علامات الظهور دراسة وتحليل بحث مستل من الموسوعة المهدوية

اشارة

علامات الظهور دراسة وتحليل بحث مستل من الموسوعة المهدوية

للسيد الشهيد محمد الصدر (قدس سرّه)

اإعداد الشيخ محمد الفرطوسي

دار الجوادين(قدس سرّه) - بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولي

2007م - 1428 ه

دار الجوادين(عليه السّلام) الفرع الأول : بيروت - لبنان - حارة حريك - شارع سليم - خليوي : 024591/ 03

الفرع الثاني : سوريا - ريف دمشق - السيدة زينب (عليه السّلام) مقابل الحوزة الزينبية

هاتف : 6470716

- موبايل : 094243879

ص: 2

علامات الظهور دراسة وتحليل بحث مستل من الموسوعة المهدوية

للسيد الشهيد محمد الصدر (قدس سرّه)

اإعداد الشيخ محمد الفرطوسي

دار الجوادين(قدس سرّه)

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ الحُجَةِ بنِ الحَسَن صَلَواتُكَ علَيهِ و عَلي آبائِهِ فِي

هَذِهِ السَّاعَةِ وَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيّاً وَ حَافِظاً وَ قَائِداً وَ نَاصِراً وَدَلِيلًا وَ عَيْناًحَتَّي تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً وَ تُمَتعَهُ فِيهَا طَوِيلا

ص: 4

المقدمة:

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لِله ربِ العالمين وصليٰ الله عليٰ محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم عليٰ أعدائهم أجمعين إليٰ قيام يوم الدين.

نريدُ أن نبين في هذه المقدمة مواضيع ثلاث :

الموضوع الأول : الأمام المنتظر (عج).

الموضوع الثاني : موسوعة الأمام المهدي (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) لآية الله العظمي السيد الشهيد محمد الصدر (قدس سرّه).

الموضوع الثالث : أهمية علامات الظهور.

قم المقدسة

الموضوع الأول: الأمام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف)

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ » (1).

ص: 5


1- سورة التوبة: آية 33.

وقال رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) : لو لم يبقيٰ من الدُّنيا ( الدهر) إلَّأ يومٌ واحد لطوَّل الله (عزَّ وجلَّ) ذلك اليوم حتَّيٰ يبعث فيه رجلاً من أمتي ومن أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً(1). الحديث حول مسألة وموضوع الأمام المنتظر (عجل الله تعاليٰ فرجه) هو حديث عن مسألة عقائديَّة مهمَّة ولذيذة في نفس الوقت، أمّا كون مسألة الحديث حول الإمام عقائديَّة مهمَّة فباعتبار إنها ترتبط بالإمامة وبالموجود الكامل لهذه الحياة لأنَّه ربما يُسئل: هل أنَّ الله تعاليٰ ترك البشريَّة طيلة هذه الأماد الطويلة دون قائد وإمام؟ وهل أنَّه أغفل البشرية في هذه الأزمنة منذ الأئمَّة المعصومين إليٰ هذٰا اليوم؟

وثانياً: هل إنَّ اختيار الإمام يرجع إليٰ البشر أو إليٰ الله تعالي ؟ لأنَّه من المتّفق عليه إن مسألة القانون الصَّالح يجب أن تُحل عن طريق السَّماء فإنَّ الإنسان لا يتمكَّن أن يشرع ويبتدع دون أن يرجع إليٰ السَّماء إليٰ الله تعالي وعلية تكون مسألة الحاكم والقائد الذي ينفذ قانون الله تعاليٰ في الحياة لا بدَّ أيضاً أن يكون وأن يعيّن من قبل الله ومن السماء لا من النَّاس، إذن مسألة الإمام المنتظر (عليه السّلام) مسألة ترتبط بالإمامة من جهة، ولهذا فهي مهمَّة.

الإمام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) والمستقبل السعيد:

ذكرنا إنها مسألة لذيذة في نفس الوقت، وذلك باعتبار إنها تتحدَّث عن المستقبل المشرف والغد السعيد للبشريَّة، وأيُّ منّا لا يحب أن يسمع عن غده المشرق وعن مستقبله السعيد، ولذلك ورد عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) رواية يرويها ابن حجر في الصَّواعق المحرقة ومسند أحمد (ج 3، ص 37) عن سعيد الخدري قال: قال

ص: 6


1- الفصول المهمة أبو داود والترمذي في سننهما منتخب الأثر للطف الله الصافي ص 204.

رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) أبشركم بالمهدي وفي مصدر آخر أوله ابشروا بالمهدي رجل من قريش من عترتي منتخب كنز العمال (ج 6، ص 29) يبعث في أمتي عليٰ اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يرضيٰ عنه ساكن السماء وساكن الأرض يقسم المال صحاحاً فقال له رجل: ماصحاحا؟ فقال: بالسويّة بين الناس فقال: ويملأ الله قلوب أمة محمد(صلّي الله عليه وآله ) غني ويسعهم عدله حتيٰ يأمر منادياً فينادي فيقول: من له في مال حاجة؟ فما يقوم من الناس إلّا رجل فيقول ائت السدان يعني الخازن فقل له إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالاً فيقول له: إحثُ حتي إذا جعله في حجرة وأبرزه ندم، فيقول: كنت أجشع أمة محمَّد نفساً أو عجز مني ما وسعهم قال: فيردّه فلا يقبل منه: فيقال له: أنا لا نأخذ شيئاً أعطيناه فيكون كذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع ثم لا خير في العيش بعده. فالإنسان الذي يسمع هذه الأوصاف يهيم شوقاً للتطلع والبحث عن هذا الغد المشرق السَّعيد.

ضرورة الاعتقاد بالامام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف):

ثم إن الاعتقاد بالإمام المنتظر (عليه السّلام) يُعتبر ضرورة عمليَّة، لأن الإيمان بيوم مرتقب للدين يشكل ضرورة عقلانية عند الإنسان المتديَّن، لأن أنبياء الله جاءوا ودعوا إليٰ عبادة الله ودعوا إليٰ إقامة العدل الاجتماعي، لأنَّ الله خلق الكون كلَّه والبشر للعبادة، قال تعاليٰ: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ » (1)، فكلّ الجهود التَّي بذلها الأنبياء، بل كلّ قوافل الشُّهداء وكلّ الدَّماء التَّي سفكت في سبيل هَدَف واحد وهو أن يكون الإنسان صالحاً يعبد الله تعاليٰ، ولذلك نجد إن ما حقَّقه الأنبياء في الحياة لا يناسب مع درجة الجُهد التي بذلوها في هذا السَّبيل، فكم من شهداء ذهبوا؟ كم من

ص: 7


1- سورة الذاريات: آية 56.

دماء أُريقت، كم تَّحمل الأنبياء من المصائب ؟ ولكن ما تحقَّق الشيء المطلوب كما بريده الأنبياء وعليٰ ذلك فالعقل يحكم في إطار الدَّين انه لا بدّ من يوم مرتقب تتحقَّق فيه حكمة الله تعاليٰ من إرسال أنبيائه وإلَّا أستلزم إرسال الأنبياء لغواً وخلق البشر عبثاً، فلابدَّ من يوم تُكلّل فيه جهود كلّ الأنبياء وعباد الله الصَّالحين وكلّ الَّذين جاهدوا في سبيل الله تُكلَّل بالنصر والظفر، وإلّا فنصرة مؤقتّة للدَّين في بقعة من البقاع، هذا لا يشكل هدفاً لكلّ تلك الجهود الضّخمة، فلا بَّد من يوم ينتصر فيه الدين، القرآن الكريم بدعم هذه الحقيقة العقلائية، قال تعاليٰ: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَي الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ » (1).

وقال تعاليٰ: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي»(2) ، «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ »(3)، «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ » (4).

وقال تعالي: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ »(5).

فإنَّ الآية تبشّر بأنَّ الإسلام سوف يظهر عليٰ بقيَّة الأديان والمذاهب والعقائد ومعنيٰ الظّهور هو: الغلبة والانتصار، البعض يحاول أن يؤوّل الآية يقول: الظُّهور هنا يعني الحجة والدليل، ولكن هذا خلاف انصراف الآية لأنه في آية أخريٰ يقول الله

ص: 8


1- سورة القصص: آية 5.
2- سورة المجادلة: آية 21.
3- سورة النور: آية 56.
4- سورة الأنبياء: آية 105.
5- سورة التوبة: آية 33.

تعالي: «إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ »(1) «يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ» ، يعني أن ينتصروا عليكم، فالظهور بمعني الانتصار المادي، لا بمعنيٰ الانتصار بالحجة والدَّليل، ثمَّ إن الآية بشَّرت بأنَّ الإسلام سينتصر في المستقبل عليٰ كافة العقائد والأديان لأنَّ هذا الظهور والانتصار عليٰ كل المذاهب لم يتحقَّق لا عليٰ يد النَّبي ولا بعد النَّبي، لأنَّ الظروف ما ساعدته عليٰ ذلك، وعليه فلا بدَّ لهذا الوعد الإلهي من الله أن يتحقَّق في المستقبل وترتفع راية الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله ومحمد رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) في كلّ مكان في العالم إنشاء الله تعالي.

هذا هو الوعد القرآني حيث قال: « لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ » . وهناك روايات ونصوص بلغت حد التَواتر، تقول بأنَّ هناك رجلاً من أولاد علي وفاطمة (عليها السّلام) ومن ولد الحسين(عليه السّلام) بالذات وهو اسمه محمَّد المهدي(عليه السّلام) وهو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، فالبشارة القرآنية للانتصار بالإسلام لا يتحقَّق إلّا عليٰ يد المنتظر(عليه السّلام) .

الإمام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) حقيقة لا أسطورة:

ثمَّ أنَّ هناك عدَّة مسائل ربّما تطرح منها: هل أنَّ مسألة المنتظر (عليه السّلام) خرافة من الخرافات ومن الإسرائيليات الَّتي نفذت إليٰ تاريخنا الإسلامي وأحاديثنا؟ صحيح أنَّ هناك مجموعة من الإسرائيليات الَّتي دخلت في كتبنا وذلك عن طريق بعض اليهود والنَّصاريٰ الَّذين أسلموا قهراً، لأن كثيراً من الصَّحابة مُنِعوا من الحديث وكتابة الحديث عن النَّبي(صلّي الله عليه وآله ) لأغراض سياسيَّة ودنيويَّة لكي يغصبوا حق أهل البيت (عليه السّلام) وأعطيت الفرصة والمجال إليٰ هؤلاء المنحرفين منهم الوهب بن منبّه

ص: 9


1- سورة الكهف: آية 20 .

وكعب الأحبار وغيرهم أن يحدثوا بأحاديث ما أنزل الله بها من سلطان وقد أدخلوا الكثير من الإسرائيليات من التاريخ والحديث في الإسلام. وعليه ربّما يسأل البعض: هل إن مسألة المنتظر (عليه السّلام) هي واحدة من الإسرائيليات الَّتي نفذت في تاريخنا؟ وهل إن مسألة المنتظر (عليه السّلام) من مختلقات الشيعة الذين عاشوا الظلم والجور فخلقوا فكرة المنتظر ليطبّبوا جراحاتهم الدامية كبلسم لجراحهم؟ هل إن مسألة المنتظر (عليه السّلام) من مخلتقات ثوار الشيعة حيث أرادوا أن يضفوا قداسة علي ثوراتهم؟ هناك بعض من ينكر مسألة المنتظر(عليه السّلام) منهم: ابن خلدون في مقدمة الاشبيلي، وأبو الأعليٰ الملدودي من المعاصرين واحمد أمين المصري في كتابه المنتظر والمهدوية وغيرهم، وهؤلاء ينكرون مسألة المنتظر (عليه السّلام) يقولون: إن مسألة المهدي ليست صحيحة !

نقول لهم ماذا تقولون بالنسبة للأدلة والأحاديث الَّتي وردت من النَّبي وأهل بيته (عليهم السّلام) الّتي وصلت حد التّواتر من المسلمين، ومعنيٰ التواتر هو اجتماع جماعة عليٰ أمر يستحيل اجتماعهم عليٰ الكذب ثمَّ إن العلماء في التواتر لا يشترطون صحة السَّند بل يكفي التواتر دليلاً عليٰ الموضوع، وعليه فإنَّ حديث الإمام المنتظر(عليه السّلام) متواتر في كتب السنة والمسلمين بل إن الَّذين ألَّفوا وكتبوا في الإمام المنتظر من أهل العامة هم اكثر من الشيعة.

النّصوص من أهل العامَّة في الامام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف)

إذن فحديث الإمام المنتظر متواتر وبالإضافة إليٰ تواتره نض العلماء عليٰ صحَّة أسانيده الآن نذكر بعض النّصوص من أهل العامَّة حتَّيٰ نعرف هل إن مسألة الإمام المنتظر خرافة وأسطورة أو أنَّها مسألة يجب أن يعتقد بها كلّ مسلم ومنكرها كافر مرتد؟.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه طبع مصر : قد وقع اتفاق الفرق بين المسلمين أجمعين عليٰ أن الدنيا و التكليف لا ينقضي إلّا عليه، يعني الإمام المنتظر(عليه السّلام) .

ص: 10

وقال ابن حجر في الصَّواعق ص 99، قال أبو الحسن الأبري: قد تواترت الأخبار عن المصطفيٰ بخروج المهدي وأنه من أهل البيت وأنَّه يملك سبع سنين.

وقال ابن خلدون في المقدمة ص 367: اعلم إنَّ المشهور بين الكافة من أهل الإسلام عليٰ ممر الإعصار انَّه لا بَّد في آخر الزَّمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويظهر العدل.

الشبلنجي في نور الأبصار، وزيد دحلان مفتي الشافعيَّة في الفتوحات الإسلامية وآخرون صرَّحوا بالتواتر، وأمَّا ألفاظ الحديث كما ورد في الصّحاح، صحيح الترمذي ص27، عن أبي سعيد الخدري قال: خشينا أن يكون بعد نبيّنا حدث، فسئلنا نبيّنا نبيّ الله فقال(صلّي الله عليه وآله ) : إن في أُمتَّي المهدي يخرج.

صحيح ابن داود (ج 4، ص 87) بسنده عن النَّبي (صلّي الله عليه وآله ) قال: لو لم يبق من الدُّنيا إلّا يوم لطَّول الله ذلك اليوم حتَّيٰ يبعث فيه رجلاً منَّي.

وفي حديث سفيان: لا تنقضي الدنيا حتَّي يملك العرب رجل من أهل بيتي. صحيح البخاري (ج 2، ص 158) بسنده قال: قال النبي(صلّي الله عليه وآله ) كيف انتم إذا نزل ابن

مريم فيكم وإمامكم منكم.

قال ابن ماجة في سننه بإسناده إلي ثوبان قال: قال رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) : يُقتتل عند كنزكم ثلاثة كلّلهم ابن خليفة، ثمَّ لا يصير إليٰ واحد منهم ثمَّ تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قوم، ثمَّ ذكر شيئاً لم أحفظه قال: إذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً علي الثَّلج فإنَّه خليفة الله المهدي.

قال الشيخ فؤاد عبد الباقي في تعليقه عليٰ سنن ابن ماجة في الزوائد، هذا إسناد صحيح رجال ثقات ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح علي شرط الشَّيخين.

ص: 11

روي مسلم في صحيحه(1) عن جابر أنه سمع النبي(صلّي الله عليه وآله ) يقول: لا تزال طائفة من أُمَّتي يقاتلون عليٰ الحق ظاهرين إليٰ يوم القيامة، قال: فينزل عيسيٰ بن مريم فيقول أميرهم (يعني يقول أمير الأمَّة لعيسيٰ بن مريم) تعال صلَّ بنا فيقول: لا إن بعضكم عليٰ بعض أمراء تكرمة الله لهذه الأُمَّة.

وفي عقد الدُّرر عن الحافظ ابن نعيم وينابيع المودة (ص 488، وص 490) عن حُذيفة اليماني قال: خطبنا رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) فذكر لنا ما هو كائن إليٰ يوم القيامة ثم قال: لولم يبق مِن الدُّنيا إلّا يوم واحد لطَّول الله عز وجل ذلك اليوم حتّيٰ يبعث الله رجلاً من ولدي اسمه اسمي فقام سلمان وقال: يا رسول الله انه من أي ولدك؟ فقال: هو من ولدي هذا وضرب بيده عليٰ الحسين (عليه السّلام) (2).

ثمَّ إنَّ هناك روايات وردت تُشير إليٰ أوصاف المنتظر(عليه السّلام) ، فعن أبي داود في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله ): المهدي مني أجلي الجبهة أقني الأنف (3)، قال الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) - في خطبة له - « المهدي من ذريتي، يظهر بين الركن والمقام، عليه قميص إبراهيم (عليه السّلام) وحُلِّة إسماعيل(عليه السّلام) ، وفي رجله نعل شيت (عليه السّلام) وهو ابن آدم (عليه السّلام) ) والدليل عليه قول النبي(صلّي الله عليه وآله ) : عيسيٰ بن مريم ينزل من السماء ويكون مع المهدي من ذريتي ...» (4).

وعن نعيم الأصفهاني في حيلة الأولياء: إن المهدي (عليه السّلام) شابٌ أكحل العينين أزج

ص: 12


1- صحيح مسلم ط مصر سنة 1348 ق 1 ج 1 ض 63. منتخب الأثر ص 600.
2- ورواه في كشف الغمة عن أبي نعيم في الأحاديث الأربعين.
3- أجلي الجبهة: واسع الجبهة أو وهو الذي انحسر الشعر عند مقدّم رأسه. اقني الأنف: القنا في الأنف هو طولهُ ورقّة أرنبته، البرهان للمتقي الهندي ص 99 للكنجي الشافعي ص 117.
4- إثبات الهداة للشيخ الحر العاملي: ج 7.

الحاجبين اقنن الأنف، كثّ اللَّحية عليٰ خدّه الأيمن خال.

إسعاف الراغبين أخرج احمد والماوندي إن النَّبي قال: ابشروا بالمهدي إليٰ ان قال: يرضي عنه، ساكن السَّماء وساكن الأرض ويقسم المال بالسَّوية ويملأ قلوب أمَّة محمَّد غنيً ويسعهم بعدله.

أخرج أحمد ومسلم عن النَّبي (صلّي الله عليه وآله ) قال: يكون في آخر الزَّمان خليفة يحثيٰ المال حثياً ولا يعدّه عدّا.

وجاء في الروايات: إن المهدي يملك الأرض شرقها وغربها ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب.

وعن نور الأبصار ص 231 عن علي بن أبي طالب (كرَّم الله وجهه) قال: قلت يا رسول الله أمنَّا آل محمَّد المهدي أم من غيرنا؟ فقال: لا بل منَّا يختم الله به الدَّين كما أفتح بنا وبنا ينقضون من الفتنة كما انقضوا من الشّرك وبنا يؤلّف الله قلوبهم بعد عداوة الفتنة كما ألَّف بين قلوبهم بعد عداوة الشَّرك وبنا يصبحون بعد عداوة الفتنة

أخوان في دينهم واعترفوا بأنَّه حديث عالي السند.

وفي نص آخر عن الإمام الباقر (عليه السّلام) يظهر المهدي في يوم عاشوراء وهو اليوم الَّذي قتل فيه الحسين ابن علي ) وكأنَّي به يوم السبت العاشر من المحرَّم قائم بين الركن والمقام جبرائيل عن يمينه و ميكائيل عن يساره وتصير إليه شيعته من أطراف الأرض وتُطويٰ لهم طيّاً حتيٰ يبايعونه فيملأ بهم الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً(1).

هذه بعض الأحاديث وهناك كتب كثيرة ألَّفت في المنتظر (عليه السّلام) وكما قلنا إنَّ علماء السنَّة ألَّفوا اكثر من الشَّيعة في المنتظر.

ص: 13


1- البرهان في علامات مهدي آخر الزمان: ب 6 و منتخب الأثر ص 550.

استناداً إلي كلّ ذلك أنه في سنة 1397 وُجِّه سؤال من كينيا إليٰ رابطة العالم الإسلامي في المدينة المنورَّة سؤال يسئل عن الإمام المنتظر، فجاء الجواب من علماء المدينة والحجاز من طريق سكرتير الرَّابطة الإسلامية في المدينة محمَّد صالح القزّاز قال: إن ابن تيميه يقر بأحاديث المهدي وقد وقَّع الرّسالة خمسة من علماء الحجاز. ذكرت الرِّسالة التفاصيل الَّتي ذكرناها عن المنتظر وذكرت أنَّه أحد الخلفاء الأثني عشر الَّذي أخبر عنهم النَّبي(صلّي الله عليه وآله ) ، وذكرت الرَّسالة إن آخر الأشخاص الَّذين كتبوا عن الإمام المنتظر بحثاً مفصلاً هو عميد الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة وهو عبد المحسن العبّاد ذكر عدَّة مقالات في مجلَّة الجامع وآخر ما صرَّحت به هذه الرِّسالة حيث قالت: إذن يجب عليٰ كلّ مسلم أن يعتقد بالمهدي وهذا الاعتقاد جزءٌ من عقائد أهل السنة ولا ينكره إلّا الجهَّال أو المبدعون.

محمد منتصر الكناني مدير المجمع الفقهي الإداري في المدينة المنورة(1).

فإذن إليٰ هنا ثبت إن مسألة المنتظر (عليه السّلام) والاعتقاد بها هي مسألة من ضروريات الإسلام ومن صميم الإسلام، كما أنَّ المسلم لا يستطيع أن ينكر الصلاة لا يستطيع أن ينكر مسألة المنتظر لكثرة الروايات الواردة، فلو لم نصدق، بهذه الروايات وهذه الحقيقة، فلانتمكَّن أن نصدّق بكل شيء لا في الصَّلاة ولا في الصَّوم ولا في كل شيء لأن جميع هذه الفروع الدّينيَّة نعتقد بها عن طريق الروايات والأحاديث، فإذا رفضنا جميع هذه الروايات فلا يستقر حجر عليٰ حجر، ولا يقوم للِّدين من قائمة ولا بد أن نرفض جميع الأحكام الشرعية فيما إذا رفضنا هذه الروايات، ثم الروايات

ص: 14


1- البيان في أخبار صاحب الزمان، للحافظ الكنجي الشافعي: ص 163، ط . جماعة المدرسين.

الواردة في الإمام المنتظر (عليه السّلام) يرد جزئها في أحكام الشريعة.

فهؤلاء الَّذين يرفضون مسألة الإمام المنتظر، هؤلاء ينكرون ضرورة من ضروريات الإسلام، ومنكرها كافر مرتد متمَّرد عليٰ الإسلام.

فارق اعتقاد أهل العامة مع الشيعة في الإمام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف)

اشارة

بقيت هناك مسألة أخريٰ وهو: هناك فرق بين العامَّة والشيعة في مسألة الإمام (عليه السّلام) فانَّ العامَّة يقولون: إن الإمام ليس موجوداً الآن وانمِّا يوجد في المستقبل ويظهر، بينما نحن الشِّيعة نعتقد بأنَّ الإمام المنتظر (عليه السّلام) مولود سنة 255 هجري، وهو الآن موجود يعيش بين ظهرانينا لكنَّه غائب عن أعينا لحكمة ومصلحة من الله تعاليٰ ولقصور عقولنا عن إدراكها وكما قال الشاعر:

العلم للرحمن جل جلاله *وسواه في جهلاته يتغمغم

ماللتراب والعلوم وإنما* يسعي ليعلم أنه لا يعلم

وروي عن الإمام الصادق (عليه السّلام) كما في إكمال الدين وفي علل الشرايع عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال سمعت الصادق (عليه السّلام) يقول: إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة لا بدَّ منها، پرتاب فيها كل مبطل فقلت: ولِمَ جعلت فداك؟ قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه، فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال: وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعاليٰ ذكره، إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلّا بعد ظهوره، كمل لا ينكشف وجه الحكمة لِما أتاه الخضر من خرق السَّفينة وقتل الغلام، وإقامة الجدار لموسيٰ (عليه السّلام) إلّا وقد افتراقهما، يا ابن الفضل إن هذا الأمر من أمر الله تعاليٰ، وسّر من سِّر الله، وغيب من غيب الله ومنيٰ علمنا أنَّه عزَّ وجلَّ حكيم صدَّقنا بأنَّ أفعاله وأقواله كلها حكمة وإن كان وجهه غير منكشف لنا.

ص: 15

وقال الصادق (عليه السّلام) : يا ابن آدم لو أكل قلبك طائر لم يشبعه وبصرك لو وضع عليه خرت ابرة لغطاه تريد أن تعرف بها ملكوت السموات والأرض (1).

وأمَّا الدَّليل عليٰ ذلك هناك مجموعة من الأدلة عليٰ ذلك:

الدليل الأول:

منها قول رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) في حديث الثَّقلين: إنَّي تاركُ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً، وإنَّهما لم يفترقا حتَّيٰ يردا عليَّ الحوض (2).

وهذا الحديث متواتر بين المسلمين، ومعناه أنَّ الَّنبيَّ(صلّي الله عليه وآله ) يقول: إن القرآن مع أحد من العترة موجودان إليٰ يوم القيامة لا يفترقان، وعليه لابدَّ أن نعتقد بوجود المنتظر(عليه السّلام) حتَّيٰ يكون قريناً مع القرآن وإلّأ لزم الافتراق بينهما وهذا خلاف قول النَّبي (صلّي الله عليه وآله ) بأنَّهما لن يفترقا حتّيٰ يردا عليَّ الحوض.

والدليل الثاني:

عليٰ ذلك هو قول النَّبي (صلّي الله عليه وآله ) في حديث متواتر بين المسلمين: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليَّة (3)، فإنَّ هذا الحديث يدل بأن لكل زمان إمام

ص: 16


1- منتخب الأثر: ص 330.
2- أخرجه الحاكم في ص 148 من الجزء الثالث من المستدرك ثم قال: « هذا حديث صحيح الإسناد عليٰ شرط الشيخين ولم يخرجاه . وأخرجه الذهبي في تلخيص المستدرك معترفاً بصحنه عليٰ شرط الشيخين وهناك مصادر أخرعليٰ اختلاف المستدرك معترفاً بصحته عليٰ شرط الشيخين وهناك مصادر أخر علي اختلاف الفاظ الحديث راجع المراجعات: ص 19.
3- عن الحميدي أنه أخرج في الجمع بين الصحيحين وعن الحاكم أخرجه عن ابن عمر.

معيَّن من قبل الله تعالي وانَّه قد بلغ إليٰ درجة من العرفان والاتصال مع الله تعالي بحيث إن الَّذي لم يعرفه يموت عليٰ الجاهليَّة، وهذا لا يتحقَّق إلّا بوجود الإمام الحجة المنتظر (عليه السّلام) وانه حيّ يرزق.

والدليل الثالث:

هو النّصوص المتواترة في صحيح مسلم وصحيح البخاري عليٰ ذلك منها:

صحيح مسلم كتاب الأمارة في الباب المذكور عن جابر ابن سَمَرَة قال: سمعت النبي(صلّي الله عليه وآله ) يقول: لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً ثم تكلم النَّبي (صلّي الله عليه وآله ) بكلمة خفيت عليّ فسئلت أبي ماذا قال رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) ؟ فقال: كلهم من قريش(1).

في مسند أحمد عن مسروق (ج 1، ص 398) قال: كنا جلوساً عند ابن مسعود وهو يقرئنا القرآن فقال له رجل: يا أبا عبد الرَّحمن: هل سئلتم رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) كم يملك هذه الأُمَّة من خليفة، فقال ابن مسعود: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ثمَّ قال: نعم وقد سئلنا رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) فقال: اثني عشر كعدد نقباء بني إسرائيل، فهذه الأحاديث كلّها لاتنطبق إلّا عليٰ مذهب الشَّيعة الإمامية الأثني عشرية فقط، لأنَّه لا يوجد مذهب يعتقد باثني عشر خليفة غير الشيعة وأن وجود الأئمة مستمر إليٰ آخر هذا الدهر.

