الطريق الي غدير خم دليل سياحي و مشاهد في طريق الهجره التاريخيه و حجه الوداع

اشارة

سرشناسه:سيد، كمال، - 1336

عنوان و نام پديدآور:الطريق الي غدير خم "دليل سياحي و مشاهد في طريق الهجره التاريخيه و حجه الوداع"/ اعداد كمال السيد

مشخصات نشر:قم: موسسه انصاريان، 1419ق. = 1998م. = 1376.

مشخصات ظاهري:54 ص، [10] ص تصوير (رنگي)، نقشه (رنگي)

يادداشت:عربي

يادداشت:چاپ دوم: 1424ق. = 2003م. = 1382ISBN 964-438-481-4

يادداشت:كتابنامه به صورت زيرنويس

موضوع:غدير خم

علي بن ابي طالب(ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- اثبات خلافت

رده بندي كنگره:BP223/5/س 9ط4 1376

رده بندي ديويي:297/452

شماره كتابشناسي ملي:م 78-6278

خيرانديش ديجيتالي : جناب آقاي سيد علي بحريني به نيابت از مرحومه حاجيه خانم كسايي _گروه هم پيمانان موعود غدير.

ص: 1

اشارة

الطريق الي غدير خم

اعداد كمال السيد

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 3

ص: 4

المقدّمه

في الذاكرة الاسلامية تتألق اسماء و اسماء.

أسماء لها هالتها المضيئة في التاريخ..اسماء رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه..و نساء مؤمنات..

و اسماء أماكن و بقاع هنا و هناك في أرض الوحي و في كل بقعة توقف فيها النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم..من جبل حراء في ذلك الغار الذي شهد اشتعال الشرارة..شرارة الروح.

الي شعب أبي طالب و الي دار الارقم و الي..و الي غار في جبل ثور..و الي عيون«بدر»و جبل«أحد»و شجرة«الرضوان»الي «الحديبية»و الي«فدك»و الي..«غدير خم»في ذلك الوادي حيث تفور عين الغدير و حيث توقف النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يؤدي رسالة ربّه في آخر بلاغ سماوي.

أجل في تلك البقعة المقدسة حيث هبط جبريل يحمل آيات السماء: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ. (1)

ص: 5


1- سوره 5 - آيه 67

و توقف النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و توقفت له قوافل الحجيج؛ثم ليهتف في تلك الحشود:«من كنت مولاه فهذا علي مولاه».

و في تلك النقطة من مسار التاريخ و الزمان تدفقت ينابيع فرح لتخلد يوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام سنة 10 ه،ليكون لنا عيدا تاريخيا.

و ما هذا«الدليل»سوي محاولة لاكتشاف نقطة«الغدير»في جغرافيا الاسلام بعد أن اضاءت أنوار تاريخنا المجيد.

ص: 6

الطريق الي غدير خم

في منتصف الطريق بين مكة المكرمة و المدينة المنوّرة،و علي مقربة من«الجحفة»توجد منطقة«غدير خم».

كانت«غدير خم»علي طريق القوافل،و قد مرّ بها سيدنا محمد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم اثناء هجرته التاريخية،في ربيع الأول/ايلول سنة 622 م،كما توقف عندها أيضا بتاريخ 18 ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة اثناء عودته من حجة الوداع،و بذلك دخلت هذه البقعة من الجغرافيا أبواب التاريخ الاسلامي المجيد؛

ابتعدت منطقة غدير خم عن الطريق العامة في العصر الحاضر بعد أن طمرت الرمال طرق القوافل فيما مضي،كما اصبح اسم تلك المنطقة«الغربة»،و ما تزال عين تنبجس مياهها من قلب الصخور في واد فسيح؛

و لوجود هذه العين نبتت أشجار النخيل و اشجار السمر،و فيما مضي اشجار الأراك.

ص: 7

و من يغادر مدينة«جدّة»علي شواطيء البحر الاحمر سوف يصل مفرق الجحفة علي مقربة من مدينة رابغ،حيث يوجد مطار محلّي علي يمين الطريق.

و تمتد المسافة بين المفرق المذكور و مسجد الميقات الذي شيّد الي جانب آثار مسجد قديم مندرس الي 10 كيلومترات.

و من مسجد الميقات يمكن الاتجاه صوب«قصر علياء»عبر طريق مليئة بكثبان رملية حيث توجد آثار طريق الهجرة.

و يقع القصر علي حدود قرية الجحفة،في الاتجاه الذي يؤدي الي المدينة المنورة و مدينة رابغ،فيما يقع مسجد الميقات في الاتجاه المؤدي الي مكّة المكرمة..

و تبلغ المسافة بين مسجد الميقات و قصر علياء حوالي خمسة كيلومترات،و قد جرفت السيول و الرياح كثبان الرمال لتصنع منها سدودا رملية بين المنطقتين.

و في تلك المنطقة توجد مرتفعات جبلية حددت الطريق التي تؤدي الي واد فسيح،حيث تتفرع الطريق.

و من هناك يمكن الاتجاه صوب«الغربة»و التي يصعب الاهتداء اليها بسبب انتشار كثبان الرمال.

أمّا منطقة الغدير فتوجد عند حدود«الحرّة»و هي أرض مليئة بالحجارة السوداء غير صالحة للزراعة..

ص: 8

و في نهاية الحرّة ينفتح الوادي الفسيح حيث يوجد نبع الغدير، و في هذه البقعة من العالم توقف النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ليبلغ قوافل الحجيج و الأمة الاسلامية آخر بلاغات السماء.

يتوسط الوادي الفسيح سلسلتين جبليتين تحدّه من الشمال و الجنوب.

و تنبع مياه الغدير قرب السفوح الجنوبية التي ترتفع بكثير عن الجبال الشمالية.

و علي مسيل الوادي نبتت اشجار النخيل،و من المحتمل جدّا أن الاشجار نبتت إثر رمي المسافرين لنوي التمر في الوادي.

فالوادي المنبسط و عين الغدير تدعوان المسافرين الي الاستراحة و تناول التمر مع القهوة.

