الإنسانيّة المثاليّة عند الحسن بن عليّ عليهما السّلام دراسة تحليليّة في تراثه

اشارة

الكتاب: الإنسانيّة المثاليّة عند الحسن بن عليّ عليهما السّلام دراسة تحليليّة في تراثه.

الكاتب: د. رحيم كريم علي الشريفي.

الناشر:قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة.

مراجعة: وحدة الدراسات والنشرات / شعبة الإعلام.

التدقيق اللغوي: م.د . حسين علي حسين الفتلي.

الاخراج الطباعي: محمد قاسم النصراوي.

التصميم: علاء سعيد الأسدي

رقم التسجيل في دار الكتب والوثائق في بغداد 2320 لعام 2013 م.

المطبعة:مطبعة المستقبل، بيروت لبنان.

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: 2000 .

رمضان 1434 -تموز 2013

ص:1

اشارة

العتبة العباسية المقدسة

قسم الشؤون الفكرية والثقافية

الإنسانيّة المثاليّة

عند الحسن بن عليّ (عليهما السّلام)

(دراسة تحليليّة في تراثه)

تالیف: الدکتور رحيم كريم علي الشريفي

أستاذ مساعد الدراسات القرآنیه و اللغویة

جامعة بابل / کلیة الدراسات القرآنیة / علوم القرآن

شعبة الإعدام

وحدة الدراسات النشرات

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

«ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)

وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ»

صدق الله العلي العظيم

(النحل/ 125 – 128 )

ص: 5

ص: 6

الإهداء

إلى إمام المصلحين، والناصحين،

بُرعُم النّبيّ(صلی الله علیه و آله)، وريحانته،

السِّبط البِكر الحسن(علیه السلام)،

أهديك قبساً من أقباسِك المتلألِئة في عالم الوجود.

ص: 7

ص: 8

المقدِّمة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الرحمن الرحيم، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأنعم على العباد الخير العميم، وصلى الله على مصطفاه، ومحموده النبيّ الأمين محمد الخير، والرحمة المذكور اسمه في التوراة والإنجيل، وعلى آله الأدلاّء على الله الكريم، والهداة إلى نهجه القويم، وصراطه المستقيم، وعلى أصحابه الكرام المخلَصين.

أما بعدُ، فإنه ليشرفني أن أقدّم للقراء العزيز دراسة عن الإنسانية المثالية عند الحسن ابن علي(علیهما السلام)، هذه الإنسانية التي تجعل من يكتب عنها في حَیرة من أمره، من أين يبتدئ؟، وماذا سيقول؟، وإلى أين ينتهي؟، إنها كالسيل الهادر لا يحجزه سدّ، وكالبحر الذي لا يحصره ساحل، إنها دائرة واسعة لا تتحدّد بمكان، وكيف، وزمان.

لقد تجسّدت هذه الإنسانية في روح الحسن(علیه السلام) التي بين جنبيه منذ ولادته حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فنحن نسمع كلامه الشجن في آخر لحظة من حياته وهو يقول لأخيه الحسين(علیه السلام): لا تهرق بسببي محجِمة(1) دمٍ، فهو وارث التكامل الإنساني من كتاب الله(عزوجل) وجدّه(المصطفى)(صلی الله علیه و آله)، وشجاعة القلب، والإنسانية العالية من أبيه(أميرالمؤمنين)(علیه السلام).).

ص: 9


1- المحجمة: اسم آله على وزن(مِفعلة) وهي القارورة التي يحجم بها الدم.(العين: الخليل بن أحمد الفراهيدي: تحقيق: مهدي المخزومي، وإبراهيم السامرائي، ط 1، منشورات دار الهجرة، قم، 1405ه- : 1(حجم): 351 ).

إن الدراسات التي تناولت سيرة الإمام الحسن(علیه السلام) كان همها هو كشف النقاب عن حياته، وجهاده السياسي، وسَلمه مع معاوية، وقد انبرى باحثون معاصرون من الأفذاذ مثل المحقق راضي آل ياسين، والشيخ باقر شريف القرشي، والسيد معروف الحسني وغيرهم للكتابة عن الحسن(علیه السلام) وصلحه، وجهاده، وليس شغل هذه الدراسة استعراض أقوال هؤلاء بصدد ما دوّنوه من أقوال بهذا الخصوص، وآراء.

وسيجد القارئ أن هذا الكتاب ليس مختصّاً بوجه عام في بيان هذه الأمور التي ذكرناها آنفاً، إلاّ أننا سنفيد منها من أجل بيان القيم الإنسانية، والتربوية عند الحسن(علیه السلام).

إنَّ هذا البحث سيحاول أن يستقرئ ما صدر عن الحسن(علیه السلام) من كلام سواء أكان خطبة، أم رسالة، أم وصية، أم حكمة وغيرها، موضحين إياها بحسب ما يقدح لفكرنا، وذهننا من أفكار، وتصورات، فضلاً عن ذلك ستكون القراءة المتأنية الصبور للنصوص هي الملاذ، والمطلب، والمبتغى في الوصول إلى بيان الإنسانية المثالية عند الحسن(علیه السلام).

فلينظر المسلمون – اليوم – ماذا في ضمائرهم من خلق الحَسن(علیه السلام)؟، وماذا في أيديهم من تراثه؟، وما أحوج الزعماء الذين يحاولون اليوم توحيد الناس أن يتخذوا من إنسانية الحسن المثالية سبيلاً إلى هذا المشروع العظيم !، وما أحوج المسلمين اليوم أن يرتشفوا من نمير إنسانية الحسن(علیه السلام)، وأن يستلهموها !.

من هنا جاءت هذه الدراسة لتناغم واقع العصر، وظروفه، وتعرّف المسلمين إنسانية رمز من رموز الإسلام، وإمام من أئمة التقريب بين المسلمين، الذي مدّ جسور المحبة، والتعاون، والتعايش، والتسامح بينهم، وستتجلى فيها ترنيمات عالية البيان في

ص: 10

التحابُب، والتوادُد، والتقريب، والتسامح والإخاء قلما يجود بمثلها الزمن.

إنَّ الإلمام، والإحاطة بجوانب هذه الإنسانية المثالية عند الحسن(علیه السلام)، يستدعي كما قلنا آنفا: استقراء ما صدر عن الحسن(علیه السلام)، من تراثه أجمع، فضلاً عن ذلك الوقوف على المصادر، والمراجع التي كتبت عنه، وقد جاءت الفرصة بحول الله(عزّ وجلّ) سامحة سانحة، فقمنا بمراجعة المصادر، والمراجع المختلفة، والمتنوعة التي تناولت حياته، وسيرته، وسلمه، القديمة منها، والحديثة، ولا نبالغ إذا قلنا: إنَّ تتبعها كان محط اهتمامنا، وجهْدنا من أجل الوصول إلى النتائج، والأهداف المنشودة من هذه الدراسة.

وأول من يلقانا من هذه المصادر التي أفدنا منها(سيرة ابن إسحاق)، ل(محمد بن إسحاق ت 151 ه-)،(وتاريخ خليفة بن خيّاط ت 240 ه-)، و(الإمامة والسياسة) ل(ابن قتيبة ت 276 ه-)،(والأخبار الطوال)(لأبي حنيفة الدنيوري ت 282 ه-)، و(تاريخ اليعقوبي) ل(أحمد بن أبي يعقوب اليعقوبي ت 292 ه-)، وأما مصادر القرن الرابع الهجري، فمنها(تاريخ الأمم والملوك) ل(محمد بن جرير الطبري ت 310 ه-)، و(الذريةالطاهرة) ل (الدولابي ت 310 ه-)، و(مروج الذهب) ل(المسعودي ت 346 ه-)، و(مقاتل الطالبيين) ل(أبي الفرج الأصفهاني ت 346 ه-)، ومن مصادر القرن الخامس الهجري(المستدرك على الصحيحين) ل(الحاكم النيسابوري ت 405 ه-)، و(الإرشاد) ل(المفيد ت 413 ه-)، و(الاستيعاب) ل(ابن عبد البر ت 463 ه-)، ومن مصادر القرن السادس الهجري(تاريخ دمشق) ل(ابن عساكر ت 571 ه-)، ومن مصادر القرن السابع الهجري(الكامل في التاريخ)، و(أُسد الغابة في معرفة الصحابة) ل(ابن الأثير ت630ه-)، و(تذكرة الخواص) ل(سبط بن الجوزي ت 654 ه-)، و(كشف الغمة في معرفةالأئمة) ل(أبي الحسن الأربليّ ت 692 ه-) ومن مصادر القرن التاسع الهجري(تهذيب

ص: 11

التهذيب في رجال الحديث) ل(شهاب الدين أبي الفضل العسقلاني ت 852 ه-)، و(الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة(علیهم السلام) ل(ابن الصباغ المالكي ت 855 ه-)،ومن مصادر القرن العاشر(تاريخ الخلفاء) ل(السيوطي ت 911 ه-)، و(جواهر العِقْدَين في فضل الشرفين) ل(السمهودي ت 911 ه-) وغيرها.

أما المراجع، فأهمها(الفتنة الكبرى) ل(طه حسين)، و(صلح الحسن(علیه السلام)) ل(راضي آل ياسين)، و(حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام)) ل(باقر شريف القرشي)، و(سيرة الأئمة الاثني عشر(علیهم السلام)) ل(هاشم معروف الحسني)، و(موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى)) ل(حُسين الشاكري)، و(رسائل الإمام الحسن(علیه السلام)) ل(زينب حسن عبد القادر) وغيرها.

وبعد إحاطة شاملة بالدراسة، وجوانبها شرعت برسم خطتها، فجاءت في مقدمة وثلاثة فصول، وخاتمة، بينت في المقدمة سبب الدراسة، وأهميتها، وجاء الفصل الأول بعنوان(جذور الإنسانية المثالية عند الحسن(علیه السلام))، قسمته ثلاثة مباحث، الأول منها درست فيه أثر القرآن الكريم في سُمو إنسانية الحسن(علیه السلام)، وجاء الثاني مبيّناً أثر التكامل الإنساني عند جده المصطفى(صلی الله علیه و آله) في إنسانية الحسن(علیه السلام)، وجاء الثالث موضحاً دور أبيه(أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام)) في رسم هذه الإنسانية، وظهورها.

وكان الفصل الثاني بعنوان(معالم الإنسانية المثالية عند الحسن(علیه السلام)) وقد جاء في ثلاثة مباحث، درست في الأول:(إصلاح المجتمع)، وفي الثاني:(التعايش السلمي)، وفي الثالث:(حقن الدماء).

وجاء الفصل الثالث من الدراسة بعنوان(آليات الحسن(علیه السلام) في تج معالم الإنسانية المثالية)، قسمته مبحثين، جاء الأول بعنوان أدب الحوار، درست فيه

ص: 12

أولاً: اللغة المؤدّبة المهذّبة، وثانياً: الصدق الفني، وثالثاً: الاقتصاد اللغوي.

وجاء المبحث الثاني بعنوان الإقناع الخطابي، درست فيه أولاً: المخاطب الحسن(علیه السلام)، وثانياً: فصل الخطاب، وثالثاً: الاهتمام بالمتلقّي.

وجاءت خاتمة هذه الدراسة متضمنة أهم النتائج التي توصلتُ إليها.

يطيب لي وأن أكتب هذه السطور الأخيرة من هذه المقدمة أنْ بَهتَُّ على عملي هذا نسمات القبول، ويحظى بالموقع المأمول من أصحاب الحجى والعقول، وأتقدم بالشكر الجزيل، والثناء المحمود لكلّ من أفاد الدراسة – ولو بكلمة واحدة – آمل أن أكون قد وفقت فيها، وهي جَهد الشهور فإن أصبت فبها ونعمت، وإن كانت الأخرى، فإني سَعَيْتُ، قال تعالى: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى»(النجم/ 39 – 41 ).

وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.

رحيم كريم علي الشَّریفيّ

جامعة بابل/ كلية الدراسات القرآنية

قسم علم القرآن

جُمادى الآخرة 1434 ه-

ص: 13

ص: 14

الفصل الأول: جذور الإنسانية المثالية عند الحسن(علیه السلام)

اشارة

مما لاشكّ فيه أنَّ الإنسانية المثالية التي تمتّع بها الحسن(علیه السلام) كان لها جذور راسخة، وثابتة، وقد تمظهرت هذه الجذور على مدى حياته المباركة منذ ولادته إلى يوم استشهاده، وسيحاول البحث بيان هذه الجذور التي كان لها الأثر البالغ، والدافع الرئيس في بلورة القيم الإنسانية العالية في نفس الحسن(علیه السلام)، وتمظهرها في أقواله وأفعاله.

ص: 15

ص: 16

المبحث الأول: أثر القر آن الكريم في رسوخ إنسانية الحسن(علیه السلام)

اشارة

القرآن الكريم الرحمة المهداة من السماء إلى أهل الأرض، لو وزعت الإنسانية كما وزعها القرآن الكريم، لضمن الخلق سكون النفس، والبال، فتسكن جوف الفقراء، ويزول خوف الأغنياء، ويعم السلام، والوئام، والمحبة الأمة بأسرها.

إن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تصل إلى الإخاء، والوحدة، والسلام إلاّ من خلال التمسك بكتاب الله(عزوجل)، وقد وصلت إلى ما وصلت إليه من تناحر، وتباغض، وشحناء بسبب ابتعادها عن القرآن الكريم تعليماتٍ، وقيماً، ومبادئ.

إن الإنسانية المتكاملة التي نجدها في القرآن الكريم لها دلالاتها المتعدّدة، والمتنوعة، ومن هذه الدلالات هي المصالح الاجتماعية التي تؤثر في سلوك الفرد، وكذلك التي تؤثر في سلوك الأمة أجمع، لذلك نرى أنّ الإسلام عندما أراد بناء المجتمع وضع الأسس الرصينة التي تحكم بناء هذا المجتمع، وتجعله أكثر تماسكاً وترابطاً في بناء العلاقات الأسرية، والمجتمعيّة، كافة.

فهدف الإسلام هو الإنسان الصالح، فمن خلال إيجاده يمكن إيجاد الجماعة الصالحة، التي تتسم بالأخلاق الاجتماعية العليا كحسن المعاشرة، ومداراة الناس، والتسامح، والعفو، والصفح وغيرها؛ لهذا نجد القرآن الكريم، والرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)، وخلفائه يولون اهتماماً خاصاً من أجل ظهور هذه الجماعة الصالحة(1)، .

ص: 17


1- ينظر: بحوث في منهج تفسير القرآن: محمود رجبي: ط 2، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2010 م: 218 .

وقد رسم «القرآن من خلال تعبيره عن الأغراض الدينية المختلفة عشرات من النماذج الإنسانية من غير القصص رسمها في سهولة ويسر واختصار فما هي إلاّ جملة أو جملتان حتى يرتسم النموذج الإنساني شاخصاً من خلال اللمسات، وينتفض مخلوقاً حيّاً خالد السمات، تارة تكون هذه النماذج صورة للجنس الإنساني كلّه، وتارة تكون صورة لأفراد منه مذكورين، وهي في كلتا الحالتين نماذج خالدة لا يخطئها الإنسان في كلّ مجتمع، وفي كُلّ جيل» (1).

ومن النماذج التي كان للقرآن الكريم أثر في إنسانيته المثالية، هذه الإنسانية الطيبة الشجاعة الكريمة الصابرة الباذلة الحسن بن علي(علیه السلام).

أولاً: وصفه(علیه السلام) كتاب الله(عزوجل)

وصف الحسن(علیه السلام) كتاب الله(عزوجل) وصفاً دقيقاً، فهو مصدر النور، والهداية، والسعادة، وهو الشفاء للنفوس، والصدور قال: «إنَّ هذا القرآن فيه مصابيح النور، وشفاء الصدور، فليجل جال بضوئه، وليلجم الصفة قلبه، فإنّ التفكير حياة القلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور» (2).

ووصفه بالكمال، والتفصيل، لا يأتيه الباطل من أيّ ناحية، وأنْ تتدبر معانيه حقيقة من دون ظنّ، وتأويل وهو المعوّل في التفسير، فقال(علیه السلام) «نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسوله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله(صلی الله علیه و آله) في أمته، والتالي كتاب الله فيه تفصيل كلّ شيء لا يأتيه .

ص: 18


1- التصوير الفني في القرآن: سيد قطب: دار الشروق، القاهرة، د.ت: 216 .
2- كشف الغمة في معرفة الأئمة: أبو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الأربلّي(ت 692 ه-)، قدم له السيد أحمد الحسيني، ط 1، مطبعة شريعة قم – إيران، 1427 : 1/ 536 .

الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوّل علينا في تفسيره، لا نتظنّى تأويله، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله عز وجل ورسوله مقرونة، قال الله(عزوجل): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا»، «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» وأحذركم الإصغاء لهتاف الشيطان فإنه لكم عدو مبين فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم: «لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ»، فتلقون إلى الرماح وزراً، وإلى السيوف حزراً، وللعمد حطْماً، وللسهام غَرَضاً ثم: «لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا» (1).

ثانياً: العمل بأحكام القرآن الكريم

إن العمل بأحكام القرآن الكريم، والتمسك بتعاليمه مجلبةٌ للسعادة، والهداية، والفوز بالدارين الدنيا والآخرة، فالأمة المتمسكة بالقرآن الكريم هي الأمة الهادية الراشدة السعيدة، الأمة التي يسودها الحبّ والمودّة والإخاء، بخلاف الأمة التي تركت كتاب الله(عزوجل) وراء ظهرها؛ فكانت عُرضة للخلاف، والبغضاء، والشحناء.

ويظهر تمسك الحسن(علیه السلام) بأحكام القرآن الكريم، وتحمله بتعاليمه جليّاً، فقد كان).

ص: 19


1- مروج الذهب ومعادن الجوهر: أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي(ت 346 ه-)،ط 1، دار القارئ، 1426 ه - 2005 م: 3/ 10 – 11 . وينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام) دراسة وتحليل: باقر شريف القرشي، تحقيق: مهدي باقر القرشي، ط 1، مطبعة شريعة، إيران، 1429 ه - 2008 م: 1/ 148 – 149 .(النساء/ 59 )،(النساء/ من الآية 83 )،(الأنفال/ 48 )،(الأنعام/158).

مثالاً للإنسانية المثالية، ورمزاً للخلق العظيم، فأصبح من طليعة الإنسانيين الأخلاقيّين في دنيا العرب، والمسلمين، فكانت حياتُهُ، حافلةً، ومليئة بالإنسانية، فغدا إماماً من أئمة المسلمين ورعاً، وتقوى، وخلقاً.

وقد أشار(علیه السلام) إلى هذا الفهم الخالص، والتصور الواضح فقال:

«أيها الناس إنّه مَنْ نصح لله وأخذ قوله دليلاً هُدي للتي أقوم، ووفقه الله(عزوجل) للرشاد، وسدّده للحسنى، فإنَّ جار الله آمن محفوظ، وعدّوه خائف مخذول، فاحترسوا من اللهِ بكثرة الذكر، واخشوا الله بالتقوى، وتقرّبوا إلى اللهِ بالطاعة، فإنّه قريب مجيب، قال الله تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»، فاستجيبوا للهِ وآمنوا به، فإنّه لا ينبغي لمن عَرَف عظمة الله أنْ يتعاظم رفعة الذين يعلمون عظمة الله أن يتواضعوا، والذين يعرفون إجلال الله أن يتذلّلوا له، وسلامة الذين يعلمون ما قدرة الله أنْ يستسلموا له»(1). إنها ترنيمة عالية المضمون في العمل بأحكام القرآن الكريم.

إن عمل الحسن(علیه السلام) بأحكام كتاب الله(عزوجل)، وتمسكه بتعاليمه وقيمه جعلته يكتسب وينال هذه الإنسانية العالية، فظهرت جليّة في أقواله، وأفعاله فكانت تطبيقاً لمبادئ القرآن الكريم وقيمه، وسيتجلى هذا الأمر عند حديثنا عن(معالم الإنسانية المثاليةعند الحسن(علیه السلام).

ومن أهم الشواهد والدلائل على عمل الحسن(علیه السلام) بأحكام القرآن الكريم، وتمسكه بها الشرط الأول الذي اشترطه على معاوية بن أبي سفيان عند الهدنة، والاتفاق،).

ص: 20


1- موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى(علیه السلام)): حسين الشاكري، ط 2، مطبعة غدير، قم – إيران، 1425 ه-: 5/ 123 .(البقرة/ 186 ).

والسلم بينهما، وهو العمل بكتاب الله(عزوجل)، وهو رأس كلّ شرط، ومقدّمة أي عمل، وقد ذكرت المصادر والمراجع أن العمل بكتاب الله، وسنة نبيّه، والخلفاء الراشدين هو أول الشروط، أو البنود، أو المواد، أو الفقرات، وإليك أيها القارئ العزيز نصّه: قال الأربلي: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله(صلی الله علیه و آله)، وسيرة الخلفاء الراشدين»(1)، وقال ابن الصباغ المالكي: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان صالحه على أن يسلّم إليه ولاية المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله»(2)، وقال راضي آل ياسين: «تسليم الأمور إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وسنة نبيّه، وسيرة الخلفاء الراشدين»(3)، وقال باقر شريف القرشي: «تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله، وسنة نبيّه، وسيرة الخلفاء الراشدين»(4)، ولا يخفى أن القرشي قد كرّر هذا الشرط الذي ذكره آل ياسين، وهذا ما2.

ص: 21


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: 1/ 533 .
2- الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة(علیهم السلام): علي بن محمد بن أحمد المالكي(ابن الصباغ المالكي)(ت 855 ه-)، ط 2، دار الأضواء، بيروت – لبنان 1409 ه - 1988 م: 154 – 155 . وينظر: أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين العاملي، حققهُ، السيد حسن الأمين، ط 5، دار التعارف للمطبوعات، بيروت،( 1418 ه - 1998 م): 2/ 376 .
3- صلح الحسن(علیه السلام): الشيخ راضي آل ياسين، ط 4، منشورات ناصر خسرو، بيروت –لبنان، 1399 ه - 1979 م: 259 .
4- حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام) : 232 /2.

فعله هاشم معروف الحسني(1)، وحسين الشاكري أيضاً(2).

إن تقدم هذا الشرط جاء لاشتهاره، وعظمته، فالعمل بكتاب الله، هو أساس نجاح كل أمرٍ، وقضية، فهو دستور المسلمين، فالتمسك بأحكامه ضمان الفوز والظفر، وترك العمل بها يعني الضلال، والشقاء، وسوء المآل، ومن هنا جاء توكيد الحسن(علیه السلام) هذا المبدأ؛ لأنه حصانةٌ للأمة من التفرق، والتشتت، والاختلاف.

ثالثاً: استشهادُه بالنصوص القرآنية

إنّ الحسن(علیه السلام) حينما ننظر إلى حقيقته نرى كيف تتجاذبه كلمات الله(عزوجل) من جوانبه كافةً، وليس هذا الأمر بغريب ع نشأ في بيت الوحي والتنزيل، فقد اتصل بالقرآن الكريم منذ صغره، وانكب على حفظه، وتدبّره، وفهم دلالاته ومعانيه، فانعكس هذا الفهم على سلوكه وتصرفاته من جهة، وعلى بلاغته وأسلوبه من جهة أخرى، وقد وظف النصوص القرآنية مستشهداً بها في كثير من كلامه، وأول ما يلقانا من هذه النصوص القرآنية البليغة التي استشهد بها، ما ضمّنها خطبته التي ألقاها بعد استشهاد أبيه علي(علیه السلام)، فقال: «لقد قبض في هذه الليلة رجلٌ لم يسبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون وقد كان رسول الله(صلی الله علیه و آله) يعطيه رايته، ويقاتل جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره فما يرجع حتى يفتح اللهُ عليه، وما ترك على ظهر الأرض صفراء، ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله، أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومَنْ لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، وأنا ابن الوحي، وأن ابن البشير، وأنا ابن النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله والسراج المنير، وأنا من أهل .

ص: 22


1- ينظر سيرة الأئمة الاثنى عشر: هاشم معروف الحسني، ط 5، مطبعة شريعة، إيران: 1/ 524.
2- ينظر: موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 170 .

البيت الذي كان جبريل ينزل فينا، ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأنا من أهل البيت الذين افترض الله مودّتهم على كُلِّ مسلمٍ، فقال لنبيّه: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا»، فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت» (1).

ففي هذا النص إقرار بعصمة أهل البيت(علیهم السلام)، وكونهم مطهرين من الرجس، والخطأ والزلل، ووجوب مودّتهم وحبهم، وقد اتفقت كلمة المسلمين على فضل أهل البيت، وعلو مقامهم العلمي والروحي، ونيلهم مجموعة من الكمالات التي أراد الله(عزوجل) للإنسانية أن تتح بها، ويعود هذا الاتفاق إلى تصريح الذكر الحكيم بالموقع الخاص لأهل البيت(علیهم السلام) من خلال النصّ على تطهيرهم من الرجس، ولئن اختلف المسلمون في دخول نساء النبيّ في مفهوم أهل البيت فإنهم لم يختلفوا في دخول عليّ، وفاطمة، والحسنين في ما تقصده الآية المباركة، وهي قوله تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(الأحزاب/ من الآية/ 33 )، قال الشوكاني: «(أهل البيت) هذا يشمل زوجات النبيّ(صلی الله علیه و آله) وعليّ وفاطمة والحسن والحسين(ويطهركم تطهيرا) أي يطهركم من الأرجاس والأدران تطهيراً كاملاً» (2)، وإنّهم القربى الذين تجب مودّتهم كأجر للرسالة التي أتحف اللهُ بها الإنسانية جمعاء(3). .

ص: 23


1- الذرية الطاهرة: أبو البشر محمد بن أحمد بن حماد الأنصاري الرازي الدولابّي(ت 310 ه-)، تحقيق: السيد محمد جواد الجين الجلالي، ط 8، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت – لبنان، 1408ه- 1988 م: 108 .(الشورى/ 23 ).
2- زبدة المعاني من تفسير الشوكاني(مطبوع بهامش القرآن الكريم): الإمام محمد بن علي بن عبد الله الشوكاني(ت 1250 ه-)، تعليق الدكتور: محمد أبو زيد، ط 1، دار الفجر الإسلامي، دمشق، 1424ه- 2003 م: 422 .
3- ينظر: أعلام الهداية(الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام))، المجمع العلمي لأهل البيت(علیهم السلام) الطبعة الأولى، دار الأميرة، بيروت، 2005 م: 25 .

وروى المسعودي خطبة له(علیه السلام)، وقد ضمنها آيات من الذكر الحكيم، ذكرنا في موضع وصفه(علیه السلام) القرآن الكريم(1).

وكان الحسن(علیه السلام) يجلس في مسجد رسول الله(صلی الله علیه و آله)، ويجتمع الناسُ حوله فيتكلم مما يشفي غليل السائلين، ويقطع حجج المجادلين، ومردّ هذا الأمر كما قلنا من قبلُ هو اتصاله الوثيق، وارتباطه العميق بكتاب الله(عزوجل)، وكونه من بيت الوحي والتنزيل، قال الأربلي: «روى الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحديّ(رحمة الله) في تفسيره الوسيط ما يرفعه بسنده أنّ رجلاً قال: دخلت مسجد المدينة، فإذا أنا برجل يحدّث عن رسول الله(صلی الله علیه و آله) والناس حوله، فقلت له: أخبرني عن «وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ»(2)، فقال: نعم، أما الشاهد فيوم الجمعة، وأما المشهود فيوم النحر، فجزته إلى آخر يحدث فقلت له أخبرني عن(شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ) فقال نعم أما الشاهد فيوم الجمعة و أما المشهود فيوم النحر فجزتهما إلى غلام كأنَّ وجهه الدينار وهو يحدّث عن رسول الله(صلی الله علیه و آله)، فقلت: أخبرني عن(شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ)، فقال: نَعَمْ، أما الشاهد فهو محمد(صلی الله علیه و آله) وأما المشهود فيوم القيامة، أما سَمِعْتَه يقول: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا»، وقال تعالى: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ»، فسألت عن الأول؟ فقالوا: ابن عباس، وسألت عن الثاني؟ فقالوا: ابن عمر، وسألت عن الثالث؟ فقالوا: الحسن بن علي بن أبي طالب(علیه السلام)، وكان قول الحسن أحسن» (3).).

ص: 24


1- ينظر: مروج الذهب: 3/ 10 – 11 .
2- البروج اية 3
3- كشف الغمة: 1/ 509 – 510 . وينظر: الفصول المهمة: 147 .(البروج/ 3)،(الأحزاب/ من الآية 45 )،(هود/ من الآية 103 ).

إنَّ فهم كتاب الله عز وجل، وتدبر دلالاته قد انعكس على سلوك الحسن(علیه السلام)، وتعامله مع الناس، فیروى أنَّ إحدى جواري الحسن(علیه السلام) قد قدّمت له هدية وهي(طاقة ريحان) فقبل(علیه السلام) هديتها، وقال لها: أنت حرّة لوجه لله(عزوجل) وكان أحد الأشخاص جالساً فشاهد الموقف الإنساني للحسن(علیه السلام) فتعجب كيف أعتقها مقابل طاقة ريحان، وهي لا تساوي شيئاً؟، فتبسم الحسن(علیه السلام)، فقال هكذا أدّبنا الله؛ لأنهيقول في القرآن المجيد: «وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا»(النساء/ من الآية 86 ) ورأيت أن الأفضل في هدية هذه الجارية هو أن أعتقها في سبيل الله(عزوجل) .(1) .

ص: 25


1- ينظر: ثورة الإمام الحسن(علیه السلام) محمد الحسيني الشيرازي، ط 2، دار صادق للطباعة، كربلاء المقدسة، 1426 ه - 2005 م: 28 – 29 .

ص: 26

المبحث الثاني: أثر التكامل الإنساني عند المطفى(صلی الله علیه و آله) في إنسانية الحسن(علیه السلام)

اشارة

الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) مَثَلُ الله(عزوجل) الأعلى للإنسان الكامل، صوّرَهُ خلقاً سوياً ليرسم الأخلاق بالمثل، ويعلم الدين بالعمل، وينظم الحياة بالقدوة فهو صادق العزم، كريم العهد، وثيق الذمة، راجح الحكم، شاهد اللب، لين العطف، حلو المعاشرة(1).

وقال مصطفى صادق الرافعي: «لم يكن مثله(صلی الله علیه و آله) في الصبر والثبات واستقرار النفس، واطمئنانها على زلازل الدنيا، ولا من الرحمة ورقة القلب والسمو فوق معاني البقاء الأرضي: (2).

لقد تجلّت فيه(صلی الله علیه و آله) مواهب الكمال الإنساني، وقد وصفه الله(عزوجل)، في سورة القلم بقوله: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (القلم/ 4) والخلق: الصفات والشمائل الكريمة، والخلق العظيم هو الخلق المثالي الرفيع وهي شهادة ربانية لمحمد(صلی الله علیه و آله) بأخلاقه الخيرة، وشمائله الحميدة(3)، وقد أثر عنه أنه كان يقول: «لا يقولَنَّ أحدكم خبُثت نَفسی، ولكن.

ص: 27


1- ينظر: وحي الرسالة(فصول في الأدب والنقد والسياسة والاجتماع): أحمد حسن الزيات، ط 8، دار ونهضة مصر، الفجّالة، القاهرة، 1953 م: 1/ 134 .
2- وحي القلم: مصطفى صادق الرافعي: ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1446 ه- 2005 م: 3/ 8.
3- ينظر: محمد خاتم المرسلين: شوقي ضيف، ط 2، دار المعارف، مصر، 2009 م: 71 .

ليقل: لَقَسَتْ نفسي»، كراهية أن يضيف المسلم الخبث إلى نفسه(1) ما أجمل هذه العبارة التي تفيض رحمة وإنسانيةً !!!

لم يكن المصلح الأول محمد(صلی الله علیه و آله) رجلاً يقابل السيئة بالسيئة مع مَنْ أساء إليه من أعدائه، أولئك الذين لم يق وّرصا في عدائه، ومحاربته، عندما سيطر عليهم لم ينادِ بالانتقام، ولا بالقصاص، ولم يدع إلى تشكيل محكمة ثورية لمحاكمتهم، وللأخذ بالثأر منهم، بل كان يحب هدايتهم، فلم يقتص من وحشي قاتل عمّه حمزة(رضي الله عنه)، ودخل مكة فاتحاً من دون إراقة قطرة دم(2).

قال خليفة بن خياط(ت 240ه-) «عن عبد الله الأعرج عن معقل بن يسار أنه شهد النبي(صلی الله علیه و آله) يوم الحديبيّة وهو رافع غصْناً من أغصان الشجرة على رأس رسول الله يبايع الناس فبايعوه على أن لا يغدروا وهم يومئذ ألف وأربعمائة» (3).

إنَّ هذه الإنسانية المتكاملة التي تشرّفت بأن تتلبس بسيد الكائنات، وأفضل الموجودات وفخرها المصطفى(صلی الله علیه و آله) لا يضدّها ما سالت به أقلام المتسرّعين من نحو صُهيب الروميّ الذي ذهب إلى «أنَّ الرسول لم يبلغ شأواً من الكمال الإنساني الذي يرضي العقل والقلب تمام الرضا، والقرآن نفسه يشهد على افتراض أننا لا نعتبر سوى القرآن وثيقة، إنَّ هناك بعض نواح من شخصية الرسول العربي تترك النفس في شيء .

ص: 28


1- ينظر: الحيوان: عمرو بن بحر الجاحظ(ت 255 ه-)، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، 1356 ه - 1938 م: 1/ 335 .
2- ينظر: محمد(صلی الله علیه و آله) في القرآن: رضا الصدر، مكتب الإعلام الإسلامي، قم – إيران، 1420 ه:39 – 38
3- تاريخ خليفة بن خياط برواية تقي بن خالد: خليفة بن خياط العَصْفري(ت 240 ه-) تحقيق: الدكتور سُهيل زكّار، دار الفكر، بيروت – لبنان، 1414 ه - 1993 م: 39 .

من الارتباك والتساؤل(...) فليس من سبيل إذن إلى متابعة بعض المتهوّسين من رفع الرسول إلى أسمى درجات الكمال الإنسان» (1).

إن هذه الإنسانية التكاملية عند المصطفى(صلی الله علیه و آله) كان لها صَداَها في نفس الحسن(علیه السلام)، فنهل منها ما شاء أن ينهل، مقتدياً بجدّه في الاحتواء على محاسن الأخلاق كلّها، واستحقاق الفضائل والشمائل بأسرها، فنال خير الآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، وهذا ما سنعرض له.

أولاً: تَسميتُه ورعايتُه

تجمع المصادر والمراجع التي وقفنا عليها أنَّ جدّه الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) هو الذي سمّاه حسناً، قال ابن إسحاق(ت 151 ه-) «لمّا خطب عليٌّ فاطمة أتاها رسول الله(صلی الله علیه و آله)، فقال: «إنَّ علياً قد ذكرك»، فَسَكَتَت فخرج رسول الله(صلی الله علیه و آله) فزوّجها، حدثنا أحمد:

حدثنا يونس: قال: سَمِعْت ابن اسحاق، قال: فولدت فاطمة لعليّ، الحسن، والحسين، ومحسن، فذهب محسن صغيراً، وولدت له: أم كلثوم، وزينب، حدثنا يونس عن يونس بن عمرو عن أبيه عن هانئ بن هانئ عن عليّ، قال: «لما ولد حسن سميتُه حرباً»، قال:

فجاء رسول الله(صلی الله علیه و آله)، فقال: «أروني بُنَيّ، ماذا سميتموه»؟ فقلت: سميته حرباً، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله): « لله عليه، لا ولكن اسمه حسن»، فلما ولدت حُسَينا سميته حرباً،

فجاء رسول الله(صلی الله علیه و آله)، فقال: «أروني ابني ما سميتموه»؟ فقلتُ: «سميته حرباً»، فقال:

«لا، ولكن اسمه حُسَين»(...) ثم قال: «إنّي سمّيتُهم ببني هارون: شَبَرَه وشُبَيْرا، يقول:

حَسَن وحُسَين» (2). .

ص: 29


1- سيرة محمد(البيئة والنشأة): صهيب الرّومي، ط 1، بَيْسان، بيروت – لبنان، 2006 م: 319 .
2- سيرة ابن إسحاق(المسماة ب(كتاب السير والمغازي): محمد ابن إسحاق بن يسار(ت151ه-)، تحقيق الدكتور سهيل زكّار، مؤسسة إسماعيليان، قم – إيران، 1410 ه-: 246 – 247 ، وينظر: الذرية الطاهرة: 97 ، ودلائل الإمامة: أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري، من علماء القرن الرابع الهجري، ط 2، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت – لبنان، 1408 ه - 1988 م: 60 . وأسد الغابة في معرفة الصحابة: عز الدين أبو الحسن علي بن أبي كريم محمد بن محمد الشيباني المعروف ب(ابن الأثير(ت 630 ه-))، ط 1، دار الفكر، بيروت – لبنان، 1425 ه - 2005 م: 1/ 556 .

وقد ولد(علیه السلام) في المدينة المنورة في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وهو أول غرس للشجرة العلوية الفاطمية، والدوحة الهاشمية(1).

ولم يكتفِ المصطفى(صلی الله علیه و آله) بتسميته فقد «عقّ عنه يوم سابعه، وحلق شعره، وأمر أنْ يتصدق بزنة شعره فضّة، وهو خامس أهل الكساء» (2).

وقال سبط ابن الجوزي(ت 654 ه-) «وأذّن رسول الله(صلی الله علیه و آله) في أُذنه»(3)، وقد توسّع ابن الصبّاغ المالكي(ت 855 ه-) في ذكر رعاية النبيّ(صلی الله علیه و آله) لحفيده الحسن(علیه السلام)، فقال: «ولد الحسن بن علي (علیهما السلام) في المدينة في النصف من شهر رمضان المعظم سنة ثلاث من الهجرة، وكان الحسن أول أولاد فاطمة(علیهما السلام)(...) وأتاه رسول الله(صلی الله علیه و آله) فسرّه، ولثّاه بريقه، وقال: «اللهمّ إني أعيذه بك، وولده من الشيطان الرجيم»، فلما كان اليوم السابع من مولده قال(صلی الله علیه و آله) «ما سميتموه» قالوا: حرباً، قال(صلی الله علیه و آله): « بل سمّوه حسنا»، ثم إنّه(صلی الله علیه و آله) عقّ عنه، وذبح كبشاً، وتولى ذلك بنفسه الكريمة، وقال لفاطمة(علیهما السلام): احلقي رأسه، وتصدّقي بوزن الشعر فضة، فكان الوزن عن شعره بعد حلقه5.

ص: 30


1- ينظر: تاريخ خليفة بن خياط، 38 ، ودلائل الإمامة: 60 ، ومقاتل الطالبيين: أبو الفرج الأصفهاني(ت 356 ه-)، شرح وتحقيق، السيد أحمد صقر، دار إحياء التراث العربي، بيروت(د.ت): 49.
2- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 1/ 556 ، وينظر: تذكرة الخواص من الأمّة بذكر حقائق الأئمة(علیهم السلام) يوسف بن علي البغدادي سبط ابن الجوزي(ت 654 ه-) تحقيق: حسين تقي زادة، مطبعة ليلى، إيران، 1426 ه-: 1/ 5. وكشف الغمة: 1/ 484 .
3- تذكرة الخواص من الأمّة: 1/ 5.

درهماً وشيئاً فتصدّقت به، فصارت العقيقة، والتصدّق بوزن الشعر سنة عند العلماء بما فعله النبيّ(صلی الله علیه و آله) في حقّ الحسن(علیه السلام)» (1).

ولا يخفى البعد الإنساني في تغيير اسمه من حرب إلى حسن، فجدّه(صلی الله علیه و آله) أراد له أن يكون حسناً لا حرباً، فالحُسْنُ: «عبارة عن كُلّ مبهج مرغوب فيه، وذلك ثلاثة أضرب:

مستحسن من جهة العقل، ومستحسن من جهة الهوى، ومستحسن من جهة الحسن، والحسنة يع عنها عن كلّ ما يسرّ من نعمة تنال الإنسان من نفسه، وبدنه وأحواله» (2)، فأراد جدُّه(صلی الله علیه و آله) أنْ يكون غرسه وبرعه حسناً في كُلّ شيءٍ، مُبْعداً وسالباً عنه كلّ مكروه وسوء، فالدلالة الرئيسة لمادة(حرب) هي السَّلَبُ بخلاف الإيجاب، وما تحمله هذه الدلالة من صفات سلبيّة، ورذائل، زد على ذلك فإنَّ لفظة حرب ضد السَّلم مؤنثة،

وقد ذكر(3).

لقد رأى النبي(صلی الله علیه و آله) أن سبطه البكر الحسن(علیه السلام) صورة مصغّرة عنه، يضارعه في أخلاقه، ويحاكيه في سموّ نفسه، وأنه قبسٌ من سناه، يرشد أمته من بعده إلى طريق الحقّ، ويهديها إلى سواء السبيل(4).

وذكرت المصادر أن الحسن(علیه السلام) كان أشبه الناس خُلْقاً، وخَلْقاً بجدّه .

ص: 31


1- الفصول المهمة: 143 .
2- مفردات ألفاظ القرآن: الراغب الأصفهاني(ت في حدود 425 ه-)، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، ط 4، مطبعة كيميا، قم – إيران:(حسن): 235 .
3- ينظر: العين: الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت 175 ه-)، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي، والدكتور إبراهيم السامرائي، ط 1، منشورات دار الهجرة، قم – إيران، 1405 ه-: 1(حرب): 361 ،ومختار الصحاح: محمد بن أبي بكر الرازي(ت 666 ه-) دار الكتاب العربي، بيروت، 1401 ه - 1981 م:(حرب): 128 .
4- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علّي(دراسة تحليلية): باقر شريف القرشي: 1/ 60 .

المصطفى(صلی الله علیه و آله)، قال الدولابي: «كان أشبههم برسول الله(صلی الله علیه و آله) يعني أهل البيت الحسن بن علي(رضي الله عنهما)»(1)، وقال المفيد(ت 413 ه-) «وكان الحسن أشبه الناس برسول الله(صلی الله علیه و آله) خلقاً، وهدياً، وسؤدداً»(2)، وقال الأربليّ: «ص أبو بكر العصر ثم خرج يمشي، ومعه عليّ(علیه السلام)، فرأى الحسن يلعب بين الصبيان، فحمله أبو بكر على عاتقه، وقال:

بأبي شَبِيهٌ بالنبيّ

لَيْس شبيهاً بعلیّ

وعلي(علیه السلام) يضحك»(3)، وقال الحسني: «وقال واصفوه أنه كان أشبه الناس برسول الله خُلْقاً وخَلْقاً وسؤدداً، وهيبةً» (4).

إنَّ هذا الحُنو الكبير من لدن المصطفى(صلی الله علیه و آله) على سبطه الحسن(علیه السلام)، جعلته يتقمص إنسانيته المتكاملة، فقد أشبهه بخُلُقه وخَلْقه، وقد جسد أخلاقه، وشمائله، وكان يلهج بها دائماً.

إنَّ ولادة الحسن(علیه السلام) في حجر النبي(صلی الله علیه و آله)، وتدرّجه في عشِّ النبوة، وبيت الطهارة والعفة جعلته ذا إنسانية مثالية.

ثانياً: الأحاديث النبوية الشريفة في حقّه(علیها السلام)

لقد أطلّ على العالم الإسلامي نورٌ من أنوار النبوة من بيت أذِن اللهُ أنْ يرفع ويذكر فيه اسمه، وانبثق من دوحة النبوة فرع زاك، رفع الله به كيان الإسلام، وأشاد به صروح .

ص: 32


1- الذرية الطاهرة: 98 .
2- الإرشاد: محمد بن محمد بن نعمان العكبري البغدادي الملقب ب(الشيخ المفيد)(ت 413 ه-)، ط 1، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت – لبنان، 1429 – 2004 م: 178 .
3- كشف الغمة: 1/ 491 ، وينظر: تهذيب التهذيب: 2/ 51 ، وينظر: الفصول المهمة: 144 .
4- سيرة الأئمة الاثني عشر: هاشم معروف الحسني: 1/ 463 .

الإيمان وأصلح به بين فئتين عظيمتين(1)، فهو(علیه السلام) وأخوه الحسين(علیه السلام) دوحتا النبوة التي طابت فرعاً، وأصلاً وشعبتا الفتوة التي سمت رفعة ونبلاً(2).

وقد رويت الأحاديث الحسان، مما يشار إليها بالبنان في فضل الحسن(علیه السلام)، وجُلّ هذه الأحاديث تؤكد تعلق المصطفى(صلی الله علیه و آله) بابنه الحسن(علیه السلام)، فهو ريحانته، وحبه، والدعاء له بالسلم، وكونه سيد شباب أهل الجنة، وتعرف الناس منزلته، وغيرها من الأوصاف.

وجرياً على سنن المنهج العلمي ومسايرة للأمانة العلمية سنذكر أهم حديث يخصّ عنوان دراستنا، لما له مَسِيْس بالإنسانية المثالية عند الحسن(علیه السلام)(3)، وهو:- «إنّ ابني هذا سيد، ولعلّ اللهَ أنْ يصلح به بين فئتين عظيمتين» روى البخاري (ت 256 ه-) هذا الحديث في ثلاثة مواضع من صحيحه، وهي على الترتيب: «باب قول

النبيّ(صلی الله علیه و آله) للحسن بن علي(رضي الله عنهما): «ابني هذا سيد، ولعلّ اللهَ أنْ يصلح به بين فئتين عظيمتين»(4). والموضع الثاني جاء مكرّراً نصّاً حرفياً(5)، أما الموضع الثالث فجاء مسنداً مع زيادة، قال: «باب مناقب الحسن والحسين(رضي الله عنهما)(...)

حدّثنا صَدَقة: حدثنا ابنُ عُيَينة: حدثنا أبو موسى عن الحسن: سَمِع أبا بكرة: سَمِعْتُ .

ص: 33


1- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 1 / 53 .
2- ينظر: كشف الغمة: 1/ 487 .
3- وقد كفانا الشيخ القرشي مؤونة ذكر هذه الأحاديث، فقد ذكر أحاديث رويت في حقه أولا، وحقه وحق أخيه الإمام الحسين(علیهما السلام) ثانيا ، والثالثة في أهل بيته.(حياة الإمام الحسن بن علي: 1/ 99 – 86).
4- صحيح البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري(ت 256 ه-)، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، 1422 ه - 2001 م: 478 .
5- ينظر: م . ن: 478 .

النبيّ(صلی الله علیه و آله) على المِنبر، والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرّة، وإليه مرّة، ويقول: ابني هذا سيّد، ولعلّ اللهَ أنْ يصلح به بين فئتين من المسلمين» (1).

وقال الدولابي(ت 310 ه-) «حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب: حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد عن علي بن زيد عن الحسن عن أبي بكرة، قال: بينما رسول الله(صلی الله علیه و آله) يخطب إذ صَعِدَ إليه الحسن فضمّه إليه: فقال: إنّ ابني هذا سيّد، وإنَّ اللهَ علّه أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين» (2).

وقال المسعودي(ت 346 ه-) «إنَّه لما صالح الحسن معاوية ك معاوية في الخضراء، فخرجت فاختة بنت قرظة من خوخة لها، فقالت: سرَّك اللهُ يا أمير المؤمنين ! ما هذا الذي بلغك؟ قال: أتاني البشير بصلح الحسن، وانقياده فذكرت قول رسول الله(صلی الله علیه و آله) «إنَّ ابني هذا سيّد أهل الجنة، وسيصلح اللهُ به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين، فالحمدُ للهِ الذي جعل فئتي إحدى الفئتين» (3).

وقال عماد الدين المعروف ب(ابن زَْمحة) من أعلام القرن السادس الهجري: «إنه لما وقع عليه من أصحابه ما وقع وألجأه ذلك إلى مصالحة معاوية، فصالحه، واشتدّ ذلك على خواص أصحابه، فكنتُ أحدهم، فجئته فعذلته، فقال: يا جابر لا تعذلني، وصدِّق رسول الله(صلی الله علیه و آله) في قوله: «إنَّ ابني هذا سيد، وإنَّ الله تعالى يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»، فكأنه لم يشفِ ذلك صدري، فقلتُ: لعلّ هذا شيءٌ يكون بعد، وليس هذا هو الصلح مع معاوية، فإنَّ هذا هلاك المؤمنين وإذلالهم فوضع يده على صدري،9.

ص: 34


1- صحيح البخاري: 664 .
2- الذرية الطاهرة: 102 .(علّه لغة في(لعلّ)).
3- مروج الذهب ومعادن الجوهر: المسعودي: 3/ 9.

وقال: شككت، وقلت كذا» (1).

وقال ابن الأثير(ت 630 ه-) «فظهرت المعجزة النبوية في قوله،(صلی الله علیه و آله): « إنَّ ابني هذا سيد يصلح اللهُ به بين فئتين من المسلمين، وأي شرف أعظم من شرف من سمّاه رسول الله(صلی الله علیه و آله) سيّدا» (2).

وقال سبط ابن الجوزي(ت 654 ه-) بعد أن ذكر سلسلة من الرواة: «حدّثني أبو بكرة(نفيع بن الحارث)، قال: «رأيت رسول الله(صلی الله علیه و آله) على المنبر، والحسن إلى جنب، وهو يقبل على الناس مرّة، وعلى الحسن أخرى، ويقول: إنَّ ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (3).

وقال الأرْبليّ(ت 692 ه-) «فمنها ما اتفقت الصحاح على إيراده، وتطابقت على صحة إسناده، وروى مرفوعاً إلى أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي، قال: رأيتُ رسول الله(صلی الله علیه و آله)، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرّة، وعليه مرّة، ويقول: «إنَّ ابني هذا سيد، ولعلّ اللهَ أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين»(4). وقال أيضاً:

«رُوي عن أبي بكرة قال: بينما رسول الله(صلی الله علیه و آله) يخطب إذ صَعِد إليه الحسن فضمّه إليه، وقال: إنّ ابني هذا سيّد، وإنَّ الله علّه أنْ يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين» (5). .

ص: 35


1- الثاقب في المناقب: الفقيه عماد الدين أبو جعفر محمد بن علي الطوسي المعروف ب(ابن حمزة) من أعلام القرن السادس الهجري، تحقيق: نبيل رضا علوان، ط 4، حواسة أنصاريان للطباعة، إيران، 1482ه- 2007 م: 306 – 307 .
2- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 1/ 560 .
3- تذكرة الخواص من الأمة: 1/ 11 ، و 1/ 67 .
4- كشف الغمة، 1/ 489 .
5- م . ن: 1/ 498 .

وقال ابن كثير(ت 774 ه-) «وهكذا وقع الأمر كما أخبر به النبي(صلی الله علیه و آله) سواء فإن الحسن بن علي لما صار إليه الأمر بعد أبيه، وركب في جيوش أهل العراق، وسار إليه معاوية فتصافا بصفتين على ما ذكره الحسن البصري، فمال الحسن بن علي إلى الصلح، وخطب الناس، وخلع نفسه من الأمر، وسلّمه إلى معاوية، وذلك سنة أربعين فبايعه الأمراء من الجيشين(...) وقد شَهِد الصادق المصدوق للفرقتين بالإسلام فمن كفرهم أو واحداً منهم لمجرد ما وقع فقد أخطأ، وخالف النصّ النبوي المحمّدي الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وقد تكمل بهذه السنة المدّة التي أشار إليها رسول الله(صلی الله علیه و آله) إنها مدّة الخلافة المتتابعة بعده» (1).

وقال العسقلاني(ت 852 ه-) «وقال الحسن البصري: سَمِعت أبا بكرة يقول: بينما النبيّ(صلی الله علیه و آله) يخطب جاء الحسن فقال: ابني هذا سيّد، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين» (2).

وقال السيوطي(ت 911 ه-) «حديث إنَّ ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين» (3).

وقال طه حسين: «رواية إن اللهَ سيصلح بك بين فئتين من المسلمين، فإن صَحّ هذا الحديث – وأكبر الظن – أنه صحيح. فقد وقع هذا الحديث من نفس الصبي موقعاً أيّ موقعٍ» (4). .

ص: 36


1- البداية والنهاية: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي(ت 774 ه-) راجعهُ الأستاذ سُهَيل زكّار، ط 1، دار صادر، بيروت، 2005 م: 6/ 1640 .
2- تهذيب التهذيب: 2/ 52 .
3- تاريخ الخلفاء: جلال الدين السيوطي(ت 911 ه-)، ط 1، دار المنار، مصر، 2003 م: 141 .
4- الفتنة الكبرى: الدكتور طه حسين، ط 1، دار المنار، مصر، 2003 م: 2/ 177 .

وقال راضي آل ياسين: «وذكر يوم كان طفلاً بين يديّ أمه فاطمة(علیها السلام)، ودخل عليها أبوها رسول الله(صلی الله علیه و آله)، ورآه يلعب فقال لها: إن اللهَ تعالى سيصلح على يدي ابنك هذا بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (1).

وقال باقر شريف القرشي: «وروى أبو بكرة، قال: رأيت رسول الله(صلی الله علیه و آله) على المنبر، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة، وعليه أخرى، ويقول: «إن ابني هذا سيد، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (2).

وبعد بسط نصوص هذا الحديث، لابد من القول ومن باب توسعة دائرة البحث:

إنَّ من الباحثين، وهو(هاشم معروف الحسني) قد ضعّف هذا الحديث، وجعله من الموضوعات مستدلاً على ذلك بأمور، هي:

1. إن راوي الحديث الوحيد هو(أبو بكرة) شقيق زياد بن عبيد لأمه سُميّة، وهو معروف بانحرافه عن علي وآل علي(3).).

ص: 37


1- صلح الحسن(علیه السلام) 170 - 171.
2- حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام) : 87/1. ومنهم أيضا الشيخ آية الله(محمد السند)، ونلمح هذا من كلامه، وإن لم يصرّح به.(ينظر: الإمام الحسن بن علي(علیه السلام) شجاعة قيادة وكلمة وسياسة،(تقديرا لأبحاث الأستاذ آية الله المحقق الشيخ محمد السند) بقلم: إبراهيم البغدادي، ط 1، الأميرة للطباعة والنشر، بيروت – لبنان، 1433 ه - 2012 م: 82 ).
3- ينظر: سيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 529 .(أبو بكرة اسمه نفيع بن الحارث بن كدة، قيل: اسم أبيه مسروح، وكان عبدا للحارث، فاستلحقه الحارث وهو أخو زياد، وإنما لقب بأبي بكرة؛ لأنه تد من حصن الطائف ببكرة إلى النبي(صلی الله علیه و آله) فلذا سمّي بهذا الاسم، وارتكب جريمة هو وجماعة من أصحابه فجلدهم عمر بن الخطاب، ثم تابوا، فكان يقبل شهادتهم بعد التوبة إلا أبا بكرة فإنه لم يجز شهادته).(ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 184).

2. جعل معاوية بن أبي سفيان من الفئة المسلمة، على الرغم من كونه قد بغى على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) (1).

3. إبعاد الجانب الغيبي من الحديث النبوي الشريف؛ لأنَّ فكرة الصلح عند الحسن(علیه السلام) لم تكن واردة عنده حتى اللحظات الأخيرة(2).

وقد نسب إلى الذين استدلوا بهذا الحديث، وأخذوا به الوهم، فقال: «إنَّ هذا الحديث أخذه المسلمون من المسلّمات، وقرّت بهذه الرواية عين واضعها معاوية بن أبي سفيان(...) وقد عدّها أكثر الشيعة أنها كرامة للإمام الحسن(علیه السلام)» (3)، وقد ردَّ كذلك على طه حسين فيما ذهب إليه من قبوله هذا الحديث، فقال: «وهذا يرد على ما ذهب إليه الدكتور طه حسين الذي وقف عند الحديث وقفة طويلة كأنه اكتشف منجماً غنيّاً بالمعادن، فقد ذكرنا عيوبه، وبعض الشواهد على أنه من موضوعات الأمويين» (4).

