امام علی علیه السلام نبراس ومتراس
الناشر: العتبة العلوية المقدسة -قسم الشؤون الفكرية والثقافية.
تاريخ الطبع ، 132ه. 2010م
تنفيذ طباعي: دار الرافدين - بيروت
المكتبة الروضة الحيدرية
تالیف : سلیمان کتاني
تحقيق : هاشم محمد الباججي
ص: 1
امام علی علیه السلام
نبراس ومتراس
الكتاب الذي أحرز الجائزة الأولى في مسابقة التاليف عن الإمام علي علیه السلام
تالیف : سلیمان کتاني
تحقيق : هاشم محمد الباججي
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 3
* الإمام علي علیه السلام نبراس ومتراس .
* المؤلف : سليمان كتاني
* تحقيق :هاشم محمد الباججي.
* الناشر: العتبة العلوية المقدسة -قسم الشؤون الفكرية والثقافية.
* التنضيد والإخراج الفني : عبد الحسن هادي الشافعي .
* مراجعة ، قسم الشؤون الفكرية والثقافية
* الطبعة: الثانية.
* تاريخ الطبع ، 1432ه. 2010م
تنفيذ طباعي: دار الرافدين - بيروت
www.imamali-a.com
info@imamali-a.com
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولايحصي نعمائه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون الذي لا يدرکه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل ممدود وصلى الله على رسوله المصطفى الذي بعثه لانجاز عدته وتمام نبوته وخلف في الأمة ما خلفت الأنبياء في أمها إذ لم يتركوهم هملا غير طريق واضح ولا علم قائم وعلى آله الطاهرین اساس الدين وعماد اليقين.
اطلع الله سبحانه وتعالی اطلاعة على الأرض فاختار منها رسوله الكريم واطلع ثانية فاختار منها عليا وصي رسوله صلی الله علیه وآله (1)... ولد علیه السلام في جوف الكعبة ففتح عينيه في بيت الله عز وجل وأول ما مست قدميه البقعة المقدسة من هذا البيت الطاهر فكان ايذانا بعهد جديد لهذا البيت العتيق الذي اشرق بنور محمد صلی الله علیه وآله ووصية الوليد ليعلن للدنيا بدء الدعوة الإلهية السماوية الإسلامية ...
وقد منحه الله تعالى من المزايا النفيسة والخصائص الشريفة والملكات الروحية .. فصار للمسلمين وغيرهم كضوء النهار الباهر والقمر الزاهر.. فصار طريق الله المستقيم .. وحبله القويم .. والطريق الواضح .. وراية الهدى ..وعلم التقى .. والدال الى الله تعالی.
ص: 5
كيف لا وهو ربیب الرسول صلی الله علیه وآله الذي يقول أدبني ربي فأحسن تأديبي حتى وصفه الله سبحانه في كتابه الكريم (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم /4).
ما سر ابن ابي طالب ! .. عمل واحد .. ضربة واحدة .. افضل من عبادة الثقلين الى يوم القيامة.
ما سر ابن ابي طالب ! .. هو الإيمان كله؟.
ما سر ابن ابي طالب !.. قسيم الجنة والنار؟.
ما سر ابن ابي طالب !.. لوان البحار مداد والأشجار أقلام وجميع الخلائق کتاب فما استطاعوا أن يجمعوا إلا النزر اليسير من صفاته ، ولكلوا عن الاتيان ببعض وصف معجزاته. (1)
ما سر ابن ابي طالب .......؟؟؟
يناجي ربه : الهي كفا بي عزا ان اكون لك عبدا وكفى بي فخرا أن تكون لي ربا انت كما احب اجعلني كما تحب..(2)
عالمي مطلق .. الناس صنفان : إما أخ لك في الدين أو نضير لك في الخلق. (3)
علي .. عبد الله وأخي رسوله .. وكتاب الله الناطق .. وقلب الله الواعيوذاته من شدة الاقتراب .. محسوس في ذات الله..
فأينما يذهب علي .. يذهب الحق وراءه .. وایمنا يدور علي يدور الحق معه .. فلا تستوحش الطريق وان قل سالكيه .. فطريق علي هو طريق الحق
ص: 6
والصدق، والمستمسك بعلي فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله واسع عليم.
من أجل اعادة بعض الكتابات المتميزة بحق إمام الإنسانية الخالد امير المؤمنين علیه السلام واستعدادا للنجف عاصمة للثقافة الإسلامية كانت فكرة اعاة طبع كتاب (علي نبراس ومتراس) لمؤلفه اللبناني المسيحي سليمان كتاني، هذا الكتاب الحائز على الجائزة الأولى لأفضل تأليف أقامته مدينة النجف الأشرف، فباشرنا في قسم الشؤون الفكرية والثقافية للعتبة العلوية المقدسة باعادة تنضيده واخراجه لأن الكتاب لم يطبع منذ عقد الستينات، وقد قمت بتخريج الأحاديث والحوادث الواردة فيه وترجمة بسيطة للشخصيات المذكورة في الكتاب، وقد اضفنا عنوان آخر للكتاب (تمهيد) لنعيد للذاكرة سيرة أولئك الرجال الذين أقاموا مسابقة أفضل تأليف في تلك الفترة، حيث قمنا بترجمة سطور من حياتهم وسيرتهم، وقد تم انجاز العمل بجهود منتسبي العتبة العلوية المقدسة - قسم الشؤون الفكرية والثقافية في شهر الله المبارك شهر الطاعة شهر رمضان، اعلاء لكلمة لا إله الا الله من خلال نشر الحق والفضيلة والله من وراء القصد..
ص: 7
المؤلف في سطور ..
سلیمان کتاني .. أديب ومفكر ومؤرخ مسيحي .. علم من أعلام الفكر والأدب العربي، فهو الأستاذ القدير، وصاحب الذوق العربي الأصيل . والخيال المبدع.. راح قلمه يصدح بعدما اندمج وأمتزج بحب علي علیه السلام ولاء وأدبا بحب أهل بيته وأولاده وذريته علیهم السلام ..
ولد الأستاذ سليمان كتاني في الولايات المتحدة في ولاية ماين في التاسع والعشرين من شباط سنة 1912 حمله والده يوسف وأمه دليلة إلى بلدتهما بسكننا في لبنان وهو في الثانية من عمره حين درس الابتدائية فيها ثم انتقل الى معهد عينطورة ثم معهد الحكمة في بيروت ونال شهادة الفلسفة بامتياز سنة 1932م.
من أبرز أساتذة الأستاذ کتاني العلامة الحوزي روفائيل البستاني والأب فيليب السمراني والأستاذ طانيوس ملحمة.
بعد تخرجه انخرط في سلك التعليم ليدرس الأدب العربي، وراح يصدر بين فترة وأخرى كتبه المزدانة بأدب أنيق وفكر عميق ومعالجات وفيرة الصدق وكانت باكورة مؤلفاته تمثيلية (أمل وياس) فتكون من (28) صفحة طبعت سنة 1932 وبعدها كتب الكثير من المسرحيات وغيرها في عام 1964 صدر له کتاب (لبنان على نزيف خواصره)، وفي عام عام 1997 طبع له کتاب (علي نبراس ومتراس) الذي حصل على الجائزة الأولى التي اطلقتها جماعة العلماء
ص: 8
في النجف الأشرف، ثم أصدر كتاب (فاطمة الزهراء وتر في غمد)، وفي عام 1970 اصدر كتاب (محمد شاطئ وسحاب) وهو كتاب جسد السيرة النبوية ثم کتاب (یسوع أبد الإنسان) عام 1979 ، ثم كتاب جبران خليل جبران بمداره الواسع عام 1979 ، وكتاب (مي زيادة في بحر من ضما) في سنة 1984، وكتاب (الجذور) عام 1985، (الإمام الحسن الكوثر المهدوي) عام 1989 ،كتاب (ميخائيل نعيمة بيدر مفطوم) 1990 وكتاب (الإمام الحسين في حلة البرنيد) عام 1990 وله اعمال تلفزيونية عديدة ومسرحيات مخطوطة مثل محاكمة هارون الرشید، طابع السم أكله، المهلب بن أبي صفرة ، اضافة الى مقالاته ودراساته الأدبية وقصصه الرشيقة.
التحق بالرفيق الأعلى الأستاذ سليمان كتاني صاحب اشهر المؤلفات المسيحية في آل البيت علیهم السلام في اليوم نفسه الذي ولد فيه في التاسع والعشرين من شباط عام 2006 في لبنان .. وظلت كلماته ترن في ذاكرة الأجيال :
محبتي للرسول و آله محبة خالصة.. وهي لعلي لا يوازيه حب آخر في الحياة.. علي .. عالمي مطلق.
علي هو الصدق ذاته في الفكر الإنساني .. وهو مصدر كل الانطلاقات الرسالية العظيمة على صفحة الأرض ..
ليس لدى غير علي فكر صحيح .. ولذا لا يجوز أن يتشيع في الحياة غيره .. التشيع هو التعلق بالحقيقة التي يمثلها الفكر الإسلامي العالي .. أراني أخيرا قد وجدت أهل البيت دائما في الحقيقة..
ص: 9
مسابقة في التأليف:
في عام 1966 اطلقت مدينة النجف الأشرف مسابقة التأليف في الإمام علي بن ابي طالب علیه السلام ، فهي السباقة كعادتها في المشاريع الفكرية والثقافية فقد انبری ابناؤها البررة بتبني مشروع اسلامي ثقافي علمي تاريخي جديد في مضمونه وطرحه وهي اطلاق مسابقة في التأليف وقد كان صاحب هذه الفكرة سماحة السيد جواد شبر الخطيب الحسيني المعروف رحمه الله ، وتبني الدعمالمادي لهذه المسابقة الوجيه السيد هاشم شبر وهو من تجار النجف المعروفين وابن عم السيد جواد شبر الذي تبرع من ماله الخاص لكل الجوائز الثلاث.
وكان لجماعة العلماء دور في تنظيم هذه المسابقة من خلال تشكيل لجنة تحكيم تضم : سماحة آية الله الشيخ مرتضی آل یاسین قدس سره وسماحة آية الله السيد محمد باقر الصدر، وسماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد موسى بحر العلوم بطلب السيد جواد شبر أمين سر اللجنة وسكرتيرها وقد وجه نداء الى الكتاب المحققين والمثقفين في العالم العربي والإسلامي للتنافس في الكتابة عن الإمام علیه السلام.
أصداء وآراء :
كان لهذه المسابقة التاريخية اصداء كبيرة في الأوساط العلمية والاجتماعية حين ساهمت في خلق آفاق ومحاور جديدة في الكتاب والتأليف خاصة في الإمام علي عليه السلام والذي يعتبر شخصية عالمية بكل المعايير لذا أن الكتاب
ص: 10
المسيحيين خاصة بالرغم من ديانتهم قد ابدعوا في الكتابة عن هذه الشخصية العظيمة فيقول :
الكاتب المسيحي شبلي الشميل :
الضمير العملاق الإمام علي بن ابي طالب علیه السلام عظيم العظماء نسخة مفردة لم ير الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل لا قديما ولا حديثا.
أما الكاتب القدير جورج جرداق فيصفه قائلا :
إن علي بن ابي طالب من الأفذاذ النادرين الذين عرفتهم على حقيقتهم بعيدا عن الصعيد التقليدي الذي روضنا على اساسه ندرس رجالنا وتاريخنا، عرفت ان محور عظمتهم إنما هو الإيمان المطلق بكرامة الإنسان وحقه المقدس في الحياة الحرة الشريفة وإن هذا الإنسان منضوم أبدا بان الجمود والتقهقر والتوقف عن حال من أحوال الماضين أو الحاضر ليس إلا نذير موت و دلیل فناء.
وقد صور جبران خليل جبران صورة رائعة للإمام علي علیه السلام بالرغم من وصفه لحالة شهادته إذ يقول:
مات علي بن ابي طالب شهید عظمته، مات والصلاة بين شفتيه مات وفي قلبه الشوق الى ربه .. الى ان يقول انني اتمثله مبتسما قبل ان يغمض عينه عن هذه الأرض.
وقد وصفه الشاعر الكبير بولس سلامة قال في ملحمته الخالدة عن امیرالمؤمنين علیه السلام :
يا سماء اشهدي و يا ارض قري ***واخشعي انني ذكرت عليا
وله ايضا :
هو فخر التاريخ لا فخر شعب*** بدعيه ويصطفيه وليا
ص: 11
لاتقل شيعة هواة علي ***ان في منصف ش يعيا
أما الكتب الفائزة بهذه المسابقة فقد طبعت طبعة أولى وثانية بأكثر من عشرين ألف نسخة ونفذت جميعها واصبح الحصول عليها عزیز المنال.
وكان للعلماء دور كبير في التشجيع على طباعة هذه الكتب واقتنائها فقد دعما العلمين السيدين الجليلين اية الله العظمى السيد محسن الحكيم (قدس) وآية الله العظمى السيد ابو القاسم الخوئي الكتاب الفائز وشجعا على طبعه.
واتماما للفائدة نعرض بصورة موجزة حياة الشخصيات الخمسة التي كان لها الدور الكبير في اقامة هذه المسابقة :
صاحب الفكرة .. الخطيب السيد جواد شبر( رحمه الله) :
ولد في النجف الأشرف في 13 جمادى الآخرة سنة 1332 ه من أسرة علمية درس في الحوزة العلمية في النجف الأشرف الى جانب دراسته التقليدية ودرس في مدارس منتدى النشر وتفوق حتى اصبح من أساتذتها ثم شكل سكرتارية المجمع الثقافي للمتندى اتجه الى خدمة المنبرالحسيني فكان من الخطباء المتميزين لأنه امتیاز بالموهبة والاستعداد القطري والكفاءة العلمية والثقافية إضافة الى حفظه الكثير من الشعر والأدب العربي.
يعتبر السيد جواد شبر من تلامذة الخطيب القدير المرحوم الشيخ محمد حسين الفخيراني الحسيني حيث أخذ منه الكثير واصبحت له مجالس عامرة كما في مجلس الفقيه المقدس السيد حسن الخرسان ومجلس العالم الورع السيد نصر الله المستنبط، وكانت له مواقف مشهورة ومشهودة في مدينة النجف الأشرف حيث قام بتأبين بعض الشخصيات العلمية مثل الشيخ عبد الحسين الأميني
ص: 12
صاحب كتاب الغدير، وآية الله العظمى السيد محسن الحكيم (قدس) وشیخ الباحثين اغا بزرك الطهراني وكان رحمه الله متواضعا مخلصا في القاء الخطبة المنبرية في النجف وكثير من محافظات العراق بالإضافة إلى بلدان الخليج ولبنان.
للسيد جواد شبر مؤلفات عدة ابرزها موسوعة ادب الطف وهي في عشرمجلدات، وكتاب الى ولدي ، وكتاب قبس من حياة امير المؤمنين، اشعة من حياة الصادق علیه السلام ، وعبرة المؤمنين ، كتاب شواهد الأدب في ثلاث أجزاء ، كتاب المقتطفات وسوانح الأفكار في منتخب الأشعار وغيرها الكثير .. وله مساهمات كبيرة على المستوى الثقافي والعلمي كانت احداها هذه المباراة الثقافية الدولية في التأليف كما له اسهامات في الشعر الشعبي.
في عام 1984 اعتقل السيد جواد شبر من قبل الزمرة البعثية الاعتقال الثالث اضافة الى اعتقال اولاده زید وحامد واللذين اعدمهما صدام لاحقا ولم يخرج من السجن الى اعلان سقوط النظام، وقد غيب جسده الشريف في السجون ولم يعثر عليه حتى الآن.
الداعم المالي .. السيد هاشم شبر:
من أسرة ال شبر تلك الأسرة العلمية المعروفة في النجف الأشرف الذي انجبت الكثير من العلماء والأدباء، فهو ابن عم السيد جواد وهو من التجار المعروفين في المدينة وله اهتمامات واسعة في العلم والأدب لذا كانت جوائز هذه المسابقة قد تبرع بها من ماله الخاص دعما منه للحركة العلمية والفكرية والثقافية.
ص: 13
اللجنة التحكيمية.. سماحة اية الله الشيخ مرتضى ال ياسن اندس (قدس)
هو الشيخ مرتضی بن الشيخ عبد الحسين بن الشيخ باقر بن محمد حسن ال ياسين الكاظمي، ولد في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة 1311ه بمدينة الكاظمية ثم انتقل الى النجف الأشرف ليبدأ دراسته الحوزوية هنالك ومن ابرز أساتذته السيد ابو الحسن الموسوي الأصفهاني(قدس)، أخوه الشيخمحمد رضا آل ياسين (قدس)، والشيخ محمد حسين الغروي النائيني (قدس)، وكانت له حلقة درس تخرج منها العديد من العلماء والأفاضل مثل الشيخ محمد حسن آل یاسین قدس، والسيد محمد باقر الحكيم (قدس)، والسيد محمد رضا شرف الدين (قدس)، والشيخ حسين الخليفة وغرهم، له جملة مؤلفات منها تعليقة على العروة الوثقى، وتعليقة على بلغة الراغبين، البكاء على سيد الشهداء ، النظرة الدامغة ونهضة مباركة وديوان شعر.
توفي الشيخ آل ياسين في شهر ذي القعدة عام 1398 ه.
اللجنة التحكيمية .. اية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس) :
هو السيد محمد باقر السيد حيدر الصدر ولد بمدينة الكاظمية يوم 25 ذي القعدة عام 1353 ونشأ يتيما فتكفل به اخوه الأكبر اية الله السيد اسماعيل الصدر الذي اهتم بتعليمه وتدرسيه وقد ظهرت علامات النبوغ والذكاء رغم صغر سنه في عام 1965م انتقل مع اخيه السيد اسماعيل الصدر الى مدينة النجف الأشرف للدخول في دروس الحوزة العلمية هناك وفي أوائل السنة الثانية عشرة من عمره درس کتاب معالم الأصول على يد أخيه اسماعيل الصدر وكان لفرط ذكائه يعترض على صاحب المعالم باعتراضات وردت في كتاب
ص: 14
الأصول للخراساني، من أبرز اساتذة السيد محمد باقر الصدر خاله اية الله الشيخ محمد رضا ال ياسين (قدس)الذي درس عنده مرحلة البحث الخارج في صغره، وآية الله الشيخ ملا صدرا البادكوبي (قدس) وقد درس عنده الجزء الثاني من الكفاية والأسفار الأربعة، وآية الله الشيخ عباس الرميثي، وآية الله العظمى السيدابو القاسم الخوئي (قدس)الذي درس عنده مرحلة البحث الخارج وكان السيد الخوئي أول من أجاز السيد محمد باقر الصدر (قدس) وقد كان يرجع طلابه إلى الصدر عند عدم فهمهم لبعض عناصر الدرس، وآية الله محمد تقي الجواهري الذي درس عنده الجزء الأول من الكفاية وجزء من اللمعة، وآية الله حسین اسماعيل الصدر أما ابرز تلامذته اية الله السيد كاظم الحائري، وآية الله السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، وآية الله السيد محمد باقر الحكيم (قدس)، كان للسيد الصدر (قدس) مجلسان للتدريس وهما:
بحث الأصول الذي كان يلقيه في مسجد الجواهري بعد اذان المغرب في أيام الدراسة.
بحث الفقه وكان يلقيه في جامع الطوسي في الساعة العاشرة صباح كل يوم من ايام الدراسة.
لسماحة السيد الصدر (قدس) الكثير من المؤلفات الذي أثرت المكتبة الإسلامية بالعلوم والمعارف المختلفة نذكر منها غاية الفكر في علم الأصول، فدك في التاريخ، فلسفتنا، اقتصادنا، المدرسة الإسلامية، الأسس المنطقية للاستقرار، بحوث في شرح العروة الوثقی، دروس في علم الأصول، بحث حول المهدي، أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف.
ص: 15
كان السيد الصدر (قدس) مفكر وفيلسوف اسلامي كبير ومرجع ديني بارز إذ كان منفتحا فكريا علي باقي المذاهب يدعو الى السمو العقلي والفكري وعدم التعصب والانجرار الى الطائفية المقيتة بل جعل الفكر والعقل هما المحور والأساس والإنطلاق لحياة الإنسان.
في الخامس من نيسان 1980 ارتكب صدام جريمة العصر باعتقاله مع اختهالعلوية بنت الهدی بحجج واهية وفي اليوم التاسع من نیسان 1980 نفذ حكم اعدامه في بغداد وعادوا بجثته خفية إلى النجف الأشرف ليدفن فيها.
اللجنة التحكيمية .. سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد موسى بحر العلوم (قدس سره)
السيد موسی بن السيد جعفر بن السيد محمد بن السيد محمد تقي بن رضا بن مهدي بحر العلوم الطباطبائي ، عالم أديب وشاعر .. ولد في النجف الأشرف في شهر جمادي الآخرة عام 1327 من اسره علمية عريقة عرفت بالتقوى والعلم، ونشأ على والده المتوفي سنة 1334 ه دخل المدارس الرسمية وتخرج منها وانصرف لتحصيل العلوم الشرعية، ومنذ صغره دخل الحوزة العلمية واستمر بالدرس والاشتغال وكان من ابرز اساتذته سماحة اية الله العظمى السيد محسن الحكيم، وآية الله الشيخ حسين الحلي، وآية الله السيد میرزا بجنوردي، ولمكانته العالية والدينية رغب اهالي الكوفة بعامة طبقاتهم أن يقيم صلاة الجماعة لهم في المسجد الأعظم مسجد الكوفة وان يكون لهم مرشدا دينيا واجتماعيا ، اضافة الى مكانته العلمية فهو من المتفوقين في العلوم الأدبية، نظم الشعر وأجاد فيه وله شعر راق وهو من عني بنظم التاريخ وارخ
ص: 16
به الحوادث والقضايا التاريخية ومواليد ووفيات وغيرها ونشر منه في الصحف العراقية، شارك في تأسيس جمعية الرابطة الأدبية) كما ساهم بتأسيس فكرة جمعية منتدى النشر)، وكان مدرسا تتلمذ على يديه بعض الأفاضل، اضافة إلى علميته فانه يتمتع بصفات نفسية كريمة جعلته محبوبا في طبقات المجتمع عامة له خمسة عشر أولا من الذكور خمسة هم السيد علي، السيد جعفر،السيد حسن، والسيد محمد حسين، والسيد رضا، مؤلفاته : دیوان شعره خ.
توفي بالنجف 8 صفر سنة 1397ه. ودفن بمقبرتهم الخاصة
نتائج مسابقة التأليف:
قررت اللجنة المشكلة من العلماء الأفاضل لتقيم افضل تأليف كالآتي :
1. الفائر الأول بأفضل تأليف للأستاذ اللبناني سليمان كتاني عن كتابه الإمام علي نبراس ومتراس) ويقع الكتاب في (260) صفحة.
2. الفائز الثاني بأفضل تأليف للدكتور مهدي محبوبه في كتابه ( ملامح من عبقرية الإمام علي (ع)) وقع الكتاب في (283) صفحة.
3. الفائز الثالث بأفضل تأليف للأستاذ عبد المجيد لطفي (الإمام علي رجل الإسلام المخلد) ويقع الكتاب في (288) صفحة.
وقد حصل الأستاذ (روکس بن زائد العزيزي) على الجائزة الروحية والمعنوية عن كتابه (الإمام علي أسد الإسلام وقديسه).
إقامة الاحتفال:
أقيم احتفال ومهرجان كبير في مدينة الإمام الحسين مدينة كربلاء بمناسبة ذكرى ولادة الإمام علي علیه السلام بطل الإسلام الخالد، وبعد قراءة القصائد
ص: 17
والكلمات اعلنت نتائج مسابقة التأليف ووزعت على الفائزين الجوائز والمبالغ المالية المخصصة وقد دعيت لهذا المهرجان والاحتفالية الكثير من الشخصيات العلمية والأدبية والفكرية وقداستضاف السيد جواد شبر في بيتهالأستاذ سلیمان کتاني مع زوجه كان الاحتفاء بهم وتكريمهم بشكل لائق وما هو معروف عن ضيافة اهل النجف الكرام.
جائزة الإمام علي علیه السلام و العالمية للإبداع الفكري:
وعلى المنوال نفسه اطلقت الأمانة العامة للعتبة العلوية المقدسة جائزة الإمام علي علیه السلام العالمية للإبداع الفكري يوم 18 ذي الحجة سنة 1931 بمناسبة عيد الغدير الأغر واستعدادا واحتفاء بالنجف عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2012، تعد هذه الجائزة مشروعا علميا قائمة على الإبداع في فن الكتابة والتأليف محوره شخصية الإمام علي بن ابي طالب علیه السلام لامتداد هذه الشخصية الفذة في الماضي، وآثارها في الحاضر والمستقبل، وقد خصصت لهذا المشروع هدايا نقدية وعينية قيمة للفائزين الثلاثة مع تبني العتبة طباعة بحوثهم وسيعلن عن نتائجها في يوم ذكرى ميلاد الإمام علي علیه السلام ( في 13 رجب لسنة 1933 الموافق سنة 2012ه). (1)
هاشم محمد محمد باقر الباججي
امحرم 1922ه
ص: 18
تفضل سماحة الشيخ مرتضى آل ياسين رئيس جماعة العلماء في النجف الأشرف، ورئيس لجنة المباراة الكتابية بإلقاء هذه الكلمة المباركة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى على محمد وآله..
وبعد فقد شاء الله جل شأنه الذي أخرج هذا الكتاب من حيز القلب إلى حيز القلم أن يفتح له الطريق الى المطبعة في يسر وسهولة ليخرج إلى الناس كتابا صادعا بالحق وناطقة بالصدق فيفيد منه الجاهل علما والعالم اسلوب ونظمة، وحسبه ميزة أن يبرز بهذا الأسلوب الرائق الذي أقل ما يقال فيه أنه اسلوب بياني بديع له من مقومات اللفظ وخصائص المعنى ما يجعله جديرا بكل اعجاب وتقدير، ولعله في اسلوبه البلاغي أول كتاب في موضوعه جاء منسجما مع شخصية لها مثل نهج البلاغة، فشكرا لمؤلفه الأستاذ الألمعي من كل ولي للإمام علي عليه السلام، ثم شكرا لتلك الذوات الخيرة التي مهدت السبيل على انجاز مثل هذا الكتاب الفذ وغيره من الكتب المشاركة له في الموضوع، واخص بالذكر منهم السيدين الشريفين فضيلة الخطيب البارع السيد جواد شبر الذي كان لجهوده المشكورة اكبر الأثر في نجاح هذا المشروع والماجد الكريم السيد هاشم شبر الذي تبرع من ماله الخاص بكل الجوائز الثلاث التي وزعت على الفائزين الثلاثة وعسى أن تفتح هذه المباراة الفكرية القلمية التي
ص: 19
اسفرت عن مثل هذا النتاج القيم بابا لمباريات أخرى تتحف المكتبة الإسلامية بنفائس کهذه النفائس أو اثقل وزنا وما ذاك عن ارباب الفكر والقلم بعيد والله المستعان وهو ولي التوفيق
مرتضی آل ياسين
ص: 20
منذ أربعة عشر قرنا واسم الإمام علي علیه السلام يحتل الصدارة في بيوت المؤرخين والمتتبعين، والباحثين، حين يجئ ذكر الإيمان، والاستقامة ، والعدل والشجاعة والجهاد في سبيل الله، والصبر على المكاره، أو حين يجئ ذكر المعرفة والحكمة، والأدب والشعر والخطابة، فتمر سيرته في صور مزدانة بألوان من الصفات التي لم تجتمع في شخصية انسان عبقري موهوب كما اجتمعت في هذه الشخصية الفذة العجيبة التي خلبت العقول، وحيرت الألباب، وكانت من القوة والرسوخ . من حيث هذه المزايا مزايا العلم والحكمة والمعرفة وسمو الخلق والإنسانية الحقة . بحيث تمردت على العوامل الفعالة التي من شأنها إبادة أي شيء. مهما عظم. إذا ما وقف أمامها.
يقول ضرار بن ضمرة الكناني وهو من معاصري علي حين ارغمه معاویه على أن يقول عن علي ما يرى فقال : (كان والله بعيد المدى ، شديد القوی ، ويقول فصلا، ويحكم عدة، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا ، يدينينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه ، ونحن والله مع تقريبه إيانا، وقربه منا، لا تكاد هيبة له، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي من باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله).(1)
ص: 21
كان علي أمة مستقلة بذاتها، تحکی عقيلة الدهر، وتعبر عن نضج الزمان، وتصور نهاية المراحل من سمو البشرية، وقمة المجد، فليس من الصحيح أن يقاس علي بالأفراد فهو نسيج وحده، ومن الخطأ أن يقال عن علي : أنه كان أورعهم، واتقاهم، وأنبلهم، واسخاهم وأنت تعرض لسيرة العظماء والمزايا الإنسانية، فكما أنك لا تستطيع ان تقرن الأرض بالقمر بهاء، وتقرن معدن الراديوم بالمعادن الأخرى جواهرا وتقيس عليه، فإنك لا تستطيع ان تقرن اسم علي بأسماء العظماء - باستثناء من خصوا برتبة النبوة وهو غير نبي طبعا . لأن مزايا علي قد تجاوزن الحدود المألوفة، ولأن شخصيته بلغت القمة من الأمجاد والمثل العليا في دنيا البشرية.
وحين يستعرض المرء المبادئ الملكات والمزايا فلا يصح أن يأتي بعلي مثلا، ذلك لأن عليا - كما قلت . أمة مستقلة وليس لها بين الأفراد من شبيه ، وأنه قد سما بما جاء به من موازين، وما أعرب به من مزايا، وما عبر به عن صفات الإنسان الكامل العديم النظير، حتى صارت كلمة (علي) وحدها تكفي لترسم أمام العين كل الصور الجذابة من معاني الإنسانية.
ولعل كلمة (علي) التي يكتبها البعض فوق مخازنهم، وحوانيتهم، أو يعلقونها في اطار من الألواح الفنية المزخرفة في بيوتهم، أو التي ينقضونها على ابواب العمارات والمساجد، والمعاهد،والمؤسسات ، أقول: لعل هذه الكلمة ضرب من ضروب (البديع) ورمز من رموز الفن المعروف في علم البديع بالاكتفاء) وهي صريحة المنطوق، واضحة المفهوم، فلا حاجة لأن يضاف إليهاشيء ليفهم الناس : أن عليا يحكي المجموعة الكاملة من فضائل و مزایا۔
يقول مهدي الجواهري:
ص: 22
تعدد المرء يعد منقصة إذا ***فاقت مزاياه عن التعداد
ولقد فاقت مزايا علي حدود التعداد، وتحدثت عوامل الزمن التي تجرف أمامها الماضي والحاضر فتجعله أثرا بعد عين.
لقد تحدت مزایا (علي) عوامل الزمن بقوة لم يعرف لها نظير في تاريخ العظماء حتى اصبحت شخصيته كالشمس التي إذا ما حجبها الضباب أو السحاب أو الغبار، أو حال القمر بينها وبين الأرض مرة فلن يستطع أن يحجبها مرات، ولن يقوى على تغيير جوهرها، ونفوذ عملها واثرها في الأرض وفي الطبيعة.
(1)
وانا اقصد بعوامل الزمن، والعوامل الفعالة: (الترغيب) الذي يتضمن أساليب الدعاية واستمالة النفوس بالوعود، والمنح والعطاء مما استخدمه اعداء (علي) بكل صوره وألوانه لاسدال الستار على فضائله وحجبها عن العيون، ومحو اسمه من دفتر الوجود.
وأقصد بعوامل الزمن والعوامل الفعالة : (الترهيب الذي يتضمن الوعيد والتهديد، والسجن، والتنكيل، والتقتيل بأبشع صوره للقضاء على أية بقية العلي وأولاده ومحبيه ، ممن لا يزالون يرون لعلي بن ابي طالب وذريته الصالحين شيئا من الحرمة والمحبة في نفوسهم.
وإذا ما تم الجمع بين الترغيب والترهيب بكل وسائلهما وطرقهما الجهنمية هان على من بيده القوتان الفعالتان أن يغير اتجاه الأفكار، وأن يبدل العقيدة وأنيسدل ستارة كثيفة على الماضي بجميع مزاياه وحسناته، وما قد يشد المرء إليه من ايمان به، وتمسك بمبادئه.
ص: 23
والترغيب وحده يعتبر اليوم من اشد أسلحة الحرب مضاء، وأكثرها فتكا، فكيف لوانضمت إليه عناصر الترهيب؟ ولقد أضاعت الدعاية) الواسعة اليوم على الباحثين والمؤرخين حقيقة الأمور فلم يدروا . مثلاأحقا كانت المانيا هي السبب الأكبر في الحرب العظمى الأولى والثانية أم كانت انكلترا التي تريد أن لا يمس أحد طرفا من حقوقها في المستعمرات؟
ولكن شاهدنا فيما قرأنا كيف فعل الجمع بين الترغيب والترهيب، وكيف بدل سجايا أصيلة في أمم اصيلة، وكيف غير اتجاهات شعوب وعقائد شعوب إلى ما يعاكس اتجاهاتها وعقائدها، وكان من بعض ذلك أن استطاع الأيوبيون أن يحولوا مصر الشيعية بعقيدتها الأصيلة إلى مصر السنية ، واستطاع الصفويون أن يحولوا ايران السنية النشأة والعقيدة إلى إيران الشيعية، لأن كلا الطرفين . الأيوبيين والصفويين . قد استخدما وسائل (الترغيب والترهيب) استخداما ما ضمن لهما اجتثاث العقيدة من اصلها، وغرس عقيدة معاكسة لها تماما في محلها .
وقصة إدوارد الثامن ليست بعيدة عن الأذهان وهي تكفي لتكون شاهدة الكيفية تخلي الشعب عنه ونسيانه بالمرة بين عشية وضحاها بمجرد أن انزلت الحكومة صوره من أعالي الجدران وامتنعت الصحف من تردید اسمه، وذكرأخباره، وبعد ان كان ملء الأذهان، وملء القلوب محبة وولاء، ولم يعرف - إلا القليل أن يقيم اليوم، هذا الملك المحبوب والمعبود بالأمس؟ وكيف يعيش؟ هذا (والدعاية) لم تتجاوز الحدود البسيطة الأولية.
يقول ابن ابي الحديد: (روی عطاء عن عبد الله بن شداد بن الهادي قال : ان الأحاديث الواردة في فضل علي لو لم تكن في الشهرة والاستفاضة وكثرة
ص: 24
النقل إلى غاية بعيدة لا نقطع نقلها للخوف والتقية من بني مروان مع طوال المدة ، وشدة العداوة، ولولا أن الله تعالى في هذا الرجل - يعني عليا - سرا يعلمه من يعلمه لم يرو في فضله حديث، ولا عرفت له منقبة، ألا ترى أن رئیس قرية لو سخط على واحد من أهلها، ومنع الناس أن يذكروه بخير أو اصلاح، الحمل ذكره، ونسي اسمه، وصار وهو موجود معدوما، وهو حي ميتا).(1)
(3)
الترغیب
وقد استخدمت تلك العوامل والوسائل، وسائل الترغيب والترهيب بمختلف صورها ووجوهها ضد علي وأولاده من بعده حتى ظلت هذه العداوة تماشي الزمن الى هذا التاريخ بالرغم من تقدم العلوم، وانتشار الثقافة، واتساع الأذهان للمناقشة، والتتبع والاستقصاء ونبذ التعصب، فلم يزل حتى هذا اليوم من يكره عليا ويسبه ويلعنه، ولقد مر أكثر من ثلاثة عشر قرنا على استشهاد علي ووفاته ونحن لم نسمع صوت عمران بن حطان الرقاشي(2)وهو
ص: 25
يبجل عبد الرحمن بن ملجم ويثني على تلك الضربة التي شج بها ابن ملجم رأس الإمام علي إذ يقول:
با ضربة من تقي ما أراد بها*** إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
أني لأذكره يوما فأحسبه*** أو في البرية عند الله ميزانا(1)
فحين زار ابن بلة الزعيم الجزائري (2)العراق كان أول ما سأل عنه، سأل عن قبرعبد الرحمن بن ملجم أو محل مقتله، وأبدى رغبته في زيارته وقراءة
فأنتما من كلاب النار جاء به ***نص الشريعة برهانا وتبيانا
الغدير ، الأميني : 329)۔
قال الدار قطني: إنه متروك الحديث وخبيث في مذهبه (دراسات في الحديث والمحدثين، هاشم معروف الحسيني: 190)، عمران بن حطان أحد رؤوس الخوارج الخبيثة ولو أهل البدع بلغ الأمر مبلغا من المتفق عليه، (شرح معاني الآثار احمد بن محمد بن سلمة 408/4 )، غضب الله تعالى عليه (تفسير الألوسي، الألوسي: 168/8)
ص: 26
الفاتحة له..! وقد حصل من صرفه بلباقة عن مثل هذا السؤال وأشار عليه بما يقتضي أن يراعيه في هذا المقام مما تقتضيه السياسة، فإذا لم تصح هذه الرواية عن ابن بلة فهي صحيحة في عدد غير قليل من قوم لا يزالون حتى اليوم يسبون عليا ويترحمون على قاتله عبد الرحمن بن ملجم.
نقول لقد استخدمت كل الوسائل من الترغيب والترهيب لطمس أسم علي وفضائله ولم تترك طريقة ذات جدوى كبيرة كانت أم صغيرة إلا اتخذت للوصول إلى هذه الغاية، ولكن هذه الوسائل على ما فيها من حول وقوة ونفوذ، واعدادها باتقان وإحكام على ايدي اعداء مهرة ذوي خبرة وحنكة ، فأنها لم تكن بأكثر من خيوط واهنة أشبه بخيوط العنكبوت این لها أن تشد على رقاب الأسود وتجرها حيث تشاء، لذلك خرجت ذكرى علي وأولاده الصالحين بعد تلك المحاولات التي قد يعجز عن حبكها حتى الشيطان في جميع بضروب (الترغيب والترهيب) - أكثر صفاء، وأوضح بيانا وأجلى واقعا.
صحيح أن الاضطهاد قد يساعد على التمسك بالرأي المعاكس ، وبالعقيدة المخالفة لعقيدة المضطهد (بكسر الهاء) ويجعلها أكثر رسوخا في النفس، ولكن الاضطهاد المصحوب بالترغيب وحسن الدعارة لن يجعل رد الفعل بمثل هذه القوة التي صاحب رد فعل المضطهدين لعلي وأولاده ، وشیعته، والتي كان من آثارها ظهور الغلاة، والمؤلفين لعلي، والمحلقين به كل معجزة لم يستسغ العقل نسبتها إلى الأنبياء فكيف نسبتها للخلفاء، وجعلت اسم (علي)يذكر في أذان الشيعة وإقامة صلاتهم کرد فعل للسباب، واللعن الذي أوجبه اعداء علي على أنفسهم قبل الصلاة وبعد الصلاة ، وعند التوجه
ص: 27
الى الله بالدعاء ، فقد جاء في الأخبار، وعلى ما أورد ابن ابي الحديد: (إن معاوية، وعمرو، والمغيرة ، والوليد بن عقبة، وأبا الأعور، والضحاك بن قيس، وبسر بن ارطأة ، وحبيب بن مسلمة، وأبا موسى الأشعري، ومروان بن الحكم، كانوا يقنتون ويلعنون عليا).(1)
وهذا هو دليل عظمة علي، العظمة التي كان من آثارها أن تظل شخصية علي اربعة عشر قرنا، وستظل عشرات القرون" بل ومئات القرون كما لو كانت شخصية عظيمة جديدة لا عهد للمؤلفين، والمؤرخين، ومستعرضي السير بمثيل لها في تاريخ البشرية.
ولقد اتقن اعداء علي سبك (الدعاية)ووسيلة الترغيب ضد علي حتى آمن بأقوالهم الكثير، وإن الكثير من الناس سوقة جهلاء لا يكلف تغيير رأيهم وتضليلهم شيئا من المجهود الذين يعرفون طرق الدعارة واساليبها والذين يوصفون بمعرفة (من این تؤكل الكتف)، وإن الذي يتعمق في التاريخ الإسلامي يرى أن حظ القادة من أعداء علي في فهم الدعارة ووسائل الترغيب وطرقها، وضمان فعلها في النفوس كان كبيرا وكبيرا جدا خصوصا وأن عدد السذج من الشعب، والشعب الذي لم يختلط بالمدن ولم يعرف شيئا من الحضارة لم يكن في جميع الظروف والأحوال قليلا، ففعلت هذه (الدعاية) وعملية الترغيب في مثل تلك النفوس التي يسودها الجهل فعلها العجيب.
ويسوق المسعودي شاهدا على غباوة طائفة من أولئك السذج الذين استغلتهم (الدعاية)الامویه فیقول:
ص: 28
(بلغ في إحكامه (أي من احکام معاوية) للسياسة، واتقانه لها، واجتذابه قلوب خواصه وعوامه، وأن رجلا من اهل الكوفة دخل على بعير له الى دمشق في حال منصرفهم عن (صفين) فتعلق به رجل من (دمشق) فقال : هذه ناقتي أخذت مني (بصفين) فارتفع أمرهما الى معاوية، وأقام الدمشقي خمسين رجلا بينة يشهدون أنها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه ! فقال الكوفي:
- اصلحك الله أنه جمل وليس بناقة.
فقال معاوية . هذا حكم قد مضى.
ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فاحضره، وسأله عن ثمن بعيره، ودفع اليه ضعفه، وبره، وأحسن إليه وقال له:
أبلغ عليا : إني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل).(1)
وإذا كانت هذه القصة مما تستوجب المناقشة في صحتها فليس هنالك من شك أنها وليدة ظروف وبيئة ونهج اختص به معاوية وأعداء علي والكثير من الناس بحيث جاز أن يوضع مثل هذه القصص على السنتهم.
وقد استطاع اعداء علي وأولاده، وهم (أي الأعداء) مصدر القوة والسلطة وبيدهم القدرة على التعبئة العامة لجميع وسائل الدعاوة أن يثيروا في نفوس الرعية . ومعظمهم من السذج والجهلة . السخط العام على علي وأولاده، وأن السخط العام هو غير الرأي العام كما يحدده علماء الاجتماع.
يقول الدكتور عبد اللطيف حمزة: (هنا ينبغي للباحث أن يفرق تفرقة واضحة بين طبقتين - على الأقل . من طبقات المجتمع :
ص: 29
طبقة المستنيرين أو المثقفين الذين يستطيعون أن يدرسوا الأمور، وطبقة السوقة أو الدهماء أو المنقادين الذين ينقادون انقيادا اعمی لرأي من الآراء، أو فكرة من الأفكار، لأنهم عاجزون تماما عن مناقشتها لمعرفة مقدار الخطأ أو الصواب فيها).(1)
(4)
وعلى هذا فلم يكن السخط العام بأي وجه من الوجوه معبرا عن الرأي العام المستنير، وقد حدثنا التاريخ عن أن جماعة (علي) في عصره وفي العصور الأخيرة كانوا في الطليعة من حيث السيرة، والطيبة، والفهم، والعلم، والأدب، والإيمان بالحق، وليس فيهم من يجوز اتصافه بالغوغائية فقلد كان عدد من شهد (بدرا) مع رسول الله صلی علیه وآله 313 من المهاجرين والأنصار، وقد اشترك من هؤلاء الى جانب علي في حرب صفين كل من بقي حيا وكان عددهم 178 بدريا، وقد استشهد منهم 3 نفرا، كما اشترك مع علي في معركة صفين 800 رجل من بايع النبي صلی علیه وآله ، بيعة (الرضوان) تحت الشجرة(2)ومن بقي حيا حتى ذلك اليوم.
وكل هؤلاء من الطبقة المؤمنة، ومن أئمة الإسلام، وأعلام الهدی، وهم الذين يؤلفون الرأي العام المنطقي الواقعي الذي يمثل جانب الخير والحق والصلاح لو ترك الأمر لشأنه ولم يستعمل اعداء علي الأساليب الشيطانية ويثيروا الغوغائية، ويحاولوا استخدام وسائل الترغيب لاجتثاث اسم علي وأولاده من الجذور، كيف لا ومن اصحاب علي وانصاره في عصره امثال ابي
ص: 30
ذرالغفاري ، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، والمقداد، وحذيفة بن اليمان، وخزيمة بن ثابت الأنصاري، وجابر الأنصاري، وهاشم المرقال، ومحمد بن أبي بكر، ومالك الأشتر، وعبد الله بن مسعود، والحارث ابن النعمان، ومئات غيرهم.
أما الذين شاركوا معاوية في حرب علي (فكلهم من مسلمي الفتح الذين اسلموا مقهورين، والطلقاء والمؤلفة قلوبهم، وعلى رأسهم عمرو بن العاص، وابو العلاء الأعور السلمي، ويسر بن ارطاة، ومسلم بن عقبة وغيرهم )(1)ممن صال بهم معاوية في الفتك والترهيب واثارة السخط العام والغوغائية.