و بالقرب من منعطف الوادي و في الجانب الغربي منه توجد غيفة حيث تنبع المياه و تشكل مجري.

و بسبب عنف السيول في مواسم المطر فان معالم المنطقة تتغير باستمرار،و لمن يريد التبرك بهذه البقعة،حيث توقف آخر الانبياء في تاريخ البشرية يمكنه أن يتوجه اليها عبر طريقين طريق «الجحفة»،و طريق«رابغ».

*و الطريق الأولي تبدأ من مفرق الجحفة عند مطار رابغ حيث توجد طريق معبّدة تمتد(9)كيلومترات الي قرية الجحفة و هناك

ص: 9

يوجد مسجد كبير،و من القرية تنعطف الطريق يمينا الي مسافة كيلومترين تتخللها كثبان من الرمال و منطقة مليئة بالحجارة، و بانتهائها يبدأ وادي الغدير.

*أما الطريق الثانية:فتبدأ من مفرق مكة-المدينة و باتجاه رابغ، و بعد مسافة 10 كم تتفرع الطريق المؤدية الي الغدير و تبلغ المسافة من رابغ الي الغدير حوالي 26 كم.

و يقع وادي الغدير بشكل عام في شرق مسجد الميقات في الجحفة و علي مسافة 8 كم.

كما يقع في الجنوب من مدينة رابغ و علي بعد 26 كم.

و لقد بني مسجد في تلك البقعة الطاهرة و لكن اندثرت و اندرست آثاره أيضا بسبب السيول و الرياح و عوامل التعرية الأخري.

و لعلّ المسجد ظلّ قائما الي عصور متأخرة و ربما الي بدايات القرن الثامن،حيث تهاوي و لم تبق سوي جدرانه تدل علي ذلك الكتب الفقهية و التاريخية و ما ورد من المندوبات من الاعمال كالدعاء و الصلاة فيه.

و قد وردت إشارات الي المكان الذي وقف فيه النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حيث هتف في جموع المسلمين بولاية الامام علي عليه السّلام.

ص: 10

يقول البكري:انه بين الغدير و العين (1)كما ذكره الحموي في معجم البلدان و حدّد موقع المسجد (2)،و ورد ذكره أيضا في كتاب الجواهر و بالتحديد أشار الي بقايا من جدارانه المتهدّمة (3)، بالاستناد إلي ما ورد في دروس الشهيد الأول محمد بن مكي.

أمّا ابن بطوطة فقد اكتفي بالاشارة الي مروره بمنطقة فيها غدران قريب الجحفة في رحلته لحج بيت اللّه الحرام (4)

و قد حببت الشريعة الاسلامية للمسلمين التوقف في غدير خم و الصلاة و الدعاء في مسجده.

فقد روي عن أحد اصحاب الامام الصادق عليه السّلام أنه رافقه من المدينة المنورة الي مكة المكرمة،و عند ما وصلا مسجد الغدير نظر الامام الي يسار المسجد و قال:ذاك موضع قدم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حيث قال:«من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم و ال من والاه و عاد من عاداه» (5).

و قد ورد استحباب الصلاة في مسجد الغدير في كثير من الكتب/.

ص: 11


1- معجم البكري:368/2.
2- معجم البلدان:389/2.
3- الجواهر:75/20.
4- رحلة ابن بطوطة/.
5- مجلة تراثنا العدد 25 السنة الحادية عشر26/.

الفقهية (1).

و كان النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قد توقف في منطقة غدير خم اثر نزول الوحي:

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ. (2) (3)

و تذكر المصادر التاريخية ان الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أمر بتوقف القوافل ليلقي خطابا هامّا في يوم قائظ شديد الحرّ،جعل المسلمين يتساءلون عن السبب في التوقف في تلك البقعة الملتهبة!

و قد خطب النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قائلا:

الحمد للّه،و نستعينه و نؤمن به،و نتوكل عليه،و نعوذ باللّه من شرور انفسنا،و من سيئات اعمالنا،الذي لا هادي لمن أضلّ،و لا مضلّ لمن هدي.

و اشهد أن لا إله إلاّ اللّه،و أن محمدا عبده و رسوله اما بعد:

ايها الناس!قد نبّأني اللطيف الخبير،أنه لم يعمرّ نبي إلاّ مثل نصف عمر الّذي قبله،و إنّي أوشك أن أدعي فأجيب،و إنّي مسؤول، و أنتم مسؤولون،فماذا أنتم قائلون؟1.

ص: 12


1- الينابيع الفقهية/الحج 220،353،558،610.
2- سوره 5 - آيه 67
3- سورة المائدة:الآية /67ذكرت التفاسير نزولها في 18 ذي الحجة سنة 10 للهجرة أثناء عودة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من حجة الوداع و ذلك في منطقة«غدير خم»/تفسير الطبري:100،الدر المنثور:298/2،كشف الغمة:326/1.

قالوا:نشهد أنّك قد بلّغت و نصحت و جهدت،فجزاك اللّه خيرا.

قال:أ لستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه،و أنّ محمّدا عبده و رسوله، و أنّ جنّته حقّ،و ناره حقّ،و أنّ الموت حقّ،و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها،و أنّ اللّه يبعث من في القبور؟

قالوا:بلي،نشهد بذلك.

قال:اللّهمّ اشهد.

ثم قال:أيّها الناس ألا تسمعون؟

قالوا:بلي.

قال:فإنّي فرطكم علي الحوض،و أنتم و اردون عليّ الحوض، و إنّ عرضه ما بين صنعاء و بصري،فيه أقداح عدد النجوم من فضّة فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين؟!

فنادي مناد:و ما الثقلان يا رسول اللّه؟

قال:الثقل الأكبر كتاب اللّه،طرف بيد اللّه عزّ و جلّ،و طرف بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلّوا،و الآخر الأصغر عترتي،و إنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يتفرّقا حتي يردا عليّ الحوض،فسألت ذلك لهما ربّي،فلا تقدّموهما فتهلكوا،و لا تقصّروا عنهما فتهلكوا.