نعم السّيوطي يقول: نحن أيضاً نعتقد بإثني عشر خليفة ثمَّ يعددهم يقول: أربعة منهم الخلفاء الرَّاشدون الأربعة، ثمَّ الخامس معاوية، ثمَّ يختار مجموعة من العباسيّين فيصيروا عشرة، ثم يقول: وأمّا الحادي عشر فهو المهدي المنتظر، وأمّا

ص: 17


1- منتخب الأثر للصافي ص 46.

الثاني عشر فلا أكاد أعرفه(1).

فوقفت عنده سفينة المساكين بالنِّسبة للثاني عشر في حين أن النَّبي يقول: أثني عشر خليفة متوالين إليٰ يوم القيامة، فهذه الأحاديث لاتنطبق إلا عليٰ مذهب الإمامية الاثني عشرية وكلهم من قريش ومن عترته إذا لا يمكن أن يحمل هذا الحديث عليٰ الخلفاء بعده من الصحابة لقلتهم عن اثني عشر ولا يمكن أن نحمله عليٰ ملوك الدولة الأموية لزيادتهم عليٰ الاثني عشر ولظلمهم الفاحش ولكونهم غير بني هاشم لأن النبي(صلّي الله عليه وآله ) قال كلهم من بني هاشم ولا يمكن أن نحمله أيضاً عليٰ ملوك الدولة العباسية لزيادتهم عليٰ العدد المذكور ولقلة رعايتهم الآية « قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي » ، فلا بد أن يحمل هذا الحديث علي الأئمة الاثني عشر من أهل بيته وعترته (صلّي الله عليه وآله ) وكفيٰ بذلك فخراً وإعجازاً لرسول الله(صلّي الله عليه وآله ) .

الدليل الرابع:

هو إجماع الشيعة وبالإضافة إليٰ ذلك ذكر الشيخ لطف الله الصافي في كتابه منتخب الأثير ذكر سبعين عالماً من علماء السنَّة كلّهم يعترفون بأنَّ الأئمَّة الاثني عشر من بعد النَّبي، أوّلهم علي بن أبي طالب (عليه السّلام) وآخرهم محمَّد المهدي (عليه السّلام)(2).

الدليل الخامس:

الدليل العقلي وهو نحن نعتقد بأن المنتظر (عليه السّلام) حين يظهر يأتي بالإسلام الواقعي لا الظَّاهري، فإذا لم يكن الإمام (عليه السّلام) مرتبطاً بالمعصومين وبالنبي فكيف يأتي بالإسلام

ص: 18


1- الأصول العامة للسيد محمد تقي الحكيم ومنتخب الأثر ص 58.
2- فرائد السمطين للجويني الشافعي ج 2 ص 313 لبنان وينابيع المودة للقندوزي ص 445 .

الواقعي.

فلابدَّ للشخص الَّذي يأتي بالإسلام الواقعي يجب أن يكون من سلسلة مرتبطة بالنَّبي(صلّي الله عليه وآله ) فليس من الممكن أن يكون هذا الشخص منفصلاً عن هذه السلسلة وغير مولود.

وأيضاً من الأدلة عليٰ وجوده (عليه السّلام) أن كثيراً من الذين ساعدهم التوفيق ففازوا بهذا الشرف العظيم وهو التشرف بلقاء الإمام (عليه السّلام) - ممن وصلتنا أخبارهم . فمنهم محمد بن عيسيٰ الدمستاني كما ورد في البحار (ج 52) أنه كانت بلاد البحرين - ولا تزال - آهلة بشيعة أهل البيت (عليهم السّلام) ، وفي القرن السابع الهجري كان والي البحرين من النواصب والأعداء الألداء للشيعة، وكان وزيره أخبث منه، وأكثر بغضاً للشيعة.

وفي يوم من الأيام جاء الوزير للوالي بُرُمَّانة مكتوب عليها: (لا إله إلّا الله محمد رسول الله، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي خلفاء رسول الله) فنظر الوالي إليٰ كتابة الرمانة، فظن أن تلك الخطوط كتبت بقلم القُدرة، وليست من صُنع البشر،فقال للوزير: هذه آية بينة، وحجة قوية عليٰ أبطال مذهب الرافضة، يقصد الشيعة.

فاقترح الوزير أن يجمع علماء الشيعة وشخصياتهم، ويريهم الرمانة فإن تخلَّوا عن مذهب التشيع واعتنقوا مذهب أهل السنة، تركهم بحالهم، وإن أبوا إلّا التمسك بمذهبهم، خيرهم من بين ثلاثة أمور: الأول: أن يدفعوا الجزية، كما يدفعُها غير المسلمين من اليهود والنصاريٰ والمجوس.

الثاني: أن يأتوا بجواب لردِّ وتفنيد الكتابة الموجودة علي الرمانة.

الثالث: أن يقتل الوالي رجالهم، ويسبي نساءهم وأولادهم، ويأخذ أموالهم بالغنيمة.

فأرسل الوالي إليٰ شخصيات الشيعة وأحضرهم، وأراهم الرمَّانة، وخيَّرهم بين

ص: 19

الأمور الثلاثة المذكورة فطلبوا منه المهلة ثلاثة أيام.

فاجتمع رجالات الشيعة وأهل الحلِّ والعقد، يتذاكرون فيما بينهم حول كيفية التخلص من هذه المشكلة، وبعد مذاكرات طويلة اختاروا من صلحائهم عشرة رجال، واختاروا من العشرة ثلاثة: وتقرر أن يخرج في كل ليلة واحد من الثلاثة إليٰ الصحراء، ويستغيث بالإمام المنتظر(عليه السّلام) للتخلص من هذه المحنة. فخرج أحدهم في الليلة الأولي، فلم يتشرف بلقاء الإمام ولم تنحل المشكلة، وهكذا حدث للثاني أيضاً، وفي الليلة الثالثة خرج الشيخ محمد بن عيسيٰ الدمستاني (1) . وكان فاضلاً تقياً . فخرج إليٰ الصحراء حافياً حاسراً الرأس، وقضيٰ ساعات من الليل بالبكاء والتوسل والاستغاثة بالإمام المنتظر(عليه السّلام) لكي ينقذهم من هذه الورطة والبلاء وفي الساعات الأخيرة من الليل، حضرالإمام المنتظر(عليه السّلام) وخاطبه: يا محمد بن عيسيٰ مالي أراك عليٰ هذه الحالة؟ ولماذا خرجت إليٰ هذه البريَّة (2)؟ فامتنع الرجل أن يذكر حاجته إلّا للإمام المنتظر(عليه السّلام).

فقال له الإمام: أنا صاحب الأمر فأذكر حاجتك.

قال محمد بن عيسيٰ. إن كنت صاحب الأمر فأنت تعلم قصتي، ولا حاجة إليٰ البيان والشرح.

فقال له الإمام: خرجت لما دهمكم من أمر الرمانة، وما كُتِبَ عليها، فلما سمع محمد بن عيسيٰ ذلك؟ أقبل إليٰ الإمام، وقال نعم يا مولاي، تعلم ما أصابنا، وأنت إمامنا وملاذنا والقادر علي كشفه عنا.

فقال الإمام: إن الوزير - لعنه الله - في داره شجرة رُمَّان، فلما حملت تلك الشجرة،

ص: 20


1- دمستان: قرية في البحرين.
2- البريَّة: الصحراء.

صنع الوزير شيئاً (أي: قالباً) من الطين عليٰ شكل الرمانة، وجعله نصفين، ونحت في داخله تلك الكلمات المذكورة، ثم جعل رمانة من الشجرة في ذلك القالب، وشدَّ القالب عليٰ الرمانة، فلما نبتت الرمانة وكَبُرت، دخل قشرها في تلك الكتابة المنحوتة.

فإذا مضيتم غداً إليٰ الوالي فقل له: جثتك بالجواب، ولكني لا أبديه إلّا في دار الوزير، فإذا مضيتم إليٰ داره، فأنظر عن يمينك تريٰ غرفة، فقل للوالي: لا أجيبك إلّا في تلك الغرفة، وسيمتنع الوزير عن ذلك، ولكن عليك بالإلحاح،وحاول أن لا يدخل الوزير تلك الغرفة قبلك، بل أدخل معه، فإذا دخلت الغرفة رأيت كوَّة(1) فيها كيس أبيض، فانهض إليه وخذه، فتريٰ فيه تلك الطينة (القالب) التي عملها لهذه الحيلة، ثم ضعها أمام الوزير، ثم ضع الرمانة فيها حتيٰ ينكشف أن الرمانة عليٰ حجم القالب.

ثم قال الإمام المنتظر (عليه السّلام) يا محمد بن عيسيٰ: قل للوالي: إن معنا معجزة أخريٰ، وهي أن هذهِ الرمانة ليس فيها إلّا الرماد والدخان(2) فإن أردت صحة هذا الخبر فأمُر الوزير بكسرها فإذا كسرها طار الرماد والدخان عليٰ وجهه ولحينه.

انتهيٰ اللقاء، ورجع محمد بن عيسيٰ وقد غمره الفرح والسرور، وانصرف إليٰ الشيعة يبشرهم بحل المشكلة.

وأصبح الصباح ومضوا إلي الوالي، ونفذ محمد بن عيسي كل ما أمره الإمام (عليه السّلام) فسأله الوالي: من أخبرك بهذا؟

قال: إمام زماننا، وحجة الله علينا؟

ص: 21


1- الكوَّة: ثقب في الحاطة توضع فيها الأشياء، وربما نفذ منها الهواء والضوء.
2- وذلك لعدم وصول الهواء وأشعة الشمس إليها، بسبب كونها في القلب.

فقال: ومن إمامكم؟

فأخبره بالأئمة الاثني عشر واحداً بعد واحد، حتيٰ انتهيٰ إليٰ الإمام المنتظر صاحب الزمان (عليه السّلام).

فقال الوالي: مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنَّ الخليفة بعده بلا فصل: أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) ثم أقرَّ بالأئمة الطاهرين (عليهم السّلام) وأمر بقتل الوزير، واعتذر إلي أهل البحرين (1).

أيها القاريء الكريم: هذه القصة مشهورة عند المؤمنين وخاصة عند أهل البحرين، وقبر محمد بن عيسي في البحرين معروف يزوره الناس(2).

الموضوع الثاني: موسوعة الامام المهدي (عجّل الله تعالي فرجه الشريف)

أغنت هذه الموسوعة المكتبة الإسلامية عموماً والشيعة خصوصاً بما حوته من أجوبة الكثير من الأسئلة التي تدور حول قضية الأمام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) وظهوره. علاوةً عليٰ ما حوتهُ من مناقشة ونقد لبعض الآراء وهي تنمُ عن دقة علمية في الطرح وقد أقر ذلك وأعجبَ بهِ كل من أطلعَ عليٰ هذه الموسوعة الضخمة.

بقي أن نعرف أخي الكريم أن هذهِ الموسوعة صدرت وكان عمر السيد الشهيد الصدر(قدس سرّه) تسع وعشرون عاماً تقريباً.

ص: 22


1- بحار الأنوار للشيخ المجلسي: ج 52 ص 178 - 180 والإمام المهدي من المهد إليٰ الظهور الآية الله السيد محمد كاظم القزويني: ص 305- 309.
2- زاد الخطباء للشيخ مهدي تاج الدين، ص 169.

كما تجدر الإشارة إليٰ المقدمة الرئيسية لهذهِ الموسوعة التي كتبها آية الله العظمي السيد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سرّه) عليٰ شكل بحثٍ موجز حول الأمام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) وقال في نهايته « وسأقتصرُ عليٰ هذا الموجز من الأفكار تاركاً التوسع فيها وما يرتبط بها من تفاصيل إليٰ الكتاب القيم الذي أمامنا. فأننا بين يدي موسوعة جليلة في الأمام المهدي (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) وضعها أحد أولادنا وتلامذتنا الأعزاء وهو العلامة البحاثة السيد محمد الصدر (حفظه الله) لم يسبق لها نظير في تاريخ التصنيف الشيعي حول المهدي (عليه السّلام) في أحاطتها وشمولها لقضية الأمام المنتظر من كل جوانبها وفيها من سعة الأفق وطول النفس العلمي واستيعاب الكثير من النكات واللغات ما يعبر عن الجهود الجليلة التي بذلها المؤلف في إنجاز هذه الموسوعة الفريدة وأني أحس بالسعادة وأنا أشعر بما تملأه هذهِ الموسوعة من فراغ وماتعبر عنهُ من فضل ونباهه وألمعية وأسأل الموليٰ سبحانه أن يقر عيني به ويريني فيه علماً من أعلام الدين» (1).

الموضوع الثالث: أهمية علامات الظهور

الموضوع الثالث: أهمية علامات الظهور (2)

لاشك أنَّ العلامات الظهور أهمية في قضية الإمام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) ويمكن تلخيص أهميتها بعدد من النقاط:

1- أنها تشكل محطات التجديد الأمل وبعث الروح في نفوس المظلومين والمستضعفين وكل من ينشد بسط العدل والحرية في جميع الأرض.

ص: 23


1- المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر: ج 11، ص 64 / 65 دار التعارف للمطبوعات.
2- نحن والغرب للشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله): ص 185.

2 - إنها تمثل جانبا إعجازية للمعصومين (عليهم السّلام) حيث إنَّهاكانت في حين صدورها إخباراً عن الغيب فتحققها يثبت أنّ مصدرها من الله تعاليٰ.

3 - إنها تدفع المؤمنين بالإمام (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) والساعين إليٰ نصرته أن يضاعفوا الهمّة في الاستعداد للظهور سواء عليٰ بناء النفس أو إصلاح المجتمع وتشحذ من عزهم في

هذا الاتجاه فإنه المعني الحقيقي لانتظار الإمام وترقب ظهوره المبارك.

4- أن بعض العلامات تدخل في ضمن الشروط كفتنة الدجال فإنّها مرحلة مهمة من مراحل التمحيص والغربلة التي وعدت بها الروايات كقول الإمام الصادق(عجّل الله تعالي فرجه الشريف):

« إنّ هذا الأمر لا يأتيكم إلّا بعد يأس ولا والله حتيٰ تميزوا ولا والله لا يأتيكم حتيٰ تمحصوا لا والله لا يأتيكم حتيٰ يشقيٰ من يشفيٰ ويسعد من يسعد ».

والآن نترك القاريء الكريم ليقرأ ما كتبه السيد الشهيد الصدر(قدس سرّه) في الموسوعة المهدوية حول علامات الظهور ويحتوي هذا البحث علي الابواب التالية:

الباب الأول ويحتوي علي العلامات التي ذكرت في كتاب تاريخ الغيبة الكبريٰ، والباب الثاني ويحتوي عليٰ العلامات التي ذكرت في كتاب تاريخ ما بعد الظهور سائلين الموليٰ عز وجل أن يجعلنا من أنصار الإمام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) ويوفقنا لمراضيه ويجنبنا معاصيه والحمدُلله ربِ العالمين وصليٰ الله عليٰ محمد وآله الطاهرين.

الشيخ محمد الفرطوسي

1 رجب الخير / 1424 ه ولادة الإمام الباقر (عليه السّلام)

قم المقدسة

ص: 24

علامات الظهور

اشارة

ص: 25

ص: 26

الباب الأول: ويحتوي علي العلامات التي ذكرت في كتاب تاريخ الغيبة الكبري

اشارة

ص: 27

ص: 28

العلامة الأولي: إخبار النبي(صلّي الله عليه وآله ) بانحراف القيادة الإسلامية في المجتمع بعده

العلامة الأولي (1)

فمن ذلك: ما أخرجه مسلم في صحيحه(2) عن النبي(صلّي الله عليه وآله ) أنه قال: أنه ستكون هناك هنات وهنات. وأنه (3) قال: ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم. وأنه قال (4) أنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون.. الحديث.

وعن حذيفة بن اليمان، في حديث... فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟. قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر. قال: نعم. دعاة علي أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها(5).

ص: 29


1- تاريخ الغيبة الكبري: من ص 450 إلي ص 541 ط دار الفقه.
2- ج 2 ص 22.
3- المصدر ص 23.
4- نفس المصدر والصفحة.
5- المصدر ص 20.

وعنه(صلّي الله عليه وآله ) (1): يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي لا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين، في جثمان إنس.

وأخرجت الصحاح الأخريٰ كالترمذي وابن ماجة والمصادر الأخريٰ كأحمد والحاكم، مثل ذلك. غير أننا لا نذكر فيما أخرجه الصحيحان أو أحدهما، إلّا عنهما.

وهذا ما حدث بالفعل بعد النبي (صلّي الله عليه وآله ) حين قام الحكم في المجتمع المسلم عليٰ المصلحة والأثرة. وتفاصيل ذلك أشهر من أن يُذكر. واستعمال المقاصف والخمور في بلاط الخلفاء يكاد ان يكون من الواضحات، يذكر في الكثير من المصادر (2).1

ص: 30


1- المصدر والصفحة.
2- أنظر أبن خلكان ج 2 ص 234 وأبوفداء ج 1 ص 354 وأبن الوردي ج 1 ص 232 والمسعودي ج 4 ص 11 والكامل ج 6 ص 221 وغيرها.

العلامة الثانية: أخبار النبي (صلّي الله عليه وآله ) أو أحد الأئمة (عليهم السّلام) عن شؤون دولة بني العباس

اشارة

وقد اتخذ ذلك في المصادر المتوفرة لدينا عدة أساليب:

الأسلوب الأول:

في التنديد ببني العباس والطعن فيهم من حيث انحرافهم وفسادهم وخروجهم عن جادة الحق. وقد اختصت المصادر الإمامية بذلك، فيما نعلم.

فمن ذلك: ما رواه النعماني في غيبته(1) عن النبي

(صلّي الله عليه وآله )، أنه التفت إليٰ العباس فقال: يا عم إلّا أخبرك بما خبرني به جبرائيل؟ فقال: بلا، يا رسول الله قال: قال لي: ويل لذريتك من ولد العباس، فقال: يا رسول الله، أفلا أجتنب النساء. فقال: قد فرغ مما هو كائن.

وفي حديث آخر (2): عن عبد الله بن العباس، قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) لأبي: يا عباس، ويل لولدي من ولدك، ويل لولدك من ولدي، فقال: يا رسولالله، أفلا أجتنب النساء أو قال: أفلا أجب النساء. قال: إن علم الله قد مضيٰ والأمور بيده. وأن

ص: 31


1- ص 131.
2- المصدر والصفة.

الأمر سيكون في ولدي.

ودولة بني العباس، واضحة للعيان في التاريخ. وما وقع بينها وبين أولاد علي وفاطمة أولاد النبي عليه وعليهم الصلاة والسلام، من الخلاف، وما ذاقوه من بني العباس من التشريد والمطاردة والتعسف، أوضح من أن يذكر وأشهر من أن يسطر. كما أن ما تكبده العباسيون من ثورات العلويين التي تعد بالعشرات خلال تاريخهم الطويل، معروف موصوف. وحسبك انه قد أشغل الجزء المهم من مقاتل الطالبيين الأبي الفرج الأصفهاني والكثير من فصول التاريخ الإسلامي.

وهذا التقابل هو المصداق الواضح لقوله(صلّي الله عليه وآله ) : ويل لولدي من ولدك وويل الولدك من ولدي.

وأمّا قوله(صلّي الله عليه وآله ) : قد فرغ الله مما هو كائن، أو أن علم الله قد مضي، فأوضح ما يراد به هو الإشارة بطرف خفي إليٰ التخطيط الإلهي لليوم الموعود باعتباره مستلزماً لوجود الانحراف في المجتمع، وليس من مصلحة التمحيص رفعه وتبديله قبل يوم الظهور. أذن فهذا التقابل ينبغي أن يكون قائما ليشارك والتمحيص والتخطيط الإلهيين.

وانما لم يشر إليٰ ذلك صريحا باعتبار عدم تحمل المستويٰ الثقافي لذلك العصر، التصريح بمثل هذه القوانين العامة الإلهية. وانما زرقت هذه المفاهيم من خلال الكتاب والسنة تدريجيا.

وأوضح دليل عليٰ كون المراد هو ذلك، قوله(صلّي الله عليه وآله ) : وإن الأمر سيكون في ولدي، وذلك في يوم الظهور، فإن أول من يحكم حكمة عاماً نافذاً عليٰ العالم من ولد فاطمة وعلي عليهم السلام، إنما هو الإمام المهدي(عليه السّلام) . ويحكمه ينتهي ذلك التقابل بين الفريقين.

ص: 32

الأسلوب الثاني:

الإخبار بهلاك بني العباس وزوال ملكهم

كالخبر الذي ورد عن الإمام الباقر (عليه السّلام) في حديث إنه قال: ثم يملك بنو العباس فلا يزالون في عنفوان من الملك وغضارة من العيش، حتيٰ يختلفوا فيما بينهم، فإذا اختلفوا ذهب ملكهم(1).

ودولة العباسيين أسست بعد وفاة الإمام الباقر (عليه السّلام) بثمانية عشر عاما، حيث توفيٰ(عليه السّلام) عام 114 ه (2)، وتوليٰ أبو العباس السفاح، أول خلفاء بني العباس خلافته عام 132 ه.(3)

وقد بدء نجمهم بالأفول عند سيطرة الأُتراك عليٰ الحكم، ثم انعزلوا تماما عن المشاركة الفعلية في الحكم في عصر البويهين وعصر السلاجقة، حتيٰ إذا لم يبق للخلافة أي هيبة أو قيادة، وتضارب المجتمع المسلم في داخله، أصبح طعمة سائغة لهجمات التتار بقيادة هولاكو المغولي. حيث سقط آخر خلفائهم عبد الله المستعصم بالله عام 656 ه (4).

الأسلوب الثالث:
اشارة

مدح العباسيين والثناء عليهم وتمجيد بعض خلفائهم وقد اختصت برواية هذه الأخبار المصادر العامة، وليس في المصادر الأمامية

منها أثر.

ص: 33


1- غيبة النعماني ص 139.
2- الإرشاد للمفيد ص 245.
3- مروج الذهب ج 3 ص 251.
4- دليل خارطة بغداد ص 277.

فمن ذلك ما أخرجه الترمذي (1) عن ابن عباس قال: قال رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) للعباس: إذا كان غداة الاثنين فأتني أنت وولدك حتيٰ أدعو لهم بدعوة ينفعك الله بها وولدك فغدا وغدونا معه. فألبسنا كساء ثم قال: اللهم أغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنبا، اللهم أحفظه في ولده.

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلّا من هذا الوجه، وقال في الصواعق (2): وصح عن الحاكم عن ابن عباس (رضي الله عنهما): منا أهل البيت أربعة منا السفاح ومنا المنذر ومنا المنصور ومنا المهدي.

وعقب بن حجر عنه بقوله: فإن أراد بأهل البيت ما يشمل جميع بني هاشم، ويكون الثلاثة الأول من نسل العباس والأخير من نسل فاطمة، فلا إشكال فيه. وإن أراد هؤلاء الأربعة من نسل العباس أمكن حمل المهدي في كلامه عليٰ ثالث خلفاء بني العباس، لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، لما أوتيه من العدل والسيرة الحسنة.

ولأنه جاء في الصحيح إن أسم المهدي يوافق أسم النبي (صلّي الله عليه وآله ) وأسم أبيه أسم أبيه، والمهدي هذا كذلك لأُنه محمد بن عبد الله المنصور. ويؤيد ذلك خبر أبن عدي: المهدي من ولد العباس عمي، لكن قال الذهبي: تفردبه محمد بن الوليد مولي بني هاشم، وكان يضع الحديث(3).

ونحن لنا ثلاثة تعليقات عليٰ هذه الأخبار

ص: 34


1- ج 5 ص 1319.
2- ص 99.
3- المصدر والصفحة.
التعليق الأول:

إن الحديث الثاني غير مروي عن النبي(صلّي الله عليه وآله ) ، بل عن بن عباس، فلا يكون حجةً أساساً، ولا يصلح للإثبات العقائدي ولا التاريخي.

التعليق الثاني:

إن كل هذه الأخبار، مما لا يمكن أن تثبت أمام التشدد السندي، حتيٰ مع وثاقة رواتها. لأن هناك قرينة عامة واضحة تدل عليٰ الوضع فيها جملةً وتفصيلاً وهي ممالأتها لجهاز حاكم إطراؤه والثناء عليه .. وكل ما كان هكذا لا يمكن قبوله، بعد التشدد، فإنه ما أكثر الأحاديث التي وضعت لتأييد الملك وتشييد أركانه وإسباغ صفة الشرعية عليه.. مع شديد الأسف.

التعليق الثالث:

إن واضعي الحديثين الأخيرين، يريدان القول بأن المهدي الذي يُبشّر به رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) هو المهدي بن المنصور العباسي، ونريٰ أبن حجر يوافق عليٰ ذلك ويدافع عنه بالأدلة.

وحقيقة الأمر كثرة ما ورد عن النبي(صلّي الله عليه وآله ) في المهدي من أحاديث وشهرتها بين الناس وانتظارهم له (عليه السّلام) كمصلح للعالم. انعكست عليٰ ذوي النفوس المنحرفة عليٰ شكل الطمع في أن ينال هو أو ولده هذا المنصب الإلهي الكبير، وأن ينطبق عليه ثناء رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) وبشارته، فمن هنا كثرت دعاويٰ المهدوية في التاريخ الإسلامي، ومن هنا أيضاً تصدي المنصور إلي تلقيب ولده بالمهدي إيهاماً لذلك، وخاصة وهو يحتمل أنه سينال الخلافة في يوم من الأيام. ثم إن كل هؤلاء تهاووا عليٰ صخرة الواقع، حين لم يستطيعوا أن يقيموا بالمهمة الأساسية التي يؤمن بها للمهدي

ص: 35

المنتظر كل من يؤمن به، وهو إصلاح العالم بشكل شامل كامل. وقد سبق أن قلنا: إن عدم قيامهم بهذه المهمة وانقراضهم قبل ذلك، أول دليل علي كذب دعويٰ الفرد منهم إنه هو المهدي المنتظر.

وأمّا ما أحتج به أبن حجر من إنه صح أن اسم أبيه اسم أبيه. فهو مما لم يصح ولم يثبت.

ولعل من أوضح عدم صحة ذلك: إمكان ابتداع ذلك من قبل كثيرين، فإن بإمكان كل شخص اسمه عبد الله أن يسمي ولده محمد ويلقبه بالمهدي، لكي تكون لديه أطماع في نيل القيادة أو الرئاسة العامة في المجتمع.

فاللازم ليس هو النظر إليٰ هذه الصفحة بالتعيين، مما ورد من صفحات المهدي، لكن نطبقها عليٰ الأشخاص. بل اللازم هو توخي مجموعة الصفات والخصائص المتعلقة بالمهدي وتطبيقها عليٰ الفرد المدعي للمهدوية، بما فيهامن كونه من ولد فاطمة (عليها السّلام) وبما فيها السيطرة عليٰ العالم خلال حياته. ولا شك إن هذه الأوصاف لا تنطبق عليٰ أي واحد من مدعي المهدوية إلي الآن في التاريخ.

الأسلوب الرابع:
اشارة

أخبار النبي (صلّي الله عليه وآله ) عن خروج الرايات السود من خراسان، وجعلها إحديٰ علائم الظهور. والأخبار في ذلك كثيرة متظافرة بين الفريقين. وسيأتي نقلها وتمحيصها في جهة آتية من هذا الفصل.

والمهم الآن، هوتمحيص وتحقيق هذا الاحتمال وهو أن يكون المراد بهذه الروايات ثورة أبي مسلم الخراساني علي الأمويين، تلك الثورة التي مهدت لقيام الدولة العباسية، ومعه فتكون هذه العلامة مما قد تحققت في الخارج، وإن فصل بينها وبين الظهور زمان طويل. فإن ذلك لا ينافي كونها علامة عليه، كما سبق. ويرجع هذا الاحتمال، إن شعار هذه الثورة كان هو السواد وبقي شعار للعباسيين بعدها.