ومن الجدير بالذكر إنَّ المحقّق باقر شريف القَرَشيّ قد سلّم بهذا الحديث تسليماً تاماً، وعدّه سبباً من أسباب صلح الحسن(علیه السلام) مع معاوية، وقد ذكرنا من قبلُ قوله فيما يخص هذا الحديث، فقال: «وانطبع هذا الحديث في أعماق الإمام الحسن(علیه السلام)، وفي داخل ذاته منذ نعومة أظفاره، وتمثل أمامه في ذلك الموقف الرهيب، وإنّه ليطمئن إلى قول جدّه كما يطمئن إلى محكم التنزيل، وها هو ذا جدّه العظيم يقول له: وكأن صوته الشريف يرن بعذوبته المحبّبة في أذنه، ويقول لأمه الطاهرة البتول، ويقول على منبره ويقول بين أصحابه، ويقول ما لا يحصى كثرة: إنَّ ابني هذا سيد، وسيصلح الله بين .

ص: 38


1- ينظر: سيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 529 .
2- م.ن: 1/ 530 . وينظر: الإمام الحسن بن علي(علیه السلام) شجاعة وقيادة: 79 .
3- سيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 529 .
4- م.ن: 1/ 535 . وينظر: الفتنة الكبرى/ طه حسين: 2/ 177 .

فئتين من المسلمين»، وزادت هذه الذكرى تفاعلاً في نفسه، فقد رأى ما عناه جدّه(صلی الله علیه وآله) في(المدائن) رأي طائفتين:

إحداهما: شيعته وهم من خيار المسلمين، وصلحائهم من الذين وقفوا على أهداف الإسلام، وعرفوا حقيقته وواقعه.

الثانية: أتباع معاوية من السذّج، والبسطاء، والمنحرفين عن الإسلام، وهؤلاء وإن كانوا بغاةً قد خرجوا على إمام زمانهم، ولكنّهم يدّعون الإسلام وهاتان الطائفتان إن دارت رحى الحرب فإ اّهن ستطحن الكثير منهم، وبذلك يتضعضع كيان الإسلام، وتنهار قواه» (1).

وأرى أنّه لا ضير ولا إشكال من قبول الحديث، فهو من باب الإخبار بالغيب، وأن ذكره مراراً وتكراراً على ألسنة الناس برهان على القطع بوروده عن النبي(صلی الله علیه و آله) على سبيل مبدأ الجري والانطباق، فضلاً عن ذلك فإنَّ دلالة الحديث لا تخدش، ولا تقدح ساحة الحسن(علیه السلام)، وأي منقبة، وفضيلة، وسجية أعلى، وأرفع، وأنصح من مرتبة السيد، والمصلح العظيم بين المسلمين، ولاسيما كرامة الإنسان، وحرمة دمه، وماله،وعرضه هي مدار الشريعة الإسلامية أجمع، ألم يقل النبي(صلی الله علیه و آله) للحسن(علیه السلام) كما يروي الدولابي: «إنَّ رسولَ الله(صلی الله علیه و آله) أبصر الحسن بن علي مقبلاً، فقال: اللهمّ سلّمه، وسلّم

منه» (2).

وقد خصّ النبي(صلی الله علیه و آله) أهل بيته، ومنهم الحسن(علیه السلام) بأوصاف تدلّ على البعد الإنساني، فهم يضمنون لراكبي سفينتهم النجاة من الغرق، فقال(صلی الله علیه و آله): « النجوم أمان .

ص: 39


1- حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 139 .
2- الذرية الطاهرة: 103 .

لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض من الاختلاف» (1).

وقد روى الطبري(ت 310 ه-) أنه: «لمّا أراد عليّ الخروج من الرَّبذة إلى البصرة قام إليه ابنٌ لرفاعة بن رافع فقال: يا أمير المؤمنين: أي شيء تريد؟ وإلى أين تذهب بنا؟

فقال: أما الذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا، وأجابونا إليه، قال: فإن لم يجيبوا إليه؟ فقال: نَدَعْهم بعذرهم، ونعطيهم الحق، ونصبر، قال: فإن لم يَرضَوا؟ قال: ندعهم ما تركونا؟ قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم، قال: فنَعَمْ إذاً وقام الحجّاج بن غزيّة الأنصاري، فقال: لأرضينّك في الفعل كما أرضيتني بالقول» (2).

ونختم هذا المبحث بنصّ رواه أبو حنيفة الدَّينوري(ت 282 ه-)، يمثل وثيقة ذات مضمون إنساني في الصلح، وحقن الدماء، والابتعاد عن السب والشتم، قال «وبلغ عليَّاً أنَّ حِجر بن عَدِيّ، وعمرو بن الحَمِق يظهران شتم معاوية، ولعن أهل الشام، فأرسل إليهما أن كُفّا عما يَبْلُغني عنكما، فأتياه، فقالا: يا أمير المؤمنين، ألسنا على الحقِّ، وهم على الباطل، قال: بلى وربِّ الكعبة المسدّنة، قالوا: فَلِمَ تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟

قال: كَرِهت لكم أن تكونوا شتّامين لعّانين، ولكن قولوا: اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يُعرف الحق من جَهِلَه، ويرعوى عن الغَيّ من لَجج به»(3). وما أعرف جواباً أبين من هذا الجواب الذي يكشف عن سمو .

ص: 40


1- المستدرك على الصحيحين: ابن البيع الحاكم النيسابوري(ت 405 ه-)، المطبعة النظامية، حيدر آباد، الهند، 1430 ه-: 3/ 149 . وينظر حلية الأولياء: أحمد بن عبد الله بن أحمد أبو نعيم الأصبهاني(ت 430 ه-)، دار الكتب، بيروت، 1327 ه-: 4/ 306 .
2- تاريخ الأمم والملوك المعروف ب(تاريخ الطبري): أبو جعفر محمد بن جرير الطبري(ت 310ه-)، ط 1، الأميرة، بيروت – لبنان، 1426 ه - 2005 م: 3/ 197 – 198 .
3- الأخبار الطوال: أبو حنيفة أحمد بن داوود الدينوريّ(ت 282 ه-)، تحقيق عبد المنعم عامر، ط 2، مطبعة شريعة، 1379 ه-: 165 .

الروح، وسعة الصبر والحلم، وأدب الحوار.

ثالثاً: السير على نهج جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله) في التكامل الانسانيّ

ومن لواحق هذا المبحث أن نأتي ببعض النصوص التي يفخر بها الحسن(علیه السلام) في كونه ابناً للمصطفى(صلی الله علیه و آله)، ومتبعاً لهديه ومنهجه، وكذلك الأحاديث التي رواها الحسن(علیه السلام) عن النبي المصطفى(صلی الله علیه و آله)، والتي تتجلى فيها الملامح الإنسانية العالية، لأن عقل الرجل ودينه قد يظهران مما يجري على لسانه من كلام غيره، كما يظهران في كلامه، كيف والمنقول عنه سيد الكائنات، وفخر الموجودات، وآية الوجود العظمى(صلی الله علیه و آله) التي تجلّت فيه مواهب الكمال الإنساني، والناقل هو برعمهُ، وريحانته سبطه الأكبر الحسن(علیه السلام)، قال ابن الجوزي: «ولما دفن قام أخوه محمد ابن الحنفية على قبره باكياً، وقال: رحمك اللهُ يا أبا محمد لئن عزت حياتك، لقد هدت وفاتك، ولَنِعْمَ الروحُ روحٌ عمّر به بدنك، ولنعم البدن بدن تضمّنه كَفَنك، وكيف لا؟ وأنت سليل الهدى، وحليف أهل التقوى، وخامس أصحاب الكساء، رُبِّيت في حجر الإسلام، ورضعت ثدي الإيمان، ولك السوابق العظمى، والغايات القصوى، وبك أصلح اللهُ بين فئتين عظيمتين من المسلمين، و بك شعث الدين، فعليك السلام فلقد طبت حيّاً ومَيِّتا» (1).

إنَّ أول هذه النصوص خطبته التي قالها بعد استشهاد أبيه علي بن أبي طالب(علیه السلام) وقد ذكرنا قسماً منها فيما سبق، قال الدولابي: «خطب الحسن بن علي الناس حين قتل عليّ فحَمِد الله وأثنى عليه ثم قال:(...) أيها الناسُ مَن عرفني فقد عرفني، ومَنْ لم يعرفني، فأنا الحسن بن علي، وأنا ابن الوصي، وأنا ابن البشير، وأنا ابن النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله والسراج المنير، وأنا من أهل البيت الذي كان جبريل يتنزل فينا .

ص: 41


1- تذكرة الخواص من الأمة: 1/ 67 .

ويصعد من عندنا» (1).

إنَّ التدبر في ما نقلناه من هذه الخطبة يوصلنا إلى حقائق منها: أن الحسن(علیه السلام) أراد أن يعرّف نفسه للجماهير من باب التوكيد، فهو ابن الداعي إلى الله(عزوجل)، وابن السراج المنير، وأنه ممن أذهب الله(عزوجل) عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وقد اجتمعت فيه الكمالات والتقت فيه الفضائل، والشمائل، وقد تمثل في كلامه بلاغة الإعجاز، وروعة الإيجاز.

إنَّ تكرار الضمير(أنا)، وهو ضمير المتكلم يدل على التوكيد، فضلاً عن ذلك فإنّه من المبهمات فرجوعه إلى الإمام الحسن(علیه السلام) من دون ذكر اسمه صريحاً يدل على التعظيم والتفخيم.

ومن ذلك أيضاً رسالته(علیه السلام) إلى معاوية بن أبي سفيان، والتي تعدّ من الرسائل المهمة في بيان رحمة المصطفى(صلی الله علیه و آله)، وأخلاقه ومزاياه وصلابته في الحقّ، وتضحيته في سبيل الله(عزوجل) غير مقصر، وغير متوانٍ في إبلاغ الرسالة، فأراد أن يذكر الناس، وينبههم على هذا الجانب الإنسانيّ الكامل، ومنها قوله(علیه السلام): «من الحسن بن علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، أمَّا بعدُ،فإنَّ الله جل جلاله بعث محمداً رحمة للعالمين، ومنّة للمؤمنين، وكافة للناس أجمعين:

««لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ»، فبلغ رسالات الله، وقام بأمر الله حتى توفّاه الله غير مقصر، ولاوان، وبعد أن أظهر الله به الحق، ومحق به الشرك، وخصّ به قريشاً خاصة، فقال له: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ»» (2).).

ص: 42


1- الذرية الطاهرة: 108 .
2- مقاتل الطالبيين: 55 .(يس/ 70 )،(الزخرف/ من الآية 44 ).

وتتج شدة الفخر بالانتساب إلى جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله)، وكونه قد تفرّد بهذا الانتساب مع أخيه الحسين(علیه السلام)، وإنّ الهداية، والرشاد، والإنقاذ من الضلالة كانت ببركة وجوده(صلی الله علیه و آله)، ورسالته السمحاء، فقال في خطبة له لما تمّ الصلحُ، وانبرم الأمر مع معاوية، فحمد الله تعالى وصلى على نبيّه(صلی الله علیه و آله): « أيها الناس، إنَّ أكْيَس الكيس التقي، وأحمق الحمق الفجور، وإنكم لو طلبتم ما بين جابَلْق، وجَابَرْس رجلاً جدّه رسول الله(صلی الله علیه و آله) ما وجدتموه غيري، وغير أخي الحسين، وقد علمتم أن اللهَ هو هداكم بجدّي محمد فأنقذكم به من الضلالة، ورفعكم به من الجهالة، وأعزّكم به بعد الذلّة، وكثّركم به بعد القلة، إنّ معاوية نازعني حقّا هو لي دونه، فنظرت لصلاح الأمة وقطع الفتنة» (1).

أما الأحاديث النبوية التي رواها الحسن(علیه السلام) عن جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله)، فقد تضمّنت معالم إنسانية عظيمة المضمون، فنجد الاختيار الثاقب والموفق من الحسن(علیه السلام)، في احتوائها، واشتمالها على ملامح إنسانية جليلة رواها(علیه السلام)؛ لتكون نماذج حيّة للإنسانية كي تسير على هديها، وتلتزم بطابعها الأخلاقي الرفيع، وكي تكون).

ص: 43


1- كشف الغمة: 1/ 534 .(جابلق) بالباء المعجمة المفتوحة وال الم الساكنة رُوي عن ابن عباس أنها بأقصى المغرب، وأهلها من ولد عاد.(معجم البلدان: ياقوت بن عبد الله الرومي الحمويّ(ت 626 ه-)، دار إحياء التراث العربي، بيروت،(د.ت): 3/ 32 ).(جَابَرْس) بالباء المعجمةالمفتوحة، والراء الساكنة مدينة بأقصى الشرق زعم اليهود أن أولاد نبيهم موسى(علیه السلام) هربوا إما في حرب طالوت أو في حرب بخت ن ،ّرص فس هّريم الله وأنزلهم في هذا الموضع فلا يصل إليهم أحد، وقدطويت لهم الأرض، وجعل عليهم الليل والنهار سواء حتى انتهوا إلى(جابرس) فسكنوا فيها، ولا يحصي عددهم إلاّ الله فإذا قصدهم أحدٌ من اليهود قتلوه، وقالوا: لم تصل إلينا حتى أفسدتَ سنتك، وبهذا اللحاظ يستحلون دمه. معجم البلدان: 3/ 33 . وينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2/ 260 (هامش رقم 2، 3).

واجهة فذّة لمجتمع إنساني رائد(1).

وقد جمع الدولابي(ت 310 ه-) في كتابه الذرية الطاهرة مجموعة من الأحاديث، قد رواها الحسن(علیه السلام) عن جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله)، وتعد مسنداً للحسن(علیه السلام)، وقد خصّص الدولابي باباً لها س هّام: «مرويات عن الحسن بن الحسن(علیهما السلام):»(2). وقد تضمّن هذا المسند أحاديث كثيرة، علماً أن الحسن(علیه السلام) قد أخذها عن جدّه(صلی الله علیه و آله) وعمره ما بين السادسة والسابعة، وهذا لا يمنع من أنْ يكون قد أخذ عنه مباشرة(3).

وسنذكر أحاديث رواها الحسن(علیه السلام) عن جدّه(صلی الله علیه و آله) مما لها مساس وثيق بالجانب الإنساني، وممّا يجدر ذكره أن الّذين كتبوا عن حياة الحسن(علیه السلام)، لم يقفوا على هذا المسند، ولاسيما المحقق القرشي(رحمة الله). وإليك هذه الأحاديث أيها القارئ الكريم:-

1. «أخبرني أحمد بن الوليد بن برد الأنطاكي: أن ابن أبي فُديك حدّثهم عن حبهم ابن عثمان بن عبد الله بن حسن عن أبيه عن جدّه الحسن بن علي، قال: «قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): إنَّ من واجب المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم» (4).

2. «قال الحسن بن علي(علیهما السلام): قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): ما مِن رجلين اصطلاما .

ص: 44


1- ينظر: موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 90 .
2- الذرية الطاهرة: 105 .
3- ينظر: سيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 470 .(أشار هاشم معروف الحسني إلى كتاب(الذرية الطاهرة) عندما كان مخطوطا ، فقال: “وهو من مخطوطات المكتبة الأحمدية بجامع الزيتونة في تونس، وتوجد منه نسخة مصورة بالنجف في مكتبة الإمام أمير المؤمنين كما جاء ذلك من المجلد الثاني من(حياة الإمام الحسن بن علي) لقرشي”.(سيرة الأئمة ألاثني عشر: 1/ 469 )، والتحقيق أن هاشم معروف الحسني لم يقف عليه، وكذلك الشيخ القرشي، فهو لم يشر إليه في كتابه(حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام) – ) ألبتة.
4- الذرية الطاهرة: 105 .

فوق ثلاث إلاَّ طويت عنهما صحيفة الزيادات» (1).

3. «قال الحسن بن علي(علیهما السلام): قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): حيث ما كنتم فَصَلُّوا عليّ، فإنَّ صلاتكم تبلغني(صلی الله علیه و آله)» (2).

4. حديث في التحابُب والتقارب، عن «علي بن حسن عن الحسن بن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): حدّثني جبريل: إنَّ اللهَ اهبط على الأرض ملكاً فأقبل ذلك المَلَك يمشي حتى انتهى إلى باب رجل ينادي على باب الدار، فقال المَلَك للرجل: ما جاء بك إلى هذه الدار؟ فقال: أخٌ لي مسلم زرته في الله، قال: الله ما جاء بك إلا ذلك؟ قال الملك؟ فإنّي رسول الله إليك، وهو يُقْرِئك السلام، ويقول: وجبت لك الجنة، وأيّما مسلم زار مسلماً فليس إياه يزور، بل إياي يزور وثوابه عليّ الجنة» (3).

5. «قال الحسن(علیه السلام): «عَقَلْتُ عنه أنّي سمعتُ رجلاً يسأل رسول الله(صلی الله علیه و آله) فسمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله)، يقول: دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنَّ الشرّ ريبة، والخير طُمَأنينة» (4).

ولا تخفى دلالة لفظة(عَقَلْتُ) التي تدلّ على نبوغه، وعبقريته(علیه السلام)، وإدراكه الواسع، والناظر في مرحلة طفولته(علیه السلام) يهيم بها إعجاباً، وإكباراً، وتقديساً، وذلك لما لها من آيات الكمال، والفضيلة، والذكاء، ولما مزجت بلونٍ من التربية الفاضلة، والرفيعة التي لم يظفر بها إنسان فيما نعتقد(5). .

ص: 45


1- الذرية الطاهرة: 105 – 106 .
2- م.ن: 106 .
3- م.ن: 110 .
4- م.ن: 115 .
5- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 1 / 70 .

ومن الأحاديث ذات البعد الإنساني التي لم يذكرها الدولابي في مسنده، وذكرها القرشي(1) نقلًا عن تاريخ اليعقوبي ما نصّه: «قال الحسن: كان رسول الله إذا سأله أحد حاجة لم يردّه إلاّ بها، وبميسور من القول» (2). .

ص: 46


1- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 1 / 69 .
2- تاريخ اليعقوبي: أحمد بن إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح اليعقوبي البغدادي(ت بعد سنة 292 ه-)، علق عليه ووضح حواشيه: خليل منصور، دار الزهراء: إيران، 1429 ه-: 2/ 158 .

المبحث الثالث: أثر إنسانية أمير المؤمنين(علیه السلام) في الحسن(علیه السلام)

اشارة

سنحاول في هذا المبحث أن نتحدّث عن أثر إنسانية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) في ولده الحسن(علیه السلام)، ولا يخفى للداني والقاصي أمر هذه الشخصية الفذة التي حملت معالم الإنسانية العالية، وملامحها، فقد تجمعت فيه الفضائل، والشمائل ما تعجز الأقلام عن ذكرها، وإحصائها.

لقد دخل عليّ(علیه السلام) الإسلام، وهو لم يعقل الأوثان قط، فانماز بين السابقين الأولين بأنه نشأ نشأة إسلامية خالصة، وانماز كذلك بأنّه نشأ في منزل الوحي، بأدق دلالات هذه الكلمة، وأضيقها(1).

وقد أجاد طه حسين في بيان أحواله، ومناقبه، قال: «كان خليفتهم الجديد أجدر الناس بأن يملأ قلوبهم طمأنينة وضمائرهم رضا، ونفوسهم أملاً، فهو ابن عمّ النبي، وأسبق الناس إلى الإسلام بعد خديجة، وأول من صلى مع النبي من الرجال، وهو ربيب النبي قبل أن يظهر دعوته، ويصدع بأمر الله، أحسّ النبي أن أبا طالب يلقى ضيقاً في حياته فسعى إلى أعمامه؛ ليعينوا الشيخ على النهوض بثقل أبنائه(...) وأخذ النبي عليّاً فكفله، وقام على تنشئته، وتربيته، فلما آثره الله بالنبوة كان علي في كنفه لم يجاوز العاشرة من عمره إلاّ قليلاً، فنستطيع أن نقول: إنّه نشأ مع الإسلام، وكان النبي يحبه أشدّ الحب، .

ص: 47


1- ينظر: الفتنة الكبرى: 1/ 151 .

ويؤثره أعظم الإيثار استخلفه حين هاجر على ما كان عنده من ودائع حتى ردَّها إلى أصحابها، وأمره فنام في مضجعه ليلة ائتمرت قريش بقتله ثم هاجر حتى لحق بالنبي في المدينة فآخى النبي بينه، وبين نفسه، ثمّ زوّجه ابنته فاطمة ثم شَهِد مع النبي مشاهده كلها، وكان صاحب رايته في أيام البأس، وقال النبيُّ: «لأعطيَنَّ الراية غداً رجلاً يحبّ اللهَ ورسولهُ، ويحبه اللهُ ورسولهُ»، فلما أصبح دفع الراية إلى عليّ، وقال النبيّ له حين استخلفه على المدينة يوم سار إلى غزوة تبوك: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي»، وقال للمسلمين في طريقه إلى حجّة الوداع: «مّنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه،اللهم والِ من والاه، وعادِ مَنْ عاداه»، وكان عمر يعرف لعلي علمه وفقهه، ويقول: «إنَّ عليّاً أقضانا»، وكان يفزع إليه في كلّ ما يعرض له من مشكلات الحكم، وقال حين أوصى بالشورى: «لو ولّوها الأجلح لحملهم على الجادّة» إلى فضائل كثيرة يعرفها له أصحاب النبي على اختلافهم، ويعرفها له خيار المسلمين من التابعين، ويؤمن له بها أهل السنة كما يؤمن له بها شيعتُهُ»(1). وقال الدَّينوري: «عندما انتهت معركة الجمل، وسقط هودج السيدة عائشة، نادى علي(علیه السلام) في أصحابه: لا تتّبعوا موليا، ولا تجهزوا على جريح ولا تنتهبوا مالاً، ومَن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن» (2).

وروى ابن قتيبة(ت 276 ه-) في الإمامة والسياسة ما جرى في صفين من استيلاء جند معاوية على الماء أولاً، ومنعهم جيش علي(علیه السلام) من الاستسقاء بأمر معاوية، قائلاً:

لا أسقاني اللهُ إن شربوا منه حتى يغلبوني عليه، فقال عمرو بن العاص له: هذا أول الجور إنَّ فيهم العبد، والأجير، والضعيف، ومن لا ذنب له، فلما غلب جند علي(علیه السلام) على الماء شمت عمرو بن العاص بمعاوية، وقال «ما ظنَّك إن منعك عليّ عن الماء اليوم كما .

ص: 48


1- الفتنة الكبرى: 2/ 15 – 16 .
2- الأخبار الطوال: أبو حنيفة الدينوري: 151 .

منعته أمسِ؟ أتراك ضاربهم كما ضربوك؟ فقال: دع ما مضى عنك فإنَّ عليّاً لا يستحلّ منك ما استحللت منه» (1).

وقد ذكرنا من قبل نتفاً من إنسانيته العالية، ومناقب علي(علیه السلام)، وأخبار إنسانيته كثيرة لا تليق بهذا الإملاء.

ويمكن بيان أثر إنسانية أمير المؤمنين علي(علیه السلام) في ولده الحسن(علیه السلام) من خلال:-

أولاً: وصايا عالية المضمون من إنسانية علي(علیه السلام) لولده الحسن(علیها السلام)

نقلت لنا الكتب التاريخية مجموعة من الوصايا الإنسانية ذات المضمون العالي، أوصى بها أمير المؤمنين علي(علیه السلام) ابنه الحسن(علیه السلام)، منها وصيته (علیه السلام) له عند انصرافه من صفين التي تتجلى فيها الكثير من القيم الإنسانية، كالدعوة إلى السلم، والتعايش، والتسامح، قال: «وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإنَّ الكفَّ عند حَيْرة الضلال خير من ركوب الأهوال، وأمرْ بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك

ولسانك(...) وعوّد نفسك التصبّر على المكروه، ونِعْم الخُلُقُ التصبّرُ(...) يا بني اجْعَل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحببْ لغيرك ما تُحب أن تظلمَ، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك»(2)، وقال(علیه السلام) له: «ولا تكونَنَّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان» (3). .

ص: 49


1- الإمامة والسياسة: أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري(ت 276 ه-)، ط 3، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 2009 م: 1/ 89 .
2- نهج البلاغة: الإمام علي بن أبي طالب(ت 40 ه-): شرح محمد عبده، ط 1، بيروت،1430 ه- 2010 م: 3/ 361 – 366 .
3- م.ن: 3/ 371 .

ومنها ما نقله أبو الفرج الأصفهاني(ت 356 ه-) في مقاتل الطالبيين، قال محققه(أحمد صقر): «فهو خير كتاب أخرج للناس في تاريخ الطالبيين وأدبهم، يجد فيه العلماء طلبتهم، والأدباء منالهم، ويجد فيه القاصون منهم مادة خصبة لإنتاجهم الفني»(1)، من وصية لأمير المؤمنين علي(علیه السلام) لابنه الحسن(علیه السلام) عندما ضربه ابن مُلجم، فقال: «بسمِ الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(...) أوصيك يا حسن وجميع ولدي، وأهل بيتي ومَنْ بلغه كتابي هذا بتقوى الله ربّنا، ولا تموتُنّ إلاّ تفرّقوا، فإنّي سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله)، يقول: إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، وإن المبيدة الحالقة للدين فساد ذات البين(...) انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوهم يهوّن الله عليكم الحساب، الله الله في الأيتام، فلا تغيرُنَّ أفواههم بجفوتكم، واللهَ اللهَ في جيرانكم، فإنها وصية رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ما زال يوصينا بهم حتى ظننا أنه سيورّثهم(...) والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معاشهم(...) ثم قال: الصلاة الصلاة: لا تخافون في اللهِ لومة لائم، فإنه يكفكم مَنْ بغى عليكم وأرادكم بسوء قولوا للناس حسناً كما أمركم اللهُ، ولا تتركوا الأمربالمعروف، والنهي عن المنكر، فيولّي الأمرَ عنكم، وتدعون فلا يستجاب لكم، عليكم بالتواضُعِ، والتباذُلِ، والتَّبَار، وإيّاكم والتقاطع والتفرق والتدابر، ) «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(2)».

وقد روى لنا الحسن(علیه السلام) وصية لأبيه أمير المؤمنين(علیه السلام) عندما حضرته الوفاة، .

ص: 50


1- مقاتل الطالبيين:(مقدمة المحقق أحمد صقر/ ر).
2- م.ن: 39 – 41 .(المائدة/ من الآية 2)، وينظر(الكامل في التاريخ: عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد الشيباني المعروف ب(ابن الأثير)(ت 630 ه-)، مراجعة الدكتور سمير شمس، دار صادر، بيروت، 1429 ه - 2009 م: 3/ 20 ، وكشف الغمة: 1/ 412 – 413 .

نجد فيها مضامين عالية في الإنسانية، والتسامح، والإصلاح قلما يجود بمثلها الزمن، وقد نقلها ابن الصباغ المالكي، قال: «في رواية عن الحسن بن علي(علیه السلام) لما حضرت أبي الوفاة أقبل يوصّي، فقال: هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب أخو محمد رسول الله، وابن عمّه وصاحبه وخليفته، أول وصيتي أني أشهد ألاّ إله إلاّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله، وخيرته اختاره بعلمه وارتضاه لخلقه وأنَّ اللهَ باعث من في القبور، وسائل الناس عن أعمالهم، عالمٌ بما في الصدور، ثم قال: إني أوصيك يا حسن وكفى بك وصيّاً، بما أوصاني به رسول الله(صلی الله علیه و آله) فإذا كان ذلك، فالزم بيتك، وابك على خطيئتك، ولا تكن الدنيا أكبر همك، وأوصيك يا بني بالصلاة عند وقتها، والزكاة في أهلها عند محلها، والصمت عند الشبهات، والاقتصاد والعدل في الرضا والغضب وحسن الجوار، وإكرام الضيف، ورحمة المجهود، وأصحاب البلاد، وصلة الرحم، وحب المساكين ومجالستهم، والتواضع فإنّه أفضل العبادة، وقصر الأمل، وذكر الموت والزهد في الدنيا، فإنّك رهين موت، وعريض بلاء، وطريح سقم، وأوصيك بخشية الله تعالى في سرّ أمرك، وعلانيتك، وأنهاك في التسرع بالقول والفعل، وإذا عرض شيءٌ من أمر الآخرة ما بدأ به، وإذا عرض شيء من أمر الدنيا فتأنَّ به حتى تصيب رشدك فيه، وإياك ومواطن التهمة، والمجلس المظنون به السوء، فإن قرين السوء يغيّر جليسه، وكن لله يا بُني عاملاً، وعن الخَنا جوراً، وبالمعروف آمراً، وعن المنكر ناهياً، وآخِ الأخوين في اللهِ، وأحب الصالح لصلاحه، ودار الفاسق عن دينك،وابغضه بقلبك، وزايله بأعمالك؛ لئلا تكون مثله، وإيّاك والجلوس في الطرقات، ودع

المماراة، ومجاورة مَن لا عقل له، واقتصد يا بُني في معيشتك، واقتصد في عبادتك،وعليك فيها بالأمر الدائم الذي تطيقه، والزم الصمت، وبه تسلم، وقدّم لنفسك تغنم،وتَعَلّم الخيرَ تُعَلِّم، وكن ذاكراً لله تعالى على كلّ حالِ، وارحم من أهلك الصغير،

ص: 51

ووقّر منهم الكبير، ولا تأكلَنَّ طعاماً حتّى تتصدَّق منه قبل أكله، وعليك بالصوم، فإنّه زكاة البدن، ومنّة لأهله، وجاهد نفسك، واحذر جليسك، واجتنب عدوّك، وعليك بمجالس الذكر، وأكثر من الدعاء فإني لَم آلُك يا بني نصحاً وهذا فراق بيني وبينك، وأوصيك بأخيك محمد، فإنه ابنُ أبيك، وقد تعلمُ حبّي له، وأما أخوك الحسين، فإنه شقيق، وابن أمّك(...) والله الخليفة عليكم، وإياه أسأل أن يصلحكم، وأنْ يكفَّ الطغاة، والبغاة عنكم، والصبرَ الصبرَ حتى يقضي الله الأمر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم»(1) .

وتعلو صراخات الإنسانية العالية لحظة ضرب ابن مُلْجم رأسه الشريف، فأخذ يعاتب ابن ملجم، مبيّناً عقوبته التي سينالها من ابنه الحسن(علیه السلام) حين انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وإن بَقي، فإنه يتو أمره، وقد أوصى بالاحتياط بالدماء، وترك الشبهات، فالضارب يضرب ضربة بضربة، ونهى عن المُثلة، قال ابن الأثير: «ولمّا ضرب ابن مُلْجَم عليّا، قال: لا يفوتَنَّكم الرجل، فشدّ الناس عليه فأخذوه(...) وقال عليّ: أحضروا الرجلَ عندي، فأدخل عليه، فقال: أي عدو الله: ألم أحسن إليك؟ قال: بَلی، قال: فماحملك على هذا؟ قال: شحذتُه أربعين صباحاً، وسألتُ الله أنْ يقتل به شر خلقه، فقال عليٌّ: لا أراك إلا مقتولاً به، ولا أراك إلاّ من شرّ خلق الله، ثم قال: النفس بالنفس، إنْ هلكت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيْتُ فيه رأي، يا بني عبد المطلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين تقولون قد قتل أمير المؤمنين، ألا يقتلَنَّ إلاّ قاتلي، انظُر يا حسن، إن أنا مت من ضربتي هذه، فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثلنَّ بالرجل، فإنّي سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله)، يقول: «إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور»(2).، وقد خلا .

ص: 52


1- كشف الغمة: 1/ 128 – 129 .
2- الكامل في التاريخ: 3/ 199 .

النص السابق من قيمة إنسانية، وهي الإحسان إلى السجين، وقد ذكرها اليعقوبي من قبل، فلما ضرب ابن ملجم عليّاً(علیه السلام) «أُ به إلى عليّ، فقال: ابن ملجم؟ قال: نعم، فقال: يا حسن: شأنك بخصمك، فأشبع بطنه، واشدد وَثاقه، فإن مُتُّ فألحقه بي أُخاصمه عند ربّي، وإن عشت فعفو، أو قصاص» (1).

ثانياً: وصف الحسن(علیه السلام) إنسانية أبيه(علیها السلام)

وصف الحسن(علیه السلام) أباه بأوصاف، تدلّ على ذوبان إنسانية أمير المؤمنين علي(علیه السلام) العالية في نفسه(علیه السلام)، وإدراكه لمعالمها، وملامحها، وليس من بين العظماء في صدرالإسلام من استقبل شهادة أبيه بكلام أجزل من هذا الكلام، وأدلّ على شعور قائله بفداحة الخطب، وجلالة المصاب، فالحسن(علیه السلام) وصّافة لا يجارى في وصف القيم الإنسانية العالية لأبيه أمير المؤمنين(علیه السلام) بالكلمات القليلة، مع مسابقة اللفظ للدلالة،والدلالة للفظ.

قال(علیه السلام) في خطبة له بعد استشهاد أبيه(علیه السلام)، مبيناً جهاده مع رسول الله(صلی الله علیه و آله)، وسابقته في الإسلام، وطهارته، وعدالته، وعدم استئثاره بالمال العام، «لقد قبض في هذه الليلة رجلٌ لم يسبقه الأولون بعمل، ولا يدركه الآخرون بعمل، ولقد كان يجاهدمع رسول الله(صلی الله علیه و آله) فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجهه برايته، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه،وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتّى يفتح الله عليه، ولقد عرج في هذه الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم، ولقد توفي فيها يوشع بن نون وصي موسى، وما خلّف صفراء،ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم بَقِيت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله» (2). .

ص: 53


1- تاريخ اليعقوبي: 2/ 148 .
2- مقاتل الطالبيين: 51 – 52 ، وينظر: كشف الغمة: 1/ 505 ، الفصول المهمة: 152 .

وقال(علیه السلام) وقد خنقته العبرة على فقد أبيه(علیه السلام) مبيناً عظم الخطب، وجلل المصاب، فقال: «الحمد لله ما أحببنا، وكرهنا، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله(صلی الله علیه و آله)، وإني أحتسب عند الله(عزوجل) مصابي بأفضل الآباء رسول الله، القائل: من أصيب بمصيبة، فَلْيَتسل بمصيبته فيّ، فإنها أعظم المصائب، والله الذي لا إله إلاّ هو الذي أنزل على عبده الفرقان، لقد قبض في هذه الليلة رجل ما سبقه الأولون بعد رسول الله(صلی الله علیه و آله) ولا يدركه الآخرون» (1).

وتتعالى إنسانية أمير المؤمنين(علیه السلام)، وتتزاحم العواطف، وتكثر الأوصاف،والأفكار عندما خطب الحسن(علیه السلام)، وقد أرسله أبوه(علیه السلام) مع عمار بن ياسر إلى الكوفة، وفيها أبو موسى الأشعري من أجل نصرة أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام)؛ لأن أبا موسى الأشعريّ كان كارهاً للقتال، مخذّلاً الناس عن نصرة إمامهم، فقال الحسن(علیها السلام):

«أيها الناس إنّا جئنا ندعوكم إلى الله، وإلى كتابه، وسنة رسوله، وإلى أفقه مَن تفقّه من المسلمين، وأعدل من تعدلون، وأفضل من تفضلون، وأوفى من تبايعون مَنْ لم يَعِبه القرآن، ولم تجهله السنة، ولم تقعد به السابقة، إلى من قرّبه الله تعالى، ورسوله قرابتين قرابة الدين، وقرابة الرحم، إلى من سبق الناس إلى كُلّ مأثرة إلى من كفى الله به رسوله والناس متخاذلون فقرب منه، وهم متباعدون، وصلّى معه، وهم مشركون، وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معه، وهم محجمون، وصدّقه وهم يكذبون إلى مَنْ لم تردّ له، ولا تكافأ له سابقة، وهو يسألكم النصر، ويدعوكم إلى الحقّ، ويأمركم بالمسير إليه، لتؤازروه، وتنصروه على قوم نكثوا بيعته، وقتلوا أهل الصلاح من أصحابه ومَثّلُوا بعماله، وانتهبوا ماله، فأشخصوا إليه رحمكم الله، فمُروا بالمعروف، .

ص: 54


1- أعيان الشيعة: الأمين العاملي: 2/ 371 .

وانهوا عن المنكر، واحضروا بما يحضر به الصالحون» (1).

وقد خاطب الحسن(علیه السلام) أبا موسى الأشعريّ مبيناً معلماً إنسانياً مثالياً لأميرالمؤمنين(علیه السلام)، وهو إصلاح المجتمع، ونصحه، فقال(علیه السلام): «يا أبا موسى، واللهِ ماأردنا إلاّ الإصلاح وليس مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء» (2).

وبعد شهادة أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام)، استلم الحسن(علیه السلام) السلطة بعد أبيه، وقام بأفضل ما يمكن القيام به في ذلك الجوّ المشحون بالفتن، والمؤامرات، فأقرّ الولاة على أعمالهم، وأوصاهم بالعدل والإحسان، ومحاربة البغي والعدوان، ومضى على نهج أبيه وسيرته، وكان في حالاته كلّها خلال خلافته القصيرة وقبلها، وبعدها امتداداً لجدّه المصطفى،(صلی الله علیه و آله)، وأبيه المرتضى(علي)(علیه السلام) في سياسته وسيرته، فلم يستعن بالباطل على الحقّ(3).

إن هذه الجذور الإنسانية(القرآن الكريم، المصطفى(صلی الله علیه و آله)، أمير المؤمنين علي(علیه السلام)) التي تحدّثنا عنها في هذا الفصل تمثل الحجر الأساس لرسم معالم الإنسانية المثالية عندالحسن(علیه السلام)، هذه المعالم التي كان لها النصيب الوافر، والأثر الواضح في نعت إنسانية الحسن(علیه السلام) بالمثالية، وسيتكفل الفصل الثاني من هذه الدراسة بالكشف عن(معالم الإنسانية المثالية) عنده إن شاء اللهُ تعالى. .

ص: 55


1- اعيان الشيعة: 2/ 369 .
2- أعلام الهداية [الإمام الحسن(علیه السلام)]: المجمع العلمي لأهل البيت: 87 .
3- ينظر: سيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 505 .

ص: 56

الفصل الثاني: معالم الإنسانية المثالية عند الحسن(علیه السلام)

اشارة

ص: 57

ص: 58

سنبسط الحديث في هذا الفصل على معالم الإنسانية المثالية عند الحسن بن علي(علیهما السلام)، هذه المعالم التي لم يفرد لها الباحثون فصولاً، أو مباحث في كتبهم التي تناولوا فيها صلح الحسن(علیه السلام) وحياته، لكننا نجد شذرات، وقبسات هنا وهناك لا تروي ظمآناً، ولا تُشبع جوعاناً.

إنَّ هذه المعالم الإنسانية التي اتّصف بها الحسن(علیه السلام) تمثل امتداداً لمعالم الإنسانية المتكاملة لجدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله)، ومعالم الإنسانية العالية لأبيه أمير المؤمنين(علیه السلام).

إنَّ الإشارة إلى هذه المعالم، وبيانها جاءت وفاقاً للنصوص التي وقفنا عليها، لاسيّما تراثه(علیه السلام)، وما جادت به أقلام الباحثين، إلاَّ أن المعين الصافي، والمورد الثر لها هو تراث الحسن(علیه السلام) الذي وصل إلينا، هذا التراث الأصيل الذي يمثل وثيقة مهمة في حياته، وفي بيان أحواله، وخصائص شخصيته، وإنسانيته المثالية.

وتتج هذه المعالم من خلال ما تتجاذب الحسن(علیه السلام) كلمات تدل عليها من نحو:

القرآن، والنبوة، والإمامة، والجنة، والإصلاح، والتعايش، والنصح، وحقن الدماء، والوفاء بالعهد، والكرم، والسخاء، وغيرها، فضلاً عن ذلك فإنَّ الألقاب الكثيرة التي أُطلقت عليه، دليل واضح على معالم إنسانيته المثالية، قال ابن رستم الطبري: «وألقابه الزكي، والسبط الأول، وسيد شباب أهل الجنة، والأمين، والحجة، والتقي»(1) وقال ابن الخشاب البغدادي(ت 567ه-): «لقبه الوزير، والتقي، والقائم، والطيب، والحجة، .

ص: 59


1- دلائل الإمامة: 62 .

والسيد، والسبط، والولي»(1)، ولم يذكر الأربلي، وابن الصباغ المالكي ألقاباً غيرها(2)، إلاَّ أن الأربليّ ذهب إلى أنَّ أكثر الألقاب شهرة هو التقي، لكن أولاها ما لقبه به رسول الله(صلی الله علیه و آله) إذ وصفه به، وجعله نعتاً له «فإن صَحّ النقل عن النبي(صلی الله علیه و آله) مما أورده الأئمة الإثبات، والرواة الثقات أنه قال: ابني هذا سيِّد»(3)، وهذه الألقاب ذكرها محمد باقرالمجلسي، ولم يزد عليها(4).

وأضاف راضي آل ياسين إلى هذه الألقاب لقب(المجتبى)(5)، وإلى ذلك ذهب هاشم معروف الحسني(6)، وزاد حُسين الشاكري ألقاباً، فقال: «ألقابه: التقي، والزكي،والسيد، والسبط، والأمين، والحجة، والأثير، والمجتبى، والزاهد، والبرّ» (7).

ولا يخفى ما في هذه الألقاب من دلالات إنسانية عالية المضمون، وعميقة الجوهر، ومن الألقاب التي لا مناص من إطلاقها على الحسن(علیه السلام)، والتي لها علاقة بمعالم إنسانيته المثالية هو لقب(الناصح)، وقد أشار إليه(علیه السلام) في خطبته عندما أراد أنْ يمتحن أصحابه ويستبرئ أحوالهم في الطاعة في أول مواجهة مع معاوية عندما سار الأخير نحو العراق، لغلب الحسن(علیه السلام)، فتحرك(علیه السلام) وبعث حجر بن عدي، فأمال .

ص: 60


1- تاريخ الأئمة(علیهم السلام) ووفياتهم: ابن الخشاب البغدادي(ت 567 ه-): دراسة وتحقيق: ثامرالخفاجيّ، ط 1، ستارة، قم – إيران، 1432 ه-: 104 .
2- ينظر: كشف الغمة: 1/ 488 ، والفصول المهمة: 144 .
3- كشف الغمة: 1/ 488 .
4- ينظر: بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار: الشيخ باقر المجلسي: إحياء الكتب المقدسة، قسم – إيران، 1427 ه-: 10 / 136 .
5- ينظر: صلح الحسن(علیه السلام): 25.
6- ينظر: سيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 461 .
7- موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 24 .

العمال بالمسير، واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه، ثم خفَّ معه أخلاصا من الناس بعضهم أتباع له ولأبيه(علیهما السلام)، وبعضهم محكّمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شكّاك، وبعضهم أصحاب عصبيّة اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين، فقال: «الحمد للهِ بكلّ ما حَمِده حامد، وأشهد أن لا إله إلاّ الله كلّما شَهِد شاهد، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بالحقِّ، وائتمنه على الوحي(صلی الله علیه و آله)، أما بَعْدُ فوالله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه، وأنا أنْصَحُ خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة، ولا مرد له بسوء ولا غائلة، ألاَ وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألاَ وإنّي ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا أمري ولا تردّوا عليّ رأي غفر الله لي ولكم، وأرشدني وإيّاكم لما فيه المحبة والرضا» (1)، وهذه الخطبة ترنيمة في البعد الإنسانيّ قلما يجود بمثلها الزمن، وهي دليل على عالمية الحسن(علیه السلام) وإنسانيته المثالية، فهو الناصح الذي يريد بقاء نعمة الله للخلق، وكراهة وصول الشرّ إليهم، وإرشادهم لما فيه مصلحتهم، وغبطتهم(2)، قال تعالى على لسان نبيّه نوح(علیه السلام) ردّاً على قومه الذين ا مّهتوه بالضلال المبين: «قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(الأعراف/ 61 – 62 )،(وأنصح لكم) في زيادة اللام دلالة على المبالغة في إمحاض النصح، فمعنى أنصح هنا: أخلص النيّة لكم عن شوائب الفساد»(3)، ونلمح .

ص: 61


1- الإرشاد: 180 ، وينظر: مقاتل الطالبيين: 180 ، وكشف الغمة: 1/ 506 – 507 . والفصول المهمة: 153 .
2- ينظر: جامع السعادات: محمد مهدي بن أبي ذر النراقي الكاشاني(ت 1209 ه-) الناشر: سيف الله إسماعيليان، طبعة السرور، قم – إيران، 1425 ه - 2004 م: 2/ 23 .
3- زبدة المعاني من تفسير الشوكاني: 158 .

دلالة العموم، والشمول في لفظة(الخلق) الواردة في الخطبة، وتشمل الناس جميعاً على اختلاف قومياتهم، ودياناتهم، ومذاهبهم، ومشاربهم، ثم أشار إلى نصيحته للمسلمين على اختلاف ولاءاتهم، وانتماءاتهم لكونه لا يريد السوء، والغائلة لأي فرد منهم، طارحاً الضغائن، فضلاً عن ذلك نجد الدعوة إلى التحابُب، والتعايش، والتقارب، ونبذ الفرقة والتباغض، والتحارُب، فكانت هذه الخطبة من الوثائق المهمة لبيان الوضع العام بين الناس، وبين أهل البيت(علیهم السلام) ولاسيما الحسن(علیه السلام) (1).

وقد فطن الحسن(علیه السلام) إلى قضية مهمة، وهي التمسك بالجماعة والعُصبة، وترك الفرقة والتشتت، وإتباع ولي الأمر المبايع المفترض الطاعة، فالله(عزوجل) يدعو إلى التوحّد، والتصالح، والتحابُب، والسّلم، ويُرشد المخلصين إلى المحبة والرضا، لأنه ينظر إلى مصالح العباد كافة، وهذه المعالم النبيلة هي الطريق القويم، والصراط المستقيم إلى الرشاد، والسعادة، بينما الفرقة والنزاع والخصام تعني الفساد والهلاك، وعدم الاستقرار،

وغضب الله(عزوجل).

وقد وردت إشارة لهذا اللقب الإنساني(الناصح)، الذي ارتبط بالحسن(علیه السلام) فقد ورد في(مفاتيح الجنان) في زيارة الشهداء الذي سقطوا مع الحسين(علیه السلام) في واقعة كربلاء: «السلام عليكم يا أنصار أبي محمد الحسن بن علي الولي الناصح» (2).

لقد عرف الحسن(علیه السلام) بتعدّد مناقبه، وفضائله، وشمائله، قال الأربلي: «مناقب الحسن(علیه السلام) ومزاياه، وصفات شرفه، وسجاياه، وما اجتمع فيه من الفضائل، وخصّ به من المآثر التي فاق بها على الأواخر والأوائل، لا يقوم بإثباتها البنان، ولا ينهض .

ص: 62


1- ينظر: أعلام الهداية(الحسن المجتبى): 160 – 161 .
2- مفاتيح الجنان: الشيخ عباس بن محمد رضا أبو القاسم القمي(ت 1359 ه-)، ط 4، دارالرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله)، بيروت، 1402 ه - 2001 م: 706 .

بذكرها اللسان، لأنه أرفع مكانة ومحلاًّ وأورف شرفاً ونبلاً، وأزكى فرعاً، وأعلى أصلاً من أنْ يقوم مثلي مع قصور ذراعه، وجمود طبعه، بما يجب من عدّ مفاخره، وتخليد مآثره، ولذلك يقبل اليسير، و اُجيزي بالكثير»(1)، وهذا النصّ دليل قاطع، وحجة دامغة في الإقرار بتعدد معالم إنسانيته المثالية(علیه السلام)، وتنوعها، ونحن إذا ما نظرنا في تراثه الذي وَصَل إلينا لم نجد فيها كلمة تستغرب من مثله، أو تتجاوز هذه الحجة التي تنهض بحقّه فيما فرض الله(عزوجل) من تأدية حقوق الناس، والعناية بمصالحهم، ورعاية حقوقهم، ومن دعوة إلى إصلاحهم، ونصحهم، واطّراح الضغائن فيما بينهم، وإطفاء النائرة، والدعوة إلى التعايش، والتسامح، والتحابب، والتوادّ وغيرها، وكم رام الأعداء ستر هذه المعالم، والفضائل، والشمائل ! فما استترت، وهل يخفى النهار لذي عينيين، ومَنْ الذي يبلغ شأو الحسن(علیه السلام)، وقد خصّ بالابن، والولد، والسيد، والإمام، والحبيب، والريحانة، فهي لُمتى، وقلم القدر يكتب بالتصديق، ويسجل لمواليه بحسن الاهتداء، ومعاونة التوفيق.

لذا سيتكفل هذا الفصل بعرض أهم معالم هذه الإنسانية وهي علامات، وآيات باهرات لهذه الشخصية الإنسانية سليل الهدى، وحليف أهل التقى، رابع أهل الكساء، ابن سيدة النساء فاطمة الزهراء(علیها السلام)، والمصلح بين الأقارب والأحباب، شبيه رسول الله(صلی الله علیه و آله). (2) .

ص: 63


1- كشف الغمة: 1/ 548 – 549 .
2- ينظر: صلح الحسن(علیه السلام): 83 .

ص: 64

المبحث الأول: إصلاح المجتمع

أولاً: مفهوم الإصلاح تعريفاً

إنّ مفهوم الإصلاح يمثل معلماً رئيساً من معالم الإنسانية، فهو غنيٌّ بدلالاته، لما يمثله من مصفوفات قرآنية، وحديثية كثيرة تدعو إلى المحبة، والوئام، ونبذ العنف والاحتراب، والدعوة إلى السلم والتعايش.

إن ظهور هذا المفهوم، وتداوله في أي مجتمع أمر ملحٌ للحدّ من ثقافة التوتر، والعنف، والعداء، والإقصاء، والدعوة إلى قيم المصالحة، والعفو، والسلم، والصفح، والمغفرة، والرحمة، ومن أجل تحويل نقاط الخلاف إلى مساحة وفضاء رحب للحوار والتفاهم، والتصالح.

وقبل أن نب ين ين دلالات هذا المفهوم عند الحسن(علیه السلام) لابد من الوقوف على هذا المفهوم، موضحين دلالاته المتنوعة، لأنها ستكون مفتاحاً لبلورة هذا المفهوم عنده(علیه السلام)، ولملمة جوانبه ومصاديقه، ومن ثم تكوين منظومة واضحة الأسس لهذا المفهوم لديه(علیه السلام).

وقد أعانتنا كتب مفردات ألفاظ القرآن، وكتب اللغة في بيان دلالات هذا المفهوم، قال الراغب الأصفهاني: «الصلاح ضد الفساد(...) والصلح يختصُّ بإزالة النفار بين الناس، يقال منه اصطلحوا وتصالحوا، قال: «أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا»،«وَالصُّلْحُ

ص: 65

خَيْرٌ»،«إِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا»،«فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا»،«فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ»(1)، وقال الزمخشري(ت 538 ه-) «وصَلَحَ الأمر وأصلحته(...) وسَعَى في إصلاح ذات البين(...) وصَلَحَ فلان بعد الفساد، وصَالَح العدو، ووقع بينهما الصلح»(2)، وقال الرازي:(ت 666 ه-) «وبابه دَخَل، ونقل الفراء صَلُح أيضاً بالضم(...) والصلاح بالكسر مصدر(المصالحة)، والاسم(الصُلح) يذكر ويؤنث، وقد(اصْطلحا)، و(تَصَالَحَ)، و(اصّالحا) بتشديد الصّاد»(3)، ويرى الفيروز آبادي(ت 817 ه-) أنَّ «الصلح بالضم السِّلم(...) وصالحه مصالحة، وصَلاحاً، واصطلحا، واصّالحا،

وتَصَالحا، واصْتَلحا»(4)، وقد توسع صاحبُ مجمع البحرين(الطّريحي ت 1085 ه-) في دلالات هذه المادة، فقال: «قوله: «أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ»(النساء/ 114 ) التأليف بينهم بالعودة، وعن أمير المؤمنين: «إنّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة مالكم(...) قوله: «فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ»(النساء/ 128 ) من الفرقة، والنشوز، والإعراض، وسوء العشرة، أو الصلح خيرٌ من الخصومة(...) وفي الحديث: «مَنْ أصلح ما بينه وبين الله أصلح اللهُ ما بينه وبين .

ص: 66


1- مفردات ألفاظ القرآن: الراغب الأصفهاني(ت في حدود 425 ه-)، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، ط 4، مطبعة كيميا، قم – إيران، 1425 م،(صلح): 489 – 490 (النساء/ من الآية128 )،(النساء/ من الآية 128 )،(النساء/ من الآية 129 )،(الحجرات/ من الآية 9)،(الحجرات/من الآية 10 ).
2- أساس البلاغة: جار الله أبو قاسم محمود بن عم الزمخشري(ت 538 ه-)، تقديم الدكتور: محمود فهمي حجازي، سلسلة الذخائر(المؤسسة العامة لقصور الثقافة) مصر، 2003 م:(صلح):257.
3- مختار الصحاح: الرازي:(صلح): 367 .
4- القاموس المحيط: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي(ت 817 ه-)، دار الفكر،بيروت، 1403 ه - 1983 م:(صلح): 223 .

الناس»؛ وذلك لأن التقوى صلاح قوتي الشهوة والغضب اللذين فسادهما مبدأ الفسادبين الناس، ومَنْ أصلح أمر آخرته أصلح اللهُ أمر دنياه(...) وفيه «الصلح جائز بين المسلمين إلاَّ صلحاً أحلّ حراماً، أو حرّم حلالاً» أراد بالصلح التراضي بين المتنازعين؛لأنَّه عقد شرع لقطع المنازعة» (1).

ومن خلال استقراء مادة(صلح) ومشتقاتها، نستنتج ما يأتي:-

• الإصلاح مصدر على وزن(إفْعال) من الفعل الثلاثي المزيد بحرف واحد(أصْلَحَ)على وزن أفْعَلَ.

• الإصلاح، والمصالحة، والصلح، والصلاح ضد الفساد وهي تختص بإزالة النفار، والبغضاء، والشحناء بين الناس.

• الإصلاح يعني حسن العشرة، والاجتماع، والتوحّد، وتعني في الوقت ذاته الابتعاد عن سوء المعاشرة، والعزلة، والنشوز، والإعراض.

• الإصلاح قد يتطلب معاهدة، ومعاقدة، ومحالفة.

ومن مصاديق هذا المفهوم فيما نرى: الأخوة، والأُلفة، والأمن، والتوبة، والسِّلم،والصفح، والعفو، والعهد، والمغفرة، والمِيثاق.

ثانياً: مفهوم الإصلاح عند الحسن(علیها السلام)

اشارة

إن هذا المفهوم له دلالات مختلفة، ومصاديق متنوعة عند الحسن(علیه السلام)، ونجدإشارات لهذا المفهوم قبل بيعته في حياة أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام)، واستقرار هذا المفهوم .

ص: 67


1- مجمع البحرين: فخر الدين بن محمد علي بن طريح الأسدي الطريحيّ(ت 1085 ه-) دار دجليته الهلال للطباعة والنشر، بيروت، 1985 م: 2(صلح): 387 – 388 .

ونضوجه بعد بيعته، فأصبح معلماً رئيساً من معالم إنسانيته المثالية، فقد روى ابن جرير الطبري أن الإمام علياً(علیه السلام) قد أرسل الحسن(علیه السلام)، وعمار بن ياسر إلى أبي موسى الأشعري، ولما يمضِ ستة أشهر على خلافته حتى تمرّدت البصرة خلف طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعائشة أم المؤمنين، وكان عليه أن يسرع لتعبئة أنصاره في الكوفة: «فخرج أبو موسى فلقي الحسن فضمّه إليه، وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان، أعَدَوْت فيمن عدا على أمير المؤمنين، فأحللت نفسك مع الفجار، فقال: لم أَفعلْ، و تَسُوؤني؟ وقطع عليهما الحسن، فأقبل على أبي موسى، فقال: يا أبا موسى، لِمَ تثبط الناس عنّا ! فو الله ما أردنا إلاّ الإصلاح، ولاشَكّ أن أمير المؤمنين خاف على شيء، فقال، صَدَقْتَ بأبي أنت وأُمَي»(1)، ثم خاطب الحسن(علیه السلام) الناس، فقال: «يا أيها الناسُ، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفرّ إليه والله لأن يليه أولو النهى أمثل في العاجلة، وخير في العاقبة فأجيبوا دعوتنا،وأعينونا على ما ابتلينا به، وابتليتم به، وابتليتم، فسامح الناس وأجابوا ورضوا به، وأماقوم من طيّء عديّاً، فقالوا: ماذا ترى وماذا تأمر؟ فقال: ننتظر ما يصنع الناس، فأخبربقيام الحسن، وكلام من تكلّم فقال: قد بايعنا هذا الرجل وقد دعانا إلى جميل، وإلى هذاالحدث العظيم، لننظر فيه، ونحن سائرون وناظرون» (2).

