع مسلك المتأخرين، فإنّ دلالة الخصوصية المذكورة في الكلام من الشرط أو الوصف أو الغاية أو اللقب أو نحوها علي الانتفاء عند القدماء ليست دلالة لفظية، بل هي من باب بناء العقلاء علي حمل الفعل الصادر عن الغير علي كونه صادراً لغاية و الغاية المنظورة عند العقلاء من نفس الكلام، حكايته لمعناه، كما أنّ الغاية من خصوصياته، دخالتها في المطلوب فإذا قال المولي: إن أكرمك زيد فأكرمه، حكم العقلاء بمدخلية إكرام زيد في وجوب إكرامه، قائلاً بأنّه لو لا دخله فيه لما ذكره المتكلّم و كذا سائر القيود، و علي ذلك فاستفادة المفهوم ليست مبنية علي دلالة الجملة علي الانتفاء عند الانتفاء، بل مبنيّة علي أنّ الأصل في فعل الإنسان أن لا يكون لاغياً بل يكون، صادراً لغايته الطبيعية و الغاية من إتيان القيد هي مدخليته في الحكم.

و لما كان مسلكهم علي الاستدلال بفعل المتكلّم و انّه لو لا المفهوم تلزم لغوية القيد، أجاب عنه السيد المرتضي في ذريعته، بقوله: بأنّ تأثير الشرط إنّما هو تعليق الحكم به و ليس يمتنع أن يخلفه و ينوب منابه شرط آخر، يجري مجراه

ص: 174

و لا يخرج عن كونه شرطاً، فانّ قوله سبحانه:( وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ (1) ) (2) يمنع من قبول الشاهد الواحد حتّي ينضم إليه شاهد آخر فانضمام الثاني إلي الأوّل شرط في القبول، ثمّ علمنا أنّ ضم امرأتين إلي الشاهد الأوّل شرط في القبول كما في نفس الآية، أعني قوله سبحانه:( فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ (3) ) (4)ثمّ علمنا انّ ضمّ اليمين يقوم مقامه أيضاً فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصي. (5)

و حاصل كلام السيّد في ردّ مسلكهم: انّ غاية ما يدلّ عليه فعل العقلاء، انّ للقيد دخلاً في شخص الحكم،و أمّا انّه ليس له بديل يقوم مقامه بحيث ينتفي بانتفائه سنخ الحكم فلا يستفاد من فعلهم و تشهد عليه الآيات المذكورة.

و بعبارة أُخري: انّ ما تثبته صيانة فعل العقلاء عن اللغوية هو كون القيد احترازيّاً ، لا كونه ذا مفهوم و قد أوضحنا في الموجز (6) الفرق بين القيدين فلاحظ.

مسلك المتأخّرين في استفادة المفهوم

و أمّا مسلك المتأخّرين فهو مبني علي دلالة القضية الشرطية علي الأُمور الثلاثة التالية :

1. دلالة القضية علي الملازمة بين المقدّم و التالي فيخرج ما يفقد الملازمة.

2. دلالة القضية علي أنّ التالي معلّق علي المقدّم و مترتّب عليه علي وجه يكون المقدّم سبباً و التالي مسبباً، فخرج قوله: إن طال الليل قصر النهار إذ فيه ملازمة و ليس فيه ترتب لكونهما معلولين لعلّة ثالثة.

3. دلالتها زيادة علي ما تقدم ،علي انحصار السببية و انّ ما وقع بعد حرف

ص: 175


1- سوره 2 - آيه 282
2- . البقرة:282.
3- سوره 2 - آيه 282
4- . البقرة:282.
5- . الذريعة: 1/406.
6- . الموجز:91.

الشرط هو السبب المنحصر للجزاء حتي يدلّ علي ارتفاع الجزاء بارتفاع السبب المنحصر.

لا شكّ في دلالة الجملة الشرطية علي الأمرين الأوّلين، إنّما الكلام في تبادر الانحصار من الجملة الشرطية.

و قد استدل عليه بوجوه:
الأوّل: التبادر

انّ المتبادر كون اللزوم و الترتّب بين الشرط و الجزاء بنحو الترتّب علي العلّة المنحصرة.

يلاحظ عليه: أنّ ادّعاء تبادر اللّزوم و الترتّب العِلّي لا غبار عليه إلاّ أن تبادر كون الشرط علّة منحصرة ممنوع لوجهين:

1. لو كانت الهيئة موضوعة للعلّة المنحصرة، يلزم أن يكون استعمالها في غير صورة الانحصار مجازاً و محتاجاً إلي إعمال العناية كسائر المجازات و ليس كذلك.

2. لو كان كذلك، يجب الأخذ بالمفهوم حتّي في مقام المخاصمات و الاحتجاجات و عدم القبول من المتكلّم إذا قال: ليس لكلامي مفهوم مع أنّه خلاف المفروض.

الثاني: انصراف القضية إلي أكمل أفرادها و هو كون الشرط علّة منحصرة.

يلاحظ عليه: أنّ الانحصار لا يوجب أكملية الفرد، فلو كانت للعاصمية علّة واحدة و هي الكرية أو عللاً متعدّدة مثل المطر و الجريان فلا يتفاوت الحال في العليّة و ليس نصيب العلّة المنحصرة من العلية أشدّ من نصيب غيرها، علي أنّ سبب الانصراف إمّا كثرة الوجود أو كثرة الاستعمال و ليست العلة المنحصرة أكثر من غيرها و لا القضية الشرطية أكثر استعمالاً فيها من غيرها.

ص: 176

الثالث: التمسّك بالإطلاق

و قد قرّره المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة و نحن نقرره بوجه واحد:

انّه لو كان هناك سبب آخر للجزاء يقوم مقام الشرط لكان علي المتكلّم عطفه عليه بمثل لفظة »أو« بأن يقول: إن أكرمك زيد أو أكرم أخاك فأكرمه. غير انّ اقتصاره علي السبب الأوّل دليل علي أنّه السبب المنحصر و ليس له بديل و لا عِدْل، و إلاّ لوجب علي الحكيم بيانه.

و هذا الوجه متين جدّاً بشرط أن يحرز انّ المتكلّم في مقام بيان كلّ ما هو سبب للجزاء، فإذا أطلق الشرط و لم يعطف عليه شيئاً بواو العطف يعلم أنّه سبب تام، كما أنّه إذا لم يعطف عليه ب »أو« العاطفة نعلم أنّه سبب منحصر لا بديل له و لا عِدْل غير انّ إحراز كون المتكلّم في ذلك المقام يحتاج إلي قرينة.

هذا و لكن الظاهر من المتفاهمات العرفية هو دلالة الجملة الشرطية علي المفهوم بل يظهر من بعض الروايات كونه أمراً مسلماً بين الإمام و السائل.

روي أبو بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن الشاة تذبح فلا تتحرك، و يُهرق منها دم كثير عبيط، فقال: »لا تأكل، إنّ علياً كان يقول: إذا ركضت الرّجْل أو طرفت العين فكل«. (1)

تري أنّ الإمام(عليه السلام) يستدلّ علي الحكم الذي أفتي به بقوله »لا تأكل« بكلام علي(عليه السلام) ، و لا يكون دليلاً عليه إلاّ إذا كان له مفهوم، و هو إذا لم تركض الرجل و لم تطرف العين(كما هو مفروض الرواية) فلا تأكل.

و علي ذلك فالقول بدلالة القضية الشرطية علي المفهوم من خلال إثبات السبب المنحصر أمر غير بعيد بين العقلاء.

ص: 177


1- . الوسائل: 16/264، الباب 12 من أبواب الذبائح، الحديث1.
تنبيهان
1. في تداخل الأسباب و المسبّبات
اشارة

إذا تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء علي نحو يقبل التكرار كما إذا قال: إذا بُلْت فتوضأ و إذا نمت فتوضأ، فيقع الكلام في تداخل الأسباب تارة، و تداخل المسببات أُخري، و المراد من تداخل الأسباب، اقتضاء كلّ سبب وجوباً خاصاً غير ما يقتضيه السبب الآخر، كما أنّ المراد من تداخل المسببات بعد القول بعدم تداخل الأسباب إجزاء امتثال واحد، لكلا الوجوبين و عدمه. فيقع الكلام في موضعين:

تداخل الأسباب و عدمه

استدلّ القائل بعدم التداخل بأنّ ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء(الوجوب) عند حدوث الشرط (النوم أو البول) و لازم ذلك هو حدوث الوجوبين لا الوجوب الواحد، و قد عرفت أنّ معني عدم تداخل الأسباب هو تعدّد التكليف و الاشتغال، و أنّ ظاهر كل قضية أنّ الشرط علّة تامة لحدوث الجزاء، أعني: الوجوب مطلقاً، سواء وجد الشرط الآخر معه أو قبله أو بعده أو لم يوجد، و ليس لعدم تداخل الأسباب معني سوي تعدّد الوجوب.

ص: 178

دليل القائل بالتداخل

إنّ القائل بالتداخل يعترف بهذا الظهور(حدوث الجزاء عند حدوث الشرط) إلاّ أنّه يقول: لا يمكن الأخذ به، لأنّ متعلّق الوجوب في كلا الموردين شيء واحد و هو »طبيعة الوضوء«، و من المعلوم أنّه يمتنع أن يقع الشيء الواحد متعلّقاً لوجوبين و موضوعاً لحكمين متماثلين، و المفروض أنّ متعلّق الوجوب في كليهما طبيعة الوضوء لا طبيعة الوضوء في أحدهما و الوضوء الآخر في الثاني حتي يصح تعلّق الوجوبين بتعدّد المتعلّق، فإطلاق الجزاء(متعلق الوجوب)، بمعني أنّ الوضوء بما هو هو موضوع لا هو مع قيد كلفظ »آخر«، يقتضي التداخل.

إلي هنا تبيّن دليل القولين; فالقائل بعدم التداخل يتمسّك بظهور القضية الشرطية في حدوث الجزاء عند كل شرط، و هو يلازم عدم التداخل في الأسباب; و القائل بالتداخل يتمسّك بوحدة المتعلّق و كون الموضوع للوجوبين هو نفس الطبيعة التي تقتضي وحدة الحكم و لا تقبل تعدّده، فلا بد من رفع اليد عن أحد الظهورين.

و الظاهر تقديم ظهور القضية الشرطية في حدوث الجزاء عند كلّ شرط، علي إطلاق الجزاء في وحدة المتعلَّق، فتكون قرينة علي تقدير لفظ مثل »فرد آخر« أو لفظ »مرّة أُخري« في متعلّق أحد الجزاءين، و عندئذ يكون الموضوع للوجوب في إحدي القضيتين، هو الطبيعة، كما يكون الموضوع للوجوب في القضية الأُخري، الفرد الآخر.

و لعل العرف يساعد لتقديم ظهور الصدر علي ظهور الذيل بالتصرف في الثاني بتقدير لفظ »آخر« لقوة ظهور الصدر.

و يمكن توجيه تقديم ظهور الصدر علي إطلاق الذيل بالارتكاز العرفي، إذ

ص: 179

المرتكز في الأذهان هو أنّ كل سبب تكويني يطلب معلولاً خاصّاً، فكل من النار و الشمس تُفيض حرارة مستقلّة من غير فرق بين أن تتقارنا أو تتقدّم إحداهما علي الأخري، فإذا كان هذا هو المرتكز في الأذهان، و سمع صاحب هذا الارتكاز من المعصوم قوله: إذا نمت فتوضأ، و إذا بلت فتوضأ، ينتقل إلي أنّ كلاً من النوم و البول يطلب وجوباً مستقلاً، و أن أثر كل واحد غير أثر الآخر، و الارتكاز الموجود في الأذهان يوجب انعقاد ظهور خاص للقضية، و هو حدوث الوجوب عند حدوث كل شرط مستقلاً مطلقاً.

و بهذا يقدّم ظهور الصدر علي ظهور الجزاء في وحدة المتعلّق الآبية عن تعلّق الوجوبين، و ليس هذا من قياس التشريع علي التكوين حتي يقال بأنّه أمر باطل، بل هو من باب جعل الارتكاز العرفي في العلل التكوينية قرينة علي انتقال العرف إلي مقتضي مثلها في العلل التشريعية.

و بذلك ظهرت قوّة الوجه الأوّل و ضعف الوجه الثاني.

هذا كلّه حول التداخل و عدمه في الأسباب، و إليك البحث في تداخل المسببات.

في تداخل المسببات

إذا ثبت في البحث السابق عدم التداخل، و أنّ كل سبب، علّة لوجوب مستقل، فحينئذ يقع الكلام في مقام آخر، و هو إنّ تعدّد الوجوب هل يقتضي تعدّد الواجب أو لا؟ و بعبارة أُخري :إنّ تعدّد السبب كما يقتضي تعدد الوجوب، فهل يقتضي تعدد الامتثال أيضاً، أو لا يقتضي، بل يكفي في امتثال كلا الوجوبين، الإتيان بمصداق واحد نظير امتثال قول القائل: أكرم العالم و اكرم الهاشمي بضيافة العالم

ص: 180

الهاشمي؟ الظاهر عدم ظهور القضية في أحد الطرفين، أي كفاية امتثال واحد و عدم كفايته، فتصل النوبة بعد اليأس عن الدليل الاجتهادي إلي الأصل العمليّ و هو أنّ الأصل عدم سقوط الواجبات المتعددة بفعل واحد و لو كان ذلك بقصد امتثال الجميع، في غير ما دل الدليل علي سقوطها به، و بعبارة أُخري: الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، و هي رهن تعدّد الامتثال.

نعم دلّ الدليل علي سقوط أغسال متعددة بغسل الجنابة أو بغسل واحد نوي به سقوط الجميع.

فخرجنا بهذه النتيجة: انّ مقتضي الأصل العملي هو عدم سقوط الواجبات المتعددة ما لم يدلّ دليل بالخصوص علي سقوطها.

و يستثني من ذلك ما إذا كانت النسبة بين الواجبين عموماً و خصوصاً من وجه، كما في قضية أكرم عالماً و أكرم هاشمياً، فإنّ إكرام العالم الهاشمي يكون مسقطاً لكلا الخطابين و لا يعتبر في تحقّق الامتثال إلاّ الإتيان بما ينطبق عليه متعلّق الأمر. (1)

2. ما هو مفهوم القضية السالبة الكلية؟

اختلفت كلمة الأُصوليين في مفهوم القضية السالبة الكلية، و هل مفهومها هو الموجبة الجزئية، أو الموجبة الكلية؟ فمثلاً قوله(عليه السلام): »إذا كان الماء قدر كر لا ينجّسه شيء« (2) فهل مفهومه إذا لم يكن الماء قدر كرّ، ينجسه شيء، أو أنّ مفهومه إذا لم يكن الماء قدر كر، ينجسه كل شيء؟

ص: 181


1- . اقتباس ممّا ذكره الأُستاذ الكبير السيد الإمام الخميني(قدس سره) في دروسه الشريفة.
2- . الوسائل: 1، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 21.

ذهب الشيخ محمد تقي الاصفهاني صاحب الحاشية علي المعالم إلي الأوّل، و أُيّد قوله بما ذكره المنطقيون من أنّ نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية.و اختار الشيخ الأنصاري القولَ الثاني و سيوافيك دليله:

و تظهر الثمرة فيما دل الدليل علي طهارة ماء الاستنجاء إذا كان قليلاً دون الكرّ، فعلي القول بأنّ المفهوم هو الموجبة الجزئية لا تنافي بينهما، إذ لا منافاة بين المفهوم أي قولنا :»ينجسه شيء« و»لا ينجسه شيء آخر« كالاستنجاء، بخلاف ما إذا كان مفهومه، الموجبة الكلية فلا بد من علاج التنافي بالتخصيص أو التقييد أو غيرهما.

و بما أنّ دليل القول الأوّل واضح، لانّ نقيض الموجبة الكلّية التي هي المنطوق هو السالبة الجزئية، فالمهم في المقام تبيين ما اعتمد عليه الشيخ الأنصاري فيما اختاره من النظر.

و حاصله: أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم المذكور في المنطوق عند انتفاء الشرط، و يعتبر في المفهوم أمران:

أ. انتفاء الشرط عند انتفاء الجزاء.

ب. وحدة القضية المنطوقية و المفهومية في الموضوع و القيود الموجودة في المنطوق، إلاّ في السلب و الإيجاب، فلو قال: إن سلّم عليك زيد يوم الجمعة فأكرمه، فمفهومه إن لم يسلِّم عليك في ذلك اليوم فلا تكرمه، و أمّا في غيره من أيام الاسبوع فالقضيتان ساكتتان عنه، فهما متحدتان في جميع الأُمور إلاّ في السلب و الإيجاب، أعني: الكيف.

و لو كان القيد المأخوذ في المنطوق، هو العموم و الشمول فلا بد أن يكون محفوظاً في جانب المفهوم أيضاً، مثلاً إذا قال: إن جاء زيد فأكرم العلماء، أي كل واحد، فمفهومه أنّه إن لم يجئ زيد فلا تكرم العلماء، أي كل واحد منهم.

ص: 182

و بذلك يظهر أنّ أساس المفهوم هو الحفاظ علي جميع الخصوصيات إلاّ كيف القضية من السلب و الإيجاب.

ثم إنّه(قدس سره) رَتب علي ذلك البيان بأنّ المنطوق لما كان قضية كلّية فلا بد من الحفاظ عليه في جانب المفهوم أيضاً أخذاً بالضابطة في باب المفهوم، فقوله(عليه السلام):»إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء« قضية سالبة كلية، فلا بد أن يكون المفهوم موجبة كلية أيضاً، فلا يكون هناك أي اختلاف إلاّ في السلب و الإيجاب، فيكون المفهوم هو قوله: إذا لم يكن الماء قدر كر ينجسه كل شيء.

يلاحظ علي ما ذكره: بأنّ ما ذكره من الضابطة إنما يتمّ في الخصوصيات المذكورة في المنطوق كيوم الجمعة في المثال الأوّل، و استغراق جميع الأفراد في المثال الثاني(إن جاء زيد فاكرم العلماء).

و أمّا إذا كانت الخصوصية مستفادة من السياق في المنطوق فلا يمكن الحفاظ عليه عند انقلاب القضية إلي كيف آخر، و ذلك كالاستغراق في قوله: »إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء« فإنّه مستفاد من سياق الكلام، أي من وقوع النكرة بعد النفي، فبما أنّ المفهوم علي طرف النقيض من المنطوق في جهة الكيف يكون المفهوم حكماً إيجابياً، فينتفي وقوع النكرة في سياق النفي، و معه لا يستفاد منه العموم فمثلاً:

إذا قال: إن جاءك زيد لا تكرم أحداً، لا يكون مفهومه إذا لم يجئ زيد »أكرم كل أحد« و ما هذا إلاّ لأنّ العموم كان مستفاداً من سياق الكلام، و قد تبدّل سياقه من النفي إلي الإثبات و من السلب إلي الإيجاب، فكيف يمكن حفظ العموم في جانب المفهوم مع زوال السياق؟ فإذا زال ما يدل علي العموم عند الأخذ بالمفهوم، كيف يمكن الأخذ بمعلوله و أثره؟

ص: 183

الفصل الثاني: في مفهوم الوصف

عرّفه المحقّق القمي بقوله: هل تعليق الحكم بالصفة يدلّ علي انتفائه لدي انتفائها أو لا. (1) و المراد من الوصف في كلامه ما يعم النعت و الحال و التمييز و غيرها ممّا يكون قيداً لموضوع التكليف.

و بذلك(كونه قيداً لموضوع التّكليف) يعلم أنّ النزاع مختص بما إذا كان الوصف معتمداً علي موصوف كما إذا قال: أكرم رجلاً عالماً حتي ينطبق عليه تعريف المفهوم من ثبوت الموضوع و ارتفاع القيد، و أمّا إذا كان الوصف نفسُه موضوعاً كما في قوله سبحانه:( وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (2) ) (3) فهو داخل في مفهوم اللقب الآتي.

و بذلك يعلم خروج الصورتين التاليتين أيضاً عن محط النزاع.

أ: أن يكون الوصف مساوياً للموصوف كالإنسان المتعجّب، أو يكون الوصف أعمّ من الموضوع كالإنسان الماشي. إذ لا يتصوّر فيه ارتفاع الوصف مع بقاء الموضوع، فانحصر البحث في موردين:

1. إذا كان الوصف أخص من الموضوع، كما إذا قال: أكرم الإنسان الكريم في مقابل اللئيم، فهو داخل في محلّ النزاع.

2. إذا كانت نسبة الوصف إلي الموصوف عموماً و خصوصاً من وجه، كما إذا

ص: 184


1- . القوانين: 1/178 بتصرّف يسير.
2- سوره 5 - آيه 38
3- . المائدة:38.

قال في الغنم السائمة زكاة. يقع الكلام فيما إذا بقي الموضوع(الغنم) و ارتفع الوصف فصارت الغنم معلوفة، و أنّه هل يدلّ انتفاء الوصف علي عدم وجوب الزكاة فيها أو لا؟ هذا كلّه إذا كان الافتراق من جانب الوصف، و أمّا إذا كان الافتراق من جانب الموصوف مع بقاء الوصف، فلا يدلّ علي شيء كما في البقر و الإبل السائمتين لما عرفت من أنّ أخذ المفهوم رهن بقاء الموصوف و ارتفاع الوصف، و في هذه الصورة، الأمر علي العكس.

إذا عرفت ذلك فقد استدلّ علي دلالة الوصف علي المفهوم بوجوه:

1. التبادر الكاشف عن وضع الهيئة الوصفية للانتفاء عند الانتفاء.

يلاحظ عليه: أنّ غاية ما يتبادر هو مدخلية الوصف في شخص الحكم، و أمّا مدخليته في سنخ الحكم و انّه لا نائب له، فغير ثابت.و المطلوب في باب المفاهيم انتفاء سنخ الحكم، لا شخص الحكم الوارد في القضية فإنّه منتف بانتفاء القيد سواء أقلنا بالمفهوم أم لا.

2. التمسّك بالإطلاق علي الوجه المقرر في دلالة الهيئة الشرطية.

يلاحظ عليه: قد عرفت أنّ أقصي ما يدلّ عليه الإطلاق، هو أنّ الوصف مع موصوفه تمام الموضوع و أمّا أنّه لا ينوب عنه شيء آخر فلا يدلّ عليه، نعم لو أحرز أنّ المتكلّم في مقام بيان كل ما له دخل في سنخ الحكم فلم يأت إلاّ بنفس الوصف وحده يكشف عن عدم ما ينوبه و هو غير محرز غالباً.

3. لو لم يدلّ علي المفهوم يلزم اللغوية.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يلزم لو لم يكن له دخل في الحكم أبداً و أمّا إذا كان له دخل في شخص الحكم، و إن كان يخلفه وصف آخر أحياناً فلا، و تخصيص ذاك الوصف بالذكر دون غيره لكونه مورد السؤال أو الابتلاء للمخاطب أو للتأكيد

ص: 185

نحو: إياك و ظلم الطفل اليتيم، أو لدفع توهّم عدم الحرمة في مورد الوصف، كما في قوله تعالي:

( وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ (1) ). (2)

و علي كلّ تقدير فالذي دعا الأُصوليّين إلي عدم القول بالمفهوم في التقييد بالوصف، هو عدم انتفاء الحكم عند انتفاء القيد في النصوص الشرعية نظير قوله سبحانه:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً (3) ) (4) فإنّ الربا حرام مطلقاً أضعافاً كان أو لا.

و قوله سبحانه:( وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ (5) ) (6) مع اتّفاقهم علي جواز القضاء بشهادة شاهد واحد و يمين المدّعي.

و قوله سبحانه:( وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ (7) ) (8) مع حرمة الربيبة إذا دخل بأُمّها و إن لم تكن في حجره.

و قوله سبحانه:( وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا (9) ). (10)

فالتقصير قيّد بالخوف من فتنة الكفّار مع أنّه جائز مطلقاً سواء كان هناك فتنة أو لا.

نعم خرجت عن تلك الضابطة العقود و الإيقاعات المتداولة بين الناس حتي الاقرارات و الوصايا، فإنّها لو اشتملت علي قيد و وصف لأفاد المفهوم كما ذكرناه في الموجز (11) فمثلاً لو قال: »داري هذه وقف للسادة الفقراء« فمعناه خروج السادة الأغنياء عن الخطاب حيث اتّفق الفقهاء علي الأخذ بالمفهوم في الاقرارات و الوصايا إذا اشتملت علي قيد و وصف كما عرفت.3.

ص: 186


1- سوره 6 - آيه 151
2- . الأنعام:151.
3- سوره 3 - آيه 130
4- . آل عمران: 130.
5- سوره 2 - آيه 282
6- . البقرة:282.
7- سوره 4 - آيه 23
8- . النساء:23.
9- سوره 4 - آيه 101
10- . النساء:101.
11- . الموجز:93.

الفصل الثالث: مفهوم الغاية

اشارة

هل الغاية تدلّ علي ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية أو لا؟ المشهور انّ أداة الغاية تدلّ علي ارتفاع الحكم عمّا بعدها، بل ربّما يقال بأنّ دلالتها علي الارتفاع أشد من دلالة القضية الشرطية علي ارتفاع الحكم عند ارتفاع شرطه.

نعم ذهب السيّد المرتضي و الشيخ الطوسي إلي خلاف هذا القول و استُدلّ لقولهما بالآيات التالية:

1.( وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّي يَطْهُرْنَ (1) ). (2)

2. قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّي يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ (3) ). (4)

3. قوله:( وَ قاتِلُوهُمْ حَتّي لا تَكُونَ فِتْنَةٌ (5) ). (6)

فإنّ لفظة »حتّي« الجارة في هذه الآيات تدلّ علي أنّ الوظيفة تنتهي بالوصول إلي الغاية، أعني:

تطهّر المرأة، أو تبين الخيط الأبيض، أو الإذعان بعدم طروء الفتنة.

ص: 187


1- سوره 2 - آيه 222
2- . البقرة:222.
3- سوره 2 - آيه 187
4- . البقرة:187.
5- سوره 2 - آيه 193
6- . البقرة:193.

و التحقيق أن يقال: إنّه لو كانت الغاية غاية للحكم فلا شكّ في الدلالة، كما في قوله: »كلّ شيء حلال حتّي تعلم انّه حرام« فانّ الغاية غاية للحكم بالحلية كما هي غاية للحكم بالطّهارة في قوله:»كلّ شيء طاهر حتي تعلم انّه قذر« فادّعاء التبادر في أمثال ذلك ممّا لا إشكال فيه.

و أمّا إذا كانت الغاية قيداً للموضوع و محدِّداً له كما في قولك: »سر من البصرة إلي الكوفة« فإنّه بمنزلة أن يقال: السير من البصرة إلي الكوفة واجب، و مثله قوله سبحانه:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرافِقِ (1) ) (2) فانّه بمنزلة أن يقال: غسل الأيدي إلي المرافق واجب، فالظاهر عدم الدلالة علي المفهوم، إذ غاية الأمر أنّ الموضوع المقيد محكوم بالحكم، و أمّا عدم الحكم علي الموضوع عند انتفاء القيد، فلا يدلّ عليه لعدم وضع لذلك، إلاّ إذا قلنا بدلالة كلّ قيد علي المفهوم كمفهوم الوصف.

حكم نفس الغاية

ما ذكرناه راجع إلي حكم ما بعد الغاية، و أمّا الكلام في نفس الغاية فهل هي داخلة في حكم المغيّي أو خارجة عنه؟ فذهب المحقّق الخراساني و السيّد الإمام الخميني إلي خروجها أيضاً، ففي مثله قوله سبحانه:

( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرافِقِ (3) ) ، فالواجب هو دون المرفق، و أمّا نفس المرفق فهو خارج عن وجوب الغسل، اللّهمّ إلاّ لأجل تحصيل اليقين بغسل ما دون المرفق و استدلّ عليه الرضي بأنّ الغاية حدّ الشيء و حدود الشيء خارجة عنه.

و الأولي أن يستدلّ بالتبادر فانّ المتبادر من قوله:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتّي مَطْلَعِ الْفَجْرِ (4) ) (5)فانّ المتبادر هو

ص: 188


1- سوره 5 - آيه 6
2- . المائدة:6.
3- سوره 5 - آيه 6
4- سوره 97 - آيه 4
5- . القدر:54.

خروج مطلع الفجر عن الحكم السابق الوارد في الآية كما هو الحال في قوله:( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَي اللَّيْلِ (1) ) فالليل خارج عن حكم المغيي.

ثمّ إنّ البحث عن دخول الغاية في حكم المغيي و عدمه محدّد بشرطين نوّهنا بهما في الموجز أيضاً (2)و هما:

1. إذا كان هناك قدر مشترك أمكن تصويره تارة داخلاً في حكم المغيي، و أُخري داخلاً في حكم ما بعد الغاية كالمرفق فإنّه يصلح أن يكون محكوماً بحكم المغيي(الأيدي) و حكم ما بعد الغاية(كالعضد) و أمّا إذا لم يكن كذلك، فلا موضوع للبحث كما إذا قال: اضربه إلي خمس ضربات، فالضربة السادسة من أفراد ما بعد الغاية، و الضربة الخامسة داخلة في أجزاء المغيّي حسب التبادر فليس هنا شيء آخر يبحث عن دخوله في حكم المغيي و عدمه.

2. انّ البحث مركز في »حتّي« الخافضة و أمّا »حتّي« العاطفة فلا شكّ في دخول الغاية في حكم المغيي كما في قولك: جاء الحجاج حتي المشاة. قال الشاعر:

ألقي الصحيفة كي يخفف رحله و الزاد حتّي نعله ألقاها

مات الناس حتّي الأنبياء.

فخرجنا بالنتائج التالية:

أ: دلالة الجملة علي خروج ما بعد الغاية عن حكم المغيي إذا كانت قيداً للحكم.

ب: عدم دلالة الجملة علي خروج الغاية عن حكم المغيي إذا كانت قيداً للموضوع.

ج: عدم دخول الغاية في حكم المغيّي.

إنّ البحث مركَّز في »حتّي« الخافضة لا العاطفة و إلاّ فلا شكّ في الدخول.5.

ص: 189


1- سوره 2 - آيه 187
2- . الموجز:94 95.

الفصل الرابع: مفهوم اللقب

المراد من مفهوم اللقب ما يجعل أحد أركان الكلام و القيود الراجعة إليه كالفاعل و المفعول و المبتدأ و الخبر و الظروف الزمانية و المكانية، فذهب الدقّاق و الصيرفي و أصحاب أحمد بن حنبل إلي ثبوت المفهوم، و المشهور إلي عدمه و استدلّ المشهور بأنّه لا دلالة لقولك زيد موجود علي أنّه تعالي ليس بموجود، و قولك:

»موسي رسول اللّه« لا يدلّ علي أنّ محمّداً ليس رسول اللّه.

و منه يظهر عدم المفهوم في باب الوقف و النذر و العهد، فإذا قال: هذا وقف لأولادي أو نذر لطلبة البلدة المعيّنة، فلا شكّ أنّه لا يشمل الجيران و لا طلبة غير تلك البلدة، و لكن عدم الشمول لا من باب أنّ الجملة تدلّ علي ذلك و إنّما هو لأجل قصور الإنشاء و عدم شموله لغير موردهما فعدم الشمول من باب فقد الدال و الدلالة، لا الدلالة علي العدم.

و الحاصل أنّ هنا حكماً واحداً شخصياً و هو مترتّب علي موضوع و عدم شموله لموضوع آخر لا يسمّي مفهوماً.

تمّ الكلام في المقصد الثالث

ص: 190

المقصد الرابع: في العام و الخاص

اشارة

و فيه فصول:

الفصل الأوّل: في المخصص المتصل و المنفصل الفصل الثاني: في أنّ التخصيص لا يوجب المجازية الفصل الثالث: في أنّ العام حجّة في الباقي الفصل الرابع: إجمال المخصِّص مفهوماً الفصل الخامس: إجمال المخصِّص مصداقاً الفصل السادس: التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصّص الفصل السابع: تعقيب العام بضمير يرجع إلي بعض أفراده الفصل الثامن: تخصيص العام بالمفهوم الموافق و المخالف الفصل التاسع: تخصيص الكتاب بالخبر الواحد الفصل العاشر: دوران الأمر بين التخصيص و النسخ خاتمة المطاف: الخطابات الشفاهية

ص: 191

ص: 192

تمهيد

اشارة

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

الأمر الأوّل: انّ العام من المفاهيم المشهورة الغنيّة عن التعريف،

و يقابله الخاصّ. و مع ذلك فقد عُرّف بوجوه أوضحها: كون اللّفظ بحيث يشمل مفهومه لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه مفهوم الواحد، فلفظة العلماء عامّ لكونها شاملة لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه مفهوم الواحد أعني: »العالم« و يقابله الخاص.

الأمر الثاني: انّ العام ينقسم إلي استغراقي و مجموعي و بدلي،

و هل انقسامه إلي هذه الأقسام الثلاثة باعتبار ذات العام و لحاظه بوجوه مختلفة مع قطع النظر عن الحكم و كونه موضوعاً، أو أنّ هذا التقسيم باعتبار تعلّق الحكم عليه؟ ذهب المحقّق الخراساني إلي الثاني، قائلاً بأنّ الاختلاف باعتبار اختلاف كيفية تعلّق الأحكام به، و إلاّ فالعموم في الجميع بمعني واحد، و هو شمول الحكم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه، غاية الأمر انّ تعلّق الحكم به تارة بنحو يكون كلّ فرد موضوعاً علي حدة للحكم، و أُخري بنحو يكون الجميع موضوعاً واحداً، بحيث لو أخلّ بإكرام واحد في »أكرم كلّ فقيه« مثلاً لما امتثل أصلاً، بخلاف الصورة الأُولي فانّه أطاع و عصي، و ثالثة بنحو يكون كلّ واحد موضوعاً علي البدل بحيث لو أكرم واحداً منهم لما أطاع و امتثل كما يظهر لمن أمعن النظر و تأمّل. (1)

ص: 193


1- . كفاية الأُصول: 1/332.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يتمّ لو لم يكن هناك ألفاظ موضوعة لخصوص هذه الأقسام الثلاثة ، و إلاّ يكون التقسيم بلحاظ ذاته، مثلاً انّ لفظ »الكل« و»التمام«و»الجميع« دال علي العام الاستغراقي و انّ كلّ فرد ملحوظ مستقلاً كما أنّ لفظ »المجموع« دال علي العام المجموعي و أنّ الأفراد ملحوظة بنعت الاجتماع، كما أنّ لفظ »أيّ« دالّ علي العام البدلي و أنّ كلّ فرد من الأفراد ملحوظ علي البدل مثل قوله تعالي:( قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (1) ). (2)

و علي ذلك فدلالة كلّ واحد من هذه الألفاظ علي كيفية الموضوع، بنفسها، لا باعتبار تعلّق الحكم به.

الأمر الثالث: انّ الإطلاق ينقسم إلي الشمولي(الاستغراقي) و البدلي كانقسام العام إليهما

، فالإطلاق في مثل قوله:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ (3) )شمولي كما أنّه في قوله: »أكرم عالماً« بدلي و الفرق انّ استفادة الشمولي و البدلي في العام بالدلالة اللّفظية الوضعية، و أمّا المطلق فإنّما هو بالقرائن الحافّة و مقدّمات الحكمة.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام ضمن فصول:

ص: 194


1- سوره 27 - آيه 38
2- . النمل:38.
3- سوره 2 - آيه 275

الفصل الأوّل: في المخصّص المتصل و المنفصل

إنّ تخصيص العام يتصوّر علي وجهين:

الأوّل: أن يقترن المخصص بنفس العام في مقام الإلقاء كقولك: أكرم »العلماء العدول« فيسمّي مخصِّصاً متصلاً لاتّصاله بالعام في الكلام و يكون قرينة علي عدم إرادة العموم.

الثاني: أن لا يقترن المخصص بالعام في نفس الكلام بل يأتي قبل العام أو بعد ورود العام فتكون قرينة علي انّ المتكلّم أراد ما عدا الخاصّ، و كلّ من المخصصَين حجّة و قرينة علي المراد إلاّ أنّه إذا كان المخصّص متصلاً لا ينعقد للعام ظهور في العموم، بل ينعقد الظهور من بدء الأمر في الخصوص و أمّا إذا كان منفصلاً فبما انّه غير مقترن بالعام، ينعقد للعام ظهور في العموم و إذا وقف المخاطب علي المخصص المنفصل و كان ظهوره أقوي من ظهور العام فهو لا يزاحم ظهور العام في عمومه لانعقاد الظهور له في العموم قبل العثور علي المخصّص و إنّما يزاحم حجّيته في العموم، فإذا قال: أكرم العلماء ثمّ ورد بعد شهر و قبل وقت العمل لا تكرم فسّاق العلماء، فالكلام الثاني لا يزاحم ظهور الكلام الأوّل في العموم بعد انعقاده فيه.

نعم العثور علي المخصص و كونه أقوي من العام يكون قرينة علي

ص: 195

أنّ العموم ليس بمراد، و هذا ما يقال من أنّ المخصص المنفصل لا يزاحم ظهور العموم و إنّما يزاحم حجّيته في العموم.

و إن شئت قلت: إنّه إذا كان المخصص متصلاً لا ينعقد للعام ظهور إلاّ في الخصوص، و هذا بخلاف ما إذا كان المخصص منفصلاً فينعقد للكلام ظهور في العموم، و العثور علي الخاص لا ينافي انعقاد ظهوره في العموم و إنّما يزاحم حجّيته فيه فيكون من باب تقديم الأظهر أو النصّ علي الظاهر.

ص: 196

الفصل الثاني: في أنّ التخصيص لا يوجب المجازية

كان المعروف بين الأُصوليّين هو انّ تخصيص العام يوجب المجازية أي استعمال العام في غير ما وضع له أعني الخصوص لكن الحقّ كما عليه المتأخّرون كونه حقيقة و إن خصِّص، سواء كان المخصص متصلاً أم منفصلاً.

أمّا المتّصل فلأنّ كلاً من لفظي الأمر و متعلقه في قولك: »أكرم العلماء العدول« استعمل في نفس معناه فأطلق العلماء و أُريد منه كلّهم، كما أطلق العدول و أُريد منهم الموصوفون بالعدالة. فاللفظان مستعملان في معناهما و إن كان ظهور الكلام منعقداً في الخصوص، فالمورد من قبيل تعدد الدالّ و المدلول.

و أمّا المخصص المنفصل فلأنّ المتكلم يستعمل العام في معناه اللغوي بالإرادة الاستعمالية، فإذا كانت الإرادة الجدية مطابقة للإرادة الاستعمالية يَقتصر علي العام و لا يكون أيّ حاجة للخاصّ، و أمّا إذا كانت الإرادة الجدية من حيث السعة مخالفة للإرادة الاستعمالية فيشير المتكلم إلي من لم تتعلّق به الإرادة الجدّية بالمخصص حتي يدل علي أنّ متعلّق الإرادة الجدية أضيق من متعلّق الإرادة الاستعمالية.

فلا يكون العثور علي المخصص أيضاً سبباً لاستعمال اللّفظ في غير ما وضع له.

ص: 197

و إن أردت مزيد توضيح فنقول: إنّ التخصيص بالمنفصل إنّما يوجب مجازية العام المخصَّص إذا استعمله المتكلّم في غير معناه العام من أوّل الأمر، كأن يريد بقوله: أكرم العلماء، »العلماء غيرَ الفساق« و لكنّه أمر غير معهود، فالمتكلّم يستعمله في نفس ما وضع له، بالإرادة الاستعمالية، أو قل بالإرادة التفهيمية.

ثمّ إنّه لو كان المراد بالإرادة الاستعمالية نفسَ المراد بالإرادة الجدية لسكت، و لم يعقبه بشيء، و أمّا إذا كان المراد بالإرادة الاستعمالية غير المراد بالإرادة الجدية من حيث السعة و الضيق لأشار إلي إخراج بعض ما ليس بمراد جداً، و يقول: لا تكرم فساق العلماء، و هذا إن دلّ علي شيء فإنّما يدلّ علي ضيق الإرادة الجديّة من أوّل الأمر، و أمّا الإرادة الاستعمالية فتبقي علي شموليتها للمراد الجدي و غيره، و هذا رائج في المحاورات العرفية و الملاك في كون الاستعمال حقيقة أو مجازاً هي الإرادة الأُولي، و المفروض أنّ العام حسب تلك الإرادة مستعمل في نفس ما وضع له و إذا ورد التخصيص فإنّما يرد علي ما هو المراد بالإرادة الجدية.

فخرجنا بهذه النتيجة: انّ العام المخصَّص سواء أ كان التخصيص متصلاً أم منفصلاً، حقيقة و ليس بمجاز، و يجمع كلا التخصيصين كونُ العام و الخاص من قبيل تعدّد الدال و المدلول.

سؤال: لما ذا لا يستعمل المتكلّم العامَّ في الخاص من أوّل الأمر أي فيما هو متعلّق الإرادة الجدية، بل يستعمله منذ بدء الأمر في العموم ثمّ يشير بدليل ثان إلي التخصيص.

الجواب: إنّما يستعمله كذلك لضرب القاعدة و إعطاء الضابطة فيما إذا شكَّ المخاطبُ في خروج بعض الأفراد، حتي يتمسك بالعام إلي أن يثبت المخصص، و ذلك لأنّ الأصل هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الجديّة إلاّ إذا قام الدليل علي المخالفة.

ص: 198

و هذا لا يتم إلاّ باستعماله من أوّل الأمر في العموم بخلاف ما إذا استعمله في الخصوص و في غير معناه الحقيقي فلا يمكن للمخاطب التمسّك بعموم العام في موارد الشكّ، لأنّ للمعني المجازي مراتب (1) مختلفة، و لا نعلم أيّ مرتبة من تلك المراتب هي المرادة، فيصير الكلام مجملاً في صورة الشك.ل.

ص: 199


1- . و حيث يحتمل انّه استعمله في تمام الباقي كما يحتمل استعماله في بعض الباقي، و للبعض الباقي أصناف مختلفة، مثلاً العلماء غير القرّاء ، العلماء غير النحاة، العلماء غير الفقهاء، فالكل يعدّ من المجاز حيث إنّ اللّفظ فيها ليس بحقيقة فتعيين أحدها يحتاج إلي دليل.

الفصل الثالث: في أنّ العام حجّة في الباقي

قد خرجنا في الفصل السابق بنتيجتين:

الأُولي: انّ العام مستعمل في معناه، و انّ التّخصيص لا يوجب المجازية.

الثانية: انّ الأصل بين العقلاء هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّيّة إلاّ إذا قام الدّليل علي المخالفة في مورد التّخصيص.

ثمّ إذا شككنا في ورود التّخصيص علي العام أو في ورود تخصيص زائد فمقتضي الأصلين هو حجّية العام في مدلوله، و ذلك لأنّ مقتضي كون اللّفظ مستعملاً في معناه بالإرادة الاستعمالية و كونها مطابقة للجدّ ما لم يدلّ دليل علي خلافه، هو كون ما وقع تحت العام محكوماً بحكمه و انّه حجّة فيه ما لم يدلّ دليل قطعي علي الخلاف.

ص: 200

الفصل الرابع: إجمال المخصِّص مفهوماً

اشارة

كان البحث في الفصل السابق منصبّاً علي حجية العام في الباقي بعد افتراض كون المخصص مبيَّناً لا إجمال فيه، و إنّما كان الشكّ في تخصيص زائد بمعني احتمال أن يكون هناك تخصيص وراء التخصيص الأوّل، فقد قلنا بحجّية العام في الباقي ما لم يثبت تخصيص آخر.

و أمّا البحث في هذا الفصل فهو فيما إذا كان المخصص مجملاً مفهوماً و صار إجماله سبباً للشك في بقاء مورد، تحت العام، أو داخلاً تحت الخاص، و علي هذا فالفصلان مختلفان موضوعاً و محمولاً، و إن كانا يشتركان في تعلّق الشكّ ببقاء فرد أو عنوان تحت العام، لكن منشأ الشك في الفصل السابق، احتمال طروء تخصيص زائد علي العام و في المقام وجود الإجمال في المخصِّص فالمسألتان متغايرتان.

ثمّ إنّ إجمال المخصص مفهوماً علي قسمين: فتارة يكون مفهوم المخصص مردّداً بين الأقل و الأكثر، و أُخري يكون مفهومه مردّداً بين المتباينين. و إليك توضيح القسمين بذكر بعض الأمثلة.

أمّا المخصص المردّد مفهومه بين الأقل و الأكثر، فإليك مثالين:

ص: 201

أ. إذا قال: كلّ ماء طاهر إلاّ ما تغيّر طعمُه أو لونُه أو رائحته، فإنّ المخصِّص مردّد بين كون المراد خصوص التغيّر الحسي، أو ما يعمّه و التغيّر التقديريّ، كما إذا مزج الماء الذي وقعت فيه النجاسة، بالطيب علي فرض لولاه لظهر التغيّر بإحدي صوره الثلاث، فالمخصص(إلاّ ما تغير) مردّد بين الأقل و هو التغير الحسّي، و الأكثر و هو شموله له و للتقديري.

ب. إذا قال: أكرم العلماء إلاّ الفسّاق و تردّد مفهوم الفاسق بين كونه خصوص مرتكب الكبيرة، أو الأعم منه و من مرتكب الصغيرة، فهو مردّد بين الأقل و هو مرتكب الكبيرة ، و الأكثر و هو مرتكب الكبيرة و الصغيرة.

و أمّا المخصص المردّد مفهومه بين المتباينين.

فكما إذا قال المولي: أكرم العالم إلاّ سعداً، و تردّد بين سعد بن زيد و سعد ابن بكر، فالإجمال في المفهوم صار سبباً لتردّد المخصّص بين المتباينين.

إذا وقفت علي إجمال المفهوم بقسميه، فاعلم أنّ الصور المتصوّرة في المقام أربع. لأنّ المخصّص المجمل إمّا متصل أو منفصل و إجمال كلّ، إمّا لدورانه بين الأقل و الأكثر، أو بين المتباينين، و إليك أحكام الصور الأربع:

الصورة الأُولي: المخصص المتّصل الدائر مفهومه بين الأقل و الأكثر

إذا كان العام مقروناً من أوّل الأمر بمخصص مجمل مفهوماً مردّد أمره بين الأقل و الأكثر كما عرفت في المثالين، فلا شكّ في أمرين:

1. انّ الخاص حجّة في الأقل أعني: التغيّر الحسّي و مرتكب الكبيرة و ليس العام حجّة فيهما بلا كلام.

2. انّ الخاص ليس حجّة في المصداق المشكوك، أي التغير التقديري و مرتكب الصغيرة.

ص: 202

إنّما الكلام في أمر ثالث، و هو هل العام حجّة في هذا الفرد المشكوك أو لا؟ و المسألة مبنية علي سريان إجمال المخصص إلي العام فلا يكون حجّة فيه، و عدمه فيكون حجّة.

التحقيق انّه يسري، لأنّ المخصص المتّصل من قبيل القرائن المتصلة بالكلام، و ما هذا شأنه يوجب »عدم انعقاد ظهور للعام إلاّ فيما عدا الخاص« فإذا كان الخاص مجملاً، سري إجماله إلي العام، لأنّ ما عدا الخاص غير معلوم فلا يحتج بالعامّ في مورد الشكّ.

و إن شئت قلت: إنّ التخصيص بالمتصل أشبه شيء بالتقييد حيث يعود الموضوع مركباً من العام و عنوان »غير الفاسق« فلا بدّ في الحكم بوجوب الإكرام(حكم العام) من إحراز كلا الجزءين، أعني: كونه عالماً و كونه غير فاسق، و الأوّل و إن كان محرزاً بالوجدان، و لكن الثاني(غير فاسق) غير محرز، لأنّه لو كان الفاسق موضوعاً لمرتكب الكبيرة، فالموضوع محرز، لأنّ مرتكب الصغيرة غير فاسق، و لو كان موضوعاً للأعم فهو فاسق، فلا ينطبق عليه عنوان العام المخصَّص(العالم غير الفاسق)، و بما انّه لم يحرز عندئذ الجزء الآخر(غير الفاسق)، فلا يصحّ التمسّك بالعام.

الصورة الثانية: المخصص المتّصل الدائر مفهومه بين المتباينين

إذا ورد العام منضماً إلي مخصص دائر مفهومه بين أمرين متباينين ليس بينهما قدر مشترك حتي يدور الأمر بين الأقل و الأكثر، كما إذا قال: أكرم العالم إلاّ سعداً، و كان مردّداً بين سعد بن زيد و سعد بن بكر، فلا يمكن التمسّك بالعام في واحد منهما للبيان السابق حيث إنّ العام حجّة فيما عدا الخاص، فيجب إحراز

ص: 203

كلا الجزءين:الأوّل: انّه(عالم) و الثاني انّه(ليس سعداً)، و بما أنّ سعداً مردّد مفهوماً بين الفردين، فلا يكون موضوع العام محرزاً بتمامه في أيّ واحد من الفردين.

الصورة الثالثة: المخصص المنفصل الدائر مفهومه بين الأقلّ و الأكثر

إذا ورد العام مجرداً عن المخصص ثمّ لحقه مخصص منفصل دائر مفهومه بين الأقل و الأكثر، كما إذا قال: أكرم العلماء، و قال بعد فترة:لا تكرم فسّاق العلماء، فلا شكّ أنّ العام ليس بحجّة في مرتكب الكبيرة و يقع الكلام في كونه حجّة في مرتكب الصغيرة.

المشهور بين المحقّقين كونه حجّة في مورد الصغيرة، و يقع الكلام في بيان ما هو الفرق بين المتصل و المنفصل حيث إنّ إجمال المخصص المتصل يسري إلي العام عند دورانه بين الأقل و الأكثر و لا يسري إليه إجمال المخصص المنفصل إذا دار أمره بينهما، و إليك بيان الفرق:

إنّ اتصال المخصص يوجب عدم انعقاد ظهور للعام من أوّل الأمر إلاّ في العنوان المركب(العالم غير الفاسق)، فلا يكون هنا إلاّ دليل واحد و له ظهور واحد.

و هذا بخلاف ما إذا كان المخصص منفصلاً، فإنّه ينعقد للعام ظهور في العموم، و يعمّ قوله: أكرم العلماء، مرتكبَ الصغيرة و الكبيرة معاً في بدء الأمر و يكون حجّة فيهما.

ثمّ إذا لحقه المخصص المنفصل فهو لا يزاحم ظهوره، لأنّ ظهوره انعقد في العموم، و إنّما يزاحم حجّيته في العموم، لأنّ ظهور الخاص أقوي، و بما انّ المخصص المنفصل ليس حجّة إلاّ في مرتكب الكبيرة دون الصغيرة، بل كان فيها مشكوك الحجية فلا يزاحم حجيّة العام فيه فيتمسك بالعام الذي انعقد ظهوره

ص: 204

في العموم و كان حجّة فيه ما لم يكن هناك حجّة أُخري و المفروض عدمها.

و بعبارة أُخري: العام المنفصل عن المخصص ينعقد ظهوره في العموم، فيكون حجّة في وجوب إكرام العالم أعم من مرتكب الصغيرة أو الكبيرة، و هذا الظهور حجّة ما لم يكن هناك دليل أقوي، و المفروض أنّ الدليل الأقوي مجمل مردّد بين الأقل و الأكثر، فلا يكون حجّة في المشكوك أي الأكثر فلا ترفع اليد عن الحجّة السابقة إلاّ بمقدار ما ثبتت حجّية الخاصّ فيه، و ليس هو إلاّ مرتكب الكبيرة فيتمسك في مورد الصغيرة، بالعام.

هذا هو المعروف و هناك رأي آخر يطلب من دراسات عليا.

الصورة الرابعة: المخصص المنفصل الدائر مفهومه بين المتباينين

إذا ورد العام مجرداً عن المخصص، ثمّ لحقه المخصص بعد فترة و لكن دار أمره بين متباينين، كما إذا قال: »أكرم العالم«، ثمّ قال بعد فترة: »لا تكرم سعداً« و كان سعد مردّداً مفهوماً بين »سعد بن زيد و سعد بن بكر« فالإجمال في المصداق و تردّده بين الشّخصين لأجل الإجمال في المفهوم بحيث لو أزيل الإجمال المفهومي لما كان هناك إجمال في المصداق ، فهل يكون العام حجّة في واحد منهما؟ التحقيق: انّه لا يكون العام حجّة بل يسري إجمال المخصص و إن كان منفصلاً إلي العام و وجه ذلك مع أنّه يشترك مع الصورة الثالثة في انفصال المخصص، و لكن يفارقه في شيء آخر، و هو انحلال العلم الإجمالي في الصورة الثالثة في مورد مرتكب الصغيرة فيكون الشكّ فيه شكاً بدوياً بخلاف المقام، فإنّ هنا علماً إجمالياً بحرمة أو عدم وجوب إكرام أحد العنوانين، و مع هذا العلم كيف يمكن التمسك بظهور العام و إن انعقد ظهوره قبل لحوق المخصص المنفصل به في العموم بل يسقط العام عن الحجية في كلّ واحد منهما.

ص: 205

فخرجنا بالنتائج التالية:

1. يسري إجمال المخصص المتصل الدائر أمره بين الأقل و الأكثر إلي العام.

2. يسري إجمال المخصص المتصل الدائر أمره بين المتباينين إلي العام.

3. يسري إجمال المخصص المنفصل الدائر أمره بين المتباينين إلي العام. (1)

4. لا يسري إجمال المخصص المنفصل الدائر أمره بين الأقل و الأكثر إلي العام.ن.

ص: 206


1- . هذه هي الصورة الرابعة قدّمناها في المقام لمساواة حكمها مع القسمين الأوّلين.

الفصل الخامس: إجمال المخصص مصداقاً

كان البحث في الفصل السابق فيما إذا شكّ في كون فرد داخلاً تحت العام أو الخاص و كان منشأ الشك إجمال المخصص مفهوماً و أمّا إذا كان المخصص مبيناً مفهوماً، لكن وقع الشكّ في بقاء فرد من أفراد ما ينطبق عليه العام تحته أو خروجه عنه و دخوله تحت المخصِّص، فمثلاً، قال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): »علي اليد ما أخذت حتي تؤدي« و هو عام يشمل اليد العادية و اليد الأمينة، ثمّ لحقه المخصص فأخرج اليد الأمينة.

و لو تلف مال تحت يد إنسان مردّدة مصداقاً بين كونها يد عادية أو يد أمانة، فالإجمال ليس في مفهوم العام و لا في مفهوم الخاص، و إنّما الإجمال في المصداق و الأمر الخارجي حيث إنّ كيفية اليد مردّدة بين كونها باقية تحت العام أو كونها خارجة عنه، فهل يجوز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للخاص، أو لا؟ ربما ينسب إلي القدماء صحّة التمسك و لذلك أفتوا في مثال اليد المشكوكة، بالضمان، و لكن الحقّ خلافه.

بيانه: انّ الخاص(اليد الأمينة) و إن لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه، كما في المقام لتردّده بينها و بين غيرها، و لكنّه يوجب اختصاص حجيّة العام في غير

ص: 207

عنوان المخصص، فكأنّه(صلي الله عليه و آله و سلم) قال: علي اليد »إذا كانت عادية« ما أخذت حتي تؤدي، فالاحتجاج بالعام في مورد الشبهة مبني علي إحراز كلا العنوانين:

أ. استيلاؤه علي العين، و هو محرز بالوجدان.

ب. استيلاؤه علي وجه العدوان و انّ اليد عادية، و هو مشكوك.

و مع الشكّ في صدق الجزء الثاني علي المورد كيف يتمسك بالعام و يحكم بالضمان؟ و إلي ما ذكرنا يرجع قول العلماء: »إنّ الخاص و إن لم يكن حجّة في مورد المشتبه، لكنّه يجعل العام السابق حجّة في غير عنوان الخاص فيجب علي المتمسك إحراز كلا العنوانين«. (1)

و قد خرجنا بالنتيجة التالية:

و هي انّ العام ليس حجّة في الشبهة المصداقية للمخصص.

سؤال: إذا كان هذا هو مقتضي القاعدة، فلما ذا أفتي المشهور بضمان اليد المشكوكة المردّدة بين كونها يد ضمان، أو يد أمانة مع أنّه من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص؟ الجواب: انّ الإفتاء بالضمان ليس من هذا الباب، بل لأجل ضابطة فقهية سارية في أمثالها و هي:

إذا كان طبع العمل مقتضياً للفساد و كانت الصحّة حالة طارئة، عليه فلا2.

ص: 208


1- . ثمّ إنّ الصور المتصوّرة في المقام(إجمال المخصص مصداقاً) أربعة كإجماله مفهوماً، و ذلك لأنّ المخصص المجمل مصداقاً إمّا أن يكون متصلاً، أو يكون منفصلاً و علي كلّ تقدير، كل من الإجمالين تارة يكون علي وجه التباين و أُخري علي نحو الأقل و الأكثر و علي كلّ تقدير فالعام ليس حجّة في الشبهة المصداقيّة للمخصّص مطلقاً. و لأجل الاختصار اكتفينا في هذا القسم بالإشارة. لاحظ المحصول: الجزء2.

تجري فيه أصالة الصحّة بل يحكم عليه بالفساد ما لم يحرز مسوغ الصحّة. و التصرف في مال الغير يقتضي الضمان بطبعه، و عدم الضمان أمر طارئ استثنائي، فاللازم هو الأخذ بمقتضي طبيعة الموضوع إلي أن يثبت خلافه، و إليك نظائرها:

1. إذا باع غير الولي مال اليتيم و احتمل كون بيعه مقروناً بالمسوِّغ، فلا يحكم عليه بالصحّة إلاّ بالعلم و البيّنة علي وجوده، لأنّ طبع العمل(بيع مال اليتيم) محكوم بالفساد، فهو محكوم بمقتضي الطبع إلي أن يعلم خلافه.

2. إذا باع المتولي، الوقف فلا يحكم عليه بالصحة إلاّ بإحراز أحد المسوغات، لأنّ طبع بيع الوقف يقتضي الفساد و الصحّة أمر طارئ عليه، فيحكم بمقتضي الطبع إلي أن يعلم خلافه.

3. إذا تردّدت المرأة بين كونها ممّن يجوز النظر إليها و غيرها، فلا يجوز النظر إليها، لأنّ مقتضي طبع العمل في المقام هو حرمة النظر و جواز النظر أمر طارئ علي مطلق المرأة، فيحكم بحرمة النظر إلي أن يعلم المسوّغ.

ص: 209

الفصل السادس: التمسّك بالعام قبل الفحص عن المخصّص

نزل الوحي الإلهي علي قلب سيّد المرسلين نجوماً علي سبيل التدريج و قد بيّن سبحانه وجه ذلك بقوله:

( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (1) ) (2) فجعل تثبيت فؤاد النبي دليلاً علي نزول القرآن تدريجاً.

ثمّ إنّ نزول القرآن نجوماً، صار سبباً لتدريجية التشريع القرآني، فربما نزل العام في فترة، و الخاص في فترة أُخري فلا يُحتج بالعام القرآني إلاّ بعد الفحص عن خاصّه فيه.

و نظيره السنّة النبويّة فقد كان التشريع فيها أمراً تدريجياً، فربما ورد العام في لسان النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)في فترة، و الخاص في فترة أُخري، فلا يحتج بعموم السنة النبويّة إلاّ بعد الفحص عن مخصصه فيها.

ثمّ إنّ هناك أحكاماً كثيرة شُرّعَت لكن حال الأجل بين الرسول و إبلاغه للأُمّة لكنّه صلوات اللّه عليه جعلها مخزونة عند العترة الطاهرة وصفهم أعدالاً للقرآن الكريم و قال: »إنّي تاركٌ فيكُمُ الثقلين كتاب اللّه و عِترتي«، فقاموا ببيان الأحكام المخزونة: عمومها و خصوصها، مطلقها و مقيّدها في فترة تقرب من 250

ص: 210


1- سوره 25 - آيه 32
2- . الفرقان:32.

سنة، فجاء العام في لسان إمام و الخاص في لسان إمام آخر أو روي الراوي العام من دون أن يروي الخاص و عكس الآخر، و بالتالي طرأ الفصل علي المخصصات و المقيدات، و هذا هو السبب التّام لوجوب الفحص عن المخصص قبل العمل بالعام.

و ليس هذا من خصيصة التشريع الإسلامي بل التشريع الوضعي(البشري) يتمتع بذلك أيضاً فربما يذكر العمومات و المطلقات في قائمة، و المخصصات و المقيدات في قائمة أُخري و ما ذلك إلاّ لكون التشريع أمراً غير دفعي.

نعم لا يجب الفحص عن المخصص المتصل، لأنّ سقوطه عن كلام الراوي علي خلاف الأصل لأنّ سقوطه عمداً تنفيه وثاقة الراوي، و سهواً يخالفه الأصل العقلائي المجمع عليه.

ثمّ إنّ الفحص في المقام يغاير ماهية عن الفحص عن الدليل الاجتهادي عند العمل بالأُصول العملية فانّ الفحص هنا فحص عن متمم الحجّية، لأنّ موضع الأُصول العملية هو الشكّ في ظرف عدم البيان فما لم يتحقّق الفحص لا يحرز موضوع الأصل(عدم البيان) و لا يحصل المقتضي بخلاف المقام فانّه فحص عن الدليل الأقوي ظهوراً.

و أمّا مقدار الفحص فاللازم هو حصول الاطمئنان الشخصي علي عدم المخصص، و هذا النوع من الاطمئنان حجّة عقلائيّة لم يردع عنها الشارع بل هو علم عرفي.

ثمّ إنّ القوم استدلّوا علي وجوب الفحص بدلائل مختلفة أشرنا إليها في التعليقة. (1)م.

ص: 211


1- . أ. عدم حصول الظن الشخصي بالتكليف قبل الفحص. ب. وجود العلم الإجمالي بالمخصص و هو مانع عن التمسك بالعام.

الفصل السابع: تعقيب العام بضمير يرجع إلي بعض أفراده

إذا كان هناك عام يتعقّبه ضمير يرجع إلي بعض أفراده، فهل يوجب ذلك تخصيص العام أو لا؟ مثاله قوله سبحانه:( وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً... (1) ). (2)

فقد دلّ الدليل علي أنّه ليس كلّ بعل أحقّ باسترجاع مطلّقته، و إنّما يستحق إذا كان الطلاق رجعياً لا بائناً، فيقع الكلام في أنّه يوجب ذلك، تخصيصَ العام و اختصاص التربص أيضاً(كالاسترجاع) للرجعيات، أو يبقي العام علي عمومه سواء أ كانت رجعية أم بائنة و يتصرف في الضمير فقط. وجهان:

توضيحه: انّ هنا حكمين:

1. حكم العام، أعني قوله:( وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (3) )و ظاهره عموم حكم التربّص لعامة المطلّقات رجعيّة كانت أو بائنة.

2. حكم الضمير الراجع إلي العام، أعني: حقّ الرجوع في قوله: »» بُعُولَتهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِن) فقوله:

»»(أَحَقُّ) لا يشمل كل بعل بل البعض أي المطلِّق رجعياً.

ص: 212


1- سوره 2 - آيه 228
2- . البقرة:228.
3- سوره 2 - آيه 228

فعندئذ يقع التنافر بين استعمال المرجع في العموم، و استعمال الضمير الراجع إليه في الخصوص فإنّ الأصل هو رجوع الضمير إلي نفس ما أُريد من المرجع لا إلي بعض ما أُريد منه فلا بدّ من علاجه بإحدي الصور التالية:

أ. التصرّف في المرجع بإخراج البائنة عن حكمه، و ذلك لأجل أنّ الحكم الحديث الثاني يرجع إلي بعض المطلقات، فيصير قرينة علي أنّ الحكم الأوّل(التربص) به لبعض الأفراد، فيحصل التطابق بين المرجع و الضمير.

ب. التصرّف في الضمير بارتكاب الاستخدام فيه بعوده إلي خصوص المطلقة الرجعية، و إبقاء حكم العام علي عمومه.

ج. عدم التصرّف في واحد من المرجع و الضمير، و التصرّف في الإسناد، و ذلك بإسناد الحكم(أحقّ بردّهنّ) المسند إلي البعض(الرجعية) إلي الكل(مطلق المطلقة) توسعاً و تجوزاً ، فيكون مجازاً في الإسناد، بلا تصرف في المرجع و لا في الضمير.

و هناك وجه رابع، و هو عدم الحاجة إلي التصرف مطلقاً، و ذلك لأنّه يمكن أن يقال إنّ الحكمين باقيان علي عمومهما.

1. فالمطلقات كلهنّ يتربصن بلا استثناء ، و الإرادة الاستعمالية فيها مطابقة للجدية.

2. و بعولتهن مطلقاً رجعياً كان الطلاق أو بائناً أحقّ بردهنّ بلا استثناء لكن بالإرادة الاستعمالية، و أمّا الإرادة الجدية فقد تعلّقت بخصوص الرجعية، و ذلك بشهادة الدليل القطعي علي خروج بعض الأصناف كما إذا كان الطلاق بائناً عنه.

و تظهر صحّة ما ذكرنا ممّا تقدّم في الفصل الثاني من هذا المقصد(عدم

ص: 213

استلزام التخصيص المجاز في العام) فالعلم بتخصيص الحكم الثاني بالمطلّقة رجعيّة لا يستلزم استعمال الضمير في بعض ما يراد من العام حتي يدور الأمر بين أحد المجازات، بل من الجائز أن يستعمل الضمير في المعني العام أيضاً غاية الأمر علمنا بدليل خارجي اختصاص الحكم بالرجعية.و أقصي ما يلزم من ذلك تخصيص الإرادة الجدية في جانب الضمير لا الاستعمالية كما هو الضابطة في كلّ تخصيص.

ص: 214

الفصل الثامن: تخصيص العام بالمفهوم الموافق و المخالف

لا شكّ انّ العام كما يخصص بمنطوق القضية، كذلك يخصص بمفهومها.

مثلاً لو افترضنا ورد عام يأمر باطاعة الوالدين في كلّ ما يأمران به و قال: أطعهما في كلّ ما يأمران.

ثمّ ورد قوله سبحانه:( إِنْ جاهَداكَ عَلي أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما (1) ). (2)

فمنطوق الآية ناظر إلي الشرك في العبادة فيخصص العام المتقدّم بهذا المنطوق.

ثمّ إنّ الآية تدلّ علي حرمة اطاعتهما إذا جاهدا أن يشرك الولد، في الخالقية و الربوبية، بطريق أولي(المفهوم الموافق) فيخصص به أيضاً، العام السابق.

وجه الاتفاق علي جواز التخصيص هو انّ المفهوم الموافق من مقولة الدلالة اللفظية عند العرف، فكما يخصص العام بمنطوق الآية فهكذا يخصص بمفهومها الموافق لأنّهما في درجة واحدة لو لم يكن الموافق أعلي منزلة.

إنّما الكلام في تخصيص العام بالمفهوم المخالف، فربما يتصوّر عدم الجواز لأجل انّ الدلالة المفهومية أضعف من الدلالة المنطوقية ، فصار ذلك سبباً لعقد

ص: 215


1- سوره 31 - آيه 15
2- . لقمان:15

هذا الفصل.