ص: 36

ويرجحه أيضا ما ورد في البحار(1) عن ركاز بن أبي ركاز الواسطي، قال: قبّل رجل رأس أبا عبد الله (الإمام الصادق (عليه السّلام))، فمسّ أبو عبد الله ثيابه وقال: ما رأيت كاليوم أشد بياضاً ولا أحسن منها، فقال: جعلت فداك هذه ثياب بلادنا، وجئتك بخير من هذه. قال: فقال: يا معتب أقبضها منه. ثم خرج الرجل. فقال أبو عبد الله(عليه السّلام) : صدق الوصف وقرب الوقت، هذا صاحب الرايات التي يأتي بها من خراسان. ثم قال: يا معتب الحق به فسله ما أسمه. ثم قال : إن كان عبد الرحمن فهو والله هو. قال فرجع معتب. فقال: أسمي عبد الرحمن. قال: فلما ولي ولد العباس، نظر إليه، فإذا هو عبد الرحمن أبو مسلم.

ومن الصحيح تاريخيا إن أسمَ أبي مسلم (عبد الرحمن)، وإن الإمام الصادق (عليه السّلام) معاصر لثورته. وظاهر قوله: هذاصاحب الرايات السود..... كونه إشارة إليٰ ما ورد عن النبي (صلّي الله عليه وآله ) بهذا المعني، وخاصة مع قوله(عليه السّلام) : صدق الوصف وقرب الوقت. والمراد به قرب خروج الرايات السود أو قرب ثورة أبي مسلم الخراساني، لا قرب ظهور المهدي (عليه السّلام) وإن أقترن أخبار النبي (صلّي الله عليه وآله ) بالبشارة بالمهدي(عليه السّلام) .

أذن، فهذا الاحتمال يكون راجحا جدا، لولا مناقشتين:

المناقشة الأوليٰ:

إن رواة هذا الخبر مجاهيل، فلا يثبت مؤداه، فضلاً عن التشديد السندي الذي التزمناه.

المناقشة الثانية:

معارضته بما ورد عن النبي (صلّي الله عليه وآله ) إنه قال: « إذا رأيتم الرايات السود قد خرجت من خراسان فأتوها ولو حبوا عليٰ الثلج، فإن فيها خليفة الله المهدي ».

ص: 37


1- ج 11 ص 142.

وفي حديث آخر إنه(صلّي الله عليه وآله ) قال: « إنّا أهل البيت أختار الله لنا الآخرة عليٰ الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بلاءً شديداً تطريداً حتيٰ يأتي قوم معهم رايات سود... حتي يدفعونها إليٰ رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطاً كما ملئوها جورا. فمن أدرك ذلك فليأتهم ولو حبواً عليٰ الثلج، فإن فيها خليفة الله المهدي» (1).

وكلا هذين الخبرين، واضحان في ارتباط ظهور المهدي (عليه السّلام) بخروج الرايات السود، حتيٰ ان الخبر الأول يصرح أنه موجود ضمن حاملي هذه الرايات. مع إنه من المقطوع به في التاريخ، وجود ما يزيد عن ألف عام بين ثورة أبي مسلم وبين الظهور، ولعله سيزيد عليٰ ذلك بكثير.

إلّا أن كلا هاتين المناقشتين لاتصحان:

أمّا المناقشة الأوليٰ: فلا تصح لأن التشديد السندي الذي التزمناه خاص بأخبار التنبؤ عن المستقبل، وليس عاما لكل الأخبار، ومعه فهذا الخبر الذي نقلناه عن البحار لا يندرج ضمن هذا المنهج، لأنه ليس من أخبار التنبؤ بالمستقبل. أذن فهو قابل إليٰ حد ما للإثبات التاريخي. وكونه مجهول الرواة لا يضر بذلك، كما برهنا عليه في المنهج الذي أسسناه في أول تاريخ الغيبة الصغري(2).

وأمّا المناقشة الثانية: فالمعارضة بين الخبرين، في الواقع، تنتج فشل الخبرين الأخيرين وسقوطهما عن قابلية الإثبات التاريخي، وسيكتب البقاء، عندئذ للخبر الذي نقلناه عن البحار.

فإننا عند دوران الأمر بين صدق هذين الخبرين أو ذلك الخبر، بحيث يتعين الالتزام يكذب أحدهما... لابد وأن نحسب حساب القرائن المؤيدة لأحد الخبرين.

ص: 38


1- أنظر الخبرين في الصواعق المحرقة، ص98.
2- أنظر ص 47.

والشيء الذي نريد أن نقوله، بهذا الصدد هو: إن الجهاز العباسي الحاكم حين وجد أن هناك ارتباطاً بين خروج الرايات السود وبين ظهور المهدي(عليه السّلام) عليٰ لسان رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) ، كما استفاضت الأخبار عنه (صلّي الله عليه وآله ) علي ما سوف نسمع.. أحبّواجعل هذا الارتباط وثيقا وقريبا، فجعلوا هذه الأخبار الدالة عليٰ ذلك، لتكون موحية بأن المهدي المقصود هو المهدي العباسي، لأنه هو المرتبط والقريب من ثورة أبي مسلم الخراساني وراياته السود، بل هو مندرج في ضمنها بشكل وآخر كما جعلوه دالاً عليٰ ذلك.

والذي يدلنا عليٰ وضع هذين الحديثين ما قاله صاحب الصواعق نفسه حين أوردهما. فقد أورد أولاً قوله: « إنا أهل البيت أختار الله لنا» .... الخ.. وعلق عليه بقوله: « وفي سنده من هو سييء الحفظ مع اختلاطه في آخر عمره ». ثم أورد قوله: « إذا رأيتم الرايات السود...». الخ. ثم قال: « وفي سنده ضعيف له مناكير. وإنما أخرج له مسلم متابعة، ولا حجة في هذا والذي قبله، لو فرض إنهما صحيحان لمن زعم أن المهدي ثالث خلفاء بني العباس» (1).

ولم يطعن أبن حجر في هذين الحديثين، من رواية كونهما دالين عليٰ وجود المهدي المنتظر (عليه السّلام) فإنه أورد الكثير من هذه الأخبار مؤيد غير طاعن فيها. وإنما طعن فيهما لكونهما ضعيفين حفظة لموضوعية البحث.

وأمّا طبقاً للتشدد السندي وقيام القرائن علي عدم صحة هذين الحديثين، باعتبار ما فيهما من تأييد للجهاز الحاكم آنذاك، فينبغي إسقاطهما علي كل حال، كما عرفنا.

وعليه فالمظنون أن المراد بالرايات السود، رايات أبي مسلم الخراساني فإن ثورته بدأت من خراسان، واتجهت إليٰ بغداد بأعلامها السود الخفاقة. وقد جعلت

ص: 39


1- الصواعق ص 98.

علامة عليٰ الظهور، باعتبار أهميتها بالتاريخ والفاتها نظر الجيل المعاصر والأجيال التي بعدها. ولا يضر بذلك فعل الزمان الطويل بينها وبين الظهور، كما أسلفنا، شأنها في ذلك العديد من العلائم التي ذكرت للظهور، مما سبقت أو سيأتي الكلام عنها.

ولا يبقي في مقابل هذا الظن إلا احتمال أن يكون المراد بالرايات السود، رايات أخريٰ تخرج من خراسان في مستقبل الدهر، لا يكون بينها وبين الظهور إلاالقليل. إلّا إن هذا الاحتمال مما لا يمكن إثباته بدليل.

وعليٰ أي حال، فقد أصبحت أحاديث الرايات السود من أخبار علائم الظهور وفيها إشارة لدولة العباسيين، وإن انتفيٰ القرب الزمني بينهما. ومن هنا جعلنا هذه الأخبار أسلوباً رابعاً من أساليب التنبؤ بدولة بني العباس.

ص: 40

العلامة الثالثة: ما ورد من التنبؤ بزوال دولة بني أمية قبل زوالها

كالخبر الذي ورد عن الإمام الباقر (عليه السّلام) إنه قال: « يقوم القائم في وتر من السنين تسع، واحدة، ثلاث، خمس ». وقال: « إذا اختلف بنو أمية وذهب ملكهم » الحديث (1).

وقد عرفنا أن الإمام الباقر (عليه السّلام) قد توفي قبل زوال ملكهم وقيام دولة العباسيين، بثمانية عشر عاما.

ص: 41


1- غيبة النعماني ص 139.

ص: 42

العلامة الرابعة: ما ورد من التنبؤ باختلاف أهل المشرق والمغرب

اشارة

كالذي ورد عن الإمام الباقر (عليه السّلام) أيضاً، في نفس الحديث الأخير، حيث قال: واختلف أهل المشرق والمغرب» (1).

ولهذا الاختلاف أطروحتان، قد يكون المراد أحدهما، وقد يكون المراد كلاهما:

الأطروحة الأولي:

اختلاف أهل المشرق والمغرب في حدود البلاد الإسلامية، وعليٰ الأساس الإسلامي بشكل عام.

وهذا ما حدث في التاريخ طويلا، حيث كان الشرق يحكمه العباسيون والمغرب - بمعنيٰ الأندلس الإسلامية - يحكمه الأمويون. كما أن المغرب - بمعنيٰ الشمال الأفريقي - حكمه المهدي الأفريقي محمد بن عبيد الله، حتيٰ انتقلت ذريته إليٰ مصر، وأسسوا الدولة الفاطمية. وفي كلا الحالين، كانوا منفصلينعن خلافة الشرق العباسية، ومناوئين لها.

ص: 43


1- المصدر نفسه.
الأطروحة الثانية:

ما حدث في العصر الحديث، وهو ما زلنا نعيشه منذ الحرب العالمية الثانية إليٰ الآن.. من وجود الدولتين الكبيرتين في العالم، التي تمثل إحداهما زعامة ما يسمي بالشرق أو الكتلة الشرقية، وتمثل الأخريٰ زعامة ما يسمي بالغرب.

وإذا نظرنا إليٰ جذور هاتين الدولتين، وجدنا للفكرتين اللتين تقومان عليهما الرأسمالية والشيوعية، جذوراً تاريخية تمتد حوالي قرنين من الزمن. وعليٰ أي حال فهما معاً وليدتا المد الحضاري الأوربي الحديث و القائم عليٰ الأساس المادي المحض المناقض للأديان جميعا، كما هو معروف من بحوث العقائد الفكرية عادةً.

وعليٰ أي حال، فقد جعل هذا الاختلاف بإحدي هاتين الأطروحتين، من علائم الظهور، بصفته ملفتاً للنظر من ناحية، ومشاركاً في الانحراف المنتج للتمحيص، كما عرفنا من ناحية أخريٰ

ص: 44

العلامة الخامسة: التنبؤ بثورة صاحب الزنج

فمن ذلك: ما أخرجه الصدوق في الإكمال (1) عن ابن عباس عن رسول الله عن الله عز وجل في بعض كلامه مع رسوله في المعراج، حيث جعل ذلك من علامات الظهور فقال: « وخراب البصرة عليٰ يد رجل من ذريتك يتبعه الزنوج ».

وقال في الإرشاد(2) : « قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام الإمام المهدي(عليه السّلام) ، وعدّد عدداً كبيراً منها» ، إلي أن قال: « وخروج العبيد عن طاعة ساداتهم وقتلهم مواليهم».

وكل ذلك مما حدث بالفعل عليٰ يد صاحب الزنج، وكيف أنه عاث في المجتمع المسلم فساداً وكلف الدولة العباسية كثيراً، وكيد البصرة وكثيرا من المدن الأعاجيب من القتل والنهب والتشريد.

اسمه علي بن محمد، زعم أنه علوي. ولم يكن - علي ما يذكر التاريخ - كذلك.

فإن نسبه في عبد قيس وأمه من بني أسد بن خزيمة(3).

وعليٰ أي حال فرواية الصدوق تؤيد كونه علوياً. عليٰ حين نجد الإمام

ص: 45


1- أنظر إكمال الدين المخطوط .
2- انظر ص 337.
3- أنظر الكامل ج 5 ص 346.

العسكري (عليه السّلام) برواية أبن شهر آشوب(1) ينفي ذلك ويقول: « وصاحب الزنج ليس منا أهل البيت ».

وعليٰ أي حال، فمن المحتمل، أن يكون مراد الإمام العسكري (عليه السّلام) نفيه عن أهل البيت عقائدياً. كابن نوح الذي لم يكن من أهله لأنه عمل غير صالح، وإن ارتبط به نسبياً. والله العالم بحقائق الأمور .

ص: 46


1- ج 3 ص 529.

العلامة السادسة: أخبار النبي (صلّي الله عليه وآله ) بوقوع الحروب الصليبية

وذلك: فيما أخرجه أبو داود وابن ماجة في صحيحهما(1) بألفاظ متقاربة عن النبي(صلّي الله عليه وآله ) ، واللفظ لأبي داود: « ستصالحون الروم آمناً، فتغزون أنتم وهو عدواً من ورائكم، فتنصرون وتغنمون وتسلمون. ثم ترجعون حتيٰ تنزلوا بمرج ذي تلول. فيرفع رجل من أهل النصرانية (2) الصليب. فيقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين (3) فيدقه. فعند ذلك تعذر الروم وتجتمع للملحمة »

وأضاف أبو داود(4) بسند آخر: وثور المسلمون إلي أسلحتهم، فيقتلون، فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة »

وأمّا ابن ماجة (5) فأضاف إليٰ الحديث الأول بسندثان: « فيأتون تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً ».

ص: 47


1- أبو داود ج 2 ص 425 وابن ماجة ص 1369.
2- ابن ماجة: من أهل الصليب.
3- ابن ماجة: فيقوم أليه.
4- المصدر والصفحة.
5- المصدر والصفحة .

وهذا الحديث الشريف مطابق كل المطابقة مع فترة التاريخ الإسلامي. وقد قلنا إن أول دليل عليٰ صحة الأخبار وقوع ما أخبر به. وهذا الحديث من أوضح مصاديق ذلك، لأن مضمونه واقع في التاريخ بالقطع واليقين.

ولئن كانت الأخبار التي أسلفناها في هذا الفصل، قد سجلت في كتب الأخبار بعد وقوع حوادثها. فكان يمكن لبعض الماديين أن يطعنوا بصحة نسبتها إليٰ النبي (صلّي الله عليه وآله ) ويزعموا إنها وضعت بعد حدوث الحادثة. إلّا أن هذا الحديث الشريف لا يحتمل فيه ذلك عليٰ الإطلاق. لأنه صدر عن النبي في صدر الإسلام، قبل الحروب الصليبية بمئات السنين، وسجل الحديث في المصادر قبل حدوثها بأكثر من قرنين من الزمن.

فإن أبا داود توفي عام 275(1) وابن ماجة توفي عام 273(2). عليٰ حين سقطت

القدس بيد الإفرنج الصليبيين عام 492(3)..

وهذه المصادر الحديثة متواترة عن أصحابها، لا يحتمل الزيادة فيها فوق ما سجله مؤلفوها. وما زال أهل السنة من المسلمين يعتمدون عليها في الفقه والعقائد والتاريخ.

ومن هنا يمكن أن يعتبر ذلك من المعجزات التي تؤيد عقيدة الإسلام، وصدق كلام النبي (صلّي الله عليه وآله ) وأنه لا ينطق عن الهويٰ إن هو إلّا وحي يوحي.. فضلاً عن إسنادها

لفكرة وجود المهدي، كما سبق أن أشرنا.

ونحن إذا لاحظنا المئة سنة أو الأكثر السابقة علي الحروب الصليبية، نجدها خالية عن الفتوحات الإسلامية تقريبا، وهادئة من جانب الروم تماما.. ما عدا حركة

ص: 48


1- ابن خلكان ج2 ص138.
2- المصدر ص407.
3- الكامل ج8 ص 89.

الفتح تجاه الهند(1). وما عدا بعض المناوشات المتقطعة التي تحدث بين المسلمين والروم، والتي تكون فيها المبادءة من الروم عادة، كالذي حدث عام 361(2) وعام 421(3). وفيما سويٰ ذلك يمكن القول إن السلام أو الهدنة، كانت سارية المفعول بين المعسكرين. ومعه لا يكون هذا الصلح أو الهدنة، قائماً عليٰ أساس الموادة للذين كفروا أو الرضوخ لهم ليكون محرماً في الإسلام. وإنما السر في ذلك: هو أن جذوة الثورة الحرارية التي أوجدها النبي(صلّي الله عليه وآله ) في المجتمع الإسلامي، كما أشرنا أليها، قد بدأت بالتنازل والخمود في تلك العصور. فكان انحراف المسلمين وتناسيهم لتعاليم دينهم، وتفضيلهم لمصالحهم الضيقة، قد أوجب إعراضهم عن الجهاد وتغافلهم عن أحكامه والاكتفاء بواقعهم المرير الذي كان في ذلك الحين يعاني من أشد الأزمات والانقسامات في داخل الدولة الإسلامية الممزقة. وكانت الخلافة العباسية قد بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة.

وقد أدت هذه الهدنة المنحرفة مع الروم إلي تبادل بعض الثقة وحسن الظن بين المعسكرين. مما أوجب لهما معاً أن لا يجدا مانعاً عن الاتفاق أحياناً، بل الاشتراك في عمل عسكري موحد. وهو ما حدث مرة أو أكثر في القرن السابق علي الحروب الصليبية. وهو المصداق الواضح لقول النبي(صلّي الله عليه وآله ) : « فتغزون انتم وهم عدواً من ورائكم، فتنصرون وتغنمون وتسلمون »

ولعل أوضح الحوادث صراحة في ذلك، ما حدث عام 375 عليٰ مايحدثنا التاريخ (4) من انه وقع اختلاف بين ملوك الروم مع بعضهم، فاستنجد بعض منهم

ص: 49


1- أنظر الفتوحات الإسلامية ج 7 ص 44.
2- الكامل ج 7 ص 44.
3- المصدر ص 241.
4- الفتوحات الإسلامية ج 1 ص 347.

بملوك الإسلام، وذلك البعض هو « ورد » الرومي. وكان من أكابر رؤوسهم وقواد جيوشهم وعظماء بطارقتهم. فطمع في الملك ولا قدرة له عليٰ قتال المتنازعين فكاتب أبا تغلب بن حمدان أمير حلب والموصل نيابة عن الخليفة، واستنجد به وصاهره. فأجابه ابن حمدان واستجاش بالمسلمين من الثغور فحصل له جيش ضخم، فقصد قتال الروم بذلك الجيش. فاخرجوا له جيشاً بعد جيش وهو يهزمهم، فقويٰ جنانه فقصد القسطنطينية، ومع تلك الجيوش ورد الرومي الطالب لتملك القسطنطينية.

فانظر كيف اتفق هذا الحمداني والرومي علي حرب بقية الروم وانتصرا عليهم كما قال النبي(صلّي الله عليه وآله ) ، وإن لم يدم هذا النصر طويلاً، فإنه حين أراد فتح مدينة القسطنطينية، جمعوا له جيوشاً كثيرةً وقاتلوه قتالاً شديداً حتيٰ انهزم(1).

ومما يدلنا عليٰ تبادل بعض الثقة بين المعسكرين حوادث أخريٰ:

منها: إن ورداً الرومي المذكور حين انهزم عن القسطنطينية، فكر بان يستند إليٰ عضد الدولة بالعراق، فكاتبه ووعده ببذل الطاعة. فأجابه بجواب حسن ووعده بان ينصره. فبلغ ذلك ملوك الروم. وكان ملكان منهما أخوين مشتركين في ملك القسطنطينية، فكاتبا عضد الدولة وبعثا له بهدايا واستمالا.. فقويٰ في نفسه ترجيح جانبهما، واعرض عن نصر ورد الرومي.. إليٰ آخر الحوادث(2).

وهناك حوادث أخريٰ تدل عليٰ وجود هذه الثقة المتبادلة، لا تخفيٰ عليٰ المتتبع.

فإن قال قائل: إن ظاهر الحديث النبوي الشريف، إن النصر المشترك الذي يحرزه الروم والمسلمون نصر. حقيقي وأكيد، عليٰ حين عرفناه إن هذه الحروب التي

ص: 50


1- المصدر والصفحة.
2- المصدر ج 1 ص 347.

ذكرناها، كانت نهايتها الفرار.

قلنا: إن كل ما يدل عليه الحديث الشريف، هو انهم ينتصرون ويغنمون ويسلمون. ولا شك إن هذا قد حدث في الحروب السابقة عليٰ هجومهم عليٰ القسطنطينية، وإن انهزموا بعد هذا الهجوم.

وأمّا قوله(صلّي الله عليه وآله ) : ثم ترجعون حتيٰ تنزلوا بمرج ذي تلول. فليس فيه دلالة عليٰ أنهم راجعون بالنصر. والمرج المشار إليه، كأنه كناية عن المنطقة التي صار إليها الجيش المهزوم.

وبعد فترة من ذلك قامت الحروب الصليبية، من قبل أناس جدد غير أولئك المتعاهدين مع المسلمين. ومن هنا نجد الحديث النبوي الشريف يقول: «فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب. ولم يقل رجل منهم أي الروم. لأنّ رادة الحروب الصليبية كانوا غير أولئك الأسبقين، بحوالي قرن وإن كان الجيل المتأخر من الروم البيزنطيين قد اشترك فعلاً في تلك الحروب. ولا يكون بين رفع الصليب والانتصار المشترك أية علاقة مباشرة، وإنما هو مجرد الترتيب الزمني.

ويكون معنيٰ رفع الصليب من قبل أهل النصرانية، وهم الأوروبيون الإفرنج معناه اتخاذ الصليب شعاراً لهم ورمزاً لانتصارهم، واستغلالهم الدين المسيحي لاستعمار المسلمين والتوصل إليٰ قتلهم واستغلال مواردهمواقتصادياتهم. ويكون قوله: « غُلِب الصليب» ، عبارة رمزية عن هذا الشعار، متضمنا للتفاؤل بالنصر رفعاً لمعنويات الجيش المهاجم.

وهذا بالضبط هو الذي أعلن في ابتداء الهجوم الصليبي. إذ قالوا عند العزم عليه: «وحق الإنجيل هذا جيد لنا ولهم- يعني الأوروبيين والصقالبة. وتصبح البلاد

ص: 51

نصرانية »(1).

وقال أحد زعمائهم: « إذا عزمتم عليٰ جهاد المسلمين فافضل ذلك فتح بيت المقدس، تخلصونه مرن أيديهم ويكون لكم الفخر» (2).

وكان ذلك عام 491، وقد استطاعوا أن يحققوا هدفهم هذا في العام المقبل. فقد احتلوا البيت المقدس بعد سلسلة من المذابح فيها وفي كل مدينة إسلامية مروا بها في طريقهم. حيث لم يكن مرادهم الفتح فقط، بل التشفي من المسلمين، وإبادتهم والانتقام من فتوحهم المظفرة.

ففي بلدة البيت المقدس نفسها كما يقول لنا التاريخ (3): « ركب الناس السيف ولبث الإفرنج في البلدة أسبوعا يقتلون فيه المسلمين... وقتل الإفرنج بالمسجد الأقصي ما يزيد عليٰ سبعين ألفا منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم، ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف. وأخذوا من عند الصخرة نيفاً وأربعين قنديلاً من الفضة وزن كل قنديل ثلاثة آلاف، ستمائة درهم. وأخذوا تنورة من فضة وزنه أربعون رطلاً بالشامي. وأخذوا من القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلاً نقرة، ومن الذهب نيفاً وعشرين قنديلاً، وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء »

وبقي البيت المقدس تحت الاحتلال المباشر للصليبين ما يقرب من مائة عام، توسعوا من خلالها إليٰ دمشق وبيروت وعكا ويافا وصيدا وصور وغيرها من المدن المسلمة. حتيٰ سلط الله تعاليٰ عليهم جماعة من عباده الشجعان بقيادة صلاح الدين الأيوبي. فأذاقوهم طعم الفرار والاندحار، ونصر الله تعاليٰ دينه وأعليٰ كلمته،

ص: 52


1- الكامل ج 8 ص 185.
2- المصدر والصفحة وأنظر الفتوحات ج 1 ص 500.
3- الكامل ج 8 ص 189 والفتوحات ج 1 ص 504.

بعد دهر من المحنة والتمحيص.

وقد بدا صلاح الدين بالأطراف، فاسترجعها منهم، في حروب قاسية، حتي استطاع فتح بيت المقدس عام 583(1). بالصلح، بعد حصار طويل ومناوشات طويلة، أظهر فيها كل من المسلمين والإفرنج غاية الاستبسال والصمود.

وهذا هو المصداق الحقيقي القطعي لقول النبي(صلّي الله عليه وآله ) - في الحديث الشريف - : « فيغضب رجل من المسلمين، فيقوم إليه فيدقه ». يعني يقوم إليٰ الصليب فيدقه. وهذا الرجل هو صلاح الدين الأيوبي نفسه، غضبه المشار إليه في الحديث إنما هو لأجل احتلال الصليبيين بلاد الإسلام، وبغاية تنظيفها منهم

وإعلاء كلمة الإسلام فيها. والفكرة في أساسها من اعظم الأفكار الإسلامية شموخاً وإخلاصاً ومشروعيةً، وإن كان التطبيق أحياناً ينطلق من زوايا منحرفة حادة.

وقوله: «يقوم إليه» ، يعني يتصديٰ لمعارضته ومقاومته ومنازلته، وقوله: « يدقه»، أي يكسر الصليب ويبيده ويفنيه. وهو معنيٰ إخراج الصليبيين من بلاد الإسلام، وإزالة حكمهم واحتلالهم عنها.

ولنا في تفسير هذه الحملات الظافرة، بعد أن كانت جذوة الثورة الحرارية لديٰ المسلمين قد خمدت منذ قرنين من الزمن، لنا فيها تفسيرات وبيانات، يطولالمقام بعرضها.

وقوله(صلّي الله عليه وآله ) : « فعند ذلك تغدر الروم وتجتمع للملحمة ». كناية عن بدء عصر النهضة الحديثة في أوربا. تلك النهضة التي بدأت جذور جرارتها والتحسس إليها منا خلال الحروب الصليبية نفسها. فبينما كنا نجد الإفرنج يستجيرون بالمسلمين ويتعاهدون معهم ويشتركون معاً في حروب ذات هدف موحد. وهذا معناه إن فكرة

ص: 53


1- الكامل ج 9 ص 182 - 175 ، والفتوحات ج 1 ص520.

الاستعمار الأوربي لم يكن لها وجود، بل كانت أوربا تنظر إلي المجتمع المسلم نظرة الند للند عليٰ أقل تقدير.

ولكن نهضة الحروب الصليبية هي التي أوجبت التحسس الأوربي وأذاقتها طعم الانتصار والإثراء عليٰ حساب الشعوب الضعيفة، وكل ما فعلته أوروبا بعد ذلك إنها جردت نهضتها عن العنصر الديني وأبدلته بالمفهوم المادي العلماني للعالم، وهذا هو الفرق الأساسي بين النهضة الأوربية الحديثة والنهضة الصليبية.

يشير إليٰ مثل هذا المفهوم بعض المؤرخين(1) ويقول: « إن تلك الحروب وان هلك فيها كثير من النفوس، وذهب فيها كثير من الأموال، من غير حصول عليٰ المقصود، « باعتبار فشل الإفرنج واندحارهم في تلك الحروب . لكنه أعقب نتائج نافعة لهم.

منها: أنهم من ذلك الوقت شرعوا في ترتيب العساكر وتعلموا بمواصلتهم المسلمين صناعة التجارة والزراعة وكثيرا من العلوم العقلية والفلكية. وألفوا التواريخ النافعة وتوسعوا في معرفة علم الفلك وألّفوا فيه، وتخلقوا بأخلاق الحضر. وتعودوا الأسفار برّاً وبحراً لاكتشاف أحوال الأقطار، واكتشفوا أمريكا في أسفارهم سنة 890 هجرية، ولم تكن معلومة لأحد قط.

واكتسبوا أنواع الفروسية واللعب بالخيل والرماح.. وتعلموا أيضاً المشورة في الأحكام وعلموا إن الملك يفسد بالاستبداد وعدم المشورة فدونوا لهم أحكاما وقوانين يرجعون إليها. واستكثروا من جمع كتب الإسلام وترجمتها بلسانهم ليعلموا معانيها، فاخذوا منها ما يكون به صلاح الملك. واتخذوا مدارس لتعليم أنواع الفنون، وعرفوا إن الملك لا ينتظم إلّا بذلك كله ، انتهيٰ كلامه.