ثم أخذ بيد عليّ فرفعها حتي رؤي بياض آباطهما،و عرفه القوم أجمعون،فقال:

أيّها الناس:من أولي الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟

ص: 13

قالوا:اللّه و رسوله أعلم.

قال:إنّ اللّه مولاي،و أنا مولي المؤمنين،و أنا أوّلي بهم من أنفسهم،فمن كنت مولاه فعليّ مولاه.

يقولها ثلاث مرّات،و في رواية الإمام أحمد:أربع مرّات.

ثم قال:اللّهمّ و ال من والاه،و عاد من عاداه،و أحبب من أحبّه، و أبغض من أبغضه،و انصر من نصره،و اخذل من خذله،و أدر الحقّ معه حيث دار.

ألا فليبلّغ الشاهد الغائب (1).

و في تلك اللحظات انبري شاعر الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حسان بن ثابت ليحّي هذه المناسبة التي اصبحت عيدا للمسلمين قائلا:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخمّ فأسمع بالنبي مناديا

يقول:فمن مولاكم و وليّكم فقالوا و لم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا و أنت وليّنا و لم تر منا في الولاية عاصيا

فقال له:قم يا عليّ فإنّني رضيتك من بعدي إماما و هاديا

هناك دعا اللهم و ال وليّه و كن للذي عادي عليا معاديا

***1.

ص: 14


1- الغدير:10/1-11.

مشاهد في طريق الهجرة التاريخية

*المشهد الأول:

اشارة

رافقت الهجرة الحياة البشرية منذ فجر التاريخ و حتي يومنا هذا،و كانت و ما تزال و ستبقي ظاهرة اجتماعية لها ما يبرّرها أبدا، و هي اذا بدت مجرّد احتجاج هاديء ضد الظلم و القهر،فانها تعدّ حدثا كبيرا جدا،و بداية لفصل جديد في حياة الانسان أو الشعب المهاجر.

لقد تصاعد الظلم في مكّة حتي لم يعد محتملا،و أضحت حياة تلك المجموعة البشرية التي آمنت برسالة السماء أمرا لا يطاق، و كان رسول اللّه يسعي جاهدا في صنع مستقبل افضل لا تباعه فكانت الهجرة الي الحبشة حلاّ مؤقتا الي أن تم لقاء العقبة.

ص: 15

في غمرة الظلام و الوادي القريب من مكة انفتحت كوّة للأمل و الخلاص،عاد النبي المطارد الي قريته يبشر اتباعه المقهورين قائلا:

-ان اللّه جعل لكم إخوانا و دارا تأنسون بها.

و هكذا بدأ فصل جديد في حياة الاسلام،و تشهد تلك الليالي المريرة المفعمة بالخوف و القلق و الأمل رجالا يفرّون من وطنهم..

من الارض التي انجبتهم و قضوا فيها أيام صباهم.

و وقفت قريش بكل جبروتها عاجزة أمام هذه الظاهرة الخطيرة،و بدا المجتمع المكي يهتز بشدّة،و كانت الآلهة و المعادلات و المصالح تتأرجح بعنف.

المؤامرة

و رأي أبو جهل و أبو سفيان و أمية و كل الرؤوس القرشية التي ساءها ظهور الاسلام،ان افضل الحلول في هذه الظروف هو تصفية محمد و التخلص منه.

و اذا كان للتكتلات القبلية،و ثقل بني هاشم الاجتماعي في حماية رسول اللّه طوال هذه السنين من القتل،فان اشراك القبائل في اغتياله سيجعل من بني هاشم عاجزين عن مواجهتها ثم التخلي عن

ص: 16

فكرة الثأر.

و هكذا سولت لأبي جهل نفسه و ولدت المؤامرة.

و كانت المؤامرة من الخطورة بمكان أن هبط جبريل من السماء:

- وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. (1)

غمر الليل مكّة..ملأ ازقتها بظلمة ثقيلة،و بدت النجوم و هي تومض من بعيد قلوبا خائفة.

كان ابو جهل يعبّ خمرته منتشيا بفكرته..ستبقي مكة تتحدث في انديتها و تشيد بفطنته.

الفداء

و في تلك اللحظات المثيرة،و المؤامرة علي و شك التنفيذ،دخل فتي الاسلام علي ابواب التاريخ،في واحدة من اكثر قصص الفداء اثارة و درامية.

ان يصمد الرجال في المعارك يقاتلون حتي النفس الاخير فتلك شجاعة فريدة تدعو الي الاعجاب..و لكن ان يقدم المرء نفسه للموت تتخطفه سيوف و خناجر فهذا ما لا يمكن أن تستوعبه ابجدية

ص: 17


1- سوره 8 - آيه 30

ما مهما بلغت من دقة التعبير و اداء المعني.

همس علي و هو يصغي الي حديث رجل عاش معه اكثر من عشرين سنة:

-أو تسلم يا رسول اللّه إن فديتك بنفسي؟

-نعم بذلك و عدني ربّي.

كان علي حزينا فمكّة تلك القرية الظالم أهلها تتآمر علي قتل انسان بعثته السماء لخلاص الارض،و لكن حزنه سرعان ما تحوّل الي فرحة كبري.

تقدم الفتي بخطي هادئة الي فراش النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و التحف ببردته ينتظر السيوف التي ستمزقه..و ستتدفق دماؤه نقية طاهرة ترسم فوق الثري قصة رائعة من قصص الفداء..

و رقد علي في فراش النبي،فيما انطلق المهاجر صوب الجنوب لا يلوي علي شيء.

الطريق الي يثرب

كانت خطّة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ان يتوجه جنوبا،نحو جبل ثور؛ليختبيء فيه عدة ايام ريثما تعد وسائط النقل،و تيأس قريش من القاء القبض عليه،كما ان مبيت علي في فراشه قد أسهم كثيرا في تأخير اكتشاف

ص: 18

المتآمرين لنبأ هجرته.

و في ظروف بالغة السرّية اشتري علي عليه السّلام بعيرين للنبي و صاحبه ابي بكر؛كما تم الاتفاق مع دليل الصحراء عبد اللّه بن أريقط.