وإن الوعي والإدراك في البلدان والشعوب إنما يقاس بالرأي العام الخاضع للمناقشة والمنطق ، ولا يقاس مطلقا بالغوغائية والسخط العام (وذلك لسبب واحد فقط، وهو أن الناس في حالة الرأي العام) يتمتع كل منهم بمفرديته ، ويستطيع ان يظهر شخصيته، وأن يظفر بالحرية الكافية لشرح وجهة نظره التي يقتنع بها ويريد أن يقنع غيره بما فيها صواب، ولكن الناس في حالة (السخط العام) تنعدم فرديتهم وذاتيتهم أو تكاد، ففي الزحام والتجمع تنمحي هذه الصفات ويفكر الناس بالصور والخيالات ویکون المجال واسعا أمام الزعماء والقادة - من غير العقلاء . وهم المعروفون عند الأوربيين باسم الديماجوج) ممن يثيرون الجماعات، ويستغلون سذاجتها، وانعدام الفردية أو الذاتية بين افرادها).
أن الشعب في حالة (السخط العام) يكون اشبه شيء بالنظارة في المسرح يتأثرون بالمسرحية وتحت مشاهدتهم لها، فلا يستطيعون الجمع وقتئذ بين.
ص: 31
المشاهدة والنقد، ولا يستطيعون التمييز بين شتى المواقف المسرحية المعروضة عليهم في ذلك الوقت).(1)
وهذا ما حدث فعلا في وقعة كربلاء حين أغار القوم على الحسين وأصحابه ولم يكتفوا بل حزوا رؤوسهم ، وداسوا بسنابك الخيول صدورهم، وأحرقوا مخيم حريمهم، وردعوا أطفالهم ونساءهم، وساروا بأهليهم سبابا وأمامهم رؤوس قتلاهم مرفوعة فوق الرماح يطوفون بهم المدن دون أن يكون هنالك ذنب أو أي شيء يستوجب بعض هذا..
(5)
ويظهر ان استغلال السذج من الناس لتوليد السخط العام والغوغائية من قبل اعداء علي وأعداء أولاده في جميع الأدوار قد جرى بشكل غاية في الاتقان بناء على الجهل المتفشي بين الشعوب، فقد كانت الأغلبية من السذاجة وعدم الإدراك ما سهل توجيهها نحو الغاية المنشودة : وهي كره علي وأولاده أو تناسيه وتناسي فضائله على الأقل.
فقد روي أنه بلغ من أمر طاعة أهل الشام لمعاوية : أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين صلاة (الجمعة) في يوم الأربعاء)(2) ..!! وأنهم ادرکوا إلى قول عمرو بن العاص أن عليا هو الذي قتل عمار بن ياسر الذي كان يقول فيه النبي (عمار جلدة ما بين عيني)(3)ويقول فيه : ( من عادی عمارا عاداه الله
ص: 32
ومن ابغض عمارا ابغضه الله)(1)فلو لم يخرجه علي من حرب صفين . على ما يقول عمرو بن العاص - لما قتل عمار، لذلك كانت اللعنة المفروضة على قاتلي
عمار) إنما تعني عليا بصفته المسبب للقتل، ولا تعني القاتل الحقيقي وهومعاوية أو جنود معاوية.
ويقول المسعودي :
(ثم ارتقي بهم الأمر في طاعته. أي في طاعة معاوية . إلى أن جعلوا لعن على ستة ينشأ عليها الصغار، ويهلك عليها الكبار).
ثم اضاف قائلا : (وذكر بعض الإخباريين أنه قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم، وأهل الرأي والعقل منهم :
من ( ابو تراب هذا الذي يعلنه الإمام على المنبر؟ قال : أراه لصا من لصوص الفتن!!).(2)
وكان عبد الله بن علي حين خرج في طلب مروان الى الشام وقتله لمروان وجه الى ابي العباس السفاح اشياخا من أهل الشام من ارباب النعم والرياسة فحلفوا لأبي العباس السفاح انهم ما علموا لرسول الله صلی الله علیه وآله قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية !
وكان المدركون من أعداء علي يعرفون لعلي فضله وشأنه ولذاك يسعون بك ما أوتوا من قوة لطمس هذا الفضل ومحوه من الوجود.
يقول عمر بن عبد العزيز: (وكان أبي إذا خطب فنال من علي - رضي الله عنه - تلجلج.
ص: 33
فقلت : يا أبه : أنك تمضي في خطبتك فإذا أتيت على ذكر علي عرفت منك تقصيرا.
قال : أوفطنت لذلك؟
قلت : نعم!
فقال : يا بني أن الذين حولنا لو يعلمون من علي ما نعلم تفرقوا عنا الى أولاده).(1)
(6)
وتفنن أعداء علي في أساليب الترغيب والدعاية، وخلق الأكاذيب ، والتلفيق والطعن في على طعنا كان من الصعب على أحد أن يعتقد أو يتصور ان يكون بالإمكان بعث اسم (علي) من جديد في تاريخ الإسلام بعد تلك الحملات والأباطيل التي الصقوها بالإمام علي ، كما تفننوا في وضع القواعد الرصينة الثابتة، والخطط التي تقضي على ذكر علي وذكر محامده ومزاياه، فتم لهم أن يقولوا عنه ما لم يقل حتى في الأشرار المجرمين، فقد جاء عن أبي جعفر: (أن معاوية وضع قوما من الصحابة ، وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي علیه السلام تقتضي الطعن فيه، والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه، منهم ابو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير).
ص: 34
وروى الزهري : أن عروة بن الزبير حدثه قال : حدثتني عائشة قالت: كنت عند رسول الله إذ أقبل العباس وعلي فقال يا عائشة (إن هذين . يشير الى العباس وعلي - يموتان على غير ملتي، أو قال على (غیر) دیني !!).(1)
وروي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي ان الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَن یُعْجِبُکَ قَوْلُهُ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَیُشْهِدُ اللَّهَ عَلَی مَا فِی قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ *وَإِذَا تَوَلَّی سَعَی فِی الْأَرْضِ لِیُفْسِدَ فِیهَا وَیُهْلِکَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا یُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة : 204-205) قد انزلت في علي علیه السلام.
وإن الآية الكريمة : (وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ )(البقرة:207) قد نزلت في عبد الرحمن بن ملجم!! فلم يقبل سمرة بذلك، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له اربعمائة ألف درهم فقبل .(2)
قال محفوظ : قلت ليحیی بن صالح الوحاظي(3): قد رويت عن مشايخ من نظراء حريز فما بالك لم تحمل عن حريز؟
قال :أني أتيته فناولني كتابا فإذا فيه : (حدثي فلان عن فلان : أن النبي صلی الله علیه وآله لما حضرته الوفاة أوصى أن تقطع يد علي بن ابي طالب علیه السلام).(4)
ص: 35
(7)
وكما وضعوا الروايات والأخبار والأحاديث في ذم علي وفسروا الآيات القرآنية كما شاؤوا فأنهم شجعوا الشعراء على هجاء علي وأولاده، ولا يبعد أن يؤلف هذا الشعر عدة دواوين لو لم يتحاش تسجيله المؤرخين، ولم يصلنا منه إلا بعض الشواهد ومن هذه الشواهد قصيدة كعب بن جعيل، التي يقول فيها :
وقالوا (1)علي إمام لنا ***قلنا رضينا ابن هند رضينا وقالوا نرى ان تدينواله ***فقلنا ألا لا نرى أن ندينا
ومن دون ذلك خرط القتاد*** وضرب وطعن يقرالعيونا
وقال أبو العباس المبرد : (وفي آخر هذا الشعر ذم لعلي بن ابي طالب رضي الله عنه أمسكنا عن ذكره). (2)
وكان المتوكل شديد الانحراف والكره لعلي وأولاده حتى قام بحرث قبر الحسين وغمره بالماء ليطمس آثاره ، وليضيع معالمه، وقد جرأت عداوته لعلي واولاده طائفة ومنهم الشاعر علي بن الجهم أن يذكروا عليا عنده بالسوء والاستهزاء وإن ينالوا من علي بن ابي طالب بما وسعهم.
وما أصدق البيتين اللذين قالهما علي بن الجهم في مروان بن حفصة على علي بن الجهم نفسه لو أراد العلويون أن يقولوهما في ابن الجهم فقد قال ابن الجهم في مروان :
ص: 36
بلاء ليس يعدله بلاء ***عداوة غير ذي حسب ودین
يبيحك منه عرضا لم يصنه *** ويرتع منك في عرض مصون
والترغيب والطمع في المثوبة وحسن الجزاء والصالات هي التي كانت تدفع بالشعراء وواضعي الأخبار، وملفقي الأحاديث إلى أن يتخذوا من سب علي وسيلة ارتزاق وبلوغ جاه إذا لم تكن(الدعاية) فقد فعلت فعلها في نفوسهمفكرهوا عليا عن جهل وعدم ادراك، ثم تحول هذا الكره الى ايمان بعد ذلك.
قال الحجاج يوما: من كان له بلاء فليقم فنعطيه على بلائه، فقام رجل فقال:
اعطني على بلائي.
قال : وما بلاؤك؟
قال : قتلت الحسين.
قال : فكيف قتلته ؟
قال : دسرته بالرمح دسرة، وهبته بالسيف هبرة، وما اشركت معي فيقتله أحدا .!!
قال فإنك لا تجتمع أنت وهو في مكان واحد، وقال: أخرج، ولم يعطه شییا.(1)
وقال الحجاج يوما لعبد الله بن هانئ، وهو رجل من بني أودحي من قحطان وكان شريفا في قومه ، وقد شهد مع الحجاج مشاهده كلها، وكان من
ص: 37
انصاره وشیعته، وقد أراد الحجاج أن يجزيه على ما قدم له، وأن يحسن إلى صنيعه فقال له :
والله ما كلفئتك بعد.
ثم أكره الحجاج اسماء بن خارجه (سید بني فزارة)، وسعيد بن القيس الهمداني (رئيس اليمانية) وحملهما قسرا على تزويج ابنتيهما لابن هانئ مهددا إياهما بالقتل بعد أن رأى منهما امتناعا، وقال الحجاج لابن هانئ:
انظر .. لقد زوجتك بنت سيد فزارة، وبنت سید همدان، وعظیم کھلان.
فقال ابن هانئ: لا تقل . اصلح الله الأمير - ذاك فإن لنا مناقب ليست الأحد من العرب.
قال الحجاج : وما هي؟
قال : ما سب امیر المؤمنين عبد الملك في ناد لنا قط.
قال : منقبة والله..
قال : وشهد معنا صفين مع أمير المؤمنين معاوية سبعون رجلا، ما شهد منا مع أبي تراب إلا رجل واحد، وكان ذلك الرجل - والله (على) ما علمته : امرأ سوء.
قال الحجاج : منقبة والله.
قال : ومنا نسوة نذرن إن قتل الحسين بن علي : أن تنحر كل واحدة عشرة قلائص ففعلن..
قال : منقبة والله.
قال : وما منا رجل عرض عليه شتم ابي تراب ولعنه إلا فعل وزاد ابنيه
حسنا وحسينا، وأمهما فاطمة !!
ص: 38
قال الحجاج : منقبة والله(1)
فإلى أي مدى هذه الدعاية، واستمالة الناس بالمال والعطاء والمناصب والإكراهوالإشراف على تزويج بناتهم لمن هم دونهم شرفا ومحندا، خروجا على سنن العرب وتقاليدهم حتى يحملوا الشخص على أن يباهي في كره رجل إذا لم يعرف فضله ومقامه فليس له منه ما يستوجب ان يحمل له ولأولاده مثل هذا الكره، وهذه العداوة.
ويكثر طلاب الجوائز والعطاء بسبب ما يحملون لعلي وأولاده من العداء وكم بين هؤلاء من لا يجهل قدر علي وأولاده ومكانتهم في الدنيا والآخرة ، ولكنه يعاديهم طمعا بصلات اعدائهم وتوقعة لما يغدقه الأعداء عليه من الهبات والعطايا، ومن هؤلاء قاتل الحسين بن علي بن ابي طالب، فقد دخل على یزید بن معاوية بالسبايا من آل الحسين وهو يخاطب يزيد قائلا :
أوقر رکابي فضه أو ذهبا ***فقد قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا***وخيرهم- إذ ينسبون - نسبا(2)
وحين قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة، جاء الى مسجد الكوفة، لما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه، ثم ضرب صلعته مرارا وقال :
ياهل العراق، اتزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله؟ واحرق نفسي بالنار، والله لقد سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله يقول : (ان لكل نبي حرما وأن
ص: 39
حرمي بالمدينة ما بين عير أو ثور (يعني به الجبل) فمن أحدث فيها حدثا فعليه عنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأشهد أن عليا احدث فيها).
فلما بلغ معاوية قوله أجازه، وأكرمه وولاه امارة المدينة (1)
وبلغ الأمر بالنس انهم لم يعودوا يصدقون أن بإمكان أعداء علي وأعداء أولاده الصالحين أن ينسوا أو يتناسوا على الأقل بغضهم لعلي وأولاده وإذا اتفق شيء من هذا حتى مع الصالحين تلقوه بالاستغراب والدهشة، فحين منع عمر بن عبد العزيز سب علي استمرت بعض المدن في السب خوفا من أن يكون خبر هذا المنع غير صحيح، وحين كتب عمر بن عبد العزيز الى عامله بالمدينة يأمره بأن يقسم في ولد علي بن ابي طالب عشرة آلاف دينار تلكأ هذا العامل كما لو كان يسمع أمرا يستحيل صدوره، وإن عليه أن يتحقق من صدوره قبل تنفيذه فكتب إلى عمر بن عبد العزيز يقول :
( ان عليا قد ولد له في عدة قبائل من قريش ففي أي ولده يقسم هذا المبلغ ؟).
فكتب إليه عمر بن عبد العزيز:
(لو كتبت اليك في شاة تذبحها لكتبت الى: سوداء أم بيضاء ؟ (2)
(8)
واسطورة (عبد الله بن سبأ) هذه الشخصية الوهمية التي لا وجود لها بالمرة والتي نسجها سيف بن عمر التميمي المتوفي في عصر هارون الرشید بعد سنة 170 ه هي أحد أساليب (الدعاية) ضد علي وشيعته ، والتي خفيت
ص: 40
غايتها غير الشريفة على كثير من المؤرخين فتصوروها - دون أن يناقشوها ويبحثوا عنها . حقيقة غير قابلة للتنفيذ، فقد روي عن سيف بن عمر بما وضع هو من الأسانيد أن (عبد الله بن سبأ) يهودي أسلم في عهد خلافة عثمان، وراح يدس الأخبار الاسرائيلية، والروايات وبما روي عنه من الأكاذيب مما يخالف جوهر الإسلام وحقيقته، فصدق بها شيعة علي وأخذوا بمبادئها وفاتهم اكتشاف هذا الدنسالمقصود من عبد الله بن سبأ في الإسلام.
ويبدو أن هذه الاسطورة التي وضعها سيف بن عمر بأسانيده الملفقة لم تجد لها مؤيدا في وقتها حتى جاء الطبري بعدها يقرب من قرن ونصف قرن من وفاة سيف بن عمر فنقلها لأول مرة في كتابه فبدأت من هنا كما لو كانت قصة حقيقية لشخص حقيقي، وحال طول الزمن بين الناس أن يفهموا أن قصة عبد الله بن سبا هي وسيلة من وسائل التشنيع ضد علي وأولاده وشیعته وان سيف بن عمر قد خلقها متعمدا بداع من دواعي التشهير والدعاية، ووجد فيها البعض تحقيقا لرغبته بعد أن نقل ابن جرير الطبري لها فأتخذ منها حجةتنديد، والبسها لباس البراهين واطلق عليها اسم (اسرائيليات) والصقها باتباع علي وشیعته، ولم يحصل من يسأل :
لقد كان من وجود (عبد الله بن سبأ) - إذا صح وجوده - وبين وجود سيف بن عمر التميمي الذي خلق هذه الشخصية الوهمية نحو قرن ونصف قرن على وجه التقريب، وقد عاش في هذه الحقبة كثير من الرواة والمؤرخين ، فلماذا لم يرو هذه الروية أحد قبل سيف بن عمر ويؤيد وجود عبد الله بن سبأ؟
ص: 41
وقد كانت المسافة بين وجود سيف بن عمر وابن جرير الطبري نحو قرن ونصف القرن، فلماذا لم ينقل رواية( ابن سبأ) الراوون والمحدثون قبل الطبري؟
ولم يسال احد لماذا انصب ما انصب من هذه المختلقات والأكاذيب التي سمیت بالاسرائيليات على علي وشيعته، ولماذا نقلت على لسانه ونسبت اليه روایات هي في الظاهر مما ترفع قيمة علي - لاسيما عند السذج من الناس والبعيدين عن الفقه والتفقه والشريعة وفلسفتها . وهي في الباطن تحط من قدره، وتثير الأحقاد عليه، وتطمس حقيقة علمه، وتلبسه اثوابا من الأوهام لكي تحول بين العيون ورؤية الحقيقة حتى إذا ما بدد العلم غشاوة هذه الأوهام لم يبق في شخصية علي لمن ير منها إلا تلك الغشاوة ما يسر ويبهج فيكون مجال الطعن في عظمته وفي أيمان شيعته به من لدن خصومه واسعا ويسيرا.(1)
وإذا ما توسعنا في حقيقة سيف بن عمر الأسدي التميمي سهل علينا ما نقرأ في كتبه أن نتعرف بطبيعته وأن نتوصل إلى أن ميوله الى بني أمية قد حملته غير مرة على ان يتفق الأخبار ويختلقها اختلافا كضرب من ضروب (الدعاية) للأمويين عن طريق الأخبار الدينية والأحاديث والحوادث.
وأمثال سيف بن عمر کثیرون سواء في العصور الإسلامية المتقدمة أوالعصور الأخيرة ممن كانوا يضعون الأخبار، ويختلقون الروايات ويكذبون على الله ورسوله والأولياء والتاريخ بقصد الحط من كرامة علي وأولاده، ومن بين هؤلاء كان عدد غير قليل من أئمة العلم والأدب والتاريخ..!
ص: 42
فهذا أبو حيان التوحيدي أحد علماء اللغة وأعلام الأدب في القرن الرابع الهجري لم يحل بينه وبين بغضه لعلي ما هو عليه من أدب وعلم، ولم يحل مرور أكثر من ثلاثة قرون ونصف قرن بينه وبين وفاة علي من أن يطلع علينا بتلك المراسلات المخزية التي اختلقها، ووضعها على لسان الخليفة أبي بكر، وعمر بن الخطاب، وعلي بن ابي طالب، تلك المراسلات المفعمة بالزراية بعلي والتحقير لشأنه، وقد اثبتها عدد من المؤرخين كنماذج لمقدرة ابي حيان الفنية في اختلاق الأكاذيب الأدبية ووضعها بذلك القالب البديع.
ولقد فندها المؤرخون وكذبوها منذ أول يوم انتشارها على لسان أبي حيان التوحيدي (1)بل ان ابا حيان نفسه قد اعترف باختلاقه لهذه الكذبة، وافتراءه على الخلفاء بوضعه لها حين آخذه البعض على وضع مثل هذه المراسلة ، فقال أنه قد اضطر الى ذلك نكاية بأحد محبي علي وشیعته، وكان هذا يحضر المجلس الذي اعتاد ابو حیان ارتياده فلا يجئ ذکر علي في هذا المجلس حتى يبالغ هذا المتشيع لعلي بمزايا علي ويبدأ بالرواية عنه والتحدث بأفضاله.
ويقول أبو حيان بما معناه : واني اردت ان ارغم انف هذا الرجل فوضعت هذه المراسلة ليكف عن التبجح بذكر علي وأفضاله ..(2).
وان مرور القرون الطويلة على وفاة علي كان كافيا لينسى العدو عداوته والحقود حقده،والموتوروتره ، ولكن الذين عادوا عليا. على ما يبان. لم يستطع مرور الزمن، ولم تستطع الثقافة والعلم ان تغير ما بأنفسهم.
ص: 43
إن مثل هذه الوسائل والأساليب من الدعارة والترغيب وهي بيد أعداء اقوياء واذكياء وأشداء وقد أوتوا من القدرة ما أوتوا، إذا لم تستطع أن تجتث اسم الشخص من الوجود فإنها لتستطيع أن تجعله خيرا من الأخبار، ولكن عظمة علي كانت كالشمس، هكذا وجدت، وهكذا ستبقى، إذا حجبها الضباب أو السحاب أو الغبار مرة فإنها لا بد طالعة، ولن تطبق الحوال - وإن عظمت . ان تجبها نهائيا عن العيون، والأفكار، والعقول.
على ان الترغيب بمجموع وسائله، والدعاية بمختلف أساليبها لم تكن وحدها السلاح الذي شهر في وجه علي وأولاده واشياعهم واتباعهم، وإنما نال عليا واولاده الصالحين من سلاح (الترهيب) أكثر مما نالهم من سلاح (الترغيب)، ولكن عظمة علي التي لا تجاريها عظمة في التاريخ بعد عظمة النبي صلی علیه وآله قد تحدث اساليب الترهيب، كما تحدث أساليب الترغيب بمعجزة لم يروا لنا التاريخ نظير لها.
(9)
الترهيب
يقول المسعودي : وفي سنة ثلاث وخمسين قتل معاوية بن أبي سفيان حجر بن عدي الكندي، وهو أول من قتل صبرا في الإسلام، وكان حجر هذا من الموالين لعلي ابن أبي طالب والمنکرین سبه على المنابر، فحمله زیاد من الكوفة ومعه تسعة نفر من أصحابه من أهل الكوفة، وأربعة من غيرها، فأرسل لها معاوية برجل تلقاهم في الطريق فقال لحجر.
ص: 44
(إن أمير المؤمنين . يعني معاوية . أمرني بقتلك يا رأس الضلال، ومعدن الكفر والطغيان والمتولي لأبي تراب، ويقتل اصحابك إلا أن ترجعوا عن كفركم، وتلعنوا صاحبكم، وتتبروا منه).(1)
ففعل البعض وتبرأ خوفا، أما حجر وجماعته من كان معه فلم يفعلوا، وقال حجر: (ان الصبر على حد السيف لأيسر علينا مما تدعونا إليه، ثم القدوم على الله وعلى نبيه، وعلى وصيه، أحب إلينا من دخول النار). (2)
ثم نحر حجر بن عدي كما تنحر النعاج، والحق به من وافقه على قوله من اصحابه ..!! فمن ذا الذي يرى أو يسمع بمثل هذا المشهد ولا يرتهب ولا يتخوف من بطش أعداء علي وأولاده؟
ولقد كان من بعض فظائع الترهيب والتنكيل ان ارسل معاوية بن ابي سفيان بسر ابن ارطأة . وهو رجل تجاوز حدود القساوة، وانعدام الشفقة والمروءة - إلى الحجاز والى اليمن ليستأصل جذور جميع الموالين لعلي بن ابي طالب، وأمره بالفتك فيهم دون رحمة أو شفقة ، وقد جاء في شرح النهج عن ذلك ما يلي:
(إن معاوية قد بعث بسر بن ارطاة إلى اليمن في جيش كثيف، وأمره أن يقتل كل من كان في طاعة علي علیه السلام ، فقتل خلقا كثيرا، وقتل فيمن قتل ابني عبد الله بن العباس بن عبد المطلب).(3)
ص: 45
والمعروف في التاريخ أن ابني عبد الله بن العباس كانا صبيين وقد قتلهما بسر محض قرابتهما لعلي بن ابي طالب، فكيف ترى يستطيع أحد أن يجهر بحبه لعلي بعد هذا، وهو يرى أو يسمع بمثل هذا القتل العام الذي يصفه التاريخ بالخلق الكثير) ثم يرى أو يسمع بصبيين بريئين يقتلان صبرا لا لذنب إلا لأنهما قريبان لعلي بن ابي طالب !؟.
يقول جورج جرداق : وكان شعار معاوية : (أن لله جنودا من عسل)(1)، وهو يعني العسل الذي يداف بالسم فيقضي به على اخصامه.
بهذا العسل قتل معاوية الحسن بن علي، وبالأموال العامة اشتری الناس، واصطنع الأنصاروالمحاربين ، فإذا تأفف الناس من يزيد، وأبوا أن يبايعوه (مثلا) قال لهم متوعدا :
(اعذر من انذر، أني كنت أخطب فيكم فيقوم الى القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس، فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع اليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقين رجل إلا على نفسه)(2)
(10)
من ذا الذي يجرأ بعد هذا أن يقول شيئا ومثل هذا التهديد يصك أذنيه؟ ثم من ذا الذي يستطيع أن يرفع صوته وهو يرى او يسمع منادي بني أمية بنادي بالخروج إلى قتال الحسين في عرصة كربلاء ولا يخرج؟ وأي ترهيب يرهب به أعداء وأعداء أولاده الناس أكثر مما أنزلوا بالحسين وأولادهوأنصاره وعيالاته
ص: 46
من التقتيل والمثلة بالقتلى على ذلك النحو من القساوة والفظاعة التي لم يرو لها التاريخ مثيلا في جميع أدواره؟
فلقد وقف الحسين يخطب جیش یزید بن معاوية قبيل المعركة قائلا :
(.. أما بعد فانسبوني، وانظروا من أنا؟ ثم راجعوا أنفسكم فعاتبوها، فانظروا هل يصلح ويحل لكم قتلي. وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه، وابن عمه؟ أو ليس جعفر الشهيد الطيار في الجنة عمي؟ أو لم يبلغكم قول مستفيض : أن رسول الله صلی الله علیه وآله قال لي ولأخي: (أنتما سيدا شباب اهل الجنة، وقرة عين أهل السنة) فإن صدقتموني بما أقول - وما أقول هو الحق - والله ما تعمدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه، وان كذبتموني فإن فيكم من آن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله، أو ابا سعيد الخدري، أو سهل بن سعد أو زید بن ارقم، يخبروكم أنهم سمعوه من رسول الله صلی علیه وآله ، أما في هذا حاجز يحجزكم عن سفك دمي).(1)
ثم واصل الحسين خطبته حتى قال :
(.. اخبروني، اتطلبونني بقتيل منكم قتلته ؟ أو بمال لكم استهلكته؟ أوبقصاص من جراحه ؟ )(2)
فكان جواب القوم على تلك الخطبة : ذلك الهجوم الذي سودوا به وجه التاريخ، والذي حملهم على ان يضعوا سيوفهم في رقبة الحسين ورقاب أولاده وأنصاره، وما انجلی نهار ذلك اليوم حتى تساقطت اثنتان وسبعون جثة احتزوا رؤوسها، ومثلوا بها، وداست خيولهم صدورها، وصاح بهم صالحهم:
ص: 47
(احرقوا بيوت الظالمين) فإذا بالنيران تلتهم مخيم الحسين ومخيم انصاره، فتفرالنساء والأطفال مذعورين لا يعرفون إلى من يلتجئون، ويمن يحتمون وتساق عيالات الحسين سبايا، ويطوفون بها المدن والدساکر، ورأس الحسين ورؤوس أولاده وأصحابه مرفوعة فوق الرماح ويمشهد من السبايا من آل بيت رسول الله صلی الله علیه وآله!!
وحين وضعوا رأس الحسين أمام يزيد بن معاوية في الشام، وضعوه في طشت فجعل يزيد ينكثه على ثناياه بالقضيب وهو يقول:
نفلق هاما من رجال أعزة ***علينا وهم كانوا اعق وأظلما
من ذا الذي يرى هذه المشاهد أو يسمع بمثل هذا التقتيل والتنكيل والتفظيع بآل علي ولا يأخذ منه الخوف والهلع مأخذه؟ ثم كيف يستطيع اسم علي بن ابي طالب ان يظل لا معا وهذا بعض ما حورب به وحورب به أولاده من تلك الأسلحة الفتاكة لو لم يكن علي فذا، ولو لم يكن نسيج وحده بين رجال الدنيا؟
هذا مسلم بن عقبة أحد صنائع یزید بن معاوية وهو مخلوق مسمم الطبيعة، في مسلاخ إنسان - على حد تعبير العقاد - وقد بلغ الغاية في التنكيل بأنصار علي وأنصار ابي عبد الله الحسين، وكان على ما وصف المؤرخون : (أعور، أمغر، ثائر الرأس، كأنما يقلع رجليه من وحل إذا مشى).
وقد بلغ من ضراوته بالشر وهو شيخ، فان، مريض : أنه أباح المدينة في حرم النبي صلی الله علیه وآله: (أباحها ثلاثة أيام، واستعرض أهلها بالسيف جزرا كما يجزر القصاب الغنم، حتی ساخت الأقدام من الدم ..!!وقتل ابناء المهاجرين ،
ص: 48
والأنصار، وذرية أهل بدر، وأخذ البيعة ليزيد بن معاوية على كل من استبقاه من الصحابة والتابعين على أنه عبد قن لأمير المؤمنين..!!).(1)
وانطلق جنده في المدينة الى جوار قبر النبي يأخذون الأموال ويفسقون بالنساء ..!! حتى بلغ القتلى في تقدير (الزهري) سبعمائة من وجوه الناس وعشرة آلاف من الموالي!.
ثم كتب إلى يزيد يصف له ما فعل وصف البطل الظافر المتهلل بعد كلامطويل يقول:
(.. فأدخلنا الخيل عليهم .. فما صليت الظهر- أصلح الله أمير المؤمنين - إلا في مسجدهم: بعد القتل الذريع، والانتهاب العظيم (كذا) وأوقعنا بهم السيوف، وقتلنا من اشرف لنا منهم، واتبعنا مدبر هم!! واجهزنا على جريحهم (كذا) وانتهبناها ثلاثا كما قال أمير المؤمنين . أعز الله نصره . وجعلت دور بني الشهيد عثمان بن عفان في حرز وأمان، والحمد لله الذي شفا صدري من قتل أهل الخلاف القديم، والنفاق العظيم، فطالما عتوا، وقديما ما طغوا.
اكتب هذا إلى أمير المؤمنين وأنا في منزل سعيد بن العاص مدنها مريضا ما أراني إلا لأبي، فما كنت أبالي متي مت بعد يومي هذا !!؟؟(2)90
ويقول العقاد في تعليل هذا الحقد:
(11)
ص: 49
(وكل هذا الحقد المتأجج في هذه الطوية العفنة إنما هو الحقد في طبائع المسخاءالشائهين .. يوهم نفسه انه الحقد من ثأر عثمان أو من خروج قوم على ملك يزيد).
وكان هذا الحقد منصبا على علي بن ابي طالب وأولاده وانصاره، وقد ذهب الكثير منهم ضحية تلك القساوة والضراوة سواء في الحجاز، أو اليمن أو العراق الذي كان نصيب علي وأولاده وأنصاره من التنكيل فيه من أكبر الأنصباء .
وعندما قتل زید بن علي بن الحسين في الكوفة خشي أصحابه من التمثيل به . كما خشي آل علي من التمثيل يجسد الإمام علي من قبل أعداءه أن دفنوه علانية أو عينوا عند دفنه قبره - وكان الوقت ليلا، ولم يعرف بعد القوم بسقوط یزید بن علي بن الحسين قتيلا، فدفنوه في (نهر يعقوب) وكانوا قد سكروا النهر، ثم حفروا له في بطنه قبرا، دفنوه في ثيابه ، ثم أجروا عليه الماء، ووشی به الواشون فاستخرجه أعداؤه الأمويون، وقطعوا رأسه، وصلبوا جسده، ثم أمروا بحراسته لئلا ينزل، فمکث يحرس زمانا وبعث برأسه إلى هشام بن عبد الملك، فأمر به فنصب على باب مدينة دمشق ثم ارسل به إلى المدينة، ثم حمل الى مصر فنصب بالجامع، حتی سرقه أهل مصر ودفنوه.(1)
وحين ولي الوليد الحكم كتب الى عامله في العراق وكان يوسف بن عمرالثقفي يقول له :
(إذا أتاك كتابي هذا فانظر عجل العراق - يعني به جسد زید بن علي - فأحرقه ثم انسفه في أليم نسفة). وقد نفذ يوسف بن عمر، وأمر خراش بن
ص: 50
خوشب: (فأنزل زيدا من جذعه، وأحرقه بالنار، ثم رضه فجعله في قوصرة ، ثم جعله في سفينة ثم نراه في الفرات ). (1)
فأية حادثة من حوادث التاريخ روت فظاعة أشد وأقسى وأنکی من فظائع اعداء علي وأعداء أولاده، ومشایعيه، ومن هم الذين انفردوا في التاريخ بالوان التنكيل وبشاعة الجرائم غير هؤلاء الذين عادوا عليا وعادوا أولاده ؟ فهل لو كان قبر الإمام علي معروفا في أول أمره أكانوا يتجاوزون عنه ويتخلون عن نبشه؟
(12)
وكتب هشام إلى عامله بالبصرة وهو القاسم بن محمد الثقفي أن يشخص كل من في العراق من بني هاشم الى المدينة خوفا من خروجهم، وكذلك كتب الى عامله في المدينة بأن يحبس قوما منهم، فقال الفضل بن عبد الرحمن من قصيدة طويلة له نورد بعضها كنظرة عابرة لبعض ما لقي العلويون من أعدائهم من التنكيل فيقول الفضل من بعض ما يقول وقد أوردها ابن أبي الحديد كلها في الشرح:
کلماحدثوا بأرض نقيقا***ضمنونا السجون أو سيرونا
اشخصونا إلى المدينة اسرى*** لأكفاهم ربي الذي يحذرونا
قتلونا بغير ذنب اليهم*** قاتل الله أمة قتلونا
جعلونا ادنی عدو إليهم*** فهم في دمائنا يسبحونا
أين قتلی منابغيتم عليهم ***ثم قتلتموهم ظالمينا
ص: 51
ارجعوا هاشمأوردوا أبا ***اليقظان وابن البديل في آخرينا
وارجعوا ذا الشهادتين وقتلي*** انتم في قتالهم فاجرونا
ثم ردوا حجرا اصحاب حجر ***يوم انتم في قلتهم معتدونا
ثم ردوا أبا عمير وردوا ***لي رشيدا ومیثما والذينا
قتلوا بالطفوف يوم حسين ***من بني هاشم وردوا حسينا(1)
ويستمر الفضل في قصيدته ويذكرهم بقتلی کربلاء، ومسلم بن عقیل،وزيد بن علي وغيره.
والعلويون يترفعون عن الانتقام اذا ظفروا بخصومهم وكانوا يترسمون خطی جدهم علي بن ابي طالب في الحلم والعفو والصفح عن شاتميهم ومضطهديهم، وقاتليهم مما اتصف به علي فكان ذلك من بعض سجاياه الخالدة التي يضرب بها المثل والتي يعود بعض سر خلود علي في الزمان إليه.
لقد قرأت - ولا أتذكر أين - ان احد خلفاء بني أمية ويغلب على ظني أنه عمر بن عبد العزيز قد بلغه بان هشام بن اسماعيل عامل بني أمية على الحجاز كان يختلق الحجج لإيذاء آل البيت ولا سيما إيذاء علي بن الحسين علیه السلام فعزله الخليفة وأمر بأن يوقف فيمر به من كانت له شكوى ليسجلها، ودعي الإمام علي بن الحسين وهو أكثر من لقي من آل البيت من ظلم هذا العامل واضطهاده - وطلب منه أن يمر به ويعدد ما اصابه منه فمر بناء على اصرار أوامر الخليفة ، لقد مر على هشام بن اسماعيل الظالم القاسي ونظر إليه ولكنه لم يكلمه، ولم يذكره بظلمه، حتى ولم يشر ولا بإشارة صغيرة إلى ما فعل هذا العامل به وبال
ص: 52
الرسول حتى إذا ابتعد الإمام علي بن الحسين عنه ، والعامل واقف وقفة الذليل الصاغر صرخ ورأى اعراضه وعدم الوشاية به صرح بأعلى صوته : (الله اعلم حيث يجعل رسالته).
ومن أحسن من وصف اخلاق العلويين وصور سجاياهم كان دعبل الخزاعي الذي يقول عنه :
ألم تراني منذ ثلاثين حجة ***أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيأهم في غيرهم متقسما*** وأيديهم من فينهم صفرات
إذا وتروا أمدوا إلى أهل وترهم ***أكفا عن الأوتار منقبضات
بنات زیاد في القصور مصونة*** وبنت رسول الله في الفلوات
هكذا كان وترهم إذا وتروا يمدون الى واترهم أكفا لا تعرف الحقد والانتقام.
(13)
وفعل المنصور بالعلويين ما فعل، وقد روى التاريخ عن بطش المنصوربأولاد علي ابن ابي طالب ما تقشعر له الأبدان لشدة الفتك ، وضروب القتل، وأنواع السجون في المطامير وبطون الأرض التي يحبس فيها هؤلاء ، يقول محمد علي الطاهر :
(كان المنصور يحبس المتهمين السياسيين من آل البيت النبوي في مطامير، ويقيدهم بالحديد، ويضربهم ويكسر اعضاءهم، ويجلدهم، ويفقأ عيونهم، وكانوا لا يرون النور لا نهارا ولا ليلا، بل كانوا يعرفون الوقت بمرور زمن قراءتهم أحزاب القرآن ... وكان المنادي ينادي من حين إلى آخر بين هؤلاء
ص: 53
المساجين : هاتوا أحدكم لنقتله فيتسابقون على الموت ، راجع کتاب تاریخ الطبري : ج9.(1)
وقد فعل المنصور ببني الحسن بن علي خاصة اقسى ما يفعله الوحش الهائج، على أن للوحش الهائج حدودا لهياجه وضراوته، أما المنصور فلم يعرف التاريخ لوحشيته حدودا حتى مات، فقد أخذ من العلويين مشايخهم مثل عبد الله المحض(2) بن الحسن بن علي بن ابي طالب - وكان هذا شيخ الطالبيين في عصره - وأخذ بنيه ، وأخوته، وبني أخوته سادات بني الحسن وسجنهم، وقتل عدة منهم في الحبس، ومات الآخرون في حبسه(3) وقد روي أنه خرج حاجب المنصور مرة فقال : من كان على الباب من بني الحسن فليدخل، فدخل مشایخ بني الحسن، فعدل بهم الى مقصورة، ثم ادخل الحدادين، من باب آخر فقيدهم وحملهم إلى السجن وحبسهم حتى ماتوا في حبسه بالكوفة.
ومن غرائب ظلم المنصور : أن رجلا من بني الحسن جاء حتى وقف على المنصور، فقال له المنصور:
ما جاء بك؟
قال : جئت حتى تحبسني عند أهلي فأني لا أريد الدنيا بعدهم.. فحبسه معهم، وكان ذلك الرجل علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب، وكان من أحسن الناس صورة .. كان يسمى (الديباج الأصفر) لحسنه وجماله، فأحضره المنصور وقال له :
ص: 54
انت الديباج الأصفر؟
قال : كذا يقولون..
قال المنصور : لأقتلنك قتلة لم اقتلها أحدا..!!
ثم امر فبنى عليه اسطوانة وهو حي فمات فيها.(1)
هذا مضافا لملاحقة المنصور (للنفس الزكية) وقتله اياه، وملاحقته ابراهيم بن عبد الله ، والمئات من مشاهير السادات العلويين الذين لاحقهم بنو العباس وشردوهم في الأصقاع، وقد اضطر الكثير منهم إلى التخفي في القرى النائية والقبائل البعيدة، وتغيير أسمائهم وبزتهم وهيأتهم، وحشر أنفسهم بين الطوائف المسيحية، والتظاهر بدین غیر دینهم، إيغالا في التستر حتى لم يبق اليوم من أبناء أولئك المتسترين من يعرف تاريخ أسرته إلا القليل ومن هذا القليل من العلويين - على ما علمت . الشاعر اللبناني الكبير أمين نخله، ببيروت، ومنهم الأديب الوجيه : بديع هاشم بكفر شيما، أما الذين افقدهم التشريد حفظ لسانهم فلا يبعد أن يكونوا قد تجاوزوا العشرات أصولا للشجرة، والمئات والألوف فروعا لها.
(14)
يقول جورج جرداق وهو يشير إلى أبيات ابي العلاء المعري في (علي والحسين) علیهم السلام في حين قال المعري :
وعلى الدهر من دماء الشهيدين علي ونجله شاهان
فهما في أواخر الليل فجران، وفي أولياته شفقان
ص: 55
ثبتا في قميصه ليجيء الحشر مستعديا إلى الرحمن يقول جرداق :
(وإني لا أرى من لوعة العاطفة في هذه الأبيات الثلاثة، ومما يختفي وراءها من ثورة الفكر والوجدان، ما هو حقيق بأن يجمع القول المتلوع الثائر في امتداد المأساة العلوية إلى مآسي انصار الحق الذين أوذوا، وجلدوا واضطهدوا ، وشردوا في المفاوز والفلوات ليموتوا جوعا، وبردة، ودفنوا أحياء، وصلبوا ، وأحرقوا مع ابنائهم وأخوانهم، أنفة منهم لأن يخونوا ضمائرهم، فيتبرأوا من الإمام علي أسوة بالعبيد، وينكروا شرف الخلق الإنساني الذي استشهد الإمام في سبيله.
ولكني أحس أن المأساة العلوية التي امتدت عصورا طوالا تحيا بهذه الأبيات الثلاثة مادة وروحا).(1)
ويقول السيد أحمد صقر الذي تولى شرح وتحقيق (مقاتل الطالبيين) لأبي الفرج الأصفهاني في مقدمته:
(ولا يعرف التاريخ أسرة كأسرة ابي طالب بلغت الغاية من شرف الأرومة، وطيب النجار، ضل عنها حقها . إلى أن يقول . وقد أسرف خصوم هذه الأسرة الطاهرة في محاربتها، وأذاقوها ضروب النكال، وصبوا عليها صنوف العذاب، ولم يرقبوا فيها إلا ولا ذمة ، ولم يرعوا لها حقا ولا حرمة، وافرغوا بأسهم الشديد على النساء والأطفال، الرجال جميعا في عنف لا يشوبه لين، وقسوة لا تمازجها رحمة، حتى غدت مصائب أهل البيت مضرب الأمثال في فظاعة النكال، وقد فجرت هذه القسوة البالغة ينابيع الرحمة والمودة
ص: 56
في قلوب الناس، وأشاعت الأسف الممض في ضمائرهم وملأت عليهم اقطار نفوسهم شجنا، وصارت مصارع هؤلاء الشهداء حديثا يروى، وخبرا يتناقل،وقصصا يجد فيه الناس ارضاء عواطفهم، وإرواء مشاعرهم فتطلبوه وحرصوا عليه).(1)
وقد استجاب الرواة والمؤلفون لنداء هذه الرغبة العارمة، أو لطلب المثالة بين الناس، فشرعوا يؤلفون أخبارهم، ويسطرون فضائلهم، ويديجون سيرهم، ويؤرخون مقاتلهم.
ومن هؤلاء العلماء : أبو مخنف المتوفي قبل سنة 170ه فقد ألف مقتل علي(2) و(مقتل الحسين).(3)
وألف نصر بن مزاحم المنقري المتوفى سنة 212 (مقتل الحسين).(4)
وألف الهيثم بن عدي المتوفى سنة 207 (اخبار الحسن ووفاته)(5) وألف الواقدي (مقتل الحسين) و(مقتل الحسين).(6)
وألف ابن النطاح (مقتل زید بن علي ).(7)
وألف الغلابي (مقتل علي) و(مقتل الحسين).(8)
وألف الأشناني (مقتل الحسن) و(مقتل زید بن علي). (9)
ص: 57
وألف عمربن شبه( مقتل محمد وابراهيم ابني عبد الله بن الحسن).(1)
وألف المدائني المتوفى سنة 225ه کتاب: (أسماء من قتل من الطالبيين).(2)
ثم جاء أبو الفرج الأصفهاني المتوفى سنة 356 فألف (مقاتل الطالبيين) أو (مقاتل آل أبي طالب) كما يسميه ابن النديم (3)وترجم فيه للشهداء من ذرية أبي طالب منذ عصر رسول الله صلی الله علیه وآله لا إلى الوقت الذي شرع يؤلف فيه كتابه وهو جمادى الأولى سنة 313ه .
وقد ترجم أبو الفرج الى حين هذا التاريخ لنيف ومائتين من شهداء الطالبين، وكلهم من سارة القوم، ومن الأئمة والوجوه، وأعلام الأدب والشعر، والعلم والفضيلة ممن قتلوا ظلما وعدوانا بسيوف الناصبيين لهم ولعلي البغضاء والعداوة.
(15)
وهنالك المئات من الشواهد على ما عملت الدعاية من جهة والتنكيل من جهة أخرى بعلي وأولاده لاجتثاث جذوره يجدها القارئ في جميع الكتب التي الفت قديما، والمئات من الشواهد في الكتب الحديثة التي الفت عن علي وأولاده ومآسيهم وما لقوا من أعدائهم من الاضطهاد ککتاب عبد الفتاح مقصود(4) وككتاب الشيخ عبد الله العلايلي،(5) وكکتاب جورج جرداق،(6)
ص: 58
وككتاب عباس العقاد(1)، وككتاب الشيخ محمود (أبو رية)(2) وكتب ألفت باللغات الأجنبية وعرضت لما اصاب عليا وآل بيته من التنكيل والاضطهاد ، هذا مضاف إلى عدد لا يحصى من الوان الفضائع التي ورد ذكرها کشواهد في عرض السير والمقالات، ودواوين الشعر مما تضمنت العجائب مما استخدمهخصوم علي ليطمسوا بذلك ذكره، وليمحوا آثاره، وليضللوا أفكار الناس فيه، وليشوهوا حقيقته، ولا يبعد أن يكون الذي اضاع التاريخ ذكره من الأساليب التي اتخذه خصوم علي لمحو اسمه والقضاء عليه كان كبيرا ولم يتسن للمؤرخين ثبته أو أنه قد أهمل ذكره عددا - ولاسيما الشعر منه - احتراما لمقام علي لما كان يتضمن من الشتائم النابية.