ص: 54


1- الفتوحات الإسلامية ج 1 ص366.

أذن فالأساس الذي أيقظ عندهم النهضة الحديثة عليٰ ضخامتها وجبروتها، هو ما أوجبته الحروب الصليبية من الانفتاح عليٰ العالم والشعور بالمسؤولية تجاه الرقي والتقدم، في الاتجاه الذي فهموه وطبقوه.

ونسبة الغدر إليٰ الروم، باعتبار نقضهم لعهد الهدنة واقرارهم لفكرة الحروب الصليبية.

ومعنيٰ اجتماعها هو محاولة زرع الاتفاق بين شعوبها والشعور بالمسؤولية والهدف المشترك بينهم علمية واقتصادياً وسياسياً، كما سمعنا.

ولعل أوضح والطف عبارة رمزية يمكن أن يعبر بها عليٰ هذا الغدر والاستعمار بما يحمل من تخطيطات فكرية وعقائدية وعسكرية واقتصادية.. ما قاله النبي (صلّي الله عليه وآله ) - برواية ابن ماجة - « فيأتون تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً. وهذه الأرقام ليست للتحديد بل للتعبير عن مجرد الكثرة، مع بيان اختلاف مراتبها، فعدد الأفراد الذين يعملون تحت كل غاية أكثر عدداً من مجموع الغايات.

وهذا هو الذي حصل فعلاً، فقد جاءت أوربا إليٰ الشرق المغلوب عليٰ أمره، تحت عشرات الشعارات والمصالح بل المئات منها. وأما المؤيدين المغرورين بكل غاية من هذه الغايات، والمتحمسين لها عليٰ اعتبارها الغاية القصويٰ في الكون بزعمهم.. فأفرادهم يعدون بالآلاف بل بالملايين.

ولكن النبي (صلّي الله عليه وآله ) لم يكن يمكنه التصريح قبل اكثر من ألف عام لا بعشرين ألف. حفظاً لقانون: «كلّم الناس عليٰ قدر عقولهم». ولم يكن المجتمع يومئذ بقادر عليٰ تفهم شيء مما وقع بعد ذلك، بأكثر مما صرح به الحديث الشريف. فإن مجموع الممالئين لأوربا بنص الحديث الشريف مائة وستون ألفاً من الناس.

وأمّا ما أضافه أبو داود إلي الحديث، وهو قوله: « ويثور المسلمون إليٰ أسلحتهم، فيقتتلون، فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة.. ، فهو عبارة عن الثورات التي يقوم بها

ص: 55

المسلمون خلال التاريخ، ضد الملحمة الكبري: الإستعمار والتعبير بالثورة أوضح قرينة عليٰ ذلك.

وقوله: « فيقتتلون »، يعني معسكر المسلمين ومعسكر الروم، أو المستعمرين.

إلّا إن الاستعمار سيكون أقويٰ من أن يقهر، والمسلمون الثائرون بالرغم من اندفاعهم وإخلاصهم أقل عدداً وعدة من أن يستطيعوا الدفاع الحقيقي البليغ. بل مم لا محالة. علي افضل تقدير- سيتهارون في ميدان الشهادة واحداً بعد الآخر «فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة »

ونحن إذا لاحظنا تاريخ الثورات التي قامت في بلاد الإسلام منذ تاريخ الاستعمار إليٰ ما بعد بداية القرن العشرين الميلادي... نجدها قائمة عليٰ أساس إسلامي، بشكل وآخر: كثورة الجزائر في بدايتها بقيادة الشيخ عبد القادر الجزائري، وثورة العشرين في العراق بقيادة الشيخ محمد تقي الشيرازي.

وإنما أصبحت الثورات في العالم تقوم عليٰ أساس مادي صرف في العقدين الأخيرين تقريباً. وذلك تحت التأثير الأوربي المادي الذي غزانا في عقر دارنا وسيطر عليٰ أفكارنا وحياتنا، حين لم تجد بلاد الإسلام مقاومة حقيقية وجواباً عسكرياً حاسماً، عليٰ المد المادي الجارف.

ص: 56

العلامة السابعة: مقاتلة الترك

أخرج البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه(1) عن رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) أنه قال: «لا تقوم الساعة حتيٰ تقاتلوا الترك، صغار الأعين حمر الوجوه ذلق الأنوف، كأنّ وجوههم المجان المطرقة...» ، الحديث. وقد عقد الترمذي وأبو داود وابن ماجة في صحاحهم أبواباً بهذا العنوان، فراجع.

وهذا منه(صلّي الله عليه وآله ) في الأرجح إشارة إلي وصول الفتح الإسلامي إليٰ بلاد الترك. وقد تحقق ذلك بعد وفاة النبي(صلّي الله عليه وآله ) عام اثنين وعشرين للهجرة، بقيادة عبد الرحمن بن ربيعة.

وذُلف الأنوف: صغارها. يقال: ذلف الأنف إذا صغر واستوت أرنبته، فصاحبه أذلف، والمؤنث ذلفاء والجمع ذلف بضم فسكون. والمجان جمع مجن وهو الترس. والمطرقة بضم الميم وتشديد الراء، مأخوذ من الطرق، يقال: طرقالحديد إذا مدده ورققه. وهو كناية عن سعة الوجه.

ومن هنا ورد في بعض الأحاديث وصفهم بكونهم عراض الوجوه، كالذي

ص: 57


1- الفتوحات ج 1 ص 152.

أخرجه ابن ماجة (1): «لا تقوم الساعة حتي تقاتلون قوما صغار الأعين عراض الوجوه » الحديث.

وأخرج مسلم عدة أحاديث بهذا المضمون(2) ولم يذكر فيها اسم الترك، غير انه يمكن أن يكون ما أخرجه البخاري قرينة عليه. فيكون ذلك مما تحقق في التاريخ

الإسلامي.

ص: 58


1- أنظر ج 8 ص 175 وما بعدها.
2- أنظر ج 8 ص 175 وما بعدها .

العلامة الثامنة: فتح القسطنطينية

اشارة

أخرج مسلم: إن رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) قال: «لا تقوم الساعة حتيٰ ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ» .. إليٰ أن يقول: «فيفتحون قسطنطينية » .. الخ. الحديث.

وهذا ما تحقق فعلاً، بعد عدة قرون من تسجيله في المصادر الحديثة، فضلاً عن زمن التنبؤ به من قبل النبي(صلّي الله عليه وآله ) . فيكون من هذه الناحية، كما قلنا في التنبوء بالحروف الصليبية، عليٰ مستوي المعجزات.

وفاتح القسطنطينية هو السلطان محمد الثاني بن السلطان مراد، من أوائل الملوك العثمانيين، الذين حكموا البلاد الإسلامية باسم الدين ردحاً طويلاً من الزمن. وقد تم الفتح ودخول المسلمين فيها عام 857 للهجرة(1) وسميت بعدئذ باسلامبول نسبة لها إليٰ الإسلام بعد النصرانية، وأصبحت العاصمة الرئيسية للدولة العثمانية.

ونكرر هنا القول الذي ذكرناه في موقف صلاح الدين الأيوبي... من أنّ فكرة الفتح أساساً مجيدة وعظيمة في الإسلام، ومن هنا اعتبر النبي (صلّي الله عليه وآله ) الجيش الفاتح «من خيار أهل الأرض يومئذ ». وهذا لا ينافي وجود نقاط ضعف في العقيدة أو

ص: 59


1- الفتوحات ، ج 2 ص 124 وما بعدها.

السلوك من الجهات الأخريٰ.

لا يبقيٰ بعد هذا الاحتمال أن يكون المقصود من الحديث النبوي هو إن فاتح القسطنطينية هو الإمام المهدي(عليه السّلام) بعد ظهوره، كما ورد في بعض الأخبار(1).

وقد يستدل عليٰ ذلك بإطراء النبي (صلّي الله عليه وآله ) عليٰ الفاتحين، كما سمعنا، فإن أشد انطباقاً عليٰ أصحاب المهدي(عليه السّلام) منه عليٰ الجيش العثماني بطبيعة الحال.

هذا الاحتمال غير صحيح، لصراحة الحديث النبوي، بان القسطنطينية تؤخذ من الروم، وهو ما حدث في الفتح العثماني. وأمّا المهدي (عليه السّلام) سوف يفتحها تارة أخري، إلّا أنه سوف يأخذها من المسلمين المنحرفين، كما يأخذ سائر البلاد الإسلامية غيرها. وإنما ذكرت في الأخبار لأهميتها الجغرافية واستراتيجيتها العسكرية.

ويؤيد ذلك، قوله في الحديث النبوي عن الجيش الفاتح: « فيقاتلونهم فيهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً. ويقتل ثلثهم افضل الشهداء. ويفتح الثلث..» الحديث (2). وهذا الانقسام مما لا يمكن حدوثه في جيش المهدي الفاتح للعالم كله، بطبيعة الحال.

وأمّا وصفهم بكونهم من خيار أهل الأرض، وأن شهداءهم أفضل الشهداء.. فقد عرفنا تفسيره الصحيح.

ص: 60


1- أنظر كشف الغمة ، ج 3 س 264.
2- ص 336 و مات بعدها.
علامات أخريٰ متحققة
اشارة

بقيت هناك عدة علامات ذكرها الشيخ المفيد في الإرشاد مختصراً، وقال إنها وردت في الآثار وجاءت بها الأخبار. منها عدد قد تحقق في التاريخ. أو يمكن حمله عليٰ مصاديق مفهومة متيقنة. وإنما عزلناها عن العلامات السابقة لأننا لم نجدها في

الأخبار، فيما عدا رواية المفيد لها مرسلاً بدون سند.

وتكون القاعدة العامة، في التشدد السندي، رفضها ما لم تقم قرائن واضحة عليٰ صدقها. وقد سبق إن قلنا إن أدل دليل عليٰ صدق الرواية تحقق مضمونها في الخارج علي مديٰ التاريخ. وسنختار ما يمكن القول بتحققه فنذكره فيما يلي:

أولاً: مقتل الحسني:

ولا شك إن العشرات من ذرية الإمام الحسن الزكي (عليه السّلام)، ثاروا في أيام الدولة الأموية والعباسية، وواجهوا من القتل والتشريد من قبل السلطات الشيء الكثير... كما هو أوضح من أن ندخل في تفاصيله. ولمن يراجع مقاتل الطالبين لأبي الفرج خير المعرفة بذلك.

وإن في دولة طبرستان التي أسسها الحسن بن زيد الحسني العلوي عام 250 والتي استطاعت الصمود ردحاً طويلاً من الدهر، بالرغم من كيد الأعداء، خير دليل عليٰ صمود هذه الذرية الطاهرة واستبسالهم ضد الظلم والطغيان.

نعم، هناك احتمال أن يراد بالحسني: النفس الزكية التي ورد إنها تقتل قبل الظهور لخمس عشرة ليلة. إلّا أنه ليس باحتمال وجيه، لأن الخبر الدال علي مقتل النفس

ص: 61

الزكية في مثل ذلك الموعد، غير مقبول بالتشدد السندي عليٰ ما سيأتي. كما إن كون النفس الزكية التي تقتل في ذلك الحين - لو صح - من أولاد الحسن(عليه السّلام) ، أمر لا دليل عليه.

ثانياً : اختلاف بني العباس في الملك الدنيوي:

وحقيقته التاريخية أوضح أيضاً من أن يفاض في تفاصيلها.

ثالثاً: إقبال رايات سود من قبل خراسان:

وقد عرفنا انطباق ذلك عليٰ ثورة أبي مسلم الخراساني. وفي هذه العلامة أخبار مسندة سوف نرويها فيما بعد.

رابعاً: ظهور المغربي بمصر وتملكه الشامات:

ولعمري إن مصر قد غزت الشام واستولت عليها، عدة مرات في التاريخ الإسلامي. كالذي فعله ابن طولون ثم المعز الفاطمي ثم إبراهيم باشا. ثم كان اخرما تلك المحاولة التي سميت باسم الجمهورية العربية المتحدة.

إلّا أن المغربي من هؤلاء هو المعز الفاطمي، لأنه من ذرية المهدي العلوي الأفريقي الذي نشر دعوته عام 396(1) في الشمال الأفريقي. وبقيت دولته قائمة حتي انتقل عنها المعز معد بن إسماعيل إليٰ مصر عام 358(2). وأزال عنها كافوراً الإخشيدي.

ص: 62


1- الكامل ج 1، ص 133.
2- ابن الوردي ج 1 ص 308

وفي نفس العام سارت جيوشه إليٰ طبرية ومنها إليٰ دمشق. واستولي عليها قائده ابن فلاج عام 359. وخطب فيها المعز واستقر فيها ملكه(1).

فانظر كيف طهر المغربي بمصر، وملك الشامات، طبقاً لهذه النبوءة

خامساً: نزول الترك الجزيرة:

وارض الجزيرة هي ارض العراق فيما بين النهرين، وهو اصطلاح قديم ومعروف.

وقد بقيت هذه الأرض تحت الحكم العثماني التركي ردحاً طويلاً من الزمن، يبدأ من عام 941 هجرية، ويستمر بقية القرن العاشر والقرون التي تليه حتي القرن الرابع عشر الحالي، حيث سقط حكمهم عام 1335 هجرية، بالاحتلال البريطاني للعراق (2) أثناء الحرب العالمية الأوليٰ.

وهذه من التنبوءات التي حدثت بعد صدور الحديث وكتابته في المصادر بعدة قرون. حيث توفي الشيخ المفيد صاحب الإرشاد عام413(3). وحصل الاحتلال التركي للعراق بعده بخمسمائة وثمانية وعشرين عاماً. إذن فهو من هذه الناحية كعدد مما سبق، تنبوءاً بالغيب عليٰ مستويٰ المعجزات.

سادساً: نزول الروم الرملة:

والروم في لغة عصر المعصومين عليهم السلام، هم الأوربيون بشكل عام، والرملة منطقة في مصر ومنطقة في الشام. وعليٰ كلا الحالين يكون هذا التنبؤ إخباراً

ص: 63


1- المصدر ، ص 409.
2- دليل خارطة بغداد ، ص286 إلي ص 295.
3- أنظر الكنيٰ والألقاب ، ج 3 ص 171، ط النجف 1956 - 1376.

عن الاستعمار الفرنسي، أمّا إليٰ مصر بقيادة نابليون بونابرت في حملته المشهورة أو إليٰ سوريا حيث بدا الاحتلال الفرنسي فيها بإخراج العثمانيين عنها بعد الحرب العالمية الأوليٰ.

وعليٰ أي حال، فالنبوءة واقعة وصحيحة علي المستوي التاريخي. وهذه أيضاً من التنبوءات الإعجازية التي سجلت في المصادر قبل حدوثها بقرون.

سابعاً : خلع العرب اعنتها وتملكها البلاد، وخروجها عن سلطان العجم

وهو ما نعيشه في هذا العصر، عصر الثورات في البلاد العربية بقصد التحرر من الاستعمار الأجنبي، وسيطرة أشخاص من أهل البلاد عليٰ الحكم.

وخلع الأعنة تعبير مجازي أمّا عن الثورة أو عن الانحراف عن زمام الدين وأحكامه حلاً وتصريف الأمور تحت شعارات أخريٰ لا تمت إليٰ الدين بصلة وكلاهما قد حدث فعلا. والتعبير بالعرب ربما كان قرينة عليٰ ذلك، حيث يمكن أن يدل علي أنّ الثورات تقوم عليٰ أساس شعار العروبة لا عليٰ أساس الإسلام.

وتملكها البلاد، يعني سيطرة أناس من أهل البلاد عليٰ الحكم. وخروجها عن سلطان العجم عبارة عن محاولتها التحرر من الاستعمار والخروج عن سيطرته. فإن لفظ العجم غير مختص بالفرس، كما يتخيل العامة، بل يشمل كل شخص غير عربي، مهما كانت لغته.

فانظر إليٰ هذا التنبوء الذي لم يحدث إلّا بعد ما يزيد عليٰ الألف عام من صدوره وتسجيله في المصادر.

ص: 64

ثامناً: ثبق في الفرات، حتي يدخل الماء في أزقة الكوفة

يقال: ثبق النهر، إذا كثر ماؤه وأسرع جريه. وهو عبارة أخريٰ عن الفيضان. وقد حصلت هذه النبوءة في العديد من السنين، وشاهدت الكوفة مثل هذا الفيضان كثيراً. وقد عاصرنا بعض ذلك.

تاسعاً: عقد الجسر مما يلي الكرخ بمدينة بغداد.

كان الناس في بغداد، خلال العصر العباسي بشكل عام، يكتفون بجسر أو جسرين بين جانبي دجلة(1) في الأغلب. وأمّا اليوم فبين جانبي بغداد عدة جسور، بعضها تجاه الكرخ وبعضها تجاه الرصافة.

ولم نستطع أن نتبين تاريخيا إن أول جسر عقد إليٰ جانب الكرخ، كان في أي عام ومن قبل أي سلطة. وليس ذلك مهما في حدود بحثنا.

عاشراً: اختلاف صنفين من العجم، وسفك دماء كثيرة

وإذا كان المراد من العجم، غير العرب من البشر، كما قلنا، كان كل حرب تقع بين معسكرين أو دولتين غير عربيتين، يمكن أن يكون مصداقا لهذه النبوءة.

ويكفينا أن نعرف إن مثل هذه الحروب لم تكن مهمة ولا ملفتة للنظر عالمياً في زمن النبي(صلّي الله عليه وآله ) والأئمة المعصومين (عليهم السّلام). تمخضت هذه الحروب في الأزمنة المتأخرة عن ذلك بعدة قرون.

ولسنا بحاجة إلي تحصيل المثال عليٰ ذلك، من الحروب..... بعد الحروب التي

ص: 65


1- أنظر دليل خارطة بغداد ، ص 193 -149.

وقعت بين ألمانيا وفرنسا أو بين بريطانيا وفرنسا أو بين تركيا واليونان. أو غير ذلك خلال التاريخ الحديث.

بل يكفينا النظر إليٰ الحربين العالميتين الواقعتين في النصف الأول من القرن الحالي. فإن كل واحدة منهما تمثل خلافاً دموياً بين عدة دول غير عربية. وقد تسببت إليٰ إزهاق الملايين من النفوس. وقد كانت أشد تأثيراً عليٰ بلادالإسلام من الحروب الأوربية الداخلية التي كانت تحدث بين الإفرنج في العصور الأسبق منها.

نكتفي بهذا المقدار من التنبوءات المتحققة تاريخياً، وهي بمجموعها تشكل دليلاً قطعياً عليٰ صدق قائليها المعصومين (عليهم السّلام) ذلك الصدق الدال عليٰ صدق سائر أقوالهم بما فيه أخبارهم عن ظهور الإمام المهدي(عليه السّلام) .

وقد يخطر في الذهن هذا السؤال: وهو أننا باستعراض هذه العلامات الواقعة تاريخية، بل حتيٰ العلامات التي لم تقع، مما سنذكره... نريٰ إن أكثرها تدور حول المنطقة الإسلامية من العالم. وأمّا التعرض إلي حوادث تقع في المناطق الأخريٰ، فهو في غاية القلة. فلماذا حدث هذا الاختصاص.

فنقول في جوابه: إن لهذا الاختصاص دخلا أساسياً في التخطيط الإلهي ليوم الظهور فإن المخلصين الممحصين الذين يتم إعدادهم لتكفل مسؤولية الظهور مع المهدي (عليه السّلام) هم من المسلمين لا محالة. وهم الذين ينبغي أن تنبههم العلامات - كما قلنا إليٰ تحقق الظهور. مضافا إليٰ الأفراد المخلصين من المرتبتين الثانية والثالثة من مراتب الإخلاص التي قلناها.

ومعه فمن المنطق أن تختص هذه العلامات، بالشكل الذي تحقق هذا الهدف... وذلك لا يكون إلّا إذا كانت تحدث في العام الإسلامي، أو تكون ملفتة لنظر المسلمين إن حدثت في الخارج.

وعليٰ هذا درجت كل العلامات الواردة عن النبي(صلّي الله عليه وآله ) والأئمة (عليهم السّلام) إيفاءٌ لهذا الغرض.

ص: 66

فيما يشك في حدوثه من العلامات

وما يمكن ضبطه من أسباب الشك، كقاعدة عامة، سببان:

أحدهما: الشك في مدلول الرواية، باعتبار العلم برمزيتها، وأن المراد منها مصاديق لا تتضح من اللفظ بصراحة. ومن هنا لا يفهم بوضوح انطباقها عليٰ الحوادث التاريخية الحاصلة.. وعدمه.

ثانيهما: الشك في ما قاله التاريخ، بمعني احتمال أن يكون المشار اليه في بعض التنبوءات، أمورة أهملها التاريخ، ولم يتعرض لها. وما اكثر ما أهمل التاريخ من الحوادث.

ويتدرج في ذلك عدد من الوقائع والحروب، ونحوها، المذكورة في هذه الروايات. وسنحمل عنها فكرة كافية في الجهة الآتية من الكلام إن شاء الله تعاليٰ..

ولا يوجد ما يحول دون هذا الشك، سويٰ التدقيق الزائد في فهم الروايات، ومحاولة تنظيمها منطقياً موافقاً لقواعد الإسلام، كما سنحاول في الجهة الأتية. مع التدقيق في المصادر التاريخية، وفهمها فهماً منظماً أيضاً. وما بقي من الشكوكات، لو فرض ثبوتها بالتشدد السندي، فالأفضل إيكال علمها إلي الله عز وجل.

فيما يشك في تقدمه عليٰ الظهور، وتأخره عنه

ويكون بأحد السببين السابقين تداركه بالتدقيق في الروايات وفهمها فهماً منظماً بما في ذلك الروايات التي تتحدث عن الحوادث السابقة عليٰ الظهور أو التي تتحدث عما يحدث بعده.

ص: 67

والضابط الذي يمكن التوصل إليه الآن، قبل الوصول إلي تفاصيل الجهة الآتية: هو إن كل حادثة تدل عليٰ الانحراف أو علي بعض نتائجه، فهي متقدمة عليٰ الظهور، باعتبارها مرتبطة بعصر الفتن والانحراف المسبب عن التمحيص الإلهي، كما سبق أن عرفنا.

وكل رواية تدل عليٰ حسن الزمان وحصول الرفاه فيه وتطبيق الإسلام، فهو راجع إليٰ ما بعد الظهور. وقد أسلفنا ذلك، وأقمنا القرينة عليٰ إن ما دل عليٰ الانحراف غير مربوط بالحوادث المباشرة لقيام الساعة، بل بالحوادث السابقة عليٰ

الظهور.

إلّا أن ما يندرج ضمن هذا الشك قليل نسبياً، مع تكفل الكثير من الروايات التصريح بهذا التوقيت.

فيما يعلم بتأخره عن الظهور من الحوادث وهو لا يكون من علامات الظهور

يندرج في ذلك: ما يقع بعد الظهور مباشرة أو ما ينتج عنه، أو ما يقع بعده بتاريخ طويل، أو ما يقع قبل قيام الساعة مباشرة. وكل ذلك قد نفرض قيام الدليل عليٰ تعيينه الزمني، كما هو الأغلب، وقد نفرض الشك في ذلك وتعذر الاستدلال عليه... فيبقي علمه إليٰ الله عز وجل..

وبهذا تنتهي الناحية الأولي من الجهة الرابعة، في الترتيب الزمني للحوادث.

ص: 68

في انقسام علامات الظهور من ناحية وقوعها عليٰ الأسلوب الطبيعي أو الإعجازي
اشارة

وهي تنقسم إليٰ ثلاثة أقسام، يقع الكلام فيها ضمن ثلاث نقاط:

النقطة الأوليٰ: في الحادث الطبيعي الذي لا إعجاز فيه

وانما اكتسب علاميته وأماريته عن الظهور، باعتباره حادثاً مهماً ملفتاً للنظر، اختاره النبي (صلّي الله عليه وآله ) أو أحد الأئمة (عليهم السّلام) ، ليكون دالا عليٰ الظهور.

يندرج في ذلك كل ما أسلفناه مما وقع من العلامات في التاريخ، وكل الحوادث التي اكتسبت علاميتها ودلالتها باعتبار دخلها في التخطيط الإلهي كما قلنا. كما يندرج في ذلك كثير من العلامات المروية الأخريٰ، كقتل النفس الزكية وخروج الدجال، وعدد من الحروب المروية مما عرفناه ومما سنعرفه.

لابد أن نلاحظ، بهذا الصدد، إن المراد من كونه طبيعياً، هو إن الحادث المقصود حقيقة للرواية لم يقع عن طريق المعجزة . وقد تكون الدلالة المطابقية للعبارة القائمة عليٰ الرمز، توحي بوجود المعجزة، كالخبر الذي ورد عن الدجال أن معه جنة ونار فناره جنة وجنته نار، والخبر الذي ورد عن انحسار الفرات عن كنز من ذهب. ونحوه مما سيأتي مع تفسيره في الجهة الأتية..

ص: 69

النقطة الثانية: ما كان قائماً عليٰ المعجزة بمقدار إقامة الحجة

طبقاً لقانون المعجزات الذي ذكرناه.

ونحن في صدد حساب ذلك، لا بد أن نرجع فيه إلي كل مورد، لنريٰ مطابقته لهذا القانون وعدمه. وهذا واضح.

وإنما لابد الآن من الإشارة إليٰ ما سبق أن أشرنا إليه، ولم نعط تفسيره الكامل. من أنّ المستفاد من بعض الروايات قيام بعض العلامات علي الإعجاز، خصيصاً لتنبيه المخلصين الممحصين عليٰ الظهور. فما هو تفسير ذلك؟

ولعل أوضحها وأصرحها في ذلك ما روته المصادر الأمامية، بسند يكاد يكون متشابهاً لولا اختلاف في نسخ النساخ، عن أبي جعفر الباقر(عليه السّلام) أنه قال: - برواية الشيخ الطوسي(1) « آيتان تكونان قبل القائم، لم تكونا منذ هبط آدم (عليه السّلام) إليٰ الأرض. تنكسف الشمس في النصف من شهر رمضان والقمر في آخره.

فقال رجل: يا ابن رسول الله، تنكسف الشمس في آخر الشهر، والقمر في النصف؟.

فقال أبو جعفر: أنيٰ لأعلم بما تقول، ولكنهما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم عليهما السلام ». ورويٰ النعماني في غيبته (2) عن أبي جعفر (عليه السّلام) أيضاً أنه قال: « أن بين يدي هذا الأمر انكساف القمر لخمس تبقي والشمس لخمس عشرة، وذلك في شهر

ص: 70


1- الغيبة ، ص270، وأنظر الإرشاد ص 339 و غيبة النعماني ص 144.
2- ص 145.

رمضان، وعنده يسقط حساب المنجمين» .

وبسند آخر عن أبي عبدالله الصادق (عليه السّلام) أنه قال: « علامة خروج المهدي كسوف الشمس في شهر رمضان في ثلاث عشرة وأربع عشرة منه».

ولا شك بإمكان ذلك عقلاً، وليس بمستحيل فالكسوف الشمسي يقع بسبب توسط القمر بين الشمس والأرض. ومن الواضح انه لا فرق في النتيجة وهي اختفاء الشمس، بين أن يكون القمر مظلماً في آخر الشهر أو أن يكون مضيئاً في وسطه.

كما أن خسوف القمر يحدث لتوسط الأرض بينه وبين الشمس. ولا فرق في ذلك أيضاً بين أن يكون هلالاً في أول الشهر أو آخره، وبين أن يكون بدراً في وسطه. غير أن الظل الأرضي إذا صار علي القسم المظلم من القمر لم يؤثر فيه شيء ولم يمكن رؤيته. وأمّا إذا صار هذا الظل عليٰ القسم المضيء من القمر، أي الهلال، اثر فيه وذهب ببعضه أو بجميعه .

فبحسب التجريد العقلي ممكن وبقدرة الله تعالي ممكن. وهو الذي خلق الكون، وله التصرف فيه كيف يشاء. وانما الشيء الذي لا بد أن نعرفه هو مطابقته لقانون المعجزات، مع التأكد من كفاية هذه الأخبار للإثبات التاريخي مع التشدد السندي الذي تسير عليه.