وذكر ابن الصباغ المالكي أن أمير المؤمنين عليّاً(علیه السلام) قد أرسل في بدء الأمرالمحمدين(محمد بن أبي بكر)، و(محمد بن جعفر بن أبي طالب)، فذهبا إلى الكوفة،وكان عاملها آنذاك عبد الله بن قيس(أبا موسى الأشعري)، وكان يثبّط الناس عن6.

ص: 68


1- تاريخ الأمم والملوك: 3/ 199 – 200 .
2- م.ن: 3/ 201 ، وينظر: تاريخ خليفة بن خياط: 108 – 111 ، وتاريخ اليعقوبي: 2/ 126.

الجهاد، وحرب أهل البصرة، فلم ينفر أحداً من أهل الكوفة، فقال لمحمد بن أبي بكر،ومحمد بن جعفر من أول مرة اذهبا إليه قبل هؤلاء ! واللهِ إن بيعة عثمان لفي عنقي،وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بد من قتالٍ فلا نقاتل أحداً حتى يفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا، فانطلقا إلى علي(علیه السلام) فأخبراه الخبر وهو بذي قار، فقال للأشتر وكان معه: أنت صاحبنا في أبي موسى، والمعترض في كُلّ شيء، ولم نقرّ أبا موسى على عمل الكوفة

إلاّ برأي منك، اذهب أنت، والحسن بن علي، والعمار فأصلح ما أفسده، فخرجوا وقَدِموا الكوفة، فدخلوها، والناس في المسجد وأبو موسى يخطبهم ويثبطهم، فقام إليه الحسن بن علي(علیه السلام) فسكّته، وقال: اعتزل عملنا يا شيخ لا أمَّ لك، فقال: أجّلني هذه العشية، فقال: هي لك، ثم قام الحسن(علیه السلام) فصعد المنبر، فخطب، فقال: أيها الناس أجيبوا دعوة أميركم، فانفروا إلى إخوانكم، واللهِ لَئِن يَلي هذا الأمر أولو النهى فإنه مثل في العاجل والآجل، وخير لكم من العاقبة، فأجيبوا دعوتنا على ما ابتلينا به،وابتليتم، فإنَّ أمير المؤمنين يقول: قد خرجت مخرجي هذا ظالماً أو مظلوماً، وإني أذكر الله تعالى رجلاً رعى حق الله بفرقان، إن كنت مظلوماً ما أعانني وإن كنت ظالماًأخذ منّي، واللهِ إن طلحة والزبير أوّل من بايعني، وأول من خرج عليّ، فهل استأثرتُ بمالٍ، أو بدلت حكماً، فأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر» (1).

إنَّ خطبة الحسن(علیه السلام) لأهل الكوفة، وهي على لسان أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام)، شبيهة بخطبته التي ألقاها في جامع الكوفة سنة أربعين من الهجرة في صبيحة إحدى وعشرين من شهر رمضان المبارك مؤبناً أباه شهيد العدالةِ الإنسانيةِ الإمامَ علياً(علیه السلام)، ومعدِّداً شيئاً من مناقبه، وفضائله، فقال: «لَقَدْ قُبض في هذه الليلة رَجلٌ لم يسبقه الأولون بعَمَل، ولم يدركه الآخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول الله(صلی الله علیه و آله) فيقيه .

ص: 69


1- الفصول المهمة: 71 ، وينظر: الفتنة الكبرى: 2/ 28 – 29 .

بنفسه، وكان رسول الله(صلی الله علیه و آله) يوجِّهه برايته، فيكتنفه جَبْرَئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، لا يَرْجعُ حتى يفتح اللهُ على يَدَيْه، لقد تُوُفّي في هذه الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم، وقُبض فيها يُوشع بنُ نون وَصِيّ موسى(علیه السلام)، وما خلّف صَفْراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فَضُلت من عَطَائه أراد أنْ يبتاع بها خادماً لأهْله، وقد أمرني أن أرُدَّها إلى بيت المالِ»(1)، وقد ذكرناها من قبل من باب الاستشهاد.

وقد وقف الحسن(علیه السلام) إلى جانب أبيه(علیه السلام) في عهد الخليفة عثمان، وعَمِل مخلصاً لأجل الإسلام، ولم يكن هو وأبوه(علیهما السلام) راضيين بقتل الخليفة عثمان، فوقف مع أبيه(علیهما السلام) موقف المصلح الحكم، فنصرة الحسن(علیه السلام) للخليفة عثمان بأمر أبيه(علیه السلام) تنسجم كلّ الانسجام مع خطّهم(علیهم السلام)، الذي هو خط الإسلام الصادق، والصحيح، وهو يدخل في عداد تضحياتهم الجسام – وما أكثرها ! – في سبيل هذا الدين، وهو دليل واضح، وخالص على بعد نظرهم، ودقّتهم، وعمقهم(2)، جاء في الإمامة والسياسة: «إنَّ محمداً بن أبي بكر لما خرج الحسن بن علي أخذ بيد رجلين، فقال لهما: إن جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحسن، كشفوا الناس عن عثمان، وبطل ما تريدون»(3)) وجاء أيضاً: «وذكروا أنَّ أهل مصر أقبلوا إلى عليّ، فقالوا: ألم تَرَ عَدُوَّ الله ماذا كاتب فينا؟ قُم معنا إليه، فقد أحلّ اللهُ دمه، فقال عليّ، لا واللهِ لا أقوم معكم(...) وذكروا أنَّ عثمان لما منع الماء صعد على القصر، واستوى في أعلاه(...) وكان في الدار مئة رجلٍ ينصرونه منهم: عبد الله بن الزبير، ومروان بن الحكم، والحسن بن علي، وعبد الله بن سلام، وأبو هريرة، فل سَمِع القوم إقبال أهل الشام قاموا، فألهبوا النار بباب عثمان، فلما نظر .

ص: 70


1- أنساب الأشراف: البلاذري: د.ط، القاهرة، 1959 م: 2/ 499 .
2- ينظر: أعلام الهداية: 75 .
3- الإمامة والسياسة: 1/ 40 .

أهل الدار إلى النار، نصبوا للقتال، و يَهتََّؤوا، فكَرِه ذلك عثمان، قال: لا أريد أن تراق فيّ جِحممة دم(...) ثم دخل عليه الحسن بن عليّ، فقال: مُرْ فيّ بما شئت، فإني طَوْع يديك، فقال عثمان: ارجع يا ابن أخي، اجلس في بيتك حتّى يأتي اللهُ بأمره» (1).

هذان النصانِ وغيرهما تردّ على الاتهامات التي وجّهت للحسن وأبيه(علیه السلام) كونهما قد اشتركا في دم عثمان، وقد ردّ أمير المؤمنين علي(علیه السلام) هذا الاتهام في زمنه، فلما بلغه اتهام بني أُميّة له بالمشاركة في دم عثمان، قال: «أوَ لَمْ يَنْهَ أُميةَ عِلْمُها بي عَن قَرْفِي، أو ما وَزَعَ الجهالَ سابقتي عن تُهْمَتي ولَمَا وَعَظَهم اللهُ به أبْلَغُ من لِسَاني، أنا حَجِيج المارقين وخصيم الناكثين المُرْتابين، وعلى كتاب اللهِ تُعْرَض الأمثال، وبما في الصدور تُجَازى العِبَاد» (2).

قال محمد عبده شارح نهج البلاغة، وهو بصدد شرح قول أمير المؤمنين علي(علیها السلام):

«أي ألم يكن في علم بني أمية بحالي ومكاني من الدين، والتحرّج من سفك الدماء، بغير حقٍّ ما ينهاهم عن أنْ يعيبوني بالاشتراك في دم عثمان خصوصاً وقد عَلِموا أنّي كنت له لا عليه، ومن أحسن الناس قولاً فيه؟ وسابقته: حاله المعلومة لهم مما تقدم(...) وهو كرم الله وجهه قد جرى على حكم كتاب اللهِ في أعماله فليس للغامز عليه أنْ يشير إليه بمطعن ما دام ملتزماً لأحكام الكتاب» (3).

وبعد استشهاد أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام) سنة أربعين للهجرة بويع للحسن(علیه السلام) بالخلافة، قال الطبري: «وفي هذه السنة، أعني سنة أربعين بويع للحسن بن علي(علیه السلام) .

ص: 71


1- الامامة والسياسة: 1/ 37 .
2- نهج البلاغة: 1/ 95 .
3- م.ن: 1/ 95 .

بالخلافة، وقيل: إن أوَّل من بايعه قيس بن سعد»(1)، وقال المسعودي: «ثم بويع الحسن ابن علي بن أبي طالب بالكوفة بعد وفاة علي بيومين في شهر رمضان من سنة أربعين» (2)، وقال ابن عبد البرّ(ت 463 ه-) «ولمّا قتل أبوه علي(علیه السلام) بايعه أكثر من أربعين ألفاً كلهم قد كانوا بايعوا أباه عليّاً قبل موته على الموت، وكانوا أطوع للحسن وأحب فيه» (3).

ويرى ابن الأثير وفقاً للروايات أنَّ المراد بالخلفاء الاثني عشر هو الخلفاء الأربعة ثم الحسن بن علي، لأن عليّاً أوصى إليه، وبايعه أهل العراق، وركب وركبوا معه لقتال أهل الشام حتى اصطلح هو ومعاوية(4). وقال الأربليّ: «إنَّ القائلين بإمامة الجماعة بعد النبي(صلی الله علیه و آله) قائلون بإمامة الحسن(علیه السلام) مما رووه أنَّ الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تعود ملكاً، وبأن عليّاً(علیه السلام) أوصى بها إليه وأفاض رداءها عليه، فهو(علیه السلام) مسألة إجماع وقدسَلِم مدّعي إمامته عن النزاع» (5).

وفيما يتعلق بمدة خلافته، فقد اختلف فيها، فذهب خليفة بن خياط إلى أنها «كانت ولاية الحسن بن علي سبعة أشهر وسبعة أيام»(6)، وقيل «كانت خلافته ستة أشهر وأربعة أيام، وقيل: سبعة أشهر وأربعة وعشرين يوماً»(7)، ومهما يكن من أمرفأن مدة ولاية الحسن(علیه السلام) قصيرة جداً، إذ كانت أشهراً لم تناهز عدد الأصابع العشر، ولكنها .

ص: 72


1- تاريخ الأمم والملوك: 3/ 330 . وينظر: الكامل في التاريخ: 3/ 205 .
2- مروج الذهب ومعادن الجوهر: 3/ 5.
3- الاستيعاب: يوسف بن عبد الله ابن عبد البّر(ت 463 ه-)، طبعة بيروت، 1412 ه-): 1/ 385.
4- ينظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة: 6/ 1663 .
5- كشف الغمة: 1/ 499 ، وينظر: بحار الأنوار: 10 / 171 .
6- تاريخ خليفة بن خياط: 153 .
7- أعيان الشيعة: 2/ 377 .

ناهزت عدد النجوم هزاهز وزعازع، وكانت قطعة من الزمن يتجه إليها القلب بكلّ ما يملكه من حُبّ وإعجاب، فاحت بروائح النبوة، وتجلت فيها مزايا الإمامة الصادقة، وتكشفت على قلتها، وقصر مدتها عن حقائقها كثير من الناس هنا وهناك، وهي الأشهر التي ختمت أعمالها بأفضل خواتيم الأعمال في الإصلاح، ووصلت بخاتمتها الفضلى مصلحة الدنيا بمصلحة السماء، وإذا بالحسن بن علي(علیهما السلام) هو ذلك المصلح الأكبر الذي بشر به جدّه رسول الله(صلی الله علیه و آله) في الحديث الذي سبق ذكره: إنَّ ابني هذا سيّد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، وإنَّ الله سبحانه عوّد أهل بيته أنْ يحفظ لهم الشرف في أعلى مراتبه، وفي مختلف ميادينه، فإن لم يكن بالانتصار أو بالصلاح فليكن بالشهادة الكريمة في الله وفي التاريخ، وإن لم يكن بهذا ولا ذاك فليكن بالإصلاح وجمع الكلمة، وتوحيد أهل التوحيد، وكفى بالإصلاح شرفاً، وكفى ببقاءالشرف انتصاراً، وبقاء الشرف ضماناً لبقاء العزة، والعزة حافز دائب يدافع عن الحياة ويقوم على السيادة(1).

ويتجلى مفهوم الإصلاح عند الحسن(علیه السلام) فيما يأتي:
أ- التعريف بشخصيته(علیها السلام)

لقد عَمِل الحسن(علیه السلام) لحظة تسلمه الخلافة إلى التعريف بنفسه لكونه قد جمع الكمالات الإنسانية كلها، واحتشدت فيه الفضائل التي نالها من كتاب الله(علیه السلام)، ومن جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله)، ومن أبيه أمير المؤمنين علي(علیه السلام)، فعملية الإصلاح الشامل لابد لها من مصلح عظيم، معروف نسبه، محمودة سيرتُه، محبوب لدى الناس، وهذا ما تنبه عليه الحسن(علیه السلام)، وقد نقلنا في الفصل الأول نصوصاً تضمنت تعريف الحسن(علیه السلام) بنفسه، ولحاجة هذا المطلب لها، نجد إلزاماً علينا ذكر عبارات منها.1.

ص: 73


1- ينظر: صلح الحسن(علیه السلام): 250 - 251.

فمن هذه النصوص خطبتُه التي قالها بعد استشهاد أبيه علي بن أبي طالب(علیه السلام)، قال: «أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومَنْ لم يعرفني فأنا الحسن بن عليّ، وأنا ابن الوصي، وأنا ابن البشير وأنا ابن النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله والسراج المنير، وأنا من أهل البيت الذي كان جبريل ينزل فينا، ويصعد من عندنا»(1). وقال أيضاً: «أيها الناس إنَّ أكيس الكيس التُّقى، وأحمق الحمق الفجور، وإنّكم لو طلبتم ما بين جَابَلْق وجَابَرْس رجلاً جدّه رسول الله(صلی الله علیه و آله) ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين، وقدعَلِمتم أنَّ اللهَ هداكم بجدّي محمد فأنقذكم به من الضلالة، ورفعكم به من الجهالة،وأعزكم به بعد الذلة، وكثركم به بعد القلة» (2).

وقد تضمَّن خطابه(علیه السلام) دعوة الناس إلى مبايعته، فدعواه كانت على مستوى عالٍ من البلاغة، وقوة الإقناع، والتأثير في السامعين فقد عرّف نفسه للجماهير بأنه ابن الداعي إلى الله، وابن السراج المنير، وأنه ممن أذهب الله عنهم الرجس والأباطيل، فهو منجم الكمالات والفضائل، ومهوى الشمائل والقيم الإنسانية المثالية(3).

ب- دعوته(علیه السلام) إلى الوحدة ولزوم الجماعة

قبل الحديث عن دعوة الحسن(علیه السلام) الناس إلى الوحدة، ولزوم الجماعة في الكوفة، لابد من بيان طبيعة المجتمع الكوفي بإيجاز، هذا المجتمع المختلف تركيباً، والمتباين مذهباً، والمختلف قومية، والمتنوع قبليّاً، والمتفاوُت طبقة، فالتركيب الديني في الكوفة يشمل إضافة إلى المسلمين(اليهود، والنصارى، والصابئة، والمجوس)(4)، أما التباين .

ص: 74


1- الذرية الطاهرة: 108 .
2- كشف الغمة: 1/ 534 .
3- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 34 .
4- ينظر: موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 178 – 179 .

المذهبي فيشمل(الخوارج، والنواصب، والأمويين، وإتباع علي(علیه السلام)، وتوجد اتجاهات أخر محدودة النطاق ذات التأثير الملحوظ في المجتمع ك(الجبرية، والمُرجِئة، والقدرية، والمفوّضة، فضلاً عن الغلاة)(1).

أما الاختلاف القومي، فيتمثل بالقوميات المتواجدة في الكوفة، وهي: الأتراك، والأكراد، والفرس(وهم الأكثرية)، والروم، والسريانيون، ويوجد عدد قليل من الأرمن، والآشوريين(2)، وفيما يتعلق بالتنوع القبلي، فيشمل قبائل كنانة، وقضاعة وغسان، ومذحج وحمير وهمدان، وتميم والرباب، وأسد وغطفان وضبيعة، وتغلب ومحارب، وإياد وعبد شمس وعك، وأهل هجر، والحمراء، وطي اليمانية(3)، أما التفاوُت الطبقي فيشمل الطبقات الآتية طبقة الأشراف والأعيان والوجهاء، وطبقة الموظفين، وطبقة الكادحين والكسبة، وطبقة العبيد والموالي، وطبقة المرتزقة، وطبقة القضاة رجال الدين الأثرياء(4).

وفي ظل هذا التباين الذي تعيشه الكوفة على المستويات كافة، فإنَّ الأوضاع فيها كانت مرهقة ومتعبة، وكانت متفرقة ومتشتتة، فأخذ الحسن(علیه السلام) يعمل بجد، وإخلاص، وعناية من أجل إصلاح دولته، وإحكامها، وصيانتها، ونلمح هذا في خطاباته التي يحضُّ فيها على لزوم الطاعة، والجماعة، والدعوة إلى التآخي، والاتحاد، والوحدة، والانقياد إليها، فهي الحصن الحصين، والسد المنيع أمام التفرق، والتشتت .

ص: 75


1- ينظر: موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 180 – 181 . وصلح الحسن: 66 – 65.
2- ينظر: موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 182 .
3- ينظر: م.ن: 5/ 183 .
4- ينظر: م.ن: 5/ 184 – 185 .

الذي يهدّد المجتمع الإسلامي، وينذره بفقدان الحياة(1).

إنَّ الانضواء تحت خيمة الأمة، ولزوم الجماعة، وإتباع أهل التقى والحق، الذين ارتضاهم المسلمون أئمة وقادة مصداق مهم، من مصاديق مفهوم الإصلاح في المجتمع، فالإمام العادل المفروض الطاعة هو الذي يقود المجتمع إلى الحق والخير، فتعمُّ السعادة، والمحبة في جوانبه كافة، ومن هنا فقد دعا الحسن(علیه السلام) معارضيه ولاسيما معاوية ابن أبي سفيان إلى الخضوع، ولزوم الطاعة، والدخول في الجماعة من أجل مصلحة الإسلام العليا، وتظهر هذه الدعوة جليّة الدلالات، واضحة المعاني في الرسالة التي بعثها الحسن(علیه السلام) إلى معاوية في بدء مبايعة الناس له، وتسلمه الخلافة، وسنذكرها كاملة، لما فيها من فائدة كبرى، وأهمية جُ ،ّىل وإليك نصّها: «من الحسن بن عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان سلام عليك، فإنّي أحمدُ إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بَعْدُ، فإنَّ الله جَلَّ جلاله بَعَثَ محمداً رحمة للعالمين، ومِنّة لِلمُؤمنين،وكافة للناس أجمعين «لِیُنذِرَ مَن کَانَ حَیًّا وَیَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَی الْکَافِرِینَ»، فبلّغ رسالات اللهِ، وقامَ بأمر الله، حتى توفّاه اللهُ غير مُقَصِّر ولا وان، وبعد أنْ أظهَر اللهُ به الحقَّ،ومَحَق به الشِّرْك، وخصَّ به قُرَيْشاً خاصة، فقال له: «وَإِنَّهُ لَذِکْرٌ لَّکَ وَلِقَوْمِکَ»، فلمّا تُوُفِّي تنازعت سُلطانه العربُ، فقالت قُرَيش: نَحْنُ قبيلته، وأُسرته، وأولياؤُه، ولا يحلّ لكم أنْ تَنَازعونا سلطان محمّد وحقَّه، فَرَأت العَرَبُ أنَّ القولَ ما قالت قُرَيْش، وأنَّ الحُجَّة في ذلك لَهُمْ على مَنْ نازعَهُم أمر محمّد، فَأنْعَمْتُ لَهُم، وسلّمت إليهم، ثم حاجَجْنا نحن قُرَيْشاً بمثل ما حاجَجَت به العربُ فلم تُنْصفنا قُرَيش إنصاف العَرَبِ لها، إنَّهم أخَذُوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحْتِياج، فلمّا صِرنا أهل بيت .

ص: 76


1- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 38 ، وسيرة الأئمة الأطهار: مرتضى المطهّري: 83 .

محمد وأوليائه إلى محاجَجَتهم، وطَلَب النَّصَفِ منهم باعَدونا واسْتَوْلوا بالاجتماع على ظلمنا ومُرَاغَمَتنا، والعَنَت منهم لنا، فالموعد الله، وهو الوليّ النصير. ولقد كنا تعجّبنا لِتَوَثُّب المُتَوثِّبين علينا في حقنا، وسلطان بيتنا، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، وأمسكنا عن مُنَازعتهم مخافة على الدين أنْ يجد المنافقون، والأحزاب في ذلك مَغْمَزا يَثْلِمُونه به، أو يكون لَهُم بذلك سَبَبٌ إلى ما أرادوا من إفساده، فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمرٍ لست من أهله لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود، وأنت ابنُ حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله(صلی الله علیه و آله) ولكتابه والله حسيبك فَسَتُردُّ وتعلم لمن عقبى الدار، وبالله لَتَلْقَيَنَّ عن قليل ربك ثُمَّ لَيَجْزِيَنَّك بما قدّمت يداك، وما الله بظلام للعبيد. إنَّ عليّاً لمّا مضى لسبيله(رحمة الله عليه يوم قبض) ويوم مَنَّ اللهُ عليه بالإسلام، ويوم يبعث حيّاً، ولاّني المسلمون بَعْدَه، فأسألُ اللهَ أن لا يُؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً يُنْقصنا به في الآخرة مما عنده من كَرامةٍ، وإنما حَمَلني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين الله عز وجل في أمرك ولك في ذلك إن فَعَلْتَه الحَظّ الجَسيم، والصلاح للمسلمين، فَدَع التمادي في الباطل، وادخل فيما دَخَلَ فيه الناس من بيعتي فإنّك تعلم أنّي أحقُّ بهذا الأمر مِنك عند الله، وعند كُلّ أوّاب حفيظ، ومَنْ له قَلْبٌ منيب، واتّقِ اللهَ ودَع البغي، واحقن دماء المسلمين، فو اللهِ ما لك خيرٌ في أنْ تلقى اللهَ من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخل في السَّلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهْلَه، ومَنْ هو أحق به منك لِيُطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة، ويصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلاّ التّمادي في غيّك سِرْتُ إليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم اللهُ بيننا، وهو خيرالحاكمين» (1).ت،

ص: 77


1- شرح نهج البلاغة:أبو حامد عز الدين ابن أبي الحديد(ت 656 ه-)، دار الفكر، بيروت،

إنها ملحمة في الدعوة إلى الإصلاح، والحفاظ على لحمة المجتمع، وصيانة أركانه، وأسسه، وقد تضمّنت هذه الرسالة أموراً مهمة، وهي:

1. إن الحسن(علیه السلام) هو الخليفة الذي بايعه الناس، وهو أحقّ بالخلافة من غيره لكونه من أهل البيت(علیهم السلام)، وجامعاً للكمالات، والفضائل، والشمائل.

2. عدم مطالبة أهل البيت(علیهم السلام) بحقّهم في الخلافة؛ من أجل الحفاظ على بيضة الإسلام، ووحدة المسلمين.

3. تعجّبُ الحسن(علیه السلام)، واستغرابه من توثب معاوية لنيل الخلافة، وهو ليس أهلاً لها لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود، قال طه حسين: «مهما يقل الناس في معاوية من ذلك، فقد كان معاوية هو ابن أبي سفيان قائد المشركين يوم أحد، ويوم الخندق، وهو ابن هند التي أغرت بحمزة حتى قتل، ثم بقرت بطنه، ولاكت كبده، وكادت تدفع النبيَّ نفسُه إلى الجزع على عمه الكريم، وكان المسلمون يسمون معاوية وأمثاله من الذي أسلموا بآخرة، ومن الذين عَفَا النبيُّ عنهم بعد الفتح بالطلقاء، لقول النبي لهم: اذْهَبُوا فأنتم الطلقاء» (1).

4. دعوة معاوية إلى لزوم الجماعة، والدخول في الطاعة من أجل جمع الكلمة، وإصلاح المجتمع، وتحقيق السعادة والنجاة.

إنَّ الحسن(علیه السلام) أراد أنْ ينمي هذه الوحدة، ويوثقها في نفوس أفراد المجتمع،لاسيما بعد أن خَيَّم الشك على الفرد المسلم آنذاك فأراد معالجة أسبابه، وإنعاشه من جديد؛ لما له من تأثير على نفسية المسلم من داخل المجتمع، فالظروف التي يمرّ بها 1388 ه-: 16 / 33 – 34 .(يس/ 70 )،(الزخرف/ من الآية 44 ). .

ص: 78


1- الفتنة الكبرى: 2/ 14 .

المسلمون في العراق كانت ظروفاً نفسية، والمجتمع محطّمٌ من جهَة التعايش، والتسامح، ووجود فراغات نفسيّة وفكرية واضحة وكبير، فكانت دعوته ملحة في الوحدة، والتآلف، والمحبة(1).

لقد أراد الحسن(علیه السلام) كذلك أنْ يبعدَ الأمّة عن شبح موت الإرادة، وموت القيم الإنسانية العليا، فهو يعلم أن الحزب المعارض كان يريد موت الأمة، والقضاء على الضمائر الحيّة في نفوسهم من خلال إبعادهم عن القضية الرئيسة، وهي حب الأمة الإسلامية، والانصهار من تعاليمها، ومثلها الإنسانية القيّمة، وكان يستهدف تحصين الأمة الإسلامية من صدمة الانحراف، والانحلال، وفقدان الإنسانية القائمة على الحبّ، والتعايش، والتسامح(2).

إن إرادة إحياء القيم الإنسانية، وبعثها من جديد كان هدف الحسن(علیه السلام)، ومنهجه في إصلاح المجتمع، بسبب التحلل الذي وقع فيه المجتمع آنذاك في جميع القيم الإنسانية، فانتشر في المجتمع المجون، والخلاعة، والرِّشا، والكذب، وصنع الحديث، وأكل الربا، واشتراء الضمائر، وتغيير سنة رسول الله(صلی الله علیه و آله)، وافتعال الأحاديث وغيرها(3).

إنَّ هذا الخطوب، والأحداث، والمحن التي مرّ بها المجتمع الكوفيّ، ورغبة معاوية في الاستيلاء على السلطة، جعلته يبادر إلى إعلان الحرب، فجهّز جيشاً كبيراً للقدوم إلى العراق، وقد استنفر عماله وولاته كافة، ولما بلغ الخبر الحسن(علیه السلام)، وأهل العراق، حثّ(علیه السلام) الناس على الجهاد، والخروج إليهم، قال طه حسين: «وكانت الحرب المقبلة .

ص: 79


1- ينظر: أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية(محاضرات سماحة آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر): ط 1، مطبعة شريعة، إيران، 1425 ه-: 241 .
2- ينظر: م.ن: 246 .
3- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 152 .

محتاجة إلى البلاء الحسن كلّه، فالخصم في الشام عنيف يُحيط به جند أولو قوّة، وأولو بأس شديد، فأما عنف هذا الخصم وهو معاوية، فيمكن أنْ نقدره حين نلاحظ أنه ابن أبي سفيان الذي حارب النبيّ بعد بدر، فأبلى من حربه أشد البلاء، وأقواه وأظهر من هذه الحرب قوة، وقسوة، وكيداً، ودهاءً، ولم يسلم إلاّ بآخرة حين لم يرَ من الإسلام بدّاً، وحين لم يكن له إلاّ أنْ يختار بين الإسلام، والموت، وقد وَرِث معاويةُ عن أبيه قوته، وقسوته، وكيده، ودهاءه، ومرونته كذلك، ولم تكن أم معاوية بأقل من أبيه تنكراًللإسلام، وبغضاً لأهله، وحفيظة عليهم، وهم قد وتروها يوم بدر فثأر لها المشركون يوم أحد، ولكن حنقها لم يهدأ، وحفيظتها لم تسكن حتى فتحت مكة، فأسلمت كارهة، كما أسلم زوجها كارهاً» (1).

واختار الحسن(علیه السلام) ابن عمّه عبيد الله بن عباس قائداً للجيش، وقد أوصاه بوصية تعد قبساً من قبسات إنسانيته المثالية، وهذا نصُّها: «يا بْنَ العَمْ، إني باعث معك اثني عَشَرَ ألفاً من فُرسان العرب، وقُرّاء المصر، الرَّجُلُ مِنْهم يزيد الكتيبة، فسِرْ بهم، وألِنْ لَهُم جانِبَك، وابْسُطْ لَهُمْ وجهك، وافْرُشْ لَهُمْ جَنَاحك، وأدْنِهم من مَجْلِسك، فإنَّهم بقيّة ثُقات أمير المؤمنين، وسِرْ بهم على شط الفرات، ثم امْضِ حتى تستقبل بهم معاوية، فإن أنت لَقِيْته فاحْتَبِسْهُ حتى آتيك، فإنّي على أثَرِك وشيكاً، ولْيَكُن خَبَرُك عندي كُلَّ يوم، وشاوِر هذين – قَيْس بنَ سعد، وسعيد بن قبس، وإذا لَقِيت معاوية فلا تُقَاتِلْه حتى يُقَاتِلَك فإن فَعَل فقاتِلْه، وإن أُصبت فقيس بنُ سعدٍ على الناس، فإن أُصيبَ، فسعيدٌ بنُ قَيْس على الناس»(2)، وعلى الرغم من ثقة الحسن(علیه السلام) بابن عمّه(عبيد الله بن عباس)، إلاّ أنَّ المال، وسوء العاقبة كان لهما الأثر الرئيس في غدر عبيد الله وخيانته .

ص: 80


1- الفتنة الكبرى: 2/ 56 .
2- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 16 / 40 .

فصار إلى معاوية في ثمانية آلاف من أصحابه، بعد أن جعل له ألف ألف درهم، وأقام قيس بن سعد على محاربة معاوية(1)، وقد عرف سعد بالرجل الحكيم، والقائد الغيور، ونهد للأمر مخاطباً بقية الجيش بعدما انحاز عبيد الله بن عباس ليلاً إلى معسكر معاوية، فقال: «إن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خيراً قطّ، إن أباه عم رسول الله(صلی الله علیه و آله) خرج يقاتله ببدر، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري، فأتى به رسول الله(صلی الله علیه و آله) فأخذ فداءه، فقسّمه بين المسلمين، وإنَّ أخاه ولاّه عليٌّ على البصرة فسرق ماله، ومال المسلمين

فاشترى به الجواري، وزعم أنَّ ذلك له حلال، وإن هذا ولاّه عليّ على اليمن، فهرب من بسر بن أبي أرطأة، وترك وُلْده حتى قتلوا، وصنع الآن هذا الذي صنع»(2)، وهذا النصُّ مهم في بيان تَغَلُّل جيش الحسن(علیه السلام) وتفكّكه، بعد غدر عبيد الله بن عباس وخيانته، ولا غرابة في ذلك فأبوه(العباس بن عبد المطلب) عم النبي(صلی الله علیه و آله) قاتل النبي في معركة بدر، والثاني(عبد الله بن عباس) الذي سرق مال المسلمين حينما كان والياً لعليّ(علیه السلام) على البصرة، فكما كان «عبيد الله بن عباس يتعجل السّلم لنفسه، ويترك جيشه إلى معاوية دون أنْ يستخلف عليه أحداً رشاه معاوية بالمال، فلم يستطع أنْ يعصي المال، وكذلك انحرف عبد الله بن عباس عن عليّ، وانحرف عبيد الله بن عباس عن الحسن، كلاهما ينحرف عن صاحبه في أشدّ الأوقات حرجاً، وأعسرها عسراً» (3).).

ص: 81


1- ينظر: تاريخ اليعقوبي: 2/ 149 . وموسوعة المصطفى والعترة: 5/ 21 ، وأعلام الهداية(الحسن المجتبى): 20 – 21 .
2- مقاتل الطالبيين: 65 .
3- الفتنة الكبرى: 2/ 179 .(والذي يعجبُ له أن من الباحثين المحققين كالشيخ راضي آل ياسين في كتابه(صلح الحسن(علیه السلام): 128 - 129، والشيخ باقر شريف القرشي في كتابه(حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 97 – 98 ) وغيرهما نِممّ وقفوا على هذا النصِّ من دون إبداء رأي أو ملحظ يتعلق بالأعلام الذين وردت أسماؤهم، ويبدو أن مكانة العباس بن عبد المطلب(عم النبي(صلی الله علیه و آله)، وابنه حبر الأمة(عبد الله بن عباس) حالت دون ذلك).

إنَّ تفاقم الأمر المتمثل بموت إرادة الجماهير من جهة، وخيانة بعض قيادات الحسن(علیه السلام) وغَدْرهم من جهة أخرى، فضلاً عن قوة جيش معاوية، ودعوته الحسن(علیه السلام) إلى السَّلم، والصلح(1)، جعلت الحسن(علیه السلام) يقبل في اللحظات الأخيرة بالهدنة، والسَّلم، والمعاقدة مع معاوية بشروط أملاها الحسن(علیه السلام) عليه.

إنَّ مبدأ السّلم، أو الصلح، أو المعاقدة، أو الهدنة هي مصاديق لمفهوم الإصلاح عند الحسن(علیه السلام)، فالسّلم الذي أبرمه مع معاوية كان من أجل الإبقاء على بيضة الإسلام، والقيم الإنسانية العليا له، فضلاً عن ذلك الحفاظ على الأرواح، والأعراض والأموال، وهذا ما سنتحدث عنه.

ثالثاً: السلم

اشارة

يظهر لنا إطلاق مصطلح(السلم) على ما حدث من صلح أو اتفاق، أو هدنة، أو معاهدةً أو معاقدة بين الحسن(علیه السلام)، وبين معاوية ب(السَّلم)، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن المتعين أن لفظة(السلم) هي الأقرب بلحاظ النقل من جهة، والمنطق والعقل من جهة أخرى.

أ- السلم تعريفاً

فالسَّلم من مصاديق مفهوم الصلاح، والإصلاح، قال الراغب الأصفهاني:

«والسَّلام، والسِّلم، والسَّلم الصُّلح، قال: «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا»، وقيل نزلت فيمن قُتِل بعد إقراره بالإسلام، ومطالبته بالصلح، وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً»«وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ»،

وقُرِئ للسَّلم بالفتح(...) وقيل السِّلْم اسم بإزاء الحَرْب، والإسلام: الدخول في السلم، .

ص: 82


1- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 15 ، و 2/ 120 – 148 .

وهو أن يسلم كُلّ واحد منهما أن يناله من ألم صاحبه»(1)، وتسالم الفريقان مسالمة، أي:

أخذوا بالسِّلم، والصلح، وعقدوا عقد السّلم، أي عقد المصالحة(2)، وقد أشار سيد قطب في معرض حديثه عن قوله تعالى: «فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا»(النساء/ من الآية 90 )، من كون الإسلام يتسامح مع أصحاب العقائد المخالفة له، فلا يكرههم أبداً على اعتناق عقيدته، ولهم حتى وهم يعيشون في ظل نظامه ودولته أنْ يجهروا بمعتقداتهم المخالفة للإسلام في غير ما دعوة للمسلمين، ولا طعن في الدين، فالإسلام لا يدع مما يعيش في ظله يطعن فيه، ويموّه حقائقه، ويلبس الحق بالباطل، وحسب الإسلام أنْ لا يكره أحداً على اعتناق عقيدته من غير المعتنقين له، وأنْ يحافظ على حياتهم، وأموالهم، ودمائهم(3).

وقد عنّف القرآن الكريم قوماً تهافتوا في القتل، ولم يكونوا محترزين محتاطين في ذلك، دأبهم طلب حطام الدنيا السريع النفاد، قال تعالى: «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ»(النساء/ من الآية 94 )، نزلت في أُسامة بن زيد، وقد قتل مرداس بن يُهنك بعد أن شَهِد الشهادة، وقال السلام عليكم(4).

إنَّ المتأمل فيما نقل عن الحسن(علیه السلام) أنه استعمل السَّلم ومشتقاتها دليلاً على .

ص: 83


1- مفردات ألفاظ القرآن:(سلم): 423 ،(النساء/ من الآية 94 )،(البقرة/ من الآية 208 )(الأنفال/ من الآية 61 ).
2- ينظر: أساس البلاغة: 1(سلم): 455 .
3- ينظر: في ظلال القرآن: سيد قطب: 1/ 732 .
4- ينظر: الكشاف: الزمخشري: 2/ 584 – 585 ، وتفسير البيضاوي(أنوار التنزيل وأسرارالتأويل): البيضاوي(ت 682 ه-)، تحقيق: مجدي فتحي السيد، وياسر سلمان أبو شادي، المكتبة التوفيقية، مصر، د.ت: 1/ 297 .

الصلح، أو الهدنة، أو المعاقدة التي حدثت بينه(علیه السلام) وبين معاوية، ومن هذه النصوص التي توضح ذلك، ما جاد فوه الشريف من عبارات، وإليك نصها:

1. ما قاله(علیه السلام) عندما «وجه معاوية إلى الحسن المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عامر بن كريز، وعبد الرحمن بن أم الحكم، وأتوه وهو بالمدائن نازل من مضاربه، ثم خرجوا من عنده، وهم يقولون، ويُسمعون الناس: إن الله قد حقن بابن رسول الله الدماء، وسكّن به الفتنة، وأجاب إلى الصلح فاضطرب العسكر، ولم يشكل الناس في صدقهم، فوثبوا بالحسن، فانتهبوا مضاربه وما فيها، فركب الحسن فرساً له ومضى في مظلم ساباط، وقد كمن له الجرّاح بن سنان الأسدي فجرحه بمعول في فخذه، وقبض على لحية الجرّاح،ثم لوّاها فدقّ عنقه، وحمل الحسن إلى المدائن وقد نزف نزفاً شديداً، واشتدّت به العلّةُ،فافترق عنه الناس، وقدم معاوية العراق، فغلب على الأمر، والحسن عليل شديد العلة،فل رأى الحسن أنْ لا قوة به، وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له، صالح معاوية،وصعد المنبر فحَمِدَ الله، وأثنى عليه، وقال: أيُّها الناس، إنَّ اللهَ هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وقد سالمت معاوية «وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ»»(1)،وجاء هذا النصّ في تاريخ دمشق ل(ابن عساكر ت571 ه-): «أيها الناس، إن الله هدى أولكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وقد كانت لكم لي في رقابكم بيعة تحاربون من حاربتُ، وتسالمون من سالمْتُ، وقد سالمت معاوية: «وَإِنْ أَدْرِی لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّکُمْ وَمَتَاعٌ إِلَی حِینٍ» وأشار إلى معاوية بيده»(2)، وجاء هذا النص في كشف الغمة ل(الأربلي) على النحو الآتي: «وإن معاوية نازعني حقاً هو لي دونه، فنظرت لصلاح الأمة وقطع الفتنة، وقد كُنْتم بايعتموني على أنْ تسالموا من سالمتُ، وتحاربوا من حاربْتُ، .

ص: 84


1- تاريخ اليعقوبي: 2/ 149 – 150 .(الأنبياء/ 111 )، والأخبار الطوال: 217 .
2- تاريخ دمشق: ابن عساكر: 13 / 275 .

فرأيْتُ أن أُسالم معاوية، وأضع الحربَ بيني وبينه، وقد بايعتُه ورأيْتُ أنَّ حَقْنَ الدماء خيرٌ من سفكها، ولم أرد بذلك إلاَّ صلاحكم، وبقاءكم: «وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ».» (1).

2. أشار الحسن(علیه السلام) إلى العواقب الوخيمة، والنتائج المرّة التي تترتب على مسالمة معاوية، فقال: «ويْلكم ! واللهِ إنَّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضَمِنه في قتلي، وإنّي أظُنُّ إنْ وَضَعْتُ يَدي في يده فأُسالمه لَمْ يَتْرُكني أدين بدين جدي (صلی الله علیه و آله)، وإنّي أقْدِرُ أنْ أعْبُدَ الله(عزوجل) وَحْدي، ولكن كأنّي أنْظُرُ إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم، ويستطعمونهم بما جعل اللهُ لهم فلا يُسْقون، ولا يُطعمون، فَبُعْداً وسُحْقاً لِما كَسَبَتْهُ أيديهم، «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»» (2).

3. أشار الحسن(علیه السلام) إلى المسالمة مع معاوية، بعد أنْ تعرض(علیه السلام) إلى المحن، والخطوب من الذين يزعمون أنهم موالون، ومحبون له، ولأهل بيته(علیهم السلام)، إلاَّ أنهم في حقيقة الأمر يريدون قتله، ونهب متاعه، وهم لا يتوانون في قتله، أو تسليمه إلى معاوية أسيراً، فقال: «واللهِ أرى معاوية خيراً لي، هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة ابْتَغَوْا قتلي، وانتهبُوا ثِقْلي، وأخذوا مالي، واللهِ لئن آخُذَ من معاوية عهداً أحْقِنُ به دمي، وآمن به أهلي وشيعتي خيرٌ لي من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي، لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سِلْما، واللهِ لَئِن أُسالِمَه وأنا عزيزٌ أحَبُّ من أن يقتلني وأناأسير، أو يَمُنَّ عليَّ فتكون سُبَّةً على بني هاشم إلى آخر الدهر، ولِمعاوية لا يزال يَمُنُّ .

ص: 85


1- كشف الغمة: 1/ 579 . وينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 260 – 161 .
2- بحار الأنوار: 10 / 170 .(الشعراء/ من الآية 227 )، وينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 108 – 109 .

بها وعَقِبُه على الحَيّ منا والمَيِّت» (1).

ب- شروط السِّلم

إنَّ السَّلم الذي تم بين الحسن(علیه السلام)، وبين معاوية بن أبي سفيان بحسب الشروط التي سنذكرها لم تصرح من قريب، ولا من بعيد بذكر(بيعة)، ولا(إمامة)، ولا(خلافة)(2)، قال اليعقوبي: «وأحضر الناس لبيعته، وكان الرجل يحضر فيقول: والله يا معاوية، إني لا أبايعك، وإني لكارهٌ لك، فيقول: بايع، فإن اللهَ قد جعل في المكروه خيراً كثيراً، ويأبى الآخر، فيقول: أعوذ باللهِ من شرِّ نفسك ! وأتاه قيس بن سعد بن عبادة !

فقال: بايع قيس ! قال: إن كنت لأكره مثل هذا اليوم، يا معاوية، فقال له: مَهْ، رَحِمکَ اللهُ، فقال: لقد حرصت أنْ أفرّق بين روحك وجسدك قبل ذلك، فأبى الله، يا ابن أبي سفيان، إلا ما أحبّ، قال: فلا يُردّ أمرُ الله، قال: فأقبل قيس على الناس بوجهه، فقال: يا معشر الناس، لقد اعتضتم الشر من الخير، واستبدلتم الذل من العزّ، والكفر من الإيمان، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وابن عم رسول رب العالمين، وقد وليكم الطليقُ ابن الطليق يسومكم الخسف، ويسير فيكم بالعسف، فكيف تجهل ذلك أنفسكم، أم طبَع اللهُ على قلوبكم، وأنتم لا تعقلون؟، فجثا معاوية على ركبتيه ثم أخذبيده، وقال: أقسمت عليك، ثم صفق على كفّه، ونادى الناس: بايع قيس، فقال: كذبتم،واللهِ، ما بايعت، ولم يبايع لمعاوية أحدٌ إلاَّ أُخذ عليه الإيمان، فكان أول من استحلف على بيعته، ودخل إليه سعد بن مالك، فقال: السلام عليك، فقال: السلام عليك أيها الملكُ، فغضب معاوية، فقال: إلا قلتَ السلام عليك يا أمير المؤمنين؟، قال: ذاك إن كُنّا .

ص: 86


1- بحار الأنوار: 10 / 171 . وينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 111 .
2- ينظر: صلح الحسن(علیه السلام): 267 .

أمّرناك، إنّما أنت مُنْتَزٍ» (1).

والذي يبدو أنَّ ما حدث هو سلم مؤقت، أو هدنة مؤقتة، وهذا الأمر التفت إليه طه حسين من قبل، فقال: «فهو إذاً يهيئهم للحرب حتى يأتي إبانها ويحين حينها، ويأمرهم بالسلم المؤقت حتى يستريحوا، ويحسنوا الاستعداد»(2)، ويرى محمد باقر الصدر أن الحسن(علیه السلام) «قد انسحب عن الميدان، وعن المعترك السياسي مؤقتاً في هدنة أعلنها الإمام الحسن(علیه السلام) ومعاوية»(3)، فجاءت «قرارات الإمام الحسن(علیه السلام) الصائبة بأن يهادن مؤقتاً، ويقبل بالصلح»(4)، ويرى محمد السند «أن هناك شواهد عدة تؤكد أنه لو تعدّى معاوية على الخطوط الحمر التي توافق عليها الإمام الحسن(علیه السلام) معه، فسوف تبدأ المواجهة من جديد، وكان(علیه السلام) يستطيع أنْ يستعين بفئات من المسلمين، والتي هي من غير أتباع أهل البيت(علیهم السلام)، وهم كانوا على استعداد(...) والسلم هنا نوعٌ من التهدئة المؤقتة وهذا أشبه بعقد سلم بين قوتين لا أنه انفراد قوة، وتشتت قوة أخرى وتبعثرها، وذوبانها في القوة الأولى(...) ومعنى قوله(علیه السلام):(سالمت معاوية)، أي أنه لا أزال أحتفظ بكل قدراتي، وإن هذا العقد متضمن لإبقاء قوة الإمام الحسن(علیه السلام) بما له من معسكر بلحاظ قدرات أتباعه، وشيعته العسكرية» (5).

وأكثر الظن أن الحسن(علیه السلام) لم يضطر إلى التنازل عن الخلافة، والسلطة، فالمعروف أن معاوية هو الذي عرض عليه السلم، أولاً، وأن الحسن(علیه السلام) قبله في اللحظات .

ص: 87


1- تاريخ اليعقوبي: 2/ 150 – 151 .
2- الفتنة الكبرى: 2/ 189 .
3- أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية: 303 – 304 .
4- موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 2/ 170 .
5- الإمام الحسن بن علي(علیه السلام) شجاعة قيادة وحكمة سياسة: 78 .

الأخيرة، بشروط وضعها(علیه السلام) تدل دلالة قاطعة لا شك فيها أنه عاقد معاوية وهادنه على أن يعمل بكتاب الله وسنته وكون الناس آمنين في بلادهم شامهم، ويمنهم، وحجازهم، وعراقهم، فذكر هذه البلاد يؤكد نفوذه، وسلطانه، وكونه إماماً للأمة.

وقد اتفق الحسن(علیه السلام)، ومعاوية علی إبرام هذا السَّلم علی شروط كما سمّاها(الأربلی)(1)، و(ابن الصباغ المالكي)(2)، و(المجلسي)(3)، و(محسن الأمين العاملي)(4)، أو على مواد كما س هّاما(راضي آل ياسين)(5)، و(حسين الشاكري)(6)، و(المجمع العلمي لأهل البيت)(7)، أو على بنود كما س هّاما(باقر شريف القرشي)(8)، و(هاشم معروف الحسني)(9)، ومهما يكن من شيء فإنَّ تسميتها شروطاً أنسب للسَّلم، والهدنة منها إلى المواد، والبنود.

يبدو في أغلب الظنّ أنَّ معاوية هو الذي راسل الحسن(علیه السلام) في السَّلم، والهدنة، قال سبط بن الجوزي: «وقد روى البخاري ما يدل على أنَّ معاوية هو الذي راسله في الصلح، وقد أخرج عن الحسن البصري، قال: استقبل واللهِ الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال(...) فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس: عبد .

ص: 88


1- ينظر: كشف الغمة: 1/ 508 .
2- ينظر: الفصول المهمة: 154 – 155 .
3- ينظر: بحار الأنوار: 10 / 193 .
4- ينظر: أعيان الشيعة: 2/ 376 – 377 .
5- ينظر: صلح الحسن(علیه السلام): 259 - 260 .
6- ينظر: موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 170 – 171 .
7- ينظر: أعلام الهداية: 146 .
8- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 232 – 234 .
9- ينظر: سيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 524 – 525 .

الرحمن بن سَمُرة، وعبد الله بن عامر، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل، وأعرضا عليه، وقولا له، واطلبا إليه، فأتياه فدخلا عليه، وتكلّما وطلب إليه، فقال لهما الحسن: إنّا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قالا فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك، ويسألك، قال: فمن لي بهذا الأمر؟ قال: نحن لك به، فما سألهما شيئاً إلاَّ قالا: نحن لك به، فصالحه، وكان ذلك بالمدائن» (1).

وجاءت هذه الشروط متفرقة هنا، وهناك، وقد جمعها في بدء الأمر الأربليّ، فقال:

«بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية ابن أبي سفيان، صالحه على أنْ يسلّم إليه ولاية أمر المسلمين على أنْ يعمل فيهم بكتاب الله تعالى، وسنة رسول الله(صلی الله علیه و آله)، وسيرة الخلفاء الراشدين، وليس لمعاوية ابن أبي سفيان أنْ يعهد إلى أحدٍ من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين، وعلى أن الناس آمنون حيث كانوا في أرض الله شامهم، وعراقهم،وحجازهم، ويمنهم، وعلى أنَّ أصحاب عليّ، وشيعته آمنون على أنفسهم، وأموالهم،ونسائهم، وأولادهم، وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه وما أخذ الله على أحدٍ من خلقه بالوفاء بما أعطى الله من نفسه، وعلى أن لا يبقي للحسن ابن علي،ولا لأخيه الحسين، ولا لأحد من أهل بيت رسول الله(صلی الله علیه و آله) غائلة سرّاً، لا جهراً، ولايخيف أحداً منهم في أُفق من الآفاق، شَهِد عليه بذلك، وكفى بالله شهيداً فلان وفلان والسلام»(2)، وَقد أفاد راضي آل ياسين من هذا التراث فنسقها على صورة مواد خمس(3)،ثم جاء باقر شريف القرشي فعرض لنا أربع صور لهذه الشروط، مرجّحاً الرابعة منها، .

ص: 89


1- تذكرة الخواص: 22 .
2- كشف الغمة: 1/ 533 – 534 .
3- ينظر: صلح الحسن(علیه السلام): 259 - 261 .

على الرغم من وصفه إياها بالناقصة، ثم أخذ من مجموع هذه الصور، فكوّن صورة خامسة، من أحَدَ عَ بنداً، وها هي:

1. تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله، وسنّة نبيّه(صلی الله علیه و آله) وسيرة الخلفاءالراشدين.

2. ليس لمعاوية أنْ يعهد بالأمر إلى أحد من بعده، والأمر بعده للحسن، فإن حدث به حدثٌ فالأمر للحسين.

3. الأمن العام لعموم الناس، الأسود، والأحمر منهم سواء فيه، وأنْ يحتمل عنهم معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحنه.

4. أن لا يسميه أمير المؤمنين.

5. أنْ لا يقيم عنده الشهادة.

6. أنْ يترك سبّ أمير المؤمنين، وأنْ لا يذكره إلاّ بخير.

7. أنْ يوصل إلى كُلّ ذي حق حقّه.

8. الأمن لشيعة أمير المؤمنين، وعدم التعرض لهم بمكروه.

9. يفرق في أولاد من قتل مع أبيه في يوم الجمل، وصفّين ألف ألف درهم، ويجعل ذلك من خراج دار أبجِرد.

10 . أنْ يعطيه ما في بيت مال الكوفة، ويقضي عنه ديونه، ويدفع إليه في كل عام مائة ألف.

ص: 90

11 . أن لا يبغي للحسن بن علي، ولا لأخيه الحسين، ولا لأهل بيت رسول الله(صلی الله علیه و آله) غائلة، سرّاً، ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق» (1).

إنَّ المتأمل، والمتبحر في هذه الشروط التي أملاها الحسن(علیه السلام) يجدها تمثل معالم إنسانية مثالية، وأولاها هو معلم إصلاح الأمة، وتنظيم حياتها، وسلوكها على وفق مناهج، ومعايير، من نحو: العمل بتعاليم القرآن الكريم، ومبادئه التي تمثل قيماً إنسانية متكاملة، وإتباع سنة المصطفى(صلی الله علیه و آله) السمحاء، والعمل بسيرة الخلفاء الراشدين والدعوة إلى إفشاء الأمن والسلام، وبث الطمأنينة في المجتمع، وإقامة العدل، والمساواة بين أفراده، والابتعاد عن السب، والشتم، واطّراح الضغائن، وترك الأحقاء، والغوائل سرّاً وعلناً.

إنها ملحمة في المعالم الإنسانية المثالية، فاحت من فم سبط المصطفى، وريحانته الحسن(علیه السلام)، وقد دفعت هذه الشروط ضرراً عظيماً عن الدين والمسلمين، وهذا الأمرأشهر من الشمس، وأجلى من الصبح(2).

لقد حاول الحسن(علیه السلام) بسلمه مع معاوية، وبهذه الشروط إلى ردع الإذلال عن الأمة، وعدم تمييع شخصيتها، وإبعاد الضغائن، والأحقاد القومية، والإقليمية، والقبلية في داخل العالم الإسلامي، فمعاوية وحزبه حاولا أن يشغلوا الأمة بأتفه الأفكار، وأرخص الهموم من خلال زرع النزاعات، وبث الخلافات فيما بينها، للاستيلاء على مقدّرات الأمة، وطمس إنسانيتها(3). .

ص: 91


1- حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 232 – 234 .
2- ينظر: بحار الأنوار: 10 / 204 .
3- ينظر: أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الأممية: 306 .

إنَّ عملية السلم جاءت من أجل مصلحة الإسلام، ومصلحة أهل البيت(علیهم السلام)،فعُدّ الحسن(علیه السلام) منصوراً غالباً، يمضي وفاقاً لسياسات موصوفة بالصمت، والتواضع،والاتئاد، وفي ظلّ إصلاح، وتسليم، وحقن دماء(1).

إن الله سبحانه وتعالى عوّد أهل هذا البيت أنْ يحفظ لهم الشرف في أعلى مراتبه، وفي مختلف ميادينه، فإن لم يكن الانتصار بالسلام، فليكن بالشهادة الكريمة في الله، وفي التاريخ، وإن لم يكن بهذا ولا ذاك، فليكن بالإصلاح، وجمع الكلمة، وتوحيد أهل التوحيد، وكفى بالإصلاح شرفاً، وكفى ببقاء الشرف انتصاراً، وبقاء الشرف ضمان لبقاء العزّة، والعزة حافر دائب يدفع إلى الحياة، ويقوم على السيادة(2). .

ص: 92


1- ينظر: صلح الحسن(علیه السلام): 298 . وسيرة الأئمة الأطهار: مرتضى المطهري،مراجعة عبد الكريم الزهيري، ط 2، مطبعة شريعة، 1430 ه - 2009 م: 72 – 73 .
2- ينظر: موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 250 – 251 .

المبحث الثاني: التعايش السِّلمِيّ

اشارة

من معالم إنسانية الحسن(علیه السلام) المثالية، معلم دعوته إلى التعايش السلمي بين الناس، هذا المعلم الذي رفع الله(عزوجل) من شأنه، ومدحه في القرآن الكريم كثيراً، فقدجاءت النصوص القرآنية ترفع من شأنه، وتؤكد أثره في المجتمع الإنسانيّ.

فهو سبيل رئيس، وأثر عميق في رفع الشحناء، والبغضاء، والمناخات غير الصافية،في أي مجتمع، زد على ذلك لكونه الطريق الأوحد في إزالة المعوّقات، والعقبات،والمشاكل فيه.

إنَّ الاختلاف غير المحدود، والتناحر، والتباغض تودي إلى تفريق المجتمع،وذهاب ريحه، ومن ثم الخراب والدمار، قال تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»(الأنفال/ 46 )، وقال تعالى:

«إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ»(الأنبياء/ 92 )، وقال تعالى: «وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ»(المؤمنون/ 52 ).

وقد أشار القرآن الكريم إلى الأخوة، وأثرها في متانة العلاقات، وتوثيق العرى، ومدّ أواصر المحبّة، والألفة بين أفراد المجتمع، قال تعالى: «وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ»(الحجر/ 47 )، بمعنى رفعنا البغضاء، والشحناء، وهو تنبيه على انتفاء المخالفة من بينهم، وعُدّ من الأُخوة بمعنى الملازمة، قال الزمخشري:

ص: 93

«إخوان الوداد أقرب من إخوة الولاد» (1).