ثمّ إنّ العام و ما يكون له المفهوم إمّا يقعان في كلام أو كلامين علي نحو يصلح أن يكون كلّ منهما قرينة متصلة علي التصرف في الآخر و دار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فيعمل بالأظهر منهما، و هذا كما في قوله سبحانه:( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلي ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (1) ). (2)

فانّ الصدر ظاهر في المفهوم، و هو عدم وجوب التثبُّت عند خبر العادل و لكن الذيل عام (3) يدلّ علي لزومه عند كلّ خبر غير علمي سواء كان المخبر فاسقاً أو عادلاً، لأنّ الجهالة بمعني عدم العلم موجود في كلا القسمين، فعندئذ يقدم الأظهر منهما علي الآخر و إلاّ فيتساقطان، و أمّا ما هو الأظهر فقد اختلفت فيه أنظارهم.

فهناك من يقدّم المفهوم علي العام و هناك من يعكس، و التّحقيق موكول إلي محلّه.

هذا كلّه إذا كان العام و ما يدلّ علي المفهوم في كلام واحد، و أمّا إذا كان منفصلين فهل يخصّص العام بالمفهوم أو لا؟ فالظاهر انّه إذا لم تكن قوّة لأحد الدليلين في نظر العرف علي الآخر يعود الكلام مجملاً، و أمّا إذا كان أحدهما أظهر من الآخر فيقدم الأظهر. فربما يكون المفهوم أظهر من حكم العام و إليك المثال:

أ. روي محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه(عليه السلام):انّه سئل عن الماء يبول فيه الدواب و تلغ فيه الكلاب و يغتسل فيه الجنب، قال(عليه السلام):»إذا كان الماء قدر كرّ لم..

ص: 216


1- سوره 49 - آيه 6
2- . الحجرات:6.
3- . لوقوع النكرة(بجهالة) في سياق النفي أي لئلاّ يصيبوا...

ينجسه شيء«.

فالرواية تحمل المفهوم و هو أنّ الماء إذا لم يكن قدر كرّ يتنجس بالنجس. و في مقابله عام كقوله:»الماء كلّه طاهر« قابل لتخصيصه بمفهوم هذا الحديث. وجه الأظهرية هو أنّ العام متعرض لحكم طبيعة الماء، و المفهوم متعرض لحكم حال من أحواله و هو إذا كان الماء قليلاً و لاقي النجاسة، فيقدم علي الأوّل إذ لا منافاة بين أن يكون الماء القليل بما هو هو طاهراً و عند الملاقاة بالنجس نجساً.

و ربما يكون علي العكس فيكون العام أظهر من المفهوم لكونه معللاً غير قابل للتخصيص عرفاً كالمثال التالي:

ب. روي محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا(عليه السلام) قال: »ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحُه أو طعمُه، فيُنزَحُ حتي يذهبَ الريحُ و يطيب طعمُه، لأنّ له مادة«. (1)

و هو يدلّ علي اعتصام ماء البئر و عدم انفعاله بالملاقاة سواء أ كان كراً أو غير كر، و بما انّه معلل يقدم علي المفهوم المستفاد من قوله: »إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء« فيحكم بطهارة ماء البئر القليل إذا لاقي نجساً، و بالجملة الملاك هو الأظهرية فتارة يكون الأظهر هو المفهوم و أُخري يكون العام.

و التصديق الفقهي في الموردين و نظائرهما موكول إلي محلّه في كتاب الطهارة.1.

ص: 217


1- .1 . الوسائل: 1، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1.

الفصل التاسع: تخصيص الكتاب بالخبر الواحد

لا شكّ انّ الكتاب حجّة قطعية و أمّا الخبر الواحد فهو و إن كان ظنياً لكنّه ثبتت حجّيته بالدليل القطعي، فيقع الكلام في موردين:

الأوّل: تبيين مجملات القرآن و مبهماته بالخبر الواحد لا شكّ انّ كثيراً من الآيات الواردة حول الصلاة و الزكاة و الصوم و غيرها واردة في مقام أصل التشريع و لذلك تحتاج إلي البيان، و الخبر الواحد بعد ثبوت حجّيته يكون حجّة مبينة لمجملاته و موضحاً لمبهماته و لا يعد مثل ذلك مخالفاً للقرآن و معارضاً له، بل يكون في خدمة القرآن و الغاية المهمة من وراء حجّية خبر الواحد هو ذلك.

إنّما الكلام في تخصيص القرآن الكريم بخبر الواحد، بمعني إخراج ما شمله القرآن بعمومه، فذهب المتأخرون إلي جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، كتخصيص قوله:( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (1) ) (2) بما ورد في السنّة »لا ميراث للقاتل«. (3)

و نظيره قوله سبحانه:( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ (4) ) (5) حيث خصص بما ورد في السنة:المرأة لا تزوّج علي عمّتها و خالتها. (6)

ص: 218


1- سوره 4 - آيه 11
2- .1 . النساء:11.
3- .2 . الوسائل: 17، الباب 7 من أبواب موانع الإرث، الحديث 1.
4- سوره 4 - آيه 24
5- .3 . النساء:24.
6- .1 . الوسائل: 14، الباب 30 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها.

و مع أنّ المشهور بين المتأخرين هو جواز التخصيص لكن ذهب الشيخ الطوسي إلي عدم الجواز، و تبعه المحقّق و قالا: بأنّا لا نسلّم انّ خبر الواحد دليل علي الإطلاق، لأنّ الدلالة علي العمل به، هو الإجماع علي استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة فإذا وجدت الدلالة القرآنية سقط وجوب العمل به. (1)

و حاصل استدلاله هو أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد قاصرة عن شمولها لما إذا كان في المورد دلالة قرآنية. فالكلام ليس في أصل حجّية الخبر الواحد بل في سعته. و أمّا التّخصيص بما عرفت من الروايات فلاتّفاق الأُمّة عليه فلعلّها كانت محفوفة بالقرائن.

و حاصل الكلام انّ كون الكتاب حجّة ليس ككون خبر الواحد حجّة بل هو من الحجج القطعية التي لا يعادله شيء إلاّ نفس كلام المعصوم(عليه السلام) لا الحاكي عنه الذي يحتمل أن يكون كلامَه أو كلام غيره، كيف و قد سمّي النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) القرآن في حديث الثقلين، بالثقل الأكبر و العترة الطاهرة بالثقل الأصغر،و عندئذ كيف يمكن رفع حكمه بمجرّد قول الثقة هذا و لا يعدّ ذلك خلفاً في حجّية خبر الواحد فانّ الكلام ليس في أصلها بل في سعتها.

ثمّ لو قلنا بجواز تخصيص القرآن بخبر الواحد لا نجيز نسخه به، لأنّ الكتاب قطعيُّ الثبوت و خبر الواحد ظنّي الصدور، فكيف يسوغ نسخ القطعي بالظنّي خصوصاً إذا كان النسخ كلياً لا جزئياً أي رافعاً للحكم من رأسه؟ و إليك المثال:

قال سبحانه:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَي الْمُتَّقِينَ (2) ). (3)8.

ص: 219


1- .2 . ع--دة الأُصول: 1 / 344، بتلخيص ; معارج الأُصول:114.
2- سوره 2 - آيه 180
3- .1 . البقرة:18.

يدلّ لحن الآية علي أنّ الوصية أمر قطعي لا تزول عبْر الزمان بشهادة قوله:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ (1) ) الحاكي عن الثبوت و اللزوم، كما أنّ تذييل الآية بقوله:( حَقًّا عَلَي الْمُتَّقِينَ (2) ) دليل علي أنّه حقّ ثابت علي خصوص المتّقين و ما هو حقّ لهم لا يُغيّر.

و مع ذلك فقد ذهب أكثر فقهاء السنة إلي أنّه منسوخ بخبر الواحد، أي ما روي عنه(صلي الله عليه و آله و سلم): »لا وصية لوارث«.

و قد بسطنا الكلام فيه في بعض مسفوراتنا الفقهية.

ص: 220


1- سوره 2 - آيه 178
2- سوره 2 - آيه 180

الفصل العاشر: دوران الأمر بين التّخصيص و النسخ

إذا ورد عام و خاص، و تردّد الخاص بين كونه مخصِّصاً أو ناسخاً أو منسوخاً، فللمسألة صور:

1. إذا ورد العام و الخاص متقارنين.

2. إذا ورد الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام.

3. إذا ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام.

4. إذا ورد العام بعد الخاص و قبل حضور وقت العمل بالخاص.

5. إذا ورد العام كذلك لكن بعد حضور وقت العمل بالخاص.

6. إذا جهل ورود الخاص، و أنّه هل ورد قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعد حضوره؟ و إليك تفاصيلها:

1. إذا ورد العام و الخاص متقارنين فلا شكّ في أنّ الخاص مخصِّص لا ناسخ، لأنّ النسخ إنّما يتصوّر بعد حضور وقت العمل بالعام، و ورود الخاص حينه أو بعده و المفروض أنّهما وردا معاً.

2. إذا ورد الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام، كما إذا قال المولي يوم الأربعاء: أكرم العلماء يوم الجمعة، و قال يوم الخميس: لا تكرم فساقهم في ذلك

ص: 221

اليوم، فهو مخصص لوروده قبل حضور وقت العمل بالعام.

3. إذا ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، كما إذا ورد العام في الكتاب أو علي لسان النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و ورد الخاص علي لسان الأئمّة(عليهم السلام) فمثلاً قال سبحانه:( وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ (1) ). (2)

و مقتضي الآية أنّهنّ يرثْنَ من جميع ما تركه الزوج حتي العقار، و لكن ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: »لا ترث النساء من عقار الدور شيئاً«. (3)

فمقتضي القاعدة هو كون الخاص ناسخاً، لأنّه ورد بعد حضور وقت العمل بالعام أزيد من قرن و لكنّه يشكل من وجهين:

الأوّل: إجماع الأُمّة علي أنّ النسخ مختص بعصر الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) و أنّ ما لم يُنسخ فهو باق مستمرّ إلي يوم القيامة، و هذا هو الوجه في عدم كونه ناسخاً.

الثاني: انّه اشتهر »انّه ما من عام إلاّ و قد خُصّ« فجعل المخصصات الكثيرة في لسان أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ناسخة يستلزم نسخ أكثر الأحكام و لو في بعض مدلولها.

سؤال: إذا قلنا بأنّ الخاص المتأخر مخصِّص يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، فقد كانت الآية الشريفة(آية الميراث) رائدة الأُمة أزيد من قرن مع أنّ المقصود الجدي كان علي خلافه.

الجواب: انّ المصلحة أوجبت بيان الأحكام تدريجاً، فالأحكام كلّها كانت مشروعة في عصر الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) نازلة عليه، غير أنّه(صلي الله عليه و آله و سلم)بَيّن ما بَيّن و أودع ما لم يُبيّن7.

ص: 222


1- سوره 4 - آيه 12
2- .1 . النساء:12.
3- .2 . الوسائل: 17، الباب 6 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 7.

إمّا لعدم وجود الفرصة السانحة للبيان أو لوجود المصلحة في تأخيره عند أوصيائه و الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)بعده، و ليس تأخير البيان أمراً قبيحاً بالذات حتي لا يغيّر حكمه و إنّما هو بالنسبة إلي القبح، كالمقتضي، نظير الكذب، فلو كان هناك مصلحة غالبة كنجاة المؤمن كان أمراً حسناً.

هذا هو الحقّ الذي يدركه من سبر سيرة النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) و المجتمع الإسلامي.

فأقصي ما في تأخير البيان وقوع المكلّف في المشقة أو تفويت المصلحة، و كلّها هيّنة إذا اقتضت المصلحة الكبري تأخير البيان.

4. إذا ورد العام بعد الخاص و قبل حضور وقت العمل بالخاص.

كما إذا قال في أوّل شهر شعبان: لا تكرم العالم الفاسق في شهر رمضان، ثمّ قال في اليوم الثامن و العشرين من شهر شعبان:أكرم العلماء في شهر رمضان، ففي هذه الصورة يتعيّن كون الخاص المتقدّم مخصّصاً للعام المتأخر، و لا وجه للنسخ، أي كون العام المتأخر ناسخاً للخاص المتقدّم لما عرفت من عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ(الخاص).

أضف إلي ذلك أنّه يلزم لغوية حكم الخاص في المقام، و هو لا يصدر من الحكيم العالم بعواقب الأُمور.

5. إذا ورد العام كذلك لكن بعد حضور وقت العمل بالخاص، كما إذا ورد قوله: أكرم العلماء في أثناء شهر رمضان، فمقتضي القاعدة كون العام المتأخّر ناسخاً للخاص المتقدّم لورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص، و لا يلزم منه اللغوية لفرض العمل به مدّة نصف شهر.

إلاّ أنّه يمكن أن يقال إنّ قلّة النسخ و كثرة التخصيص يجرّنا إلي القول بأنّه من قبيل التخصيص.

ص: 223

ثمّ الثمرة بين القولين واضحة، إذ علي القول بكون العام ناسخاً يكرم العالم الفاسق في باقي شهر رمضان، و علي القول الآخر لا يكرم في النصف الآخر كالنصف الأوّل.

6. إذا جُهل ورود الخاص، و أنّه هل ورد قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعد حضوره؟ الظاهر عدم ترتّب ثمرة علي القولين، لأنّه علي كلا التقديرين يعمل بالخاص في المستقبل سواء أ كان ناسخاً أم مخصصاً.

و أكثر ما ذكرناه فروض علمية ليس بأيدينا من الأدلّة ما يصلح للتمثيل بها، و لذلك تركنا ذكر بعض الصور الأُخري.

ص: 224

خاتمة المطاف: الخطابات الشفاهية

اشارة

هل الخطابات الشفاهية تختص بالحاضرين في مجلس التخاطب، أو تعمّ غيرهم من الغائبين و المعدومين؟ فمثلاً قوله سبحانه:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (1) ) (2). هل يختص الخطاب فيه بالحاضرين في مجلس التخاطب، أو يعم الغائبين و المعدومين أيضاً؟ إنّ محلّ النزاع يمكن أن يكون إحدي الجهات التالية:

الجهة الأُولي: هل يصحّ تعلّق التكليف بالمعدومين كتعلّقه بالموجودين سواء كان التكليف وارداً عن طريق الخطاب أو لا؟ الجهة الثانية: هل تصحّ مخاطبة المعدوم أو الغائب عن محل الخطاب بالألفاظ الموضوعة له، أو بنفس توجيه الكلام إليه أو لا؟ الجهة الثالثة: هل الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب تعمّ المعدوم و الغائب أو لا؟ و البحث علي الأُوليين عقلي، و علي الثالثة لغويّ، فلنأخذ كلّ واحدة بالبحث.

ص: 225


1- سوره 2 - آيه 183
2- . الوسائل: 17، الباب 6 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 7.
الجهة الأُولي: في صحّة تكليف المعدوم

لا شكّ أنّ المعدوم من حيث إنّه معدوم لا يصحّ تكليفه بتوجيه البعث و الزجر الفعليين إليه، و هذا من القضايا التي قياساتها معها.

نعم يمكن إنشاء التكليف علي العنوان(لا علي الأفراد) الشامل للموجود و الغائب و المعدوم إنشاءً بلا بعث و لا زجر فعليّ ليُصبح فعلياً بعد ما وجدت الشرائط و فقدت الموانع بلا حاجة إلي إنشاء جديد.

و علي هذا فلا مانع من صحّة تكليف المعدوم و شمول التكاليف القرآنية لعامة المكلّفين عَبْرَ القرون.

الجهة الثانية: إمكان خطاب المعدوم

لا شكّ انّه لا يصحّ خطاب المعدوم خطاباً حقيقيّاً لغاية التفهيم و التفهم، و لكن يمكن تصحيح خطاب المعدوم علي النحو الذي مرّ في صحّة تكليف المعدوم، و ذلك بتعلّق الخطاب انشاءً بالعنوان لا بالأفراد، ففي قوله سبحانه:( يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (1) ) (2) تعلّق الخطاب بعنوان الناس و له مصاديق كثيرة عبر الزمان، فمن كان واجداً للشرائط عند الخطاب يكون الخطاب في حقّه فعليّاً، و من كان فاقداً لها يكون الخطاب في حقّه إنشائيّاً، و سيُصبح فعلياً عند توفّر الشرائط.

و علي ذلك فلا مانع من شمول الخطابات القرآنية لعامة المكلّفين علي النحو الذي حرّرناه.

ص: 226


1- سوره 2 - آيه 21
2- .1 . البقرة: 21.
الجهة الثالثة: عمومية الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب

و هذا البحث لغوي، و لكنّه متفرع علي كون الخطاب حقيقياً أو إنشائياً.

فعلي الأوّل يختص بالموجودين، و علي الثاني يعمّ الموجودين و المعدومين، و علي ذلك فقوله سبحانه:( يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ (1) ) (2) يعم الموجودين و المعدومين علي النحو الذي بيّناه.

ثمرة البحث

تظهر ثمرة البحث في صحّة التمسّك بإطلاقات الكتاب، فلو شككنا في شرطية شيء أو جزئيته، فعلي القول باختصاص الخطاب بالحاضرين المشافهين لا يصح لغير المشافه التمسّك بالإطلاق الوارد في الخطاب، لأنّه أجنبي عنه، فلا يمكن له الاحتجاج علي المولي بإطلاق الخطاب و عدم تقيّده بالجزء و الشرط، و هذا بخلاف ما إذا كان الخطاب عامّاً للمشافه، و غير المشافه فهما سيّان في مقام التخاطب، فكما يصحّ للمشافه الاحتجاج بالإطلاق كذلك يصحّ لغيره أيضاً.

تمّ الكلام في المقصد الرابع و الحمد للّه

ص: 227


1- سوره 4 - آيه 1
2- .1 . النساء: 1 .

ص: 228

المقصد الخامس

اشارة

و فيه فصول:

الفصل الأوّل: في تحديد المطلق و المقيّد

الفصل الثاني: المطلق عقيب التقييد، حقيقة

الفصل الثالث: في مقومات الإطلاق أو مقدّمات الحكمة

الفصل الرابع: في حمل المطلق علي المقيّد الفصل

الخامس: في المجمل و المبين

ص: 229

ص: 230

الفصل الأوّل: في تحديد المطلق و المقيّد

قد عُرّف المطلق في ألسنة القدماء من الأُصوليين بانّه: ما دلّ علي شائع في جنسه; و المقيّد بخلافه.

و المراد من الموصول في قولهم »ما دلّ« هو اللفظ.

كما انّ المراد من قولهم: »علي شائع« هو الفرد الشائع، المتوفَّر وجودُه من ذلك الجنس، فخرج العام الاستغراقي و المجموعي حيث إنّ العام يدلّ علي جميع الأفراد بنحو العموم و الشمول، كما خرجت الأعلام فانّها لا تدلّ إلاّ علي الفرد المعيّن.

يلاحظ علي التعريف: بانّه ربما يكون مدلول المطلق، الماهيةَ المطلقة من دون أن تكون فيه رائحة الفرد فضلاً عن كونه متوفراً في جنسه كما في قوله سبحانه:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا (1) ) (2). فليس التعريف جامعاً.

و لأجل ذلك عدل الشهيد الثاني إلي تعريفه بشكل آخر و قال: إنّه اللفظ الدالّ علي الماهية من حيث هي لا بقيد وحدة و لا تعدد. (3)

يلاحظ عليه: بانّه غير جامع أيضاً لخروج النكرة عن تعريفه إذ ليس مفادها الماهية بما هي هي كما في قوله: جئني برجل.

ص: 231


1- سوره 2 - آيه 275
2- .1 . البقرة:275.
3- .2 . تمهيد القواعد: 1/222.

و اعتذر المحقّق الخراساني عن هذه الإشكالات بانّها تعاريف شرح الاسم و ليست تعاريف حقيقية.

و يمكن أن يقال انّه لا مساس لهذه التعاريف بالمطلق في علم الأُصول لانّها مبنيّة علي كون الإطلاق من المداليل اللفظية فعادوا يفسّرونه بما عرفت; و لكن الحقّ انّ الإطلاق من المداليل العقلية و ذلك لوجود الفرق بين العام و المطلق، فانّ العام مع قطع النظر عن تعلّق الحكم بموضوع، علي أقسام ثلاثة. فتارة يدلّ لفظه علي الشمول علي نحو الاستغراق، و أُخري علي نحو العام المجموعي، و ثالثة علي نحو العام البدلي، كلّ ذلك استلهاماً من اللفظ الموضوع و إن لم يتعلّق به الحكم. و علي ذلك فالعام بأقسامه الثلاثة من المداليل اللفظية.

و أمّا المطلق فيعتمد في استنباطه علي كون المتكلّم حكيماً غير ناقض لغرضه، إذ لو كان هناك قيد و كان المتكلّم في مقام البيان لجاء به، و علي ذلك يكون البحث عن الإطلاق في مباحث الألفاظ بحثاً استطراديّاً لكون مصبِّه هو اللفظ.

إذا عرفت ذلك فالأولي تعريف الإطلاق و التقييد بما يرجع إلي الحكم المتعلّق باللفظ، و يقال: إذا كان ما وقع تحت دائرة الحكم، تمامَ الموضوع للحكم بلا حيثية أُخري فهو مطلق لكونه مرسلاً عن القيد في موضوعيته، و إلاّ فهو مقيد.

فإذا كان هذا هو معني الإطلاق، فالمقوم للإطلاق و التقييد هو كون الشيء تمامَ الموضوع للحكم و عدمه، سواء أ كان الموضوع، دالاّ علي الماهية المطلقة، أو علي الفرد المتوفَّر وجوده من ذلك الجنس، أو علي الفرد المعين(العلم) إذا كان له أحوال و أوضاع، كما هو الحال في البيت العتيق و مشاهد الحجّ كعرفات و المزدلفة و الصفا و المروة حيث يصحّ التمسّك بإطلاق أدلّة هذه الموضوعات الشخصية.

و بذلك يتبين أنّ الإطلاق و التقييد أمران إضافيان حيث يمكن أن يكون

ص: 232

الحكم مطلقاً من جانب و مقيّداً من جانب آخر، كما إذا قال: أكرم إنساناً في المسجد، فبما انّ الموضوع نفس الإنسان من دون تقييده بصنف فهو مطلق، و بما انّ الإكرام مقيّد بكونه في المسجد فهو مقيد.

فإذا كان الميزان في الإطلاق و التقييد كون ما وقع تحت دائرة الحكم، تمام الموضوع من دون فرق بين كونه دالاً علي الطبيعة أو الفرد المنتشر أو العلم الشخصي فنحن في غني عن البحث في مفاهيم »اسم الجنس« و»علمه« و»النكرة« إلي غير ذلك من المباحث التي تطرّق إليها الأُصوليون (1) في ذلك المقام لما عرفت من وجود الفرق بين العموم و الإطلاق، فالعموم مستفاد من اللفظ، و الإطلاق مستفاد بحكم العقل من خلال كون الشيء تمام الموضوع، سواء أ كان الموضوع هو اسم الجنس أو علمه أو النكرة أو العلم الشخصي.

ثمّ إنّ الكلام في اسم الجنس جرّ القوم إلي البحث عن الماهيات و أقسامها الثلاثة المعروفة من »لا بشرط« و »بشرط شيء« و »بشرط لا«، لكنها بحوث فلسفية خارجة عن نطاق البحث الأُصولي، و البحث فيها إنّما يوجب التطويل بلا داع.

و قد بسطنا الكلام فيها في محاضراتنا الأُصولية. (2)0.

ص: 233


1- .1 . كالمحقّق الخراساني ومن جاء بعده وكان الجميع فيما حققوه عيالاً علي نجم الأئمّة الرضي الاسترابادي في شرح الكافية، فلاحظ.
2- .2 . المحصول في علم الأُصول: 2 / 593 - 600.

الفصل الثاني: المطلق عقيب التقييد، حقيقة

عرّفوا المطلق بانّه موضوع للفرد الشائع في جنسه علي وجه يكون الشيوع مأخوذاً في مفهومه، و بذلك يترتّب عليه أمران:

1. انّ الإطلاق عندهم من أقسام الدلالة اللفظية، و لا يحتاج في استفادة الإطلاق إلاّ إلي عدم القرينة علي التقييد كما هو الحال في عامة الدلالات اللفظية.

2. انّ المطلق بعد التقييد يكون مجازاً، لزوال الشيوع الذي هو مدلول لفظي للمطلق بعد التقييد.

و استقر رأي المشهور علي هذا إلي عصر سلطان العلماء (1) و هو أوّل من خالفهم و ذهب إلي انّ المطلق موضوع للماهية المبهمة من جميع الجهات إلاّ ذاتها و ذاتياتها، و ليس الشيوع و السريان جزءاً لمدلول المطلق، بحيث يدلّ عليه بالدلالة اللفظية، و يترتب علي ذلك أمران علي طرف النقيض من الأمرين السابقين أعني:

أ. كون المطلق عقيب التقييد حقيقة لعدم أخذ الشمول في معناه حتي

ص: 234


1- . هو الحسين بن رفيع الدين محمد بن محمود بن علي المرعشي الحسيني الآملي الأصل، الأصفهاني المنشأ، الوزير المعروف بسلطان العلماء و بخليفة السلطان أحد أعيان الإمامية في القرن الحادي عشر، ولد عام 1001 و توفي عام 1064 و له مؤلفات كثيرة لاحظ طبقات الفقهاء: 11/94 96 برقم 3371.

يستعمل في غير موضوعه.

ب. انّ الدلالة الإطلاقية دلالة عقلية تعتمد علي فعل المتكلّم الحكيم إذ لو كان هناك قيد لما تركه.

أقول: إنّ استعمال المطلق بعد التقييد حقيقة و إن قلنا بمذهب المشهور و أخذ الشمول و السريان في مدلوله، لما عرفت في مبحث العام و الخاص انّ المقام من قبيل تعدد الدالّ و المدلول و انّ كلّ لفظ مستعمل بالإرادة الاستعمالية في معناه، فإذا قال القائل: اعتق رقبة مؤمنة، فالرقبة استعملت في معناها الحقيقي الذي استبطن معني الشمول و السريان حسب مسلكهم و تقييده بالمؤمنة لا يوجب استعمالها في غير الشمول أي الرقبة المؤمنة، و قد عرفت تفصيل ذلك عند البحث في كون العام حقيقة بعد التخصيص. (1)

فإذا كان هذا حال التقييد المتصل فكيف الحال في التقييد المنفصل؟! و يرد علي مسلك سلطان العلماء أنّه و إن أصاب في نفي الشمول و السريان عن الإطلاق و اكتفي بكون المطلق هو الماهية المبهمة من جميع الجهات إلاّ ذاتها و ذاتياتها، لكنّك عرفت انّ دائرة المطلق أوسع ممّا ذكره، بل ربّما يكون النكرة و العلم الشخصي موضع مصبّ الإطلاق.

فالأولي هو حذف البحث عن مفاد المطلق و انّه هل هو الماهية بشرط السريان و الشمول أو الماهية المبهمة. و التركيز علي واقع المطلق و هو أن يكون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحكم سواء أ كان الموضوع ماهية ملحوظاً فيها الشمول و السريان أو ماهية مبهمة أو علماً.ص.

ص: 235


1- .1 . لاحظ: الفصل الثاني من المقصد الرابع أعني العام والخاص.

الفصل الثالث: في مقومات الإطلاق أو مقدّمات الحكمة

اشارة

قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ الدلالة الإطلاقية دلالة عقلية و ليست دلالة لفظية، و علي ذلك لا يستقل العقل بكون ما وقع تحت دائرة الإطلاق تمام الموضوع إلاّ إذا ثبتت مقدمات ثلاث:

المقدّمة الأُولي: كون المتكلّم في مقام البيان

توضيحها: انّ المتكلّم قد يكون في مقام بيان تشريع حكم من الأحكام من دون نظر إلي خصوصيات موضوعه و شرائطه و عندئذ لا يعدّ الاخلال ببيان الشرائط مخلاً بالغرض و منافياً للحكمة.

و هذا نظير ما إذا قال الطبيب للمريض الذي رآه في الشارع و رأي فيه انحراف الصحة: »يجب عليك أن تشرب الدواء« فهو بصدد بيان لبّ غرضه، لا خصوصياته و جزئياته، و أمّا ما هو ذاك الدواء و ما خصوصياته؟ فهو موكول إلي وقت آخر، و لا يتحقق ذلك إلاّ باجراء الفحص و المعاينة و كتابة الوصفة، و في هذه الصورة لا يتمّ التمسّك بالإطلاق، إذ لا يعدّ الترك مخالفاً للغرض.

ص: 236

و علي ذلك لا يصحّ التمسّك بإطلاق قوله: »الغنم حلال« علي حلية الجلاّل منه، و لا المغصوب، و لا الموطوء، لانّ الدليل بصدد بيان حكم الطبيعة من حيث هي هي لا حكمها باعتبار عوارضها، فعدم ذكرها في المقام لا يخلّ بالمقصود.

و قد يكون في مقام بيان الحكم مع ما لموضوعه من الخصوصيات، فترك ذكر القيد عند ذاك آية كونه مطلقاً كما في قوله: لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع و السجود. (1) فعدم ذكر شيء وراء الخمسة، آية عدم كونه مخلاً عند النسيان.

المقدّمة الثانية: انتفاء القرينة

القرينة إمّا متّصلة أو منفصلة، فالمتصلة تمنع من انعقاد الإطلاق، و في الحقيقة يعد عدمها من مقوماته و محققاته، بخلاف القرينة المنفصلة فانّها لا تمنع عن انعقاد الإطلاق لأجل انفصالها، و إنّما تمنع عن حجية الإطلاق، و قد أوضحنا ذلك في المخصص المنفصل و المتّصل.

ثمّ إنّ عدم انصراف اللفظ إلي معني خاص من شعب هذه المقدّمة فانّ الانصراف علي قسمين بدويّ يزول بالتأمّل، و استمراري لا يزول به.

أمّا الأوّل فلا يمنع عن انعقاد الإطلاق و لا عن حجّية ظهوره لافتراض زواله بالتأمّل.

و أمّا الثاني فبما انّ الانصراف بحكم القرينة المنفصلة فعدمها من مقدّمات حجّية الإطلاق، كما إذا صار اللفظ لأجل كثرة استعماله في المعني منصرفاً إليه كما

ص: 237


1- .1 . الوسائل: 4، الباب10 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث4.

في قوله(عليه السلام):»انّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كلّ شيء منه فاسد«.

فاللفظ(حرام أكله) و إن كان يشمل الإنسان لحرمة أكل لحمه لكنّه منصرف عند العرف إلي الحيوان غير الإنسان، فمنصرف كلام الإمام هو تقسيم الحيوان العرفي إلي قسمين لا الحيوان بالمعني اللغوي الذي يشمل كلّ ذي روح.

المقدّمة الثالثة: انتفاء قدر المتيقّن في مقام التخاطب

لو كان في الكلام قدر متيقّن في مقام التخاطب بحيث يصحّ للمتكلّم أن يعتمد عليه في عدم الإتيان بالقيد يكون مخلاً بحجّية الإطلاق أو انعقاده. (1)

نعم فرق بين وجوده في مقام التخاطب فيخلُّ، و كونه في خارج مقام التخاطب فلا يخل; و ذلك لانّه لو كان القدر المتيقن بالمعني الثاني مخلاً بالإطلاق لزم عدم صحّة التمسّك بالإطلاق في مورد من الموارد إذ ما من مورد يكون للكلام قدر متيقّن في خارج مقام التخاطب.

ص: 238


1- . الوسائل:الجزء4، الباب10 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث4.

الفصل الرابع: في حمل المطلق علي المقيّد

اشارة

انّ المهم في المقام تمييز الموارد التي يجب هناك حمل المطلق فيها علي المقيد عما لا يجب.

فنقول: إذا ورد مطلق و مقيّد يكون بينهما تناف، كما إذا قال: »إن ظاهرت فاعتق رقبة، ثمّ قال: إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة«. حيث إنّ الأوّل يدلّ علي كفاية عتق مطلق الرقبة، و الثاني علي لزوم كونها مؤمنة يقع الكلام في كيفية رفع التنافي بينهما لانّ الحكم الواحد لا يمكن أن يكون له موضوعان مختلفان من حيث السعة و الضيق، فالمطلوب الأكيد الذي لا يعدل عنه المولي عند حصول الظهار إمّا هو عتق مطلق الرقبة أو خصوص المؤمنة، و المشهور بين العلماء هو رفع التنافي بحمل المطلق علي المقيّد.

و من هنا يعلم انّ الداعي إلي حمله عليه هو وجود التنافي بين الحكمين، الذي هو وليد إحراز وحدة الحكم، فيقال انّ الحكم الواحد لا بدّ له من موضوع واحد، و هو يتحقّق بحمل المطلق علي المقيّد.

فإذا كان المدار للحمل هو إحراز وحدة الحكم فنقول: إنّ للمسألة صوراً يختلف حكمه حسب اختلاف إحراز وحدة الحكم و عدمه، و إليك بيان الصور:

الصورة الأُولي: إذا كان السبب مذكوراً في كلا الدليلين، و كان السبب واحداً كما في المثال السابق، فيحمل المطلق علي المقيّد، لانّ وحدة السبب كاشفة

ص: 239

عن وحدة الحكم، و لا يعقل لحكم واحد إلاّ موضوع واحد.

فإن قلت: إنّ هناك طريقاً آخر و هو حمل المقيّد علي أفضل الأفراد، و التخيير في مقام الامتثال بين عتق المؤمنة و الكافرة، و إن كان الأفضل هو عتق المؤمنة.

قلت: إنّ الرائج في دائرة التقنين هو فصل المقيّدات عن المطلقات، و المخصصات عن العمومات، إمّا لأجل قصور العلم و العثور علي لزوم التخصيص و التقييد بعد مضي زمن كما هو الحال في المجالس التقنينية البشرية، أو قيام المصلحة علي بيان الأحكام علي وجه التدريج كما هو الحال في التشريعات السماوية، فهذه قرينة تدعم كون حمل المطلق علي المقيّد أرجح من حمل المقيد علي أفضل الأفراد.

الصورة الثانية: إذا كان السبب مذكوراً في كلا الدليلين، و كان السبب في كلّ منهما مغايراً للآخر، كما إذا قال: إن أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة، و إن ظاهرت فاعتق رقبة، فلا وجه للحمل لعدم وحدة الحكم المستلزم لعدم التنافي بين الحكمين، لإمكان أن يكون لكلّ حكم موضوع خاص.

الصورة الثالثة: إذا كان السبب مذكوراً في واحد منها، سواء ذكر السبب في المطلق أو في المقيد، كما إذا قال: أعتق رقبة، و قال: إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة، فالحقّ عدم الحمل لعدم إحراز المنافاة، لاحتمال أن يكون هناك واجبان مستقلان أحدهما بعد الظهار و الآخر مطلقاً، سواء أ ظاهر أم لا.

الصورة الرابعة: إذا لم يذكر فيه السبب، و لها أقسام ثلاثة:

القسم الأوّل: أن يكون الدليلان مثبتين، كما إذا قال: اعتق رقبة و اعتق رقبة مؤمنة.

القسم الثاني: أن يكونا نافيين، كما إذا قال: لا تشرب المسكر، و لا تشرب الخمر.

ص: 240

القسم الثالث: أن يكون أحدهما مثبتاً و الآخر نافياً، كما إذا قال: اعتق رقبة، و لا تعتق رقبة كافرة.

و إليك الكلام في الأقسام الثلاثة:

أمّا الأوّل: فإن أحرزت وحدة الحكم بأيّ سبب أمكن، يحمل المطلق علي المقيّد بلا كلام، و إن كان إحراز وحدتها بلا ذكر السبب أمراً مشكلاً، لكن المفروض هو إحراز و حدّة الحكم.

و أمّا إذا لم تحرز وحدة الحكم فإنّ هناك وجوهاً ثلاثة:

أ:حمل المطلق علي المقيّد و امتثال التكليفين بفعل واحد أي بعتق الرقبة المؤمنة.

ب: حمل المقيّد علي أفضل الأفراد، و التخيير في مقام الامتثال بين عتق المؤمنة و الكافرة و إن كان الأفضل هو عتق المؤمنة.

ج: التحفّظ علي الوجوبين و القول بأنّ هنا تكليفين إلزاميين،و مقتضي ذلك وجوب القيام بعتق رقبتين يكفي في أحدهما عتق مطلق الرقبة، و يلزم في الثاني عتق رقبة مؤمنة.

فمقتضي القاعدة هو العمل بالوجه الثالث، لأنّ المكلّف بعد عتق الرقبة المؤمنة إذا قلنا في مقام الجمع بالوجه الأوّل، أو بعد عتق مطلق الرقبة إذا قلنا في مقام الجمع بالوجه الثاني، يشك في سقوط التكليف المعلوم في البين، و لا تحرز البراءة إلاّ بالعمل علي الوجه الثالث أي عتق رقبتين يشترط في أحدهما الإيمان دون الآخر.

و أمّا الثاني: أعني إذا كان الدليلان نافيين، كقوله: لا تشرب الخمر و لا تشرب المسكر فلا وجه لحمل المطلق علي المقيد بعد عدم إحراز وحدة الحكم،

ص: 241

فيبقي كلّ بحاله و لا تلزم اللغوية بعد حمل النهي علي شرب الخمر علي الحرمة المغلّظة.

و أمّا الثالث: و له نوعان:

النوع الأوّل: أن يكون المطلق نافياً و المقيد مثبتاً فلا محيص عن حمل المطلق علي المقيد لوجود التنافي بين الحكمين، نظير قولنا: لا تعتق رقبة، و اعتق رقبة مؤمنة.

النوع الثاني: أن يكون المطلق مثبتاً و المقيد نافياً، كما إذا قال: اعتق رقبة و لا تعتق رقبة كافرة فيحمل المطلق علي المقيد أيضاً بنفس الدليل، أي لوجود التنافي بين الحكمين.

تنبيهان
الأوّل: المطلق و المقيد في الأحكام الوضعية

إنّ الملاك في حمل المطلق علي المقيد هو إحراز وحدة الحكم و بالتالي وجود التنافي بين المطلق و المقيد من دون فرق بين التكليفية و الوضعية.

أمّا التكليفية فقد مرّ البحث فيها.

و أمّا الوضعية فربما لا يحرز التنافي كما إذا جعل المانع في أحد الدليلين مطلقَ أجزاء ما لا يؤكل لحمه، و في دليل آخر خصوص وبره، فلا يحمل لعدم التنافي بين أن يكون الوبر مانعاً و كون مطلق أجزائه أيضاً مثله.

و ربما يحرز التنافي، كما إذا قال: لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه ثمّ قال:

ص: 242

صلّ في وبر الأسد. لوجود التنافي بين مانعية مطلق وبر ما لا يؤكل لحمه و عدم مانعية خصوص وبر الأسد.

الثاني: حكم المستحبات

ذهب المشهور في المستحبات إلي عدم الحمل بمعني عدم كون المقيد مقوِّماً للعمل الاستحبابي، و قد ذكروا له وجهين:

الوجه الأوّل: الغالب في المستحبات هو اختلاف درجات أفرادها من حيث الفضيلة فالمطلق و المقيد كلاهما مطلوبان لكن الفرد المقيد أفضل فيجوز الأخذ بالمطلق علي إطلاقه، و المقيد بقيده و لكلّ مرتبة فضلها.

الوجه الثاني: ثبوت التسامح في أدلّة السنن و كأنّ عدم رفع اليد من دليل استحباب المطلق بعد مجيء دليل المقيد، و حمله علي تأكّد استحبابه، من التسامح فيها.

و الأولي أن يقال: انّ الأمر الاستحبابي في المقيّد لو كان ناظراً إلي الشرطية أو المانعية أو القاطعية وجب التقييد، كما أنّه إذا علم تعدّد المطلوب و كثرة المراتب فلا يجب و إلاّ فيتوقّف و لا محيص إلاّ من العمل بالاحتياط في مقام العمل، فمن نذر أن يزور الحسين(عليه السلام)في عرفة، و قد ورد دليل علي زيارته تحت السماء فدار أمر القيد بين الأمرين فلا يسقط التكليف إلاّ بزيارته تحت السماء.

ص: 243

الفصل الخامس: المجمل و المبين

اشارة

عرّف المجمل بأنّه ما لم تتضح دلالته و يقابله المبين.

و المقصود من المجمل ما جهل فيه مراد المتكلّم و مقصوده إذا كان لفظاً، أو جهل فيه مراد الفاعل إذا كان فعلاً.

و علي ذلك فالمجمل هو اللّفظ أو الفعل الذي لا ظاهر له، و المبيّن ما له ظاهر يدلّ علي مقصود قائله أو فاعله.

و بذلك تظهر صحّة تقسيم المجمل إلي اللفظ و الفعل، و لأجل صحّة هذا التقسيم قالوا: إنّ فعل المعصوم في القربيّات يدلّ علي الاستحباب، و في العاديات علي الجواز، و لا يدلّ علي الوجوب، فلو صلّي مع سورة كاملة، أو جلسة الاستراحة، يكشف ذلك عن استحباب العمل لا عن وجوبه.

ثمّ إنّ لإجمال الكلام أسباباً كثيرة منها:

1. إجمال مفرداته كاليد الواردة في آية السرقة، قال سبحانه:( وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (1) ) (2)، فانّ اليد تطلق علي خصوص الأصابع، و علي الكف إلي الزند ،و عليه إلي المرفق، و عليه إلي المنكب، فالآية مجملة، فتعيين واحد من تلك المصاديق بحاجة إلي دليل.

ص: 244


1- سوره 5 - آيه 38
2- .1 . المائدة: 38 .

2. الإجمال في متعلّق الحكم المحذوف كما في كلّ مورد تعلّق الحكم بالأعيان كقوله سبحانه:( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلي عَلَيْكُمْ (1) ) (2) فهل المتعلّق هو الأكل، أو البيع، أو جميع التصرفات؟ و منه يعلم وجود الإجمال في قوله سبحانه:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَي النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ (3) ). (4)

فهل المحرم أكلها، أو بيعها، أو الانتفاع منها بكل طريق؟ 3. تردّد الكلام بين الادّعاء و الحقيقة كما في قوله:»لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب« فهل المراد نفي الصلاة بتاتاً، أو نفي صحّتها، أو كمالها تنزيلاً للموجود بمنزلة المعدوم؟ و منه يظهر وجود الإجمال في مثل قوله: »لا صلاة إلاّ بطهور« أو »لا بيع إلاّ في ملك«.

و يمكن أن يكون بعض ما ذكرنا مجملاً عند فقيه و مبيّناً عند فقيه آخر، و بذلك يظهر أنّ المجمل و المبين من الأوصاف الإضافية.

تتميم

إذا وقفت علي معني المجمل و المبين، فلنذكر سائر العنوانات:

النص: و هو ما لا يحتمل سوي معني واحد، فلو حاول المتكلّم حمله علي غير ذلك المعني لا يقبل منه و يعد متهافتاً متناقضاً، مثل قوله سبحانه:( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (5) ) (6)، فإنّ دلالة الآية علي كون

ص: 245


1- سوره 5 - آيه 1
2- .1 . المائدة:1.
3- سوره 5 - آيه 3
4- .2 . النساء:11.
5- سوره 4 - آيه 11
6- . المائدة: 3.

نصيب الذكر ضعف نصيب الأُنثي ممّا لا تحتمل وجهاً آخر.

الظاهر: ما يتبادر منه معني خاص، لكن علي وجه لو حاول المتكلّم تأويله لقبل منه، و هذا كالعام الظاهر في العموم القابل للتخصيص و إرادة خلاف الظاهر منه و ربّما يعدّ منه ظهور صيغة الأمر في الوجوب، فلو أُريد منها الندب بقرينة جاز فالتأويل في النص غير مقبول، و في الظاهر مقبول.

المحكم: هو الذي وصفه سبحانه بانّه أُمّ الكتاب كما قال :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ (1) ). (2)

و علي هذا فالمحكم هو الذي يرجع إليه في فهم المتشابه، كالآيات الدالّة علي الأُصول العقائدية و الأخلاقية التي لا يمسّها النسخ و التخصيص، نظير الآيات النازلة في تنزيهه سبحانه و صفاته و أفعاله.

المتشابه: ما احتمل أكثر من معني.و ليس ظاهراً في واحد منها، أو هو الذي خفي المراد منه في بادئ النظر. و يظهر المراد بارجاعه إلي الحكم.

المؤوّل: و هو ما أُريد منه خلاف ظاهره في بدء النظر، كقوله سبحانه:( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (3) ) (4).و المراد هو مجيء أمره سبحانه و ظهور عظمته لقوله سبحانه في آية أُخري:( إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (5) ) (6) إلي غير ذلك من الآيات الرافعة للإجمال.

تمّ الكلام بحمد اللّه في الجزء الأوّل من كتابنا الوسيط بقلم مؤلّفه جعفر السبحاني 12 جمادي الآخرة من شهور عام 1421ه2.

ص: 246


1- سوره 3 - آيه 7
2- .2 . آل عمران:7.
3- سوره 89 - آيه 22
4- .3 . هود: 76.
5- سوره 11 - آيه 76
6- .1 . الفجر:22.

المجلد 2

اشارة

عنوان قراردادي:الوسيط في اصول الفقه: كتاب يبحث عن الادلة اللفظية و العقلية بين الايجاز و الاطناب

عنوان و نام پديدآور:الوسيط في اصول الفقه/ تاليف جعفر السبحاني

مشخصات نشر:دارالجواد(ع) - بيروت - لبنان

مشخصات ظاهري:2ج.

شابك:160000 ريال: ج.1 978-600-316-066-8 : ؛ 160000 ريال: ج.2 978-600-316-067-5 : ؛ 250000 ريال(ج.2،چاپ سوم)

وضعيت فهرست نويسي:فاپا

يادداشت:فارسي- عربي.

يادداشت:ج.2 (چاپ اول: 1392).

يادداشت:ج.2(چاپ سوم : 1395).

يادداشت:عنوان ديگر: الوسيط في اصول الفقه.

يادداشت:كتابنامه.

عنوان ديگر:الوسيط في اصول الفقه.

موضوع:اصول فقه شيعه

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

مقدّمة المؤلّف

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد للّه الذي عجزت العقول عن كنه معرفته، و قصرت الألباب عن الإحاطة بكماله، و الصّلاة و السّلام علي أفضل خليقته و أشرف بريّته أبي القاسم المصطفي محمّد الّذي بعثه بالحقّ ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلي عبادته، و من طاعة الشيطان إلي طاعته ، و علي آله الطيّبين الطّاهرين الذين هم موضع سرّه، و عيبة علمه، و موئلُ حُكْمِه، و كهوف كتبه، و جبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، و أذهب ارتعاد فرائصه.

أمّا بعد، فإنّ خلود الشريعة و بقاءها علي مرّ الزمان و مسايرتها للحضارات الإنسانية، و استغناءها عن كلّ تشريع، رهن أمرين:

الأوّل: احتواء التشريع علي مادة حيوية خلاّقة للتفاصيل، بحيث يتمكّن علماء الأُمّة من استنباط كلّ حكم يحتاج إليه المجتمع البشري في كلّ عصر من الأعصار.

الثاني: فتح باب الاجتهاد و عدم إيصاده، ليقوم الفقهاء بدورهم في استنباط الأحكام التي تنسجم مع تطور الحياة و مواكبة العصر.

ص: 5

و من مفاخر الشيعة الإمامية هو عدم ايصاد باب الاجتهاد منذ رحيل النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)إلي يومنا هذا، فلذلك صار هذا سبباً لحفظ غضاضة الفقه و طراوته عندهم.

و مما لا شكّ فيه انّ أُصول الفقه يحظي بأهمية كبيرة في استنباط الأحكام الشرعية، ففي ظلّ قواعده يُتاح للمجتهد أن يُبدي رأيه في كافة الحوادث و المستجدّات.

و لقد قام بالتأليف حول هذه المهمة واحد بعد واحد من أُولي البصائر، و كابر بعد كابر من الأعاظم و الفطاحل، فللّه درّ عصابة ألّفوا فأسّسوا، و صنّفوا فأفادوا، و قد كانت كتبهم محور الدراسة جيلاً بعد جيل.

غير انّ لكلّ عصر لغتَه، و لكلّ مجتمع حاجتَه، هذا و ذاك ، ممّا يُلزم أساتذة الحوزة و المشرفين علي المناهج الدراسية بإعادة النظر في ما أُلّف و صار محوراً للدراسة، لكي يُنتفع بنقاط قوته و يضاف إليه مسائل جديدة تلبّي حاجات عصره، حتي يكون التأليف كحلقة متسلسلة من الجيل السابق إلي الجيل اللاحق.

و هذا، ما قمت به بفضل من اللّه خلال تدريسي لأُصول الفقه أزيد من خمسين سنة فجاء متمثّلاً في هذه الكتب:

1. »الموجز « أعددته للمبتدئين في علم الأُصول في جزء واحد.

2. »الوسيط« أعددته لمن أراد الخوض في علم الأُصول في جزءين بعد انّ كوّن فكرة عامّة عن المسائل الأُصوليةِ عبر دراسته لكتاب »الموجز«.

و أمّا المرحلة النهائية فقد ألقيت محاضرات لدورات متتابعة حتي انتهي بنا الأمر إلي الدورة الخامسة كلّ ذلك بفضل منه سبحانه فجاءت خلاصتها في كتابين:

ص: 6

1. »المحصول«طبع في أربعة أجزاء.

2. »إرشاد العقول إلي مباحث الأُصول«طبع منه إلي الآن جزءان.

و انبري بعض الفضلاء من حضار بحوثي »حفظهم اللّه« إلي كتابتها و تدوينها.

و التمس من طالع» الوسيط« بكلا جزأيه أن يرشدني إلي مواضع الخلل فيه »فانّ أحبّ إخواني من أهدي إليَّ عيوبي«.

كما أرجو من اللّه سبحانه أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.

جعفر السبحاني قم مؤسسة الإمام الصادق(عليه السلام) 17رمضان المبارك1421ه

ص: 7

ص: 8

المقصد السادس: في الحجج و الأمارات

اشارة

1. العقل 2. الإجماع 3. الكتاب 4. السنّة 5. الإجماع المنقول بخبر الواحد 6. الشهرة الفتوائية 7. قول اللغوي

ص: 9

ص: 10

تمهيد

يعلم الفقيه أنّ بينه و بين ربّه حججاً معتبرة تقطع العذر و تُنجّز الواقع، غير انّه لا يعلم في بدء الأمر خصوصياتها و معالمها، فيبعثه العقل إلي التعرّف عليها بالتفصيل عن كثب، و هي عند الشيعة الإمامية أربعة:

الكتاب، السنّة، الإجماع، و العقل التي يدور عليها رحي الفقه و الاستنباط، و أمّا سائر الأمارات فهي غير معتبرة عندنا و إن كانت معتبرة عند الآخرين.

إذا كانت الحجج منحصرة عندنا في الأدلّة الأربعة كان اللازم علي الأُصوليّين المتأخّرين الذين أفاضوا القول في علم الأُصول أن يعقدوا لكلّ منها فصلاً خاصاً ليتعرّف عليه المبتدئ و يقف علي معالمه و حدوده، و لكنّهم لم يقوموا بهذه المهمة.

و مع ذلك كلّه لم تفتهم الإشارةُ إليها في ثنايا بحوثهم حيث أدرجوا البحث عن الكتاب في مبحث حجّية الظواهر علي الإطلاق، و البحث عن السنّة في مبحث حجّية خبر الواحد، كما أدغموا البحث عن الإجماع محصَّلاً كان أو منقولاً في مبحث الإجماع المنقول، و البحث عن حجّية العقل في مبحث القطع. و لكن مرّوا عليها مروراً خاطفاً دون التركيز عليها. و لأجل الأهميّة التي تمتعت بها الأدلّة الأربعة عقدنا لكلّ واحد عنواناً خاصاً متميزاً عن غيره و مع ذلك فلصيانة المنهج السائد في الكتب الأُصولية عقدنا الفصول كالتالي:

العقل، الإجماع المحصّل، الكتاب، و السنّة.

و إن كان الأنسب تقدّم الكتاب و السنّة علي الآخرين.

ص: 11

الأدلّة الأربعة

1- العقل أحد مصادر التشريع
اشارة

انّ العقل أحد الحجج الأربع الّذي اتّفق أصحابنا إلاّ قليلاً منهم علي حجّيته في مجال استنباط الحكم الشرعي، ثمّ إنّ البحث عن حجّية حكم العقل يقع في مقامين:

الأوّل: حجّية حكم العقل بما انّه من مصاديق القطع.

الثاني: كشفه عن حكم الشارع.

أمّا الأوّل فالبحث فيه من فروع البحث عن حجّية القطع مطلقاً (1) و انّ حجّيته ذاتية. و هذا هو الذي بسط الأُصوليون الكلام فيه في رسالة القطع و بحثوا عن حجّيته بحثاً مُسْهباً.

و أمّا الثاني فيرجع فيه البحث إلي وجود الملازمة بين حكمي العقل و الشرع و عدمه و هذا هو الذي اختصروا الكلام فيه غالباً (2). دون أن يعقدوا له فصلاً مستقلاً، و لأجل مزيد ايضاح، نفرد لكل بحثاً مستقلاً في ضمن مقامين:

ص: 12


1- . سواء أ كان مصدره العقل أو غيره.
2- . إلاّ المحقّق القمي في قوانينه و صاحب الفصول في فصوله.
المقام الأوّل: في أحكام القطع و أقسامه
اشارة

و فيه أُمور:

الأمر الاوّل: في حجّية القطع

لا شكّ في وجوب متابعة القطع و العمل علي وفقه ما دام موجوداً، لأنّه بنفسه طريق إلي الواقع، و هو حجّة عقلية، و ليس حجّة منطقية أو أُصولية، و لإيضاح الحال نذكر أقسام الحجّة، فنقول: إنّ الحجّة علي أقسام:

1. الحجّة العقلية.

2. الحجّة المنطقية.

3. الحجّة الأُصولية.

أمّا الأُولي، فهي عبارة عمّا يحتج به المولي علي العبد و بالعكس، و بعبارة أُخري ما يكون قاطعاً للعذر إذا أصاب و معذِّراً إذا أخطأ، و القطع بهذا المعني حجّة ، حيث يستقل به العقل و يبعث القاطعَ إلي العمل وفْقَه و يُحذّره عن المخالفة، و ما هذا شأنه، فهو حجّة بالذات، غنيّ عن جعل الحجّية له.

و بهذا يمتاز القطع عن الظن، فإنّ العقل لا يستقلُّ بالعمل علي وفق الظن و لا يحذِّر عن المخالفة لعدم انكشاف الواقع لدي الظن، فلا يكون حجّة إلاّ إذا أُفيضت له الحجّية من قِبَلِ المولي، بخلاف القطع فانّ العقل مستقل بالعمل علي

ص: 13

وفقه و التحذير عن مخالفته لانكشاف الواقع، و إلي هذا يرجع قول القائل بأنّ حجّية القطع ذاتية دون الظن فإنّها عرضية.

و بذلك يتبيّن أنّ للقطع ثلاث خصائص:

1. كاشفيته عن الواقع و لو عند القاطع.

2. منجّزيته عند الإصابة للحكم الواقعي بحيث لو أطاع يُثاب و لو عصي يعاقَب.

3. معذِّريته عند عدم الإصابة، فيُعذَّر القاطع إذا أخطأ في قطعه و بان خلافه.

و أمّا الثانية، فهي عبارة عن كون الحدّ الوسط في القياس المنطقي علّة لثبوت الأكبر للأصغر أو معلولاً لثبوته له، فيوصف بالحجّة المنطقية، كالتغيّر الذي هو علّة لثبوت الحدوث للعالم.

يقال:العالم متغيّر، و كلّ متغيّر حادث، فالعالم حادث.

و القطع بهذا المعني ليس حجّة، لأنّه ليس علّة لثبوت الحكم للموضوع و لا معلولاً له، لأنّ الحكم تابع لموضوعه، فإن كان الموضوع موجوداً يثبت له الحكم سواء أ كان هنا قطع أم لا، و إن لم يكن موجوداً فلا يثبت له، فليس للقطع دور في ثبوت الحكم و لذلك يُعدُّ تنظيم القياس بتوسيط القطع باطلاً، مثل قولك: هذا مقطوع الخمرية، و كلّ مقطوع الخمرية حرام فهذا حرام، و ذلك لكذب الكبري، فليس الحرام إلاّ نفس الخمر لا خصوص مقطوع الخمرية.

و أمّا الثالثة، فهي عبارة عمّا لا يستقل العقل بالاحتجاج به غير أنّ الشارع أو الموالي العرفيّة يعتبرونه حجّة في باب الأحكام و الموضوعات لمصالح، فتكون حجّيته عرضيّة مجعولة كخبر الثقة، و من المعلوم أنّ القطع غنيّ عن إفاضة

ص: 14

الحجّية عليه، و ذلك لاستقلال العقل بكونه حجّة في مقام الاحتجاج و معه لا حاجة إلي جعل الحجّية له.

أضف إليه انّ جعل الحجّية للقطع يتم إمّا بدليل قطعي، أو بدليل ظنّي.

و علي الأوّل يُنقل الكلام إلي ذلك الدليل القطعي، و يقال: ما هو الدليل علي حجّيته؟ و هكذا فيتسلسل.

و علي الثاني يلزم أن يكون القطع أسوأ حالاً من الظن، و لذلك يجب أن ينتهي الأمر في باب الحجج إلي ما هو حجّة بالذات، أعني: القطع، و قد تبيّن في محله »أنّ كلّ ما هو بالعرض لا بد و أن ينتهي إلي ما بالذات«.

و بذلك يعلم أنّه ليس للشارع الأمرُ المولويّ بالعمل بالقطع لسبق العقل بذلك، كما ليس له المنع عن العمل بالقطع، فلو قطع إنسان بكون مائع خمراً لا يصحّ النهي عن العمل به، لاستلزامه كون الناهي مناقضاً في كلامه في نظر القاطع، و في الواقع إذا أصاب قطعه للواقع.

ص: 15

الأمر الثاني: تقسيم القطع إلي طريقي و موضوعي

إذا كان الحكم مترتباً علي الواقع بلا مدخلية للعلم و القطع فيه، كترتّبا لحرمة علي ذات الخمر و القمار فيكون القطع بهما طريقيّاً ، و لا دور للقطع حينئذ سوي تنجيز الواقع، و إلاّ فمع قطع النظر عن التنجيز فالخمر و القمار حرام سواء أ كان هناك قطع أم لا، غاية الأمر يكون الجهل عذراً للمرتكب كما يكون العلم منجزاً للواقع.

و أمّا إذا أُخذ القطع في موضوع الحكم الشرعي بحيث يكون الواقع بقيد القطع موضوعاً للحكم، فيعبّر عنه بالقطع الموضوعي، و هذا كما إذا افترضنا أنّ الشارع حرّم الخمر بقيد القطع بالخمريّة بحيث لولاه لما كان الخمر محكوماً بالحرمة، و هذا التقسيم جار في الظنّ أيضاً، و لقد وردت في الشريعة المقدسة موارد أخذ القطع وحده أو الظن كذلك موضوعاً للحكم، نظير:

1. الحكم بالصحّة، فإنّه مترتّب علي الإحراز القطعي للركعتين في الثنائية و للركعات في الثلاثية من الصلوات و للأُوليين في الرباعية، بحيث لولاه لما كانت محكومة بها.

2. الحكم بوجوب التمام لمن يسلك طريقاً مخطوراً محرزاً بالقطع أو الظن.

3. الحكم بوجوب التيمّم لمن أحرز بالقطع أو الظن كون استعمال الماء مضرّاً.

ص: 16

4. الحكم بوجوب التعجيل بالصلاة لمن أحرز ضيق الوقت بكلا الطريقين.

فلو انكشف الخلاف، و أنّ الطريق لم يكن مخطوراً، و لا الماء مضرّاً، و لا الوقت ضيّقاً لما ضرَّ بالعمل، لأنّ كشف الخلاف إنّما هو بالنسبة إلي متعلّق القطع لا بالنسبة إلي الموضوع المترتب عليه الحكم.

ثمّ إنّه ليس للشارع أيّ تصرف في القطع الطريقي فهو حجّة مطلقاً من أيّ سبب حصل، لانّ الحكم مترتب علي الموضوع بما هو هو و ليس للقطع دور سوي كونه كاشفاً عن الواقع، فإذا قطع به، انكشف له الواقع و ثبت وجود الموضوع، فيترتب عليه حينئذ حكمه، ويحكم العقل بلزوم العمل به من غير فرق بين حصوله بالأسباب العادية أو غيرها فليس للشارع تجويز العمل بالقطع الحاصل من سبب و النهي عن القطع الحاصل من سبب آخر.

و أمّا القطع المأخوذ في الموضوع فبما أنّ لكلّ مقنّن، التصرفَ في موضوع حكمه بالسعة و الضيق، فللشارع أيضاً حقُّ التصرف فيه، فتارة تقتضي المصلحة اتخاذ مطلق القطع في الموضوع سواء أ حصلت من الأسباب العادية أم من غيرها، و أُخري تقتضي جعل قسم منه في الموضوع كالحاصل من الأسباب العادية، و عدم الاعتداد بالقطع الحاصل من غيرها.

ص: 17

الأمر الثالث: تقسيم القطع الموضوعي إلي طريقي و وصفي

ثمّ إنّ القطع الموضوعي ينقسم إلي قسمين:

1. موضوعي طريقي.

2. موضوعي وصفي.

توضيح ذلك: انّ القطع من الصفات النفسية ذات الإضافة، فله إضافة إلي القاطع(النفس المدرِكة) و إضافة إلي المقطوع به(المعلوم بالذات و الصورة المعلومة في الذهن)، فتارة يؤخذ في الموضوع بما أنّ له وصف الطريقية و المرآتية فيطلق عليه القطع الموضوعي الطريقي، أي أُخذ في الموضوع بما انّ له وصف الحكاية، و أُخري يؤخذ في الموضوع بما أنّه وصف نفساني كسائر الصفات مثل الحسد و البخل و الإرادة و الكراهة، فيطلق عليه القطع الموضوعي الوصفي، أي المأخوذ في الموضوع لا بما أنّه حاك عن شيء وراءه بل بما أنّه وصف للنفس المدركة.

لنفترض انّك تريد شراء مرآة من السوق، فتارة تلاحظها بما أنّها حاكية عن الصور التي تعكسها، و أُخري تلاحظها بما أنّها صُنعت بشكل جميل مثير للإعجاب مع قطع النظر عن محاكاتها للصور.

فالقطع الموضوعي الطريقي أشبه بملاحظة المرآة بما أنّها حاكية، كما أنّ القطع الموضوعي الوصفي أشبه بملاحظة المرآة بما لها من شكل جميل ككونها مربعة أو مستطيلة و غيرهما من الأوصاف.

و أمّا ما هو الأثر الشرعي لهذا التقسيم فموكول إلي دراسات عليا.

ص: 18

الأمر الرابع: الموافقة الالتزامية
اشارة

لا شكّ أنّ المطلوب في الأُصول الدينيّة و الأُمور الاعتقادية هو التسليم القلبي و الاعتقاد بها جزماً، إنّما الكلام في الأحكام الشرعية التي ثبتت و تنجّزت بالقطع أو بالحجّة الشرعية، فهل هناك تكليفان؟ أحدهما الالتزام بأنّه حكم اللّه قلباً و جناناً.

ثانيهما الامتثال عملاً و خارجاً.

فهل لكلّ، امتثال و عصيان، فلو التزم قلباً و خالف عملاً فقد عصي عملاً; كما أنّه لو وافق عملاً و خالف جناناً و التزاماً فقد ترك الفريضة القلبية، فيؤاخذ عليه؟ أو أنّ هناك تكليفاً واحداً، و هو لزوم امتثال الأحكام الفرعية في مقام العمل و إن لم يلتزم بها قلباً و جناناً، و هذا كمواراة الميّت فتكفي و إن لم يلتزم قلباً بأنّها حكم اللّه الشرعي؟ فليعلم أنّ البحث في غير الأحكام التعبدية، فإنّ الامتثال فيها رهن الإتيان بها للّه سبحانه أو لامتثال أمره أو غير ذلك ممّا لا ينفك الامتثال عن الالتزام و التسليم بأنّه حكمه سبحانه، فينحصر البحث عن وجوب الموافقة الالتزامية و عدمه في الأحكام التوصلية.

ذهب المحقّق الخراساني إلي القول الثاني، باعتبار أنّ الوجدان الحاكم في باب الإطاعة و العصيان خير شاهد علي عدم صحّة عقوبة العبد الممتثل لأمر

ص: 19

المولي و إن لم يلتزم بحكمه.

و ربّما يقال: إنّ الالتزام مع العلم بأنّ الحكم للّه أمر قهري، فكيف يمكن أن يواري المسلمُ الميّتَ مع العلم بأنّه سبحانه أمر به و لا يلتزم بأنّها حكم اللّه، فعدم عقد القلب علي وجوبه أو علي ضدّه أمر ممتنع و بذلك يُصبح النزاع غير مفيد.

و علي هذا، فالعلم بالحكم يلازم التسليم بأنّه حكم اللّه. (1)

و لكن الظاهر عدم الملازمة بين العلم و التسليم، فربّ عالم بالحق، غير مسلِّم قلباً، فإنّ الإنسان كثيراً ما يعلم بأهلية المنصوب من قبل من له النصب، لكنّه لا ينقاد له قلبه و لا يسلّمه باطناً، و إن كان في مقام العمل يتحرّك بحركته خوفاً من سوطه و سطوته، و هكذا كان حال كثير من الكفّار بالنسبة إلي نبيّنا، حيث إنّهم كانوا عالمين بنبوّته كما نطق به القرآن، و مع ذلك لم يكونوا منقادين له قلباً و لا مقرّين باطناً، و لو كان ملاك الإيمان الحقيقي نفس العلم التصديقي لزم أن يكونوا له مؤمنين حقيقة. (2)

و الذي يدلّ علي أنّ بين العلم و التسليم مرحلة أو مراحل قوله سبحانه:( فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّي يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (3) ). (4)

قيل: نزلت في الزبير و رجل من الأنصار خاصمه إلي النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)في شراج (5) من الحرّة كانا يسقيان بها النخل كلاهما، فقال النبي للزبير: »اسق ثمّ أرسل إلية.

ص: 20


1- . لاحظ تهذيب الأُصول: 2/46.
2- . نهاية الدراية:2/26.
3- سوره 4 - آيه 65
4- . النساء:65.
5- . مسيل الماء من الحرّة إلي السهل، و»الحرّة«: الأرض ذات الحجارة.