أمّا بحسب قانون المعجزات، فلا شك أن في حدوث ذلك تأكيداً وترسيخاً لفكرة المهدي (عليه السّلام) في أذهان الناس، لا عند المخلصين الممحصين فقط، بل عند كل من يعرف بان هذه الآية ستقع قبل الظهور. وسيتحول العديد من الناس إليٰ اشد المؤمنين بالمهدي (عليه السّلام) والمدافعين عنه، ممن لم يكن قبل ذلك عليٰ هذا الأيمان. أو بتعبير آخر: أنه يوجب صعود درجات الإخلاص في انفس المخلصين لإحديٰ مراتب الإخلاص السابقة. ولعل ظاهر هذه الروايات، كون هذه الآية من الآيات القريبة من الظهور. ومعه يكون

ص: 71

إيجادها إرشاداً وتنبيهاً للمخلصين الممحصين بالاستعداد للقاء القائم المهدي (عليه السّلام) والجهاد بين يديه. باعتبار أن الفرد منهم لا يشعر بنجاز شرط الظهور وتحققه كما قلنا. ولعله أيضاً يغفل عن عدد العلامات التي تقع وقوعاً طبيعياً أو يجهل ارتباطها بالمهدية (عليه السّلام) ومن هنا كان لا بد للتنبيه القوي أن يقع لكي يهز كل الضمائر المخلصة.

ومن المعلوم أنّ التفات مجموع المخلصين الممحصين إلي قرب الظهور ووقوعه ضروري. لأنّ المفروض أن عددهم بمقدار الحاجة لا اكثر، فإن نقصوا كان ذلك مخلاً بنجاح اليوم الموعود. ومن هنا انبثقت الحاجة إليٰ هاتين الآيتين.

وأمّا من حيث كفاية هذه الأخبار للإثبات التاريخي، فهي من حيث العدد متعاضدة ومتساندة في إثبات مؤداها. ومعه تكون مقبولة، ما لم تتناف مع قانون المعجزات، وإلّا لزم رفضها. فلو جزمنا بتوقف إقامة الحجة، أو إيجاد اليوم الموعود عليها، فهو، وإلّا كان قانون المعجزات منافياً مع هذه الروايات. ونحن لا نستطيع الجزم بهذا التوقف لكفاية المعجزات الأخريٰ لإقامة الحجة واضطلاعها بالمهمة، فلا يتعين الحاجة إلي هذه المعجزة التعيين.

نعم، لو لم تكن هذه الظاهرة إعجازية، بل كانت نادرة الوقوع جداً في الكون، بحيث لم توجد في عمر البشرية الطويل وإن كانت لعلها قد وجدت قبلها، كما قد يستشعر من الرواية. ففي مثل ذلك تكون الروايات الدالة علي حدوثها كافية الثبات التاريخي.

إلّا أن هذا الفهم بعيد جداً، بعد فرض حدوث الخسوف والكسوف النادرين في شهر واحد، فتبقي الظاهرة إعجازية. ولتدقيق هذه الفكرة مجال آخر.

ولعل مما يندرج ضمن هذه المعجزات: الصيحة والنداء، مما لم نحمله عليٰ محمل طبيعي. ومنها الخسف بالبيداء إذا لم نحمله عليٰ العقاب الدنيوي المستعجل أو عليٰ حماية أهل الحق. وسيأتي التعرض إليٰ كل ذلك في الجهة الأتية ان شاء الله تعالي.

ص: 72

النقطة الثالثة: ما دل عليٰ إقامة المعجزات اكثر مما يقتضيه قانون المعجزات
اشارة

وأوضح ذلك وأصرحه ما دل عليٰ قيام المعجزات من قبل أنصار الباطل والمنحرفين عن الحق. وذلك أدهيٰ وأمر من مجرد قيام المعجزة بلا موجب، فإن فيه تأييد للباطل وإغراء بالجهل يستحيل صدوره عن الله عز وجل.

فإن قال قائل: أن مبرر مشروعية ذلك هو أنه قائم عليٰ أساس التمحيص والامتحان وسبب له. حيث تدل الأدلة عليٰ أنّ سبب التمحيص منقسم إليٰ قسمين: طبيعي وإعجازي. ولعمري إنّ السبب الإعجازي اشد تمحيصاً أكدنتيجة. فإن الأيمان بكذب من قامت المعجزة عليٰ يديه من أصعب الأشياء. قلنا: كلا، فإن هذا مما لا يستقيم بالبرهان. فإن التمحيص الموجب للتربية الحقيقية، ليس هو إلّا ما كان عن سبب طبيعي وعن عيش حياتي طويل.

وأمّا التمحيص الإعجازي، فقد يكون ممكنا لو توقف عليه إتمام الحجة. يندرج في ذلك كل معجزات الأنبياء فإنه لا محالة - محك للتمحيص والاختبار إذ يريٰ من يؤمن بنتائجها ممن يكفر بها.

وأمّا المعجزة الموهمة بالباطل والمغررة للجاهل، فغير ممكنة الصدور عن الله عز وجل بالبرهان. والأيمان بكذب من قامت المعجزة عليٰ يديه غير ممكن إلّا علي أساس الانحراف. وذلك ليس إلّا للبرهان القائم عليٰ أنّ الله تعالي لا يظهر

ص: 73

المعجزة عليٰ يد الكاذب، كما برهن عليه في محله من العقائد الإسلامية. فكيف يكون الباطل المستحيل طريقاً للتمحيص وإقامة الحق، وتربية المخلصين. ولعمري أن ذلك قائم عليٰ الفهم السييء لقوانين الإسلام.

إذن، فلابد من استعراض ما ورد من الروايات المتنبئة بحوادث من هذا القبيل، لأجل التخلص عنها في الجهة الآتية. ولا بد أن نلاحظ سلفاً أن ما هو الميزان في الرفض والأخذ بالرواية انما هو مقصودها الواقعي لا عبارتها الرمزية.

وسنذكر الآن عدداً مما خالف قانون المعجزات، فما كاد صريحا في ذلك رفضناه. وما كان رمزياً باعتبار الفهم المتكامل للروايات الذي سوف يأتي في الجهة الاتية، أمكن الأخذ به علي تقدير إمكان إثباته بالتشدد السندي.

ويمكن تعداد المهم من ذلك ضمن الصور التالية:

الصورة الأولي : طول عمر الدجال، عليٰ أساس الأطروحة الكلاسيكية المشهورة عنه

حيث دل ما أخرجه مسلم في صحيحه من الروايات وغيره، عليٰ أن الدجال هو ابن صائد، وانه لم يؤمن برسول الله(صلّي الله عليه وآله ) بالرغم من طلبه شخصياً منه. بل هو ادعيٰ الرسالة، وحاول عمر بن الخطاب قتله، فقال له رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) : « ان يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله (1).

ص: 74


1- صحيح مسلم ، ج 8 ص 192.

وفي رواية أخريٰ: «أن يكن الذي تري فلن تستطيع قتله» (1).

وفي رواية ثالثة: « فإن يكن الذي تخاف فلن تستطيع قتله »(2).

والمراد: انه لو كان هو الدجال، فهو غير قابل للقتل أساسا، لأنّ الله تعاليٰ قد قدر له طول عمره. وهذا النص، بالرغم من أنّه لا يعطي الجزم بان ابن صائد هو الدجال بالتعين. ولكنه يدل بوضوح بأنه لو كان هو الدجال، فهو ممن لا بد من بقائه إليٰ حين قيامه وظهوره. وبما يؤيد ذلك ما أخرجه مسلم أيضاً(3) عن رسول الله(صلّي الله عليه وآله )أنه قال: « ما بين خلق آدم إليٰ قيام الساعة خلق اكبر من الدجال». لو فهمنا منه طول العمر.

ولا نريد أن نناقش في أنّ ابن صائد هو الدجال أم لا. فقد طعن في ذلك محمد بن يوسف الكنجي في كتابه البيان(4). وأنكره ابن صائد نفسه، فيما أخرجه مسلم عنه (5) قائلاً: « يزعمون أني الدجال، الست سمعت رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) يقول، انه لا يولد له قال الراوي: قلت : بلا قال: فقد ولد لي: أو ليس سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) يقول: لا يدخل المدينة ولا مكة. قلت: بليٰ قال: فقد ولدت بالمدينة وها أنا ذا أريد مكة».

ومما يدل عليٰ طول عمر الدجال: حديث الجساسة، الذي أخرجه عدد من الصحاح منهم مسلم(6) وفيه يقول: « الرجال أنا المسيح، وإني، أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأسير في الأرض فلا ادع قرية إلّا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة

ص: 75


1- المصدر ، ص 189.
2- المصدر ، ص 190.
3- المصدر ، ص 207.
4- المصدر ص 108.
5- ج 8 ص 190.
6- ج 8 ص 205.

وطيبة، فهما محرمتان عليّ كلتاهما ، فإذا علمنا أنّه لم يؤذن له بالخروج من حين عصر تميم الداري إليٰ الآن، وهو ما يزيد عليٰ الألف عام. عرفنا كيف يدل هذا الحديث عليٰ طول عمره.

ولعمري أنّ من العجب أنّ إخواننا أهل السنة والجماعة، يؤمنون به وبالمصادر الحديثة التي دلت عليه. ولكنهم يستبعدون غيبة المهدي (عليه السّلام) وطول عمره. مع قلة الروايات عن الدجال وطول عمره وتكاثرها عن المهدي (عليه السّلام)بالرغم في سببية الإمام المهدي(عليه السّلام) لهداية العالم وتنفيذ الغرض الإلهي الكبير، وليس الدجال كذلك.

فالجماعة يرون الدجال شخصاً طويل العمر، غائباً منعزلاً في جزيرة في البحر، كما يدل عليه حديث الجساسة. وأمّا المهدي(عليه السّلام) فشخص يولد في زمانه. عليٰ حين أنّ الذي ينبغي أن يقال بكونه هو الحق عكس ذلك - لو مشينا علي الأطروحة الكلاسيكية لفهم الدجال - وهو إنّ المهدي طويل العمر وغائب عن الأنظار، وأمّا الدجال فشخص يولد في حينه.

فإنّ المهدي (عليه السّلام) مذخور لثورة الحق وتطبيق الغرض الإلهي الكبير. فهل بالإمكان أن بقال: إنّ الدجال مذخور لثورة الباطل وإغراء الناس بالجهل؟ وهل يصح أن يكون هذا غرضاً إلهياً، بشكل من الأشكال !!

وإنما الصحيح، انطلاقاً من هذه الأطروحة، كون الدجال شخصاً اعتيادياً منحرفاً أو كافراً يوفر لانتشار حكمه وسلطته عليٰ رفعه كبيرة من الأرض. فيكون كل من انبعه عليٰ الباطل، وكل من خالفه عليٰ الحق.

وأمّا عليٰ الأطروحة المقابلة، وهي التي تنفي أن يكون الدجال شخصياً بذاته وإنما هو عبارة رمزية عن التيارات الكافرة والمنحرفة فكرياً وسياسياً واقتصادياً.. فهذا ما سنعرضه بشكل تفصيلي في الجهة الأثية. وقد يكون من الدليل عليها ما ورد من طول عمر الدجال عليٰ أي حال.

ص: 76

الصورة الثانية: ما ورد من منع الدجال دخول الحرمين : مكة والمدينة، بطريق إعجازي
اشارة

يدل عليه حديث الجساسة نفسه(1) إذ يقول فيه الدجال: «فلا ادع قرية إلّا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان علن كلتاهما. كلما أردت أن ادخل واحدة أو واحداً منهما استقبلني ملك بيده سيف صلِيتاً يصدني عنها ».

وهذا الحديث غير صالح للإثبات التاريخي، بعد التشدد السندي الذي اتخذناه.

وهولا يوضح لماذا يحرم عليٰ الدجال دخول مكة والمدينة، ولماذا يمنع عنهما منها إعجازياً. فإن كلا الأمرين لا يصحان.

فإن هذه الحرمة لا يخلو حالها من أحد شكلين:

الشكل الأول:

أن تكون حرمة تكوينية قهرية، يخططها الله تعاليٰ من اجل حفظ احترام البلدين المقدسين من أن يعبث الدجال فيهما فساداً.

وهذه الحرمة غير ثابتة لهذين البلدين جزماً، وإلّا لما أمكن إحراق الكعبة في عهد يزيد بن معاوية الأموي (2)، ولا استباحة المدينة ثلاثة أيام في وقعة الحرة (3) ولا هجوم القرامطة عليٰ الكعبة وسفكهم الدماء في المسجد الحرام وخلعهم الحجر

ص: 77


1- المصدر والصفحة.
2- الكامل : ج 3 ص 354.
3- المصدر ، ص 310 وما بعدها.

الأسود ونقله إليٰ هجر(1).

وإذا لم تكن مكة والمدينة محصنتين تحصيناً إلهياً قهرياً ضد هذه الحوادث وأمثالها، فلا معنيٰ لمنع الدجال عنهما بهذا الشكل عليٰ أي حال.

الشكل الثاني:
اشارة

أن تكون الحرمة تكليفية، تشبه في فكرتها حرمة القتل والسرقة، مع إمكان الفعل بحسب أصله. وتنشأ هذه الحرمة من أحد سببين محتملين، إن تم أحدهما فهو، وإلّا كانت هذه الحرمة منتفية أيضاً.

السبب الأول:

إن الدجال شخص كافر نجس، كالكلب والخنزير في نظر الإسلام. فيحرم عليه دخول الحرمين المقدسين.

ولا نريد أن نناقش في كفر الدجال ونجاسته، إلّا أنّ حرمة دخوله، عليٰ هذا التقدير، من تكليف المسلمين، فيجب عليهم دفعه عنها وصده عن دخولها إن استطاعوا. أمّا هو فلا يشعر بهذه الحرمة، لأنه كافر، وهو خلاف ظاهر الحديث.

السبب الثاني:
اشارة

أن يكون سبب الحرمة تحصين أهل مكة والمدينة من الغواية والانحراف الذي يعطيه الدجال.

وهذه الحرمة صحيحة، وثابتة لمعطي الانحراف وآخذه. إلّا إنها غير مختصة بأهل مكة، بل شاملة لكل الناس علي إنها قد شرعت لأجل وضع الناس تحت التمحيص والاختبار، ومن حيث إطاعة هذا التشريع وعصيانه، بما في ذلك أهل

ص: 78


1- المصدر ، ص 204 وأنظر تاريخ الغيبة الصغريٰ ص 360.

الحرمين والدجال نفسه، فلا معنيٰ لأن يكون التحصين مكتسباً أهمية وقوة فوق درجة التمحيص الإلهي. ولئن كان الحرمان مقدسين في الإسلام، فإن ساكنيهما كسائر الناس، لم يثبت لهما أفضلية عن الآخرين.

ومعه فالصحيح، إن الله تعاليٰ إذا أراد منع الدجال من دخول مكة والمدينة،بشكل لا يزيد المخطط العام للدعوة الإلهية، فإنه يوجد أحد أمرين:

الأمر الأول:

أن يصرف الله تعالي ذهن الدجال وهمته أساسا عن غزو هاتين المدينتين أو دخولهما، بشكل لا يستلزم الجبر ولا الإعجاز، فمثلا يمكن أن تصبح ظروف الدجال بشكل يدرك بوضوح عدم مطابقة دخول المدينة ومكة مع مصالحة.

الأمر الثاني:

أن يمنع الدجال من دخولهما من قبل المسلمين الصالحين، عن طريق الحرب أو غيرها.

هذا كله طبقا للفهم الكلاسيكي للدجال.

الأمر الثالث: اختلاف الزمان عما هو عليه الآن
اشارة

فمن ذلك: ما أخرجه مسلم(1) عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) وقد تحدث عن أيام الدجال. قال الراوي: « قلنا يا رسوله الله، وما لبثه في الأرض. قال: أربعون يوماً، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. قلنا يا رسول الله، فذلك اليوم الذي

ص: 79


1- ج 8 ص 197.

كالسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا. اقدروا له قدره ».

وكما روي طول الزمان رويٰ قصره أيضاً.

أخرج البخاري(1) عن النبي (صلّي الله عليه وآله ) أنه قال: « يتقارب الزمان.. »الخ.

وأخرج ابن ماجة (2): قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) - وهو يتحدث عن الدجال - : « وأنّ أيامه أربعون سنة، السنة كنصف السنة، والسنة كالشهر، والسنة كالجمعة، وآخر أيامه كالشررة، يصبح أحدكم عليٰ باب المدينة، فلا يبلغ بابها الآخر حتيٰ يمسي. فقيل له: يا رسول الله. كيف نصلي في تلك الأيام القصار. قال: تقدرون فيها الصلاة، كما تقدرونها في هذه الأيام الطوال، ثم صلوا ».

ويكفينا في بطلان الحديثين، تنافيهما وتعارضهما في المدلول، من حيث دلالة أحدهما عليٰ طول الزمن والآخر عليٰ قصره، في نفس الوقت، وهو عصر الدجال.

فإن قال قائل: ليس الطول والقصر، عليٰ وجه الحقيقة، بل يراد به الكناية عن الجو النفسي الذي يعيشه المسلمون يومئذ. فإنه من المحسوس وجداناً مع الأنس والفرج ينقضي الزمان بسرعة، فكأنه قد قصر، ومع الهم والكمدينقضي ببطء فكأنه قد طال.

قلنا: إن هذا التفسير يبطل الفهم الإعجازي للحديث، ويجعل المسألة نفسية طبيعية. لا أنه لا يحل التعارض، لتهافت الخبرين من حيث الدلالة عليٰ الجوالنفسي يومئذ. والمفروض هو الحديث عن الجو العام لدعم المسلمين، فهل هو جو الفرج لكي يكون الزمن قصيراً كما دل عليه أحد الخبرين، أو هو الحزن والكمد، لكي يكون الزمن طويلاً، كما دل عليه الخبر الآخر. إذن فالتعارض لا زال موجوداً.

ص: 80


1- ج 9 ص 61.
2- ج 2 ص 1362.

فإن قال قائل: لعل حركة الدجال تحدث في بلاد السويد والنرويج التي يختلف فيها نظام الأيام عن نظامنا۔

قلنا: هذا لا يمكن حمل الحديث عليه لوجهين:

الوجه الأول:

إن المفروض في الفهم الاعتيادي للدجال، هو خروجه في بلاد الإسلام، وما أخرجه ابن ماجة صريح في أن المسالة لا تعدو الحجاز والعراق والشام. فراجع، في حين أن البلاد الاسكندنافية ليست من بلاد الإسلام.

الوجه الثاني:

إن النظام المعطي في الحديث للأيام فذ في بابه، فالحديث الذي يخبرنا عن طول الزمان يقول: إن يوماً واحداً من أيام الدجال طوله كطول سنة واليوم الذي بعده طوله كطول شهر واليوم الذي بعده طوله كطول أسبوع. وباقي الأيام إليٰ الآخر كأيامنا اعتيادية.

والحديث الذي يخبرنا عن القصر، يقول: إن السنة نفسها تصغر تدريجا، فتصبح أولاً كطول ستة أشهر، ثم كطول الشهر ثم كطول الأسبوع، وهكذا حتيٰ تبقيٰ الأيام في النهاية كالشرارة الواحدة، وتكون السنة عبارة عن 365 شرارة. قد لا تعدو الساعة الواحدة الزمنية.

ومثل هذا النظام في الطول أو القصر، لا يوجد في أي مناطق العالم كما هو معلوم

فإذا عرفنا إن إيجاد هذا النظام الجديد في أيام الدجال، بالمعجزة، لا مبرر له، بل يكون في مصلحة الدجال نفسه، عرفنا عدم صحة هذه الأخبار. ما لم تدخل في فهم منظم متكامل جديد، سنذكره في الجهة الآتية إن شاء الله تعالي.

ص: 81

الأمر الرابع : قتل الدجال لمؤمن ثم أحياؤه له

فمن ذلك ما أخرجه مسلم(1) عن أبي سعيدالخدري، قال: « حدثنا رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) حديثا طويلاً عن الدجال، فكان فيما حدثنا إن قال: يأتي وهو محّرم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فينتهي إليٰ بعض السباخ التي تلي المدينة. فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس . فيقول له: اشهد انك الدجال الذي حدثنا رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) حديثه ».

فيقول الدجال: « أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته، أتشكون في الأمر؟

فيقولون: لا. قال: فيقتله ثم يحييه. فيقول حين يحييه: والله ما كنت فيك اشد قط بصيرة مني الآن. قال: فيريد الدجال أن يقتله، فلا يسلط عليه ».

وفي حديث آخر لمسلم (2) عن رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) يقول فيه: « فإن رآه المؤمن قال: يا أيها الناس، هذا الدجال الذي ذكر رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) . قال: فيأمر الدجال به فيشج، فيقول: خذوه وشجوه، فيوسع بطنه وظهره ضرباً. قال: فيقول: أو ما تؤمن بي؟ قال: فيقول أنت المسيح الكذاب.

« قال: فيؤمر به فيؤشر بالمنشار من مفرقه حتيٰ يفرّق بين رجليه. قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين. ثم يقول له: قم. فيستوي قائماً. قال: ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلّا بصيرة.

«ثم يقول: يا أيها الناس، انه لا يفعل بعدي بأحد من الناس. قال: فيأخذه الدجال ليذبحه، فيُجعل ما بين رقبته إليٰ ترقوته نحاساً، فلا يستطيع أليه سبيلاً. فيأخذ بيديه

ص: 82


1- ج 8 ص 199 وأنظر البخاري ، ج 9 ص 76 بلفظ مقارب جدا.
2- ج 8 ص 200 .

ورجليه، فيقذف به، فيحسب الناس إنما قذفه في النار، وإنما القي في الجنة. فقال رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) : هذا أعظم شهادة عند رب العالمين ».

وهذا المضمون الذي يدل عليه ظاهر العبارة، من أوضح موارد إقامة المبطلين للمعجزات، وقد سبق أن برهنا علي فساده.

وقد يمكن الدفاع عن هذا المضمون، بأنّ تمكين الله تعاليٰ للدجال من إقامة المعجزات، يراد به فضحه وكشف كفره وغلظته للناس عن طريق صمود هذا المؤمن أمامه.

إلّا أنّ هذا الدفاع غير صحيح، فإنه إنما يصح عليٰ تقدير انحصار أسلوب فضحه وكشف دجله بذلك. إلّا إنّه من المعلوم عدم انحصاره بذلك. إذ يمكن أن تكشف عنه أفعاله، عن طريق التمحيص الذي يمر به، فيوجب فضح نفسه بنفسه ويجري إليٰ حتفه بظلفه، كالذي نري من المبادئ المنحرفة اليوم، ومن بعض الجبابرة السابقين، الذين لم يخلفوا بعدهم إلّا الكراهة، كالحجاج وطغرل بك وتيمورلنك وأضرابهم. ومعه لا حاجة إليٰ إقامة المعجزات من اجل كشفه.

ويدلنا علي ذلك قول المؤمن- في نفس الرواية « يا أيها الناس، انه لا يفعل بعدي بأحد من الناس »، يبشرهم بأنه لن يقتل أحداً بعده. ومعنيٰ ذلك أن قتله للناس معروف فيهم مشهور بينهم، والتذمر من ظلمه عام في المجتمع. حاله في ذلك حال سعيد بن جبير الذي دعا حين أراد الحجاج قتله قائلاً. اللهم لا تسلطه عليٰ أحد بعدي في قضيته المشهورة. ومعه فلا حاجة إليٰ قيام المعجزة لكشفه.

هذا بحسب ظاهر العبارة. وأما حمل هذه الأحاديث عليٰ الرمز، فهو في غاية الإشكال.

ص: 83

الأمر الخامس : ضخامة الحمار الذي يركبه الدجال

وذلك: فيما رواه الصدوق في إكمال الدين(1) عن رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) يقول فيه: «إنه يخرج عليٰ حمار ما بين أذنيه ميل، يخرج ومعه جنة ونار، وجبل من خبز؟ شلال من ماء... » الخ. الحديث.

ومن المعلوم إن ما بين أذني الحمار الاعتيادي لا يعدو عرض الإصبعين أو الثلاثة أصابع. فإذا كان هذا المكان منه بمقدار ميل، فكيف بضخامة أجزاء جسده الأخريٰ.

وهذا - بلا شك - من فوارق الطبيعة المنسوبة إلي أحد المبطلين، وقد برهنا عليٰ عدم إمكان الأخذ به أو التصديق به، بحسب القواعد الإسلامية العامة. نعم، يمكن حمله عليٰ الرمز، عليٰ ما سيأتي في الجهة الآتية: عطفاً عليٰ عدد من الأمور التي أخرجها الصدوق من صفات الدجال، مما يمكن حمله علي الرمز ويندرج في الفهم المتكامل العام، عليٰ ما سنوضح إن شاء الله تعالي.

وأمّا إن معه جبلاً من خبز ونهراً من ماء، فهو معارض، بما أخرجه الصحيحان (2)

عن المغيرة بن شعبة أنه قال: واللفظ للبخاري: «ما سال أحد النبي(صلّي الله عليه وآله ) عن الدجال ما سألته: وانه قال لي: ما يضرك منه؟ قلت: لأنهم يقولون إن معه جبل خبز ونهر ماء. قال: هو أهون عليٰ الله من ذلك ».

وسيأتي تفسير ذلك، بشكل يرتفع به التعارض بين هذين الخبرين، فانتظر.

ص: 84


1- أنظر النسخة المخطوطة.
2- البخاري ، ج 9 ص 74، ومسلم ج 8 ص 200.
الأمر السادس: النار التي تخرج من أرض الحجاز

ما أخرجه الصحيحان(1) عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) انه قال: «لا تقوم الساعة حتيٰ تخرج نار من ارض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصريٰ ».

ومن الواضح إن ما يدل عليه ظاهر العبارة، حادث معجز لا ربط له بإقامة الحجة، فلا يكون الأخبار عنه قابلا للتصديق.

إلّا أن المظنون أنه يراد به ظهور المهدي (عليه السّلام) نفسه، فإنه يظهر في أرض الحجاز، كما دلت عليه الروايات، وأمّا التعبير عنه بالنار فباعتبار كونه ناراً عليٰ المشركين والكافرين والمنحرفين. مع الإشارة إلي سعة ضوئه ونوره بمعنيٰ عدله ولطفه، بالمقدار الذي يفهمه الناس أيام عصر النبي (صلّي الله عليه وآله ) من سعة الأرض، وأنه بين أرض الحجاز إليٰ بصريٰ الشام بون بعيد ومسافة مترامية.

والنص علي أعناق الإبل، فيه دلالة عليٰ أن الإبل متوجهة بوجهها وعنقها إليٰ مصدر النار والنور. ومعنيٰ ذلك: أن المتوجه إليٰ نور المهدي (عليه السّلام) والمعتقد بهداه هو المستضيء بنوره والمهندي بعدله وحكمه.

وأمّا كون الظهور من أشراط الساعة، فواضح، باعتبار كونه سابقاً عليها، ولو بدهر طويل من الزمن.

ص: 85


1- البخاري ، ج 9 ص 73، و مسلم ج 8 ص 180.
الأمر السابع: النار التي تخرج من اليمن

وذلك: فيما أخرجه مسلم(1) عن النبي (صلّي الله عليه وآله ) في تعداد أشراط الساعة، إنه قال: « وآخرها نار تخرج من اليمن تطرد الناس إليٰ محشرهم». وفي رواية أخريٰ: « ونار تخرج من قعر عدن ترحّل الناس ». ونحوه ما رواه الشيخ في الغيبة(2). إلّا إنّه قال: «تسوق الناس إلي المحشر ».

والظاهر، إنّ هذا - عليٰ تقدير صحته . من أشراط الساعة المتأخرة عن الظهور، والقريبة من يوم القيامة. كما تشير إليه الرواية الأوليٰ، مصرحة إنها آخر الآيات. ومعه يخرج عن محل بحثنا، فلا حاجة إليٰ تمحيصه.