كل هذا وعلى ظل كما هو نفسا أزكي جميع النفوس بعد رسول الله صلی الله علیه وآله ، وإنسانا تمثلت فيه كل عناصر الإنسانية لتخلده ما خلد الدهر مثلا للشهامة، والعفة، والرأفة، والحنان، والعدل، والأدب الذي ما عرف له نظير بعد أدب القرآن الكريم، ومثلا لعقلية جبارة حار في وصفها الأقدمون ولم تزل مبعث الحيرة في العصور الأخيرة، وستظل هذه الشخصية موضوع بحث الباحثين في ميادين الحكمة، والفلسفة والأدب إلى ما شاء الله ، والى نهاية عمر البشرية ، إذا كان لعمر هذه البشرية من نهاية، وذلك لتعدد جوانبها وتعدد نواحيها، واتساع آفاقها.
ص: 59
وإذا ما أغفل التاريخ برهة من الزمن - وقلما غفل بالرغم من عوامل الترهيب والترغيب - ولم يذكر التاريخ اسم علي علیه السلام قام هناك عشرات من أولاد علي علیه السلام في مختلف الأدوار ليذكروا الناس بعلي وبقيمته، وبجدودهم وقيمهم في حياة البشرية ووجود الإنسانية فيما يقدمونه للناس من سيرة تمتلك القلوب، وتأسرالأفئدة، وتضرب الأمثال للمدى الذي يستطيع الإنسان أن يبلغ من ذروة المجد فتعود الألسن تلهج بذكر علي، وتمجد أفضاله.
يقول عباس محمود العقاد (.. وإنك لتنحدر مع أعقاب الذرية في الطالبيين أبناء علي والزهراء مائة سنة ومائتي سنة وأربعمائة سنة، ثم يبرز لك رجل من رجالها فيخيل إليك إذا هذا الزمن الطويل لم يبعد قط بين الفرع واصله في الخصال والعادات، كأنما هو بعد أيام معدودات لا بعد المئات وراء المئات من السنين، ولا تلبث أن تهتف عجبا : إن هذه الصفات علوية لا شك فيها، لأنك تسمع الرجل منهم يتكلم ويجيب من يكلمه، وتراه يعمل ويجزي من عمل له، فلا يخطئ في كلامه ، ولا في عمله، تلك الشجاعة والصراحة، ولا ذلك الذكاء والبلاغ المسكت، ولا تلك اللوازم التي اشتهر بها علي وآله وتجمعها في كلمتين اثنتين تدلان عليها أوفي دلالة وهما (الفروسية الرياضية ، طبع صریح، ولسان فصيح، ومتانة في الأسر يستوي فيها الخلق والخلق، ونخوة لا تبالي ما يفونها من النفع إذا هي استقامت على سنة المروءة والإباء).(1)
هذه الشخصية . شخصية الإمام علي - التي تحدث الزمن ، وتحدثت كل الوسائل الفعالة التي يكفي أن يغتر بعض مفعولها حقيقة الأمم وواقعها، ويبدل مجرى التاريخ وحقيقته، هذه الشخصية كانت ولم تزل ملء العين،
ص: 60
وملء القلب، والقدرة المثالية عند ذوي الإدراك والعقول النيرة، والباحثين عن الإنسانية الكاملة في دنيا البشرية، هذه الشخصية التي لم تكتف بأن (تصمد) وتثبت كالجبل أمام تلك الزعازع والعواصف والوعود والبروق التي نسجتها الدعابة بكل ألوانها واصنافها من وعد ووعيد وحسن جزاء ، وصب نقمة، بلاصبحت مبعث الحياة ومأمل الأمل علی رغم تلك الحروب التي شنت عليها - حتى الفت فيها الكتب، ووضعت عنها الدراسات، ونقلت عنها الشواهد والأمثلة، فكانت نبراسا يهتدي به التائه في ظلمات الدنيا، واستوى الباحثون في حقيقتها، والمتتبعون لآثارها، والذائبون فيها: الشرقيون منهم والغربيون، العرب وغير العرب، المسلمون وغير المسلمين، ولم يطلع على الناس يوم جديد حتى يخرج علينا العلماء، والأدباء، والحكماء، والمؤرخون بكتاب جديد يحمل فكرة جديدة عن هذه الشخصية العجيبة المدهشة التي ضربت أروع الأمثال لاسمى الأفكار في أسمى النفوس من دنيا البشرية، وعجز الدهر ان يزعزعها أو يغير شيئا من جوهرها.
وهذا الكتاب الذي اكتب مقدمته بطلب ملح وفي غاية الإلحاح من مؤلفه ، ومن الباذل في اخراجه، والناشر له، هو واحد من الكتب التي يخرج علينا بها المؤلفون بين آونة وأخرى عارضين جانبا جديدا وفكرة جديدة عن شخصية الإمام علي الفذة.
وإنا إذ أقول أنه طلب مني أن أضع مقدمته في كثير من الإلحاح إزاء شدة الامتناع والاعتذار البادي مني أقول ذلك لا غرورا ولا كبرياء وإنما العلمي بمعجزي - وأقول هذا عن يقين - في القيام بكتابة كلمة تصلح ان تكون مقدمة الكتاب يخص شخصية هذا الإمام الفذ الخالد خلود الدهر، وعلى اني
ص: 61
اضطررت الى النزول على رغبتهم ولكني لم ازل واثقا بأني غير أهل لعمل مثل هذا .
وفكرة هذا الكتاب انبثقت . أول ما انبثقت - من ذهن التاجر الوجيه السيد هاشم شبر، حين علم بأن هنالك كتابا يكتبون آراء عن الإمام علي، ويؤلفون كتبا جديدة عن جوانب جديدة من حياة أمير المؤمنين علیه السلام فتحول المادة والنفقات بينهموبين اخراج مؤلفاتهم إلى حيز الطبع وان من بين هذه المؤلفات مجموعة ضخمة ألفها الخطيب المعروف الأستاذ السيد جواد شبر أحد خطباء الدرجة الأولى للمنابر الحسينية.
والتاجر السيد هاشم شبر من اسرة علمية عريقة تولى غير واحد منها زعامة دينية مرموقة في التاريخ القديم أمثال الحجة السيد عبد الله شبر، وفي التاريخ الحديث مثال العلماء الأعلام السيد علي شبر في الكويت، والسيد عباس شير الذي جمع بين الزعامة الروحية والأدبية في البصرة وغيرهما.
والسيد هاشم شبر، هاشمي علوي ، يشده إلى علي علیه السلام نسبه، وتولعه بسيرته، وإيمانه بمبادئه، فعرض على الخطيب جواد شبر مبلغ الف دينار كثمن التأليفه للكتاب المذكور كما عرض استعداده لدفع جميع النفقات التي يقتضيها طبع مؤلفه هذا واخراجه اخراجا لائقة.
والخطيب جواد شبر نفسه فرع من هذه الشجرة الشبرية، والأسرة التي تعددت مزاياها، التي عرف البعض من أفرادها بالإيثار على انفسهم في كثير من المواقع فلا عجب ان اعتذر عن قبول هذا البذل لنفسه بدافع ذلك الإيثار وراح يشير على السيد هاشم بان يقيم بهذا المبلغ الذي خصصه : مسابقة
ص: 62
تستهدف الكتابة عن شخصية الإمام علي علیه السلام شي ان يستثني الخطيب جواد شبر نفسه من دخول هذه المسابقة !!
ولقيت هذه الفكرة ترحيبا من لدن السيد هاشم شبر ، وألفت لجنة من كبار رجال العلم للنظر في مؤلفات المتسابقين والداخلين في حلبة السباق فأحرز هذا الكتاب الجائزة الأولى.
ومؤلف هذا الكتاب هو الأستاذ سليمان كتاني من بسکتنا بلبنان لا أشك أنهمجبول من تلك الطينة التي يعنيها مزاج الإنسانية من الوجود كله، هذا المزاج الذي يلذه حديث المآثر، وقصص المروءة، وعزة النفس ، التفاني في الحق، وان مثل هذه الطينة المجبولة من هذا المزاج لا تستقر، فهي في بحث دائم واستقصاء مستمر عن هذه الخصائص بين الزعماء، والساسة، والحكماء ، والأدباء، حتى اذا عثرت على بغيتها كلا أو جزء تعلقت بها على قدر ما وجدت فيها من قابلية الجذب والاستهواء، ثم تأثرت بها روحا، واصبحت من اشياعها واتباعها فكرا بقدر ما يجيز لها مفعولها ومفهومها ومعتقداتها.
وهناك ما يؤيد عندي هذا الرأي عن طينة مؤلف هذا الكتاب ومزاجه، وولعه بهذه الصورة التي تجذب اليها الطيبين من النفوس الخيرة ، وإذا اضفنا إلى ذلك ملكته الأدبية التي تحبب إليه الأدب، وتحمله على التغلغل في بطون الكتب نشدانا عن تلك اللذة ، سهل علينا أن نعرف سر ولع سلیمان کتاني بالإمام علي علیه السلام، وتنبع آثاره والتأثر بسيرته، قراءة وكتابة، وسهل علينا ان نستشف هذه الروح وهذه الملكة الأدبية من هذه الصفحات المشرقة التي دبجتها براعة الكاتب في اسلوب - لا أعدو الحقيقة إذا قلت –إنه نسيج وحده، وقد عني الكتاب بتسجيل انطباعاته وتصوير افكاره وماقد استخلصه من حياة
ص: 63
الإمام علي علیه السلام ما قاله فيه محبوه، وما قاله مبغضوه ، وما قاله الذين ليس لهم به صلة حب أو بغض ، وما قاله هو عن نفسه وما خلفه للناس ليقولوا فيه ما يشاؤون إن يقولوا حين يرجعون إلى ضمائرهم فيتخذون منها حكما.
بهذه الروح، وبهذا المزاج، وبدافع من الضمير الحي كتب سلیمان کتاني كتابه هذا مصورا فيه أفكار أديب اجتذبه الإمام علي علیه السلام من هذه النواحي التي سيمر عليها القارئ بل سيقف عندها القارئ وقفة طويلة وفي شيء كثير من الإعجاب.
جعفر الخليلي
ص: 64
بسم الله الرحمن الرحيم
الى لجنة التحكيم في النجف الأشرف.
بواسطة أمين سر، العلامة الخطيب، السيد جواد شبر.
أقدم إلى لجنتكم الكريمة كتابي (علي بن أبي طالب متراس ونبراس) وانحني عند ذكر الاسم الكبير، لاستخفره عن كل تقصير قد يكون بدر مني عن غير قصد، إذ ليس لقلمي من القدرة أكثر من ذلك كي أمكنه من التطراف في العوالم الشاسعة التي تمكنت من أن تغوص فيها نفسية هذا الفذ من بعيد العباقرة .. ولكني رميت بالمحاولة، والنية الحلوة تجدوني على شغف، فجمعت على زندي بعض الخصل من تلك الرياحين لألقيها في هذه الباقة، عل النية الصادقة تسهل لها أمام هذا الماثل الكريم بعض القبول.
وإلى لجنتكم الكريمة أقدم شكري، إذ أتاحت لي سبيل الأقدم على المحاولة، أجلو بها نفسي مع أطيب واسخی من غرفته حتى الآن أجيال الإنسان.
بكل اخلاص
سليمان كتاني
ص: 65
إلى كل من يستهويه علي بن أبي طالب ..
في بطولة القسيم .. وفتح كوى النفس..
على الحق والخير والجمال ..
ص: 66
قلة أولئك الرجال الذين هم على نسج علي بن ابي طالب .. تنهد بهم الحياة، موزعين على مفارق الأجيال كالمصابیح، تمتص حشاشاتها لتفنيها هدايا على مسالك العابرين.
وهم، على قلتهم، كالأعمدة تنفرج فيما بينها فسحات الهياكل، وترسو على كواهلها اثقال المدامید، لتومض من فوق مشارفها قبب المنائر.
وانهم في كل ذلك كالرواسي، تتقبل هوج الأعاصير وزمجرة السحب التعكسها من مصافيها على السفوح خیرات رقيقة رفيقة عذبة المدافق.
هؤلاء هم في كل آن وزمان، في دنيا الإنسان، اقطابه ورواده.
أنهم في حقول البحث والتنقيب مرامي حدوده، وفي كل خط ضارب في مهمة الوجود اقاصي جوامحها، وفي كل تيه ضوابط تلملم عن الشطط شوارده، وهم له في دجية الليل قبلة من فجر، وفوق كلاحة الرمس لملمة من عزاء .
من بين هؤلاء القلة يبرز وجه علي بن ابي طالب في هالة من رسالة وفي ظل من نبوة، فاضتا عليه انسجاما واكتمالا كما احتواهما لونتا واطارا.
وهكذا توفرت السانحة لتخلق في أكلح ليل طالت دجيته على عصر من عصورالإنسان فيه من الجهل والظلم والحيف ما يصم ويذل .. رجلا تزاخرت فيه وفرة كريمة من المواهب والمزايا .. لا يمكن أن يستوعبها انسان دون أن تقذف به الى مصاف العباقرة.
ص: 67
فإلى علي بن ابي طالب اسوق بحثي هذا، تيمنا في طلب واستجابة لميل .. فيه من الاستئناس ما يشفي من نفسي بعض عليلها.
ص: 68
اصحیح يا سيدي أنهم بدل ان يختلفوا إليك اختلفوا فيك؟!
فمنهم من فقدوك وما وجدوك..
ومنهم من فقدوك ثم وجدوك..
ومنهم من وجدوك ثم فقدوك..
انه لعجب عجاب !!
اربعة عشر عمودا من اعمدة القرون، بساعاتها وايامها وسنيها ذابت كما تذوب حبة الملح على كف المحيط، ولما يذب بعد حرف من حروف اسمك الكبير، فكيف لهؤلاء ان يفقدوك ولا يجدوك ، أو يجدوك ثم يفقدوك ؟! ويا السخرية القدر؛ حتى هؤلاء الذين وجدوك كيف تراهم حدودك ؟!
ان الحرف الذي انزلقت عن شفتيك لا يزال منذ اربعة عشر قرنا یأبی ان يتقلص في زمان أو مكان، لأنه عنك نور قيم الفكر واعتلاجات حقيقة الحياة .. وهي ابعد ان يحصرها اطار.
إن الحرف، منطلقا من بين شفتيك، ابي ان ينزل في نطاق، فكيف بك أنت إذحدودك بشوری تنحيك على امارة)،(1) أو ببيعة تصلك
ص: 69
بخلافة?!(1)؟! وكيف تمكنوا من ان يحشروك بين بداية ونهاية؟.. فإذا قماطك قميص عثمان، وإذا لك على كف ابن ملجم دثار الكفن .
وكيف وجدوا تلك المقاييس فأخذوا يتلهون بها عنك وراحوا يقيسونك بها؟.. فإذا أن ريع القامة ،(2)لست بالطويل ولا بالقصير، عريض المنكبين تميل إلى سمنة وليس بالغليظ، وعيناك على دعج، عنقك كإبريق فضة .. لك ساعدان مفتولان ليس للسيف فقط، بل حتى لاقتلاع المزاليج.(3)
ثم كيف اقحموك بين المشاكل والأحداث فإذا بها تتلقفك كما تتلقف الحلبة مناجزة المتصارعين؟
تبتدا هكذا يوم الجمل بعرقبة (عسكر)(4) وجندلة (طلحة والزبير)،وتنتهي ب (صفين)، حيث تتحول المسرحية إلى مهزلة تختتم بمأساة .
ويصفه الإمام علي في خطبته الشقشقية هذه الشورى فيقول: (متى اعترض الريب في الأول منهم حتى صرت اقرن إلى هذه النظائر! لكني اسففت از اسنوا وطرت از طاروا فصغي لجل منهم لضغته وما الآخر لصهره مع هن وهن) (نهج البلاغة، تحقيق فارس حسون : 27)
ص: 70
أهكذا نقشت على حدودك تخوم وحوط كيانك بسوار؟ .. وانت أنت الوسيم، ليس لدعج على عينيك، بل للهب في بصيرتك .. ولا لبهاء في طلعتك ، بل لصفاء في سريرتك .. ولا لغيد في عنقك، بل لجبروت في شيمك.
وأنت أنت البطل، صلب السيف والترس في كفيك، ليس لفتلة في زنديك أو لعرض في منکبيك ، بل لفيض رجح علی اصغريك، ثم فاض على نهجيك.
وأنت أنت الناهج الأول، نسجت للدنيا قميصا على غير النول الذي حيك عليه قميص عثمان، وصغت للدين حساما كان من غير معدن سيف عشيق (قطام).(1)
وأنت أنت الذي ابتدأت الركيزة وشهقت بها، تطل على الدنيا فوق حدودها وفوق مداها، تحمل في يدك مصحف الرسالة، تلوح به على غير النمط الذي لوح به في (صفين) .. مشعلا يتجاوز وجه سنم الجمل ومجری الفرات، ليعبر من مكة والمدينة ، ليس الى نفوذ الجزيرة وربعها الحالي وحسب، بل ليتجاوزها مع الشمس إلى حيث ينبزغ الشروق، والى حيث يرتطم الغروب.
لو أدرك الذين فقدوك، وحتى الذين وجدوك، أنت العملاق ولو بقامة قصيرة وان وجهك ولو من التراب هو من لون الشمس .. لما وصفوك، ولما صدقوا حتى اليوم انهم فقدوك.
ص: 71
بهذه المناجاة أحببت أن أقرع الباب في دخولي على علي بن ابي طالب.
وأنا أشعر بأن الدخول عليه ليس أقل حرمة من الولوج الى المحراب، وإني أدرك الصعوبة في كل محاولة أقوم بها في سبيل جعل الحرف يطيع لتصوير هذا الوجه الكريم، لأن التصوير يهون عليه ان يلتقط بالأشكال والأعراض، في حين يدق عليه ان يتقصى ما خلف الاعراض من معان والوان.
علي بن ابي طالب هو بتلك الألوان اكثر مما هو بتلك الأعراض، وإنه عصي على الحرف بتصويره بقدر ما هو قصي عليه بمعانيه.
فهو لم يات دنياه بمثل ما يأتيها العاديون من الناس ، جماعات جماعات، يأتي الناس دنياهم يقضون فيها لبانات العيش ثم عنها بحكم القدر يرتحلون لا تغمرهم بعد آجالهم إلا موجة النسيان .. أما هو، فلقد أتي دنياه، أتاها كأنه أتي بها .. ولما أنت عليه بقى وكأنه أتى عليها.
فإذا اكتفى الحرف فقط بأن يصروه في الفسحة التي هو بين مهده وحده ،فإنه يكون كالآلة، تأخذ مظاهر الأشياء دون بواطنها.
إن الفرق بعيد بين الباطن والظاهر .. فعلي الذي ولد في مكة، وعاش ستة عقود، ثم مات في الكوفة .. ليس عليا الذي تقمط الجزيرة ولا يزال يعيش في اربعة عشر قرنا دون أن يعرف خرقة الكف.
ص: 72
وعلي الذي رضي العيش بالأسمال(1) هو غير علي الذي رفض الحياة بالأسمال.
فإنه ما يقنع الحرف بهذا الشكل ان يصور، يجيء ابن ابي طالب انشف من كثيب في هجيرة، وتبقى مكة مسقط رأسه، ويظل النجف الأشرف مثوى الجثمانه، ويدم مكفكف بأسمال .. وبين الكثيب (2)والهجيرة، واحة تشتاقها النفوس على عطش، وبين مكة والنجف، واحات تضيء إلى اظلالها اجيال الإنسان، وفي تلافيف اسماله برود لا تلبس إلا في الجنان.
أما إذا كان ابن ابي طالب قد حصره التجوال لفترة قصيرة من الزمن بين البصرة والكوفة أو بين مكة والمدينة ، فإذا ذلك لم يمنع كونه ابدا ذلك العداء الذي كانت مواقع خطواته ابعد من محط رجال القوافل.
ومهما يصفه الساردون بأقلام تشط في معاييرها أو تتنزی بها الأهواء، فإن بطولته التي تغلب في سردهم على بطولة اصحاب الأساطير تبقى بطولة اضعف بكثير من حقيقته، لأنها من الذي تخيب في وصفه حروف الساردين .. لأن السرد الذي يتناول الأعراض دون أن ينفذ إلى مضامينها يبقی سردا يتعطش الى معناه كما تتعطش فوهة البئر الى مخازنها.
من هنا: أن كل قول في علي بن ابي طالب يحصره في مكان او زمان يبقىحديثا له قيمة السرد، ويبقى حروفا مقفلة لا تنفذ إليها الوان المعاني..
وما أكثر الأقلام التي تناولته بهذا النوع من السرد الكليل، فحصرته ضمن الحروف، ولم تتمكن من أن تطوف به في غير جو مكة، المدينة .. كأن
ص: 73
مجاله البعيد لا يمكن أن يتعدى دائرة تصطف عليها (بدر) و (أحد) أو (خيبر) و صفين) .. وكأن قوته لا اعتبار لها الا ان تكون من النوع الذي يأتي به مارد القماقم).(1)
وتاه هؤلاء الساردون از خلطوا بين القوة والبطولة، فاستبدلوابالوصف هذه بتلك..
والحقيقة ، أن بطولته هي التي كانت من النوع الفريد، وهي التي تقدر ان تقتلع ليس فقد بوابة(خيبر) بل حصون الجهل برمتها، أن تتعاجف لياليها على عقل الإنسان.
كل ذلك لأخص إلى القول انه يكون من باب الفضاضة أن نربط عبقرية رجل كعلي بن ابي طالب بخيوط الأحداث التي بعثرها حوله ظروف كئيبة كما تبعثر الريح في الجو بعض الغيوم.
فالأحداث التي مرت على جانبيه لم يكن له فيها اية ارادة، في الوقت الذي لميكن لها في أي شأن في تغيير جوهر ذلك المعدن الذي انغلقت عليه شخصيته الفذة ، كالغيوم عينها التي تتغشى بها صفحة الفضاء لا يمكنها بحال من الأحوال أن تطفئ الشمس.
وبالتالي : أن هذا الأحداث ليست غیر اشکال واعراض، ومهما تتكثف ومهما يكثفها المغرضون، فإن جوهر ابن ابي طالب يلبث خلفها كما تلبث الشمس خلف الغمام..
لذلك فإني أحاول أن أهرب قدر الإمكان من كل سود يتناول الأحادث بیبوستها، من حيث تسأم على حواشيها المعاني.
ص: 74
ولن أدخل محراب هذا السيد الجليل الا بإطراقة المجل، وصمت المتأمل واصغاءة المسترشد.
ولسوف اغلب على حديثي اليه صيغة الأناشيد ما يتمكن من ذلك قلمي، إذ ان للأناشيد نفحات لا يطيب حرفها إلا مع ذكر الأولياء.
واستميح لنفسي من علي بن ابي طالب عذرا ان لم أجد، فهو اجود المجيدين وأسخي العاذرين.
ص: 75
من واقع التاريخ:
انه لمن باب اللزومات . والحديث عن قطب من الأقطاب الإمام علي - ان يؤتى بلمحة تاريخية خاطفة عن الأرض التي ولد فيها، وعن البيئة التي عایشها، وعن المناخ الحياتي الذي تأثر وجوده فيه ، وعن الأهداف والمثل التي من أجلها عاش وجاهد.
فكل ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا بحياة كل فرد من أفراد الناس، لأن الإنسان إنما هو انعكاس الأرض والبيئة والزمان، ولا تبني شخصيته إلا في إطار من ايحائاتها.
ان كون علي بن ابي طالب ابن الجزيرة العربية ألف وأربع مئة سنة خلت، يتطلب بسطا موجزا عن تلك الأرض التي كان فردا من أبنائها.
ص: 76
جزيرة العرب هي شبه قارة صحراوية تمتد على رقعة كبيرة مستطيلة من الشمال الى الجنوب بين بادية الشام والمحيط الهندي، ومن الشرق إلى الغرب بين الخليج العربي والبحر الأحمر وصحاريها تغطي القسم الأكبر منها وتعرف با النفود) و (الربع الخالي) و (الحرات)، وهي تجتازها في خط طويل يمتد من الشمال الى الجنوب.
أما غرييها، فهو يتألف من الحجاز في شماله، ومن اليمن في جنوبه.
والحجاز كان على طول الزمان يشكو الشحة في رزقه بنسبة ما يشح عليه هطول الأمطار.
ومن بعض مدنه (مكة) و (يثرب) وفي الآخرة (جبل أحد) و (خيبراليهودية)، وفيها حصنها المشهور.
مناخ الجزيرة حار على وطئة شديدة.
أما محاصيلها، فمن الماشية التي تعيش على المراعي نسبة المساحاتها أكثر مما هي بالنسبة إلى الخصب فيها، ومن التمر، ومن بعض الزراعات الخفيفة، ومن تجارة الأفاوية، التي كانت تجعلها تحتك وتنفتح على ما جاورها من الشرق والشمال.
أما سكانها فمن البدو الرحل.
ص: 77
ويكثر الظن أنهم كانوا منذ الفجر الأول مصدرا لهجرات انسانية ، فاضت عنها الى ما حواليها من البقاع شمالا وغربا، لتتأسس منها، على التولي، مدنیات مختلفة، من البابليين(1)
والفينيقيين(2) ,والعرانیین (3)
ص: 78
أما حياة السكان فيها فقد كانت بالنسبة الى شح اقتصادها بدائية، من حيث انعكست هذه البدائية على نمط معيشتهم وكل نشاطاتهم الفكرية، ولم تظهر في هذا المجال، مع الأيام، أي تغير على أسلوب معيشتهم أو أي تطوير على نمطهم الفكري إلا بالنسبة لما كان يتسنى لهم من احتكاك بتلك الهجرات التي صدروها هم أنفسهم بحيث أصبح ذلك ميسورة لهم، فأخذوا يقتبسون عنهم من كل ما حصلوه وأنشأوه.
ولم تكن معيشتهم البدوية، الضعيفة الاقتصاد، والمفتوحة على طول هذه الرقعةالمحروقة والشاسعة، لتوفر لهم تلك اللحمة الحياتية التي تنشأ في حضن المجتمعات الغنية المتراصة، فعاشوا قبائل قبائل، يغيرون على بعضهم البعض في سبيل سد ما ينقصهم من تأمين العيش، وهذا ما كان يسمى في جاهليتهم ب(الغزو). (1)
ابتكر حروف الهجاء ونشرها اثناء انتقاله نحو الغرب، ويضيف بأن أبجدية قاموس اقتصرت على ثمانية عشر حرفا اكملها من بعده احد الاغريق واسمه (بالا مینوس) ..( الحضارات، لبيب معبد الستار : 74، دار الشرق بيروت ، ط16، 2003).
ص: 79
ونتج لهم من ذلك مجتمع مشرد ومفسخ، لا يشدهم إليه ذلك الولاء المفهوم لدى المجتمعات العريقة .. ظاهرة كهذه ترافق دائما المجتمعات الضعيفة الاقتصاد.
أما قبائلهم التي كانت تجمع وحداتهم المتعددة، فهي كانت مظهرة بارزة من مظاهر حياتهم الاجتماعية ، يربطهم بها وحدها ذلك الولاء المنشود لينشأ من ذلك تكريس دائم لمنافسات ومطاحنات تقلل على توالي الأجيال قيمة المجتمع الأكبر الذي لا يزال يسمى ب (جزيرة العرب).
ورافقت ذلك عقلية ذكية ولكنها سطحية بالنسبة لعدم توفر المؤهلات التي يمكن للعقل أن يغرف منها ما يروضها ويجعلها قوة فاعلة، وكنتيجة معكوسة، برز مجتمع هزيل بكل مقوماته الفكرية ، غني بنزعاته الفردية.
و(القحطانية) و (العدنانية) لا تزالان الدوحة الكبيرة التي تتظللها النزعات القبيلية بكل ما تفرع عنها من (كهلان) و(حمير)، أو من (ربيعة) و مضر)، أو ما تشعب عن هذه من (طي) و (همدان) و (مذحج) و (قضاعة)، أو تلك من (أسد) و (وائل) و (بكر) و (تغلب) .. إلى آخر ما يتفرع من شجرة الأنساب ، ن حيث تختصر باربيعة) و(مضر) و( اليمن).
أما عباداتهم، فإنها كانت محصورة ببعض الآلهة ، ك (مناة) و (العزي) و اللات) و (هبل) .. أصنام جمعتها مكة تحت ستائر الكعبة، لم يكونوا اليحيروها كثير من الأهمية، بالنسبة لعدم انصرافهم الفكري نحو الفلسفات التي لا تخصب في المجتمعات المختلفة في اقتصادها.
ص: 80
غیران هذه الحالة التي كانت تسيطر على الجزيرة لم تحرمها من بعض المدن التي ازدهرت فيها بعض التجارات، من حرث رفعت اقتصادها وميزتها عن باقي اجزاء البلاد.
ومن بين هذه المدن الواقعة على خط تجاري مهم (مكة) مهبط رأس الرسول، ومهبط رأس علي بن أبي طالب.
ص: 81
وجاءت ولادة محمد، فكانت بداية ونهاية .. بداية لعهد جديد، ونهاية العهد عتيق.
والواقع أن الجزيرة في غيابها الطويل عن الساحة التي بثبت فيها الإنسان وجوده كإنسان، قيظ لها أن تستقبل في هذا المضمار ولادة عجيبة لرجل عظيم سینهج في مجالات الفكر نهجا يعوض عن الركود الطويل الذي غمرها. أي الجزيرة - طيلة أجيال بليله الدامس.
ومن واقع الأرض عينها قدم الرسول العظيم رسالته الكبيرة، ليكون فيما بعد للجزيرة دين ودستور یشدانها الى مناهج الإنسان المفكر، ويختلفان لها مدنية مماثلة للمدنيات التي تحيط بها من الشرق ومن الغرب .. ويرفعان بالتالي مجتمعنا من انحطاط القبلية التشردة الى مستوى الوحدة المتمددة ، من حيث تثبيت على اساس من الاقتصاد المولد المولد، تحت رعاية الحق والعدالة
والمساواة.
في ظل النبي الكريم ترعرع علي بن ابي طالب، ولم يكد يفتح عينيه على الرسالة المطروحة بين يديه حتى امتصها بنهم الجائع،(1) مستوعبا كل معانيها واهدافها في خطوطها القصيرة والطويلة على السواء، واصبح منها وأصحبت منه، بأمتن ما تكون من الصلاة، واعتبرها خشبة الخلاص لشعب يفككه
ص: 82
اقتصاده الهزيل، ويلقيه في بؤرة من التقاليد القديمة الساذجة ويبعده عن محارم العقل السليم والقيم.
لا شك في أن الصدف كانت سخية .. إذ وافق أن جاء ابن ابي طالب في وقت كان من ألمع السوانح التي اختطفتها اجواء الجزيرة.
فاحتضان النبي ، هذا العقل المجنح، رجلا ثانيا هو علي بن ابي طالب قطب آخر من أقطاب العقل البشري، كان بالنسبة للجزيرة حظا مزدوج النتائج، لأنالرجلين جاء في وقت واحد، وكأن الثاني إنما جاء لتكملة الأول .. فكان هالته وكان اطاره.
وبالحقيقة، فإن ابن ابي طالب، ذلك العقل النير المولد، لم يستبعد، باحتكاكه الدائم بابن عمه الرسول، عن ان يكون المساعد الأول المستشار الأجل في كل ما كان من شأنه أن يصون الرسالة الجديدة ويمهد لها سبل نجاحها .. إن في الوقت الذي يجب أن تظهر فيه ام في الكيفية التي يلزم أن تؤدى بها، وكان بالوقت نفسه ذلك المناضل الجسور والبطل المقدام في دفاعه عنها، دفاع المؤمن الراسخ بصحتها وصدق مفعولها.
كان ذلك في سبيل الجزيرة اولا .. ومن ثم في سبيل الرسالة نفسها بصفتها ستصبح - بدون شك - رسالة الجزيرة للإنسان حيث يوجد إنسان.
وليس الذي يبشر في صحة ما يقول إلا وهو أول من ينعكس عليها قيمة ما يقول.
والرسالة التي بشر بها ابن أبي طالب، بعد أن ساهم في نحتها وتأديتها وأخراجها والذود عنها، كان يحمل من كل كلمة منها معانيها بنوع انها انعكست فيه تلك المعاني انعكاسا صادقا وملازما له في كل أقواله وأعماله
ص: 83
ومخططاته القريبة والبعيدة، وأخذ يطبقها نهجا دائما لحياته ليكون لها قدوة حية الغيرة .. في سبيل تحضير مجتمع فاضل، يعتمد الشخصية الإنسانية الملقحة بالفضائل كأساس متين يضمن له صحة العقل وصحة النهج وصحة الاستقرار.
ان بناء شخصية الإنسان بالعقل والمناهج والمناقب كان أبرز ما أخذ ابن ابي طالب يعول عليه في سبيل تطوير حياة الجزيرة.
ولقد بدأ بنفسه.
ومن هنا قيمة الرجل العظيم.
أقول (بدأ) ولست اعني (حاول) .. فإن المبادئ التي اعتنقها كان أصيلة فيه، فلقد مرت، قبل طرحها على الرأي العام، على عقله، هكذا أوحاها واقع الجزيرة، وهكذا اقتبلها واقعة العقلي والعلمي.
ان الجزيرة التي كانت تشكو التخمة بفسحة ارضها كانت تشكو المجاعة إلى شخصية الإنسان التي يمكنها ضبط مجالاتها، وكانت تشكو المجاعة الى مجتمع انساني تعززه الشخصية الفاهمة.
ان هذه الشخصية المنشودة قدمت لها الرسالة الجديدة كل ملابسها، وها هو ابن ابي طالب يفصل منها كل ثيابه، ويتقدم بها زيا وطرازا، ليعرضها على بني قومه ، ليكون لديهم في قدوة العارض .. لبسها في تفهمه للدنيا وفي تفهمه للآخرة ، فكان زهده بالأولى طريقا الى الثانية.
البسها بهذا العقل المولد والمستنير، فكان قوة وإرادة وشجاعة وبطولة ومثالا يحتذى.
عرضها واختال بعرضها، غير آبه بكل الصدمات التي ستقابله بها عقلية الجزيرة العتيقة ، بكل قحطانيتها وعدنانيتها المتسلسلة حتى آخر مواليدها.
ص: 84
ولم يشعر قط بان الخيبة ستكون من نصيبه ، لأنه كان يرى الأشياء بمجالها الطويل، وان الذي يقدمه اليوم سوف يتعدى فسحة عمره .. لهذا قدمه مجردا من كل مساومة، في سبيل بناء هذه الشخصية .. قدم ابن ابي طالب جهود عمره مثبتا أن العقل هو كل ما في الوجود الإنسان).
ص: 85
هو علي بن ابي طالب بن عبد المطلب، ابن عم الرسول محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب الهاشمي.
اصاب الجزيرة قحط انهك العائلة الكبيرة، فهب محمد يخفف العبء عن کاهل عمه، (فالحق عليا بأسرته).(1)
ربي علي وترعرع في كنف ابن عمه.
في هذا الوقت كان محمد يتقبل الوحي عن فم جبرئيل في غار حراء.
وكان أول من يشهد ولادة الرسالة الجديدة،(2) وفي سن مبكرة، بين التاسعة والعاشرة، اصبح مقتنعا بصحة الدين الجديد.
كان باكرا النضج، قوي البنية ، حاد الذكاء ثاقب النظر، شجاعا، ملما بدرجة عالية بالعلوم .. وترك اثرا كبيرا بعده في كتاب (نهج البلاغة)..(3).. طرحت الرسالة على الرأي العام مبشرة بالتوحيد.
ص: 86
قوامها زعماء واعتبروها نقضا لآلهتهم وتهديدا بتقويض زعمائهم من هنا كانت بداية الصراع الذي راح يتدرج من عنف الى اعنف، ثم الى حروب ومجازر.
في كل هذه المراحل كان على اليد اليمنى لابن عمه والأشجع والأجدی.
وكانت الهجرة اول منفذ للرسالة، اعتمدته مسلكا للنجاة من بين قبضات الزعماء الذين صمموا على قتل محمد في احدى الليالي .(1)
ولكن بان ابي طالب في سبيل تغطية انسحاب ابن عمه نام في فراشه ،اليوهم المرابطين ان النبي لا يزال تحت متناول أيديهم.
وهكذا وفر الوقت الكافي للإنسلال والابتعاد تحت جنح الظلام، من حيث حسبت على علي أولى بوادر التضحية.
بعد رجوع المهاجرين من الحبشة التي حدبت عليهم، بدأ الصراع يأخذ شكله العنيف، وكانت معركة بدر) أول تحقيق، وتلتها (معركة أحد) التي كاد ينقلب فيها النسر إلى المخذال .. فقد جرح النبي فيها حتى ظن انه قتل، وانفرط عقد المؤمنين.
ولكن عليا ببطولته حقق النصر الأخير، وحقق معه هتاف جبرئیل المشهور:
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى الا علي .(2)
ص: 87
وعقب هاتين الوقعتين وقعات أخرى، أشهرها (وقعة الخندق) التي تسمى بوقعة الأحزاب) اذ تجمع فيها كل الأحزاب والفئات، على اختلاف الميول والقبائل، لمجابهة الرسالة الزاحفة، والتي اصبحت قوة جارفة ونصرا كبيرا.(1)
أما (وقعة خيبر)-(2) - المدينة اليهودية المحصنة المشهورة ببوابتها الصخرية التي افتعلها علي بقوة زنده - فإن فتحها كان بداية لفتح المدن الكبيرة التي أخذت تسقط أمام قوة الزاحفين، الواحدة تلو الأخرى .. حتى عم الفتح ، باسم الرسالة، سائر أنحاء الجزيرة.
في كل هذه المعارك كان الفضل أولا للمهاجرين، إذ كانوا أولمن لبى النبي في هجرته .. ثم للأنصار الذين استقبلوا العودة بالمؤازرة.
من أشهر هؤلاء المهاجرين الأولين هو علي بن ابي طالب.
وكثير هم الذين كان لهم شأن كبير في تسيير الفتح وتحقيق النصر.
ص: 88
وكان علي بن ابي طالب من أحبهم اطلاقا على قلب النبي .. فهو ربيبه، رفيقه، مستشاره، ملازمه الدائم، أخوه . زوج ابنته التي هي من عز الناس عليه، فاطمة الزهراء، أبو الحسن والحسين من فاطمة، الذين انحصرت فيهما ذرية النبي .
وهو أول المؤمنين، وأقوى المدافعين، وأشجع المناضلين، وأصمد المقتحمين، وأبلغ المحققين.
ولقد لمح النبي عن ذلك بمثل قوله:
اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه).(1)
علي مني وأنا من علي).(2)
(من أحب عليا فقد أحبي، ومن أحبني فقد أحب الله).(3)
(علي مع القرآن والقرآن مع علي)(4)
(حق علي على المسلمين حق الوالد على الولد).(5)
(أنت أخي في الدنيا وفي الآخرة).(6)
(ولداي هذان إمامان، قاما أو قعدا).(7)
ص: 89
(كل ولد أب فإن عصبتهم لأبيهم، ما خلا ولد فاطمة، فإني أنا أبوهم وعصبتهم). (1)
أنهم قالوا : مات النبي دون أن يترك وصاية صريحة بمن يخلفه، واختلف الرأي بين أن يكون الخليفة من المهاجرين أو من الأنصار .. ولكن الكفة رجحت مع المهاجرين، واعتبروا الحق للأكبر سنا، فعين (أبو بكر الصديق).
كان علي غائبة عن هذا الاجتماع الذي سمي ب(اجتماع السقيفة )، وكان غيابه لانهماكه بدفن النبي ، واعتبر نفسه مغموط الحق : لأنه حسب تصريح الرسول، هو الأحق.
ثم تجاوزته الخلافة بعد الصديق الى (عمر بن الخطاب )(2)بالحجة نفسها.
لما ضرع عمر بن الخطاب توجهت الأنظار نحو مجلس الشورى السداسي: علي بن ابي طالب، عثمان بن عفان ، سعد بن ابي وقاص، طلحة بن عبد الله بن الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف.
أسند الى هذا الأخير امر البت بتعيين الخليفة، وكان اختياره مؤكدا بين اثنين : أيهما يرضى بالشرط الذي يفرضه .. وهو : أن أيهم يتعهد بعدم تعيين أي من انصاره أو ابناء عشيرته في مساعدته في الحكم هو الذي يسند اليه امر الحكم.
وبما أن عليا لم يقبل بالشرط، فإن الخلافة وصلت بحكم الطبع إلى عثمان بن عفان1).(3)
ص: 90
وكان حكم ابن عفان صراعا بين الأمويين والهاشميين،(1) لذلك لم يجد الخليفة الجديد أمامه إلا نقض شرط ابن عوف وانتقاء كل معاونيه من بني أمية.
في هذا الوقت، كان معاوية بن أبي سفيان واليا على الشام، وكانت الفتوحات قد حققت اتساع الرقعة الإسلامية، وحققت للعرب بحبوحة اقتصادية مغرية .. كان انسياقهم وراءها سببا من اسباب تكريس الانشقاق وكان حكم ابن عفان خروجا عن خط الرسالة، وجنوحا نحو
(ارستقراطية) خلقت طبقية جديدة، وأذكت نار الحقد بين القبائل التي كانت قد توحدت في سبيل
نصرة الإسلام .. فتولدت ثورة أدت إلى مقتل الخليفة.
أما معاوية، والي الشام، الذي كان يطمح إلى تحقيق الخلافة له، فإنه قاوم المبايعة الجديدة لعلي، التي حققتها له الجزيرة الثائرة مع كل الأمصار المفتوحة، ما عدا الشام.
وكان بشير بن النعمان قد لف قميص عثمان وهرب به الى الشام، فاحتجز القميص معاوية، وأخذ يلوح به حجة في أخذ الثأر.
ص: 91
هكذا ابتدأ الصراع على جهتين : علي من جهة ومعه الهاشميون والأنصار، ومعاوية من جهة ثانية ومعه الطامعون بالخلافة .. شأن طلحة والزبير.
وكانت عائشة ، أم المؤمنين تشد ازرنسیبها طلحة لتوصله الى الحكم، حبا به، وبغضا بعلي الذي كان بينها وبينه جفاء قديم.
وعطف معاوية كثيرا على المحاولة، وكانت معركة الجمل)(1) بقيادة عائشة .. ولكن المعركة خسرت، ومات فيها طلحة والزبير، واسرت عائشة ثم ترکت معززة مكرمة.
ويقي الصراع يشتد بين هذين القطبين، وكادت (معركة صفين)(2) أن تكون فاصلة لجهة علي، لولا خدعة رفع المصاحف وتحکیم عمرو بن العاص وابي موسى الأشعري، مما أدى الى خلع علي دون معاوية .. عكس الاتفاق على خلع الاثنين معا وارجاع الحكم شوری.
واستؤنف القتال بعد بروز جهة جديدة هي جهة الخوارج، الذين انتفضوا على علي لقبوله بالتحكيم، فأبادهم في معركة النهروان ، واثقل كاهل الأمة بالمعارك الأهلية.
ص: 92
وضاق على ذرعا بمعاوية، مما أدى أخيرا الى عقد هدية مؤقتة، تركت فيها الشام على حدة، وبقي علي يعالج شؤون الدولة في الكوفة.
أما الفتوحات، فقد تجمدت كردة فعل لهذا الصراع العنيف، الذي لم يتمكن ابي ابي طالب من وضع حد نهائي له.
وفي ذات اليوم، بينما كان الخليفة متوجها إلى مسجد الكوفة، عاجله عبد الرحمن بن ملجم بضربة سيف مسموم أودت بحياته.(1)
ص: 93
إذا كانت الشخصية تبنی،، فعلى حساب العقل مجمل ما ينشأ من تلك العمارة.
فهو الذي على يديه يتم وصف الأساس لتقوم عليه البناية . أما متينة شاهقة تزخر باللون والجمال، وأما هزيلة باهتة تتقزم ولا تثبت على حال، يستحيل له سواها في تقلبه في أديم الأرض .. كأنه الخلاصة الأخيرة في أبعد واحدة من سلسلة المصافي التي تمتد على طول خط الحياة .. كأنه القيمة تبتدأ في البان رغام المادة لتتناهى في صفوة الروح .. كأنه الشذي يتسلسل من غبار التراب ليعبر تلاوين الزهر الى خفة الأريج.
هذا العقل المصفى من تربة الجسد، كما تصفى الراح من خشب الدوالي ، وكما يصفي العبير من خصل الرياحين .. هو الذي ينتهي فكرا، كما تنتهي الراح نشوة، كما ينتهي العبير شذى.
وهو بالتالي ذلك، الفنان الذي لا يبرز مجال فنه إلا في مجالات مهارته، ولاتثبن جلالة صنائعه إلا اذا احتكت بفتنة بدائعه، وهو بالنتيجة ذلك المرجع الذي لا تجد شخصية الإنسان سواه .. إذ تلجأ الى كنفه ، فيعمل على اخراجها بقدر ما اوتيه من قوة على الإخراج .. فإذا هي منه بين راحتيه كأنها تعبير صادق عن قوة اصالته، أي أنها تكون منه بمقدار ما يكون هو من رهافة الوعي وعمق الصفاء.