جارك«، فغضب الأنصاري و قال: يا رسول اللّه لئن كان ابن عمتك.... (1)

فإنّ خطاب الأنصاري للنبي(صلي الله عليه و آله و سلم)كشف عن عدم تسليمه لقضائه و إن لم يخالف عملاً، و بذلك يعلم أنّ المراد من الجحد في قوله سبحانه:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا (2) ) . (3) هو الجحد القلبي و عدم التسليم لمقتضي البرهان، لا الجحد اللفظي; فالفراعنة أمام البيّنات التي أتي بها موسي كانوا:

1. عالمين بنبوة موسي و هارون(عليهما السلام)( اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ (4) ).

2. لكن غير مسلِّمين قلباً، مستكبرين جناناً( وَ جَحَدُوا بِها (5) ).

ثمرة البحث

تظهر الثمرة في موارد العلم الإجمالي، فلو علم بنجاسة أحد الإناءين، فهل يجري الأصل العملي، كأصل الطهارة في كلّ منهما باعتبار كون كلّ واحد منهما مشكوك الطهارة و النجاسة أو لا؟ فثمة موانع عن جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي.منها: وجوب الموافقة الالتزامية، فلو قلنا به، لمنع عن جريان الأُصول، فإنّ الالتزام بوجود نجس بين الإناءين، لا يجتمع مع الحكم بطهارة كلّ واحد منهما، فمن قال بوجوب الموافقة الالتزامية لا يصح له القول بجواز جريان الأصل في أطراف المعلوم إجمالاً، و أمّا من نفاه فهو في فسحة عن خصوص هذا المانع، و أمّا الموانع الأُخر فنبحث عنها في مبحث الاحتياط و الاشتغال إن شاء اللّه.

ص: 21


1- . مجمع البيان:2/69.
2- سوره 27 - آيه 14
3- . النمل:14.
4- سوره 27 - آيه 14
5- سوره 27 - آيه 14
المقام الثاني: كشف العقل عن حكم الشرع

إنّ العقل كما مرّ أحد الحجج الأربع الّذي اتّفق أصحابنا إلاّ قليلاً منهم علي حجّيته في مجال استنباط الحكم الشرعي، غير انّ اللازم هو تحرير محلّ النزاع و تبيين إطار البحث، فإنّ عدم تحريره أوقع الكثير لا سيما الأخباريّين في الخلط و الاشتباه، فنقول:

إنّ عدّ العقل من مصادر التشريع و أحد الأدلّة الأربعة يتصوّر علي أنحاء ثلاثة:

الأوّل: إذا استقلّ العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه، و تجرّد في قضائه عن كلّ شيء إلاّ النظر إلي نفس الفعل فهل يكون حكم العقل كاشفاً عن حكم الشرع، و هذا نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، و حسنه معه، فهل يستكشف منه انّ حكم الشرع كذلك؟ و هكذا إذا أمر المولي بشيء و استقل العقل بوجود الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدّمته أو وجوب الشيء و حرمة ضدّه، أو امتناع اجتماع الأمر و النهي علي شيء واحد بعنوانين، أو جوازه إلي غير ذلك من أنواع الملازمات، فهل يكشف حكم العقل عن حكم الشرع؟ و بذلك يظهر انّ الموضوع للحسن و القبح هو نفس الفعل بما انّه صادر عن فاعل مختار، سواء أ كان الفاعل واجباً أم ممكناً، و سواء أ ترتب عليه المصالح أو

ص: 22

المفاسد أو لا، و سواء أ كان مؤمِّناً للأغراض العقلائية و عدمها، فالموضوع للحكم بالحسن أو القبح أو الملازمة أو ما أشبه ذلك هو ذات الفعل دون سائر الأُمور الجانبية.

الثاني: إذا أدرك الفقيه مصالح و مفاسد في الفعل، فهل يمكن أن يتخذ وقوفَه علي أحدهما ذريعة إلي استكشاف الحكم الشرعي في الوجوب أو الحرمة بحيث يكون علم الفقيه بالمصالح و المفاسد من مصادر التشريع الإسلامي؟ و بعبارة أُخري: إذا كان الموضوع ممّا لا نصّ فيه و لكن أدرك الفقيه بعقله، وجودَ مصلحة فيه و لم يَرد من الشارع أمر بالأخذ و لا بالرفض، فهل يصحّ تشريع الحكم علي وفقها؟ و هذا هو الذي يسمّي بالمصالح المرسلة أو الاستصلاح في فقه أهل السنّة لا سيما المالكية، فكلّ مصلحة لم يرد فيها نصّ يدعو إلي اعتبارها أو عدم اعتبارها و لكن في اعتبارها نفع أو دفع ضرر فهل يتخذ دليلاً علي الحكم الشرعي أو لا؟ الثالث: تنقيح مناطات الأحكام و ملاكاتها بالسبر و التقسيم بأن يُحصر الأوصاف التي توجد في واقعة الحكم و تصلح لأن تكون العلّة، واحدة منها و يختبرها وصفاً وصفاً علي ضوء الشروط الواجب توفّرها في العلة، و بواسطة هذا الاختبار تُستبعد الأوصاف التي لا يصحّ أن تكون علة، و يستبقي ما يصحّ أن يكون علّة ، و بهذا الاستبعاد و هذا الاستبقاء يتوصل إلي الحكم بأنّ هذا الوصف هو العلّة ثمّ يتبعه التشريع، و هذا ما يسمّي في الفقه الشيعي الإمامي بتنقيح المناط و استنباط العلّة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ محطّ النزاع بين الأُصوليّين و الأخباريّين من أصحابنا هو المعني الأوّل.

و سنرجع إليه بعد استيفاء البحث في الأخيرين فنقول:

ص: 23

أمّا المعني الثاني و الثالث فلم يقل به أحد من أصحابنا إلاّ الشاذّ النادر منهم، و ذلك لأنّ كون الفعل ذا مصلحة أو مفسدة عند الفقيه لا يكشف عن الحكم الشرعي لقصور العقل عن الإحاطة بالمصالح و المفاسد الواقعية، فربما يُدرك المصلحة و المفسدة و يَغفل عن موانعهما، فإدراك العقل المصالح و المفاسد لا يكون دليلاً علي أنّها ملاكات تامة لتشريع الحكم علي وفقها.

و هكذا المعني الثالث، فإنّ الخوض في تنقيح مناطات الأحكام عن طريق السبر و التقسيم من الخطر بمكان، إذ انّي نعلم أنّ ما أدركه مناطاً للحكم هو المناط له، فانّ العقل قاصر عن إدراك المناطات القطعية.

ثمّ لو افترضنا انّه أصاب في كشف المناط، فمن أين علم أنّه تمام المناط و لعلها جزء العلّة و هناك جزء آخر منضم إليه في الواقع و لم يصل الفقيه إليه؟ و لأجل ذلك رفض أصحابنا قاعدة الاستصلاح و المصالح المرسلة و هكذا استنباط العلّة عن طريق القياس، بمعني السبر و التقسيم.

نعم يستثني من المعني الثاني، المصالح و المفاسد العامة التي أطبق العقلاء عامة علي صلاحها أو فسادها علي نحو صار من الضروريات، و هذا كتعاطي المخدّرات التي أطبق العقلاء علي ضررها; و مثله التلقيح الوقائي عند ظهور الأمراض السارية كالجُدري، و الحصبة و غيرهما ، فقد أصبح من الأُمور التي لا يتردّد في صلاحيتها ذوو الاختصاص.

و لشيخنا المظفر قدَّس سرّه كلام يشير إلي خروج المعنيين عن محط النزاع، بنصّ واحد لا بأس بنقله:

»لا سبيل للعقل بما هو عقل إلي إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعية، فإذا أدرك العقل المصلحة في شيء أو المفسدة في آخر، و لم يكن إدراكه مستنداً إلي

ص: 24

المصلحة أو المفسدة العامّتين اللّتين يتساوي في إدراكهما جميع العقلاء، فانّه أعني: العقل لا سبيل له إلي الحكم بأنّ هذا المدرَك، يجب أن يحكم به الشارع علي طبق حكم العقل، إذ يحتمل انّ ما هو مناط الحكم عند الشارع، غير ما أدركه العقل مناطاً، أو أنّ هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع علي طبق ما أدركه العقل، و إن كان ما أدرك مقتضياً لحكم الشارع«. (1)

فخرجنا بالنتائج التالية:

أوّلاً: انّ حكم العقل بشيء يكشف عن كون الحكم عند الشرع كذلك شريطة أن يكون العقل قاطعاً و يكون المدرَك حكماً عاماً. و ذلك لما عرفت من انّ المدرك حكم عام لا يختصّ بفرد دون فرد، و الشرع و غير الشرع فيه سيان، كما هو الحال في الأمثلة المتقدمة.

ثانياً: إذا أدرك العقل وجود المصلحة أو المفسدة في الأفعال إدراكاً نوعياً يستوي فيه جميع العقلاء، كوجود المفسدة في استعمال المخدرات، ففي مثله يكون حكم العقل ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي. دون ما لا يكون كذلك كادراك فرد أو فردين وجود المصلحة الملزِمة.

ثالثاً: استكشاف ملاكات الأحكام و استنباطها بالسبر و التقسيم، ثمّ استكشاف حكم الشرع علي وفقه أمر محظور، لعدم إحاطة العقل بمصالح الأحكام و مفاسدها، و سوف يوافيك عند البحث عن سائر مصادر الفقه عدم العبرة بالاستصلاح الذي عكف عليه مذهب المالكية.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الكلام يقع في المعني الأوّل في موردين:

الأوّل: إمكان استقلال العقل بدرك حسن الشيء أو قبحه أو دركه الملازمة0.

ص: 25


1- . أُصول الفقه:1/239 240.

بين الوجوبين.

الثاني: إذا استقلّ العقل بما ذكر فهل يكشف عن كونه كذلك عند الشرع.

أمّا الأوّل، فالعدلية متّفقة علي إمكانه ، و هو من الأحكام البديهية للعقل ضرورة انّ كلّ إنسان يجد في نفسه حسن العدل و قبح الظلم، و إذا عرض الأمرين علي وجدانه يجد في نفسه نزوعاً إلي العدل و تنفّراً عن الظلم و هكذا سائر الأفعال التي تعد من مشتقات الأمرين.

يقول العلاّمة الحلّي: »إنّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء و قبح بعضها من دون نظر إلي شرع، فإنّ كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان و يمدح عليه و بقبح الإساءة و الظلم و يذم عليه، و هذا حكم ضروري لا يقبل الشكّ و ليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة و الملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع«. (1)

إنّ حكم الإنسان بحسن العدل و قبح الظلم ليس بأدون من الجزم بحاجة الممكن إلي العلّة، أو انّ الأشياء المساوية لشيء متساوية، فإذا أمكن الجزم بالأمرين الأخيرين فليكن الأمر الأوّل كذلك.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

و أمّا الأمر الثاني أعني: الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع فهو ثابت أيضاً، لأنّ الموضوع للحسن و القبح هو نفس الفعل بغضِّ النظر عن فاعل خاص، بل مع غض النظر عمّا يترتّب عليه من المصالح و المفاسد، فإذا كان هذا هو الموضوع فما وقف عليها العقل بفطرته و وجدانه يعمّ فعل الواجب و الممكن.

و بعبارة أُخري: انّ ما يدركه العقل في الحكمة العملية مثل ما يدركه في الحكمة النظرية، فكما انّ ما يدركه لا يختص بالمدرِك بل يعمه و غيره، فهكذا الحال في الحكمة العملية، مثلاً: إذا أدرك العقل بفضل البرهان الهندسي بانّ زوايا).

ص: 26


1- . كشف المراد مع تعليقتنا: 59 نشر المؤسسة الإمام الصادق(عليه السلام).

المثلث تساوي قائمتين فقد أدرك أمراً واقعياً لا يختص بالمدرك لانّ التساوي من آثار طبيعة المثلث، فهكذا إذا أدرك حسن شيء أو قبحه و الفرق بين الحكمتين انّ المعلوم في النظرية من شأنه أن يعلم كما انّ المعلوم في العملية من شأنه أن يعمل به.

فإن قلت: كيف يمكن الاعتماد علي حكم العقل و جعله دليلاً علي الحكم الشرعي مع أنّه قامت الأدلّة علي لزوم العمل بحكم تتوسط الحجّة في تبليغه و بيانه و لا عبرة بالحكم الواصل من غير تبليغ الحجّة؟ و تدلّ علي ذلك الأحاديث التالية:

1. صحيح زرارة »فلو انّ رجلاً صام نهاره، و قام ليله، و تصدّق بجميع ماله، و حجّ جميع دهره، و لم يعرف ولاية ولي اللّه فيواليه و تكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له علي اللّه ثواب و لا كان من أهل الإيمان«. (1)

2. قال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): »من دان بغير سماع ألزمه اللّه التيه يوم القيامة«. (2)

3.و قال أبو جعفر(عليه السلام): »كلّما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل«. (3) إلي غير ذلك من الروايات. (4)

قلت أوّلاً: انّ الروايات ناظرة إلي المُعْرضين عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)و المستهدين بغيرهم علي وجه كان جميع أعمالهم بدلالة سواهم، و أمّا من أناخ مطيّته علي عتبة أبوابهم في كلّ أمر كبير و صغير، و مع ذلك اعتمد علي العقل في مجالات خاصة فالروايات منصرفة عنه جداً.ل.

ص: 27


1- . الوسائل: الجزء 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 13.
2- . الوسائل: 18، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14و18.
3- . الوسائل: 18، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14و18.
4- . الكافي:161/13، باب العقل و الجهل.

و بعبارة أُخري: كما للآيات أسباب و شأن نزول، فهكذا الروايات لها أسباب صدور فهي تعبِّر عن سيرة قضاة العامة و فقهائهم كأبي حنيفة و ابن شبرمة و أضرابهم الذين أعرضوا عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)و لم ينيخوا مطاياهم علي أبواب أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)فيخاطبهم الإمام بما في هذه الروايات.

و أمّا فقهاء الشيعة الذين رجعوا في كلّ واقعة إلي الكتاب و السنّة و تمسّكوا بالثقلين فلا تعمّهم، و المورد (صدورها في مورد فقهاء العامة) و إن لم يكن مخصصاً لكن يمكن إلغاء الخصوصية بالنسبة إلي المماثل و المشابه لا المباين، و تمسّك أصحابنا بالعقل في مجالات خاصة لا يعدُّ إعراضاً عنهم بخلاف غيرهم.

و ثانياً: إذا كان العقل أحد الحجج كما في صحيح هشام فيكون الحكم المستكشف ممّا وصل إلي المكلّف بتبليغ الحجّة أيضاً.

روي هشام عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): »يا هشام إنّ للّه علي الناس حجّتين: حجّة ظاهرة، و حجّة باطنة; فالظاهرة الرسل و الأنبياء و الأئمّة، و أمّا الباطنة فالعقول«. (1)

و هناك كلام للمحقّق القمي نتبرّك بذكره ختاماً للبحث، قال:

»إنّ انحصار الطاعة و المخالفة في موافقة الخطاب اللفظي و مخالفته، دعوي بلا دليل، بل هما موافقة طلب الشارع و مخالفته و إن كان الطلب بلسان العقل، و نظير ذلك أنّ اللّه تعالي إذا كلّف نبيّه بواسطة إلهام من دون نزول وحي من جبرئيل(عليه السلام)و إتيان كلام، و امتثله النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)فيقال إنّه أطاع اللّه جزماً، و العقل فينا نظير الإلهام فيه.7.

ص: 28


1- . لاحظ الكافي:1/60، باب الرد إلي الكتاب و السنة، الحديث 6; و أيضاً ص 56 باب البدع و الرأي و المقاييس، الحديث7.

ثمّ يقول: إنّ من يدّعي حكم العقل بوجوب ردّ الوديعة و حرمة الظلم يدّعي القطع بأنّ اللّه تعالي خاطبه بذلك بلسان العقل، فكيف يجوز العمل بالظن بخطاب اللّه تعالي و تكليفه، و لا يجوز العمل مع اليقين به؟ فإن كان و لا بدّ من المناقشة، فليكتف في منع حصول هذا القطع من جهة العقل و انّه لا يمكن ذلك«. (1)

ثمرات البحث إذا قلنا بالحسن و القبح العقليّين و الملازمة بين الحكمين تترتب عليه ثمرات أُصولية نذكر منها ما يلي:

1. البراءة من التكليف لقبح العقاب بلا بيان.

2. لزوم تحصيل البراءة اليقينيّة عند العلم الإجمالي و تردّد المكلّف به بين أمرين لأجل حكم العقل بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

3. الإتيان بالمأمور به مجز عن الإعادة و القضاء لقبح بقاء الأمر بعد الامتثال.

4. وجوب تقديم الأهم علي المهم إذا دار الأمر بينهما لقبح العكس.

و أمّا الثمرات الفقهية المترتّبة علي القول بالملازمة العقلية فيستنتج منها الأحكام التالية:

1. وجوب المقدّمة علي القول بحكم العقل بالملازمة بين الوجوبين.

2. حرمة ضد الواجب علي القول بحكم العقل بالملازمة بين الأمر بالشيء و النهي عن ضدّه.2.

ص: 29


1- . القوانين: 32/2.

3. بطلان العبادة علي القول بامتناع اجتماع الأمر و النهي و تقديم النهي عن الأمر.

4. صحّة العبادة علي القول بالامتناع و تقديم جانب الأمر.

5. صحّة العبادة علي القول بجواز اجتماع الأمر و النهي.

6. فساد العبادة إذا تعلّق النهي بنفس العبادة سواء كان المنهي نفسها أو جزئها أو شرطها أو أوصافها.

7. فساد المعاملة إذا تعلّق النهي بالثمن أو المثمن للملازمة بين النهي و فسادها.

8. انتفاء الحكم(الجزاء) مع انتفاء الشرط إذا كان علة منحصرة.

ص: 30

الأدلّة الأربعة

2- الإجماع المحصّل
اشارة

الإجماع المحصّل أحد مصادر التشريع عند أهل السنّة بما هو هو لا بما هو كاشف عن حجّة شرعية، كما عليه الإمامية، و قد اختلفت كلمة الأُصوليّين في تعريفه.

فعرّفه الغزالي بقوله: إنّه اتّفاق أُمّة محمّد(صلي الله عليه و آله و سلم)بعد وفاته في عصر من العصور علي حكم شرعي. (1)

و علي هذا التعريف لا يكفي اتّفاق المجتهدين، بل يجب اتّفاق جميع المسلمين في عصر من العصور، و هو أمر نادر الوقوع.

و عرّفه الآخرون: باتّفاق أهل الحلّ و العقد علي حكم من الأحكام، أو اتّفاق المجتهدين من أُمّة محمّد في عصر علي أمر.

المهم في المقام هو الوقوف علي وجه حجّية الإجماع عند أهل السنّة أوّلاً، و عند الشيعة ثانياً، فانّ الإجماع عند الطائفة الأُولي بما هو هو دليل شرعي يُضفي علي الحكم صبغة الشرعية فهو في عرض الكتاب و السنّة و العقل.

أمّا الإجماع عند الطائفة الثانية فهو عندهم حجّة لأجل كشفه عن قول المعصوم أو دليل معتبر، و لأجل إيقاف القارئ علي موقف الطائفتين من الإجماع، نوضح الموضوع إجمالاً.

ص: 31


1- . المستصفي:1/110.
موقف أهل السنّة من الإجماع المحصَّل

إذا اتّفق المجتهدون من أُمّة محمّد(صلي الله عليه و آله و سلم)في عصر من العصور علي حكم شرعي، يكون المجمع عليه حكماً شرعياً واقعياً عند أهل السنّة و لا تجوز مخالفته، و ليس معني ذلك انّ إجماعهم علي حكم من تلقاء أنفسهم يجعله حكماً شرعياً، بل يجب أن يكون إجماعهم مستنداً إلي دليل شرعي قطعي أو ظنّي، كالخبر الواحد و المصالح المرسلة و القياس و الاستحسان.

فلو كان المستند دليلاً قطعياً من قرآن أو سنّة متواترة يكون الإجماع مؤيداً و معاضداً له; و لو كان دليلاً ظنياً كما مثلناه، فيرتقي الحكم حينئذ بالإجماع من مرتبة الظن إلي مرتبة القطع و اليقين.

و مثله ما إذا كان المستند هو المصلحة أو دفع المفسدة، فالاتّفاق علي حكم شرعي استناداً إلي ذلك الدليل يجعله حكماً شرعياً قطعياً، كزيادة أذان لصلاة الجمعة في عهد عثمان لإعلام الناس بالصلاة كي لا تفوتهم، حتي صار الأذان الآخر عملاً شرعياً إلهياً و إن لم ينزل به الوحي. (1)

و علي ذلك فقد أعطي سبحانه للإجماع و اتّفاق الأُمّة منزلة كبيرة علي وجه إذا اتّفقوا علي أمر، يُصبح المجمع عليه حكماً شرعياً قطعياً كالحكم الوارد في القرآن و السنّة النبويّة، و لذلك قلنا بأنّ الإجماع عندهم من مصادر التشريع.

ثمّ إنّهم استدلّوا علي ما راموه بوجوه:

منها: قوله سبحانه:( وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدي وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّي وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (2) ). (3)

وجه الاستدلال انّه سبحانه ابتدأ كلامه بجملتين شرطيّتين:

ص: 32


1- . الوجيز في أُصول الفقه لابن وهبة:49.
2- سوره 4 - آيه 115
3- . النساء:115.

أ.( وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدي (1) ).

ب.(و [ مَنْ (2) ] يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ (3) ).

ثمّ إنّه سبحانه جعل لهما جزاءً واحداً و هو قوله:( نُوَلِّهِ ما تَوَلّي... (4) ) فإذا كانت مشاقّة اللّه و رسوله حراماً كان اتّباع غير سبيل المؤمنين حراماً مثله بشهادة وحدة الجزاء، فإذا حرم اتّباع غير سبيلهم، فاتّباع سبيلهم واجب إذ لا واسطة بينهما. و يلزم من وجوب اتّباع سبيلهم كون الإجماع حجّة، لأنّ سبيل الشخص ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد. (5)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الوقوف علي مفاد الآية يتوقّف علي تبيين سبيل المؤمن و الكافر أي سبيل لا من يشاقق و من يشاقق في عصر الرسول الذي تحكي الآية عنه ، فسبيل المؤمن هو الإيمان باللّه و إطاعة الرسول و مناصرته، و سبيل الآخر هو الكفر باللّه و معاداة الرسول و مشاقّته، فاللّه سبحانه يندّد بالكافر و يذكر جزاءه بقوله:( نُوَلِّهِ ما تَوَلّي وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ (6) ) و يكون جزاء المؤمن بطبع الحال خلافه.

و علي ضوء ذلك يكون المراد من اتّباع سبيل المؤمنين هو إطاعة الرسول و مناصرته، و من سبيل غيرهم هو معاداة الرسول و مناقشته فأي صلة للآية بحجّية اتّفاق المؤمنين علي حكم من الأحكام.

و بعبارة أُخري: أنّ الموضوع للجزاء في الآية مركّب من أمرين:

أ.معاداة الرسول.

ب. سلوك غير سبيل المؤمنين.

فَعَطفَ أحدهما علي الآخر بواو الجمع و جَعَلَ سبحانه لهما جزاءً واحداً و هو قوله:( نُوَلِّهِ ما تَوَلّي وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ (7) ).9.

ص: 33


1- سوره 4 - آيه 115
2- سوره 4 - آيه 115
3- سوره 4 - آيه 115
4- سوره 4 - آيه 115
5- . الوجيز:49.
6- سوره 4 - آيه 115
7- سوره 4 - آيه 115

و بما انّ معاداة الرسول وحدها كافية في الجزاء و هذا يكشف عن انّ المعطوف عبارة أُخري عن المعطوف عليه، و المراد من اتّباع غير سبيل المؤمنين هو شقاق الرسول و معاداته و ليس أمراً مغايراً معه كما حسبه المستدل.

و ثانياً: أنّ سبيل المؤمنين في عصر الرسول هو نفس سبيل الرسول، فحجّية السبيل الأوّل لأجل وجود المعصوم بينهم و موافقته معه فلا يدلّ علي حجّية مطلق سبيل المؤمنين بعد مفارقته عنهم.

و منها: قوله سبحانه:( وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَي النّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (1) ). (2)

وجه الاستدلال: انّ الوسط من كلّ شيء خياره، فيكون تعالي قد أخبر عن خيرية هذه الأُمّة، فإذا أقدموا علي شيء من المحظورات لما وُصِفُوا بالخيرية فيكون قولهم حجة.

يلاحظ عليه: أنّ وصف جميع الأُمّة بالخير و العدل مجاز قطعاً، فإنّ بين الأُمّة من بلغ في الصلاح و الرشاد إلي درجة يُستدرُّ بهم الغمام، و في الوقت نفسه فيها من بلغ في الشقاء إلي درجة خضّب الأرض بدماء الصالحين و المؤمنين، و مع ذلك كيف تكون الأُمّة بلا استثناء خياراً و عدلاً، و تكون بعامة أفرادها شهداء علي سائر الأُمم، مع أنّ كثيراً منهم لا تقبل شهادتهم في الدنيا فكيف في الآخرة.

يقول الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير الآية: »فإن ظننت انّ اللّه عني بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين، أ فتري أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا علي صاع من تمر، تُطلب شهادته يوم القيامة و تقبل منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟!«. (3)

و هذا دليل علي أنّ الوسطية وصف لعدة منهم، و لمّا كان الموصوف بالوسطية0.

ص: 34


1- سوره 2 - آيه 143
2- . البقرة:143.
3- . البرهان في تفسير القرآن:1/160.

جزءاً من الأُمّة الإسلامية صحّت نسبة وصفهم إلي الجميع، نظير قوله سبحانه:( وَ إِذْ قالَ مُوسي لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً (1) ) (2) فقد وصف عامّة بني إسرائيل بكونهم ملوكاً، مع أنّ البعض منهم كان ملكاً.

و إذا كانت الوسطية لعدّة منهم دون الجميع، يكون قولهم هو الحجّة كما يكونوا هم الشهداء يوم القيامة لا جميع الأُمّة و إنّما نسب إلي الجميع مجازاً.و أمّا من هو هذه العدّة فبيانه علي عاتق التفسير.

و منها: ما روي عن النبي(صلي الله عليه و آله و سلم): »انّ أُمّتي لا تجتمع علي ضلالة«. و رواه أصحاب السنن. (3)

يلاحظ عليه: أوّلاً :أنّ الحديث مع أنّه روي في غير واحد من السنن ضعيف السند.

قال الشيخ العراقي في تخريج أحاديث تفسير البيضاوي: »جاء الحديث بطرق في كلّها نظر«. (4)

و قد قمنا بدراسة هذا الحديث و تحليله في رسالة (5) جمعنا فيها أسانيده و خرجنا بحصيلة انّ جميع تلك الأسانيد ضعيفة، مضافاً إلي أنّ الحديث خبر واحد لا يحتجّ به في الأُصول.

ثانياً: أنّ الوارد في الحديث هو عدم الاجتماع علي »الضلالة« لا عدم الاجتماع علي »الخطأ«، فيكون الحديث ناظراً إلي مسائل العقيدة التي هي مدار الهداية و الضلالة لا إلي الفروع، فلا يوصف المصيب فيها بالهداية و المخطئ بالضلالة.09

ص: 35


1- سوره 5 - آيه 20
2- . المائدة:20.
3- . ابن ماجه: السنن:2، الحديث 3950; الترمذي: السنن:4، برقم 2167; أبو داود: السنن:4، برقم 4253; مسند أحمد:5/145.
4- . سنن ابن ماجه:2/1303.
5- . لاحظ كتاب »رسائل و مقالات«: ج/194.2 209

ثالثاً: أنّ المصون من الضلالة هي الأُمّة بما هي أُمّة لا الفقهاء فقط و لا أهل العلم و لا أهل الحل و العقد، و علي ذلك ينحصر مفاد الحديث بما اتّفقت عليه جميع الأُمّة في مجال العقائد و الأُصول و الفروع.

إلي هنا تمّ ما استدلّ به أهل السنّة علي حجّية الإجماع و كونه من مصادر التشريع بما هو هو، و قد عرفت قصور أدلّتهم عن إثبات مرامهم فهلمّ معي ندرس مكانة الإجماع عند الشيعة.

مكانة الإجماع المحصّل عند الشيعة
اشارة

إنّ الأُمّة مع قطع النظر عن الإمام المعصوم بينهم، غير مصونة من الخطأ في الأحكام فليس للاتّفاق و الإجماع رصيد علمي، إلاّ إذا كشف عن الحجّة بأحد الطريقين:

1. استكشاف قول المعصوم بالملازمة العقلية(قاعدة اللطف).

2. استكشاف قوله(عليه السلام)بالملازمة العادية(قاعدة الحدس).

أمّا الأمر الأوّل فحاصل النظرية انّه يمكن أن يستكشف عقلاً رأي الإمام(عليه السلام)من اتّفاق من عداه من العلماء علي حكم و عدم ردعهم عنه نظراً إلي قاعدة اللطف التي لأجلها وجب علي اللّه نصب الحجّة الموصوف بالعلم و العصمة في كلّ الأزمنة.فإنّ من أعظم فوائدها، حفظ الحقّ و تمييزه عن الباطل كي لا يضيع بخفائه و يرتفع عن أهله أو يشتبه بغيره، و تلقينُهم طريقاً يتمكن العلماء و غيرهم من الوصول به إليه و منعهم و تثبيطهم عن الباطل أوّلاً أو ردّهم عنه إذا أجمعوا عليه ثانياً. (1)

ص: 36


1- . كشف القناع:114.

و حاصل هذا الوجه: انّ من فوائد نصب الإمام هو هداية الأُمّة و ردّهم عن الإجماع علي الباطل و إرشادهم إلي الحقّ، فلو كان المجمع عليه باطلاً كان علي الإمام ردّهم عن ذلك الاتّفاق بوجه من الوجوه.و هذا ما يسمّي بقاعدة اللطف.

و أمّا الثاني أي استكشاف قوله(عليه السلام) بالملازمة العادية فيمكن تقريره بالنحوين التاليين:

الف: تراكم الظنون مورث لليقين

إنّ فتوي كلّ فقيه و إن كان يفيد الظن و لو بأدني مراتبه، إلاّ أنّها تعزَّز بفتوي فقيه ثان فثالث، إلي أن يحصل للإنسان اليقين من إفتاء جماعة علي حكم القطعُ بالصحة، إذ من البعيد أن يتطرق البطلان إلي فتوي جماعة كثيرين.

نقل المحقّق النائيني عن بعضهم: إنّ حجّيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوي إلي حدّ يوجب القطع بالحكم كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر. (1)

ب: الاتّفاق كاشف عن دليل معتبر

إنّ حجّية الاتّفاق ليس لأجل إفادتها القطع بالحكم، بل لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر وصل إليهم و لم يصل إلينا، و هذا هو الذي اعتمد عليه صاحب الفصول و قال: يستكشف قول المعصوم عن دليل معتبر باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم الانقطاع إلي الأئمّة في الأحكام و طريقتهم التحرّز عن القول بالرأي و الاستحسان.

ص: 37


1- . فوائد الأُصول:3/149

و هذان الوجهان هما السندان لحجية الإجماع المحصل، و هناك بحوث أُخري تطلب من دراسات عليا.

ثمّ إنّ الدارج في الكتب الأُصولية هو البحث عن حجّية الإجماع المحصّل المنقول إلينا بخبر الواحد، و بما انّ حجّية مثل هذا النقل، فرع حجّية خبر الواحد آثرنا تأخيره إلي الفراغ من حجّية خبر الواحد.

ص: 38

الأدلّة الأربعة

3- الكتاب
اشارة

إنّ الكتاب من أهم المصادر الشرعية للاستنباط، فلا محيص للفقيه من مراجعة الكتاب و استنطاقه، و قد نقل عن بعض أصحابنا الأخباريين عدم حجّية ظواهر الكتاب، و هذا ما يندي له الجبين، إذ كيف تكون المعجزة الكبري للنبي(صلي الله عليه و آله و سلم)مسلوبة الحجية. و لعل اقتصارهم علي السنّة كان رد فعل لما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب انّه قال عند ما طلب النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)القلم و الدواة ليكتب كتاباً للأُمّة لئلاّ يضلّوا بعده:حسبنا كتاب اللّه. (1)

و علي كلّ تقدير فالاقتصار علي الكتاب كالاقتصار علي السنّة علي طرفي الإفراط و التفريط.

و المراد من حجّية ظواهر القرآن في مجال الفقه مضافاً إلي موارده الخاصة هو التمسك بعموماته و مطلقاته بعد الفحص عن القرائن العقلية أو اللفظية المتصلة أو الحالية المنقولة بخبر الثقة خصوصاً بعد الفحص عن مقيداته و مخصصاته في أحاديث العترة الطاهرة، فإذا تمت هذه الأُمور فهل يتمسك بظواهر القرآن في موردها؟ ذهب علماء الأُصول إلي وجوب الاستضاءة بنور القرآن فيما يدل عليه

ص: 39


1- . صحيح البخاري:1/30، كتاب العلم، باب كتابة العلم.

بظاهره و الاخباريون إلي المنع و انّ الاستدلال بالقرآن يتوقف علي تفسير المعصوم فيُصبح الاحتجاج بتفسيره(عليه السلام)لا بنصّ القرآن.

ثمّ إنّ الأدلّة علي حجّية ظواهر القرآن كثيرة نذكر منها ما يلي:

الأوّل: دلّت غير واحدة من الآيات القرآنية علي أنّ القرآن نور، و النور بذاته ظاهر و مظهر لغيره، قال سبحانه:( يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (1) ). (2)

و في آية أُخري:( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (3) ) (4) فلو كان قوله( وَ كِتابٌ مُبِينٌ (5) ) عطفَ تفسير لما قبله، يكون المراد من النور هو القرآن.

إنّه سبحانه يصف القرآن بأنّه تبيان لكلّ شيء، و حاشا أن يكون تبياناً له و لا يكون تبياناً لنفسه، قال سبحانه:( وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُديً وَ رَحْمَةً وَ بُشْري لِلْمُسْلِمِينَ (6) ). (7)

و قال سبحانه:( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (8) ). (9)

أ فيمكن أن يهدي من دون أن يكون المهتدي مستفيداً من هدايته؟! فإن قلت: إنّ الاستدلال بظواهر القرآن علي حجّيتها دور واضح، فإنّ الأخباري لا يقول بحجّيتها.

قلت: إنّ الاحتجاج علي حجّية القرآن إنّما هو بنصوصه لا بظواهره، و الأخباري إنّما يمنع حجّية ظواهره لا حجّية نصوصه.9.

ص: 40


1- سوره 4 - آيه 174
2- . النساء:174.
3- سوره 5 - آيه 15
4- . المائدة:15.
5- سوره 5 - آيه 15
6- سوره 16 - آيه 89
7- . النحل:89.
8- سوره 17 - آيه 9
9- . الإسراء:9.

الثاني: قد تضافر بل تواتر عن النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)وجوب التمسك بالثقلين و فسرهما بالكتاب و السنّة، و قال: »إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، و عترتي. ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا« فكلّ من الثقلين حجّة و انّ كلاً يؤيد الآخر.

الثالث: الروايات التعليمية التي علّم فيها الإمام تلاميذه كيفية استنباط الحكم من القرآن الكريم، فلو لم تكن ظواهر الكتاب حجّة لما كان للتعليم قيمة، فإنّ موقف الإمام في هذه المقامات موقف المعلّم لا موقف المتكلم عن الغيب.

و الروايات في ذلك المجال كثيرة نذكر منها واحدة، و هي رواية عبد الأعلي مولي آل سام و قد سأل أبا عبد اللّه(عليه السلام)بقوله: رجل عثر فوقع ظفره فجعل علي إصبعه مرارة، فقال:»إنّ هذا يعرف من كتاب اللّه:( وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1) ) (2) ثمّ قال: »امسح علي المرارة«. (3)

فأحال الإمام(عليه السلام)حكم المسح علي اصبعه المغطّي بالمرارة إلي الكتاب.

الرابع: قد تضافر عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)في مورد تعارض الروايات لزوم عرضه علي القرآن و انّ ما وافق كتاب اللّه يؤخذ به و ما خالف يضرب به عرض الجدار.

فقد روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)أنّه قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): »إنّ علي كلّ حق حقيقة، و علي كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فدعوه«. (4)

الخامس: اتّفق الفقهاء علي أنّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه فهو مرفوض،ك.

ص: 41


1- سوره 22 - آيه 78
2- . الحج:78.
3- . الوسائل: 1، الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث 5.
4- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10، و لاحظ الحديث 11، 12، 14 إلي غير ذلك.

ففي صحيحة عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: سمعته يقول: »من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب اللّه فلا يجوز له، و لا يجوز علي الذي اشترط عليه، و المسلمون عند شروطهم ممّا وافق كتاب اللّه«.

و في رواية أُخري: »المسلمون عند شروطهم، إلاّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه عزّ و جلّ فلا يجوز«. (1)

فلو لم يكن ظواهر الكتاب حجّة، لما كان هناك معني لعرض الشرط علي الكتاب في هذه الروايات و غيرها ممّا يشرف الفقيه علي القطع بحجّية ظواهر الكتاب، و إنّما المهم دراسة أدلّة المخالف.

أدلّة الأخباري علي عدم حجّية ظواهر الكتاب

استدلّ الأخباري علي عدم حجّية ظواهر الكتاب بوجوه، أهمها وجهان:

الأوّل: انّ حمل الكلام الظاهر في معني علي أنّ المتكلّم أراد هذا، تفسير له بالرأي، و قد قال النبي (صلي الله عليه و آله و سلم): »من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار«. (2)

يلاحظ عليه: أنّ حمل الظاهر في معني، علي أنّ المتكلّم أراده ليس تفسيراً فضلاً عن كونه تفسيراً بالرأي، فانّ التفسير عبارة عن كشف القناع عن وجه المراد.

و أمّا الرأي فهو عبارة عن الميل إلي أحد الجانبين اعتماداً علي الظن الذي لم يدلّ عليه دليل.

إذا عرفت معني التفسير أوّلاً ثمّ الرأي ثانياً، نقول:

إنّ حمل الظاهر في معني، علي أنّه مراد المتكلّم، ليس من مقولة التفسير، إذ

ص: 42


1- . الوسائل: 12، الباب 6 من أبواب الخيار، الحديث 1و2.
2- . الوسائل: 18، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 76.

ليس هنا أمر مستور يُكشف عنه، فالاستدلال بإطلاق الظاهر أو عمومه، ليس تفسيراً، و رافعاً لإبهامه بل هو من قبيل تطبيق الظاهر علي مصاديقه، و التفسير عبارة عن كشف القناع عن وجه الآية، كالغطاء الموجود في الصلاة الوسطي في قوله سبحانه:( حافِظُوا عَلَي الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطي (1) ) (2) فحملها علي إحدي الصلوات، يقال انّه تفسير و كشف للقناع.

فإذا لم يكن حمل الظاهر علي معني علي أنّه المراد، تفسيراً للآية يكون بالنسبة إلي الجزء الآخر »برأيه« أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

الثاني: اختصاص فهم القرآن بأهله. يظهر من مذاكرة الإمام أبا حنيفة و قتادة انّه لا يفهم القرآن إلاّ من خوطب به، و هم أئمّة أهل البيت، و إليك نصّ ما دار بينهما من الحوار:

»يا أبا حنيفة! تعرف كتاب اللّه حق معرفته و تعرف الناسخ و المنسوخ؟« قال: نعم.

قال: »يا أبا حنيفة: لقد ادّعيت علماً، ما جعل اللّه ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، و لا هو إلاّ عند الخاص من ذريّة نبيّنا محمّد، و ما ورثك اللّه عن كتابه حرفاً«. (3)

أقول: إنّ الرواية لا تنفي عن أبي حنيفة المعرفة الإجمالية، و إنّما تنفي حقّ المعرفة، و هو لا يتحقّق إلاّ بمعرفة الناسخ و المنسوخ و الخاص و العام و المطلق و المقيد إلي غير ذلك من القرائن المنفصلة التي تؤثِّر في الاحتجاج بالآية، و كلّها مخزونة عند أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، فمن عمل بظاهر الآية ، بعد الرجوع إليهم في7.

ص: 43


1- سوره 2 - آيه 238
2- . البقرة:238.
3- . وسائل الشيعة:الجزء18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27.

معرفة تلك المواضع، فهو غير مشمول للرواية بل هي تردُّ علي المستبدين بالقرآن الذين يفسرونه و يفتون به من دون مراجعة إلي من نزل القرآن في بيوتهم حتي يعرفوا ناسخه و منسوخه، و عامّه و خاصّه، و مطلقه و مقيده، و أين هو من عمل أصحابنا؟! فانّهم يحتجون بالقرآن بعد الرجوع إلي حديث العترة الطاهرة ، في مجملاته و مبهماته، و مخصصات عمومه و مقيدات مطلقاته، ثمّ الأخذ بمجموع ما دلّ عليه الثقلان.

فالاستبداد بالقرآن شيء و الاحتجاج بالقرآن بعد الرجوع إلي أحاديث العترة الطاهرة شيء آخر، و الأوّل ممنوع و الثاني مجاز جري عليه أصحابنا رضوان اللّه عليهم عبر القرون.

و بذلك يظهر مفاد سائر الروايات الواردة في هذا المضمار.

إلي هنا تمّ ما استدلّ به الأخباريون من منع التمسّك بظواهر القرآن و بقيت هناك أدلة أُخري لهم تظهر حالها بالإمعان فيما ذكرنا.

الظواهر من القطعيات

ثمّ إنّ الأُصوليين ذكروا ظواهر القرآن تحت الظنون التي ثبتت حجّيتها بالدليل و أسموه بالظن الخاص مقابل الظن المطلق الذي ليس علي حجّيته دليل سوي دليل الانسداد.

و لكن الحقّ انّ ظواهر كلام كلّ متكلم فضلاً عن ظواهر القرآن من الكواشف القطعية، و يظهر حال هذا المدعي بالإمعان فيما ذكرناه في الموجز و ما نوضحه في المقام.

إنّ الفرق بين الظاهر و النص هو انّ كلا الأمرين يحملان معني واحداً و يتبادر منهما شيء فارد، غير انّ الأوّل قابل للتأويل، فلو أوّل كلامه لعدّ عمله

ص: 44

خلافاً للظاهر و لا يعدّ مناقضاً في القول، كما إذا قال: أكرم العلماء، الظاهر في الوجوب ثمّ أشار بدليل خاص بأنّ المقصود هو الندب.

و أمّا النصّ فهو لا يحتمل إلاّ معني واحداً، و لا يصحّ تأويله بل يعد أمراً متناقضاً، و هذا مثل قوله سبحانه:( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (1) ). (2)

فإنّ كون حظّ الذكر مثلي حظ الأُنثي شيء ليس قابلاً للتأويل و لذلك يعدّ نصاً، و من حاول تأويله لا يقبل منه، و مثله قوله سبحانه:( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (3) ).

إذا علمت ذلك، فنقول: إنّ القضاء بين الرأيين: كشف الظواهر عن مراد المتكلّم هل هو كشف قطعي أو ظني، يتوقّف علي بيان الوظيفة التي حملت علي عاتق الظواهر؟ و تبيين رسالتها في إطار التفهيم و التفهّم؟ فلو تبيّن ذلك لسهل القضاء بأنّ الكشف قطعي أو ظني.

فنقول: إنّ للمتكلّم إرادتين:

1. إرادة استعمالية، و هي استعمال اللفظ في معناه، أو إحضار المعاني في ذهن المخاطب سواء أ كان المتكلّم جادّاً أو هازلاً أو مورّياً أو غير ذلك، سواء أ كان المعني حقيقياً أو مجازياً.

2. إرادة جدية، و هي انّ ما استعمل فيه اللفظ مراد له جداً، و ما هذا إلاّ لأنّه ربما يفارق المرادُ الاستعمالي، المرادَ الجدي، كما في الهازل و المورّي و المقنّن الذي يُرتِّب الحكم علي العام و المطلق مع أنّ المراد الجدي هو الخاص و المقيد، ففي هذه الموارد تغاير الإرادةُ الجدية الإرادةَ الاستعمالية، إمّا تغايراً تاماً كما في الهازل و المورّي و اللاغي، أو تغايراً جزئياً كما في العام الذي أُريد منه الخاص، أو المطلق1.

ص: 45


1- سوره 4 - آيه 11
2- . النساء:11.
3- سوره 112 - آيه 1

الذي أُريد منه المقيد بالإرادة الجدية.

و علي ضوء ذلك فيجب علينا أن نركِّز علي أمرين:

الأوّل: ما هي الرسالة الموضوعة علي عاتق الظواهر؟ الثاني: ما هو السبب لتسميتها ظنوناً؟ أمّا الأوّل: فالوظيفة الملقاة علي عاتق الظواهر عبارة عن إحضار المعاني في ذهن المخاطب سواء أ كانت المعاني حقائق أم مجازات، فلو قال: رأيت أسداً، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأي الحيوان المفترس، و إذا قال: رأيت أسداً في الحمام، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأي رجلاً شجاعاً فيه، فكشف الجملة في كلا الموردين عن المراد الاستعمالي كشف قطعي و ليس كشفاً ظنياً، و قد أدّي اللفظ رسالته بأحسن وجه. و علي ذلك لا تصحّ تسميته كشفاً ظنياً، اللّهمّ إلاّ إذا كان الكلام مجملاً أو متشابهاً، فالكلام عندئذ قاصر عن إحضار المعني الاستعمالي بوجه متعيّن، لكنّهما خارجان عن محطّ البحث فإنّ الكلام في الظواهر لا في المجملات و المتشابهات.

و أمّا الثاني: أي السبب الذي يوجب تسمية ذلك الكشف ظنياً، فانّه يتلخص في الأُمور التالية:

1. لعلّ المتكلّم لم يستعمل اللفظ في أيّ معني.

2. أو استعمل في المعني المجازي و لم ينصب قرينة.

3. أو كان هازلاً في كلامه.

4. أو مورّياً في خطابه.

5. أو لاغياً فيما يلقيه.

6. أو أطلق العام و أراد الخاص.

7. أو أطلق المطلق و أراد المقيّد.

ص: 46

إلي غير ذلك من المحتملات التي توجب الاضطراب في كشف المراد الاستعمالي عن المراد الجدي علي وجه القطع.

و لكن أُلفت نظر القارئ إلي أُمور ثلاثة لها دور في المقام:

1. انّ علاج هذه الاحتمالات ليس من وظائف الظواهر حتي يوصف كشف الظواهر عن المراد الجدي لأجلها بالظنّية، و ذلك لما عرفت من أنّ المطلوب من الظواهر ليس إلاّ شيء واحد و هو إحضار المعاني في ذهن المخاطب، و أمّا الاحتمالات المذكورة و كيفية دفعها فليس لها صلة بالظواهر حتي يوصف كشفها لأجلها بأنّه ظني.

2. انّ بعض هذه الاحتمالات موجودة في النصوص فيحتمل فيه كون المتكلم لاغياً، أو هازلاً، أو مورّياً، أو متّقياً، أو غير ذلك من الاحتمالات، مع أنّا نري أنّهم يعدّونها من القطعيات.

3. إنّ القوم عالجوا هذه الاحتمالات بادّعاء وجود أُصول عقلائية دافعة لها، كأصالة كون المتكلّم في مقام الإفادة ، لا الهزل و لا التمرين، بدافع نفسي، لا بدافع خارجي كالخوف و غيره.

و الظاهر انّه لا حاجة إلي هذه الأُصول فإنّ الحياة الاجتماعية مبنيّة علي المفاهمة بالظواهر، ففي مجال المفاهمة و التفاهم بين الأُستاذ و التلميذ و البائع و المشتري و السائس و المسوس، يعتبر المخاطبُ دلالة كلام المتكلّم علي المراد الاستعمالي و الجدي دلالة قطعية لا ظنية، إلاّ إذا كان هناك إبهام أو إجمال، أو جريان عادة علي فصل الخاص و القيد عن الكلام.

و بذلك خرجنا بأن كشف الظواهر عن المراد الاستعمالي، بل المراد الجدي، علي ما عرفت أخيراً في مجال المفاهمة الخصوصية (1) كشف قطعي و لا يُعرَّج إلي تلك الشكوك.ي.

ص: 47


1- . أي لا في مجال التقنين فإن كشفها عن المراد الجدّي ليس بقطعي.

الأدلّة الأربعة

4- السنّة

قد تطلق السنّة و يراد منها قول المعصوم و فعله و تقريره، فلا شك انّ السنّة بهذا المعني من الأدلة القطعية، إذ هي عدل القرآن الكريم فهي الحجّة الثانية بعد الذكر الحكيم، و من أعرض عن السنّة و استغني بالقرآن الكريم فقد عدل عن المحجّة البيضاء.

و قد يطلق السنة و يراد منها الخبر الحاكي عن السنّة الواقعية و هو المراد في المقام سواء نقلت بصورة متواترة أو مستفيضة أو محفوفة بالقرائن أو مجرّدة عن الاستفاضة و القرائن، و الكلام هنا في حجّية الخبر الواحد المجرّد عن كلّ شيء، فانّ المتواتر أو الخبر الواحد المحفوف بالقرينة يفيدان العلم، و هكذا الخبر المستفيض يورث الاطمئنان المتاخم للعلم.

امّا كون السنّة الخبر الواحد المجرد عن القرائن« دليلاً ظنياً فإنّما هو لأجل سندها، و أمّا من حيث الدلالة فقد عرفت أنّ الدلالة في الجميع دلالة قطعية بالنسبة إلي المراد الاستعمالي، بل المراد الجدي في بعض المقامات.

ثمّ إنّ الإفتاء بمضمون الخبر الواحد يتوقف علي ثبوت أمرين:

أ: إمكان التعبّد به إمكاناً ذاتيّاً.

ب: إمكان التعبّد به إمكاناً وقوعيّاً.

ص: 48

أمّا الإمكان بالمعني الأوّل الذي يعبّر عنه بالإمكان الماهوي فهو أمر لا سترة عليه، ضرورة انّ التعبّد بالخبر ليس واجباً و لا ممتنعاً فيُصبح أمراً ممكناً بالذات، فنسبة جواز التعبد إلي الخبر كنسبة الوجود و العدم بالنسبة إلي الإنسان، فالبحث عن الإمكان بهذا المعني، أمر خارج عن محط البحث.

و أمّا الإمكان بالمعني الثاني و هو الذي لا يمنع عن وقوعه مانع خارجي عن الذات بعد إمكانه الذاتي فهو داخل محطّ البحث.

و هذا نظير إدخال المطيع في النار، فإنّه و إن كان ممكناً بالذات، لأنّه سبحانه قادر علي الحَسن و القبيح، لكن غير ممكن وقوعاً لمخالفته لعدله و حكمته، فهو ممكن بالذات غير ممكن وقوعاً.

فذهب بعضهم كابن قبة (1) إلي امتناع التعبّد بالظن وقوعاً و استدلّ له بوجهين:

الأوّل: لو جاز العمل بالخبر الواحد في الفروع، لجاز العمل به في الأُصول، فلو أخبر أحد من اللّه سبحانه لزم قبول قوله إذا كان عادلاً بلا حاجة إلي طلب البيّنة و المعجزة.

يلاحظ عليه: أنّ الأمر في الفروع أسهل، فقبول الخبر فيها لا يلازم قبول خبره في ادّعاء النبوة التي هي أمر خطير.

الثاني: انّه يستلزم تحليل الحرام أو تحريم الحلال، فإذا كان الحكم الواقعي هو الحلية و قام خبر الواحد علي الحرمة أو بالعكس و قلنا بحجّيته، يلزم أحد المحذورين.4.

ص: 49


1- . محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي المتكلّم المعاصر لأبي القاسم البلخي الذي توفّي عام 317 و قد توفي ابن قبة قبله بقليل. لاحظ رجال النجاشي برقم 1024.

و يعبّر عن حلّ هذا الاشكال في مصطلح الأُصوليّين »بالجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي«.

و قد فصّل المتأخرون الكلام فيه و موجز الجواب في هذا المقام عن هذا الإشكال انّه إذا كان مفاد الخبر موافقاً للواقع يكون منجّزاً للحكم الواقعي، و أمّا إذا كان مخالفاً للواقع فيكون الحكم الواقعي عند من قامت الأمارة علي خلافه، إنشائياً لا فعلياً، و إنّما يتوجّه الإشكال إذا كان هناك حكمان فعليان متضادان في واقعة واحدة، و أمّا إذا كان أحد الحكمين(الحكم الواقعي )إنشائياً و الآخر فعلياً فلا إشكال فيه، و التفصيل يطلب من دراسات علياء.

ما هو الأصل في العمل بالظنّ؟

اشارة

و قبل التعرّف علي أدلّة وقوع التعبّد بالظن في الشريعة الإسلامية يجب الوقوف علي ما هي القاعدة الأوّلية في العمل بالظن، فهل هي حرمة العمل بالظن إلاّ ما خرج بالدليل؟ أو الأصل جواز العمل بالظن إلاّ ما خرج بالدليل؟ فعلي الأوّل يكون الأخذ بواحد من أقسام الظنون كالخبر الواحد و قول اللغوي و الشهرة الفتوائية و غيرها متوقفاً علي وجود دليل، و إلاّ فالأصل هو الحرمة; كما أنّه تنعكس القاعدة علي القول الثاني، فالأصل هو حجّية كلّ ظن إلاّ ما قام الدليل علي الحرمة كالقياس و الاستحسان.

و بذلك يعلم أنّ المراد من الأصل في العنوان هو مقتضي الأدلة الاجتهادية، و يعبّر عنها بمقتضي القاعدة الأوّلية و ليس المراد منه هو الأصل العملي.

و علي كلّ تقدير اتّفقت كلمة المحقّقين علي أنّ الأصل هو حرمة العمل بالظن إلاّ أن يقوم الدليل علي الحجّية.

ص: 50

و الدليل عليه هو انّ البدعة أمر محرم إجماعاً من غير خلاف ; و هي عبارة عن ادخال ما يعلم انّه ليس من الدين أو يشكّ انّه منه، في الدين; و الاعتماد علي الظن الذي لم يقم دليل علي جواز العمل و الإفتاء علي وفقه ، التزام بكون مؤدّاه حكم اللّه في حقّه و حقّ غيره، و هذا هو نفس البدعة، لأنّه يُدخل في الدين ما يشكّ انّه من الدين.

و بعبارة أُخري: انّ العمل بالظن عبارة عن صحّة إسناد مؤدّاه إلي الشارع في مقام العمل، و من المعلوم أنّ إسناد المؤدّي إلي الشارع و العمل به إنّما يصحّ في حالة الإذعان بأنّه حكم الشارع و إلاّ يكون الإسناد تشريعاً قولياً و عملياً دلّت علي حرمته الأدلّة الأربعة، و ليس التشريع إلاّ إسناد ما لم يعلم أنّه من الدين إلي الدين.

قال سبحانه:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللّهِ تَفْتَرُونَ (1) ). (2)

فالآية تدلّ علي أنّ الإسناد إلي اللّه يجب أن يكون مقروناً بالإذن منه سبحانه، و في غير هذه الصورة يعدّ افتراءً سواء كان الإذن مشكوك الوجود كما في المقام أو مقطوع العدم، و الآية تعمّ كلا القسمين، و المفروض انّ العامل بالظن شاك في إذنه سبحانه و مع ذلك ينسبه إليه.

و قال سبحانه:( وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَي اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (3) ). (4)

تجد انّه سبحانه يذم التقوّل بما لا يُعلم حدودُه من اللّه سواء أ كان مخالفاً للواقع أم لا، و العامل بالظن يتقوّل بلا علم.8.

ص: 51


1- سوره 10 - آيه 59
2- . يونس:59.
3- سوره 7 - آيه 28
4- . الأعراف:28.

فخرجنا بالنتيجة التالية:

إنّ الضابطة الكلية في العمل بالظن هي المنع، لكونه تشريعاً قولياً و عملياً محرّماً و تقوّلاً علي اللّه بغير علم، فالأصل في جميع الظنون أي في باب الحجج هو عدم الحجّية، إلاّ إذا قام الدليل القطعي علي حجّيته.

ثمّ إنّ الأُصوليّين ذكروا خروج بعض الظنون عن هذا الأصل بالدليل القطعي و بذلك خرج عن كونه تقولاً بلا علم، و هي:

1. خبر الواحد.

2. الإجماع المنقول بخبر الواحد.

3. الشهرة الفتوائية.

4. قول اللغوي.

و إليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر:

ص: 52

الأدلّة الظنّية
1- حجّية السنّة المحكية بخبر الواحد
اشارة

السنّة بمعني قول المعصوم أو فعله أو تقريره حجّة بلا كلام، كما أنّه لا شكّ في حجّية الخبر الحاكي للسنّة إذا كان خبراً متواتراً أو محفوفاً بالقرينة لإفادتهما العلم، إنّما الكلام في حجّية الحاكي إذا كان خبراً مجرّداً عن القرينة و كان الراوي ثقة، فقد ذهب معظم الأُصوليين إلي حجّيته و استدلّوا عليه بالكتاب و السنّة و الإجماع، و قد ذكرنا دلائلهم في كتاب »الموجز« فلا حاجة إلي الإعادة.

لكن الأولي الاستدلال عليها بالسيرة العقلائية المنتشرة بينهم، فقد جرت سيرتهم علي العمل بخبر الثقة المفيد للاطمئنان الذي هو علم عرفي و إن لم يكن علماً عقلياً، و ما هذا إلاّ لأجل انّ تحصيل العلم في أغلب الموارد موجب للعسر و الحرج، هذا من جانب، و من جانب آخر انّ القلب يسكن إلي قول الثقة، و يطمئن به، و لأجل ذلك يعد عند العرف علماً لا ظنّاً، لما له من ملكة رادعة عن الاقتحام في الكذب، فبملاحظة هذين الأمرين جرت سيرتهم علي الأخذ بقول الثقة.

و لو كانت السيرة أمراً غير مرضي للشارع، كان عليه الردع عنها كما ردع عن العمل بقول الفاسق.

و بعبارة أُخري: انّك إذا سبرت أحوال الأُمم في العصور الغابرة، تقف علي أنّ سيرتهم جرت علي العمل بخبر الثقة، و انّ عمل المسلمين به لم يكن إلاّ

ص: 53

استلهاماً من تلك السيرة العقلائية التي ارتكزت في نفوسهم.

و لو كان العمل بأخبار الآحاد الثقات أمراً مرفوضاً لكان للنبي(صلي الله عليه و آله و سلم)و الأئمّة المعصومين، الردع القارع و الطرد الصارم حتي يتنبه الغافل و يفهم الجاهل. كما تضافرت الروايات علي ردّ القياس و سائر المقاييس الظنّية الدارجة بين أهل السنّة. فلو كان العمل بخبر الواحد علي غرار العمل بالقياس لعمّه الردع من قبل أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، و لوصلت إلينا رواياتهم الناهية عن العمل بخبر الواحد، و حيث إنّه لم يرد شيء من هذا القبيل، دلّ ذلك علي إمضائهم العمل بخبر الواحد.

و ثمة نكتة أُخري و هي انّ ما استدلّ به الأُصوليّون من الكتاب و السنّة علي حجّية قول الثقة ليس في مقام تأسيس القاعدة و اضفاء الحجية علي قول الثقة، بل الكلّ عند الدقة و الإمعان ناظر إلي هذه السيرة العقلائية، فلاحظ قول الراوي(عبد العزيز بن المهتدي، و الحسن بن علي بن يقطين) للإمام الرضا(عليه السلام).

أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة، آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: »نعم«. (1)

كما يشير إليه قول أبي الحسن الثالث لأحمد بن إسحاق عند ما سأله بقوله من أُعامل؟ و عمّن آخذ؟ و قول من أقبل؟ فقال الإمام: »العمري ثقتي، فما أدّي إليك عنّي فعنّي يؤدّي، و ما قال لك عنّي، فعنّي يقول، فاسمع له، و أطع فإنّه الثقة المأمون«. (2)

فإنّ الحوار الدائر بين الراوي و الإمام حاك عن أنّ الكبري(حجّية قول الثقة) كان أمراً مسلّماً بينهما، و إنّما الكلام في الموارد و المصاديق، فقال الإمام انّ4.

ص: 54


1- . الوسائل: 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33، 34.
2- . الوسائل: 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.

العمري ثقة.

و لو قيل انّه ليس علي حجية قول الثقة إلاّ دليل واحد، و هو السيرة العقلائية فقط و سائر الأدلّة إرشاد إليها أو بيان لصغريات القاعدة لم يقل قولاً مجازفاً.

ثمّ إنّ الشيخ الطوسي »جعل سيرة الأصحاب علي العمل بخبر الواحد دليلاً علي الحجّية، و بما انّ سيرتهم كانت بمرأي و مسمع من الأئمّة، تكشف عن إمضائهم لها«، و لكن الحقّ انّ سيرة أصحابنا لم تكن سيرة منقطعة عن سيرة العقلاء بل كانت متفرعة عنها، و بما انّ دليل الشيخ من أتقن الأدلة علي حجّية قول الثقة نذكر عبارته في المقام، حيث يقول:

إنّي وجدت الفرقة المحقّة مجمعة علي العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم و دوّنوها في أُصولهم، لا يتناكرون ذلك و لا يتدافعونه حتي أنّ واحداً منهم إذا أفتي بشيء لا يعرفونه، سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم علي كتاب معروف أو أصل مشهور، و كان راويه ثقة لا يُنكر حديثه، سكتوا و سلّموا الأمر في اللّه و قبلوا قوله، و هذه عادتهم و سجيّتهم من عهد النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)و من بعده من الأئمّة(عليهم السلام)، و من زمن الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام)الذي انتشر العلم عنه و كثرت الرواية من جهته، فلولا أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزاً لما أجمعوا علي ذلك و لأنكروه، لأنّ إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط و السهو. (1)

ثمّ إنّ الشيخ و ان عبر في المقام بلفظ الإجماع الموهِم انّه استدلّ بالإجماع، و لكنّه في الحقيقة احتجاج بالسيرة العملية للأصحاب، المستمدة من السيرة العقلائية..

ص: 55


1- . العدة في أُصول الفقه:1/126، ط عام 1376ه.
الحجّة هي الخبر الموثوق بصدوره

إذا كانت السيرة هي الدليل الوحيد علي حجّية قول الثقة، فاعلم أنّ عمل العقلاء بمفاده لأجل كون وثاقة الراوي مفيداً للاطمئنان بصدق الخبر و مطابقته للواقع، و ليست لوثاقته موضوعية في المقام حتي نتوقف عن العمل عند عدم إحراز وثاقة الراوي مع حصول الوثوق بصدور الرواية من قرائن أُخري، وعليه فمناط الحجّية عند العقلاء هو الخبر الموثوق بصحته و صدوره لا خصوص كون الراوي ثقة، و لذلك لو كان المخبر ثقة لكن دلّت القرائن علي عدم صدق الخبر لما عملوا به.

فاتّضح بما ذكرنا انّ موضوع الحجّية هو الخبر الموثوق بصدوره فيشمل الخبر الصحيح و الموثق و الحسن إذا كانت بمرحلة موروثة للاطمئنان، بل يشمل الضعيف إذا دلّت القرائن علي صدقه.

و إلي ما ذكرنا أشار الشيخ الأنصاري بعد بيان الأدلّة العقلية التي أُقيمت علي حجّية الخبر الواحد بقوله: و الإنصاف انّ الدال فيها لم يدلّ إلاّ علي وجوب العمل بما يفيد الوثوق و الاطمئنان بمؤدّاه، و هو الذي فسّر به الصحيح في مصطلح القدماء (1)و المعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيداً بحيث لا يعتني به العقلاء، و لا يكون عندهم موجباً للتحيّر و التردّد. (2)

ص: 56


1- . الصحيح عند القدماء ما يورث الوثوق بالمضمون، و الصحيح عند المتأخرين ما يكون آحاد رجال السند عدولاً.
2- . الفرائد:106، طبعة رحمة اللّه.

الأدلّة الظنّية

2- الإجماع المنقول بخبر الواحد

ينقسم الإجماع إلي محصَّل و منقول، فلو قام المجتهد بنفسه بتتبّع آراء العلماء في حكم واقعة و حصّل اتّفاقهم عليه فهو إجماع محصَّل، و أمّا إذا قام مجتهد آخر بهذا العمل و وقف علي اتفاقهم علي حكم في واقعة ثمّ نقله إلي غيره، فيكون هذا بالنسبة إلي المنقول إليه إجماعاً منقولاً و إن كان بالنسبة إلي الناقل إجماعاً محصَّلاً.

و قد عرفت وجه حجّية الإجماع المحصَّل، إنّما الكلام في حجّية الإجماع المحكي بخبر الثقة، و البحث في المقام منصبٌّ علي أمر واحد و هل يشتمل دليل حجّية قول الثقة هذا المورد(نقل الإجماع)و عدمه، فلو قلنا بشموله له يكون الإجماع المنقول حجّة كالإجماع المحصّل بملاك واحد و إلاّ فلا.

و بما انّ ملاك حجّية الإجماع المحصل هو كشفه عن قول المعصوم أو عن حجّة معتبرة فلا يكون الإجماع المنقول حجّة إلاّ إذا بلغ بهذه المرتبة أي يكون كاشفاً عن قول المعصوم أو عن حجّة معتبرة.

ثمّ إنّ المشهور عدم حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد، بمعني انّ أدلّة حجّية خبر الواحد لا يعمُّ المورد، و ذلك لأنّ قول الثقة إنّما يكون حجّة إذا أخبر عن قول المعصوم أو الحجّة المعتبرة عن حس لا عن حدس، كما إذا أخبر زرارة عن قول الإمام بالسماع عنه، و أمّا المقام فإنّ ناقل الإجماع و إن كان ينقل الاتفاق

ص: 57

عن حس لكنّه لا ينقل قول الإمام عن حس و إنّما ينقله عن حدس، و دليل حجّية قول الثقة لا يشمل ما ينقله المخبر لا عن حس.

فإن قلت: إنّ الإخبار عن حدس إذا كان مستنداً إلي الحس، الملازم للمخبر به عند الناقل و المنقول إليه، فهو حجّة، كما إذا أخبر عن الشجاعة و العدالة اللّتين هما من الأُمور النفسانية غير المحسوسة مستنداً إلي مشاهداته في ميدان القتال و تورّعه عن المحرّمات و المشتبهات، فليكن الإجماع المنقول بخبر الواحد من هذا النوع من الخبر فانّ الناقل و إن لم يخبر عن قول الإمام عن حس و إنّما يخبر عنه عن حدس لكن حدسه مستند إلي اتّفاق العلماء الذي هو أمر محسوس، و هو عند الناقل و المنقول إليه ملازم لوجود الدليل المعتبر للعلماء في إفتائهم.

قلت: ما ذكرته صحيح إذا بذل الناقل جهده لتحصيل مثل ذلك الاتّفاق الذي لا يفارق الحجّة و أنّي لأكثر الناقلين للإجماع هذا النوع من تحصيل الجهد، فإنّ غالب نَقَلَة الإجماع يتساهلون في نقل الإجماع، و ربما يكتفون في ادّعاء الإجماع بالعثور علي فتوي جماعة قليلة من دون أن يكون هناك ملازمة بين الاتّفاق و الدليل المعتبر.