الأمر الثامن: و انحسار الفرات عن كنز من الذهب
اشارة

إنه سوف يحسر الفرات عن كنز من ذهب:

أخرج الصحيحان (3) بسند يكاد يكون مشتركاً وبلفظ واحد عن النبي(صلّي الله عليه وآله ) ، إنه قال: « يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب، فمن حفره فلا يأخذ منه شيئاً ».

وآخرها(4) بسند آخر يقول:عن جبل من ذهب. وأضاف مسلم (5) عليه: « يقتل الناس عليه، فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون. ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا

ص: 86


1- ج 8 ص 39 ، وكذلك الحديث الذي بعده.
2- أنظر ص 267.
3- البخاري ج 9 ص 73، و مسلم ج 8 ص 175.
4- نفس المصدرين والصفحتين.
5- ج 8 ص 174.

الذي أنجو»، ومثلها رواية أخريٰ أيضاً(1). وأخرجت الصحاح الأخريٰ مثل ذلك، غير إننا لا نروي عنها فيما أخرجاه.

ونحن إذا غضضنا النظر عن عدم إمكان إثبات مثل هذا المضمون، بالتشدد السندي، أمكننا أن نفهمه علي عدة أطروحات:

الأطروحة الأوليٰ:

ما هو ظاهر العبارة من أنّ ماء الفرات ينكشف ويزول عن محله، فيظهر تحته أكداس عظيمة من الذهب، فيطمع فيه الناس ويقتتلون علي أخذه. والتكليف الإسلامي الواجب يومئذ . كما تصرح به الرواية الأوليٰ - : « أن لا يشارك الفرد في الطمع ولا في الحرب، بل عليه أن ينصرف عن الأخذ من هذا الذهب تماماً ». وهذه الأطروحة لوصحت، فهي لا تدل عليٰ حصول المعجزة، في انحسار الفرات، بل لعله ينحسر تحت ظروف طبيعية معينة، كتغير مجراه، فيريٰ الناس تحته ذهباً كثيراً لم يكونوا يعلمون بوجوده.

إلّا أنّ حصول ذلك بعيد جداً بالوجدان، لا يكاد يكون محتملاً أصلاً.

الأطروحة الثانية:

أن يفسر هذا الحديث بمقدار الخيرات العظيمة التي ينتجها هذا النهر المبارك... أمّا بحمله عليٰ الخيرات الزراعية التي تحصل عليٰ جانبيه عليٰ مر التاريخ، وقدتحصل في بعض السنين أضعاف ما تحصل في سنوات أخريٰ. وأمّا بحمل الخبر عليٰ إنه سيُستخرج من مياهه النفط المسميٰ بالذهب الأسود. ولعل هذا انسب بما

ص: 87


1- المصدر ، ص 175.

يعطيه الحديث من أن الكنز كامن في جوف الفرات أو تحت مائه، وانه لا يمكن استخراجه إلا بإزالة الماء بشكل من الأشكال.

ومعه، يحمل اقتتال الناس علي التنافس الإستعماري عليٰ منطقة الفرات طمعاً بكنوزه من قبل الدول الكبريٰ المتعددة، هذا التنافس الذي كلف الكثير من الأموال والنفوس. وأمّا بقاء الواحد بالمئة من المتحاربين، فلا بد أنّه يحمل عليٰ المبالغة في كثرة القتلي لا علي التحديد.

الأطروحة الثالثة:

أن يحمل الفرات علي معني الحق أو الدعوة الإلهية، بقرينة قوله عز من قائل: « «وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا » (1). مع تفسير الفرات بالحق والأجاج بالباطل. بقرينة ورودها في سياق الحديث عن الدعوة الإلهية، فيما سبقها من الآيات. قال الله تعالي: «وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا .فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا .وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ »... الخ. ويحمل الحجر المحجور علي الفاصل الذاتي البرهاني الذي لا يمكن خلطه بين الحق والباطل.

ويكون معنيٰ انحسار الفرات عن الذهب، اتضاح الحق بمقدار كبير وزيادةمخلصيه ومؤيديه، في عصر الفتن والانحراف.. فيتصديٰ لهم جماعة من المنحرفين والكافرين، فيقاتلهم المؤمنون دفاعاً عن أنفسهم فيكثر القتليٰ حتيٰ يمكن أن يقال: عليٰ وجه المبالغة: انه لم يبق من الناس المتحاربين، إلّا واحداً من المئة ويحمل النهي عن الأخذ من الذهب عليٰ لزوم عدم الاعتداء عليٰ الحق

ص: 88


1- الفرقان: 53/ 25.

والمشاركة في الحرب ضده.

فإن صحت إحديٰ هذه الأطروحات الثلاث، فهو، وإن لم تصح كلها، ولم يصح الخبر بالتشدد السندي، فقد استرحنا منه، وإن صح سنداً ولم نفهم مدلوله، أوكلنا علمه إليٰ الله تعالي ورسوله.

الأمر التاسع: وقوع المسخ

أخرج ابن ماجة (1) عن النبي(صلّي الله عليه وآله ) : « بين يدي الساعة مسخ وخسف وقذف» وفي حديث آخر: « يكون في آخر أمتي خسف ومسخ وقذف» ، وبهذا المضمون حديثان آخران. وأخرج المفيد في الإرشاد(2) عن أبي الحسن موسيٰ(عليه السّلام) في حديث قال « والمسخ في أعداء الحق ».

وهذا المضمون لا يمكن أن يصمد للنقد. فإن المسخ وإن كان ممكناً ومتحققاً في التاريخ، كما نص عليه القرآن الكريم، إلّا أنه لا يقع في هذه الأمة، للدليل الدال عليٰ أن العقوبات التي وقعت عليٰ الأمم السابقة لا يقع مثلها عليٰ هذه الأمة، ومن هنا سميت بالأمة المرحومة.

نعم، يمكن أن يحمل المسح عليٰ الرمز، من حيث انتقال الأفراد من الهداية إليٰ الضلال، وهو أمر صحيح ومتحقق في عدد من الأفراد. إلّا أن حمل الروايات عليه خلاف الظاهر.

ص: 89


1- أنظر كل ما رويناه هنا عن ابن ماجة في ج 2 ص 1349 ، وما بعدها.
2- ص 338.
الأمر العاشر: رجوع الأموات إليٰ الدنيا

اختص بذلك الشيخ المفيد في الإرشاد(1)، حيث رويٰ مرسلاً قائلاً: «قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي(عليه السّلام) وحوادث تكون أمام قيامه وآيات ودلالات.. وعد منها: وأموات ينتشرون من القبور حتيٰ يرجعوا إليٰ الدنيا، فيتعارفون فيها ويتزاورون ».

وظاهره حدوث ذلك خلال عصر الغيبة الكبريٰ. ولعله من الآيات الخاصة المنبهة للمخلصين عليٰ قرب الظهور. ولكن مما يهون الخطب ان هذا الخبر مما لا يصلح للإثبات التاريخي، لكونه مرسلاً، ليس له سند.

فإن قال قائل: فإن هذا خبر من أخبار الرجعة، وهي كثيرة. وليس معنيٰ الرجعة إلّا رجوع الإنسان إليٰ الحياة بعد الموت.

قلنا: ان الرجعة يقال بها عادة بعد الظهور، وليس قبله. وهذا الخبر نص بوقوع قيام الأموات أمام قيام القائم(عليه السّلام) أي قبله، وهو مما لم يقل به أحد.

الأمر الحادي عشر: خروج الشمس من مغربها

عد في الإرشاد، في نفس السياق السابق لعلامات الظهور، عد منها: طلوعها من المغرب(2).

وأخرج البخاري (3) عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) أنه قال: «لا تقوم الساعة حتيٰ تطلع

ص: 90


1- أنظر 337.
2- ص 336.
3- ج 9 ص 74.

الشمس من مغربها. فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في أيمانها خيراً ».

وأخرج مسلم عدة أحاديث مشابهة لهذا النص(1). وأخرج أيضاً(2): « أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها» .

ورويٰ الشيخ في الغيبة(3) عن رسوله الله (صلّي الله عليه وآله ) إنه قال: « عشر علامات لا بد منها... وعد منها: طلوع الشمس من مغربها ».

والظاهر أنّ هذه الآية من علامات الساعة المباشرة، بدليل ربطها في الأحاديث بالزمن الذي لا ينفع نفساً إيمانها، إن لم تكن آمنت من قبل. وهو يوم القيامة، عليٰ التفسير المشهور.

ومعه فالشمس تخرج من مغربها عند خراب النظام في المجموعة الشمسية لديٰ اقتراب يوم القيامة.

وأمّا كونها من علامات الظهور، بحيث تحدث خلال عصر الغيبة الكبريٰ، فلم يثبت إلّا بخبر الإرشاد الذي قلنا إنه لا يكفي وحده للإثبات التاريخي. وفي بعض الأخبار تفسير خروج الشمس من مغربها بظهور المهدي(عليه السّلام) بعد غيبته.

أخرج الصدوق في الإكمال(4) بإسناده عن النزال بن سبرة قال خطبنا علي بن أبي طالب (عليه السّلام) فحمد الله وأثني عليه وصلي عليٰ محمد وآله ثم قال. « سلوني أيها الناس قبل أن تفقدوني، ثلاثاً. فقام إليه صعصعة بن صوحان فقال: يا أمير المؤمنين متيٰ يخرج الدجال. فتحدث عندئذ أمير المؤمنين (عليه السّلام) وقال فيما قال: يقتله الله عز

ص: 91


1- ج 1 ص 95 وما بعدها.
2- ج 8 ص 202.
3- ص 267.
4- أنظر النسخة المخطوطة.

رجل بالشام.. عليٰ يد من يصلي عيسيٰ المسيح بن مريم خلفه. وبعد أن انتهيٰ من كلامه قال النزال بن سبرة فقلت لصعصعة بن صوحان: يا صعصعة ماعنيٰ أمير المؤمنين (عليه السّلام) بهذا القول. فقال صعصعة: يا سبرة إنّ الذي يصلي خلفه عيسيٰ بن مريم هو الثاني عشر من العترة التاسع لم من ولد الحسن بن علي (عليه السّلام) وهو الشمس الطالعة من مغربها، يظهر عند الركن والمقام، فيطهر الأرض ويضع ميزان العدل فلا يظلم أحد أحداً.. » الحديث. وهذا التفسير أمر محتمل عليٰ أي حال، بعد حمل التعبير عليٰ الرمز لا عليٰ الحقيقة. ولا ينافي ذلك ربطها بالآية الكريمة المشار اليها، فإنها أيضاً مفسرة بالظهور في بعض الأخبار عليٰ ما سوف يأتي التاريخ القادم. لكن يهون الخطب إنّ هذا الخبر الذي أخرجه الصدوق، لا يثبت أمام التشدد السندي.

الأمر الثاني عشر: الصيحة

وهو مما اختصت به المصادر الإمامة، وأكثرت من روايته وأكدت عليه.

فمن ذلك، ما رواه النعماني في الغيبة (1) عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) انه كان يتحدث عن بعض العلامات: قلنا: «هل قبل هذا شيء من شيء أو بعده من شيء. فقال: صيحة في شهر رمضان، تفزع اليقظان وتوقظ النائم وتخرج الفتاة من خدرها ».

وفي رواية أخريٰ (2) عنه(عليه السّلام) أنه قال: - فيما قال -: الفزعة في شهر رمضان. فقيل: وما الفزعة في شهر رمضان؟ فقال: أو ما سمعتم قول الله عز وجل في القرآن: « «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ »؟ هي آية تخرج الفتاة

ص: 92


1- ص 137.
2- ص 133.

من خدرها وتوقظ النائم وتفزع اليقظان !

وعن (1) أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) إنّه قال: «للقائم خمس علامات... وعد منها: الصيحة من السماء ».

وفي رواية أخريٰ (2) عن الإمام الباقر(عليه السّلام)

- فيما قال -: «توقعوا الصيحة في شهر رمضان، وخروج القائم إن الله يفعل ما يشاء ».

وفي الاحتجاج(3) في التوقيع الذي أخرجه السفير الرابع السمري قبل موته عن المهدي (عليه السّلام): - يقول فيه: « فمن ادعيٰ المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كذاب مفتر ».

وروي الشيخ الصدوق في الإكمال(4) عن الإمام الباقر (عليه السّلام) في حديث عن المهدي (عليه السّلام)، قال: « ومن علامات خروجه. وعد منها: وصيحة من السماء في شهر رمضان ».

وفي منتخب الأثر (5) عن ينابيع المودة عن أبي عبد الله (عليه السّلام) : « خمس قبل قيام القائم من العلامات... وقال في آخره: فتلوت هذه الآية - يعني قوله تعالي «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ ». الآية - ، فقلت: أهي الصيحة؟ قال نعم، لو كانت الصيحة خضعت أعناق أعداء الله عز وجل). ورواه أيضاً في تفسير البرهان(6) ضمن اثني عشر حديثاً من أخبار الصيحة.1

ص: 93


1- المصدر والصفحة وأنظر غيبة الشيخ ، ص 267.
2- ص 135.
3- أنظر ص 267، وأنظر تاريخ الغيبة الصغري ، ص 633 وما بعدها.
4- أنظر المصدر المخطوط.
5- ص 454، وأنظر الينابيع ص 426 .
6- في تفسير سورة الشعراء ، في المجلد الثاني ص 762.

وهذه الآية من القران، لا تدل عليٰ وقوع الصيحة بالتعيين، بل لا تدل عليٰ وقوع شيء عليٰ التحقيق، لتعليق الحدوث عليٰ مشيئة الله عز وجل. بل قد يقال: إنها تدل عليٰ عدم وقوع ما هو المعلق عليٰ المشيئة. لما أشار إليه الشيخ الطوسي(1) قائلاً أخبره - يعني الله تعاليٰ لنبيه (صلّي الله عليه وآله ) - بأنه قادر عليٰ أن ينزل عليه آية ودلالة من السماء تظل أعناقهم لها خاضعة، بان تلجثهم إليٰ الأيمان. لكن ذلك نقيض الغرض بالتكليف، لأنه تعاليٰ لو فعل ذلك لما استحقوا ثواباً ولا مدحاً. لأنّ المُلجَأَ لا يستحق الثواب والمدح عليٰ فعله، لأنه بحكم المفعول به. أقول: وأشار إليٰ بعض هذا المعني الطباطبائي في تفسير الميزان(2).

إلّا أن ذلك لا ينفي صحة مثل هذه الروايات، لأن الأئمة (عليهم السّلام) لم يستدلوا بالآية للدلالة عليٰ وقوع الصيحة، بل للدلالة عليٰ إمكانها بمشيئة الله عز وجل. وأمّا وصول الأيمان بسببها إليٰ حد الإلجاء والخضوع القهري، كما قال الشيخ الطوسي، فهو مما لا نسلم به، لوضوح حفظ الاختيار بعدها. إذ يتصور العقل أن ينبري بعض الماديين لتفسيرها عليٰ أساس مادي « علمي » !! فإن الشبهات المادية في عصر الفتن والانحراف أوسع من أن تحصر. فمن آمن بما دلت عليه الصيحة بوضوح من إثبات دعويٰ المؤمنين، كان مختاراً في فعله وتفكيره.

يكفينا من ذلك استدلال الأئمة (عليهم السّلام) في هذه الأخبار بالآية عليٰ إمكان الصيحة ولو صح كلام الشيخ كان هذا الاستدلال باطلاً، لأنه يستحيل عليٰ الله تعاليأن يلجئ الفرد إليٰ الإيمان. في حين إن هذه الأخبار كثيرة، وقابلة للإثبات التاريخي.

فإذا بطل الدليل عليٰ بطلانه، كان ممكناً بقدرة الله تعالي، فإذا دلت عليه هذه

ص: 94


1- تفسير التبيان ، ج 8 ص5.
2- ج 1 ص 272 .

الطائفة الكبيرة من الأخبار، كان أمراً صحيحاً وثابتاً، وتكون الصيحة من الدلائل القريبة المنبهة عليٰ الظهور.

هذا، ويبقيٰ السؤال عن مضمون الصيحة. وهل هي مجرد صوت بلا معنيٰ، أو إنها كلام معني ذو مدلول، وما هو مدلوله، حيث نقيم القرائن عليٰ إن المراد بها النداء باسم المهدي (عليه السّلام) وليست شيئا آخر غيره.

الأمر الثالث عشر: الخسف في البيداء

وهو مما استفاضت به أخبار الفريقين.

أخرج مسلم(1) عن أم سلمة عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) : « يعوذ عائذ بالبيت» ، فيبعث إليه بعث، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم. فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارها؟ قال: يخسف به معهم، ولكنه يبعث يوم القيامة علي نينه. وأخرج أيضاً عن حفصة إنها سمعت النبي (صلّي الله عليه وآله ) يقول: «لَيَؤُمَّنَّ هذا البيت جيش يغزونه، حتي إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأوسطهم وينادي أولهم آخرهم، ثم يخسف بهم، فلا يبقيٰ إلّا الشريد الذي يخبر عنهم ».

وفي حديث ثالث: إن رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) قال: « سيعوذ بهذا البيت - يعني الكعبة - قوم ليست لهم منعة ولا عدد ولا عدة. يبعث إليهم جيش، حتيٰ إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم».

وفي حديث رابع: « إن أناساً من أمتي يؤمنون بالبيت برجل من قريش قد لجا بالبيت، حتيٰ إذا كانوا بالبيداء خسف بهم. فقلنا يا رسول الله، إن الطريق قد يجمع

ص: 95


1- ج 8 ص 167 ، وكذلك الأخبار الذي بعده.

الناس. قال: نعم، فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل، يهلكون مهلكاً واحداً، ويصدرون شتيٰ، يبعثهم الله عليٰ نياتهم»..

وأخرج ابن ماجة والترمذي وأحمد والحاكم، وغيرهم، أحاديث في ذلك، غير إننا لا نذكر هنا فيما أخرجه الشيخان أو أحدهما، توخياً للاختصار.

ومن المصادر الإمامية، ما رواه النعماني في الغيبة(1) عن أبي عبد الله (عليه السّلام) أنه

قال: «للقائم خمس علامات، وعد منها: الخسف في البيداء ».

وفي خبر آخر (2) عنه (عليه السّلام) قال الراوي: «قلت له: ما من علامة بين يدي هذا الأمر؟ فقال: بلي. قلت: وما هي؟ قال: هلاك العباسي.. إليٰ أن قال: والخسف في البيداء ».

وفي خبر آخر(3) عنه (عليه السّلام) أنه قال: « من المحتوم الذي لا بد أن يكون قبل قيام القائم، خروج السفياني وخسف بالبيداء ».

وذكر الشيخ المفيد (4) مما ذكر من العلامات قال: وخسف بالبيداء.

وفي منتخب الأثر (5) عن تفسير الكشاف في تفسير قوله تعاليٰ: «وَلَوْ تَرَي إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ » . عن ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في خسف البيداء. وذلك: إن ثمانين ألفا يغزون الكعبة ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء

خسف بهم.

ص: 96


1- ص 133 ، وأنظر غيبة الشيخ ص267.
2- غيبة النعماني ، ص 139.
3- المصدر ، ص 141.
4- ص 334.
5- ص 456.

وفيه أيضاً(1) عن مجمع البيان في تفسير الآية نفسها، عن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت علي بن الحسين والحسن بن الحسن بن علي يقولان: هو جيش البيداء يؤخذون من تحت أقدامهم.

وفيه أيضاً(2) عن أم سلمة، تقول: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) يعوذ عائذ بالبيت، فيبعث الله جيشاً حتيٰ إذا كانوا بالبيداء- بيداء المدينة. خسف بهم.

وأخرج في تفسير البرهان عدداً من الأخبار الدالة عليٰ ذلك أيضاً، منها: ما عن أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر(عليه السّلام) قال: « يخرج القائم فيسير..... حتيٰ ينتهي إليٰ البيداء، فيخرج جيش السفياني، فيأمر الله عز وجل الأرض، أن تأخذ بأقدامهم. وهو قوله عز وجل: «وَلَوْ تَرَي إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ فلا فوت.وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ »... » الحديث.

وهذا الخسف الموعود، وإن كان إعجازياً، إلّا أنه لا منافاة فيه مع «قانون المعجزات» ، بل منسجم معه تمام الانسجام. يتضح ذلك مما تدل عليه هذه الروايات نفسها من أنّ هذا الخسف إنّما يحدث لأجل إنقاذ العائد الذي يعوذبالبيت، أو القوم الذين لا عدد لهم ولا عدة. ويكفينا أن نتصور إن هؤلاء القوم هم ممثلوا الحق الحقيقيون الذين يتوقف عليهم النصر يوم الظهور سواء كان المهدي نفسه أحدهم، كما ربما تدل عليه الرواية الأوليٰ مما ذكرناه والأخيرة، أو لم يكن. يكفينا ذلك لنفهم ضرورة إنقاذهم ولو بالنحو الإعجازي. وقد سبق أن قلنا: إنّ كل ما يتوقف عليه الظهور، فهو مما لا بد أن يحدث لكونه مرتبطاً بالغرض الإلهي الأعليٰ لهداية البشر. وهو من أهم وأخص أشكال إقامة الحجة، والمطابقة مع قانون المعجزات.

ص: 97


1- ج 2 ص 875، في تفسير سورة سبأ.
2- المصدر والصفحة.

وسيأتي في الجهة الأتية مقدار ارتباطه بعصر الفتن والانحراف، والتخطيط العام للعلامات.

فهذا هو المهم من العلامات الإعجازية التي يحتمل فيها الخروج عليٰ قانون المعجزات والزيادة عليه. وقد ثبت إن عدداً كبيراً منها مما لا واقع له، لو فهمنا منه المعنيٰ المطابقي غير الرمزي. وإنّ حدوث المسخ وإحياء الأمواتقبل الظهور وطول عمر الدجال وضخامة حماره وقتله للمؤمن وإحيائه له، مما لا أساس له. وإنّ انحسار الفرات عن الذهب ليس بإعجاز بل هو أمر طبيعي. وإنّ خروج الشمس من مغربها ليس من علامات الظهور. وإنّ الصيحة والخسف مطابقة لقانون المعجزات غير مخالفة له، وقد نطقت بها الأخبار الكثيرة، فلا بد من الالتزام بها.

هذا تمام الكلام في النقطة الثالثة فيما دل علي إقامة المعجزات أكثر مما يقتضيه القانون.

وبه ينتهي الكلام في الناحية الثانية في انقسام علامات الظهور من ناحية المعجزات.

وهو نهاية الكلام في الجهة الرابعة، في بعض التقسيمات العامة لهذه الروايات.

ص: 98

في تعداد مفردات العلامات، ومحاولة فهمها فهماً منظماً شاملاً
اشارة

ويقع الكلام فيها ضمن ناحيتين أساسيتين، باعتبار تعداد مفردات العلامات المتبقية بعد الجرد السابق، من ناحية، ومحاولة إعطاء المفهوم العام المنظم المتكامل عن مجموع العلامات أو عن أكثرها، بمقدار الإمكان، من ناحية ثانية.

ولا بد أن نبدأ بالتعداد أولاً، لنحاول أن نفهم كل علامة مروية فهماً مستقلاً منفرداً، لنريٰ في الناحية الثانية الآتية ارتباطها المجموعي مع العلامات الأخريٰ.

الناحية الأوليٰ: في تعداد مفردات العلامات، غير ما سبق
اشارة

ونحن إذ نحاول هذا التعداد، لا ينبغي أن نتوخي الاستيعاب، فإنه يوجب التطويل بلا طائل، وإنما نذكر العلامات الرئيسية، ونحاول تحديد مفهومها وتوقيتها وخصائصها الرئيسية. نورد هذه العلامات ضمن عدة نقاط:

النقطة الأوليٰ: خروج الرايات السود من خراسان

وقد سبق أن تكلمنا عن مفهومها وحددناه بثورة أبي مسلم الخراساني. فلابد أن

ص: 99

نورد هنا بعض ما يدل عليها من الروايات، كما وعدنا، وبعضها مايحتمل فيه المعارضة مع هذا المفهوم عليٰ ما سنسمع.

فمن ذلك: ما أخرجه الترمذي(1) عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) أنه قال: «تخرج من خراسان رايات سود، فلا يردها شيء حتي تنصب بإيلياء ». قال الترمذي: «هذا حديث غريب حسن ».

ورويٰ النعماني في الغيبة(2) عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) إنه قال: انتظروا الفرج من ثلاث. فقيل يا أمير المؤمنين، وما هن؟ فقال.. والرايات السود من خراسان.

وعد في الإرشاد(3) من العلامات التي وردت بها الآثار: « إقبال رايات سود من خراسان ».

ورويٰ الشيخ في الغيبة (4) عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: « تنزل الرايات السود التي تخرج من خراسان إليٰ الكوفة. فإذا ظهر المهدي (عليه السّلام) بعث إليه بالبيعة».

وهذا الخبر الأخير دال عليٰ قرب ظهور هذه الرايات من ظهور المهدي (عليه السّلام) إلٰا أنّه بمفرده غير قابل للإثبات التاريخي، مع التشدد السندي الذي سرنا عليه، نعم، لو فرض صحة الخبر لدل عليٰ عدم كون هذه الرايات هي رايات أبي مسلم

الخراساني.

ص: 100


1- ج 3 ص 362.
2- ص 133.
3- ص 336.
4- ص 274.
النقطة الثانية: قتل النفس الزكية
اشارة

وقد اختصت بذلك المصادر الإمامية أو كادت، ولم يذكر في صحاح العامة ما يدل عليٰ ذلك.

فمن ذلك: ما رواه النعماني (1) عن أبي عبد الله(عليه السّلام) ، أنه قال: «للقائم خمس علامات... وعد منها: قتل النفس الزكية».

وأخرج النعماني أيضاً (2)والمفيد في الإرشاد(3) والشيخ في الغيبة (4) عنه(عليه السّلام)

، في تعداد أمور محتومة. منها: قتل النفس الزكية.

وروي النعماني أيضاً (5) عنه (عليه السّلام) قال الراوي:

«قلت له: ما من علامة بين يدي هذا الأمر؟ فقال: بليٰ.

«قلت: وما هي؟ قال: هلاك العباسي... وقتل النفس الزكية ».

وأخرج المفيد في الإرشاد(6) عن أبي جعفر الباقر(عليه السّلام) والشيخ في الغيبة(7)

ص: 101


1- أنظر غيبة النعماني ص 133.
2- المصدر ، ص 134.
3- ص 338.
4- ص 266.
5- الغيبة ، ص 139.
6- ص 339.
7- ص 271.

والصدوق في إكمال الدين (1) عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) بلفظ متقارب- واللفظ للمفيد -: إنه قال: «ليس بين قيام القائم (عليه السّلام) وقتل النفس الزكية أكثر من خمس عشرة ليلة ».

وعد في الإرشاد (2) مما جاءت به الآثار من العلامات الزمان قيام القائم، قال: « وقتل نفس زكية بظهر الكوفة في سبعين من الصالحين. وقتل رجل هاشمي بين الركن والمقام».

ورويٰ الصدوق أيضاً (3) عن الإمام الصادق (عليه السّلام) قال: « خمس قبل قيام القائم وعد منها قتل النفس الزكية . وعنه(عليه السّلام) أيضاً: « قبل قيام القائم خمس علامات محتومات، وعد منها: قتل النفس الزكية» .. وفي رواية أخريٰ في تعداد أمور محتومة عن الإمام الباقر(عليه السّلام) قال: « وقتل النفس الزكية من المحتوم».

إليٰ غير ذلك من الأخبار.

ولا بد أن نتكلم عن النفس الزكية، ضمن عدة أمور:

الأمر الأول:
اشارة

يراد بالنفس الزكية النفس الكاملة الطيبة، من زكا إذا نما وطاب. ويراد بالنمو في منطق الإسلام التكامل بالعلم والاخلاص والتضحية.

ويمكن أن يراد - بالدقة - من الكمال أحد معنيين:

المعنيٰ الأول:

ما هو المطلوب إسلاميا من الفرد المسلم من قوة الأيمان والإرادة واندفاع

ص: 102


1- أنظر المخطوط.
2- ص 336.
3- أنظر هذا الحديث وما يليه من الأحاديث في النسخة المخطوطة من إكمال الدين.