و بالرغم من بقاء الدليل علي وثنيته فقد كان رجلا أمينا وثق به النبي.

استيقظت قريش علي دويّ المفاجأة،و تصرّف زعماؤها بهستيرية عنيفة،فقد انطلق فرسان الدوريات يبحثون في الاودية، كما وضعت جوائز مغرية لمن يدلّ علي الشريد أو يدلي بمعلومات تساعد في القبض عليه.

و بالرغم من ادراكهم ان لدي بعض الافراد معلومات هامة و لكنهم فشلوا في انتزاعها.

لقد كانت قريش واثقة تماما من القاء القبض علي محمد،فقد اهتدي خبراء الاثر الي منطقة تحوم حولها الشكوك؛بل انهم وصلوا الي جبل ثور حيث اختبأ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و صاحبه في احد أغواره.

و هنا تدخلت السماء لتحمي آخر الرسالات في التاريخ.

تسلق احدهم الي الغار ليري ما فيه و من فيه،ثم سرعان ما عاد الي اصحابه.

ص: 19

-ماذا هناك؟

-لا شي.

-و الغار؟

-رأيت في فم الغار نسيج العنكبوت و أحسب آنها نسجته قبل ميلاد محمد..و رأيت عشا فيه حمامتان و أغصانا متشابكة لا يمكن للمرء أن يدخل الغار إلاّ بازالتها.

-اذن لم يدخله احد؟

-نعم لم يصله انسان.

و كان رسول اللّه يصغي الي الحوار فهتف في اعماق قلبه:

-الحمد للّه.

و غمرت السكينة قلبه.

الرحلة

و في الموعد المقرر جاء الدليل يقود بعيرين و ذلك بعد ثلاثة أيام قضاها رسول اللّه في الغار.

تقع يثرب في الشمال من مكة و مع هذا فقد اتجه رسول اللّه جنوبا الي جبل ثور امعانا في تغطية رحلته بالسرّية الكاملة.

و كان علي الدليل ان يتجه نحو ساحل البحر الاحمر و سلوك

ص: 20

طريق بعيدة عن طريق القوافل.

كانت رحلة شاقّة..و تمرّ سبعة أيام و النبي يقطع سهول تهامة في صيف ملتهب،و في طريق بالغة الصعوبة،حتي اذا بدت مضارب بني سهم،تنفس النبي الصعداء،فقد مرّ الخطر و لن تستطيع قريش ان تفعل شيئا.

في الثاني عشر من شهر ربيع الاول وصل قرية قبا،في ضواحي يثرب.

و في قبا امضي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أربعة ايام مترقبا وصول ابن عمه علي بن أبي طالب.

و عند ما حل يوم الجمعة يمم الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم وجهه شطر المدينة، و كان آلاف السكان ينتظرون طلعته البهية.

في تلك اللحظات المهيبة عند ما تغير المدن اسماءها (1)،و في يوم 16 ربيع الاول الموافق /20ايلول سنة 622 م وصل النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يثرب في لحظة تاريخية خالدة،فلقد هبّ أهل المدينة عن بكرة ابيهم لاستقبال آخر الانبياء في التاريخ.

و خرجت فتيات المدينة ينشدن اناشيد الفرح،و هن يلمحن من بعيد ركب المهاجر يجتاز ثنيات الوداع.ة.

ص: 21


1- اشتهرت يثرب فيما بعد باسم المدينة المنورة.

و في تلك اللحظات المفعمة بمشاعر الأمل و الفرحة و اللقاء بدأ التاريخ الهجري،و تبلورت نواة المجتمع الاسلامي.

*المشهد الثاني:

اشارة

سوف يبقي الموت و الحياة لغزا في حياة البشر،فالضباب الذي يهيمن علي العيون سوف يحجب الرؤية بوضوح،لمن يريد الخلود فأي الطريقين يسلك طريق الموت ام طريق الحياة؟دعنا نراقب منزلا كريما في مكّة و قد مضت ثلاثة عشر عاما علي هبوط جبريل في غار حراء.

شعر المشركون بالخطر و هم يرون ابناء مكّة يفرّون بدينهم متجهين شمالا إلي مدينة يثرب لقد قيضّ اللّه لهم قوما لنصرة رسالة السماء،و قد تتابعت هجرة المسلمين حتي اقفرت أحياء بكاملها (1).

و أدركت قريش إن وقوفها مكتوفة الأيدي يعني تنامي الخطر يوما بعد آخر؛و انبري أبو جهل ليضع خطّة جهنمية لتصفية محمد إلي الأبد.

و هبط جبريل يفضح خطّة الشيطان لاطفاء النور الذي اضاء

ص: 22


1- مرّ عتبة بن ربيعة بدور بني جحش و كانت خالية تماما فانشد: و كل دار و ان طالت سلامتها يوما ستدركها النكباء و الحوب

جبل حراء (1)و سوف يضيء العالم باسره:

وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. (2)

و في تلك اللحظات التاريخية بدأت واحدة من أعظم قصص الفداء في تاريخ الإنسان.

و لا يمكن للمرء أن يتصور مهما أوتي من سعة الخيال أن يتصور مشاعر شاب في الثالثة و العشرين من عمره و هو يتقدم إلي معانقة الموت.

تسارعت الأحداث بشكل مثير،و نسجت قريش اخطر مؤامراتها كما تنسج العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت،و دعا النبي ابن عمه الحبيب و اطلعه علي فصول المؤامرة؛و كان المطلوب من علي أن يرقد في فراش النبي و كان همّ ابن أبي طالب الوحيد هو أن يسأل:

-أو تسلم يا رسول اللّه أن فديتك بنفسي؟ (3)

-نعم...بذلك وعدني ربّي.

و ارتسمت مشاعر فرح علي وجه علي،و تقدم إلي فراش النبيِ.

ص: 23


1- اصبح اسمه فيما بعد«جبل النور».
2- سوره 8 - آيه 30
3- و في هذا نزل قوله تعالي: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ.

ليرقد بسلام آمنا مطمئنا،فيما كانت عيون أربعين ذئب تبرق في الظلام.