فإذا كان هذا هو الحال في أغلب الإجماعات الدارجة علي ألسن الفقهاء المتقدّمين و المتأخّرين، فلا يصحّ الاعتماد عليه إذ ليس هناك أيّة ملازمة بين السبب(الاتفاق الذي حصَّله الناقل) و المسبب(قول المعصوم أو الدليل المعتبر).

نعم لو كان الناقل ممّن لا يدّعي الإجماع إلاّ بعد تتبع تام في المصادر، و كانت المسألة من المسائل المعنونة في العصور السابقة يمكن الاعتماد علي إخباره عن الإجماع الملازم لقول المعصوم أو الحجّة المعتبرة، و هو بين نقلة الإجماع نادر جدّاً.

و أقصي ما يمكن أن يقال انّ الإجماعات المنقولة تصدّ الفقيه عن التسرّع بالفتوي إلاّ بعد التتبع التام في كلمات العلماء لتُعرف مدي صحّة الإجماع.

ص: 58

الأدلّة الظنّية

3- الشهرة الفتوائيّة

إنّ الشهرة علي أقسام ثلاثة:

أ. الشهرة الروائيّة.

ب. الشهرة العمليّة.

ج. الشهرة الفتوائيّة.

أمّا الأُولي، فهي الرواية التي اشتهر نقلها بين المحدِّثين و كثرت رواتها، كالأحاديث الواردة في نفي التجسيم و التشبيه و نفي الجبر و التفويض عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)و يقابلها النادر.

ثمّ إنّ الخبر المشهور إنّما يكون معبِّراً عن الحكم الشرعي فيما إذا أفتي الفقهاء علي وفقه، و أمّا إذا رواه المحدّثون و لكن أعرض عنه الفقهاء، فهذه الشهرة موهنة لا جابرة.

أمّا الثانية، فهي الرواية التي عمل بها مشهور الفقهاء و أفتوا علي ضوئها، فهذه الشهرة تورث الاطمئنان، و تسكن إليها النفس، و هي التي يصفها الإمام في مقبولة عمر بن حنظلة الّتي وردت في علاج الخبرين المتعارضين اللّذين أخذ بكلّ واحد منهما أحد الحكَمين في مقام فصل الخصومات بقوله:»يُنظرُ إلي ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمعَ عليه عند أصحابك فيُؤخذ به من

ص: 59

حُكْمنا، و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك«. (1)

و علي ضوء ذلك فالشهرة العملية تكون سبباً لتقديم الخبر المعمول به علي المتروك الشاذّ الذي لم يعمل به.

و هل يكون عمل الأصحاب المتقدّمين بالرواية جابراً لضعف سندها و إن لم يكن لها معارض؟ ذهب المشهور إلي أنّه جابر لها. نعم الجابر للضعف هو عمل المتقدّمين من الفقهاء الذين عاصروا الأئمة(عليهم السلام)، أو كانوا في الغيبة الصغري، أو بعدها بقليل كوالد الصدوق و ولده و المفيد و غيرهم، و أمّا المتأخّرون فلا عبرة بعملهم و لا إعراضهم، و قد أوضحنا ذلك في محاضراتنا. (2)

و أمّا الثالثة، فهي عبارة عن اشتهار الفتوي في مسألة لم ترد فيها رواية و هي التي عقدنا البحث لأجله، مثلاً إذا اتّفق المتقدّمون علي حكم في مورد، و لم نجد فيه نصاً من أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)يقع الكلام في حجّية تلك الشهرة الفتوائية و عدمها.

و الظاهر حجّية مثل هذه الشهرة، لأنّها تكشف عن وجود نص معتبر وصل إليهم و لم يصل إلينا حتي دعاهم إلي الإفتاء علي ضوئه، إذ من البعيد أن يُفتي أقطاب الفقه بشيء بلا مستند شرعي و دليل معتدّ به، و قد حكي سيد مشايخنا المحقّق البروجردي في درسه الشريف أنّ في الفقه الإمامي مسائل كثيرة تلقّاها الأصحاب قديماً و حديثاً بالقبول، و ليس لها دليل إلاّ الشهرة الفتوائية بين8.

ص: 60


1- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1. و قد رواها المشايخ الثلاثة في جوامعهم و تلقّاها الأصحاب بالقبول. و لذلك سمّيت بالمقبولة.
2- . المحصول في علم الأُصول:3/207 208.

القدماء، بحيث لو حذفنا الشهرة عن عداد الأدلّة، لأصبحت تلك المسائل فتاوي فارغة مجرّدة عن الدليل.

و يظهر من غير واحد من الروايات أنّ أصحاب أئمّة أهل البيت كانوا يقيمون وزناً للشهرة الفتوائية السائدة بينهم و يقدّمونها علي نفس الرواية التي سمعوها من الإمام(عليه السلام)، و لنأت بنموذج:

روي عبد اللّه بن محرز بيّاع القلانس قال: أوصي إليّ رجل و ترك خمسمائة درهم أو ستمائة درهم، و ترك ابنة، و قال: لي عصبة بالشّام، فسألت أبا عبد اللّه(عليه السلام)عن ذلك فقال: أعط الابنة النصف، و العصبة النصف الآخر، فلمّا قدمت الكوفة أخبرت أصحابنا فقالوا: اتّقاك، فأعطيت الابنة النصف الآخر. ثمّ حججت فلقيت أبا عبد اللّه(عليه السلام)فأخبرته بما قال أصحابنا و أخبرته أنّي دفعت النصف الآخر إلي الابنة، فقال: أحسنت إنّما أفتيتك مخالفة العصبة عليك.. (1)

توضيح الرواية: انّه إذا توفّي الأب و لم يكن له وارث سوي البنت، فالمال كلّه لها، غاية الأمر:

النصف الأوّل فرضاً و النصف الآخر ردّاً.

و لكن أهل السنّة يورّثون البنت في النصف و العصبةَ في النصف الآخر، و قد كان حكم الإمام في اللقاء الأوّل بما يوافق فتوي العامة، و لمّا وقف الراوي علي أنّ المشهور بين أصحاب الإمام غير ما سمعه ترك قول الإمام و عمل بما هو المشهور عند أصحابه. فلولا أنّ للشهرة الفتوائية قيمة علمية لما عمل الراوي بقول الأصحاب، و هذا يدلّ علي أنّه كانت للشهرة الفتوائية يومذاك مكانة عالية إلي حدّ ترك الراوي القولَ الذي سمعه من الإمام و قد أخبر الإمام عند وفد إليه في العام القادم و هو عليه صحّح عمله.4.

ص: 61


1- . الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديث4.

الأدلّة الظنّية

4- حجّية قول اللغوي

إنّ لتمييز الموضوع له عن غيره طرقاً قد تقدّم بعضها في الجزء الأوّل، أعني: التبادر و صحّة الحمل و الاطراد و قول اللغويّ، و الكلام في المقام في حجّية الأخير في تعيين الموضوع له.

و علي القول بالحجّية، فهل هو حجّة من باب الشهادة و انّ اللغوي يشهد انّ العرب تستعمل ذلك اللفظ في هذا المعني؟ أو حجّة من باب حجّية أهل الخبرة كالمقوم؟ فيها وجهان.

فذهب بعض إلي أنّ قوله حجّة من باب الشهادة، فيعتبر فيه التعدّد و العدالة و اخباره عن حس.

و ربما يقال بأنّه حجّة من باب حجّية قول أهل الخبرة، كالمقوّم و الطبيب، فتشمله أدلّة حجّية قول أهل الخبرة، فلا تعتبر فيه العدالة و التعدّد، بل يكفي الوثوق بقوله.

يستدلّ للقول الأوّل بأنّ تعيين معاني الألفاظ من قبيل الأُمور الحسية التي لا دخل للنظر و الرأي فيها، لأنّ اللغوي ينقلها علي ما وجده في الاستعمالات و المحاورات، و ليس له إعمال النظر و الرأي، فيكون داخلاً في باب الشهادة و تشمله أدلّة الشهادة، و يعتبر فيها العدالة و التعدّد علي قول المشهور. (1)

ص: 62


1- . مصباح الأُصول:2/131.

يلاحظ عليه: أنّ إخباره عن موارد الاستعمال فضلاً عن إخباره عن المعني الحقيقي في مقابل المعني المجازيّ ليس مجرداً عن إعمال النظر و الاجتهاد، بل هو مزيج بالحدس، و يدلّ علي ذلك انّ أصحاب المعاجم يستشهدون علي إثبات مقاصدهم بالآيات و الأحاديث النبوية و الأشعار، فيستخرجون موارد الاستعمال ببركة الإمعان فيها، فالجلُّ لو لا الكل مزيج بالاجتهاد و يتّضح ذلك لمن سَبَرَ كتب اللغة، فالحق حجّية قولهم من باب انّهم أهل الخبرة.

و قد أورد علي هذا القول بعدم حجّية هذه السيرة، لعدم وجودها في زمان المعصومين(عليهم السلام)، فإنّ الرجوع إلي كتب اللغويين أمر حادث. (1)

يلاحظ عليه: بوجود هذه السيرة(أي الرجوع إلي أئمّة اللغة و كتبهم) في عصر أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، و هذا هو الخليل بن أحمد الفراهيدي من أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام)و قد أدرك عصر الإمام الكاظم(عليه السلام)ألّف كتابه العين ليرجع إليه الناس، و قد توفّي عام 170ه، و كان مرجعاً في اللغة.

و كان الأصمعي(المتوفّي207ه) المرجع في اللغة و الأدب، و كان الناس يسألونه عن معاني الألفاظ، و قد سئل يوماً عن الألمعيّ فأنشد:

الألمعيّ الذي يظن بك الظن كأن قد رأي و قد سمعا

و كان ابن عباس المرجعَ الكبير في تفسير لغات القرآن، و كان يقول:الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله بلغة العرب رجعنا إلي ديوانه، فالتمسنا معرفة ذلك منه ثمّ قال:

إذا سألتموني عن غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر، فإنّ الشعر ديوان العرب.

و كان يُسأل عن القرآن فينشد فيه بالشعر، و قد سأله نافع بن الأزرق عن7.

ص: 63


1- . تهذيب الأُصول:2/97.

لغات القرآن ما يربو علي مائة و سبعين سؤالاً، فأجابه مستشهداً بشعر العرب، و هو يعرب عن إحاطة ابن عباس بشعر العرب و موارد استعماله، و قد نقلها السيوطي في »الإتقان«. (1)

هذا إذا قلنا بحجية قول اللغوي و أمّا إذا لم نقل بحجيّة قوله (2)، فليس للفقيه أيضاً غني عن الرجوع إلي المعاجم، و ذلك لأنّ هناك ألفاظاً فقهية معلومة إجمالاً، لكنّها مجهولة من حيث الشروط و القيود فلا تفهم إلاّ بالرجوع إلي المعاجم المعتبرة لاستظهار الحقيقة منها بالدقة و الإمعان.

لا أقول: إنّ قول اللغوي الواحد حجّة، بل أقول إنّ الرجوع إلي المعاجم المختلفة المعتبرة و الدقّة في كلماتهم و ضرب بعضها علي بعض، يورث الاطمئنان و يزيح الستار عن وجه الواقع، مثلاً: اختلف الفقهاء في معني القمار و المقامرة و انّه هل يعتبر فيهما العوض أو لا؟ و هل يعتبر فيه الآلة المتعارفة أو لا؟ و لا يعلم ذلك إلاّ بعد مراجعة اللغات الأصلية حتّي يحصل الاطمئنان بواحد من الطرفين.

إلي هنا تمّ البحث في الأدلّة الظنّية الّتي قامت علي حجّيتها أدلّة قطعية، فيبقي البحث في العرف و السيرة، و قد تطرّقنا إليها في »الموجز« علي قدر الكفاية.

ثمّ إنّ هناك ظنوناً غير معتبرة عندنا و معتبرة عند أهل السنّة نتناولها بالبحث لمسيس الحاجة إلي الوقوف عليها.6.

ص: 64


1- . الإتقان:1/382 416.
2- . ذكرنا دليل القائلين بحجّية قول اللغوي و عدمها في الموجز، ص175 176.
الظنون غير المعتبرة
اشارة

1. القياس 2. الاستحسان 3. الاستصلاح أو المصالح المرسلة 4. سدّ الذرائع 5. فتح الذرائع 6. قول الصحابي 7. إجماع أهل المدينة

ص: 65

ص: 66

الظنون غير المعتبرة تنقسم الظنون عندنا إلي قسمين: معتبرة و قد مضي الكلام فيها و غير معتبرة عندنا، و معتبرة عند أكثر أهل السنّة، و هي عبارة عن الأُمور التالية:

القياس، الاستحسان، الاستصلاح، سد الذرائع، الحيل(فتح الذرائع)، قول الصحابي، إجماع أهل المدينة، فلنأخذ كلّ واحد بالبحث علي حدة.

1. القياس
و لنقدم أُموراً:
الأمر الأوّل: حقيقة القياس

القياس في اللّغة: هو التسوية، يقال قاس هذا بهذا أي سوّي بينهما، قال علي(عليه السلام):»لا يقاس بآل محمد(صلي الله عليه و آله و سلم)من هذه الأُمّة أحد« (1) أي لا يُسوّي بهم أحد.

و في الاصطلاح: استنباط حكم واقعة لم يرد فيها نصٌّ، عن حكم واقعة ورد فيها نصٌّ، لتساويهما في علّة الحكم، و مناطه و ملاكه.

ثمّ إنّ أركان القياس أربعة:

الأصل: و هو المقيس عليه.

الفرع: و هو المقيس.

ص: 67


1- . نهج البلاغة، الخطبة الثانية.

الحكم: و هو ما يحكم به علي الثاني بعد الحكم به علي الأوّل.

العلّة: و هو الوصف الجامع، الذي يجمع بين المقيس و المقيس عليه، و يكون هو السبب للقياس.

مثلاً إذا قال الشارع: »الخمر حرام لكونه مسكراً«، فإذا شككنا في حكم سائر السوائل المسكرة كالنبيذ و الفقاع يحكم عليهما بالحرمة، لاشتراكهما مع الخمر في الجهة الجامعة.

الأمر الثاني: أقسام القياس

إنّ القياس ينقسم إلي منصوص العلّة، و مستنبطها.

فالأوّل فيما إذا نصَّ الشارع علي علّة الحكم و ملاكه علي وجه علم أنّها علّة الحكم الّتي يدور الحكم مدارها لا حكمته التي ربّما يتخلّف الحكم عنها.

و الثاني، فيما إذا لم يكن هناك تنصيص من الشارع عليها، و إنّما قام الفقيه باستخراج علّة الحكم بفكره و جهده، فيطلق علي هذا النوع من القياس، مستنبط العلّة.

و ينقسم مستنبط العلّة إلي قسمين:

تارة يصل الفقيه إلي حدّ القطع بأنّ ما استخرجه علّة الحكم و مناطه.

و أُخري لا يصل إلاّ إلي حدّ الظن بكونه كذلك.و سيوافيك حكم القسمين تحت عنوان »تنقيح المناط«.

و قلّما يتّفق لإنسان عادي أن يقطع بأنّ ما وصل إليه من العلّة هو علّة التشريع و مناطه واقعاً، و أنّه ليس هناك ضمائم أُخري وراء ما أدرك.

ص: 68

الأمر الثالث: الفرق بين علّة الحكم و حكمته

الفرق بين علّة الحكم و حكمته، هو أنّ الحكم لو كان دائراً مدار الشيء وجوداً و عدماً، فهو علّة الحكمِ و مناطه، كالإسكار بالنسبة إلي الخمر، و امّا إذا كان الحكم أوسع ممّا ذُكر في النصّ، أو اسْتُنْبِطَ، فهو من حِكَم الأحكام و مصالحه، لا من مناطاته و ملاكاته، فمثلاً:

الإنجاب و تكوين الأُسرة من فوائد النكاح و مصالحه، و ليس من مناطاته و ملاكاته، بشهادة أنّه يجوز تزويج المرأة العقيمة و اليائسة و من لا تطلب ولداً بالعزل، و غير ذلك من أقسام النكاح.

الأمر الرابع: القياس في منصوص العلّة

العمل بالقياس في منصوص العلّة راجع في الحقيقة إلي العمل بالسنّة، لا بالقياس، لأنّ الشارع شرّع ضابطة كلّية عند التعليل، فنسير علي ضوئها في جميع الموارد التي تمتلك تلك العلّة، كما في قول الإمام الرضا(عليه السلام)في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع: ماء البئر واسع لا يفسده شيء، إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتي يذهب الريح، و يطيب طعمه، لأنّ له مادة. (1)

فإنّ قوله :»لأنّ له مادة« تعليل لقوله:»لا يفسده شيء« فيكون حجّة في غير ماء البئر، لانّه يشمل بعمومه ماء البئر، و ماء الحمام، و العيون و حنفية الخزّان و غيرها، فلا ينجس الماء إذا كانت له مادّة، و عندئذ يكون العمل بظاهر السنّة لا بالقياس، فليس هناك أصل و لا فرع و لا انتقال من حكم الأصل إلي الفرع، بل موضوع الحكم هو العلّة، و الفروع بأجمعها داخلة تحتها.

ص: 69


1- . وسائل الشيعة:1، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 6.
الأمر الخامس: قياس الأولوية

القياس الأولوي: هو عبارة عن كونِ الفرع(ضرب الوالدين) أولي بالحكم من الأصل(التأفيف) عند العرف، مثل دلالة قوله تعالي:( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ (1) ) (2)علي تحريم الضرب، و لا شكَّ في وجوب الأخذ بهذا الحكم، لأنّه مدلول عرفيّ، يقف عليه كل من سمع الآية.

الأمر السادس: تنقيح المناط أو إلغاء الخصوصيّة

إذا اقترن الموضوع في لسان الدليل بأوصاف، و خصوصيات، لا يراها العرف المخاطب دخيلة في الموضوع، و يتلقّاها من قبيل التمثيل علي وجه القطع و اليقين، فهذا ما يسمّي بتنقيح المناط أو الغاء الخصوصية كما إذا ورد في السؤال: رجل شك في المسجد بين الثلاث و الأربع، فأُجيب بأنّه يبني علي الأكثر، فإنّ العرف لا يري للرجولية و مكان الشك(المسجد) تأثيراً في الحكم، و لذلك يري الحكم ثابتاً لمطلق الشاك، من غير فرق بين الرجل و المرأة، و المسجد و غيره.

و هذا(قياس المرأة بالرجل و غير المسجد بالمسجد) ليس بقياس في الحقيقة بل حكم الكل مستفاد من النصّ، بمساعدة فهم العرف علي عدم مدخلية القيدين.

و مما ذكرنا ظهر انّ النزاع في حجّية القياس منحصر في القياس الذي استنبط المجتهد علّته و مناطه، من دون أيّ دلالة عليه من جانب الشرع و إنّما يقوم به عقل المستنبط و حدسه علي حدّ الظنّ بأنّ ما استنبطه مناط الحكم و ملاكه.

ص: 70


1- سوره 17 - آيه 23
2- . الإسراء:23.
الأمر السابع: السبب من وراء العمل بالقياس

ظهر القول بالقياس بعد رحيل النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)لمواجهة الأحداث الجديدة، و كان هناك اختلاف حادّ بين الصحابة في الأخذ به، و لو توفّرت بأيديهم نصوص فيها لما حاموا حول القياس، و لكن إعواز النصوص جرّهم إلي العمل بالقياس لأجل معالجة المشاكل العالقة و المسائل المستحدثة، و قد نقل ابن خلدون عن أبي حنيفة أنّه لم يصح عنده من أحاديث الرسول إلاّ سبعة عشر حديثاً. (1) فإذا كان الصحيح عنده هذا المقدار اليسير فكيف يقوم باستنباط الأحكام من الكتاب و السنّة؟! فلم يكن له محيص إلاّ اللجوء إلي القياس و الاستحسان.

فأئمّة أهل البيت(عليهم السلام)و لفيف من الصحابة و التابعين رفضوه و أكثروا من ذمِّه، و الشيعة عن بكرة أبيهم تبعاً للنبي(صلي الله عليه و آله و سلم)و أهل بيته أبطلوا العمل بالقياس، و وافقهم من الفقهاء داود بن خلف، إمام أهل الظاهر، و تبعه ابن حزم الأندلسي، فلم يقيموا له وزناً، و أوّل من توسّع في القياس هو أبو حنيفة شيخ أهل القياس، و تبعه مالك، و ابن حنبل.

و قد عقد شيخنا الحرّ العاملي في وسائله باباً خاصاً، أسماه باب »عدم جواز القضاء و الحكم بالمقاييس« و نقل فيه ما يربو علي عشرين حديثاً في النهي عن العمل بالقياس.

و مما نقل فيه انّ أبا حنيفة دخل علي أبي عبد اللّه(عليه السلام)، فقال له: »يا أبا حنيفة بلغني أنّك تقيس«.

قال: نعم، قال: »لا تقس فانّ أوّل من قاس هو إبليس«. (2) فقد قاس نفسه

ص: 71


1- . مقدمة ابن خلدون:444، الفصل السادس في علوم الحديث. نعم الحنفية ينكرون هذه النسبة إلي إمامهم.
2- . الوسائل: الجزء18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 24.

بآدم، فزعم أنّه أفضل من آدم، لأنّه خُلِق من طين، و هو خُلِقَ من النار، و لم يلتفت إلي أنّ ملاك السجود هو الروح الإلهية التي نفخت في آدم، فصار مجلي لأسمائه و صفاته تعالي و عاد معلّماً للملائكة.

أدلّة القائلين بالقياس
أ. الدليل النقلي

و اعلم أنّ الأصل الأوّلي في الظنون التي لم يقم دليل علي حجّيتها، هو عدم الحجّية و قد سبق انّ الشكّ في حجّية كلّ ظن لم يقم علي حجّيته دليل يلازم القطع بعدم الحجّية ما لم يدل دليل عليه (1) ، و قد استدل القائلون بحجّية القياس بوجوه نشير إلي أهمّها:

1. حديث الجارية الخثعمية قالت: يا رسول اللّه إنّ أبي أدركته فريضة الحج شيخاً، زمناً لا يستطيع أن يحج، إن حججت عنه أ ينفعه ذلك؟ فقال لها:»أ رأيت لو كان علي أبيك دين فقضيتيه، أ كان ينفعه ذلك؟« قالت: نعم، قال: »فدَيْن اللّه أحقّ بالقضاء«.

2. حديث ابن عباس: انّ امرأة جاءت إلي النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)فقالت: إنّ أُمي نذرت أن تحجّ فماتت قبل أن تحجّ، أ فأحج عنها؟ قال: »نعم حجّي عنها، أ رأيت لو كان علي أُمّك دَيْن أ كنت قاضية؟«.

قالت: نعم، فقال: »اقضوا للّه فإنّ اللّه أحقّ بالوفاء«. (2)

وجه الاستدلال: انّ الرسول ألْحق دَيْن اللّه بدين الآدمي في وجوب القضاء

ص: 72


1- . مرّ صفحة 51 من هذا الكتاب.
2- . السرخسي، أُصول الفقه:2/130.

و نفعه، و هو عين القياس بشهادة أنّه قال: »فدَيْن اللّه أحقّ بالقضاء و الوفاء«. (1)

يلاحظ علي الاستدلال بكلا الحديثين مضافاً إلي أنّ الاستدلال علي حجّية قياس غير المعصوم، بقياس المعصوم نوع من القياس، و هو أوّل الكلام أنّ القياس الوارد في كلام النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)من باب القياس الأولوي، و ذلك لأنّه إذا وجب الوفاء بحقوق الناس حسب النص فحقوق اللّه أولي بالقضاء و الوفاء كما نصّ به النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)في الحديث و أين هذا من مورد النزاع؟! و قد تقدّم انّ القياس الأولوي عمل بالنصّ، لأنّه مدلول عرفي.

3. حديث عمر بن الخطاب، قال: قلت: يا رسول اللّه، أتيتُ أمراً عظيماً، قبّلتُ و أنا صائم، فقال رسول اللّه: »أ رأيت لو تمضمضت بماء و أنت صائم«، فقلتُ: لا بأس بذلك، فقال رسول اللّه: »فصم«.

وجه الاستدلال: انّه(صلي الله عليه و آله و سلم)قاس القُبْلة بالمضمضة، فحكمَ بعدم بطلان الصوم فيها إيضاً.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الحديث دليل علي بطلان القياس، لأنّ عمر ظنَّ أنّ القُبلة تُبطل الصوم قياساً علي الجماع، فردَّ عليه رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): بأنّ الأشياء المماثلة و المتقاربة لا تستوي أحكامها.

و ثانياً: أنّ القياس عبارة عن استفادة حكم الفرع من حكم الأصل، بحيث يستمد الفرع حكمه من الأصل، و ليس المقام كذلك، بل كلاهما في مستوي واحد كغصني شجرة، أو كجدولي نهر.

و إن شئت قلت: إنّ المبطل هو الشرب لا مقدّمته(المضمضة)، كما أنّ المبطل هو الجماع لا مقدّمته، فبما أنّ المخاطب كان واقفاً علي ذلك الحكم في0.

ص: 73


1- . السرخسي، أُصول الفقه:2/130.

الشرب، دون الجماع، أرشده النبي إلي تشبيه القُبلَة بالمضمضة إقناعاً للمخاطَب، لا استنباطاً للحكم من الأصل.

ب: الدليل العقلي

و يقرّر بوجهين:

أ. انّه سبحانه ما شرّع حكماً إلاّ لمصلحة، و أنّ مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام، فإذا ساوت الواقعةُ المسكوت عنها، الواقعةَ المنصوص عليها في علّة الحكم التي هي مظنّة المصلحة، قضت الحكمة و العدالة أن تساويها في الحكم، تحقيقاً للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع، و لا يتفق و عدلَ اللّه و حكمتَه أن يحرّم الخمر لإسكارها محافظة علي عقول عباده، و يبيح نبيذاً آخر فيه خاصيّة الخمر، و هي الإسكار، لأنّ مآل هذا ، المحافظةُ علي العقول من مسكر، و تركها عرضة للذهاب بمسكر آخر. (1)

يلاحظ عليه: أنّ الكبري مسلّمة، و هي أنّ أحكام الشرع تابعة للمصالح و المفاسد، إنّما الكلام في وقوف الإنسان علي مناطات الأحكام و عللها علي وجه لا يخالف الواقع قيد شعرة، و أمّا قياس النبيذ علي الخمر فهو خارج عن محلّ الكلام، لأنّا نعلم علماً قطعيّاً بأنّ مناط حرمة الخمر هو الإسكار، و لذلك روي عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)أنّه سبحانه حرّم الخمر و حرّم النبيُّ كلَّ مسكر. (2) و لو كانت جميع الموارد من هذا القبيل لما اختلف في حجية القياس اثنان.

و لأجل إيضاح الحال، و أنّ المكلّف ربّما لا يصل إلي مناطات الأحكام، نقول:

ص: 74


1- . عبد الوهاب الخلاف: مصادر التشريع الإسلامي: 3534.
2- . الكليني:الكافي:1/265، باب التفويض إلي رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم).

اعلم أنّه إذا نصّ الشارع علي حكم و لم ينصّ علي علّته و مناطه، فهل للمجتهد التوصّل إلي معرفة ذلك الحكم عن طريق السبر و التقسيم بأن يُحصر الأوصاف التي توجد في واقعة الحكم، و تصلح لأن تكون العلّة، واحدة منها، و يختبرها وصفاً وصفاً، و بواسطة هذا الاختبار تُستبعد الأوصاف التي لا يصحّ أن تكون علّة، و يستبقي ما يصحّ أن يكون علة، و بهذا الاستبعاد و هذا الاستبقاء يتوصل إلي الحكم بأنّ هذا الوصف هو العلّة؟ و لكن في هذا النوع من تحليل المناط إشكالات واضحة مع غض النظر عن النهي الوارد في العمل بالقياس:

أوّلاً: نحتمل أن تكون العلّة عند اللّه غير ما ظنّه بالقياس، فمن أين نعلم بأنّ العلّة عندنا و عنده واحدة؟ ثانياً: لو افترضنا أنّ المُقيس أصاب في أصل التعليل، و لكن من أين نعلم أنّها تمام العلّة، لعلّها جزء العلّة و هناك جزء آخر منضمّ إليه في الواقع و لم يصل المُقيس إليه؟ ثالثاً: نحتمل أن تكون خصوصية المورد دخيلة في ثبوت الحكم، مثلاً لو علمنا بأنّ الجهل بالثمن علّة موجبة شرعاً في فساد البيع، و لكن نحتمل أن يكون الجهل بالثمن في خصوص البيع علّة، فلا يصحّ لنا قياس النكاح عليه، إذا كان المهر فيه مجهولاً، فالعلّة هي الجهل بالثمن، لا مطلق الجهل بالعوض حتي يشمل المهر، و مع هذه الاحتمالات لا يمكن القطع بالمناط.

و قد ورد علي لسان أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)النهي عن الخوض في تنقيح المناط، و يشهد بذلك ما رواه أبان بن تغلب، عن الإمام الصادق(عليه السلام)يقول أبان:

قلت له: ما يكون في رجل قطع اصبعاً من أصابع المرأة، كم فيها؟

ص: 75

قال: »عشر من الإبل«.

قلت: قطع اثنتين؟ قال: »عشرون«.

قلت: قطع ثلاثاً؟ قال:»ثلاثون«.

قلت: قطع أربعاً؟ قال: »عشرون«.

قلت: سبحان اللّه، يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، و يقطع أربعاً، فيكون عليه عشرون؟! إن هذا كان يبلغنا و نحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله، و نقول: الذي جاء به شيطان.

قال: »مهلاً يا أبان: هذا حكم رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم)، إنّ المرأة تعاقل الرجل إلي ثلث الدية. فإذا بلغت الثلث رجعت إلي النصف، يا أبان: إنّك أخذتني بالقياس، و السنّة إذا قيست مُحِق الدين«. (1)

و الإمام ليس بصدد تخطئة أبان لقطعه الحاصل من القياس، بل بصدد إزالة يقينه بالتصرّف في مقدّماته، و هو أنّه أخذ الشريعة من القياس.

و الذي يكشف عن هذا المطلب، هو أنّ الجارية تحت العبد إذا أعتقت فلها الخيار إن شاءت مكثت مع زوجها، و إن شاءت فارقته، أخذاً بالسنّة حيث إنّ بريدة كانت تحت عبد، فلمّا أُعتقت، قال لها رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم):»اختاري فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد، و إن شئت أن تفارقيه«. (2)2.

ص: 76


1- . الوسائل:19، الباب44 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث1.
2- . الشوكاني: نيل الأوطار:3/152.

ثمّ إنّ الحنفية قالت بأنّ الجارية تحت الحرّ إذا أُعتقت لها الخيار كالمعتقة تحت العبد لاشتراكهما في كونهما جاريتين اعتقتا، و لكن من أين نعلم بأنّ الانعتاق تمام المناط للحكم؟ و لعلّ كونها تحت العبد و افتقاد المماثلة جزء العلّة؟ فما لم نقطع بالمناط لا يمكن إسراء الحكم، و هذا هو الذي دعا الشيعة إلي منع العمل بالقياس و طرح تخريج المناط الظني الذي لا يغني من الحق شيئاً.

إلي هنا تمّ الدليل الأوّل للقائلين بالقياس و إليك دليلهم الثاني.

ب. انّ نصوص القرآن و السنّة متناهية، و الوقائع غير محدودة فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية مصادر تشريعيّة لما لا يتناهي، و القياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجدّدة، و يكشف عن حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث. (1)

يلاحظ عليه: أنّ استدلاله هذا أشبه بدليل الانسداد عند القائلين بحجّية الظن المطلق، و من المعلوم أنّه لا تصل النوبة إلي الظن إلاّ بعد انسداد باب العلم، و العلمي، لكنه مفتوح عندنا ببركة أحاديث العترة الطاهرة الّذين أمر النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)بالتمسّك بهم و بالكتاب معاً.

إنّ أهل القياس من السنّة رووا و صحّحوا حديث الثقلين فيجب عليهم الرجوع إليهم في العقيدة و الشريعة لكونهم عدل القرآن و لو رجعوا إليهم لاستغنوا عن العمل بالقياس الذي ما أنزل اللّه به من سلطان.

إلي هنا تبيّن عدم توفر دليل صالح لحجّية القياس مع قطع النظر عن النهي الوارد فيه، و قد عرفت تضافر الروايات علي النهي عن القياس، و لنذكر ما روي عن أعلام السنّة حول القياس:2.

ص: 77


1- . الشوكاني: نيل الأوطار:3/152.

1. روي عن ابن سيرين أنّه قال: أوّل من قاس إبليس، و ما عُبدت الشمس و القمر إلاّ بالمقاييس.

2. و روي عن الحسن البصري: أنّه تلا هذه الآية:( خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (1) ) (2) ، قال:

قاس إبليس و هو أوّل من قاس.

3. و روي عن مسروق أنّه قال: إنّي أخاف و أخشي أن أقيس فتزلّ قدمي.

4. و روي عن الشعبي قال: و اللّه لأن أخذتم بالمقاييس لتُحرّمنّ الحلال و لتحلنّ الحرام.

إلي غير ذلك. (3)

2. الاستحسان

الاستحسان لغة: عدّ الشيء حسناً، كالاستقباح، و هو عدّه قبيحاً.

و أمّا اصطلاحاً فقد اختلفوا في تعريفه و لنذكر تعريفين:

1. الاستحسان: ترك القياس و الأخذ بما هو أوفق للناس. و علي هذا التعريف، فالاستحسان استثناء من القياس و مخصِّص له، و كأنّ المجتهد يترك القياس الجلي بقياس خفي.

فمثلاً مقتضي القياس الجلي، هو إلحاق سؤر الطيور المعلّمة بسؤر الحيوان المفترس في النجاسة علي القول بنجاسة سؤره لاشتراكهما في الافتراس، و لكن مقتضي القياس الخفي إلحاقه بسؤر الإنسان في الطهارة.

2. الاستحسان:هو ترك الدليل في المسألة قياساً كان أو غيره، لدليل

ص: 78


1- سوره 7 - آيه 12
2- . الأعراف:12.
3- . الدارمي، السنن:1، باب تفسير الزمان، ص65.و لاحظ كتاب العدة للشيخ الطوسي:2/688 690للوقوف علي كلمات نفاة القياس من أعلام السنّة.

يستحسنه المجتهد بعقله. و لعلّ التعريف الثاني أوفق كما يظهر من الأمثلة التي سنذكرها.

و قد كان مالك بن أنس أكثر الناس أخذاً به، حيث قال: الاستحسان تسعة أعشار العلم; و كان الشافعي رافضاً له، حيث قال: من استحسن فقد شرّع; إلي ثالث يفصِّل بين الاستحسان المبني علي الهوي و الرأي، و الاستحسان المبني علي الدليل.

و القول الحاسم في الاستحسان هو أن يقال: إنّ المجتهد المستحسِن إذا استند إلي ما يستقل به العقل من حسن العدل و قبح الظلم، أو إلي دليل شرعي، فلا إشكال في كونه حجّة، لأنّه أفتي بالدليل، لا بمجرّد الاستحسان، و أمّا إذا استند لمجرد استحسان طبعه و فكره، و أنّ الحكم الشرعي لو كان كذا لكان أحسن، فهو تشريع باطل، و إفتاء بما لم يقم عليه دليل شرعي و هو تشريع محرّم.

و لنذكر أمثلة:

1. انّ مقتضي قوله سبحانه:( وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (1) ). (2)

هو قطع يد السارق من دون فرق بين عام الرخاء و المجاعة، لكن نقل عن عمر عدم العمل به في عام المجاعة.

2. يقول سبحانه:( وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ (3) ). (4)

و قد نقل عن مالك بن أنس إخراج الأُم، الرفيعة المنزلة التي ليست من شأن مثلها أن تُرضع ولدها.

يلاحظ عليه: بأنّ التفريق بين عام المجاعة و غيره، أو بين الأُمّهات، إن كان3.

ص: 79


1- سوره 5 - آيه 38
2- . المائدة:38.
3- سوره 2 - آيه 233
4- . البقرة:233.

مستنداً إلي دليل شرعي لا أقلّ من انصراف الدليل عن عام المجاعة، أو الأُم الرفيعة المنزلة فهو، و إلاّ فلا وجه لصرف الحكم عنهما، لأنّ ذمّة المجتهد رهن إطلاق الدليل الأوّل فلا يجوز له العدول عن مقتضي دليله إلي حكم آخر بمجرّد الاستحسان و موافقته لطبعه، بل لا بدّ من دليل شرعي يعتمد عليه في العدول، و علي ضوء ذلك فالعدول لو كان مستنداً إلي دليل شرعي فهو عدول من حجّة إلي حجّة أقوي، سواء استحسنه الطبع أم لا، و إن لم يكن كذلك فهو تشريع محرّم.

و بذلك يظهر أنّ الاستحسان بما هو استحسان ليس له قيمة في مجال الإفتاء، بل الاعتبار بالدليل، فلو كان هناك دليل للعدول فالمنكر و المثبت أمامه سواء، و إن لم يكن فلا وجه للعدول.

و لأجل ذلك نري أنّ بعض المتأخرين من أهل السنّة فسّره بوجه ثالث، و قال: هو العدول عن حكم اقتضاه دليل شرعي في واقعة إلي حكم آخر فيها، لدليل شرعي اقتضي هذا العدول، و هذا الدليل الشرعي المقتضي للعدول هو سند الاستحسان. (1)

أقول: إذا كان ثمة دليل معتبر علي العدول فلا عبرة بالاستحسان حتي يكون الدليل سنداً و عماداً له.

و يكون استخدام لفظ»الاستحسان« في المقام غير صحيح، لأنّ الفقيه إمّا يعتمد علي دليل شرعي، فالحجّة هو الدليل سواء استحسنه المجتهد أم لا، و إلاّ فلا قيمة له بمجرد أنّ الفقيه يميل إليه بطبعه.1.

ص: 80


1- . عبد الوهاب الخلاف: مصادر التشريع الإسلامي: 71.
3. الاستصلاح أو المصالح المرسلة

المصالح المرسلة:عبارة عن تشريع الحكم في واقعة لا نصّ فيها، و لا إجماع، وفقَ مصلحة مرسلة لم يدلّ دليل علي اعتبارها و لا علي عدم اعتبارها، و في الوقت نفسه في اعتبارها جلب نفع أو دفع ضرر.

فقد ذهب مالك و آخرون تبعاً له إلي أنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الأحكام فيما لا نصّ فيه و لا إجماع، و لكنّ الشافعي و من تبعه ذهبوا إلي أنّه لا استنباط و لا استصلاح، و من استصلح فقد شرّع.

و قد استدل عليها بما يلي:

إنّ الحياة في تطوّر مستمر و مصالح الناس تتجدّد و تتغيّر في كل زمن. فلو لمتشرّع الأحكام المناسبة لتلك المصالح لوقع الناس في حرج، و تعطّلت مصالحهم في مختلف الأزمنة و الأمكنة، و وقف التشريع عن مسايرة الزمن و مراعاة المصالح و التطورات، و هذا مصادم لمقصد التشريع في مراعاة مصالح الناس و تحقيقها. (1)

و قد اشترط الإمام مالك فيها شروطاً ثلاثة:

1. أن لا تنافي إطلاق أُصول الشرع و لا دليلاً من أدلّته.

2. أن تكون ضرورية للناس مفيدة لهم، أو دافعة ضرراً عنهم.

3. أن لا تمسَّ العبادات، لأنّ أغلبها لا يعقل لها معني علي هذا التفسير. (2)

ص: 81


1- . الوجيز في أُصول الفقه: 94 لابن وهبة.
2- . الدكتور أحمد شلبي: تاريخ التشريع الإسلامي: 173172.

فلنذكر عدّة أمثلة:

1. ما روي انّ عمر منع إعطاء المؤلّفة قلوبهم ما كانوا يأخذونه في عهد الرسول بعد ما قوي الإسلام.

2. تجديد عثمان أذاناً ثانياً لصلاة الجمعة لمّا كثر المسلمون، و لم يكف الأذان بين يدي الخطيب و إعلامهم.

3. اشتراط سن معيّنة للمباشرة عند الزواج.

4. انشاء الدواوين و سَكِّ النقود.

أقول: إنّ الإمعان في الدليل يثبت بأنّ اللجوء إلي قاعدة الاستصلاح لأجل أمرين:

1. إعواز النصوص في المسائل الفرعية المستجدة ذات المصالح. فلم يجدوا بُدّاً من تشريع الحكم علي وفقها.

و معني هذا أنّهم وجدوا التشريع الإسلامي الموروث من النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)غير واف بحاجات الناس المستجدة، لأنّ الحاجات كثيرة و المصادر قليلة، و لا يفي القليل بالكثير.

2. أنّهم أعطوا لأنفسهم حقّ التشريع في تلك المواضع.

و كلا الأمرين لا يوافقان روح الإسلام لتصريحه بكمال الدين، و كماله رمز كمال تشريعه، فكيف لا يكون التشريع الموروث عن النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)وافياً بالمقصود مع أنّه سبحانه قال:( اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (1) )؟! (2)كما أنّ حقّ التشريع مختص باللّه سبحانه لم يفوِّضه لأحد ، و قد بيّنه بقوله:( إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ (3):3

ص: 82


1- سوره 5 - آيه 3
2- . المائدة:3
3- سوره 12 - آيه 40

لا يَعْلَمُونَ (1) ). (2)

و النظر الحاسم في المقام هو: إنّ استخدام المصالح المرسلة في مجال الإفتاء يتصوّر علي وجوه:

الأوّل: الأخذ بالمصلحة و ترك النصّ بالمصلحة المزعومة، و هذا نظير إمضاء الطلاق ثلاثاً، ثلاثاً.

روي مسلم عن ابن عباس كان الطلاق علي عهد رسول اللّه و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناها عليهم، فأمضاه عليهم. (3)

لا شكّ أنّ الخليفة صدر في حكمه هذا عن مصلحة تخيّلها، و لكنّ هذا النوع من الاستصلاح رفض للنصّ في موردها، و هو تشريع محرّم.

و علي هذا نهي الخليفة عن متعة الحج و متعة النساء، و الحيعلة في الأذان.

الثاني: إذا كان الحكم علي وفق الاستصلاح مخالفاً لإطلاق الدليل كما هو الحال في منع إعطاء المؤلّفة قلوبهم، فإنّ مقتضي إطلاق الآية كونهم من مصارف الزكاة، سواء أ كان للإسلام قوّة أم لا، فتخصيص الحكم بحالة ضعف الإسلام تقديم للرأي علي إطلاق الكتاب، و قد مرّ عن الإمام مالك أنّ من شرائط العمل بالاستصلاح عدم مخالفته لإطلاق أُصول الشرع.

الثالث: أن يكون الحكم علي وفق المصلحة مستلزماً لإدخال ما ليس من الدين في الدين، فيكون تشريعاً محرّماً بالأدلّة الأربعة، و قد عرفت أنّ من الشرائط1.

ص: 83


1- سوره 12 - آيه 40
2- . يوسف:40.
3- . صحيح مسلم:4/183، باب الطلاق الثلاث، الحديث 1.

التي اعتبرها مالك بن أنس أن لا تمس المصالح المرسلة العبادات، لأنّ أغلبها توقيفية، و علي هذا يكون الأذان الثاني أو الثالث بدعة محرّمة.

و أمّا المصلحة المزعومة من عدم كفاية الأذان بين يدي الخطيب لإعلامهم فلا يكون مسوّغاً لتشريع أذان آخر، و إنّما يتوصل إليه بأمر آخر.

الرابع: أن يكون المورد ممّا ترك أمره إلي الحاكم الإسلامي، و لم يكن للإسلام فيه حكم خاص، و هذا كتجنيد الجنود و إعداد السلاح و حماية البلاد، فإنّ القانون هو ما ورد من قوله سبحانه:( وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ (1) ). (2)

و أمّا تطبيق هذا القانون الكلّي فهو رهن المصالح، فللحاكم تطبيق القانون الكلّي علي حسب المصالح، و هذا كتدوين الدواوين، و سك النقود، فإنّ الحكم الشرعي فيها هو حفظ مصالح المسلمين و صيانة بلادهم من كيد الأعداء.

و علي هذا فالاستصلاح أو المصالح المرسلة تتحدّد بهذا القسم دون سائر الأقسام.

الخامس: تشريع الحكم حسب المصالح و المفاسد العامّة، فلو افترضنا أنّ موضوعاً مستجداً لم يكن له نظير في عصر النبي و الأئمّة المعصومين، و فيه مصلحة عامة للمجتمع، كالتلقيح للوقاية من الجدريّ أو مفسدة لهم، كالمخدّرات القتّالة فالعقل يحكم بارتكاب الأُولي و الاجتناب عن الثانية فيمكن أن يكون الاستصلاح منشأ لكشف العقل عن حكم شرعي من دون أن يكون للمجتهد حقّ التشريع.

و بذلك يظهر أنّ الاستصلاح لا يكون سبباً للتشريع، و إنّما العقل ببركة تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد القطعيّة، يكشف عن الحكم الشرعي.0.

ص: 84


1- سوره 8 - آيه 60
2- . الأنفال:60.
4. سد الذرائع

الذرائع جمع ذريعة بمعني الوسيلة، فقد تطلق و يراد منها مقدّمة الشيء، أعني ما يتوقف عليه وجوده، من غير فرق بين أن يكون واجباً كالوضوء بالنسبة إلي الصلاة أو حراماً كالمشي إلي النميمة أو استماع الغيبة.

و قد تطلق و يراد منها ما يفضي إلي الحرام، و إن لم يكن وجود الشيء متوقفاً عليه كضرب المرأة برجلها ذات الخلاخيل فإنّه ذريعة للافتتان بها، فإنّ الضرب بالأرجل في هذه الحالة يُفضي إلي الافتتان و إن كان الافتتان لا يتوقف علي الضرب بالأرجل.

و علي هذا، فحكم الذرائع بالإطلاق الاوّل تابع لحكم ذي الذريعة، فلو كانت ذريعة للواجب أو المستحب أو الحرام توصف بحكمه علي القول بالملازمة بين وجوب الشيء أو حرمته و بين وجوب مقدمته أو حرمته.و يكون سدّ الذرائع عنواناً آخر لحكم المقدمة الذي يبحث عنه في الأُصول.

كما أنّ الذريعة بالاطلاق الثاني تدخل في الإعانة علي الإثم و تكون محكومة بحكمها، يقول سبحانه:

( وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ (1) ). (2)

و بذلك تبيّن انّه ليس سدّ الذرائع مصدراً فقهيّاً مستقلاً بل هو داخل في أحد العنوانين(حرمة مقدّمة الحرام، أو حرمة الإعانة بالإثم).

و قد أكثرت المالكية و الحنابلة من إعماله خلافاً للحنفية حيث حلّ فتح الذرائع مكانها كما سيوافيك.

ص: 85


1- سوره 6 - آيه 108
2- . الأنعام:108.
5. فتح الذرائع(لحيل)

إنّ فتح الذرائع من أُصول الحنفية كما أنّ سد الذرائع من أُصول المالكية، و قد صارت هذه القاعدة مثاراً للنزاع و سبباً في الطعن بالحنفية حيث إنّ نتيجة التحيّل، إبطال مقاصد الشريعة.

و من أكثر الناس ردّاً للحيل، الحنابلة ثمّ المالكية، لأنّهم يقولون بسدِّ الذرائع، و هو أصل مناقض للحيل تمام المناقضة.

إنّ إعمال الحيل علي أقسام:

الأوّل: أن يكون التوصل بها منصوصاً في الكتاب و السنّة فليس المكلّف هو الذي يتحيّلها، بل الشارع رخّص في الخروج عن المضائق بطريق خاص، كتجويز السفر في شهر رمضان لغاية الإفطار، و قال:( وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلي سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (1) ). (2)

الثاني: إذا كان هناك أمر واحد له طريقان أحلّ الشارع أحدهما و حرّم الآخر، فلو سلك الحلال لا يعد ذلك تمسّكاً بالحيلة، لأنّه اتخذ سبيلاً حلالاً إلي أمر حلال، و ذلك كمبادلة المكيل و الموزون من المثلين، فلو بادل التمر الرديء بالجيد متفاضلاً عُدّ رباً محرماً، دون ما يباع كل علي حدة، فالنتيجة واحدة و لكن السلوك مختلف.

الثالث: إذا كان السبب غير مؤثر في حصول النتيجة شرعاً، فالتوصّل بمثله

ص: 86


1- سوره 2 - آيه 185
2- . البقرة:185.

محرم غير ناتج، و ذلك كالمثال الذي نقله البخاري عن أبي حنيفة و قال: في مسألة »إذا غصب جارية فزعم انّها ماتت« فحكم القاضي في المفروض بقيمة الجارية الميّتة، ثمّ وجدها صاحبها، فالجارية لصاحبها و ترد القيمة و لا تكون القيمة ثمناً.

ثمّ أضاف البخاري و قال: قال بعض الناس يريد أبا حنيفة »الجارية للغاصب لأخذه القيمة«.

ثمّ إنّ البخاري ردّ عليه بقوله:»و في هذا احتيال لمن اشتهي جارية رجل لا يبيعها فغصبها، و اعتلَّ بأنّها ماتت حتي يأخذ ربُّها قيمتها، فيطيب للغاصب جارية غيره، ثمّ رد علي أبي حنيفة، بقوله: قال النبي (صلي الله عليه و آله و سلم):»أموالكم عليكم حرام و لكل غادر لواء يوم القيامة«. (1)

و هذا النوع من الاحتيال حرام، لأنّ السبب الأصلي في كلام أبي حنيفة(زعم الغاصب موت الجارية) غير مؤثر في الانتقال فلا تقع ذريعة لتملّكها، كما أنّ إخبار الغاصب بموت الجارية جازماً أو عالماً بالخلاف(السبب الفرعي في كلام البخاري) لا يكون سبباً لخروج الجارية عن ملك صاحبها و خروج قيمتها عن ملك الغاصب، فعدم جواز التحيّل يرجع إلي أنّ السبب غير مؤثر.

الرابع: إذا كانت الوسيلة حلالاً، و لكن الغاية هي الوصول إلي الحرام علي نحو لا تتعلّق إرادته الجدية إلاّ بالمحرّم، و لو تعلّقت بالسبب فإنّما تعلّقت به صورياً لا جدياً، كما إذا باع ما يساوي عشرة بثمانية نقداً ثمّ اشتراه بعشرة نسيئة إلي أربعة أشهر، فمن المعلوم أنّ الإرادة الجدية تعلّقت باقتراض ثمانية و دفع عشرة و حيث إنّه رباً محرّم احتال ببيعين مختلفين مع عدم تعلّق الإرادة الجدية بهما، فيكون فتح هذه الذريعة أمراً محرّماً، و هذا ما يسمّي ببيوع الآجال، و قد أشار سبحانه إليه.

ص: 87


1- . البخاري: الصحيح: 9/32، كتاب الإكراه.

هذا النوع من فتح الذرائع بقوله سبحانه:( وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (1) ) (2). (3)

6. قول الصحابي

تَعدّ المذاهب غير المذهب الحنفي قولَ الصحابي من مصادر التشريع إجمالاً، و التحقيق انّ لقول الصحابي صوراً يختلف حكمها باختلاف الصور:

1. لو نقل قول الرسول و سنّته يؤخذ به إذا اجتمعت فيه شرائط الحجّية.

2. لو نقل قولاً و لم يسنده إلي الرسول و دلّت القرائن علي أنّه نقل قول لا نقل رأي، فهو يعدّ في مصطلح أهل الحديث من الموقوف للوقف علي الصحابي من دون إسناد إلي النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)فليس حجّة لعدم العلم بكونه قول الرسول.

3. إذا كان للصحابي رأي في مسألة و لم يقع موقع الإجماع إمّا لقلّة الابتلاء، أو لوجود المخالف، فهو حجّة لنفس الصحابي المستنبِط و لمقلّديه إذا كان مفتياً و قلنا بجواز تقليد الميت، و ليس بحجّة للمجتهد الآخر.

نعم ذهب مالك و بعض الأحناف إلي حجّيته ، و اختار الإمام الرازي و الأشاعرة و المعتزلة عدم كونه حجّة، و ثمة كلمة قيمة للشوكاني(المتوفّي1255 ه) ننقلها بنصّها قال: و الحقّ انّه رأي الصحابي ليس بحجّة، فإنّ اللّه لم يبعث إلي هذه الأُمّة إلاّ نبينا محمّداً(صلي الله عليه و آله و سلم)و ليس لنا إلاّ رسول واحد و كتاب واحد و جميع الأُمّة

ص: 88


1- سوره 7 - آيه 163
2- . الأعراف:163.
3- . مجمع البيان:2/490، ط صيدا. و اقرأ سبب نزولها فيه.

مأمورة باتّباع كتابه و سنّة نبيه، و لا فرق بين الصحابة و من بعدهم في ذلك، فكلّهم مكلّفون بالتكاليف الشرعية و باتباع الكتاب و السنّة، فمن قال: إنّها تقوم الحجّة في دين اللّه عزّ و جلّ بعد كتاب اللّه تعالي و سنّة رسوله(صلي الله عليه و آله و سلم)و ما يرجع إليها، فقد قال في دين اللّه بما لا يثبت. (1)

و هناك حقيقة مرّة و هي أنّ حذف قول الصحابي من الفقه السنّي الذي يعد الحجر الأساس للبناء الفقهيّ علي صعيد التشريع، يوجب انهيار صَرْحِ البناء الذي أُشيد عليه و بالتالي انهيار القسم الأعظم من فتاواهم، و لو حلَّ محلّها فتاوي أُخري ربما استتبع فقهاً جديداً لا أنس لهم به.

7. إجماع أهل المدينة

ذهب مالك إلي حجّية اتّفاق أهل المدينة قائلاً: بأنّ أهل المدينة أعرف الناس بالتنزيل، فالحق لا يخرج عمّا يذهبون إليه، فيكون عملهم حجّة يقدم علي القياس و خبر الواحد، و قد أفتي بمسائل نظراً لاتفاق أهل المدينة عليها.نظير الجمع بين الصلاتين ليلة المطر، و القضاء بشهادة واحد و يمين صاحب الحق، و الاسهام في الجهاد لفرس أو لفرسين (2) ;و قد ردّ عليه معاصره الليث بن سعد في رسالة مبسّطة.

لكن القول الحاسم: إنّ اتّفاق أهل المدينة لو كان ملازماً لقول المعصوم ملازمة عادية فيؤخذ به، و إلاّ فلا يكون حجّة، و مثله اتّفاق المصرين الكوفة

ص: 89


1- . إرشاد الفحول:214.
2- . اعلام الموقعين:3/94 100، طبع دار الفكر.

و البصرة و إلاّ فلا قيمة لاتفاق فئة ليسوا بمعصومين.

و كان علي الإمام مالك أن يعدَّ اتّفاق أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)أحد الحجج، مكان عدّ إجماع أهل المدينة منها، لأنّهم معصومون بنصِّ الكتاب و تصريح صاحب الرسالة.

هذه هي الأمارات التي عدّها فقهاء أهل السنّة حججاً شرعيّة، و قد تجلّت الحقيقة، و اتضح الحق و ليس وراءه شيء.

ص: 90

المقصد السابع: في الأُصول العملية (البراءة، التخيير الاشتغال، و الاستصحاب)

اشارة

ص: 91

ص: 92

الأُصول العملية إنّ المكلّف الملتفت إلي الحكم الشرعي تحصل له إحدي حالات ثلاث:

1. القطع، 2. الظن، 3. الشك.

فإن حصل له القطع فقد فرغنا عن حكمه في بابه، و انّه حجّة عقلية لا مناص من العمل علي وفقه، و إن حصل له الظن فالأصل فيه عدم الحجّية إلاّ إذا دلّ الدليل القطعي علي صحّة العمل به.

و إن حصل له الشكّ يجب عليه العمل وفق القواعد التي قررها العقل و النقل للشاك. (1)

ثمّ إنّ المستنبط إنّما ينتهي إلي تلك القواعد التي تسمي ب»الأُصول العملية« إذا لم يكن هناك دليل قطعي، كالخبر المتواتر، أو دليل علمي كالظنون المعتبرة التي دلّ علي حجّيتها الدليل القطعي و تسمّي بالأمارات و الأدلّةك.

ص: 93


1- . انّ تقسيم حال المكلّف الملتفت إلي الحكم الشرعيّ إلي حالات ثلاث، تقسيم طبيعيّ، و لا يختص التقسيم الثلاثي بمورد التكليف بل كلّ موضوع وقع في أُفق الالتفات، فهو بين إحدي حالات ثلاث فمن قال بأنّ للمكلّف الملتفت إلي الحكم الشرعي إحدي حالات ثلاث فقد انطلق من هذا المنطَلق، و استلهم عن تلك القاعدة العامّة. فما أورده المحقّق الخراساني علي التقسيم الثلاثي، من »إرجاعه إلي الثنائي من انّ الظن بالحكم إن كان حجّة فهو ملحق بالقطع بالحكم(الظاهري) و إلاّ كان في حكم الشكّ، فليس هنا إلاّ القطع بالحكم أو الشكّ فيه« غفلة عن ملاك التقسيم الثلاثي و إن كان للثنائي منه أيضاً ملاك.

الاجتهادية، كما تسمّي الأُصول العملية، بالأدلة الفقاهية، و إلاّ فلا تصل النوبة إلي الأُصول مع وجود الدليل.

و بذلك تقف علي ترتيب الأدلّة في مقام الاستنباط، فالمفيد لليقين هو الدليل المقدّم علي كلّ دليل، و يعقبه الدليل الاجتهادي ثمّ الأصل العملي.

إنّ الأُصول العملية علي قسمين:

القسم الأوّل: ما يختصّ بباب دون باب، نظير:

أ: أصالة الطهارة المختصة بباب الطهارة و النجاسة.

ب: أصالة الحلّية المختصة بباب الشك في خصوص الحلال و الحرام.

ج: أصالة الصحة المختصة بعمل صدر عن المكلّف و شُكّ في صحّته و فساده، سواء أ كان الشكّ في عمل نفس المكلّف فيسمّي بقاعدة التجاوز و الفراغ، أو في فعل الغير فيسمّي بأصالة الصحّة.

القسم الثاني: ما يجري في عامة الأبواب الفقهية كافة و هي حسب الاستقراء أربعة:

الأوّل: البراءة.

الثاني: التخيير.

الثالث:الاشتغال.

الرابع: الاستصحاب.

فهذه أُصول عامّة جارية في جميع أبواب الفقه، إنّما الكلام في تعيين مجاريها و تحديد مجري كلّ أصل متميّزاً عن مجري أصل آخر، و هذا هو المهم في المقام، و قد اختلفت كلمتهم في تحديد مجاريها و الصحيح ما يلي:

ص: 94

تحديد مجاري الأُصول

إنّ الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه أو لا يكون. فالأوّل مورد الاستصحاب; و الثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً، أو لا; و الثاني مورد التخيير، و الأوّل إمّا أن يدلّ دليل عقلي علي ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا; و الأوّل مورد الاحتياط، و الثاني مورد البراءة. (1)

و علي ذلك فقد عُيِّن مجري كلّ أصل بالنحو التالي:

أ. مجري الاستصحاب: أن تكون الحالة السابقة ملحوظة.

ب. مجري التخيير: أن لا تكون الحالة السابقة ملحوظة و كان الاحتياط غير ممكن.

ج. مجري الاشتغال: إذا أمكن الاحتياط و نهض دليل علي العقاب لو خالف.

د. مجري البراءة: إذا أمكن الاحتياط و لم ينهض دليل علي العقاب بل علي عدمه من العقل، كقبح العقاب بلا بيان، أو من الشرع كحديث الرفع.

و مما ذكرنا يُعلم أنّ ما هو المعروف من أنّ الشكّ في التكليف مجري البراءة غير تام بل مجري البراءة عمّا لم ينهض فيه دليل علي العقاب في صورة وجود التكليف، و إلاّ يجب الاحتياط و إن كان الشكّ في التكليف كما في الشكّ فيه قبل الفحص فيجب الاحتياط مع كون الشكّ في التكليف.

كما أنّ ما هو المعروف من أنّ الشكّ في المكلّف به الذي هو عبارة عمّا إذا علم نوع التكليف مع تردد المكلّف به بين أمرين، كالعلم بوجوب إحدي

ص: 95


1- . انّ للشيخ في أوّل رسالة القطع تقريرين مختلفين في تحديد مجاري الأُصول، و قد عدل عنهما في أوّل رسالة البراءة إلي تقرير ثالث و هو الذي أوردناه في المقام لإتقانه.

الصلاتين مجري الاحتياط غير تام بل مجري الاشتغال هو ما إذا أمكن الاحتياط و نهض دليل علي العقاب لو خالف و إن كان نوع التكليف مجهولاً كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر، فالعلم بالالزام أي الجنس الجامع بين الوجوب و الحرمة موجب للاحتياط لوجود الدليل علي العقاب و إن كان نوع التكليف مجهولاً.

و الحاصل انّ ما ذكرنا من الميزان لمجري البراءة و الاشتغال أولي من جعل الشكّ في التكليف مجري البراءة و الشكّ في المكلّف به مجري الاشتغال.

هذه هي الأُصول العملية الأربعة و هذه مجاريها علي النحو الدقيق، و إليك البحث في كلّ من هذه

الأُصول العملية الأربعة

اشارة

واحداً تلو الآخر.

ص: 96

الأصل الأوّل: أصالة البراءة
اشارة

عقد الشيخ الأعظم لمبحث البراءة فصولاً ثلاثة باعتبار انّ الشبهة تكون إمّا تحريمية أو وجوبية أو مشتبهة بينهما، فهذه مطالب ثلاثة.

ثمّ عقد لكلّ فصل مسائل أربع و ذلك، لأنّ منشأ الشكّ في الجميع أحد الأُمور الأربعة.

فقدان النصّ، أو إجماله، أو تعارض النّصين، أو خلط الأُمور الخارجية، و علي ضوء ذلك فباب البراءة مشتمل علي مطالب ثلاثة في اثنتي عشرة مسألة، و بذلك طال كلامه في المقام.

و أمّا ما هو السبب لعقد الفصول الثلاثة علي حدة فهو يرجع إلي أمرين:

أ: اختصاص النزاع بين الأُصولي و الأخباري بالشبهة الحكمية التحريمية دون الوجوبية و دون الموضوعية منها، و دون دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة.

ب: اختصاص بعض أدلّة البراءة بالشبهة التحريمية و لا تعم الوجوبية و الموضوعية، مثل قوله: »كلّ شيء مطلق حتي يرد فيه نهي«.

لكنّ المحقّق الخراساني أدخل جميع المسائل تحت عنوان واحد و بحث عن الجميع بصفقة واحدة»و هو من لم يقم عنده حجّة علي واحد من الوجوب و الحرمة و كان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه أو خلط الأُمور الخارجية« و لكلّ من السلوكين وجه.

و بما انّا اقتفينا أثر الشيخ الأعظم في الموجز، نمسك عن الاطالة و نعقد

ص: 97

للجميع عنواناً واحداً فنقول:

دلّت الأدلة علي أنّ الوظيفة العملية فيما إذا أمكن الاحتياط و لكن لم ينهض دليل علي العقاب حسب تعبيرنا أو إذا كان الشكّ في التكليف حسب تعبير المشهور هو البراءة و عدم وجوب الاحتياط، فلنذكر ما هو المهم

من الأدلة
اشارة

روماً للاختصار:

الاستدلال بالكتاب
1. التعذيب فرع البيان

دلّت آيات الذكر الحكيم علي أنّه سبحانه لا يعذِّب قوماً علي تكليف إلاّ بعد بعث الرسول الذي هو كناية عن بيان التكليف، و قد تواتر ذلك المضمون في الآيات الكريمة نذكر منها ما يلي:

1. قال سبحانه:( مَنِ اهْتَدي فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْري وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّي نَبْعَثَ رَسُولاً (1) ). (2)

2. و قال تعالي:( وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُري حَتّي يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنّا مُهْلِكِي الْقُري إِلاّ وَ أَهْلُها ظالِمُونَ (3) ). (4)

و الاستدلال بالآيتين مبني علي أمرين:

الأوّل: انّ صيغة »و ما كنّا « أو »ما كان« تستعمل في إحدي معنيين: إمّا نفي الشأن و الصلاحية لقوله تعالي:( وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (5) ) (6) ، أو نفي الإمكان كقوله تعالي:

( وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ (7)

ص: 98


1- سوره 17 - آيه 15
2- . الإسراء:15.
3- سوره 28 - آيه 59
4- . القصص:59.
5- سوره 2 - آيه 143
6- . البقرة:8143
7- سوره 3 - آيه 145

بِإِذْنِ اللّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً (1) ). (2)

الثاني: انّ بعث الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم)كناية عن إتمام الحجّة علي الناس، و بما انّ الرسول أفضل واسطة للبيان و الإبلاغ أُنيط التعذيب بالرسول، و إلاّ يصحّ العقاب ببعث غيره أيضاً لوحدة المناط و حصول الغاية المنشودة.

و علي ضوء ذلك فلو لم يبعث الرسول بتاتاً، أو بعث و لم يتوفق لبيان الأحكام أبداً، أو توفق لبيان البعض دون البعض الآخر، أو توفق للجميع لكن حالت الحواجز بينه و بين بعض الناس، لقبح العقاب إلاّ في الواصل من التكليف، و ذلك لاشتراك جميع الصور في عدم تمامية الحجة.

و المكلف الشاك في الشبهات التحريمية من مصاديق القسم الأخير، فإذا لم يصل إليه البيان لا بالعنوان الأوّلي و لا بالعنوان الثانوي كإيجاب الاحتياط، ينطبق عليه قوله سبحانه:( وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّي نَبْعَثَ رَسُولاً (3) )أي نُبيّن الحكم و الوظيفة.

و لأجل ذلك نري أنّه سبحانه يعلّق إهلاك القرية علي وجود المنذر و يقول:( وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ لَها مُنْذِرُونَ (4) ). (5) هذا كلّه حول الآيتين الأُوليين.

3. و قال سبحانه:( وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزي (6) ). (7)

4. و قال سبحانه:( وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (8) ). (9)

و الاستدلال بهما مبني علي أنّه سبحانه استصوب منطق المجرمين ، و هو7.

ص: 99


1- سوره 3 - آيه 145
2- . آل عمران:145.
3- سوره 17 - آيه 15
4- سوره 26 - آيه 208
5- . الشعراء:208.
6- سوره 20 - آيه 134
7- . طه:134.
8- سوره 28 - آيه 47
9- . القصص:47.