وقد دعا الباري(عزوجل) إلى الاعتصام بحبله، فهو الرباط الوثيق، والحبل المتين الموصل إلى الألفة، والائتلاف، والالتحام، والتحابّ، قال تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا»( آل عمران/ من الآية 103 )، أي بالتحاب في الله(عزوجل)، والتقارُب

لتتنوّروا بنوره وضيائه، وهذه الأخوة المعتصمة بحبل الله(عزوجل).

إن الإسلام قد جمع هذه القلوب المتنافرة، وما يمكن أنْ يجمع القلوب إلاّ أخوة من اللهِ تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخيّة، والثارات القبليّة، والأطماع الشخصية، والرايات العنصرية، ويتجمع الصفُّ تحت لواء الله(عزوجل) الكبير المتعال، فأنقذتهم من النار بهدايتهم إلى الاعتصام، والمصالحة، والتأليف بين قلوبهم(2).

إنَّ عناصر الألفة، والتعايش، والتقارب تكمن في التوحيد في العقيدة والشريعة لا في الوطن، ولا في الجنس، ولا في اللون، ولا في اللغة، ولا في الطائفية، ولا في القومية، والإسلام قد شطب بخط عريض على أفكار التناحر، والتباغض، والتحارب، ولم يعر لها أهمية تذكر بل حذّر المسلمين من الانخراط تحت لوائها، والانجراف معها، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(الحجرات/ 13 )(3).

وقد جاءت السنة المطهرةُ مؤكدة مبدأ التعايش، والألفة في المجتمع فقد روى .

ص: 94


1- أساس البلاغة:(أخ): 1/ 17 .
2- ينظر: في ظلال القرآن: سيد قطب: 1/ 442 – 443 .
3- ينظر: إضاءات في طريق الوحدة والتعايش: جعفر سبحاني، ط 1، مؤسسة الإمام الصادق، قم – إيران، 1432 ه-: 13 .

البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب: أنّ عليّ بن أبي طالب في يوم خيبر سأل رسول اللهِ(صلی الله علیه و آله)، وقال على ماذا أُقاتل، فقال(صلی الله علیه و آله): « قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله، فإذا فعلوا فقد منعوا منك دماءهم، وأموالهم إلاَّ بحقّها وحسابهم على اللهِ» (1).

وسنبسط الحديث في هذا المبحث عن معلم مهم من معالم إنسانيته المثالية(علیه السلام)، وهو معلم التعايش السلمي، وسيكون في فقرتين:-

أولاً: التعايش السلمي في تراثه(علیه السلام)، وثانياً: شذرات من التعايش السلمي عند الحسن(علیه السلام).

أولاً: التعايش السلمي في تراثه(علیها السلام)

اشارة

قبل أنْ نقف على أهم النصوص التي رويت عن الحسن(علیه السلام) التي نلمح فيها دعوته إلى التعايش، والتحابُب، والتسامح، لابد من القول: إن الحسن(علیه السلام) من خلال تراثه الخصب الذي وقفنا عليه سواءٌ أكان رسالةً، أم خطبةً، أم قولاً وغيرها، لم يستنفر الشعور الطائفي، ولم يقصد البتة إلى نبش الدفائن، وتأريث النعرات، ولم يدعُ – حاشاهُ – إلى التفرقة، والتناحر، والتخاصم، فهو من الذين دَعَوا إلى التعايش السلمي بين الناس كافة(2).

كان الحسن(علیه السلام) من الداعين إلى وحدة الصف، و الشعث وإلى الإصلاح، والنصح، فقدّم التعايش على التحارب، والمحبة على الكراهية، والتسامح على التباغض، والتعاون على التناحر، فصار أنموذجاً سامياً، ومثلاً فريداً في الدعوة إلى .

ص: 95


1- صحيح البخاري: 1(كتاب الإيمان): 10 .
2- ينظر: صلح الحسن(علیه السلام): 77 .

الوحدة، والتعايش السلمي، والتسامح، ونبذ الفرقة، والتحارب، فغدا إماماً للتقريب بين المسلمين، ولقد ا ذّخت من أحكام ربّه منهاجاً، ومن كلام جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله) علاجاً، ومن حياة أبيه قوة وقدوةً.

لقد بَ الحسن(علیه السلام)، وتدبّر تدبّراً واعياً النصوص القرآنية التي تدعو إلى الألفة، والمحبة، والأمن، والصفح، والعفو، والسَّلم، والصلح، والمغفرة، والتوبة، والعهد وغيرها، فضلاً عن أحاديث جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله) الداعية إلى التعايش، والتحابب، والتسامح، وكذلك أقوال أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام)، وأفعاله التي عاشها، فوعاها، فكان هذا التراث الضخم كلَّه معيناً نابضاً، وأهازيج وترنيمات يردّدها يومياً آناء الليل وأطراف النهار، قال طه حسين: «وكان الحسن رجلَ صدق، قد كَرِه الفرقةَ، وآثر اجتماع الكلمة» (1).

1. طائفة من أقواله(علیها السلام)

إن المتأمل، والمتدبر في تراث الحسن(علیه السلام) يجد الكلمات التوجيهية، التي تدعو الجماهير إلى الالتزام بقواعد حفظ العلاقات فيما بينهم بالعبارات التعايشية السلمية التي تدعو إلى الأُلفة، والمحبة، وحسن المعاشرة، ونبذ الفرقة، والبغضاء، والشحناء، على الرغم من المدّة القصيرة التي تو فيها الخلافة.

ومن هذه النصوص التي تدعو إلى هذه القيم الإنسانية العليا، قوله(علیه السلام) بعد أن استشهد أبوه أمير المؤمنين(علیه السلام) قال ابن قتيبة: «لما قتل علي بن أبي طالب، ثار الناس إلى الحسن بن عليّ بالبيعة فلما بايعوه قال لهم: تبايعون لي على السمع والطاعة، وتحاربون من حاربتُ وتسالمون من سالمتُ، فلما سَمِعُوا ذلك ارتابوا وأمسكوا أيديهم وقبض .

ص: 96


1- الفتنة الكبرى: 2/ 176 .

هويده، فأتوا الحسين، فقالوا له: ابْسُط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك، وعلى حرب المحلّين الضّالين أهل الشام، فقال الحسين: معاذ الله أنْ أٌبايعكم ما كان الحسن حيّا، قال: فانصرفوا إلى الحسن، فلم يجدوا بدّاً من بيعته، على ما شرط عليهم، فلما تمت البيعة له، وأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك كاتب معاوية، فأتاه فخلا به، فاصطلح معه على أنَّ لمعاوية الإمامة ما كان حيّاً، فإذا مات فالأمر للحسن، فلما تم صلحهما صَعِد الحسن إلى المِنبر، فحَمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنَّ اللهَ هدى أولكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وكانت لي في رقابكم بيعة، تحاربون من حاربْتُ، وتسالمون من سالمتُ، وقد سالمت معاوية، وبايعته فبايعوه وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، وأشار إلى معاوية»(1) ولا يخفى التقابل الدلالي بين جملتي(تحاربون من حاربْتُ، وتسالمون من سالمْتُ)، والتي تدل على الانقياد له السلم، وفي الحرب، بمعنى إطاعة ولي الأمر؛ لأنَّ إطاعته تعني الألفة والتعايش والاتحاد، وبخلاف ذلك يعني الفرقة، والانشقاق. وقال أبو حنيفة الدَّينوري حينما بلغ معاوية استشهاد عليّ(علیه السلام) تجهَّز وقدّم أمامه عبد الله بن عامر بن كُريز فأُخذ إلى عين التمر، ونزل بالأنبار يريد المدائن، وبلغ ذلك الحسن بن علي، وهو بالكوفة فسار نحو المدائن لمحاربة عبد الله بن عامر ابن كُريز، فلما انتهى إلى(سَابَاط)(2) رأى من أصحابه فشلًا وتواكلًا عن الحرب، فنزل ساباط وقام فيهم خطيباً: «أيها الناس، إنّي قد أصبحْتُ غير محتمل على مسلم ضغينة، وإنّي ناظرلكم كنظري لنفسي، وأرى رأياً فلا تردُّوا عليّ رأي، إن الذين تكرهون من الجماعة أفضل مما تحبّون من الفرقة، وأرى أكثركم قد نكل عن الحرب، وفشل عن القتال،).

ص: 97


1- الإمامة والسياسة: 1/ 133 .
2- السَّابَاط(لغة) سقيفة بين دارين من تحتها طريق نافذ، وساباط قرية في المدائن عندها قنطرة على(نهر الملك)، ولعلها إنما سميت بهذا الاسم؛ لوجود سقيفة من(السوابيط) فيها، والمظنون أن هذه السقيفة هي(مَظْلِم ساباط).(ينظر: صلح الحسن(علیه السلام): 131، هامش رقم(1)).

ولست أرى أن أحملكم على ما تكرهون»(1)، ما أجمل هذه العبارات التي تفيض إنسانيةً ! فقد أصبحت غير محتمل على مسلم ضغينة فالحسن(علیه السلام) يدعو إلى التعايش، ونبذ الضغائن، فأنتم كنفسي أحبكم كما أحبُّها، أحافظ عليها كحفاظي عليكم، تمسكوا بالجماعة، ووحدة الصفّ فهي خير لكم من الفرقة، والتشتت.

ومن النصوص التي دعا فيها الحسن(علیه السلام) إلى التعايش والتقارب بين المسلمين، والحيلولة من التفرق، والاختلاف غير المحمود حفاظاً على بيضة الإسلام، وكيان المجتمع، رسالته(علیه السلام) إلى معاوية يدعوه إلى مبايعته، وطاعته، والدخول فيما دخل فيه المسلمون، ننقل منها موضع الحاجة، قال(علیه السلام): «ولقد كنّا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا حقِّنا، وسلطان بيتنا، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، وأمْسَكْنا عن منازعتهم، مخافة على الدين أنْ يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مَغْمَزاً يَثْلِمُونه به، أو يكون لهم بذلك سببٌ إلى ما أرادوا من إفساده»(2)، وقد دعا الحسن(علیه السلام) معاوية في الرسالة نفسها إلى التعايش، وعدم التفرقة، فقال(علیه السلام): «فَدَع التمادي في الباطل، وادخُل فيما دَخَل فيه الناس من بيعتي، فإنَّك تعلم أنّي أحقُّ بهذا الأمر مِنك عند الله، وعند كُلِّ أوّاب حفيظ، ومَنْ له قلب منيب، واتّقِ الله ودَعِ البغي، واحْقِنْ دماء المسلمين، فوالله ما لك خيرٌ في أن تَلْقَى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخُل في السِّلم والطاعة ولا تنازع الأمر أهله، ومن هو أحقُّ به منك لِيُطفِئَ اللهُ النائرة بذلك، ويَجْمَعَ الكلمة، ويصلحَ ذات البين»(3). ومن النصوص التي تؤكد ميل الحسن(علیه السلام) إلى التعايش السلمي خطبتُه التي ألقاها على جمع من الزعماء، والوجوه، .

ص: 98


1- الأخبار الطوال: 216 – 217 .
2- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 16 / 33 .
3- م.ن: 16 / 34 .

والناس كافة، قال ابن الأثير: «قام الحسن بعد موت أبيه أمير المؤمنين، قال: بعد حمد الله(عزوجل): إنّا واللهِ ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم، وإنما كنّا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فسلبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في منتدبكم إلى صفين، ودينكم أمام دنياكم، فأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ألاَ وإنّا لكم كما كنّا، ولستم لنا كما كنتم ألا وقد أصبحتم بين قتيلين، قتيلٍ بصفين تبكون عليه، وقتيل بالنهروان تطلبون بثأره، فأما الباقي فخاذل، وأما الباكي فثائر، ألاَ وإن معاوية دعانا إلى أمرٍ ليس فيه عز ولا نَصَفَة، فإن أرَدْتُم الموت ردَدْناه عليه، وحاكمناه إلى الله(عزوجل) بظُبا السيوف، وإن الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا. فناداه القوم من كلّ جانب: البقية البقية، فلما أفردوه أمضى للصلح»(1). وقد أجاد راضي آل ياسين في بيان أسس التقريب بين المذاهب الإسلامية، ولاسيما قضية الخلافة، هذه الأسس القيمة التي تدعو إلى الحوار المحمود، والتعايش المبارك بين المسلمين كافة في أرجاء المعمورة(2).

وقد نقل لنا اليعقوبي نصوصاً للحسن(علیه السلام)، ب فيها(علیه السلام) الصفات التي ينبغي أنْ يتح بها المسلم؛ ليكون محبوباً بين الناس، متعايشاً في مجتمعه، فضلاً عن ذلك إعطاؤُه حدوداً وتعريفاتٍ لكثير من المفاهيم الإنسانية القيّمة، منها: «وقال معاوية للحسن: يا أبا محمد ثلاث خلال ما وجدْتُ من يخبرني عنهن، قال: وما هُنَّ، قال: المروءة، والكرم، والنجدة، قال: أما المروءة، فإصلاح الرجل أمر دينه، وحسن قيامه على ماله، ولين الكفّ، وإفشاء السلام، والتحبّب إلى الناس، والكرم العطيةقبل السؤال، والتبرع بالمعروف، والإطعام في المحلّ، ثم النجدة الذب عن الجار، .

ص: 99


1- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 1/ 560 – 561 .
2- ينظر: صلح الحسن(علیه السلام) 159 - 162 .

والمحاماة في الكريهة، والصبر عند الشدائد»،(1) «قال جابر: سَمِعْتُ الحسنَ يقول:

مكارم الأخلاق عشر: صدق اللسان، وصدق البأس، وإعطاء السائل، وحسن الخُلُق، والمكافأة بالصنائع، وصلة الرحم، والتذمم على الجار، ومعرفة الحقّ للصاحب، وقرى الضيف، ورأسهن الحياء»(2)، وقال اليعقوبي: «وقيل للحسن، مَنْ أحسنُ الناس عيشاً؟ قال: مَن لا يعيش في عيشه أحدٌ»(3)، وذكر لنا ابن عساكر في تاريخ دمشق «عن جُعَيْدة بن همدان أن الحسن بن علي(علیه السلام) قال له: يا جعيدة بن همدان: إنَّ الناس أربعة، فمنهم من له خلاق وليس له خلق، ومنه من له خلق وليس له خلاق، فذاك أفضل الناس»(4)، ومن النصوص التي ذكرت له(علیه السلام) وتدل على التعايش، وحسن معاشرة الناس، أنه(علیه السلام) قال: «لا أدب لمن لا عقل له، ولا مروءة لمَن لا همة له، ولا حياءلمن لا دين له، ورأس العقل معاشرة الناس بالحياء، وبالعقل تدرك الداران جميعاً، ومَنْ حرم العقل حرمهما جميعاً»(5). وقال(علیه السلام): «صاحب الناس مثل ما تحب أنْ يصاحبوك»(6)، وقال(علیه السلام): «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ، أيّها الناس من كان له على الله أجر فليقم، قال: فلا يقدمون إلاّ أهل المعروف»(7)، وقال(علیه السلام): «المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأما من أعطيْتُه بعد المسألة، فإنّما أعطيْتُه بما بذل لك من ماء وجهه» (8). .

ص: 100


1- تاريخ اليعقوبي: 157 .
2- م.ن: 157 .
3- م.ن: 157 .
4- تاريخ دمشق: 5/ 125 .
5- موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 127 .
6- م.ن: 5/ 130 .
7- م.ن: 5/ 130 .
8- م.ن: 5/ 131 .
2. التعايش السلمي من خلال شروط السلم أو الهدنة مع معاوية

ما دمنا بصدد الحديث عن تراثه، لابد من القول: إنَّ شروط السَّلم مع معاوية قد حفلت بنماذج إنسانية مثالية في التعايش السلمي، قال باقر القرشي: «وأهم ما ينشده الإمام من تلكم الشروط هي بسط الأمن، ونشر العافية بين جميع المسلمين، سواءٌ الأسود منهم، والأحمر، وقد دلّ ذلك على مدى حنانه، وعطفه على جميع المسلمين، كما نصت هذه المادة: على أن لا يتبع أحداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحْنة مما قد مضى، وإنّما شرط عليه ذلك لعلمه بما سيعاملهم به من الإرهاق، والتنكيل انتقاماً لما صدر منهم من أيّام صفين» (1).

والمحقق في شروط هذه الهدنة التي أمضاها الحسن(علیه السلام) وقدّرها، يجدها كلَّها تصب في مصلحة المسلمين، ووحدتهم، وتعايشهم، ولم تكن تصب في مصلحتهِ(علیه السلام)، فالدعوة إلى السَّلم، والخير، والتعايش، والتسامح، والأمن هي الأساس، فهو(علیه السلام) كان مستعداً استعداداً كاملاً من أجل إيصال المسلمين إلى التعايش السلمي، والأمان، والخير، وهذا ما عبر عنه مرتضى المطّهري: أنَّ «من المسائل المطروحة في كتاب الجهاد مسألة الصلح، والتي يطلق عليها بحسب الاصطلاح الفقهي الهدنة أو المهادنة، والمهادنة تعني المصالحة والهدنة تعني الصلح، فما معنى الصلح؟ هو اتفاق على عدم الاعتداء، اتفاقية عدم حرب، وما يقال له اليوم: التعايش السلمي بين الأطراف» (2).

ويمكن الكشف عن أهم دلالات التعايش السلمي، في شروط السلم، أو الهدنة، ففي الشرط الأول: «يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله تعالى، .

ص: 101


1- حياة الإمام الحسن بن علي(علیه السلام): 2 / 238 .
2- سيرة الأئمة الأطهار: 65 – 66 .

وسنة رسول الله(صلی الله علیه و آله) وسيرة الخلفاء الراشدين»(1)، فالعمل بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله(صلی الله علیه و آله)، وسيرة الخلفاء الراشدين تعني الالتزام بالوحدة، والتعايش الإنساني، والتمسك بالنهج الصحيح، والدستور الكامل الذي يفضي إلى تماسك المجتمع، وتعايشه، وسعادته؛ بمعنى أن العمل بهذه الأسس، والأدلة مدعاةٌ إلى جريان أمور المسلمين بالمجرى الصحيح السليم، وهو المراد، والمأمول.

ومن شروط الهدنة أن «الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله شامهم، وعراقهم، وحجازهم، ويمنهم، وعلى أن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم، وأموالهم، ونساءهم، وأولادهم»(2)، وهذا الشرط يؤكد إنسانية الحسن، وعالميته في حُبّه الناس أجمع، من خلال توفير الأمن، والطمأنينة لهم، وهو ملمح قرآني إنساني عالٍ في التعايش، والاستقرار، فأصل الأمن: «طُمَأنينة النفس، وزوال الخوف، والأمن، والأمانة، والأمان في الأصل مصادر، و عُْجيل الأمان تارة اسماً للحالة التي يكون عليها الإنسان في الأمن، وتارة اسْماً لما يؤمن عليه الإنسان(...) وقوله: «وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا»، أي آمنا من النار»(3)، وقد توسع الفيومي(ت 770 ه-) في ذكر معاني الأمن، فقال: «أمِنَ زيدٌ الأسد أمناً، وأمِنَ منه مثل سَلِمَ منه، والأصل أنْ يستعمل في سكون القلب(...) وأمِنَ).

ص: 102


1- كشف الغمة: 1/ 533 ، وينظر: الفصول المهمة: 154 ، وأعيان الشيعة: 2/ 376 ، وصلح الحسن(علیه السلام): 259، حياة الإمام الحسن بن علي(علیه السلام): 2 / 232، وسيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 524 ، وموسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 170 ، وأعلام الهداية(الحسن المجتبى):146.
2- كشف الغمة: 1/ 533 – 534 ، وينظر: الأخبار الطوال: 218 ، والفصول المهمة: 154 – 155 ، وأعيان الشيعة: 2/ 376 – 377 ، وصلح الحسن(علیه السلام) 260 - 261، وحياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 233 – 234 ، وسيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 524 – 525 ، وموسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 259 ، وأعلام الهداية: 146 .
3- مفردات ألفاظ القرآن:(آمن): 90 .(آل عمران/ 97 ).

البلد اطمأنَّ به أهْلُه فهو آمِنٌ وأمين، وهو مأمون الغائلة، أي ليس له غَوْر، ولا مكرٌ شُْخيى، وآمَنْتُ الأسير بالمدّ أعْطَيْتُه الأمان، فَأمِنَ هو بالكسر(...)، واستأمنه طَلَبَ منه الأمان، واسْتَأمَنَ إليه دَخَلَ في أمَانِهِ» (1).

فالحسن(علیه السلام) يريد تحقيق الأمن للناس في أية بقعة من بقاع الأمن كانوا في الشام، أو العراق، أو اليمن، أو الحجاز، وأن يعيش السود والحمر في أمانٍ، وعلى معاوية أن يتغاضى عن هفواتهم، وأخطائهم، واضطراباتهم.

ومن الشروط التي اشترطها الحسن(علیه السلام) على معاوية، شرط العفو والصفح، وهو شرط إنساني قيّمي في المصالحة، والتعايش بين أفراد المجتمع كافة، وقد ذكره أبو حنيفة الدَّينوريّ من قبل، قال: «ولمّا رأى الحسن من أصحابه الفشل أرسل إلى عبد الله بن عامر بشرائط اشترطها على معاوية أنْ يسلّم له الخلافة، وكانت الشرائط: ألاّ يأخذ أحداً من أهل العراق بإحْنَة، وأنْ يؤمن الأسود والأحمر، ويحتمل ما يكون من هفواتهم» (2)، وقال راضي آل ياسين: «وأنْ يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحْنةٍ»(3)، والمقصود بهذا الشرط هو التخلي، وترك الأحقاد القديمة؛ لأن أكثر هؤلاء كانوا من الذين حاربوا مع أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام) في صفين «وأن لا يؤخذ أي شخص بأخطائه السابقة ولا يؤاخذ أهل العراق بالضغائن القديمة»(4)، وترك التثريب، وترك الأخطاء والإعراض عنها، والتجافي عن الذنوب؛ .

ص: 103


1- المِصباح المنير: الفيومي(ت 770 ه-)، تقديم: محمود فهمي حجازي، الهيأة العامة لقصورالثقافة، القاهرة، 2003 م:(أمن) 21 .
2- الأخبار الطوال: 218 ، وينظر: كشف الغمة: 1/ 533 – 534 ، والفصول المهمة: 154– 155 ، وأعيان الشيعة: 2/ 376 – 377 .
3- صلح الحسن(علیه السلام) 259 - 260 .
4- سيرة الأئمة الأطهار: 91 .

بمعنى الابتعاد عن إقامة المحاكم للاقتصاص، وإيقاع العقوبة.

إنّ هذه الشروط تعد وثيقة عالية المضمون، عظيمة الجوهر في التعايش، والوحدة، فهي تدعو إلى الروح الإنسانية القيمة العالية، وإلى التوافق الإنساني، والتناصح والائتلاف، والابتعاد عن الخلاف المذموم، والدعوة إلى الاتحاد المحمود، وترك الأحقاد، والإحن، والضغائن، وإخضاع الأمور كافة إلى العقل، وعدم إقامة محاكم قصاص لمن هفا، وأخطا، فالميزان هو العفو والصفح، وعدم التعرض لأحد بسوء،وإعطاء كُلِّ ذي حقّ حقّه بما قسم الله(عزوجل)، وإن السياسة الإسلامية بمفاهيمها كلّها قدثبّتت العدل، وآمنت به إيماناً مطلقاً، فالإسلام أسبغ نعمة الأمن، والمساواة، والعفو،والصفح على الإنسانية بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ المجتمع العالمي، فقد أعلن المساواة العادلة ما بين الأفراد والجماعات، وكذلك أكد حقن الدماء، والاحتياط منها،وإشاعة الأمن، والطمأنينة في المجتمع؛ لما لها من آثار إيجابية في التعايش، والائتلاف،والاتحاد.

ثانياً: شذرات من التعايش السلمي عند الحسن(علیها السلام)

اشارة

سأبسط في هذه الفقرة شذرات، وقبسات من التعايش السلمي عند الحسن(علیه السلام)، من أجل بيان هذا المفهوم لديه، مستعيناً بالشواهد الدالة من تراثه، وبدا لي أن أذكر ثلاثاً منها، لها مسٌّ وثيقٌ بالدراسة، وهي، حُبّ الناس له، وحِلمه وصبره، ووفاؤُه بالعهود.

1. حُبُّ الناس الحسن(علیها السلام)

لقد جعل الله(عزوجل) للحسن محبةً في نفوس المسلمين، وأفئدتهم وقد أجمع المؤرخون على ذلك، فكان في «شمائله آية الإنسانية الفُضْلى، ما رآه أحدٌ إلا هابه، ولا خالطه إنسان إلاَّ أحبّه، ولا سَمِعَه صديق، أو عدوٌّ وهو يتحدث، أو يخطب فهان عليه أنْ يُنْهِي حديثه،

ص: 104

أو يَسْكت»(1)؛ لأنّ الكلام في مجلسه لا يشتهى، بل الآذان تستطاب البيان.

وهذه المحبة في أفئدة الناس، أخبر بها جدُّه المصطفى(صلی الله علیه و آله)، فعندما اشتد الوجع به(صلی الله علیه و آله) أخبر ابنته فاطمة الزهراء(علیها السلام) بأنها أول لحوق به، فجاءت بولديها، وهي تذرف الدموع، فقالت له: أبه، هذان ولداك، فورّثهما مِنْك شيئاً، فأفاض عليهما الرسول(صلی الله علیه و آله) من مكرمات نفسه، وورّثهما من كمالاته، قائلاً: أمّا الحسنُ، فإنَّ له هَيْبَتي وسُؤْدَدِي، وأمّا الحسين فإنَّ جُرأتي وجُوْدِي(2).

وقد بايعه الناس محبّبين له عارفين بحقّه، وطهارته، قال الدَّينوريّ: «ودُفِن علي(علیه السلام)، وصلى عليه الحسن، وك خمساً، فلا يعلم أحدٌ أين دُفن؟ قالوا: ولما تُوُ علي(علیه السلام)، خرج الحسن إلى المسجد الأعظم فاجتمع الناسُ إليه فبايعوه» (3).

وقد نقلت لنا الأخبار حُبَّ الناس الحسن(علیه السلام)، وقربه منهم روى ابن قتيبة اجتماع معاوية بوفود الأمصار بدمشق بعد عقد الهدنة بينه، وبين الحسن(علیه السلام)، فدعا معاوية الأحنف بن قيس، «فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنّا قد فررْنا عنك قريشاً، فوجدْناك أكرمها زندا، وأشدها عقدا، وأوفاها عهداً وقد عَلِمْت أنّك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليها قَعْصا(4)، ولكنّك أعْطَيْتَ الحسن بن علّي من عهود الله ما قد عَلِمْت، ليكون له الأمر من بّعْدك، فإن تفِ فأنت أهل الوفاء، وإن تغدر تعلمة.

ص: 105


1- صلح الحسن(علیه السلام): 27 .
2- ينظر: كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: علاء الدين علي المتقي الهندي(ت 975 ه-)، د.ط، حيدرآباد، الهند، 1313 ه-: 7/ 110 ، وشرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 16 / 10 .
3- الأخبار الطوال: 216 . وينظر: تاريخ خليفة بن خياط: 150 ، وتاريخ الأمم والملوك: 3/ 330 ، وتذكرة الخواص: 19 ، والفصول المهمة: 152 – 153 .
4- قَعْصا : بَْرضة أو رَمْية.

والله إنَّ وراء الحسن خيولاً جياداً، وأذرعاً شداداً، وسيوفاً حداداً إن تدن له شبراً من غدر، تجد وراءه باعاً من نصر، وإنّك تعلم أنَّ أهلَ العراق ما أحبُّوك منذ أبغضوك، ولا أبغضوا عليّاً، وحسناً منذ أحبوهما، وما نزل عليهم في ذلك غير من السماء، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم، وأيمُ الله إنَّ الحسن لأحبّ إلى أهل العراق من عليّ»(1). روى أبو الفرج الأصفهاني بعد أن نقل خطبة الحسن(علیه السلام)، مبايعة الناس له(علیه السلام) فقام «ابن عباس بين يديه فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا له، وقالوا: ما أحبَّه إلينا، وأحقَّه بالخلافة فبايعوه»(2)، وقال ابن كثير: «وأحبّوه أشد من حُبّهم لأبيه»(3)، وقد بلغ الحسن(علیه السلام) من حبّ الناس له الشرف العظيم، فمكن الله(عزوجل) له من قلوب المسلمين المقام الرفيع، فكان الأقدرَ على توجيه الأمة، وقيادتها الروحية، وكان «يبسط له على باب داره، فإذا خرج وجلس انقطع الطريق فما مَرّ أحدٌ من خَلْق الله إجلالاً له، فإذا عَلِمَ ودخل بيته مَرّ الناس، ولقد رأيْتُه في طريق مكة ماشياً فما من خلق الله أحدٌ رآه إلاّ نزل ومشى، حتى رَأيْتُ سعد بن أبي وقّاص يمشي»(4)، فكان لوداعته(علیه السلام)، وسلامة ذاته محبوباً للنفوس، لم يؤذِ أحداً مدة عمره، بل كان كلّه خير وبركة، فأتاح الله(عزوجل) أنْ يحظى بهذه المنزلة العظيمة في قلوب المسلمين، قال طه حسين: «كان عذبَ الروح، حلو الحديث، كريم المعاشرة، حسن الألفة، محبباً إلى الناس، بُحيُِّه أترابه من شباب قريش لهذه الخصال، و بُحيُِّه الشيوخ من أصحاب النبي لهذه الخصال، ولمكانته من النبيّ، و بُحيِّه عامة الناس .

ص: 106


1- الإمامة والسياسة: 1/ 138 .
2- مقاتل الطالبيين: 52 .
3- البداية والنهاية: 8/ 41 .
4- بحار الأنوار: 10 / 179 .

لكل هذا» (1).

وعندما انتقل الحسن(علیه السلام) إلى الرفيق الأعلى شُيِّع تتشيعاً مهيباً لم تَشْهَد نظيره عاصمة الرسول(صلی الله علیه و آله)، فقد بعث بنو هاشم إلى العوالي، والقرى المحيطة بيثربَ مَنْ يعلمهم بموت الحسن(علیه السلام)، فنزحوا جميعاً إلى يثرب ليفوزوا بتشييع الجثمان الطاهر، وقد كَثُر المشيّعون، ولو طرحت في البقيع آنذاك إبْرة لما وقعت إلاّ على رأس إنسان، وقد بلغ من ضخامة التشييع أنَّ البقيع ما كان يسع أحداً من كثرة الناس(2).

إن الفضائل، والشمائل التي تخلّق بها(علیه السلام) من طهارة نسب، ونقاء سريرة، وطيب نفس، وسماحة، وتقوى، وتواضع، وعلم، وصبر، وحِلم، وشجاعة، وغيرها جعلت الناس يحبونهم، وينزلونه منزلة رفيعة، وشريفة، قلّما يحظى بها رجلٌ من رجالات الإسلام.

2. حِلْمُه وصَبْرُه

عرف الحسن(علیه السلام) بحلمه، وصبره الذي لا تحمله حتى الجبال، فنفسه الجبارة، وقلبه الوادع جعله قويّاً، لا تهزه الهزاهز، ولا تربكه المواقف، ولا تعصف به العواصف، فهو كالطود الشامخ في رفعته، وكالبحر الفياض في تدفّقه، يرضى، ويستوعب ما يقال هنا، وهناك على ألسنة المتسرعين الذين يرمون الكلام على عواهنه، من دون تأمّل وتدبر، ولا يقيمون وزناً لغرس المصطفى، ونبتته السبط الأكبر الحسن(علیه السلام)، فأيّ «نفس كانت في تلك النفس، وأي ضمير كان هو ذلك الضمير، إ اّهن النفس المطمئنة التي ترجع عند .

ص: 107


1- الفتنة الكبرى: 2/ 191 .
2- ينظر: تاريخ دمشق: 8/ 228 ، والإصابة في تمييز الصحابة: أحمد بن علی بن حجر العسقلاني(ت 852 ه-)، مراجعة علي محمد البجاوي، مطبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت،( 1328 ه-): 1/ 330 . وأعلام الهداية: 190 – 191 .

كُلّ هَوْل يَعْصف بها إلى ر اّهب راضية مرضيّة لا تستكفي بغيره، ولا تسترشد بسواه، وإنّه الضمير الطاهر النقي الذي لم يضعف على ثقل الواجب، وإنما كان على كُلّ حالٍ أصلب من الكارثة، ولم تَسْمَع عن الحسن أنَّ أحداً ممن حَوْله شعر عليه في لحظات مرزأته أنّه المُرَزَّأ في دخيلته أو الممتحن في موقفه إذ لا حزن ولا انكسار(...) وحتى في مناجاته لربّه فإنه كان مثال الصبر، واللجوء إلى الله، والاستكفاء به من دون الناس»(1)، فهو أوسع الناس صدراً، وأسجحهم خُلُقاً، حليم صبور صفوح، تجري على لسانه كلمات الحِلم،والصبر في أشد الأوقات، وأعظم الخطوب، فها هي الأخبار الجليلة تعلمه بتخاذل ابن عمِّه عبيد الله بن عباس، وسيره ليلاً إلى معاوية بن أبي سفيان بعد أن رشاه بمال الدنيا،وحطامها، فيحمد الله(عزوجل) على خروجه من بينهم(2)، ويعلو حِلْمه وصبره إلى أسْمَى درجات الكمال، يوم كفّره بعض الخوارج، وانتهبوا فُسطاطه، وأرادوا اغتياله، فقد شدّ عليه «عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن جعال الأزدي فنزع مُطْرَفه عن عاتقه فبقي جالساً متقلداً السيف بغير رداء، ثم دعا بفرسه فركبه، وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته، ومنعوا منه من أرادوا، ولاموه، وضَعّفوه لما تكلّم به، فقال: ادعوا لي ربيعة وهمدان، فدعوا له فأطافوا به، ودفعوا الناس عنه ومعهم شوب من غيرهم، فقام إليه رجل من بني أسد من بني نصر بن معين يقال له: الجرّاح بن سنان، فلما مَرّ في مَظْلِم ساباط قام إليه، فأخذ بلجام بغلته وبيده مِعْول، فقال: الله أكبر يا حسن أشركت كما أشْرَك أبوك من قبل، ثم طعنه فوقعت الطعنة في فخذه، فشقته حتى بلغت أُرْبِيّته(3) فسقط الحسن إلى الأرض(...) و لُمح الحسن على سرير إلى المدائن وبها سعد بن مسعود الثقفي والياً عليهاذ.

ص: 108


1- صلح الحسن(علیه السلام) 167 .
2- ينظر: مقاتل الطالبيين: 65 .
3- أصل الفَخِذ.

من قبله، وكان عليٌّ ولاّه فأقرّه الحسن بن علي فأقام عنده يعالج نفسه»(1)، ولما هادن الحسن(علیه السلام) معاوية، سار(علیه السلام) من الكوفة «فعرض له رجل، فقال له: يا مسوّد وجوه المسلمين ! فقال: لا تعذلني فإن رسول الله(صلی الله علیه و آله) رأى في المنام بني أمية ينزون على منبره رجلاً فرجلاً فأنزل الله(عزوجل): «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ»، وهو نهر في الجنة» (2).

وقال السيوطي(ت 911 ه-) «وأخرج ابن سعد عن عمير بن إسحاق، قال: كان مروان أميراً علينا، فكان يسبّ عليّاً كلّ عُمجُة، وحَسَنٌ يسمع فلا يَرُد شيئاً، ثم أرسل إليه رجلاً يقول له: بعليّ، وبعليّ، وبعليّ وبك، وبك، وما وجدْتُ مثلك إلاّ مثل البغلة يقال لها: مَن أبوكِ؟ فتقول: أمّي الفرس، فقال الحسن: ارجع إليه فقل له: إنّي واللهِ أمحو منك شيئاً مما قلت بأن أسبّك، ولكن موعدي وموعدك الله، فإن كُنْتَ صادقاً جزاك اللهُ بصدقك وإن كنت كاذباً، فالله أشدّ نقمةً»(3)، ما أبهى هذا الجواب ! الذي يفوحُ حِلْماً وصبراً.

وكان الحسن(علیه السلام) يص الموالين، ويدعوهم إلى الحِلْم، كما فعل مع أبي ذر عندما نفاه عثمان بن عفّان إلى الرَّبَذة، فودّعه الحسن(علیه السلام) مع جماعة، ثم اتجه(علیه السلام) إليه، فودّعه بكلمات تنم عن ألمه وتأثره من معاملة القوم لأبي ذر وغيره من خيار الصحابة، فقال:

يا عمّاه، لولا أنه ينبغي للمودّع أنْ يَسْكُتَ وللمشيع أنْ ينصرف لقصر الكلام، وإن طال الأسف وقد أتى القوم إليك فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها، وشدّة ما اشتَدّ منها برجاء ما بعدها، واصبر حتى تلقى نبيك ويحكم الله بينك وبين القوم بالحق، وهو .

ص: 109


1- مقاتل الطالبيين: 63 – 64 .
2- الكامل في التاريخ: 3/ 208 ،(سورة الكوثر/ 1).
3- تاريخ الخلفاء: 142 .

خير الحاكمين» (1).

ويروى أنَّ شاميّاً رأى الحسن(علیه السلام) راكباً فجعل يلعنه، والحسن لا يردّ، فلما فرغ، أقبل الحسن(علیه السلام) فسلّم عليه وضَحِك فقال: أيها الشيخ، أظنُّك غريباً، ولعلك شبّهت، فلو استعتبتنا أعْتَبْناك، ولو سألتنا أعْطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عُرياناً كَسَوْناك، وإن كُنت محتاجاً أغْنَيْناك، وإن كُنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك؛ لأن لنا موضعاً رحباً، وجاهاً

عريضاً، ومالاً كثيراً، فل سمع الرجلُ كلامه بكى ثم قال: أشهد أنّك خليفةُ الله في أرضه، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبُّ خلق الله إليّ(2).

ولما استقر السَّلم بين الحسن(علیه السلام)، وبين معاوية خرج الحسن(علیه السلام) إلى المدينة،فأقام بها كاظماً غَيْظَه، لازماً منزله منتظراً لأمر ربّه جل اسمه(3). وعندما جاء(علیه السلام)المدينة المنورة، قام بأعمال كثيرة منها أنّه أنشأ مدرسة علمية كبيرة في المدينة المنورة، وقد التحق بها كبار العلماء، وعظماء المحدّثين والرواة، ووجد بهم خير عون لأداء رسالته الإصلاحية الخالدة التي سمت بعقلية المجتمع، وأيقظته من الغفلة والجمود، فكما كان يتولى نشر العلم من يثرب كان يدعو الناس إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والتأدّب بسنة النبي(صلی الله علیه و آله) وقد رفع(علیه السلام) منار الأخلاق التي جاء بها القرآن الكريم، .

ص: 110


1- سيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 485 .
2- ينظر: بحار الأنوار: 10 / 182 ، وأعلام الهداية: 36 .
3- ينظر: الإرشاد: 182 .

وجده المصطفى(صلی الله علیه و آله)؛ من أجل إصلاح المجتمع وتهذيبهم وتعايشه(1).

وتتعالى إنسانيته المثالية التي تنبض بالحِلم والصبر، وتتدفق بالقابليات الفذة، والنزعات الخيرة في وصيته(علیه السلام) في آخر لحظة من حياته الشريفة إلى أخيه الحسين(علیه السلام) قائلاً له: «فإني أوصيك يا حسين بما خلّفت من أهلي وولدي وأهل بيتك أنْ تصفح عن مسيئهم، وتقبل من محسنهم، وتكون لهم خلفاً وولداً»(2)، وحسبها شهادة تدل على حلمه وصبره ما أدلى بها ألدّ خصومه، وأحقد أعدائه، مروان بن الحكم، حينما بادر إلى «حمل سرير الحسن(علیه السلام) فقال له الحسين: أتحملُ سريره؟ أمَا والله كنت تجرّعُه الغيظ، فقال مروان: إني كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال» (3).

3. وفاؤُه بالعهود

إنَّ من أدقّ المقاييس، وأعظمها التي توزن بها شخصيات الرجال فيما يواجهون من مواجهات، وظروف حرجة وقاهرة، هي موقفهم من عهودهم التي يأخذونها على أنفسهم راغبين مختارين، فالإنسان الذي يعطي من نفسه شروطاً، يعني أنه أعطى من إنسانيته وسمعته وشخصيته وذمته، ومن السهل أنْ نتصوّر إنساناً يستميت في سبيل الوفاء لقول قاله، أو عهد أعطاه؛ لأنه إنّما يموت ضحية خلق رفيع خسر به الحياة، وفي قبال هذا التصور الأخلاقي القيمي، نجد إنساناً ينكث العهود والمواثيق فلا يمكن تصوره إنساناً؛ لأنه هدم الإنسانية قواعد وشل من مقدراتها(4). .

ص: 111


1- ينظر: أعلام الهداية: 175 .
2- موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 370 .
3- مقاتل الطالبيين: 76 ، وينظر شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 16 / 13 ، وحياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 1 / 15 .
4- ينظر: صلح الحسن(علیه السلام) 292 .

إن الوفاء بالعهود والمواثيق ورعايتها أمر عظيم في المجتمع، وسبيل مستقيم في تعايش أفراده، فكيف يتعايش الناس تعايشاً سلمياً في مجتمع أفراده لا يثق أحدٌ منهم بالآخر؛ لأن عدم الالتزام بهذه العهود يجعل التعامل بينهم يسوده الريب، والشك، والخدر فتتعطل الحياة، ويخبو صوت التبادل الإنساني – الأخذ والرد – فيما بينهم.

وقد جسّد الحسن(علیه السلام) أحكام الله(عزوجل)، وحدوده في حفظ العهود والمواثيق ومراعاتها حالاً بعد حال، فكان ملتزماً بها ومحترماً لها، قال تعالى: «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ»(البقرة/ من الآية 177 )، ويظهر التزام الحسن(علیه السلام) بهذه العهود جليّاً في هدنته مع معاوية بن أبي سفيان، فقد أكّد شرط الالتزام بها، وإحكامها تطبيقا لقوله،قال تعالى: «الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ»(الرعد/ 20 ).

إن إمضاء هذا المعلم الإنساني، وإقراره على وفق شريعة البارئ(عزوجل) يخلق جوّاً صافياً من التعايش السلمي بين أفراد الأمة، من خلال الحوار الهادئ، والتبادل الإنساني المثمر، والأخذ بأطراف الحديث، ومد جسور المحبة والألفة، والابتعاد عن الشك والاعتداء.

وقد كَبّل الحسن(علیه السلام) معاوية بهذه العهود، وألزمه بها لاسيما شروط السلم والهدنة التي اتفقا عليها، فهذا الأحنف بن قيس يتكلم في مجلس معاوية بعد إبرام الهدنة بين الحسن(علیه السلام) وبين معاوية، «وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليها قعصاً، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد عَلِمْتَ؛ ليكون له الأمرُ من بعدك، فإن تفِ، فأنت أهلٌ للوفاء، وإن تغدر تعلم واللهِ إن وراء الحسن خيولاً

ص: 112

جياداً، وأذرعاً شداداً، وسيوفاً جداداً»(1)، وقال الدَّينوريّ: «ولما رأى الحسن من أصحابه الفشل أرسل إلى عبد الله بن عامر بشرائط اشترطها على معاوية على أنْ يسلم له الخلافة(...) فكتب عبد الله بن عامر إلى معاوية، فكتب معاوية جميع ذلك بخطه وختمه بخاتمه، وبذل عليه من العهود المركبة، والأيمان المغلّظة، وأشهد على ذلك جميع رؤساء الشام»(2)، وقال أيضاً مبيّناً لقاء الحسن(علیه السلام) بمعاوية في الكوفة «وسار الحسن بالناس من المدائن حتى وافى الكوفة، ووافاه معاوية بها، فالتقيا، فَوَكَّدَ عليه الحسن(علیه السلام) تلك الشروط والأيمان، ثم سار الحسن بأهل بيته حتى وافى مدينة الرسول(صلی الله علیه و آله)، وقال المفيد: «فتوثق(علیه السلام) لنفسه من معاوية لتأكيد الحجة عليه، والإعذار فيما بينه وبينه عند الله(عزوجل) وعند كافة المسلمين، واشترط عليه ترك سب أمير المؤمنين(علیه السلام) والعدول عن القنوت عليه في الصلوات، وأن يؤمن شيعته(رضي الله عنهم) ولا يتعرض لأحدمنهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حقّ منهم حقّه، فأجابه معاوية إلى ذلك كلّه وعاهده عليه، وحلف له بالوفاء به»(3). وقد اعترف معاوية نفسه بعدم وفائه بالعهود، مفتخراً بنقضها، ومخالفة أحكام القرآن الكريم، في خطبة طويلة له لم ينقلها أحدٌ من الرواة تامة، وجاءت مقطعة من الحديث، منها: «ألاَ إنَّ كلَّ شيءٍ أعطيْتُهُ الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به»(4)، ونقل ابن أبي الحديد المعتزلي(ت 656 ه-) نتفاً من هذه الخطبة أيضاً: «ألا أن كلّ دم أصيب من هذه الفتنة مطلول وكل شرط شرطته، فتحت قدمي هاتين»(5)، وقال الأربلّي: «فلما استتمت الهدنة سار معاوية حتى نزل بالنخيلة، وكان .

ص: 113


1- الإمامة والسياسة: 1/ 138 .
2- الأخبار الطوال: 218 .
3- الإرشاد: 181 – 182 .
4- مقاتل الطالبيين: 69 ، وينظر: أعيان الشيعة: 2/ 377 .
5- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 16 / 46 ، والإرشاد: 2/ 14 ، مقاتل الطالبيين: 45 .

يوم جمعة فص بالناس ضحى النهار، وخطبهم، فقال في خطبته: إ والله ما أقاتلكم لتصلُّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجُّوا، ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، ولكني قاتلتكم لأتأمَّرَ عليكم، وقد أعطاني اللهُ ذلك، وأنتم كارهون، ألا وإن كُنْتُ مَنَّيتُ الحسن، وأعطيتهُ أشياءَ وجميعها تحت قدمي لا أفي له بشيْء منها» (1).

والذي يبدو جليّاً أن الحسن(علیه السلام) كان يَعْرف أنَّ معاوية سينكث هذه العهود والمواثيق واحدة واحدة، وقد صرَّح(علیه السلام) بذلك، فقال(علیه السلام) بعدما بلغه أن عدداً من أصحابه قد عرض عليهم معاوية قتل الحسن(علیه السلام) جزاء حفنة من الدراهم، «وَيْلَكُم واللهِ، إن معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي، وإنّي أظنُّ أني إن وضعت يدي بيده فأسالمه لم يتركني أدين لدين جدّي(صلی الله علیه و آله)، وإني أقدر أنْ أعبدَ الله(عزوجل) وحدي، ولكني كأني أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم، ويستطعمونهم

بما جعله الله ولهم، فلا يسقون ولا يطعمون فبعداً وسحقاً لما كسبتْهُ أيديهم: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(2)»، وقال(علیه السلام) محذَراً معاوية من الغدر بهذه الشروط، وعدم الوفاء بها، أمّا بَعْدُ، فإن خطبي انتهى إلى إلياس من حقّ أحييه، وباطل أميته، وخطبك خطب من انتهى إلى مراده، وإنّني أعتزل هذا الأمر وأخليه لك، وإن كان تخليتي إيّاه شرّاً لك في معارك، ولي شروط اشترطها لا تُبْهِظَنَّك إن وفيت بها بعهدٍ، ولا تخف إن غدرت، وكتب الشروط كتاب آخر فيه بالوفاء، وترك الغدر، وستندم يا معاوية كما ندم غيرُك ممن نهض في الباطل، أو قعد عن الحق حين لم ينفع الندم والسلام» (3). .

ص: 114


1- كشف الغمة: 1/ 508 .
2- بحار الأنوار: 10 / 206 ،(الشعراء/ 227 ).
3- م.ن: 10 / 206 .

لقد قام معاوية بإجماع المؤرخين بخرق هذه الشروط، ولم يفِ بشرط واحدٍ منها، فمن الشروط التي أكدها الحسن(علیه السلام) هو عدم تعرض المسلمين عامة، والشيعة خاصة بسوء في أي قطر كانوا، لكن معاوية لم يستجب لهذا الأمر، فقد نكّل بالمسلمين، وأذاقهم ألوان العذاب، وسوء المعاملة، قال محسن العاملي: «وأقام معاوية ومن بعده من ملوك بني أمية على سب أمير المؤمنين(علیه السلام) إلاَّ ما كان من عمر بن عبد العزيز، وأخاف معاوية شيعة أمير المؤمنين وقتلهم وشرّدهم وهدم كثيراً من دورهم، فقتل عمرو بن حمق، وحبس زوجته آمنة بنت الشريد سنتين في سجن دمشق، وقتل حِجر بن عديّ، وأصحابه بمرج عذراء، و لَْمح عبد الله بن هاشم المرقال مكبّلاً بالحديد من العراق إلى الشام، وأما خراج دار أبجرد(....) إنّ أهل البصرة منعوا الحسن منه، وقالوا: فيؤنا لا نعطيه أحداً، قال: وكان منعهم بأمر معاوية، وقال المدائني: كان الحصين بن الرقاشي يقول: واللهِ ما وفى معاوية للحسن بشيءٍ مما أعطاه فقتل حِجْراً، وأصحاب حجر، وبايع لابنه يزيد، وسمّ الحسن» (1).

وعلى الرغم من أن طه حسين في بعض الأبحاث التي تحدّث فيها عن أحوال الحسن(علیه السلام) وعن الحوادث التي واجهها لم يكن موفقاً فيها، إلاَّ أنه كان موفقاً في بعض الأحيان إلاَّ أنَّ بعض الباحثين المعاصرين له مَنْ نقدهُ، وعابه على جملة من الآراء التي وفّق إليها، وقد انتصر فيها لأهل بيت المصطفى(صلی الله علیه و آله) من جانب، وعاب فيها أتباع بني أمية من جانب آخر فرماه بالرفض، تارة، وبالرافضة تارة أخرى وكونه شيخاً مأفوناً، فهذا مصطفى صادق الرافعي يندب نفسه محامياً عن أبي سفيان، ومعاوية، ويزيد، فهويدافع عن يزيد وعن أفعاله ولاسيما وقعة الحرّة، بعد أن أظهر طه حسين حماقة يزيد، .

ص: 115


1- أعيان الشيعة: 2/ 377 .

وانتهاكه لحرمة بيت الله الحرام، وقتله من البدريين ما شاء(1)، قال شوقي ضيف: «واتفق العلماء على أنَّه لا يجوز القتال في مكة وما يتبعها من الحرم»(2)، وقال الرافعي في معرض مدحه أبا سفيان، ومعاوية، وهو يرد على طه حسين بأدلّة واهية سقيمة: «فقد جعل ميراث أبي سفيان في أولاده السخط على الإسلام، والانتقام منه، والحمق في ذلك، مع أنَّ المعروف في التاريخ أنَّ معاوية إنما وَرِث حِلْمَه الذي يضرب به المثل من أبيه أبي سفيان، حتى أنَّه لما قتل حِجْر بن عَدِيّ وجماعته بعد أنْ ثاروا عليه في خبرهم المشهودأرسلت إليه عائشة أم المؤمنين تشفع فيه، وفي أصحابه، فبلغه رسولها وقد قتلوا، فقال معاوية: أين غاب عنك حِلْمُ أبي سفيان؟، فتأمل قول من عَرَفوا الرجل وعاشروه،وقول أستاذ الجامعة» (3).

وأنا أسأل الرافعي أهذه راية القرآن التي تحملها؟!، وأنت تلمّع وجه أبي سفيان، ومعاوية، ألم تقرأ أيها الأديب البارع قول الحسن البصري في معاوية؟: «أربع خصال كنّ من معاوية لو لم يكن فيه منهنّ إلاَّ واحدة لكانت موبقة: انتزاؤُه على هذه الأمّة بالسفك حتى ابتزها أمرها يعني الخلافة بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سِك اّريً يِمخّراَ يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤُه زياداً، وقد قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): الولد للفراش، وللعاهر الحَجَر، وقتله حِجْراً، ويْلٌ له من حِجْر،وأصحاب حِجْر مرتين»(4)، ولا تعجب من الرافعي، فقد وصفه أحمد حسن الزيات،قائلاً: «وكان من شذوذ النبوغ في الرافعي اعتداده بنفسه إلى حدّ الصلف، واعتقاده .

ص: 116


1- ينظر: تحت راية القرآن: مصطفى صادق الرافعي: 151 – 152 .
2- محمد خاتم المرسلين: 352 .
3- تحت راية القرآن: 164 (هامش رقم 1).
4- تاريخ الأمم والملوك: 6/ 157 ، والاستيعاب: 1/ 256 ، والكامل في التاريخ: 3/ 692 ، والإصابة في تمييز الصحابة: 1/ 313 .

بالغيبيّات إلى حدّ السذاجة، وله في ذلك حوادث، وأحاديث» (1).

لَيْتَ شعري، أيتاح لمعاوية في ذلك الدهر أنْ يقبض على دفّة السلطة، ويتولى القيادة في ركب الحياة !!! بعد أنْ نقض عهود الله، ومواثيقه ومن الحقيق بالذكر، فإن الحسن(علیه السلام) قد ألزم نفسه بهذه العهود، والمواثيق، فالذي يخصه(علیه السلام) من الشروط التي اشترطها معاوية عليه، فإنّه لم يكن سوى شرط واحد، وهو أن لا يخرج الحسن(علیه السلام)، وقد وفى له بذلك، وقد أَجلَ إليه خلص أتباعه بعد أنْ أعلن معاوية نقضه للشروط التي أعطاها للحسن(علیه السلام)، فعرضوا عليه الخروج على معاوية، ومناجزته، فأبى(علیه السلام) أنْ ينقض ما أعطاهُ من العهد.

ونختم هذا المبحث بذكر رواية عميقة الأثر، وعالية المضمون يستدلّ بها على حفظ الحسن للعهود، والعقود مع أعدى أعدائه، «فقد حُكي أنَّ معاوية أرسل إلى الحسن(علیه السلام) في حاجة له، فلما قابله الرسول هابه، وعظّمه من حيث لا يريد، وقال حفظك الله يا ابن رسول الله، وأهلك هؤلاء القوم، فنهره الحسن(علیه السلام)، وقال: لا تخن من ائتمنك، وحسبك أنْ تحبّني لحب رسول الله، وأبي، وأمّي، ومن الخيانة أنْ يثق بك قوم، وأنت عدوٌّ لهم، وتدعو عليهم»(2)، إنَّ ثبوت هذا الخلق المثالي في الحسن(علیه السلام)،يظهر لنا هذا الرجل العظيم. .

ص: 117


1- من وحي الرسالة: 1/ 443 .
2- سيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 549 .

ص: 118

المبحث الثالث: حقن الدماء

اشارة

قد بدا لي أن أذكر معلم(حقن الدماء) كمعلم إنساني مثالي عند الحسن(علیه السلام)،ومردّ هذا الأمر هو شرافة دم المسلم وقداسته، فالإنسان هو أساس الوجود، وقد كرّمه الله عز وجل: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(الإسراء/ 70 )، وجعل(عزوجل) قتله فساداً في الأرض: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»(المائدة/ من الآية 32 )، ومن هنا جاءت النصوص مبيّنة أخذ القِصاص من القاتل، وهو وجهة إنسانية من أقوى البواعث على تهذيب السلوك، والاستقامة على طريق الحق، والعدل، ومقاومة الفساد والضلال، والقِصاص هو الحماية والوقاية لمصالح الأفراد(1) ، ولولاه لفشا هذا الأمر الخطير(القتل) فشوَّ صَغَائِر الذنوب بين الناس، ولهان أمر الدماء بينهم، قال تعالى:

«وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(البقرة/ 179 )، وقال تعالى: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ»(البقرة/ من الآية 251 ).

إنَّ احترام وجود الإنسان، والحفاظ على دمه أمر مهم جدّاً، وإن إهراق دمه .

ص: 119


1- ينظر: فلسفة الأخلاق في الإسلام: محمد جواد مغنية: تحقيق: سامي الغريري، مطبعة ستار، إيران، 1428 ه - 2007 م: 154 .