ص: 94
ذلك الفنان، الذي هو العقل، هواشب حالا بذلك المهندس الذي يعكف على عمارته، يرتاد من اجلها المقالع التي يعرفها، فينصب عليها نحتا وصقلا وتشذيبا ويكتنز لها من حيث تتمكن يداه ما يراه لائقا بها من النقش والزخرف والرياش .. حتى اذا ما جاء عمله متكاملا أمام عينيه، جلس قبالته يدل عليه .. ان هذي هي مجاهد يديهن أما تلك العمارة، فإنها تكون- بحق- عاكسة لتلك المجاهید،اما حقیقتها فهی فی اعین النقاد:اما کوخ فقیریهتز مع اول هبه ریح ،وأما بيت عادي تأنس اليه الاستكانة أو قصر منيف يزخر باللون والترف، أو قلعة جبارة تهزأ بصرصرة العواصف أو هيكل وقور تخشع اليه الأجيال في تطوافها عبر الزمن.
وقد تختلط هندستها ويتداخل بعضها ببعض، فتتنابذ الوانها تتناحر أو تتضارب أشكالها، وتتشاكس أو تهدل جدرانها، وتعوج أو تلتوي باحاتها، وتنكمش أو تتقلص شرفاتها وتضيق ... كل ذلك حيث بحلو ويفضل أن تأتلق وتأتلف، أو تتآخي وتنسجم، أو تسترق وتستدير، أو تستقيم وتنفسح، أو تستطيل وتتسع.
وربما لا يختط من هندستها كل ذلك .. ولكن التشويش يدق فيها بعض مناقيره، والبلبلة بعض سنانيرها .. فيمتد اليها التشويه ، ينهب من قيمتها،وقد يتم على قلة اخراج هندستها ذلك الانسجام الفريد في وحدة تتزاوج تأتلق بمباهجها، وباحاتها تندمج بواحاتها، ومطلاتها تزهو بهالاتها، وألوانها تتناسل من افنانها۔
ص: 95
تلك هي العمارة المصلي بين يدي فنان جبار فاضت مفاهيمه على تصاميمه، واندمجت اشواقه باعراقه.
على هذا المقياس بالذات تتنقل شخصية الإنسان في مضاميرها بين يدي العقل.
أما المقالع التي يرتادها في سبيلها، فهي تلك المزايا والصفات ، يجمعها لها قبضات . تارة مقتورة، وطورا میسروة، وساعةموفورة.
وهكذا تتولد، متدرجة من شخصية فقيرة ليس لها من الوجود غیر تراب الجسد ، دمية تكبواذ تحبو الى شخصية خفيضة، تستكين الى هيكلها استكانة الأرانب الى اوجارها، تقضم عشبها بنابها، وتختبئ من نهارها في ليلها، وتنطفئ شمسها بفتحة رسمها.
إلى شخصية مزهوة، تستعير ألوانها من اذنابها وتتباهی احسابها بأنسابها، وتتوهم انها تستطيل ولكنها تذوب في اظلالها.
إلى شخصية كريمة الوشاح، مصقولة المزايا، موزونة الإخراج .. تعيش يومها في غدها، ويورق ذكرها في لحدها.
إلى شخصية ممتنة الحواشي ، منزهة السجايا، موقرة الجوانب .. تتسامی بالتراب الى السحاب، وتخصب الأمد بالأبد، وتكثف الخيال بالجمال، وتغطي اللحود بالخلود، وتعل الفناء بالبقاء، لتحقق الإنسان بالإنسان.
مدارج مدارج ..
منها التافه المعدوم تلفظه الحياة على حواشيها..
ومنها الساذج المسكين يتبرم بعبء نیره، ويتقبل الوجود خوفا من العدم ..
ص: 96
ومنها المتبجح المغرور، يقرقع اقدامه على الشاطئ بانتظار ان يستسلم اليه البحر بمكنونه.
ومنها النيرالموهوب، يغازل الشمس ولو خلف الغمام..
ومها المصطفی، جلت به الأوصاف واستجمعت به القيم.
ص: 97
من ذلك المعدن الطيب كفكفت شخصية الإمام مستكملة كل مقوماتها .. شخصية برز العقل فيها السيد المطلق، فإذا هي منه كما هي الديمة(1)من الغمام، وتسطره فينهمر بها انسجاما بانسجام.
وهكذا بسط عليها لواءه كما اسلست له قيادها، فامتصته وامتصها، قوة بقوة، ولونا بلون .. حتى لكان الهيكل المتين كحبيكة الفولاذ، ما استجمعت أوصاله إلا ليكون قاعدة جبارة لقائد جبار .. فإذا السيف في كفة وامض بكر، له حدان متساندان : حد على الترس وحد على القرطاس، في حلبة ابدا بيضاء ذات وجهين : وجه على الجهاد ووجه على السداد..
ازدواجية في البطولات، لملمها التوحيد فانساقت الى المضمار كانسياق الجوارف تلاحمت اليها الجداول، وجداول من الموهبات تلبست المزاياوالصفات كما تتلبس الأفانين أوراق الربيع، وتضافرت في تساجمها وتناسقها كحبال الشمس، وحدها المصدر، وكالمصهر، تتذاوب فيه المعادن.
هكذا انصهرت في هذه الشخصية مجموعة المواهب مجموعة الصفات ومجموعة المزايا، قيمة بقيمة، ووزنا بوزن، ومقدارا بمقدار .. فإذا هي يتزاوج بعضها في بعض كما تتزاوج الألوان في لوحة رسام .. وإذا المعطيات كالفيض، تجري كأنها في سباق، وتساند كأنها انداد.
ص: 98
فالعفة والصدق ریشتان ناعمتان كان لهما من القوة لديه ما كان لهما منها فيزنديه : الترس (1)والفرند(2)، والزهد والجود .. جناحان رهیفان ازاء عليهما من ظله ، فإذا هما بعين المدى يتباعدان ثم لديه يلتقيان .. فإذا الزهد في الدنيا جود بها، وإذا الجود بالزهد اكتماله.
والتقوى والإيمان شعوران صمیمیان و منبعان صافيان، غارا في جنانه واندفقا على لسانه، فإذا هما به نصب الكعبة حسام، ومن ورعة قبلة للإسلام.
والحق والعدالة صفتان متلازمتان، وقلادتان فریدتان، وحجتان لامعتان .. وشم بهما وجدانهن، وحلى بهما بيانه، وسن عليهما ستانه .. فإذا القيم بين الحق والعدل تتلمس في معتقده تراثها.
والحب والخلاص حبلان وثيقان ودفقتان سخيتان، ترابط بهما فؤاده ولسانه .. فإذا الأره بجماعاتها، تنشد الدفء لتمرع.
والحزم والعزم نتیجتان منبثقتان من صلابتين متكاتفتين : القوة والإرادة.
كل لهما من عينيه انعکاس على ساعديه وثورة في منهجه فإذا الدين الدنيا في ناظريه قالبان يستكملان وحدة الوجود من حديه من كل تلك المقادير.
مواهب وصفات شربت شخصية علي بن أبي طالب ، فا هي في وجود الإنسان دعامة تثبت بها قيمة الإنسان.
ص: 99
أتنامين على الطوى وتكتفين بالشعر على دروبك تخطها القوافل محملة بالطيوب؟
ومالك بالبيد تتعطش رمولها على السراب فتتلظى ولا ترتوي؟
قربي يا نفود الجزيرة ويا ربعها الحالي .. قربي وتلملمي، فليس يلطف عنك سموم خط المهاجرة إلا تلك النسمات، تبريها المحيطات على حواشيك.
وحواشيك هي بعض فيوضك .. يا طالما زحفت إليها مع السحيق من أجيالك.
تلك كانت ظفراتك المتمردة عبر السنين في هجرات حائرة، ما انتقلت بقدم حتى تشبثت بمدنية.
فقربي وخذي مما اعطيت، غزوا بغزو، يا فيافي الجزيرة .. ولملمي ذيول ليلك الطويل على كف هذا الصبح الأصيل.
وتيمني، فمكة اليوم ضلعك الأملد(1)، تشهد ولادة ما شهدتها من قبل بيدك السمر.
وتيممي بالمر واللبان من أفاويهك، واجمعيها قوافل من خيراتك، فقد حان لك الأوان أن تحرقيها في جو صمیم من اجوانك..
ص: 100
وباركي الجم من آلام مخاضك، لأن المولود البكر الذي يقطع أوصالك سوق يربط أرشك بسمائك، ويفجر النور على ارجائك..
وكنسي الكعبة من اصنامك، فاللات والعزى ومناة قد بحت بها سورة الغرانيق كما اختبلتها روعة التوحيد.
وترابطي قطحانك بعنانك، فأنت منذ الساعة قبلة الملايين، ولسوف تنصب عليك أعين الوافدين.
فمع الأوس والخزرج نوري يثرب یا مدد الأنصار ويا سهد المهاجرين، وأجلي الرمد عن عينيك .. فإن الفجر يحمل إليك تباشير ضياء لن تتمكن مفاوزك على مداها من ان تستأثر بها ضمن آفاقها .. فهي رسالة بمستوى الفبض، مصدرها ازل ومداها أبد.
ولئن تحاولي .. ماذا يضير؟ فإن الوهج المنبلج لن تئده (بئر أحد)، فهو نور يتعدى نطاق الحجب، لأن مصدره أبعد من المكان وأقصى من الزمان.
فاسترشدي، فإن المهدي على انبثاق بين يديك، وكوني القاعدة وكوني المزار، فليست تضيرك ركيزة المنارة ..ولا تلعبي بترهاتك إذ تجازفين بمقدراتك ، فإن الثوب الذي به تندثرين رثت خيوطه، فأنت به على غضاضة .. فتوحدي ووحدي، فإن الكلمة أخذت تملا الدنيا على مسمعيك : (الله اكبر)، وانظري الى البعيد، فإن الطريق الذي خط أمامك لن تقود قدميك عليه عين كليلة، لأن الحقيقة التي نفرت معانيها سوف تضيق عليه قوالب الحروف ولن تتمكن من استيعابها سحب الخيال.
لذلك، سوف تحتاجين إلى حيث تجد إنسانا فتخصبه .. فكوني المطية وعبديالطريق، وقدري قيمة ما تحملين .. ان ذلك مع التاريخ افخم قوافلك.
ص: 101
ما بالهم يتوافدون زرافات زرافات؟ .. أتراهم استهوتهم الكلمة؟؟
والكلمة ما قبلت إلا استقبلت بالهزء والسخرية كأنها الهراء ، وما استحقت إلا النبذ والاضطهاد كأنها التجديف، وما كانت الليالي العائمات إلا ستارا تغطت به هجرتان مشردتان، كأنهما لصوصية تتسلل.
على من يتوافدون والكلمة التي تستهويهم تجرعلى قائلها وقابلها على السواء الويل والتشريد؟!
وما قيمة الكلمة يتهدر بها رجل في خلوة؟
ومتی کان (جبل حراء) كعبة العرب، ومكة والمدينة ؟
كيف تجوز وقاحة الغار، ومن هؤلاء المتوافدون؟؟(1)
ومتى كان لرعاع القوم تشوف على الأسياد؟
وتشهد (بئر بدر) أول معركة بين سيد ومسود(2)، تثبت فيها قيمة الكلمة بين سيد أخذ يقلق على مصيره ومسود بدأ يغار على مصيره .. بين فئة ترى في ديمومة الأوضاع دواما لأمجادها واترافها، وفئة اصبحت تتحسن قبسا جديدا يزيل عن كاهلها حيفا مزمنا وذلا مقيما.
ص: 102
ولا تنتهي (معركة أحد)(1) إلا والكلمة أصلب عودا واعز شكيمة، وإذا هي الشبث بمكنونها كما تتشبث الحجة بالمنطق ، ويتعلق الضعفاء بالأمل الجديد كما يتعلق الغريق بحل النجاة.
وإذا الكلمة تجنح بالخير والحق، وتشع بالعدل والجمال، وتنكشف عن رؤى تتجلى بالعقل الي فوق وتتطاول بالخيال الى محجات تستهيم بها النفوس على مدى القيم.
كلمة تحمل في طياتها خفقات الحنان كما تميد حروفها برطب الجنان ..
وإذا (الاله الأكبر) هو إله موسى وفرعون، وإله عيسى ومحمد .. أله قدير يلبسه الوجود كما يلبس الأبد الأزل، وتندمج به الآجال كما تندمح الآفاق بالأجواء، وتتوحد فيه المصادر كما تتوحد على بعضها خطوط الدوائر .. إله رحیم هفا الى حضنه مساكين أهل الأرض، جمعهم محمد من بين قبضات اقطاب قریش کما لملمهم من قبل عیسی من جور اسياد (روما).
وتتفق الكلمة على آفاقها كما يتفق الصبح على الغسق .. وإذا الغار کوة وبتهافت المتوافدون حيارى مثقلين .. يجتذبهم الشهور قبل أن يفعمهم الحجی، كأنهم عنه في ذهول .. ويتحسسون بالدفء كأنه ارتياح الخاطر على قلق المصير.
ويماط لثام، ويسقط قناع .. وإذا الحقيقة على سفور .. رسالة جديدة ،وإنسان جديد.
أولئك هم حثالات الناس ومساكين أهل الأرض، يتلمسون جباههم بعد تعفيرها، فإذا بها ترتفع من جديد أمام الشمس، تتعزز فيها قيمة الإنسان في
ص: 103
وجوده وفي مصيره . إنسان يتلمس طريقه بقدميه، ويقرر مصيره بإرادته .. حر طليق لا تئده تقاليد، ولا تستذله عبودية.
وكما استعانت (بئر بدر) ب(أحد)، وهكذا استجار (أحد) (وقعة الخندق) .. ولن تنفع استغاثة الخندق بحصون خيبر، لأن غار حراء اصبح ذلك الصدی البعيد.
وإني لمكلة الأسياد وكعبة الأصنام آن تخنق صدى أخذ يلف أجواء الجزيرة ليتعداها، مع الشروق والغروب، إلى حيث يوجد انسان، وإلى حيث يمتد مكان وزمان.
ص: 104
إنه غار حراء .. اتراك خزان اللهب؟ .. أية نامة صدرت عنك؟..
لم تكن خفيفة كالأثير وطرية كالبراعم، ولكن الأثير الذي يغلف هو. مع خفته .أثقل منها، فهي عليه تستريح وفيه تدور .. وإن البراعم التي تنوء بها جزاله الاغصان هی نطاق وجودها،اذبهاتصلب ولها تعیش.
أهكذا كان عنك للكلمة هذا المدار؟
وليس بالعجب .. فإن الذي خاطب الإنسان بلغة الإنسان لم يسمعه إلا الإنسان .. والكلمة التي تنابث بها الغار لن تعج بها إلاغواء.
ومن هنا كنا وزن الرسالة .. فإذا هي ليست محض کلمات تتبختر بأساجيعها، بل هي مبان يطل منها الوجود على الخلود .. وتطوف في ردهاتها سحب الخيال، وتنهل على ارجائها خصائل الجمال. فهي للفكر تطوافه وارتياده، وهي للروح اشواقها ومداها، وهي مع الحياة برفقة العناء كفكفة العزاء، وهي للحياة خلف الحجاب دغدغة الأمل بحسن الثواب على كف المآب .. ومئاب فرشت دروبه بالعطور وعطور طيبتها اشداء الفضائل، وفضائل ما احتويتها إلا القلوب، وقلوب ما وسعها غير الإيمان، وإيمان ما رسخه إلا التوحيد، وتوحيد ما احتواه إلا العقل، وعقل ما سبغ إلا على الإنسان، وإنسان هو مدار الوجود، ووجود هو (الله) في البدن وفي النهاية.
ص: 105
تلك هي الرسالة، تقدم نفسها على كفها المفسوح : نور، وإيمان،واقتناع، وحق، وحب، وإخاء، ووفاء، وصفاء ، ورجاء ، وعزاء.
وهذا هو النداء على تلبية ، تتلقطه الأعماق كما تتلقط حبة الرمل قطرة الندى ، فإذا هو انعکاس في النفوس وفي العقول .. في طفرة تلين راحتها كأنها الدعة، وتصلب شكيمتها كأنها العناد، وتقلع على الأذى كأنها العاصفة، كل ذلك على كف يمسح وعلی زند يدفع، فإذا الجهاد جهاد يبشر على اقتناع وجهاد يدافع بغير هوادة، وإذا البطولات تشرع يسوقها الإيمان إلى نصر أكيد.
ص: 106
إن السهم الذي انزلق عن قوسه لم يعد ملكا للكنانة.
ذلك كان شأن الرسالة .. فهي ما كادت تدور في خلد الناس حتى تخاطفوها كحق من حقوقهم، وهي لهم على كل حال.
ولقد استوعبوها بقدرها ما كانت حاجتهم إليها، ولقد كانوا بأمس الحاجة إلى كل ما يحرر نفوسهم وجسومهم، على السواء من عبودية طال حكمها وتكاثف ظلها.
فهي إذ كانت في البدء شعورا ينساب حثيثا إلى الخواطر، إذا هي تصبح حاجة تنساق إلها الخواطر.
وبينا كانت في أول عهدها تستظل الملاجئ والمخابئ ،إذا هي تنقلب إلى کنف يلجأ إليه المستظلون.
وإذ كانت تسير في طورها الأول بين مكة والمدينة وكأنها تحبو، إذا بها تعدو دون أن تتمكن من صدها الحصون، ولن تتوقف على تخومالحجاز، ولن تثنيها خطوط الصحاري.
وليس العراق وحده بانتظار، ولا الشام وحدها تومي .. فمصر، على أبواب افريقيا، راحت تجهز ركائز الأذن، وفارس على مفاسح الشرق أخذت تسهل اجتياز المعابر.
لقد انقلب الإنكماش الى انفتاح وانسياق، وتبدل الدفاع الى تبشيرفانذار، ثم إلى هجوم مركز.
ص: 107
من هنا، إن الحاجة اصبحت ملحة إلى تنظيم عاقل يستمر بدفع العجلة علی دواليبها السلمية
إن ذلك لم يسبقه كثير من الاستعداد، لأن النجاح الذي تأمن بهذه السرعة لم يكن الى هذه الدرجة بالتوقع.
ثم أن المفاجأة الكبرى بدورها كانت أشد المفاجآت.
فصاحب الرسالة نفسه جلا عن الساحة، إذ راح يعرض ربه رصيد حسابه علی الارض ،دون ان یسبق ذلک ای انذر.
وفوق ذلك، فإن الرسالة لا يزال عودها طريا ولم تتمرس بها النفوس على كفاية، وهي مهددة بردات كثيرة كردة أحد والرجعة، لا تزال تستنجد باقطاب قریش، أولئك الذين استنزلوا عن أرائكم على تحد.
وهناك (مناة) و (العزي) و (هبل) لا تزال تتململ في رغام حطامها تحت ستائر الكعبة.
والرسالة عينها لم تزل بعد في اطارها القشيب،(1) فهي لا تزال مع الصحابةأحاديث مبعثرة، لم يجمعها تنسيق ولا تبويب .. مع كل ذلك، فهي والأهواء.
في هذا الوقت عينه، كانت الرسالة الفتية، تتلمس طريقها لتستأنف سیرها نحو أهدافها البعيدة.
ص: 108
عفوك يا ابن أبي طالب !.. فأنت من الرسالة كقطب الرحی.(1)
ان الدروب التي مشيتها برفقة الرسول صلی الله علیه وآله تشهد بثقل خطاك .. بضع سنين وريما مشاها وحده وأنت إلى جنبه، فيما عداها في وحدة العيش وفي وحدة المصير، في وحدة النهج وفي وحدة التفكير.
فأية اعتلاجة من اعتلاجات روحه لم يكن من نفسك فيها اعتلاجة يا رفيق الدرب والعمر والجهاد، بكل ما في الدرب من وعورات، وبكل ما في العمر من أوصاب، وبكل ما في الجهاد من أثقال؟
ويا حبيبا تنزل في شغاف حبيبه كما تنزل البلغة على الأوار.. ويا شاطرة تناول شطره في كل المهمات والملمات.
فإذا ما نمت في فراشه (2)فأي فرق كان ما بين ثوبك وبرده؟ .. فهل تكون وحدة الروح أضيق فسحة من بادرة الفداء.
ولا غرویا حبیب الرسول، فأنت في نظره كقضيب من النور أخذ بفلقتين، هو فلقة منها وأنت الثانية .. وكنت في رأيه بوابة العلم إذ يكون هو مدينته،(3) وأنت زوج ابنته وفلذة كبده فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين مع
ص: 109
مریم بنت عمران، وأنت منه كما يكون القلب من الجسد وكما تكون العين من الحدقة.
أي فکر ساوره ولم تسقط عليك ديمه؟ .. رأيه عزم عزمه ولم يمر على زنديك ثقله؟ .. وأي سيف سله ولم يكن على مسنك شحذه ؟ .. حتى روحه الكريمة ما أحب أن يقدمها إلا على راحتيك وهو يطرحها على أحضان ریه. (1)
هكذا نعمت بالرفقة على طول السماح، وهكذا صدمت بالفرقة على ألم البراح.
فتهيأ، فإن الرسالة التي ترعرعت في ظل قبلك وغرفت من فيض حجاك ستظل ترتبط بمحامل سيفك نياط مفاوزها، لأنك لها غذ تغور بها الرحاب.
ص: 110
التحضیر
كيف كانت تهجع تلك الحمم التي تفور من هذه الكوة الضيقة التي يتنفس بها هذا الجبل الصامد؟.. أمن تلك الومضات الخفيفة التي ولدها الاحتكاك قفزت تتوانب في القضاء كأنها سيول السعير؟
ذلك كان شأن علي بن أبي طالب، إذ كانت تهجع في اعماقه كوامن اللهب.
غير أن الرسالة التي أنكب عليها بزخمه والتي انسكبت بزخمها فيه، كانت الومضة الوحيدة في تفجير كوامن طاقاته، كما كانت الشحنة الكبيرة التي أفرغت على هذه الطاقات وقودها.
أقول الرسالة بكلمة .. ولكنها كلمة أطول من حروفها .. فهي بطول قوس يرتكز حد منها على الأرض بينما يهيم حدها الآخر ما وراء الحدود والمحسوس .. فهي الرباط الذي يصل الدنيا والآخرة ، الإنسان بيومه بالإنسان بغده.
وأي إنسان ليس له يومان، يوم إقامة ويوم رحيل؟ .. والأول موصل إلى الثاني، والموصل حائل، والمستقبل باق بقاء الوجود ، فإذا كان الأمر كذلك، وجب توفير الاهتمام باليوم الأول، لأنه عتبة اليوم الثاني، ولأن الشحنة التي تحضر هي التي بها يعبر.
أما ذلك اليوم، فمهما يكن لونه ومهما يعتوره من إبهام في الوصف والتحديد، فهو آت ما من مناص.
ص: 111
أما العدة التي تهيأ له، فأنه من اللازم تهيأ، إذ تكون عند ذلك موفورة أما الاستقباله واما للتمكن من فك أزاره.
والإنسان بيومه الحاضر وبيومه المقبل هو ابن الحياة البكر، وفيه ينحصر تراثها ... وهو وحده المكنة النامية التي تتمكن من تحقيق التطور، وهو وحده القوة العاقلة التي يتسنى لها الإفادة من مقدرات الوجود، وهو وحدة الطاقة المدركة التي بها تحل الأحاجي وتفك الرموز .. وهو، بالتالي نواة المجتمع الذي هو اطاره الأكبر، وسياجه الأمنع، وتحقيقه الأصدق.
وإذا كان الإنسان هو ابن الوجود البكر، ففي حضن هذا الوجود يدور وليس في غيره يخور .. البداية منه، وفيه التلاشي .. الكيفية وحدها هي التي تخفي، وليست لا بالعقل تدرك.
وليس ايهام الكيفية ، على كل حال، يمنع حصول ما يتم .. فهم رغم كل ذلك يحصل تحت الإدراك وتحت النظر .. حتمية لا تمنعها (كيف)، ولا تغيرها لماذا)، ولا تؤخرها (متی)، ولا تجعلها (إلى أين) .. ورضوخ يزيد جماله الإيمان من دون أن يقلل أهميته الشك.
بهذا الإيمان راح ابن ابي طالب يحضر شحناته وشحنات الناس في سبيل العبور من يوم بهي الى يوم خالد البهاء، وبهذه الإيجابية أخذ يحضر العدة لبناء مجتمع فاضل يتمن بالإنسان ويتمن الإنسان فيه بالفضائل۔
ص: 112
وجلوة النفس، في أي موقد تجمع وقودها؟
هل في الألم وحده تحصل الجلوة؟
وما قيمة الحب؟ .. وأي تأثير للحرمان عليه؟
وقد تكون أسئلة .. ولكن الجواب يكون كالانصهار، لأن الألم الذي تتلقى الى نفي على نار غطاه يستعير من الحب ضلوعه ومن الحرمان اکسیره . أقول (ضلوعه) کي اكسب الكلمة مالها من جمال، وأقول (اکسیره) کي ارشف هذا الجمال من حلاوته.
فللألم قساوة ومرارة ربما لا تجد النفس في غيرهما ما يستحيلان فيها الى جمال وحلاوة، ولكنه جمال مصهور وحلاوة مطبوخة، تقدمهما النفس للعقل طيقا يغطي منه بعض جوعه.
هذا النوع من الألم زار عليا بن ابي طالب فاکسب نفسه ذلك النوع من الجمال، وانعكست حلاوته على لسانه بذلك العذب من الكلام .. وكان الموت وحداه ذلك المنهل .. جاء على الحب بالحرمان.
وبين يديه، في حضنه، وتحت عينيه، انطفأت شعلة الحياة من قلب الرسول، انكفأت عن عينيه تلك اللمع، وتراخت يداه عن كفيهما، ولف جسده ببرودة الموت.
ص: 113
كيف يسكت قلب نبضت فيه قلوب الناس وانصتت الى نبضاته آذان الملائك؟ .. وكيف ينكفئ النور عن عينين قد استعار النور منهما بهاءه؟. وكيف ترتخي يدان قد انبسطت على كفيهما أوقار الأرض وأفراح السماء؟ وكيف يلف الصقيع جسدا كان يحمل للدنيا بردا وسلاما؟
ولكنها الحقيقة..
يعود ابن ابي طالب من ذهوله ليصدقها، فهي تحت ناظريه في برودة الموت، تسلخ عنه أحب الناس إليه، إذكاهم، اروعهم، أمثلهم .. لقد هرب من بين يديه، في غفوة الأبد، الأمل الوطيد والرأي السديد، وتوقف مع رهبة الصمت القلب الحبيب والحب الخصيب.
یا رسول الله ! ترى هل هي النهاية القصي؟ .. ام (هل) هي البداية البهية؟..
والرسالة؟.. اتراها انكفأت بانکفائك الى غار حراء؟
وساحات الجهاد؟ این (بدر) .. اين (أحد) .. أين (خيبر) أتراها الآن قد المحقت من أرض الجزيرة؟
و(مناة) و (العزي) و (هبل) .. أتراها تلملمت من جديد من حطامها التقهقه الآن قهقهة الشماتة؟
وفراشك هذا الذي استبدلت فيه، ألهذه الفترة القصيرة خدمت نزعة الفداء ؟
وربما لا ينتهي الألم، يحز في نفي ابن ابي طالب وهو أمام الجسد المسجیعلى رهبة الصمت .. وريما لا تنتهي مناجاة هذا الكبير لهذا الراقد الأكبر .. ولكنه سوف يختم قلبه على هذا الألم بختم الراضخ المؤمن.
ص: 114
وسوف يطبق عينيه هاتين ليفتح عينيه الآخرين اللتين لا ترف أهدابها أمام الموت، واللتين لا تريان القريب إلا في قصيه، واللتين تبصران أن الموت القصير هو فكاك الأسير والشأو(1)والمنير
ص: 115
غير ان الجرح الذي استختم بالصبر والإيمان عاد عليه موت فاطمة لينكأه على حنان.
وتفتق الجرح لينزف نزفا جديدا ومن لون جديد، هو لون الأرض بلحمها ودمها .. للأرض لون كلون الأساور والخلاخل، حلى يتثاقل بها الجمال، ويتكاثف بها الدلال.
والأرض وأن يكن لونها من لون القيود، فإن الإنسان يأتسر بها فيألفها كما يألف الجرح ضماده، ويهواها كما يهوى الكسيح عكازه، ولا يتبرم منها إلا كما يتبرم الصديان من السراب.
وكانت فاطمة من علي دفئا لقلبه ورباطا لدنياه، وما أن فصلها الوت حتى احس بعمق الفراغ وبرودة المتكأ، وإذا هوواقع الحياة على مجابهة .. جرح وضماد، وكسح وعكاز، وصدى وسراب .. وابن هو المنهل؟!.
ويلقي جرحه بفاطمة على جرحه بأبيها،(1) ويغمض عينيه على دمعتهما، ثم يستسلم للبصيرة فيقول : تخففوا تلحقوا.
ص: 116
إذا كان للألم في النفوس فعل المشحذة في المقاطع، فللصدمات كذلك عليها فعل الوقود تحت المراجل.
وليس كل النفوس على السواء تفعل فيها الصدمات فعل الإثارة ، فالضعيفة منها تقع مع التثبيط تحت الكلل، أما تلك التي تعلو بها مراتب النضوج إلى مستوى العقل والقيم فهي التي تتقبل الصدمات على صمود لتجعلها بقيمة المدد .
لم تكن نفسية ابن أبي طالب من هذا النوع وحسب، بل كانت من الطرازالفريد الذي كان يعتبر الصدمات حوافز في معابر الحياة.
فالصدمات التي كان يتقبلها سحابة عمره لم يكن ليقابلها بذلك التحسب الحريص الذي يتحسب به أهل الدنيا تجاه الملمات، وما ذلك إلا إنه كان يرى الدنيا بمنظار هؤلاء .. فهي وسيلة لديه، بينما هي عند الآخرين غاية بحد نفسها.
وما أبعد الفرق بين الوسيلة والغاية..
فالوسيلة أداة تصغر قيمتها حتما بالنسبة لقيمة ما تؤدي اليه، والغاية هي دائما أبعد.
بهذا الواقع النفسي المبني على عقيدة واضحة المرامي، عالج الدنيا، كل الدنيا ، بصدماتها ومآسيها .. وقد افاد منها، ولكنها أفادة من وزنه ومن لونه.
ولقد أعد نفسه تمام الإعداد لتقبل الصدمات رياضة تتروض بها نفسه.
فالموت، حتى الذي تذوق طعمه بفقدان الرسول ثم بفقدان فاطمة تمكنبسرعة من هظم صدماته وتحويلها الى معناها الجميل .. ذلك المعنى الذي اعلنت
ص: 117
نفسها فيه الرسالة من حيث تلبسه كل حياته، وعكسه بجلاء في كل أقواله واعماله.
ومن هنا كان زهده وتقواه، لا بل مصدر دفاعه عن القيم بتلك البطولة الفذة.
وليست الأحداث التي مرت بعد رجيل النبي عن دنياه سحابة ربع قرن إلا مصداقا لمتانة صموده أمام الصدمات، دون أن توهن من عزمه أو تلين من صلابة معتقده، حتى ولا الأحداث التي سبقت هذه الحقبة من الزمن كانت اخف تأثيرا عليه، رغما عن كونها مرت وهو في يفعه لما يختزن بعد من تجاريب الأيام ووطأة العمر صفوة الحكمة وجلال المعرفة، وأنه لمن لذة السرد ان يلمح إلى هذه الأحداث بمواقعها، التي (1)هي بوزن الصدمات ، حتى يجئ السرد مصداقا لهالة الموضوع.
ص: 118
لقد كان بحد ذاته من أهم الصدمات التي اصطدم بها ليس على الفتي وحده ، بل الجزيرة برمتها، بل العالم في شرقه وفي غربه.
فهو دين جمعت إليه قيم التوحيد على ضوء العقل الذي تمكن من هضم الوحي وبسطه على كف الحاجة إليه .. وقدم الجزيرة، فاستقبله باللامبالاة.
ومنى كان ابن الجزيرة يعير كثيرا من الأبه لدينه؟
ولا عجب في ذلك، فإن بضعة أحجار منحوتة بشكل لم يمسسها العقل فيه بفنه ولا الروح بشفافيتها، لم تتمكن، ولا بحال من الأحوال، ان ترخی فعلى من حولها وجبة خضوع أو احترام.
وليس ذلك بدليل على أن البادية لا تحب أن يكون لها دين، بل ان ذلك، بالأحرى، دليل على ان دينا عاقلا لم يشغل بعد عقل البادية .. حتى كان الدين الجديد، فإذا به عقل يوقظ العقل من سباته الطويل، وتتقبله الناس بعد ذهول.
وكانت الصدمة عليهم من نوع وهلة الموقظ على غفلة .. فهو مستحضرمن نوم، ومستحث على قلة استعداد
في هذا الوقت كان ابن ابي طالب أول من يوسع عقله لاقتبال الدعوة الكبيرة، واستوعبهاعلى فهم واقتناع، ولم تشكل لديه صدمة كما شكلت عند غيره، بل أخذها من واقع الحياة عدة للحياة .. لذلك دافع عنها، ومن أجلها نام في فراش ابن عمه في أول بادرة قدمها کشهادة الاقتناعه المفعم بحقيقتهافحسبت البادرة عليه بمستوى التضحية وسر الفداء، وفي سبيلها قطع
ص: 119
الجزيرة على طول فيافيها ليحقق الفخر لقافلة المهاجرين، وللذود عنها اقتحم المعارك تلو المعارك (1)بتلك الشجاعة النادرة التي وضعته في مصاف الأبطال النادرین.
ص: 120
وجاءت معركة أحد طامعة بخنق الوليد الجديد .. فإذا الردة فيها تبرزبرأس ثعلب وقلب ارنب .. تتلوى على نفسها كأنها أفعی.
إنها صدمة العقل بجهالته، وصدمة القلب بضعف إيمانه، وصدمة الوعي بقصر بصيرته.
واي عزم يفقد هذه المقومات يبقى لديه بارقة من شجاعة أو نزوة من إرادة؟
وهكذا كان .. فإن إشاعة مقتل النبي في أحد نفثت سمها، فانقلبت شجاعة الضعفاء من أهل الصحابة الى وهن وانسحاب، من حيث تضاعفت شجاعة المؤمنين فاستحالت إلى بطولة .. ذلك هو تأثير الصدمات في النفوس العزومة.
اما ابن ابي طالب، فقد اقتنص الصدمة في يوم أحد ليحولها الى ذلك الهتاف المدوي :
لا سيف إلا ذو الفقار*** لا فتى الا علي
تلك الردة بالذات وان تكن تحمل في قلبها عجوفها كما يحمل الصدور جرثومة دائه ، فإنها في كل حين تتثاقل على هزائمها لتخوض بها معارك جانبية ببطولات تدعيها، ولكنها تلبث دائما بطولات معكوسة يلعنها التاريخ فيما يسجلها عليها في باب التهديم والتخريب.
ص: 121
ذلك النوع من الردات عاش أحدا وعاش فيما بعد أحد، وكثيرا من عانی صدماته ابن ابي طالب على طول خط جهاده، وكان دائما يقابلها بنفس المصدر وعين المستوى.
وتوالت المعارك بعد أحد .. كل معركة تشتد ضراوتها عن الأخرى بنسبة ما كان يشتد توطيد قد الرسالة على أيدي المهاجرين والأنصار.
وكانت دائما فيها الصدمات تتحول الى غنائم، لأن مفهوم الرسالة كان قد غدا أكثر وضوحا عند المدافعين والمجاهدين
ويكفي أحدا نصر يقدمه أنس بن النضر،(1) وان كان محمد قد قتل بإن رب محمد لم يقتل!
وهكذا اخذ الجهاد ينتقل من ماديته إلى روحانيته ، من قتال يطمع في سبية إلى جهاد يطمع الى تحرير سبية ، من نضال يستنزل الجنة في على الأرض إلى نضال يرفع الأرض إلى الجنة، ومن دفاع عن محمد بلا رب إلى دفاع عن محمد له رب السموات والأرض.
ولقد حققت هذه الروحة بطولة ابي دجانة الأنصاري، إذ لما أراد الرسول ان يحله من بيعته بعد هزيمة الناس في احد بکی بين يديه وقال : والله ! إلى این انصرف؟ إلى زوجة تموت أو ولد يفوت أو دار تخرب أو مال ينفي أو أجل قدا .
ص: 122
اقترب .. ويبقى وعليا جناحين على المعركة حتى قتل، وقد تحقق له الانتصار).(1)
ص: 123
*وقعة الخندق(1)
ولم تكن وقعة الخندق إلا من تلك الوقعات التي تألب فيها الشرك مجمعا من كل شتیت.
فقد توحدت احزابه على اختلاف نزعاتها، وتوحدت لمجابهة الخطر المداهم، والخطر كان من نوع العاصفة التي كانت تهب على جدران متداعية، ولكن السنين الخمس التي مرت على الرسالة لم تكن إلا لتهزأ بالعدد المجمع على غير توازن، وبالقوة المعبأة على غير تلاحم .. وإن القوة التي تجلت على زندي عمرو بن عبدود لم تكن من وزن البطولة التي كان يعتمر بها صدر ابن ابي طالب.
لذلك كانت الغلبة في وقعة الخندق للقوة المتصلبة بالحق المبين، وكانت الهزيمة للقوة المنتفخة بالكفر المزندق.
وليست القاعدة لتخطأ .. فإن الذي دافع عن حق واقتناع هو دائما في صف المنتصرين .. ولا فرق إذ ذاك أن يكون النصر لديه بضربة السيف أو بقرعة اللسان، والنصر لن يكون إلا في نهاية الميدان.
وبهذه القوة المتصلبة تم فتح مكة وثقيف وهوازن بسلسلة من المعارك أخذتفيما بعد تتضاءل الواحدة منها عن الأخرى ، لأن المقاومة بعد هذه المدة
ص: 124
من الزمن صبح لها شأن معکوس عن الشأن الذي كان لها في المبتدأ حتى الردة، فإنها انكمشت وأحضى مفعولها متسترا في قرارة بعض النفوس بدلا من ان يكون على السواعد والأبدان.
والردة، بحد ذاتها، ليس لها مفعول النضال على ايمان، لأنها فاقدة الإيمان .. وهي وان تفعل فإن فعلها لا يكون إلا كخبط عشواء دون هداية ، لأنها دون أهداف .. حتى وأن يكن لها بعض الأهداف، فهي حقيرة وقصيرة ، سريعا ما تذوب مع الزمن
هذا ايجاز لأهم ما برد من أحداث منذ طرحت الرسالة كدعوة على الرأي العام حتی جلاء صاحب الدعوة عن الميدان.
حقبة ليست بالطويلة إذا ما قيست بالزمن، ولكنها كانت أبعد بكثير منالفسحة التي انفتحت عليها، ولقد فعلت كما تفعل الشرارة في قلب البراكين .
أما أن نقول أن فعلها هذا كان في كل النفوس على السواء، فذلك ما لم يكن على الإطلاق.
فالتفاوت موجود وان يكن الشبه قريبا .. الشبه وحده يجمع جنس البشر بكل ما تجمع به الاشباه .. فهو الشبه الواحد المشترك كالعين واليد، فلكل إنسان عينان ويدان، وغير أن العين عند أي إنسان تحمل من الميزان المتفرقة عن عين أي انسان آخر ما لا يتمكن حتى التصوير من حصرهاوتعدادها.
أحرى بذلك النفوس وما تنطوي عليه عوالمها من مذاهب واهواء تتفرع بها إلى نواح، ومنها ما يضبطها المحسوس، ومنها ما يجنح بها إلى ما ورائه في شتى التيارات، على تباین قواها ودوافعها ومسانيدها، وتحكم العقل بها أو
ص: 125
ضياعها عن ضوابطه .. إلى آخر ما يمكن أن يجعل ازالة الفوارق بين إنسان وإنسان في حكم المستحيل؟
غير ان ذلك لا يمنع کون خطيئة التيارات الفكرية التي وحدها التي تقدم البونقة التي تنصهر فيها مذاهب الناس لتتقارب فوارقها وتنسجم مناهجها وتستقيم بوادرها في سبيل وحدة التفكير وجمع القوى لما هو خير المجتمعات الإنسانية.
والتيارات الفكرية هذه تجترح الاعجوبة بقدر ما تحمل في قلبها من قيم تتناسب مع حاجة الإنسان.
ويقدر ما تقدم له من صحة هذه القيم، بقدر ذلك يكنها أن ترافقه في حياته .. اما من يوم الى يوم، أو من جيل إلى أجيال.
على هذا المجال الطويل رافق الإنسان رسالة الإسلام .. رافقها منذ ذلك اليوم، ولا يزال يرافقها حتى الساعة، لانها اخصبت حاجاته من قبل كما اخصبتها من بعد.
هذه النظرة في القيم هي تلك التي فعلت في كل كيان ابن ابي طالب ، فإذا يوما من أيامها، ولم يقعده عن الظهور عليها لا ملل ولا كلل .. حتى الرمد(1) فإنه ازيل عن عينيه على طريقة الأعاجيب كي لا يحسب عليه تنقیص خوضة من خیاض الغمار.
ص: 126
كل ذلك لأخلص الى القول: أن علي ان ابي طالب عاش الرسالة منذ أن فهمها، وتقبل كل الصدمات التي اعترضت سبيلها تقبل المؤمن الصامد .. فإذا به في نهاية الأحداث عند موت النبي ، قطب من اقطابها يشار إليه بالبنان.
وبعد موت الرسول ..
وديعة تسترد ووديعة تترك أمانة .. والأمانة هذه هي تلك التي ولدت في الأمس فتشردت، ثم لم تلبث أن استجمعت من تشريدها فصارت تلك الانفتاحية المنساقة.
وليس قليلا منا كلفها بلوغ هذا المستوى، فلقد تدرج الجهاد في سبيلها بدماء اسقيها على شديد من الظمأ.
ثم أنها، بهذا الاستطراد الذي كان لها في نموها، أخذت تتطاول بعنقها الى ما بعد آفاق الجزيرة
(1).. ولم يعد شأنها كما كان في الأمس، فلقد اضحت من الوزن الجليل اثقل من الكواهل، وأطول من العمر، وأبعد من المكان.
وها هي اليوم تترك حضن صاحبها لتستلقي على اكتاف الذين ترعرعوا في حضنها.(2)
إنها المسؤولية بكل مداها .. وليس المدي إلا بالغ الأهمية ..
فالقضية المطروحة بلغت مستوى يتناول الإنسان فيه حياته وفي مصيره، في حياته مفرد، وفي حياته كمجتمع، وفي مصيره كعابر من فناء الى بقاء، فهي إذا
ص: 127
تتناول الحياة في كل نواحيها الفلسفية ، اجتماعية كانت أم دينية .. ترتبط هذه بتلك كما ترتبط الروح بالجسد.
فمن هو الذي يتمكن من تحمل المسؤولية، وملءالمركز الخالي، واستلام الحكم، وتوجيه الدفة في السفينة التي نشرت اشرعتها وأخذت تسير في عرض اليم؟
ليس من الأهمية بمكان أن يورد في هذا الصدد كل الجدل الذي قام في ذلك الحين بين المهاجرين والأنصار في أي منهم هو الأحق بالخلافة، فإن ذاك كان من نوع الصميميات، وكانت تمليه حالات معينة بالنسبة للمجتمع والعصر وبالنسبة للرسالة..
غيران الذي حصل ثبت هذا الحق للمهاجرين في الدرجة الأولى كجزاء مباشر لما قاسوه، وهم أول من قاسي في سبيل دعم الرسالة والذود عنها بأرواحهم وأجسادهم.
وكانت الخلافة الأولى من نصيب (أبي بكر الصدیق) بالحجة نفسها التي أخذ بها المهاجرون والأنصار.
أخذ ابن أبي طالب رفقاءه المهاجرين .. فهو أولهم إيمانا بالرسالة ،وأبلغهم نصرة لها، وأشدهم قربي لصاحبها، واعمقهم فهما لمضامينها.(1)
ص: 128
ولربما كان أبو عبيدة بن الجراح أشد حرصا على مستقبل علي من علي على نفسه، إذ أجابه عن احتجاجه : انك حديث السن، وهؤلاء هم کهولها، فاتركهم لها مع تجاربهم .. وان تعش ويطل بك البقاء فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق !!
وتقبل ابن ابي طالب الصدمة، وانكفأ بها إنكفاء الكريم على الأذية.
ولم يثرها اثارة الضغن كما اثارها سعد بن عبادة،(1) بل راح يجمع القرآن، يفتق منه على نفسه فتيق بيانه.
كما ان موت فاطمة في هذا الوقت جاء عليه بصدمة ثانية فتحت في نفسه كوة السماح.
قال في خطبته (الشقشقية )(2) : (فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجی).
ان السبب نفسه جعل الخلافة تنتقل بعد موت الخليفة الأول، عابرة عنه، إلى (عمر بن الخطاب)، كهل آخر من کهول الصحابة).(3)
ص: 129
ورضخ ابن ابي طالب للواقع الجديد، وتناول الصدمة الجديدة بإيجابية المؤمن الراسخ، وراح يعاون الخليفة في كل ما كان يشكل عليه من حلول(1).. معاوية الحريص على مستقبل رسالة هي جزء من قلبه كما هي جزء من دماغه.