انّ التعذيب قبل البيان قبيح، فأرسل الرسل لإفحام المشركين و دحض حجتهم يوم القيامة، فلو كان منطقهم عند عدم البيان منطقاً، زائفاً كان عليه سبحانه نقض منطقهم ببيان انّ التعذيب صحيح مطلقاً مع أنّا نري أنّه سبحانه استصوبه و أرسل الرسل لإتمام الحجّة.

2. الإضلال فرع البيان

قال سبحانه:( وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّي يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (1) ). (2)

وجه الاستدلال: انّ التعذيب من آثار الضلالة، و الضلالة معلَّقة علي البيان في الآية، فيكون التعذيب معلَّقاً عليه، فينتج انّه سبحانه لا يعاقب إلاّ بعد بيان ما يجب العمل أو الاعتقاد به.

فإن قلت: ما هو المراد من إضلاله سبحانه، فانّ الإضلال أمر قبيح فكيف نسب إلي اللّه سبحانه؟ قلت: انّ الإضلال يقابل الهداية، و هي علي قسمين، فيكون الإضلال أيضاً مثلها.

توضيحه: انّ للّه سبحانه هدايتين:

هداية عامّة تعم جميع الناس من غير فرق بين إنسان دون إنسان حتي الجبابرة و الفراعنة، و هي تتحقق ببعث الرسل و إنزال الكتب و دعوة العلماء إلي بيان الحقائق، مضافاً إلي العقل الذي هو رسول باطني، و إلي الفطرة التي تسوق الإنسان إلي فعل الخير.

هداية خاصّة و هي تختص بمن استفاد من الهداية الأُولي، فعندئذ تشمله

ص: 100


1- سوره 9 - آيه 115
2- . التوبة:115.

الألطاف الإلهية الخفية التي نعبر عنها بالهداية الثانوية أو الإيصال إلي المطلوب.

قال سبحانه:( وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُديً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ (1) ). (2)

و قال تعالي:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا (3) ). (4)

و أمّا إذا لم يستفد من الهداية الأُولي، فلا يكون مستحقاً للهداية الثانية، فيضلّ بسبب سوء عمله، فإضلاله سبحانه، كناية عن الضلال الذي اكتسبه بعمله بالإعراض من الاستضاءة بالهداية الأُولي.

قال سبحانه:( فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) ) (6) فإضلاله سبحانه كإزاغته نتيجة زيغهم و إعراضهم و كِبْرهم و تولّيهم عن الحقّ.

و بذلك يظهر مفاد كثير من الآيات التي تنسب الضلالة إلي اللّه سبحانه فالمراد هو قبض الفيض لأجل تقصير العبد لعدم استفادته من الهداية الأُولي فيصدق عليه انّه أضلّه اللّه سبحانه. قال سبحانه:( إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ (7) ) (8) أي يضلّه لأنّه مسرف كذّاب(لم يهتد بالهداية الأُولي فأسرف و كذّب) فاستحق قبض الفيض و عدم شمول الهداية الخاصة له.

و في آية أُخري( كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (9) ) (10) فقوله: »يضلّ« في هذه الآية هو نفس قوله: »لا يهدي القوم الفاسقين« في الآية السابقة فكلاهما يرميان إلي معني واحد و هو عدم الهداية لقبض الفيض لعدم قابليته للهداية الثانوية لأجل إسرافه و كذبه و ارتيابه.

إلي هنا تمّ الاستدلال بالآيات و هناك آيات أُخر تركنا البحث فيها روماً للاختصار.4.

ص: 101


1- سوره 47 - آيه 17
2- . محمد:17.
3- سوره 29 - آيه 69
4- . العنكبوت:69.
5- سوره 61 - آيه 5
6- . الصف:5.
7- سوره 40 - آيه 28
8- . غافر:28.
9- سوره 40 - آيه 34
10- . غافر:34.
الاستدلال بالسنّة
1. حديث الرفع
اشارة

روي الصدوق في »التوحيد« و»الخصال« عن أحمد بن محمد بن يحيي، عن سعد بن عبد اللّه، عن يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسي، عن حريز بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): »رفع عن أُمّتي تسعة أشياء: الخطأ، و النسيان، و ما أكرهوا عليه، و ما لا يعلمون و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و الحسد، و الطيرة، و التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة«. (1)

و رواه محمد بن أحمد النهدي مرفوعاً عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): »وضع عن أُمّتي تسع خصال:

الخطأ، و النسيان، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و ما استكرهوا عليه، و الطيرة، و الوسوسة في التفكّر في الخلق، و الحسد ما لم يظهر بلسان أو يد«. (2)

و رواة الحديث الأُولي كلهم ثقات، و الرواية صحيحة.

و أمّا أحمد بن محمد بن يحيي، فهو و إن لم يوثق ظاهراً و لكن المشايخ أرفع من التوثيق فهو من مشايخ الصدوق فهو ثقة قطعاً.

نعم الرواية الثانية مرفوعة، مضافاً إلي انّ محمد بن أحمد النهدي مضطرب فيه، كما ذكره النجاشي في ترجمته.

و توضيح الاستدلال رهن بيان أُمور:

1. انّ الفرق بين الرفع و الدفع هو انّ الأوّل عبارة عن إزالة الشيء بعد

ص: 102


1- . الوسائل: 11، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.
2- . الوسائل: 11، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 3.

وجوده و تحقّقه، كما أنّ الثاني عبارة عن المنع عن تقرر الشيء و تحقّقه بعد وجود مقتضيه، يقول سبحانه:( اَللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها (1) ) (2)، فكانت السماء و الأرض ملتصقتين فأزالها عن مكانها.

( إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ * ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (3) ) (4)، أي ما له من شيء يمنع عن تحقّقه بعد تعلّق إرادته بالوقوع.

و علي ذلك فاستعمال الرفع في المقام لأجل تحقّق هذه الأُمور التسعة في صفحة الوجود، فتعلّق الرفع بها باعتبار كونها أُموراً متحقّقة.

نعم رفع هذه الأُمور التسعة بعد تحقّقها رفع ادّعائي باعتبار رفع آثارها، فتعلّقت الإرادة الاستعمالية برفع نفس هذه الأُمور التسعة المتحقّقة، و تعلّقت الإرادة الجدية برفع آثارها.

2. انّ نسبة الرفع إلي هذه التسعة مع وجودها يحتاج إلي مصحّح و مسوّغ و إلاّ يلزم الكذب، و ليس الحديث متفرداً في هذا الباب، بل له نظائر، مثل قوله: »لا ضرر و لا ضرار«، »لا طلاق إلاّ علي طهر« ، »لا رضاع بعد فطام«، »لا رهبانية في الإسلام« فمع أنّ هذه الأُمور التي دخلت عليها »لا« النافية، موجودة متحقّقة في صحيفة الوجود لكن الشارع أخبر عن عدمها و المصحح لهذا الإخبار هو سلب آثارها، مثلاً لا يترتب علي الرضاع بعد الفطام أثر الرضاعة و هكذا، و علي ذلك فيلزم تعيين ما هو الأثر المسلوب في هذه التسعة خصوصاً قوله:»ما لا يعلمون« و هذا هو المهم في المقام.

3. انّ لفظة »ما« في قوله:»ما لا يعلمون« موصولة تعمّ الحكم و الموضوع المجهولين، لوضوح انّه إذا جهل المكلّف بحكم التدخين، أو جهل بكون المائع7.

ص: 103


1- سوره 13 - آيه 2
2- . الرعد:2.
3- سوره 52 - آيه 7
4- . الطور:87.

الفلاني خلاً أو خمراً ، صدق علي كلّ منهما انّه من »ما لا يعلمون«، فيكون الحديث عاماً حجّة في الشبهة الحكمية و الموضوعية معاً.

و ربما يتصوّر أنّ الموصول مختص بالموضوع المجهول لا الحكم المجهول، بشهادة قوله(صلي الله عليه و آله و سلم)في الفقرات التي أعقبته، أعني: »و ما أُكرهوا عليه« و »ما لا يطيقون« و »ما اضطروا إليه«، فإنّ المراد هو الفعل المكرَه عليه، و العمل الخارج عن الإطاقة، و العمل المضطرّ إليه، فيلزم أن يكون المراد من الموصول في »ما لا يعلمون« هو العمل المجهول لا الحكم المجهول، فيختصّ الحديث بالشبهات الموضوعية.

يلاحظ عليه: أنّ »ما« الموصولة استعملت في جميع الفقرات في المعني المبهم، لا في الحكم و لا في الموضوع، و إنّما يعلم السعة(شمولها للحكم و الموضوع المجهولين)، و الضيق(اختصاصها بالموضوع) من صلتها، و الصلة »فيما لا يعلمون« قابل للانطباق علي الموضوع و الحكم، دون سائر الفقرات، فإنّها لا تنطبق إلاّ علي الفعل، و لا يكون ذلك قرينة علي اختصاص الفقرة الأُولي بالشكّ في الموضوع.

أضف إلي ذلك: أنّ المرفوع في »الحسد« »و الطيرة« و »التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة« هو الحكم، أي حرمة الحسد و الطيرة، و أمّا النسيان و الخطأ المرفوعان في الحديث فيتعلّقان بالحكم و الموضوع معاً، فيصلحان لكلا الأمرين: نسيان الحكم أو الموضوع و مثله الخطأ.

إذا عرفت ذلك، فنقول: إنّ الرفع كما عرفت رفع تشريعي، و المراد منه رفع الموضوع بلحاظ رفع أثره، فحينئذ يقع الكلام في تعيين ما هو الأثر المسلوب الذي صار مصحِّحاً لنسبة الرفع إليها، فهنا أقوال ثلاثة:

1. المرفوع هو المؤاخذة.

ص: 104

2. المرفوع هو الأثر المناسب لكلّ واحد من تلك الفقرات، كالمضرّة في الطيرة، و الكفر في الوسوسة.

3. المرفوع هو جميع الآثار أو الآثار البارزة.

و الظاهر هو الأخير، لوجهين:

الأوّل: أنّه مقتضي الإطلاق و عدم التقييد بشيء من المؤاخذة و الأثر المناسب.

الثاني: أنّ فرض الشيء مرفوعاً في لوح التشريع ينصرف إلي خلوّه عن كلّ أثر و حكم، أو عن الآثار البارزة له. (1) فلو كان البعض مرفوعاً دون البعض، فلا يطلق عليه أنّه مرفوع.

و علي ذلك فالآثار كلّها مرفوعة سواء تعلّق الجهل بالحكم كما في الشبهة الحكمية، أو بالموضوع كما في الشبهة الموضوعية.

و إن شئت قلت: إنّ وصف الشيء بكونه مرفوعاً في صفحة التشريع إنّما يصحّ إذا كان الشيء فاقداً للأثر مطلقاً فيصحّ للقائل أن يقول بأنّه مرفوع، و إلاّ فلو كان البعض مرفوعاً دون بعض لا يصحّ ادّعاء كونه مرفوعاً، من غير فرق بين الآثار التكليفية كحرمة شرب الخمر و وجوب جلد الشارب، أو الوضعية كالجزئية و الشرطية عند الجهل بحكم الجزء و الشرط أو نسيانهما و كالصحة في العقد المكره.

و يؤيد عموم الآثار ما رواه البرقي، عن صفوان بن يحيي و أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي جميعاً، عن أبي الحسن(عليه السلام)في الرجل يُستكره علي اليمين فيحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما يملك أ يلزمه ذلك؟ فقال: »لا، قال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): وضع عن أُمّتي ما أُكرهوا عليه و ما لم يطيقوا و ما أخطئوا«. (2)ن.

ص: 105


1- . كما في قول الإمام علي(عليه السلام): »يا أشباه الرجال و لا رجال« هذا إذا كان الأثر منقسماً إلي بارز و غيره، و أمّا إذا كان الجميع علي حد سواء، فالمرفوع هو جميع الآثار كما في المقام.
2- . الوسائل:16، الباب 12من أبواب الأيمان، الحديث 12، نقلاً عن المحاسن.

و قد تمسّك الإمام بالحديث علي بطلان الطلاق و رفع الصحة، فيكشف عن أنّ الموضوع أعم من المؤاخذة و الحكم التكليفي و الوضعي.

تنبيه

المراد من الآثار الموضوعة، هي الآثار المترتبة علي المعنون، أي ما تعلّق بالنسيان أو الخطاء أو الجهل، لا آثار هذه العنوانات مثلاً دلّ الدليل الاجتهادي علي وجوب سورة تامّة في الصلوات الواجبة كما في قوله(عليه السلام)»لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة و لا بأكثر«. (1) و اطلاقه يعم حالتي الذكر و النسيان فالوجوب الضمني ثابت في الحالتين مع قطع النظر عن حديث الرفع و أمّا معه فهو حاكم عليه، حيث يرفع وجوبها في حالة النسيان، و يخصّه بحالة الذكر.

و أمّا ما دلّ علي وجوب سجدتي السهو عند نسيان الجزء كما في قوله(عليه السلام):»تسجد سجدتي السهو في كلّ زيادة و نقصان تدخل عليك أو نقصان« (2) فهو غير مرفوع لأنه أثر نفس النسيان، لا أثر المنسيّ أعني وجوب السورة.

و مثله إذا قتل إنساناً خطأ، فالمرفوع هو أثر القتل أعني القصاص الوارد في قوله سبحانه:( وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ (3) ) (4) الشامل اطلاقه حالتي العمد و الخطأ.

و أمّا الأثر المترتّب علي عنوان الخطأ كالدية الّتي دلّ عليها قوله سبحانه:( وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلي أَهْلِهِ« (5) ) (6) فهي غَيْرُ مرفوعة.

ص: 106


1- . الوسائل: 5، الباب 32 من أبواب الخلل، الحديث 3.
2- . الوسائل: 4، الباب 4 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.
3- سوره 5 - آيه 45
4- . مائدة: 45.
5- سوره 4 - آيه 92
6- . النساء: 92.
2. مرسلة الصدوق

روي الصدوق مرسلاً في »الفقيه« و قال: قال الصادق(عليه السلام): »كلّ شيء مطلق حتّي يرد فيه نهي«. (1)

و الحديث و إن كان مرسلاً، و لكن الصدوق يُسنده إلي الإمام الصادق(عليه السلام)بصورة جازمة، و يقول: قال الصادق(عليه السلام)، و هذا يعرب عن يقينه بصدور الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام)، نعم لو قال رُوي عن الإمام الصادق(عليه السلام)كان الاعتماد علي مثله مشكلاً.

أمّا كيفية الاستدلال: فقد دلّ الحديث علي أنّ الأصل في كلّ شيء هو الإطلاق و الإرسال حتي يرد فيه النهي بعنوانه، فإنّ الضمير في قوله: »يرد فيه« يرجع إلي الشيء بما هو هو، كأن يقول: الخمر حرام، أو الرشوة حرام، فما لم يرد النهي عن الشيء بعنوانه يكون محكوماً بالإطلاق و الإرسال، و بما أنّ التدخين لم يرد فيه النهي بعنوانه الأوّلي فهو مطلق، و علي هذا فلا يكفي في رفع الإطلاق ورود النهي بعنوانه الثانوي كأن يقول: إذا شككت فاحتط، بل هو باق علي إطلاقه حتي يرد النهي فيه بالعنوان الأوّلي، فتكون الشبهات البدوية التي لم يرد النهي فيها بعنوانها الأوّلي محكومة بالإطلاق و الحليّة.

و علي هذا لو تمّ دليل الأخباري بورود النهي عن ارتكاب الشبهات التحريمية بالعنوان الثانوي(الشبهة) وقع التعارض بينه و بين دليله.

نعم لو قلنا بأنّ المراد من قوله»حتي يرد فيه نهي« هو الأعم من ورود النهي بعنوانه الأوّلي أو بعنوانه الثانوي، يكون دليل الأخباري مقدّماً عليه، لأنّ الإطلاق في المقام معلّق علي عدم ورود النهي مطلقاً، لا بالعنوان الأوّلي و لا الثانوي، و الأخباري يدّعي ورود النهي بعنوانه الثانوي و حصول المعلّق عليه.

ص: 107


1- . الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 60.

و لكن تفسير الحديث بهذا النحو الأعم خلاف الظاهر،لأنّ ظاهر قوله:»حتي يرد فيه« أي يرد النهي في نفس الشيء بما هو هو.

إلي هنا تمّ الاستدلال علي البراءة بالكتاب العزيز و السنّة المطهّرة، بقي الكلام في الاستدلال عليها بالعقل .

الاستدلال بحكم العقل
اشارة

استدلّ القائل بالبراءة بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلي المكلف بعد إعمال العبد ما تقتضيه وظيفتُه من الفحص عن حكم الشبهة و اليأس عن الظفر به في مظانّه، و انّ وجود التكليف في الواقع مع عدم وصوله إلي المكلّف غير كاف في صحّة التعذيب، و انّ وجوده بلا وصول إلي المكلّف كعدمه في عدم ترتب الأثر، و ذلك لأنّ فوت المراد مستند إلي المولي في كلتا الصورتين التاليتين:

1. ما إذا لم يكن هناك بيان أصلاً فحاله معلوم.

2. ما إذا كان هناك بيان صادر من المولي لكنّه غير واصل إلي العبد، فلأنّ الفوت أيضاً مستند إلي المولي إذ في وسعه إيجاب الاحتياط علي العبد، في كلّ ما يحتمل وجود التكليف، و مع تركه يكون ترك المراد مستنداً إلي المولي و ذلك لانّه اقتصر في طلب المقصود، بالحكم علي الموضوع بالعنوان الواقعي، و لو كان مريداً للتكليف حتي في ظرف الشك فيه و عدم الظفر به بعد الفحص، كان عليه استيفاء مراده بإيجاب التحفّظ، و مع عدمه يحكم العقل بالبراءة و انّ العقاب قبيح، و يشكَّل قياساً بالشكل التالي:

العقاب علي محتمل التكليف بعد الفحص التام و عدم العثور عليه في مظانّه لا بالعنوان الأوّلي و لا بالعنوان الثانوي عقاب بلا بيان.

و العقاب بلا بيان مطلقاً أمر قبيح.

ص: 108

فينتج انّ العقاب علي محتمل التكليف أمر قبيح.

الإشكال علي كبري البرهان

ثمّ إنّ السيد الشهيد الصدر قدِّس سرُّه استشكل علي كبري هذا البرهان و أنكر قبح العقاب بلا بيان بتأسيس مسلك »حق الطاعة للّه سبحانه«، فقال:

و الذي ندركه بعقولنا انّ مولانا سبحانه و تعالي، له حقّ الطاعة في كلّ ما ينكشف لنا من تكاليفه بالقطع أو بالظن أو بالاحتمال، ما لم يرخص هو نفسه في عدم التحفّظ.

و علي ذلك فليست منجّزية القطع ثابتة له بما هو قطع بل بما هو انكشاف و انّ أيّ انكشاف، منجِّز، مهما كانت درجته ما لم يحرز ترخيص الشارع نفسه في عدم الاهتمام به.

نعم كلما كان الانكشاف بدرجة أكبر كانت الإدانة و قبح المخالفة أشد، فالقطع بالتكليف يستتبع لا محالة مرتبة أشدّ من التنجز و الإدانة، لأنّها المرتبة العليا من الانكشاف، و بهذا يظهر انّ القطع لا يتميز عن الظن و الاحتمال في أصل المنجزية، و إنّما يتميز عنهما في عدم إمكان تجريده عن تلك المنجزية(بأن يرخص علي خلاف ما قطع) لانّ الترخيص في مورده مستحيل، و ليس كذلك في حالات الظن و الاحتمال، فانّ الترخيص الظاهري فيها ممكن لأنّه لا يتطلب أكثر من فرض الشك و الشكّ موجود.

و من هنا صحّ أن يقال بأنّ منجزية القطع غير معلقة بل ثابتة علي الإطلاق و انّ منجزية غيره من الظن و الاحتمال معلقة لأنّها مشروطة بعدم إحراز الترخيص الظاهري في ترك التحفظ. (1)

ص: 109


1- . دروس في علم الأُصول: الحلقة الثانية:32 33.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ القول بأنّ احتمال التكليف منجِّز للواقع عند العقل و إن لم يستوف المولي البيان الممكن غير تام، و ذلك لأنّ الاعتمادَ في التعذيب و المؤاخذة علي مثل هذا الحكم العقلي، إنّما يصحّ إذا كان ذلك الحكم من الأحكام العقلية الواضحة لدي العقلاء حتي يعتمد عليه المولي سبحانه في التنجيز و التعذيب و لكن المعلوم خلافها إذ لو كان حكماً واضحاً لما أنكره العلماء من غير فرق بين الأُصولي و الأخباري لما ستعرف من أنّ الأخباري لا ينكر الكبري و إنّما ينكر الصغري أي عدم البيان و يقول بورود البيان بالعنوان الثانوي كوجوب الاحتياط و التوقّف في الشبهات.

و ثانياً: أنّ اتفاق العقلاء علي قبح العقاب بلا بيان نابع عن حكم العقل بأنّ العبد إذا قام بوظيفته في الوقوف علي مقاصد المولي و لم يجد بياناً بأحد العنوانين، يُعدُّ العقاب بحكم وحي الفطرة أمراً قبيحاً و إلاّ يعود بناء العقلاء إلي أمر تعبدي و هو كما تري.

و ثالثاً: انّ الظاهر من الذكر الحكيم كون المسألة من الأُمور الفطرية حيث يستدلُّ بها الوحي علي الناس و يقول:( وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّي نَبْعَثَ رَسُولاً (1) ) (2)و يذكر في آية أُخري انّه سبحانه أبطل ببعث الرسل، حجّة الكفار و العصاة حيث قال:( وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزي (3) ) (4) فتبين بذلك انّ الكبري من الأحكام الواضحة لدي العقل و العقلاء بشرط التقرير علي نحو ما ذكرناه.

الإشكال علي صغري البرهان

قد عرفت حال الإشكال علي الكبري، و لكنّ هناك إشكالاً آخر يتوجه إلي

ص: 110


1- سوره 17 - آيه 15
2- . الاسراء:15.
3- سوره 20 - آيه 134
4- . طه:134.

الصغري تعرّض إليه المحقّقون، و حاصل الإشكال انّه يكفي في مقام البيان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، الموجود في مورد الشبهة التحريمية الحكمية، و يكون شكل القياس بالنحو التالي:

في المشتبه التحريمي ضرر محتمل.

و كل ما فيه ضرر محتمل يلزم تركه.

فينتج المشتبه التحريمي يجب تركه.

يلاحظ عليه: انّ المراد من الضرر في القاعدة أحد الأُمور الثلاثة:

أ. العقاب الأُخروي.

ب. الضرر الدنيوي الشخصي.

ج. المصالح و المفاسد الاجتماعية.

أمّا الأوّل: أي العقاب الأُخروي فهو بين قطعيّ الإحراز، و قطعيّ الانتفاء، و ليس هنا ضرر محتمل، فالأوّل كما في مورد العلم الإجمالي بحرمة أحد الأمرين أو وجوبه، فينطبق الكبري علي الصغري و لذلك أطبق العلماء علي وجوب الموافقة القطعية.

و أمّا الثاني: أي قطعي الانتفاء كما في المقام، فانّ الضرر بمعني العقاب قطعي الانتفاء بحكم العقل علي قبح العقاب بلا بيان، و مع العلم بعدمه لا يصحّ الاحتجاج بالكبري المجردة عن الصغري، و بذلك يعلم انّه لا تعارض بين الكبريين »قبح العقاب بلا بيان«و »وجوب دفع الضرر المحتمل« و انّ لكلّ موضعاً خاصاً، فمورد الأُولي هو الشبهة البدوية، كما أنّ موضع الثانية إنّما هو صورة العلم بالتكليف إجمالاً أو تفصيلاً.

و هذا يعرب عن أنّ ما اشتهر من ورود القاعدة الأُولي علي الثانية أمر غير

ص: 111

صحيح، فانّ الورود فرع التعارض و لا معارضة بينهما بل كلّ يطلب لنفسه مورداً خاصاً غير ما يطلبه الآخر لنفسه، فمورد قاعدة القبح هو ما إذا لم يكن من المولي أيّ بيان، كما أنّ مورد القاعدة الثانية ما إذا تم البيان و إن جهل المتعلّق.

هذا كلّه حول العقاب الأُخروي و أمّا الضرر الدنيوي الشخصي فالإجابة عنه واضحة، لأنّ الأحكام الشرعية لا تدور مدار الضرر أو النفع الشخصيين حتي يكون احتمال الحرمة ملازماً لاحتمال الضرر الشخصي علي الجسم و الروح بل الأحكام تابعة لمصالح و مفاسد نوعية، و ربما تكمن المصلحة النوعية في الضرر الشخصي كما في ترك الربا و ترك الظلم علي الناس.

نعم ربما يجتمع الضرر الشخصي مع المفسدة النوعية كشرب المسكر لكنّه ليس ضابطة كلية.

سلّمنا انّ في ارتكاب المشتبه احتمالَ ضرر دنيوي لكن إنّما يجب دفعه إذا لم يكن في تجويز الارتكاب مصلحة كما هو المقام، لأنّ في الترخيص دفعَ عسر الاحتياط.

و أمّا الثالث: أي المصالح و المفاسد النوعية فحكم الشارع بالبراءة يكشف عن أحد الأمرين: إمّا عدم الأهمية، و إمّا لوجود المصلحة الغالبة علي المفسدة الحاصلة.

أدلة الأخباري علي وجوب الاحتياط

استدلّ الأخباري علي وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية بالأدلة الثلاثة: الكتاب و السنة و العقل، و بما انّا استقصينا ذكر أدلّتهم و أجوبتها في الموجز فلا حاجة إلي التكرار. (1)

ص: 112


1- . الموجز:186 193.
تنبيهات
اشارة

إنّ في المقام أُموراً يلزم التنبيه عليها، لأنّ لها دوراً هاماً في استنباط الأحكام.

التنبيه الأوّل: في حكومة الأصل الموضوعي علي البراءة و الحلية

من المعروف انّ الأُصول الموضوعية التي تجري في الموضوع و تُنقّح حاله مقدمة علي الأُصول الحكمية كأصالة البراءة و الحلّية بيانه:

إنّ موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان، و موضوع البراءة الشرعية هو الشكّ في الحكم الشرعي، فلو كان هناك أصل آخر يصلح لأن يكون بياناً أو رافعاً للشكّ تعبّداً فلا يبقي موضوع لأصل البراءة، و لهذا اشتهر أنّ الأصل المنقِّح للموضوع، حاكم علي أصل البراءة، أو أصالة الحلّية.

فمثلاً: إذا شككنا في تذكية حيوان علي النحو الوارد في الشرع فمقتضي الأصل الحكمي هو الحليّة، لدخوله تحت قوله: »كلّ شيء حلال حتّي تعرف انّه حرام بعينه« ، و لكنّه محكوم بأصل موضوعيّ آخر أعني أصالة عدم التذكية، و هو أصل موضوعي ينقِّح حال الموضوع، و يُحرِز انّه غير مذكي، و بطبع الحال يكون محرّماً لا حلالاً، و هذا الأصل عبارة عن استصحاب عدم التذكية، لأنّه حينما كان حيّاً لم يكن مذكي، و بعد زهوق روحه نشكّ في تذكيته، فاستصحاب عدم التذكية مقدّم علي أصالة الحل، و ذلك لأنّ الشكّ في الحليّة مُسَبب عن الجهل بحال الموضوع و أنّه هل وردت عليه التذكية أو لا؟ فإذا ثبت حال الحيوان بالاستصحاب، و حكم عليه بعدم التذكية، لا يبقي الشكّ في حرمته، و هذا ما يعبر عنه بتعبيرين:

ص: 113

أ. حكومة الأصل الموضوعي(عدم التذكية) علي الأصل الحكمي(الحلية).

ب. حكومة الأصل السببي(عدم التذكية ) علي الأصل المسببي(الحلية).

مثال آخر: لو افترضنا دلالة الدليل الاجتهادي علي جواز مسّ المرأة بعد النقاء و قبل الاغتسال، و لكن وقع الشكّ في حصول النقاء، فاستصحاب كونها حائضاً حاكم علي أصالة الحلية لأنّه بيان، فيرتفع موضوع البراءة العقلية، و رافع أيضاً للشك في الظاهر فيكون رافعاً لموضوع البراءة الشرعية.

التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط

لا شكّ في حسن الاحتياط(بشرط أن لا يخل بالنظام عقلاً، أو لا ينجرّ إلي العسر و الحرج شرعاً)، و لكن الظاهر من الشيخ الأعظم اتّفاق الفقهاء علي لزوم الاحتياط في الموارد الثلاثة: النفوس، و الأعراض، و الأموال مطلقاً، فيجب الاحتياط لكون المحتمل ذا أهميّة حتّي و إن كان الاحتمال ضعيفاً، مع كون الشبهة موضوعية.

و الظاهر انّ اتّفاقهم علي وجوب الاحتياط فيها مبنيّ علي قاعدة مضي الإيعاز إليها في مبحث العام و الخاص (1) و هي انّ كلّ موضوع كانت الحرمة و الفساد هو الحكم الأصلي فيه، يجب الاجتناب عنه حتي في الشبهة الموضوعية، و لذلك حكم الفقهاء بالاحتياط وراء الموارد الثلاثة أيضاً، كما إذا ترددت المرأة بين كونها ممّن يجوز النظر إليها أو غيرها، أو تردّد بيع الوقف بين احتمال وجود المسوِّغ فيه و عدمه، أو تردّد تصرف غير الولي في مال اليتيم بين وجود الغبطة فيه، و عدمه، ففي هذه الموارد يحمل علي الحرمة و الفساد، لأنّ طبيعة الموضوع تقتضي الحرمة و الفساد إلاّ ما خرج بالدليل.

ص: 114


1- . راجع الوسيط:الجزء الأوّل ص 208.
التنبيه الثالث: قاعدة التسامح في أدلّة السنن
اشارة

اشتهر بين الأصحاب قاعدة »التسامح في أدلّة السنن« و يراد منها انّه لا يعتبر في ثبوتها و العمل بها ما يشترط في ثبوت غيرها كالواجبات و المحرمات من كون الراوي ثقة، ضابطاً، بل يكفي وروده و لو عن طريق ضعيف، و المسألة معنونة في كلمات الفريقين، غير انّ أهل السنة يعبِّرون عن المسألة بقولهم: العمل بالخبر الضعيف في فضائل الأعمال. (1)

و قد ورد عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)روايات متعددة في ذلك المضمار و ربما يناهز عددها إلي خمسة بعد توحيد بعضها مع بعض. (2)

و قد اختلفت كلمة الأُصوليّين في تفسير هذه الروايات، و نحن نذكر بعض الروايات ثمّ نبحث في مدلولها.

1. روي الكليني بسند صحيح عن ابن أبي عمير، عن حسن بن سالم، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: »من سمع شيئاً من الثواب علي شيء فصنعه كان له، و إن لم يكن علي ما بلغه«.

رواه البرقي عن هشام بن سالم بمتن آخر و هو:

»من بلغه عن النبي شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له و إن كان رسول اللّه(عليه السلام)لم يقله«.

ص: 115


1- . و قد ألمع إليها الشهيد الأوّل(734 786ه) في الذكري، و ابن فهد الحلي(المتوفّي 841ه) في عدة الداعي، و الشهيد الثاني(المتوفّي 966ه) في درايته، و بهاء الدين العاملي(المتوفّي1030ه) في أربعينه، إلي ان وصلت النوبة للشيخ الأنصاري فألف رسالة مستقلة فيها طبعت في ذيل كتاب المتاجر له قدِّس سرّه و أدرجها تلميذه الشيخ موسي التبريزي في حاشيته علي الفرائد، باسم »أوثق الوسائل« فلاحظ.
2- . الوسائل:1، الباب 18 من أبواب مقدّمات العبادات،بعد توحيد بعضها مع بعض.

2. روي صفوان، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: »من بلغه شيء من الثواب علي شيء من الخير فعمل به كان له أجر ذلك و إن كان رسول اللّه لم يقله«.

إلي غير ذلك من الروايات.

فذهب الشيخ الأنصاري إلي أنّ هذه الأخبار لا تدلّ إلاّ علي ثبوت الأجر للعامل و لا يدلّ علي استحباب نفس العمل، و بالتالي لا يمكن تصحيح العمل العبادي المردد بين الاستحباب و غير الوجوب، بهذه الأخبار.

و قال صاحب العناوين: إنّ مفادها هو انّه لا يعتبر في الخبر الوارد في المستحبات ما يشترط فيما دلّ علي الحكم الإلزامي، و يكون مفاد هذه الأخبار إضفاء الحجية للخبر الضعيف في مجال خاص و بالتالي بكون الفعل مستحباً بالذات، مضافاً إلي ترتب الثواب. (1)

و الحقّ مع النظرية الأُولي، لأنّ لسانها غير لسان إعطاء الحجية للخبر الضعيف، و ذلك لأنّ لسان الحجية هو إلغاء احتمال الخلاف و البناء علي أنّ مؤدّي الطريق هو الواقع كما في قوله: »العمري ثقتي فما أدّي إليك عنّي فعنّي يؤدّي« (2) ،لا الأخذ به مع احتمال عدم ثبوت المؤدّي في الواقع كما هو الحال في روايات هذا الباب حيث يقول: »و إن كان رسول اللّه لم يقله«، فهذا اللسان غير مناسب لإعطاء الحجية و لا يصلح لها.

ثمرات القاعدة

و تظهر الثمرة في عدّة موارد منها:

1. لو ورد خبر غير معتبر بالأمر بالوضوء في وقت خاص كدخول المسجد،

ص: 116


1- . العناوين:1: العنوان 151، قاعدة التسامح:420.
2- . الوسائل:الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث4.

فعلي القول الأوّل لا يترتب عليه إلاّ الثواب، و علي الثاني يعامل معه معاملة المستحب بالذات فيكون رافعاً للحدث.

2. لو ورد خبر ضعيف يدل علي استحباب غسل اللحية المسترسلة، فلو قلنا باستفادة الاستحباب يجوز المسح ببلله إذا جفّت يده، دون ما إذا قلنا بالنظرية الأُولي.

و في بعض هذه الثمرات نظر ذكرناه في محاضراتنا الأُصولية. (1)4.

ص: 117


1- . لاحظ إرشاد العقول:1/443 444.
الأصل الثاني: أصالة التخيير
اشارة

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

الأوّل: كان الواجب علي علماء الأُصول المتأخرين عقد فصل خاص لأصالة التخيير كبقية الأُصول العملية غير انّهم بحثوا قسماً منه في أصالة البراءة و قسماً آخر في أصالة الاحتياط، و صار ذلك سبباً لغموض البحث و عدم وقوف الطالب علي مجري أصالة التخيير. بصورة واضحة.

الثاني: انّ الميزان في جريان أصالة التخيير هو عدم إمكان الاحتياط، أعني الموافقة القطعية، سواء أ كانت المخالفة القطعية أيضاً ممتنعة كما في دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة في واقعة واحدة، كشرب مائع مردد بين الحلف علي فعله أو تركه في ليلة واحدة، أو كانت ممكنة كتردده بينهما مع تعدد الواقعة ككل ليلة جمعة إلي شهر.

الثالث: انّ دوران الأمر بين المحذورين يجتمع تارة مع الشكّ في التكليف إذا كان نوعه مجهولاً، و مع الشكّ في المكلف به إذا كان نوعه معلوماً و المتعلّق مردداً بين أمرين غير قابلين للاحتياط:

أمّا الأوّل: كتردد العبادة في أيام الاستظهار بين كونها واجبة أو محرمة، فهنا تكليف واحد مجهول نوعه، فلو كانت المرأة حائضاً فنوع التكليف هو الحرمة و لو كانت مستحاضة فنوع التكليف هو الوجوب.

و أمّا الثاني: كما إذا علم أنّ واحدة من الصلاتين واجبة و أُخري محرمة، و تردد

ص: 118

أمرهما بين الظهر و الجمعة، فالنوع هنا معلوم و هو انّ هنا واجباً و محرماً، غير انّ الموضوع مردد بين الجمعة و الظهر، فالجامع لكلا القسمين عدم امكان الموافقة القطعية.

ثمّ إنّ القوم ذكروا ما إذا كان نوع التكليف مجهولاً كدوران الأمر بين محذورين في باب البراءة، كما ذكروا ما إذا كان نوعه معلوماً و المتعلّق مردداً في باب الاشتغال، و صار ذلك سبباً لغموض البحث.

و نحن عقدنا لهذا الأصل عنواناً مستقلاً و أوردنا الجميع في هذا الفصل.

الرابع: انّ الكلام يقع في مقامات ثلاثة:

أ. دوران الأمر بين المحذورين مع الجهل بنوع التكليف التوصلي.

ب. دوران الأمر بين المحذورين مع الجهل بنوع التكليف التعبدي.

ج. دوران الأمر بين المحذورين مع العلم بنوع التكليف و الشكّ في المكلّف به.

و إليك الكلام في كلّ واحد منها.

المقام الأوّل: دوران الأمر بين المحذورين مع الجهل بنوع الحكم التوصلي

إذا دار أمر التكليف بين المحذورين، كما إذا علم إجمالاً بوجوب قتل إنسان أو حرمته، و منشأ التردد كونه مجهول الهوية، فهو دائر بين كونه مؤمناً أو محارباً، فعلي الأوّل يحرم قتله، و علي الثاني يجب، فأمر القتل دائر بين الحرمة و الوجوب، و لكن الحكم الواقعي الأعم من الوجوب و الحرمة علي فرض ثبوته ، توصلي.

هذا فيما إذا كانت الشبهة موضوعية، و ربما تكون الشبهة حكمية كالولاية عن الجائر لدفع الظلامة عن الناس، فقالت طائفة بالحرمة، لأنّها إعانة للظالم،

ص: 119

و أُخري بالوجوب لأنّ فيها التمكّن من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حسب المقدرة.

لا شكّ انّ المخالفة و الموافقة القطعيتين غير ممكنة و المكلّف مخيّر تكويناً بين الفعل و الترك، لكن يقع الكلام في الحكم الظاهري و الأصل الجاري في المقام. و الظاهر انّ المقام محكوم بالبراءة العقلية و النقلية.

أمّا الأوّل: فلأنّ كلاًّ من الوجوب و الحرمة مجهولان فيقبح المؤاخذة عليهما.

و أمّا الثاني: فلعموم قوله: رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون.

نعم لا تجري أصالة الإباحة المستفادة من قولهم: كلّ شيء حلال حتّي تعلم أنّه حرام، و ذلك لأنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال لأنّ مفاد أصالة الإباحة الرخصة في الفعل و الترك و ذلك يناقض العلم بالإلزام، و هو لا يجتمع مع جعل الإباحة و لو ظاهراً.

هذا هو أحد الأقوال في الحكم الظاهري، و هناك أقوال أُخري تطلب من محالها.

المقام الثاني: دوران الأمر بين المحذورين مع الجهل بنوع التكليف التعبدي

إذا كان أحد الحكمين أو كلاهما تعبديّين كصلاة المرأة في أيام الاستظهار، فلو كانت حائضاً حرمت العبادة حرمة توصلية، و أمّا إذا كانت طاهراً وجبت الصلاة وجوباً تعبدياً، فلا تجري هنا البراءتان العقلية و النقلية لاستلزام الجريان المخالفة القطعيّة، للفرق بين المقام و ما قبله، ففي المقام السابق كانت الموافقة القطعيةَ كالمخالفة القطعية ممتنعة، و أمّا في المقام فالموافقة القطعية و إن كانت ممتنعة لكن المخالفة القطعية ممكنة، فلو صلت بلا نيّة القربة معتمدة علي جريان البراءة من الوجوب و الحرمة فقد أتت بالمبغوض إذ لو كانت طاهرة فصلاتها

ص: 120

باطلة، و لو كانت حائضاً فقد ارتكبت الحرام بناء علي أنّ صورة العبادة محرمة عليها.

فالمرجع هو أصالة التخيير إمّا الإتيان بالصلاة مع قصد القربة أو تركها أصلاً، و الميزان في جريان أصالة التخيير هو امتناع الموافقة القطعية سواء أمكنت المخالفة القطعية كما في المقام أو لا كما في المقام السابق.

المقام الثالث:دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في المكلّف به

أنّ أصالة التخيير بملاك عدم إمكان الموافقة القطعية كما تجري في الشك في التكليف كما في الصورتين السابقتين، كذلك تجري في الشكّ في المكلّف به كما في المقام و مثلاً:

1. إذا علم أنّ أحد الفعلين واجب و الآخر حرام في زمان معيّن و اشتبه أحدهما بالآخر، فهو مخيّر بين فعل أحدهما و ترك الآخر، لأنّ الموافقة القطعية غير ممكنة، نعم ليس له ترك كليهما أو فعل كليهما، إذ تلزم فيه المخالفة القطعية.

2. إذا علم بتعلّق الحلف بإيجاد فعل في زمان، و ترك ذاك في زمان آخر، و اشتبه زمان كلّ منهما كما إذا حلف بالإفطار في يوم، و الصيام في يوم آخر، فاشتبه اليومان فهو مخيّر بين الإفطار في يوم، و الصيام في يوم آخر، لكن ليس له المخالفة القطعية كأن يصومهما أو يفطر فيهما.

نعم لا تجري أصالة التخيير فيما إذا دار أمر شيء بين كونه شرطاً للصحّة أو مانعاً كالجهر، و ذلك لأنّ الموافقة القطعية بإقامة صلاة واحدة و إن كانت غير ممكنة لكنّها ممكنة بإقامة صلاتين يجهر في إحداهما و يخافت في الأُخري.

و قد عرفت أنّ الملاك لجريان أصالة التخيير امتناع الموافقة القطعية و هو ليس بموجود في هذا المورد.

ص: 121

هذا كلّه في دوران الأمر بين المحذورين عند عدم النص و نظيره إجمال النصّ، و تعارض النصّين أو الشبهة الموضوعية التحريمية، فالحكم في الجميع واحد، و قد استقصينا الكلام في هذه الصور في »الموجز«.

فخرجنا بالنتائج التالية:

1. انّ الميزان في جريان أصل التخيير عدم إمكان الموافقة القطعية سواء أمكنت المخالفة القطعية أو لا.

2. انّ المكلّف في المقام الأوّل مخيّر تكويناً، و الحكم الظاهري هو البراءة، بخلاف المقامين الأخيرين فالحكم الظاهري فيهما هو التخيير.

ص: 122

الأصل الثالث: أصالة الاحتياط
اشارة

قد تقدّم بيان مجري الاحتياط (1) و هو ما إذا قام دليل عقلي أو نقلي علي ثبوت العقاب بمخالفة الواقع، و له صور أربع:

أ. الشبهة التكليفية قبل الفحص.

ب. الشبهة البدوية و لكن كان للمحتمل أهمية بالغة، كما في الدماء و الأعراض و الأموال.

ج. إذا دار الأمر بين وجوب فعل و ترك فعل آخر.

د. إذا علم نوع التكليف و تردّد الواجب بين أمرين، كتردد الفريضة بين الظهر و الجمعة، و الخمر بين الإناءين. و الثلاثة الأُول من قبيل الشك في التكليف مع وجوب الاحتياط فيها، و الرابع من قبيل الشكّ في المكلّف به.

و من هنا علم أنّ مجري أصالة الاحتياط أعمّ من الشكّ في المكلّف به، و الميزان قيام الدليل العقلي أو النقلي علي وجود العقاب عند المخالفة و الجميع داخل تحت هذا العنوان، و بما انّ حكم الصور الثلاث الأُول واضحة نكرس البحث في الصورة الرابعة أي الشكّ في المكلّف به، و الكلام فيه في مقامين:

1. اشتباه الحرام بغير الواجب بمسائله الأربع، و يعبّر عنه بالشبهة التحريمية.

2. اشتباه الواجب بغير الحرام بمسائله الأربع، و يعبّر عنه بالشبهة الوجوبية.

و إليك الكلام في كلا المقامين:

ص: 123


1- . لاحظ صفحه 95.
المقام الأوّل: أصالة الاحتياط الشبهة التحريمية
اشارة

مقتضي ما ذكرناه في الشكّ في التكليف أن يكون في هذا المقام أيضاً مسائل أربع، لأنّ منشأ الشكّ إمّا فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين، أو خلط الأُمور الخارجية، و بما انّ المسائل الثلاث الأُول، فاقدة للتطبيقات الفقهية، خصصنا البحث في الشبهة التحريمية الموضوعية.

و هي علي قسمين: لأنّ الحرام المشتبه بغيره إمّا مشتبه في أُمور محصورة أو غير محصورة، فيقع

الكلام في هذا المقام في موردين:
المورد الأوّل: حكم الشبهة المحصورة
اشارة

إذا علم المكلّف بتكليف(الحرمة) علي وجه لا يرضي المولي بمخالفته، فلا محيص عن وجوب الموافقة القطعية، فضلا عن حرمة المخالفة القطعية سواء أ كان العلم إجمالياً أم تفصيلياً، فالبحث عن إمكان جعل الترخيص لبعض الأطراف أو لجميعها مع العلم الوجداني بالتكليف الجدي تهافت، لاستلزامه اجتماع الإرادتين المتضادتين، و هذا كمثل قتل المؤمن إذا اشتبه بغيره، و هذا النوع من العلم الإجمالي يناسب البحث عنه في باب القطع.

و أمّا المناسب للمقام، كما هو الظاهر من كلام الشيخ (1) فهو ما إذا قامت الأمارة علي حرمة شيء و شمل إطلاق الدليل مورد العلم الإجمالي، كما إذا قال:

ص: 124


1- . لاحظ الفرائد:240، طبعة رحمة اللّه.

اجتنب عن النجس، و كان مقتضي إطلاقه شموله للنجس المعلوم إجمالاً أيضاً، و عندئذ فمقتضي القاعدة الأوّلية هو تحصيل البراءة القطعيّة بالاجتناب عن كلا الطرفين لأن المفروض شمول اطلاق الدليل، المعلوم اجمالاً كشموله للمعلوم تفصيلاً.

انّما الكلام في مقتضيا لقاعدة الثانويّة أعني إمكان الترخيص اوّلاً، و وقوعه ثانياً و إليك الكلام فيهما.

الأوّل: إمكان الترخيص

فالحقّ إمكانه لأنّك عرفت أنّ ما لا يقبل الترخيص هو العلم الوجداني بالتكليف و هو الذي لا يجتمع مع الترخيص لاستلزامه اجتماع الإرادتين المتناقضتين.

و أمّا لو كان سبب العلم بالتكليف هو إطلاق الدليل أعني:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1) ) (2)الشامل للصور الثلاث.

أ. المعلوم تفصيلاً.

ب. المعلوم إجمالاً.

ج. المشكوك وجوداً مع وجوده واقعاً.

فكما يصحّ تقييد إطلاقه بإخراج المشكوك و جعل الترخيص فيه، فهكذا يجوز تقييد إطلاقه بإخراج صورة المعلوم بالإجمال، فتكون النتيجة اختصاص حرمة الخمر بصورة العلم به تفصيلاً، فالشكّ في إمكان التقييد كأنّه شكّ في أمر بديهي، إنّما الكلام في الأمر الثاني.

ص: 125


1- سوره 5 - آيه 90
2- . المائدة:90.
الثاني: ورود الترخيص في لسان الشارع

و هذا هو الأمر المهم في هذا الباب، و المتتبع للروايات و فتاوي العلماء يقف علي عدم ورود الترخيص لبعض الأطراف، فكيف بجميعها، و قد ذكرنا بعض الروايات في الموجز (1)؟ فلا نعيد.

نعم ربما استدلّ ببعض الروايات علي جعل الترخيص نذكر منها ما يلي:

الأوّل: قوله »كلّ شيء لك حلال حتي تعلم أنّه حرام بعينه« بناء علي أنّ قوله»بعينه« تأكيد للضمير في قوله: »انّه« فيكون المعني حتي تعلم أنّه بعينه حرام، فيكون مفاده انّ محتمل الحرمة ما لم يتعين انّه بعينه حرام فهو حلال فيعم العلم الإجمالي و الشبهة البدوية.

يلاحظ عليه: بأنّ الرواية جزء من رواية مسعدة بن صدقة، و الإمعان في الأمثلة الواردة فيها يورث اليقين بأنّ موردها هو الشبهة البدوية و لا صلة لها بأطراف العلم الإجمالي، و قد أوضحنا حالها في الموجز فلاحظ. (2)

الثاني: ما رواه عبد اللّه بن سنان، عن عبد اللّه بن سليمان، قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام)عن الجبن، فقال لي: »لقد سألتني عن طعام يُعجبني« ثمّ أعطي الغلام درهماً، فقال: »يا غلام ابتع لنا جبناً«، ثمّ دعا بالغداء، فتغدّينا معه، فأتي بالجبن فأكل و أكلنا، فلمّا فرغنا من الغذاء، قلت: ما تقول في الجبن... إلي أن قال:» سأخبرك عن الجبن و غيره، كلّما كان فيه حلال و حرام، فهو لك حلال حتي تعرف الحرام بعينه فتدعه«. (3)

و ربّما يتوهم جواز الترخيص في أطراف العلم الإجمالي لكن الرواية ناظرة إلي الشبهة غير المحصورة، إذ كان في المدينة المنورة أمكنة كثيرة تُجعل الميتة في الجبن، و كان هذا سببَ السؤال، فأجاب الإمام(عليه السلام)بما سمعت.

ص: 126


1- . الموجز:199.
2- . الموجز:199.
3- . الوسائل:17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث1.

و يشهد علي ذلك ما رواه أبو الجارود، قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام)في الجبن، فقلت له: أخبرني مَنْ رأي أنّه يجعل فيه الميتة فقال: »أ من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة، حرّم في جميع الأرضين«. (1)

فخرجنا بالنتيجة التالية: انّ الروايتين المرخِّصتين خارجتان عن محطّ البحث، و انّ العلم الإجمالي بالتكليف منجّز مطلقاً سواء أ كان علماً قطعياً، أم حاصلاً من إطلاق الدليل، فتحرم مخالفته القطعية كما تجب موافقته القطعية.

***

المورد الثاني: حكم الشبهة غير المحصورة

قد عرفت أنّ الشبهة التحريمية الموضوعية تنقسم إلي محصورة و غير محصورة، و قد عرفت حكم الأُولي، و إليك الكلام في الثانية، فيقع الكلام تارة في معيار كون الشبهة غير محصورة، و أُخري في حكمها.

أمّا الأوّل: فقد عُرّفت الشبهة غير المحصورة بتعاريف أفضلها:بلوغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلي درجة لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها، أ لا تري أنّ المولي إذا نهي عبده عن المعاملة مع زيد، فعامل مع واحد من أهل قرية كثيرة الأهل يعلم وجود زيد فيها لم يكن ملوماً و إن صادف الواقع، و قد ذكر انّ المعلوم بالإجمال قد يؤثر مع قلّة الاحتمال، ما لا يؤثّر مع الانتشار و كثرة الاحتمال، كما إذا نهي المولي عن سبّ زيد و هو تارة مردّد بين اثنين و ثلاثة، و أُخري بين أهل بلدة و نحوها. (2)

و أمّا الثاني أي حكمها، فانّ عنواني المحصورة و غير المحصورة لم يردا في

ص: 127


1- . الوسائل:17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 5.
2- . الفرائد:261.

النصوص لكن العنوان الأوّل مشير إلي تنجيز العلم الإجمالي لاعتناء العقلاء بالعلم فيها لقلة الأطراف، و العنوان الثاني مشيراً إلي عدم تنجيزه لعدم اعتنائهم بالتكليف فيه لصيرورته موهوماً في كلّ طرف، و هذا هو الدليل القاطع علي عدم التنجيز.

هذا مضافاً إلي أنّ الاجتناب عن الأطراف في الثاني يوجب العسر، و التبعيض في الارتكاب إلي حدّ العسر غير خال عن العسر أيضاً.

علي أنّ هناك روايات في أبواب مختلفة تدلّ علي إمضاء الشارع بناء العقلاء، و هذه الروايات مبثوثة في أبواب أربعة.

1. ما ورد حول الجبن. (1)

2. ما ورد حول شراء الطعام و الأنعام من العامل الظالم. (2)

3. ما ورد حول قبول جائزة الظالم. (3)

4. ما ورد حول التصرف في المال الحلال المختلط بالربا. (4)

و لعلّ هذه الروايات مع بناء العقلاء و السيرة الجارية بين المتشرعة كافية في رفع اليد عن إطلاق الدليل لو قلنا بأنّ له إطلاقاً لصورة اختلاط الحرام بين كثير من الحلال.

إذا عرفت حكم الشبهتين: المحصورة و غير المحصورة فاعلم انّ هنا تنبيهات مهمة حول المحصورة نذكرها واحداً بعد الآخر.ة.

ص: 128


1- . انظر الوسائل:7/61 من أبواب الأطعمة المباحة.
2- . الوسائل:12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، 3، 5.
3- . الوسائل: 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4، و الباب 53 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2و3.
4- . الوسائل: 12، الباب 5 من أبواب الربا، الحديث 2و3. و قد اقتصرنا بذكر مصادر الروايات خشية الإطالة فبإمكان الأُستاذ، نقل الروايات عن الوسائل خلال إلقاء المحاضرة.
تنبيهات
التنبيه الأوّل: تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات

لا فرق في تنجيز العلم الإجمالي بين أن يكون أطرافه حاصلة بالفعل، أو يكون بعضها حاصلة بالفعل دون بعض، و هذا ما يسمّي بالعلم الإجمالي بالتدريجيات، كما إذا علم بأنّ أحد البيعين: إمّا ما يبيعه اليوم أو ما يبيعه غداً، ربوي، فلا فرق عند العقل بينه و بين ما علم أنّ أحد البيعين الحاضرين ربوي، فيجب ترك الجميع تحصيلاً للموافقة القطعية.

التنبيه الثاني: تنجيز العلم الإجمالي إذا تعلّق بحقيقتين

لا فرق في تنجيز العلم الإجمالي بين أن تكون المشتبهات من حقيقة واحدة ، كما إذا علم بنجاسة ماء أحد الإناءين، أو من حقيقتين، كما إذا علم إجمالاً إمّا نجاسة هذا الماء، أو غصبية الماء الآخر، و المناط في الجميع واحد، و هو انّ الاشتغال اليقيني بالتكليف(وجوب الاجتناب) يستلزم البراءة اليقينية.

التنبيه الثالث: شرط التنجيز كونه محدثاً للتكليف علي كلّ تقدير

يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدِثاً للتكليف علي كلّ حال فلو وقعت النجاسة في أحد الإناءين الطاهرين و لم يعلم أنّها وقعت في أيّ واحد منهما، فهو ينجّز، لأنّها لو وقعت في أيّ منهما يحدث تكليفاً بإيجاب الاجتناب عنه. و أمّا إذا لم يحصل لنا علم بحدوث التكليف علي كلّ تقدير فلا يكون منجزاً، كما إذا علم بوقوع النجاسة إمّا في هذا الماء القليل، أو في ذاك الماء الكر، فلا ينجّز

ص: 129

حتي يجب الاجتناب عن الماء القليل فإنّه لو وقع في الماء القليل يكون محدثاً للتكليف دون ما إذا وقع في الكر، فلا يكون محدثاً للتكليف علي كلّ تقدير فلا يكون هناك علم بالتكليف علي كلّ تقدير.

فالعلم الاجمالي بوقوع النجاسة في أحد الماءين و إن كان متحقّقاً، لكنّ العلم بانعقاده مؤثّر علي كلّ تقدير بمعني احتمال احداث التكليف في كلّ من الطرفين علي فرض وقوعها فيه غير متحقّق و ذلك لأنّه لو وقعت النجاسة في الماء الكر لا تؤثر فيه أبداً فلا يُحتمل فيه التكليف، فهو طاهر قطعاً علي كلّ تقدير، و لو وقعت في الإناء الآخر فهو و إن كان يحدث تكليفاً، لكن وقوعه فيه محتمل فيكون محتمل النجاسة و يقع مجريً لأصل البراءة و بالتالي: ينحلّ العلم الإجمالي بوقوع النجاسة في أحدهما ،إلي طاهر قطعي و هو الماء الكرّ، و مشكوك النجاسة و هو الماء القليل فلا ينعقد العلم الإجمالي مؤثّراً.

و مثله ما إذا كان أحد الإناءين نجساً قطعاً و الآخر طاهراً قطعاً، فوقعت النجاسة في أحدهما، فمثل هذا العلم بما أنّه لا يحدث تكليفاً علي كلّ تقدير لا يكون منجزاً، لأنّه لو وقعت في الإناء النجس لا تزيده النجاسة الجديدة حكماً جديداً، و وقوعه في الإناء الآخر مشكوك، فتجري فيه البراءة ، فلا ينعقد العلم الإجمالي مؤثّراً، إذ لا يصحّ لنا أن نقول: إمّا هذا نجس، أو ذاك نجس، بل الأوّل نجس قطعاً، و الثاني مشكوك النجاسة.

و الحاصل: أنّه لو لم يحدث تكليفاً في كلّ طرف علي فرض وقوعها فيه لا ينعقد العلم الإجمالي مؤثراً، لأنّ العلم بوقوع النجاسة في أحد الإناءين و إن كان حاصلاً، لكن العلم الإجمالي بتنجيس أحدهما لا بعينه غير حاصل بل أحدهما نجس قطعاً و الآخر مشكوك، فتدبّر.

ص: 130

التنبيه الرابع: حكم خروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء قبل العلم

إذا تعلّق العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين اللّذين يتمكّن المكلّف عرفاً من ارتكاب أحدهما دون الإناء الآخر لأنّه في بيت شخص لا يتفق للمكلّف عادة دخوله و استعماله فلا يكون منجِّزاً، لأنّه لا يحدث التكليف علي كلّ تقدير، إذ لو وقعت النجاسة في الإناء الذي ابتلي به يُحدث التكليف و يحسن الخطاب بالاجتناب دون ما إذا وقعت فيما لا يبتلي به لأنّه يقبح الخطاب، فلا يصحّ خطابه ب »اجتنب إمّا عن هذا الإناء، أو ذلك الإناء«، فإذا كان الخطاب بالنسبة إلي الإناء الخارج عن ابتلائه قبيحاً لا ينعقد العلم الإجمالي منجّزاً و مؤثراً، فيكون الشكّ في الإناء الأوّل أشبه بالشبهة البدوية.

و لأجل ذلك يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون كلا الطرفين مورداً للابتلاء قبل حدوث العلم الإجمالي حتي يصحّ خطابه بالنسبة إلي كلا الطرفين، و أمّا لو كان أحدهما خارجاً عن محلّ الابتلاء قبل حدوث العلم الإجمالي، ثمّ حدث فلا يكون منجزاً، لأنّه ليس محدثاً للتكليف علي كلّ تقدير.

نعم لو حدث العلم الإجمالي و الطرفان في محل الابتلاء، ثمّ خرج أحدهما عن محلّ الابتلاء، فالاجتناب عن الإناء الآخر لازم، و ذلك لأنّ الخطاب بالاجتناب علي وجه الترديد و إن كان قبيحاً بعد خروج أحد أطرافه عن محلّ الابتلاء، و لكنّ العلم الإجمالي لما انعقد مؤثراً فالاجتناب عن الإناء الباقي، من آثار العلم الإجمالي السابق، فوجوده آناً ما، يوجب الاجتناب عن الثاني ما دام موجوداً.

و يدلّ علي ذلك أنّه لو كان الخروج عن محل الابتلاء بعد طروء العلم موجباً لجواز ارتكاب الإناء الآخر، لما أمر الإمام بإهراقهما (1)، بل أمر بإهراق

ص: 131


1- . الوسائل: الجزء2، الباب 64 من أبواب النجاسات، الحديث2.

أحدهما و التوضّؤ بالآخر.

التنبيه الخامس: الاضطرار إلي بعض الأطراف

لو اضطرّ إلي ارتكاب بعض المحتملات، فهو علي قسمين:

الأوّل: إذا اضطر إلي ارتكاب واحد معيّن.

الثاني: إذا اضطر إلي ارتكاب واحد لا بعينه.

أمّا القسم الأوّل، فله صورتان:

الأُولي: إذا اضطرّ إلي ارتكاب واحد معيّن قبلَ العلم أو معه، فلا يجب الاجتناب عن الآخر.

الثانية: إذا اضطر إلي ارتكاب واحد معيّن بعد العلم، فيجب الاجتناب عن الآخر.

أمّا الصورة الأُولي، أي إذا كان الاضطرار إلي طرف معيّن قبل العلم، أو معه، فلما عرفت من أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدِثاً للتكليف علي كلّ تقدير و أن يصحّ خطاب المكلّف بالاجتناب عن كلّ من الطرفين، و هذا الشرط غير موجود في هذه الصورة، لأنّ الحرام لو كان فيما اضطرّ إليه معيّناً فلا يكون العلم محدثاً للتكليف لفرض اضطراره إليه و هو رافع للتكليف فلا يصحّ خطابه بالاجتناب عنه، و لو كان الحرام في غير ما اضطرّ إليه فهو، و إن كان يحدث فيه التكليف و يصحّ خطابه بالاجتناب عنه، لكن وجوده فيه عندئذ أمر محتمل فتجري فيه البراءة.

و إن شئت قلت: إنّ العلم الإجمالي بحرمة واحد من الأُمور إنّما ينجّز فيما لو عُلِم تفصيلاً لوجب الاجتناب عنه علي كل حال، و هذا الشرط غير متحقّق، لأنّه لو عُلِم أنّ الحرام في غير الطرف المضطرّ إليه و إن وجب الاجتناب عنه، لكن لو

ص: 132

كان في الجانب المضطرّ إليه لا يجب و يقبح الخطاب، فاذاً العلم التفصيلي بالحرام ليس منجّزاً علي كلّ حال بل منجّز علي حال دون حال، فيكون العلم الإجمالي مثله، فلا يكون هناك قطع بالتكليف المنجَّز علي كلّ التقادير حتي يجب امتثاله.

و أمّا الصورة الثانية، أي إذا كان الاضطرار إلي واحد معيّن بعد انعقاد العلم الإجمالي، فالحقّ وجوب الاجتناب عن الآخر، لأنّ الخطاب بعد طروء الاضطرار بالاجتناب عن كلّ من الطرفين و إن لم يكن صحيحاً، لكن وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر من آثار العلم الإجمالي السابق حيث نجّز التكليف و أوجب الاجتناب و حكم العقل بوجوبه، فإذا طرأ الاضطرار فلا يتقدّر إلاّ بقدر الضرورة، فالحكم العقلي السابق من لزوم الخروج عن عهدة التكليف القطعي باق علي حاله إلاّ ما خرج بالدليل، أي المضطرّ إليه.

هذا كلّه إذا كان الاضطرار إلي طرف معيّن.

و أمّا القسم الثاني، أي إذا كان الاضطرار إلي ارتكاب واحد لا بعينه، فيجب الاجتناب عن الطرف الآخر مطلقاً سواء أ كان الاضطرار بعد العلم كما هو واضح لما عرفت في القسم الأوّل من أنّ وجوب الاجتناب في هذه الصورة من آثار العلم السابق المتقدّم علي الاضطرار ، أم كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي، أو معه فهو علي خلاف ما إذا كان الاضطرار إلي معين.

و الفرق بين القسمين ظاهر ممّا سبق، و هو أنّ العلم الإجمالي في هذا القسم حاصل بحرمة واحد من أُمور علي وجه لو علم بحرمته تفصيلاً، وجب الاجتناب عنه علي كل تقدير، لإمكان رفع الاضطرار ، بغير الحرام، فيكون العلم الإجمالي مثل التفصيلي، غاية الأمر انّ ترخيص بعضها علي البدل لرفع الاضطرار موجب لاكتفاء الآمر في مقام الامتثال، بالاجتناب عن الباقي، بخلاف القسم السابق فإنّ

ص: 133

العلم التفصيلي فيه لم يكن فيه منجزاً علي كلّ تقدير،لما قلنا من أنّ الحرام لو كان في غير الطرف المضطرّ إليه و إن وجب اجتنابه لكن لو كان في الجانب المضطر إليه لا يجب بل يقبح الخطاب، فإذا كان هذا حال العلم التفصيلي فكيف بالعلم الإجماليّ؟

التنبيه السادس: حكم ملاقي أحد الأطراف
اشارة

لا شكّ انّه يجب الاجتناب عن ملاقي النجس الواقعي. إنّما الكلام فيما إذا لاقي شيئاً لا نعلم بنجاسته و لكنّه محكوم عقلاً و شرعاً بوجوب الاجتناب، كأحد طرفي العلم الإجمالي، فهل يجب الاجتناب عن الملاقي أيضاً أو لا؟و هذا كما إذا علم بنجاسة موضع من ثوبه و تردد بين أسفله و أعلاه ثمّ أصاب الملاقي الرطب، أحد الموضعين، فيقع الكلام في وجوب الاجتناب عن الملاقي و عدمه.

و بذلك اتضح خروج الموارد التالية عن محلّ النزاع.

أ. إذا لاقي الملاقي كلا الطرفين، فهو معلوم النجاسة قطعاً لا مشكوكها فيجب الاجتناب عنه.

ب. إذا تعدّد الملاقي، بأن يلاقي شيء أحدَ الطرفين و شيء آخر الطرف الآخر، فيحدث علم إجمالي بنجاسة أحد الملاقيين، كالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الأصلين.

ج. انّ البحث عن طهارة الملاقي و نجاسته إذا كان هناك مجرّد ملاقاة دون أن يحمل شيئاً من أجزاء الملاقي، و علي ذلك فلو غمس يده في أحد الإناءين ثمّ أخرجها تكون اليد طرفاً للعلم الإجمالي لا ملاقياً، فينقلب العلم عن كونه ثنائي الأطراف إلي ثلاثيّها، نظير ما إذا قسّم أحد المشتبهين، قسمين و جعل كلّ قسم في إناء.

ص: 134

إذا علمت ذلك، فالمشهور بين الأُصوليّين المتأخّرين عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي.

ادلّة الطرفين

استدل القائل بعدم وجوب الاجتناب بأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي من شئون ملاقاة النجس لا من شئون محتمل النجاسة و إن حكم علي المحتمل بوجوب الاجتناب مقدمة.

و ذلك لأنّ الشكّ في طهارة الملاقي ناشئ من طهارة الملاقي و نجاسته، فليس الأصل(الطهارة) الجاري في الملاقي، في رتبة الأصل الجاري في الملاقي في رتبة واحدة، و بما أنّ أصالة الطهارة في الملاقي معارضة لأصالة الطهارة في الطرف الآخر فتتعارضان و تتساقطان، فيجري الأصل في الملاقي بلا معارض.

و الحاصل: أنّ الأصل يجري في الملاقي و الطرف الآخر ثمّ يتساقطان، و لا يجري في الملاقي حين جريانه في الملاقي لتأخّر رتبته عن الملاقي و المفروض انّ الأصلين فيهما تعارضا و تساقطا، فيكون الأصل في جانب الملاقي بلا معارض.