يعني معارضة خلق الله(عزوجل)، وتعطيل صنعه(عزوجل)، فضلاً عن الإفساد، والفوضى في الأرض؛ لذا جاءت النصوص القرآنية دالة على تجسيد هذا البعد الإنساني(حقن الدماء)، والاحتياط منها، واللجوء إلى العفو والصفح، والصلح، والحوار، والمودة، والرحمة، والتسامح، وعدم الإكراه، قال تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»(البقرة/ من الآية 256 )، وقال تعالى: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»(الكافرون/6)، في بادرة حسنة للوئام، والتحابُب، والابتعاد عن سفك الدماء، وإراقتها.

ويتعالى صوت المنطق والبرهان على صوت الحرب والعُدوان في قوله تعالى:

«ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»(النحل/ 125 )، فالدعوة إلى الربّ هنا ليس بالسيف، والقتل، وسفك الدماء، بل بالحكمة، والمنطق، والبرهان، والموعظة الحسنة، وقال تعالى في آية أخرى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»(الكهف/ من الآية 29 )، فالإيمان والكفر مسألتان طوعيتان، ليسا فيهما أي إجبار، فالإسلام لا يوجب استعمال القوة لجعل هؤلاء مسلمين، فالاختيار يعود لهم(1).

وقد اهتم الإسلام بالصلح، قال تعالى: «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ»(النساء/ من الآية128 )، وقال تعالى: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»(الأنفال/ من الآية61 )، إن هاتين الآيتين تؤكّدان روح الإسلام هي روح السلام.

إنّ الحفاظ على ارواح المسلمين عامة، والجماعة الصالحة خاصة، كان من أهم أهداف السلم، فضلاً عن الإصلاح في الأمّة، وصيانة المقدسات وتحقيق وجهة النظر4.

ص: 120


1- ينظر: الجهاد حالاته المشروعة في القرآن: مرتضى المطهري: ط 1، مطبعة سبهر، طهران، 14040ه- : 25 – 24.

الإسلامي، لذا رأيْت أن أعرض لقسم من النصوص التي وصلت إلينا من تراث الحسن(علیه السلام) من جهة، والنصوص التي سأتناوشها من الباحثين لبيان هذا المعلم الإنساني المهم عنده(علیه السلام).

أولاً: حقن الدماء من خلال سَلْمه(علیها السلام)

إن الاحتياط من الدماء، وحقنها كان طابع سياسة الحسن(علیه السلام) في سائر مراحل حياته، ولا نفهم من حديث رسول الله(صلی الله علیه و آله): « لعلّ الله أنْ يصلح به بين فئتين من المسلمين»(1)، إلا كون الحسن(علیه السلام) رسول السلام في الإسلام، وأنه خلال ولايته خلافة المسلمين لم يهرق جِْحمَمة دمٍ(2).

ولا نبالغ إذا قلنا: إن الحسنَ(علیه السلام) مانعُ الدماء، و رُْحمِزُها، وحافظُها، فكان غالقاً لأبواب إراقتها في التاريخ الإسلامي.

وتكاد تتضافر النصوص كون الحسن(علیه السلام) قد قبل بالهدنة، والسّلم حقناً لدماء المسلمين، والحفاظ على أرواحهم، وأي مَزِيّة وقوة إرادة تجسّدت بروحه(علیه السلام)، زد على ذلك قدرته، ومقدرته على إدارة شؤون السياسة العامة، والدولة، فصان الأمة، وحفظ دماء أفرادها، وجنبها المضاعفات الخطيرة، والنتائج السيّئة التي لا تحمد عقباها، فلو أراد الحسن(علیه السلام) الحرب، لكانت حرباً طويلة الأمد بين طائفتين عظيمتين من مسلمي الشام والعراق وسيكون ضحيتها عشرات الألوف من الطرفين من دون أنْ تكون هناك ثمرة للحرب، بل الاحتمال الوارد هو انتصار معاوية، أما احتمال الانتصار على معاوية كان معدوماً بحسب المعطيات التي يقدمها لنا التاريخ، والاحتمال الأقوى أنْ .

ص: 121


1- صحيح البخاري: 664 .
2- ينظر: صلح الحسن(علیه السلام): 175 .

تنتهي المعركة بهزيمة جيش الحسن(علیه السلام)، فأين الفخر في أن يحارب(علیه السلام) سنتين أو ثلاث تراق دماء عشرات الألوف من الأرواح، ولا تثمر إلاّ التعب، وعود كُلّ فريق إلى مكانه(1). فكان نظر الحسن(علیه السلام) في قبول السلم والهدنة أدق من أنْ يكون غالباً أو مغلوباً، فأراد أن يفضح خبيئة العدو، وبيان حاله، وما ستره في قرارة نفسه، وكذلك عدم زجّ الناس في حرب، ويحملهم على ما يكرهون من إراقة الدماء(2).

وأول هذه النصوص التي تصرح بهذا المعلم الإنساني المثالي خطبته(علیه السلام) بعد عقد الهدنة مع معاوية، قال ابن قتيبة: «فلما تم صلحهما صعد الحسن إلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنَّ الله هدى أولكم بأولنا، وحقن دمائكم بآخرنا، وكانت لي في رقابكم بيعة تحاربون من حاربْتُ وتسالمون من سالمت وقد سالمت معاوية وبايعته فبايعوه وإن أدري لعله فتنةٌ لكم ومتاعٌ إلى حين»(3)، وقال سبط بن الجوزي: «وكان الحسن لا يؤثر القتال ويميل إلى حقن الدماء، وعرف الحسن أنَّ قيس بن سعد لا يوافقه على هذا الرأي، فأقام بالكوفة ستة أشهر إلى سلخ ربيع الأول سنة إحدى وأربعين» (4).

ذكر الأربلي خطبة الحسن(علیه السلام) بعد استشهاد أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام) يدعوه فيها إلى بيعته، وحقن الدماء، وهذا الأمر يؤكد رغبة الحسن(علیه السلام)، ومبدأه السامي إلى حقن الدماء، قبل السَّلم، وبعده، فالحفاظ على وجود الجماعة الصالحة ديدنه، ومنهجه «بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله الحسن أمير المؤمنين إلى معاوية ابن صخر، أما بعد، .

ص: 122


1- ينظر: سيرة الأئمة الأطهار: مرتضى المطهري: 80 / 81 .
2- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي: 2(مقدمة بقلم محمد الحسين آل كاشف الغطاء): 17 .
3- الإمامة والسياسة: 1/ 133 .
4- تذكرة الخواص: 19 – 20 .

فإنَّ الله بعث محمداً(صلی الله علیه و آله) رحمة للعالمين، فأظهر به الحق، ورفع به الباطل، وأذلّ به أهل الشرك، وأعزّ به العرب عامة، وشرف به من شاء منهم خاصة، فقال تعالى:

«وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ»، فلما قبضه اللهُ تعالى تنازعت العربُ الأمر بعده، فقالت الأنصار: منا أمير، ومنكم أمير، وقالت قريش: نحن أولياؤه وذوو القربى منه، ولا غرو أن منازعتك إيانا بغير حقّ في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود، والموعد الله تعالى بيننا وبينك، ونحن نسأله تبارك وتعالى أن لا يؤتينا في هذه الدنيا شيئاً ينقصنا به في الآخرة، وبعد فإنَّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما نزل به الموت ولاّني هذا الأمر من بعده، فاتّق اللهَ يا معاوية وانظر لأمّة محمد(صلی الله علیه و آله) ما تحقن به دماءهم، وتصلح به أمورهم، والسلام»(1)، وقد دعا المصطفى(صلی الله علیه و آله) ربّه(عزوجل) أن يكون سبطه الأكبر داعياً إلى السَّلم، وحقن الدماء، فهو(علیه السلام) السلام للأمّة، ولا يأتيه من الأمّة إلا السلام، والأمان «رُوي عن محمد بن عبد الرحمن بن لُبَيْبه مولى بني هاشم أن رسول الله(صلی الله علیه و آله) أب الحسن بن علي مقبلاً، فقال: اللهم سلّم به، وسلّم منه» (2)، وقال المجلسي: «فإن الحسن قال لجُبير بن نفير حين قال له: إنَّ الناس يقولون: إنّك تريد الخلافة فقال: قد كان جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربْتُ، ويسالمون من سالمت، تركتها ابتغاء وجه الله، وحقن دماء أمّة محمد»(3)، وقد صّرح(علیه السلام) بهذه الجملة، وأكثر من تفاصيلها في مواقف كثيرة، وبألفاظ مختلفة، وقال (علیها السلام):

إنما هادنت حقناً للدماء، وضمناً بها، وإشفاقاً على نفسي، وأهلي، والمخلصين من أصحابي(4)، وروى أيضاً أنه قال(علیه السلام) حينما سالم معاوية: «أيها الناس إنّكم لو طلبتم .

ص: 123


1- كشف الغمة: 1/ 533 .
2- م.ن: 1/ 498 .
3- بحار الأنوار: 10 / 198 ، وينظر: تاريخ الخلفاء: 144 .
4- بحار الأنوار: 10 / 203 . و 10 / 217 .

ما بين جَابَلق، وجَابَرس رجلاً جدّه رسول الله(صلی الله علیه و آله) ما وجدتموه غيري وغير أخي، وإنَّ معاوية نازعني حقّاً هو لي فتركْتُه لصلاح الأمّة وحقن دمائها»(1)، وقال محسن العاملي: «والدليل على أنه خطب(علیه السلام) بالنخيلة قبل الصلح، فقال: أيها الناس، إنَّ هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إنّما هو حقٌّ، أتركه إرادة لإصلاح الأمّة، وحقناً لدمائها»(2)، وقال أيضاً موضحاً أن مبدأ حقن الدماء، والحفاظ على أرواح المسلمين هو المتعين عن الحسن(علیه السلام): «ومن مجموع ما مرّ بعلم الوجه في صلحه(علیه السلام)، وأنه كان

هو الرأي والصواب»(3)، وقال طه حسين: «ولم يكن قعود الحسن عن الحرب جبناً أوفَرَقاً، وإنما كان كراهية لسفك الدماء من جهة، وشكا في أصحابه من جهة أخرى» (4).

ويكرّر الحسن(علیه السلام) هذا المعلم السامي عندما خرج من الكوفة إلى مدينة جدّه(صلی الله علیه و آله)، وقد لامه جماعة من أصحابه، وأتباعه، قال البلاذري(ت 279 ه-) «أنتم شيعتنا، وأهل مودتنا، فلو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل لسلطانها أعمل، وأنْصَبُ، ما كان معاوية بأبأس مني بأساً، ولا أشدّ شكيمة، ولا أمضى عزيمة، ولكن أرى غير ما رأيتم، وما أردت فيما فعلت إلا حقن الدماء، فارْضَوْا بقضاء الله، وسلّموا الأمر، وألزموا بيوتكم، وأمسكوا وكفوا أيديكم حتى يستريح برّ ويستراح من فاجرٍ» (5)، وقال طه حسين: «ومهما يكن من ذلك فقد سخط على الحسن جماعة من أصحابه الذين أخلصوا له، ولأبيه، وأخلصوا في بغض معاوية وأهل الشام، ورأوا في هذا الصلح نوعاً من التسليم لم يكن يلائم ما بذلوا أيام عليّ من جهد، ولم يكن يلائم كذلك ما كان في .

ص: 124


1- بحار الانوار: 10 / 217 .
2- أعيان الشيعة: 2/ 376 .
3- م.ن: 2/ 376 .
4- الفتنة الكبرى: 2/ 182 .
5- أنساب الأشراف: 3/ 259 ، وينظر: المحاسن والمساوئ: 1/ 60 – 65 .

أيديهم من قوة، فمنهم من كان يقول للحسن يا مذلّ المؤمنين، ومنهم من كان يقول له:

يا مذلّ العرب، ومنهم من كان يقول له: يا مسوّد وجوه العرب، ولكن الحسن لم يحفل بشيء من ذلك، وإنما رَ عن خطته كُلّ الرضا فرأى فيها حقناً للدماء، ووضعاً لأوزار الحرب، وجمعاً لكلمة الأمّة، وتمكيناً للمسلمين من أنْ يستقبلوا أمورهم مؤتلفين لا مختلفين، ومتفقين لا مفترقين»(1)، وقد جابه الحسن(علیه السلام) كلاماً من المندّدين بالسَّلم أشدّ عليه من وقع الحسام المهند، فقد رأى منهم غلظة في القول، وقسوة في الحديث، وجفاء أي جفاء(2)، على الرغم من أنهم أعلم من غيرهم بالأسباب التي دعته إلى هذا السلم المؤقت، وفي مقدّمتها حقن الدماء، والحفاظ على المسلمين، والجماعة الصالحة، فقد جاءه وفدٌ من الكوفة بقيادة سُليمان بن صرّد الخزاعيّ، وقد أعطاهم الحسن(علیه السلام) الرضا حين أعلن إليهم أنهم من شيعة أهل البيت، وذوو مودّتهم، وإذاً فمن الحقِّ أن يسمعوا له، ويأتمروا بأمره، ويكونوا عندما يريد منهم، ثم بين لهم أنه لم يسالم ويهادن،

معاوية عن ضعف، ولا عن عجز، وإنما أراد حقن الدماء، ولو قد أراد الحربَ لما كان معاوية أشد منه قوة ولا أشد مراساً، ثم طلب إليهم أن يَرْضَوا بقضاء الله(عزوجل)، وقبول الأمر، وأنبأهم بأنهم لم يفعلوا ذلك إلى آخر الدهر، ولم يستسلموا لعدوهم من غيرمقاومة، وإنما هو انتظار إلى حين، هو انتظار إلى ان يستريح الأبرار من أهل الحق، أويريح الله(عزوجل) من الفجار من أهل الباطل(3).

وتكفينا من أقوال الحسن(علیه السلام) التي كرَّرها أكثر من مرة في سبيل إفهام شيعته دواعي سلمه مع معاوية: ما تدرون ما فعلتُ، واللهِ للذي فعلت خيرٌ للمسلمين .

ص: 125


1- الفتنة الكبرى: 2/ 185 – 186 .
2- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 269 .
3- ينظر: الفتنة الكبرى: 2/ 189 .

عامة، ولشيعتي خاصة مما طلعت عليه الشمس، وما قاله مرّة لبشير الهمداني وهو أحد رؤساء شيعته في الكوفة: ما أردت بمصالحتي إلاّ أن أدفع عنكم القتل، وما قاله في خطابه بعد الصلح: أيها الناس، إنّ الله(عزوجل) هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، وقد سالمت معاوية(1). والشخوص إلى مدينة جدّه، ولدى توجهه(علیه السلام)، وأهل بيته إلى عاصمة جدّه(صلی الله علیه و آله) خرج أهل الكوفة بجميع طبقاتهم إلى توديعه وهم ما بين باكٍ، وآسفٍ، فكتب إلى معاوية حين أدركه رسول يريد أنْ يردّه ليقاتل طائفة من الخوارج، فأبى(علیه السلام) أنْ يعود، وكتب إلى معاوية: «ولو آثرت أنْ أُقاتل أحداً من أهل القبلة، لبدأتُ بقتالك، فإني تركتُك لصلاح الأمة، وحقن دمائها» (2).

ثانياً: حقن الدماء من خلال وصيته(علیها السلام)

اشارة

يتعالى صوت هذا المعلم الإنساني المثالي(حقن الدماء)، والاحتياط من إهراقها عن الحسن(علیه السلام) في اللحظات الأخيرة من حياته المطهّرة، وقد اتّفق أغلب المؤرخين أن الحسن(علیه السلام) قد سُقِي السمُّ، واختلف في سنة وفاته فقيل سنة 49 ه-(3)، وقيل 50 ه-(4)، وقيل سنة 52 ه-(5)، وقال السيوطي: «وقيل سنة إحدى وخمسين» (6).

ويظهر هذا المعلم الإنساني من خلال أمرين أوصى بهما الحسن(علیه السلام)، الأول: .

ص: 126


1- ينظر: صلح الحسن(علیه السلام): 266 .
2- أعلام الهداية: 165 ، وينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 287 .
3- ينظر: تاريخ اليعقوبي: 2/ 156 ، وتاريخ خليفة بن خياط: 153 ، والذرية الطاهرة: 103 ، وكشف الغمة: 1/ 546 ، وتاريخ الخلفاء: 144 .
4- ينظر: الإرشاد: 182 ، والفصول المهمة: 157 ، وموسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 358 .
5- ينظر: دلائل الإمامة: 61 .
6- تاريخ الخلفاء: 144 .

عدم إعلام أخيه الحسين(علیه السلام) بالشخص الذي سمّه منعاً للفتنة، وإراقة الدماء، والثاني: عدم الإصرار، وترك محاربة الذين يمنعون الحسين من دفنه(علیه السلام) بجوار جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله)، فهذه النفس الطاهرة، المطمئنة، الصافية أبت أن تخوض في دماء المسلمين، وهي في سكراتها، فما أعْظَمَك !!، وما أر كَمحَْ أيتها النفس الصفوح !!.

1. إخفاء اسم الشخص الذي سمّه(علیها السلام)

تضافرت النصوص التاريخية في قضية إخفاء الحسن(علیه السلام) اسم الشخص الذي سمّه، ومردّ هذا الإخفاء أمرانِ: الأول هو عدم تيقن الحسن(علیه السلام) من الشخص الذي سمّه على وجه الضبط، والتحقيق، «فأبى أن ينبّئه به مخافة أنْ يقتصّ منه بغير حجّة قاطعة عليه،(...) وكَرِه أنْ يَلْقى الله وقد اقتص له بالشبهة فآثر أنْ يَكِل هذا القصاص إلى الله عز وجل»(1)، والأمر الثاني: معرفته بالذي سقاه السم ؛ لكن الحفاظ على دماءالمسلمين، والاحتياط منها جعلته يحجم(علیه السلام) من هذا الإخبار، وهذا ما نذهب إليه،فالحسن(علیه السلام) أبت نفسه المطمئنة أن تذهب إلى بارئها، وتترك بني هاشم، وأتباعه،والمسلمين يخوضون في طلب الثأر، والانتقام إلى مدّة لا يعلم مداها إلاّ الله(عزوجل)، فضلاًعن ذلك فهو(علیه السلام) قد سالم معاوية وهادنه لهذه لمصلحة(حقن الدماء) في حياته(علیه السلام)،فليس من المعقول أن يعود إلى إراقتها في اللحظات الأخيرات من حياته.

وقد حَرصَّت أغلب النصوص التاريخية باسم الشخص الذي سمّه، وهي زوجه(جَعْدَة بنت الأشعث)، قال ابن الأثير: «وكان سببُ موته أنَّ زوجته جَعْدَة بنت الأشعث بن قيس سقته السمّ، فكانت توضع تحته الطست، وترفع أخرى نحو أربعين يوماً فمات منه، ولما اشتدّ مرضه، قال لأخيه الحسين(علیهما السلام): يا أخي سُقيت السمَّ .

ص: 127


1- الفتنة الكبرى: 2/ 193 .

ثلاث مرّات لم أُسقَ مثل هذه، إنّي لأضَعُ كبدي» (1).

وما فعلته جَعْدَةَ كان بمشورة معاوية بن أبي سفيان، قال أبو الفرج الأصفهاني:

«أرسل معاوية إلى ابنة الأشعث أنا مزوّجُك بيزيد ابني على أن تَسمّي الحسن بن علي، وبعث إليها بمائة ألف درهم، فقبلت، وسمّت الحسن فاستوفاها المال، ولم يزوّجها منه، فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها فكان إذا وقع بينهم، وبين بطون قريش كلام عیّروهم، وقال: يا بني مُسِمّة الأزواج»(2)، ويرى السيوطي أن يزيد بن معاوية هو الذي أشار إلى جعدة بسم الحسن(علیه السلام)(3)، وهو وهم، والصحيح أنَّ معاوية هو الذي أشار إلى جعدة بذلك(4).

وعندما أراد الحسين(علیه السلام) أنْ يستخبر من أخيه(علیه السلام) عن الشخص الذي سمّه، أبي الحسن(علیه السلام) إخباره عنه وأجابه بأجوبة عدّة، قال المفيد: «روى عيسى بن مهران، قال: حدثني عثمان بن عمر، قال: حدثنا ابن عون عن عمر بن إسحاق، قال: كنت مع الحسن والحسين(علیهما السلام) في الدار، فدخل الحسن المخرج، ثم خرج، فقال: لقد سقيت السمّ مراراً، ما سَقَيْته مثل هذه المرّة، لقد لفظت قطعة من كبدي فجعلتُ أُقلبها بعود معي، فقال له الحسين(علیه السلام)، ومَنْ سقاكه؟ فقال: ما تريد منه؟ أتريدُ قتله؟ أن يكن .

ص: 128


1- أسد الغابة في معرفة الصحابة: 1/ 562 ، وينظر: دلائل الإمامة: 61 ، ومروج الذهب: 2/ 353 ، ومقاتل الطالبيين: 74 ، والإرشاد: 183 ، وكشف الغمة: 1/ 546 ، وتاريخ الخلفاء: 144، وحياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 476 .
2- مقاتل الطالبيين: 73 .
3- ينظر: تاريخ الخلفاء: 144 .
4- ينظر: دلائل الإمامة: 61 ، مروج الذهب: 2/ 353 ، والفتنة الكبرى: 2/ 193، وحياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 475 .

هو هو فاللهُ أشدّ نقمة منك، وإن لم يكن هو فما أحب أنْ يؤخذ بي بَرِيءٌ»(1)، وقال الحسن(علیه السلام) عندما سأله أخوه الحسين(علیه السلام): مَنْ سقاك يا أخي؟ ما سؤالك عن هذا؟

أتريد أنْ تقاتلهم؟ أكِلْهم إلى الله عز وجل(2). وقال سبط بن الجوزي: «قال الإمام الحسين(علیه السلام)، وهو يسأل أخاه الإمام الحسن: «يا أخي من تتهم قال: لِمَ؟ لتقتله؟ قال:

نعم، قال: إنْ يك الذي أظنُّ فالله أشدّ بأساً، وأشدّ تنكيلاً، وإن لم يكن فما أحب أنْ يقتل بي بَرِيء، ثم قضى نحبه»(3)، وقال العسقلاني: «فجاء حسين فقعد عند رأسه، فقال: إي أخي، مَنْ صاحبُك؟ قال: تريد قتله؟ قال: نَعَمْ، قال: لئن كان صاحبي الذي أظنّ، والله أشدّ له نقمة، وإن لم يكنْه، ما أحبّ أن تقتل بي بريئاً»(4)، وقال السيوطي:

«وجَهَدَ به أخوه أنْ يخبره بما سقاه، فلم يخبره، وقال: اللهُ أشدّ نقمة إن كان الذي أظنُّ، وإلاَّ فلا يقتل بي، واللهِ بَرِيءٌ» (5).

هكذا بقي الحسن(علیه السلام) يعاني من تأثير السم أربعين يوماً حتى تمكن منه، وأخذ يقذف كبده قطعة قطعة، ولما حضرته الوفاة استدعى أخاه الحسين(علیه السلام)، وانفرد به، وقال له: يا أخي، إنّي مفارقك، ولا حق بربّي وقد سقيت السم مراراً، ولكن هذه المرّة أشدها، ورميت كبدي في الطست، وإني لعارف بمن سقاني السم، ومن أين دُهيت، وأنا أخاصمه إلى الله(عزوجل)، فبحقي عليك إن تكلّمت في ذلك بشيء، وانتظر ما يحدث اللهُ عز وجل مني، وباللهِ أقسم عليك أنْ تريق في أمري مِحْجمة دم(6). .

ص: 129


1- الإرشاد: 183 . وينظر: مقاتل الطالبيين: 74 .
2- ينظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة: 1/ 562 .
3- تذكرة الخواص: 62 .
4- تهذيب التهذيب: 2/ 54 .
5- تاريخ الخلفاء: 144 .
6- ينظر: موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 361 .
2. دفنه(علیه السلام) بالبقيع
اشارة

يتضح هذا المعلم الإنساني المثالي(حقن الدماء) في وصيته(علیه السلام) لأخيه الحسين(علیه السلام) في الحفاظ على أرواح المسلمين، وحقن دمائهم، فهو(علیه السلام) يَعْرِف أن القوم سيمنعون أخاه الحسين(علیه السلام) من دفنه بجوار جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله)، محاولة منهم لإبعاد هذا الجسم الطاهرة عن جدّه(صلی الله علیه و آله)، وغاب عنهم أن الأرواح المتجاذبة والمتآلفة لا يحدّها مكان، ولا زمان، فما أحدٌ أولى بقربه منه، قال الحسن(علیه السلام) مخاطباً أخاه الحسين(علیه السلام): «فإذا أنا مُت فادفنّي مع رسول الله، فما أحدٌ أولى بقربه منّي، إلاَّ أنْ تمنع من ذلك فلا تسفك فيّ مِحجمة دم»(1). وقال الحسن(علیه السلام): «ادفنوني مع جدّي (صلى الله عليه وسلم)، فإن مُنِعْتُم فالبقيع»(2). وقال ابن رستم الطبري: «ولما حضرته الوفاة قال لأخيه: إذا مت فغسلني، وحنّطني، وكفّني، وصلّ عليّ، واحملني إلى قبر جدّي حتى تَلْحَدَني إلى جانبه، فإن منعت من ذلك، فبحقّ جدّك رسول الله، وأبيك أمير المؤمنين، وأمّك فاطمة، وبحقّي عليك إن خاصمك أحدٌ رُدّني إلى البقيع، فادفني فيه، ولا تهرق فيّ مِحجمة دم»(3)، وقال(علیه السلام): «وستعلم يا ابن أم أن القوم يظنون أنكم تريدون دفني عند رسول الله(صلی الله علیه و آله) فيحيلون في منعكم عن ذلك، وبالله أقسم عليك أنْ تهريق في أمري مِحْجمة دمٍ»(4)، وقد تضمنت وصية الحسن(علیه السلام) كذلك شذرات، وقبسات من إنسانيته المثالية، فقال: «فإنّي أوصيك يا حسين بمن خلفتُ من أهلي، وولدي، وأهل بيتك أنْ تصفح عن مسيئهم، وتقبل من محسنهم، وتكون لهم خلفاً وولداً، وإن تدفني .

ص: 130


1- تاريخ اليعقوبي: 2/ 156 .
2- الأخبار الطوال: 231 . وينظر: مروج الذهب: 3/ 5.
3- دلائل الإمامة: 61 .
4- الإرشاد: 183 ، وينظر: مقاتل الطالبيين: 75 ، وتاريخ الخلفاء: 145 ، وكشف الغمة: 1/ 547 ، وتهذيب التهذيب: 2/ 54 ، والفصول المهمة: 156 – 157 ، وأعيان الشيعة: 2/ 386 .

مع رسول الله(صلی الله علیه و آله)، فإني أحقّ به، وببيته ممن أدخل بيته بغير إذنه»(1)، وقال(علیها السلام):

«فأنشدك الله بالقرابة التي قرب الله(عزوجل) منك، والرحم الماسّة من رسول الله(صلی الله علیه و آله) أنْ تهريق في مِحْجَمة من دمِ حتى نلقى رسول الله(صلی الله علیه و آله) فنختصمَ إليه، ونخبره بما كان من الناس إلينا بعده، ثم قبض(علیه السلام)» (2).

وقد التزم الحسين(علیه السلام) بوصية أخيه الحسن(علیه السلام) حرفياً، وقد صرّح بعهد أخيه(علیه السلام)، مبيناً نقض القوم للعهود، والمواثيق التي اشترطها(علیه السلام) عليهم، فقال(علیه السلام): «واللهِ لولا عهدُ الحسن إليّ بحقن الدماء، وأن لا أهريقَ في أمره مِحْجمة دم، لعَلِمْتم كيف تأخذ سيوفُ اللهِ منكم مأخذها، وقد نقضتم العهد بيننا، وبينكم، وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا»(3)، وهكذا مَضَوا بالنعش الطاهر وهو يحمل الجسم الكريم إلى بقيع الفرقد، فدفنوه(علیه السلام) عند جدته فاطمة بنت أسد بن هاشم،وسمت نفسه الزكية إلى الرفيق الأعلى، تلك النفس الكريمة التي لم يخلق لها نظير فيمامضى من سالف الزمان، وما هو آت حِلْماً، وسخاءً، وعلماً، وعطفاً، وحناناً، وبرّاً على الناس جميعاً(4).

ومن ملاحق هذا الفصل أنْ نتحدّث بإيجاز عن بعض الشبهات التي ألصقت بالحسن(علیه السلام)، وهي لا تتواءم مع معالم إنسانيته المثالية، ونحسب أنَّ الحاقدين، والمغرضين أرادوا أنْ يسلبوا منه بعض الشذرات، والقبسات الإنسانية من جهة، ويُلصقوا به بعض الشبهات من جهة أخرى، وأنى لهم ذلك، فقد تواترت الأخبار، .

ص: 131


1- بحار الأنوار: 10 / 259 .
2- بحار الأنوار: 10 / 259 ، وينظر: أعيان الشيعة: 2/ 385 ، وصلح الحسن(علیه السلام): 32 .
3- كشف الغمة: 1/ 548 . وينظر: أعيان الشيعة: 2/ 36 .
4- ينظر: أعلام الهداية 189 ، وموسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 363 .

والآثار في ذكر طهارته، وصفاء سريرته، وعلو كعبه، فغدا أُنموذجاً سامياً، ومثالاً عالياً في الخلق النبيل.

وهذه الشبهات التي سنكشف النقاب عنها لا تخدش بساحة الحسن(علیه السلام) البتة، لكن من باب الإحاطة بفقرات البحث، وتوسعة دائرته، زد على ذلك فإنَّ ذكرها أمرتتطلبه الدراسة، وفاقاً لمجريات البحث العلمي، وهي:-

أولاً: مخالفة أبيه أمير المؤمنين(علیها السلام)

تحدثنا من قبل في الفصل الأول عن أثر الإنسانية العالية عند أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام) في الحسن(علیه السلام)، وذكرنا نصوصاً أبانت عن هذا التأثير، سواء من خلال ذكر الحسن(علیه السلام) صفات أبيه(علیه السلام)، أم من خلال ذكر وصايا أبيه(علیه السلام) لابنه الحسن(علیه السلام)، وتأثر الحسن بها، ورأينا اتّباع الحسن(علیه السلام) لأبيه إتباع الفصيل لأمِّه، فقد أخذ صفات أبيه القولية والفعلية، وتقمّصها، فكان صورة حيّة منه(علیه السلام)، وقد تميز دور الحسن(علیه السلام) في عهد أبيه(علیه السلام)، وفي أيام خلافته على وجه التحقيق بالخضوع التام لأوامر أبيه، وكان يتلقى أوامره لا كابنٍ بارّ فحسب، وإنما كجنديّ فدائي مطيع، وقد اختاره أبوه لنصرة أهل الكوفة، وتعبئتهم في النهوض إلى البصرة لنصرة إمام الحقِّ، وكان عامل الإمام علي(علیه السلام) على الكوفة آنذاك أبا موسى الأشعريّ(عبد الله بن قيس) يخذّل أهلها(1).

إنَّ أول إشارة إلى هذه المخالفة نقلها أبو حنيفة الدينوريّ عندما استنفر الإمام علي(علیه السلام) ابنه الحسن(علیه السلام)، وعمار بن ياسر أهل الكوفة بعد خروج طلحة، والزبير، وأم المؤمنين عائشة إلى البصرة طلباً بدم عثمان – كما يزعمون – فسارا حتى دخلا الكوفة، وأبو موسى يومئذ بالكوفة، وهو جالسٌ في المسجدِ والناس تُْحموِشوه، فقال له .

ص: 132


1- ينظر: موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 142 – 143 .

الحسن(علیه السلام): أخرج من مسجدنا وامضي حيثُ شئت، ثم صعد الحسن المنبر، وعمار صعد معه، فاستنفرا الناس، فخرج الناس، وكانوا تسعة آلاف، وستمائة وخمسين رجلاً، فوافوا عليّا بذي قار، قبل أنْ يرتحل، فلما همّ بالمسير غلس الصبح، ثم أمر منادياً فنادى في الناس بالرحيل، فدنا منه الحسن، فقال: يا أبتِ أشَرْتُ عليك حين قتل عثمان، وراح الناسُ إليك، وغدوا، وسألوك أنْ تقوم بهذا الأمر ألا تقبلَه حتى تأتيَك طاعة جميع الناس في الآفاق، وأشرْتُ عليك حين بلغك خروج الزبير، وطلحة بعائشة إلى البصرة أنْ ترجع إلى المدينة، فتقيم في بيتك وأشرت عليك حين حُوْصر عثمان أنْ تخرجَ من المدينة، فإن قُتِل قُتِل وأنت غائب، فلم تقبل رأي في شيء من ذلك(...) فقال له علي:

أما انتظاري طاعة جميع الناس من جميع الآفاق، فإن البيعة لا تكون إلاّ لمن حَضَر الحرمين من المهاجرين والأنصار، فإذا رضُوا وسلّموا وجب على جميع الناس الرِّضا والتسليم، أما رجوعي إلى بيتي والجلوس فيه، فإنَّ رجوعي لو رجعت، كان غدراً بالأمّة، ولم آمن أنْ تقع الفرقة، وتتصدّع عصا هذه الأمّة، وأمَّا خروجي حين حُوْصِر عثمان فكيف أمكنني ذلك، وقد كان أحاطوا بي كما أحاطوا بعثمان، فاكففْ عني، يا بنيَّ، عما أنا أعلمُ به منك»(1)، وبالغ الطبري في تصوير هذه المخالفة بينهما(علیه السلام) إلى حدّ العتاب واللوم، عندما بويع للإمام علي(علیه السلام) بالخلافة، وقد خرج عليه بعض الصحابة، فلما وقعت حرب الجمل، وانتهت، قال الحسن(علیه السلام) لأبيه(علیه السلام): أمرْتُك فعصيتني، فقال علي(علیه السلام): «إنّك لا تزال تَخِنُّ خنين الجارية ! وما الذي أمرتني، فعصيتُك» (2).

وقد اهتم طه حسين بهذه الرواية، فأشبعها بحثاً وتأويلاً كأنَّه عثر على آثار نفيسة، وثمينة في أهرامات مصر فأخذ يردّد قوليّ أبي حنيفة الدينوريّ، والطبري مع زيادة .

ص: 133


1- الأخبار الطوال: 145 – 146 .
2- تاريخ الأمم والملوك: 3/ 185 ، و 3/ 186 .

من خياله الخصب الذي عرف به، فألصق بالحسن(علیه السلام) هذه الشبهة، قال: «وكذلك استقبل علي خلافة المسلمين بما لم يستقبلها أحدٌ من الذين سبقوه، فلم يخالف أحدٌ من أصحاب النبيّ عن أبي بكر إلا ما كان من سعد بن عبادة (رحمة الله)، ولم يخالف أحد منهم من عمرَ، ولا من عثمان(...) ولعلّ الحسن بن علي قد أصاب الحقّ حين تحدّث إلى أبيه في طريقهما إلى البصرة بأن كان قد أشار عليه أنْ يعتزل أمر عثمان فترك المدينة، أيام الفتنة فلَحِق بمكة في بعض الروايات، أو يلحق بماله ب(يَنْبَع) في رواية أخرى، فأبى عليٌّ إلاَّ أنْ يَشْهد أمر الناس، ثم أشار عليه بعد مقتل عثمان أن يعتزل الناس إلى حيث شاء من الأرض، حتى تثوب إلى العرب عوازب أحلامها، وقال له: لو كُنْتَ في حُجْر ضبّ لٍاستخرجوك منه فبايعوك دون تعرض نفسك لهم، ثم هو يشير عليه في طريقه تلك بألاّ يأتي العراق مخافةَ أنْ يقتل بمَضْيَعة لا ناصرَ له فيها، ولكن عليّاً لم يقبل من ابنه شيئاً مما أشار به»(1)، وقال: «ولم يكن الحسن يرى أنْ يشترك أبوه في شيء من أمر الفتنة من قرب، أو بعد، وإنما أشار عليه أنْ يعتزل الناس، وأنْ يترك المدينة فيقيم في ما له ب(يَنْبع) فلم يسمع عليٌّ له، وإنما رأى أنَّ مكانه في المدينة حيث يستطيع أنْ يأمر بمعروف، أو ينهى عن منكر، أو يصلح بين الناس»(2)، وقد حَلَّق طه حسين في فضاء الخيال، والمغيبات، في كون الحسن(علیه السلام) كان باستطاعته أنْ يعتزل الفتنة كما فعلت المعتزلة من أصحاب النبيّ، لكنه عرف لأبيه حقّه عليه فلم يتركه، وشَهِد مشاهده كلها على غير حب بذلك، أو رغبة منه فيه(3)، ولم يكتفِ عميد الأدب العربي بذلك، فقد جعل مخالفة الحسن أباه خَصْلة من خصاله، وسجيّة من سجاياه، قال: «وكان أبوه يعصيه في كل ما كان يشير .

ص: 134


1- الفتنة الكبرى: 2/ 3.
2- م.ن: 2/ 176 .
3- ينظر م.ن: 2/ 176 .

عليه من ذلك، حتى بكى الحسن ذات يوم حين رأى ركاب أبيه تؤمّ العراق، فقال له أبوه: أنّك لتحِن حنين الجارية(...) ولم يفارق الحسن حزنه على عثمان(...) وربما غلا في عثمانيته حتى قال لأبيه ذات يوم ما لا يحب، فقد روى الرواة أنَّ عليَّاً مَرّ بابنه وهو يتوضأ، فقال له: أسبغ الوضوء، فأجابه الحسن بهذه الكلمة المرّة: «لقد قتلتم بالأمس رجلاً كان يسبغ الوضوء» فلم يزد على أن قال: لقد أطال اللهُ حزنك على عثمانَ» (1).

لا يخفى ما في هذه النصوص من افتراء على أمير المؤمنين علي(علیه السلام)، وعلى ابنه الحسن(علیه السلام)، فضلاً عن مجانبتها الصواب في أكثر الأحايين، ف(طه حسين) على الرغم من أنه كان موفّقاً في بعض أبحاثه بخصوص خلافة أمير المؤمنين، وخلافة ابنه(علیهما السلام)، إلاَّ أنه كان غير موفق في أبحاث كثيرة بهذا الشأن، ويبدو أن الاتّكاء على الروايات الضعيفة، والاستناد عليهما هو السبب الرئيس الذي أوقع طه حسين في هذا الخلط، قال باقر شريف القرشي معلّقاً على رواية مرور أمير المؤمنين علي(علیه السلام) بابنه الحسن(علیه السلام)

وهو يتوضأ: «وأما الرواية التي استند إليها الدكتور طه حسين لتدعيم قوله، فقد رواها البلاذريّ عن المدائني الذي عرف بالنصب والعداء لأهل البيت، وافتعال الروايات الحسنة في بني أمية» (2).

ومما له علاقة بهذا الأمر هو طاعة أبيه في أشد المواقف، وأحرج الظروف، ومنها اشتراكه(علیه السلام) مع أبيه في مشاهده كلّها، فكان يتململ بين يديّ أبيه(علیه السلام)، ليأذن له بالقتال فحينما احتدمت المعركة في البصرة زحف أمير المؤمنين علي(علیه السلام) نحو الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار، وحوله الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية(علیهم السلام)، ودفع الراية لابنه محمد بن الحنفية، وقال له: تقدم حتى تركزها .

ص: 135


1- الفتنة الكبرى: 2/ 176 – 177 .
2- حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 1 / 323 ، وينظر أنساب الأشراف: 5/ 81 .

في عين الجمل، فلما تقدم بها رشقته السهام فقال لأصحابه: رويداً حتى تنفذ سهامهم ولما أبطأ بها جاءه من خلفه ووضع يده اليسرى على منكبه الأيمن وقال له: أقْدِم لا أمَّ لك، وأخذ منه الراية، ودفعها إلى الحسن، فحمل الحسن(علیه السلام) على القوم، وفرّقهم عن الجمل، حتى انتهى إليه وطعنه في عينه، ثم دفعها إلى الحسين ففعل كما فعل أخوه الحسن(علیه السلام)(1). وكان الحسن(علیه السلام) من الذابّين عن عثمان بأمر أبيه(علیه السلام)، قال محمد الحسين آل كاشف الغطاء: «فإنّ الحسن سبط رسول الله(صلی الله علیه و آله) وابن بنته، وريحانته، وهولوداعته وسلامة ذاته محبوبٌ للنفوس لم يؤذِ أحداً مدّة عمره، بل كان كله خيرٌ وبركة، ولم تعلق به تهمة الاشتراك بقتل عثمان، بل قد يقال: إنّه كان من الذابّين عنه»(2). وهذا ما نذهب إليه، فقد عرف الحسن(علیه السلام) بالنخوة، وحقن الدماء، والدفاع عن المقدسات، فمنع الاعتداء، والشر.

إن الحفاظ على أرواح المسلمين غاية كُلّ مسلم،ٍ فما بالك بسبط المصطفى(صلی الله علیه و آله)، وبرعمه الذي لم يرض أنْ تهرق بسببه جِحممة دم مع معرفته، ودرايته بقاتله.

ثانياً: ميله(علیه السلام) إلى الدعة، وحب الشهوات

ص: 136


1- ينظر: سيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 491 .
2- حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 15 (مقدمة الكتاب بقلم الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء). وقد رفض الشيخ باقر شريف القرشي هذا الرأي جملةً وتفصيلا ، قال: «فإن الإمام الحسن(علیه السلام) وسائر البقية الصالحة من المهاجرين والأنصار كانوا في معزل عن عثمان، بل ومن الناقمين عليه، ولم يحضر من يدافع عنه في حصاره سوى بني أمية، وبعض المنتفعين منهم، ولو كان له أي رصيد في المجتمع؛ لما تمكن الثائرون من قتله، لقد اتفقت كلمة الصحابة على خذلانه، ولم تظهر منهم بادرة من بوادر المساعدة، والمؤازرة له، بل كانوا يمجّدون الثورة، ويبعثون روح الحماس في نفوس الثوار،وبعد هذا فكيف يخرق الإمام الحسن(علیه السلام) الإجماع، ويمضي للدفاع عنه». حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 1 / 331 .

من الشبهات التي وجهت إلى الحسن(علیه السلام) هو ميله إلى الدعة، وحب الدنيا، وإتباع الشهوات، وأنه لم يكن رجل سياسة، وإدارة، فالمبغضون له(علیه السلام) قد ناصبوه العداء، والخصومة، ولم يتركوا وسيلة من الوسائل الخبيثة إلاّ واستعملوها ضد بني هاشم، وضد الحسن(علیه السلام)، ومن الشبهات التي وجهت للحسن(علیه السلام) عدم قدرته على إدارة دفة الحكم، والخلافة وانهماكه في الركض وراء لذاته، وشهواته في كثرة تزويجه بالنساء وطلاقهن وما إلى ذلك من أنواع التهم.

وأهم شبهة وجهت له في هذا السياق هو زواجه المبالغ فيه، قال ابن رستم:

«وتزوّج سبعين مرّة، ومَلَك مائة وستين أمة في سائر عمره»(1)، وقال سبط بن الجوزي:

«طلق عبد الله بن عامر امرأته هند بنت سهيل بن عمرو فقدمت المدينة، ومعها ابنتها، ووديعة جوهر لابن عامر، فتزوّجها الحسن ثم أراد ابن عامر العمرة، فأتى المدينة فَلَقِي الحسن، فقال: يا أبا محمد إنَّ لي إلى ابنة سهيل حاجة فأذن لي في الدخول عليها، فقال لها الحسن: البَسِي ثيابك فهذا ابن عامر، يستأذن عليك فدخل عليها، فسألها وديعته(...) فقال: إن ابنتي قد بلغت، وأحب أن تخ بيني وبينها، فبكت، وبكت ابنتها، ورق لها ابن عامر، فقال الحسن: فهي لكما، فوالله، ما محلّل خير مني، فخجل ابن عامر، وقال:

والله ما أخرجتها من عندك أبدا، فكفلها الحسن حتى مات»(2)، ويبدو أنَّ هذه الروايات قد تسربت إلى كتب أتباع أهل البيت، قال المجلسي: «أتى رجلٌ أمير المؤمنين(علیه السلام) فقال له جئتُك مستشيراً: إنَّ الحسن، والحسين، وعبد الله بن جعفر (علیهم السلام) خطبوا إليّ، فقال:

أمير المؤمنين(علیه السلام): المستشار مؤتمن، أما الحسن، فإنّه مطلاق للنساء، ولكن زوّجها .

ص: 137


1- دلائل الإمامة: 62 .
2- تذكرة الخواص: 54 .

الحسين، فإنّه خير لابنتك»(1)، وقال طه حسين: «وكان بعد هذا كُلّه سُْحين كما أحسن اللهُ إليه، ولا ينسَ نصيبه من الدنيا، فكان فيما اتفق المؤرخون، والرواة عليه مزواجاً مطلاقاً، حتى أنكر أبوه عليه ذلك، ونهى الناس عن تزويجه، فلم ينتهوا، وكابروا أباه في ذلك مداعبين له»(2)، وأنا أسأل طه حسين هَل وقف على اتفاق الرواة، والمؤرخين؟!!.

وقد كفانا مؤونة الرد على هذه الشبهة باقر شريف القرشي، فهو يرى أنه مهما يكن من شيءٍ فليس عندنا دليل مثبت لكثرة أزواج الإمام، سوى هذه الروايات، وهي لا تصلح للاعتماد عليها نظراً للشبه والطعون التي حامت حولها، ويؤيد افتعال تلكم الكثرة أُمور:-

1. إنها لو صحت، لكان للحسن(علیه السلام) من الأولاد جمع غفير يتناسب معها، والحال أن النسابين، والرواة لم يذكروا للحسن(علیه السلام) ذرية كثيرة.

2. إن المناظرات التي جرت بين الحسن(علیه السلام)، وخصومه لم يجابه هؤلاء الخصوم الحسن(علیه السلام) بهذا الشيء كونه لا يصلح للخلافة، وأنه مشغول بالنساء فسكوتهم عن هذا الأمر، وعدم ذكرهم له مما يدل على عدم واقعيّته، وصحته، فضلاً عن ذلك فإن المندّدين بالسلم من أتباعه على الرغم من جرأتهم على الحسن(علیه السلام)، إلاَّ أنهم لم يذكروا هذا الأمر لعدم وقوعه أصلاً.

3. إنَّ قول أمير المؤمنين(علیه السلام) لابنه الحسن(علیه السلام): «لا تزوّجوا الحسن فإنَّه مطلاق»، فهو بعيد من وجهين: الأول: إن الحسن(علیه السلام) من أهل البيت، الذين أذهب عنهم الرجس، وطهّرهم تطهيراً. الثاني: فبعيد أيضاً؛ لأن الأولى بأمير المؤمنين(علیه السلام) أنْ .

ص: 138


1- بحار الأنوار: 10 / 179 .
2- الفتنة الكبرى: 2/ 192 .

يعرف ولده(علیه السلام) بكراهة هذا الأمر، ومبغوضيته وحده، لا على رؤوس الأشهاد(1).

وقد ذكر القرشي أسماء زوجات الحسن(علیه السلام)، وهُن ثلاث عشرة زوجة، وقد ترجم لثلاث منهنَّ:(خولة الفزارية، وجعدة بنت الأشعث، وعائشة الخثعمية)، والأخيرة هي التي طلقها الحسن(علیه السلام) فقط(2).

وقد زاد راضي آل ياسين الطين بلّة كما يعبرون، فقال: «ونسب الناسُ إليه زوجات كثيرات، صعّدوا في أعدادِهن ما شاءوا، وخَفِي عليهم أن زواجه الكثير الذي أشاروا إليه بهذه الأعداد، وأشار إليه آخرون بالغمز، والانتقاد، لا يعني الزواج الذي يختص به الرجل لمشاركة حياته، وإنما كانت حوادث استدعتها ظروف شرعية محضة من شأنها أنْ يكثر فيها الزواج، والطلاق معاً، وذلك هو دليل سمتها الخاصة»(3)، وهذا الكلام لا يصمد أمام البحث، والتحقيق، فضلاً عن العقل والمنطق، فما هي الظروف الشرعية المحضة التي من شأنها أنْ يكثر الحسن(علیه السلام) من الزواج، والطلاق معاً، وحَسب آل ياسين أنَّ هذا الأمر فضيلة للحسن(علیه السلام) ومزية، إلاَّ أنه من حيثُ لا يقصد قطعاً، فأضاف إلى الحسن(علیه السلام) هذه الشبهة(4)، وألصقها به، وهو أمرٌ لا يرضاه كرام الناس فضلاً عن سيد شباب أهل الجنة، وريحانة رسول الله(صلی الله علیه و آله)، وأشبه الناس خلقاً وخُلُقاً به(صلی الله علیه و آله).

ثالثاً: الإسراف والتبذير

من الشبهات التي تتنافى مع الإنسانية المثالية للحسن(علیه السلام) الإسراف، والتبذير .

ص: 139


1- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیه السلام) 2 / 453 – 454 .
2- ينظر: حياة الامام الحسن بن علي(علیه السلام) 2 / 464 .
3- صلح الحسن(علیه السلام) 26 .
4- ينظر: سيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 557 .

بالأموال، وتظهر هذه الشبهة على ألسنة الباحثين – وإن لم يصرّحوا بها – إلاَّ أنَّ الروايات الكثيرة التي نقلت عنه(علیه السلام) تظهرها جلية.

وقبل الوقوف على هذه الروايات، ومناقشتها لابد من القول: إنَّ الحسن(علیه السلام) قد عُرِف بكرمه، فكان جواداً، وقد تجلّت هذه المنقبة الرفيعة بأجلى مظاهرها، وأسمى معانيها فيه(علیه السلام) حتى لقب ب(كريم أهل البيت)، فهو لا يعرف للمال قيمة، ولا يرى له أهمية سوى ما يردّ به جوع جائع، أو يكسو به عارياً، أو يغيث به ملهوفاً، أو يفي به دين غارم(1). قال اليعقوبي: «وحَجّ الحسن خمس عشرة حجّة ماشياً، وخرج من ماله مرّتين، وقاسم الله(عزوجل) ثلاث مرّات، حتى كان يعطي نعلاً ويمسك نعلاً، ويعطي خفّاً ويمسك أُخرى»(2)، بمعنى: أن الحسن(علیه السلام) لا يكتفي بدفع الخمس فحسب كما هومقرّر في الفقه الإسلامي.

ومن المسائل التي لابد من الالتفاف إليها، ما جاء في أحد شروط السلم بينه(علیه السلام)،وبين معاوية، وهو: «استثناء ما في بيت مال الكوفة، وهو خمسة آلاف ألف فلا يشمله تسليم الأمر، وعلى معاوية أنْ يحمل إلى الحسين كُلّ عام ألفي ألف درهم، وأنْ يفضل بني هاشم في العطاء، والصلات على بني عبد شمس، وأنْ يفرق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل، وأولاد من قتل معه بصفين ألف ألف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجرد»(3)، وقد جعل هذا الشرط من الأسباب التي دعت الحسن(علیه السلام) إلى قبوله السلم مع معاوية، قال الطبري: «وقد كان صالح الحسنُ معاوية على أنْ جعل .

ص: 140


1- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 1 / 113 ، وصلح الحسن(علیه السلام): 29 .
2- تاريخ اليعقوبي: 2/ 157 .
3- صلح الحسن(علیه السلام): 259 ، وحياة الإمام الحسن بن علي(علیه السلام): 2 / 234 ، موسوعةالمصطفى والعترة(الحسن المجتبى): 5/ 261 ، وأعلام الهداية: 146 .

له ما في بيت ماله وخراج دار أبجرد، على ألا يُشْتَم عليٌ، وهو يسمعُ»(1)، وقال سبط بن الجوزي: «قال الشعبي: صالحه على أن يأخذ من بيت المال بالكوفة خمسة آلاف ألف،وأن لا يسب علي(علیه السلام)، وأشياء شرطها عليه، وكتبوا الكتاب فأعطاه مئة ألف دينار أخرى، وجميع ما كان في بيت مال الكوفة» (2).

إنَّ الروايات التي تنصّ على أن الحسن(علیه السلام) قد اشترط لنفسه ما في بيت المال بالكوفة، ومائتي ألف درهم في كلّ عام فضلاً عن ذلك خراج بعض المقاطعات في الأهواز، وتفضيل الهاشميين على بني عبد شمس وغيرهم في العطاء، هي من صنع الأمويين، وموضوعاتهم؛ ل سُريّخوا في الأذهان أن الإمام كان همَّه المال، وحُب الثروة، ولم تكن الخلافةُ وولايةُ أمر المسلمين همّه الأول، وإنه تخ عنها من أجل الدراهم والدنانير، ومن أجل انتقاص الحسن(علیه السلام) كونه لا يتحمل الضيم والمسؤولية، وقيادة المجتمع، وهذا الأمر – إن كان صحيحاً جدلاً – فالحسن أراد أن يحافظ على مال المسلمين؛ لأنه يعرِف أنه سيقع في أيادٍ غير أمينة مما يؤدي إلى خلف طبقات مترفة،وطبقات فقيرة(3)، فضلًا عن ذلك فإن الحسن(علیه السلام) كان في غنى عن صلات معاوية؛لأنَّ له ضياعاً كبيرة في يثرب كانت تدرّ عليه الأموال الطائلة، مضافاً إلى ما كان يصله من الحقوق التي يدفعها خيار المسلمين، وصلحاؤُهم له، زد على ذلك فإن الأموال التي يصله بها معاوية على صحة القول بذلك لم يكن ينفقها على نفسه وعياله(4).

وعودٌ على بدء، فإنَّ شبهة الإسراف والتبذير تظهر في الروايات الكثيرة التي دلّت .

ص: 141


1- تاريخ الأمم والملوك: 3/ 331 .
2- تذكرة الخواص: 22 .
3- ينظر: سيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 542 .
4- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 302 .

على كرم الحسن(علیه السلام) المبالغ فيه، وقد جاءت على ألسنة المؤرخين، والباحثين، لاسيّما الأمويون منهم من أجل الإضفاء على شرعية إسراف ملوك بني أُميّة، وتبذيرهم، وإتلافهم المال العام، فضلاً عن إعطاء تصور عام لبذخ بني هاشم، وحِلْم بني أمية، جاء في كشف الغمة: «قال معاوية: إذا لم يكن الهاشمي جواداً لم يشبه قومه، وإذا لم يكن الزبيري شجاعاً لم يشبه قومه، وإذا لم يكن الأموي حليماً لم يشبه قومه، وإذا لم يكن المخزومي تيّاهاً لم يشبه قومه، فبلغ ذلك الحسن(علیه السلام)، فقال: ما أحسن ما نظر لقومه أراد أنْ يجود بنو هاشم بأموالهم فتفتقر، وتزهى بنو مخزوم فتبغض وتشنأ، وتحارب بنو الزبير فيتفانوا، وتحلم بنو أمية فتحب» (1).

وسنذكر بعضاً من هذه الروايات خشية الإطالة والإطناب، وسيراً مع سنن البحث العلمي، ومنهجه.

1. «إنَّ رجلاً جاء إليه(علیه السلام) وسأله حاجةً، فقال له: يا هذا حق سؤالك يعظم لديّ، ومعرفتي بما يجب لك يكبر لديّ، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثيرفي ذات الله(عزوجل) قليل، وما في ملكي وفاءً لشكرك، فإن قبلت الميسور، ورفعت عني مؤونة الاحتفال، والاهتمام لما أتكلفه من واجبك، فعلتُ؟ فقال: يا ابن رسول الله أقبلُ القليل، وأشكر العطية، واعذر عن المنع، فدعا الحسن(علیه السلام) بوكيله، وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها، فقال: هات الفاضل من الثلاثمائة ألف درهم، فأحضر خمسين ألفاً، قال: فما فعل الخمسمائة دينار؟ قال: هي عندي، قال أحْضرها، فأحضرها، فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل، فقال: هات من يحملها لك، فأتاه بح لّامينِ فدفع الحسن(علیه السلام) إليه رداءه لكرى الح لّامينِ، فقال مواليه: واللهِ ما بَقي عندنا دِرْهم، فقال: .

ص: 142


1- كشف الغمة: 1/ 537 .(تَيَّاها ) أي متكبرا .

لكني أرجو أنْ يكون لي عند الله أجر عظيم» (1).