عشر سنوات مرت علی ابن الخطاب ختمتها ضربة سيف من يد ابي لؤلؤة.(2)
ص: 130
وجاء دور الخليفة الثالث (عثمان بن عفان)، فكانت الصدمة فيه على ابن ابي طالب أشدالصدمات واعنفها،(1) لتكون فيما بعد أبهاها على بلورة شخصيته واكتمال نضجها.(2)
ص: 131
لو كنت تدري، يا سيدي، ان للقرن العشرين حقا بمحاسبة هفوة مر عليه اربعة عشر قرنا لكنت في ذلك الوقت اشد تدقيقا باختيارك الرجل الذي يفضل ان تلقي على كتفه مقاليد الحكم بتناول الأرض والسماء على السواء!
إن ذلك كان يتطلب منك كثيرا من اليقضة وبعد النظر.
حتى لا مجلس الشورى السداسي الذي انتدبك للمهمة كان اقل منك تحملا للمسؤوليات تجاه المعاضل.
فالقضية التي كانت مطروحة بين يديك لم تكن لشخصك ومجلس الشورى بأكثر ما هي لا تزال تخص عصرنا الحاضر.
فالرسالة بالذات التي كانت أطروحة النبي لبني قومه، خرجت من نطاقه الجليل ومن نطاق الجزيرة لتصبح ملك الناس على اختلاف بيئاتهم وتعداد أجيالهم.
لهذا، كان عليك واجب التحفظ في الانتخاب حتى لا تتعرض الرسالة في مهدها لهفوات انتكاسية قد تعرقل سيرها في زحفها الصاعد.
فإذا ما ربطت المصير بسؤال عابر وجواب خفيف، فأي شيء تكون قد تعمقت فيه وقطعت عنه سوء أسبابه ومغبة مصيره؟
ولنحصر التهمة ..
لقد ألقى عليك التكليف، یا ابن عوف، لاستمزاج الآراء وتقديم بيعة الخلافة للأنسب أن لم نقل للاحق والأفضل.
ص: 132
فلم تستمزج ابن ابي طالب رأيه إلا بشرط ولم تستمزج ابن عفان رأيه إلا بشرط؟
والشرط هنا والشرط هناك كان شرطا هزيلا،(1) ولم يكن ليصلح أساسا للقضية المطروح من أجلها.
فإنك، قبل كل شيء، كنت تعرف الاثنين حق المعرفة .. فهنا رفيقان في جهاد طويل، لم يغب عنك فضل هذا ولا فضل ذاك..وانك ما كنت تجهل أنه ما تجمعها الرسالة فقط يفرق بينهما مقدار فهمها، وأما تربطهما بها بطولة الجهاد فقد يكون واحد منها مجليا عن الآخر في مضمارها .. وأما تشدهما إليها همة قعساء فقد يفوق واحد منهما على الآخر بما كان له من انتاج.
وهكذا كان بإمكانك أن ترى بين سيدين كريمين في ايهما يمكنه لعزمه واقدامه أو لفوته وبعد نظره .. أو بالنسبة لقدرة مع ضعف همة على شيخوخة ، وقدرة على مضاء عزم على فتوة.
كل ذلك كان من الواجب اعتباره قبل ان تطرح السؤال الضعيف: (أبا يعك يا علي شرط أن لا تجعل أحدا من بني هاشم على رقاب الناس) ! !.(2)
(أبايعك يا عثمان شرط ان لا تجعل أحدا من بني امية على رقاب الناس).
ومن البديهي أن ندرك أن عثمان بن عفان خلعت عليه الخلافة لأنه رضي بالشرط، ومن البديهي ايضا ان يحصل ان عليا بن ابي طالب لم تصل الخلافة اليه لأنه رفض الشرط.
ص: 133
فالذي وصل قبل المساومة، والذي خاب رفض المساومة .. وبين القبول والرفض ترجح كفة الميزان.
ثم لك إنك نزلت شرطك هذا يا سيدي في دستور الدولة منزلة التنفيذ.
ولكن عثمان بن عفان قد استهان بشرطك، ولم يشعر بأنه كفر، لا بك ولا بدينه، لأن شرطك لم يكن من الدين في لزومياته .. وها هو يطيب له أن يحشر بين اركانه كل أصلاب بني أمية.
ولم يكن ذلك ليضيره لو لم يضره هؤلاء بخروجهم عن النهج الحكيم ولم يضيروه وحده، بل ضاروا الرسالة التي لا تزال في طور الطفولة.
أما ذلك الذي لم يرض بالمساومة، فإنه كان يتمنى عليك ان تتجنب شرطة لا لزوم له وان تؤمن به أنه خلیق بوضع الأمور في مواضعها، وأن الذي عليه ان يكون مؤتمنا على بيت يؤتمن ضمنا على قصعة موجودة بين أثاثه.
ان الشرط، بحد ذاته، هزيل يا بن عوف .. لو لم تختبئ خلفه نية مبيتة .. والنية المبيتة كان لها أسوأ النتائج.
ص: 134
ان فسحة العشرين عاما التي على علي بن ابي طالب، منذ سنوات الرسول حتى تسلمه الخلافة، لم تكن بالفسحة البسيطة، لا بطول مداها ولا بقيمة الأحداث التي مرت عليها.
وهي وان تكن تعتبر فراغا بالنسبة لعدم تحمله فيها أية مسؤولية إدارية، فإنها بالحقيقة كانت فراغا يمتلأ.
وليس يفهم من كلمة (فراغ) أن ابن ابي طالب في هذا الوقت الطويل عن الساحة، بل العكس، كان فيها ملء السمع والبصر .. غير أنه كان يحتل فيها برج المراقبة.
فالرسالة التي اغمض عينيه سيدها العظيم عن رعايتها تناولها أبو بكروعمر وهي على شيء من التوجيه والتركيز، وها هي الدولة بدأت تشق طريقها الشائك بين ادغال التقاليد والعادات ، وبدأت تنبت نبتا طريا يتطلب كثيرا من العناية والانتباه.
ولقد فاضت قوة الدولة بعد ان تلهت قليلا بقمع ثورات الردة التي شاغبها بها بعض القبائل في اليمن واليمامة وعمان، وهاهي تنصرف الى الفتوحات يمينا وشمالا.
فمن جهة أولی، انكشف العراق ، ونهبت المدائن بما فيها كنوز القصرالأبيض.
ص: 135
وتربع سعد بن أبي وقاص على ايوان كسرى، ثم طاعت للعرب بلاد فارس، وراحوا يدقون قضاتهم على أبواب الهند.
ومن جهة ثانية، كانت الشام تفتح أبوابها لعمر بن العاص وخالد بن الوليد ومعاوية بن أبي سفيان وأبي عبيدة بن الجراح من حيث هزم (هرقل) وقال وهو يرحل وداع المشهور: (عليك يا سوريا السلام ونعم البلد أنت للعدو !).
ومن جهة ثانية، كانت مصر، بقيادة عمرو بن العاص والزبير بن العوام تفتح الطريق أمام الفاتحين .. من حيث قبل المقوقس) بدفع الجزية على يد الأسود عبادة بن الصامت .. وبذلك تكون قد انكشفت الطريق إلى افريقيا كلها.
كل هذه الفتوحات قد تحققت على يد ابي بكر، ثم على يدي عمر بن الخطاب.(1)
وتدفقت على الدولة كنوز وخیرات لم يحقق مثلها من قبل أي يوم من تاريخ الجزيرة.ولم تعرف فيما مضى غزوة أبلغ وأسخي من هذا الغزو المفتوح الممتد على طول الجبهات من الشرق ومن الغرب ومن الجنوب على السواء .. كأن النعيم فتح شئابيب الكوثر، فتدفقت مجارفة تغمر الجزيرة غمرا معسولا.
ص: 136
وفيما كان أبو بكر وعمر بن الخطاب يقضمان الدنيا على زهد بها، تاركين الفتح يجتاح الشرق والغرب على فرس جموح مرخية اللجام، كان سعد بن أبي وقاص يتربع على ايوان كسرى ليبني على مشكله قصره في الكوفة، ويجمع اليه كل كنوزه.
وكان القواد يتلهون بالغنائم والسبايا، وكان الزبير بن العوام يملك الف عبد وألف أمة.
في هذا الوقت من توسع الدولة، كان ابن ابي طالب مرابطا في برجه الكبير، يحصر مشاهداته، ويجمعها الى بساطه، ويتساءل : هل من أجل كل هذا طرحت الرسالة؟
ألم يقل الله تعالى : (۞ لَّیْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَکُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَکِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِکَةِ وَالْکِتَابِ وَالنَّبِیِّینَ وَآتَی الْمَالَ عَلَی حُبِّهِ ذَوِی الْقُرْبَی وَالْیَتَامَی وَالْمَسَاکِینَ وَابْنَ السَّبِیلِ وَالسَّائِلِینَ وَفِی الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَی الزَّکَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِینَ فِی الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِینَ الْبَأْسِ ۗ أُولَئِکَ الَّذِینَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَئِکَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ).(البقره/177)
والتوسع الذي حصل، والذي توصلت اليه الدولة، هل هو تحقيق للرسالة، أم (هل)(1)أنه لا يزال مطية للجاهلية ؟؟
والجاهلية التي جاءت الرسالة لدك معالمها، اتراها تناولت الرسالة لتعود فتنسكب فيها؟
واي تأثير كان للرسالة على (طي) و (أسد)؟
ص: 137
وما بال طليحة الكذاب(1) تنساق وراءه قبيلة غطفان ؟
وما شأن مسيلمة(2) وسجاح(3) من النبوة، ينجر وراءها بنو حنيفة في اليمامة وبنو تميم؟
وأية نبوة يدعيها الأسود العنسي (4)فتلبيه بها قبائل البحرين وحضرموت وعمان واليمن بالذات؟
ص: 138
وأن تكن سيوف المسلمين قد اخضعت هذه الردات المعكوسة وقادتها صاغرة الى الحضيرة، فكل كان ذلك النجاة بحيث يمكن القول أن تلك القبائل المرتدة أو المسترجعة من ردتها اصبحت مقنعة بصدق الرسالة؟
والفتح بعد حروب الردة ، الفتح عينه الذي فيض الجزيرة على حدودها، وفيض عليها حدود غيرها.. هل هو الفتح الأكيد والفتح الصحيح الذي تتوخاه الرسالة كما جاء في القرآن الكريم (لَا تَدْخُلُوا بُیُوتًا غَیْرَ بُیُوتِکُمْ حَتَّی تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَی أَهْلِهَا)(النور/27)، (إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِیتَاءِ ذِی الْقُرْبَی وَیَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنکَرِ وَالْبَغْیِ )(النحل/90)، (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِینَ )(الاعراف/199)، (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّیَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )(الاعراف/33)،(إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ )(الحجرات /13)..وكما يقول الرسول: (ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل عصبية) .. وكقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَی مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ )(التوبه /111)؟؟
تلك الآيات من الرسالة .. ولم تشر أية واحدة منها الى حق اقتناء العبيد بالألوف، أو الى حق اقتناص الثروات بالملايين أثر غزوة رابحة أو معركةدامية.ولم تبح استغلال الناس وانتهاك الحرمات والاستمتاع بالسبايا ..
إنما جاءت عكس ذلك .. لتخلص الإنسان من رقه، لا لتحرره ويسترق سواه .. ولتعيده الى حضن ربه حرا عزیزا، لا ليجعل من فکاکه قيودا للآخرين .. ولتحرره من مركبات ضعفه ومن سيطرة المادة عليه.
أكانت المادة جوعا يشغل بطنه عن عقله أم بشمايلهي عقله ببطنه؟
ص: 139
وجاءت توقظ العقل على مداه ولا الشهوات على مداها، وجاءت تمحو عصبيات القبائل لتجتمع في عصبية واحدة تعتز بها الجزيرة.
جاءت تبني الجزيرة .. تبنيها إنسانا سويا .. ثم مجتمعا سويا .. ثم انطلاقه سوية.
والجزيرة، حتى الآن، لم تبن .. إنها في نظر ابن ابي طالب في حاجة إلى بناء يتناول الأساس .. الإنسان أولا(1) .. الحاكم هو أول إنسان يجب ان يبني.
وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الموالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وأمانة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته .. ولا الجاهل فيضلهم بجهله .. ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف منها دون القاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة.
وليست المهمة بالأمر اليسير .. فإن تثقيف شعب لا يكون إلا بانعکاس طويل الأمد يعكسه حكامه وقواده عن طريق القدرة والتطبيق.
والجزيرة كانت بحاجة إلى مثل هذه المدرسة الواسعة بل أن تستنفر قواهاللقيام بحملات فتوحية تنقلها إلى ما وراء حدودها.
وحدودها كانت مكشوفة لما تحصن بعد .. ولقد جاءت الرسالة لتحصينها.
ص: 140
وليس التحصين هنا بالمعنى العسكري، بل المقصود أنها لم تحصن بعد بحصون العقل الناضج والفكر المولد .. وهذا هو الذي كان يجعل فراغ جاهليتها أوسع من رقعتها.
ولهذا، فإن الفتوحات التي قامت بها، كانت ترتد دائما عليها بالغلبة، ولم يسجل لها أي انتصار إلا الرسالة التي قدرت أن تقدمها على رأس حسامها.
فإذا ما توفر للجزيرة ذلك البناء الصحيح، فإنها من نفسها تفيض على ما حواليها بفتوحات تحقق النصر، بدون حاجة ال السيف، بل بقوة الفكر المشع بالحق والعدالة.
والرسالة لم يحقق لها السف تلك الغلبة بقدر ما حققها لها العقل الذي تحمله.
كل ذلك كان يراه ابن أبي طالب وهو في عزلته..
كان يرى قبائل (طي) و (اسد) و (غطفان) و (بني تميم) لا تزال تفعل فيهم الجاهلية فعلها الأول.
وكان يرى الخط الذي يمشي عليه بنو هاشم وبنو أمية كيف كانوا يتنازعون عليه للوصول إلى كرسي تختبئ تحته مفاخر الزعامات ومكاسبها.
وكان يرى الفتوحات تحقق غير أهدافها وتستثمر غیر یوانعها.
وكان يرى أن الجزيرة التي كانت لا تزال غافية حتى ليلة أمس ، هبت كما يهب النائم المذعور لتنعم بالاسلاب والغنائم على حساب الرسالة المنورة من حيث اصبح الجهاد في سبيل الغنائم أكثر مما هو في سبيل تحقيق الأهداف.
ص: 141
كل ذلك كان يراه ببصيرة المراقب، وكان يعد له العدة الواقية ليجعلها موضع التنفيذ إذ تنتهي إليه مقاليد الأمور.
أما تلك العدة، فإنها كانت تتحلى أكثر مما تتحلى بالصلابة التي لا يمكن ان تقبل بالمساومة.
هكذا كان شأنه عشية تلك الاستشارة التي تقدم منها بها عبد الرحمن ابن عوف، من حيث توصلت الخلافة الى عثمان بن عفان.
ص: 142
وهذا شيخ مسن، تصله بالخلافة نزعة قبلية.
على رسلك يا بن عوف !.. أردته شرطا، وأنه لكذلك؟
فلن يعاون عثمان بن عفان إلا النخبة التي طبختهم مبادئ الرسالة، وكلكلتهم مواطئ الأحداث، ووسع النضج عقولهم ونفوسهم، وطرحوا الدنيا كأنها احقر من نواة، وعملوا للآخرة كأنها لديهم نعم المثوى ونعم الملاب!
أما ذلك الذي أبعده الرسول لأنه كان يكتب لديه وشك بصدق وحيه، فإن عثمان ابن عفان لم يجد أصلح منه مساعدا له في الحكم، لذلك كان عبد الله ابن أبي سرح (1)واليا على مصر. وكذلك الوليد بن عقبة(2)، ذلك الآخر الذي استحق لعنة النبي، فإن الكوفة تنتظره لسد الفراغ فيها وضبط كل أمورها وأحوالها.
ص: 143
ومروان بن الحكم، (1)كان عنده انظف وأقدر من يمكنه استلام الديوان .. وللديوان أهمية كبرى، إذ عليه يتركز توجيه الدولة وتعيين سياساتها الداخلية والخارجية.
وهؤلاء الموظفون الذين يجب أن يوزعوا ويشرفوا على كل مراكز الدولة التي أخذت من حدود ارمينية وايران واذربيجان مرورا بالعراق وكل أجزاء الجزيرة الى الفسطاط في مصر، حتى
(دنقلة في بلاد النوبة)(2) حتی برقة في طرابلس الغرب، حتى قرطاجنة، حتى قبرص، حتى سوريا، وكل الممتلكات البيزنطية على شاطئ المتوسط، كل هذه الممتلكات المترامية الأطراف لم يكن
ص: 144
اليقدر على ضبطها إلا هؤلاء الرجال الذين لا يمكن ان يجد عثمان الا من بين رجال بني امية.
هذا شرطك يا بن عوف، يضرب به عثمان عرض الحائط!
ولكن القضية لم تلبس أهميتها من هذه الزاوية وحسب فهي تتعدى هذا النطاق بكثير، إذ ليس مجرد تعيين رجال من بني أمية لاستلام إدارة الحكم هو الذي سيغير دفة التاريخ، فرجال بني أمية هم كباقي رجالات العرب، ذكاء على حدة، وصلابة على عزم، وصبر على جلد .. ومعاوية بن أبي سفيان راية بني امية وقطب من الأقطاب الذين يشح التاريخ بأمثالهم في الدهاء والمكر.
لم تكن القضية إذا قضية رجال للحكم يجب ان يكونوا من بني هاشم أو من بني أمية أو من فئة لا هي بالهاشمية ولا بالأموية حتى يستقيم الحكم وتبقى دفعة الفتوحات مستمرة في زخمها الصاعد.
إن القضية كانت بجذورها أكثر مما كانت بأطرافها.
ولم يكن لينجيها تنكب فئة عن الحكم وتسليمه لفئة سواها، بل أن الذي يتمكن من ذلك كان افضاء الأمور الى رجال منخوبين، صقلتهم الرسالة وطبعتهم بطابعها، لأن الرسالة بطابعها هي الوحيدة التي قدرت ان تجمع وحدات الجزيرة لتدفعها في قوتها المحزومة.
وان تلك القوة المحزونة هي التي تمكنت من تحقيق معجزة الفتوحات.
ولولا الرسالة، لكانت الأوضاع ما زالت هي اياها..
فسيف خالد بن الوليد هو ذاته الذي كان في يده قبل الرسالة فلماذا لم يتمكن من فتح العراق وتفويض أركان حكومة (هرقل) لولا ان الرسالة هي التي شحذت هذا السيف ودفعت هذا الساعد وخلقت عقل هذا القائد.
ص: 145
ومعاوية ، ذلك الرجل الداهية، هو ذاته كان يعفر جبينه على اقدام (هبل) ولم يكن ليرى في الطرف الآخر بواسق الشام بخضرتها ونضرتها على ضفاف(بردی) حتى جاءت الرسالة .. فاستعار منها عزمه، واسترق من روعتها بريق خلوده، حتی دانت له أعز مدينة كانت تغور جذورها الى قلب اغارقة اليونان.
وسعد بن أبي وقاص، ربما لم يكن له بيت يأوي إليه إلا من الشعر والوبر، يوم كان يدير وجهه ليتبرك بمناة) ولم يكن ليحلم، لولا الرسالة التي امتطاها بعنفوانه الجاهلي، أنه سيتربع على إيوان كسرى.
كان ذلك يفعل الرسالة العجيب.
ولا شك في أن كل بعد عنها كان يرد العرب الى الواقع الذي كانوا فيه .. وهذا الذي قد حصل.
إن عثمان بن عفان قد ارتد اليه بعض جاهليته، وتنكب عن مضمون الرسالة.
وكما ان الرسالة هي التي خلقته لما امتلأ بها، هي نفسها، باستخدامه رجالا لم يعوها، أدت به الى فراغ رهيب.
ص: 146
ما كنت تستحق القتل أيها الشيخ .. لولا.
فالقرآن الكريم الذي جمعت حروفه فأزلته ضمن دفتين من الصيانة(1)كان من اللازم على الأقل أن تحسب لك فضيلة حرزه و ترد عن صدرك نصلات النبال.
وقبلك، دقت نبلة العذر في صدر من خلفت . وكانت نبلة مسنونة بكلالمعاني، إلا أنها لم تقتل ابن الخطاب مثل ما قتلتك.
وللقضاء والقدر مخابئ في الأيام شديدة الاعتام .. منها ما يتحفز على نصلة تأكلها الصدي، ومنها ما ينساب بين الثنايا ينفث سمه من الفحيح، ومنها ما يتلبس جلد شاة تحته ظفر وناب، ومنها ما يتلوى بين زوايا غفت فيها الضغائن والأحقاد لم تلمسها قط كف الفضائل بالسماح.
أما أنت، فقد هيجت عليك، وكنت أنت المتغاضي عن اثارتها .. ولما أفقت كان قد سبق السيف العذل).
والفرق بينك وبين ابن الخطاب : أنه أثار عليه (أبا لؤلؤة)،(2) لأنه أراد أن يصون الجزيرة من أخلاط غريبة قد تؤدي إلى إفساد أمرها وعرقلة سيرها على
ص: 147
خطها الجديد .. فوقع صريع محاولته القاسية في سبيل النظر إلى مستقبل أمته كما دله رأيه.
أما أنت، فإنك تساهلت بإفساح المجال لاندساس السموم في جسم دولتك الطري عودها، فاغتالتك أنت تلك السموم من حيث حسبت عليك أخطاء القيادة.
ص: 148
إن الرهبة التي خيمت على الساحة وهي تمتص دماء الخليفة الصريع، كانت من النوع الذي تخلفه العاصفة إذ تسكت فجأة تاركة في الجو سحب الغبار.
والعاصفة التي هاجت ثم ركدت، كانت من النوع المجنون الذي يهب في الصحارى دون ان تخفف وطأته لا حنايا الأودية ولا صدور الجبال.
غيرأن الثورة ذلك شأنها في هبوبها .. أما شأن الحاكم فيها، فإن له كل القدرة في تحريكها لتعصف في الوقت الذي يكون هو فيه أضعف من يقدر على ان يقف في وجهها.
وهكذا كان عثمان بن عفان .. فإنه تمكن من أن يخلق الثورة، لا بل إنها ترعرعت في حضنه منذ تربع على كرسي الخلافة .. ولم يتمكن من الصمود في وجهها.
ولم تكن الجزيرة لتعرف كثيرا الثورات بمعناها الحقيقي، رغما عن أنهاكانت تمارسها في أشكالها البدائية.
ذلك كان هو الغزو الذي كان استاذها الأول، الذي تتلمذت على يديه وحده ، ولم يقدر أن يقدم لها في مدرسته الضيقة إلا بعض فصول في الفروسية .. فأتقنت امتشاق السيف والرمح، ورمي النبال، وامتطاء الصهوات، واعتلاء الرواحل، والعدو السريع خلف الطرائد.
ص: 149
وجاء الإسلام في رسالته الجديدة، فكان ثورة على الأوضاع، وأول مدرسة علمت الجزيرة فروسية الانتفاضات وفنون الثورات.
وتعسا لأمة ليس لديها مدرسة كبيرة من هذا الجليل. وهكذا ابتدأت الجزيرة تشعر بقيمة الإنسان فيها.
فالإسلام كان فجر تاريخها، ولقد كان حكم الخليفة الثالث أول امتحان التلاميذ المدرسة الجديدة التي رسخ ركائزها في المجتمع النبي العظيم.
وعثمان بن عفان منذ أن تسلم الحكم بتلك النفسية المستهواة بحب الوصول دون أن يكون لهذا الوصول إلا أهداف ضيقة، كان يهيئ لنفسه، دون ان يدرك مثل هذه النهاية المروعة.
فالأهداف الضيقة هي حتما از تشبع تضيق على ما فيها، والحاكم ليس إلا ليستهلك .. وكل شيء في الحياة كذلك.
فالوسيلة التي تستخدم للوصول إلى نتيجة يستغني عنها فورا بعد تحقيقها، ما استعملت لتأديته.
وليس الحاكم على غير هذا القياس.
فإن لم تكن اهدافه من النوع الذي لا ينتهي، فإن المجتمع ينبذه إذ ينضب معينه .. والمجتمع لايرحم
وكذلك الوسيلة التي لا تصيب غايتها، فإنها تنبذ كما ينبذ الوالي الذي يسيء الى ما انتدب إليه.
كل ذلك قد كان في قضية عثمان.. .
فالثورة التي وسعت الرسالة فجوتها على شعب الجزيرة، أصبحت ترفض الإثرة، لأن الإثرة كانت سببا جذريا في تكوين مقومات انتفاضتها۔
ص: 150
وها هو الاستئثار بالحكم وبمغائمه، من ثروات ومناهج واستمتاع، تنهال كل فروضة على عثمان وكل من دار في فلك عثمان من بني أمية، الأقرب فالأقرب .. كأن الوصول الى الحكم لم يكن إلا لهذه الغاية، لاشباع هذه الانهام ... وكأن الفتوحات وكل مكاسبها لم تكن إلا لسد هذا الفراغ ولا بني أمية أنفسهم
وليس، كما جاء سابقا، وجود رجالات من بني أمية بالحصر هو الذي جسم الأخطاء لو أن هؤلاء كانوا على خط واضح من الأهداف الكبيرة التي تجيء منساقة مع خطوط الرسالة التي وضحت كل الأهداف.
هذه بعض الأسباب المباشرة في خلق الثورة، وليست كلها.
فهنالك اسباب غير مباشرة أدت الى هذه النتائج، وإن تداركها من جذورها كان أولى به (مجلس الشورى السداسي الذي مثلته بآخر تفويض منه عبد الرحمن بن عوف.
من هذه الزاوية كان من الواجب ان يدرس وضع الجزيرة بوجه عام، لأن للرئاسة الأولى مثل هذا المعني الشامل الذي هو حري جيدا بهذا الاهتمام.من المعلوم، والواضح، أن الجزيرة العربية، حتى فعل الرسالة الجديدة ،كانت تعيش عدة مجتمعات متنابذة في مجتمعها الواحد الأكبر.
قبيلة حرون كانت تفعل فعلها الجاهلي.
وكان يئن من هذا الواقع الغشيم تاريخ الجزيرة.
واقع كهذا كان يساوي انحطاطا عاما في المجتمع لينعكس في الاقتصاد، في
التفكير في الاجتماع.
ص: 151
وجاءت الرسالة، فتمكنت، بعد محاولات قاسية من فرض نظامها الجديد .. وتقبلتها الجزيرة بسرعة، لأنها وجدت فيها الدواء المصيب في شفاء امراضها.ومن البديهي أن يدرك أن الرسالة كانت عقلا وفلسفة نابعين من واقع الجزيرة .. ولو أنها كانت غير ذلك لما تقبلها المجتمع بسهولة، غير أنها بصفتها عقلا وفلسفة كان من الواقع ايضا ان لا تدرك إلا في مفعولها، لأن الإنسان المجتمعي يرفض العقل المتفلسف كعلم ويقبله كتأثير ونتيجة ، كما يقبل المريض الدواء على افادته المجردة وليس على فهم تركيبه العلمي.
إن هذا الفهم عينه يكون من نصيب فئة قليلة تسمى (النخبة)، وهي التي تعكس هذا الفهم على تيارات المجتمع ليفعل فعله الصحيح.
هذه النخبة تكون المسؤولة بقدر ما تفهم، وهي التي تعكس ما تفهم.
من هنا، أن الرئاسة الأولى يجب أن تكون حتما من بين هؤلاء النخبة، بحيث يضيق التعيين حتى ينحصر في القمة.
وقد يخطأ التعيين وقد يصيب .. فلئن يصب فتلك هي الغاية المنشودة ،ولئن يخطيء فبقدر هذا الخطأ تكون مساوئ النتائج.
والنتيجة في عثمان بن عفان دلت على وجود الزلل، ويفهم من ذلك:
ان الرئاسة هي اخر نقطة من سلسلة الانتخاب الذي لا يكون على صواب، إلا إذا كان منسجما مع الواقع الذي نخب من أجله.
والواقع، كان نتيجة ثورة فكرية اخذت تنبذ الروح القبلية لتحل مكانها زعامة المجتمع.
ص: 152
ولقد اقتنعت الجزيرة بصوابية المبدأ، واستيقظت في قيمة الإنسان. ولهذا فهي لم تقبل باب عفان متسلطا يعيدها إلى أمسها الدابر، سيما وان امسها المقروح لم يبعد، فهولا يزال يتصل بيومها الحاضر.
ثم ان الرسالة التي جاءت تعالج الواقع الراهن في الجزيرة اصبح لها هي الأخرى واقع آخر يجب معالجته حتى تستكمل غايتها، ألا وهي توسيع استيعابها ليخرجه فهمها من نطاق النخبة الى نطاق المجموع، كي يتعدى الاقتناع بصدق معالجتها للأوضاع الشعور بقيمتها الى التحسس العميق بحقيقة هذه القيمة، وهذا ما يخرج من نطاق المعرفة السطحية الى ناطق الثقافة التي تكتسب عن طريق الممارسة العقلية على المدى الطويل.
كما أن الفتوحات التي قامت بها الدولة، بعد أن جمع قواها نداء الرسالة، جاءت تقلل من قيمة المدرسة التثقيفية التي كان المجتمع بحاجة اليها كعدة فكرية نفسية تتسلح بها قبل ان تتسلح بالسيف والرمح.
من هذا القبيل، كان من الضروري على مجلس الشورى) أن يعالج هذا الواقع الجديد على ضوء العقل الذي يليق أن يعالج به اوضاع الدول، لا عن طریق سطحية المساومات وارضاء روحية العصر المولي.
وتعيين عثمان بن عفان للخلافة لم يراع شيخوخة هذا الرجل في عجزها عن القيام بمثل هذا التحقيق والتجديد.
كما أن القضية لم تدرس بهذه الحيطة التي تتطلبها لها جدية الأحداث من حيث بقيت العلة تنمو وتتضخم حتى انفجرت بثورة اودت بحياة الرجل، والقت المجتمع الجديد بين أشداق ثورات داخلية، وأخذ يتمرس بها كمخرج
ص: 153
يشعر بجدواه منا تدعوه الحاجة الى اعلان تذمره من الوضع .. أيكون معه حق بإعلانه أولا يكون؟
ص: 154
أن الساحة التي كشفت بمقتل الخليفة، لم تكن ليغطيها أي كان من المتنافسين.
فالتجربة التي مر بها عقد وسنتان، كانت شبه كافية لخلق فكرة إيجابية في كيفية الحكم في لوازم لقاء التبعات على كواهل الأقطاب.
وليس معنى ذلك : أن النضج قد اصبح شام كل الموائد.
فالناقمون كانوا مقسومين الى فئتين: فئة الأسياد الطامعين بالمركزالشهي، وفئة الشعب المتذمر من الظلم والتعسف.
غير ان النقمة الشعبية لم يكن لها كبير شأن مع هؤلاء الأسياد .. فهي إنما جمعها السأل، حيث الذي لحقها من فساد الحكم .. فأقدمت على فعلتها، ثم راحت تتطلع إلى من يسد هذا الفراغ.
ولقد كان حاضرا في ذهنها ذلك السيد الذي يتمكن من ضبط الموازين ،فهو عينه الذي كانت تشتاقه الساحة منذ ربع قرن.
ولقد عاد في هذه اللحظة الواجفة ذلك السؤال، يبحث بنهم عن الجواب : لماذا نكب، منذ البداية عن الساحة فتاها؟
ولكن الماضي قد تغطى بما منع الإلحاح من طلب الجواب.
إما الآن، فلا سبيل للتغاضي .. فالوضع في أحرج ما يكون تشديدا في طلب الجواب.
فعلي بن ابي طالب، هو ركيزة الأساس، وهو بالنسبة للرسالة كل الرسالة، في تأسيسها وفي طريقة المحافظة عليها، في نشرها وفي مجالات الدفاع
ص: 155
عنها .. وإن له أطول سلسلة من النعوت والكريمة يتحلى بها، فهو قوة، وإرادة، وشجاعة، وبطولة، وعقل، ومعرفة، وحق، وعدالة، ومثال، وكمال..
فأي شيء يحول دون تسليم زمام الى يد كريمة كهذه اليد التي يعز نظيرها في كل الجزيرة.
أما أبو عبيدة بن الجراح، فإن الساعة الحاضرة ترفض تمام الرفض الإصغاء إلى مثل نصائحه، فإن ابن أبي طالب لم يكن في أي يوم من أيام شبابه أقل حكمه وأقل رشدا من أي يوم من أيام کهولته، ولكنه كان الحريص على الرسالة ، وكان الكريم وكان الرضي بكل خلقه وكل سجاياه.
فإذا ما قبل الخلافة تتجاوزه الى غيره من الأسياد الكهول، فلأنه كان يتعمم فضيلة نكران الذات، وكانت كفايته أن يرى الرسالة تسترد الجزيرة منجهلها الى عقلها، ومن خزيها الى مجدها، ومن دنیاها إلى ربها، ومن خمودها الى انطلاقها.
وكان في كل ذلك يسدد خطى الذين سابقوه الى حقه في القيادة مرتضيا بصحة العقيدة ونجاحها ... وهذا كان حسبه من دنياه.
أما الأن، والرسالة لم تعد مكانا، بل اصبحت مدي .. فلا يجوز أن تترك في الساحة المكشوفة، يتناوشها الطامحون ويتقاذفها المتنافسون.
فلترتعد فرائص قریش، ولترجع الأكباد الى النحور، فإن الكنز الثمين لن يكون عرضة للمناهب.
ص: 156
وهكذا كان التصميم عشية مقتل الخليفة، وهكذا اصغت آذان الثائرين ليسمعوا الجواب الذي ما زالوا في سماعه منذ ربع قرن من علي بن ابي طالب نفسه.
ص: 157
قيل لعلي: لا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر منك.
فقال : لا تفعلوا، فإني لكم وزير خير مني أمير!
ومن خطبته يوم المبايعة : (إني كنت کارها لأمركم إلا أن أكون عليكم).
إن السبب الذي دفع بابن ابي طالب الى التردد في قبول استلام الخلافةالجديدة هو عينه الذي لج عليه بالقبول.
فمن جهة أولى أنه لم يكن بعقله الثاقب ليريد ان تلعب أدوار مثل هذه المأساة على كرسي الرئاسة، لأن ذلك لما يقلل من قيمة المركز الكبير الذي اصبح قاعدة لأكبر امبراطورية في الشرق العربي.
وليس من مصلحة هذا التوسع الضخم باسم الرسالة الجديدة أن يشاع على العالم أن القيمين على مبادئ التأسيس تنخرهم المنازعات الصغيرة في سبيل الوصول إلى الكرسي بدل أن يكون محاطا بهالات من الكبر والوقار، تستبد به أهواء هزيلة و حقيرة، أكثر ما يمكن أن تنعت به انها حب الاستئثار على جشع .. لذلك، فإنه بذل قصارى جهده للحيلولة دون الوصول الى آخر مشهد من مشاهد المأساة.
وكان يسعى الى وأد الثورة بتعليلها بالإصلاح.
وكان ينجح لو ان مروان بن الحكم ساعده بذلك، أو لوان النية الحسنة أتته من ذلك الجانب .. ولكن الذي حصل غير المقاييس وبدل الجو الى اكفهرار من حيث وقع المحذور.
ص: 158
ومن جهة ثانية، جاء الحديث الجديد يسلط عليه كل الأضواء، فكأن الثورة كانت تنظر إليه قبل أن تتحرك وهي عن وعي منها وعن غير وعي.. صممت ونفذت لأن ابن ابي طالب كان يملأ ذهنها بكل عظمته، وكل جبروته .. ولو أنه لم يكن موجودا لكانت اقل اندفاعا إلى تحقيق ما أقدمت عليه، ولكن الثورة كانت تنظر إليه دون ان تصغي الى حكمته وتحفظاته.
وعلى كل حال، فالثورة لا تؤمن كثيرا بالحكمة والتحفظ.
تجاه هذا الحديث الجديد، وقف ابن أبي طالب يقيس الأمور بمقياسهاالأنوف.
وتردد في قبول الخلافة المطروحة عليه فرضا، لأنها تأتيه عن طريق فيه تذليل للرئاسة وهوان لها، وهي المركز الذي يجب ان يكون محفوفا بكل معاني الحصانة والإجلال.
ولكن الحقيقة كان تفرض عليه فرضا آخر يجرده من تصلبه الأنوف ... فالمركز الخالي ليس هو الذي ذل .. ثم أنه كان يدرك أن الطامعين بالمركز المغري هم يجردونه من هالاته الكبيرة وهم الذين يتسابقون الآن الى نهب ما يتبقى له من كرامات.
ولم تكن لتغريه الرئاسة، فإنه لم يطلب يوما مجد الدنيا وكنوزها، (1)وكثيرا ما توفرت له في فرفضها .. ولكنه كان يتشدد في طلب الخلافة، أنه كان يؤمن تمام الإيمان بنفسه، ولم يكن شديد الإيمان بغيره، بأنه هو الذي يتمكن
ص: 159
من صيانة اقدس وأجل ما نتجه الفكر في سبيل خلق الإنسان العظيم الذي هو تراث الحياة العزيزة.
وإن الرسالة التي قدمها النبي لم يكن هو أخف منه شأنا فيها، فإنه والنبي أبواها.
هكذا قال الرسول صلی الله علیه وآله : (أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة).(1)
فالرسالة له، وهي جزء منه .. من عقله، من قلبه ،من كل كيانه .. فمن (2) الذي يكون أحق منه بالدفاع عن نفسه؟
إذ، ليس حب الظهور هو الذي دفعه من قبل الى المطالبة بهذا الحق، وليس حب الاستئثار بالمغانم هو الذي يدفعه الآن إلى القبول .. بل الرسالة التي اصبحت تحقيقا للأهداف التي من أجلها بنيت ولن تترك الرسالة تتراجع عن اقل من مداها.
ولبي علي بن ابي طالب نداء الثورة ، وقبل الخلافة وفي يده عدة جاهزة للحكم الذي يتلبد أفقه بالغيوم.
ص: 160
من الظاهر أن وصول الخلافة الى ابن ابي طالب كان بمفاجئة .. أن ذلك كان بالنسبة لأحداث الساعة، لأنه لم يكن كثيرا من المنتظر ان يختتم حكم الخليفة الثالث بدمه وأن يكن ذلك قد أصبح له من المدة الأخيرة شيء من الحسبان.
أما بالنسبة للخليفة الجديد، فإنه لم يفاجأ بالحكم على قلة استعداد الحكم..
فهو منذ وفاة الرسول، لا بل منذ كان الرسول على قيد الحياة، حتى وقبل أن تعلن الرسالة على الملأ، كان يمارس سياسة الحكم.
لقد مارسه وهو يافع يراقب سیر کل حركة من تنقلات النبي الكريم صلی الله علیه وآله، ثم مارسه وهو فتى لا ينسلخ لحظة عن مرافقة ابن عمه وهويتقبل الوحي ليصوغه آیات بینات، ثم يمارسه وهو بالرفقة العزيزة الدائمة يعقدان الجلسات السرية الاستشارية في كيفية نقل الأمانة الى حيز العمل الجدي ثم مارسه في تنسيق هجرة واقية كسبت من الوقت عدتها وصيانتها، ثم مارسه في الرجوع الى المدينة كانت بالانتظار حشود الأنصار.
ثم مارسه بايمانه وعقله الكبيرين، اللذين تفتقا على لسانه وساعديه بتلك الشجاعة والبطولة النادرتين ، فخاضا غمار سلسلة من المعارك الدفاعية الباهرة، من حيث وطد الرسالة على أساس من القوة والمتانة جعلاها تستند إليهما في أضخم وأروع انطلاقة حققتها رسالة في وجه التاريخ.
ص: 161
أما أن يكون قد تغيب عن اجتماع السقيفة ، ذلك الاجتماع الذي غمظ فيه حقه بالخلافة، فإن ذلك لم يبعده عن إكمال سلسلة ممارسته للحكم طيلة ربع قرن.
ولكنه بقي يمارسه بالمراقبة اليقظة، وينتقل معه من حدث الى حدث، ويشاركالقيمين الثلاثة عليه مشاركة المخلص الوفي، بصفته أول واحد من أهل البيت، وبصفته صاحب الرسالة، وأول الصحابة ، ومن أصدق أهل الحديث، وعلى رأس المفقهين، ومن أخلص أهل الرأي ومن أرسخ علماء العصر.
وكانت ممارسته بالمراقبة من أشد الممارسات کسبا له، فوسعت خبرته من سياسة شعب الجزيرة الى سياسة باقي الشعوب، ونقلته بالرسالة من حيزها الملكي إلى نطاقها العالي.
وهكذا يمكن القول: أن علي (1)بن أبي طالب ما توصلت إليه الخلافة وهو بحاجة إلى استجماع العدة لها، لا بل بالعكس .. فإنها كانت تعدو سریعا للحاق به حتی تستقيم بطريقه طريقها.
فالعدة كانت جاهزة وكاملة .. جاهزة من الأساس بكل مقدمات الحكم، وهي لم تكن محصورة بكثير من البنود.
فهي، أولا وآخرا، مختصرة موجزة، بناء الشخصية.
فابن ابي طالب لم يمكنه أن يفهم المجتمع إلا شخصية مبنية على الأساسعلى الفضائل
ص: 162
وحتى يتمكن من بناء الجزيرة بناء يجمع قبائلها إلى قبيلة واحدة لمصلحة الجزيرة العامة، شدد على الفضائل .. فهي وحدها، في نظره، التي تبني المجتمع الصحيح.
وكأني به رسما لذلك هذا التصميم كشجرة يتدرج عليها الإنسان في حضن الوجود، إذ منه ينبثق وإليه يعود.
ص: 163
الوجود
الإنسان
+
الجسد +العقل + الجوهر
+
القوة +المعرفة+ الحقيقة
+
الإرادة +الثقافة+ الثبوت
+
الشجاعة+الفضائل + الفنون +المناقب
+
القوة +الحق+ الخيري الجمال + الحضارة
+
البطولة +العدالة+ الرخاء+ الخيال
الشخصية المثلى +الكمال
المجتمع الأمثل
ص: 164
من هذا الشكل يفهم ان الوجود بشموله هو الله - عز وجل - الذي هو العلة الكبرى .. وهو الجوهر الكامل، والحقيقة الكاملة، والثبوت الدائم .. لا تحوير ولا تبدیل، بل كينونة يلتقي فيها الأول والأبد، ينبثق من الوجود الإنسان بحديه : الجسد والعقل.
من الناحية الأولى، يبرز العقل الذي هو صفوة الجسد .. هذا العقل الذي يمكنه أن يحتك بجوهر الوجود لتتناسل من هذا الاحتكاك خيوط المعرفة..
المعرفة بدورها، وهي تلامس حقيقة الجوهر، تنقلب من معدن النفس لتصبح ثقافة الإنسان.
أما تلك الثقافة التي هي نتيجة هذا التماس المنور، فإنها تلتحم بهذا الاحتكاك مستمرة بالتحامها الى ان يكسبها الجوهر، فإذا مواليدها منه هي الفضائل والفنون والمناقب .
أما الفضائل والفنون والمناقب، فإنها تتلاقح من بعضها البعض لتنجب على التوالي الحق والخير والجمال.
ثلاثة توائم تربو في احضانها حضارات البشر، وتتوالد منها، على السواء، العدالة والرخاء والخيال . ثلاثة ينابيع هي کوثر الوجود الكمال.
من الناحية الثانية ، يبرز الجسد الذي هو قاعدة العقل، فالجسد باتصاله بالعقل المحتك بالجوهر يكتسب القوة..
القوة نفسها تبقى بلا معنى حتى لا يباركها بهاء المعرفة، إذ ذاك تصلب وتصبح إرادة.
الإرادة بدورها ينقصها التوجيه والثقافة الخصبة تسدد خطاها، عند ذلك تتجلى الإرادة بهذا البارك الجميل الذي هو الشجاعة.
ص: 165
الشجاعة نفسها تبقى قوة غاشم ان لم يصقلها الحق والخير والجمال، وعند ذلك تنقلب إلى بطولة تعمر بها النفوس والعقول قبل أن تصلب بها السواعد والمتون .. بطولة لها وزن الجمال .. ووزن الحق، ووزن الخيال .. وهي حلية الكمال ، خير حلية تلبسها شخصية الإنسان.
فالنتيجة : أن مجتمعنا ينشأ على مثل هذه الفضائل المتسلسل بعضها مع بعض المجتمع مثلي بعد أن تتطرق اليه عوامل الوهن.
وهكذا رسم الخطة منذ البدء، منذ ان حمل الرسالة بيده يلوح بها كمنقذ الجزيرة.
ولقد طبقها طوال حياته على نفسه، فإذا اعتقاده بالله اعتقاد راسخ قل ان يخلو حديث له من ذكر ربه.
ولم يغرف عقله إلا من جوهر هذا الوجود الذي هو (الله) فكانت لديه المعرفة الكاملة بأبهي معانيها.