استدل القائل بالاجتناب عن الملاقي بأنّه بعد العلم بالملاقاة يتبدّل العلم، الثُنائي الأطراف، إلي ثُلاثي الأطراف، فيحصل العلم إمّا بنجاسة الملاقي و الملاقي أو ذاك الطرف، و ذلك لاتحاد حكم الملاقي و الملاقي، فلو كان الأوّل طرفاً للعلم، فالثاني أيضاً كذلك، وعليه يجب الاجتناب عن الجميع لتحصيل العلم بالاجتناب عن النجس الموجود في البين.

يلاحظ عليه: بما مرّ في التنبيه الثالث من أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدِثاً للتكليف علي كلّ تقدير، فلو أحدث علي تقدير دون آخر فلا

ص: 135

يكون منجِّزاً.

و هذا الشرط موجود في العلم الأوّل لأنّه لمّا لم يكن واحد من المشتبهين محكوماً بوجوب الاجتناب، حدث العلم الإجمالي مؤثراً، و هذا بخلاف العلم الثاني، لأنّه حدث عند ما كان الطرف الآخر محكوماً بوجوب الاجتناب بالعلم الإجمالي الأوّل، و معه لا يُحدث في الملاقي و لا يؤثر فيه حكماً لفقدان الشرط المؤثّر في تنجيز العلم الإجمالي، أعني: كونه محدثاً للتكليف علي كلّ تقدير، فيكون الملاقي بحكم الشبهة البدويّة يجري فيه الأصل بلا معارض.

فإن قلت: انّ هنا علماً إجمالياً ثالثاً و هو العلم الإجمالي بنجاسة الطرف، أو الملاقي و الملاقي معاً فالطرفان بين أُحاديّ، و ثُنائيّ.

قلت: ليس هذا علماً ثالثاً وراء العلمين و إنّما هو تلفيق منهما و قد عرفت أنّ العلم الأوّل منجز دون الثاني، فليس هنا علم ثالث نبحث في حكمه.

هذا خلاصة الكلام و التفصيل موكول إلي دراسات عليا.

ص: 136

المقام الثاني: أصالة الاحتياط الشبهة الوجوبية
اشارة

قد عرفت أنّ الشكّ في المكلّف به ينقسم إلي شبهة تحريمية و إلي شبهة وجوبية، و قد تمّ الكلام في الأُولي مع الإشارة إلي مسائلها الأربع، و لكن ركزنا البحث علي مسألة واحدة من المسائل الأربع و هي الشبهة الموضوعية لعدم وجود تطبيقات عملية لسائر مسائلها الثلاث.

بقي الكلام في الشبهة الوجوبية من المكلّف به فهي تنقسم إلي قسمين، تارة يكون الشكّ مردداً بين المتباينين كتردد الأمر بين وجوب الظهر أو الجمعة.

و أُخري بين الأقل و الأكثر كتردد الواجب بين الصلاة مع السورة أو بدونها. و بذلك يقع الكلام في موضعين.

و لما كان حكم المتباينين واضحاً و هو وجوب الاحتياط فيهما مضافاً إلي أنّا تعرضنا له في الموجز (1)نقتصر في المقام من الشبهة الوجوبية علي الأقل و الأكثر.

ثمّ إنّ الأقل و الأكثر ينقسمان إلي الاستقلاليين و الارتباطيين، و الفرق بينهما بأنّ الأقل الاستقلالي يغاير الأكثر الاستقلالي علي فرض وجوبه حكماً و وجوباً، ملاكاً و غرضاً، طاعة و امتثالاً، كالفائتة المرددة بين الواحد و الكثير، و الدّين المردّد بين الدرهم و الدرهمين، بخلاف الأقل الارتباطي فانّه علي فرض وجوب الأكثر، متحد معه حكماً و وجوباً، ملاكاً و غرضاً، طاعة و امتثالاً، و لا استقلال له في شيء من الأُمور الثلاثة، كالشكّ في وجوب الصلاة مع السورة أو لا معها.

ص: 137


1- . الموجز:202.

ثمّ إنّ المشكوك في الشبهة الوجوبية يكون تارة الجزء الخارجي كالسورة و القنوت و جلسة الاستراحة بعد السجدتين، و أُخري الشرط أي الخصوصية المعتبرة في العبادة، المنتزعة من الأمر الخارجي كالطهارة الحاصلة عن الغسلات و المسحات بنيّة التقرب، و ثالثة الخصوصية المتحدة مع المأمور به، كما إذا دار أمر الواجب بين مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة، أو دار أمر الواجب بين واحد معين من الخصال أو المردد بين الأُمور الثلاثة، و حكم الجميع واحد.

و الأقوال في المقام لا تتجاوز عن ثلاثة:

أ. جريان البراءة العقلية و الشرعية.

ب. القول بالاحتياط و عدم جريانهما.

ج. التفصيل بين العقلية و الشرعية تجري الأُولي دون الثانية.

و لكن الحقّ جريانهما معاً، و قد استدل علي البراءة العقليّة بوجوه مختلفة نذكر منها وجهاً واحداً و هو أوضح الوجوه.

و هو انّ الأمر و إن تعلق بعنوان الصلاة لكنّها ليست شيئاً مغايراً للأجزاء بل هو عبارة أُخري عن نفس الأجزاء لكن بصورة الجمع و الوحدة في التعبير. و ذلك لانّ الاجزاء تارة تلاحظ بصورة الكثرة بملاحظة كلّ جزء مستقلاً مع جزء آخر، و أُخري تلاحظ بنعت الجمع و في لباس الوحدة، و العنوان المشير إلي ذات الأجزاء بهذا النعت هو عنوان الصلاة. و هي نفس الأجزاء في لحاظ الوحدة و علي نحو الجمع في التعبير.

إذا علمت ذلك فنقول: إنّ الحجة قامت علي وجوب العنوان نحو قوله:»أقم الصلاة« و قيام الحجّة عليه نفس قيامها علي الأجزاء، و قد عرفت أنّ نسبة الصلاة إليها نسبة المجمل إلي المفصّل لكن الاحتجاج بالعنوان علي وجوب

ص: 138

الأجزاء إنّما يصحّ فيما إذا علم انحلاله إلي جزء و جزء حتي يكون داعياً إليه، و أمّا إذا جُهلت جزئية الشيء فلا يكون الأمر به، حجّة عليها و داعياً إليها ضرورة انّ قوام الاحتجاج بالعلم، و العلم بتعلّق الأمر المركب، إنّما يكون حجّة علي الأجزاء التي علم تركب المركب منها دون ما لا يكون.

و إن شئت نزّل المقام علي ما إذا تعلّق الأمر بالأجزاء بلا توسط عنوان، فكما أنّه لا يحتج إلاّ علي الأجزاء المعلومة دون المشكوكة، فهكذا المقام فانّ الأمر و إن تعلق بالعنوان مباشرة دونها، لكنّك عرفت أنّ نسبة العنوان إليها نسبة المجمل إلي المفصل، فالأجزاء في مرآة الإجمال، عنوان; و في مرآة التفصيل، أجزاء.

و علي ضوء ذلك: إذا بذل العبد جهده للعثور علي الأجزاء التي ينحلّ العنوان إليها، فلم يقف إلاّ علي التسعة منها دون الجزء العاشر المحتمل، يستقل العقل بانّه ممتثل حسب قيام الحجة و يعدّ العقاب علي ترك الجزء المشكوك عقاباً بلا بيان.

و بعبارة موجزة: انّ العقل يستقل بقبح مؤاخذ مَنْ أُمر بمركب لم يُعلَم من أجزائه إلاّ عدّة أجزاء، و يشكّ في وجود جزء آخر، ثمّ بذل جهده في طلب الدليل علي جزئية ذلك الأمر، فلم يعثر فأتي بما علم و ترك المشكوك، خصوصاً مع اعتراف المولي بعدم نصب قرينة عليه، فكما تقبح المؤاخذة فيما إذا لم ينصب قرينة فهكذا تقبح فيما إذا نصب و لكن لم تصل إلي المكلّف بعد الفحص و هذا تقرير للبراءة العقلية. (1)

و بهذا يعلم جريان البراءة الشرعية حيث إنّ تعلّق الوجوب الشرعي بالنسبة إلي الجزء أو الشرط أو القيد مجهول فيشمله حديث الرفع و غيره من أدلّة البراءةن.

ص: 139


1- . ثمّ إنّ ما ذكرنا من الدليل، غير ما هو المعروف من القوم في المقام من كون الأقلّ واجباً علي كلّ تقدير و الأكثر مشكوك الوجوب فانّ الاستدلال علي البراءة بهذا الطريق ذو شجون.

الشرعية.

و من هنا يعلم انّ المرجع في الأقل و الأكثر هو البراءة من غير فرق بين أن يكون منشأ الشك فقدان النص كما علمت أو إجمال النص، كما إذا دلّ الدليل علي غسل ظاهر البدن و يشك في أنّ الجزء الفلاني داخل فيه أو لا، أو تعارض النصين، كما إذا دلّ دليل علي جزئية السورة، و أُخري علي عدم جزئيتها، فالمرجع حسب القاعدة الأُولي هو البراءة، غير انّ الأدلة الشرعية دلت علي التخيير بين الدليلين عند عدم المرجح. (1)

أو كان منشأ الشك خلط الأُمور الخارجية، كما إذا أمر بتكريم مجموع العلماء علي نحو العام المجموعي بأن يكون هناك وجوب واحد و إطاعة واحدة فشكّ في كون زيد عالماً أو لا.فالمرجع هو البراءة، لأنّ الشكّ في كون زيد عالماً يرجع إلي الشكّ في كون الموضوع ذا أجزاء كثيرة أو قليلة فيكون حكمه، حكم الأقل و الأكثر الارتباطيين. (2)

و ثمة سؤال و هو لما ذا خصصنا الأقل و الأكثر بالشبهة الوجوبية و لم نتعرض له في الشبهة التحريمية؟ و الجواب واضح لأنّ مرجع دوران الأمر بين الأقل و الأكثر في الشبهة التحريمية إلي الشكّ في أصل التكليف، لأنّ الأقل معلوم الحرمة و الشكّ في حرمة الأكثر، نظير الشك في الأقل و الأكثر الاستقلاليين في المقام.2.

ص: 140


1- . سيوافيك تفصيله في التعادل و الترجيح، ص194.
2- . فوائد الأُصول:4/202.
تنبيهات
التنبيه الأوّل: حكم النقيصة السهوية

إذا ترك جزء المركب أو شرطه سهواً فهل تبطل عبادته أو لا؟ و الكلام في المقام في تبيين حكم القاعدة الأُولي دون النظر إلي الأدلة الخارجية.(القاعدة الثانويّة) أقول: إنّ للمسألة صوراً:

الأُولي: إذا كان لدليل المركب إطلاق يدلّ علي مطلوبية الباقي مطلقاً سواء كان معه الجزء المنسيّ أو لا، مثل قوله(عليه السلام): »لا تترك الصلاة بحال« إذا كان لفظ الصلاة صادقاً علي غير المنسي.

الثانية: إذا كان لدليل الجزء إطلاق يدل علي مدخليته في المركب مطلقاً في حالتي الذكر و النسيان، كقوله(عليه السلام): »لا صلاة إلاّ بطهور«.

الثالثة: أن يكون لكلّ من دليلي المركب و الجزء إطلاق، فمقتضي إطلاق دليل المركب وجود الأمر بالباقي، و مقتضي إطلاق دليل الجزء عدم الأمر بالباقي.

الرابعة: أن لا يكون لواحد منهما إطلاق.

أمّا الصورة الأُولي: أي وجود الإطلاق لدليل المركب دون دليل الجزء، فيؤخذ بمقتضي إطلاق دليل المركب، و يحكم بصحّة المأتي به عدا المنسيّ، و لو شكّ في جزئية الجزء أو شرطية الشرط في حال النسيان تجري أصالة البراءة فيها.

أمّا الصورة الثانية: أي إذا كان لدليل الجزء و الشرط إطلاق دون دليل المركب، فيدلّ علي فعلية أحكامهما في حالتي الذكر و النسيان، و مقتضي الإطلاق

ص: 141

عدم الاكتفاء بالمأتي به، و لو ارتفع النسيان كان عليه الإعادة أو القضاء.

و أمّا الصورة الثالثة: أي إذا كان لكلّ من الدليلين إطلاق فيقدم إطلاق دليل الجزء علي إطلاق المركب تقدمَ المقيد علي المطلق، فإنّ دليل المركّب و إن كان يدلّ علي مطلوبية كلّ واحد من الأجزاء غير المنسيّة حالتي الذكر و النسيان و بالتالي يدل وجود الأمر بما عدا المنسي سواء أنسي الجزء الآخر أم لا، لكن دليل الجزء أخص منه حيث يدلّ علي دخله في صحّة المركب و عدم إيفاء الباقي بغرض المولي مطلقاً ذاكراً كان أو ناسياً، فيقدم علي إطلاق المركب، و علي ذلك فلا يجوز الاكتفاء بما عدا المنسي، فإذا قال المولي:

»لا صلاة إلاّ بطهور« (1) أو قال: »لا صلاة لمن لا يقيم صلبه«. (2) كان ظاهرهما مدخليتهما في ماهية الصلاة و حقيقتها، فيعمّان حالتي الذكر و النسيان، فتكون النتيجة بطلانَ الصلاة المنسيّ جزؤها حسب إطلاق دليل الجزء و الشرط، و ليس المقام مجري للبراءة العقلية أو الشرعية من شرطية الشرط أو جزئية الجزء لفرض وجود الدليل الاجتهادي، أعني: الإطلاق فيهما.

و أمّا الصورة الرابعة: أعني: إذا لم يكن لدليل المركب و لا لدليل الجزء إطلاق فأتي بما عدا المنسي ثمّ ذكر بعد الفراغ عن العمل، فهذا هو المناسب للمقام و المحكّم فيه هو البراءة، لأنّ الواقع لا يخلو من أحد أمرين، إمّا أن تكون الجزئية مطلقة تلزم إعادتها، أو مختصة بحال الذكر فيكفي ما أتي به، فيكون مرجع الشك في وجوب الإعادة، إلي الشك في ثبوت جزئية الجزء أو شرطية الشرط في حال النسيان و الأصل البراءة من الجزئية أو الشرطية في هذه الحالة، فيحكم عليها بالصحّة.2.

ص: 142


1- . الوسائل: 1، الباب 4 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
2- . الوسائل: 1، الباب 16 من أبواب الركوع، الحديث 1و2.
التنبيه الثاني: تعذّر الإتيان ببعض الأجزاء
اشارة

التنبيه الثاني: تعذّر الإتيان ببعض الأجزاء (1)

إذا عُلِمت جزئية شيء أو شرطيته و دار الأمر بين كونه جزءاً أو شرطاً مطلقاً و لو في حال العجز حتي يسقط الأمر بالباقي لعدم تمكنه من الإتيان بالمأمور به، أو كونه جزءاً أو شرطاً في حال التمكّن فيبقي الأمر بالباقي علي حاله، فللمسألة صور أربع:

الأُولي: أن يكون لدليل المركّب وحده إطلاق بالنسبة إلي سائر الأجزاء يعم الحكم حالتي التمكّن و التعذّر.

الثانية: أن يكون لدليل الجزء وحده إطلاق يعم الحكم كلتا الحالتين.

الثالثة: أن يكون لكلا الدليلين إطلاق.

الرابعة: أن لا يكون لواحد منهما إطلاق.

فالمحكّم هو الدليل الاجتهادي، أعني: الإطلاق في الأوّلين، فتكون النتيجة لزوم الإتيان بغير المتعذّر في الأُولي و عدمه في الثانية، و تقديم إطلاق الجزء علي إطلاق المركّب في الصورة الثالثة، فتكون النتيجة عدم جواز الإتيان بغير المتعذر، لتقدّم إطلاق دليل الجزء علي دليل المركّب، تقدمَ المقيد علي المطلق. كما مرّ في النقيصة السهويّة.

إنّما الكلام في الصورة الرابعة، أي ما لا يكون هناك إطلاق في كلا الموضعين، فهل يجب الإتيان بالباقي إذا كان عنوان المركّب صادقاً علي الباقي، كالأمر بالصلاة في ثوب طاهر مع تعذر إقامتها في الطاهر، أو لا؟

ص: 143


1- . كان البحث في التنبيه السابق في جريان البراءة بعد العمل أي الإتيان بما عدا المنسيّ، بخلاف المقام فالبحث في جريانها قبل الإتيان بما عدا المتعذر. و كلا الأمرين يرجعان إلي أمر واحد: و هو انّ الأصل في الجزئية و الشرطية، الركنيّة أو لا، فلاحظ.

الظاهر هو الثاني، لأنّ التكليف المتيقّن إنّما كان بمجموع الأجزاء و الشرائط، فإذا لم يتمكّن من بعضها فكأنّه لم يتمكّن من الكل بما هو كل، فالتكليف الجديد بالنسبة إلي الباقي يحتاج إلي الدليل و الأصل البراءة منه.

قاعدة الميسور

و ربما يقال بوجوب الإتيان بالباقي تمسّكاً بقاعدة الميسور التي دلّ عليها الحديث النبويّ و الولويّ.

1. روي مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنّه قال: خطبنا رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم)فقال:

»أيّها الناس قد فرض عليكم الحجّ فحجّوا« فقال رجل: أ كلّ عام يا رسول اللّه؟ فسكت حتي قالها ثلاثاً، فقال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): »لو قلت نعم لوجب و لما استطعتم« ثمّ قال: »ذروني ما تركتكم، فإنّما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم علي أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شيء فدعوه«. (1)

و الرواية غير صالحة سنداً و متناً.

أمّا الأوّل: فيكفي في ضعفه كون الناقل ممّن لا يصحّ الاحتجاج برواياته.

و أمّا الثاني: فإنّ الرواية ناظرة إلي واجب ذي افراد لا ذي أجزاء بقرينة موردها، و هو الحج، و بقرينة قول الرجل: أ كلّ عام يا رسول اللّه؟ و لكنّ الكلام في المقام انّما هو في واجب ذي أَجزاء لا في واجب ذي افراد.

2. ما رواه صاحب »غوالي اللآلي« قال الإمام عليّ(عليه السلام):»لا يُترك الميسور بالمعسور«. (2) و قال(عليه السلام):»ما لا يُدْرَك كُلُّه لا يُترَكُ كُلّه«. (3)

ص: 144


1- . التاج الجامع للأُصول:2/100، كتاب الحج.
2- . غوالي اللآلي:4/58 برقم 205و207.
3- . غوالي اللآلي:4/58 برقم 205و207.

يلاحظ عليهما: عدم ثبوت سند الحديثين.

و أمّا الدلالة، فالظاهر أنّه لا غبار في دلالتهما شريطة أن يكون الباقي ميسوراً للمعسور، كالثمانية بالنسبة إلي العشرة، لا الخمسة بالنسبة إليها.

و مثله قوله:»ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه« المنصرف إلي ما إذا كان المُدرَك مرتبة ناقصة ممّا لا يُدرك.

التنبيه الثالث: حكم الزيادة السهوية

انّ لزيادة الجزء صوراً ثلاثاً:

أ. إذا أُخذ شيء جزء للمركب و أُخذَ عدم زيادته قيداً للمركب لا لجزئيّة الجزء، بأن يقول: يجب عليك الصلاة بشرط عدم زيادة جزء من أجزائها.

ب. إذا أخذ شيء جزء للمركّب لكن أُخذ عدم زيادته قيداً لجزئيّة الجزء فصار الجزء بقيد الوحدة جزء، كأن يقول: اركع بشرط عدم الزيادة.

ج. إذا أخذ شيء جزءاً و كان بالنسبة إلي الزيادة لا بشرط، بأن تكون الزيادة و عدمها غير مؤثرين في صحّة الواجب و لا في بطلانه.

فلا شكّ انّ الصلاة في الصورتين الأُوليين باطلة لعدم كون المأتي به موافقاً للمأمور به كما لا شكّ في صحّة الصلاة في الصورة الثالثة.

إنّما الكلام فيما إذا لم تحرز كيفية اعتبار الجزء و دار الأمر بين كونه من ذينك القسمين أو القسم الثالث. فيقع الكلام في مقتضي القاعدة الأوّلية، و المرجع هو البراءة، لأنّ مرجع الشك إلي أخذ العدم قيداً للمركب أو لجزئية الجزء أو أخذ الزائد مانعاً، و قاطعاً و الأصل في الجميع هو العدم. هذا حكم الزيادة حسب القواعد الأوّلية، و أمّا حكمها حسب القواعد الثانوية فهو موكول إلي الفقه.و لكن نقول علي وجه الإجمال انّ مقتضي القاعدة الثانوية هو البطلان في موارد خمسة

ص: 145

اعتماداً علي قاعدة »لا تعاد«.

روي زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام)قال: »لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع، و السجود« ثمّ قال: »القراءة سنّة، و التشهد سنّة فلا تنقض السنة الفريضة« (1)، هذا بناء علي أنّ شمول الحديث النقيصة و الزيادة.

التنبيه الرابع: دوران الأمر بين شرطية شيء و مانعيته أو قاطعيته

التنبيه الرابع: دوران الأمر بين شرطية شيء و مانعيته أو قاطعيته (2)

إذا علمنا اعتبار شيء في المأمور به و لكن دار الأمر بين كون وجوده مؤثراً في الصحّة أو وجوده مانعاً عنها. (3) و هذا كالجهر بالقراءة في ظهر يوم الجمعة حيث قيل بوجوبه، و قيل بوجوب الإخفات، و كتدارك الحمد بعد الدخول في السورة و غيرهما من الشبهات الحكمية.

الظاهر وجوب الاحتياط إذا أمكن، كما إذا كان للواجب أفراد طولية، كصلاة الظهر في يوم الجمعة فدار الأمر بين كون الجهر شرطاً أو مانعاً فيجب التكرار، و نظير ذلك دوران الأمر بين التمام و القصر للشك في كون الركعتين الأخيرتين جزءاً أو مانعاً.

نعم إذا لم يتمكّن إلاّ من فرد واحد كصلاة الجمعة في الشبهة الحكمية، فالمرجع هو التخيير.

خاتمة: في شرائط العمل بالاحتياط و البراءة

اشارة

و المراد من الشرائط ما هو شرط لجريانهما دون جواز العمل بهما، و الفرق

ص: 146


1- . الوسائل:3، الباب 1 من أبواب القبلة، الحديث1.
2- . و مثله ما إذا دار الأمر بين جزئية شيء و مانعيته أو قاطعيته و الحكم في الجميع واحد.
3- . قد تقدّم انّ معني المانعية هو وجود الشيء مزاحماً للصحّة لا اعتبار عدمه في المأمور به إذ العدم ليس شيئاً قابلاً للاعتبار.

بينهما واضح، لأنّ الشرائط علي قسمين:

الأوّل: ما يكون وجوده محقِّقاً لموضوع الأصل بحيث لولاه لما كان هناك محلّ للأصل.

الثاني: ما يكون وجوده شرطاً للعمل بالأصل علي وجه يكون الأصل جارياً، و لكن لا يعمل به إلاّ مع هذا الشرط، و إليك الكلام في كلا الشرطين علي وجه الإيجاز.

أصل الاحتياط و شروط جريانه

لا شكّ في حسن الاحتياط لكونه طريقاً لتحصيل الحقّ و العمل به و العقل حاكم بحسنه، و لا يشترط فيه سوي أمرين:

1. عدم استلزامه لاختلال النظام.

2. عدم مخالفته لاحتياط آخر.

و أمّا موارده فتنحصر في المواضع التالية:

1. الاحتياط المطلق فيما إذا لم يكن هنا علم إجمالي و لا حجّة شرعية، كالشبهة البدويّة.

2. الاحتياط فيما إذا كان هناك علم وجداني إجمالي.

3. الاحتياط إذا كانت هناك حجّة شرعية لها إطلاق بالنسبة إلي المعلوم بالتفصيل و المعلوم بالإجمال.

أصل البراءة و شرط جريانه
اشارة

لا يشترط في جريان البراءة في الشبهات الحكمية إلاّ الفحص عن الدليل الاجتهادي، لأنّ البيان الرافع لقبح العقاب هو البيان الواصل هذا من جانب.

ص: 147

و من جانب آخر ليس المراد من الواصل هو إيصاله إلي كلّ واحد بدقّ باب بيته و إعطائه البيان، بل المراد وجود البيان في مظانّه علي وجه لو أراد لوقف عليه، و علي هذا فوجود البيان عند الرواة أو حملة العلم أو في الجوامع الحديثية كاف في رفع القبح و مع احتماله فيها لا يستقل العقل بالقبح ما لم يتفحّص.

و أمّا الشبهات الموضوعية، فالظاهر تسالم الأُصوليين علي عدم وجوب الفحص، و لكنّه علي إطلاقه غير صحيح، و إنّما لا يحتاج إلي الفحص إذا كان تحصيل العلم منوطاً بمقدّمات بعيدة.

و أمّا إذا كان العلم بالواقع ممكناً بأدني نظر، كالنظر إلي الأُفق فيمن شكّ في دخول الفجر فيجب عليه الفحص، و مثله إذا شكّ في بلوغ الأموال الزكوية حدّ النصاب، أو الشكّ في زيادة الربح علي المئونة، أو الشكّ في حصول الاستطاعة المالية للحج، أو الشكّ في مقدار الدين مع العلم بضبطه في السجلاّت، إلي غير ذلك من الشبهات الموضوعية التي يحصل العلم بها بأدني تأمل.

و أمّا شرائط العمل بالبراءة فيمكن أن يعدّ منها، عدم معارضته مع أصل آخر، كما في موارد العلم الإجمالي، أو أن لا يكون علي خلاف المنّة.و لا يختص هذا الشرط بالبراءة، بل يعم الاضطرار الوارد في حديث الرفع أيضاً، كعدم الضمان في عام المجاعة إذا توقفت حياة المضطر علي أكل طعام الغير، فالمرفوع هو حرمة التصرف لأجل الاضطرار لا الضمان، فالتصرف جائز لكن مع ضمان قيمته، لأنّ عدمه علي خلاف المنَّة.

صحّة عمل تارك الفحص و عدمها

إذا ترك المجتهد الفحص عن الدليل الاجتهادي، أو ترك العامي طريقي

ص: 148

الاجتهاد و التقليد، فهل يحكم بصحّة العمل أو لا؟ لا شكّ في عدم الصحّة إذا خالف الواقع توصليّاً كان أو تعبديّاً ، و كما لا شكّ في الصحة إذا صادف الواقع في التوصليات كالمعاملات، لأنّ الصحّة ليست رهن قصد القربة، و أمّا العبادات إذا صادفت الواقع، فإن تمكن من الإتيان بها بقصد القربة كما إذا كان غافلاً حين العمل صحّت عبادته ظاهراً لحصول شرطها و هي القربة و مطابقتها للواقع، و إلاّ فهي باطلة لخلوّها من التقرّب.

نعم اتّفق الأصحاب علي بطلان عمل الجاهل المقصّر في التعبديات إذا خالف الواقع إلاّ في موضعين، فأفتوا بالصحّة و عدم لزوم الإعادة و القضاء، و ذلك:

أ. إذا أتمّ في موضع القصر(دون العكس).

ب. إذا جهر في موضع الإخفات أو بالعكس، لتضافر الروايات علي ذلك. (1)

تمّ الكلام في الاحتياط، و يليه البحث في الأصل الرابع، و هو الاستصحاب.

و الحمد للّه ربّ العالمين1.

ص: 149


1- . الوسائل: 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3و4و8و11.

الأصل الرابع: الاستصحاب

اشارة

الاستصحاب أحد الأُصول الأربعة العامة الذي له دور كبير في استنباط الوظيفة العملية، و لم يزل يُتمسك به بين الفقهاء من عصر أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)إلي يومنا هذا، و يتميز عن سائر الأُصول الثلاثة بوجود الحالة السابقة و ملاحظتها.

أمّا وجود الحالة السابقة فهو أساس الاستصحاب، و أمّا اشتراط كونها ملحوظة، فلأجل انّه ربّما لا تكون الحالة السابقة معتبرة عند الشارع بأن تكون حجة في استنباط الوظيفة العملية كما سيوافيك موارده. (1)

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

الأوّل: الاستصحاب في اللغة

أخذ الشيء مصاحَباً أو طلب صحبته، و في الاصطلاح»إبقاء ما كان علي ما كان « و المعروف بين المتأخرين أنّ الاستصحاب أصل كسائر الأُصول و إن كانت مرتبته متقدّمة علي سائر الأُصول العملية لكن الظاهر من قدماء الأُصوليين أنّه أمارة ظنية، فكأنّ اليقين السابق بالحدوث أمارة ظنية لبقاء الشيء في ظرف

ص: 150


1- . كما في الشكّ في المقتضي عند الشيخ الأنصاري، أو في الشبهات الحكمية التي أنكر المحقّق النراقي و تبعه المحقق الخوئي، حجّية الاستصحاب فيها و خصّا الحجّية بالشك في الشبهات الموضوعية.

الشك، إذ ليس المراد من الشك هو الشكّ المنطقي أعني به تساوي الطرفين حتي ينافي الظن بالبقاء، بل المراد احتمال الخلاف الجامع مع الظن بالبقاء.

و أمّا المتأخرون فلم يعتبروه أمارة ظنية بل تلقّوه أصلاً عملياً و حجّة في ظرف الشك، و استدلّوا عليه بروايات ستوافيك.

الثاني: الاستصحاب مسألة أُصولية لا قاعدة فقهية،

و ذلك لأنّ المعيار في تمييز المسائل الأُصولية عن القواعد الفقهية هو محمولاتها.

توضيحه: انّ المحمول في القواعد الفقهية لا يخلو إمّا أن يكون حكماً فرعيّاً تكليفيّاً كالوجوب و الحرمة و الاستحباب و الكراهة و الإباحة. أو حكماً فرعيّاً وضعيّاً كالضمان و الصحّة و البطلان. مثلاً قوله:»كل شيء حلال حتي تعلم أنّه حرام« قاعدة فقهية بحكم أنّ المحمول هو الحليّة، التي هي من الأحكام الفرعية التكليفية، كما أنّ قوله: »ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده« قاعدة فقهية، لأنّ المحمول فيها هو الضمان و هو حكم وضعي، و مثله قوله:»لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس: الطهور و الوقت و القبلة و الركوع و السجود« (1) فانّ المحمول هو البطلان في الخمسة و الصحّة في غيرها. هذا هو ميزان القاعدة الفقهية.

و أمّا القاعدة الأُصولية فتختلف محمولاً عن القاعدة الفقهية، فالمحمول فيها ليس حكماً شرعياً تكليفياً أو وضعياً، بل يدور حول الحجّية و عدمها، فنقول: الظواهر حجّة، الشهرة العملية حجّة، خبر الواحد حجّة، أصل البراءة و الاحتياط و الاستصحاب، كلٌّ حجّة في ظرف الشك.

و ربما يخطر بالبال بأنّ المحمول في المسائل الأُصولية ربما يكون غير الحجّة، كقولك: الأمر ظاهر في الوجوب و النهي ظاهر في الحرمة، و لكنّه عند التدقيق يرجع إلي البحث عن الحجّة علي الوجوب و الحرمة، فالغاية من إثبات ظهورهما هي إقامة الحجّة علي الوجوب و التحريم.

و إن شئت قلت: الغاية من إثبات الصغري(كونه ظاهراً في الوجوب) هي

ص: 151


1- . الوسائل:4، الباب 1 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث4.

احتجاج المولي به علي العبد. و روح المسألة عبارة عن كون الأمر حجّة في الوجوب أو لا، و هكذا كلّ ما مرّ في باب الأوامر و النواهي.

الثالث: قد تضافرت الأخبار عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)في...

الثالث: قد تضافرت الأخبار عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)في مضمون »أنّ اليقين لا يُنقض بالشك«،

و ظاهره اجتماعهما في زمان واحد و عدم نقض أحدهما الآخر، و هو في بادئ النظر أمر غريب، لأنّهما لا يجتمعان حتي لا ينقض أحدُهما الآخر، لأنّ اليقين هو الجزم بشيء، و الشكّ هو التردّد و انفصام الجزم، فكيف يجتمعان؟! و الجواب أنّ اليقين و الشكّ لا يجتمعان إذا كان المتعلّق واحداً ذاتاً و زماناً، كما إذا فرضنا انّه تيقّن بعدالة زيد يوم الجمعة ثمّ شكّ في نفس ذلك اليوم في عدالته، ففي مثله لا يمكن اجتماع اليقين و الشكّ، فعند ما يكون متيقناً لا يمكن أن يكون شاكاً و بالعكس.

و أمّا إذا كان متعلقاهما متحدين جوهراً، و متغايرين زماناً، فاليقين و الشكّ يجتمعان قطعاً، مثلاً لو تيقن بعدالة زيد يوم الجمعة لكن صدر منه يوم السبت فعلٌ شكَ معه في بقاء عدالته في ذلك اليوم، ففي هذا الظرف يجتمع اليقين و الشكّ فهو في آن واحد متيقن بعدالة زيد يوم الجمعة لا يشك فيه أبداً، و هو في الوقت نفسه شاك في عدالته يوم السبت، و بذلك صحّ اجتماع اليقين و الشكّ في زمان واحد لتغاير المتعلّقين زماناً، و إلي ذلك يؤول قولهم في باب الاستصحاب »اليقين يتعلّق بالحدوث و الشكّ بالبقاء« فمقتضي الاستصحاب إبقاء عدالة زيد يوم الجمعة إلي يوم السبت و ترتيب أثر العدالة في زمان الشك.

و بذلك علم أنّ الاستصحاب يتقوّم بأمرين:

أ. فعليّة اليقين في ظرف الشكّ، و وجودهما في آن واحد في وجدان المستصحِب.

ص: 152

ب. وحدة متعلّقهما جوهراً و ذاتاً، و تعدده زماناً بسبق زمان المتيقن علي المشكوك.

الرابع:الفرق بين الاستصحاب و قاعدة اليقين

إنّ في مصطلح الأُصوليين قاعدة موسومة بقاعدة اليقين و الشك الساري لسريان الشكّ إلي نفس اليقين كما إذا تيقّن بعدالة زيد يوم الجمعة ثم طرأ عليه الشكّ يوم السبت في عدالة زيد في نفس يوم الجمعة(لا السبت) و قد تبين بذلك أركان قاعدة اليقين:

أ. عدم فعلية اليقين في ظرف الشك.

ب. وحدة متعلقهما جوهراً و زماناً، حيث تعلّق الشكّ بنفس ما تعلّق به اليقين و هو عدالة يوم الجمعة.

و المعروف بين الأصحاب انّ الاستصحاب حجّة دون قاعدة اليقين. و انّ روايات الباب منطبقة علي الأوّل دون الثانية كما سيوافيك.

***

الخامس: انّ هنا قاعدة ثالثة

و هي قاعدة المقتضي و المانع التي تغاير القاعدتين الماضيتين و تختلف عنهما باختلاف متعلّق اليقين و الشك جوهراً و ذاتاً فضلاً عن الاختلاف في الزمان.

مثلاً إذا تيقن بصبِّ الماء علي اليد للوضوء، و شك في تحقّق الغَسْل للشك في المانع. أو تيقن برمي السهم و شكّ في القتل للشك في وجود المانع، فمتعلّق اليقين غير متعلّق الشكّ بالذات، حيث تعلّق اليقين بصبّ الماء و الرمي، و تعلّق الشكّ بوجود الحاجب و المانع.

نعم يتولد من هذا اليقين و الشكّ، شك آخر، و هو الشكّ في حصول

ص: 153

المقتضي أعني: الغَسْل و القَتل، و القائل بحجّية تلك القاعدة يتمسك بأصالة عدم المانع و الحاجب و يثبت بذلك الغَسل أو القتل. بحجّة انّ المقتضي موجود، و المانع مرفوع بالأصل فيكون »المقتضي« محقّقاً.و ربما حاول تطبيق روايات الباب علي تلك القاعدة. (1)

و المشهور أعرضوا عن تلك القاعدة بحجّة عدم الدليل عليها.

السادس:تقسيمات الاستصحاب
اشارة

إنّ للاستصحاب تقسيمات، تارة باعتبار المستصحَب، و أُخري باعتبار الشكّ المأخوذ فيه، و إليك البيان:

1. تقسيمه باعتبار المستصحَب

ينقسم الاستصحاب باعتبار المستصحَب إلي الأقسام التالية:

ألف. أن يكون المستصحَب أمراً وجوديّاً أو عدميّاً، كاستصحاب الكرّية إذا كان الماء مسبوقاً بها، أو عدم الكرّية إذا كان مسبوقاً به.

ب. أن يكون المستصحَب حكماً شرعيّاً تكليفيّاً سواء أ كان كليّاً كاستصحاب حليّة المتعة، أم جزئياً كاستصحاب وجوب الإنفاق علي الزوجة المعيّنة إذا شكّ في كونها ناشزة.

ج. أن يكون المستصحَب حكماً شرعيّاً وضعياً لا تكليفياً كاستصحاب الزوجية، و الجزئية، و المانعية و الشرطية، و السببية عند طروء الشك في بقائها.

د. أن يكون المستصحب موضوعاً لحكم

ص: 154


1- . لاحظ تعليقة المحقّق الخراساني علي الفرائد،ص195 عند البحث عن مفاد »لا تنقض« فقد ردّ علي القائل بالقاعدة ردّاً عنيفاً.

شرعي سواء كان موضوعاً لحكم شرعي تكليفي، أو موضوعاً لحكم وضعي، و هذا كاستصحاب حياة زيد، فتترتب عليه حرمة قسمة أمواله، و بقاء علقة الزوجية بينه و بين زوجته.

2. تقسيمه باعتبار الشك

ينقسم الاستصحاب باعتبار الشكّ المأخوذ فيه إلي الأقسام التالية:

أ. أن يتعلّق الشكّ باستعداد المستصحَب للبقاء في الحالة الثانية، كالشكّ في بقاء نجاسة الماء، المتغيّرِ أحدُ أوصافه الثلاثة، بالنجس، إذا زال تغيره بنفسه، حيث إنّه يتعلّق الشكّ بمقدار استعداد النجاسة للبقاء، بعد زوال تغيّره بنفسه، و مثله الشكّ في بقاء الليل أو النهار، حيث إنّه يتعلّق بمقدار استعدادهما للبقاء من حيث الطول و القِصَر، و هذا ما يسمّي بالشكّ في المقتضي.

ب. و أُخري يتعلّق بطروء الرافع مع إحراز قابلية بقاء المستصحب و دوامه لولاه، و هو علي أقسام:

1. أن يتعلّق الشكّ بوجود الرافع، مع إحراز قابلية بقائه و دوامه لو لا الرافع، كما إذا شكّ في وجود الحدث بعد الوضوء.

2. أن يتعلّق الشكّ برافعية الأمر الموجود للجهل بحكمه، كالمذي الخارج من الإنسان، فيشك في أنّه رافع للطهارة مثل البول أو لا؟ فيرجع الشكّ إلي رافعية الأمر الموجود للجهل بحكمه.

3. أن يتعلّق الشكّ برافعية الأمر الموجود للجهل بوصفه و حاله، كالبلل المردّد بين البول و الوذي مع العلم بحكمهما.

هذه هي التقسيمات الرئيسيّة، و هناك تقسيمات أُخري تركنا ذكرها للاختصار.

ص: 155

إذا عرفت ذلك، فاعلم انّه استدلّ علي حجّية الاستصحاب بوجوه

اشارة

مختلفة أصحها هو الأخبار المتضافرة في المقام و قد أوردنا في الموجز ثلاث روايات، فلنذكر سائرها.

1. صحيحة زرارة الثالثة

روي الكليني ، عن زرارة، عن أحدهما(عليهما السلام)قال:» إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع، و قد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أُخري و لا شيء عليه، و لا ينقض اليقين بالشك«. (1)

وجه الاستدلال: الظاهر انّ قوله:»و لا ينقض اليقين بالشك« علّة للأمر بإضافة ركعة أُخري، فكأنّه يقول: يأتي بركعة أُخري و لا شيء عليه، لأنّه كان علي يقين بعدم الإتيان بها فليمض علي يقينه.

نعم ظاهر قوله:»فأضاف« انّه يأتي بالركعة الاحتياطيّة متصلة، مع أنّ الفتوي علي الانفصال، فتُرفع اليد عن هذا الظاهر بقرينة إجماع الطائفة علي الانفصال.

2. موثقة إسحاق بن عمّار

روي الصدوق باسناده، عن إسحاق بن عمار، قال: قال لي أبو الحسن الأوّل: »إذا شككت فابن علي اليقين«، قال: قلت: هذا أصل؟ قال: »نعم«. (2)

وجه الاستدلال: أنّ ظاهر الكلام فعليّة اليقين و الشكّ، فهو في آن واحد ذو

ص: 156


1- . الوسائل: 5، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 3، رواه عن علي بن إبراهيم الثقة عن أبيه، الذي هو فوق الثقة، عن حماد بن عيسي عن حريز عن زرارة و كلّهم ثقات.
2- . الوسائل: 5، الباب 8 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 2 و سند الصدوق إلي إسحاق بن عمار صحيح في المشيخة.

يقين و شك، فينطبق علي الاستصحاب.

و أمّا قاعدة اليقين، فالشكّ فيها فعلي دون اليقين بل هو زائل كما مرّ في توضيح القاعدة.

أضف إلي ذلك انّ الرواية ظاهرة في الاستصحاب بقرينة وحدة لسانها مع سائر الروايات.

3. مكاتبة القاساني

كتب علي بن محمد القاساني إلي أبي محمد(عليه السلام)، قال: كتبت إليه و أنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان، هل يصام أم لا؟ فكتب:» اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية و أفطر للرؤية«. (1)

وجه الاستدلال: أنّ المراد من اليقين، إمّا هو اليقين بأنّ الزمان الماضي كان من شعبان فشكّ في خروجه بحلول اليوم التالي، أو اليقين بعدم دخول رمضان و قد شكّ في دخوله.و علي كلا التقديرين لا يكون اليقين السابق منقوضاً بالشك. و هذا هو المراد من قوله: »اليقين لا يدخل فيه الشك«.

4. صحيحة عبد اللّه بن سنان

روي الشيخ بسند صحيح عن عبد اللّه بن سنان قال: سأل أبي أبا عبد الله(عليه السلام)و أنا حاضر: إنّي أُعير الذمِّي ثوبي و أنا أعلم أنّه يشرب الخمرَ، و يأكل لحم الخنزير، فيردّها عليّ أ فأغسِلُه قبل أن أُصلّي فيه؟فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): »صلّ فيه و لا تَغْسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إيّاه و هو طاهر، و لم تستيقن أنّه نجّسه،

ص: 157


1- . الوسائل: الجزء7، الباب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث13.

فلا بأس أن تصلّي فيه حتي تستيقن أنّه نجّسه«. (1)

وجه الاستدلال: انّ الإمام لم يعلِّل طهارة الثوب بعدم العلم بالنجاسة حتي ينطبق علي قاعدة الطهارة، بل علّله بأنّك كنتَ علي يقين من طهارة ثوبك و شككتَ في تنجيسه فما لم تستيقن انّه نجّسه فلا يصحّ لك الحكم علي خلاف اليقين السابق، و المورد و إن كان خاصّاً بطهارة الثوب لكنه غير مخصِّص و ذلك لوجهين:

الأوّل: ظهور الرواية في صدد إعطاء الضابطة الكلّية.

و الثاني: التعليل بأمر ارتكازيّ يورث إسراء الحكم إلي غير مورد السؤال.

5. خبر بكير بن أعين

روي بكير بن أعين قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): »إذا استيقنت أنّك توضّأت، فإيّاك أن تحدث وضوءاً حتي تستيقن أنّك أحدثت«. (2)

هذه هي المهمّات من روايات الباب، و فيما ذكرنا غنيً و كفاية.

ثمّ إنّ مقتضي إطلاق الروايات، و كون التعليل(لا تنقض اليقين بالشك) أمراً ارتكازياً، حجّية الاستصحاب في جميع الأبواب و الموارد، سواء أ كان المستصحب أمراً وجودياً أم عدميّاً، و علي فرض كونه وجوديّاً لا فرق بين كونه حكماً شرعيّاً تكليفياً أو وضعياً أو موضوعاً خارجياً له آثاره الشرعيّة كالكرّية، و حياة زيد، و غير ذلك.

ص: 158


1- . الوسائل: 2، الباب 74 من أبواب النجاسات ، الحديث 1. رواه الشيخ باسناده عن سعد بن عبد اللّه القمي، عن أحمد بن محمد بن عيسي المتوفّي نحو 280ه، عن الحسن بن محبوب المتوفّي عام 224ه، عن عبد اللّه بن سنان، و سند الشيخ إلي سعد بن عبد اللّه صحيح في التهذيبين، لاحظ آخر الكتاب الذي ذكر فيه أسانيده إلي أصحاب الكتب التي أخذ الأحاديث منها.
2- . الوسائل1، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 7. و السند صحيح إلي »بكير« غير أنّ بكيراً لم يوثّق لكن القرائن تشهد علي وثاقته.

حجّية الاستصحاب في الشكّ في المقتضي

ذهب بعضهم إلي عدم حجّيته في خصوص الشكّ في المقتضي دون الرافع، و لإيضاح الفرق بين الشكّين نقول:

كلُّ حكم أو موضوع لو ترك لبقي علي حاله إلي أن يرفعه الرافع فالشكّ فيه شكّ في الرافع، و أمّا كلّ حكم أو موضوع لو ترك لزال بنفسه و إن لم يرفعه الرافع فالشك فيه من قبيل الشكّ في المقتضي، فمثلاً وجوب الصلاة و الصوم و الحجّ من التكاليف التي لا ترفع إلاّ برافع، و ذلك لأنّ الوجوب الجزئي منه لا يُرفع إلاّ بالامتثال، و أمّا الوجوب الكلي فبالنسخ، فالشكّ في الامتثال في مورد الحكم الجزئي، أو الشكّ في النسخ في مورد الحكم الكلي، شك في الرافع، لإحراز المقتضي لبقائه.

و هذا بخلاف ما لو شكّ في بقاء الخيار في الآونة المتأخرة، كالخيار المجعول للمغبون بعد علمه بالغبن و تمكّنه من إعمال الخيار، إذا لم يفسخ، فيشكّ في بقاء الخيار، لأجل الشكّ في اقتضائه للبقاء بعد العلم و المساهلة في إعماله، و مثله الشكّ في بقاء النهار إذا كانت في السماء غيوم، فالشكّ في تحقّق الغروب يرجع إلي طول النهار و قصره، فالشكّ فيه شكّ في المقتضي.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه استدل القائل بعدم حجّية الاستصحاب في الشكّ في المقتضي بدليل مبني علي أمرين:

الأوّل: أنّ حقيقة النقض هي رفع الهيئة الاتصالية، كما في قوله نقضت الحبل، قال سبحانه:( وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً (1) ) (2).

الثاني: أنّ إرادة المعني الحقيقي ممتنعة في المقام لعدم اشتمال اليقين علي

ص: 159


1- سوره 16 - آيه 92
2- . النحل:92.

الهيئة الاتصالية، فلا بدّ من حمله علي المعني المجازي، و أقرب المجازات هو ما إذا تعلّق اليقين بما أحرز فيه المقتضي للبقاء و شك في رافعه، لا ما شكّ في أصل اقتضائه للبقاء مع صرف النظر عن الرافع، و قد قُرر في محلّه أنّه إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات أولي.

يلاحظ عليه: أنّه لم يثبت في اللغة كون النقض حقيقة في رفع الهيئة الاتصالية حتي لا تصح نسبته إلي نفس»اليقين« لعدم اشتماله عليها، بل هو عبارة عن نقض الأمر المبرم و المستحكم سواء أ كان أمراً حسيّاً أم قلبيّاً و الشاهد علي ذلك صحّة نسبة النقض إلي اليمين و الميثاق و العهد في الذكر الحكيم، قال سبحانه:

( وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها (1) ) (2) و قال سبحانه:( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللّهِ (3) ) (4)و قال سبحانه:( وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ (5) ) (6)و اليقين كالميثاق و اليمين و العهد من الأُمور النفسانية المبرمة المستحكمة فتصح نسبة النقض إليه، سواء تعلق بما أحرز فيه المقتضي للبقاء أو لا، و المصحح للنسبة هو كون نفس اليقين أمراً مبرماً مستحكماً، سواء أ كان المتعلّق كذلك، كما في الشكّ في الرافع، أم لم يكن كذلك كما في الشكّ في المقتضي.

هذا تمام الكلام في أدلّة الاستصحاب.5.

ص: 160


1- سوره 16 - آيه 91
2- . النحل:91.
3- سوره 4 - آيه 155
4- . النساء:155.
5- سوره 13 - آيه 25
6- . الرعد:25.

تنبيهات

التنبيه الأوّل: كفاية إحراز المتيقّن بالأمارة

تنبيهات (1) : التنبيه الأوّل: كفاية إحراز المتيقّن بالأمارة

قد عرفت أنّ اليقين بالحدوث من أركان الاستصحاب فلا كلام فيما إذا كان حدوث المتيقّن محرزاً باليقين، إنّما الكلام فيما إذا كان محرزاً بالأمارة و شكّ في بقائه، كما إذا دلّ قول الثقة علي وجود الخيار للمغبون في الآن الأوّل و شُكَّ في بقائه في الآن الثاني، أو دلّت البيّنة علي حياة زيد أو كونه مالكاً فشُك في بقاء حياته أو مالكيته فهل يحكم بالبقاء أو لا؟ وجه الإشكال أنّه لا يقين بالحدوث لعدم إفادة قول الثقة أو البيّنة ، اليقينَ فكيف يحكم بالبقاء؟ و الجواب أنّ المراد من اليقين في أحاديث الاستصحاب هو الحجّة علي وجه الإطلاق، لا خصوص اليقين بمعني الاعتقاد الجازم، كما هو المصطلح في علم المنطق، و الشاهد علي ذلك أمران:

1. انّ العلم و اليقين يستعملان في الحجّة الشرعية، كما في قولهم: يحرم الإفتاء بغير علم، فيُراد به الحجّة الشرعية لا العلم الجازم القاطع. لكفاية الحجّة غير القطعية في جواز الافتاء.

2. ملاحظة روايات الباب مثلاً ففي الصحيحة الأُولي (2) لزرارة لم يكن له علم وجداني بالطهارة النفسانية، بل كان علمه مبنياً علي طهارة مائه و بدنه و لباسه، بالأُصول و الأمارات، و هكذا سائر الروايات، فإنّ حصول اليقين فيها هناك كان رهنَ قواعد فقهية و أُصولية، و في الصحيحة الثانية كان اليقين بطهارة ثوبه

ص: 161


1- . قد تركنا بعض التنبيهات اقتناعاً بما حرّرناه في الموجز.
2- . لاحظ صحيحة زرارة الأُولي و الثانية في الموجز220.

و الشكّ في طروء النجاسة مستنداً إلي جريان أصالة الطهارة في الإناء و الماء الذي غسل به ثوبه إلي غير ذلك.

كلّ ذلك دليل علي أنّ المراد من اليقين في الروايات هو الحجّة، عقلية كانت كالقطع، أو شرعية كالبيّنة و الأمارة، و يكون المراد من »الشك« بقرينة المقابلة هو اللاحجّة من غير فرق بين الظن و الشكّ والوهم. فكأنّ الشارع يقول: »لا تنقض الحجّة باللاحجّة « لأنّ اليقين فيه صلابة، و الشكّ فيه رخاوة فلا يُنقض الأوّل بالثاني كما لا يُنقض الحجر بالقطن.

التنبيه الثاني: في استصحاب الزمان و الزمانيات

المستصحب تارة يكون نفس الزمان، و أُخري الشيء الواقع فيه.

أمّا الأوّل: فكما إذا كان الزمان موصوفاً بوصف ككونه ليلاً أو نهاراً، فشككنا في بقاء ذلك الوصف، فيستصحب بقاء الليل أو النهار.

و ربّما يقال: إنّ الزمان غير قارّ الذات و لا يتصوّر فيه البقاء بل سنخ تحقّقه هو الوجود شيئاً فشيئاً، و ما هذا حاله، لا يتصور فيه الحدوث و البقاء، حتي يتحقّق فيه أركان الاستصحاب.

و الجواب: إنّ بقاء كلّ شيء بحسبه، فللأُمور القارّة بقاء و انقضاء، و للأُمور المتصرّمة كالليل و النهار أيضاً بقاء و زوال مثلاً، يطلق علي الطليعة، أوّل النهار، و علي الظهيرة، وسط النهار، و علي الغروب، آخره، و هذا يعرب عن أنّ للنهار بقاءً حسب العرف، و إن لم يكن كذلك بالدقة العقلية.

و أمّا الثاني: أعني الشيء الواقع في الزمان و هو المسمّي بالزماني كالتكلم و الكتابة و المشي و جريان الماء، فلكل منها حدوث و بقاء في نظر العرف، فلو شرع الإنسان بالتكلّم أو أخذ بالمشي ، فشككنا في بقائهما أو انقطاعهما، يصح استصحابهما كاستصحاب الزمان، و الإشكال فيه كالإشكال في الزمان، و الجواب

ص: 162

نفس الجواب.

و مثاله الشرعي إذا كانت العين نابعة، جارية و وقعت فيها نجاسة، و شككنا عند الوقوع في بقاء النبع و الجريان ، فيستصحب، و يترتب عليه الأثر الشرعي و هو عدم انفعال ماء العين بالنجاسة.

التنبيه الثالث: في شرطية فعلية الشك

يشترط في الاستصحاب، فعلية الشكّ فلا يفيد الشكّ التقديريّ، فلو تيقن الحدث من دون أن يشكّ ثمّ غفل و صلّي ثمّ التفت بعدها فشكّ في طهارته من حدثه السابق فلا يجري الاستصحاب، لأنّ اليقين بالحدث و إن كان موجوداً قبل الصلاة لكنّه لم يشك لغفلته فلا يتحقّق أركان الاستصحاب، و لأجل عدم جريانه يحكم عليه بصحّة الصلاة أخذاً بقاعدة الفراغ، لاحتمال أنّه توضّأ قبل الصلاة، و هذا المقدار من الاحتمال كاف لجريان قاعدة الفراغ، و لكن يجب عليه التوضّؤ بالنسبة إلي سائر الصلوات، لأنّ قاعدة الفراغ لا تثبت إلاّ صحّة الصلاة السابقة، و أمّا الصلوات الآتية فهي رهن إحراز الطهارة.

و هذا بخلاف ما إذا كان علي يقين من الحدث ثمّ شكّ في وضوئه و مع ذلك غفل و صلّي و التفت بعدها فالصلاة محكومة بالبطلان لتماميّة أركان الاستصحاب و إن احتمل انّه توضأ بعد الغفلة.

التنبيه الرابع: المراد من الشك مطلق الاحتمال

يطلق الظن علي الاحتمال الراجح، والوهم علي الاحتمال المرجوح، فيكون الشكّ هو الاحتمال المساوي و هذا هو المسمّي بالشكّ المنطقي.

و أمّا الشكّ الأُصولي المطروح في باب الاستصحاب فهو عبارة عن خلاف

ص: 163

اليقين، سواء كان البقاء مظنوناً أو موهوماً أو مشكوكاً متساوي الطرفين، و هذا هو المراد من الشكّ في لسان الروايات، و قد ورد الشك بالمعني الأُصولي في الذكر الحكيم، قال سبحانه:( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ (1) ) (2)، و قال سبحانه:( قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (3) ) (4)، و الشكّ في الآيتين يعمّ الحالات الثلاث.

و نظير الآيتين: الشكّ في صحيحة زرارة قال: فإنْ حُرّك علي جنبه شيء و لم يعلم به؟ قال(عليه السلام): »لا، حتي يستيقن أنّه قد نام حتي يجيء من ذلك أمر بيّن، و إلاّ فانّه علي يقين من وضوئه، و لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ « و ذلك لأنّ التحريك علي جنب الإنسان يفيد الظن بأنّه قد نام، و مع ذلك أطلق عليه الإمام الشك و لم يستفصل بين إفادته الظن بالنوم و عدمه، و هذا يدل علي أنّ المراد من الشكّ هو مطلق الاحتمال المخالف لليقين، من غير فرق بين كون البقاء مظنوناً أو مرجوحاً أو مساوياً.

أضف إلي ذلك ما مرّ من أنّ المراد من اليقين هو الحجّة الشرعية، و يكون ذلك قرينة علي أنّ المراد من الشكّ هو اللاّحجة ، و يكون معني الحديث لا تنقض الحجّة باللاّحجّة ، فالملاك في الجميع عدم وجود الحجّة، من دون نظر إلي كون البقاء راجحاً أو مرجوحاً أو متساوياً.

التنبيه الخامس: التمسّك بعموم العام أو استصحاب حكم المخصص

إذا كان هناك عموم يدل علي استمرار الحكم في جميع الأزمنة، كقوله سبحانه:( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (5) ) حيث يدلّ علي وجوب الوفاء علي وجه الإطلاق من غير فرق بين زمان دون زمان.

ص: 164


1- سوره 10 - آيه 94
2- . يونس:94.
3- سوره 14 - آيه 10
4- . إبراهيم:10.
5- سوره 5 - آيه 1

ثمّ إذا فرضنا أنّه خرج منه عقد في وقت خاص، كالعقد الغبني، فانّ المغبون يملك الخيار و له أن يفسخ العقد بظهوره، و لكنّه تساهل و لم يفسخ، فيقع الشكّ في بقاء الخيار في الآن الثاني فهل المرجع هو:

أ. عموم العام، فيكون العقد واجب الوفاء في الآن الثاني و الخيار فوريّاً؟ ب. أو استصحاب حكم المخصِّص (1) و يكون الخيار غير فوري؟ و مثله خيار العيب إذا تساهل المشتري و لم يفسخ، فهل المرجع عموم وجوب الوفاء بالعقد أو استصحاب حكم المخصص الذي دلّ علي جواز الفسخ إذا ظهر العيب؟ (2)فالتحقيق أن يقال: إنّه إن لزم من العمل بحكم المخصِّص عن طريق الاستصحاب، تخصيص زائد وراء التخصيص الأوّل فالمرجع هو عموم العام، و أمّا إذا لم يلزم إلاّ نفس التخصيص الأوّل فالمرجع هو استصحاب حكم المخصص.

توضيح ذلك: أنّ الزمان تارة يكون قيداً للموضوع في ناحية العام، بحيث يكون العقد في الزمان الأوّل موضوعاً و في الزمان الثاني موضوعاً آخر و هكذا، و هذا ما يطلق عليه بكون الزمان مفرِّداً للموضوع.

و أُخري يكون الزمان ظرفاً للحكم و مبيّناً لاستمراره، بمعني أنّ العقد في جميع الآونة موضوع واحد، فلو خرج في الآن الأوّل أو خرج في جميع الآونة لم يلزم إلاّ تخصيص واحد.ر.

ص: 165


1- . المخصص قوله(عليه السلام): »غبن المسترسل سحت« و قوله:»غبن المؤمن حرام« و قوله(صلي الله عليه و آله و سلم): »لا ضرر و لا ضرار « لاحظ الوسائل:12، الباب 17 من أبواب الخيار، الحديث 1و2و3.
2- . مثل قوله(عليه السلام): إن شاء رد البيع و أخذ ماله كله... لاحظ الوسائل:12، الباب 14 من أبواب الخيار.

ففي الصورة الأُولي يكون المرجع هو عموم العام، لافتراض أنّ الأخذ بحكم المخصص يستلزم تخصيصاً زائداً ، و من المعلوم أنّ المرجع عند الشكّ في التخصيص هو عموم الدليل الاجتهادي، مثلاً إذا قال المولي: أكرم العلماء، و علمنا بخروج زيد ثمّ شككنا في خروج عمرو، فكما أنّ المرجع عندئذ هو عموم قوله : أكرم العلماء، لأنّ خروج عمرو تخصيص زائد، فهكذا المقام، فالعقد الغبني في الآن الأوّل موضوع كما انّه في الآن الثاني موضوع ثان، و قد دلّ الدليل علي التخصيص الأوّل، و بقي العقد في الآن الثاني تحت العام، فيتمسك به لتقدم الدليل الاجتهادي علي الأصل العملي و هو استصحاب حكم المخصص.

و هذا بخلاف ما إذا كان للفرد في جميع الأزمنة مصداق واحد بحيث لا يلزم من خروجه في الآن الأوّل و الثاني إلاّ تخصيص واحد، ففي مثله يؤخذ باستصحاب حكم المخصص، لأنّه كان متيقناً و شكّ في بقائه، و لا ينقض اليقين بالشك و لا يؤخذ بالعام لخروجه عنه حسب الفرض، فرجوعه تحت العام ثانياً يتوقف علي دليل خاصّ.

و زبدة القول: هي أنّه لو كان الزمان في ناحية العام قيداً للموضوع العقد و مفرِّداً له بحيث يلزم من خروجه بعد الآن الأوّل تخصيص ثان و ثالث فالمرجع هو عموم العام.

و أمّا إذا كان الزمان في ناحية العام ظرفاً لبيان استمرار الحكم بحيث يكون له في جميع الأزمنة فرد واحد و لا يلزم من خروجه في الآونة المتأخرة تخصيص زائد، فالمرجع هو استصحاب حكم المخصص.

و هذه هي النظرية المعروفة من الشيخ الأعظم قدَّس سرّه ، و هناك نظريات أُخري تطلب من محالها.

ص: 166

التنبيه السادس: كفاية وجود الأثر بقاءً

يكفي في جريان الاستصحاب ترتّب الأثر بقاءً و لا يشترط ترتّب الأثر عليه حدوثاً، و بعبارة أُخري:

يشترط ترتّب الأثر في زمان الشكّ و ظرف التعبّد بالبقاء، دون زمان اليقين، إذ يكفي في صحّة التعبّد بالبقاء، وجود أصل الأثر حتي لا يكون التعبّد ببقاء المستصحب أمراً لغواً، و لذلك يصحّ الاستصحاب في المثال التالي:

إذا كان الوالد و الولد حيّين فمات الوالد و شككنا في حياة الولد، فتُستصحب حياتُه، و يترتب عليها الأثر الشرعي من إرثه، و بالتالي: تُعزل حصته من التركة، فحياة الولد ذاتُ أثر الوراثة القطعيّة بقاءً و إن لم يكن كذلك حدوثاً، أي في زمان حياة الوالد إلاّ علي وجه التعليق.

التنبيه السابع: قياس الحادث إلي أجزاء الزمان

إذا علم بحادث في زمان معيّن و لم يُعلم وقته فيمكن استصحاب عدم حدوثه إلي زمان العلم به، مثلاً إذا علمنا بحدوث الكرّية و شككنا في حدوثها يوم الخميس أو الجمعة، فتجري أصالة عدم حدوثها إلي نهاية يوم الخميس، فيترتب عليه أثر عدم الكرّية في ذلك اليوم، فلو غسل ثوب بهذا الماء في يوم الخميس يحكم ببقاء النجاسة فيه.

نعم لا يثبت باستصحاب عدم حدوث الكرية إلي يوم الخميس عنوان تأخرها عنه، لأنّه لازم عقلي لا شرعي، و لو كان للتأخر أثر شرعي فلا يثبت بهذا الاستصحاب.

ص: 167

التنبيه الثامن: قياس الحادث بحادث آخر

الكلام هنا حول قياس حادث بحادث آخر، كما إذا علم بحدوث حادثين، و لم يعلم المتقدّم و المتأخر منهما، فهل يجري الأصل أو لا؟ مثلاً لو علم موت الوالد المسلم و علم أيضاً إسلام وارثه، و لكن شكّ في تقدّم موت المورِّث علي إسلام الوارث حتي لا يرثه لأنّ الكافر لا يرث المسلم حتي و إن أسلم بعد موت المورِّث أو تأخر موته عن إسلامه حتي يرثه، فهل يجري الأصل أو لا؟ فنقول: للمسألة صورتان:

الأُولي: أن يكون أحد الحادثين(موت الوالد) معلوم التاريخ و الآخر(إسلام الوارث) مجهوله، فيجري الأصل في المجهول دون المعلوم.

امّا أنّه لا يجري الأصل في معلوم التاريخ كموت الوالد المسلم في غرّة رجب فلأجل أنّ حقيقة الاستصحاب هو استمرار حكم المستصحَب عدم الموت إلي الزمان الذي يشكّ في بقائه، و هذا إنّما يتصور فيما إذا جهل تاريخ حدوثه، و أمّا لو فرض العلم بزمان الحدوث و أنّه مات في غرّة رجب فلا معني لاستصحاب عدمه لعدم الشكّ في زمان الموت.

و بعبارة أُخري: لا بدّ في الاستصحاب من وجود زمان يشكّ في بقاء المستصحَب فيه، و هذا غير متصوّر في معلوم التاريخ، لأنّا نعلم عدم موت الوالد قبل غرّة رجب و موته فيها، فليس هنا زمان خال يُشك في بقاء المستصحب عدم موت الوالد فيه.

و أمّا جريانه في مجهول التاريخ، و هو إسلام الولد، حيث كان كافراً في شهر جمادي الآخرة و مسلماً في غرّة شعبان و مشكوك الإسلام بين الشهرين

ص: 168

فيُستصحب بقاؤه أي عدم الإسلام في الظرف المشكوك، و يترتب عليه أثره و هو حرمانه من الإرث لثبوت موضوعه و هو موت الوالد حين كفر الولد.

الثاني: إذا كان كلّ من الحادثين مجهول التاريخ و شكّ في التقدّم و التأخر، فيجري الاستصحاب في كلّ منهما و يسقطان بالتعارض و يرجع إلي دليل اجتهاديّ كعامّ أو اطلاق أو أصل آخر، و إليك بعض الأمثلة:

1. إذا علم موت المورث و في الوقت نفسه علم إسلام الوارث و لكن شكّ في تقدّم أحدهما علي الآخر، فلو كان موت المورث متقدّماً علي إسلام الوارث فلا يرث الوارثُ الكافر، بخلاف ما انعكس فيري الوارث كسائر الورثة، فيقال الأصل عدم إسلام الوارث إلي زمان موت المورث، كما انّ الأصل عدم موت المورث إلي زمان إسلام الوارث، فيجريان و يتساقطان، و لأجل التساقط لا يثبت تقارن الإسلام و الموت.

مضافاً إلي انّ التقارن لازم الأصلين فيكون الأصلان بالنسبة إليه مثبتين، فإذا سقط الأصلان يرجع إلي دليل أو أصل آخر.

2. إذا وجد كرّ فيه نجاسة يعلم بعدم حصول الكرية للماء في زمان و عدم وجود النجاسة فيه أيضاً و لكن لا يعلم زمان حدوثهما فيحتمل تقدّم كلّ منها علي الآخر و تقارنهما، فيستصحب حينئذ عدم تقدّم كلّ منهما علي الآخر فيتعارضان و يتساقطان و لا يثبت بهما التقارن لما عرفت انّ الأصلين بالنسبة إليه مثبتان.

و أمّا ما هو حكم الماء أو الثوب النجس الوارد عليه فيرجع فيهما إلي دليل أو أصل آخر.

و بما انّه ليس هنا ضابطة خاصة لتعيين ذلك الدليل أو الأصل بل لكلّ مورد، حكمه الخاص أعرضا عن التفصيل فيهما.