2. قال الأربلي: «وروي عن ابن سيرين، قال: تزوّج الحسن امرأةً، فأرسل إليها بمئة جارية مع كُلّ جارية ألف درهم»(2). والذي يعجب له كيف مرّت هذه الرواية بسلام من أقلام الكتبة الكبار ممن كتبوا عن الحسن(علیه السلام)، وقد تماشوا معها ناقلين إياها من دون تعليق وبيان.

3. قال ابن الصباغ: «وعن الحسن بن سعد عن أبيه، قال: متّع الحسن بن عليّ(علیه السلام) امرأتين من نسائه بعد طلاقهما بعشرين ألفاً، وزقاق من عسل، فقالت: إحداهما وأراها الحنفيّة: متاع قليل من حبيب مفارق»(3)، أكتبُ هذه الرواية وأنا خَجل من سيد شباب أهل الجنة، وريحانة المصطفى(صلی الله علیه و آله)؛ لما فيها من سذاجة الطرح، وسقوط المضمون،والنفوس تشمئز من سماعها قبل الآذان.

4. «روى المدائني قال: خرج الحسن، والحسين، وعبد الله بن جعفر حجّاجاً ففاتتهم أثقالهم، فجاعوا، وعَطِشُوا، فرأَوا عجوزاً في خباء، فاستسقوها فقالت: هذه الشويهة احلبوها، وامتذقوا لبنها، ففعلوا واستطعموها، فقالت: ليس لي إلاًّ هذه الشاة، فليذبَحْها أحدكم، فذبحها أحدهم، وكشطها، ثم شوت لهم من لحمها فأكلوا(...) فلما نهضوا، قالوا: نحنُ نفرٌ من قريش نريد هذا الوجه، فإذا عُدنا، فألمي بنا، فإنا صانعون بك خيراً، ثم رحلوا فلما جاء زوجها، أخبرته فقال: ويحكِ تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم،ثم تقولين: نفرٌ من قريش، ثم مضت الأيام فأ تَْرض بها الحال، فرحلت حتى اجتازت .

ص: 143


1- م.ن: 1/ 523 ، وينظر: الفصول المهمة: 149 ، وحياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 1 / 116 – 115.
2- كشف الغمة: 1/ 524 .
3- الفصول المهمة: 150 .

بالمدينة، فرآها الحسن(علیه السلام) فعرفها، فقال لها: أتعرفينني؟ قالت: لا، قال: أنا ضيفك يوم كذا وكذا، فأمر لها بألف شاة، وألف دينار، وبعث بها إلى الحسين(علیه السلام) فأعطاها مثل ذلك، ثم بعثها إلى عبد الله بن جعفر، فأعطاها مثل ذلك»(1). وعجبي يزداد من قبول هذه الرواية من كتبة كبار فرحين بروايتها، وهي قصة مريحة في تلفيقها؛ لأن المتتبع لا يجد عنتاً، ونَصَباً في الاهتداء إلى مواضع التلفيق فيها، فلا يخفى على قارئ من قرّاء العصر الحاضر موضع التلفيق فيها، من جهة اجتماع الحسن والحسين(علیهما السلام)، وعبدالله بن جعفر في الصحراء، ورؤيتهم لهذه العجوز، وقيامها بذبح، هذه الشاة المسكينة وشوائِها، و لم يُعطها هؤلاء(علیهم السلام) شيئاً مقابل صنيعها هذا.

وقد مضى باقر شريف القرشي في التحليق في فضاء الخيال، فقال: «يا أمة الله إنا نفرٌ من قريش نريد حجّ بيت الله الحرام، فإذا رَجَعْنا سالمين فهلمّي إلينا لِنُكَافئك عن هذا الصنع الجميل، ثم انصرفوا لشأنهم ولمّا عَنَّ غياب القرص عن السماء أقبل رب البيت على عادته، فأخبرته العجوز بالقصة، فاستولى عليه الغضب؛ وذلك لأن الشاة هي مصدر القوت وإدرار الرزق عليهم، فقال لها: ويحك: أتذبحين الشاة لأُناس لا تعرفينهم ثم تقولين إنهم نفرٌ من قريش؟، وطوى الدهر عجلته، فمضت سنة، وأقبلت أخرى، فاعترت البادية أزمة شديدة؛ لأن السماء قد منعتها قطرها حتى قلت موارد العيش، وانعدمت أسباب القوت، فرحلا عن البادية، ونزلا المدينة، ولم يجدا عملاً يحيطان به خبراً سوى التقاط البَعر من الطرقات والشوارع، فاتخذا ذلك مهنة لهما، وفي يوم من الأيام، وهما على عملهما أرادت السعادةُ أن تحنو عليهما، فلمح الحسن(علیه السلام) العجوز فعرفها، وقد حلّ وفاء الدين، والمعروف في ذمة الأحرار دين، فأمر(علیه السلام)1.

ص: 144


1- صلح الحسن(علیه السلام): 29 ، وينظر: كشف الغمة: 150 ، وحياة الإمام الحسن بن علي(علیه السلام): 118 – 116 /1.

غلامه أنْ يأتي بها إليه، فلما مثلت بين يديه قال(علیه السلام) لها: أتَعْرِفيني يا أمة الله؟ فقالت:

لا، قال: أنا أحدُ ضيوفك يَوم كذا، سنة كذا، فقالت: لست أعرفك، إن لم تعرفيني،فأنا أعْرِفَك، ثم أمر(علیه السلام) غلامه، فاشترى لها من غنم الصدقة ألف شاة، وأعطاها ألف دينار، ثم أمر(علیه السلام) غلامه أن يذهب بها إلى أخيه الحسين(علیه السلام) ويعرّفه بها، فأخذها الغلام، فلما دخلت عرفها الحسين(علیه السلام) فقال للغلام: كم أعطاها أخي؟ فأخبره الغلام بعطائه، فوصلها(علیه السلام) بمثل ذلك، ثم بعث الحسين بها إلى عبد الله بن جعفر، فلما دخلت عليه عرفها، فأمر لها بألفي شاة، وألفي دينار، فأخذت ذلك جميعاً وانصرفت، وقد تغ حالها من فقر مدقع إلى غناء وثروة حسدها عليه كل من عرفها»(1) والغريب أن هذه الرواية مصدرها علي بن محمد بن عبد الله البصري الشهير ب(المدائني)(ت 225 ه-)، وقدحكم عليه القرشي بالضعف في الرواية، وكونه لا يعوّل على أحاديثه، ومروياته وفاقاًلما جاءت به مصادر الجرح والتعديل، وقد امتنع مسلم من الرواية عنه في صحيحه(2).

5. «تنازع رجلان هاشمي، وأموي، قال هذا قومي أسمح، وقال هذا: قومي أسمح، قال: فَسَلْ أنت عشرة من قومك، وأنا أسأل عشرة من قومي، فانطلق صاحب بني أمية فسأل عشرة، فأعطاه كلّ واحدٍ منهم عشرة آلاف درهم، وانطلق صاحب بني هاشم إلى الحسن بن علي فأمر له بمئة وخمسين ألف درهم، ثم أتى الحسين، فقال: هلْ بدأت بأحد قبلي؟ قال: بدأتُ بالحسن، قال: ما كنت أستطيعُ أنْ أزيد على سيّدي شيئاً، فأعطاه مِئة وخمسين ألفاً من الدراهم، فجاء صاحب بني أمية يحمل مئة ألف درهم من عشر أنفس، وجاء صاحبُ بني هاشم يحمل ثلاثمائة ألف درهم من نفسين، فغَضِب صاحب بني أمية، فردّها عليهم فقبلوها، وجاء صاحبُ بني هاشم فردّها عليهما، فأبيا .

ص: 145


1- حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 1 / 116 – 118 .
2- ينظر: م.ن: 2/ 450 .

أنْ يقبلان، وقالا: ما كنّا نبالي، أخذتها، أمْ ألقيتها في الطريق» (1).

هذه الرواية – بلا شك – تضحك الثكالى، وتبكي الفرحين، فكيف رواها راضي آل ياسين وهو محقق بارع من دون التعليق عليها، ونقدها، لاسيما عندما أراد الهاشمي أن يرجع المال إلى الحسن، والحسين(علیهما السلام)، فرفضا قبوله، وقالا له: ما كنا نبالي أخذتها أم ألقيتها في الطريق، أهكذا يتصرف في المال، وهما سيدا شباب أهل الجنة، وإمامان من أئمة المسلمين، وقادتهما، فعملهما لا يصدر من عوام الناس، فما بالك بإمامين معصومين؟!.

والحمد لله الذي جعل الشيخ راضي آل ياسين يكتفي بهذه الروايات، فقال:

«وأخبار كرمه كثيرة لسنا بسبيل استقصائها» (2).

ولابد من القول: إنّه إذا وُمتُدي في هذا الجانب من الروايات الضعيفة مما جاءت لبيان كرم الحسن(علیه السلام) المبالغ فيه، والذي يدخل في المغيّبات، والخيال، فإننا سنصل إلى نتائج خطيرة لا تحمد عقباها في فهم سيرة الإمام الحسن(علیه السلام)، وغيره من الأئمة(علیهم السلام).

وهذا ما حدث عملاً، فقد تجرّأ الباحثونَ والمستشرقون على سبط المصطفى(صلی الله علیه و آله) بسبب هذه الروايات الضعيفة، والمكذوبة، ومنهم الأب المسيحي(هنري لامنس) الذي تمادى بكل أريحية، واطمئنان، وثقة، ليكيل السب والشتم بالحسن(علیه السلام) فقال: «يلوح أن الصفات الجوهرية التي كان يتصف بها الحسن هي الميل إلى الشهوات والافتقار إلى النشاط والذكاء، ولم يكن الحسن على وفاق مع أبيه وأخوته(...) وقد أنفق سني شبابه في الزواج والطلاق، فأحصي له حوالي المائة زيجة عداً، وألصقت به هذه الأخلاق .

ص: 146


1- صلح الحسن(علیه السلام): 30 .
2- صلح الحسن(علیه السلام): 30 .

الشائبة لقب المطلاق، وأوقعت عليّاً في خصومات عنيفة، وأثبت الحسن كذلك أنَّه مبذر كثير السرف، فقد اختص كلاً من زوجاته بمسكن ذي خدم وحشم، وهكذا نرى كيف كان يبعثر الأموال أيام خلافة عليّ التي اشتد عليها الفقر(...) كان متراخياً كسلاناً فكر فقط في إبرام معاهدة مع معاوية(...) حسن طلب لنفسه مبلغاً من خمسة ملايين، ودخل مقاطعة في بلاد فارس(...) ليعود إلى المدينة وهناك استرجع حياة البهجة والانغماس في الملذات المعتادة(...) حسن مات بمرض السل أو الهزال، ربما عجّل ذلك إفراطه في الملذات»(1)، ولاشك أن لامنس قد أفاد من هذه الروايات المكذوبة في المصادر الإسلامية التي تتهجم على سبط رسول الله(صلی الله علیه و آله) وتشوه سيرته، وتتهمه بأبشع الاتهامات، وأبعدها عنه، من أجل إرضاء معاوية، وحزبه، وقد أسهبت المصادر الإسلامية ك(تاريخ الطبري، والأخبار الطوال، والطبقات الكبرى لابن سعد وعنه أخذ من جاء بعده)(2). .

ص: 147


1- سيرة النبي وأهل البيت بين تزييف المسلمين، ومناهج المستشرقين الأب(هنري لامنس)أنموذجا : جواد كاظم النصر الله، وشهيد كريم محمد: 13 (بحث).
2- ينظر: م.ن: 13 ، والطبقات الكبرى: ابن سعد: 6/ 374 – 377 .

ص: 148

الفصل الثالث: آلياتُ الحسن(علیه السلام) في تَجَلِّي معالم الإنسانية المثالية

اشارة

ص: 149

ص: 150

إنَّ تراث الحسن(علیه السلام) يُمثل منظومة إنسانية مثالية، فخطبه، ورسائله، ووصاياه، وحِكَمه كلها ذات طابع إنساني محض، والمتأمل والمدقق في تراثه(علیه السلام) يجد هذه الحقيقة واضحة.

إن هذا التراث السامي الخالد لا يمكن سبرُ أغواره، والإحاطة بأسلوبه؛ لأنه زاخرٌ بالمعاني، والدلالات الإنسانية العميقة، والمتنوعة، فهو نتاج عقل جبار، وفذ، وقد أفاد من المرجعيات المتكاملة، والعالية متمثّلة بكتاب سماوي معجز، وسنة مطهرة شريفة، وتراث بياني من أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام).

إذا تفحصنا تراث الحسن(علیه السلام) نراه موزعاً بين أنْ يكون نصوصاً شفاهية تتمثل في خطبه التي ألقاها، أو كتابيّة تتمثل في رسائله التي دارت بينه(علیه السلام)، وبين معاوية، وقد تكون نصوصه وصايا، أو حِكَماً أجاد بها لسانه الشريف، وإن الذي شكّل حضوراً بيّناً عند الحسن(علیه السلام) خطبه، ورسائله، وتتجلى وظيفة الخطبة في: «الدفاع عن الرأي وتنوير الرأي العام في أي أمرٍ من الأمور، والحضّ على الإقناع بمبدأ من المبادئ، والتحريض

على اكتساب الفضائل، والكمالات، واجتناب الرذائل والسيئات، وإثارة شعور العامة،وإيقاظ الوجدان والضمير فيهم»(1)، أمّا الرسالةُ، فتعرف بأ اّهن «ما يكتبه امرؤٌ إلى آخرٍمع اِّربً فيه عن شؤون خاصة، أو عامة»(2)، فالخطبة، والرسالة متشاكلتان في أنهما كلام لا يلحقه وزنٌ، ولا تقفيه، وقد يتشاكلان أيضاً من جهة الألفاظ والفواصل، فألفاظ الخطباء تشبه ألفاظ الكتاب في السهولة والعذوبة، وكذلك فواصل الخطبة مثل فواصل .

ص: 151


1- المنطق: محمد رضا المظفر، منشورات دار العلم، قم، إيران: 3/ 368 .
2- المعجم الأدبي: جبور عبد النور، ط 1، دار العلم للملايين، بيروت – 1979 م: 122 .

الرسالة ولا فرق بينهما، إلاّ أنْ الخطبة يُشَابه بها، والرسائل يكتب بها(1).

ولا ريب أنَّ هذا التراث يمثل منظومة مهمة في تج معالم الإنسانية المثالية لديه(علیه السلام)، وله الأثر الواضح في إصلاح المجتمع، والتعايش السلمي، وحقن الدماء، والكرم، والحِلْم، وحبّ الناس وغيرها.

إنَّ المهمة التي كان يجب أنْ يقومَ بها الحسن(علیه السلام) هي مهمة صعبة، ومعقدة، وبعيدة المدى، وملأى بالمخاطر، والعقبات، فكان البيانُ حاضراً، وآخذاً موقعه في إزالة العقبات، وتوجيه مسيرة الأمّة إلى الطريق الآمن، والعدل المخطط له.

إنَّ الحسن(علیه السلام) كان داعية سلام دائم عن قوّة لا عن ضعف، وكان يحافظ على دماء المسلمين من أنْ تنزف في سبيل أغراضٍ شخصية، وهو يضربُ مثلاً عالياً للأمة في كون القوة لا تكون دائماً في الحرب، وإنما قوةُ القوةِ تكون في السلام، ومن هنا كان لزاماً علينا أن نقف وقفة صبور عند خطبه(علیه السلام)، ورسائله، ووصاياه، وحكمه؛ لتكوين صورةٍ مشرقة تفيد منها الأمّة.

إنَّ بيان الآليات، والأدوات، ودراستها التي مثّلتها خطبه(علیه السلام)، ورسائله، ومواقفه ووصاياه، وحكمه تفتح لنا الباب على مصراعيه؛ لنقف طويلاً عند هذه الإنسانية المثالية، وما أحوجنا إليها في يومنا هذا !!

إنَّ الإحاطة بهذه الآليات، وتحديدها، يكشف لنا جوانب جديدة في فكر الحسن(علیه السلام) الإنساني، وثقافته، ويكشف لنا تكامل هذه الشخصية، وتفرّدها بأدب الحوار، والارتفاع بمسؤولية المناقشة والجدال المحمود، والإقناع السلميّ، وعمق .

ص: 152


1- ينظر: كتاب الصناعتين(الكتابة والشعر): أبو هلال العسكري: تحقيق: علي محمد البجاوي،ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصريّة، بيروت، 1998 : 136 .

الهدف الذي أعطاه(علیه السلام) من حياته، وفكره، وجهاده، وإنسانيته المثاليّة(1).

لقد كان ديدن الحسن(علیه السلام) إسعاد الناس، والأخذ بأيديهم إلى الخير، والنجاة من خلال غرس القيم الإسلامية الإنسانية في نفوسهم، فأدب الحوار المتمثل بالألفاظ الطيّبة النافعة، وصدق الوقائع ومطابقتها للواقع، وكلماته الذهبية الإنسانية، فضلاً عن قوة إقناعه كونه قائداً للأمة، وإماماً كان لها القَدَحُ المُعَ في إنسانيته المثالية، وهذا ما سنبسط الحديث عنه.9.

ص: 153


1- ينظر: رسائل الإمام الحسن(رضی الله عنه): زينب حسن عبد القادر، مطبوعات الشعب، مصر،1411 ه- 1991 م: 9.

ص: 154

المبحث الأول: أدب الحوار

اشارة

إنَّ الدعوة إلى العمل الإنساني تجعل المسلم يستنفر طاقاته الفكرية، والعملية كلّها من أجل أن يَعرِف كيفيّة التعامل مع الواقع بأساليب جديدة. إن الأسلوب، وطريقة العرض، وبيان الآراء لها دور في الدعوة إلى العمل الإنسانيّ.

وقد دعا البارئ(عزوجل) إلى أدب الحوار، والدعوة إليه بالحكمة، والموعظة الحسنة، وكون الجدال البناء هو الجدال المثمر المحمود، الذي تعرض فيه الأدلّة والحجج، قال تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»(النحل/ 125 )، فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وهي صواب الأمر، وسداده، ومن هنا نجد أنَّ صفة الحكمة تلتقي في كلامنا ب(الخبرة)، و(المران)، و(التجربة)، فيعدّ الإنسان المزوّد بهذه الدلالات إنساناً حكيماً؛ لأنَّ له من تجاربه، وخبراته، ومرانه ما يساعده على إعطاء الرأي الصائب، ويمنح خطواته، وأعماله صفة التركيز، وعدم الانحراف، والانزياح، والاهتزاز(1).

وعلى ضوء ذلك يمكننا إطلاق هذه الصفة على العالم، والعادل، والحليم، والنبيّ؛ .

ص: 155


1- ينظر: أسلوب الدعوة في القرآن الكريم: محمد حسين فضل الله، ط 4، د.ط، بيروت، -1422 ه- 2001 م: 39 .

لأن هذه المبادئ التي اشتمل عليها وهي العلم، والعدل، والحلم، والنبوة، تساعد على أن يضع الأشياء في مواضعها، في العلم يبحث، ويفكر، ومن الحلم عندما يعفو ويصفح ويسامح، وفي العدل عندما يقضي ويحكم، وفي النبوة عندما يدعو ويبلغ(1).

ومن هنا فإنَّ أيَّ مبدأ لا يستطيع أنْ يدّعي لنفسه ضمانة البقاء لمدّة طويلة فضلاً عن ضمان البقاء إلى يوم القيامة من دون أنْ يعترف بضغوط الواقع ومتطلباته المختلفة من حين لآخر مع الاحتفاظ الكامل بالمعالم الحقيقية المميزة له، ومن دون أنْ يمتلك مرونة تتج في مواد نظامه، وبرامجه العلمية نفسها.

إن الآية المباركة «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(النحل/ من الآية 125) تحقّق لنا أمرين مهمين، الأول: الاحتفاظ بالدعوة عقيدة حيّة متفاعلة، قد يكون الضغط نفسه أثره في تنميتها، الآخر: توفير المناخ الملائم لعملها في سبيل الانتشار في القلوب، والحفاظ على حياة العناصر البشرية، وهي المدد الضروري لانتشار أيّ مبدأ(2).

إنَّ عملية تحويل الخلاف الفكري إلى صراع عملي، وسبّ، ونظرات احتقار، وتقسّم وتوزّع، وتآمر وانتقام من أكبر علل الانحسار، أليس هذا قرآننا العظيم يعلم الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله) أسلوباً في المحاورة ما أبهاه !، حينما يقول على لسان مصطفاه(صلی الله علیه و آله) مخاطباً الذين لا يؤمنون: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ»(سبأ/ من الآية 24). .

ص: 156


1- ينظر: اسلوب الدعوة في القرآن الكريم: 40 .
2- ينظر: من حياة أهل البيت: محمد علي التسخيري: دار التعارف للمطبوعات، بيروت، د.ت: 119 .

إنَّ على «كُلّ طائفة تسعى نحو الحقيقة أن تؤدّب أتباعها بأدب الإسلام، وأن تهذّب عامتها بحيث يعُون حقيقة واحدة، هي التي يؤمّل لها أنْ تقود البشرية إلى الخير، ومن ثم يتركون الخلاف – إن لم يكونوا أهلاً – إلى المفكّرين، وحينها يتج النهار، تلك الحقيقة هي الإسلام دين الرقي، والتعاون، والسعادة» (1).

إنّ إدخال عنصري الكلمة، والاستنباط أمرٌ ضروري في دراسة إنسانية الحسن(علیه السلام) المثالية، وفهمها الفهم الصحيح، من أجل الوصول إلى النتائج المقبولة، والصائبة في بيانها.

إن تراثه(علیه السلام) كان موجّهاً في الغالب إلى ثلاثة مخاطبين:-

1. الناس عامة، وهذا الوسط من المخاطبين يتوافر على أنماط مختلفة منهم من كان موالياً، ومنهم من لم يكن موالياً، ونلمح في خطابهم موضوعات الحث على التح بالأخلاق الفاضلة، والدعوة إلى القيم الإنسانية الرفيعة.

2. معاوية وأتباعه، وهم الذي كانوا يمثلون الحزب المعارض، للخليفة،والإمام(الحسن)(علیه السلام)، تتج فيه الأدلّة، والحجج التي تشعّ بالصدق.

3. أهله وخاصته، ويبدو عليها الاقتصاد اللغوي، وتكثيف العبارات، لأنهم ذوو أفهام ثاقبة، يكتفون بالإيجاز.

إنَّ كلام الحسن(علیه السلام) «ينزع إلى كلام أبيه، وجدّه، ومحلّه من البلاغة لا ينبغي لأحد من بعده، ومَنْ رام حصره، وعدّه كما كان، كمَنْ شرع في حصر قطع السحاب وعدّه، فالأولى أن اقتصر منه على هذا القدر، إذا كانت جملته غير داخلة في الحصر، والعاقل يرى .

ص: 157


1- من حياة اهل البيت: 101 .

في الهلال صورة البدر» (1).

وكان الحسن(علیه السلام) يتدفّق في حواراته، ومناظراته تدفق السيل الهادر يهتك الأستار والحُجُب، كاشفاً مكر الحزب المعارض وأتباعه، وخديعتهم.

إن التراكم الثقافي للحسن(علیه السلام) جعلته يمتلك مؤهلاتٍ أدبيّة عالية، أفادته في ظهور المهارات الرفيعة الرشيقة في الحوار، والاتّصال عبر الخطابات المتبادلة مع الآخرين.

وقد سدّد(علیه السلام) لخصومه سهاماً من منطقه الفيّاض، فيرديهم عَْرصى، يلاحقهم العار والخزي، وكان يجيبهم بقوة الكلام، والحجّة، وصدق العبارة فكُتب له النصر، والظفر في المناظرات كلّها(2).

وعلى الرغم مما كان يعرفه الحسن(علیه السلام) من دهاء الحزب المعارض، ومكره، فقد أبى أن يُعلن الحربَ إلاَّ بعد أنْ كتب(علیه السلام) إليه المرّة بعد المرّة، يدعوه إلى جمع الكلمة، وتوحيد أمر المسلمين، وحقن الدماء.

وتتجلى المعالم الإنسانية المثالية عند الحسن(علیه السلام) من خلال أدبيّة الحوار، لاسيّما استعماله اللغة المهذّبة الطيّبةُ، والصدق الفني، والاقتصاد اللغوي في رسائله، وأقواله الحِكَمِيّة القصار، وهذه السمات التي انمازت بها أدبية الحوار عنده(علیه السلام) ستكون محطّ عنايتنا في هذا المبحث. .

ص: 158


1- كشف الغمة: 1/ 538 .
2- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 302 – 304 .

أولاً: اللغة المؤدّبة المهذّبة

مما لا شكّ فيه أن الدعوة إلى الحوار والمجادلة تكون بالتفاهم والعقلانية،والموضوعيّة، ومن مصاديقها استعمال اللغة الخطابيّة الجميلة المهذّبة المؤدّبة، لا اللغةالخطابية الحادة النبرة، ذات الألفاظ النابية غير اللائقة، ويظهر هذا المبدأ الإسلامي جليّاً في قوله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ»(فصّلت/ من الآية 34 )، فالخطاب المهذّب المتّزن يجعلُ العدوّ بُحمّاً وصديقاً.

إنَّ القول اللّ يتيح للفكرة أنْ تحافظ على هدُوْئها بعيداً عن جوّ الحماس والتحدّي، ويفسح للداعية أنْ يملك زِمام نفسه بعيداً عن جوّ الإثارة، والصخب، ويعطي للمخاطبين مجال التأمل والتفكير، من دون أن يتعرّضوا لهذه المفاجأة العنيفة التي تثير أعصابهم، وتتركهم يعيشون في إطار الذات والشخصية بعيداً عن الفكرة والتفكير، ومن هنا جاء التوجيه منسجماً مع الحكمة، ومنطبقاً على الموعظة الحسنة في قوله تعالى: «اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»(طه/43 – 44 )، فاللِّين ضد الخُشُونة، ويستعمل في الأجسام ثم يستعار للخُلُق وغيره من المعاني فيقال: فلان لَ ،ِّنيٌ وفلان خَشِنٌ(1)، والقول اللِّين هو: «القول الرقيق تتقبله النفسُ بقَبول حسن» (2).

ونستطيع أنْ نلمح في النص القرآني في التعبير ب(لعلّ) التي تدلّ على الترجّي الذي يعطي قرب حصول الفعل، فلابد للداعية من أنْ يلاحظ في الأسلوب قابليته للتأثير في قرب حصول الفعل، وتعجيله، فلا يكون الترجّي منطلقاً من الواقع الشخصي .

ص: 159


1- ينظر: مفردات ألفاظ القرآن:(لين): 752 .
2- معجم ألفاظ القرآن الكريم: مجمع اللغة العربية(القاهرة): محمد علي النجار: الهيأة العامة لشؤون المطابع الأميري، القاهرة، 1417 ه - 1996 م: 5/ 152 .

للمخاطب بقدر ما يكون جارياً مع الطبيعة المرنة للأُسلوب(1).

وهذا ما ينظر في أسلوب الحسن(علیه السلام) الذي يسمو على الاضطهاد، ويرتفع عن الظلم، فلا يثور ولا يغضب عندما تفاجئه الشتائم، أو تهاجمه التهم، فهو يحاول أنْ يتحدّى العاصفة الحقود، والرياح العاتيات بهدوء الرسالة، واستعمال الكلمات المتزنات الواثقات الهادئات المطبّبات التي تنساب بهدوء مشعة، ومتوهجة بدلالات الرفق بالمخاطبين على الرغم من جفائهم، وهي سمة واضحة، فنحنُ – إذا ما تصفحنا تراثه(علیه السلام)- ولاسيّما خطبه ورسائله لم نجد فيها كلمة تستغرب من مثله، أو تتجاوزحدّ الحجّة التي تنهض بحقّه(علیه السلام) في الخلافة، وفيما فرضه الله(عزوجل) من مودّة أهل البيت(علیهم السلام)، وفيما سجله القرآن الكريم من الحكم بطهارتهم من الرجس، أو لوّح إليه من ولايتهم على الناس، والدعوة إلى الطاعة، وحقن الدماء، وإطفاء النائرة، وإصلاح ذات البين، فتأمل خطبته البليغة الطويلة التي خطبها بعد استشهاد أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام)، وهو(علیه السلام) يردّ على معاوية بكلمات مؤدّبة مهذّبة من دون أنْ يناله بسبّ، أو بشتم بعد أن نال معاوية من أبيه(علیه السلام)، انسجاماً مع روح الإنسانية المثاليةالتي يتح بها الحسن(علیه السلام)، هذه الروح التي لا تعرِف كلمات السب، والشتم، بل تعرف القول اللين الذي تعشقه النفوس، وتستطابه الآذان، فقال(علیه السلام): «أيها الذاكر عليّا: أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأُمّي فاطمة، وأُمُّك هند، وجدّي رسول الله، وجدّك عتبة بن ربيعة، وجدتي خديجة، وجدتك قَتِيلة، فَلَعَنَ اللهُ أخْملنا ذِكْراً، وأ مْألَنا حَسَباً، وشَرّنا قِدَماً، وأقدمنا كُفْراً ونِفَاقاً» (2).

لقد كان الحسن في حواره، ومجادلته عفَّ اللسان، لا يخرج من فمه الطاهر إلاَّ الكلام .

ص: 160


1- ينظر: أسلوب الدعوة في القرآن الكريم: 79 .
2- مقاتل الطالبيين: 46 ، وينظر: شرح نهج البلاغة: 4/ 16 ، وصلح الحسن(علیه السلام): 256 .

الحق المملوء حياءً، وبهاء وحلاوة، محترزاً من الكلام غير اللائق مع أشد خصومه، وهذا من أدب الحوار الذي عرف به مَنْ طَهُرت سيرته، ونَقِيت سريرتُهُ، انظر إلى كلام الحسن(علیه السلام) وقد جيء بجاسوسين إليه، قد نشرهما معاوية، وبثّهما في البصرة والكوفة من أجل تنفيذ الخطط المقرّرة لهما وقد قبضت ال طّرشة عليهما، رفع الحسن(علیه السلام) مذكّرة إلى معاوية مهدِّداً فيها ومتوعّداً بأسلوب مِلْؤُه الأدب والنبل، والطهارة على الرغم من جلل الأمر، وفداحته، فقال(علیه السلام): « :

فإنَّا وَمَنْ قَدْ مَاتَ مِنّا لَكَالَّذِي

يَرُوْحُ فَيُمْسِي المَبِيْت لِيَغْتَدِي

فَقُلْ لِلّذي يَبْغي خِلاَفَ الذِّي مَضی

تهَجَّزْ لأُِخْرَى مِثْلَها فَكَأنْ قَدِ» (1)

وقد اشترط الحسن(علیه السلام) على معاوية في سلمه معه أنْ يترك سبَّ أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام)، قال ابن الصباغ المالكي: «منها أن لا يتعرّض عماله إلى سب أمير المؤمنين على المنابر، ولا ذكره بسوء، ولا القنوت عليه في الصلوات»(2)، وهو عمل شنيع له آثار سلبية في المجتمع، فالإنسانية التي جُبلت على حُبّ الناس، وعدم الإيذاء تمجّ هذا الفعل ولاسيما سبّ إمام عادل، وخليفة بايعه المسلمون، فاندفع معاوية بطاقاته كلّها، وقواه إلى النيل منه(علیه السلام)، وإلى الحطّ من شأنه بكلمات نابية، وغير لائقة.

إنَّ سب أمير المؤمنين(علي(علیه السلام))، واحتقاره، وانتقاصه قد حرّمه الله(عزوجل)،لكنّ معاوية لم يكترث، ولم يرعوِ لهذا الأمر، فإنَّه أخذ بعد إبرام السلم، والهدنة مع الحسن(علیه السلام) يسبُّ أمير المؤمنين(علیه السلام)، وقد جرّأ ولاته، وعماله على هذا العمل المشين، .

ص: 161


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 16 / 31 ، وينظر: الفصول المهمة: 153 ، وحياة الإمام الحسن بن عليّ(علیه السلام): 2 / 46 .
2- الفصول المهمة: 154 ، وينظر: صلح الحسن(علیه السلام): 260 ، وحياة الإمام الحسن بن علي(علیه السلام): 2 / 233 ، وموسوعة المصطفى والعترة: 5/ 260 ، وأعلام الهداية: 146 .

وقد رُوِي «أنَّ مروان بن الحكم خطب يوماً، فذكر علي بن أبي طالب(علیه السلام) فنال منه، والحسن بن علي(علیه السلام) جالس، فبلغ ذلك الحسين(علیه السلام) فجاء إلى مروان، فقال: يا ابنَ الزرقاء، أنت الواقع في عليّ؟! ثم دخل إلى الحسن(علیه السلام)، فقال: تسمع هذا يَسُبُّ أباك، ولا تقول له شيئاً؟ فقال: وما عَسَيْتُ أنْ أقولَ لرجلٍ مسلّط، يقول ما شاء، ويفعل ما يشاء» (1).

ويظهر الامتحان الصعب حينما عاتبه(علیه السلام) أصحابه وأتباعه بقبول السلم والهدنة مع معاوية، وعلى الرغم مما واجهه(علیه السلام) من كلمات قاسية لا يستحقها، وغلظة في القول، وقسوة في الحديث منهم، فقد تحمّل أشد أنواع التأنيب من خيرة أصحابه، فكان يواجههم بعفوه وأناته، رادّاً عليهم بأجمل الكلمات، وأطيبها، وأعذب الحديث وأحلاه، فجاءت كالماء الزلال على قلوبهم، قال ابن قتيبة: «لما تمت البيعة لمعاوية بالعراق، وانصرف راجعاً إلى الشام أتاه سليمان بن صرّد وكان غائباً عن الكوفة، وكان سيّد أهل العراق ورأسهم، فدخل على الحسن، فقال: السلام عليكم يا مذلّ المؤمنين، فقال الحسن: وعليك السلام، اجْلِس لله أبوك(...) فتكلّم الحسن فَحَمِد الله، ثم قال: أما بعد، فإنّكم شيعتنا، وأهل مودّتنا، ومَن نعرِفه بالنصيحة، والصحبة، والاستقامة لنا، وقد فَهِمتُ ما ذكرتم، ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا، وللدين أعمل، وأنصب ما كان معاوية بأبأس مني بأساً، وأشدّ شكيمةً، ولكن رأي غير ما رأيتم، ولكن أشهد اللهَ وإيّاكم إنّي لم أرد فيما رأيتم إلاّ حقن دماءكم، وإصلاح ذات بينكم، فاتقوا الله، وارضوا بقضاء الله، وسلموا لأمر الله، والزموا بيوتكم، وكفوا أيديكم حتى يستريح برّ، أو يستراح من فاجر، من أنَّ أبي يحدّثني أنَّ معاوية سيلي الأمر، فوالله لو سرنا إليه بالجبال والشجر ما شككت أنه سيظهر إنَّ الله لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وأما .

ص: 162


1- أعلام الهداية(الحسن المجتبى): 35 .

قولك: يا مذلّ المؤمنين، فوالله؛ لأنْ تذلّوا وتعافوا أحبّ إليّ من أنْ تعزّوا، وتقتلوا، فإن ردّ اللهُ حقّنا في عافية قبلنا، وسألنا الله العون على أمره، وإن صرفه عنا رَضِيْنا وسألنا الله أن يبارك في صرفه عنا، فليكن كُلّ رجلٍ منكم حِلْساً من أحلاس بيته ما دام معاوية حيّاً، فإنْ يهلك، ونحن وأنتم أحياء سألنا الله العزيمة على رشدنا، والمعونة على أمرنا، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا، فإنَّ الله مع الذين اتّقوا، والذين هم محسنون» (1)، إنَّ هذا النص نَْحلٌ خالد، وأهزوجة في الصبر، والحِلْم، وتحمل الضيم، فبمعاينة النص تتج روح الإنسانية المثالية من خلال توظيف العنصر الغيبي والاستشرافي، وإدخال النص في سرديّة مقصودة تلويناً للدلالات، وتقريباً إلى ذهن المتلقّي(2)، وقال أبو حنيفة الدَّينوريّ: «وقالوا: وكان أول من لَقي الحسن بن علي(علیه السلام) فندّمه على ما صنع، ودعاه إلى ردّ الحرب حِجر بن عَدِيّ، فقال له: يا ابن رسول الله لوَدِدتُ إ مُتّ قبل ما رأيْتُ، أخرجتنا من العدل إلى الجور فتركنا الحقّ الذي كنّا عليه، ودخلنا الباطل الذي كنّا نهرب منه، وأعطينا الدنيّة من أنفسنا، وقَبِلنا الخسيسة التي لم تَلِق بنا، فاشتدّ على الحسن(علیه السلام) كلام حجر، فقال له: إنّي رأيْتُ هوى عظم الناس في الصلح، وكَرِهوا الحرب، فلم أحبّ أن احملهم على ما يكرهون فصالحت بُقياً على شيعتنا خاصة من القتل، فرأيْتُ دفع هذه الحروب إلى يوم ما، فإنَّ الله كلّ يوم هو في شأن»(3). وقال أيضاً: «ورُوي عن عليّ بن محمد بن بشير الهمدانيّ، قال: خرجت أنا وسفيان بن ليلى حتى قدمنا على الحسن المدينة، فدخلنا عليه، وعنده المسيِّب بن نجبة، وعبد الله بن الودّاك التميميّ، .

ص: 163


1- الإمامة والسياسة: 1/ 134 ، وينظر: بحار الأنوار: 10 / 217 .
2- أدب الإمام الحسين(علیه السلام) قضاياه الفنية والمعنوية(رسالة ماجستير): موسى خابط عبود،جامعة بابل – كلية التربية، 1429 ه - 2008 م: 181 .
3- الأخبار الطوال: 220 ، وينظر: شرح نهج البلاغة: 16 / 3، وبحار الأنوار: 10 / 219 ، وأعيان الشيعة: 2/ 378 ، واعلام الهداية: 163 – 164 .

وسراج بن مالك الخثعمي، فقلتُ: السلام عليك يا مذل المؤمنين، قال: وعليك السلام، اجْلِسْ، لست مُذلّ المؤمنين، ولكن معزّهم، ما أردت بمصالحتي معاوية إلاّ أن أدفع عنكم القتل عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب، ونكولهم عن القتال، وواللهِ لئن سِرْنا إليه بالجبال، والشجر، ما كان بد من إفضاء هذا الأمر إليه» (1).

وتتعالى أدبيّة الحوار متمثّلة بالكلمات المهذّبة المؤدّبة اللائقة مع أشدّ خصومه، محترزاً من الكلام غير اللائق، والمطروح، فقد كان «سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس شيعة لعلي بن أبي طالب(علیه السلام) فلما قَدِم زياد الكوفة طلبه وأخافه فأتى الحسن ابن علي(علیهما السلام) مستجيراً به فوثب زياد على أخيه، وولده، وامرأته فحبسهم، وأخذ ماله، ونقض داره، فكتب الحسن(علیه السلام): من الحسن بن علي إلى زياد، أما بعد، فإنّك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم فهدمت داره، وأخذت ماله،وحبست أهله وعياله، فإذا أتاك كتابي هذا، فابنِ له داره، واردد عليه عياله، وشفّعني فيه، فقد أجرْتُه والسلام، فكتب إليه زياد: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة،أما بعدُ، فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك، وأنت طالب حاجة، وأنا سلطان، وأنت سُوقه تأمرني فيه بأمر المطاع المسلّط على رعيته، كتبْت إليّ في فاسق آويته إقامة منك على سوء الرأي، وايْمُ الله لا تسبقنى به ولو كان بين جلدك ولحمك غير رفيف بك(...) فسلّمه بجريرته إلى مَنْ هو أولى به منك، فإن عفوت عن حلم أكن شفّعتك فيه، وإن قتلته لم أقتلْه إلاَّ لحبّه أباك والسلام، فل ورد الكتاب على الحسن(علیه السلام)، قرأه وتبسّم، وكتب جواب زياد كلمتين لا ثالثة لهما، من الحسن بن فاطمة إلى زياد ابن سميّة، أما5.

ص: 164


1- الأخبار الطوال: 220 – 221 ، وينظر: بحار الأنوار: 10 / 221 ، وأعلام الهداية: 164-165.

بَعْدُ؛ فإنَّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) قال: «الولد للفراش وللعاهر الحَجَر»، والسلام»(1)، فشتان ما بين الخطابين خطاب من طَهُر أصله، وطابت سريرته(علیه السلام)، وخطاب من فَسِد أصله، وخَبُثت سريرته.

ثانياً: الصدقُ الفنيّ

الصدق، والكذب الفني عبارة أطلقها الأقدمون على المطابقة للواقع، وعلى عدم المطابقة للواقع، أو ما هو في حكمه، وقد خضعت هاتان الظاهرتان لسنّة التطور، كما خضعت القضايا النقدية الأُخر، وفي عصور مبكرة روعي الصدق، والجدية، ومراعاة الحقيقة في الخطابة؛ لاتصالها بالسياسة والحكم، وارتباط السياسة بالدين، ذلك الاتصال الذي أضفى على الخطابة الصدق الذي تقف عنده حدود الأخلاق، وتتطلبه المواصفات الاجتماعية(2).

ويوصف الصدق بالواقعي؛ لأنّه يقف عند حدود الأخلاق والقيم الإنسانية الاجتماعية العليا السائدة، فصدق الأديب والمتكلم مردّه إلى العرف الاجتماعي، وتعبير عن تجربته التي يعيشها يتج فيها تصويره لما حوله تصويراً إنسانيّاً، فتجربته صورة لفكره وذاتيته ومثله، بعيداً عن واقعه الذي يعيش فيه، وبعيداً عما يحيط به من تقاليد، وتعابير مأثورة، وصور مألوفة، أو غير مألوفة تخرج أحياناً عن المألوف في تصنع، وتكلّف؛ من أجل الإبداع لا الصدق الفني الذي يستلزم إيماناً بالتجربة في معانيها الإنسانية، وهو في هذا يتلاقى مع الصدق الخلقي غير التقليديّ، وصدق الأديب أمر1.

ص: 165


1- أعيان الشيعة: 2/ 381 .
2- ينظر: النظرية النقدية عند العرب: هند حسين طه، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1981 م:191.

جوهري لتقدم الفن نفسه(1).

ويتحقق الصدق من خلال عاطفة المتكلم الحقيقية، وقوّة شعوره وإحساسه، وكذلك عدم مخالفة النواميس الكونيّة، وحقيقة السلوك الإنسانيّ(2).

إنَّ صدق العاطفة هو سموُّها من خلال تناول الحياة الإنسانية من جوانبها المشرقة الباعثة على التفاؤل والخير، فيبعث المتكلم أو المنشيء في الناس حبهم للحياة، وإقبالهم عليها، لا العواطف التي تنظر نظرة التشاؤُم للحياة، وتبرّم بها، وتصورها مليئة بالشرور، والآلام، ومما له علاقة بالصدق الوصول إلى(صدق التجربة)، و(الصدق التاريخيّ)، و(الصدق الأخلاقي)(3).

إنَّ الصدق الفني هو نشاط إنسانيّ له غايتُه، وهو أن يحمل للناس كلّ ما هو خير،ونافع.

ومن هنا فإن الصدق في القول، ومطابقة الواقع، والالتزام بالتراث الإسلامي الإنساني الأصيل، استلزم من الحسن(علیه السلام)، وهو الإمام، والخليفة، والحاكم أن يرشد الناس إلى الصواب، والصحة في ذكر الواقع والأحداث، فلا يليق بشخصٍ هذه مكانته، ومنزلته أنْ ينطق بما هو كذب، أو بما هو مجانب للصواب، ومخالفٌ للأفكار، والعادات غير المنطقيّة، وقد أشار صراحة(علیه السلام) بأن الكذب ليس طبعه وديدنه، عندما وصله تهديد معاوية عن طريق مذكرة بعثها إلى الحسن(علیه السلام) يحذره من الخلاف عليه، ويمنّيه .

ص: 166


1- ينظر: النقد الأدبي في كتاب(الموشح) للمرزباني(رسالة ماجستير): محمد عبد الحسن حسين، جامعة بابل – كلية التربية، 1424 ه - 2003 م: 14 .
2- ينظر: الصدق الفني في الشعر العربي حتى نهاية القرن السابع الهجري: عبد الهادي خضير نيشان، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2007 : 17 .
3- ينظر: م.ن: 286 .

بالخلافة من بعده أن تنازل له عن الأمر، قال معاوية: «أمّا بعدُ، فإنَّ الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقّب لحكمه، وهو سريع الحساب، فاحذر أنْ تكون منيتُك على أيدي رعاع من الناس، وَأيْس من أن تجدَ فينا غميزة وإن أنت أعرضت عما أنت فيه، وبايعتني وفيت لك بما وعدتُ، وأجريْتُ لك ما شرطتُ، وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة:-

وإنْ أحَدٌ أسْدَى لك إهانةً

فأوفِ بها تُدْعَى إذا مُت وَافِياً

ولا سَْحتِدِ المَو إذا كانَ ذا غِنَى

ولا فَْجتُهُ إنْ كَان في المالِ فَانِينا

ثم الخلافة لك من بعدي، فأنت أولى الناس بها، والسلام»(1)، ولم يعتنِ الحسن(علیه السلام) بتهديد معاوية، فأجابه على رسالته تتضوّع عزماً، وإصراراً، وحزماً، وصدقاً، فقال(علیه السلام): «أما بعدُ؛ فقد وَصَل إليّ كتابُك تذكر فيه ما ذكرْت، وتَرَكْت جَوَابك خشيةَ البغي عليك، وبالله أعوذُ من ذلك، فاتّبعِ الحقَّ تعلمُ أنّي من أهْلِهِ، وعليّ إثْمٌ أنْ أقولَ فأكذِبُ، والسلام» (2).

ويظهر الصدق الفني عنده(علیه السلام) من خلال فهمه للواقع، والإحاطة بالأحداث، فعندما بلغه خبر توجّه معاوية بجيشه الجرّار(ستين ألفا، وقيل: أكثر من ذلك) عمّ العراقيين الذعر والخوف، فنادى الحسن(علیه السلام) الصلاة جامعة، فاكتظ الناس في الجامع فاعتلى(علیه السلام) المِنبر، فحمِد الله(عزوجل)، وأثنى عليه، فقال: «أما بَعْدُ فإنَّ الله كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كرهاً،(...) ثم قال لأهل الجهاد: «وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِینَ»، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبُّون إلاّ بالصبر على ما تكرهون، إنَّه بلغني أنَّ معاوية بَلَغَه أنّا كُنّا أزْمَعْنا على المسير إليه، فتحرّك لذلك، فأخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم .

ص: 167


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 16 / 36 – 37 .
2- م.ن: 16 / 37 ، وينظر: بحار الأنوار: 44 / 55 .

بالنُّخيلة حتى نَنْظُرَ، وتنظروا ونرى، وتَرَوْا» (1).

ويَبِين صدق التجربة، والصدق التاريخيّ عنده(علیه السلام) في أول رسالة أرسلها إلى معاوية يدعوه إلى مبايعته بعد استشهاد أبيه أمير المؤمنين، وما حدث للمسلمين بعد وفاة المصطفى(صلی الله علیه و آله)، ننقل منها موضع الحاجة قال(علیه السلام): «فلما تُوُفّي تنازعت سلطانَه العربُ، فقالت قريشٌ: نحن قبيلته وأُسرته وأولياؤُه، ولا يَحِلّ لكم أنْ تنازعونا سلطان محمد وحقَّه، فَرَأَت العربُ أنَّ القول: ما قالت قريشٌ، وإنَّ الحُجّةَ في ذلك لَهُم على مَنْ نَازَعهم أمر محمد، فَأَنْعمت لَهُم، وسَلَّمَت إليهم،(...) ولقد كنّا تَعَجَّبْنا لتوثٌّبِ المتوثبين علينا في حقّنا، وسلطان بَيْتنا، وإن كانوا ذوي فضيلةٍ وسابقةٍ في الإسلام، وأمْسَكْنا عن مُنَازَعتهم مخافةً على الدّين أنْ يَجِدَ المنافقون والأحْزاب في ذلك مَغْمَزاً يَثْلِمُوْنه به، أو يكونُ لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده فَاليوم فَلْيَتعجّبِ المتعجّب من توثّبك يا معاوية على أمر لَسْتَ من أهْله لا بفضل من الدين معروف،ولا أثَرٍ في الإسلام محمود وأنت ابن حِزْبٍ من الأحزاب، وابن أعْدَى قريش لرسول الله(صلی الله علیه و آله)، ولكتابه، واللهُ حسيبك فَسَتُرَدُّ وتعلمُ لَيَجْزِيَنَّك بما قَدَّمَتْ يَدَاك، وما الله بظلاّم للعبيد» (2).

وهكذا نجد الحسن(علیه السلام) يعطف بالفاء عجبه من توثّب معاوية على تعجّبه من توثب الأولين عليهم في حقّهم، وسلطان بيتهم، ومن هنا تنبثق مناسبة اتصال قضيتِهِ بقضايا الخلائف السابقين، وتنبثق معها مناسبات أخرى ولا يخفى صدق هذه المناسبات، وواقعيتها(3). .

ص: 168


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 16 / 38 .
2- م.ن: 16 / 33 .
3- ينظر: صلح الحسن(علیه السلام): 44 .

واسْمَع إلى كلامه الصادق بعد سَلْمِه مع معاوية مبيّناً أسبابه عَفْوَ الخاطر بلا تكلّف، وبلا تصنّع، قال(علیه السلام): «فقد مات واللهِ جدّي رسول الله(صلی الله علیه و آله)، وقتل أبي(علیه السلام)، وصاح الوَسْواس الخنّاس في قلوب الناس، ونعق ناعق الفتنة، وخالفتهم السنّة، فيا لها من فتنة صمّاء عمياء لا يسمع لداعيها، ولا يجاب مناديها، ولا يخالف، وإليها ظهرت كلمة النفاق، وسيّرت رايات أهل الشقاق وتكالبت جيوش أهل العراق من الشام، والعراق، هَلِمُّوا – رَحِمَكُم اللهُ – إلى الافتتاح، والعلم الجحجاح، والنورالذي لا يُطْفَى، والحقُّ الذي لا يَخْفَى، أيُّها الناس تيقّظوا من رَقْدةِ الغَفْلَةِ، ومن تكاثُف الظُلمة، فوالذي خَلَق الحَبّة، وبَرَأ النَّسْمَة، وتَرَدّى بالعظمة لَئِن قام إليّ منكم عُصبةٌ بقلوبٍ صافية، ونيّات مخلصة لا يكون فيها شوبُ نفاقٍ، ولا نِيّة افْتِرَاقٍ لأجَاهِدَنَّ بالسيف قدماً قدماً، ولأُضَيِّقَنَّ من السيوف جوانبها، ومن الرماح أطرافها، ومن الخيل سناكبها، فتكلّموا يرحمكمُ اللهُ» (1).

وقد كَتَب الحسن(علیه السلام) خطبه ورسائله مجاراةً للمناسبة فاتّسَمَتْ بالصّدق، والصدق في تراثه هو جوهر بلاغته، و دوامه، فتأمل إلى جوابه المفعم بالصدق الواقعي، والتاريخيّ، حينما سأله معاوية: «ظَنَنْتَ أنْ ستَكونَ خليفةً، وما أنت وذاك؟، فقال الحسن(علیه السلام): إنّما الخليفةُ مَنْ سار بكتابِ الله، وسنّة رسولِ الله، ليس الخليفةُ مَنْ سار بالجَوْر وعطّلَ السنّة، واتّخَذَ الدنيا أباً، وأُمّاً، مَلَكَ مُلْكاً مُتّع به قليلاً، ثُمّ تَنْقَطِع لذّتُه، وتَبْقى تَبِعَتُهُ»(2)، وقد استطاع الحسنُ(علیه السلام) أنْ يرسم صورة حيّة منبثقة تَشِعُّ بالدلالات، تثيرُ في النفوس معاني التصور، والتدبّر، ويثير المخاطب، ويبعث الشوق .

ص: 169


1- بحار الأنوار: 10 / 221 .(سَنَابِك جمع سُنْبُكُ وهو طَرَفُ مُقَدَّم الحافر من الخيول. (مختار الصحاح: (سبك)): 284 .
2- م.ن: 10 / 230 .

في نفسه بَعد إعمال البحث والتأمل من أجل إدراك المعنى المراد، فيظلّ أثره باقياً في المخاطب باعثاً المتعة الفنيّة من ورائه(1).

ومن الجدير بالذكر لابد من الإشارة إلى المناظرات التي دارت بين الحسن(علیه السلام)، وخصومه، فكان(علیه السلام) يسدّد لهم سهاماً من منطقه الفيّاض، فيرديهم عَْرصى، يلاحقهُم العار، والخزي، «وكانت نصوص هذه المشاجرات بصيغها البلاغيّة وقيمتها الأدبيّة جديرةً بالعرض كتراث عربي أصيل يدلّ بنفسه على صحة نسبة، ويعطينا بأسلوبه، وصياغته صورة عن المشاجرات في عصره، ولكنّ الذي رغّبنا في استعراضها في سطورها هذه إيغالها المؤسف بالاستهتار البذيء الذي بلغ به صاغة الأكاذيب الأمويون، غايتهم فأساؤُوا لأنفسهم أكثر مما أرادوا بعدوّهم، وما كانوا محسنين» (2).

وقد نقلها باقر شريف القرشي كاملة(3)، وظهر أن الحسن(علیه السلام) في هذه المناظرات «لم يستعن بالكذب، ولم يتذرّع بالبذاء كما تذرّعوا به» (4).

وقد أخبر الحسن(علیه السلام) عند موته، أنَّ معاوية لا يصدق بما وعد به جَعْدَة بنت الأشعث التي سقتْه السمّ، بأن يزوّجها من يزيد، قال المسعوديّ: «وذكر أنَّ الحسن قال عند موته: لقد حاقت شربته، وبلغ أُمنيته، واللهِ لا وَفَى بما وَعَدَ، ولا صَدَقَ فيما قال(...) وذكر أنَّ جَعْدَة بنت الأشعث بن قيس الكندي سقتْه السمَّ، وقد كان معاوية دسّ إليها: إنّك إن احْتَلْتِ في قتل الحسن، وجّهت إليك بمئة ألف دِرْهم، وزوّجتك من .

ص: 170


1- ينظر: الخطاب في نهج البلاغة(دراسة موضوعية فنيّة)(رسالة ماجستير): إيمان عبد الحسن علي، جامعة بابل/ كلية التربية، 1429 ه - 2008 م: 131 .
2- صلح الحسن(علیه السلام): 206 .
3- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 303 – 331 .
4- م.ن: 2/ 332 .

يزيد، فكان ذلك الذي بعثها على سمّه، فلَ مات وَ لها معاوية بالمال، وأرسل إليها: إنّا نُحبّ حياة يزيد، ولولا ذلك لوفّينا لك بتزويجه» (1).

ويتج الصدق عند الحسن(علیه السلام) في دعائه، وهو أداة استعملها(علیه السلام)، ولا يخفى ما في الدعاء من جوانب روحية، وإنسانية عالية المضمون، مليئة بالرضا والإيمان، يفوح منه عبق العشق الإلهي، وذوبان الذات البشرية في الذات المقدّسة، فقال(علیه السلام) واصفاً الدعاء: «ما فتح اللهُ(عزوجل) على أحدٍ بابَ مَسْألةٍ فَخُزِنَ(2) عنه باب الإجابةِ، ولا فتح الرَّجُلُ بابَ عَمَلٍ فَخُزِنَ عنه بابُ القَبُول، ولا فُتِحَ لِعَبْدٍ بابُ شُكْرٍ فَخُزِنَ عنه باب المزيد»(3). فكان(علیه السلام) «أصدقَ الناسِ لهجة، وأفصحهم منطقاً، وكان إذا بلغ باب المسجد رفع رأسه، ويقول: إلهي ضيفك ببابك يا محسن قد أتاك المُسِيء فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم» (4).

إنَّ الصدق الفني الذي ظهر في تراث الحسن(علیه السلام) قد تميّز بالعبارات الصريحة البعيدة عن كل تعقيد، أو زخرفة، أو تنميق، فلا نجد كلمة متنافرة الأحرف، أو غريبة، فقد تلبست بألفاظ القرآن الكريم، وكلمات جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله)، وكلمات أبيه(أميرالمؤمنين)، فهي لا تحتاج إلى إعمال ذهن في تعرّف دلالاتها، أو الرجوع إلى المعاجم اللغوية.

إنَّ الصدق بجوانبه له علاقة وثيقة بالاقتصاد في العبارة، والابتعاد عن التكلّف،وهذا ما سنقف عليه عند حديثنا عن الاقتصاد اللغوي، ولاسيّما في كلماته(علیه السلام) الحِكَمِيّة .