وتثقف بهذه المعرفة، فأصبح لديه خزان طافح بالفضائل والمكرمات ، حتى لا يمكن القول إلا أن عليا بن ابي طالب هو مثال العفة والصدق والنزاهة، ومثال القوة التي تسلحت بالإيمان والحق والعدالة، فانطوت فيه تلك الإرادة الصلبة ، وفاضت عليه تلك الشجاعة النادرة، واندفقت به تلك البطولة الخارقة، من حيث برزت شخصيته المثلى التي أحب أن يكون بها قدوة لبني قومه فيسبيل بناء الجزيرة ذلك البناء الأمثل.
وها هو ذا الآن يتسلم دستوريا بالحكم .. لا بل أنها تطرح عليه هذه المقاليد اثر انتفاضة ولدتها الحاجة إليه.
ص: 166
والحكم اليوم غيره بالأمس .. فعلی ابن ابي طالب بان يتحمل اتعاب الترميم ثم اتعاب الاستئناف في السير الطويل.
فالرسالة ليست بعد طفلا يحبو بين مكة والمدينة ، بل اصبحت ذلك العداء الذي يلتهم المسافات رغم الحدود، ولن تليق بها اقمطة الطفولة، واصبحت بحاجة إلى ما يشد حقوبها في ترحالها السريع .. وهي لم تهبط قطرا من الأقطار إلا واحتلت مدينة قائمة وعزا شامخا، وأنه من الحيف أن ينقل وهجها من لا يدرك قيمتها.
من هنا، ان ابي ابي طالب كان يدرك أن الرسالة مشى بها من لم يستكمل بعد استنارته منها، وان الفتح الذي حققته إنما كان بقوة فاعليتها اكثر مما كان بقوة الذين حصلوها .. ولن تكون النتيجة، عندما يثوب الفتح الى رشده، لمصلحة الجزيرة إلا بشكل ضئيل.
ثم ان الرسالة، وهي دنيا ودين، لم تكن مطلقا لتحصر ضمن حدود الجزيرة.
فالدين الله، والله ليس للجزيرة وحدها؟
أما الجزيرة بالنسبة للرسالة، فإن لها فخر المولد وشرف المصدر .. وحرام عليها ان تكون اقل قيمة من مواليدها، واخفض جانبا من صادراتها.
لذلك كان علي. في غيرته على الرسالة وفي غيرته على الجزيرة، يرى ان تثقيف ابن الجزيرة بفضائل الرسالة هو الواجب الأول الذي كان لازما أن يسبق كل الفتوحات .
ولكن الفتوحات، باسم الرسالة ، قد سبقت هذا التدرج المطلوب .. وبدلا من أن تحقق افادتها المرجاة اتت بالعكس من ذلك.
ص: 167
فالشخصية التي كان منتظرا أن تمتن بالفضائل جاءتها الفتوحات لتغرقها لي بحبوحة من الثروات والغنائم، فأفسدت عليها بدنياها دينها الذي لم يستحكم فيه ثقافتها بعد..
و حتى الخليفة عثمان بن عفان اصابه هذا الدوار الخبيث، فابتني الثور على حساب الجهاد، واغرق أهله وذويه بمثل الذي غرق فيه، ليسجل التاريخ عنه مهزلة سوف يلصقها ومخازيها بتاريخ الفتوحات.
وليس هذا الواقع الحار بأقل حاجة الى المعالجة، وليس الرجوع الى الوراء ممكنا، ولا المضي إلى الإمام بالنهج القديم بمضمون النتائج.
هكذا فرضت الخلافة على علي عبأ النضال على جبهتين : جبهة تعالج من جديد تحت الشخصية العربية، وجبهة تعالج الفتوحات لتبقى على معناها الأصيل.
وهنا يبرز أسياد الجزيرة، الذين لا تزال تشدهم إلى الوراء تلك ال عنجهية في عصبياتهم التي كانت تطل من حين إلى آخر كلما سنحت لها المناسبات تدفعهم إلى الالتجاء اليها نفوسهم المريضة بحب السيادة، من حيث لم يتمكنالحكم الذي انقضى من صهرهم وصبهم في القالب الجديد، ويساند بقاءهم على مثل ذلك التلهي بالتوسع الفتحي، من حيث انصبوا هم أنفسهم على خوض غماره لزيادة كسبهم منه على الصعيدين المادي الرئاسي.
والصعيد الثاني كان حقيقا للأول.
وهكذا استعملوا الرسالة وسيلة، لا غاية ، بحد ذاتها.
وكانت كل ازمة تصطدم بها مصلحتهم تجعلهم بقفزون كل الى قبيلته غيرغابئين بما يصيب الرسالة الى انتكاس.
ص: 168
وتبرز ايضا، من ناحية ثانية، فئة الشعب الذي جاءت الرسالة من أجله،التخفف من بؤسه، ولتوقظ الإنسان فيه.
ان الشعب هذا هو التي لا يزال يلعب بها هؤلاء الأسياد، فيجعلونها مطية لأهوائهم ونزواتهم، ويستخدمونها في سبيل الحصول على غاياتهم ومآربهم.
ذلك الشعب نفسه، على انعدام ثقافته، رمي في الساحة لتحقيق الفتوحات، فطاب له طعم الغنائم على زنود السبايا ، لكن ذلك إذ يدوم له يوما فلن يدوم يومين.
والرسالة إنما جاءت لتشبعه كل عمره، ولن يكون شبعه إلا عن طريق ايقاظ عقله، العامل الوحيد في انحاء اقتصاده الشريف.
إن هذا الشعب لم تشبعه بأجمعه نعم الفتوحات، والذين بقوا بعيدا عن الموائد حركتهم المجاعة الحاسدة.
وهكذا الرسالة التي خلقت لتجمع، إذا بها تتعرض من جديد لتفسخ أقسمة ما عليها.
في هذه الفوضى كانت الجزيرة تدور في اخر أيام ابن عفان، من حيث انفجرت ثورة ما استهدفت منقذا لمها إلا ابن ابي طالب.
هذا الإنسان في الجزيرة، من سيد يحاول دائما تثبیت سیادته الى شعب لا يزال اتعس ما كان في جاهليته، هو الذي يقابل عليا في أول خلافته ليعيد النظر في كيفية بنائه انسانا جديدا يليق به أن يكون عدة ناضجة لاستكمال معنی الفتوحات.
ص: 169
إزاء هذا الواقع المؤلم، شمر ابن ابي طالب عن ساعديه، ليعود فيستعمل تلك البطولة التي ما انفصلت يوما عنه .. فهي نفسها لا تزال عادة منذ وعي الرسالة حتى اليوم .
ولن يتمكن من النصر ما لم يلجأ اليها، فهي لديه مستكملة كل شروطها لذلك فإنه لن يرضى باي نوع من انواع المساومات، ويستعمل كل فضائله دون أن يستنفذها، في سبيل الوصول الى بناء الإنسان في الجزيرة .. وسيقدم نفسه القدوة المثلى، وسينتصر الانتصار الكامل، لأنه سوف يبقى عنوان الإيمان بالله ، ومثال الصدق والعفة والنزاهة، ومثال الشجاعة والبطولة في الدفاع عن قيم الحق والخير والجمال.
وسيبقى والنبي الكريم أبوين صميمين لأمة العرب..
ص: 170
عبأ القيادة
قال علي :
(من نصب نفسه للناس إماما، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، ويعلن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه .. ومعلم نفسه مؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم).(1)
(ولقد أصبحنا في زمان قد أتخذ أكثر أهله الغدیر کیسا، ونسبهم أهل الجهل فيه الى حسن الحيلة .. ما لهم؟) .. هكذا قال علي.(2)
إن الراية الجديدة التي خفقت عزيزة فوق رؤوس المسلمين، وظللت ارجاء الجزيرة، وامتد تحت وارفها الفتح من مبازغ الشرق الى مهابط الغرب، قد رثت خيوطها وحالت الوانها، فهي لم تعد خليقة بعد ربع قرن بأن تحقق خفقات هذا الاندفاع الجارف، وتهتز هزات هذا الغر العارم.
لهذا تحتم أن يستبدل براية العقاب راية أخرى يمكنها أن تحمل طابع العصر ولونه الزاهي، ولذلك يتحتم أو تكون خيوط نسجها وألوان انصباغها من النوع الذي يغالب الزمن فلا يفنى ولايحول.
ص: 171
أن هذا النوع من النسج المتين ومن الصباغ الثابت لن يجده هذا العصر إلا في قميص عثمان.
وها هو ذا قميص عثمان لا يزال حتى الآن راية خفاقة البنود، لم يبل خيط منه بعد ، ولم تزل زاهية الألوان.
تلك حقيقة مؤلمة .. قميص عثمان(1)... وياليت الجزيرة لم تعرف نولا ينسج مثل القميص! وياليت عثمان کان عاريا من قمصانه !.. إنما الرسالة جاءت لتحكم مثل هذه الأنوال، ولكن المحطم كان نصيبه منها ان لبس كل قمصانها.
اتراها سنة الفداء ؟..
ألم يجيء عيسى من قبل ليحطم اخشاب الصلبان، فكان أكبر صليب من نصيبه؟
وسقراط(2)؟ .. ألم يتناول الكأس لينظفها من سمومها فلم يتمكن حتى جرعها؟
ص: 172
تلك كانت حكاية ابن أبي طالب في عصره.
فقد كتب عليه أن يلبس قميص عثمان، ولكن قميص عثمان ما كانت الخيوطه هذه المتانة، وما كان لألوانه هذا الزهو، لو لم يلبسه علي بن أبي طالب .. ألبسه في دمشق تدليلا على الجريمة، فرأته الأجيال تخليدا للبراءة.
وهكذا لبس خلود الجريمة من حاك قميصها، وبقي لهم قميص عثمان راية العصر.
ص: 173
بداية الحكم
لا شك في أن بداية الحكم كانت بالنسبة إلى علي بن ابي طالبتهافتا على المتاعب، ولن تكون النهاية بأهوان منها .. وهو على كل حال، لم يطلب متعة وملهاة، بل تطلبه مسؤوليات واعباء.
وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كضة ظالم ولا سغب مظلوم، ولم ينهجه مسايرة وملاينة، بل امتطاه جدا وصلابة.
ولقد أتاه النصح مع المغيرة بن شعبة (1)ومن ابن عباس (2)بالمساومة والملاينة فأبي وقال : (لا أداهن في ديني، لا اعطي الدنية في أمري).(3)
وكيف يفعل ذلك ونهجه وحيد وصريح؟.
وممن يخاف؟ .. ومم يخالفه؟؟
ما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطي البقاء من أحبه.
ص: 174
أمن الدنيا أن تحبس عنه كنوزها ونعيمها وأمجادها إلا؟ فما يصنع بالدينا من خلق للآخرة ؟ وما يصنع بالمال من عما قليل يسلبه، وتبقى تبعته وحسابه؟
ولكنه لم يلبس الدنيا إلا بقميص من الكرابيس (1)ويمدرعة (2)مرفوعة ، ولم يأكلها إلا في حبات من الشعير تطحنها كفه لقمة يابسة لفمه، ولم يسكنها في قصورها بل في أحقر خص من خصاصها، ولم يمتطها إلا كما يمتطي الفارس الجواد الى ساحة الجهاد، حقيرة لديه غاية ، عزيزة عليه وسيلة.
(الدنيا دار مني لها الفناء ، ولأهلها منها الجلاء .. وهي حلوة نضرة، وقد عجلت للطالب والتبست بقلب الناظر .. فارتحلوا عنها بأحسن ما يحضركم من الزاد، ولا تسألوا فيها فوق الكفاف، ولا تطلبوا منها اكثر من البلاغ).(3)
وقال له مرة عاصم بن زياد الحارثي : يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك جشوبة مأكلك؟
فأجابه : (ويحك! أني لست كأنت! . ان الله فرض على أئمة العدل أن يقيدوا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيغ(4) بالفقير فقره). (5)
هذه الدنيا التي عالجها سحابة عمره زهدا وتقي، ومد اليها يده عفة وصدقا وبطولة . لن يتمكن اليوم من أن يصافحها مصافحة المستجدي ودها والطامع بخدر من أحدارها، ولم يكن خدنا (6)من أخدانها .. إنما جاء اليوم
ص: 175
يوضح الخط المرسوم .. كيف يجب أن ينظر الى الدنيا، وكيف يمكن أن يستعمل اداة وصول إلى محجة وكيف يليق أن يؤدي الإنسان فيها دور الفاهم الناضج ، وكيف تتختم صيانة المجتمع على أسس من الوعي العاقل الراشد.
أن نهجا واضحا كهذا خط ابن أبي طالب كل بنوده، وطبقه على نفسه ، وعاشه كل عمره، ونشره في كل أقواله، واعماله .. لم يبق باستطاعة أي في الدنيا أن يقلل من قيمته أو يقطع خيطا واحدا من متانة نسجه .. ولقد اصبح بحد ذاته، لونه ونصره الأخير.
من هنا، إن المساومة لم يبق لها درب مفتوح الى بابه ، ولا التهديد بالموتيكون له أية فاعلية في ثنيه عن خطه .. لأن الموت، في نظره، إذ يقطعه عن دنياه، وهو لا شك فاعل، لم يتمكن من أن يقطعه عن ربه الذي له يعمل وإليه واصل .
ولقد قال : (لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحيت من واقعها، ولقد قال لي قائل: إلا تنبذها عنك، فقلت : اغرب عني ! ، فعند الصباح يحمد القوم السرى ).(1)
لقد قال أيضا قبل موته : (وغدا ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري، وترفونني بعد خلو مكاني وقيام غيري مقامي).(2)
وكما نظر في عثمان في أنه انتهج خطأ غير الذي رسمته الرسالة، فإنه بات من المستحيل - وهو يتسلم الآن زمام الحكم - أن يترك الخط على مسيرة الأول.
ص: 176
وكذلك الثورة التي هبت تقتلع الفساد، فأنها لم تكن لتولد لو أنها لم تضرب من حوضه النمير.
إذا، فالمساومة قد انتفت نصا ومعنی من معجم علي، (1)لتحل مكانها كلمة أخرى تحمل معناها .. ألا وهي ( الصلابة).
والصلابة هذه لم تكن لتحمل الرعونة، فقلد نحتها من تلك القساوة التي يتحلى بها معدن الحق والعدل .. ولونها بتلك العفة والنزاهة، ودفعها بتلك الشجاعة والبطولة .. فإذا هي تعبير صادق عن نظافته الخالصة، ونفسيته العلية ، وفكره العبقري.
ولن يتخلى مطلقا عن هذه الصلابة، لأنها معين شخصيته الفذة، وكانت نبراسه في كل حياته، وهي التي رافقته في كل جهاده، وهي التي لا تزال ترافقه حتى الآن في تاريخ خلوده.
ولقد ابتدأ بالتنفيذ في اللحظة التي تسلم فيها شرعية التنفيذ.
فاقتلع العمال الذين وزعهم الخليفة المرحل على الأمصار المفتوحة كلها بقوة الرسالة، ليستبدل بهم هؤلاء الممتحنين على محك الفضائل، وسلمهم شعارهم الجديد .. (النظافة).
والنظافة هذه كانت تحمل بين حروفها: الصدق، العفة، الإخلاص، التقوى، الرفق.
ص: 177
ولن يسلم عاملا عمله على رقاب الناس قبل أن يخاطبه بمثل هذا المقال : إلى الأشعث بن قيس، عامل آذربيجان):
(.. وان عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعی المن فوقك، ليس لك أن تفتان في رعية، ولا تخاطر إلا بوثيقة، وفي يدك مال من مال الله عز وجل، وأنت من خزانه حتى تسلمه الي ولعلي أن لا أكون شر ولاتك لك، والسلام). (1)
وإلى زياد ابن أبيه :
(إني أقسم بالله قسما صادقا لأن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئا ، صغيرة أو كبيرا، لأشدن عليك شدة ولا تدعك إلا قليل الوفر ثقيل الظهرضئيل الأمر، والسلام).(2)
وإليه أيضا :
(دع الإسراف مقتصرا، واذكر في اليوم غدا، وامسك من المال بقدر ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتك .. اترجو ان يعطيك الله اجر المؤمنين وأنت عنده منالمتكبرين؟ وتطمع وأنت متسرع في النعيم؟. تمنعه الضعيف والأرملة، أن يوجب لك ثاب المتصدقين .. وإنما المرء مجزي بما اسلف، وقادم على ما قدم، والسلام) .(3)
هكذا سلم الإمام علي زمام الأمور الى رجال فرض عليهم من كفه نظافة الكف ، ومن لسانه عفة المنهج، ومن صلابته محازم الأعمال.
ص: 178
ولقد وزع عليهم لائحة المبادئ التي يجب ان يتناول منها ما يسدد خطاهم .
(والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الأماء لرددته !).(1).
( في العدل سعة . ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه اضيق). (2)
(لا دين لمن لا مروءة له).(3)
(لا كرامة للكاذب).
(نظرة الوجه في الصدق).
(فرع الشيء يثبت من أصله).
(ظل الأعرج أعوج).
(جولة الباطل ساعة، وجولة الحق الى الساعة).
( لا يغرنك الطمع، فقد جعلك الله حرا).
( كن للمظلوم عونا وللظالم خصما). (4)
(فقد الرؤساء أهون من رئاسة السفلة).(5)
( عند الامتحان يكرم الرجل(6) أو يهان).(7)
(ظرف الرجل تنزهه عن المحارم ومبادرته إلى المكارم).
(شر الولاة من يخافه البريء).(8)
ص: 179
(سياسة العدل ثلاثة : رأفة في حزم، استقصاء في عدل، وافضال في قصد).
(الحق سیف قاطع).(1)
(أمام عادل خير من مطر وابل). (2)
(ثوب العقل اشرف الملابس).
(ثابروا على اغتنام اعمل لا يفنی ثوابه).(3)
(راكب الظلم يكبو به مركبه) .(4)
إلى آخر ما احتوت هذه اللائحة من نصائح وحكم .. ترد الىسواء السبيل إن هذه الصلابة نفسها التي سلمها قواده وعملاءه، ووجههم ليعلموا بوحيها في السياسة العامة، لإيصال الحق إلى نصابه ، ولتهذيب ابن الجزيرة التهذيب اللائق بالإنسان .. اخذها اخصامه ليقابلوه بها بتلك الرعونة وذلك الجفاء، والتجأوا إلى الفتنة يولدونها .. وكان لهم من قميص عثمان عود ثقاب.
ص: 180
ويحك ايها النعمان بن بشير(1)!.. يا حامل الجريمة تطوف بها، تجسمها تنفخها، تنفثها سما، تنشرها داء !.. يا حامل الطاعون تبخه وباء عليك، على أهل بيتك، على أصلابك، على كل بني قومك، على كل انحاء الجزيرة .. علىمعاوية، على عمرو بن العاص، على الشام ينتقل منها كما انتقل الفخ الى مصر وأفريقيا، إلى العراق وخراسان !.. ومن يومك الى غدك، إلى الأجيال التي ستخلف عصرك وتسجل خزيك مجبولا بعارك.
ماذا تحمل تحت ابطك؟! .. أية صرة تلف بها آيات كتابك وأمجاد جهادك ؟!. إلى أن تنتقل بك قدماك يا حامل البوق ويا صناجة العرب؟! ويحك ؟ ألم تدرك ان ناقل الشر اثل من الشر؟! وان حامل الفتنة أبلغ منها!.
ص: 181
أيها الموثور المقرور! مهلا .. ألم تثبن وأنت تمشي طريق الشام، الى رشدك وجاهليتك التي علمتك الوأد!
يا هذا!.. ألم تعلمك وأد الشر الكبير وخنق الفتنة العمياء، ودينك الجديد؟
یا حامل الراية الى الفتوحات .. ألم يفتح على قلبك كوة السماح بالإيمان وروعة التعقل؟!
تخفف في طريقك يا بن بشير .. لا تسرع .. ان قميص عثمان الذي تحمل واصابع نائلة المقطوعة التي تنقل أنها هو قميصك البالي، لم تزل تلبسه من قبل أن تولد .. وهي أصابع كفك اليسرى التي كانت تقطع في جاهليتك عقابا على سرقة .. وها انك لا تزال تسرق، حتى الآن، فضيلة دينك الجديد الذي اقتبست، لتحمل الفتنة تنشرها اينما تتوجه.
قف مكانك .. لا تقطع حدود الجزيرة .. واحفرها عميقة، وارم إليها قميصك، ووار فيها حقدك وضغنك .. ثم ارجع من حيث فررت، فإن الدم الذي يثقل وزره لا يليق بك ، نشره، فهو من الجاهلية وقره، ومن فضائل دينك ستره.
وأربأ بنفسك ! ... فليس الثأر الذي تسعى الى الويل والدمار يقودك، ولن تنال عليها الجنة من حيث تحسب عليك الجنة.
وارجع الى عقلك ! .. فإن المحنة التي اندفقت نارها ليس من مصلحتك ولا من مصلحة جزيرتك، وان تجمع لها الوقود لتزيد ضرامها .. بل بالعكس ، بردها من معين نهاك، وخفف لظاها بفيض حجاك ، لو تعقل .. واسكب عليها
ص: 182
بدل السموم شيئا من السلوان، واغرف لها من السلوان، واغرف لها من النسيان ما يرتقها لا ما يزيد من فتقها.
یا صاح!.. يا حامل العقل الجديد !.. يا ناقل الفكر السديد !.. یا فانح الأمصار باسم الرسالة !.. یا غازي الجهل تدك حصونه! .. تريث فليس في الردة غير السموم !.. فحرام عليك أن تعود الى عقمك، فتهدم دينك ، وتروع قومك، وتجمد روعة أمجادك.
إده هذا القميص بالله إده ! .. (1)من قلبك، من عقلك، من اعصابك .. وارجع الى قومك .. ويلسم جرحا نزف، وخفف حدة تنقم، واجمع شملا يتمزق .. وناد بالرسالة، فهي الكبير، وهي التي تسع، وهي التي توحد، وهي التي تجمع.
اتراك يا بن بشیر، تعقل وتفعل.
ص: 183
أن الأزمة التي انفجرت بموت عثمان وراحت تنشر قميصه فوق الجزيرة وفوق كل جزء من أنحاء العالم التي توصلت اليه راية الدين الجديد، لم تكن بالأزمة المستحدثة.
فهي أزمة الجزيرة منذ كان الإنسان في الجزيرة ، هي أمة رافقتها كما رافقها واقعها الاقتصادي.
فالشح الذي كان لها من راضها انعكس شحا في نمطها في العيش، وفي كل مجالاتها العلمية والفكرية فانصرفت تعالج شؤونها(1) من زوايا ضيقة تلبستها، مع طول الوقت، عادات وتقاليد، من حيث اصبح تشذيبها من الصعوبة بمكان.
ولقد اصبح من العلوم أن الرسالة الجديدة جاءت تبني انسانا جديدا يتمكن من السيطرة على واقعه وتطويره.
إن أول ما ابتدأت به هو تحضير العقل، ليصبح مكانة فاعلة في خلق هذا التطور ودفعه لتحسين الواقع الاقتصادي.
ان هذا البناء الذي استهدف الفكر أولا ، نجح إلى حد بعين في خلق انسان أخذ يشغل عقله.
وبالفعل، فإن التيار الديني الذي احتل عقل الجزيرة، جعلها بحق مركزا العدة انطلاقات فكرية، تشعبت شرقا وغربا، وحققت بعض الانتصارات.
ص: 184
ولكن الجزيرة التي تمكن الدين من تحريك عقلها لم يتمكن حتى الآن من أن يصبح ثقافتها ، لأن الثقافة هي تمرس دائم وانعکاس في النفوس مع المجال الطویل۔
ثم أن الثقافة هي كرجع الصوت بعد ان يجول في كل انحاء الكهف الذي يطلق فيه دوي النداء .. أي أن الثقافة التي يتحلى بها الفرد في المجتمع تاتيه من ذلك المجتمع بعد أن تكن قد شملته كله على السواء.
أن الثقافة الجديدة للجزيرة ، بنوع خاص لم تبلغ بعد مكانة تذكر في وقت لم يتجاوز الأربعة عقود .. فهي لا تزال ثقافة تختلط اختلاطا ظاهرا بما قبلها، في مخضرمة.
ثم انها، من حيث يطلب منها ان تكون قاعدة انطلاق لتحقيق اقتصاد عاقل يضمن استنادها اليه في دفعها واستمرارها، لم تحقق شيئا يذكر من هذا القبيل.
أن عكس ذلك قد حصل.
فالفتوحات التي قامت بها الجزيرة اغرقتها في بعض فيض من البحبوحة المستعارة، من حيث جعلتها تتذوق طعم النعيم النابع من غير صلبها.
ولقد توزع هذا الخير المستباح أولا على القواد والحكام، ثم على الجند التدرج .. من حيث خلق طبقات مترفة على استحداث(1) .. فطنت المادة على الروح، لا بل وقفت المادة تلك حجر عثرة في سبيل نجاح طبخ النفوس
ص: 185
والعقول بالثقافة الأصيلة التي يجب أن تحتل رويدا رويدا مكانها في المجتمع، پسندها بذلك اقتصاد صادق ثابت وعفيف.
ثم أن هذا الدفع من الكسب الوقت لم يكن ليشمل كل أفراد الشعب .. الذين كانوا يتسابقون إلى خوض المعارك في الفتوحات من الذين كانوا يرجون بالغنائم.
نتج عن ذلك طبقية جديدة، فرقت المجتمع، ونبهت فيه حاسة التحاسد،وعمت الفوضى.
فإن اعمال الفتوحات اصبحت تتطلب كثيرا من الأدارة في تنظيم الجيش، في تنظيم الجزية والفيء، في تنظيم الدواوين والإحصاءات، في تنظيم الأجور،ثم في تنظيم الفكر ونقله صحيحا غير مشوب بالأخطاء .. الى جانب تنظيم توزيع الغنائم والمكاسب على الشعب، الذي بات ينتظر أن يسد عوزه من المكسب الجديد أكثر مما تنتظره من اقتصاده الهزيل.
كل ذلك لا تتمكن دولة فتية ومشغولة على كل الجهات من ضبطه واخراجه ، بالعدل والقسطاط.
نشأ من ذلك حرمان جعل الفوارق تظهر في مجتمع لم تضبطه بعد جدية الدين الى نظم تطبيقية صحيحة.
ثم هؤلاء القواد، وهؤلاء الحكام الذين استلذوا طعم الثروات، اصبحوا يتشبثون بمراكزهم كأداة كسب وفير .. فأخذوا يحصنون مراكزهم بشتی الأساليب، فجمعوا حواليهم الأنصار والأتباع.
ص: 186
وتلك قبيلة جديدة منظمة بدعمها الآن اقتصاد من النوع العابر، لينشأ في الجهة المقابلة من هؤلاء المحرومين تكتلات أخرى لم يجدوها إلا في قبليتهم القديمة .. فأخذوا يتجمعون تحت لوائها، وينتقلونها إلى حيث يتوجهون.
ففي الكوفة - مثلا - انقسموا الى كتلتين .. فكان القسم الشرقي منها لليمنيين والقسم الغربي للنزاريين.
وهكذا نرى على التوالي، ان الرسالة التي جاءت تبني الإنسان في الجزيرة فكريا واقتصاديا قد اصطدم نجاحها بتلك العراقيل التي كان من اللازم ازالتها من ريقها قبل أن تواجهها.
ان ذلك فاتها وهي تعشى الطريق في خطواتها الأولى مع عمر بن الخطاب ، الذي لم يرسم لها إلا بعض المخططات الجزئية التي اخذت تهتم بالناحيةالعسكرية اكثر من ان تهتم بالقضية النفسية الثقافية وبالتوجيه الاقتصادي الصحيح.
والحقيقة ان الجزيرة كانت ولا تزال بحاجة إلى روحية ضبط الأهواء ومنع فتح ابن الجزيرة على مدنيات لم يكن مؤهلا على الاندماج فيها، ومنعها من التسرب إليه دون تهيئته نفيسا وعقليا، لاقتبال حسناتها ونبذ سيئاتها.
ولقد نظر ابن الخطاب الى الداخل، فرأى أن وجود عناصر غريبة في الجزيرة من شأنها اشاعة التشويش على الرسالة الطرية .. فأمر بإبعاد تلك العناصر .. فرحل النصارى من (نجران) الى الشام ، ورحل اليهود إلى (أريحا).
وفي سبيل اعداد الجزيرة لتكون أساسا لجمهورية دينية نقية الدم، منع الزواج من الأجانب، وشدد على عدم التملك خارج الجزيرة، وفرض على هذا التملك بعض القيود، كدفع العشر مثلا.
ص: 187
ثم نظر إلى حالة الجند واختلاطه، اثناء عمليات الفتح، بشعوب البلاد المفتوحة .. مما يجر عليه هذا الامتزاج من اثر سيء، فأنشأ معسكرات خاصة يأوي إليها الجند بعد الانتهاء من كل معركة.
وكانت (الجوابي) (حمص) مقرا للجيش في سوريا .. و(عمواس) و(طبرية في الأردن، و(اللد) و (الرملة) في فلسطين، و (الفسطاط) في مصر، و(الكوفة) و(البصرة) في العراق .. ولضبط كل هذه الأعمال الحربية أنشأ التدوين، وهي عملية في سبيل تنظيم شؤون الدولة وضبط دخلها وتوزيع اعمالها.
كما أن الإحصاء جاء مكملا لهذه العمليات التنظيمية في سبيل ايصال الفيء الى المسلمين في شبه تعويض عن اقتصادهم الهزيل.
أما الاقتصاد، فإنه لم يلمح في التخطيط الى أي توجيه يمكنه أن يرسيه على قواعد صحيحة وفنية.
ولقد تعزز قليلا بالنسبة الى مدخول الدولة من فتوحاتها الواسعة التي حققتها بسرعة فائقة .. غير انه ترك أمر الاهتمام به ريما للوقت، من حيث سيرسم خطوطه عن طرق تطوير العقل واقتداره على الغرف من الحضارات المحيطة به، مقتبسا منها كل شائق وجديد.
تلك كانت اهداف ومخططات ابن الخطاب الناظرة إلى مستقبل الجزيرة من ناحية علمية.
اتراه كان مصيبا في كل تلك المناحي، أم أن شيئا من هذا النوع لا يبلع درجة من الكمال إلا مع التجارب التطبيقية؟
ص: 188
وذلك كان في بداية التطبيق في دولة آخذة في تثبيت وجودها لأول مرة في تاريخها، غير أنها كانت بعض المخططات ، وليست كلها، التي كان من الواجب ان ترسم بكل تفهم وحيطة وأن تمشي خطواتها بكل اخلاص وتجرد، وان تدرس بكل واقعية وانضباط، وأن تؤخذ بكل شمول وتعمق، وان تطبق بكل تحفظ وروية.
أما عثمان بن عفان، فأنه لم يتلمس النهج في البناء بشيء من هذا التدقيق المخلص أو هذا النحت المتيقظ .. فبقيت الدولة تثبط عن أهدافها، وراحت الرسالة تضيع مقوماتها مع الفتوحات المغرية، واصبح الفتح غاية ووسيلة يتسابق اليه الشعب سباقا، من حيث أصبحت الجبهات الحربية زحاما انتقل اليها معظم سكان الجزيرة.
أما البناء النفسي العقلي، فلقد أهمل بالتلهي بكل المغريات .. من أموال،وتحف، وسبايا، وغلمان، وموال .. إلى آخر ما على لائحة الكسب من اسلاب وغنائم.
وتبرم من ذلك عقال الجزيرة، كما تبرم المحرومون .. حتى ان الأقاليم المفتوحة التي أخذت بروعة الرسالة بدأت تتبرم من هؤلاء الذين أخذوا يستبيحون خيراتها.
ودليل ذلك، أن الثورة على ابن عفان كان قوامها عدة مئات من مصر، حضروا متذمرين من الخليفة المتخلف عن نزاهة الحكم.
هذا ما كان في بداية تأسيس الدولة الجديدة.
ولا شك في أن الأساس المتين هو الذي يعول عليه في تشييد البناية الضخمة التي قدم تصميمها الدين الجديد.
ص: 189
فالأخطاء التي حصلت أنما حسبت على القيادة ، إذ فاتها أن تكون الحريصة في التشديد على اعمال التأسيس .
ان هذه الأخطاء كانت الموصلة إلى هذه النتائج التي اخذ يعاني وطأتها علي بن ابي طالب منذ تسلمه دفة الحكم.
وأن مثل هذه الدراسة قد لمحنا اليها في فصل سابق من هذا الكتاب، كما أشرنا إلى كون ابن ابي طالب كان مطلعا عليها وهو في عزلته يراقب سیر الأحداث.
وها هو يتسلم زمام الحكم وفي جعبته مخطط الترميم، تعويضا عما فات، واستئنافا لعلمية البناء السليم.
ولكن الوضع الحاضر اصبح اشد عناء بكثير من الوضع الذي قابل الرسالة في اطوارها الأولى .
هنالك انسان كان يستدرج الى وعيه، و كان يشكو ثقل الزعامة عليه، لأنها كانت سببا لاستعباده وافقاره .. وهنا انسان موقظ متحفظ، اخذ من جديد يستسيغ التزعم عليه كأداة لاستدرار الربح واستمراره.
هنالك قبيلة بدائية ضيقة وفقيرة .. وهنا قبلية ارتفت إلى الحزبية المنظمة، ومدعومة بالأغراء المادي.
هنالك إنسان كان طفلا بريئا .. وهنا إنسان اصبح مفسودا حتى بالإغراء الجنسي.
هنالك عقلية بداسية كان سهلا أخذها . وهنا عقلية اخذت من الجديد داء ضمته إلى قديمها، فإذا هي تستوجب العلاء المرضين مشترین.
ص: 190
وهنالك الاقتصاد المركز المألوف .. وهنا الاقتصاد المباح الذي لا يستوي على ميزان.
وهنالك الثقافة التي كانت قد ابتدأت تبنی بناءا حثيثا ... وهنا الانفتاح على مديات أخذت بدون تفهم، فكان ضررها أكبر من أفادتها.
وأخيرا .. هنالك صاحب الرسالة، كان لا يزال حاضر الرعاية بالغ التأثير .. وهنا غيابه عن الساحة التي انكشفت بضعف التخطيط الذي كان لازما نفاديه عند تركيز الأساس۔
كل ذلك لم يكن أبدا من السهل مجابهته أو العمل على اعادة تنظيمه ..فالفتوحات قد انساقت الى مداها، وهي تتطلب المدد الدائم للمحافظة على مستواها.
والمدرسة التي كان واجبا أن توسع باحاتها لتخريج الحكام والقواد لتسلم قيادة هذه المقدرات، لم توسع لاستيعاب العدة المطلوبة.
والجيش نفسه، الذي اصبح كناية عن الأمة بكاملها، مستنفرة لقيام بهذه الفتوحات، ليس قوامه أية قيمة فكرية ثقافية .. فهو جيش يسعى وراء الكسب أكثر مما يسعى الى نشر فكرة سامية خليقة بإلباس المدنيات القائمة حلة جديدة .. لم يكن للقواد عليه الضابط الرادع، نظرا لضعف التنظيم وضعف القيادة.والجزيرة نفسها لم يتحسن اقتصادها من الكسب الجديد، بل جعلها هذا الكسب تتمتع بثروات موهومة، سريعا ما تذوب وتترك اثر اشد سوءا من الحالة الأولى.
والثقافة كذلك التي كانت قد بدأت تتبلور رويدا رويدا في عملية تنویر العقل والنفس، صدمتها الموجة المادية العارمة التي دخلت بواسطة الفتوحات
ص: 191
وارجعتها إلى غرائز وشهوات كانت دائما سببا في دك مدنيات زاهرة .. فكيف بها ادخل على مدنية لا تزال تتكبل بسلاسل بدائيتها.
إن هذا العرض للحالة الراهنة يلملم الموضوع ليلقي على عاتق ابن ابي طالب أكبر وأضخم تبعة عرفها تاريخ الجزيرة، ليكون معها أتعس حاکم تحمل أعباء شعب برمته، منذ أن وعى رشده حتى بلغ حتفه.
ص: 192
ان النعمان بن بشير لم يكن يمشي الى الشام بقدميه بقدر ما كان يمشي إليها بأحقاد العصبية، التي راحت تشطر الدولة إلى شطرين..
ولم يكن يحمل قميصا ملطخا بالدم أكثر مما كان يحمل نفسية ملفوفة بالضغائن.
ولم يكن ينقل رسالة مشبعة بآيات الدين الجديد أكثر مما كان ينقل فتنة ممرعة بالمكر والدهاء .
تلك العصبية التي كانت في جاهليتها محصورة بين بني هاشم وبني أمية في نطاقها التقليدي الضيق ، أصبحت اليوم ترتدي جبة واسعة خلعتها عليها السياسة .. فإذا هي تتبخر بها كأنها شيء من البطولات.
ولم تكن تنتظر قميصا لعثمان حتى تتململ وتمد لسان الأفعی .. فعثمان نفسه لبسته العصبية قميصا منذ ان اجلسته على كرسي الخلافة، وهي بإمكانها أن تفصل الف قميص كهذا القميص عندما تتوفر لها السوانح.
لذلك، فهمة النعمان بن بشير كانت شكلية تتلهى بها أعين السذج من الناس، يتوارى خلفها دهاقنة الدهاة في تحريك العواطف المستخدمة لصيانة المصالح والأهواء.
وليس التاريخ ليجهل أن عليا ابن ابي طالب كان بريئة من قميص عثمان الذين جرموا الذئب بقميص أخيهم .(1)
ص: 193
ولكنها الدنيا، تتشبث بملكوتها، وتستعمل كل الوسائل في سبيل اغراضها.
والشام اليوم في حضن معاوية وابن العاص .
تلجأ إلى مثل هذه الوسائل وسیان عندها أكان المتهم بدم عثمان بريئا أم لم يكن، فالوضع يسنح لفتح الجبهة .. على كل حال، فالأموي هو القتيل، وهم الأهل الذين يحق لهم الأحذ بالثأر.
ذلك كان ظاهر الأحداث..
ولم يكن افق الشام إلا ليتشح بذلك الأكفهرار الذي ينذر بهبوب العاصفة وانقسم الرأي العام في الامبراطورية الحديثة الى ثلاث كتل:
كتلة تمد يدها إلى معاوية، محورها الشام .. وكتلة تتشيع للإمام علي، ومحورها الكوفة . وكتلة حيادية نامت على يد سعد بن أبي وقاص فاتح العراق، والمتربع على أيوان كسرى.
وراحت كل كتلة تجمع سلاحها.
فلندع السيف قليلا .. فهو ليس بالسلاح المقصود .. وهو وان يكن له في الميدان قولة الفصل ليس اليه دائما يرجع معنى الظفر.
ص: 194
وقبل ان نوغل في الحديث فلنحذف الكتلة الثالثة، لأنها القت سلاحها واعتزلت المعركة (1)وراحت تراقب سيرها كأنها ليست منها وليست لها، تهريا من المسؤوليات .. يضر أكثر من أن ينفع .. من حيث يجرم أكثر مما يبرئ .
ولتستطرد الكتلة الأولى .. (الشام).
ص: 195
والشام منذ ان وجد الإنسان في الجزيرة وهي تعب من هجراته منها لتعيده اليها مع تموجات العصور انسانا" ملحقا بمناخ آخر ... وهكذا مع الأجيال كان يحصل ذلك التبادل الدقيق بين هذين الخطين الضاربين في قلب الصحراء ، يتلاقيان فيتمازجان ويفترقان، لينجبا مجتمعين متقاربين متناسلين من صلب واحد.
وهكذا كانت صلة الدم وصلة الروح تجمع شعبين بالأخوة الى مصدر واحد. .
ذلك هو الشيء الذي سهل اللقاء الأخير بين الجزيرة والشام، ليتبادلا العناق في حضن الرسالة الجديدة، وكي يدق بقبضة واحدة عنق الأجنبي الذي ولی مهرولا وهو يلفظ وداعه الأخير.
عليك السلام يا ارض سوريا .. ونعم البلد انت للعدو.
ولقد سمعت اذن معاوية ابن أبي سفيان ذلك الوداع التاريخي عندما كان يتقصىالعدو الرحال، يسانده بذلك عمرو بن العاص، وخالد ابن الوليد، وأبو عبيدة الجراح.
ولم يكن التاريخ ليصدق انذاك أن قبضة من البدو الهائم على هذه الصفحة المحروقة بنار الهجير تحقق مثل هذه الانطلاقة اللامعة، وتدك معالم مدنية زاهرة احتلت صدر التاريخ القديم.
ص: 196
أجل !.. لم يكن ذلك ليحصل لولا الرسالة التي اطلق دويها النبي الكبير فجاءت باسم التوحيد الأكبر، فوحدت الجزيرة بكل نزعاتها، وجمعتها من تشتيت قبائلها، وصبتها في قالب واحد .. فانطلقت تحقق المعجزات.
كان ذلك بقوة واحدة وهي قوة بني هاشم وبني أمية، وقوة اليمنيين والنزاريين، وقوة القحطانيين والعدنانيين.
بذلك السلاح الذي وحد العقول والقلوب ثم الفتح العجيب، ثم بفعل الإيمان وبما شع من الإيمان .. فكان وهج السيف من ذلك النور، وكان يحمله زند عربي موحد.
أما اليوم .. فما بال معاوية يعتمد الى سلاح قدیم غرير .. ما باله يستبدل براية العقاب البهية قميصا ملطخا بجريمة؟ !
هل كان له شيء من الأمجاد يوم كان ينفخ ببوق القبلية ليتغير بنو أمية على بني هاشم.
ألم تذبه الفتوحات بين يديه في نشوة الفتحة الصحيح والنصر الأكيد؟
وكيف به يحمل الرسالة يقهر بها قروم الروم دون أن يتمكن من دحرنزوات في النفس ترجع بها الى غياهب الماضي الذميم.
وهذا النصر اللامع الكبير الذي حققته الرسالة به على طول الشاطئ السوري، من حيث سجل اسمه في المع صفحة من صفحات التاريخ، هل يجوز له، بعد اقتناصه، أن يعود فيضرب حوله وشما من مخازي الخلافات الصغيرة التي لا يمكن ان تنعت باكثر من زحام على كرسي؟
وان وجهات النظر مهما تكتف له من مبررات في اقتحامه هذا الصراع الرهيب، لن تتمكن من بعثرة كل التهم التي الصقت بهذا الصراع .. جريمة
ص: 197
صفع الرسالة بكف التفرقة، وتجميد روعة الفتوحات بترهات الخلافات وشطر الامبراطورية الفتية الى شطرين متنابذین .
على كل حال ... لقد ختم على افق الشام قميص عثمان .. وها هي تستعد الامتشاق الحسام ... ولكنه حسام فاقد اللمعان.
ص: 198
وهذا هو العراق ، مهبط آخر من مهابط الجزيرة، یا طالما انفتح أمام هجراتها القديمة فامتصها ببداوتها ورجع اليها انسانا مفتوحا . ولم يفقدا يوما هذا التلاحم العميق رغما عن الزحف الذي كان يتوالى على العراق من الشرقتحمله اليه اطماع الأعاجم، كالشام كانت صلة الرحم وصلة الروح تجمع شعبين بالأخوة الى مصدر واحد.
وفضل هذه القربي تقبل العراق ابن الوليد، وافسح لابن أبي وقاص الوصول الى ایوان کسری.
كل ذلك قد تم باعجوبة تلك اللحمة التي وثقت عراها المحبة المشعة من عين الرسالة .. إذ كان اليمني والضري يتساندان كتفا إلى كتف في اقتحام ساحات ال جهاد .. يرددان كلمة واحدة (الله اكبر).
واليوم يتنكب خليفة عن رسالته، فيضرج بدمه ليستنفر النزاري على اليمني والهاشمي على الأموي، لخوض معركة داخلية تنسي الأرحام وتنكا الجراح، ويرجع بها الى الوراء اربعة عقود، وتسفح فيها كرامات الأمة.
كأن المجد الذي تمددت أفياؤه من اقاصي افريقيا حتی مرامي الهند كان لعبة لطفل أو ملهاة لسادر.
وكأن الرسالة التي اجترحت الأعجوبة الكبرى كانت نفخة من هواء وظلا عابرا في اضحية.
ص: 199
وكان الشام والعراق ما ترافقا يوما في طريق، ولا جمعتهما ساعة من جهاد، ولا اقتسما ضلعا من ضلوع المفاخر، ولا تمتعا لحظة بنشوة الظفر، ولا خيمت في أجوائها نفحة من نعيم السماء .
وكأن الجزيرة ما حملت يوما بهذا المعين الدافق منها، تبرد منه حشاياها الظامئات .. فراحت تلغ فيه كأنه بين يديها الأسن العكر.
وهكذا وقفت الجبهتان . جبهة الكوفة وجبهة الشام . تستعدان للزحف احداهما على الأخرى بسيوف يا ليتها ما كانت من الإسلام.(1)
ص: 200
يا أم المؤمنين ! ليس من باب نكأ الجراح أن يورد اسمك في هذا الكتاب مقرونا بمعركة فورت فيها دماء ابنائك من المسلمين.
وربما يكون ذلك من بعض امجادك ، أيتها الأم الكبيرة ، لو وفرت لك السوانح ركوب الهوادج الى تخوم الجزيرة، حيث كان الفتح يجمع النصر باقات تنشر ازاهيرها على جدث زوجك العظيم الراحل.