ص: 169

التنبيه التاسع: تقدّم الاستصحاب علي سائر الأُصول

الاستصحاب متقدّم علي سائر الأُصول، لأنّ التعبّد ببقاء اليقين السابق و جعله حجّة في الآن اللاحق يوجب ارتفاع موضوعات الأُصول(عدم البيان)، أو حصول غاياتها(العلم بالحرمة)، و إليك البيان:

أ. أنّ موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان، فإذا كان الشيء مستصحَب الحرمة أو الوجوب، فالأمر بالتعبّد بإبقاء اليقين السابق بيان من الشارع، فلا يبقي موضوع للبراءة العقلية.

ب.كما أنّ موضوع البراءة الشرعية هو »ما لا يعلمون« و المراد من العلم هو الحجّة الشرعيّة، و الاستصحاب كما قرّرناه حجّة شرعيّة علي بقاء الوجوب و الحرمة في الأزمنة اللاحقة، فيرتفع موضوع البراءة الشرعية.

ج. أنّ موضوع التخيير هو تساوي الطرفين من حيث الاحتمال، و الاستصحاب بحكم الشرع هادم لذلك التساوي.

د. أنّ موضوع الاشتغال هو احتمال العقاب في الفعل أو الترك، و الاستصحاب بما أنّه حجّة مؤمِّن، فالاستصحاب بالنسبة إلي هذه الأُصول رافع لموضوعها.و إن شئت فسمِّه وارداً عليها.

و ربّما يكون الاستصحاب موجباً لحصول غاية الأصل كما هو الحال في أصالتي الطهارة و الحليّة، فإنّ الغاية في قوله(عليه السلام):»كلّ شيء طاهر حتّي تعلم أنّه قذر«، و في قوله(عليه السلام): »كلّ شيء حلال حتي تعلم أنّه حرام« و إن كان هو العلم، لكن المراد منه هو الحجّة، و الاستصحاب حجّة، و مع جريانه تحصل الغاية، فلا يبقي للقاعدة مجال.

و لمّا انجرّ الكلام إلي تقدّم الاستصحاب علي عامّة الأُصول اقتضي المقام بيان نسبة بعض القواعد إلي الاستصحاب.

ص: 170

خاتمة المطاف : الاستصحاب و القواعد الأربع

اشارة

ثمّة قواعد فقهية أربع لها دور عظيم في تنقيح الفروع الفقهية و تعدُّ من أهمّ القواعد، و قد تناولها مؤلّفو القواعد الفقهيّة في كتبهم علي وجه التفصيل، و نحن نشير إلي بعض ما له صلة بالاستصحاب:

1. قاعدة اليد 2. قاعدة أصالة الصحّة في فعل الغير.

3. قاعدة التجاوز و الفراغ.

4. قاعدة القرعة.

ص: 171

ص: 172

1. قاعدة اليد

إنّ اليد و الاستيلاء علي الشيء عند العقلاء أمارة الملكية و دليلها، إلاّ إذا دلّ الدليل علي خلافها، كيد الغاصب و السارق و السمسار، و علي ذلك استقرّت السيرة في الأعصار و أمضاها الشارع.

إنّ اعتبار اليد من دعائم الحياة الاجتماعية و قوام نظام المعاملات و المبادلات فلو رُفِضَت اليد لاختلّ النظام التجاري، إذ من المحال أن يُقيم كلُّ إنسان شاهداً علي ما تحت يده، أو أن يُسجّل كلّ شيء مما يملكه في دائرة خاصّة، و قد صار هذا سبباً لإمضاء تلك السيرة العقلائية، قولاً و تقريراً، و أمّا سيرة المتشرّعة أو إجماع الفقهاء و أصحاب الفتوي علي حجّية اليد، فالكل يستند إلي السيرة العقلائية، و يشهد بذلك قول الإمام أبي عبد اللّه(عليه السلام)لحفص بن غياث: »لو لم يجز هذا دلالة اليد علي الملكية لم يقم للمسلمين سوق«. (1)

و يستفاد من غير و احد من الأخبار أنّ اليد أمارة الملكية و ليست أصلاً من الأُصول، روي محمد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام)قال: سألته عن الدار يوجد فيها الورق ؟ فقال: »إن كانت معمورة، فيها أهلها فهي لهم، و إن كانت خربة قد جلا عنها أهلها، فالذي وجد المال أحقّ به«. (2)

روي يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)في امرأة تموت قبل الرجل، أو

ص: 173


1- . الوسائل:18، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.
2- . الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب اللقطة، الحديث 1، و لاحظ الحديث 2 من هذا الباب.

رجل قبل المرأة، قال: »ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من متاع الرجال و النساء فهو بينهما، و من استولي علي شيء منه فهو له«. (1)

و كفي في دلالة اليد علي الملكية قوله:»و من استولي علي شيء منه فهو له«، و الرواية و إن وردت في متاع البيت لكن المورد لا يخصصها، فالعرف يتلقاها قاعدة كلّية في جميع الموارد، و اللام في قوله(له) للملكية، أي الاستيلاء دليل الملكية سواء كان من خصائص الزوج أو من خصائص الزوجة، و إنّما يستدل بمتاع الرجل علي أنّه له، و متاع المرأة علي أنّه لها، إذا لم يكن لأحدهما استيلاء تام، و أمّا معه فهو مقدّم علي الاستدلال بكون المتاع من الخصائص فيدفع إلي من يختصّ به.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّ قاعدة اليد مقدّمة علي الاستصحاب تقدّمَ الأمارة علي الأصل، و لذلك نشتري من السوق كلَّ الأمتعة مع العلم بأنّها كانت ملكاً للغير، و ما هذا إلاّ لتقدّم اليد علي استصحاب بقاء الملكية للغير.3.

ص: 174


1- . الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 3.
2. أصالة الصحّة في فعل الغير

أصالة الصحّة في فعل الغير من الأُصول المجمع عليها و لها معنيان:

1. حسن الظن بالمؤمن و الاعتقاد الجميل في حقّه حتّي لا ينسبه إلي اعتقاد فاسد أو صدور عمل محرّم منه أو فاسد، و هذه من الوظائف الإسلامية التي يدعو إليها القرآن و السنّة قال سبحانه:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (1) ) (2).

و أمّا السنّة فروي إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: »إذا اتّهم المؤمن أخاه، إنماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء«. (3)

و أصالة الصحّة بهذا المعني أصل أخلاقي لا كلام فيه و لا يترتّب عليه أثر فقهيّ.

2. فرض الفعل الصادر من الغير صحيحاً مطابقاً للواقع، مثلاً إذا قام المسلم بغَسْل الميت و تكفينه و الصلاة عليه، و دفنه، أو قام بغسل الأواني و اللحوم المتنجّسة، يحمل فعله علي الصحّة بهذا المعني، و بالتالي يسقط التكليف عن الغير و لا يحتاج إلي إحراز الصحّة بالعلم و البيّنة.

و مثله إذا أذّن أحد المؤمنين أو أقام و شُكّ في صحّة عمله، يحمل علي الصحّة، و يسقط التكليف عن الغير، أو ناب المسلم عن رجل في الحجّ أو العمرة أو في جزء من أعمالهما، و شُكّ في صحّة العمل المأتي به، يحمل علي الصحّة، إلي غير ذلك من أعمال الوكلاء في الزواج و الطلاق و البيع و الشراء و الإجارة، أو فعل الأولياء كالأب و الجدّ في تزويج من يتوليانه أو الاتّجار بماله.

ص: 175


1- سوره 49 - آيه 12
2- . الحجرات:12.
3- . الوسائل: 8، الباب 161 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

و الدليل علي أصالة الصحّة بهذا المعني هو وجود الإجماع العملي بين الفقهاء و سيرة المسلمين النابعين من سيرة العقلاء علي حمل فعل الغير علي الصحّة، و هذا ممّا لا شكّ فيه.

و الذي دعا إلي اتخاذهم هذا الأصل سنداً في الحياة هو ملاحظة طبع العمل الصادر عن إنسان عاقل، و هو يعمل لغاية الانتفاع بعمله آجلاً أو عاجلاً، و مقتضي ذلك هو إيجاد العمل صحيحاً لا فاسداً، كاملاً لا ناقصاً، و إلاّ يلزم نقض الغرض و فعل العبث.

ثمّ إنّ أصالة الصحّة متقدّمة علي الاستصحاب لأحد وجهين:

الأوّل: انّها أمارة علي الصحّة، لأنّ الغالب علي فعل الإنسان العاقل المريد هو الصحّة لا الفساد، و انّ الفاسد أقلّ بكثير من الصحيح، فتكون أمارة ظنّية أمضاها الشارع.

الثاني: أنّها أصل لكنّها متقدّمة علي الاستصحاب للزوم اللغوية إذا قُدِّم الاستصحاب عليها، إذ ما من مورد من مواردها إلاّ و فيه أصل يدل علي الفساد في المعاملات، و علي الاشتغال في العبادات، لأنّ الشكّ في الصحّة ناشئ غالباً من احتمال تخلّف شرط أو جزء، و الأصل عدم اقتران العمل بهما.

نعم تُقدَّم أصالة الصحّة علي استصحاب الفساد إلاّ في موارد كان الفساد فيها هو الطبع الأوّلي للعمل مثلاً:

إذا كان طبع العمل مقتضياً للفساد، بحيث تكون الصحّة من عوارضه الشاذة و أطواره النادرة، كبيع الوقف مع احتمال المسوّغ له، و مال اليتيم إذا لم يكن البائع وليّاً و بيع العين المرهونة مدّعياً إذن المرتهن.

هذا في المعاملات و نظيره في العبادات، كإقامة الصلاة في المكان المغصوب، و في الثوب النجس، مع احتمال المسوّغ لها فلا تجري أصالة الصحة فيهما.

ص: 176

3. قاعدة التجاوز و الفراغ

إذا شكّ في وجود الشيء، كالشكّ في الركوع بعد السجود، أو الشكّ في صحّة الشيء الموجود، كالشكّ في الصلاة المأتي بها، بعد الفراغ، فالأصل هو عدم الاعتداد بالشك، سواء أتعلّق بوجوده أم بصحته، و قد تضافرت الروايات في هذا المضمار، و في الحقيقة يرجع هذا الأصل إلي حمل فعل النفس علي الصحّة كما أنّ القاعدة السابقة ترجع إلي حمل فعل الغير علي الصحّة، فكأنّهما قاعدة واحدة لها وجهان.

و تدلّ عليها من الروايات، صحيحة زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): رجل شكّ في الأذان و الإقامة و قد كبّر؟ قال: »يمضي«، قلت: رجل شكّ في التكبير و قد قرأ؟ قال: »يمضي«، قلت: شكّ في القراءة و قد ركع؟ قال: »يمضي«، قلت: شك في الركوع و قد سجد؟ قال: »يمضي علي صلاته«، ثمّ قال: »يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء«. (1)

و الرواية و إن وردت في مورد الصلاة لكن المستفاد من الذيل انّها بصدد إعطاء ضابطة كلّية في جميع المجالات، و انّ المكلّف إذا قام بعمل سواء أ كان مركّباً أم بسيطاً، عبادياً كان أم معاملياً، و خرج منه ثمّ شكّ فيه، لا يلتفت إليه، و يؤيده سائر الروايات الواردة في هذا المضمار.

روي بكير بن أعين عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: قلت له: الرجل يشكّ بعد ما

ص: 177


1- . الوسائل: 5، الباب 23 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1.

يتوضأ؟ قال: »هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك«. (1)

و التعليل بأمر ارتكازي يدل علي أنّها قاعدة عامّة في جميع أبواب الفقه من غير فرق بين العبادات و المعاملات.

ثمّ إنّ القاعدة متقدّمة علي الاستصحاب بوجهين:

1. إنّ الإمام قدّمها علي الاستصحاب في صحيحة زرارة حيث إنّ الأصل كان يقتضي عدم تحقّق الركوع و السجود، مع أنّه(عليه السلام)حكم بالصحة و عدم الاعتداد.

2. إنّ تقديم الاستصحاب علي القاعدة يستلزم لغوية تشريعها كما مرّ في البحث السابق، فإنّ كلّ مشكوك مسبوق بالعدم فلا يبقي مجال لقاعدة التجاوز و الفراغ.7.

ص: 178


1- . الوسائل: 1، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 7.
4. قاعدة القرعة
اشارة

القرعة في اللغة: بمعني الدّق و الضرب، يقال قرع الباب: دقّه، و قال ابن فارس: و الإقراع و المقارعة بمعني المساهمة، و سمّيت بذلك لأنّها شيء كأنّه يضرب. (1)

و يظهر من الآيات و الروايات أنّ القرعة كانت رائجة في الأعصار السابقة عند تزاحم الحقوق و المصالح دفعاً للترجيح بلا ملاك و التفريق بلا وجه، و لا يتمسك بها إلاّ إذا انغلقت أبواب الحلول كلّها و انحصر وجه الحل بها.

أ. قال سبحانه:( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (2) ) (3) لمّا حملت امرأة عمران أُمّ مريم العذراء بنتها إلي الكنيسة حتي يكفل حضانتها العُبّاد بعد وفاة والدها، و هي في بطن أُمّها، فعند ما رأوها تشاحّوا و طلب كلٌّ أن يتكفّل حضانتها، لأنّها بنت عمران، و من البيوت الرفيعة في بني إسرائيل، فاتّفقوا علي المساهمة فخرج السهم باسم خير الكفلاء لها أعني:زكريا و المقام من قبيل تزاحم الحقوق، لأنّ الحضانة كانت حقّاً لها ابتداءً و بالذات و لما دفعتها إلي العبّاد و الزهاد، دون أن تعيّن واحداً منهم، صار الجميع بالنسبة إلي هذه المفخرة علي حد سواء، فاتّفقوا علي المقارعة لأجل حسم النزاع.

ب. و قال سبحانه:( وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَي الْفُلْكِ (4)

ص: 179


1- . مقاييس اللغة، مادة قرع.
2- سوره 3 - آيه 44
3- . آل عمران:44.
4- سوره 37 - آيه 139

اَلْمَشْحُونِ * فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (1) ) (2) روي المفسرون أنّه سبحانه: أوعد قوم يونس بالعذاب و أخبرهم يونس به، فلمّا كُشف عنهم العذاب و قُبلت توبتهم، ترك يونس قومه مغاضباً، و مضي إلي ساحل البحر، و ركب السفينة، و أحسّ الربّان أنّ السفينة مشرفة علي الغرق، و لو خُفِّفت بإلقاء واحد من الركّاب في البحر لنجا الكلّ، فساهموا فأصاب السهم اسم يونس.

هذا ما في الذكر الحكيم، و قد وردت في السنّة روايات كثيرة حول القرعة تناهز 62 حديثاً، و من جوامع الكلم قول النبي(صلي الله عليه و آله و سلم):»ليس من قوم تنازعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلي اللّه إلاّ خرج سهم المحقّ«.

(3) و في حديث آخر: أيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوِّض الأمر إلي اللّه، أ ليس اللّه يقول:( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (4) ). (5)

إنّ حجّية القرعة لا تتجاوز عن مورد التنازع أو التزاحم لوجهين:

الأوّل: بناء العقلاء علي العمل بها في خصوص مورد التنازع و التزاحم لا في كلّ مجهول، أو كلّ مشتبه أو كلّ مشكل و إن لم يكن مثاراً للتنازع.

الثاني: انّ استقصاء روايات القرعة يرشدنا إلي أنّها وردت في خصوص المنازعات تعارضاً أو تزاحماً. (6) نعم، وردت رواية بالقرعة في مورد تمييز الموطوءة من الشاة عن غيرها، و لكنّها رواية شاذة.و أمّا غيرها فيدلّ علي اختصاصها بتزاحم الحقوق و تعارضها.م.

ص: 180


1- سوره 37 - آيه 140
2- . الصافات:139 141.
3- . الوسائل: 18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث5و 13.
4- سوره 37 - آيه 141
5- . الوسائل: 18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث5و 13.
6- . التعارض: فيما إذا كان الحق لواحد معين في الواقع غير معلوم لنا، و التزاحم: إذا كان الجميع بالنسبة إلي الحق علي حدّ سواء نظير حضانة مريم.

أضف إلي ذلك: أنّ الأصحاب عملوا بالقرعة في الموارد التالية و جميعها إلاّ مورد الشاة من هذا الباب:

1. باب قسمة الأعيان المشتركة.

2. باب تزاحم المدعيين عند القاضي.

3. باب قسمة الليالي بين الزوجات.

4. باب تداعي الرجلين أو أكثر ولداً.

5. باب تعارض البيّنتين.

6. توريث الخنثي المشكل.

7. توريث المشتبهين في تقدّم موت أحدهما علي الآخر.

8. باب الوصايا المتعددة إذا لم يف الثلث بها.

9. باب إذا أوصي بعتق عبيده و لم يف الثلث بها.

10. باب اشتباه الشاة الموطوءة بغيرها.

تنبيه: أدلّة القرعة غير مخصصة

قد اشتهر بين الأصحاب أنّ عمومات القرعة لا يعمل بها إلاّ أن يُجبر عمومها بعمل الأصحاب، و ذلك لأجل كثرة ورود التخصيص عليها.

و لكن الصواب غير ذلك، فإنّ من وصف أدلّة القرعة بكثرة التخصيص تصوّر أنّ موضوعها هو مطلق المجهول أو مطلق المشكل و إن لم يكن مورداً للتشاجر. و لما رأي أنّه لا يُعْمل بالقرعة في كلّ مجهول أو مشكل زعم ورود كثرة التخصيص عليها و صيرورة عمومها موهوناً لا يتمسك بها إلاّ عند عمل

ص: 181

الأصحاب بها.

و أمّا علي ما اخترناه من أنّ موضوعها هو خصوص التنازع أو التزاحم في الحقوق، مع انغلاق الأبواب لسائر الحلول، فأدلّة القرعة غير مخصصة، و العمل بها ليس رهن عمل الأصحاب.

تمّ الكلام في الأُصول العملية، و يليه البحث في تعارض الأدلّة الشرعية إن شاء اللّه و الحمد للّه ربّ العالمين

ص: 182

المقصد الثامن: في تعارض الأدلّة الشرعية في تعارض الأدلّة الشرعية

اشارة

المقصد الثامن: في تعارض الأدلّة الشرعية في تعارض الأدلّة الشرعية (1)

و فيه أُمور و فصلان:

الأمر الأوّل: تعريف التعارض.

الأمر الثاني: في الفرق بين التعارض و التزاحم.

الأمر الثالث: أسباب التزاحم.

الأمر الرابع: مرجحات باب التزاحم.

الفصل الأوّل: في التعارض غير المستقر.

الفصل الثاني: في التعارض المستقر.

خاتمة المطاف: في التعارض علي نحو العموم و الخصوص من وجه.

ص: 183


1- . انّ طبيعة البحث تقتضي أن يبحث عن تعارض الأدلّة قبل الأُصول العملية، لانّ موضوعها عدم الحجّة و المفروض في هذا المقصد وجودها و عدم تعينها، لكن اقتفينا أثر القوم، لئلاّ يحصل تشويش في النظام الدراسي.

ص: 184

في تعارض الأدلّة الشرعية

قبل الخوض في الموضوع نقدّم أُموراً:

الأوّل: البحث عن تعارض الأدلّة الشرعيّة و كيفية علاجها من أهمّ المسائل الأُصولية.

إذ قلّ باب في الفقه لا توجد فيه حجّتان متعارضتان و مختلفتان، فلا مناص للمستنبط من علاجهما. و لأجل تلك الأهميّة الملموسة جعله المحقق الخراساني أحد المقاصد الثمانية في مقابل عمل الشيخ حيث جعله خاتمة لكتابه.

و الخاتمة و المقدّمة خارجتان عن مقاصد الكتاب مع أنّه من صميم مقاصد العلم و مسائله. و قد عرفت في صدر الكتاب أنّ روح المسائل الأُصولية هو البحث عن تعيين ما هو الحجّة في الفقه، و الهدف في هذا المقصد هو تعيين ما هو الحجّة من المتعارضين من الترجيح و التخيير عند عدم المرجّح أو سقوطهما و الرجوع إلي دليل آخر، فإذا كان هذا مكانة هذا المقصد، فلا وجه لجعله خاتمة للكتاب.

الثاني: المقصود تعارض الأخبار دون سائر الأدلّة

إنّ قولنا: »في تعارض الأدلّة الشرعيّة« و إن كان يعمّ تعارض الخبرين أو الأخبار و تعارض سائر الأدلّة الشرعيّة كتعارض قول اللغويين، أو المدّعيين للإجماع و غيرهما، لكن القوم لم يطرحوا في المقام إلاّ تعارض الأخبار دون سائر الأدلّة، و اقتصروا فيما يرجع إلي تعارض قول اللغويين أو المدّعيين للإجماع، بما ذكروه في بابيهما.

ص: 185

الثالث: في تعريف التعارض

عرّف الشيخ التعارض بأنّه: »تنافي مدلولي الدليلين علي وجه التناقض أو التضاد«. (1)

و عرّفه المحقّق الخراساني بأنّه:تنافي الدليلين أو الأدلّة حسب الدلالة و مقام الإثبات علي وجه التناقض أو التضاد. (2)

و إنّما عدل عن التعريف الأوّل، لأجل إخراج ما يمكن فيه الجمع بين الروايتين عرفاً، من التعريف ، كموارد »الورود و الحكومة و التخصيص« فانّ التنافي بين المدلولين و إن كان موجوداً في مواردها، لكنّه ليس موجوداً حسب الدلالة مع وجود الجمع العرفي.

و الحاصل: أنّ المحقّق الخراساني يفرّق بين التنافي في المدلول و التنافي في الدلالة، لاختصاص الثاني بغير موارد وجود الجمع العرفي، دون الأوّل فانّه يعمّ جميع الموارد سواء كان هناك جمع عرفي أو لا.

الرابع:إنّ الظاهر من التعريفين أنّ التنافي علي نحو التضاد، غير التنافي علي نحو التناقض.

و لكن الحقّ رجوع التنافي علي وجه التضاد إلي التنافي علي وجه التناقض، فإذا ورد دليلان علي الوجوب، و الحرمة فما يدلّ بالدلالة المطابقية علي الوجوب فهو بمدلوله الالتزامي يدلّ علي عدم الحرمة، فينافي ما يدلّ علي الحرمة، و علي ضوء ذلك، التنافي بالمدلول المطابقي و إن كان بصورة التضاد، لكنّه بالمدلول الالتزامي، بنحو التناقض علي ما عرفت.

و مع ذلك كلّه، الإرجاع المذكور أمر دقيق لا يلتفت إليه الإنسان إلاّ بعد التأمّل حتي يستغني بقيد»علي وجه التناقض« عن القيد الآخر، و مقام التعريف

ص: 186


1- . الشيخ الأنصاري: فرائد الأصول:431.
2- . المحقّق الخراساني: كفاية الأصول: 2/376.

يطالب لنفسه مقاماً واضحاً فلا إشكال في الإتيان بكلا القيدين حتّي يشمل التعريف لكلتا الصورتين بوضوح.

الخامس: في الفرق بين التعارض و التزاحم

إنّ اختلاف الدليلين تارة يكون علي وجه التعارض، و أُخري علي نحو التزاحم، فلو رجع التنافي إلي مقام الجعل و المدلول، و أصل الإنشاء علي وجه لا يصحّ للمشرِّع أن يحكم علي شيء واحد بحكمين متناقضين، أو متضادين، مع قطع النظر عن قدرة المكلَّف علي امتثالهما، فالتنافي من قبيل التعارض كالحكم بوجوب شيء و حرمته أو عدم وجوبه.

و أمّا إذا رجع التنافي إلي مقام الامتثال، بأن لا يكون هناك تناف في مقام الملاك و المناط، و لا في مقام الجعل و الإنشاء، بل رجع التنافي إلي مرتبة متأخرة أعني مرتبة الامتثال، فالتنافي من قبيل التزاحم.

مثلاً إنّ تشريع وجوب إزالة النجاسة عن المسجد، لا ينافي تشريع وجوب الصلاة في المسجد، و ليس بينهما أيُّ تزاحم في مقام الملاك و لا الإنشاء و لا الفعلية، و انّما التنافي بينهما في مقام الامتثال، حيث إنّه يرجع إلي عجز المكلَّف عن امتثالهما إذا ابتلي بهما في وقت واحد، و هذا نظير قولك:»انقذ هذا الغريق« و قولك:

»انقذ ذاك الغريق« إذ ليس بينهما أيّ منافرة، و انّما حصلت المنافرة في ظرف الامتثال، حيث إنّه ليس بمقدوره أن ينقذ كلا الغريقين في زمان واحد، و هذا ما يسمّي بالتزاحم.

و إن شئت قلت: إنّ المتعارضين متكاذبان في مقام التشريع و الجعل، و المتزاحمين متنافران في مقام الامتثال، دون أن يكون بينهما أيُّ تكاذب و تعاند في مقام الجعل و الإنشاء.

ص: 187

السادس: أسباب التزاحم و أقسامه

إذا وقفت علي الفرق بين التعارض و التزاحم، و أنّ مرجع التعارض إلي تكذيب كلّ من الدليلين الدليلَ الآخر في مقام الجعل و التشريع، و أنّ مرجع التزاحم إلي تنافي كلّ منهما مع الآخر في مقام الامتثال بلا تكاذب و تدافع في مقام التشريع.

فاعلم أنّ التزاحم ينقسم إلي الأقسام التالية:

1. ما يكون التزاحم لأجل كون مخالفة أحد الحكمين مقدّمة لامتثال الآخر، كما إذا توقف إنقاذ الغريق علي التصرّف في أرض الغير.

2. ما يكون منشأ التزاحم وقوع التضاد بين متعلّقين من باب التصادف لا دائماً، كما إذا زاحمت إزالة النجاسة عن المسجد، إقامةَ الصلاة فيه.

3. ما يكون أحد المتعلّقين مترتّباً في الوجوب علي الآخر، كالقيام في الركعة الأُولي و الثانية مع عدم قدرته عليه إلاّ في ركعة واحدة، أو كالقيام في الصلاتين: الظهر و العصر، مع عدم استطاعته إلاّ علي القيام في واحدة منهما.

و مثله إذا دار أمره بين الصلاة قائماً في مخبأ بلا ركوع و سجود، أو الصلاةَ معهما من دون قيام في مخبأ آخر.

السابع: مرجّحات باب التزاحم
اشارة

إذا كان التزاحم راجعاً إلي مقام الامتثال مع كمال الملاءمة في مقام التشريع فيتمسك بالمرجحات التي هي عبارة عن الأُمور التالية:

1. تقديم ما لا بدل له علي ما له بدل

إذا كان هناك واجبان لأحدهما بدل شرعاً، دون الآخر، فالعقل يحكم بتقديم

ص: 188

الثاني علي الأوّل، جمعاً بين الامتثالين، كالتزاحم الموجود بين رعاية الوقت و تحصيل الطهارة الحدثية بالماء، فبما أنّ الوقت فاقد للبدل، بخلاف الطهارة الحدثية، فتُقدّم مصلحة الوقت علي مصلحة الطهارة الحدثية بالماء، فيتيمم بدلاً عن الطهارة المائية و يصلّي في الوقت.

2. تقديم المضيّق علي الموسّع

إذا كان هناك تزاحم بين المضيّق الذي لا يرضي المولي بتأخيره، و الموسّع الذي لا يفوت بالاشتغال بالواجب المضيّق، إلاّ فضيلة الوقت، فالعقل يحكم بتقديم الأوّل علي الثاني، و لذلك يجب امتثال إزالة النجاسة أوّلاً ثمّ القيام بالصلاة.

3. تقديم أحد المتزاحمين علي الآخر لأهميته

إذا دار الأمر بين ترك الأهم و المهم، كإنقاذ الغريق و التصرّف في مال الغير، فالعقل يحكم بتقديم الأهم علي المهم، و هذه من القضايا التي قياساتها معها.

4. سبق امتثال أحد الحكمين زماناً

إذا كان أحد الواجبين متقدّماً في مقام الامتثال علي الآخر زماناً، كما إذا وجب صوم يوم الخميس و الجمعة، و لا يقدر إلاّ علي صيام يوم واحد، أو إذا وجبت عليه صلاتان و لا يتمكن إلاّ من الإتيان بواحدة منهما قائماً، أو وجبت صلاة واحدة و لا يتمكن إلاّ من القيام بركعة واحدة، ففي جميع هذه الصور يستقلُّ العقل بتقديم ما يجب امتثاله متقدّماًً علي الآخر، حتي يكون في ترك الواجب في الزمان الثاني معذوراً، إلاّ إذا كان الواجب المتأخر أهمّ في نظر المولي فيجب صرف القدرة

ص: 189

في الثاني، و هو خارج عن الفرض.

و بعبارة أُخري: لو صام يوم الخميس، أو صلّي الظهر قائماً، فقد ترك صوم يوم الجمعة و القيام في صلاة العصر عن عذر و حجّة بخلاف ما لو أفطر يوم الخميس و صلّي الظهر جالساً فقد ترك الواجب بلا عذر.

5. تقديم الواجب المطلق علي المشروط

إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور مرقد الإمام الحسين(عليه السلام)في كلّ عرفة، ثمّ حصلت له الاستطاعة فيقدّم الحج علي زيارة الحسين(عليه السلام)، لأنّه إذا قال القائل: للّه عليَّ أن أزور الإمام الحسين (عليه السلام)في كلّ عرفة، إمّا أن لا يكون له إطلاق بالنسبة إلي عام حصول الاستطاعة للحج، أو يكون.

فعلي الأوّل عدم الإطلاق لدليل النذر يكون الحجّ مقدّماً، إذ لا يكون عندئذ إلاّ واجب واحد.

و علي الثاني، بما أنّ الإطلاق مستلزم لترك الواجب أعني الحجّ يكون إطلاق النذر لا نفسه باطلاً، نظير ما إذا نذر شخص أن يقرأ القرآن من طلوع الفجر إلي طلوع الشمس، فانّه في حدّ نفسه راجح، لكنّه بما أنّه مستلزم لتفويت الواجب و هي صلاة الصبح فلا ينعقد، و هذا هو المراد من قولنا تقديم الواجب المطلق(الحج) علي الواجب المشروط(زيارة الحسين) المشروطة بعدم كونها مفوّتة للواجب.

الثامن: أنّ الخبرين المتعارضين علي قسمين:

أ: ما يكون التنافي بينهما تنافياً غير مستقر علي نحو يزول بالتأمّل و الإمعان، و يعلم من خلاله أنّ المتكلم لم يخبر بأمرين متنافيين في الظرف الذي ألقي فيه الكلام.

ص: 190

ب: ما يكون التنافي بينهما تنافياً مستقراً لا يزول بالتأمّل و الإمعان و يُعدّ الخبران أمرين متنافيين حتي في نفس الظرف الذي أُلقي فيه الكلام. و لأجل ذلك لا يمكن التصديق بهما، بل لا بدّ من ردّهما أو الأخذ بأحدهما دون الآخر.

أمّا القسم الأوّل فقد بذل الأُصوليون جهودهم في إعطاء ضوابط لتشخيص التعارض غير المستقر عن المستقر، أو لتشخيص الجمع المقبول عن غيره و حصروها في العنوانات التالية:

1. أن يكون أحد الدليلين وارداً علي الدليل الآخر.

2. أن يكون أحد الدليلين حاكماً علي الدليل الآخر.

3. أن يكون أحد الدليلين مخصصاً للدليل الآخر.

4. أن يكون أحد الدليلين ، أظهر من الدليل الآخر.

و للأظهرية ملاكات خاصة مبينة في محلها.

و بما انّا استوفينا الكلام في القسم الأوّل بعنواناتها الأربعة من الموجز، نركز في القسم الثاني أي التعارض المستقر الذي يُعالج التعارض بغير هذا النحو.

ص: 191

في التعارض المستقر

اشارة

قد عرفت أنّ التعارض علي قسمين: بدويّ غير مستقر ، و تعارض مستقر، و يقع الكلام في القسم الثاني، في ضمن مباحث:

المبحث الأوّل: ما هو مقتضي القاعدة الأوّلية؟

إذا قلنا بأنّ الخبر حجّة لكونه طريقاً إلي كشف الواقع من دون أن يكون في العمل بالخبر هناك أيُّ مصلحة سوي مصلحة درك الواقع (1)، فما هو مقتضي حكم العقل؟ أقول: إنّ هنا صورتين:

الأُولي: فيما إذا لم يكن لدليل حجّية خبر الواحد إطلاق شامل لصورة التعارض، كما إذا كان دليل الحجّية أمراً لبيّاً كالسيرة العقلائية أو الإجماع، فعندئذ يكون دليل الحجية قاصراً عن الشمول للمتعارضين، لأنّ الدليل اللبيّ لا يتصوّر فيه الإطلاق، فيؤخذ بالقدر المتيقن و هو اختصاص الحجّية بما إذا كان الخبر غير معارض، فتكون النتيجة عدم الدليل علي حجّية الخبرين المتعارضين و هو مساو لسقوطهما.

الثانية: إذا كان هناك إطلاق شامل لصورة التعارض، كما إذا كان دليل الحجّية أمراً لفظياً كآية النبأ و النفر، و قلنا بوجود الإطلاق فيهما الشامل لصورة

ص: 192


1- . في مقابل احتمال حجّية الخبر الواحد من باب السببية، و بما انّ الاحتمال باطل عند أصحابنا تركنا البحث فيها و بيان أحكامها. و من أراد التفصيل فلنرجع إلي المحصول:ج3/110 126.

المتعارضين، فيقع الكلام في مقتضي القاعدة الأوّلية.

إنّ مقتضي القاعدة الأوّلية هو التساقط، و إلاّ فالأمر دائر بين الأُمور الثلاثة:

1. الأخذ بكليهما، و هو يستلزم الجمع بين المتناقضين.

2. الأخذ بأحدهما المعين، و هو ترجيح بلا مرجح.

3. الأخذ بأحدهما المخير، و هو لا دليل عليه.

لأنّ الأدلة دلت علي حجّية كلّ واحد معيّناً لا مخيّراً، فإذا بطلت الاحتمالات الثلاثة تعين التساقط.

المبحث الثاني: في حجّية المتعارضين في نفي الثالث

قد عرفت أنّ الأصل في المتعارضين علي القول بحجّيتهما من باب الطريقية هو التساقط، لكن يقع الكلام في اختصاص التساقط بالمدلول المطابقي أو يعمّ المدلول الالتزامي أيضاً.

فعلي الوجه الأوّل يُحتج بهما في نفي الثالث دون الوجه الثاني، فلو كان هناك خبران متعارضين أحدهما يدل علي أنّ نصاب الغوص دينار، و الآخر علي أنّ نصابه عشرون ديناراً، فعلي الاختصاص يحتج بهما في نفي الثالث، أي نفي عدم اعتبار النصاب في الغوص أو كون نصابه عشرة دنانير دون القول الآخر.

فيه وجهان:

و الظاهر عدم صحة الاحتجاج، لأنّ الأخذ بالمدلول الالتزامي فرع الأخذ بالمدلول المطابقي، فإذا امتنع الأخذ بالمدلول المطابقي فكيف يمكن الأخذ بمدلوله الالتزامي؟! و بعبارة أُخري: الأخذ بالمدلول الالتزامي لأجل كونه من لوازم المعني

ص: 193

المطابقي، فإذا لم يثبت الملزوم تعبّداً فكيف يثبت اللازم؟! إلاّ أن يدل دليل علي التحفظ باللازم تعبداً.

المبحث الثالث: مقتضي القاعدة الثانوية في المتعارضين
اشارة

قد عرفت أنّ مقتضي القاعدة الأوّلية في المتعارضين هو التساقط، إنّما الكلام في ورود دليل خارجي علي خلاف القاعدة و عدمه، فعلي الثاني(عدم ورود الدليل) يؤخذ بمفاد القاعدة الأُولي ويحكم بتساقط الخبرين في جميع الحالات، و علي الأوّل يجب أن يؤخذ بمدلول القاعدة الثانوية.

ثمّ إنّ الروايات الواردة في الخبرين المتعارضين تشعّبت إلي طوائف ثلاث:

الطائفة الأُولي: ما يدلّ علي التخيير.

الطائفة الثانية: ما يدلّ علي التوقّف.

الطائفة الثالثة: ما يدلّ علي الأخذ بذي الترجيح.

و نذكر من القسم الأوّل ما رواه الحسن بن جهم عن الرضا(عليه السلام)في حديث:

قلت: يجيئنا الرجلان و كلاهما ثقة بحديثين مختلفين و لا نعلم أيّهما الحق؟ قال: »فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت«. (1)

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري ادّعي تواتر الأخبار الدالّة علي التخيير في المتعارضين، و كان سيدنا الأُستاذ قدَّس سرّه ينكر التواتر، و لكن يعترف بالتضافر، و قد عثرنا علي ما يدل علي التخيير بما يناهز ثماني روايات. (2)

ص: 194


1- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث40.
2- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث6،21، 39، 40، 41، 44; المستدرك:17، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2، 12.

لكنّ المشكلة تكمن في إعراض الأصحاب عن روايات التخيير، فانّه لا يوجد مورد أفتي المشهور في الكتب الفقهية بالتخيير بين الخبرين.

و أمّا الطائفة الثانية، أعني: ما يدلّ علي التوقف، فيناهز عدد رواياتها ما يناهز الخمس، نذكر منها ما يلي:

1. روي سماعة عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه، و الآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ قال: »يرجئه حتي يلقي من يخبره، فهو في سعة حتي يلقاه«. (1)

2. روي سماعة عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قلت: يرد علينا حديثان، واحد يأمرنا بالأخذ به، و الآخر ينهانا عنه؟ قال: »لا تعمل بواحد منهما حتي تلقي صاحبك فتسأله«، قلت: لا بدّ أن نعمل بواحد منهما.

قال:»خذ بما فيه خلاف العامة«. (2)

و يحتمل وحدة الحديثين لوحدة الراوي عن الإمام و إن اشتمل الحديث الثاني علي زيادة، و لاحظ ما يدل علي التوقف أيضاً. (3)

و علي فرض حجّية أخبار التخيير فقد قام غير واحد من المحقّقين بالجمع بين الطائفتين(التخيير و التوقف) بوجوه، أوضحها ما أفاده الشيخ الأعظم من حمل روايات التوقف علي صورة التمكّن من لقاء الإمام، و يشهد علي ذلك ما في حديث سماعة: »يرجئه حتي يلقي من يخبره«.

و في حديث آخر عنه:»لا تعمل بواحد منهما حتي تلقي صاحبك فتسأله«.2.

ص: 195


1- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث5و 42.
2- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث5و 42.
3- . الوسائل:18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 36; المستدرك:17، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث10، 2.

إذا كانت الطائفة الأُولي دالة علي التخيير و الثانية علي التوقف(و قد عرفت الجمع بينهما) فهناك طائفة ثالثة تدل علي الأخذ بذي الترجيح، و يقع الكلام في هذه الطائفة في جهات:

1. التعرف علي أقسام المرجحات.

2. كون الأخذ بذات المزية لازم أو لا.

3. لزوم الاقتصار علي المنصوص منها أو جواز التعدّي عنه إلي غيره؟ و إليك دراسة هذه الجهات واحدة تلو الأُخري.

ص: 196

الجهة الأُولي: في أقسام المرجحات
اشارة

إنّ المرجحات الواردة في الروايات علي أقسام، و بما انّ مقبولة عمر بن حنظلة هي بيت القصيد في هذا الباب نذكر المرجحات وفق الترتيب الوارد في الرواية المذكورة و المرجحات الواردة فيها خمسة (1):

1. الترجيح بصفات الراوي.

2. الترجيح بالشهرة العملية.

3. الترجيح بالكتاب و السنّة.

4. الترجيح بمخالفة العامة.

5. الترجيح بالأحدثية.

هذه هي المرجحات الواردة في المقام، و إليك البحث فيها علي وجه التفصيل:

1. الترجيح بصفات الراوي

قد ورد الترجيح بصفات الراوي في روايات ثلاث:

أ. رواية عمر بن حنظلة.

ب. رواية داود بن الحصين.

ج. رواية موسي بن أكيل.

و لكن الجميع يرجع إلي ترجيح حكم أحد القاضيين علي الآخر بهذه

ص: 197


1- . و لم نأخذ بمرفوعة العلاّمة عن زرارة، لارسالها، لاحظ المستدرك:17، الباب9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2، نقلاً عن عوالي اللآلي، عن العلاّمة مرفوعاً عن زرارة.

الصفات و لا تمت بترجيح أحد الخبرين علي الآخر بصفات الرواة.

أمّا رواية عمر بن حنظلة، فحاصل الرواية انّه فرض حكمين من أصحابنا حكما في موضوع بحكمين و كلاهما صدرا عن الحديث المروي عن الأئمّة(عليهم السلام)، فقال الإمام(عليه السلام): »الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما، و لا يلتفت إلي ما يحكم به الآخر«. (1)

يلاحظ عليه: بما عرفت من أنّ مورد الرواية هو ترجيح حكم أحد القاضيين بصفاتهما، و أين هو من ترجيح إحدي الروايتين علي الأخري بصفات الراوي؟ أمّا رواية داود بن الحصين، فهي ما رواه الصدوق بسند كالصحيح عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)في رجلين اتّفقا علي عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف، فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال: »ينظر إلي أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما فينفذ حكمه و لا يلتفت إلي الآخر«. (2)

و هذه الرواية كسابقتها ناظرة إلي ترجيح أحد الحكمين علي الآخر.

و أمّا رواية موسي بن أكيل، ما رواه الشيخ الطوسي بسند صحيح، عن ذُبيان بن حُكيم، عن موسي بن أكيل،عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: سئل عن رجل يكون بينه و بين أخ له منازعة في حقّ، فيتفقان علي رجلين، يكونان بينهما، فحكما، فاختلفا فيما حكما، قال: »و كيف يختلفان«؟ قال: حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان، فقال: »ينظر إلي أعدلهما و أفقههما في دين اللّه، فيمضي حكمه«. (3)5.

ص: 198


1- . الكافي:1/67، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم، الحديث10. و سيوافيك بقية الحديث ضمن المرجحات.
2- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20و 45.
3- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20و 45.

و هذا الحديث أيضاً أجنبي عن المقام، لأنّ الضمائر ترجع إلي الحكمين اللّذين اختارهما كلّ واحد من المتحاكمين، و بما انّ القضاء أمر لا يخلو تأخيره من مضارّ ناسب أن تكون صفات القاضي من المزايا، بخلاف الإفتاء.

نعم اختلاف الحكمين في القضاء ، و إن نشأ عن الاختلاف في الحديث المروي عنهما(عليهما السلام)لكنّ الاختلاف الحديث سبب الاختلاف في القضاء و ليس الإمام بصدد ترجيح رواية علي رواية أُخري، بل بترجيح قضاء، علي قضاء آخر.

إلي هنا تمّ الكلام في المرجح الأوّل، و ثبت انّه لا يمتُّ إلي ترجيح الرواية بصلة.

2. الترجيح بالشهرة العملية

قد ورد الترجيح بالشهرة العملية في رواية واحدة و هي مقبولة عمر بن حنظلة، فقد فرض عمر بن حنظلة مساواة الحكمين في الصفات، قائلاً:

قلت: فانّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منهما علي الآخر.

قال: فقال: »ينظر إلي ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمعَ عليه من أصحابنا فيؤخذ به من حكمنا، و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه، و إنّما الأُمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيُتّبع، و أمر بيّن غيّه فيجتنب، و أمر مشكل يردّ علمه إلي اللّه و إلي رسوله، قال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم):حلال بيّن و حرام بيّن و شبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، و من أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات و هلك من حيث لا يعلم«. (1)

فإن قلت: إنّ صدر الحديث راجع إلي ترجيح أحد الحكمين علي الآخر، فليكن الترجيح بالشهرة العملية راجعاً إليهما لا إلي الخبرين.

قلت: إنّ صدر الحديث و إن كان راجعاً إلي ترجيح حكم أحد القاضيين

ص: 199


1- . الكافي:1، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم، الحديث 10.

علي حكم الآخر، لكن بعد ما فرض الراوي مساواة القاضيين من حيث الصفات أرجع الإمام السائل إلي ملاحظة مصدر فتاواهما، و انّه يقدم قضاء من حكم بخبر مجمع عليه بين الأصحاب، علي من قضي بمصدر شاذ.

و من هنا توجه كلام الإمام إلي بيان مرجحات الرواية في مقام الإفتاء ليكون حلاً في مقام القضاء أيضاً، فكلامه في المجمع عليه و ما بعده كموافقة الكتاب و مخالفته راجع إلي ترجيح أحد الخبرين علي الآخر في مقام الإفتاء.

هذا كلّه لا غبار عليه لكن هنا إشكالاً آخر، و هو انّ المراد من المرجّح، هو تقديم إحدي الحجتين علي الأُخري، لا تقديم الحجّة علي اللاحجّة، و التقديم بالشهرة العملية من قبيل القسم الثاني، و يعلم ذلك من تحليل مقاطع الرواية في ضمن أُمور:

1. المراد من »المجمع عليه« ليس ما اتّفق الكل علي روايته، بل المراد ما هو المشهور بين الأصحاب في مقابل ما ليس بمشهور، و الدليل علي ذلك قول الإمام(عليه السلام): »و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك«.

2. المراد من اشتهار الرواية بين الأصحاب هو اشتهارها مع الإفتاء بمضمونها، إذ هو الذي يمكن أن يكون مصداقاً لما لا ريب فيه، و إلاّ فلو نقلوا الرواية بلا إفتاء وفق مضمونها ففيه كلّ الريب و الشكّ.

3. المراد من قوله: »لا ريب فيه« هو نفي الريب علي وجه الإطلاق، لأنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فالرواية المشهورة نقلاً و عملاً ليس فيها أي ريب و شك.

و أمّا ما يقابلها، أعني :الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه، و ذلك لأنّه إذا كانت النسبة في إحدي القضيتين صحيحة قطعاً تكون النسبة في القضية المناقضة لها باطلة قطعاً، و هذا هو المهم فيما نرتئيه.

ص: 200

4. انّ هذا البيان يثبت انّ الخبر المشهور المفتي به داخل في »بيّن الرشد« في تثليث الإمام(عليه السلام)و الخبر الشاذ داخل في »البيّن الغي« من تثليثه، و ذلك لما تبيّن انّ المشهور لا ريب في صحته و المخالف لا ريب في بطلانه.

و يظهر من ذلك ما ذكرنا من الإشكال، و هو انّ الشهرة العملية إذا كانت سبباً لطرد الريب عن نفسها و إلصاقه بمخالفها تكون أمارة علي تمييز الحجّة عن اللاحجة ، و بيّن الرشد عن بيّن الغي، و مثل ذلك لا يعدّ مرجحاً أصلاً.

إلي هنا تبيّن انّ ذينك الأمرين، الترجيح بصفات الراوي، و الترجيح بالشهرة العملية لا يمتّ إلي ترجيح أحد الخبرين علي الآخر بصلة، امّا لكونه راجعاً إلي ترجيح أحد الحكمين، أو إلي تمييز الحجّة عن غيرها، لا تقديم إحداهما علي الأُخري كما هو المقصود، و إليك دراسة الباقي:

3. الترجيح بالكتاب و السنّة
اشارة

قد ورد الترجيح بالكتاب و السنّة في غير واحد من الروايات، و نحن نذكر في هذا المقام بعضاً منها:

1. مقبولة عمر بن حنظلة

فقد جاء في المقطع الثالث منها:

قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم.

قال:» ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب و السنّة(و خالف العامة) فيؤخذ به، و يترك ما خالف حكمه حكم الكتاب و السنّة و وافق العامة«. (1)

2. ما رواه الميثمي عن الرضا(عليه السلام)

أنّه قال: »فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما علي كتاب اللّه، فما كان في كتاب اللّه موجوداً حلالاً أو حراماً،

ص: 201


1- . الكافي:1/68، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم، الحديث 10.

فاتّبعوا ما وافق الكتاب، و ما لم يكن في الكتاب فاعرضوه علي سنّة رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم)فما كان في السنّة موجوداً منهيّاً عنه نهي حرام، و مأموراً به عن رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم)أمر إلزام، فاتّبعوا ما وافق نهي رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم)و أمره«. (1)

3. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، عن الصادق(عليه السلام)

أنّه قال: »إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما علي كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فردّوه«. (2)

4. ما رواه الحسن بن الجهم، عن الرضا(عليه السلام)

قال: قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟ فقال: »ما جاءك عنّا فقس علي كتاب اللّه عزّ و جلّ و أحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا، و إن لم يكن يشبهها فليس منّا«. (3)

5. ما رواه الحسن بن الجهم، عن العبد الصالح(عليه السلام)

أنّه قال: »إذا جاءك الحديثان المختلفان، فقسهما علي كتاب اللّه و أحاديثنا، فإن أشبههما فهو حقّ، و إن لم يشبههما فهو باطل«. (4)

و الظاهر انّ موافقة الكتاب ليست من وجوه الترجيح، بل المخالف ليس بحجّة، و ذلك لأجل أمرين:

إنّ الأخبار الواردة حول الخبر المخالف للكتاب علي صنفين:

أ. ما يصف الخبر المخالف و إن لم يكن له معارض بكونه زخرفاً. (5) و انّه ممّا لم »أقله« (6) أو »لا يصدق علينا إلاّ ما وافق كتاب اللّه«. (7)

ب. ما يصف الخبر المخالف للكتاب مع كونه معارضاً لما هو موافق له

ص: 202


1- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 29، 40، 48، 12، 15، 47.
2- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 29، 40، 48، 12، 15، 47.
3- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 29، 40، 48، 12، 15، 47.
4- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 29، 40، 48، 12، 15، 47.
5- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 29، 40، 48، 12، 15، 47.
6- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 29، 40، 48، 12، 15، 47.
7- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 29، 40، 48، 12، 15، 47.

فيصف المخالف بقوله »فردّوه« (1)، أو »فليس منّا« (2)، أو »فهو باطل« (3) ، فانّ هذه التعابير تناسب كون الخبر المخالف ممّا لم يصدر عن الأئمّة بتاتاً فيكون من قبيل تقديم الحجّة علي اللاحجّة فيخرج عن محط البحث.

4. الترجيح بمخالفة العامة

تضافرت الروايات علي أنّه إذا اختلفت الأخبار، يُقدّم ما خالف العامة، و ما ذلك إلاّ لأنّ الظروف القاسية دفعت بالأئمة إلي الإفتاء وفق مذاهبهم صيانة لدمائهم و صيانة نفوس شيعتهم، و لذلك جعل ما يشبه قولهم ممّا فيه التقية. (4)

و إليك نقل ما ورد في هذا المجال:

1. ما رواه عمر بن حنظلة عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)في مقبولته:جعلت فداك أ رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السنّة و وجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة و الآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: »ما خالف العامة ففيه الرَّشاد«.

فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال:» ينظر إلي ما هم إليه أميل، حكامهم و قضاتهم، فيترك و يؤخذ بالآخر«. (5)

و قد مرّ آنفاً انّ صدر الحديث و إن كان راجعاً إلي ترجيح حكم أحد القاضيين علي حكم الآخر، لكن بعد ما فرض الراوي مساواة القاضيين من حيث الصفات ارجع الإمام السائل إلي ملاحظة مصدر فتواهما، و انّه يقدم قضاء من حكم بخبر مجمع عليه بين الأصحاب علي من قضي بمصدر شاذ...

و من هنا انحدر كلام الإمام من بيان مرجّحات الحكمين إلي مرجّحات

ص: 203


1- . قد مضت هذه العنوانات في الأحاديث الآنفة الذكر.
2- . قد مضت هذه العنوانات في الأحاديث الآنفة الذكر.
3- . قد مضت هذه العنوانات في الأحاديث الآنفة الذكر.
4- . قد مضت هذه العنوانات في الأحاديث الآنفة الذكر.
5- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 46.

الرواية في مقام الإفتاء ليكون حلاً في مقام القضاء أيضاً، و كلّ ما جاء بعد الكلام في المجمع عليه يرجع إلي مرجحات الرواية.

و قد ورد الترجيح بمخالفة العامة في غير واحد من الروايات. (1) و ظهر انحصار المرجّح فيها.

5. الترجيح بالأحدثية

هناك روايات عديدة دلّت علي لزوم الأخذ بالأحدث من الحكمين، و إليك بعض ما يدلّ عليه.

1. روي المعلّي بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إذا جاء حديث عن أوّلكم و حديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ فقال: »خذوا به حتي يبلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله«. (2)

و لكن هذا القسم لا صلة له بباب المرجحات، لأنّ الأخذ بالأحدث ليس لأجل كونه بياناً للحكم الواقعي و الآخر علي خلافه بل يمكن أن يكون علي العكس، و إنّما وجب الأخذ بالأحدث، لأجل انّ إمام كلّ عصر أعرف بمصالح شيعته، مع أنّ كلاً من الخبرين بالنسبة إلي بيان الحكم الواقعي و عدمه سواء، و علي هذا يختص الترجيح بهذه المزيّة لعصرهم دون عصر الغيبة، لأنّه بالنسبة إلي الخبرين متساو.

نعم الأخذ بالأحدث إذا كان في كلام النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)ربما يكون لأجل كونه ناسخاً للأوّل، و أمّا في كلام الإمامين أو الإمام الواحد فلا يتصور فيه ذلك.

تمّ الكلام في الجهة الأُولي، و إليك الكلام في الجهة الثانية.

ص: 204


1- . لاحظ الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29، 30، 31، 34.
2- . الوسائل: 18، الباب 9من أبواب صفات القاضي، الحديث 8; و انظر أيضاً الحديث 9و17 من نفس الباب.
الجهة الثانية: لزوم الأخذ بالمرجِّح

المشهور هو لزوم الأخذ بذات المزية من الخبرين، و قد استدلّ علي القول المشهور بوجوه نشير إلي بعضها بوجه موجز:

أ. دعوي الإجماع علي الأخذ بأقوي الدليلين.

ب. لو لم يجب ترجيح ذي المزية لزم ترجيح المرجوح علي الراجح، و هو قبيح عقلاً بل ممتنع قطعاً.

إلي غيرها من الوجوه التي ربما ترتقي إلي خمسة، و الأولي أن يستدلّ علي وجوب الأخذ بالوجه التالي:

إنّ لسان الروايات هو لزوم الأخذ لا استحبابه، أمّا علي القول بأنّ الجميع يرجع إلي تميز الحجة عن اللاحجة فواضح، و أمّا علي القول بأنّها من مقولة المرجحات بعد وصف الخبرين بالحجّية، فلأنّ المتبادر من الجمل التالية هو اللزوم لا الفضل و الاستحباب.

أ: انّ المجمع عليه لا ريب فيه.

ب: ما وافق حكمه حكم الكتاب و السنّة فيؤخذ به و يترك ما خالف.

ج: ما خالف العامّة ففيه الرشاد.

د: ما وافق القوم فاجتنبه.

إلي غير ذلك من العنوانات الصريحة في لزوم الأخذ بالمرجح و ترك الآخر.

ص: 205

الجهة الثالثة: التعدّي من المنصوص إلي غيره

لو افترضنا انّ ما ذكر من المزايا مرجّحات للرواية، فهل يقتصر عليها في مقام الترجيح أو يتعدّي عنه إلي غيره كموافقة الإجماع المنقول أو موافقة الأصل و غيرهما؟ إنّ التعدّي يحتاج إلي حجة قطعية يقيد بها إطلاقات التخيير، و قد عرفت تضافر الروايات علي التخيير. (1) فالترجيح بغير المنصوص نوع تقييد لها و لم يدلّ دليل علي لزوم التعدي، و يؤيد المختار أمران:

الأوّل: لو كان الملاك هو العمل بكلّ مزية في أحد الطرفين، لكان الأنسب في الروايات الإشارة إلي الضابطة الكلية من دون حاجة إلي تفصيل المرجحات.

و لو قيل: إنّ الغاية من التفصيل هو إرشاد المخاطب إلي تلك المرجّحات، و لو لا بيان الإمام لما كان المخاطب علي علم بها.

قلت: نعم و لكن لا منافاة بين تفصيل المرجّحات و إعطاء الضابطة ليقف المخاطب علي وظيفته العملية في باب التعارض.

الثاني: انّ الإمام في مقبولة عمر بن حنظلة بعد فرض تساوي الخبرين أمر بالتوقف و إرجاء حكم الواقعة حتي يلقي الإمام، و لو كان العمل بكلّ ذي مزية واجباً لما وصلت النوبة إلي التوقّف إلاّ نادراً.

ص: 206


1- . علي القول بعدم اعراض الأصحاب عن روايات التخيير كما عليه الشيخ الأعظم قدَّس سرّه.
الجهة الرابعة: في التعارض علي نحو العموم و الخصوص من وجه

قد عرفت أنّ الجمع المقبول بين الروايتين مقدّم علي الأخبار العلاجية من التخيير و الترجيح.

كما عرفت أنّه إذا كانت النسبة بين الخبرين هو التباين، يجب العمل بالرواية ذات المزية و إلاّ فالتخيير.

بقي الكلام فيما إذا كان التعارض بين الخبرين علي نحو العموم من وجه، كما إذا دلّ الدليل علي نجاسة عذرة ما لا يؤكل لحمه، و دلّ دليل آخر علي طهارة عذرة كلّ طائر، فيفترق الدليلان في موردين:

أحدهما: عذرة الوحوش، فانّها داخلة تحت إطلاق الدليل الأوّل; و ثانيهما:عذرة الطائر الذي يؤكل لحمه، فانّها داخلة تحت إطلاق الدليل الثاني; و إنّما يتعارضان في الطائر غير المأكول لحمه كما فيما إذا كانت له مخالب، فهل المرجع هو التساقط و الرجوع إلي دليل آخر من اجتهادي كالعموم و الإطلاق، و أصل عملي إذا لم يكن دليل اجتهادي، أو المرجع هو الأخبار العلاجية من الترجيح أوّلاً و التخيير ثانياً؟ و الظاهر هو القول الأوّل، لأنّ المتبادر من الأخبار العلاجية هو دوران الأمر بين الأخذ بالشيء بتمامه و ترك الآخر كذلك، أو بالعكس كما هو الظاهر من قوله:

»أحدهما يأمر و الآخر ينهي« و الأمر في العامين من وجه ليس كذلك، إذ لا يدور الأمر بين الأخذ بواحد منهما و ترك الآخر أو بالعكس، بل يؤخذ بكلّ في

ص: 207

موردي الافتراق، و إنّما الاختلاف في مورد الاجتماع، فالعُقاب بما انّه حيوان غير مأكول يحكم علي فضلته بالنجاسة، و بما انّه طائر يحكم عليها بالطهارة.

و منه يعلم حكم أخبار العرض علي الكتاب و السنّة و فتاوي العامة، فإنّ الظاهر هو الأخذ بتمام ما وافق كتاب اللّه و ترك تمام ما خالفه، و مثله ما وافق العامة أو خالفها، فإنّ المتبادر هو أخذ تمام ما خالف العامة و ترك كلّ ما وافقهم، و الأمر في العموم من وجه ليس كذلك، لأنّه يؤخذ بكلا الدليلين و لا يترك الآخر بتاتاً.

سؤال و إجابة ما الفرق بين »صل« و »لا تغصب«، و قولنا:»أكرم العلماء« و »لا تكرم الفساق«؟ حيث يعد الأوّل من باب التزاحم بخلاف الآخر حيث يعد من باب التعارض، و لم نجد أحداً يعالج المثال الأوّل من باب التعارض، كما لم نجد من يعالج المثال الثاني من باب التزاحم مع أنّ المثالين من باب واحد.

و الجواب: انّه إذا أحرز الملاك و المناط في متعلّق كلّ واحد من الإيجاب و التحريم مطلقاً حتي في مورد التصادق و الاجتماع، فهو من باب التزاحم; و أمّا إذا لم يحرز مناط كلّ من الحكمين في مورد التصادق، سواء أحرز مناط أحد الحكمين بلا تعيين، كما إذا كان أحد الدليلين قطعياً أو لم يحرز المناط في كلّ من المتعلّقين كالخبرين الواحدين فهما من باب التعارض. و قد مرّ الايعاز إليه في الجز الأوّل عند البحث في اجتماع الأمر و النهي.

تمّ الكلام في المقصد الثامن و يليه البحث في الاجتهاد و التقليد

ص: 208

خاتمة: في الاجتهاد و التقليد

اشارة

و فيها فصلان:

الفصل الأوّل: في الاجتهاد و أحكامه، و فيه مسائل:

الأُولي: الاجتهاد لغة و اصطلاحاً.

الثانية: جواز عمل المجتهد برأيه.

الثالثة:حرمة رجوع المجتهد إلي غيره.

الرابعة: جواز رجوع العامي إلي المجتهد.

الخامسة: نفوذ حكم المجتهد و قضائه.

السادسة: في الاجتهاد التجزئي.

السابعة: مقدمات الاجتهاد.

الثامنة: في التخطئة و التصويب.

التاسعة: في تأثير الزمان و المكان في الاجتهاد.

الفصل الثاني: في التقليد و أحكامه، و فيه مسائل:

الأُولي: التقليد لغة و اصطلاحاً.

الثانية: في جواز التقليد.

الثالثة: في وجوب تقليد الأعلم.

الرابعة: في تقليد الميت ابتداء.

الخامسة: في البناء علي تقليد الميت.

السادسة: في العدول من مجتهد إلي مجتهد آخر.

ص: 209

ملاحظة مهمّة

إنّ البحث في الاجتهاد و التقليد و إن لم يكن من المسائل الأُصولية، و لكنّه مشحون بمسائل هامة لا غني للفقيه عنها، فلأجل ذلك ذيّلنا المقصد الثامن بمباحث الاجتهاد و التقليد هذا من جانب.

و من جانب آخر يمكن أن ينتهي العام الدراسي دون أن تسنح الفرصة للأُستاذ للتطرق إلي هذا المبحث . فعند ذاك فبإمكان الأُستاذ حثّ التلاميذ علي مطالعته استيفاءً للغاية المتوخاة من وراء هذا البحث.

ص: 210

الفصل الأوّل: في الاجتهاد و أحكامه

اشارة

و يقع الكلام في هذا الفصل في عدّة مسائل:

المسألة الأُولي: الاجتهاد لغة و اصطلاحاً

الاجتهاد لغة مأخوذ من الجهد بضم الجيم بمعني الطاقة و الوسع، و بفتحها بمعني المشقة; فهو إمّا بمعني بذل الطاقة و الوسع، أو تحمّل الجهد و المشقّة. يقال: اجتهد في حمل الرحي و لا يقال: اجتهد في حمل الخردلة، لوجود الملاك في الأوّل دون الثاني.

و أمّا اصطلاحاً، فقد عرّفه بهاء الدين العاملي بأنّه عبارة عن ملكة يقتدر بها علي استنباط الحكم الشرعي الفرعي من أدلّته فعلاً أو قوّة قريبة منه. (1)

قوله: »فعلاً أو قوة« قيدان للاستنباط لا للملكة للزوم فعليّتها، و أمّا الاستنباط فينقسم إلي ما »بالفعل« كمن تهيّأت له أسبابه و لم يبق إلاّ المراجعة; و إلي ما »بالقوة« كمن لم تتهيّأ له أسبابه كفقد الكتب.

و كان عليه إضافة قيد آخر و هو استنباط الوظيفة الفعلية، كأن يقول: ملكة يقتدر بها علي استنباط الحكم الشرعي الفرعي أو الوظيفة الفعلية، و ذلك كما في مجاري الأُصول، فإنّ المستنبَط فيها هو الوظيفة في حال الشكّ لا الحكم الواقعي.

ثمّ إنّ الاجتهاد وقع موضوعاً لأحكام عديدة سنشير إلي بعضها:

ص: 211


1- . زبدة الأُصول:141.
المسألة الثانية: جواز عمل المجتهد برأيه

إنّ عمل المجتهد برأيه من القضايا التي قياساتها معها، لأنّه إمّا عالم بالحكم الواقعي وجداناً، كما في صورة العلم القطعي; أو عالم به تعبّداً ، كما في مورد الطرق و الأُصول الشرعية; و إمّا عالم بالوظيفة العملية، كما في موارد الأُصول العقلية، و للعالم، العمل بعلمه.

المسألة الثالثة: حرمة رجوع المجتهد إلي الغير

إذا تمكّن المجتهد من الاستنباط فقط، أو خاض فيه و استحصل الأحكام الشرعية بالطرق المألوفة، فهل يجوز له ترك الاستنباط أو ترك رأيه و الركون إلي رأي غيره أو لا؟ المشهور العدم و لم ينقل الجواز عن أحد.

و ذلك لانصراف ما دلّ علي جواز التقليد عمّن له ملكة الاجتهاد، و اختصاصه بمن لا يتمكّن من تحصيل العلم بها. أضف إليه انّه ربّما يخطِّئ الغيرَ باجتهاده، إذا اجتهد فكيف يرجع إليه و يأخذ برأيه؟! خصوصاً إذا خاض و تبيّن خطأ الغير.

المسألة الرابعة: جواز رجوع العامي إلي المجتهد و تقليده

إنّ رجوع العامي إلي المجتهد أمر ثابت بالسيرة ،لأنّه من فروع رجوع الجاهل إلي العالم، و العامي إلي المتخصّص، و سيوافيك شرحه في فصل التقليد.

المسألة الخامسة: نفوذ حكم المجتهد و قضائه

لمّا كان القضاء بين الناس ملازماً للتصرّف في أموالهم و أنفسهم، احتاج التلبّس به إلي ولاية حقيقية، يمارس في ظلّها ذلك العمل، و ليست هي إلاّ للّه

ص: 212

سبحانه، قال سبحانه:( إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (1) ) (2).

و بما انّ من لوازم القضاء كون المتصدّي له، مجانساً للمتحاكمين، نصب سبحانه أنبياءه و أولياءه قضاة للناس، يحكمون فيهم بما أنزل اللّه سبحانه و لا يحيدون عنه قيدَ شعرة، قال سبحانه:( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوي فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ (3) ) (4).

و قال سبحانه في حقّ النبي(صلي الله عليه و آله و سلم):( فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّي يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (5) ) (6).

و قال سبحانه في حقّ ولاة الأمر:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (7) ) (8).

و قد عرّف النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)أُولي الأَمر الذين هم أوصياؤه بأسمائهم و خصوصياتهم واحداً تلو الآخر. (9)

فهؤلاء هم القضاة المنصوبون من اللّه سبحانه بأسمائهم و خصوصياتهم، و أمّا بعد ارتحال النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)و عدم التمكّن من الوصيّ المنصوب سواء أ كان في عصر الحضور أو عصر الغيبة، عيّنت الشريعة رجالاً لتصدّي القضاء عرّفتهم بصفاتهم و سماتهم لا بأسمائهم، و هم كما في مقبولة عمر بن حنظلة عند ما قال السائل: فكيف يصنعان؟ قال(عليه السلام): »ينظران إلي من كان منكم ممّن روي حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنّه استخفَّ بحكم اللّه و علينا ردَّ، و الرادّ علينا رادّء.