ص: 171


1- مروج الذهب: 3/ 6.
2- خُزِنَ: أغلِق وسُدَّ.
3- أعيان الشيعة: 1/ 577 .
4- م.ن: 2/ 366 .

القصار، وأقواله الإنسانيّة.

ثالثاً: الاقْتصادُ اللُّغويّ

من يطّلع على مناسبات خطب الحسن(علیه السلام)، ورسائله، ووصاياه، وحكمه يَلْمس بوضوح أنه لم يطل فيها إذا ما استثنينا الرسالة البليغة الطويلة التي أرسلها الحسن(علیه السلام) بعد استشهاد أبيه(أمير المؤمنين(علیه السلام)) إلى معاوية يدعوه إلى مبايعته، وطاعته، والدخول فيما دخل فيه الناس، وقد ذكرناها من قبلُ(1)، وكذلك خطبته البليغة الطويلة بعد إبرام السلم، والهدنة مع معاوية، وقد اجتمع الحسن(علیه السلام) بمعاوية وكان الاجتماع بالنخيلة، وقيل بالكوفة وقد حضرتْه جموعٌ حاشدة من المسلمين، وبعد أن تكلّم معاوية بكلامٍ أظهر فيه نقضه للعهود، والمواثيق، لاسيّما شروط السلم مع الحسن(علیه السلام)، طلب معاوية من الحسن(علیه السلام) أنْ يعتلى مِنصة الخطابة؛ ليب للناس تنازله عن الأمر، وسلمه(علیه السلام) معه، وانبرى الحسن(علیه السلام) إلى أعواد المِنبر، والناسُ كلُّهم أُذُنٌ صاغية، وهم ما بين راغب، وراغم فخطبهم خطبة طويلة كانت في منتهى البلاغة والبيان وعظ فيها الناس، ودعاهم إلى الألفة والمحبة، وصوّر فيها الأحداث الرهيبة التي جرت على أهل البيت(علیهم السلام) بعد وفاة المصطفى(صلی الله علیه و آله)(2)، وقد ذكرنا هذه الخطبة من قبل، نكتفي

بذكر نصّ منها لحاجة البحث إليها؛ قال(علیه السلام): «الحمد للهِ كلّما حَمِدَه حامدٌ، وأشهدُأنْ لا إله إلا اللهُ كُلّما شَهِدَ له شاهدٌ، وأشهد أنّ محمداً عَبْدَه ورسوله، أرسله بالهُدَى،وائتمنه على الوَحْي (صلی الله علیه و آله)، أما بَعْدُ: فواللهِ إنّي لأرجو أنْ أكون قد أصبحْتُ بحمد الله ومَنِّه وأنا أنْصَحُ خَلْقِ الله لِخَلْقِه وما أصْبَحَتُ مُحْتملاً على مُسْلمٍ ضغينة ولا مُرِيداً له سُوءاً ولا غائلة، ألاَ وإنَّ ما تكرهون في الجماعة خير لكم مِمّا تحبُّون في الفرقة، ألاَ .

ص: 172


1- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 56 – 59 .
2- ينظر: م.ن: 2/ 259 .

وإنّي ناظِرٌ لكم خَيْرٌ مِنْ نَظَرِكُمْ لأنفسكم، فلا تُخَالِفوا أمْري، ولا تَرُدُّوا عليَّ رَاْي غَفَراللهُ لي، ولَكُمْ، وأرْشَدَني وإيّاكم لما فيه المَحَبَّةُ والرِّضا» (1).

إنَّ السياق هو الذي يحدّد نسبة الاقتصاد اللغوي للنص، ومن هنا نصل إلى نتيجة يراها الباحث موسى القيسيّ تكشف عن عدم صحة إطلاق القول: إنَّ الإطالة إنما تليق بالأئمة، والرؤساء، ومن يقتدي بهم، ويأخذ عنهم(2).

ونلمس هذا الاقتصاد اللغوي في حياة أبيه علي(علیه السلام)، لاسيّما أجوبته(علیه السلام) حينما وجّه أبوهُ(علیه السلام) أسئلة له، وقد انمازت بميلها إلى القصد، والإيجاز؛ لأنه يخاطبُ ذوي فهوم ثاقبة، وقلوب واعية يكتفون بيسير القول، وإيجازه، وهذه الأجوبة تفيض بإنسانيته المثالية(علیه السلام)، وقد نقلها الأربليّ، قال: «إنَّ أمير المؤمنين عليّاً(علیه السلام) سأل ابنه الحسن(علیه السلام) عن أشياء من أمر المروءة، فقال: يا بُنيّ ما السدادُ؟ فقال: يا أبتي السداد دفع المنكر بالمعروف، قال: ما الشرف؟ قال: اصطناع العشيرة، وحمل الجريرة، قال:

فما المروءة؟ قال: العفاف، وإصلاح المال، قال: فما الرّقّة؟ قال: النظر في اليسير،ومنع الحقير، قال: ما اللؤم؟ قال: إحرازُ المرء نفسه، وبذل عرسه، قال: فما السماحُ؟

قال: البذل في العسر واليسر، قال: فما الشّحّ؟ قال: أن ترى ما في يديك شرفاً، وما أنفقته تلفاً، قال: فما الإخاء؟ قال: المواساة في الشدّة، قال: فما الجبن؟ قال: الجرأة على الصديق، والنكول عن العدو، قال: فما الغنية؟ قال: الرغبة في التقوى، والزهادة في الدنيا هي الغنيمة الباردة، قال: فما الحلمُ؟ قال: كظم الغيظ، وملك النفس، قال فما الغِنى؟ قال: رضا النفس بما قَسَمَ الله تعالى لها، وإن قلّ، وإنّما الغنى غنى النفس، .

ص: 173


1- الإرشاد: 180 ، وينظر: مقاتل الطالبيين: 180 ، وكشف الغمة: 1/ 506 – 507 ، والفصول المهمة: 153 .
2- ينظر: أدب الإمام الحسين(علیه السلام) قضاياه الفنية والموضوعية: 16 – 17 .

قال: فما الفقر؟ قال: شره النفس في كلّ شيء، قال: فما المنفعة؟ قال: شدّة البأس ومنازعة أعزّ الناس، قال: فما الذل؟ قال: الفزع عند المصدوقة، قال: فما العِيّ؟ قال:

العبث باللحية، وكثرة النزق عند المخاطبة، قال: فما الجُرأة؟ قال: مُواقفة الأقران، قال: فما الكلفة؟ قال: كلامُك فيما لا يعنيك، قال: فما المجد؟ قال: أنْ تعطي في العزم، وتعفو عن الحرج، قال: فما العقل؟ قال: حفظ القلب كلّما استودعته، قال:

فما الخَرْق؟ قال: معاداتك إمامك ورفعك عليه كلامك، قال: فما السناء؟ قال:

إتيان الجميل، وترك القبيح، قال: فما الحزم؟ قال طول الأناة، والرفق بالولاة، قال:

فما السفه؟ قال: إتّباع الدناة، ومصاحبة الغواة، قال: فما الغفلة؟ قال: ترك المحبَّ وطاعتك المفسدَ، قال: فما الحرمان؟ قال: تركك حظَّك، وقد عرض عليك، قال:

فمن السيّد؟ قال: الأحمق في ماله، المتهاون في عرضه، فيشتم فلا يُجيب، المهتم بأمرعشيرته هو السيّد»(1)، وقد وصف الأربلي هذه الأجوبة فقال: «فهذه الأجوبة الصادرةعنه على البديهة من غير روية شاهدة له(علیه السلام) ببصيرة باصرة، وبديهة حاضرة، ومادةفضل وافرة، وفكرة على استخراج الغوامض قادرة» (2).

وقد أضاف باقر القرشي أجوبة لأسئلة وجهها إليه أمير المؤمنين(علیه السلام) تتعلق بالأخلاق، والفضائل، والشمائل لم يذكرها الأربلي، وابن الصباغ المالكي، فأجابه الحسن(علیه السلام) بما هو من عفو البداهة، والخاطر، فكان الجوابُ آيةً من آيات البلاغة، والإعجاز، والإيجاز، «قيل له(علیه السلام): ما الزهدُ؟ قال(علیه السلام): الرغبة في التقوى، .

ص: 174


1- كشف الغمة: 1/ 531 – 532 ، وينظر: الفصول المهمة: 151 ، وحياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 1 / 129 – 133 ، وسيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 472 ، وموسوعة المصطفى والعترة: 115 – 113 /5.
2- كشف الغمة: 1/ 532 – 533 .

والزهادة في الدنيا(...) قيل له(علیه السلام): فما النجدة؟ قال(علیه السلام): الذبُّ عن الجار، والصبر في المواطن،(...) قيل له(علیه السلام): فما الكرم؟ قال(علیه السلام): الابتداء بالعطية قبل المسألة، وإطعام الطعام في المحل، وقيل له(علیه السلام): فما الدنيئة؟ قال(علیه السلام): النظر في اليسير، ومنع الحقير(...) قيل له: فما الجودُ؟ قال(علیه السلام): بذل المَجْهُود، قيل له(علیها السلام):

فما الكرمُ؟ قال(علیه السلام): الحفاظ في الشدّة والرخاء(...) قيل له(علیه السلام): فما الخُرْق؟

قال(علیه السلام): مُنَاواتُك أميرك، ومَنْ يَقْدِر على ضُرِّك(...) قيل له(علیه السلام): فما اللُّؤم؟

قال:(علیه السلام): إحرازُ المرء نفسه، وإسلامه عِرْسه» (1).

إنّ النفس لتقف حائرة مدهوشة أمام هذا الاسترسال العجيب من الحسن(علیه السلام)، وعدم تكلّفه في الجواب، وإحاطته خبراً بدلالات هذه الأسئلة الإنسانية الحيوية، فلا يسعُ النفسُ إلاّ الإكبار، والإعجاب، والاعتراف والخضوع لعظمة قائلها الحسن(علیه السلام) (2).

ومن الأسئلة التي وجّهت إليه(علیه السلام)، فأعطى الجواب الحاضر، والموجز الدال على الإيجاز والمضاء، وملاكه الأناة والفطنة كأنّه ضربٌ من الاختزال، قال المالكيّ:

«وسُئِل(علیه السلام) عن الصمت، فقال هو: سترٌ للعِيّ، وزين للعِرْض، وفاعله في راحةٍ، وجَلِيْسُه في أمْن»(3)، وسأله معاوية، وقيل: عمرو بن العاص، «قال ابن العاص(..) فإنّى أسألك مسائل، قال(علیه السلام): سَلْ عما بَدَا لك، قال عمرو: أخبرني عن الكرم،والنجدة، والمروءة، فقال(علیه السلام): أمّا الكرمُ، فالتبرع بالمعروف، والإعطاء قبل السؤال،وأمّا النجدة، فالذبّ عن المحارم، والصبر في المواطن عند المكاره، وأمّا المروءة .

ص: 175


1- حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 1 / 129 – 133 .
2- ينظر: م.ن: 1/ 133 .
3- الفصول المهمة: 151 .

فحفظ الرجل دينه، وإحرازه نفسه من الدنس، وقيامه بأداء الحقوق، وإفشاء السلام» (1).

وقد سُئِل(علیه السلام) عن السياسة، هذا المصطلح المتنوّع الدلالات، الذي تختلف الأفهام في تصويره، ووصفه، فأجاب بسرعة بكلمات قليلة سديدة وافقت معانيها، وهي: «أن تَرْعَى حقوق الله، وحقوق الأحياء، وحقوق الأموات، فأمّا حقوق الله فأداء ما طَلَب، والاجتناب عما نَهَى، وأما حقوق الأحياء فهي أنْ تقوم بواجبك نحو إخوانك، ولا تتأخّر عن خدمة أمّتك، وأنْ تخلص لِوَلي الأمر ما أخلص لأُمّته، وأنْ ترفع عقيرتك في وجهه إذا ما حاد عن الطريق السَّوِيّ، وأمّا حقوق الأموات فهي أنْ تذكر خيراتهم،وتتغاضى عن مساوئهم فإنَّ لهم ربّاً يحاسبهم»(2)، فكان هذا الجواب نشيداً خالداًيتغنّى به السياسيون المخلصون، ووساماً يتقلّده الرؤساء، والحكام، ورجال السلطة،والشرفاء أجمع؛ لما فيه من معالم إنسانية مثالية ينبغي أنْ يهتدي بهديها رجال السياسةكافة في مشارق الأرض ومغاربها، ليعمّ الأمن، والاطمئنان، فيكون الشعب والحكومةفي راحة بال واستقرار وخير.

إنَّ السياسة التي يجب أنْ تسود أنحاء البلاد عند أهل البيت(علیه السلام) هي السياسة الحكيمة، المخلصة، المنظّمة التي تضمن مصالح المجتمع، وتعمل على إيجاد الوسائل الصحية لرقيّه، وبلوغ أهدافه وآماله، وحمايته من الظلم والاعتداء، وتحقيق المساواة والعدل في ربوعه، وتوفير الفرص المتكافئِة بين أبنائه، لإبعاد شبح الفقر، والبؤس، والحرمان عنهم.9.

ص: 176


1- بحار الأنوار: 10 / 230 ، وينظر: موسوعة المصطفى والعترة: 5/ 118 .
2- أعيان الشيعة: 1/ 577 . وينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 1 / 136 ، وسيرة الأئمة الاثني عشر: 1/ 473 ، وأعلام الهداية: 208 – 209 ، وموسوعة المصطفى والعترة: 5/119.

إنَّ هذه السياسة الأصيلة عند أهل البيت(علیهم السلام) هي التي لا تعتمد على المكر والدهاء والخداع والمواربة والكذب والدعاية الباطلة وغيرها من الأساليب غير الواقعية، فلابد لها من أنْ تكون صريحة واضحة في أهدافها، ومعالمها كافةٌ لتحقيق العدل والمساواة في البلاد ولصلابة سياستهم في الحقّ وصرامتها في العدل ثار عليهم النفعيون والمنحرفون، وطالبوهم أنْ ينهجوا منهجاً خاصاً لا يتنافى مع مصالحهم وأطماعهم، فقد آثروا رضا الله(عزوجل)، وسلكوا طريق القرآن الكريم، وشريعة المصطفى(صلی الله علیه و آله)، وتركواطرق الضلالة، والخطط الملتوية التي يَأباها الدين(1).

وتظهر قيمة التذوق الجماليّ، وسمة الاقتصاد اللُّغويّ في رشاقة الكلمات الحِكَمِيّة القِصار في التراث الحسنيّ، وهي شاهدةٌ بقوة تمكّنه، وعلو مكانته، قوله في مواعظه الإنسانية النُّصْحِيّة الكثيرة، وقد روى الرواة مجموعة من الكلمات القصار في الحكم، والأخلاق، والآداب وغير ذلك من المواضيع، فيها من سهولة البيان، والعمق في التفكير، والخبرة الواسعة بأصول الأخلاق والسياسة، ومشاكل الحياة ما يكفي لأنْ يكون في القمة بين عباقرة العصور في كلّ زمان ومكان(...)، وليس ذلك بغريب عمّن نشأ في بيت الوحي والتنزيل بيت محمد سيد المرسلين، وعليّ إمام الفصحاء والموحّدين،وفاطمة سيدة نساء العالمين» (2).

وسنذكر أقواله(علیه السلام) ممن اتّسمت بالاقتصاد اللغوي، وتكثيف العبارة، وممن لها صلة بإنسانيته المثالية، وأول هذه النصوص، ما رواها اليعقوبي، قال: «قال جابر: سَمِعْتُ الحسنَ يقول: مكارم الأخلاق عشر: صدق اللسان، وصدق البأس، وإعطاء السائل، وحسن الخلق، والمكافأة بالصنائع، وصلة الرحم، والتذمّم على الجار، .

ص: 177


1- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 207 – 208 .
2- سيرة الأئمة الاثنى عشر: 1/ 474 .

ومعرفة الحقّ للصاحب، وقِرَى الضيف، ورأسهن الحياء، وقيل للحسن: مَنْ أحسنُ الناس عَيْشاً؟ قال: مَنْ أشْرَك الناس في عيشه، وقيل: مَنْ شرّ الناس عَيْشاً؟ قال: مَنْ لا يعيش في عيشه أحد» (1).

وقد نقل الأربليّ كلاماً له(علیه السلام) دالاً على عبادته ونزاهته، فقال(علیه السلام): «يا ابن آدم عِفْ عن محارم الله تكن عابداً، وارضَ بما قسم اللهُ سبحانه تكن غنيّاً، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً، وصاحب الناس بمثل ما تحبّ أنْ يصاحبوك بمثله تكن عدلاً، إنّه كان بين أيديكم أقوامٌ يجمعون كثيراً، ويبنون مشيّداً، ويأملون بعيداً، أصبح جمعهم بوراً، وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً» (2).

وقال(علیه السلام): «لا أدب لمَنْ لا عَقْل له، ولا مروّة لمَنْ لا همّة له، ولا حياء لمَنْ لا أدب له، ورأسُ العقل معاشرة الناس بالجميل، وبالعقل تدرك الداران جميعاً ومَنْ حُرِم من العقلِ حرمهما جميعاً» (3).

وقال(علیه السلام): «لا تأتِ رجلاً إلاَّ أنْ ترجو نواله، وتخاف يده، أو تستفيد من علمه،أو ترجو بركة دعائه، أو تصل رحماً بينك وبينه» (4).

وقال(علیه السلام): «إنَّ هذا القرآن فيه مصابيح النور، وشفاء الصدور، فَلْيَجِلّ جالٌّ بضوئه، وليلجم الصفة قلبه، فإنَّ التفكير حياةُ القلبِ البصير كما يمشي المستنير في الظلماتِ بالنور» (5). .

ص: 178


1- تاريخ اليعقوبي: 2/ 157 .
2- كشف الغمة: 1/ 521 .
3- م.ن: 1/ 534 ، وينظر: الفصول المهمة: 151 ، وأعيان الشيعة: 1/ 577 .
4- م.ن: 1/ 535 ، وينظر: م.ن، 151 ، و م.ن: 2/ 387 .
5- كشف الغمة: 1/ 536 .

وروى ابن الصباغ المالكيّ شيئاً من كلامه(علیه السلام): «قال(علیه السلام): هلاكُ المرء في ثلاث الكبر، والحرص، والحسد، فالكبر هلاك الدين وبه لعن إبليس، والحرص عدوّالنفس، وبه أخرج آدم من الجنّة، والحسد رائد السوء ومنه قتل قابيل هابيل» (1).

ومن كلماته الحِكَمِيّة القصار التي تشعّ بالدلالات الإنسانية المثالية، ما رواه العامليّ:

«قال(علیه السلام): القريب من قرّبته المودة، وإن بعد نسبه، والبعيد من باعدته المودّة، وإن قرب نسبه» (2).

وقال(علیه السلام): «لا تعاجلِ الذنبَ بالعقوبة، واجعل بينهما للاعتذار طريقاً» (3).

وروى القرشيّ نتفاً من كلماته الحِكَمِيّة القصار، ممن لم تردّ في كلام السابقين نِممّ وقفنا على مؤلفاتهم، وهي تفوح بعبق الإنسانية المثالية، من خلال إنماء الجانب الروحيّ للمسلم، وصولاً إلى تكامله إنسانيّاً، قال: «قال(علیه السلام): فَضَحَ الموتُ الدنيا، قال(علیها السلام):

أشدُّ من المصيبة سُوء الخُلُق، قال(علیه السلام): تمام الصنيعة خيرٌ من ابْتدائها، قال(علیها السلام):

لا يَغُشّ العاقِل من استنصحه، قال(علیه السلام): «ما تشاور قوم إلاّ هُدُوا إلى رُشْدهم» (4).

إنَّ هذه الكلمات الحِكَمِيّة القصار هي من الآليات، والأدوات التي استنبطها الحسن(علیه السلام) من أجل النفاذ إلى ذهن المتلقي، فهذه الكلمات تحمل شحنات قوية من أجل إيصالها إلى المخاطبين بأيسر وسيلة، وأقصر مدة، وكذلك توظيفها توظيفاً جمالياً مكثفاً، محاولة لتماهيها في القلوب النابضة، والضمائر الحيّة. .

ص: 179


1- الفصول المهمة: 151 .
2- أعيان الشيعة: 2/ 387 .
3- م.ن: 2/ 387 .
4- حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 1 / 150 – 151 .

ويظهر هذا الاقتصاد اللغويّ، وتكثيف عنصر(الإشارة الدالّة)، أي العبارة المنطوية على شفراتٍ دلاليّة، وهذا ما نجده مثلاً، لمّا قام خطيباً(علیه السلام) بعد وفاة أبيه أميرالمؤمنين(علیه السلام) «فحَمِد الله، وأثنى عليه، وص على النبيّ، ثم قال: أَلا إنَّه قد مَضَى في هذه اللّيلة رجل لم يدركه الأوّلون، ولن يرى مثله الآخرون، مَنْ كان يقاتل وجبريل عن يمينه، وميكائيل على شماله، واللهِ لقد توفّي في الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران، ورفع فيها عيسى بن مريم، وأُنزل القرآن، ألاَ وإنَّه ما خلّف صفراً، ولا بيضاً إلاّسبعمائة دِرهم فَضُلت من عطائه أراد أنْ يبتاع بها خادماً لأهله» (1).

إنَّ تأبين الحسن أباه(علیهما السلام) بهذا الأسلوب الخطابي، فريدٌ لا عهد لنا بمثله؛لأنه لم يعرض إلى ذكر المزايا المعروفة في الراحل العظيم، كما هي السنّة المتبعة في أمثال هذه المواقف، ولاسيّما في تأبين الرجال الذين احتوشوا الفضائل، فكان لهم الدرجات الفضلى، ومُرِنوا على المكارم فإذا هم في القمة من ذرواتها علماً، وحِلْماً، وفصاحَةً، وشجاعة، وسماحةً، ونسباً، وحسباً، ونُبلاً، ووفاءً، وإباءً، وعدالة كعليّ(علیه السلام) الذي حَیّر المادحين مدح عُلاه، فلماذا يعزف الحسن(علیه السلام) فيما يؤبّنه به على الطريقة المألوفةفي تأبين العظماء؟ ترى أكانت الصدمةُ القويةُ في مصيبته به، هي التي سدّت عليه، وهوالخطيب المصقع، وابن أخطب العرب أبواب القول فيما ينبغي أنْ يقول، أم أنّه كان قد عَمِد إلى هذا الأسلوب قاصراً، فكان في اختيار الأسلوب الخاص أبلغَ الخطباء،وأبرعهم إصابة للمناسبات، وأطولهم خطابة على اختصار الكلمات، وإيجازها(2).

إنَّ هذا الأسلوب البليغ الفريد فيما أبّن به الحسن أباه(علیهما السلام)، كان أبلغ تأبين في ظرفه، وأليقه بهذا الفقيد، وهذه إحدى مواقفه الخطابيّة التي دلّت بموهبتها الجبارة على .

ص: 180


1- تاريخ اليعقوبي: 2/ 148 . وينظر: الإرشاد: 179 .
2- ينظر: صلح الحسن(علیه السلام) 56 - 57 .

نسبها القريب من جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله)، ومن أبيه(علیه السلام) (1).

وهذا ما نجده مثلاً في رسالته إلى معاوية، ورسالته إلى زياد بن أبيه، إذ لم تتجاوزكلّ منها السطرين فالأول عندما بعث معاوية رجلين يتجسسان فكتب الحسن(علیها السلام):

«أما بعدُ، فإنّك دسست الرجال، للاحتيال والاغتيال وأرْصدت العيون كأنّك تحبّ اللقاء، وما أوشك ذلك فتوقّعه إن شاء الله، وبلغني أنّك شمتَّ بما لا يَشْمت به ذوو الحجى»(2)، والثاني زياد بن أبيه عندما أرسل له الحسن(علیه السلام) رسالة يدعوه فيها إلى العفو عن سعيد بن سرح، وإطلاق سراح أخيه، وامرأته، وولده، وإرجاع ماله، وبناء داره، فرفض زياد مخاطباً الحسن(علیه السلام) بخطاب منكر، وغير لائق، فكتب الحسن(علیه السلام) جواب كتاب زياد كلمتين لا ثالثة لهما: «من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سمية، أمابَعْدُ، فإنَّ رسولَ اللهِ(صلی الله علیه و آله)، قال: الولد للفراش وللعاهر الحَجَر، والسلام» (3). .

ص: 181


1- ينظر: صلح الحسن(علیه السلام): 57 .
2- الإرشاد: 179 ، وينظر: شرح نهج البلاغة: 16 / 31 ، والفصول المهمة: 153 ، وأعلام الهداية: 213 .
3- أعيان الشيعة: 2/ 381 .

ص: 182

المبحث الثاني: الإقناع الخطابي

اشارة

من أجل الكشف عن آليات الحسن(علیه السلام) في تج يل يل المعالم الإنسانية المثالية، ومدى تأثيرها في تراثه الخالد، نزعنا إلى آلية نَحسبها مهمة في بيان معالم الإنسانية المثالية عند الحسن(علیه السلام)، وهي الإقناع الخطابي عنده(علیه السلام) .

ولا يخفى أنَّ مفهوم(الإقناع الخطابي) من المفاهيم المهمة لما لها من تأثير في السامعين، فهو يمثل حلقة اشتراك بين(المتكلم) المخاطِب، وبين السامع(المخاطَب)، بمعنى: عملية تواصُل واستقبال بينهما.

إنَّ هذا المفهوم يفهم من خلال ركائز ثلاث: المخاطِب(المبدع)، والخطاب(النص)، والمخاطَب(المتلقي)(1)، ومن هنا فإنَّ الوقوف على مادة(ق ن ع) في كتب اللغة، ومفردات ألفاظ القرآن يفيدنا في تصوّر هذه الركائز.

الإقناع مصدر على وزن(إفعَال) من الفعل الثلاثي المزيد بحرف واحد(أقنَعَ) على وزن(أفعَلَ)، وفعله الثلاثي المجرّد(قَنَعَ – يَقنَعُ). ويبدو من أقوال اللغويين أن الدلالة الحسيّة لهذه المادة(ق ن ع) تعني المدّ، والميل، قال الخليل: «الإقناع مدّ البعيرُ رأسَه إلى الماء ليَ بْرََ(...) والرجل يُقنِعُ الإناء للماء شْ .

ص: 183


1- ينظر: فهم الخطاب القرآني بين الإمامية والأشاعرة(دراسة مقارنة في ضوء ركائز الأسلوبية: صباح عيدان العبادي، ط 1، دار الفيحاء، البصرة – العراق، 1434 ه - 2013 م: 27 .

الذي يسيل من جدول، أو شِعْب، والرجلُ يُقْنِع يدَه في القُنُوت، أي: يمدُّها، فيسترحم ربّه»(1)، وقال الزَّمخشري: «وقَنَع إليه: سأله وهو من قَنَعت الماشيةُ للمرتع مالت إليه، وأقْنَعَها الرأيُّ إليه؛ لأن القانع يميل إلى الناس» (2).

وقد انتقلت هذه الدلالة الحسيّة إلى المجرّدة، فأصبح الإقناع، والقانِع، والمُقْنِع على كُلِّ مَرْضي من القول، والفعل، فالمُقْنِعُ هو كُلّ من رُضي كلامُه، وقَوْلُه، أو رُ عطاؤُه ونوالُه، وترفع الرؤُوس له رضا، وقبولاً لخطابه.

والذي يهمنا من هذه المادة هو دلالة الرضا بالقول وقَبولِه والاهتمام به، وانفتاحها لتشمل هذه الركائز الثلاث، نقول: «فلان لنا مَقْنَعٌ: رِضَا يُقْنَع بقوله وقضائه، وشاهد مَقْنَع، وشهود مَقْنَع(...) وجواب مُقْنع، وسألتُ فلاناً في كذا، فلم يأتِ بمُقْنِع» (3).

نخلص من هذا أن المتكلم(المخاطِب) هو المُقْنِع، وقوله المَر هو الخطاب،والذين يَرْضَون قوله هم السامعون(المخاطَبُون).

لذا سنحاول في هذا المبحث أن نب أثر هذه الركائز الثلاث في تج المعالم الإنسانيةالمثالية عند الحسن(علیه السلام).

أولاً: المخاطِبُ(الحسن(علیه السلام))

المخاطب هو الشخص الذي يتبوّأ المكانة الأولى في عملية التخاطب بوصفه المنتج للنصّ، وقد تعدّدت التسميات التي تطلق على المخاطب منها الباثّ، والمتكلم، والموجّه، .

ص: 184


1- العين: 3(قنع): 1531 ، وينظر: مفردات ألفاظ القرآن:(قنع): 686 .
2- أساس البلاغة: 2(قنع): 279 ، وينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 685 – 686 ، ومعجم ألفاظ القرآن الكريم: 5(قنع): 73 .
3- أساس البلاغة: 2(قنع): 279 – 280 . وينظر: القاموس المحيط: 3/ 16 .

والمتحدّث، والمصدر، والمرسِل، وعلى الرغم من تعدّد المسميات إلاَّ أن المخاطب هوالمراد لما فيه من سَعة الشمول، والعموم(1).

لقد شكّل الخطابُ عند الحسن(علیه السلام) ملمحاً إعجازيّاً، وبه خلّد العطاء الإنسانيّ له، والحقُّ أنه لا يمكن فصل سلوك الإنسان عن كلامه فهما مقترنان، فقد كوّن(علیه السلام) مدرسة فكرية متميزة، قال سبط بن الجوزي: «كان الله(عزوجل) قد رزقه الفطرة الثاقبة في إيضاح مراشد ما يعانيه، ومنحه الفطرة الصائبة لإصلاح قواعد الدين، ومبانيه، وخصّه بالجِبْلة التي درّت لها أخلاف مودّتها بصور العلم، ومعانيه» (2).

وقد تعدّدت الأصوات الناطقة في خطابات الحسن(علیه السلام) بلحاظ المقامات،وقوانين الأحوال من جهة كونه خليفة، وإماماً، وحكيماً، ومصلحاً، وناصحاً، وغيرذلك مما أضفى على تراثه الشمول، ويبدو أنَّ تعدّد هذه المقامات، والأدوار هو انعكاس للواقع الإنساني في تلك الحقبة.

ويمكن بيان ذلك من خلال أن نَفْلي تراث الحسن(علیه السلام)، فمقام الخليفة، والإمام يَتَج ويشعُّ في رسالته إلى معاوية حينما دعاه(علیه السلام) بعد استشهاد أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام) إلى مبايعته وطاعته، والدخول فيما دخل فيه المسلمون، منها: «إنَّ عليّاً لمّا مَضَى لسبيله رحمةُ الله عليه يومَ قُبض، ويوم مَنّ اللهُ عليه بالإسلام، ويوم يُبْعث حَيّاً، و نّالي المسلمون بَعْدَه، فأسأل اللهَ أنْ لا يؤتِيْنا في الدنيا الزائلة شيئاً يُنْقِصنا به في الآخرة مما عنده من الكرامة، وإنما حملني على الكتاب إليه الإعذار فيما بيني وبين الله(عزوجل)في أمرك، ولك في ذلك إنْ فَعَلْته الحظّ العظيم، والصلاح للمسلمين، فَدَعِ التمادي .

ص: 185


1- ينظر: الخطاب في نهج البلاغة(دراسة موضوعيّة فنيّة): 15 .
2- تذكرة الخواص: 186 .

في الباطل، وادخُلْ فيما دَخَلَ فيه الناس من بَيْعَتي»(1)، ويتج في هذا الخطاب معالم إنسانية مثالية منها: دعوته إلى الدخول في الجماعة، وإصلاح المسلمين، وترك التمادي في الباطل.

وتتجلى المعالم الإنسانية المثالية عند الحسن(علیه السلام)، لاسيما التواضع، وحُبّ الآخرين، والابتعاد عن التكبر والاستعلاء، وعدم الابتداء بالقتال، في مقام كونه قائداً، وقادراً على إدارة قيادة الجيوش، ففي وصيته القيّمة إلى ابن عمّه عبيد الله بن عباس حينما ولاّه الحسن(علیه السلام) قيادة الجيش لردّ العدوان الأمويّ: «يا بنَ العمِّ، إنّي باعثٌ مَعَك اثْني عَشَرَ ألفاً من فُرْسان العرب، وقُرّاء المِصْر الرَّجلُ منهم يزيدُ الكتيبة، فَسِرْ بهم، وألِنْ لَهُم جانبَكَ، وابْسُط لهم وَجْهَك، وافْرُشْ لهم جَنَاحَك، وأدْنِهم من مَجْلِسِك، فإنَّهم بَقِيّةُ ثُقَاتِ أمير المؤمنين، وسِرْ بِهِمْ على شطِّ الفراتِ، ثم امْضِ حتى تستقبل بِهم معاوية، فإن لَقِيتَه فاحْتَبِسْه حتّى آتيكَ» (2).

ويتج معلم النصح، وإرادة الخير للناس، وحبّه للوحدة والجماعة في مقام الناصح، قال(علیه السلام) في أشد المواقف، وأقساها بعدما تعرّض لمحاولة اغتيال، فقد طعنه الجرّاح بن سنان في فخذه، «أما بعدُ، فَوَاللهِ إنّي لأرجو أن أكون قد أصْبَحْتُ – بحمد اللهِ ومَنّه – وأنا أنْصَحُ خَلْقَ الله لخلقه، وما أصْبَحْتُ محتملاً على مسلم ضغينة، ولا مُريداً له بسُوء، ولا غائلة، وإنَّ ما تكرهون في الجماعة خيرٌ لكم مما تُحبون في الفُرْقة، ألاَ وإنّي ناظرٌ لكم خيراً من نَظَرِكُم لأنْفُسِكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تَرُدُّوا عليَّ رَأَي،غَفَر الله لي ولكم، وأرشدني وإيّاكم لما فيه المحبّةُ والرِّضا» (3). .

ص: 186


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 16 / 33 – 34 .
2- م.ن: 16 / 40 .
3- الإرشاد: 180 ، وينظر: مقاتل الطالبيين: 180 .

وتتجلى الحِكم الإنسانية، والتربوية، والنظرات الصائبة في السلوك الإنساني، وكيفيّة النظر إلى الدنيا، وطرائق التعامل مع الآخرين، وبيان صفات نِمم يتخذ صاحباً وخليلاً في مقام كونه(علیه السلام) حكيماً، فقال في وصيته للصحابي الجليل جُناده بن أبي أميّة، حينما عاده، طالباً منه أنْ يعظه: «يا جنادة، اسْتَعِد لسفرك، وحَصِّل زادَك قبل حُلول أجلك، واعْلَمْ أنّك تطلبُ الدنيا والموت يطلبك(...) واعلمْ أن الدنيا في حَلالها حِساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب، فأنزلِ الدنيا بمنزلةِ المَيْتةِ(...) وإذا نازعَتْكَ إلى صُحْبة الرّجال حاجة فاصْحَب مَنْ إذا صَحِبْتَه زانك، وإذا أخَذْتَ منه صانك، وإذا أردْت منه معونة أعانك، وإذا قُلْتَ صَدَّقَ قَوْلَك، وإن صُلْت شَدَّ صَوْلتك، وإن مَدَدْتَ يَدَك بفَضْلٍ مَدَّها، وإنْ بَدَتْ مِنْك ثُلْمةٌ سَدَّها، وإن رأى منك حَسَنةً عَدّها وإن سَألْتَهُ أعْطَاك، وإنْ سَكَتَّ عنه ابْتَدَأَك، وإن نَزَلتْ بِك إحْدَى المُلِمّات واساك، مَنْ لا تأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليك منه الطرائق، ولا يَخْذُلُك عند الحقائق» (1).

ويتجلى معلم حقن الدماء في مقام كونه(علیه السلام) إماماً، وناصحاً، وحكيماً، وأخاً كبيراً للحسين(علیه السلام) في وصيته له(علیهما السلام) في الاحتياط بالدماء، وعدم الخوض في إراقتها خشية أنْ يظلم بريء بعدما دُسّ إليه السمّ حقناً للدماء(2)، وكذلك وصيتُه إلى أخيه(علیهما السلام) أنْ يدفن عند أبيه رسول الله(صلی الله علیه و آله)، فإن منعتم فلا رُهيق دمٌ، وادفنوني في مقابر المسلمين، قال العسقلانيّ: « اَّمل حُ الحسن، قال للحسين: ادْفِنُوني عند أبي، يعني رسول الله(صلی الله علیه و آله) إلاَّ أن تعافوا، فإن خِفْتُم الدماء فلا تهريقوا فيّ دمّاً، ادْفنوني في مقابر المسلمين» (3).-:

ص: 187


1- أعيان الشيعة: 4/ 85 .
2- ينظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة: 1/ 562 ، وتذكرة الخواص: 62 .
3- تهذيب التهذيب: أحمد بن علي حجر العسقلاني(ت 852 ه-) دار الفكر، بيروت، 1404 ه-:

ومن هنا فقد وظّف الحسن(علیه السلام) مكانته، ومنزلته من جهة كونه خليفة، وإماماً،وقائداً، وحكيماً، وناصحاً في الخطاب توظيفاً إنسانياً مثاليّاً، فهو يمتلك «شخصيّةالأديب المجرّب الذي يختزن الأحداث والذكريات ويغوص في أعماق النفسيّات ويُدْرك بذكائه الفروق بين الشخصيّات وعنده من قوّة الخُلُق ما يستطيعُ أنْ يكون أنموذجاً بشرياً يفكِّر على مثال الأنموذج الذهني الذي تكوّن عنده، وينطق بالأفكار والكلمات التي تؤكّد هذه الشخصيّة ويحاوُر حوار الحاذق البارع ليصل إلى الرأي والفكرة ويعبر عن اللمحة والعاطفة» (1).

إنَّ الصفات الإنسانية المثالية التي تح بها الحسن(علیه السلام) وقربه من المصطفى(صلی الله علیه و آله)،وأبيه (علیه السلام) أهلته ليكون امتداداً عظيماً من المصطفى(صلی الله علیه و آله)، ومن أبيه(علیه السلام)، فأصبح له

مركز تربوي وإنساني، فهو مصدر الإشعاع الرسالي بما يمتلك من معالم إنسانية مثالية.

لقد كان الحسن(علیه السلام) قائداً للمرحلة، ورجلاً سياسيّاً، وإنسانيّاً، وتربويّاً؛ لأنه امتلك أعمق الصفات، وحاز عليها، فامتلاكه لهذه الذهنية، والملكات النفسية والتاريخ الشخصي، جعلته قادراً على قيادة الأمّة، وبثّ روح الإنسانية الأصيلة فيها(2)، قال راضي آل ياسين: «إنَّ الذين تحدّثوا عن الإمام وصلحه، فاتهم أنْ ينظروا إليه كألمع سياسيّ يدرس نفسيات خصومه، ونوازع مجتمعه، وعوامل زمنه، فيضع الخطط، ويقرّر النتائج، ويحفظ بخططه مستقبل أمة بكاملها، ويحفر بنتائجه قبور خصومه قبراً قبراً،ويَمُرّ بزوابع الزمن من حوله رسول السلام المضمون النجاح، المرفوع الرأس بالدعوة 54 /2. .

ص: 188


1- دفاع عن فن القول: عبد الكريم غلّاب، مطابع دار القلم، تونس، 1984 م: 164 ، وينظر: الخطاب في نهج البلاغة: 16 .
2- ينظر: من حياة أهل البيت: 31 .

إلى الإصلاح، ثم يموت ولا ير أنْ يهرق في أمره جِحممة دم» (1).

إنَّ القرابة بين الحسن(علیه السلام)، وبين المصطفى(صلی الله علیه و آله) كان لها تأثير في شخصيته(علیه السلام)، وبلورة خطابه، وقد انطلق(علیه السلام) من هذه القاعدة الرحم الماسّة مع المصطفى(صلی الله علیه و آله)، الذي يمثل أُنموذجاً إنسانيّاً متكاملاً، فكان(علیه السلام) يشدِّد على هذه القرابة من أجل دعم دعوته إلى إصلاح المجتمع، والدخول في الجماعة، وترك الفرقة، وإتباع دروب الضلالة، وأهل النفاق، والبغيّ، وقد نقل لنا المسعوديّ خطبة له في أحقيته بالخلافة قال(علیها السلام):

«نحن حزبُ الله المفلحون، وعترة رسول الله(صلی الله علیه و آله) الأقربون، وأهل بيته الطاهرون الطيبون، وأحد الثقلين اللّذينِ خلّفهما رسول الله(صلی الله علیه و آله)، والثاني كتاب الله فيه تفصيل كلّ شيء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعوّل عليه في كلّ شيء، لا يُخْطِئنا تأويله، بَلْ نتبيّن حقائقه فأطيعونا، فإن طاعتنا مفروضةٌ إذ كانت بطاعة الله والرسول، وأولى الأمر مقرونة «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ»،«وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» وأحذّركم الإصغاءلهتاف الشيطان إنّه لكم عدوٌّ مبين، فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: «لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ»» (2).

وكذلك بيانُ انتسابه إلى أبيه(علیه السلام) أشجع العرب، وأمّه الطاهرة فاطمة الزهراء(علیها السلام)، عندما رَدّ(علیه السلام) عبد الله بن الزبير يوم عاتبه على سلمه مع معاوية، ننقل موضع الحاجة من قوله(علیه السلام): «ثم تَزْعَمُ أنّي سَلَّمْتُ الأمر، فكيفَ يكون ذلك).

ص: 189


1- صلح الحسن(علیه السلام): 19.
2- مروج الذهب: 3/ 10 – 11 .(النساء/ من الآية 59 )،(النساء/ من الآية 83 )،(الأنفال/ من الآية 48 ).

وَيْحَك كذلك؟!، وأنا ابنُ أشجعُ العربِ، وقد وَلَدَتْني فاطمةُ سيّدةُ نساء العالمين، وخِيْرَةُ الإماء، لَمْ أَفعلْ ذلِك جُبْناً ولا ضَعْفاً، ولكنَّهُ بايعني مِثْلُك، وهو يَطْلِبُني بتِرَةٍ، ويُدَاجيني المودّة ولم أثق بنصرته؛ لأنّكم أهلُ بيت غَدْرٍ» (1).

لقد كان الحسن في خطبه، ورسائله يعرف بنفسه، لكي يُلقيَ الحجّة على الناس،ويبين للمخاطبين أنه من ذريّة رسول الله(صلی الله علیه و آله)، وهو أحقّ بالإتباع، وتسلّم السلطة من غيره، فضلاً عن صفاته الإنسانية المثالية.

إنَّ الغاية من التعريف بنفسه من أجل إصلاح المجتمع، وطلب العودة، والرجوع إلى رشدها واستمالتهم لطلب العفو، والصفح، والتوبة.

إنَّ ما خلّفه(علیه السلام) من تراث فكري، وإنساني، وعلمي من خلال النصوص التي تركها لنا على شكل خطب، ورسائل، ووصايا، واحتجاجات، وأحاديث، وحكم في فروع المعرفة المختلفة، تكشف عن تنوّع اهتمام الحسن(علیه السلام)، وسَعَة علمه، وإحاطته بمتطلبات المرحلة التي كانت تعيشها الأمّة المسلمة في عصره المحفوف بالفتن،والمخاطر، والدواهي(2).

إنَّ الأهم في دراسة أحوال الحسن(علیه السلام) هو بيان الصفات السلوكية، والجوانب الإنسانية والتربوية، والإطار القيادي والسياسي الذي صدر عنه.

علينا أنْ نقف عند عنصر القيادة البشرية المتجاوزة على الحدود الزمانية، والمكانية، وكذلك علينا أنْ نبعث روح الحسن(علیه السلام) من جديد، ونجعلها وهّاجة، ساطعة، ناصعة في وجودنا، وهي روح الإسلام الأصيل. .

ص: 190


1- المحاسن والمساوئ: 1/ 58 – 59 ، وينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 323 .
2- ينظر: أعلام الهداية: 193 – 194 .

إنَّ المقام السامي، والرفيع الذي نزله الحسن(علیه السلام)، ومحبوبيته الواسعة الأبعاد، قادرة على زلزلة العرش الظالم، فالحزب المعارض الظالم كان يتوقّع زوال حكمه، وملكه في أيّة لحظة، فضلاً عن ذلك، فإنَّ الخطاب الإنساني الإصلاحي الواسع، والدعوة إلى الوحدة، والتآلف، والحوار، والحفاظ على دماء المسلمين جعلت الطرف المعارض والمعادي يخشى من الوحدة، والجماعة، والحوار، والصلاح، فهو يرغب في الفرقة، والتشتت، والانحلال.

ثانياً: فَصلُ الخطاب

لقد اشتملت شخصية الحسن(علیه السلام) على خصائص كثيرة، عرضنا عليها فيما سبق، لاسيما المقامات العالية السامية الرفيعة لكونه خليفة، وإماماً، وقائداً، وحكيماً، وناصحاً، وموجّهاً مما أهلّتهُ لإنتاج خطاب عالٍ جمع فيه بين الإفهام، والإمتاع،.

لقد أعطى الحسن(علیه السلام) مَلَكة الخطاب؛ والقول الفصل، وعندما نَفِيلْ تراثه(علیه السلام) نجد هذه الملكة حاضرة، وواضحة وقد وقفنا من قبلُ على نصوص كثيرة المتفحّص فيها، يجد هذا الأمر في جنبات تراثه سواءٌ أكان خطبة، أم رسالةً، أم وصيّة، أم حكمة وغيرها.

لقد وظّف الحسن(علیه السلام) اللغة توظيفاً بيّناً، ودقيقاً، فكانت أداة، وآلة طيّعة تستجيب له أنى شاء، ومتى أراد في المستويات كافة من أجل التأثير في المتلقي، واستمالته، وإقناعه.

وقد عدّ الفخر الرازي(ت 606 ه-) فصل الخطاب في قوله تعالى: «وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ»(ص/ 20 )، صفة أعطيت لداود(علیه السلام)؛ لأنها علامة مهمة من علامات حصول القدرة والإدراك، وكون الناس مختلفين في «مراتب القدرة على التعبير ع في الضمير، فمنهم من يتعذّر عليه إيراد الكلام المرتّب المنتظم، بل يكون

ص: 191

مختلط الكلام مضطرب القول، ومنهم مَنْ يتعذّر عليه الترتيب من بعض الوجوه، ومنهم من يكون قادراً على ضبط المعنى، والتعبير عنه إلى أقصى الغايات(...) لأنّ فصل الخطاب عبارة عن كونه قادراً على التعبير عن كلّ ما يخطر بالبال، ويحضر في الخيال، بحيث لا يختلط شيءٌ بشيء، وبحيث ينفصل كُلُّ مقام عن مقام»(1)، وفي هذا إشارة واضحة، ومهمة إلى أن الخطاب يتكامل بتكامل مُنْشئه.

إنَّ المنبت، والمغرس النبويّ الذي ترعرع فيه الحسن(علیه السلام)، ورضعه من لبان حكمة المصطفى(صلی الله علیه و آله)، والملكة الخطابيّة التي وعاها من أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام) جعلته يمتلك ملكة الخطاب، والأخذ بزمام القول وجوانبه، وقد أشار أخوه الحسين(علیه السلام) إلى هذه الملكة الخطابيّة، وجذورها، حينما أبّنَ الحسن(علیه السلام)، معدّداً مناقبه، وسجاياه، وحكمته، جاء فيها: «رَحِمك اللهُ أبا محمد، إنْ كُنْتَ لتباصُرَ الحقِّ مظانَّه، وتؤثر الله عند مداحض الباطل في مواطن التقيّة بحسن الرويّة، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقدة، وتقبض عليها يداً ظاهرة الأطراف نقيّة الأسِرّة،(...) ولا غرو وأنت ابن سلالة النبوة، ورضيع لِبان الحكمة، فإلى روح، وريحان، وجنّة نعيم، أعظم اللهُ لنا، ولكم الأجر، ووهب لنا، ولكم السلوة، وحسن الأسى عنه» (2).

ومن الجلیّ أن هذا النصّ التأبيني قد جسّد نمطاً واقعيّاً ينسجم مع واقع الحسن(علیه السلام)، إذ ذكر جانباً من مناقبه، وسجاياه، وصبره العظيم على مفاتن الدنيا، .

ص: 192


1- التفسير الكبير: أبو عبد الله محمد الرازي: ط 4، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان،1422 ه- 2001 م: 26 / 187 – 188 ، وينظر: فهم الخطاب القرآني بين الإمامية والأشاعرة: 22 .
2- عيون الأخبار: ابن قتيبة: شرح وضبط وتقديم يوسف علي طويل، دار الكتب العلمية،بيروت، 1998 م: 2/ 238 – 239 .(مَدَاحِض مَزَالِق)، والأ ةِرسّ جمع اِرسر وتعني خطوط الكفّ،والجبهة، وجمع الجمع أسارير، وينظر: مختار الصحاح:( رَرس) 295 .

وغرورها، وحلمه الواسع على مكر أعدائه، وقد نهضت بتلك الدلالات المتقدّمة،عبارات النص المشعّة(1).

وقد اعترف ألدُّ خصومه بهذه الملكة الخطابيّة، انظر إلى تقريظ معاوية له في خواتيم المشاجرات التي كان يثيرها عليه في مجالسه، وإلى إطّرائه إيّاه في مناسبات أخر لا تتصل بهذه المشاجرات، قال اليعقوبي: «وقال معاوية: ما تكلّم عندي أحدٌ كان أحبَّ إليّ إذا تكلّم أنْ لا يسكت من الحسن بن عليّ» (2).

وكان الحسن(علیه السلام) مما لا تطاق عارضته، وكان معاوية يخاطب مروان بن الحكم قد كُنت نهيتُك عن هذا الرجل، وأنت تأبى إلا انهماكاً فيما لا يعنيك، وقال له: «لا تجار البحار. فتغمرك، ولا الجبال فتبهرك، واسترح من الاعتذار»(3)، وقال خير الدين الزركليّ: «كان عاقلاً حليماً محبّاً للخير، فصيحاً من أحسن الناس منطقاً، وبديهة(...) كان معاوية يوصي أصحابه باجتناب محاورة رجلين هما الحسن بن علي، وعبد الله بن عباس لقوة بداهتهما» (4).

إن هذه الملكة الخطابية العالية وظّفها الحسن(علیه السلام) في تج المعالم الإنسانية المثالية في تراثه أجمع، وقد كفتنا النصوص التي ذكرناها من قبل مؤونة الاستشهاد بها، وقد ألمح سبط بن الجوزي إلى أثر هذه الآلية المهمة في تج معالم الإنسانية المثالية عنده(علیه السلام) لاسيّما في إصلاح الدين، والمجتمع، فقال: «كان اللهُ(عزوجل) قد رزقه الفطرة الثاقبة في .

ص: 193


1- ينظر: أدب الإمام الحسين(علیه السلام) قضاياه الفنيّة والمعنوية: 152 .
2- تاريخ اليعقوبي: 2/ 158 ، وينظر: صلح الحسن(علیه السلام) 201 - 202 .
3- صلح الحسن(علیه السلام): 204 .
4- الأعلام(قاموس تراجم): خير الدين الزركلّي، ط 17 ، دار العلم للملايين، بيروت – لبنان، 2007 م: 2/ 199 .

إيضاح مراشد ما يعانيه، ومنحه الفطرة الصائبة لإصلاح قواعد الدين ومبانيه، وخصّه بالجِبْلة التي درّت لها أخلاف مودّتها بصور العلم ومعانيه» (1).

وقد أشار طه حسين إلى أن الحسن(علیه السلام) قد أُوتي الفصاحة، واللسن، وفصل الخطاب، وإنّه «قد خطب الناس غير مرّة في حياة أبيه، وبعد وفاته، فلم يعرف منه عيّاً أو حصراً، وهو بعد ذلك أو قبل ذلك من أهل بيت لم يعرَفوا قطّ بعيّ أو حصر، وإنما كانوا معدن الفصاحة، واللسن، وفصل الخطاب، وقد خطب الحسن فقال: خير ما كان يمكن أنْ يقال، وأصدق ما كان يمكن أنْ يقال أيضاً: قال: «أيُّها الناس إنَّ أكْيَسَ الكَيْس التقي، وأحمق الحُمْق الفجور، إن هذا الأمر الذي سلّمته لمعاوية إما أنْ يكون حقّ رجل كان أحقّ به منّي فأخذ حقّه، وإمّا أن يكون حقّي، فتركتُه لصلاح أمّة محمد،وحقن دمائها، فالحمدُ لله الذي أكرم بنا أوّلكم، وحقن دماء آخركم» (2).

لقد عالج الحسن(علیه السلام) الأوضاع التي دارت حوله بما أُوتي من «الحكمة البالغة، والحُنْكَة الموهوبة متدرّجاً معها من البداية إلى النهاية لا يستسلم للغضب، ولا يتأثر بالعاطفة، ولا يستكين للحوادث، ولا يتقلقل للمربكات، ولا تهزه إلاّ نُصرة الدين، وكلمة القرآن، ودعوة الإسلام(...) وكان من حلاوة حديثه وسرعة بديهته، وقوّة حجّته، وهيبته، وحِلمه، وحجاه، ما شَهِد به أعداؤُه، فضلاً عن أصدقائه» (3).

وعلى الرغم من امتلاك الحسن(علیه السلام) هذه الملكة الخطابيّة، وفصل الخطاب، إلاّ أن الأمويين أرادوا أن يلصقوا به(علیه السلام) تهمة جديدة، وهي(الحَصْر والعِيّ) وهما من عيوب المتكلم، ونعني بهما: التلجلج في الكلام، والإرتجاح في الخطاب، وعدم القدرة .

ص: 194


1- تذكرة الخواص: 186 .
2- الفتنة الكبرى: 2/ 185 . وينظر: كشف الغمة: 2/ 193 – 194 .
3- صلح الحسن(علیه السلام): 201 .

على الكلام، وضبطه إن تمكّن منه، وجعلهما الزمخشري بمعنى واحد، قال: «حَصر في كلامه، وفي خطبته: عَيّ» (1).

وقد نفى الحسن(علیه السلام) هذه التهمة من قبل، رادّاً إياها، فبعد قبوله السلم، والهدنة مع معاوية بالشروط التي أملاها(علیه السلام) على معاوية، عاتبه عبدُ الله بن الزبير عتاباً شديداً قائلاً له(علیه السلام): فما أدري ما الذي حملك على ذلك؟ أضعفُ في الرأي، أم وهن نَحِيزة(طبيعة)، فأجاب الحسن(علیه السلام): «أمّا واللهِ لولا أنَّ بني أميّة تَنْسِبُني إلى العَجْز عن المقال، لَكَفَفْتُ عنك تهاوُناً، ولكن سأبيّن لك ذلك لتعلم أنّي لَسْتُ بالعَيِيّ، ولا الكليل اللّسان، إيّاي تعيّر، وعليّ تفتخر، فزوجته صفيّة بنت عبد المطلب، فبذخ على جميع العرب بها، وشرف مكانها، فكيف تفاخر مَنْ هو في القلادة واسطتها، ومن الأشراف سادتها، نَحنُ أكرمُ أهل الأرض زَنْداً، لنا الشرفُ الثاقبُ، والكرم الثاقب» (2).

وأصل هذه التهمة فيما يبدو أبو الفرج الأصفهاني قال: «وكان في لسان الحسن بن علي ثقل كالفأفأة(...) حدّثنا مفضل بن صالح بن جابر، قال: كانت في لسان الحسن رُتَّة، فقال: سلمان الفارسيّ: أتَتْه من قِبَل عمّه موسى بن عمران(علیه السلام)»(3)، ولا أعلم ما مصدر رواية الأصفهاني هذه، ومن أين تأتي هذه الرُّتّة العُجْمة في كلامه(علیه السلام)؟!، وقد رُضِع من لبان حكمة المصطفى(صلی الله علیه و آله)، و لَهنِ من مناهل الفصاحة والبلاغة. .

ص: 195


1- أساس البلاغة:(عَيّ)/ 177 . وينظر: الفروق اللغوية: أبو هلال العسكري، علق عليه ووضع حواشيه: محمد باسل عيون السود، ط 3، دار الكتب العلمية، بيروت، 1426 ه - 2005 م:131.
2- المحاسن والمساوئ: 1/ 58 – 59 ، وينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 323 .
3- مقاتل الطالبيين: 49 – 50 .(الرُّتَّة بالضم العُجْمة في الكلام، ورجلٌ أرَتّ ب الرَّتَت، وفي لسانه رُتّة) مختار الصحاح:(رتت): 232 .