الإخلاص والتضحية. ومعه يكون المراد بالنفس الزكية مع غض النظر عما يأتي في الأمر الثالث - شخصاً من المخلصين الممحصين في الغيبة الكبريٰ، وأنه يقتل نتيجة للفتن والانحراف.

المعني الثاني

أن يكون المراد من الكمال في هذا الصدد .: البراعة من القتل. فيكون مأساوياًٰ لقوله عز وجل: « أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا » (1). ولعل التعبير بالنفس الزكية بالقرآن يوحي تماماً بان المراد من الأخبار نفس ذاك المعني، وهو البراءة من القتل.

غير إن الذي يقرب المعنيٰ الأول، ويكون قرينة عليه، هو إن المنساق والمتبادر من كل واحدة من هذه الروايات، إن المراد بالنفس الزكية رجل معين يكتسب مقتله أهمية خاصة. ولا شك أنّ هذا منسجم مع المعنيٰ الأول، لأنّ مقتل الرجل المخلص الممحص، لا يكون عادة - إلّا عليٰ صعيد عال من مستويات العمل الإسلامي، فيكون ملفتاً للنظر اجتماعياً، ومثيراً أسفاً إسلامياً عميقاً. بخلافه عليٰ المعني الثاني، إذ مجرد كون المقتول بريئاً من القتل لا يكسبه أهمية خاصة ولا يكون مقتله. ملفتاً للنظر، عليٰ حين ينبغي أن تكون العلامة مما يعرف - عادة - بين الناس، وإلّا سقطت فائدة دلالتها عليٰ الظهور.

عليٰ أنه عليٰ هذا المعني الثاني، يمكن حمله عليٰ معني كلي واسع. ويكون المراد: إن من آثار عصر الفتن والانحراف أن يقتل عدد من الناس بدون ذنب. وهذا ما حدث فعلا عليٰ أعداد ضخمة من البشر عليٰ مر التاريخ.

فإن كان المعنيٰ الأول منسجماً مع ما هو المنساق والمفهوم من هذه الروايات،

ص: 103


1- الكهف: 74/ 18.

دون المعنيٰ الثاني، تعين الحمل عليه. ولا تكون الآية قرينة عليه. لإمكان أن يكون المراد من النفس الزكية من الآية المعنيٰ أيضاً، أو أن يختلف معنيٰ الآية عن معنيٰ الرواية.

الأمر الثاني:

هل تقتل النفس الزكية بين الركن والمقام؟

لا شك أن المركوز في الأذهان والمتناقل عليٰ الألسن هو ذلك. حتيٰ اعتبره صاحب (منتخب الأثر) من المسلِّمات فقال(1): وقتل النفس الزكية: قتل محمد بن الحسن الذي يقتل بين الركن والمقام.

إلّا إن ذلك لا يكاد يثبت بعد التشدد السندي الذي التزمناه، فقد أورد صاحب البحار حديئين لا يكاد ان يثبتان بعد هذا التشدد. وأمّا الارتكاز الذهني فلا يكفي للإثبات التاريخي أيضاً. فإن حدث ذلك في مستقبل الزمان، كان دليلاً عليٰ صدقه، وإن لم يحدث لم يكن علينا أن ننتظره، فإنه مما لا دليل لنا عليه.

مضافاً إليٰ معارضته، بما رواه الشيخ المفيد في الإرشاد من حدوث: قتل نفس زكية بظهر الكوفة في سبعين من الصالحين (2) وقد سمعناه. وهذاالخبر وإن لم يكن له قابلية الإثبات، إلّا أنه ليس بأسوأ حالاً من خبر مقتله بين الركن والمقام، فيصلح لمعارضته، ومع المعارضة يتساقطان معاً عن إمكان الإثبات التاريخي.

وأمّا ما ذكره في الإرشاد(3) أيضاً عن حدوث وذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام، كما سمعنا. فهو لا يدل عليٰ المقصود. إذ قد لا يكون هذا الرجل الهاشمي ذكياً ممحصاً. مضافاً إلي ضعف الخبر وعدم كفايته للإثبات التاريخي.

ص: 104


1- أنظر المصدر ، ص 454.
2- ص 336.
3- نفس الصفحة.
الأمر الثالث:
اشارة

إنطباق هذه الروايات عليٰ محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن أبي طالب، أبي عبد الله، الملقب بالنفس الزكية، الثائر في زمن أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي.

ولعمري أن هناك ما يدل عليٰ هذا الإطباق، فلو استطعنا أن ننفي القرائن الدالة عليٰ نفيه تعين الالتزام بإثباته وأنّ النفس الزكية المقصودة، هو هذا الثائر العلوي. ومن هنا يقع الكلام عليٰ مستويين:

المستويٰ الأول:
اشارة

في القرائن الدالة عليٰ نفي هذا الانطباق. وأنّ النفس الزكية الموعودة هو غير هذا الثائر العلوي.

وهي عدة قرائن محتملة.

القرينة الأوليٰ:

إن النفس الزكية لا بد أن تقتل بين الركن والمقام. وهذا الثائر العلوي لم يقتل هناك.

وهذا عليٰ تقدير ثبوته قرينة كافية، عليٰ نفي هذا الانطباق، إلّا أنه مما لم يثبت كما أسلفنا.

القرينة الثانية:

تأخر أخبار الأئمة عليهم السلام بهذه العلامة من علامات الظهور عن مقتل هذا الثائر العلوي. مما يدل عليٰ إن مقتل النفس الزكية يبقيٰ متوقعاً ومنتظراً بعد مقتل النفس الزكية الثائر.

وهذا عليٰ تقدير ثبوته قرينة كافية أيضاً عليٰ نفي الانطباق. إلّا أنه لم يثبت فإن كل ما وجدناه من الروايات الدالة عليٰ هذه العلامة، مروية عن الإمامين الباقر

ص: 105

والصادق عليهما السلام. أمّا الإمام الباقر (عليه السّلام) فعصره سابق عليٰ عصر العلوي الثائر. وأمّا الإمام الصادق(عليه السّلام) فهو معاصر للمنصور العباسي وللنفس الزكية الثائر. وكان (عليه السّلام) ينفي لعبد الله بن الحسن والد النفس الزكية نجاح ثورته وثورة ولديه، ويقطع أمله في نيل الخلافة، ويقول له. « إن هذا الأمر، والله ليس اليك ولا إليٰ ابنيك، وانما هو لهذا- يعني السفاح- ثم لهذا- يعني المنصور ثم لولده من بعده، لا يزال فيهم حتيٰ يؤمروا الصبيان ويشاوروا النساء. « فقال عبد الله: والله يا جعفر، ما أطلعك الله عليٰ غيبة، وما قلت هذا إلّا حسداً لابني. فقال: لا والله، ما حسدت إبنك. وإنّ هذا ۔ يعني المنصور - يقتله عليٰ أحجار الزيت، ثم يقتل أخاه بعده بالطفوف، وقوائم فرسه في الماء »(1).

وعليٰ أي حال، فليس هناك أي دليل عليٰ صدور مثل هذه الروايات بعد هذا الثائر العلوي. إن لم يكن المظنون خلافه.

القرينة الثالثة:

إن هذا الثائر العلوي إن لم يكن زكياً ممحصاً، إذن، فلابد أن نتوقع مقتل مخلص ممحص بعد ذلك، غير هذا الثائر.

والدليل عليٰ انحرافه ادعاؤه المهدوية، فيما يروي عنه في مقاتل الطالبيين. وقد قدمه أبوه عليٰ أنه هو المهدي، بعد زوال الدولة الأموية وقبل تأسيس الدولة العباسية، قائلاً في خطبة له في بني هاشم (2): « وقد علمتم أنّا لم نزل نسمع أن هؤلاء القوم إذا قتل بعضهم بعضاً خرج الأمر من أيديهم فقد قتلوا صاحبهم- يعني الوليد بن يزيد فهلم نبايع محمداً، فقد علمتم أنّه المهدي. فقال له الإمام الصادق(عليه السّلام) : « إنها

ص: 106


1- مقاتل الطالبيين.
2- المصدر ، ص 188.

والله، ما هي اليك ولا إليٰ بنيك، ولكنها لهؤلاء، وأن ابنيك لمقتولان» (1).

وكان محمد بن عبد الله بن الحسن، منذ كان صبياً، يتواريٰ ويراسل الناس بالدعوة إليٰ نفسه، ويسمي بالمهدي (2).

ولسنا نريد أن ندخل في مناقشة ذلك، ويكفينا اليقين بأنه قتل قبل أن يملك العالم، وهو دليل كاف عليٰ كذب المدعي، كما قلنا. ولكن المقصود أنّه عليٰ هذا المسلك لا يكون زكياً بل كذاباً منحرفاً. أذن فلا بد أن نتوقع مقتل شخص آخر يكون زكياً ممحصاً غير هذا الثائر.

والالتزام بانحراف هذا الثائر، لو صح هذا النقل التاريخي، أمر لا مناص منه.

ولكنه لا ينفي كونه هو المقصود بالتنبؤ، في علامات الظهور.

وأمّا تسميته بالنفس الزكية، فقد سماه بذلك من كان يعتقد بكونه زكياً، حتيٰ اشتهر به، وقد استعمل لقبه في الروايات طبقاً لشهرته.

القرينة الرابعة:

تقدم مقتل هذا الثائر العلوي عليٰ ولادة المهدي المنتظر (عليه السّلام). ومعه لا يصح جعله علامة عليٰ ظهوره. ومعه لا بد أن ننتظر مقتل شخص آخر يسميٰ أو يوصف بالنفس الزكية.

إلّا إن هذه القرينة لا تصح، لوضوح إمكان جعل العلامة سابقة عليٰ ولادة المهدي(عليه السّلام) بعد أن كان التخطيط الإلهي لليوم الموعود، لا يبدأ ببدء الإسلام فحسب، بل بدء البشرية من أولها. أذن فكل الإرهاصات تشير اليه. وقد سمعنا جعل هلاك الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية وخروج الرايات السود من العلامات... وكل

ص: 107


1- المصدر ، ص 189.
2- المصدر ، ص 177.

ذلك مما حدث قبل ولادة المهدي (عليه السّلام).

القرينة الخامسة:

إن التنبؤ بمقتل النفس الزكية جاء في الروايات، مقترناً أو متأخراً عن بعض ما يعلم بعدم حدوثه إليٰ الآن. إذن فيكون مقتضي الفهم العام من السياق أنه أيضاً لم يتحقق إليٰ الآن. ومعه يتبين أن لا يكون مشاراً به إليٰ قتل ذلك الثائر العلوي، بل إليٰ مقتل رجل آخر، يقتل في مستقبل الدهر.

فمن ذلك: رواية الخمس علامات، كقول الإمام الصادق (عليه السّلام): «للقائم خمس علامات، السفياني واليماني والصيحة من السماء، وقتل النفس الزكية والخسف بالبيداء (1). ورواية تعداد الأمور المحتومة كقوله (عليه السّلام)

: « النداء من المحتوم والسفياني من المحتوم واليماني من المحتوم وقتل النفس الزكية من المحتوم..... ) الحديث (2) .

ومن المعلوم إن خروج السفياني واليماني والصيحة مما لم يحدث، إذن فقتل النفس الزكية، مما لم يحدث أيضاً.

وهذا الكلام غير صحيح، فإن ما يقتضيه السياق هو عدم حدوث كل هذه الأمور عند صدور الرواية. وهذا صحيح. ثم إن بعضها يسرع بالحدوث وبعضها يتأخر. وهذا لا ربط بظهور الكلام وسياقه. وبخاصة إن العطف في الرواية بين العلامات بالواو، وهي ليست دالة عليٰ الترتيب، مثل (أو) أو (ثم)، كما ينص النحاة.

القرينة السادسة:

ما سبق أن سمعناه من الخبر القائل: «ليس بين قيام القائم وبين قتل النفس الزكية

ص: 108


1- غيبة النعماني ، ص 133.
2- المصدر ، ص 134.

إلّا خمس عشرة ليلة ». وحيث نعلم بالقطع واليقين تأخر الظهور عن مقتل ذلك الثائر العلوي لا بخمس عشرة ليلة، بل بأكثر من ألف عام. إذن فيتعين أن لا يكون التنبؤ منصباً عليٰ ذلك، بل عليٰ مقتل رجل آخر.

إلّا إن هذه القرينة غير صحيحة، فإن هذا الخبر وإن تعدد في المصادر فقد رواه المفيد في الإرشاد والشيخ في الغيبة والصدوق في إكمال الدين وغيرهم إلّا إن ذلك يعود إلي راو واحد. فإنه مروي عن ثعلبة عن شعيب عن صالح. وقد وصف ثعلبة في الإرشاد والإكمال بابن سيمون ووصف شعيب في الغيبة والإرشاد بالحداد، ووصف في الإكمال بالحذاء. ووصف صالح في الإرشاد بابن ميثم وفي الإكمال بابن مولي بني العذراء.

وعليٰ أي حال، فإن هذا الخبر عليٰ أحسن تقدير خبر واحد، وقد رفضنا التمسك بمثله في تشددنا السندي.

إذن فلم يثبت نفي غرزه الفكرة وهي إنّ النفس الزكية الموعود ليس هو النفس الزكية الثائر العلوي، بل يبقيٰ ذلك محتملاً عليٰ أي حال، وسنذكر في المستويٰ الثاني مثبتاته والقرائن الدالة عليٰ صحته.

المستويٰ الثاني:

فيما بدل من القرائن عليٰ ثبوت هذا الانطباق... وأن التنبؤ منصب عليٰ ثورة ذلك العلوي، ليس إلّا.

فمن ذلك : ما رواه الأصبهاني في المقاتل(1) بسنده عن محمد بن علي الباقر (عليه السّلام) ۔ عن آبائه، قال: « النفس الزكية من ولد الحسن».

وهذا الحديث واضح الدلالة في الإشارة إليٰ النفس الزكية المعهود التنبؤ بها في

ص: 109


1- ص 184.

الأخبار. وهو لم ينطبق إلّا عليٰ هذا الثائر العلوي، بل قد قيل فيه خصيصاً، كما هو ظاهره حيث أورده الأصفهاني في ترجمته.

ومن ذلك: ما رواه أيضاً (1) بسند إلي عبد الله بن موسيٰ: « إن جماعة من علماء أهل المدينة أتوا علياً بن الحسن، فذكروا له هذا الأمر - يعني المطالبة بالحكم - فقال: محمد بن عبد الله أولي بهذا مني. فذكر حديثاً طويلاً. قال: ثم أوقفني عليٰ أحجار الزيت فقال: ها هنا تقتل النفس الزكية. قال: فرأيناه في ذلك الموضع المشار إليه مقتولاً».

وما رواه أيضاً بسنده عن مسلم بن بشار، قال:

«كنت مع محمد بن عبد الله، عند غنائم خشرم. فقال لي: ها هنا تقتل النفس الزكية . أقول: يعني نفسه. قال: فقتل هناك ».

إذن فالنفس الزكية ليست إلّا ذلك الثائر العلوي، ولعمري إنها علامة مهمة وملفتة للنظر، حيث اتسعت ثورته، حتيٰ خاف منها المنصور، كما يتضح لمنراجع المقاتل ولا نريد أن ندخل في تفاصيله.

ص: 110


1- المصدر والصفحة.
النقطة الثالثة:ظهور الدجال
اشارة

وقد اختصت به المصادر العامة تقريباً، وليس في المصادر الإمامية إلّا النزر القليل. وأمّا في مصادر العامة فالأخبار عنه وعن صفاته اكثر من أن تحصيٰ، وقد نسبت اليه كثيراً من الضرائب، لا بد من تمحيصها بغض النظر عن حملها عليٰ الرمز. وهو ما سنتكلم عنه فيما بعد لنريٰ ما يتم منها، وما لا يتم. ونتكلم عن ذلك ضمن أمور:

الأمر الأول:

مقتضيٰ القواعد العامة التي عرفناها، لزوم الاعتراف بخروج الدجال، إجمالاً. لأنّ الأخبار الدالة عليٰ وجوده بالغة حد التواتر القطعي بلا شك. لكن صفاته وتفاصيل خصائصه لا تثبت، لأنها واردة- في الأغلب- في أخبار آحاد لا يمكن بالتشدد السندي الأخذ بها. ومعه يكون هناك مجال كبير في حمله وحمل عدد من صفاته عليٰ الرمز، عليٰ ما سوف يأتي.

الأمر الثاني:
اشارة

فيما أخرجته المصادر العامة من صفاته.

ونحن نكتفي بما أخرجه الصحيحان توخياً للاختصار، ما لم تدع حاجة خاصة إليٰ التوسع.

أولاً: إن النبي (صلّي الله عليه وآله ) حذر أمته منه.

ص: 111

أخرج البخاري (1) عن أنس قال: « قال(صلّي الله عليه وآله ) : ما بعث نبي إلّا أنذر أمنه الأعور والكذاب. إلّا إنه أعور وإنّ ربكم ليس بأعور ». وأخرج مسلم (2) نحوه

ثانياً : إن النبي (صلّي الله عليه وآله ) استعاذ من فتنته:

أخرج البخاري (3) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال ».

ثالثاً: أنه كافر: أخرج البخاري (4) في الحديث السابق عن أنس: « وإنّ بين عينيه مكتوب: كافر » وأخرج مسلم (5) في حديث: « مكتوب بين عينيه: كافر.يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب »

رابعاً: إنه يدعي الربوبية: أخرج ابن ماجة (6) عن رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) في صفة الدجال. وفيه يقول: « إنه يقول: أنا ربكم ».

وفيما أخرجه الصدوق من خبر الدجال(7) ما يدل عليٰ ذلك. إذ يقول عن الدجال إنه: « ينادي بأعليٰ صوته يسمع ما بين الخافقين من الجن والأنس والشياطين. يقول: « إليَّ أوليائي، أنا الذي خلق فسويٰ وقدر فهديٰ، أنا ربكم الأعليٰ ».

وقد نوقشت دعواه هذه في الأخبار بعدة وجوه:

الوجه الأول:

قول النبي(صلّي الله عليه وآله ) - فيما رويٰ ابن ماجة - : « ولا ترون ربكم حتي تموتوا». والمراد

ص: 112


1- ج 9 ص 75- 76.
2- ج 8 ص 195.
3- ج 9 ص 75.
4- المصدر ، ص 76.
5- ج 8 ص 195.
6- ج 2 ص 1360.
7- أنظر المصدر المخطوط .

الاستدلال برويته في الحياة عليٰ عدم كونه إلها، لأن الله تعاليٰ لا يريٰ.

الوجه الثاني:

قول النبي (صلّي الله عليه وآله ) فيما سمعناه: «إنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كاتب وغير كاتب»

الوجه الثالث:

« إنه يطعم الطعام ويمشي في الأسواق. وإنّ ربكم لا يطعم الطعام ولا يمشي في الأسواق ولا يزول تعالي الله عن ذلك علواً كبيراً(1).

الوجه الرابع:
اشارة

« إنه أعور، وإن الله ليس بأعور ».

وقد أخرج الشيخان ذلك، وهو مما يؤيد فكرة دعواه للربوبية، بالرغم من أنهما لم يخرجا ما يدل عليها صريحاً. إذ لا تصلح هذه الأخبار إلّا لمناقشة هذه الدعويٰ، وإلّا كان التأكيد عليٰ كونه أعور، أمراً مستأنفاً.

أخرج البخاري(2)عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: «قام رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) في الناس فأثني عليٰ الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال: إني لأنذركموه. وما من نبي إلّا وقد أنذر قومه. ولكني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه. إنه أعور، وإنّ الله ليس بأعور ».

وأخرج في حديث آخر (3) عن صفته إنه: « رجل جسيم أحمر جعد الرأس أعور العين كأنّ عينه عنبة طافية ».

وأخرج مسلم(4) في حديث: « إلّا إنه أعور وإنّ ربكم ليس بأعور ). وفي حديث

ص: 113


1- أنظر إكمال الدين المخطوط.
2- ج 9 ص 75.
3- المصدر والصفحة.
4- ج 8 ص 195، وكذلك ما بعده من الأخبار.

آخر: « الدجال أعور العين اليسريٰ» . وفي حديثين آخرين: « إنه ممسوح العين ».

وتجد هذا المضمون في سائر الصحاح وفي مسند أحمد ومستدرك الحاكم وغيرها، بشكل مستفيض.

خامساً: طول عمره: وهو مما لم ينص عليه الشيخان في صحيحيهما صراحة.

وقد أخرج مسلم ما يدل عليٰ ذلك بغير الصراحة. وهو أمران:

الأمر الأول:

حديث الجساسة (1) الذي يقول فيه الدجال عن نفسه: « أنا المسيح وأني أوشك أن يُؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلّا هبطتها.. الخ». وحيث نعلم إن الدجال لم يؤذن له بالخروج إليٰ حد الآن، إذن فهو لا زال باقياً إليٰ حد الآن، وسيبقيٰ إليٰ حين يؤذن له بالخروج.

الأمر الثاني:

أخبار ابن صياد التي تدل جملة منها إنه كان معاصراً للنبي (صلّي الله عليه وآله ) ولم يؤمن به. كالخبر الذي أخرجه مسلم (2) عن عبد الله قال: «كنا مع رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) فمررنا بصبيان فيهم ابن صياد، ففر الصبيان وجلس ابن صياد. فكأن رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) كره ذلك. فقال له النبي(صلّي الله عليه وآله ) : تربت يداك. أتشهد أني رسول الله فقال: لا بل تشهد أني رسول الله. فقال عمر بن الخطاب: ذرني يا رسول الله حتي اقتله. فقال رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) : « إن يكن الذي تري فلن تستطيع قتله ».

وفي حديث آخر (3): « إنّ رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) قال: إن يكنه فلن تسلط عليه وإن لم يكنه، فلاخير لك في قتله».

ص: 114


1- المصدر ، ص 205.
2- نفس المصدر ، ص 189.
3- المصدر والصفحة.

ومن الواضح دلالة مثل هذا القول عليٰ وجود غرض إلهي في حفظ حياته، والمنع عن قتله، ليكون هو دجال المستقبل !!

وبعض الأخبار التي أخرجها مسلم(1) تدل عليٰ تكذيب ابن صياد نفسه للشائعة التي تقول إنه الدجال.. وقد سبق أن روينا بعضها.

سادساً: قتله للمؤمن وأحياؤه له. وقد خرّج الشيطان ذلك، وقد سبق أن نقلناه وناقشناه

سابعاً: « إنّ معه ماء وناراً» .

فمن ذلك ما أخرجه البخاري (2) عن النبي(صلّي الله عليه وآله ) أنه قال في الدجال: « إنّ معه ماءوناراً، فناره ماء بارد وماؤه نار ».

وأخرج مسلم(3): « إنّ الدجال يخرج وأنّ معه ماء وناراً. فأمّا الذي يراه الناس ماء فنار تحرق، وأمّا الذي يراه الناس ناراً فماء بارد عذب. فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه ناراً، فإنه ماء عذب طيب ».

وأخرج في حديث آخر: « انه يجيء معه مثل الجنة والنار، فالتي يقول إنها الجنة هي النار» ..

ثامناً: « اختلاف نظام الزمان في عهده ». وقد سبق أن رويناه وناقشناه.

تاسعاً: « إنه أهون عليٰ الله من ذلك ».

وظاهره نفي أن يكون معه جبل خبز ونهر ماء. وقد سبق أن رويناه عن كلا الصحيحين.

ص: 115


1- المصدر ، ص 191- 190.
2- ج 9 ص 75.
3- ج 8 ص 196 ، وكذلك الحديث الذي بعده.

عاشراً: ما رواه ابن ماجة (1): « إنّ من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت. وإنّ من فتته أن يمر بالحي فيكذبونه، فلا تبقي لهم سائمة إلّا هلكت. وإنّ من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه، فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، حتيٰ تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه وأمدّه خواصراً وأدره ضروعاً. وانه لا يبقيٰ شيء من الأرض إلّا وطئه وظهر عليه، إلّا مكة والمدينة.. » الحديث.

حادي عشر: « إنه ما بين خلق آدم إليٰ قيام الساعة خلق أكبر من الدجال.أخرجه مسلم. وفي حديث آخر إنه قال: « أمر أكبر من الدجال» (2).

ثاني عشر: « إنه يقتله المسيح عيسي بن مريم عند نزوله».

وقد أخرج مسلم أكثر من حديث دال عليٰ ذلك. فمن ذلك(3) قوله ؟ عن الدجال: « فبينما هو كذلك، إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين.. فيطلبه حتي يدركه بباب لد فيقتله ». وفي حديث آخر قال رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) : « يخرج الدجال في أمتي أربعين... فيبعث الله عيسيٰ بن مريم، كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه، فيهلكه ».

فهذه هي المهم من صفات الدجال في المصادر العامة الأساسية.

الأمر الثالث:في تمحيص هذه الصفات

لا شك إنه بغض النظر عن فهم رمزي شامل لهذه الأخبار، لا يصح شيء من هذه الصفات تقريباً.

ص: 116


1- ج 2 ص 1360 ، وما بعدها.
2- كلاهما في ج 8 ص 207.
3- أنظر ج 8 ص 198.

فإننا إذا أخذنا بالتشديد السندي، فالأمر واضح، لأنّ هذه الأخبار - في غالبها - آحاد لا يمكن الاعتماد عليها.

منسوبة إليٰ الدجال وهو من أشد الناس كفراً وطغياناً. وقد سبق أن بينا عدم إمكان ذلك.

ولعمري، إنّ كلتا نقطتي الضعف هاتين: ضعف السند وإيجاد المعجزات المنحرفة، مستوعبتان للأعم الأغلب من هذه الصفات، ما عدا صفات طفيفةككونه أعور العينين !! فإنه مستفيض النقل في الأخبار.

ومعه يدور الأمر بين شيئين لا ثالث لهما، فأمّا أن نرفض هذه الأخبار تماماً وأمّا أن نحملها عليٰ معني رمزي مخالف لظاهرها. ومن الواضح رجحان الحمل عليٰ المعني الرمزي عليٰ الرفض التام، وبخاصة وإنّ مجموع هذه الأخبار متواتر عن النبي(صلّي الله عليه وآله ) ، ولا نحتمل فيه. وهو القائد الرائد للأمة الإسلامية - أن يربي الأمة عليٰ مثل هذه العجائب والسفاسف. فيتعين أن يكون المراد الحقيقي معان اجتماعية حقيقية واسعة، عبر عنها النبي (صلّي الله عليه وآله ) بمثل هذه التعابير طبقاً لقانون: حدث الناس عليٰ قدر عقولهم. آخذاً المستويٰ الفكري والثقافي لعصره بنظر الاعتبار. ومن هنا ينفتح باب الأطروحة الثانية لفهم الدجال. وهي التي ستعرض لها في الناحية الثانية الأتية.

وعليٰ كل حال، سواء رفضنا هذه الأخبار، أو حملناها عليٰ غير ظاهرها، فإن المفهوم - عليٰ كلا التقديرين أنّ وجود الدجال أمر محق، ولكنه ليس رجلاً معيناً متصفاً بهذه الصفات التي يدل عليها ظاهر هذه الأخبار. ولم يتحقق ذلك فيما سبق، ولن يتحقق في المستقبل. وإنما هو عبارة عن ظواهر اجتماعية عالمية كافرة، سيأتي التعرض لها ان شاء الله تعاليٰ.

ص: 117

ص: 118

النقطة الرابعة: ظهور السفياني
اشارة

وقد اختصت به المصادر الإمامية، وليس له في المصادر الأولي للعامة أي اثر... ولعل فيه تعويضاً عن فكرة الدجال الذي اختص به العامة أو كادوا، لمبررات معينة ستأتي الإشارة اليها.

والأخبار عنه في المصادر الإمامية، وإن كانت كثيرة، إلّا إنها لا تبلغ بأي حال مقدار أخبار الدجال التي حفلت بها المصادر العامة. كما إنها خالية عن نسبة الأمور الإعجازية إليٰ السفياني، عليٰ ما سنعرف. وبذلك يندفع الاعتراض المهم الذي كان وارداً عليٰ أخبار الدجال، من حيث عدم امكان صدور المعجزة من أصحاب الفعالة والمنحرفين.