ولكن التاريخ الذي يوسع لك في صدره مجالا واسعا في باب الحرمات، كان يأسف أن تشوب حروف اسمك الناعم بعض الشبهات.
إذ إنك لست من هؤلاء اللواتي كن يعشن على الهوامش .. فأنت زوج الأضخم اسم في الحياة ، من حيث اصبحت أما لأكبر عدد من السلالات ولا تزالين ايتها الأم الوقور .. فكل من اسلم لربه تستهيمه الى حضنك الدافئ شعائر النبوة.
من هنا تنساق عليك ابواب المآخذ...
إذ أن التدخل السافر في قيادة معركة كانت من أقسى المعارك الأهلية التي شهدتها الجزيرة، لم يكن ليجعلك في موقف الأم المتألمة من مشاهدتها ابناءهايتزاحمون إلى موارد الموت.(1)
ص: 201
لا!.. بل ان عكس ذلك كان..
فلقد كنت في طليعة المحرضين، ولقد تأبطت سيدين من أسياد قریش،(1) ورحت تطوفين بهما بين مكة والمدينة، وبين المدينة والبصرة .. ولقد اعتليت منصات الخطابة تؤلبين حولك وحولهما الأنصار، من حيث هيأت للمعركة عدة لبتك تلبية المستميت.
ولا غرو .. فإن صوتك الجوهري، وبيانك الفصيح، الصادرين عن شخصية اكسبهما القرب الوثيق من النبي قوة التأثير وصدق التلبية ، كانا معوانا على تحضير تلك المعركة تحضيرا عب من دماء المسلمين على غير ارتواء وجمد قوة الدولة الناشئة تجمیدا مؤلما .. واستدرجها لمقابلة سلسلة من المجازر الأهلية اوهمت بها اركانها واجلت عنها هيبتها .. لتكون فيما سببا وجيها في إناحة عزها، وتقليص مجدها، ونقل مركز القيادة منها.
ليس معنى ذلك، ايتها الأم الجليلة ، انك لو لم تقفي موقف المتشیع کنت تتمكنينعلى تأكيد من رأب الصدع بين جهتين متصارعتين على كرسي الحكم.
ولكن موقفا من هذا النوع لو كنت لتقفيه، يكون له كبير أمل على ترجيح في تخفيف الحدة الناشبة ومنع الاصطدام الواسع.
فالجمل الذي اعتليت لو انك قدته الى سوط الساحة، ومن طاقة هودجك اطللت بوجهك الصبوح، وقلت بكل ايجاز:
ص: 202
(أنا أمكم يا مؤمنون .. هذه هي أنا بلساني، بمعصمي ، بقلبي، وبحناني ..ضعوني حدا بين خلافاتكم..).
لو فعلت ذلك فقط، يا سيدتي، ربما كنت تمكنت من تغيير مجری الأحداث، لأن المشاهد كان بمكنته ان يرى ويسمع ويفهم .. يرى في عينيك شعاع الحب، ويرى في وجهك شعاع الحب ويرى في الإيمائة عن معصمك شعاع الحب .. ويستجمعها كلها فيسمع فيها نداء الحب .. وقلبها جميعا في ذاته، فيدرك منها معنى الحب.
وليس الإخلاص بغیر اشعاع، فهو في العين ابلغ منه على اللسان.
ذلك الاخلاص كنت أنت الأولى به مصدرة فياضا .. فأنت أم المؤمنين تتنزه فيه الأغراض ... فلا الحكم غايتك، ولا الرياسة مشتهاك .. وجل مبتغاك ان تجمعي المسلمين الي حنانك كما جمعتهم الرسالة إلى رواقها، وكل أمجادك انك كنت الرفيقة الكبيرة للرجل الكبير .. وليس همك، بعد رحيله، غير التأمل والتبصر، ورعاية التركة البهية التي هي بين يديك.
أما المتنافسون على الخلافة، فليس لديهم اليك غير المحجة للوسيط ،والرجوع منها بالنصح الحليم والزجر الحكيم.
كل ذلك لم تفعليه .. واكتفيت بالمناصرة الجزئية .. حتى حصل ما حصل. فكيف اغريت على ذلك؟.. أو كيف اريت صوابه؟!
هذا هو الذي جمعه التاريخ، ليسجله على هامش الصفحة التي تنزل عليها اسمك الجميل في حقل التحفظات، من حيث كان أبهي لتلك الصفحة أن تخلو منها.
ص: 203
ليست خطورة الحديث عن (طلحة) و (الزبير)(1) بالنسبة الى شخصيتها بقدر ما هي بالنسبة الى الأثر السيء الذي تمكنا من ترك اظلاله السوداء تخيم على طول الجزيرة وعرضها لأن هذين الرجلين اللذين نفخت واصرهما رفقة الرسول، لم يتنكنا من ان کيتسبا من الرسالة أكثر مما يقدر الطاووس على اكتسابه من رأسه الصغير المرتفع وذيله الطويل المنتفش؟
ولقد بقيا كذلك يحملان بداوة الجاهلية تحت زركشة ريش موهوم، لتغرربهما في كل سانحة .. بداوة تشد بهما إلى الوراء، واستقراطية تدق انفيهما إلى فوق.
وبثوبين باليين تمكنا من ثقب الجدار ليدخلا منها إلى الحصن، حيث جلسا، وبقيا جالسين، حتى (وقعة الجمل).
ولقد ترافقا كل عمرهما متساندين متنابذین كما ترافق ذئبان إلى رطيدة ..فأما الطريدة أما الرفيق يسقط فيكون الطريدة !.
وهكذا كان يمني كل واحد منهما نفسه بالخلافة .. وسيان لديه، أكان يحمل لهماالعدة اللازمة أم لا يحمل .. كأن قرشية كل واحد منهما لتحل الأعباء تكفي!
ولم يزل هذا نوالهما حتى استأنس كل واحد منها بنقطة الضعف عند عثمان بن عفان ، فأسلما نفسيهما الى المحاولة.
ص: 204
ولكن الثورة التي رميا الى نارها بعض الوقود، لم تكن لتضع نصبعينيها شخصيتين من هذا العيار.
وسريعا ما انفتلت تلج على فتاها الأصيل لتطرح بين يديه زمامها .. کالأفعى الجريح تنقلب على جرحها تعضه ربما يبرأ، انقلبا على جرحيهما بعضناه معا في مكة، حيث تمكنا من التغرير ب(أم المؤمنين) .. فهمت تلف ساعديهما!
ومن وراء الأفق، حيث تنام الشام على قلق، جاءتهما شعرة معاوية تتلاين في ملمسها لتزفر الباقة الجمعة بأمل المبايعة والوصول بأحدهما إلى خدر الخلافة، ولتنفخ فيهم بطولة معكوسة.
ويخلق الله لكم مالا تعلمون.
ونجحت الردة الجديدة يقودها الجمل (عسكر) .. وسارت تغرر بألوف المسلمين حتى هبطت البصرة .. وفي يوم واحد لاقت حتفها!
ص: 205
من المؤكد ان اعمال الفتوحات التي توسعت مع الوقت اکسبت القواد العرب الخبرة في القتال، من حيث اصبحوا بعدون من المع رجالات الحرب في ذلك العصر.
فخالد بن الوليد الذي خسر (معركة مؤتة) - أولى محاولاته على الروم قرب بحر الميت . استفاد من هزيمته تلك ليستفيد أكثر فأكثر في دحر قوى الردة على ابي بكر، ثلم لم يعدي ليذوق طعم الخيبة لا في الحيرة التي انتزعها من آلساسان) ولا في حصاره المشهور على دمشق التي اقتحمها طاردا منها الروم ليضربهم الضربة القاضية في يوم اليرموك.
اه هذه الخبرة الحربية التي وفرها الفتح الإسلامي لرجاله وقواده، والتي جعلت خالد بن الوليد في مصاف القواد .. هي نفسها التي اكتسبها معاوية وشرحبيل وابن العاص في قفزاتهن .. ان الى مصر وأفريقيا، أو الى ارمينية و اذربيجان .. وهي نفسها اليوم يستعملها ومعاوية وعمرو بن العاص .
وبدلا من أن يستمرا يضيفان اليها الحنكة تلو الحنكة في دفع الفتوحات الى الأمام وتثبيتها على أساس متين من الوزن والاستقرار، سحباها من ساحة الفتح ليستعملاها، بكل دواهيها، على الجبهة التي قررا فتحها على الخليفة الجديد، بحجة الثأرلعثمان.
وفتح الجبة في الجزيرة نفسها كان من احكم الخطط واصوبها، لأن نقل القتال الى ارض العدو له افضلية النتائج، إذ ان ارض العدو هي التي تكابد الخسائر.
ص: 206
وهكذا تمكن معاوية من ضرب اسفينه في ارض الجزيرة، مستخدما طلحة والزبي، منيا احدهما بالخلافة، مترقبا من وراء ذلك ارهاق الطرفين لعله بعد ذلك يجد الفرصة الأكثر ملائمة الأعلان انتفاض آخر يوصله إلى غايته الأخرة التي لم يلمح إليها بعد حتى الآن.
في الوقت عينه، لا يكون قد فرط بشيء من قواه التي يوفرها لوقت لاشك ففي أنه سيحتاجها فيه.
ولقد نجج في كل ما رمي إليه، فإن طلحة والزبير - وهما من أجل الصحابة - تمكنا بمعاونة (عائشة) أم المؤمنين من تأليف الجبهة المقصودة وسارا يقود حشودهم (عسكر) - اسم جمل أم المؤمنين - الى حيث اصطدموا بحشود الإمام علي قرب البصرة ، حيث فشل خصام الخليفة، وقتل قائدا المعركة
طلحة والزبير، واسرت عائشة أم المؤمنين، وارجعت الى بيتها - وهي نادمة و آسفة - بكل احترام .
ص: 207
قيل : أن معركة الجمل انتهت بيوم واحد، ولذلك نعتوها باقصر معركة في التاريخ راح ضحيتها اكثر من خمسة عشر ألفا ... أكبر عدد يمكن أن تستهلكه معركة في يوم واحد .. أي في اقل مدة يمكن أن تحسب بالثواني الاستيعاب مثل هذه المجزرة التي عدت بالألوف.
ولكن (معركة الجمل) تأبى أن تتلبس نعتا هزيلا كهذا النعت يحصرها في يوم واحد) وهي لا تزال تفتش، حتى اليوم، عن كلمات أوسع وأشمل تتمكن من ان تناسبها لتبرز فيها مستكملة شروط وصفها و تحديدها..وكيف تجد ذلك وهي معركة كانت تكملة لمعارك عديدة سبقتها، وهي لا تزال مستمرة بعد اربعة عشر قرنا حتى اليوم .. دون أن تدري الى متى سيستمر مفعولها التخريبي على طول الرقعة المسماة ب(دنيا الإسلام).
فهي نفسها اصبحت تجهل - تقريبا . تاريخ مولدها، وتجهل ايضا الموعد الذي ستلفظ فيه انفاسها .. ولم يعد بإمكانها ضبط العدد الكبير من ضحاياها ، لأن العدد سقط تحت خف الجمل ليس هو إلا أصغر عدد أمكنها أن تحصيه ، من حيث اختلط عليها احصاء الذين سقطوا من قبل، وداخت عن اصحاء الذين سقطوا من بعد .. وسوف تضيع عن أصحاءالذين سيسقطون في المستقبل الحامل كل انفاث سمومها.
ولكنها تفخر بكونها بدء التاريخ .. لأن سبقها قد اسقط من الحساب اذا غمرته الجاهلية بعدم المسؤولية.
فهنيئا لمعركة الجمل تلقل نفيها ب (أم المشاكل).
ص: 208
ولكن معركة صفين تتقدم بكثير من الاعتراض على اختها، إذ سابقتها الى حق البكارة.
فهي تدعي أنها ولدت قبلها في الساحة، وإنها هي التي دغدغتها ومرتها على تحريك قدميها، وهي التي كانت تحنو عليها بكثير من العطف قبل ان تتجرأ على الوقوف وحدها، وهي التي وفرت لها السبيل لأن تمشي وهي تراقبها بفرح الناقة يحبو تحت انفها فصيلها .. حتى إذا ما سارت الى آخر البلدان نسب إليها اكتشافه واحراز قصب السبق.
والحقيقة : أن معركة صفين صادقة في ادعائها .. إذ لولاها لما كانت (بنت الجمل) لتجرأ على المحاولة القاسية.
والفضل يعود الى صفين في كل ما يسمى بشق الطريق واللعب بين المخاطر.
وان حق البكارة يعود لها ... فهي البكر بالمولد، وهي الأساس بالتدريب ، وهي المعلمة الفاهمة بكل فنون الميدان، وهي التي ضرستها الأيام فاکسبتها قوة الجلد والصبر على اقتحام المخاطر، وهي التي اضحت خبيرة بأمور الساحة، ما استدق منها وما انفرج وما أعوج من خطوطها وما استقام .. وهي الفعل، التي دفعت اختها الصغيرة الى السحة المكشوفة، وكانت من بعيد تسندها وتدغدغ خطواتها.
ولكن المشاهد أبى إلا أن يسلم الطفل الجرئ جائزته الأولى ، إن لم يكن عن جدارة فعن تحبب على الأقل.
ص: 209
أما معركة صفين فلن نغمط حقها، إذ سوف تلبث الاخت الكبرى لمعركة الجمل، حتى انها سوف تبقى مستحصلة على حق الأمومة.
فهي (أخت) و (أم) في وقت واحد؟
وإن معركة الجمل لن تخسر فضيلة الإقرار بالجميل.
فهي تصرح : إن صفين اختي وأمي في وقت واحد .. أمي التي ماتت - وأنا طفلة - اثر مرض عضال لم يشفها منه نطس(1) الأطباء الذين تداولوا على تمريضها تحت ستائر الكعبة، فتحطمت ضلوع (هبل) ولم تتمكن من شفائها، وكذلك فقئت أعين (اللات) و (العزي) و (مناة) دون ان تصل الى اكتشاف الدواء، وعجزت كذلك زيانية (بدر) و (أحد) و(خيبر) عن اقتلاع الحرجة التي كانت عالقة في خلق الأم التي وهنت .. وأخيرا لفظت هي آخر أنفاسها.
كان ذلك تصرح به (معركة الجمل)، وتدرك أن اختها (صفين) هي التيتعهدتها بالتربية حتى بلغت رشدها . وهي اليوم - أي بنت الجمل - إذ تتزوج من استقراطي، فإنها لن تستأثر بثروة هذا الزوج الثري الذي مات في ليله عرسه، فلأحتها الكبرى منته النصيب الكبير.
ص: 210
من المؤلم حقا أن توصف (معركة الجمل) و (معركة صفين) بشيء من التهكم الحزين.
ولكنها فورة الألم على الأمل المصدوم .
این هي تلك الروعة التي كانت ترافق العرب على طول الجبهات المفتوحة تتظافر فيها على هاماتهم أكاليل الغار؟
و این هم القواد من العد المدحور يتكفكفون من حصن الى حصن يحررون أذيال الانخذال؟
این (هرقل)؟ .. این رستم)؟ .. این (المقوقس)... این (سرجيوس) و (نيودروس) و (یزدجرد الثالث)؟ .. أين (آل ساسان)؟ .. این ابطال الروم؟..
هل سمح لكل هؤلاء ان يستعيدوا النفس الواجف ويلموا الشمل المشتت بعد أن شاهدوا الزاحف الفاتح ينكفئ الى خاصرتيه يغوص فيهما برمجة وحسامه؟
وأية قوة ستكون فيما بعد للعرب لمجابهة كان الأحداث التي تستألب عليهم عند رجوع المد؟
وكيف سيقابلونها بكف مبتورة وسيف مغلول؟
وستتألب عليهم تلك الأحداث، وسيدفعون لها الجزية صاغرين .. وهي جزية يفرضها عليهم تنكبهم عن مضمون رسالتهم، يفرضها عليهم تضليل الفتح عن اهدافه .. إذ أنهم لو وعوا اهداف الفتوحات لكانوا أول ما عمدوا الى
ص: 211
فتح الجاهل في نفوسهم، يكنسون منها قذارة التعصب القبلي وما يوحي من شهوات تضلل النفس والعقل وتمرغهما بأنتن الوحول.
وما كانت الرسالة إلا فتحا مبينا في عملية انتصار العقل على الجهل، وفتح کوی الخير على النفس ، وابدال التسامح بالحق، والمحبة بالبغض، واضاءةالدنيا بالدين.
وما كانت معركتا (الجمل) و (صفين) لتجيبا الرسالة بشيء من موحياتها۔
فاليمنية والقيسية هما نفسهما اللتان لا تزالان في الميدان، وهما نفسهما لا تزالان حاملتين روحية الجاهلية من عرب الجنوب وعرب الشمال، ولا تزالان منتمتين الى قحطان وعدنان .. وهما اللتان لا تزالان الخط الذي ينقسم عليه المتنافسون في ظل الرسالة على اقتسام الدنيا والتنعم بخيراتها.
ولقد استنجد معاوية باليمانية حتى أوصلته الى عرش الشام، وسيستنجد أبو مسلم الخراساني (1)بقبيلة (الأزد) اليمانية لدك العرش الأموي وتسليمه الى العباسيين، من حيث لم يتمكن الخليفة الأموي (مروان) من الوقوف في وجه الزحف العباسي، لأنه سيكون منهمكا بالخلافات القبلية بين القيسية واليمنية بالذات .. ليس في الأرض الأم حسب، بل حتى في الأندلس التي يستقبل إليها من الفتح القيسي وستكون الروح القبيلة الغذاء النفسي للفظائع التي سطرها التاريخ.
ص: 212
القبلية الهوجاء التي جاءت الرسالة تحرقها، تطمرها، تمحو آثارها.. ليصفو الجو المجتمع صحيح مبني على عقيدة وإيمان، على عقل وصواب، على نظافة وعدالة، على محبة وإخاء.
ولكن يومي (الجمل) و(صفين) لم يكن لهما غير عيني جمل همه قضم العشب من واحة ضخراء .. وسيان لديه: ينضب دجلة ويردي ، أم يغور الفرات !!
ص: 213
على ضفة الفرات الغربية تقوم (صفين) شمال (الرقة).
بعد انذارات عديدة ، ومحاولات فاشلة قام بها الرسل بين الخليفة الجديد معاوية لمنع هذا الاشتباك، تقررالزحف لقمع العصيان.
التقى الجيشان المعبئان في صفين.
اسبوعان من الوقت مرا في مناوشات خفيفة ، كان القصد منها استدراج معاوية للكف عن القتال فتسلم جوانب المسلمين.
لم تنجح المحاولة.
منع معاوية جيش علي عن ورود الماء.
تمكن جيش الخليفة من الشرب بالقوة، ولم يبادر الخصم بالمثل.
شهامة قدمت على سبيل استدرار العاطفة، لم تنجح.
التحم الجيشان في قتال أليم، وكادت تدور الدائرة على جيش الشام.
استنجد معاوية بعمرو بن العاص لتفتيق الحيلة.
جادت الحيلة على ابن العاص، فنصح برفع المصاحف، وطلب التحكيم.
بعد مداولات عديدة، وتحت ضغط الأنصار، لاسيما (1)هؤلاء الذين سمو فيما بعد ب(الخوارج)، وفي سبيل حقن الدماء، قبل التحكيم .. بل أجبر الإمام علي قبوله.
عمرو بن العاص عن معاوية..
ص: 214
أبو موسى الأشعري عن علي.
تمت المهزلة التاريخية بخديعة الحكم الأشعري .. من حيث عزل ابن ابي طالب عن الخلافة !!
كانت الحصيلة عشرات الألوف من القتلى.
استئناف القتال.
تصدع الوحدة الإسلامية..
ظهور الخوارج..
تجميد الفتوحات..
اغتيال اكبر رجل كان بإمكانه صيانة الأمة وارساؤها على اصول من المناقب والفضائل تتجمل بها لو فعلت، وحين تفعل، الى ابعد الدهر.
إذا كان من حق الثعلب يفتخر بدهائه، فأي دخل لذتبه بهذا الافتخار؟ !
ولكن الذيل يدعى : ان الرأس الذي يحتاك بالحيل لم يذهب مرة واحدة في مغامراته دون ان يصطحبه لذلك .. فهو رفيقه في كل خطوة حققت له فن الرواغ.
إذا كان الأمر كذلك، فلمعركة (النهروان هذا الحق بالإدعاء .. فهي ذيل طویل المعركة صفين دون جدال.
ولكن ان تكن قد انبترت بضربة واحدة، فإنها لن تمر دون أن تتبعثر من حوالها علامات التعجب والتفجع، فوق ما تركت من ذيول لا تزال تتجرر
ص: 215
حتى اليوم، منطوية على فلسفات يشتق بعضها من بعض كماتشتقالسفسطات من المماحكات.
غير ان الخوارج في كل ما تشعبوا إليه، من الأزارقة، إلى النجدات الى الأباضية، إلى الصفوية .. إلى كل فرقهم التي بلغت العشرين، في غلوهم أو في اعتدالهم، في ديمقراطيتهم أو في ارستقراطيتهم .. فإنهم يستحقون شيئا من الإجلال على كثير من الشفقة، لأنهم كانوا ينشدون الحق وان اخطاؤه .. كما قال عنهم الإمام علي قبل موته : (لا تقاتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه)، أو كما قال عنهم عمر بن عبد العزيز في ما بعد: (إني قد علمت أتكلم لم تخرجوا مخرجكم هذا الطلب دنیا او متاع، لكنكم اردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها).
إن معركة صفين تتذيل بمعركة النهروان .. ويكفيها بؤسا كونها، فوق ما فسخت العالم الإسلامي في فخر وحدته وباكورة أمجاده، تسببت في حقن صدر ذلك الخارجي بسموم الحقد، فشرب سيفه به، وأقدم على قتل أعظم رجل عرفه تاريخ العرب بعد النبي صلی الله علیه وآله.
ص: 216
خاصرتا ابي موسى الأشعري (1)
من المؤكد بأنك لم تكن من ذلك العجين الذي إذا خبز تشهته الموائد، ولا عودك كان من ذياك النبت الذي إذا حرق صفا نوره وطاف دخانه، ولم يكن المعانك من النوع الجرئ الذي لا يخاف من أن يعرض ذاته على المحك الذي تتجلى عليه صفوة المعادن.
ولقد تسلمت زمام الكوفة فالتوى فيها عودك كما يلتوي العكاز في يدالكفيف.
وأين تقع للضرير من دليل غرير؟
لذلك، نبذتك الكوفة حين انتدبتك عصا تتوكأ عليها، فلم تجد فيك أكثرمن عصل.
أما أنت، فلبثت تتعصر على خاصرتيك تنفخهما بشيء من العلم المفقة،حتى ظن عودك الأملد.
ص: 217
ولم تخف على علي بن ابي طالب خوافيك .. فهو الذي أبقاك على الكوفة يجلو بها جوهرك، وهو الذي عنها رماك بعد ان استعجم عودك.
ولكن الأقدار التي تحبل بكل المساخر، لم يطيب لها إلا أن تطرحك على الخط الذي ستلتقي عليه كل القوافل.
فيا ويل خاصرتيك المنفوختين بالعلم الهاء!۔
کم ستلقى من الوطأ الثقيل مع السرى ومع الادلاج ذهابا وايابا على كل هذا الخط الطويل؟؟
ص: 218
لم تكد تنتهي معركة النهروان حتى رجع القتال إلى ما كان عليه بين علي ومعاوية .. تارة يتلبس الجبهات الحربية القاسية، وطورا يتقلص إلىمناوشات ترتدي طابع التحابيل والتراوغ وزروع اعمال الفوضى والتخريب في سبيل اشاعة الرعب وقض المضاجع.(1)
أما الشعب الذي كانت تمثل على اعصابه كل هذه الأنواع من المهازل، فكان عرضة لقلق نفسي يترجع به بين الغضبة لكرامته واستئناف القتال، وبين الاستكانة من قتال يجعله الخاسر على كل حال.
واصبحت الدوامة هي نفسها..
اليمني هناك على طول جبهة الشام، والقيسي هنا على طول خط الكوفة. وبين اليمني والقيسي حبال متصلة من كل شتیت.
القبائل المتفرقة، والمشدود بعضها ببعض أما بعامل الزيجة والقربى وأما بعامل المصلحة والأثرة، ولا ترقب، مرهف مع أية جبهة من الاثنين تميل كفة النصر..
وهكذا حسب التقديرات والترجيحات، كان يحصل الانتقال الشعبي للالتحاق بالمعكسر الذي يتأمن معه اشباع الرغائب وتسمين المطالب !
ص: 219
ولم تكن لتنتهي المناوشات .. فلقد اصبحت حالة راهنة .. لذلك عقدت بين الشقين المتنابذین هدنة رضخ لها الطرفان، تكرس فيها التقسيم الإداري حقنا للدماء، ولملمة لسمعة أخذت تصفر كما وجنة المريض على فراشه السقيم.
ص: 220
هي هدنة أم هي تعب من سياسة نشرت كل فشلها على كل أجواء العالم العربي بها فيه الجزيرة والشام واليمن ومصر؟
أليس هو الفشل يؤدي بمعاوية الى تجميد الفتح وقبول دفع الجزية الكونستانس الثاني) عاهل الروم؟
أليس هو الفشل يحوج ابن أبي طالب الى ان يعيد النظر في اعمال الفتوحات على الخط الشرقي ليرد انتفاضة الفرس بقيادة ابنة كسرى التي هبت تحاول استرجاع أمجاد أبيها متبرمة من الفتح الغادر الذي قدم الرسالة على كف ثم أخذ يلملم بالكف الثانية كل السبايا والأسلاب والغنائم، ولقد تمكن خلید بن فارس، عامل علي على خراسان، من اسر الأميرة المنتفضة في (نیشابور) وسوقها مخفورة إلى ما بين يدي الخليفة .. ولكن ابن ابي طالب الذي لم يكن التروق له كل الأنماط التي سيقت بها الفتوحات منذ بدأت الفتوحات، لم يعامل الأميرة الأسيرة بتلك المعاملة التي كانت تجري على اسرى الحرب، ولقد عرض عليها ان تختار الرجل الذي تريد فيزوجها منه، ولكنها رفضت إلا الرجل الذي يملك في الدولة حق الصدارة.
وانف علي ، هو الكهلالجليل، من أن يقبل بالزواج الفاقد عناصرالإنسجام، لتكون في ما بعد الحرية المطلقة للأسيرة.
مثال صغير قدمه علي بن أبي طالب على كيفية سوق الفتوحات نحو أهداف سامية، لا يليق أن تدنسها مطامع الكسب، ولا أن تغير جوهرها غايات الغنم أولذاذات التمتع المتدني.
ص: 221
حتى أحط الميول البهيمية تثيرها عماوات النزعات الجنسية.
فالزواجح الذي كان بحد ذاته، في تلك الأيام، نوما من الكسب السياسي الربط القبائل بأواصر القربي في سبيل تخفيف التناحر القبلي.. لم يتمكن من تأدية الغاية المنشودة، وبقي يعرض الفتح الى انحطاط النزعات وحرقة في سعير الشهوات، ليلهيه عن مجاري الفكر العالي والانصراف عن حرز المكاسب الروحية.
وابن ابي طالب ، المتشبع من جلالات الفكر، والمرهف الحس بكل الواعج الروح، لم يكن ليرضى بالدنيا تجر على الفتح خطوطها الملطخة بالمهجة الجنسية وبالفكرة الوحشية.
وسواء انتمكن من فرض ذلك بقوة الحكم أم عجز عن فرضه، فإن المهم لديه اصبح، بعد ثقل الأحداث وروعتها في تجسيم النماذج وفي حصرها ضمن الحروف الكبيرة والقنوات النافرة، تحمل تساجيلها مقرونة باسمه وباسم الدعوة الكبيرة الى كل الأجيال التس تتناقل الرسالة لصبها في قوالب مناهجها.
ولقد أصبح هذا شهوره - ومعاوية يتخذ الشام متراسه - بأن الجزيرة التي سجلت فضل بث الدعوة الكبيرة ، لم تتمكن مطلقا من اقتناص روعتها إلا كما تقتنص الطلقة صداها المرجع، ولن يكون الكسب المادي الذي جاء على الحواشي إلا كما يكون الهطل من ديمة مر بها السحاب ثم طواها.
فلتكن الهدنة .. وليكن معها الرضوخ للواقع النفسي الثقافي الذي لم يتمكن من فرض توحدي كيانات العرب منذ اللحظة الأولى التي أحسوا بها بلذة طعم هذا التوحيد وليشعروا بخيبة التفرقة التي تقدم اطباقها الأنانيات المهيضة ولينكبوا ماشاءت لهم نزعاتهم المريضة أن يتكبوا عن كل المثل التي
ص: 222
جاءت تنظف دربهم من العوسج، وليحبو وحده هذا الطفل، وليسقط وحده كذلك، وليتكرر حبوه وسقوطه على طول الطريق المفتوح أمام قدميه .. فإن كل كدمة في ركبتيه ستذكره بضلاله عن جادة المسلك.
ص: 223
في هذا اليوم بالذات ضرب عبد الرحمن بن ملجم موعده مع البطولات .. فلقد عزم على أن يسن سيفه ويطيبه بقبضة من السموم ليقتل به علي بن ابي طالب.
ولقد شددت اعاصبه (قطام) المرأة الجميلة المغرية.
وقطام هذه، خاض كل الحروب أبوها وأخوها .. ولقد نقلا في معركة النهروان، ذهبا يقابلان ريهما، تاركين ظلا كثيفا من الضغائن لا تزال حتی اليوم، تنسل تحت عتمة النفوس المريضة بوباء الحقد والمكابرة.
أما الابنة المفجوعة، فهي لن تنام بين ذراعي العاشق المتيم إلا بعد أن مهرها برأس ابن ابي طالب !!
وهكذا تربع التاسع عشر من رمضان في صدر التاريخ، من حيث تخشعتالذكراه صفحات التاريخ.
ص: 224
قالوا: أن اليد التي امتدت الى (نهج البلاغة) هي يد طويلة كانت اطول من ثلاثة قرون، ولقد امتدت تتلاعب بالحروف، تصوغها كما يشاء فن الاقحام.
فإذا كان الأمر كذلك، فإن للمقحم أطول باع في مجال الفن .. إذ طالب غوصا يؤهله لأن يندمج فيه تمام الاندماج، وكان بارعا في فن الإخراج وفن الأداء، وفن التقليد، وفن التمثيل .. فظهر، وهو يقلد، بمظهر الأصيل الأصيل، فذاب النزيل في الأصيل ، وضاع القصد من الدخيل.
واي شيء انزل على (نهج البلاغة) لم يكن تصويرا صادقا لتلك النفسية التي نزلت في جسد علي بن ابي طالب كما يتنزل نور الشمس في الكأس الشفيف؟
وأي عمل المجزه ابن ابي طالب في حياته لم يكن تعبيرا متناهي الصدق عن تلك النزعات السامية التي كانت تتأجج بها روحه الصافية .. ففاضت في كل تعبير من تعابيره، وفي كل اشارة من اشاراته، وفي كل جملة من كتابه؟
وماذا جاء في (نهج البلاغة) يدغدغ الشك فيما جاء في نهج البلاغة؟
وهل الكتاب كان غير تقويم للرجل الكبير في نهجه الطويل، الذي زرععليه الإنسان قيمة تتبلور بالعقل الصحيح تسمو بالفضيلة، وجعل الفضائل تنمو وتدور على محور واحد هو محورالتقوى والإيمان بالله ؟
ص: 225
ومتی، وفي أية لحظة من لحظات عمره، لم يعبر عن هذا النهج الصريح؟
افي اعلانه الرسالة وايمانه بها ولقد نذر نفسه للدعوة لها والجهاد في سبيلها، أم في تطبيقها دستورا کاملا لكل مجاري أفكاره واقواله واعماله من حيث كان زهده وتقواه وشجاعته وبطولته؟
فقد كان الإقحام في (نهج البلاغة) تكريما لتعابير تحمل مثل هذه المعاني لم يسكبها جنان المنسوبة إلى ضمن حروف نبتت من شق قلمه، فإن ذلك لم يضير نهج البلاغة بشيء .. لأن الكلام المقحم جاء صادقا في نحت نفسه قالبا لائقا بالفكر الأصيل، ولأن البلاغة في مفهومها الحقيقي ، ليست مطلقا في قوة اللفظ والنحت بقدر ما هي تنزيل لسمو المعاني في قوالب متينة السبك والحبك، وان هذه الأخيرة تبقى ابدا قوالب جوفاء ما لم تستتم فيها تلك المفاتن.
و(نهج البلاغة)، سواء أكان(1) صقل حروفه على يد ابن ابي طالب ام كان على يد مقحم فنان، فإنه يبقى دائما تعبيرا عميق البلاغة عن نفسية رجل واحد سمي ب (علي بن ابي طالب).
ص: 226
قيل : أن دهاة العرب اربعة.
وقسموا الدهاء عليهم..
فكان حق الأولية لمعاوية بن أبي سفيان، إذ سلموه الروية..
وخصوا عمرو بن العاص بالبديهة، نظرا لكونه سيدا من افتى باختلاق الحلول عند اشتداد المصاعب وبروز المفاجئات..
أما المغيرة بن شعبة، فلقد خلعوا عليه قسم المعضلات.
وتركوا لزياد بن أبيه القسم الأخير لكل صغيرة وكبيرة.
والملاحظ پرى : أن الدهاء، بهذا التقسيم، كان من نصيب بني أمية وفي شخص معاوية ومن لف في فلكه، من حيث لم يبرز له اثر فيما قبل هذا التاريخ .. وكأنه بفعل هذه الحيازة لم يبق من حيث الأجيال التي تتلوا ان تدعي حق الانتساب إليه.
ويحار الملاحظ ايضا في امر زیاد بن أبيه،(1) في أي وقت كفكفت اليه الخلعةالسنية ؟.. هل عندما كان ميله وهواه مع علي بن ابي طالب أم عندما اعترف معاوية بالأخوة المنسية وضم الى صدره الأخ أخاه وسلمه زمام البصرة الثائرة والكوفة المتمردة؟
ص: 227
ولن يتوقف الملاحظ ايضا عن ابداء الدهشة والحيرة عندما يرى العصر مشطورة إلى شطرين متناحرين .. كيف اذا شطرا واحدا كان نصيبه كل الدهاء، من حيث لم يبق للشطر الآخر شيئا منه يتحلى به؟
ثم ان الدهاء الذي قصدوه هو غير الدهاء الذي يعرفه الواقع العلمي والرأي الفلسفي.
والحقيقة، أن الدهاء درجة عالية من درجات الذكاء ، يتصرف به العقل في الباقة الإخراج لكل القضايا المعقدة التي تعترض في سير الحياة في تطلبها الحلول والمعالجات.
وهو إذ يكون محكالقوة العقل وعمق مداه، يكون بالوقت نفسه، في كيفية تصرفه تعبيرا عن قوى النفي ومدى الصفاء في جوهرها.
ولن يكون له امر جليل ان لم يكن وليد تزاوج بين العقل السليم والنفس الكريمة.
إلا أنه في مفهومه الذي أبرزوه مع أبطاله الأربعة، لم يكن إلا سلاحا يلجأ إليه أهل الدنيا في الوصول الى اغراضهم، ولا يحتاجه كثيرا أولئك الذين تنقبض نفوسهم على الزهد بها، وهو سلاح تتاركب ضلوعه على المكر والخداع اكثر مما تتألف على الصدق والصراحة.
لذلك، فإنه أكثر استعمالا، وانفذ مجالا، واطوع وسيلة، عند اریاب المنافع والغايات منه عند المستخفين بالدنيا ومباهجها وبريقها الخداع.
وليس معنى ذلك أن اهل الفئة الأخيرة من الناس ليس لديهم عقل يصلح مسرحا لهذا التلاعب الملون بالمواهب، ولكنهم يربئون بأنفسهم عن أن يلجأوا الى الأساليب التي تتلون باي صنف من أصناف الخل والخداع.
ص: 228
وفوق ذلك ، فإنهم ليسوا بحاجة الى تلك الأساليب من التمويه والتراوغ لأنهم يعيشون الدنيا مقتورة، ويرجون الآخرة عفة وصدقا وحسن مال.
وهذا هو بالواقع الصريخ .. كل الذي عاد فقسم الجبهة العربية بعد وحدتها بفترة قصيرة من الزمن إلى شطرين متناحرين : شط رالدنيا وشطر الزهد بها.
وليس يفهم مطلقا أن هولاء الزاهدين كانوا يرفضون الدنا ولا يعيرونها أي اهتمام ولكنهم كانوا يرمون من التشديد في امتهانها إلى التخفيف من الإقبال عليها اقبال الجائع النهم، حتى لا يكون التهافت المجنون سبيلا لاضاعة جوهر الإنسان عن مثله الجميلة التي تكون العفة أبهي معانيها، من حيث يتردى المجتمع الإنساني في انحطاط خلقي سببا في تخلفه عن كسب كل مقومات المجتمعات الحية المتحضرة.
ولذلك، كان الدهاء سلاح أهل الدنيا في المعركة القائمة بين ابن ابي طالب في جبهة وبين ابن ابي سفيان في جبهة ثانية.
ولقد لبي معاوية الدهاء، وكان بين يديه أداة لينة.
وبالحقيقة، فإنه استحق الروية، أولى وابرز صفات الدهاء، واعمقها غورا، واوزنها حيلة للعقل .. ولكنه تصرف بها تصرف أهل الدنيا، ولم يتصرف بها تصرف غير المنخدعين بمباهجها وبريق أوهامها.
وليست الروية، بمعناها الحقيقي، الا التبصر بالأمور والتعمق في عواقبها، وأخذها بأبعد منظار يمكن أن تنظر به.
وهنا يظهر الفرق البعيد بين روية يستعملها ابن التقوى وروية يستعملها ابن الدنيا..
ص: 229
فهذه تنظر الى الأرض بعين الأرض ولا ترى شيا أبعد من الأرض أما تلك فإنها تنظر الى الأرض كقاعدة تقفز منها الى محجة بعيدة تهزا بالمسافات وتتهكم على الحدود، لأنها ترى الوجود من جزئياته الى شموله، وترى ان اجتياز الدر بالطويل ان يكون الا بكل خطوة سليمة.
ومعاوية ، بعد أن تروى فعل ..وعلي بعد أن تروى فعل.
وصحت روية معاوية فسيطر على حقبة من الزمن، وصحت روية على فامتلك الزمن.
ولقد استعمل معاوية الروية في الفتوحات فلبته الروية وبهرته الفتوحات.
ولقد انطوى على التمرس بها منذ ان نزلت كلمة النبي في اذنه : (یا معاوية! إذا ملكت فأحسن).(1)
واصبح الملك هدفا بعيدا من اهدافه، وسيصل اليه يوما بكل ما ستؤتيه له الروية من منافذ ومداخل ومخارج، بدون تأثم ولا استنكار.
وما أن تم له فتح الشام، حتى راح يؤسس فيها لنفسه.ولقد صمم على اعتمادها الركيزة لمسقبله، وراح ينتظر الصدف والمفاجئات.
ولقد دلته الروية على صدق المسعى لتنفيذ مخططه..
وكان الكرم أول دروبه يشقها الى قلوب انصاره .. وكثرة هم الذين لم يحرموا من هذا العطف المادي يطوقهم به ويقودهم فيه الى جنابه.
ولقد قال ميمون بن مهران(2): (ان معاوية كان أول من وضع شرف العطاء الفين).
ص: 230
ولكن الخلافة كانت، بحكم الطبع، لمن بها أولى .
ولم يكن لمعاوية اليها سبيل والمهاجرون والشيوخ وأهل الصحابة والأقربون هم المقدمون والمفضلون.
ولكن معاوية ، المؤمن بسخاء المناسبات وعجائب المفاجئات، لم يقطع خيط الأمل .. لاسيما وهو المشهور بشعرته اللينة اللدنة.
ولما صرع عمر بن الخطاب، تنفس الصعداء ليساند بكل قواه عثمان بن عفان في الوصول الى الخلافة، فتقوي شوكته، ويصلب عوده.
وعثمان، شيخ لن تطول به فسحة العمر .. وهذا امل جدید موصولة خيوطه بالخلافة بنهاية رجل من الخلافة.
أما عمر بن العاص، فإنه ترك لأعمال الفتح .. ركب المصاعب واقتحم المخاطر حتى حقق فتح مصر واستولى عليها، ليتحفز منها لبلوغ هدف لم تخف طويته على معاوية.
ولما كان عزل عثمان لعمرو عن مصر واستبداله باخ عثمان بالرضاعة عبد الله بن أبي سرح)، لم تقم أبدا قيامة معاوية على هذا التبديل والتشكيل فهو ضمن المخطط المرسوم في مخليته لتخفيف المنافسين.
أما الثورة على عثمان بن عفان التي أدت إلى مقتله، فانها لم تات عليه بالمفاجئة المزعجة، وان يكن قد تصنع الظهور بالحزن العميق.
ص: 231
اما استقباله (قمیص) وتعلیقه ایاه فی الشام فی سبیل تحریک العواطف، واستعماله شرحبيل بن الصمط(1) لنقل تأثيرات الجريمة الى كل أهل الشام للمناداة بطلب اخذ الثار .. فإن ذلك كان من ضمن مخطط تطبيق الخطة المرسومة في سبيل الوصول إلى العرش المنشود.
وكثيرة هي الخطط التي انتهجتها له هاتيك الروية على طول الطريق الذي ادی به الى عرش الشام . كلها كانت محكمة التطبيق ومحكمة التنفيذ .. من فتح ای لجبة على خصمه في الحجاز بقيادة طلحة والزبير، الى افتعال حوادث تخريبية ضمن الخلافة بقيادة الضحاك بن قيس(2)، الى معركة صفين ورفع المصاحب، الى خدعة التحكيم، إلى مراقبة معركة النهروان، والاطمئنان إلى حسن نتائجها في خدمة مصالحه ونجاح مخططاته، إلى ضرب اسفينه المسموم بقضية قيس بن سعد بن عبادة والي مصر(3)، ذلك الرجل الذي كان يمثل عليا بنظافة الكف وحسن الإدارة.
ص: 232
ويبذ معاوية بالدهاء العاقل المتروي، مما أدى الى ابعاد الرجل عن ولاينه ليحل محله ابن أبي بكر، فيعمل على قهر أهل (خربتا) في مصر، واثقال وطأة الفوضى في البلد المفتوح .. حتى يتمكن عمرو بن العاص من قتل الرجل وقطع رأسه وارساله الى بيت عثمان بن عفان، ليرقص حرم الخليفة القتيل حول الوريد المقطوع رقصة الابتهاج بأخذ الثار.
وتتلملم المأساة بمقتل الإمام المكافح علي بن ابي طالب بضربة سيف ذلك الأحمق الغادر .. وينفرج الجو أمام المبايعة الجديدة .. ويتوصل معاوية الى الملك.
سلسلة طويلة من التضحيات والمحاولات، بخ فيها معاوية كل ما فتقته له الروية بدهاء قل نظيره في التاريخ، مستعملا حوله قبضة من الرجال دريهم وحنكهم بمثل هذا الدهاء الفذ.
فإذا عمرو بن العاص يلبي استاذه بكل نجابة بتلك البديهة الحاضرة لمواجهة المشاكل وتقديم الأرتجال في الحلول .. فراح يجرر أذيال النصر في نهاية معركة صفين ، كأنه طاووي له كل الفضل على الوان ذيله الطويل.
ولم يأنف من مقابلة زميله في التحكيم - ابي موسى الأشعري - بتلك الخيانة التي لم تتعرف الى حرف من حروف المروءة والوفاء، الى تنصيب نفسه
ص: 233
قيما على المطالبة بدم عثمان .. من حيث لم يتورع عن قتل ابن أبي بكر وتلوين حادثة قطع الرأس بفضاعة الجريمة.
وراح المغيرة بن شعبة يحل المعضلات، تارة بتقديم النصح لابن أبي طالب با قرار معاوية عشية مقتل عثمان علی امارته في الشام حتى تهدأ الحالة ثم يعزله إذا اقتضى الأمر، ثم بتغيير رأيه مع الصباح فاقراره بصواب عزل المتمرد عن كرسيه وفقا لعلمية التطهير، ثم لينتقل إلى مكة ليساهم في ترتيب المعركة الجمل والبحث في كيفية صالحة لمقارعة المسلمين بعضهم ببعض، ثم لينسحب منسلا الى الشام حيث يتابع تقديم النصلح لمعاوية وتدبير المؤامرات حول اعمال التحكيم.
وبقي في الساحة الشرقية زياد بن ابيه ، يلملم أطراف المملكة ليرزمها إلىطاعة أخيه بذلك البأس وتلك الحنكة اللتين جعلتاه يلم بكل شاردة وواردة. ذلك هو موجز الحكاية الطويلة التي رافق كل أطوارها ومثل كل فصولها معاوية بن ابي سفيان، ملهب الفتوحات على الجبهة الرومانية، ومؤسس الدولة الأموية، وواضع أول حجر في زاوية تركيز الانقسام بين الكوفة ودمشق .. مستعاینا باليمنيين على القيسيين، مستجيرا بذلك الدهاء الذي دام يلبيه طوال تسعة وثمانين حولا.