و تمرّ اللحظات مثيره و انسلّ رسول اللّه خارجا من المنزل متجها صوب الجنوب إلي غار في جبل ثور.

و اقتحم المتآمرون منزل رسول اللّه و السيوف تبرق في غبش الفجر و كانت المفاجأة أن هبّ علي من الفراش و أسقط في ايديهم.

و شهدت مكّة في الساعات الأولي من الصباح حركة غير عادية لقد فرّ الإنسان الذي ارسلته السماء ليغمر الأرض بنور ربّها.

فرسان الدوريات تبحث في كل مكان،و قد رصدت قريش الجوائز المغرية لمن يأتيها بمحمد حيّا أو ميتا أو يدلي بمعلومات تساعد في القبض عليه.

و مكث علي في مكّة أياما كان خلالها يتجه إلي الابطح في الغدوّ و الآصال فينادي:

ألا من كانت له قبل محمد أمانة فليأت لتؤدّي له أمانته.

رسالة من قبا:

وصل سيدنا محمد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم«قبا» (1)وحط رحله في تلك البقعة من

ص: 24


1- قرية علي بعد ميلين من المدينة المنورة.

ارض اللّه؛و من قبا بعث النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم رسالة إلي ابن عمّه يأمره فيها بالقدوم،و انطلق أبو و اقد الليثي إلي مكّة و سلّم الرسالة عليا.

تري لماذا هذا الاصرار علي انتظار علي؟لماذا ظلّ النبي علي أبواب المدينة حتي يقدم ابن عمه و أخوه؟

لقد وقف التاريخ الهجري ينتظر تلك اللحظات الدافئة في لقاء محمد و علي.

هناك في أعماق علي سرّ عجيب،عند ما تضطرم الحقيقة الكبري في الذات الإنسانية فتحيل كل ما حولها اشياء متألّقة بضوء لا يستمد شعاعه من شمس و لا قمر؛أنه الضوء القادم من قلب السموات.

و هكذا كان ايمان ذلك الفتي أنه لا يعرف في الوجود سيّدا غير محمد..محمد الذي فتح عينيه علي ينابيع النور في سفوح حراء.

لا شيء في الافق سوي الرمال و ذلك الخط الأزرق الذي يعانق سمرة الصحراء،و لاحت قافلة تسير علي هون قافلة فيها أربعة فواطم..فاطمة بنت اسد و فاطمة بنت محمد،و فاطمة بنت الحمزة و فاطمة بنت الزبير.

و في«ذي طوي»كان المقهورون ينتظرون عليا لينقذهم من القرية الظالم أهلها،و سارت القافلة تشق طريقها في بطون الأودية،

ص: 25

و لا شيء سوي السماء الزرقاء و الرمال السمراء.

علي يعرف اشياء كثيرة..منذ عشرين سنة و هو يرافق رجلا اختارته السماء،انه لا يرافقه فحسب بل يذوب فيه يندمج معه..لهذا فهو يعرف سرّ العالم.

شيء واحد كان يجهله تماما لا يعرف له معني هو الخوف،لقد وقف الإنسان عاجزا أمام لغز الموت نهاية كل الحيوات،هل هو نهاية؟أم بداية؟

و لكن عليا الذي اكتشف نبع الخلود قهر الموت أكثر من مرّة و كان الموت يهرب منه،يفرّ من بين يديه كلما أراد عناقه.

لقد التحف قبل أيام ببردة النبي و أغمض عينيه في فراش تغمره رائحة الفردوس،انه يقدّم نفسه قربانا لآخر الأنبياء في تاريخ الإنسان؛

و إذا كان اسماعيل قد اسلم وجهه للّه فأنّه كان يدرك أن أباه سيذبحه علي هون،و لكن عليا أغمض عينيه ليفتحهما علي عشرات الخناجر المسمومة و لسوف تبضعه و سوف تتدفق دماؤه من خلال مئات الجراح.

لقد تنافست الملائكة من أجل الحياة،لم يفد جبريل ميكال اختار كلاهما الحياة و لكن الإنسان الذي صاغته السماء حطّم

ص: 26

حاجز الموت كسّر قضبان الزمن الصدئة و اختار الفداء (1).

القافلة تطوي المسافات حتي إذا وصلت قريبا من«ضجنان» ادركها«الطلب»؛و اذا بثمانية فرسان يعترضون القافلة يريدون إعاده التاريخ إلي الوراء،و في ذلك المكان فوجئت جزيرة العرب ب«ذو الفقار»يتألق في دنيا الفروسية؛كانوا ثمانية فرسان يريدون اعادة القافلة إلي مكّة..إلي القرية الظالم أهلها..العيون تبرق حقدا؛ هتف فارس لم يكتشف عليا بعد:

-أظننت يا غدّار أنك ناج بالنسوة؟ارجع لا أبا لك.

اجاب علي بثبات جبل حراء:

-فان لم أفعل؟

-لترجعن راغما.

و اغار«جناح» (2)علي النوق لاثارتها فاعترضه علي فاهوي عليه جناح بضربة تفاداها علي و سدّد له ضربة جبّارة،«فقضي عليه»؛ة.

ص: 27


1- «أوحي اللّه إلي جبريل و ميكائيل اني قضيت علي احد كما بالموت،فأيكما يفدي صاحبه؟فاختار كلاهما الحياة؛فاوحي إليهما هلا كنتما كعلي لقد آخيت بينه و بين محمد و جعلت عمر أحدهما اطول من الآخر فاختار علي الموت و آثر محمدا بالحياة، اهبطا فاحفظاه من عدوه»/تاريخ اليعقوبي:39/2،اسد الغابة لابن الأثير /4 103.
2- مولي لحرب بن أمية.

تسمّر الباقون و قد اذهلتهم المفاجأة انهم لم يروا في حياتهم ضربة كهذه؛صاح احدهم و قد رأي الفتي يستعد لشنّ هجوم معاكس:

-احبس نفسك عنّا يا ابن ابي طالب!

و هتف علي كأنما يتحدّي العالم الوثني باسره:

-اني منطلق إلي اخي و ابن عمي رسول اللّه.