ويظهر من خلال النصوص التي وقفنا عليها في هذا الباب أن بَطَل هذه الروايات هو عمرو بن العاص بن وائل، قال المسعوديّ: «ولمّا صالح الحسن معاوية لما ناله من أهل الكوفة، وما نزل به، أشار عمرو بن العاص على معاوية وذلك بالكوفة أن يأمرَ الحسن فيقوم، فيخطب الناس، فكَرِه ذلك معاوية، وقال: ما أريد أنْ يخطب بالناس، قال عمرو: لكن أريد أنْ يبدو عِيُّهُ في الناس بأن يتكلّم في أمور لا يدرى ما هي، ولم يزل به حتّى أطاعه، فخرج معاوية فخطب الناس، وأمر رجلاً أنْ ينادي بالحسن بن علي، فقام إليه، فقال: قُم يا حسن، فكلّم الناس، فقام، فتشهّد في بديهته ثم قال: أما بعدُ، أيها الناس، فإنَّ اللهَ هداكم بأوّلنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإنَّ لهذا الأمر مدّة، والدنيا دُوَل، قال الله(عزوجل) لنبيّه محمد(صلى الله عليه وسلم)، قل: «وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ»، ثم قال في كلامه ذلك: يا أهل الكوفة، لو لم تُذْهَل نفسي عنكم إلاّ لثلاث خصال لذُهِلْتُ: مقتلُكم لأبي، وسلبكم ثقلي، وطعنكم في بطني» (1).

ولا يخفى ما في هذه الرواية من دليل واضح، وبرهان ساطع، على ملكة الحسن(علیه السلام) الخطابية، وتمكنه من بلاغة القول.

وقد عاب معاوية عمرو بن العاص على رأيه هذا، قال سبط بن الجوزي: «عندما وقع الصلح سار معاوية فدخل الكوفة فأشار عليه عمرو بن العاص أنْ يأمر الحسن أنْ يخطب، ليظهر عيّه، فقال له: قم فاخْطُبْ، فقام وخطب، فقال: أيّها الناس، إن الله قد هداكم بأوّلنا، وحقن دماءكم بآخرنا، ونحن أهل بيت نبيّكم أذهب اللهُ عنا الرّجس،1)

ص: 196


1- مروج الذهب: 3/ 9 – 10 ، وينظر: الكامل في التاريخ: 3/ 208 .(الأنبياء/ 109 –111)

وطهّرنا تطهيراً، وإنَّ لهذا الأمر مدّة، والدنيا دول، وقد قال الله تعالى لنبيّه محمد(صلی الله علیه و آله): «وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ»، فضجّ الناس بالبكاء، فالتفت معاوية إلى عمرو، وقال: هذا رأيك، ثم قال للحسن: حَسْبُك يا أبا محمد(...) وفي وراية أنه قال:

«نحن حزب الله المفلحون، وعترة رسوله المطهّرون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول الله(صلی الله علیه و آله) فيكم، فطاعتنا مقرونة بطاعة الله:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ»، وإن معاوية دعانا إلى أمرٍ ليس فيه عزّ ولا نَصَفَة، فإن وافقتم رددْنا عليه،وخاصمناه إلى الله تعالى، بظُبا السيوف، وإن أبيتم قَبِلْناه، فناداه الناسُ من كلّ جانب البقية البقية» (1).

إنَّ طلب معاوية من الحسن(علیه السلام) اعتلاء مِنصة الخطابة؛ ليبين للناس قبوله بالسلم، كان بإشارة عمرو بن العاص، ليظهر للناس بحسب زعمه عِيّ الحسن(علیه السلام) وحَصْره، وعدم مقدرته على الخطاب، وقد انبرى الحسن(علیه السلام) إلى أعواد المنبر، والناس كلّهم أُذُن صاغية، وهم ما بين راغب، وراغم، فخطبهم خطبة طويلة كانت في منتهى البلاغة، والبيان، وعظ فيها الناسَ، ودعاهم إلى الألفة والمحبّة، وصوّر فيها الأحداث الرهيبة التي جرت على أهل البيت بعد وفاة المصطفى(صلی الله علیه و آله). (2)

ولا تعجب أيها القارئ العزيز من تصرّف عمرو بن العاص، وعمله هذا، فكان محبّاً للفتنة، والسلطة، والإمارة، وعُرف بمكره، ودهائه، وقد صرّح عباس محمود العقاد بذلك الأمر أكثر من مرّة تبعاً للروايات التي وقف عليها في كتابه(عمرو بن العاص)، منها ما له علاقة بأحداث مقتل الخليفة عثمان بن عفان، قال: «وترك الفتنة، وآوى إلى .

ص: 197


1- تذكرة الخواص: 74 .(الأنبياء/ 111 )،(النساء/ من الآية 59 ).
2- ينظر: حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 259 .

مينائه بفلسطين، يتلقّى الركبان ويسأل منهم كلَّ عابر ينفعه سؤاله، فمر به راكب من المدينة فاستخبره خبر عثمان، فقال: محصور: ثم أعقبه آخر، فقال: قُتل عثمان، فيروي رواة الخبر أنه صاح يومئذ: أنا أبو عبد الله إذا نَكَأتُ قُرْحةً أدْمَيْتُها(...) واللهِ إ كُنْت ألْقَى الراعي فأحرِّضه على عثمان» (1).

وكان متجاسراً على الخلفاء لاسيّما الثاني، والثالث، فقد «أرسل إليه عمر بن الخطاب من يحاسبه، ويشاطره ماله، غضب، وقال للرسول: قبّح اللهُ زماناً عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب فيه عامل، واللهِ، إني لأعرف الخطاب يحمل فوق رأسه حزمة من الحَطب، وعلى ابنه مثلها، وما منهما إلاَّ في نَمِرَة لا تبلغ رُسْغَيه، والله ما كان العاص ابن وائل يَرْضى أنْ يلبس الديباج مُزَرَّراً بالذهب»(2)، ولما عزله «عثمان من ولاية مصر دعاه فأنّبه، وقال له: استعملتُك على ظُلْمك، وكَثْرة القالة فيك، فقال عمرو، قد كنت عاملاً لعمر بن الخطاب، ففارقني وهو عني راضٍ، واحتدم الجدل بينهما، فهمَّ عمرو بالخروج مغضباً، وهو يقول: قد رأيتُ العاص بن وائل، ورأيتُ أباك، فواللهِ للعاص كان أشرف من عفان، فما زاد عثمان على أن قال: ما لنا ولذكر الجاهلية» (3).

وقد ذكر العقاد رواية في نسبه مؤكداً إياها تأنَفُ هذه الدراسة من ذكرها؛ لما فيها خدش للحياء، وخروج عن الجوّ العام لهذه الدراسة، التي تخصّ الإنسانية المثالية لسبط المصطفى(صلی الله علیه و آله)، وغرسه، وبرعه، الطهر الطاهر سيّد شباب أهل الجنة، الحسن بن عليّ(علیهما السلام) . .

ص: 198


1- عمرو بن العاص: عباس محمود العقاد: ط 2، دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان، 1969 م:26.
2- م.ن: 14 .(نَمِرَة: جبّة من صوف يلبسها الأعراب
3- عمرو بن العاص: 14 – 15 .

ثالثاً: الاهتمام بالمتلقّي

إنَّ الاهتمام بالمتلقّي(السامع) ضرورة في عملية تشكيل الخطاب، فمفهوم الخطاب مؤسس على عملية الفهم، والإفهام، وتتب مدى قوة اللحمة بين الفهم، والخطاب، ومن هنا يكون الخطاب مجموعة من القيم الدلالية المندرجة في سياق معين، قصد به مبدعه إفهام المتلقّي، سواء أكانت هذه القيم إشارة، أم علامة، أم لفظاً(1).

إنَّ إقناع المتلقي(المخاطَب)، واستمالته من خلال الاهتمام به، والدأب على إيصال الفكرة له هي سمة واضحة في الخطاب الحسني، فإنَّ الحسن(علیه السلام) قد اهتم بوجود المتلقي، وعَمِل على إقناعه، وحجاجه، والتأثير به في مستويات الحال كافة.

إن الخطاب الحسنيّ كان يرمي إلى هداية المتلقي، ونجاته من المهلكة، والفوز بجنة الآخرة، فضلاً عن ذلك الدعوة إلى إصلاحه خاصة، وإصلاح المجتمع الذي يحوي جمّاً غفيراً من المتلقين أصحاب الفهوم المتفاوتة، وكذلك إلى لزوم الجماعة والعُصبة، وترك الخلافة والفرقة، والدعوة إلى التواصُل والتحابُب والتوادد، والتعايش، وهجران التباغُض، والتدابُر والتناحُر.

هذه الدعوات الإنسانيّة وغيرها، كانت مزايا تُلْمح في هذا التراث الإنساني الخالد، فكان الحسن(علیه السلام) يجعل المتلقي في دائرة النص التأثيرية، لا يغيب عنه طرفة عين، فهو أمامه دائماً، وهذا ما يَبينُ، ويوضّح القيمة البلاغيّة في عملية التواصُل، والإبلاغ.

إنَّ الإسلوب هو قوة ضاغطة يسلّطها المتكلم على المخاطب، بحيث يسلبه حرية التصرّف إزاء هذه القوّة، فكأنّ الأسلوب أصبح بمثابة قائد لفظي للمتلقي، «هذه القوة الضاغطة تتمثّل فيها عملية الإقناع بوسائلها العقلية، التي من خلالها يُسْلم المتلقّي .

ص: 199


1- ينظر: فهم الخطاب القرآني بين الإمامية والأشاعرة: 25 – 26 .

قياده للفكرة الموجّهة إليه، كما تتمثّل فيها عملية الإمتاع التي تلوّن الكلام بكثير من المواصفات العاطفية، الوجدانية، بحيث تكون هناك مزاوجة بين الجانب الإقناعي، والجانب الإمتاعي، كما تتمثّل فيها ثالثاً عملية الإثارة، التي بها يوقِف المبدع المشاعر التي كانت مختزنة عن المتلقّي أو يجمِّدها تمهيداً لإحلال انفعالات جديدة، مُسبَّبة عن الطاقة الفكرية والعاطفية الموجّهة إليه» (1).

إنَّ المتأمّل والمدقق في تراث الحسن(علیه السلام) أجمع، يجد الاهتمام بالمتلقّي، وإثارته، ومراعاته حاضراً حضوراً واضحاً، فلا نعدم وجود هذا الأمر في أغلب تراثه، بدءاً من إيفاده في زمن أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام) إلى أهل الكوفة يدعوهم إلى نصرة إمامهم وخليفتهم في البصرة، وكان أبو موسى الأشعري والياً على الكوفة، فأخذ الحسن(علیه السلام) يجدّ في تحفيز الناس، وإثارتهم للجهاد، وحضهم إلى الخروج إلى البصرة لنصرةأبيه(علیه السلام) منها ما قال لهم: «أيُّها الناسُ، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم،فإنَّه سَيُوْجَدُ لهذا الأمر من يَنْفُرُ إليه، واللهِ لَئِن يَلِيَه أولو النَُهى أمثل في العاجلة، وخيرفي العاقبة، فأجيبوا دَعْوَتنا، وأعينونا على ما ابْتَلَيْنا به، وابْتَلَيْتُم»(2)، وقال أيضاً(علیها السلام):

«وهو يسألكم النصر، ويدعوكم إلى الحقّ، ويأمركم بالمسير إليه، لتؤازروه وتنصروه على قوم نكثوا بيعته، وقتلوا أهل الصلاح من أصحابه، ومَثّلُوا بعماله، وانتهبوا ماله،فأشخصوا إليه رحمكم الله، فمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، واحضروا بمايحضر به الصالحون»(3)، وانتهاءً بوصيته إلى أخيه الحسين(علیه السلام)، وهو يجود بنفسه .

ص: 200


1- البلاغة والأسلوبيّة: محمد عبد المطلب: ط 4، الشركة المصرية العالمية(لونجمان)، مصر،236 – 235 :1994
2- تاريخ الأمم والملوك: 3/ 499 .
3- أعيان الشيعة: 2/ 369 .

يدعوه(علیه السلام) فيها إلى حقن الدماء، والاحتراز والاحتياط منها، ودفنه بجوار جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله)، وإن منع فالبقيع، قال ابن رستم الطبري: «ولما حضرته الوفاة قال لأخيه: إذا مُتُّ فغسّلني، وحنّطني، وكفّني، وصلِّ عليّ، واحملني، إلى قبر جدّي حتى تَلْحَدَني إلى جانبه، فإن منعت من ذلك، فبحقّ جدّك رسول الله، وأبيك أميرالمؤمنين، وأمّك فاطمة وبحقّي عليك إن خاصمك أحدٌ رُدّني إلى البقيع، فادفني فيه،

ولا تهرق فيّ مِحجمة دمٍ» (1).

إنَّ الضغط الذي يسلّط على المتلقّي، ويؤثّر في إدراكه، ويحرّك فكره، وشعوره يكون من خلال الطاقات التعبيرية، والأسلوبية الضاغطة التي تؤثّر تأثيراً واضحاً، وقويّاً على المتلقي، وكلّما تعدّدت المفاجآت في الأسلوب زادت القوة الضاغطة، وتكاثرت ردود الفعل(2).

إنَّ تكثيف هذه الطاقات التعبيريّة في الخطاب، جاءت من أجل المتلقي، ومحاولة استمالته، وإثارته، والتأثير فيه، ومن هنا فقد تباينت الأساليب التركيبيّة في الخطاب الحسنيّ، وفاقاً لدواعٍ دلاليّة، وغايات إفهاميّة، فالحسن(علیه السلام) كان حريصاً على إيصال أفكاره، ومنهجه، ومعرفته، إلى المتلقّين؛ من أجل إثارتهم، وشد أذهانهم، واستشعار نفوسهم، وقلوبهم.

وليس غرض هذه الفقرة(الاهتمام بالسامع) هو دراسة تراث الحسن(علیه السلام) دراسةأسلوبية، لكن الغاية بيان أثر الطاقات التعبيرية، وتباين الأساليب التركيبية في تج المعالم الإنسانية المثالية عنده(علیه السلام). .

ص: 201


1- دلائل الإمامة: 61 .
2- ينظر: البلاغة والأسلوبية: 240 – 241 .

إنَّ أهمّ هذه الطاقات التعبيرية، والأساليب التركيبية التي نلمحها في خطاب الحسن(علیه السلام) من أجل شدّ انتباه المتلقي، وإثارته، والتواصل معه هو أسلوب الأمر، لاسيما صيغته الرئيسة(افْعَل)، والنداء، والتكرار الدلالي.

إنَّ أوّل ما عنانا من هذه الطاقات التعبيرية، هو الأمر وهو «صيغة تستدعي الفعل،أو قولٌ يُنبئ عن استدعاء الفعل من جهة الغير على جهة الاستعلاء»(1)، ودلالة الأمرالرئيسة هي الطلب، ونلمح هذه الطاقة من رسالة الحسن(علیه السلام) البليغة الطويلة إلى معاوية، وقد دعاه فيها إلى قيم إنسانية مثالية منها إصلاح المجتمع، وحفظه من خلال مبايعته، والدخول في الجماعة، وعدم التمادي في البغي والجور، فنجد الأفعال الأمرية حاضرة حضوراً جليّاً، ننقل منها مقطعاً لبيان هذا الملمح الأسلوبي، قال(علیه السلام): «فدعِ التمادي في الباطل، وادخُلْ فيما دَخَل فيه الناس من بيعتي، فإنّك تَعْلَمُ أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عند الله، وعند كلّ أوّابٍ حفيظ، ومَنْ له قَلْبٌ مُنِيبٌ، واتَّق اللهَ ودَعِ البغي، واحْقِن دِماءَ المسلمين، فواللهِ ما لك خَيْرٌ في أنْ تَلْقَى اللهَ من دمائهم بأكثر

مما أنت لاقيه به، وادْخُلِ في السِّلم والطاعة ولا تنازع الأمرَ أهْلَه، ومَنْ هُوَ أحقّ به منك لِيُطْفئَ اللهُ النائرة بذلك، ويجمع الكلمة، ويصلحَ ذات البين، وإن أنت أبيت إلاَّالتماديَ في غيِّك سِرْتُ إليك بالمسلمين، فحاكمتُك حتى يحكمَ اللهُ بيننا وهو خيرُالحاكمين»(2)، فالأفعال الأمرية [دَعْ(تكرّر مرتين)، ادْخُلْ(تكرّر مرتين)، اتّقِ، احْقِنْ] .

ص: 202


1- الطراز(المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز): يحيى بن حمزة العلويّ: مراجعةوضبط وتدقيق: محمد عبد السلام شاهين، ط 1/ دار الكتب العلمية، بيروت، 1415 ه - 1995 م:530.
2- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 16 / 34 .

طاقات تعبيريّة تؤثر في المتلقّي، وتجعله شريكاً رئيساً في الخطاب، قال راضي آل ياسين: «فلا عجب إذا جاء كتاب الحسن هذا صريحاً في تهديده، شديداً في وعظه، قويّاً في لغته الآمرة الناهية» (1).

وتشتدّ هذه الطاقة التعبيريّة في وصيته البليغة الذهبيّة إلى الصحابي جُناده بن أبي

أمية، وهو(علیه السلام) في أشدّ الأحوال وأقساها حينما دُسّ السمُّ إليه، قال(علیه السلام): «يا جنادةُ، استعِدَّ لِسَفَركَ، وحَصِّلْ زادَك قَبْلَ حُلولِ أجَلِك، واعْلَمْ أنَك تطلبُ الدنيا والموت يَطْلُبُك، ولا تَحْمِلْ هَمّ يومِكَ الذي لم يأتِ على يومك الذي أنت فيه، واعْلَم أنّك لا تَكْسِبُ من المال شيئاً فوق قُوّتك، إلاَّ كُنتَ فيه خازناً لغيرك، واعلمْ أن الدنيا في حلالها حِسابٌ، وفي حَرامِها عقاب، وفي الشبهات عِتاب، فَأنْزل الدنيا بمنزلة المَيْتَةِ،

خُذْ منها ما يكفيك، فإن كان حلالاً كُنتَ قَدْ زَهِدْت فيه، وإن كان حراماً لم يكن فيه وِزْرٌ فأخذت مِنْه كما أخَذْتَ من المَيْتَة، وإن كان العقابُ فالعقابُ يسير، واعمل لِدُنياك كأنّك تعيش أبداً، واعْمَل لآخرتك كأنّك تموتُ غداً، وإذا أردْت عِزّاً بلا عَشِيرةٍ، وهيبةً بلا سُلطان، فاخْرُج من ذُلّ معصية اللهِ إلى عِزّ طاعة الله(عزوجل) وإذا نازعَتْك إلى صُحْبة الرّجال حاجةٌ، فاصْحَبْ مَنْ إذا صَحِبْتَهُ زانك»(2)، فاحتشاد الأفعال الأمرية، وهي[اسْتَعِدْ، وحَصِّلْ، واعْلَمْ(تكرر خمس مرات)، وأنْزِلْ، وخُذْ، واعْمَلْ(تكرّر مرّتين)،واخْرُجْ، واصْحَبْ] في الخطاب الحسنيّ غايته الاهتمام بالمتلقي، ومحاولة جَذْبه، وشدّه،واستثارته، فضلاً عن ذلك الوصول إلى أعلى درجات التوصيل، والاستقبال.

أما النداءُ، فكثير الدوران في خطابه(علیه السلام)، والمقصد من النداء هو «لفت نظرالمنادى، وتنبيهه على الأمر الذي يلي النداء، بمعنى أنَّ النداء فتحٌ لمجالات الخطاب، .

ص: 203


1- صلح الحسن(علیه السلام): 83 .
2- أعيان الشيعة: 4/ 85 .

أي أنّه سعيٌ قَبْلي، أو محاولة لتهيئة المخاطَب إلى المباشرة الخطابية بين طرفي الخطاب،سواء أينتقل المخاطَب إلى ساحتك، أو بالتحرّك نحو ساحة المخاطَب»(1)، وقد استعمل الحسن(علیه السلام) حرف النداء(يا) وهو لنداء البعيد لتوصيل كلامه، وتنبيه المتلقّي على ما يراد منه، وقد تعدّد المنادون في خطاب الحسن(علیه السلام)، لاسيما نداؤُه إلى الناس من خلال تركيب(يا أ اُّهي الناسُ)، وكذلك نداؤُه إلى مَن يريد تنبيهه، وإثارته، من نحو:(يا أبا موسى)، و(يا معاويةُ)، و(يا حِجْرُ)، و(يا عَدِيُّ)، و(يا أبا سعيدُ)، و(يا جُنادة)،و(يا مُحمَّدُ)، و(يا حُسينُ)، وغيرها، وقد جاءت هذه النداءات في خطابه(علیه السلام)، وقدذكرنا النصوص التي وردت فيها من قبلُ، نضربُ صفحاً عن ذكرها خشية الإطالةوالإطناب.

ومن الطاقات التعبيرية، والشحنات الأسلوبية التي كان لها حضورٌ واضح في تراثه(علیه السلام) هو التكرار الدلالي، سواءٌ أكان على مستوى تكرار الألفاظ، أم على مستوى تكرار الموقف، فالمستوى الأول، وهو تكرار الألفاظ جاء من أجل دلالة التوكيد، والإفهام وهي الدلالة الرئيسة بل(أم الدلالات) للتكرار.

إنَّ التكرار الذي نلمحه في خطاب الحسن(علیه السلام) في تراثه أجمع سواءٌ أكان خطبة، أمرسالة، أم وصيّة، أم حكمة كانت له دلالاته، وتجلياته من خلال الدعوة إلى أمر مهم، أو الإشارة إلى قضيّة ملحة، أو تقدير موقف، أو عرض فكرة وغيرها، فالحسن(علیه السلام) في تكراره هذا أراد التأثير الخطابي في المسلمين.

فالتكرار اللفظي من خلال إعادة الألفاظ تُعلي من المضمون، وتنزع إلى الشدّ نحوالفكرة، والقضية، فتوكيد الحسن(علیه السلام) كونه من بيت النبوة، في خطبته «حين قتل أبيه .

ص: 204


1- الخطاب في نهج البلاغة: 105 .

علي(علیه السلام)، فَحمِد الله، وأثنى عليه ثم قال:(...) أيُّها الناس مَنْ عرفني فقد عرفني، ومَنْ لم يَعْرِفني، فأنا الحسنُ بن عليّ، وأنا ابنُ النبيّ، وأنا ابنُ الوصيّ، وأنا ابنُ البشير، وأنا ابنُ النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله، والسراج المنير، وأنا من أهل البيت الذي كان جبريل يتنزل فينا ويصعد من عندنا»(1)، فقد تكرّر ضمير المتكلم(أنا) سبع مرات، وهذا التكرار اللفظي غايته التأثير في المتلقّين، ومحاولة زرع عامل التحليل، والتفسير في نفوسهم، والوصول بهم إلى أعلى درجات الفهم والإفهام.

ويتج تكرار المواقف في تراثه(علیه السلام) لاسيّما موقف توكيد نسبه الطاهر، وموقف توكيد أحقيته بالخلافة، وموقف توكيد دعوته إلى السلم والدخول في الجماعة، وموقف توكيد الإصلاح، وحقن الدماء، وهي مواقف إنسانية مثالية هدفها التأثير في المتلقّين، وشدّهم نحو الفكرة، والقضية التي يريد(علیه السلام) إيصالها.

ومما له علاقة بدراستنا هو تكرار موقف السلم، ولزوم الجماعة، وتكرار موقف الإصلاح وحقن الدماء، ولا يخفى الترابط الوثيق بين الموقفين، موقف السلم ولزوم الجماعة، وموقف إصلاح المجتمع، وحقن دماء المسلمين، ويظهر هذا الترابط في رسالة الحسن(علیه السلام) البليغة الطويلة لمعاوية، وقد ذكرناها من قبل، منها «فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي(...) واتّقِ اللهَ ودَعِ البغي، واحقن دماء المسلمين(...) لِيُطفِئ اللهُ النائرة بذلك(...) ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين» (2)، ويتكرّر هذان الموقفان في خطبته الطويلة البليغة التي خطبها بعد سلمه مع معاوية،قال(علیه السلام): «أيُّها الناسُ، إنَّ أكْيَس الكَيْس التُّقَى، وأحْمَق الحُمْقِ الفجور، والله لوطَلَبْتُمْ ما بين جَابَلْق وجَابَرْس رَجُلاً جَدُّه رسول الله(صلی الله علیه و آله) ما وَجَدْتمُوهُمْ غَيْري، وغّيْر .

ص: 205


1- الذرية الطاهرة: 108 .
2- شرح نهج البلاغة: 16 / 34 .

أخي الحُسين، وقَدْ عَلِمْتُم أنَّ الله هَدَاكم بِجَدّي محمدٍ، فَأنْقَذَكم به من الضلالة، ورفعكم به من الجَهَالة، وأعَزَّكم بعد الذلّة، وكَثَّرَكُمْ به بَعْدَ القِلّة، وإن معاوية نازعني حقّاً هو لي دونَه، فنظرتُ لصلاح الأمّة، وقَطْع الفتنة وقد كنتم بايعتموني على أنْ تسالموا من سالمت، وتُحاربوا من حاربْتُ، فَرَأيْتُ أنْ أسالم معاوية، وأضعُ الحربَ بيني وبينه، وقد بايَعْتُه، ورأيْتُ أنَّ حَقْنَ الدماء خيرٌ من سفكها، ولم أرِدْ بذلك إلاَّ صلاحكم، وبقاءكُمْ «وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ»» (1).

ويشتدّ هذان الموقفان، ويتعالان في ردّه(علیه السلام) أصحابه بعدما عُوتب من قبلهم؛ بسبب قبوله السلم والهدنة مع معاوية منها ردّه على المسيّب بن نجبة، قال(علیه السلام): «يا مسيَّب، إنّي لو أردْتُ بما فَعَلْتُ الدنيا، لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء، ولا أثبت عند الحرب منّي، ولكن أردْتُ صلاحكم وكفَّ بعضَكم عن بعضٍ فارضَوا بقدر الله، وقضائه حتى يستريح بر، ويستراج من فاجرٍ»(2)، واسْمَع إلى كلامه(علیه السلام) إلى عَدِيّ بن حاتم: «يا عَدِيُّ، إنّي رأيْتُ هَوَى مُعْظَم الناس في الصُّلح، وكَرِهوا الحرب، فلم أحِبُّ أن أحْمِلَهُم على ما يكرهون، فصالحت بقياً على شيعتنا من القتل فرأيْت دفع هذه الحروب إلى يوم ما، فإنّ الله كُلّ يوم في شَأن» (3).

ويتكرر موقف الحفاظ على المجتمع، وحقن الدماء في آخر لحظة من حياته المطهّرة، في وصيته لأخيه الحسين(علیهما السلام)، وقد تضمّنت أمرين مهمين، الأول: إخفاء اسم الشخص الذي سمّه حقناً للدماء، وخوف الفتنة، والثاني: عدم الإصرار على دفنه بجوار جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله) إن مُنع خوفاً من الفتنة، وحقناً لدماء المسلمين، والحفاظ .

ص: 206


1- كشف الغمة: 1/ 534 .(الأنبياء/ 111 ).
2- أعيان الشيعة: 2/ 377 – 378 ، وينظر: تاريخ دمشق: 2/ 225 .
3- حياة الإمام الحسن بن علي(علیهما السلام): 2 / 270 – 271 .

على الجماعة الصالحة، وقد نقلنا النصوص بهذا الشأن من قبلُ.

ولابد من الإشارة الى أن الحسن(علیه السلام) قد استعمل في خطابه أسلوب التعليل، والمحاججة، فضلاً عن ذلك الاستشهاد بكلام الله(عزوجل)، وقد بيّننا ذلك من خلال النصوص التي ذكرناها في الفصل الأول في مبحث أثر القرآن الكريم في رسوخ إنسانية الحسن(علیه السلام) المثالية في فقرة استشهاده بالنصوص القرآنية.

وبذلك نختم هذا المبحث، وهو خاتمة هذا الفصل الأخير من الدراسة.

ص: 207

ص: 208

الخاتمة

ص: 209

ص: 210

* الخاتمة

بعد هذه المسيرة البحثية في رحاب إنسانية سبط النبي(صلی الله علیه و آله) المثالية، لابد من لملمة نتائج هذه الدراسة من أجل رسم صورة واضحة، ومتكاملة لها.

إن أهمّ ما توصلت إليها الدراسة:- 1. إنَّ الإنسانية المثالية عند الحسن(علیه السلام) لها جذور راسخة، وقوية متمثّلة بكتاب سماوي معجز(القرآن الكريم)، وإنسانية متكاملة جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله)، وإنسانية عالية من أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام).

2. ظهر أثر القرآن الكريم في رسوخ إنسانية الحسن(علیه السلام) المثالية من خلال فهمه لكتاب الله(عزوجل)، وتدبره إياه، والعمل بأحكامه.

3. أظهر البحث أن جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله) كان له الأثر البالغ في إنسانيته، ويظهر ذلك من خلال رعايته له، وتسميته فقد سما ماه حسناً، بدل حرب، فكان لهذا الاسم دلالة معنوية كبيرة فقد أراد النبيّ الأعظم(صلی الله علیه و آله) لسبطه(علیه السلام) أن يكون محبوباً، ومصلحاً، وحسناً في كلّ شيءٍ، فضلاً عن ذلك وعيه(علیه السلام) الأحاديث التي قيلت فيه.

4. كان لوصايا أمير المؤمنين(علیه السلام) لابنه الحسن(علیه السلام) إضاءة في إنسانيته المثالية.

5. ذكر الباحث خطبة للحسن(علیه السلام) بعد استشهاد أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام)، سلطت الضوء على إنسانية أبيه(علیه السلام) العالية.

ص: 211

6. كشف الباحث عن لقب لم يلتفت إليه الباحثون من قبل، له مسيس بإنسانيةالحسن(علیه السلام) المثالية، وهو(الناصح)، وقد أشار إليه الحسن(علیه السلام) نفسه، ووردت إشارة إليه في كتاب(مفاتيح الجنان) في زيارة الحسين(علیه السلام).

7. أوضح الباحث أهم المعالم الرئيسة لإنسانية الحسن(علیه السلام) المثالية، وهي: إصلاح المجتمع، والتعايش السلمي، وحقن الدماء.

8. إنَّ إصلاح المجتمع كان هدف الحسن(علیه السلام)، ومنهجه؛ بسبب موت إرادةالمجتمع، وضعفه، وغياب التفكير السليم، لاسيّما بعد استشهاد أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام).

9. أطلق الباحث لقب(إمام التقريب بين المسلمين) على الحسن(علیه السلام)، وهوحقيق به(علیه السلام)، فقد كان داعياً للوحدة، ولزوم الجماعة، وترك الفرقة والاختلاف غيرالمحمود، وقد كشفت شروط السلم مع معاوية هذا اللقب.

10 . أجاز الباحث إطلاق كلمة(السَّلم) على الهدنة التي وقعت بين الحسن(علیه السلام)،وبين معاوية، بدلاً من(الصلح)؛ لأنها أقرب للواقع، ويرى أيضاً أنَّ كلمة شروط أوفق،وأقرب من كلمة(مواد)، و(بنود).

11 . لا يرى الباحث مانعاً من قبول حديث المصطفى(صلی الله علیه و آله) في حقّ سبطه الحسن(علیه السلام)، كونه سيداً، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين، فهو من باب الإخبار بالغيب، وإنَّ ذكره مراراً، وتكراراً على ألسنة الناس برهان على القطع بوروده عن النبيّ(صلی الله علیه و آله) على سبيل مبدأ الجري والانطباق، فضلاً عن ذلك فإنَّ دلالة الحديث لاتخدش، ولا تقدح ساحة الحسن(علیه السلام).

12 . رأى الباحثُ أنَّ الحسن(علیه السلام) هو مانع الدماء، و رُْحمزُها، وحافظها، فكان

ص: 212

غالقاً لأبواب إراقتها في التاريخ الإسلاميّ.

13 . في مجال بيان معلم التعايش السلمي، نجد أن الحسن(علیه السلام) قد أكثر من الكلمات التوجيهيّة التي دعا فيها الجماهير إلى الالتزام بقواعد حفظ العلاقات، والدعوةإلى الألفة، والمحبّة، وحسن المعاشرة، ونبذ الفرقة، والبغضاء، والشحناء.

14 . دفع الباحث شبهات ألصقت بشخص الحسن(علیه السلام)، لها علاقة بإنسانيته،منها مخالفة أبيه أمير المؤمنين(علیهما السلام)، وميله إلى الدعة وحبّ الشهوات، والإسراف والتبذير.

15 . يرى الباحث أن الروايات الموضوعة التي جاءت في كتب المسلمين، لها دور في إلصاق التهم للحسن(علیه السلام) من قبل الباحثين المحدَثين عند طه حسين، والأب المسيحي هنري لامنس، وغيرهما.

16 . حذّر الباحث من إقحام المغيّبات، والخيال، وترديد الروايات المبالغ فيها في دراسة حياة الحسن(علیه السلام)، لاسيما روايات كرمه، فالباحث يذكرها من غير قصد يريدبيان فضائل الحسن(علیه السلام)، إلاَّ أنَّ المتأمل فيها، والمدقّق يجد أنها من صنع الأمويين من أجل تمرير إسرافهم، وتبذيرهم من جهة، وإضفاء شرعية لأفعالهم من جهة أخرى.

17 . ب الباحث أن الحسن(علیه السلام) قد استعمل اللغة المؤدّبة المهذّبة في خطابه، على الرغم مما كان يجابه من أعدائه بكلمات قاسية، وبذيئة، ونابية.

18 . ظهر أن الحسن(علیه السلام) قد استعمل الصدق الفني في خطابه، من خلال معاينةالواقع.

19 . مال الحسن(علیه السلام) في خطابه إلى الاقتصاد اللغوي، والإيجاز لاسيما كلماته

ص: 213

الحِكَميّة القِصار.

20 . انبرى الباحث لدفع شبهة ألصقت بالحسن(علیه السلام)، الحَصْر والعِيّ، وكشف الباحث أنَّ بطل هذه الشبهة هو عمرو بن العاص.

21 . أكثر الحسن(علیه السلام) من الطاقات التعبيرية في خطابه من أجل تج المواقف الإنسانية، وبيان الأفكار، والتأثير في المتلقّي، وإثارته من نحو(الأمر)، و(النداء)،والتكرار الدلالي(تكرار الألفاظ)، و(تكرار المواقف).

ص: 214

التوصيات

يوصي الباحث بما يأتي:-

1. تشجيع المؤسسات العلمية كافة(الجامعات)، و(المدارس الدينية) على دراسةالإنسانية المثالية عند أهل البيت كافة، من أجل تعرّفها العالم أجمع.

2. الدعوة إلى ضرورة جمع تراث الإمام الحسن(علیه السلام) بشكل كامل، من خلال جمع النصوص التي وردت في كتب المسلمين الموثّقة.

3. الدعوة إلى دراسة تراث الحسن(علیه السلام) دراسة لغوية، وفنية، وأسلوبيّة.

4. تنقيح كتب المسلمين، ولاسيّما كتب الإمامية من الروايات الموضوعة التي أُقحمت في تراث أهل البيت، والتي لا تنسجم مع عصمتهم وطهارتهم(علیهم السلام).

والحمدُ للهِ أولاً وآخراً، وصلی الله على محمّد وآله الطّاهرين.ّّ

----------------------------------------كتبه في الحلة(الفيحاء)، حلة الحسن المجتبى(علیه السلام)

بأنامله السقيمة العبد الآبق، الفقير إلى رحمةخالقه ربّ السموات والأرضين في غرّة مج مجادى الآخرة من سنة 1434 ه- رحيم ال شر شَِريَفيّ الحُسينيّ

ص: 215

ص: 216

المصادر والمراجع

ص: 217

ص: 218

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

• الأئمة الاثنا عشر: جعفر سبحاني، ط 1، دار الأضواء، بيروت – لبنان، 1422 ه– 2001 م.

• أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية(محاضرات سماحة آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر): ط 1، مطبعة شريعة، إيران، 1425 ه-.

• الأخبار الطوال: أبو حنيفة أحمد بن داوود الدينوري(ت 282 ه-)، تحقيق عبد المنعم عامر، ط 2، مطبعة شريعة 1379 ه-.

• الإرشاد:- محمد بن محمد بن نعمان العكبريّ البغدادي الملقب ب(الشيخ المفيد)(ت 413 ه-)، ط 1، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت – لبنان، 1429 – 2004 م.

• أساس البلاغة: جار الله أبو قاسم محمود بن عمر الزمخشري(ت 538 ه-)، تقديم الدكتور: محمود فهمي حجازي، سلسلة الذخائر(المؤسسة العامة لقصور الثقافة)مصر، 2003 م.

• أُسد الغابة في معرفة الصحابة: عز الدين أبو الحسن علي بن أبي كريم محمدبن محمد الشيباني المعروف ب(ابن الأثير(ت 630 ه-))، ط 1، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1425 ه – 2005 م.

ص: 219

• أسلوب الدعوة في القرآن الكريم: محمّد حسين فضل الله، ط 4، د.ط، بيروت، 1422 ه -2001 م.

• الاستيعاب: يوسف بن عبد الله بن عبد ال رب�ّ(ت 463 ه-)، طبعة بيروت، 1412 ه-.

• الإصابة في تمييز الصحابة: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني(ت 852 ه-)،مراجعة علي محمد البجاوي، مطبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت 1328 ه-.

• إضاءات في طريق الوحدة والتعايش: جعفر سبحاني، ط 1، مؤسسة الإمام الصادق، قم – إيران، 1432 ه-.

• الأعلام(قاموس تراجم): خير الدين الزركليّ، ط 17 ، دار العلم للملايين،بيروت – لبنان، 2007 م.

• أعلام الهداية(الإمام الحسن(علیه السلام) المجتبى)، المجمع العلمي لأهل البيت(علیهم السلام) الطبعة الأولى، دار الأميرة، بيروت، 2005 م.

• أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين، حققهُ، السيد حسن الأمين، ط 5، دارالتعارف للمطبوعات، بيروت، 1418 ه – 1998 م.

• الإمامة والسياسة: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدنيوري(ت 276 ه-)،ط 3، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 2009 م.

• الإمام الحسن بن علي(علیه السلام) شجاعة قيادة وحكمة سياسة(تقريراً لأبحاث الأستاذ آية الله المحقق الشيخ محمد السند) بقلم: إبراهيم البغدادي، ط 1، الأميرةللطباعة والنشر، بيروت – لبنان، 1433 ه – 2012 م.

ص: 220

• أنساب الأشراف: أحمد بن يحيى بن جابر البلاذريّ(ت 279 ه-)، د.ط، القاهرة،1959 م.

• بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار: الشيخ باقر المجلسي، إحياءالكتب المقدسة، قسم – إيران، 1427 ه-.

• البداية والنهاية: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي(ت 774 ه- ) راجعهُ الأستاذ سُهَيل زكّار، ط 1، دار صادر، بيروت، 2005 م.

• البلاغة والأسلوبية: محمد عبد المطلب، ط 4، الشركة المصرية العامة(لونجمان)،القاهرة، 2012 م.

• بحوث في منهج تفسير القرآن: محمود رجبي، ط 2، مركز الحضارة لتنمية الفكرالإسلامي، بيروت، 2012 م.

• تاريخ الأئمة(علیهم السلام) ووفياتهم: ابن الخشاب البغدادي( 567 ه-): دراسةوتحقيق: ثامر الخفاجيّ، ط 1، ستارة، قم – إيران، 1432 ه-.

• تاريخ الخلفاء: جلال الدين السيوطي(ت 911 ه-)، ط 1، دار المنار، مصر،2003 م.

• تاريخ خليفة بن خياط برواية تقي بن خالد: خليفة بن خياط العَصْفري(ت 240 ه- ) تحقيق: الدكتور سُهيل زكّار، دار الفكر، بيروت – لبنان، 1414 ه – 1993 م.

• تاريخ دمشق: علي بن الحَسن ابن عساكر(ت 571 ه-) تحقيق: علي شيري، دارالفكر، بيروت، 1415 ه-.

• تاريخ الامم والملوك المعروف ب(تاريخ الطبري): أبو جعفر محمد بن جرير

ص: 221

الطبري(ت 310 ه-)، ط 1، الأميرة، بيروت – لبنان، 1426 ه – 2005 م.

• تاريخ اليعقوبي: أحمد بن إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح اليعقوبي البغدادي(ت بعد سنة 292 ه-)، علق عليه ووضح حواشيه: خليل منصور، دار الزهراءإيران، 1429 ه-.

• تحت راية القرآن: مصطفى صادق الرافعي، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1421 ه - 2000 م.

• تذكرة الخواص من الأمة بذكر حقائق الأئمة(علیه السلام) يوسف بن علي البغدادي سبط ابن الجوزي(ت 654 ه-) تحقيق: حسين تقي زادة، مطبعة ليلى، إيران، 1426 ه-.

• التصوير الفنيّ في القرآن: سيد قطب، دار الشروق، القاهرة د.ت.

• تفسير البيضاويّ(أنوار التنزيل وأسرار التأويل): ظاهر الدين أبو سعيد عبدالله بن عمر(ت 682 ه-)، تحقيق: مجدي فتحي السيّد، وياسر سليمان أبو شادي، المكتبةالتوفيقية، مصر، د.ت.

• التفسير الكبير(مفاتيح الغيب): أبو عبد الله محمد بن عمر التميميّ الرازي(فخرالدين الرازي)(ت 606 ه-)، ط 4، دار إحياء التراث العربي، بیروت، 1422 ه -2001 م.

• تهذيب التهذيب في رجال الحديث: شهاب الدين أبو الفضل العسقلاني(ت 852 ه- )، تحقيق: عادل احمد عبد الموجود، وعلي محمد معوّض، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1425 ه - 2004 م.

• الثاقب في المناقب: الفقيه عماد الدين أبو جعفر محمد بن علي الطوسي المعروف

ص: 222

ب(ابن حمْزة) من أعلام القرن السادس الهجري، تحقيق: نبيل رضا علوان، ط 4، حواسةأنصاريان للطباعة، إيران، 1482 ه – 2007 م.

• ثورة الإمام الحسن(علیه السلام) محمد الحسيني الشيرازي، ط 2، دار صادق للطباعة،كربلاء المقدسة، 1426 ه – 2005 م.

• جامع السعادات: محمد مهدي بن أبي ذر النراقي الكاشاني(ت 1209 ه-) الناشر: سيف الله إسماعيليان، طبعة السرور، قم- إيران، 1425 ه – 2004 م.

• الجهاد وحالاته المشروعة في القرآن: مرتضى المطهّريّ، ط 1، مطبعة سبهر،طهران، 1404 ه-.

• جواهر العقدين في فضل ال فَّرشََين: علي بن عبد الله الحسني السمهودي(ت 911 ه- ) تحقيق: الدكتور موسى بناي العليلي ط/ مطبعة العاني، العراق، 1407 ه – 1987 م.

• حلية الأولياء: أحمد بن عبد الله بن أحمد أبو نعيم الأصبهاني(ت 430 ه-)، دارالكتب، بيروت، 1327 ه-.

• حياة الإمام الحسن(علیه السلام) دراسة وتحليل: باقر شريف القرشي، تحقيق: مهدي باقر القرشي، ط 1، مطبعة شريعة، إيران، 1429 ه – 2008 م.

• الحيوان: عمرو بن بحر الجاحظ(ت 255 ه-)، تحقيق عبد السلام محمد هارون،القاهرة، 1356 ه – 1938 م.

• دفاع عن فن القول: عبد الكريم غلاب: مطابع دار القلم، تونس، 1984 م.

• دلائل الإمامة: أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري، من علماء القرن الرابع

ص: 223

الهجري، ط 2، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت – لبنان، 1408 ه – 1988 م.

• الذرية الطاهرة: أبو البشر محمد بن أحمد بن حماد الأنصاري الرازي الدولابي(ت 310 ه- )، تحقيق: السيد محمد جواد الجين الجلالي، ط 8، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات،بيروت – لبنان، 1408 ه – 1988 م.

• رسائل الإمام الحسن(رضی الله عنه): زينب حسن عبد القادر، مطبوعات الشعب،مصر، 1411 ه - 1991 م.

• زبدة المعاني من تفسير الشوكاني(مطبوع بهامش القرآن الكريم): الإمام محمد بن علي بن عبد الله الشوكاني(ت 1250 ه-)، تعليق الدكتور: محمد أبو زيد، ط 1، دار الفجرالإسلامي، دمشق، 1424 ه – 2003 م.

• سيرة الأئمة الاثني عشر: هاشم معروف الحسني، ط 5، مطبعة شريعة، إيران، د.ت.

• سيرة الأئمة الأطهار: مرتضى المطهري، مراجعة عبد الكريم الزهيري، ط 2، مطبعة شريعة، 1430 ه – 2009 م.

• سيرة ابن إسحاق المسماة ب(كتاب السير والمغازي): محمد بن إسحاق بن يسار(ت 151 ه-)، تحقيق الدكتور سهيل زكّار، مؤسسة إسماعيليان، قم – إيران، 1410 ه-.

• سيرة محمد(البيئة والنشأة): صهيب الرومي، ط 1، بَيْسَان، بيروت – لبنان، 2006 م.

• شرح نهج البلاغة: أبو حامد عز الدين بن أبي الحديد(ت 656 ه-)، دار الفكر، بيروت، 1388 ه-.

ص: 224

• صحيح البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري(ت 256 ه-)، ط 1،دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، 1422 ه – 2001 م.

• الصدق الفني في الشعر العربي حتّى نهاية القرن السابع الهجري؛ عبد الهادي خضير نيشان، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2007 م.

• صلح الحسن(علیه السلام): الشيخ راضي آل ياسين، ط 4، منشورات ناصر خسرو، بيروت – لبنان، 1399 ه – 1979 م.

• الطِّراز(المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز): يحيى بن حمزة بن علي ابن إبراهيم العلويّ اليمنيّ(ت 745 ه-)، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415 ه - 1995 م.

• عمرو بن العاص: عباس محمود العقاد، ط 2، دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان، 1969 م.

• العين: الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت 175 ه-)، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي، والدكتور إبراهيم السامرائي، ط 1، منشورات دار الهجرة، قم – إيران، 1405 ه-.

• الفتنة الكبرى: الدكتور طه حسين، ط 1، دار المنار، مصر، 2003 م.

• الفروق اللغوية: أبو هلال الحسن بن سهل العسكري(ت في حدود 400 ه-)، علق عليه ووضع حواشيه: محمد باسل عيون السود، ط 3، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1426 ه - 2005 م.

• الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة(علیهم السلام): علي بن محمد بن أحمد

ص: 225

المالكي(ابن الصباغ المالكي)(ت 855 ه-)، ط 2، دار الأضواء بيروت – لبنان، 1409 ه – 1988 م.

• فلسفة الأخلاق في الإسلام: محمد جواد مغنية، تحقيق: سامي الفزيري، مطبعةستار، إيران، 1428 ه - 2007 م.

• فهم الخطاب القرآني بين الإمامية والأشاعرة(دراسة مقارنة في ضوء ركائزالأسلوبية): صباح عيدان حمود العبادي، ط 1، دار الفيحاء، البصرة – العراق، -1434 ه- 2013 م.

• في ظلال القرآن: سيّد قطب، ط 34 ، دار الشروق، بيروت، 1425 ه - 2004 م.

• القاموس المحيط: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي(ت 817 ه-)، دارالفكر، بيروت، 1403 ه – 1983 م.

• الكامل في التاريخ: عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد الشيباني المعروف ب(ابن الأثير)(ت 630 ه-)، مراجعة الدكتور سمير شمس، دار صادر، بيروت، 1429 ه – 2009 م.

• الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: محمود بن عمرو بن محمّد الزَّمخشريّ(ت 538 ه-)، ضبط النصوص والمراجعة: عبد الرزاق مهدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، 1421 ه - 2001 م.

• كنز الع لّام في سنن الأقوال والأفعال: علاء الدين علي المتقيّ الهنديّ(ت 975 ه-)، د.ط، حيدر آباد – الهند، 1313 ه-.

• كشف الغمة في معرفة الأئمة: أبو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الأربليّ(ت

ص: 226

692 ه- )، قدم له السيد أحمد الحسيني، ط 1، مطبعة شريعة قم – إيران، 1427 ه-.

• مجمع البحرين: فخر الدين بن محمد علي بن طريح الأسدي الطريحيّ(ت 1085 ه-) دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر، بيروت، 1985 م.

• المحاسن والمساوئ: محمد بن إبراهيم(البيهقي ت بعد 320 ه-)، مطبعة السعادة،مصر، 1325 ه-.

• محمد خاتم المرسلين: شوقي ضيف، ط 2، دار المعارف، مصر، 2009 م.

• محمد(صلی الله علیه و آله) في القرآن: رضا الصدر، مكتب الإعلام الإسلامي، قم – إيران، 1420ه-.

• مختار الصحاح: محمد بن أبي بكر عبد القادر الرازي(ت 666 ه-) دار الكتاب العربي، بيروت، 1401 ه – 1981 م.

• مروج الذهب ومعادن الجوهر: أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي(ت 346 ه-)، ط 1، دار القارئ، 1426 ه – 2005 م.

• المستدرك على الصحيحين: ابن البيع الحاكم النيسابوري(ت 405 ه-)، المطبعةالنظامية، حيدر آباد، الهند، 1340 ه-.

• المِصباح المنير: أحمد بن محمد بن علي المقرئ الفيُّومي(ت 770 ه-)، تقديم: محمودفهمي حجازيّ، الهيأة العامة لقصور الثقافة، القاهرة – مصر، 2003 م.

• المعجم الأدبي: جبور عبد النور، ط 1، دار العلم للملايين، بيروت – لبنان، 1979 م.

ص: 227

• معجم ألفاظ القرآن الكريم: مجمع اللغة العربية(القاهرة): محمد علي النجار، الهيأة العامة لشؤون المطابع الأميري، القاهرة، 1417 ه - 1996 م.

• معجم البلدان: ياقوت بن عبد الله الرومي الحمويّ(ت 626 ه-)، دار إحياءالتراث العربي، بيروت،(د. ت).

• مفاتيح الجنان: الشيخ عباس بن محمد رضا أبو القاسم القمي(ت 1359 ه-)،ط 4، دار الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله)، بيروت، 1402 ه – 2001 م.

• مفردات ألفاظ القرآن: الراغب الأصفهاني(ت في حدود 425 ه-)، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، ط 4، مطبعة كيميا، قم – إيران، 1425 ه-.

• مقاتل الطالبيين: أبو الفرج الأصفهاني(ت 356 ه-)، شرح وتحقيق، السيد أحمدصقر، دار إحياء التراث العربية، بيروت،(د. ت).

• من حياة أهل البيت(علیهم السلام): محمد علي التسخيريّ، دار التعارف، بيروت،د.ت.

• المنطق: محمّد رضا المظفّر، منشورات دار العلم، قم – إيران، 1434 ه - 2003 م.

• موسوعة المصطفى والعترة(الحسن المجتبى(علیه السلام)): حُسين الشاكري، ط 2، مطبعة غدير، قم – إيران، 1425 ه-.

• النظرية النقدية عند العرب: هند حسين طه، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1981 م.

• نهج البلاغة: الإمام علي بن أبي طالب(ت 40 ه-): شرح محمد عبدة، ط 1، بيروت، 1430 ه – 2010 م.

ص: 228

• وحي الرسالة(فصول في الأدب والنقد والسياسة والاجتماع): أحمد حسن الزيات، ط 8، دار ونهضة مصر، الفجّالة، القاهرة، 1953 م.

• وحي القلم: مصطفى صادق الرافعي: ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1446 ه – 2005 م.

الرسائل الجامعية:

• أدب الإمام الحسين(علیه السلام) قضاياه الفنية والمعنوية:(رسالة ماجستير): موسى خابط عبود القيسيّ، جامعة بابل/ كلية التربية، قسم اللغة العربية، 1429 ه - 2008 م.

• الخطاب في نهج البلاغة دراسة موضوعية فنية:(رسالة ماجستير): إيمان عبدالحسن علي، جامعة بابل – كلية التربية، قسم اللغة العربية، 1429 ه - 2008 م.

• النقد الأدبي في كتاب(الموضح) للمرزبانيّ(رسالة ماجستير)، محمد عبد الحسن حسين، جامعة بابل، كلية التربية، قسم اللغة العربية، 1424 ه - 2003 م.

الأبحاث:

• سيرة النبيّ وأهل البيت بين تزييف المسلمين، ومناهج المستشرقين(الأب المسيحي هنري لامنس) أُنموذجاً: جواد كاظم النصر الله، وشهيد كريم محمد، بحث مقدم إلى المؤتمر العلمي الثالث/ جامعة بابل/ كلية الدراسات القرآنية، 2013 م.

ص: 229

ص: 230

المحتويات

الإهداء 7

المقدِّمة 9

(الفصل الأول)

جذور الإنسانية المثالية عند الحسن(علیه السلام) 15

المبحث الأول: أثر القرآن الكريم في رسوخ إنسانية الحسن(علیه السلام) 17

أولاً: وصفه(علیه السلام) كتاب الله(عزوجل) 18

ثانياً: العمل بأحكام القرآن الكريم. 19

ثالثاً: استشهادُه بالنصوص القرآنية: 22

المبحث الثاني: أثر التكامل الإنساني عند المصطفى(صلی الله علیه و آله)

في إنسانية الحسن(علیه السلام) 27

أولاً: تَسميتُه ورعايتُه: 29

ثانياً: الأحاديث النبوية الشريفة في حقّه(علیه السلام): 32

ثالثاً: السير على نهج جدّه المصطفى(صلی الله علیه و آله) في التكامل الانسانيّ. 41

المبحث الثالث: أثر إنسانية أمير المؤمنين(علیه السلام) في الحسن(علیه السلام) 47

أولاً: وصايا عالية المضمون من إنسانية علي(علیه السلام) لولده الحسن(علیه السلام): 49

ثانياً: وصف الحسن(علیه السلام) إنسانية أبيه(علیه السلام): 53

ص: 231

(الفصل الثاني)

معالم الإنسانية المثالية عند الحسن(علیه السلام) 57

المبحث الأول: إصلاح المجتمع 65

أولاً: مفهوم الإصلاح تعريفاً: 65

ثانياً: مفهوم الإصلاح عند الحسن(علیه السلام): 67

ويتجلى مفهوم الإصلاح عند الحسن(علیه السلام) فيما يأتي:- 73

أ- التعريف بشخصيته(علیه السلام): 73

ب- دعوته(علیه السلام) إلى الوحدة ولزوم الجماعة: 74

ثالثاً: السَّلم: 82

أ- السلم تعريفاً: 82

ب- شروط السِّلم: 86

المبحث الثاني: التعايش السِّلمِيّ 93

أولاً: التعايش السلمي في تراثه(علیه السلام): 95

1. طائفة من أقواله(علیه السلام): 96

2- التعايش السلمي من خلال شروط السَّلم أو الهدنة مع معاوية: 101

ثانياً:شذرات من التعايش السلمي عند الحسن(علیه السلام): 104

1. حُبُّ الناس الحسن(علیه السلام): 104

2- حِلْمُه وصَبْرُه: 107

3- وفاؤُه بالعهود: 111

المبحث الثالث: حقن الدماء 119

أولاً: حقن الدماء من خلال سَلْمه(علیه السلام): 121

ص: 232

ثانياً: حقن الدماء من خلال وصيته(علیه السلام): 126

1. إخفاء اسم الشخص الذي سمّه(علیه السلام): 127

ثانياً:دفنه(علیه السلام) بالبقيع: 130

أولاً: مخالفة أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام): 132

ثانياً:ميله(علیه السلام) إلى الدعة، وحب الشهوات: 137

ثالثاً:الإسراف والتبذير: 140

(الفصل الثالث)

آلياتُ الحسن(علیه السلام) في لَجتَِّي معالم الإنسانية المثالية 149

المبحث الأول: أدب الحوار 155

أولاً: اللغة المؤدّبة المهذّبة: 159

ثانياً: الصدقُ الفنيّ: 165

ثالثاً: الاقْتصادُ اللُّغويّ: 172

المبحث الثاني: الإقناع الخطابي 183

أولاً: المخاطِبُ(الحسن(علیه السلام) 184

ثانياً: فَصْلُ الخطاب: 191

ثالثاً: الاهتمام بالمتلقّي: 199

«الخاتمة 209»

الخاتمة 211

التوصيات 215

المصادر والمراجع 219

المحتويات 231

ص: 233

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.