ص: 213


1- سوره 6 - آيه 57
2- . الأنعام:57.
3- سوره 38 - آيه 26
4- . ص:26.
5- سوره 4 - آيه 65
6- . النساء:65.
7- سوره 4 - آيه 59
8- . النساء:59.
9- . البرهان في تفسير القرآن: 1/381 في تفسير الآية 59 من سورة النساء.

علي اللّه، و هو علي حدّ الشرك باللّه«. (1)

و الإمعان في القيود الواردة في الرواية تُثبت بأنّ ولاية القضاء لا ينالها إلاّ الموصوف بالصفات التالية:

1. أن يكون شيعياً إمامياً بقرينة قوله:»من كان منكم«.

2. أن يحكم بحكمهم، فلو حكم بحكم غيرهم لا ينفذ حكمه لقوله:»فإذا حكم بحكمنا...«.

3. أن يكون راوياً لحديثهم، لقوله:»روي حديثنا...«.

4. أن يكون صاحب نظر في الحلال و الحرام لقوله:»و نظر في حلالنا و حرامنا...«.

5. أن يكون خبيراً في الوقوف علي أحكامهم(عليهم السلام)لقوله:»و عرف أحكامنا «.

و من الواضح انّ هذه التعابير لا تنطبق إلاّ علي المجتهد في عصرنا هذا.

و هناك روايات أُخر تدعم ولاية الفقيه للقضاء تركنا ذكرها للاختصار، و أمّا تصدّي غير المجتهد سواء كان مقلّداً أو مجتهداً متجزّئاً ففيه تفصيل يطلب من كتاب القضاء. (2)

المسألة السادسة: في الاجتهاد التجزّئي

الاجتهاد التجزّئي عبارة عن تمكّن الإنسان من استنباط بعض الأحكام دون بعض، مثلاً انّ أبواب الفقه مختلفة مدركاً، و المدارك مختلفة سهولة و صعوبة، فربّ شخص ضالع في النقليات دون العقليات و كذلك العكس، و هذا يمكِّنُ له الاستنباط في بعضها دون بعض، علي أنّ حصول الاجتهاد المطلق ليس أمراً دفعياً،

ص: 214


1- . الكافي:1/76، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث.
2- . لاحظ كتابنا »القضاء في الشريعة الإسلامية الغرّاء«.

بل يتوقف علي التدرّج شيئاً فشيئاً، فالمجتهد في بادئ ذي بدء لم يكن مجتهداً مطلقاً بل كان متجزئاً ثمّ صار مجتهداً مطلقاً، و أمّا أحكامه فنقول:

يجوز له العمل بما استنبط، و إلاّ فأمامه طريقان:

أ. العمل بالاحتياط.

ب. الرجوع إلي الغير.

و الأوّل غير واجب باتّفاق الكلّ، و جواز الثاني موقوف علي تحقّق موضوعه، و هو كونه غير عالم أو جاهل، فلا يعم العالم، و المفروض أنّه عالم بالحكم و لو في موارد خاصّة.

و أمّا رجوع الغير إليه و تقليده له، فإن كان هناك من هو أفقه منه و قلنا بوجوب الرجوع إلي الأفقه فلا يجوز الرجوع إلي المتجزّئ في المقام، و إلاّ فلا مانع من الرجوع إليه و يكون المتجزّئ و المطلق في جواز الرجوع سيّان، غير أنّ الكلام في جواز الرجوع إلي غير الأفقه كما سيوافيك.

المسألة السابعة: مقدّمات الاجتهاد

الاجتهاد يتوقّف علي مقدّمات نشير إليها بوجه موجز، فنقول:

الأوّل: الوقوف علي القواعد العربية علي وجه يقف علي ضوئها علي مراد المتكلّم، و لا يشترط أن يكون مجتهداً في العلوم العربية، بل يكفيه الرجوع إلي أهل الخبرة.

الثاني: الوقوف علي معاني المفردات حتي يُميّز المعني الحقيقي عن المجازي، و يعرف الكنايات و الاستعارات الواردة في الكتاب و السنّة، و لا يشترط أن يكون لغويّاً محقّقاً في اللغة، و يكفيه في تفسير المفردات الرجوعُ إلي أُمّهات الكتب اللغويّة و معاجم اللغة، ك»العين« للخليل بن أحمد الفراهيدي، و»لسان العرب«

ص: 215

لابن منظور الإفريقي، و»النهاية في غريب الحديث« للجزري، و»مجمع البحرين« للطريحي.

و لأجل الوقوف علي أُصول المعاني و الفروع التي اشتق منها لا بدّ من الرجوع إلي كتاب »مقاييس اللغة« لأحمد بن فارس و»أساس البلاغة« للزمخشري.

الثالث: معرفة الكتاب و السنّة اللّذين هما مصدران أساسيان للاستنباط و يعدّان حجر الأساس له; فلا بدّ للفقيه أن يستنير بنورهما في كلّ مسألة، فيرجع إلي الكتاب العزيز أوّلاً و يدرس الآيات التي لها مساس بالموضوع، ثمّ يعرّج إلي السنّة.

و بذلك يظهر أنّ علمي التفسير و الحديث من مقدمات الاجتهاد و لا غني لمجتهد عن معرفتهما.

و المعروف أنّ عدد الآيات التي تستنبط منها أكثر الأحكام لا تتجاوز عن ثلاثمائة آية، و لكن ثمّة آيات لا تعد من آيات الأحكام و لكن يمكن استنباط أحكام فرعية منها، و علي ذلك لو ضمت تلك إلي آيات الأحكام لجاوزت العدد المذكور، و قد استنبط بعض الفقهاء من سورة »المسد« أحكاماً شرعية مختلفة، و كذلك من قوله تعالي حاكياً كلام شعيب:( قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَي ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلي أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ* قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اللّهُ عَلي ما نَقُولُ وَكِيلٌ (1) ) (2) فقد استنبط بعض الفقهاء من الآيتين أحكاماً في النكاح و الإجارة.

الرابع: الوقوف علي المسائل الأُصولية التي تدور عليها رحي الاستنباط، فلو7.

ص: 216


1- سوره 28 - آيه 27
2- . القصص:2827.

لم يثبت عنده مثلاً حجية الخبر الواحد لم يكن بإمكانه استنباط الأحكام الشرعية و تشخيص الوظائف العملية.

الخامس:علم الرجال و معرفة الثقات من الضعاف، فلو قلنا بأنّ الحجّة هي وثاقة الراوي، فيتوقف إحرازها علي ذلك العلم; و لو قلنا بأنّ الحجّة هو الخبر الموثوق الصدور، فالعلم بوثاقة الراوي يحصِّل الوثوق بصدوره. و يلحق به علم الدراية حتي يقف علي أقسام الرواية من الصحيح و الحسن و الموثق و الضعيف حسب صفات الراوي.

السادس: معرفة المذاهب الفقهية الرائجة في عصر الأئمّة(عليهم السلام)التي كان عمل القضاة عليها و كان الناس يرجعون إليهم، فإنّ في معرفة تلك المذاهب تمييزَ ما صدر عنهم عن تقية عمّا صدر عن غيرها.

و أمّا المذاهب الأربعة المعروفة، فإنّها صارت رائجة بعد أعصارهم(عليهم السلام); و أفضل كتاب في هذا الموضوع كتاب »الخلاف« للشيخ الطوسي.

و سبب التأكيد علي معرفة المذاهب المعاصرة لأئمّة أهل البيت، هو أنّ لأخبارهم و كلماتهم أسباب صدور و ليست إلاّ فتاوي فقهاء عصرهم، فهذه الفتاوي كالقرينة المتصلة لفهم أخبارهم، فلا يمكن غضّ النظر عنها.

السابع: معرفة الشهرة الفتوائية، و قد وقفت علي أهمّيتها عند البحث عن حجّية الشهرة، و قلنا إنّ الشهرة علي أقسام ثلاثة:

1. روائية. 2. عملية. 3. فتوائية. و الأخيرة كاشفة عن وجود النص، أو كون الحكم مشهوراً عند أصحاب الأئمّة، و الثانية أي عمل الأصحاب بالرواية و الإعراض عن مخالفها يوجب خروج المعارض عن الحجية.

و في الفقه الشيعي مسائل كثيرة ليس عليها دليل سوي الشهرة. حسب ما كان يراه سيّد مشايخنا العلاّمة البروجردي(قدس سره).

ص: 217

الثامن: ممارسة الفروع الفقهية لتنمية قدرته علي الاستنباط، و قد كانت مجالس العلماء سابقاً حافلة بذكر الفروع الفقهية، و كانت عملية التدريب دائرة فيها علي قدم و ساق.

التاسع: معرفة القواعد الفقهية التي هي خير وسيلة لاستخراج الأحكام الجزئية من الأحكام الكلية، فلا محيص للطالب عن الرجوع إلي: كتاب»القواعد و الفوائد« للشهيد الأوّل، ثمّ »نضد القواعد« للفاضل المقداد السيوري، و»تمهيد القواعد« للشهيد الثاني و غيرها.

العاشر: معرفة المسائل الرياضية و الهندسية و علم الهيئة التي تسهّل استنباط أحكام المواريث، و تعيين القبلة، و المقادير الواردة في الكر و الزكاة، و غيرها.

فمن توفرت فيه تلك المقدّمات، يصبح مؤهلاً لاستنباط أحكام الموضوعات بعد الدقة و الفحص و الممارسة و التمرين و الاستئناس بالمسائل و الأقوال.

المسألة الثامنة: في التخطئة و التصويب
اشارة

في التخطئة و التصويب اصطلاحان للفقهاء:

الأوّل: انّ للّه سبحانه حكماً مشتركاً للعالم و الجاهل، فالمجتهد قد يصيبه و قد لا يصيبه، فلو اختلفت آراء المجتهدين فالمصيب واحد و غيره مخطئ. و بذلك وُصفوا بالمخطِّئة، لأنّهم لا يصفون كلّ اجتهاد بالصواب و تقابلها »المصوبة« التي تنكر حكم اللّه المشترك بين العالم و الجاهل، و تخص أحكامه سبحانه بالعالمين به. و هذا هو التصويب المستلزم للدور المعروف، و التصويب بهذا المعني خارج عن موضوع بحثنا و لعلّه صرف افتراض لا قائل به و المهم هو التصويب بالمعني الآتي.

الثاني: تفويض التشريع إلي المجتهدين في خصوص ما لا نصّ فيه من

ص: 218

الشارع، فيكون كلّ رأي صواباً لعدم وجود واقع محدَّد حتي يوصف المطابق بالصواب، و غيره بالخطإ، و بذلك وُصِفُوا بالمصوّبة، لأنّهم يصفون كلّ اجتهاد بالصواب. و علي هذا القول يكون الاجتهاد من منابع التشريع و مصادره، بخلافه علي القول الآخر فإنّ الاجتهاد عليه لا يعدو عن بذل جهد لإصابة الواقع المحدَّد، فما ربما يُري في بعض كلمات أهل السنّة من عدِّ الاجتهاد من منابع التشريع مبني علي ذاك القول.

غير أنّ اللازم معرفة المواضع التي تضاربت فيها الآراء فصارت طائفة إلي التخطئة و أُخري إلي التصويب (1)، و يظهر ذلك بمعرفة المواضع التي اتّفقوا فيها علي التخطئة، و نذكر منها ما يلي:

1. لا تصويب في الأُصول و المعارف

اتّفق المسلمون علي أنّ الحقّ في الأُصول و المعارف أمر واحد، و ما وافقه هو الحقّ و الصواب، و ما خالفه هو الخطأ، و لم يقل أحد من المسلمين إلاّ من شذّ بتصويب جميع الآراء. (2)

قال المرتضي: إنّ الأُصول المبنيّة علي العلم نحو التوحيد و العدل و النبوة لا يجوز أن يكون الحقّ فيها إلاّ واحداً، لأنّ اللّه تعالي لا يجوز أن يكون جسماً أو غير جسم، يُري و لا يُري علي وجهين مختلفين. (3)

و قال الشيخ الطوسي: اعلم أنّ كلّ أمر لا يجوز تغييره عمّا هو عليه فلا

ص: 219


1- . أي التصويب و التخطئة بالمعني الثاني فلا تغفل.
2- . نقل الغزالي انّ عبد اللّه بن الحسن الغيري ذهب إلي أنّ كلّ مجتهد مصيب في العقليات كما في الفروع(لاحظ المستصفي:2/359). و لعلّ مراده من التصويب في العقائد كونه مثاباً.
3- . الذريعة:2/793.

خلاف بين أهل العلم أنّ الاجتهاد في ذلك لا يختلف، و أنّ الحقّ واحد، و أنّ من خالفه ضال فاسق و ربما كان كافراً، و ذلك نحو القول بأنّ العالم قديم أو حادث، و إذا كان حادثاً هل له صانع أو لا؟ (1)

2. لا تصويب في الموضوعات الخارجية

كما أنّ الحقّ في الأُصول و المعارف واحد، فكذلك في الموضوعات ; كالقبلة; فلو اختلفت الأمارة في تعيين القبلة، فإحداهما مخطئة و الأُخري مصيبة; و هكذا الحال في أرش الجنايات.

3. لا تصويب في الأحكام العقليّة البديهية

إنّ كلّ موضوع ثبت حكمه ببداهة العقل فالحقّ فيه واحد لا غير، و هذا كالظلم و العبث و الكذب فإنّها قبيحة عند الكل، كما أنّ شكر المنعم و ردّ الوديعة و الإنصاف حسن علي كلّ حال. نعم حكي بأنّ كلّ مجتهد فيها مصيب، لكنّه قول شاذ. (2)

4. لا تصويب في المسائل المنصوصة
اشارة

إذا كان في المسألة نص قطعي السند و الدلالة، فلا موضوع للاجتهاد فيها، و بالتالي لا موضوع للتصويب و التخطئة.

قال الشافعي: أجمع الناس علي أنّ من استبانت له سنّة عن رسول اللّه، لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.

و تواتر عن الشافعي أنّه قال: و إن صحّ الحديث، فاضربوا بقولي الحائطَ.

ص: 220


1- . العدّة:2/113.
2- . العدّة: 2/113.

و قال أيضاً: إذا رَوَيتُ عن رسول اللّه حديثاً و لم آخذ به، فاعلموا أنّ عقلي قد ذهب.

و قال: لا قول لأحد مع سنّة رسول اللّه. (1)

فتعيّن من خلال ذلك انّ المواضع الأربعة السابقة لا مجال فيها للقول بالتصويب، و الرأي الصائب فيها واحد و غيره خاطئ.

إذا عرفت خروج المواضع السالفة الذكر عن محط النزاع، و انّ جمهور الفقهاء إلاّ من شذّ قائلون فيها بالتخطئة، يُعلم منه أنّ النزاع يختص بالمسائل التي لم يرد حكمها في الكتاب و السنّة، فمن قال بأنّ للّه سبحانه في نفس تلك المسائل التي لم يرد فيها نص، حكم مشترك بين الناس، فالآراء عند قياسها به يوصف الموافق منها بالصواب و المخالف بالخطإ، و من أنكر وجود ذلك الحكمَ المشترك، في نفس المورد يري الجميع صواباً، و كانَ الحكم الشرعي مفوّضاً إلي تشخيص المجتهد و رؤيته، فيصح الجميع علي حد سواء.

و ممن صرّح بتخصيص محل النزاع بما لا نص فيه هو الغزالي، قال: قد ذهب قوم إلي أنّ كلّ مجتهد في الظنّيات مصيب، و قال قوم: المصيب واحد، و اختلف الفريقان جميعاً في أنّه هل في الواقعة التي لا نصّ فيها، حكم معين للّه تعالي هو مطلوب المجتهد، فالذي ذهب إليه محقّقو المصوّبة انّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معين يطلب بالظن، بل الحكم يتبع الظن، و حكم اللّه تعالي علي كلّ مجتهد، ما غلب علي ظنّه و هو المختار، و إليه ذهب القاضي. (2)

إذا عرفت ذلك فنقول:

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت انّ للّه سبحانه حكماً مشتركاً في3.

ص: 221


1- . أعلام الموقعين:2/922.
2- . المستصفي:2/363.

كلّ واقعة و انّه سبحانه لم يترك الحوادث سدي، بل شرّع لها أحكاماً خاصة، و لم يُفوِّض أمر التشريع بيد أحد، و نكتفي بالقليل من تلك الروايات:

1. قال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): »إنّ اللّه تبارك و تعالي لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلاّ أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله(صلي الله عليه و آله و سلم)، و جعل لكلّ شيء حدّاً، و جعل عليه دليلاً يدل عليه، و جعل لمن تعدّي ذلك الحدّ حدّاً«. (1)

2. روي حمّاد، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: سمعته يقول:»ما من شيء إلاّ و فيه كتاب أو سنّة«. (2)

3. روي سماعة، عن أبي الحسن موسي(عليه السلام)، قال: قلت له: أكل شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيه أو تقولون فيه؟ قال: »بل كل شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه«. (3)

4. و قال النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)في خطبة حجّة الوداع:»يا أيّها الناس و اللّه ما من شيء يقرّبكم من الجنة و يبعّدكم عن النار إلاّ و قد أمرتكم به، و ما من شيء يقرّبكم من النار و يبعّدكم عن الجنّة إلاّ و قد نهيتكم عنه«.

5. روي (4) الترمذي عن أبي هريرة، عن رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم)قال: »إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، و إذا حكم فأخطأ فله أجر واحد«. (5)

6. سئل أبو بكر عن حكم الكلالة، فقال: إنّي سأقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن اللّه وحده لا شريك له، و إن كان خطأ فمنّي و من الشيطان و اللّه منه بريء. (6)0.

ص: 222


1- . الكافي:1، باب الرد إلي الكتاب و السّنة و انّه ليس شيء من الحلال و الحرام و جميع ما يحتاج إليه إلاّ و قد جاء فيه كتاب أو سنّة، الحديث 2، 4، 10.
2- . الكافي:1، باب الرد إلي الكتاب و السّنة و انّه ليس شيء من الحلال و الحرام و جميع ما يحتاج إليه إلاّ و قد جاء فيه كتاب أو سنّة، الحديث 2، 4، 10.
3- . الكافي:1، باب الرد إلي الكتاب و السّنة و انّه ليس شيء من الحلال و الحرام و جميع ما يحتاج إليه إلاّ و قد جاء فيه كتاب أو سنّة، الحديث 2، 4، 10.
4- . الكافي: 2/74، الحديث 2.
5- . الترمذي: السنن: 2/391برقم 1341.
6- . الدر المنثور: 2/250.

تكشف هذه الروايات و الكلم بوضوح عن وجود الحكم المشترك، و انّ للّه سبحانه حكماً للجميع من غير فرق بين ما إذا ورد فيه النص و ما لا نص فيه، غاية الأمر يكون المجتهد فيما لا نصّ فيه معذوراً إذا أخطأ.

و قد ذهب أصحابنا تبعاً للروايات انّ للّه سبحانه في كلّ واقعة حكماً معيناً يتّجه إليه المجتهد، فيصيبه تارة و يخطئه أُخري.

قال الشيخ الطوسي: ذهب أكثر المتكلّمين و الفقهاء إلي أنّ كلّ مجتهد مصيب في اجتهاده و في الحكم.

و هو مذهب أبي علي و أبي هاشم و أبي الحسن الأشعري و أكثر المتكلّمين، و ذهب الأصم (1) و بشر المريسي (2)إلي أنّ الحقّ واحد و انّ ما عداه خطأ.

ثمّ قال: و الذي أذهب إليه و هو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين من المتقدّمين و المتأخّرين، و هو الذي اختاره سيدنا المرتضي، و إليه كان يذهب شيخنا أبو عبد اللّه(المفيد)، انّ الحقّ واحد.

تنبيه

ثمّ إنّ السبب الذي دعا أهل السنّة إلي القول بالتصويب هو قلّة الروايات النبوية في الأحكام الشرعية، فأصبح قسم هائل من الموضوعات عندهم ممّا لا نصّ فيه، فظنّوا انّ عدم ورود النص من الشرع قرينة علي تفويض حكمها إلي المجتهدين، فما استخرجه المجتهد علي ضوء المعايير و المقاييس يُصبح حكماً شرعياً للّه تبارك و تعالي، سواء أ وجِد المخالف أم لا، فالجميع علي صواب.

ص: 223


1- . هو عبد الرحمن بن كيسان المعتزلي الأُصولي المتوفّي عام 225ه.
2- . هو بشر بن غياث المريسي، فقيه معتزلي، و هو رأس الطائفة المريسية، و أُوذي في دولة هارون الرشيد، توفّي عام 218ه.
المسألة التاسعة: تأثير الزمان و المكان في الاجتهاد
اشارة

قد يُطرح الزمان و المكان بما انّهما ظرفان للحوادث و الطوارئ الحادثة فيهما، و قد يطرحان و يراد منهما المظروف، أساليب الحياة و الظروف الاجتماعية حسب تقدّم الحضارة، و الثاني هو المراد من المقام.

ثمّ إنّه يجب أن يفسر تأثير الزمان و المكان بالمعني المذكور في الاجتهاد، علي وجه لا يعارض الأُصول المسلّمة في التشريع الإسلامي، و نشير إلي أصلين منها.

الأوّل: انّ من مراتب التوحيد هو التوحيد في التقنين و التشريع، فلا مشرّع و لا مقنّن سواه، قال تعالي:

( إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (1) ) (2) و المراد من الحكم هو الحكم التشريعي بقرينة قوله:( أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ (3) ).

و قال سبحانه:( قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحي إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (4) ) (5).

الثاني: انّ الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم)خاتم الأنبياء، و كتابه خاتم الكتب، و شريعته خاتمة الشرائع، فحلاله حلال إلي يوم القيامة، و حرامه حرام إلي يوم القيامة.

روي زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام)عن الحلال و الحرام، قال: »حلال محمد حلال أبداً إلي يوم القيامة لا يكون غيرُه و لا يجيء غيرُه، و حرامه حرام أبداً إلي يوم القيامة لا يكون غيره و لا يجيء غيره« و قال: قال علي(عليه السلام):»ما أحد ابتدع بدعة إلاّ ترك بها سنّة«. (6)

ص: 224


1- سوره 12 - آيه 40
2- . يوسف:40.
3- سوره 12 - آيه 40
4- سوره 10 - آيه 15
5- . يونس:15.
6- . الكافي: 1/58، الحديث 19; و بهذا المضمون أحاديث كثيرة.

و علي ضوء هذين الأصلين يجب أن يفسر تأثير الزمان و المكان في استنباط الأحكام.

و ممن أشار إلي هذه المسألة من علمائنا، المحقّق الأردبيلي، حيث قال:و لا يمكن القول بكلية شيء، بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيات و الأحوال و الأزمان و الأمكنة و الأشخاص و هو ظاهر، و باستخراج هذه الاختلافات و الانطباق علي الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف، امتياز أهل العلم و الفقهاء، شكر اللّه سعيهم و رفع درجاتهم. (1)

و هناك كلمة مأثورة عن الإمام السيد الخميني(قدس سره)حيث قال: إنّي علي اعتقاد بالفقه الدارج بين فقهائنا و بالاجتهاد علي النهج الجواهري، و هذا أمر لا بدّ منه، و لا يعني ذلك انّ الفقه الإسلامي لا يواكب حاجات العصر، بل انّ لعنصري الزمان و المكان تأثيراً في الاجتهاد، فقد يكون لواقعة حكم لكنّها تتخذ حكماً آخر علي ضوء الأُصول الحاكمة علي المجتمع و سياسته و اقتصاده. (2)

إنّ القول بأنّ عنصري الزمان و المكان لا تمسّان كرامة الأحكام المنصوصة في الشريعة، مما اتّفقت عليه أيضاً كلمة أهل السنّة حيث إنّهم صرّحوا بأنّ العاملين المذكورين يؤثران في الأحكام المستنبطة عن طريق القياس و المصالح المرسلة و الاستحسان و غيرها، فتغيير المصالح ألجأهم إلي الحكم بتغيير الأحكام الاجتهادية لا المنصوصة. يقول الأُستاذ مصطفي أحمد الزرقاء:

و قد اتّفقت كلمة فقهاء المذاهب علي أنّ الأحكام التي تتبدّل بتبدّل الزمان و أخلاق الناس، هي الأحكام الاجتهادية من قياسية و مصلحية أي التي قررها8.

ص: 225


1- . مجمع الفائدة و البرهان:3/436، و قد سبقه غيره، و قد أوردنا كلماتهم في رسالة مبسطة طبعت في كتاب »رسائل و مقالات«، ج2، فلاحظ.
2- . صحيفة النور:21/98.

الاجتهاد بناء علي القياس أو علي دواعي المصلحة و هي المقصودة من القاعدة المقررة »تغيير الأحكام بتغيّر الزمان«.

أمّا الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها و توطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة، الناهية كحرمة المحرّمات المطلقة، و كوجوب التراضي في العقود، و التزام الإنسان بعقده، و ضمان الضرر الذي يُلحقه بغيره، و سريان إقراره علي نفسه دون غيره، و وجوب منع الأذي و قمع الإجرام، وسد الذرائع إلي الفساد و حماية الحقوق المكتسبة، و مسئولية كل مكلف عن عمله و تقصيره، و عدم مؤاخذة بريء بذنب غيره، إلي غير ذلك من الأحكام و المبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها و مقاومة خلافها، فهذه لا تتبدّل بتبدل الأزمان، بل هي الأُصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان و الأجيال، و لكن وسائل تحقيقها و أساليب تطبيقها قد تتبدّل باختلاف الأزمنة المحدثة. (1)

و علي هذا فيجب أن يفسر تأثير العاملين بشكل لا يمسُّ الأصلين المتقدمين.

و اعلم أنّ تأثير العنصرين علي أقسام، و إليك البيان:

الأوّل: تأثير الزمان و المكان في صدق الموضوعات

إنّ تبدّل الموضوع يراد منه تارة انقلابه إلي موضوع آخر كصيرورة الخمر خلاً و النجس تراباً، و هذا غير مراد في المقام قطعاً.

و أُخري صدق الموضوع علي مورد في زمان و مكان و عدم صدقه علي ذلك المورد في زمان و مكان آخر، و ما هذا إلاّ لمدخلية الظروف و الملابسات فيها.

ص: 226


1- . المدخل الفقهي العام:9252/924.

و يظهر ذلك بالتأمّل في الموضوعات التالية:

1. الاستطاعة. 2. الفقر. 3. الغني. 4. بذل النفقة للزوجة. 5. و إمساكها بالمعروف حسب قوله سبحانه:( فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (1) ) (2).

فإن هذه العنوانات موضوعات لأحكام شرعية، واضحة و لكن محقّقاتها تختلف حسب اختلاف الزمان و المكان، فمثلاً:

1. التمكّن من الزاد و الراحلة التي هي عبارة أُخري عن الاستطاعة، له محقّقات مختلفة عبْر الزمان، فربما تصدق علي مورد في ظرف و لا تصدق عليه في ظرف آخر، كما هو الحال في إمساك الزوجة بالمعروف فإنّها تختلف حسب الظروف الاجتماعية، و تبدّل أساليب الحياة، و لا بعد إذا قلنا انّ فقير اليوم غنيّ الأمس.

2. في صدق المثلي و القيميّ، و قد جعل الفقهاء ضابطة للمثلي و القيمي و في ظلّها، عدّوا الحبوب من قبيل المثليات، و الأواني و الألبسة من قبيل القيميات، و ذلك لكثرة وجود المماثل في الأُولي و ندرته في الثانية، و كان ذلك الحكم سائداً حتي تطورت الصناعة تطوراً ملحوظاً فأصبحت تُنتج كميات هائلة من الأواني و المنسوجات لا تختلف واحدة عن الأُخري قيد شعرة، فأصبحت القيميات بفضل الازدهار الصناعي، مثليات.

3. في صدق المكيل و الموزون حيث إنّ الحكم الشرعي هو بيع المكيل بالكيل، و الموزون بالوزن، و لا يجوز بيعهما بالعدّ، و لكن هذا يختلف حسب اختلاف البيئات و المجتمعات، و يلحق لكلّ، حكمه.

و من أحكامهما انّه لا تجوز معاوضة المتجانسين متفاضلاً إلاّ مثلاً بمثل، إذا1.

ص: 227


1- سوره 2 - آيه 231
2- . البقرة:231.

كانا من المكيل و الموزون، دون المعدود و المزروع، و هذا يختلف حسب اختلاف الزمان و المكان فربما جنس يباع بالكيل و الوزن في بلد و بالعدّ في بلد آخر، و هكذا يلحق لكلّ، حكمه.

هذا كلّه حول تأثير عنصري الزمان و المكان في صدق الموضوع.

الثاني: تأثيرهما في ملاكات الأحكام

لا شكّ انّ الأحكام الشرعية تابعة للملاكات و المصالح و المفاسد، فربما يكون مناط الحكم مجهولاً و مبهماً و أُخري يكون معلوماً بتصريح من الشارع، و القسم الأوّل خارج عن محلّ البحث، و أمّا القسم الثاني فالحكم دائر مدار مناطه و ملاكه.

فلو كان المناط باقياً فالحكم ثابت، و أمّا إذا تغيّر المناط حسب الظروف و الملابسات يتغير الحكم قطعاً، مثلاً:

1. لا خلاف في حرمة بيع الدم بملاك عدم وجود منفعة محلّلة فيه، و لم يزل حكم الدم كذلك حتي اكتشف العلم له منفعة محلّلة تقوم عليها رحي الحياة، و أصبح التبرع بالدم إلي المرضي كإهداء الحياة لهم، و بذلك حاز الدم علي ملاك آخر فحلّ بيعه و شراؤه. (1)

2. انّ قطع أعضاء الميت أمر محرّم في الإسلام، قال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم):»إيّاكم و المثلة و لو بالكلب العقور« (2) و من الواضح انّ ملاك التحريم هو قطع الأعضاء لغاية الانتقام و التشفّي، و لم يكن يومذاك أيُّ فائدة تترتّب علي قطع أعضاء الميت

ص: 228


1- . قال السيد الإمام الخميني قدَّس سرّه:لم تكن في تلك الأعصار للدم منفعة غير الأكل، فالتحريم منصرف إليه.
2- . لاحظ نهج البلاغة، قسم الرسائل، برقم 47.

سوي تلبية للرغبة النفسية الانتقام و لكن اليوم ظهرت فوائد جمّة من وراء قطع أعضاء الميت، حيث صارت عملية زرع الأعضاء أمراً ضرورياً يستفاد منها لنجاة حياة المشرفين علي الموت.

3. دلّت الروايات علي أنّ دية النفس تؤدّي بالأنعام الثلاثة، و الحلّة اليمانية، و الدرهم و الدينار، و مقتضي الجمود علي النص عدم التجاوز عن النقدين إلي الأوراق النقدية، غير أنّ الوقوف علي دور النقود في النظام الاقتصادي، و انتشار أنواع كثيرة منها في دنيا اليوم، و النظر في الظروف المحيطة بصدور تلك الروايات، يشرف الفقيه علي أنّ ذكر النقدين بعنوان أنّه أحد النقود الرائجة آنذاك، و لذلك يجوز لأولياء الدم، المطالبة بالأوراق النقدية المعادلة للنقدين الرائجة في زمانهم، أو اعدالهما من الأنعام و الحُلّة ، و قد وقف الفقهاء علي ملاك الحكم عبر تقدّم عنصر الزمان.

الثالث: تأثيرهما في كيفية تنفيذ الحكم

1. تضافرت النصوص علي حلّية الفيء و الأنفال للشيعة في عصر الغيبة، و من الأنفال المعادن و الآجام و أراضي الموات، و قد كان الانتفاع بها في الأزمنة الماضية محدوداً، ما كان يُثير مشكلة ، و أمّا اليوم و مع تطور الأساليب الصناعية و انتشارها بين الناس أصبح الانتفاع بها غير محدود، فلو لم يتخذ أُسلوباً خاصاً في تنفيذ الحكم لأدّي إلي انقراضها أوّلاً، و خلق طبقة اجتماعية مرفّهة، و أُخري بائسة فقيرة ثانياً.

فالظروف الزمانية و المكانية تفرض قيوداً علي إجراء ذلك الحكم بشكل جامع يتكفّل إجراء أصل الحكم، أي حلّية الأنفال للشيعة أوّلاً، و حفظ النظام و بسط العدل و القسط بين الناس ثانياً، بتقسيم الثروات العامة عن طريق الحاكم

ص: 229

الإسلامي الذي يُشرف علي جميع الشئون لينتفع الجميع علي حد سواء.

2. اتّفق الفقهاء علي أنّ الغنائم الحربية تقسّم بين المقاتلين علي نسق خاص بعد إخراج خمسها لأصحابه، لكن الغنائم الحربية في عصر صدور الروايات كانت تدور بين السيف و الرمح و السهم و الفرس و غير ذلك، و من المعلوم انّ تقسيمها بين المقاتلين كان أمراً ميسراً آنذاك، أمّا اليوم و في ظل التقدّم العلمي الهائل، فقد أصبحت الغنائم الحربية تدور حول الدبابات و المدرّعات و الحافلات و الطائرات المقاتلة و البوارج الحربية، و من الواضح عدم إمكان تقسيمها بين المقاتلين بل هو أمر متعسر، فعلي الفقيه أن يتّخذ أُسلوباً في كيفية تطبيق الحكم علي صعيد العمل ليجمع فيه بين العمل و أصل الحكم و الابتعاد عن المضاعفات.

3. انّ الناظر في فتاوي الفقهاء السابقين فيما يرجع إلي الحج من الطواف حول البيت و السعي بين الصفا و المروة و رمي الجمار و الذبح في مني يواجه ضغطاً شديداً في تطبيق عمل الحجّ علي هذه الفتاوي، و لكن تزايد وفود حجاج بيت اللّه عبر الزمان و يوماً بعد يوم أعطي للفقهاء رؤي وسيعة في تنفيذ أحكام الحجّ، فأفتوا بجواز التوسع في الموضوع لا من باب الضرورة و الحرج، بل من باب التوسع في تنفيذ الحكم و انّ المطاف عند الزحام أوسع.

الرابع: تأثيرهما في مَنْح نظرة جديدة نحو المسائل

إنّ تغيير الأوضاع و الأحوال الزمنية يؤثر في كيفية نظر المجتهد و يمنح له نظرة جديدة نحو المسائل المطروحة في الفقه قديماً و حديثاً. و لنذكر بعض الأمثلة:

1. كان القدماء ينظرون إلي البيع بمنظار ضيّق و يفسرونه بنقل الأعيان

ص: 230

و انتقالها، و لا يجيزون علي ضوئها بيع المنافع و الحقوق، غير انّ تطور الحياة و ظهور حقوق جديدة في المجتمع الإنساني و رواج بيعها و شرائها، حدا بالفقهاء إلي إعادة النظر في حقيقة البيع، فجوّزوا بيع الامتيازات و الحقوق عامة.

2. أفتي القدماء بأنّ الإنسان يملك المعدن المركوز في أرضه تبعاً لها دون أيّ قيد أو شرط، و كان الداعي من وراء تلك الفتوي هو بساطة الوسائل المستخدمة لذلك، و لم يكن بمقدور الإنسان الانتفاع إلاّ بمقدار ما يعدّ تبعاً لأرضه، و لكن مع تقدم الوسائل المستخدمة للاستخراج، استطاع أن يتسلط علي أوسع مما يُعد تبعاً لأرضه، فعلي ضوئه لا مجال للإفتاء بأنّ صاحب الأرض يملك المعدن المركوز تبعاً لأرضه بلا قيد أو شرط، بل يحدد بما يعد تبعاً لها، و أمّا الخارج عنها فهو إمّا من الأنفال أو من المباحات العامّة التي يتوقف تملّكها علي إجازة الإمام. و ليست هذه النظرة الجديدة مختصة بالفقه بل تعم أكثر العلوم.

الخامس: تأثيرهما في تعيين الأساليب

إنّ هناك أحكاماً شرعية لم يحدّد الشارع أساليبها بل تركها مطلقة كي يختار منها في كلّ زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجاً و أنجع في التقويم علاجاً، و إليك بعض الأمثلة علي ذلك:

1. الدفاع عن بيضة الإسلام قانون ثابت لا يتغير و لكن الأساليب المتخذة لتنفيذ هذا القانون موكولة إلي مقتضيات الزمان التي تتغيّر بتغيّره، و لكن في إطار القوانين العامة فليس هناك في الإسلام أصل ثابت إلاّ أمر واحد، و هو قوله سبحانه:( وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (1) ) (2).

و أمّا غيرها فكلّها أساليب لهذا القانون تتغيّر حسب تغيّر الزمان.

ص: 231


1- سوره 8 - آيه 60
2- . الأنفال:60.

2. نشر العلم و الثقافة أصل ثابت في الإسلام، و أمّا تحقيق ذلك و تعيين كيفيته فهو موكول إلي الزمان، فعنصر الزمان دخيل في تطبيق الأصل الكلي حسب مقتضيات الزمان.

3. التشبّه بالكفار أمر مرغوب عنه حتي أنّ الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم)أمر بخضب الشيب و قال: »غيِّروا الشيب و لا تشبّهوا باليهود«، و الأصل الثابت هو صيانة المسلمين عن التشبّه بأهل الكتاب، و لما اتسعت دائرة الإسلام و اعتنقته شعوب مختلفة و كثر فيهم الشيب تغير الأُسلوب و لما سُئل علي(عليه السلام)عن ذلك، قال: »إنّما قال(صلي الله عليه و آله و سلم)ذلك و الدين قُلّ، فأمّا الآن فقد اتسع نطاقه و ضرب بجرانه فامرؤ و ما اختار«. (1)

4. انّ روح القضاء الإسلامي هو حماية الحقوق و صيانتها، و كان الأُسلوب المتبع في العصور السابقة هو أُسلوب القاضي الفرد، و قضاؤه علي درجة واحدة قطعية، و كان هذا النوع من القضاء مؤمِّناً لهدف القضاء، و لكن اليوم لما دبّ الفساد إلي المحاكم و قلَّ الورع ألزم الزمان أن يتبدل أُسلوب القضاء إلي أُسلوب محكمة القضاة الجمع، و تعدّد درجات المحاكم حسب المصلحة الزمنية التي أصبحت تقتضي زيادة الاحتياط، و قد ذكرنا كيفية ذلك في بحوثنا الفقهية. (2)

ثمّ إنّ ما ذكرنا يرجع إلي دور الزمان و المكان في عملية الاجتهاد و الإفتاء، و أمّا دورهما في الأحكام الحكومية التي تدور مدار المصالح و المفاسد و ليست من قبيل الأحكام الواقعية و لا الظاهرية فلها باب واسع، و قد استوفينا الكلام في ذلك في رسالة مخصوصة. (3)غ.

ص: 232


1- . نهج البلاغة، قسم الحكم، رقم 16.
2- . انظر »نظام القضاء في الشريعة الإسلامية الغرّاء« للمؤلف حيث ذكرنا انّ تعدد درجات المحاكم لا ينافي كون القضاء الأوّل لازم الإجراء.
3- . رسالة تأثير الزمان و المكان في الاجتهاد المطبوعة مع رسالة البلوغ.

فقد خرجنا بالنتائج التالية:

1. انّ عنصري الزمان و المكان لا تمسّ كرامة الكبريات و لا الأُصول الشرعية.

2. تأثير عنصري الزمان و المكان في صدق الموضوع.

3. تأثير عنصري الزمان و المكان في الوقوف علي ملاكات الأحكام.

4. تأثير عنصري الزمان و المكان في كيفيّة إجراء الحكم.

5. تأثيرهما في منح النظرة الجديدة نحو الأحكام.

6. تأثيرهما في تعيين الأساليب.

المسألة العاشرة:في التفسير الخاطئ أو تغيير الأحكام حسب المصالح

قد ظهر ممّا ذكرنا انّ القول بتأثير عنصري الزمان و المكان يجب أن يحدّد بما لا يمسُّ كرامة الأصلين السابقين: تأبيد الأحكام الشرعية، و حصر التقنين باللّه سبحانه و تعالي، غير انّه ربّما يفسر التأثير بنحو خاطئ أي بمعني تغيير الأحكام الشرعية حسب المصالح الزمنية تبريراً لمخالفة بعض الخلفاء للكتاب و السنّة قائلاً بأنّ للحاكم الأخذ بالمصالح و تفسير الأحكام علي ضوئها، و لنقدّم نموذجاً:

دلّ الكتاب و السنّة علي بطلان الطلاق ثلاثاً، و انّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأُخري، يتخلّل بينهما رجوع أو نكاح، فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة أو كرّر الصيغة فلا يحتسب إلاّ طلاقاً واحداً; و قد جري عليه رسول اللّه و الخليفة الأوّل و كان(صلي الله عليه و آله و سلم)لا يمضي من الطلاق الثلاث إلاّ واحدة منها، و كان الأمر علي هذا إلي سنتين من خلافة عمر، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. (1)

ص: 233


1- . مسلم: الصحيح:1844/183، باب طلاق الثلاث، الحديث 1.

يلاحظ عليه بأنّ استخدام الرأي فيما فيه نص، أمر خاطئ، و لو صحّ استخدامه فإنّما هو فيما لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة، و لمّا كان ذلك يمسّ كرامة الخليفة جاء الآخرون يبرّرون عمله بتغيّر الأحكام، بالمصالح و المفاسد، و من المتحمّسين لهذا الموضوع هو ابن القيم فقال: لمّا رأي عمر بن الخطاب انّ مفسدة تتابع النص في إيقاع الطلاق لا تندفع إلاّ بإمضائها علي الناس، و رأي مصلحة الإمضاء أقوي من مفسدة الإيقاع، أمضي عمل الناس و جعل الطلاق ثلاثاً ثلاثاً. (1)

يلاحظ عليه: أنّ إبطال الشريعة أمر محرّم لا يستباح بأي عنوان، فلا يصحّ لنا تغيير الشريعة بالمعايير الاجتماعية من الصلاح و الفساد، و أمّا مفسدة تتابع النص في إيقاع الطلاق الثلاث فيجب أن تدفع عن طريق آخر لا عن طريق إمضاء ما ليس بمشروع مشروعاً.

و العجب انّ ابن القيم التفت إلي ذلك و قال: كان أسهل من ذلك(تصويب الطلقات ثلاثاً) أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث، و يحرّمه عليهم، و يعاقب بالضرب و التأديب من فعله لئلاّ يقع المحذور الذي يترتّب عليه، ثمّ نقل عن عمر بن الخطاب ندامته علي التصويب،قال: قال عمر بن الخطاب: ما ندمت علي شيء مثل ندامتي علي ثلاث. (2)6.

ص: 234


1- . أعلام الموقعين:3/48.
2- . أعلام الموقعين:3/36، و أشار إليه في كتابه الآخر إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان:1/336.

الفصل الثاني: في التقليد و أحكامه

اشارة

و يقع الكلام في هذا الفصل في عدّة مسائل:

المسألة الأُولي: التقليد لغة و اصطلاحاً

التقليد لغة من القلادة، و معناه جعلها في عنق الغير.

و أمّا اصطلاحاً، فقد عرّف بوجوه:

أ. التقليد: هو الأخذ بفتوي الغير و تعلّمها للعمل بها.

ب. التقليد: هو الالتزام بالعمل بفتوي الغير و إن لم يتعلّم فضلاً عن أن يعمل.

ج. التقليد: هو الاستناد إلي فتوي الغير في مقام العمل.

و التعريف الثالث هو المناسب للفظ التقليد، لأنّ المقلّد من يجعل القلادة في عنق الغير. (1) فالشيء الذي هو يشبه القلادة الّتي يجعلها في عنق الغير هو عمله، فكأنَّ العامي يجعله في عنق المجتهد بمعني جعله مسئولاً عن صحّة عمله و فساده و براءة ذمّته و اشتغالها، و هذا لا يتحقّق إلاّ بنفس العمل لا بالأخذ و لا بالالتزام.

و يؤيده ما رواه الكليني بسند صحيح عن أبي عبيدة الحذاء، قال: قال أبو جعفر(عليه السلام): »من أفتي الناس بغير علم و لا هدي من اللّه لعنته ملائكة الرحمة

ص: 235


1- . و المتقلّد من يجعل القلادة في عنق نفسه. و ليس العامي متقلّداً بل مقلِّد.

و ملائكة العذاب، و لحقه وزر من عمل بفتياه«. (1)

فإن قلت: إذا كان التقليد هو العمل استناداً إلي قول المجتهد، يلزم أن يكون التقليد متأخراً عن العمل و محقّقاً به، مع أنّه متقدم علي العمل حيث لا بدّ أن يكون العمل عن تقليد; فيكون التقليد في رتبة سابقة.

قلت: هذا إنّما يتم لو دلّ دليل علي لزوم كون العمل ناشئاً عن تقليد كي يكون سابقاً علي العمل و ليس كذلك إذ الواجب أن يكون العامي في عمله معتمداً علي الحجة. و هو متحقّق حتي و لو كان التقليد نفس العمل.

لكن لا فائدة مهمة في تحقيق مفهوم التقليد، لأنّه لم يقع موضوعاً لحكم شرعيّ في دليل صالح للاستناد، فصحّة عمل العامي تابع لدلالة الدليل الشرعي، لا لصدق التقليد و عدمه، و تصوّر انّه وقع موضوعاً في المسألتين التاليتين:

1. البقاء علي تقليد الميت.

2. العدول من تقليد حي إلي حيّ.

مدفوع بأنّ الحكم بالجواز أو المنع ليس دائراً مدار صدق التقليد و عدمه، بل دائر مدار وجود الدليل علي البقاء أو العدول و عدمه، و لعلّ كلمة »التقليد« عنوان مشير إلي واقع المسألة لا انّه دخيل في الموضوع.

المسألة الثانية: في جواز التقليد

البحث في جواز التقليد يتصوّر علي وجهين:

الأوّل: فيما يصحّ للعاميّ أن يعتمد عليه في أمر التقليد و جواز الرجوع إلي الغير.

الثاني: ما يمكن أن يعتمد عليه المجتهد في الإفتاء بجواز التقليد.

أمّا الأوّل، فللعامّي أن يستند في جواز الرجوع إلي العلماء إلي السيرة

ص: 236


1- . الوسائل: 18، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

العقلائية في جميع الأمصار، و هي لزوم رجوع الجاهل إلي العالم، و هذا أصل قام عليه صَرْح الحياة، إذ من المستحيل أن يستقل كل فرد متحضّر بإنجاز جميع حاجاته من جميع النواحي، فلا محيص من تقسيم الحاجات الأوّلية و الثانوية كي يتحمّل كلّ شخص أو طائفة، ناحية من نواحيها، و لأجل ذلك نري أنّ أصحاب التخصّصات في العلوم و الفنون، يرجعون في غير اختصاصاتهم إلي أهل الخبرة.

و الرجوع إلي علماء الدين الذين حازوا علي مكانة خاصة في قلوب الناس ممّا أطبق عليه كافة العقلاء.

و أمّا الثاني، فيكفي في الإفتاء علي جواز التقليد أمران:

1. آية النفر، فانّ التفقّه آية أنّ المنذر، فقيه فهم الدين عن نظر و بصيرة، و عاد ينذر قومه ببيان أحكامه سبحانه و غيرها.

2. الروايات الإرجاعية، فإنّ أئمّة أهل البيت أرجعوا شيعتهم إلي فقهاء أصحابهم، كأبان بن تغلب، و محمد بن مسلم الثقفي، و زرارة، و يونس بن عبد الرحمن، و زكريا بن آدم القمي، و معاذ بن مسلم النحوي، و أضرابهم ممّن كانوا علي درجة كبيرة من العلم و فهم الحكم من الكتاب و السنّة، و نشير إلي بعض هذه الروايات:

1. سأل عبد العزيز المهتدي، الرضا(عليه السلام)فقال له: إنّي لا ألقاك في كلّ وقت فممّن آخذ معالم ديني؟ فقال(عليه السلام): »خذ عن يونس بن عبد الرحمن«. (1)

2. قال علي بن المسيّب الهمداني للرضا(عليه السلام): شقّتي بعيدة و لست أصِلُ إليك في كل وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال(عليه السلام):»من زكريا بن آدم القمي، المأمون علي الدين و الدنيا«. (2)ك.

ص: 237


1- . الوسائل: 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 34و27.و لاحظ الأحاديث 36و23 إلي غير ذلك.
2- . الوسائل: 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 34و27.و لاحظ الأحاديث 36و23 إلي غير ذلك.

و هؤلاء الذين أرجع إليهم الإمام(عليه السلام)كانوا في الطبقة الأُولي من الفقهاء، و لم يكونوا من الرواة الّذين لا شغل لهم إلاّ نقل النصوص، غاية الأمر كانوا يفتون بلفظ النص بعد الإحاطة بجميع النصوص، و تطبيق الأُصول علي الفروع.

و أمّا الآيات الذامّة للتقليد (1) فهي بصدد ذم رجوع الجاهل إلي الجاهل بداعي العصبية لا بما أنّه من أصحاب البصيرة و التدبّر، فأين هذا من رجوع العاميّ إلي العالم بداعي أنّه من أهل الخبرة في مجال الدين؟!

المسألة الثالثة: في وجوب تقليد الأعلم
اشارة

إذا اختلف الأحياء في العلم و الفضيلة، فمع علم المقلّد باختلافهم علي وجه التفصيل أو الإجمال أو شكّه، فهل يجب الأخذ بفتوي الفاضل، أو يجوز العمل بفتوي المفضول أيضاً؟ قولان، و لنذكر صور المسألة:

الصورة الأُولي: إذا علم العامّي موافقة الأعلم لغيره في الفتوي بتفاصيلها.

الصورة الثانية: إذا علم مخالفتهما في الفتوي تفصيلاً.

الصورة الثالثة: إذا علم مخالفتهما إجمالاً.

الصورة الرابعة: إذا شكّ في مخالفتهما فيها.

أمّا الصورة الأُولي، فهي خارجة عن محل النزاع.

و أمّا الصورة الثانية: فحكمها تعيّن الرجوع إلي الأعلم لسيرة العقلاء، و من البعيد شمول كلمات القائلين بالجواز لهذه الصورة.

و أمّا الصورة الثالثة: فهي محل الكلام، فذهب القاضي و الحاجبي و العضدي إلي جواز تقليد المفضول، مستدلّين بأنّ المفضولين باتفاق في زمان الصحابة

ص: 238


1- . كقوله سبحانه:(بَلْ قالُوا إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلي أُمّة وَ إنّا علي آثارِهِمْ مُهْتَدُون)(الزخرف22/).

و غيرهم كانوا يفتون و يستفتون و لم ينكره أحد و دلّ علي جوازه. (1)

و اختار الغزالي تعيّن تقليد الفاضل، و قال: الأولي عندي أنّه يلزم اتّباع الأفضل، فمن اعتقد أنّ الشافعي أعلم، و الصواب علي مذهبه أغلب، فليس له أن يأخذ بمثل مخالفه بالتشهّي. (2)

و أمّا أصحابنا فقد استقصي الشيخ الأنصاري أقوالهم في رسالة خاصّة له في تقليد الأعلم، و قال: إنّ تقديم الفاضل هو خِيَرة أكابر العلماء، كالسيد المرتضي، و المحقّق، و العلاّمة، و عميد الدين، و الشهيد، و المحقّق الثاني، و الشهيد الثاني، و صاحب المعالم، و بهاء الدين العاملي، و الشيخ صالح المازندراني، و السيد علي صاحب الرياض. (3)

و لنذكر بعض كلمات الأصحاب:

1. قال السيد المرتضي: و إن كان بعضهم عنده أعلم من بعض، أو أورع، أو أدين، فقد اختلفوا فمنهم من جعله مخيّراً، و منهم من أوجب أن يستفتي المقدَّم في العلم و الدين، و هو أولي، لأنّ الثقة هاهنا أقرب و أوكد، و الأُصول كلّها بذلك شاهدة. (4)

2. و قال المحقّق الحلي: و يجب عليه الاجتهاد في معرفة الأعلم و الأورع، فإن تساويا تخيّر في استفتاء أيّهما شاء، و إن ترجّح أحدهما من كلِّ وجه، تعيّن العمل بالراجح، و إن ترجّح كلُّ واحد منهما علي صاحبه بصفة فالأقوي الأخذ بقول الأعلم.1.

ص: 239


1- . منتهي الوصول و الأمل في علمي الأُصول و الجدل:221.
2- . المستصفي:2/391.
3- . رسالة تقليد الأعلم المطبوعة في ذيل مطارح الأنظار:276.
4- . الذريعة:2/801.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: ما هي وظيفة العامي في تلك المسألة، و هل يستقل عقله بالرجوع إلي الفاضل، أو بالتخيير بينه و بين المفضول؟ المقام الثاني: ما هو مقتضي الأدلّة عند المجتهد، فهل يستفاد منها لزوم الرجوع إلي الفاضل، أو يستفاد التخيير؟ أمّا الأوّل: فلا شكّ أنّه لو تدبّر، يستقل عقله بعدم جواز تقليد المفضول، لأنّ قول الفاضل متيقن الحجّية دون المفضول، فهو مشكوك الحجّية، و الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، و لا يحصل إلاّ بالعمل علي رأي الفاضل.

نعم لو قلّد في تلك المسألة المجتهد الفاضل و أجاز تقليد المفضول، جاز له تقليدُه، لكنّه ليس تقليداً له ابتداء، بل هو في الحقيقة تقليد للفاضل، و بتقليده تُصْبِحُ فتاوي المفضول حجّة.

أمّا المقام الثاني: أعني ما هو مقتضي الأدلّة عند المجتهد، فقد ذهب المشهور إلي أنّ مقتضي الأدلّة هو لزوم تقديم الفاضل، و إليك أدلّتهم.

أدلّة القائلين بلزوم تقديم الفاضل

استدلّ القائلون بوجوه:

1. إنّ مقتضي الأصل الأوّلي هو عدم حجّية رأي أحد علي آخر، خرج منه متابعة الفاضل بالاتفاق، و بقيت متابعة المفضول تحت عموم حرمة العمل بلا علم، فالعمل بغيره يتوقف علي دليل خاص.

فإن قلت: مقتضي الأصل الأوّلي هو التخيير لأنّ الأمر في المقام دائر بين التعيين و التخيير، و بما أنّ في الأوّل مئونة زائدة، تجري البراءة في تعيّن الفاضل.

قلت: إنّ دوران الأمر بين التعيين و التخيير علي قسمين:

ص: 240

أ. قسم يدور الأمر بين التعيين و التخيير الشرعيين، كما في خصال الكفارة المردّدة بين تعيّن صوم ستين يوماً، أو التخيير بينه و بين الإطعام و العتق، فمقتضي الأصل الأوّلي فيه هو الاشتغال و الأخذ بمحتمل التعيّن، لعدم العلم بالبراءة إذا امتثل بمحتمل التخيير، بلا فرق بين التكاليف و الحجج كما في المقام ، بل الأمر في الحُجج أوضح، لما عرفت من أنّ الشك في الحجّة مساوق للقطع بعدمها.

ب. لو دار الأمر بين التعيّن الشرعي لفرد و التخيير العقلي بين الأفراد فالمرجع هو البراءة، كما إذا دار الأمر بين عتق خصوص الرقبة المؤمنة، أو مطلق الرقبة الملازم لتخيير المكلف عقلاً بين أفرادها، لأنّ الالتزام بعتق مطلق الرقبة معلوم تفصيلاً، و الشكّ في وجوب خصوص قيدها(الإيمان) فتجري فيه البراءة.

2. جرت سيرة العقلاء علي الرجوع إلي الفاضل عند العلم بالخلاف، فلو اختلف الحاذق و غير الحاذق من الأطبّاء في تعيين نوع المرض فيقدّم قول الحاذق علي غير الحاذق من دون فرق بين كون الخلاف بينهما معلوماً بالتفصيل أو بالإجمال.

و أمّا رجوعهم إلي المفضول في بعض الموارد فيرجع إلي عدم العلم بالخلاف في مورد المراجعة(الصورة الرابعة)، و إن علم إجمالاً بوجود الخلاف بين أصحاب الفن، أو إلي تسامحهم في الرجوع إلي المفضول في أغراضهم المادية دون مهام الأُمور و معاليها.

3. إنّ تجويز الرجوع إلي المفضول رهن وجود إطلاق في أدلّة جواز التقليد، يكون مقتضاه جواز الرجوع إليه، و لكن ليس بأيدينا من الأدلّة شيء وراء آية النفر، و السؤال، و الروايات الإرجاعية، و كلّها منصرفة عن مورد اختلاف الفتويين.

و قد جاءت الإشارة إلي تلك السيرة في بعض الروايات كتلميح علي لزوم

ص: 241

الأخذ بقول الأعلم نأتي ببعضها:

أ. روي عيسي بن قاسم قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام)يقول: »عليكم بتقوي اللّه وحده لا شريك له، و انظروا لأنفسكم، فو اللّه إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها، يخرجه و يجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها«. (1)

ب. روي عمر بن حنظلة، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)في اختلاف الحكمين، أنّه(عليه السلام)قال:

»الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما، و لا يلتفت إلي ما يحكم به الآخر«. (2)

ج. روي داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)في مسألة اختلاف الحكمين: »انّه ينظر إلي أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما، فينفذ حكمه و لا يلتفت إلي الآخر«. (3)

د. روي موسي بن أكيل، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)عند اختلاف الحكمين أنّه قال: »ينظر إلي أعدلهما و أفقههما في دين اللّه فيمضي حكمه«. (4)

نعم مورد الأحاديث الثلاثة الأخيرة هو الحكم و القضاء و لا يصحّ التعدّي عنه إلي مورد الإفتاء، لأنّ أمر القضاء لا يقبل التخيير و لا التفويض و لا الإهمال، بخلاف الفتوي إذ لا مانع من التخيير بين الرأيين. و مع ذلك لا يخلو من تلميح إلي الترجيح به في الإفتاء، لأنّ اختلاف الحكمين قد ينشأ من الاختلاف في الأُمور الخارجية، و أُخري من الاختلاف في الفتوي، و مورد بعض الروايات هو اختلاف الحكمين لأجل الاختلاف في الفتوي كما في مقبولة عمر بن حنظلة حيث كان5.

ص: 242


1- . الوسائل: 11، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 20، 45.
3- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 20، 45.
4- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 20، 45.

اختلاف الحكمين في الحبوة.

هذا كلّه إذا لم تكن فتوي المفضول مطابقة للاحتياط، و فتوي الفاضل مخالفة له، كما إذا أفتي الأوّل بنجاسة الغسالة و الآخر بطهارتها، أو أفتي الأوّل بوجوب التسبيحات الأربع ثلاثاً و أفتي الفاضل بوجوبها مرّة، إذ يجوز حينئذ ترك قول الفاضل و الأخذ برأي المفضول، إلاّ أنّ هذا في الحقيقة عمل بالاحتياط الوارد في فتوي المفضول دون الفاضل.

ما هو المراد من الأعلم؟

ليس اختلاف الفاضل و المفضول في زيادة العلم و قلّته و شدّته و ضعفه، بل المراد الأقوي ملكة، أو الأكثر خبرة من غيره و الأعرف بدقائق الفقه و مباني الاستنباط، و تتركّز قوة الملكة و شدّتها علي أمرين:

1. الذكاء المتوقّد و الفهم القويم.

2. كثرة الممارسة و التمرين بحيث يصير الفقه مخالطاً لفكره و ذهنه و روحه، فيكون أقوي استنباطاً، و أدق نظراً في استنباط الأحكام من مبادئها، و أعرف بالكبريات و كيفية تطبيقها علي الصغريات بحدّة ذهنه و حسن سليقته.

لا يقال: إنّ تشخيص الأدق نظراً و الأقوي استنباطاً من الأُمور الصعبة و العسيرة.

فانّه يقال ليس تشخيص الفاضل عن المفضول بأعسر من تشخيص أصل الاجتهاد، و بما انّ لكل علم و فن رجالاً حاذقين يعرفون مراتب الرجال و مواهبهم و صلاحياتهم، فيميزون المجتهد عن غيره و الفاضل عن المفضول، و قد قيل: من دق باباً و لجَّ ولج.

و أمّا الصورة الرابعة، أعني: إذا شكّ في مخالفتهما في الفتوي، فهل يجوز

ص: 243

الرجوع إلي المفضول أو لا؟و يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: مقتضي الأصل الأوّلي.

الثاني: مقتضي الأدلّة الاجتهادية.

أمّا الأوّل: فهو نفس الأصل في الصورة المتقدّمة(أي العلم بالمخالفة) لأصالة عدم حجّية رأي أحد علي أحد إلاّ ما قام الدليل القطعي علي حجّيته و هو رأي الفاضل، و أمّا غيره فهو مشكوك الحجية و الشك فيها مساوق للقطع بعدمها، و بعبارة أُخري: الشكّ في حجّية فتوي المفضول يلازم القطع بعدم حجّيتها ما لم يدل دليل قاطع عليها.

و أمّا الثاني: أي مقتضي الدليل الاجتهادي، فالرجوع إلي المفضول مع وجود الفاضل يتوقّف علي وجود الإطلاق في الآيات و الروايات الإرجاعية و شمولها لصورة الشك في المخالفة، و هو موضع تأمّل.

بل الدليل الوحيد لجواز الرجوع إلي المفضول مع وجود الفاضل هو السيرة العقلائية في أمثال المقام حيث إنّهم يرجعون إلي أهل الحرف و أصحاب التخصصات مع اختلاف مراتبهم مع عدم العلم بوحدة نظرهم في عامة المسائل.

المسألة الرابعة: في تقليد الميت ابتداءً

المشهور بين الأصحاب من عصر العلاّمة الحلي(726648ه) علي منع تقليد الميت ابتداءً و لم نجد المسألة معنونة قبل العلاّمة الحلّي، و لكن كلماتهم تعرب عن استمرار السيرة علي المنع.

نعم شذّ الأخباريون حيث لم يشترطوا الحياة في المفتي و وافقهم المحقّق القمي(12311150ه) من المجتهدين.

ص: 244

و دراسة المسألة تتم من خلال بيان أمرين:

الأوّل: أنّ مقتضي الأصل الأوّلي هو عدم حجية قول الميت، لما عرفت من أنّ الأصل عدم الحجية إلاّ ما قام الدليل علي حجيته و ليس هو إلاّ تقليد الحي.

الثاني: أنّ مقتضي الأدلّة الاجتهادية هو المنع، للإجماعات المنقولة المتضافرة من عصر العلاّمة إلي يومنا هذا، فإنّه و إن لم يكشف عن دليل شرعي وصل إليهم و لم يصل إلينا، لكنه يكشف عن قيام السيرة علي المنع، و هو عدم جواز تقليد الميت. قال الشيخ الأنصاري: إنّ هذا الاتفاق بدرجة من القبول حتي شاع عند العوام انّ قول الميت كالميّت.

و ربّما يستدل علي جواز الرجوع بإطلاقات الآيات و الروايات، كآية النفر و السؤال و الروايات الإرجاعية إلي رواة الأحاديث أو إلي أشخاص معيّنين، و لكن الاستدلال غير تام، فإنّ الأدلّة ناظرة إلي عنوان المنذر و المحذر(في آية النفر) و المفتي(في حديث أبان) و ظهورها في الحي ممّا لا ينكر.

المسألة الخامسة: في البقاء علي تقليد الميت
اشارة

البقاء علي تقليد الميت التي يعبّر عنها بالتقليد الاستمراري من المسائل المستحدثة في القرن الثالث عشر، عصر صاحب الجواهر(12661200ه) فقد اختلفت كلمتهم إلي ثلاثة أقوال:

أ. جواز البقاء مطلقاً.

ب. عدم جوازه كذلك.

ج. جوازه فيما عمل بفتواه، و عدمه إذا لم يعمل به، أو ما أشبهه.

و التحقيق يتوقّف علي بيان الحكم في مرحلتين:
اشارة

الأُولي: ما هو مقتضي القاعدة الأوّلية؟

ص: 245

الثانية: ما هو مقتضي القاعدة الثانوية؟

أمّا الأُولي، أي مقتضي القاعدة الأوّلية

فقد مرّ بيانها في المسائل السابقة، و قلنا: إنّ مقتضي القاعدة الأوّلية في الظنون عدم الحجية إلاّ أن يقام دليل عليها.

و أمّا الثانية، أي مقتضي القاعدة الثانوية

فالظاهر انّ مقتضاها هو جواز البقاء علي تقليد الميت لوجهين:

الأوّل: وجود السيرة بين العقلاء حيث إنّهم لا يفرّقون في رجوع الجاهل إلي العالم فيما جهله بين كون العالم حيّاً عند العمل بقوله أو عدمه، و ما ذكرناه سابقاً من تضافر الإجماعات المنقولة علي منع تقليد الميت، فالقدر المتيقن منها هو تقليد الميت ابتداءً لا استمراراً.

الثاني: انّ الروايات الإرجاعية تعم المقام، فإنّ من أرجعه الإمام إلي أشخاص معيّنين، كالأسدي أو يونس بن عبد الرحمن، أو زكريا بن آدم، ما كان يشك في حجية قولهم بعد وفاتهم. و لا يخطر ببال العامي ترك ما أخذه و تعلمه بمجرد موت من أخذ عنه.

المسألة السادسة: العدول من تقليد مجتهد إلي آخر

هل يجوز العدول من الحي إلي الحي مطلقاً، أو لا يجوز كذلك، أو فيه التفصيل بين كون الثاني أعلم أو عدمه؟ و محل الكلام فيما إذا كان بين المجتهدين اختلاف في الفتوي و صور المسألة ثلاث:

أ. أن يكون الأوّل أعلم من الثاني، فلا يجوز العدول، لما تقدّم من عدم جواز تقديم المفضول مع وجود الفاضل.

ب. أن يكون الأمر علي العكس، فيجب العدول إلي الثاني، للسيرة السائدة بين العقلاء من الرجوع إلي الفاضل في مهام الأُمور.

ص: 246

ج. أن يكونا متساويين مع العلم بالخلاف، فمقتضي القاعدة الأوّلية هو سقوط الفتويين عن الحجية للتعارض و الرجوع إلي الاحتياط، و لكن لمّا كان الاحتياط أمراً متعسّراً يستقل العقل بعد بطلانه أو عدم جوازه بالأخذ بأحدهما مطلقاً ابتداءً و استمراراً، فيجوز العدول من المساوي إلي المساوي الآخر بشرط أن لا ينتهي إلي اللعب بالتقليد.

و الحمد للّه ربّ العالمين و الصّلاة و السّلام علي سيّد المرسلين و آله الطيّبين الطاهرين وقع الفراغ من تحرير هذا الكتاب، و لاح بدر تمامه بيد مؤلفه جعفر السبحاني ابن الفقيه الشيخ محمد حسين الخياباني التبريزي قدّس اللّه سرّه يوم الأحد الثامن من شهر رجب المرجب من شهور عام 1418 من الهجرة النبوية علي هاجرها و آله ألف صلاة و تحية.

ص: 247

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.