و انطلقت القافلة صوب يثرب،و كان رسول اللّه ما يزال ينتظر في قبا؛و وقف التاريخ الإنساني ينتظر قبل أن يلج عهدا جديدا من فصوله المثيرة في المنعطفات التي تغيّر فيها المدن اسماءها.

و في السادس عشر من ربيع الأول الموافق 20 أيلول عام 622 للميلاد وصلت قافلة التاريخ الهجري مدينة يثرب و كانت الحشود المسلمة تحدّق في«ثنيّات الوداع»تترقب وصول آخر الأنبياء في تاريخ البشرية.

*المشهد الثالث:

السماء مرصّعة بالنجوم...تتلألأ من بعيد كلالئ منثورة.

حطّ المهاجرون عصا الترحال في«ضجنان»و انحني عليّ يعالج قدميه و قد تفطرتا من المشي مئات الأميال.

ص: 28

بركت النوق فوق الرمال تلتقط أنفاسها و تشمّ رائحة وطن قريب.

عينا فاطمة تسافران بين النجوم تستكشفان آفاق السماء..

حيث انطلق أبوها في رحلة الاسراء و المعراج علي ظهر البراق.

عينا فاطمة ما تزالان مسمرتين في النجوم،و قد أزهر وجهها مثل كوكب صغير هبط علي الأرض،و بدا القمر في آخر ساعات الليل اصفر الوجه كما لو أجهده السهر،همست فاطمة في نفسها تناجي:

-أنت وحدك الباقي...كلّ شيء آخذ طريقه نحو المغيب، النجوم،القمر...الأرواح البيضاء تتجه اليك لا تبالي بأشواك الطريق في الصحراء حتّي لو كانت حافية القدمين..

أنت وحدك الحقّ يا ربّ...أنت نور عيني و فرحة قلبي..دعني ألج ملكوتك اسبّحك و أطوف مع النجوم حول عرشك..أنت وحدك الحقيقة و ما سواك و هم..أنت وحدك نبع الحياة وعداك سراب يحسبه الظمآن ماء.

في«قباء»هبط جبرئيل يحمل كلمات السماء إلي رجل فرّ من امّ القري ينبئه عن مسار قافلة فيها ابنته و امرأة ربّته وفتي ربّاه في حجره فلما اشتدّ ساعده وقف إلي جانبه يفديه بنفسه..

ص: 29

فاح عبير الوحي..ملأ فضاء«قبا»حيث بني الرسول أوّل مسجد في الاسلام:

- اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلي جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ (1) * فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثي بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ اللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ. (2)

كان النبي يترقّب وصول القافلة المهاجرة فيها أخوه و ابنته و امرأة ربّته.كلمات جبريل ما تزال تطوف في خياله و هو ينظر الي الأفق البعيد و لكن لا شيء سوي الرمال السمراء..

و لو قدّر لأحد كان في«قبا»لرأي رجلا قد ذرّف علي الخمسين ليس بالطويل و لا القصير كان ربعة«و قد جعل الخير كله في الرّبعة»؛ازهر الوجه،ناصع البياض مشربا بحمرة خفيفة لعلّها من أثر الشمس و رياح الصحراء،رجل الشعر يبلغ شحمة اذنيه و يكاد يلامس منكبيه؛واسع الجبين،مقوّس الحاجبين كهلالين،و كانت عيناه نجلاوين واسعتين؛اقني الأنف،كأنّ أسنانه لؤلؤ منضود فاذا مشي مشي الهويني متقارب الخطي كزورق ينساب علي هون.

ص: 30


1- سوره 3 - آيه 191
2- سوره 3 - آيه 195

وقف النبيّ يتأمل الصحراء المترامية تمسح عيناه الأفق البعيد، ينتظر أحبّة فارقهم في لحظة ليل و قد حاصرته ذئاب مكة.

غمر الليل الصحراء و آب النبي الي مضارب«بني سهم»،و قد بدا علي وجهه حزن كحزن آدم يوم بحث في الأرض عن حوّاء.

وصلت القافلة بسلام،و خفّ الأب للقاء ابنته ذكراه الغالية من خديجة..خديجة التي رحلت بعيدا و تركته وحيدا.

عانقت البنت أباها.غرقت في عبير رجل سماويّ،فاضت عيناها دموعا،دموع فرح و دموع رحمة.

-يالعذاب محمّد..يالعذاب الأنبياء.

ربّما دهشت بعض النسوة و هن يتطلعن الي رجل ذرّف علي الخمسين يجتاز في لحظة نصف قرن من الزمن ليتحوّل إلي طفل يرتمي في أحضان امّه.

تمتم رسول السماء يضع حدّا لأسئلة تناثرت فوق الرمال:

-فاطمة أمّ أبيها.

فاطمة بربيعها الثالث عشر تتحوّل إلي أمّ لأعظم الأنبياء.

-و فاطمة بضعة منّي.

نظر محمّد إلي عيني ابنته كان يبحث فيهما عن فتي شري نفسه للّه.

ص: 31

-أنّه هناك يا أبه..تشققت قد ماه..سال منهما الدمّ..الشوك و الرمضاء و مشاقّ الصحراء..و لا ناقة عنده و لا جمل.

تألقت عينا النبي:

-انّه أخي.

مضي محمّد للقاء أخيه المهاجر...

و هبّ الفتي للقاء رسول السماء..نسي آلامه.

رشّ الرسول كفيه برحيق النبوّة ثم مسح علي قدمي الفتي المهاجر،كأمّ رؤوم تمسح رأس وليدها ليغفو و ينام..

سافرت الآلام و وجد علي نفسه في مهد امّه في أحضان رجل ربّاه صغيرا...فغفا و نام.

و نهض الرجل المكي تاركا وليد الكعبة يلتقط أنفاسه بعد رحلة مريرة في رمال الصحراء.

***

ص: 32

مشاهد في طريق الحج الأخير

*المشهد الأول:

اشارة

في شهر ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة اعلن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عزمه علي حج بيت اللّه الحرام،و حملت نسائم الصحراء انباء الفرح، فراحت القبائل العربية تنثال الي المدينة لتنضوي تحت لواء آخر الانبياء في التاريخ.