أما الجبهة الثانية ، التي وقفت تقارع وعلى رأسها الخليفة الجديد، فإنها اذخت تتلقى الصدمات بذلك الصدر الواسع.
وماذا تراه يفعل علي بن ابي طالب؟..
وبأي نوع من الدهاء يقارع؟..
ص: 234
ومن المؤكد أنه ليس يلجأ إلى ذلك الدهاء الذي يعيش بين الأواسن والعوافن، ولقد قال : (ولله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر .. ولولا كراهية الغدر لكنت أدهى الناس، والله ما استغل بالمكيدة ولا استغمز بالشديدة).(1)
ولكن الدهاء الذي هو لديه كان من النوع الصراح، لأنه كان وليد تلك الروية المتباعدة الآفاق.
وأولا، وأخيرا .. لماذا تألب عليه أهل الدنيا لو لم يكن لهم ذلك الخصم العنيد .. ولقد هددهم ليعود الجور الى اوطانه ويرجع الباطل الى نصابه : (لم تكن بيعتكم ايا فلته، وليس أمري وأمركم واحأ .. إني أريدك لله وانتم تريدونني منظالمه، ولا قودن الظالم بخزامته، حتى اورده نهل الحق وان كان کارها)؟؟..(2)
وكان من الطبيعي أن يلجأ أهل الدنيا الى الدفاع بتلك البطولة المعكوسة، وكان من البديهي أن يقابلهم علي بن ابي طالب بتلك البطولة الايجابية، وكان من المؤكد ربحه على كل الجبهات، لأنه كان يناضل بسيف الحق، وسيف الحق لا يمكن أن ينقصف.
وهنا يبرز دهاء ابن ابي طالب .. وهنا تتجلی منه الرلاوية والدهاء.
كان دهاء العقل النير، والروية كانت روية العقل المبصر.
ص: 235
ومن هنا كان تقديره البعيد في ان الربح لن يكون إلا للحق في آخر الحلبة التي لن تكون فسحة العمر مداها، ولا حتى فسحة العصر .. بل ان الأجيال ، برمتها ستكون الميدان الواسع لجولة الحق الكبير.
أما الجولة التي هي بين يديه، فإنه لن يستعمل في صلاح الربح القصير .. وإلا فأي معنى يكون للرجل الذي يقدم الرسالة قدوة ومثالا ولن يساوم على الحق والخير والجمال .. وإلا فكيف يستبدل بالكثير اليسير وبالجليل الضئيل، ولن يقبل بنصيحة المغيرة بن شعرة (اقرر معاوية على عمله وافرر العمار على اعمالهم، حتى إذا أتتك طاعتهم وبيعة الجند، استبدلت وتركت) .. لأنه إنما جاء الحكم لينظف، والموت أهون عليه من التنكر لمبادئه.
ولقد رفض الحكم مقيدا على يد عبد الرحمن بن عوف، ولن يتشبث به اليوم مربوطا بمساومة.
أما ذلك الداهية الذي يدعي انه أهل لحل المعضلات، فإنه ربما يقدم حلا المعضلة الساعة، وليس مطلقا حلا لمعظلة الخلافة بحدودها الكبيرة التي يجب ان تتناول الرعية بالحق والعدالة لا أن تتناولهم بالإرهاق والأنانيات.
والأمة بحاجة كلية الى بناء قويم، حتى لا تضيع بين الركام والرغام.
ولن يلجا ابدا الى الغدر والخديعة حتى يربح عرشا، ولو اقتضى ذلك تنكبه عن الخلافة
لذلك، كان دهاء ابن ابي طالب، برفضه النصيحة ، من النوع الجليل الذي يرضى المتاعب في سبيل تحقيق المبادئ.
وكذلك لم يكن رفع المصاحف في صفين ليخدعه اكثر مما كان ليجل قدره، لأنه هو نفسه، منذ ثلاثين عاما لا يزال، يحصن الأمة ويهيئها لمثل هذه
ص: 236
الجلوة من التحكيم .. وهو اليوم، مع قبوله الخديعة، أول من يلبی باسناد التحكيم الى الصفحة الكريمة.
وهو اعلم انسان بما جاء في الآي الكريم، وهو القائل : سلوني عن كتاب الله ) .. فوالله ما من اية إلا وأنا أعلم ابليل نزلت أم بنهار، أم سهل أم في جبل !).(1)
وستذوب الخدعة مع الخادع، وستبقى الوثيقة مع الصفحة الجليلة تنبض باحترام المخدوع للكتاب الكريم، من حيث تتقلص بديهة الخادع إلى عقله المتقزم، وتتسامی روية المخدوع الى سدرة المنتهى.
وكان البون شاسعا بين ابن العاص يفاوض المقوقس في مصر على يد الأسود (عبادة بن الصامت) إذ يقدمه بهذا القول: (هذا الأسود سيدنا وخيرنا والمقدم علينا) . وبين ابن العاص يستعمل كل دهائه في سبيل الحصول على خراج مصر، باعتبار الفتح في نظره بقرة حلويا !
وكان الفرق بعيدا بين عمرو بن العاص يبني المسجد في الفسطاط وبين عمرو بن العاص يحمل المصحف في صفين.
فهنالك كان الكتاب صفحة، وهنا استحال الكتاب بين يديه إلى ضجيجالمكر والبهتان.
فاين هي البديهة تلبي العقل؟
و این هو الدهاء يعيش ساعة وينتحر؟
وهكذا كان الدهاء يدور على محورين في الصراع الناشب بين ابن ابي طالب وابن أبي سفيان .. دهاء ينشر قميص عثمان ملفوفا بالمصاحف، ودهاء
ص: 237
ينشر المصاحف ملفوفة ببردة النبي .. دهاء يستريح على فراش من الخز والديباج، ودهاء يكتفي بفراش من سعوف النخيل .. دهاء يحشر الوجود في ثنايا مطارفه، ودهاء يوسع الوجود على مباهج مشارفه.
وكان الفرق بين دهاء ودهاء : أن واحدا منهما لا يزال يقفز بين الأجيال يتلقط به الإنسانن لتحقيق قيمة الإنسان.
ص: 238
ايها المخلوق المهيب؟..
وحتى القلم لا يسعه إلا أن ينفلق فلقتين : فلقة معك، وفلقة عليك.
وكيف لا وأنت الذي شطرتها إلى لوحتين، فراحت التثنية شعارا على الجبهتين، ولما تلقى بعد شقة المتفرقين ولا لحمة المنفصلين؟
ثم يا معاوية، وانت الكبير الكبير والأريب والأريب .. أي شيء كان لك خيرا مما اضحى اليك؟
فإذا كنت تسمح باستدراج الحوادث، فهي صاغرة بين يديك..
فلنبدأ بالتقييم على عامودين.
كنت في جاهلية تتخشع لحجارة الأصنام، وأصبحت في دين يضرع الأرض بك الى السماء ، كنت في عصر مغلوق على ذاته يمتص حضارة مشوية، وانفتحت بدينك على آفاق لقحت حضاراتها بنور جديد.
كانت تشد أودك عصبية صغيرة تندفع بها في غارات ضيقة لم يكن مداها أكثر من تأمين العيش، واصبحت تسند از رك في أوسع الفتوحات عصبية ، ذابت فيها كل قبائل الجزيرة في سبيل نقل الفكر والروح الى مدى الانطلاق .
كنت في مكة ورواقك الأطناب تحميك من لفح المجيرة، واصبحت على وسعة الشظان فوق القلاح والحصون والمواكب.
كنت صغيرة - عفوك ! . واصبحت كبيرة بفضل الرسالة.
ليس من الممكن ان تجهل ذلك، فهو بعض امجادك .. وهكذا كانت لك روحة الفتح.
ص: 239
فإذا كان الفتح عملية تهدف إلى تطويف الفكر على آفاقه وتقييم الأعمال بتيارات الروح والمبادئ، فهذا هو الذي دفعت الى تنفيذه في امتشاقك لحسام، ويشق دريك إلى حيث كنت تحمل رسالة الفكر والروح.
ولقد استقبلتك الشام هاديا لا غازيا، واعتبرت زيوت مشعلك من النوع المكرر والمطيب .. كما أنها وجدت فيك النسيب الحبيب.
كل ما فيك يشع بالقربي .. من الدم، إلى الفكر، إلى الروح .. من بادية الى بادية ، من جوار الى جوار، من قادم جدید الی ناول قديم ، من موحد الى موحد.
بتلك الحفاوة استقبلتك الشام على يد الأسقف منصور بن سرجوس،(1) وعلى يد حفيده القديس يوحنا.
ولو كنت غازيا آتيا لما استبدلت بك غازيا سواك .. فهي أنما وسعت لك مع حدود القربي لأنك جئت بمشعل النجاة لتتخيها من ليل الغزاة.
إذن، إنما جئت نسيبا وقريبا، ولم تجئ فاتحا غريبا .. وجئت مشعلا ونبراسا أكثر بكثير مما جئت حساما ومتراسا.
وهنا كانت قيمة الفتح بين يديك ، تشع من مصفحك على شفرة حسامكن ولم تشع من رأس سنانك على ضفة قرانك .. وجئت تصل وما جئت تفصل.
ص: 240
ولقد تم على يديك ما أرادت الرسالة أن يتم، وكان المجد لك ملتحما بأمجاد بني قومك، ولم يكن الفرق بينك واليا وبين عمر بن الخطاب خليفة لينتقص من قيمتك قيد أنملة، فكنت وابن الخطاب في باحة المجد والجهاد قطبين تربطان الشام والمدينة بحبل وثيق الاتصال ولم يكن الحبل الذي الذي يربط الجزيرة بالكوفة إلا ليتسعير متانته من حبلك مشدود الفتائل بكل مسلم مجاهد باعصاب دينه فوق اعصاب قبيلته ، ثم انك اتصفت بالدهاء فكنت المدلول اليه بحسن الروية.
ولا شك في انك بهذه الميزات الكبيرة تمكنت من تأسيس عرش للشام بر عروش الروم في أبان مجدهم، وان ذلك لم يكن لك امجاده وأنت خليفة بقدر ما كانت لك وأنت مجاهد عادي.
ولم يكن ليتم لك بقوة بني كلب وحدهم لو لم يكن بنو قيس يمدون ايضا يد المصافحة، ولم يكن حتى لا بنو کلب ولابنو قریش بالمحققين لو لم يذوبوا جميعا بمصهر جدید.
والمصهر الجديد هو الذي اكسب السيف رونقه، واكسب الجهاد روحه، اكسب الأهداف عقادها، واكسب النهج فلسفته.
واي نهج فلا فلسفة تستقيم خطوطه، وتعمر اهدافه، وتستقر جوانبه؟
والدنيا نفسه، متى يثبت لها ارجاء؟ ومتى يصفو لها وراء؟.. إلا بقدر ما تستقي من منابع الفضائل ، وتنهل من موارد الجمال.
وهذه أو تلك هي الروح التي شعت من الرسالة الجديدة التي كانت مصهرا جديدا للجزيرة الجديدة، ليدنفع بها الفتح الجديد.
ص: 241
وكنت تعلم، با معاوية بفيض رويتك : أن الجزيرة إذ توحدت حققت المعجزة .. وكنت تعلم كذلك أنها لم تتوحد أبدا في أي يوم من أيامها مثلما توحدت اليوم.
ولم يكن ليخفى عليك سر توحيدها.
وبالرغم من ذلك، ركبت المركب الخشن، لتحقق لنبي أمية نصرا على بني هاشم .. فبعدت عن النصر الأكيد.(1)
ونصر بني أمية ونصر بني هاشم كانا نصرك الصحيح حين كنت تعري الشام من أخلاط الغرباء، وحين كان أخوانك بنظفون العراق من الأعاجم.
والشام والعراق هما جناحان الطليقان في دنياك الكبيرة.
فاي شيء كان ضائرا لك لو تمد يدك لابن أبي طالب لتجمع الكفين للصالح الموحد؟
وكنت تعلم على اليقين ان ابن عمك نظيف الكف، لأنه نظيف القلب والعقل والروح.
ص: 242
وما کنت تجهل مطلقا انه القب الکبیر الذی دار علیه محور الرساله وانت تشق بها كل دروبك، وأنه الأساس المتين لكل ما نشأ من حصونك وأن له كل حق الجهاد وكل حق الصدارة، وإليه يعود فضل النهج والإخراج وبه تحصر القربى، وعليه تدل الوصایات .. لأنه العفيف النزيه، والعالم الكبير، والحجة الغائرة الى كل جذور المنطق .. وأنه الذوق السليم، والقائد الحكيم، والبطل العنيد.
أي شيء كان أحسن لك من أن تجمع صدرك الى روعه، ورايك الى حجاه .. فتشرب دنياك بدينه ، وتصقل دهاك بجرمه .. اذن، لكانت لك الدنيا صحيحة الجوانب متينة القوالب.
اذن ای نفع من الدنیا یتملص منها سمو الشرایع وتتعری من ثوب الفضائل؟
ولو قدر لك ان ترى كل الذي حصل، من بعد أن تركت الدنيا، لكنت أول الآسفين وأبلغ النادمين.
فلقد التهب خط المجازر بحروب أهلية على طول الرقعة الممتدة من خليج العرب حتى البحر الميت، وهب أكثر من واحد يطالبون بالخلافة، ليسقط أخيرا صريعا في ساحة الوغى، وحوله عشرات الألوف، كلهم من أرومة القحطانيين والعدنانيين .. تارة في (الحرة) وطورة في البصرة) وحينا في (مكة والكعبة) وحينا في (الكوفة).
وهكذا كانت الفتنة تنتقل دوارة من الشام الى العراق ، أو من الشام الى مصر، أو الى مصر والعراق والشام في آن واحد.
ص: 243
ولم يكن اسخی منها مجازر قطعت فيها الرؤوس بالألوف، بأنواع كثيرة التشكيل من الاضطهاد والتنكيل، تتلون بشتى الأساليب .. منها الغدر، ومنها الغيلة، ومنها التسميم.
ولقد كان الحجاج بن يوسف من ابرع هؤلاء وأطولهم باعا، فلم يبق في العراق ولم يذر .. ليتقلص أخيرا مجد الجزيرة، وتنكمش على ذاتها، ويطفر ابناؤها مشتتين، هربا من الظلم والجور والاضطهاد .. ليزيد الحقد في القلوب، ولتنطوي الأغلال في النفوس، من قبيلة الى قبيلة، ومن جبهة الى جبهة، ومنجيل إلى جيل.
ولم تنته سلسلة الاغتيالات..
ولم تتوقف على عثمان بن عفان، أو علي بن ابي طالب، أو الحسن بن علي .. بل بقيت مستمرة الى الحسين بن علي، إلى عبد الله بن الزبير، الى مروان بن الحكم، إلى الوليد بن يزيد، إلى مروان بن محمد ..
وهكذا، بعد تسعة عقود، ضيعت دمشق روعة عرشك الكبير ونعومة ظلك النظير.. ولم يبق لديها ما يذكرها بعصرك إلا المسجد الواسع الفخم تأوي إليه مطمئنة.
وهكذا، یا معاوية ، تنتقل الدنا مشرقة مع الشروق وكالحة مع الغروب، ليبقى وجه ربك الكريم من قبل ومن بعد.
إلى مثل هذه المآذن كان يدعوك ابن ابي طالب ، استخفافا بالدنيا واسجماما لروح..
فضائل يتحتم على المجتمع، حتى يتمكن في ظلها من التنعم بالدنيا بعيدا عن اشباح المخاوف، بعيدا عن الأحقاد والضغائن، بعيدا عن المراوغ والمزاوغ.
ص: 244
ولم يكن ذلك ليتم لمجتمعات العرب في حضن بداوة لا تقيم وزنا للمزايا والصفات، فراحت تتلهى بالحزازات والعصبيات.
ولم يأخذ من الفترة التي انتصرت فيها على عصبياتها وحققت فيها اعز فتوحاتها عبرة كافية تجعلها تتعلق بأسباب انحطاطها.
ان هذا النوع من التربية الصحيحة من كان مسؤولا عن توفيره للمجتمعغير قواده وحكامه.
ولكن الأساليب التي عالج الحكام بها رعاياهم، لم تكن لتأتلف وهذه الغاية من الأداء السليم، لأن التنافس على الرئاسة واحتلال المناصب في سبيل التنعم الوسيع بالدينا لم يكن من شأنه أن يحقق نجاحه الآني إلاباستجداء العصبيات القبلية عن طريق الإغراء بالخيرات الدافقة من الفتوحات.
وأفسد الفتح، وافسد الحكام، وأفسد المجتمع.
وكان اللجوء الى العنق اقرب الطرق لتحقيق استمرار السيطرة والتنعم بها.
وهكذا كانت الدواسة تدور على نفسها لتقرض بنفسها.
فبعد عفوتك الأخيرة، قام عبد الله بن الزبير (1)يستحث الحسين بن علي للمطالبة بحقه في الولاية، وتنكب عن مؤازرته حتى يخلوله الجو.
ص: 245
وما كان من ابنك يزيد لا التنكيل بالحسين، وقطع رأسه، وتقديمه هدية حلوة الى اخت الحسين نفسها، لتعود به الى كربلاء، ولتصبح للشيعة صيحة جديدة لم تزل تدوي حتى اليوم مطالبة بثارات الحسين ، ليفتنها فرصة حبلی بالأحقاد عبد الله بن الزبير المؤازر الطامع بالخلافة .. وقد حققها لنفسه مدة تسع سنوات، وحقق معها (صفينا) ثانيا على كل قبائل العرب.
أما مروان بن الحكم، فتلك كانت فرصته المرتقبة .. فاستلم الخلافة باسم الدوحة المروانية بعد موت حفيدك معاوية الثاني، وظل يحض باليمنيين على القيسيين، حتى قتلته عاتكة أم خالد تحت الشوادك اشنع قتلة.
أما الحجاج بن يوسف، (1) فلقد توجه الى الكوفة ليقول: (إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، وأني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى). (2)
ص: 246
ولقد احصيت الرؤوس المقطوعة على عهده، فبلغ مجموعها مئة وعشرين ألفا.
كل هذه المجازر رافقت كل أطوار الخلافة الأموية من بعدك، وعشش فيها من البغض والحقد والكيد ما عشش.
ولم تنشأ خلالها أية محاولة فيها، من العطف والحب والتسامح، ما يمحو شيئا من آثارها ويخفف وطأة من اثقالها.
وكانت جميعها تنوخ بثقلها على جميع المسلمين.
وعلى طول هذه الحقبة من الزمن، التي لم تتجاوز السبعين عاما، ظلت الأحقاد تنمو وتتجمع مدورة من فينة إلى فينة ومن خلافة الى خلافة، تعتمد بها الصدور وتنحفز بها الخواطر .. حتى استغلها فرصة بفرصة (السفاح العباسي) فكان التنكيل على يديه ثأرا بثأر وتمثيلا بتمثيل .. فإذا الذي كان مدا اصبح جزرا، والذي كان جزرا اصبح أمدا.
وهكذا ترى - يا بن أمية - ان الحقبة التي خفق عليها قميص عثمان قد ضرجت العصر كله بدماء مئات الألوف ومن كل قبائل العرب.
ص: 247
وجمدت الفتوحات تجميدا مخزيا، من حيث اصبحت الجزية تدفع بدل أن تؤخذ، وأصبح كرسي الخلافة دورا بين المدينة والكوفة، وبين الكوفة والشام، وبين الشام وبغداد.
وظلت القبلية نفسها تتناحر وتنتقل مستعرة من جبهة إلى جبهة ومن عصرالى عصر.
ويقي الخلفاء على نمطهم في العيش والبذخ، واستغلال افياء المسلمين وصرفها على اهوائهم وملذاتهم الضارية إلى حد الخلاعة والمجون.
واستمر الشعب راسبا في انحطاطه المستمر البعيد عن نواحي التفكير الصحيح والثقافة المستحلبة من جور الحب والخير والجمال، ولم يستتب للاقتصاد الموجه الحقيقي اية بادرة تجعل الجزيرة تتركز على شيء من الاستقرار، من حيث كانت واجبا - أولا وآخرا - نحت الدولة نحتا دقيقا يحصر كل جهودها في تمثيل الإنسان في الجزيرة واراجه الإخراج المثقف، حتى يصبح مكنة فاعلة قبل طرحه في الميدان الصاخب الذي رمي اليه بعجره ويبجره.
وكانت البادرة الأولى ضعيفة جدا من ناحية هذا المعنى الأصيل.
ورحت - يا بن أمية . بقميص عثمان ترجح به كفة الدنيا الى صدرك فناء بها صدرك كما ناءت بها صدور اهل عصرك .. وتركت العصر يتخبط بمده وبجزره، ليبقى قدوة لما بعده من العصور.
ص: 248
لست أول الخارجين عن الخط .. ولن تكون اخرهم..
ولست أول الحاملين اعباء الجريمة .. ولن تكون مطلقا في النهاية .
اتفههم وليس الدافع فيه لا بالأوهی ولا بالأسخف.فكل هؤلاء الذين يقدمون على مثل هذا الاقتحام هم نملك يحملون هذه العتمة في نفوسهم، وهذا المنطق الأبله في رؤوسهم.
وليست القذارت التي تتمرغ فيها بضلوعك، والتي تنكب عليها بیافوخك، بأقل نجاسة وأخف تنانة من تلك التي يتمرغ بها الخنازير في اصطفافهم حول المنانن.
واي شيء يقال فيك، يا حامل الجريمة، أكثر مما يقال في مجرم! |
وماذا يهمك من النعوت ينكال عليك ابشعها وأنت الذي تجردت من كل خلجة تتأثر بها كرامة حي؟
غير ان الكلام فيك، الذي لا يفتش عن أن يتنقی من عواهنه، لا يقصد ان يهاجمك اكثر مما يقصد ان يهاجم الجريمة التي ترنحت على يديك، وهي جريمة العصر، امتصصتها سما ذعافا سكبته على رأس حسامك، فكنت المخرج الأوحد تجمعت فيك مطامير الحقد على بله.
ولقد قالوا: أن امرأة موتورة اغرتك بجمالها ومنتك بدفع نفسها ثمنا لك اذا تحقق في سبيلها البطولة المقصودة.
فاي جمال هذا تحسسته في عتمة نفسك فاقتنصتك حرارة لفحاته ؟!
ولكنه جمال الخفافيش التي لا يمكنها أن ترى إلا في عتمات الكهوف.
ص: 249
ولقد تواقحوا فسموك (صنديدة) .. إذ تمكنت من صرع بطللم تشهد له الجزيرة مثيلا في تاريخها، لا الغابر ولا الحاضر.
وأي بطولة هذه تشحذ سيفها على مشحذین : مشحذ السم، ومشحذالغيلة؟
والغيلة ذاتها كانت بجبن رفيقاتها التي سبقت لم تنجح، والسم وحده الذي فعل.
ولقد تغابوا ونسبوا اليك صفة المنقذ(1)، اذ قصدت ان تخلص الأمة من مسببي ويلاتها ومثيري حروبها.
ويلك ! وويل من تغابی مثلك !!
عمر طويل من الجهاد في سبيل رفع المظالم عن كاهل الأمة وكاهلك، في سبيل تحرير جيلك، وفي سبيل دفع القدوة الى كل الأجيال التي تتلو عصرك، في سبيل صيانة كرامة كل إنسان بجهل انسانيته مثلك، في سبيل نفض الجزيرة - جزيرتك - وترميمها لتصبح مستحقة للاصطفاف بين المجتمعات المتحضرة.
ماذا تدعي يا هذا؟.. وماذا يدعي كل الذين خلفك؟ .. وكل هذا الذي مر من جهاد طويل، غمر به ابن أبي طالب كل عمره بالأتعاب والأوصاب بالفقر والحرمان ، بالسهر الطويل والحرص النبيل.
ص: 250
في سبيل من كان؟
هل كان في سبيل إبادة الأمة بحروب أهلية، أم (هل) (1)في سبيل تطهيرالأمة من رواسب الجهل والانحطاط؟
اتراه كان مجنونا يحاول ان يختطف الأرض ليحطمها بين قوافل النجوم أم تراه كان عاقلا يستنزل السماوات ليفرش بنعيمها جنبات الأرض؟
اتراه استحل خيرات الفتوحات يجمعها الى قصورة تنعما ولذاذات، أم تراه راح يغني الفتوحات بكنوز المدفتونة، يدفقها من قلبه ومن عقله، ثروان لا تعرف الأرض لها فناء؟
أتراه جاء يهدم أم جاء يبني؟ أتراه جاء يسلب، أم تراه جاء يعطي؟
والرسالة التي عليه كان قوامها وإليه انتهى زمامها؟ .. أتراه خفر الذمام وخان الأمانة؟
اتراه حملها بسيفه وبيانه كما تحمل الريح محامل الغيث الى كل صادية من صحاريك؟
ألم تره تحت ضرية سيفك الغادر على طريق المسجد تحني رأسه جلالات جلالات، تحت قميص مرفوع ، ومدرعة قد انجزت في ساحات الجهاد، تكفكفت قدميه نعل مخصوفة؟
ألم تسمع ابن عباس يسأله عن هذه النعل .. دخلت على أمير المؤمنين) ب(ذي قار) وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه التعل؟، فقلت لا قيمة لها ، فقال : والله لهي أحب من أمرتكم، إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا).(2)
ص: 251
ألم تسمعه يقول ذلك؟
أم تره بتلك الظاهر المثقلة بالأجل والأبر؟
ولكنك لم تر إليه إلا بالمنظار الذي وضع على عينيك الكفيفتين .. وكان ذلك من تراث عصرك.
ثم ان عصرك كان أكثر اجراما منك، بحيث انه عجز عن اختضان الرجل الضخم، وتغافل عن وجوب رفعه الى السدة المنيعة، حتى لا يجوز لقزم من امثالك أن يتمكن من النظر الى صفحة نعله المخصوفة؟
وكان ذلك بمثابة استهتار العصر برجاله الأفذاذ، من حيث حسبت عليه الجريمة في ميزان التقييم، تخلفا عن ادراك القيم، وتنكبا عن ضبط المثالب، وإن عصرا جائعا إلى الرجال، كعصر الجاهلية بالذات، تمطره السماء بعلي بن ابي طالب غيثا مدرارا ثم ينبذه ليعود فيتعلق بالسراب .. لعصر أقل ما يقال فيه أنه عمي لا تزال تأخذه سنة الدياجير.
أما الرجل الذي خر صريعا أمام مسجد الكوفة، فإن ضربة السيف لم تنل من مقتله، لأن الذين يعالجون الفكر مثله في ابراجها العالية يصبحون في المأمن الحريز من أي ترابي على شكل ابن ملجم.
ولكن الضربة التي هوت على رأس هذا العبقري، رغما عن أنها لم تصب منه إلا التافه(1) من كيانه، فإنها لا تزال تعتبر طعنة في صميم الكرامة الإنسانية، ووصمة على عصر يتنازل عن حقه، تاركا للأجيال شرف تقييم الرجل الذي اهملت تقديره .. من حيث اصبح ابن ابي طالب أوسع واحة يهفو إليها عطش الإنسان، إذ يلهث به تجواله عبر العصور.
ص: 252
الى اين يستطيع أن يطوف بك الفكر وقد تخليت عن كل القيود التي كانت تشد بك من تلك المطاوف التي كانت تهتز تحت مقارع قبضتيك؟
وكيف أصبحت تنظر إليك الدنيا بعد أن نبذت إليها كل ما كان لك منها كما ينبذ الليل أمام الفجر آخر ذیل من ذيول عتماته.
وكيف بدأت تنظر إليك ساحات الجهاد بعد أن تركت لها السيف الصقيل والرمح الأسيل؟
العمري ! أن التاسع عشر من رمضان لم يكن اليوم الأوحد الذي فيه رزمت حقائبك وشددت رحلك للسفر الطويل .
فلقد تهيأت لاعتلاء المطية البهية منذ اليوم الأول الذي به تكحلت عيناك بذلك الفيض الذي من (غار حراء)، وفقت عليك غموره..
ومنذ ذلك اليوم والدنيا تطأطئ رأسها بين يديك، وتلقي بكل جبروتها تحت نعليك.
ومنذ تلك اللحظة، أصبحت خطواتك تتجه نحو الأقاصي لا تستوقفها الأعاصير، ولا تلهيها رغوات الزبد؟
الدنيا التي قابلتها بخشونة كفك، وصدفت عنها بشمم أنفك، ورمیت إليها بطي کشحك .. هي اليوم التي ترنو اليك، كأنها أدركت انك أنعم وشي البرودها،وانك أطری سحابة مرت تلطف النشفة في أجوائها.
وأنك كنت أعقل معدل في صماماتها .. تارة يطبق عليها الشح فتستند به على اختناق، وطورا يغور بها البطر فتحبل به على انفتاق.
ص: 253
وأنت كنت أجرأ من مد الى خدها البرج يدا فهتك عنه الإزار، ودخل خدرها المنمق فمزق عنه الستار .. فإذا بالوجه السافر تفضح الشمس مساحته، وبالخدر المدلل المغطى بالسجن الوثيرة يتعرى عن كل مفاتنه الوبيئة.
وهكذا اخضعت الدمية الكبيرة وسلختها من أغلفة الأوهام لتلبسها الثوب البسيط المعفف، وسحقت عن أجفافها سقم المراود، وعرضتها للنور تستجمع منه مفاتن الكحل؟
وإن الدنيا هذه إذ تخسر تحت عينيك بريقها الوابق، تكتسب بين راحتيك وهجها الدافق .. فإذا هي دروب آمنة الجوانب، يتمشى عليها العابرون على اتزان . يحدوهم الشوق العفيف، والأمل اللطيف، والمسعى النظيف .. في سبيل الوصول إلى غفوة قريرة، لم تنغصها لا دلجة الطمع ولا لمز الجشع، ولم تهتكها تخاريب الفجور أو تجاويف الغرور، ولم تؤرقها دبابيس المظالم، وليس الفقر فيها بمنئ عن الفضائل، وليس الغني منها بمغنی عن الشمائل.
وهكذا صنت حدود الدنيا إذ كثفت حدودها، واسبغت عليها الكنوز من حيث بعثرت كنوزها.
لذلك، فإنها اصبحت ترجع إليك في كل سائحة تشعر فيها بأنه قد غص بها الطريق وفي دستورك كان لها ذلك المرجع الوثيق، ودستورك كان ذلك الإلمام الفسيح بكل أمور الحياة، ومشاكلها ولواعجها، فلم تعالج شأنا من شؤونها إلا سبرت منه الأغوار وسلطت عليه الأنوار.
أخذت الرسالة، فإذا هي من نور ريك الكبير هداية ما فاتك منها قبس جمعتإليها حجاك ، فشع بها منك الحجا، .. وضممتها الى قواك .. فإذا
ص: 254
صدرك منها كظهر المجن فرحت تغرف وتفرغ، دون أن يوهيك الغرف أو يوهنك التوزيع .. كأنك أليم، ما ملت من مدك الشطآن.
ولم تأخذ كبيرة إلا عالجتها بكبر، ولن تتناول صغيرة إلا أعرتها كل الفكر .. فكأنك كنت على البعد وعلى القرب كالنور، جواد البصيرة جواب النظر
وتهافت حول حياضك الفضائل مترابطة كما تترابط ببعضها البعض خطوط القوافل ، فإذا بها مشدودة الرصف، منسقة القوالب، موزونة الإيقاع ، سلسلة المدارج؟
فكنت الجائد الجواد من حيث كنت الزاهد الزهاد..
وعجنت الدنيا بماء الزهر وخبزتها، فإذا موائد الجود تتفتح على حقيقة السخاء . حتى إذا تناولت الرغيف المقدد تأكله بحبة ملح، كانت لك فيه كل العوافي .. ورغيفك كان كفافك، لأنه كان من الزهد عجينه.. ولن تحسد غيرك على رغيف، لأنه من جود زهدك كان طينه.
وزهدت بالدنيا، لأنك لم تر لها ظلا مقيما ولا عزا مستديما.
ورأيت أن دروبها ليست غیر معابر، ورأيت أن الإنسان فيها حثيثا حثيثا إلى الموت سائر، وأنه إلى احضان ریه صائر.
ورأيت ان الفضائل خير حلية تجمع الإنسان في دنياه، يسلكها بتقواه ويتركها بنجواه .. راحة في الحياة وبلغة للممات.
ورأيت ان المثالب بنت المتاعب، تفسد المطالب، تحتضن الأحقاد، وتقض المضاجع .. ولن يكون للإنسان فيها حقيقة مأرب ، بل هل ملجأ العقل الواهي ،ومسلك الطامع الغرور، والجائع النهم .. هدف صغير، وشأو حقير، لن تبني
ص: 255
انسانا يعي حقيقة الوجود، بل بقي لها مصدرا قلق في سباق أليم، ينهكه التزاحم، ويدهمه التحايل والتراوغ.
فمددت باعك الطولي تفرض العفة في المسلك، والصدق في المنطق، والصراحة في الرأي، والحق في الفصل، والعدل في التنفيذ .. فإذا بك تمد الخوان تغنيه الفضائل، وتزينه الشمائل، وتطيبه التقوى، ويشهيه الإيمان.
وعجينك هو العجين المطهر، لم تمتد إليه يد البغي بأصبع .. وكان المأكل منه نعم المأكل .. فيه الغذاء وفيه العزاء، فيه الرضوخ وفيه الرضا، فيه الحب وفيه السماح، وفيه السعي على اباء، وفيه الفكر على نبالة، وفيه يقظة الوجدان، وفيه روعة الإنسان.
هذا ما تركته للدنيا ..
هذا ما تركته للدنيا من حقيقة الدنيا..
فلا عجب تجوع الدنيا من صوانيك كلما غصت بموائدها، أو تتعطش إلى مساقيك كلما غرقت في مناهلها.
والدنيا إنما سغبها في تخمتها، وإنما صداها بفيض غمرها.
أما أن اطباقك كيف لا تتخم ومشاريك كيف لا تغرق، فلأنك الذواق إذ قدمت فن المأكل وفن المشرب.
وهكذا لا تزال الدنيا بأجيالها تعرف الطيب من افاويهك، يا أيها الوجه الكريم من سنا ريك.
ص: 256
1.الأعلام: خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت ، الطبعة الرابعة، 1979م.
2, أعيان الشيعة : محسن الأمين، حققه وأخرجه حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات بيروت طبعة 403 اه.
3. افحام الأعداء والخصوم: السيد ناصر حسين الموسوي الهندي، اصدار وتقديم الدكتور محمد هادي الأميني، الناشر مكتبة نينوى الحديثة طهران.
4. الأمالي: الشيخ الصدوق، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية مؤسسة البعثة الطبعة الأولى1417ه، نشر مؤسسة البعثة.
5.بحار الأنوار: محمد باقر المجلسي ، الطبعة الثانية المصححة، 403 اه طبع ونشر مؤسسة الوفاء بيروت.
6.البداية والنهاية ، ابن کثیر، تحقیق على شيري، الطبعة الأول 08 4 اه طبع و نشر دار احياء التراث العربی
7. تاج العروس : محمد مرتضى الزبيدي، الناشر المكتبة الحياة، بيروت.
8. تاريخ اليعقوبي : أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح، مطبعة دار صادر بيروت،الناشر مؤسسة ونشر فرهنك ، أهل البيت.
9. تاريخ مدينة بغداد : الخطيب البغدادي، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطاءالطبعة الأولى 1417ه، طبع و نشر دار الكتب العلمية بيروت.
10. تاريخ مدينة دمشق : ابن عساکر، تحقیق علي شيري طبعة 415 اه، الناشر دار الفكر.
11. حياة الإمام الحسين : الشيخ باقر شريف القرشي، طبع مطبعة الآداب، ط 1299ه، الناشر الأدب النجف الأشرف.
12. الخلاف : الشيخ الطوسي، تحقيق: السيد علي الخراساني، السيد جواد الشهرستاني،محمد مهدي نجف، الطبعة الأولى 1417ه.
ص: 257
13.دار المدرسین:السید مرتضی العسکری،سنه الطبعه 1410ه الناشر موسسه النعمان بیروت.
14. زوجات النبي : سعيد ایوب، المطبعة دار الهادي 1997م الناشر دار الهادي.
15. السقيفة وفدك : أبي بكر محمد بن عبد العزيز الجوهري البصري البغدادي، تحقيق محمد هادي الأميني، طبع و نشر الكتبي بيروت، الطبعة الثانية، 1314ه.
16. صحيح البخاري : محمد بن اسماعيل البخاري، طبع و نشر دار الكتببيروت، الطبعة طبعت بالأوفست عن طبعة دار الطباعة العامرة في استانبول 1401ه.
17. الغدير: عبد الحسين الأميني ، طبع ونشر دار الكتب العربية بیروت، طبعة 1271ه.
18. فضائل الصحابة : أحمد بن شعيب النسائي ، طبع و نشر دار الكتب بيروت لبنان.
19. المعجم الأوسط : سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني تحقيق ابراهيم الحسيني ، طبع و نشر دار الحرمين.
20. میزان الحكمة: محمد الريشهري، تحقيق دار الحديث الطبعة الأولى، طبع ونشر دارالحديث.
21. الناصريات: الشريف المرتضی، تحقيق مركز البحوث والدراسات العلمية الطبعة 1617ه. الناشر رابطة الثقافة والعلاقات الاسلامية طهران.
22. النصائح الكافية على من يتولى معاوية: محمد بن عقيل بن عبد الله بن عمر بن يحيی العلوي الطبعة الأولى 1412ه الناشر دار الثقافة قم المقدسة.
23. الكنى والألقاب: عباس القمي، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي الطبعة الأولى 1925الناشرمؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.
24.مقاتل الطالبيين : أبي الفرج الأصفهاني، تحقيق كاظم المظفر، الطبعة الثانية الناشرمؤسسة دار الكتب بیروت.
25. فهرست ابن النديم : محمد بن اسحاق ، تحقيق رضا تجدد.
ص: 258
26.الحضارات : لبيب عبد الستار ، الطبعة 16 المطبعة دار المشرق.
27. لسان الميزان : شهاب الدين أبي الفضل احمد بن علي بن حجر العسقلاني، الطبعة الثانی 1290 ه ، الناشر مؤسسة الأعلمی للمطبوعات بيروت.
28. شرح نهج البلاغة: ابن ابی الحدید، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم المطبعة منشورات مكتبة اية الله العظمی المرعشي النجفي، الناشر دار احياء الفكر العربي.
29. نهج البلاغة: خطب الإمام علي، تحقيق: الشيخ محمد عبد، الناشر والمطبعة دار المعرفة بیروت۔
30. الإرشاد: الشيخ المفيد، تحقیق مؤسسة آل البيت لتحقيق التراث نشر وطبع دار المفيد.
31. غريب الحديث : القاسم بن سلام العلوي ابو عبید تحقیق محمد عبد المعید خان ، الطبعة الأولی، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية الهند، الناشر دار الكتاب العربي بيروت.
33. عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى: السيد مرتضى العسكري، الطبعة الثالثة 413 اه، الناشر نشر التوحيد.
34. تاريخ الطبري : ابن جرير الطبري، تحقيق نخبة من العلماء الأجلاء الناشر مؤسسة الأعلمي
بيروت.
35. أحاديث أم المؤمنين عائشة، السيد مرتضى العسكري، مطبعة النهضة، الطبعة الأولى.
36. مستدرك الحاكم: محمد بن محمد الحاكم النيسابوري، تحقيق الدكتور يوسف المرعشي الناشر دار المعرفة بیروت 1909ه.
37. مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب، التحقيق لجنة من أساتذة النجف الأشرف الطبعة 1379 ، المطبعة محمد كاظم الحيدري مطبعة الحيدرية النجف الأشرف.
38. السيرة النبوية : تحقيق مصطفى عبد الواحد، الطبعة الأولى 1396 ، الناشر دار المعرفة بيروت.
ص: 259
39. القاموس المحيط : الفيرزو آبدي.
40. الجواهر السنية في الأحاديث القدسية : الحر العاملي، طبع و نشر مكتبة المفيد قم.
41. ينابيع المودة لذوي القربي : الشيخ سليمان بن ابراهيم القندوزي الحنفي، تحقیق سید علي جمال شرف الحسيني الطبعة الأولى 1416، طبع و نشر دار الأسوة.
42. العمدة: ابن البطريق الأسدي الحلي: تحقیق جامعة المدرسين قم المطبعة، مطبعة جامعة المدرسين قم، الطبعة الأولى 1407ه، الناشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين قم.
43. تفسير نور الثقلين : الشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي، الطبعة الرابعة 1612ه، تحقيق السيد هاشم الرسولي المحلاتي المطبعة مؤسسة اسماعيليان.
44. شرح مئة كلمة: كمال الدين میثم بن علي البحراني ، تحقیق میر جلال الحسيني المحدث، الناشر جماعة المدرسين في الحموزة العلمية.
45. عيون المواعظ الحكم: علي بن محمد الليثي الواسطي.
46. شرح الأخبار : القاضي النعمان المغربي، تحقيق السيد محمد الحسيني الجلالي، الطبعة الثانية 1414ه، المطبعة مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي، الناشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم.
47. شرح أصول الكافي : مولی محمد صالح المازندراني.
48. الإمام علي صوت العدالة الإنسانية ، جورج جرداق، الطبعة الأولى 1423ه، دار مكتبة
صعصعة، جدة، حفص، مملكة البحرين.
49. تجمع البحرين: العالم المحدث الفقيه الشيخ فخر الدين الطریحی، تحقيق احمد الحسيني
الطبعة الأولى 1381 دار الثقافة النجف.
50. الكامل في التاريخ: أبا الحسين علي بن الكرم محمد بن محمد بن عبدالكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري الملقب بعز الدين ، تحقيق ابي الفداء عبد الله القاضي ، الطبعة الرابعة 434 اه، 2002م دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
ص: 260
51. مروج الذهب ومعادن الجوهر: أبي الحسن علي بن الحسين المسعودي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة بيروت.
52. الإمام علي اسد الإسلام وقديسه، روکس بن زائد العزيزي، الطبعة الثانية 1399ه دار الكتاب العربي بيروت.
53. خصائص الوحي المبين، الحافظ ابن البطريق شمس الدر يحیی بن الحسن الأسدي الربعي الحلي، تحقيق الشيخ مالك المحمودي، الطبعة الأولى 1417ه، الناشر دار القرآن الكريم قم المقدسة.
54. العقد الفريد: ابي عمر احمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي شرحه وضبطه ورتب فهارسه ابراهيم الابياري، قدم له د. عمر عبد السلام تدمري، الناشر دار الكتاب العربي بيروت.
55.معجم الأدباء : ابو عبد الله یاقوت بن عبد الله الطبعة الأخيرة، مطبوعات دار المأمون.
56. الحسين ابوالشهداء : عباس محمود العقاد المجموعة الكاملة المجلد الثاني العبقريات الإسلامية، دار الكتاب اللبناني بيروت.
57. صحیح بن حبان : بن حبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، الطبعة الثانيةالناشر مؤسسة الرسالة.
58. مناقب أهل البيت : المولى حيدر الشيرواني ، تحقيق الشيخ محمد الحسون سنة الطبع1414ه، مطبعة منشورات الإسلامية.
59. مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، تحقيق لجنة من استاذة النجف الأشرف سنة
الطبع 1397ه. المطبعة الحيدرية النجف الأشرف الناشر المكتبة الحيدرية النجف الأشرف.
ص: 261
*مقدمة القسم ...5
*تمهيد...8
*كلمة رئيس اللجنة ...19
*المقدمات...21
*كلمة المؤلف ...65
*الإهداء ...66
*فاتحة...67
*مناجاة... 69
*مدخل...72
*ركائز...76
*الجزيرة العربية ...77
*ولادة النبي...82
*علي بن أبي طالب في اطار تاريخي...86
*شخصية الإنسان...94
*شخصية ابن ابي طالب ...98
*الى ارض الجزيرة ...100
*مولد الرسالة ...102
*قيمة الرسالة...105
*واقع الأحداث ...107
*دور ابن ابي طالب ...109
*تأثير الرسالة ...111
*زيارة الموت - موت النبي ...113
ص: 262
*موت فاطمة ...116
*مجال الصدمات...117
*الإسلام دين جديد...119
*معركة أحد...121
*وقعة الخندق ...124
*خطيئة عبد الرحمن بن عوف...132
*بن عكسين . فراغ يمتلئ ...135
*ملأ يفرغ ...143
*متقل عثمان...147
*أول ثورة في تاريخ الى جزيرة...149
*الساحة المكشوفة ...155
*بين التردد والقبول...158
*العدة الكاملة...161
*الراية الجديدة ...171
*القميص الطائر...181
*الواقع المؤلم ...184
*افق الكوفة وافق الشام ...193
*الكتلة الأولى الشام...196
*الكتلة الثانية الكوفة...199
*عائشة...201
*طلحة والزبير في سطور...204
*معركة جانبية...206
*يوم الجمل ...208
*حق البكارة...209
ص: 263
*تعقيب...211
*صفين في بضع فقرات ...214
*ملحق...215
*خاصرتا ابي موسى الأشعري...217
*ذيول ...219
*الهدنة...221
*19رمضان...224
*معابر نهج البلاغة...225
*دهاة العرب...227
*الى معاوية بن أبي سفيان...239
*ابن ملجم...249
*الغروب المشرق...253
ص: 264