فتدفق عشرات الآلاف تاركين قراهم و مدنهم و مضارب قبائلهم.

و في الخامس و العشرين من الشهر نفسه تحركت القوافل باتجاه مكة مهوي الافئدة،و شهدت الصحراء لأول مرة تجمّعات بشرية ضخمة بلغت مئة ألف انسان تطوي المسافات و هي تسير الهويني صوب بيت بناه ابراهيم و اسماعيل.

ص: 33

و في الخامس من ذي الحجة الحرام دخل النبي مكة من باب السّلام،و طاف حول البيت العتيق سبعة اشواط ثم انطلق الي جبلي الصفا و المروة،و هو يتمتم بآي القرآن الكريم: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ، (1) فسعي بين الجبلين،في حركة تذكر بام اسماعيل يوم كانت تبحث عن قطرة ماء لوليدها اسماعيل.

و ارتقي جبل الصفا فأطل علي الكعبة العظمي و هتف معلنا انتهاء الوثنية:

-لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له،له الملك و له الحمد و هو علي كل شيء قدير...لا إله إلاّ اللّه انجز وعده و نصر عبده و هزم الاحزاب وحده.

و في عرفات وقف النبي خطيبا وراح يبين للمسلمين ثقافة الاسلام و مبشرا بعهد السّلام:

-ايها الناس اسمعوا مني أبيّن لكم فاني لا ادري لعلّي لا القاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.

ان دماءكم و امواكم حرام عليكم ان تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.

ثم اعلن الغاء العنصرية و تكريم الانسان.

-ايها الناس ان ربّكم وحده و ان أباكم واحد،كلكم لآدم و آدم

ص: 34


1- سوره 2 - آيه 158

من تراب،ان اكرمكم عند اللّه اتقاكم،ليس لعربي علي عجميّ فضل إلاّ بالتقوي.

ثم راح يؤسس لعهد جديد يسوده السّلام و المحبة و الوئام.

-من كانت عنده امانة فليؤدها الي من ائتمنه عليها.

و ان ربا الجاهلية موضوع،و ان أول ربا أبدأ به هو ربا عمّي العباس ابن عبد المطلب،لكم رؤوس اموالكم لا تظلمون و لا تظلمون.

و ان دماء الجاهلية موضوعة،و ان اول دم ابدأ به دم عامر بن ربيعة ابن الحرث بن عبد المطلب (1).

و كان يختم بياناته قائلا:

-ألا هل بلغت؟اللهم فاشهد.

و لم ينس النبي أن يوضح و لو بشكل عام حقيقة كبري هي الطريق الذي يتعين علي المسلمين سلوكه بعد غياب آخر النبوّات في التاريخ:

-ايها الناس انما المؤمنون اخوة و لا يحلّ لأمريء مال أخيه إلاّ عن طيب نفسه فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض فإني قد تركت فيكم ما ان اخذتم به لن تضلوا بعدي أبدا:كتاب اللّهه.

ص: 35


1- ورد في السير ان قبيلة هذيل كانت قد اعتدت عليه و قتلته.

و عترتي أهل بيتي.

البلاغ المبين

انطوت أيام الحج الأكبر و آن لقوافل الحجيج ان ترجع الي ديارها،وراح اهل مكة يرقبون باعجاب و أمل،الجموع و هي تغادر الارض المقدّسة حيث هبط جبريل يحمل آخر رسالات السماء.

و غادر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مكة و نفسه مطمئنة لانتشار الاسلام الذي اضحي في مدّة و جيزة الدين الأول في منطقة واسعة من العالم.

وصلت القوافل منطقة الجحفة حيت مفترق الطريق،كانت الشمس تتوسط السماء و تصبّ لهيبها علي رمال الصحراء فتتوهج ذرّات الرمال.

و في تلك البقعة الملتهبة من دنيا اللّه هبط جبريل يحمل البلاغ الاخير:

- يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ. (1)

و يبدو من خلال لهجة الخطاب القرآني التي اتخذت شكل الانذار ان هناك امرا خطيرا يتوجب علي النبي ابلاغه الي الامة التي ولدت قبل اعوام.

ص: 36


1- سوره 5 - آيه 67

فوجئت قوافل الحجيج بدعوة النبي بالتوقف في ارض جرداء قاحلة،فلا شجرة يستظل بها المسافر،و لا نبع يرتوي منه الظامئ؛ و طافت علامات تعجب و استفهام عن بواعث الأمر النبوي!

لا يستطيع المرء أن ينفي هواجس الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في مصير الرسالة الاسلامية بعد رحيله،خاصة و انه بات يشعر بأن ساعة الرحيل قد أزفت و لم يبق له في الدنيا سوي مشوار قصير،و قد آن لآخر الانبياء أن يغمض عينيه و يغفو بسلام.

تطلّع المسلمون الي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هو يرتقي دوحات اعدّها له بعض اصحابه،و وقف يتطلع الي عشرات الألوف من الذين آمنوا به و اعتنقوا رسالته،و عيناه تحدّقان في الآفاق البعيدة،الي حيث الغد الذي ينطوي علي أسرار و حوادث لا يعلمها إلاّ اللّه.

و انسابت كلمات الرسول هادئة مؤثرة:

-كأني قد دعيت فأجبت..و إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي اهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما،فانهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض.

و كان علي بن أبي طالب قريبا منه،فاستدعاه و أمسك بيده و قدّمه الي العالم بأسره قائلا:

-أ لست أولي بالمؤمنين من انفسهم،و ازواجي امهاتهم.

ص: 37

فانطلقت الصيحات مؤيدة من هنا و هناك:

-بلي يا رسول اللّه.

فهتف النبي و قد رفع يد علي عاليا كأنه يخاطب التاريخ و الاجيال:

-من كنت مولاه فهذا علي مولاه،اللهم و ال من ولاه،و عاد من عاداه.

و ادّي الرسول رسالته،و هبط جبريل يعلن بشارة السماء:

اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً. (1)

و تفجّر نبع من الفرح في تلك الصحراء الملتهبة،و اهتزّ حسّان بن ثابت طربا و انطلق يردّد ممجدا تلك اللحظات السماوية:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخمّ فأسمع بالنبي مناديا

يقول:فمن مولاكم و وليّكم فقالوا و لم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا و أنت وليّنا و لن تجد منا لك اليوم عاصيا

فقال له:قم يا عليّ فإنّني رضيتك من بعدي إماما و هاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه فكونوا له انصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم و ال وليه و كن للذي عادي عليا معاديا

و تمتم النبي و عيناه تتألقان فرحا:

ص: 38


1- سوره 5 - آيه 3

-لا تزال يا حسّان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.

و نهض الصحابة يحيّون عليا و يهنئونه قائلين:

-بخ بخ لك يا علي اصبحت مولاي و مولي كل مؤمن و مؤمنة!

و كان يوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام يوم عيد و فرح، فقد كمل الدين و تمّت النعمة.

*المشهد الثاني:

وقف رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يوم النحر من حجة الوداع خطيبا:

-«اما بعد ايها الناس اسمعوا مني ما ابين لكم فاني لا أدري لعلي لا القاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا،ان دماءكم و اموالكم عليكم حرام إلي أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم و بلدكم هذا..».

«ايها الناس انما المؤمنون اخوة و لا يحلّ لأمريء مال اخيه إلاّ عن طيب نفسه،فلا ترجعوا كفارا بعدي يضرب بعضكم اعناق بعض فأني قد تركت فيكم ما ان اخذتم به لن تضلوا بعدي ابدا:كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي...».

انطوي موسم الحج،و غادر سيدنا محمد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مكّة و معه مئة

ص: 39

ألف أو يزيدون؛التاريخ يشير الي يوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام من السنة العاشرة للهجرة.

قوافل الحجيج تهوي في بطون الأودية؛الشمس في كبد السماء و قد بدت و كأنها تتشظي لهبا،القوافل تصل مكانا (1)قريبا من الجحفة،حيث مفترق الطرق.

و غمرت النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هو علي ناقته«القصوي»حمّي الرسالات لقد هبط جبريل يحمل بلاغ السماء،و توقف النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هو يتشرّب انذارا سماويا:

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ. (2)

و توقفت عشرات الألوف و هي تتساءل عن السرّ في توقف النبي،في هذه البقعة الملتهبة من دنيا اللّه.

و انبري بعض الصحابة يصنعون للنبي مرتفعا فلديه كلمات تامّات يريد ابلاغها لعشرات الآلاف من الصحابة..و الأجيال القادمة...و التاريخ.

كلمات الحمد و الثناء للّه تنساب من بين شفاه آخر الأنبياء كان علي واقفا قرب الإنسان الذي ربّاه صغيرا و علّمه كيف يحيا؛قالم.

ص: 40


1- غدير خم.
2- سوره 5 - آيه 67

النبي و عشرات الالوف تتطلع إليه:

-أ لست أولي بالمؤمنين من انفسهم؟

و جاء الجواب من عشرات الحناجر:

-بلي يا رسول اللّه.

و أخذ النبي بيد علي و رفعها عاليا:

-من كنت مولاه فهذا علي مولاه...

و رفع آخر الأنبياء يديه إلي السماء:

-اللهم و ال من والاه..و عاد من عاداه..و انصر من نصره..

و اخذل من خذله.

و هبط جبريل يبشر محمدا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قد ادّي رسالته و قد آن له أن يستريح؛لقد اكتمل الدين و تمت النعمة و قيل الحمد للّه رب العالمين.

تلألأ الجبين الازهر عرقا..تألقت حبّات العرق كقطرات الندي و قد انطبعت كلمات السماء فوق شغاف قلب وسع الدنيا و التاريخ:

-«اليوم اكملت لكم دينكم و اتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا».

ص: 41

*المشهد الثالث:

و تمرّ الأيّام..و ينطلق رسول السماء الي حجّ بيت اللّه...

و اختارت السماء«غدير خمّ»في طريق العودة و هبط جبريل:

-يا أيّها الرسول بلّغ ما انزل اليك من ربّك و ان لم تفعل فما بلّغت رسالته.

-و الناس؟

-اللّه يعصمك من الناس.

الرمال تشتعل لهيبا لا يطاق.

و توقّف النبيّ فتوقف معه مئة ألف أو يزيدون،و علامات استفهام ترتسم علي الوجوه و توقّف التاريخ يصغي لما يقول آخر الأنبياء:

-أ لست أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟

بلي يا رسول اللّه.

من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه...أيّها الناس ستردون عليّ الحوض و أنا سائلكم عن الثقلين.

-و ما الثقلان يا نبيّ اللّه؟

-كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي.

ص: 42

و مضي التاريخ لا يلوي علي شيء...و عادت قوافل الحج الأكبر تستأنف رحلة العودة إلي الديار و قد دخل الناس في دين اللّه أفواجا و هبط جبريل يتلو علي الرسول آخر آيات السماء..

- اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً. (1)

و شعر النبي ان مهمته في الأرض قد انتهت و آن له أن يستريح و لكن...

***

ص: 43


1- سوره 5 - آيه 3

ص: 44

صورة

ص: 45

صورة

ص: 46

صورة

ص: 47

صورة

ص: 48

صورة

ص: 49

صورة

ص: 50

صورة

ص: 51

صورة

ص: 52

صورة

ص: 53

المحتويات

المقدمة 5

الطريق الي غدير خم 7

مشاهد في طريق الهجرة التاريخية 15

المشهد الأول:15

المؤامرة 16

الفداء 17

الطريق الي يثرب 18

الرحلة 20

المشهد الثاني:22

رسالة من قبا:24

المشهد الثالث:28

مشاهد في طريق الحج الأخير 33

المشهد الأول:33

البلاغ المبين 36

المشهد الثاني:39

المشهد الثالث:42

المحتويات 55

ص: 54

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.