وتتم إيضاح فكرة السفياني ضمن أمور:

الأمر الأول:
اشارة

في الأخبار الدالة عليٰ وجوده وصفاته

أولاً: في تسميته وإثبات أصل وجوده:

أخرج الشيخ في غيبته(1) عن أبي عبد الله الصادق(عليه السّلام) إنّ أبا جعفر الباقر(عليه السّلام) كان يقول: «خروج السفياني من المحتوم». وفي خبر آخر(2) عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) قال:

ص: 119


1- المصدر والصفحة.
2- أنظر المصدر المخطوط.

(قال رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) : عشر قبل الساعة لا بد منها: السفياني ...... الحديث.

وأخرج الصدوق في الإكمال نحواً من هذا الأخير(1). وفي خبر آخر عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: «أن أمر السفياني من المحتوم». وفي خبر آخر عنه(عليه السّلام) : «قبل القائم خمس علامات محتومات: اليماني والسفياني » الحديث.

وأخرج النعماني في غيبته(2) عن أبي عبد الله(عليه السّلام) أنه قال: «للقائم خمس علامات: السفياني.....» ثم الحديث.

وأخرج(3) أيضاً عنه(عليه السّلام) ، قال الراوي: قلت له: ما من علامة بين يدي هذا الأمر.

فقال: بليٰ. قلت: وما هي؟ قال: هلاك العباسي وخروج السفياني... » الحديث.

وفي خبر آخر (4) عنه (عليه السّلام) في تعداد علائم الظهور، قال: « إذا اختلف ولدالعباس... وظهر السفياني.. » الحديث.

وفي البيان الذي ختمت به الغيبة الصغري، وهو ما أخرجه السمري عن الإمام المهدي (عليه السّلام) يقول فيه(5): « فمن ادعيٰ المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كاذب مفتر ».

إلي غير ذلك من الأخبار... وهي بمقدار تكفي للإثبات التاريخي، ومعه لا بد من الالتزام بوجود السفياني في الجملة.

ص: 120


1- المصدر ، ص 267.
2- أنظر ص 133.
3- المصدر ، ص 139.
4- المصدر والصفحة.
5- الاحتجاج ، ج 2 ص7.
ثانياً: اسمه ونسبه:

في خبر (1) عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) إنه قال: « يخرج ابن آكلة الأكباد عن الوادي اليابس. إليٰ أن قال: اسمه عثمان وأبوه عنبسة وهو من ولد أبي سفيان ».

وأخرج الشيخ (2) عن علي بن الحسين (عليه السّلام) في حديث. قال: «ثم يخرج السفياني

الملعون من الوادي اليابس، وهو من ولد عنبسة بن أبي سفيان ».

ثالثاً: زمان خروجه عليٰ وجه الأجمال:

أخرج الشيخ (3) عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: « خروج الثلاثة: الخراساني والسفياني

واليماني، في سنة واحدة في شهر واحد، في يوم واحد... » الحديث.

وأخرج الصدوق(4) في إكمال الدين عنه(عليه السّلام) ، قال: « إنّ أمر السفياني من المحتوم

وخروجه في رجب ».

رابعاً: مكان خروجه:

أخرج الصدوق(5) عن أبي منصور البجلي، قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن اسم السفياني، فقال: وما تصنع باسمه، إذا ملك كور الشام الخمس: دمشق وحمص وفلسطين والأردن وقنسرين، فتوقعوا الفرج. قلت: يملك تسعة أشهر؟ قال: لا. ولكن يملك ثمانية أشهر لا يزيد يوماً» .

وأخرج النعماني(6) عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السّلام) في حديث طويل يقول فيه: «لا بد لبني فلان (7) من أن يملكوا، فإذا ملكوائم اختلفوا تفرق ملكهم وتشتت

ص: 121


1- أنظر منتخب الأثر ، ص 457 عن إكمال الدين.
2- أنظر غيبة الشيخ ، ص 270.
3- المصدر ، ص 271 .
4- أنظر المصدر المخطوط.
5- المصدر المخطوط.
6- أنظر غيبة النعماني.
7- يعني بني العباس.

أمرهم، حتيٰ يخرج عليهم الخراساني والسفياني، هذا من المشرق وهذا من المغرب، يستبقان إليٰ الكوفة كفرسي رهان هذا من هنا، وهذا من هنا، حتي يكون هلاك بني فلان عليٰ أيديهما. أمّا إنهم لا يبقون منهم أحداً» .

ثم قال: «خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة. في شهر واحد، نظام كنظام الخرز، يتبع بعضه بعضا.. الخ». الحديث.

وأخرج أيضاً (1) عن أبي جعفر الباقر (عليه السّلام) إنه قال: «لا بد أن يملك بنو العباس. فإذا ملكوا واختلفوا وتشتت أمرهم، خرج عليهم الخراساني والسفياني، هذا من المشرق وهذا من المغرب يستبقان إليٰ الكوفة كفرسي رهان، هذا من ههنا وهذا من ههنا، حتي يكون هلاكهم عليٰ أيديهما. أمّا إنهما لا يبقون منهم أحداً أبداً» .

خامساً: عقيدته:

يظهر من بعض الأخبار إنه مسيحي، أو من صنائع المسيحيين. كالخبر الذي أخرجه الشيخ في الغيبة(2). قال: « يقبل السفياني من بلاد الروم منتصراً في عنقه صليب، وهو صاحب القوم».

ويظهر من بعض الأخبار إنه من المسلمين المنحرفين المبغضين لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) . كالذي أخرجه الشيخ (3) عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: «كأني بالسفياني - أو لصاحب السفياني - قد طرح رحله في رحبتكم بالكوفة، فناديٰ مناديه: من جاء برأس شيعة علي فله ألف درهم. فيشب الجار عليٰ جاره ويقول هذا منهم. فيضرب عنقه ويأخذ ألف درهم. أمّا إنّ إمارتكم يومئذ لا تكون إلّا لأولاد البغايا... » الحديث.

ص: 122


1- المصدر السابق ، ص 137.
2- ص 278 .
3- نفس المصدر ، ص 273.
سادساً: إن الجيش الذي يخسف به في البيداء هو جيش السفياني نفسه:

فمن ذلك ما أخرجه النعماني (1) بسنده إليٰ الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السّلام) إنه قال قط حديث ذكر فيه السفياني: «ويبعث السفياني بعثاً إليٰ المدينة فينفي المهدي منها إليٰ مكة. فيبلغ أمير جيش السفياني أن المهدي قد خرج إليٰ مكة، فيبعث جيشاً عليٰ أثره، فلا يدركه حتيٰ يدخل مكة خائفاً يترتب عليٰ سنة موسيٰ بن عمران. قال: وينزل أمير جيش السفياني البيداء، فينادي مناد من السماء: يا بيداء أبيدي القوم، فيخسف بهم. فلا يفلت منهم إلّا ثلاثة.. » الحديث.

ومن ذلك: ما رواه في منتخب الأثر(2) عن ينابيع المودة مروياً عن علي كرم الله وجهه في قوله تعالي: («وَلَوْ تَرَي إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ » . قال: «قبيل قائمنا المهدي يخرج السفياني فيملك قدر حمل امرأة تسعة أشهر. ويأتي المدينة جيشه حتيٰ إذا انتهيٰ إليٰ البيداء خسف الله به،.

وما رواه أيضاً (3) عن البرهان في علامات مهدي آخر الزمان مروياً عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) قال: « السفياني من ولد خالد بن يزيد بن أبي سفيان.. إليٰ أن قال: ويخرج رجل من أهل بيتي في الحرم فيبلغ السفياني، فيبعث اليه جنداً من جنده، فيهزمهم. فيسير اليه السفياني بمن معه. حتي إذا جاوزوا ببيداء من الأرض خسف بهم، فلا ينجو منهم إلّا المخبر عنهم».

إليٰ غير ذلك من الأخبار.

فإن صحت هذه الأخبار، كانت كل الأخبار التي تتحدث عن الجيش الذي يخسف به في البيداء، والتي هي مستفيضة بين الفريقين، كانت دالة عليٰ بعض

ص: 123


1- أنظر الغيبة ، ص 149 وما بعدها.
2- ص 454.
3- نفس المصدر ، ص 458.

أعمال السفياني. وبخاصة وقد سمعنا من الأخبار التي أخرجتها صحاح العامة من ذلك: إنّ الخسف يكون بسبب تهديد الجيش لعائذٍ يعوذ بالبيت الحرام أو قوم لا عدة لهم يعوذون به. وها نحن نسمع هذه الأخبار تفسر هذا العائذ وهؤلاء القوم بالمهدي (عليه السّلام) وأصحابه. وهو مطلب واضح لا غبار عليه، إذ من يمكن أن يستحق هذا الدفاع الإلهي عنه غيره(عليه السّلام).

إلّا إن صعوبة واحدة تبقيٰ، وهي أنّ هذه الأخبار الأخيرة، هل هي قابلة للإثبات التاريخي مع التشدد السندي أولا. ومهما كان الجواب، فالأمر موافق مع الاعتبار كما رأينا.

فهذه هي أهم الأوصاف التي ذكرت للسفياني في المصادر الإمامية. ولا شك إنّ أكثر ما لا يمكن إثباته تاريخياً بعد التشدد السندي.

نعم، بعد حمل جملة منها علي الرمزية، من أجل أن تربط بالمضمون العام لعصر التمحيص والامتحان يكون مضمون أكثرها صحيحة عليٰ ما سنريٰ.

الأمر الثاني:
اشارة

في تمحيص دلالة هذه الأخبار بوجه عام، مع غض النظر عن التشدد السندي والحمل الرمزي.

فإن في هذه الأخبار عدة نقاط ضعف، مما يضعف احتمال صدورها عن المعصومين (عليهم السّلام) ، ومن ثم إمكان الأخذ بها بصفتها صالحة للإثبات التاريخي.

النقطة الأوليٰ:

التهافت من ناحية مدة ملك السفياني. إذ نسمع من أحد الأخبار أنّه بمقدار حمل امرأة تسعة أشهر ومن خبر آخر نفي ذلك صراحة، وأنه لا يملك اكثر منثمانية أشهر.

ص: 124

النقطة الثانية:

إن من هذه الأخبار ما يدل عليٰ أنّ حركة السفياني مشاركة في زوال ملك بني العباس، مع حركة الخراساني. وهذا يعني إنها قد حدثت وانتهت. لأنّ ملك العباسين قد زال منذ أمد بعيد.

ولكن ينافي ذلك دلالة الأخريٰ عليٰ ارتباط حركة السفياني بالخسف، فأن الخسف مما لم يحدث بعد قطعاً إليٰ حد الآن. ومعه يكون السفياني متأخراً عن دولة العباسيين بدهر طويل، بحيث لا يمكن الارتباط بهم بأي شكل من الأشكال.

النقطة الثالثة:

إنّه دلت بعض هذه الأخبار عليٰ أن زوال ملك بني العباس نتيجة لحركتين مضادتين متعاصرتين هما حركة الخراساني وحركة السفياني. ولم يعرف شيء من ذلك في التاريخ. و إنما الغزو المغولي هو الذي أستأصلهم وأزال دولتهم، وبقي بعدهم منفرداً بالحكم مدة من الزمن، ولا يعرف له قرين آخر في المنطقة. .

النقطة الرابعة:

التهافت في تعيين عقيدته كما سمعنا. وإنّه هل هو من المسيحيين أو من المسلمين المنحرفين.

وقد يخطر في الذهني: إنّ الخبر الثاني الذي رويناه في عقيدته، لم يدل عليٰ أنّه من المسلمين وإنما دل عليٰ مطاردته لشيعة علي (عليه السّلام) فلعله مسيحي يعمل ذلك اذن فلا تنافي بين الخبرين.

إلّا أنّ هذا لا يصح، لأكثر من جواب:

أولاً: إنّ المسيحي مهما كان شديداً ضد المسلمين، من البعيد جداً أن يخصص عداوته بشيعة علي دون غيرهم. وإنما هذا من عمل المسلمين المنحرفين عادة .

وثانياً: إن الخبر الأول الدال علي كونه مسيحياً، غير قابل للإثبات التاريخي، عليٰ

ص: 125

كل تقدير، لأنه ليس مروياً عن معصوم، فإنّ الشيخ أخرجه بسنده عن بشر بن غالب قال: «يقبل السفياني ، الخ. وليس فيه دلالة عليٰ أنه مروي عن أحد المعصومين (عليهم السّلام).

الأمر الثالث:
اشارة

وقد يخطر في الذهن اتحاد شخصيني الدجال والسفياني في رجل واحد. وخاصة بعد التشدد السندي الذي اتخذناه، وإسقاط تفاصيل أوصافهما عن الاعتبار. ولا يبقيٰ من المتيقن إلّا أنّ كلا الاسمين عنوان لرجل منحرف خارج عليٰ تعاليم الإسلام ومفسد في مجتمع المسلمين، ففي الإمكان انطباقهما عليٰ رجل واحد وحركة واحدة.

ومما يؤيد ذلك ما عرفناه، من أنّ التعبير بالدجال هو المتخذ في المصادر العامة عادة، والتعبير بالسفياني هو المتخذ في مصادر الإمامية، ففي الإمكان افتراض أن يكون التعبيران معاً عن رجل واحد، نظر اليه أصحاب كل مذهب من زاويتهم المذهبية الخاصة.

إلّا أنّ هذا لا يكاد يصح، لا عليٰ المستويٰ الرمزي ولا عليٰ المستويٰ الظاهر.

أمّا عليٰ المستوي الرمزي، فالأمر فواضح، لأنّ الدجال يمثل حركة الانحراف عن الإسلام أساساً أو الكفر الصريح، بسبب الشهوات واتباع المصالح الخاصة. والسفياني يمثل حركة القلاقل والشبهات في داخل نطاق المجتمعالمسلم. عليٰ ما سنوضح فيما يأتي. ومن المعلوم أنّ هاتين الحركتين مستقلتان لا اتحاد بينهما عليٰ المستويٰ العام، وإن اتفقنا في بعض النتائج ضد الإسلام.

وأمّا عليٰ مستويٰ الأخذ بالظاهر، فواضح أيضاً عليٰ مستويين:

ص: 126

المستويٰ الأول:

فيما إذا أخذنا بالتشدد السندي ورفضنا الأخذ بالصفات المنسوبة إليٰ هذين الشخصين، فإنه يكفينا ظهور الاسمين في تعدد المسمين وإن جهلنا بصفاتهما، إذ لو كانا شخصاً واحداً لعبر عنه في الأخبار بتعبير واحد.

المستويٰ الثاني:

فيما إذا لم نأخذ بالتشدد السندي، وأخذنا بالصفات المنسوبة إليهما، فيكون الفرق بينهما أوضح وأصرح، والتعدد أبين.

وأهم الفروق بينهما في حدود ما أعطته الأخبار التي سمعناها، ما يلي:

أولاً: إنّ الدجال يفترض فيه طول العمر، دون السفياني.

ثانياً: إنّ الدجال يدعيٰ بابن صائد، والسفياني يدعي بعثمان بن عنبسة.

ثالثاً: إنّ السفياني من أولاد أبي سفيان، دون الدجال.

رابعاً: إنّ الدجال يدّعي الربوبية، دون السفياني.

خامساً: إنّ الدجال كافر. وأمّا السفياني فلانص في الأخبار يدل عليٰ ذلك، إنّ لم يكن الظاهر كونه مسلماً.

سادساً: إنّ الدجال يملك كل قرية ويهبط كل وادي، ماعدا مكة والمدينة.

وظاهر ذلك إنّ حركته أوسع من حركة السفياني عليٰ سعتها۔

سابعاً: إنّ الدجال أعور العينين. وأمّا السفياني فهو ذو عينين سليمتين.

وهذه الفروق، يمكن أن تكون في غالبها فرقاً بين الحركتين عليٰ المستويٰ الرمزي الذي أشرنا اليه.

ص: 127

ص: 128

النقطة الخامسة: ظهور اليماني

وقد اختصت به أيضاً المصادر الإمامية، ووصفت حركته بأنها حق..... باعتبار كونه داعياً إليٰ المهدي(عليه السّلام) .

رويٰ النعماني (1) عن أبي عبد الله (عليه السّلام) أنه قال: «للقائم خمس علامات: السفياني

واليماني...» ، الخ الحديث.

وفي رواية أخري عنه(عليه السّلام) (2) في تعداد أمور محتومة، قال: واليماني من المحتوم. ورويٰ أيضاً (3) عن الإمام الرضا(عليه السّلام) أنه قال: «قبل هذا الأمر: السفياني واليماني... »، الحديث.

وفي رواية أخريٰ (4) عن أبي جعفر محمد بن علي(عليه السّلام) في رواية طويلة ذكر فيها راية السفياني والخراساني، ثم قال: « وليس في الرايات راية أهديٰ من راية اليماني هي راية هديٰ، لأنه يدعو إليٰ صاحبكم، فإذا خرج اليماني حرم بيع السلاح عليٰ الناس وكلهم مسلم. وإذا خرج اليماني فانهض إليه، فإن رايته راية هديٰ، ولا يحل لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك، فهو من أهل النار، لأنه يدعو إليٰ الحق، والي طريق مستقيم ».

ص: 129


1- الغيبة ، ص 133 .
2- المصدر ، ص 134.
3- المصدر والصفحة.
4- المصدر ، ص 135.

وأخرج الشيخ(1) عن أبي عبد الله(عليه السّلام)، حديث الخمس علامات، وعد منها: خروج اليماني.

وفي رواية أخريٰ(2) عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: « خروج الثلاثة: الخراساني والسفياني واليماني في سنة واحدة في شهر واحد في يوم واحد، وليس فيها راية بأهديٰ من راية اليماني، يهدي إليٰ الحق».

وفي رواية أخريٰ(3) عن محمد بن مسلم قال: « يخرج قبل السفياني مصري ويماني ».

إليٰ غير ذلك من الروايات في مختلف المصادر الإمامية. وهي مستفيضة تقريباً، وصالحة للإثبات التاريخي بالرغم من التشدد السندي الذي اتخذناه، إذ ليس في مقابلها قرينة نافية. إلا أنّ ما يثبت بها هو حركة اليماني في الجملة، وأمّا سائر الصفات، بما فيها كونه عليٰ حق، فهو مما لا يكاد يثبت بالتشدد السندي.

فإذا تم ذلك، أمكن حمله عليٰ بعض الحركات التي حدثت في اليمن، فيكون من العلامات التي حدثت في التاريخ. وهذا هو المطابق لمنهجنا في البحث. لكن لو افترضنا الاعتراف بكونه عليٰ حق، واحتملنا ان يكون قائد الحركة يمانيا وإن لم تكن الحركة في اليمن، أو كان منطلق الحركة اليمن ولم تقتصر عليها، فتكون من الأمور الموعودة التي لا دليل علي سبق حدوثها.

وأمّا عليٰ المستويٰ الرمزي، فهي تمثل حركة أهل الحق في مقابل الانحراف والضلال الموجود في عصر الغيبة.

ص: 130


1- غيبة الشيخ ، ص 267.
2- المصدر ، ص 271.
3- ج 8 ص 198.
النقطة السادسة: خروج ياجوج و ماجوج

أخرج مسلم وابن ماجة (1) عن النواس بن سمعان عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) حديثاً مطولاً يذكر في أوله الدجال وبعض صفاته وأفعاله. ثم يذكر نزول عيسيٰ ابن مريم(عليه السّلام) عند المنارة البيضاء شرقي دمشق.

ثم يقول: - واللفظ برواية مسلم: - « فبينما هو كذلك إذ أوحيٰ الله إلي عيسيٰ أني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إليٰ الطور. ويبعث الله ياجوج وماجوج، وهم من كل حدب ينسلون. فيمر أوائلهم عليٰ بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، ثم يمر آخرهم، فيقولون: لقد كان في هذا ماء مرة.

«ويحضر نبي الله عيسيٰ وأصحابه حتي يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مئة دينار لأحدكم اليوم. فيرغب نبي الله عيسيٰ وأصحابه، فيرسل الله عليهم العنف في رقابهم فيصبحون فرسي كموت نفس واحدة ».

ثم يهبط نبي الله عيسيٰ وأصحابه إليٰ الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر، إلّا ملأه زهمهم ونتنهم. فيرغب نبي الله عيسيٰ وأصحابه إليٰ الله، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت، فتحمله فتطرحهم حيث شاء الله.

ثم يرسل الله مطراً لا يُكُّن منه بيت مدر ولا بر، فيغسل الأرض حتيٰ يتركها كالزلقة. ثم يقال للأرض: انبتي ثمرتك وردي بركتك. فيومئذ تأكل العصابة من

ص: 131


1- ج 2 ص 1356.

الرمانة ويستظلون بقحفها. ويبارك الله في الرسل حتيٰ أنّ اللقحة من الإبل لتكفي ألفاً من الناس. واللقحة من البقر لتكفي القبيلة،واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ ».

وأخرج مسلم بسند آخر (1) عن يزيد بن جابر نحو ما ذكرناه، وزاد بعد قوله: « لقد كان بهذه مرة ماء. ثم يسيرون حتي ينتهوا إليٰ جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس، فيقولون: لقد قتلنا أهل الأرض، هلم فلنقتل من في السماء. فيرمون بنشابهم إليٰ السماء، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دماء ».

فهذه هي أفعال يأجوج ومأجوج بعد فتح ردمهم. وهي نهايتهم، لو صح هذا الخبر. وحيث نعلم إنّ نزول عيسيٰ (عليه السّلام) يكون قريباً أو مقارناً لظهور المهدي(عليه السّلام) ، فيكون خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم بدعوات المسيح(عليه السّلام) ، سابقاً عليٰ الظهور، أي في عهد الغيبة الكبريٰ.

وإذا غضضنا النظر عن التشدد السندي، كان المضمون العام لهذا الحديث أمراً محتملاً، وقابلاً لتفسير قوله تعاليٰ: «حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ »(2) .... إذا أمكن تفسير الوعد الحق بظهور المهدي(عليه السّلام) باعتبار ما قلناه من أنّ الغرض الأساسي لله تعاليٰ من إيجاد خلقه، متمثل بتحققه.

وواضح من الآية: أن فتح يأجوج ومأجوج سابق عليٰ الوعد الحق... فيكون سابقة عليٰ الظهور. تماماً كما فهمناه من الحديث. فيكون الحديث والآية متصادقان عليٰ معني واحد مشترك، مع غض النظر عن تفاصيل الحوادث التي أوردها الحديث.

ص: 132


1- ج 8 ص 199.
2- الأنبياء 97 - 96.

ونحن لا نريد أن ندخل في تفاصيل المراد من يأجوج ومأجوج وإثبات حقيقتهم وكيفية بناء السد ضدهم وفتحه. فإنّ لذلك مجال آخر. ويكفينا بهذا الصدد ظاهر القران الكريم. وهو خال من العجائب التي نسبت في عدد من المصادر اليهم.

فإنّ ما يدل عليه ظاهر الكتاب الكريم، هو أنّهم قوم بدائيون متوحشون كانوا يعيثون في الأرض الفساد، فكان السد الذي بناه ذو القرنين سبباً لنجاة الناس منهم. وبقي هؤلاء وراء السد، حتي إذا بلغوا من الكثرة في المستويٰ العقلي والحضاري، ما يستطيعون به السيطرة عليٰ هذا السد، فإنّهم يخرجون إليٰ العالم مره أخريٰ ويتجدد فسادهم، ويذوق البشر منهم الأمرين. كيف وهم أصبحوا حاقدين عليٰ البشر الآخرين من بناء السد ضدهم.

وسوف يصادف خروجهم من وراء السد، الزمان السابق عليٰ يوم الظهور بقليل، بمقتضيٰ ما فهمناه من الآية الكريمة، والحديث.

والإشكال المهم الذي يحول دون هذا الفهم هو احتمال أن يراد بالوعد الحق يوم القيامة. ولعمري أنه أمر محتمل وإن كان سياق الآية مناسب تماماً مع افتراض كون المراد به يوم الظهور.

فإنّ الاحتمالات الأولية في الوعد الحق في الآية ثلاثة:

الأول: أن يكون المراد به الوعد الإلهي بفتح يأجوج ومأجوج، من ردمها. كما قد يفهم من قوله تعاليٰ: ( «قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا » (1).

الثاني: أن يكون المراد به يوم القيامة.

الثالث: أن يراد به الوعد بظهور المهدي(عليه السّلام) في اليوم الموعود.

ص: 133


1- الكهف / 98.

أمّا الاحتمال الأول، فهو بعيد عن ظهور الآية التي نتكلم عنها، فإنّ ظاهرها تأخر الوعد الحق عن فتح يأجوج ومأجوج، وإنّ فتحهم يكون عند اقتراب الوعد الحق، لا عند نجازه. ومن المعلوم إنه لو كان المراد بالوعد الحق: الوعد بفتحهم، لكان فتحهم تحقيقاً لذلك الوعد، لا أنه يكون مقترباً.

إذن فالوعد بفتح يأجوج ومأجوج لو كان مرادا من قوله تعاليٰ: « فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ» ... فهو غير مراد من قوله تعالي: «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ » . بل المراد به وعد آخر متأخر زماناً عن الفتح.

ومعه يبقيٰ هذا الوعد الحق، مراداً بين الاحتمالين الآخرين.

وقد يمكن أن يستدل للاحتمال الثاني، وهو أن يكون المراد من الوعد الحق: الوعد بيوم القيامة.. يستدل عليه من سياق الآيات التي وردت هذه الآية في ضمنها. وحيث يكون السياق متعرضاً إليٰ حوادث القيامة، فيعرف أنّ الوعد الحق يراد به الوعد بالقيامة أيضاً.

قال الله تعاليٰ: «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ * إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ». وكل ذلك يحدث في يوم القيامة، فيكون دالاً عليٰ ان المراد من الوعد الحق هو ذلك.

إلّا أنه يمكن لهذا المستدل ان يتنازل عن هذا الفهم، إذا علم امكان حمل الوعد الحق عليٰ ظهور المهدي (عليه السّلام) بالرغم من هذا السياق. فإنّ تطبيق الأطروحة العادلة الكاملة بعد الظهور، يصوغ المجتمع البشري بشكل جديد وقويم لا قبل للكافرين والمنحرفين به، ومعه يكون من الطبيعي أن تكون (شاخصة أبصار الذين كفروا). ومن الطبيعي أيضاً أن يقولوا في ذلك المجتمع الكريم: « يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا » في عصر الغيبة الكبريٰ: عصر الفتن والانحراف: « فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ » فاشلين

ص: 134

في التمحيص الإلهي.

والتوبة لا تكون مقبولة من المنحرفين الراسبين في التمحيص، بل سيبادر الإمام المهدي (عليه السّلام) لقتلهم واستئصالهم جملة وتفصيلاً عليٰ ما سيأتي في التاريخ القادم. ومن هنا يذهبون بسرعة إليٰ جهنم. طبقاً لقوله تعاليٰ: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ » من أشخاص ومصالح، كانت مقدسة من عهد الفتن والانحراف «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ »..

ليس هذا فقط، بل يمكن أن يكون قوله تعاليٰ: «قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا » .. لا يراد به الوعد بفتح يأجوج ومأجوج، بل الوعد بالظهور أيضاً، طبقاً لما فهمناه من الآية والحديث من أن فتح يأجوج ومأجوج يكون قبيل الظهور. ويكون المراد من مجيئه في الآية الكريمة، المشارفة عليٰ المجيء، ولو بقرينة الآية الأخريٰ.

هذا الذي قلناه كله، بحسب الإمكان والاحتمال. وأمّا صعود هذه الفكرة إليٰ مرتبة الإثبات التاريخي، فهو متوقف عليٰ استظهارها جلياً من الآية، ولا يكفي كونها مناسبة معها. فإنّ تساوي الاحتمالين في معني الوعد الحق، لا يعني إمكان استدلال عليٰ المطلوب. ومعه يكون تأييد الآية للحديث الشريف غير متحقق. فيبقيٰ الحديث بدون قرينة. ومعه لا يمكن أن يصمد أمام التشدد السندي ويسقط عن إمكان الإثبات التاريخي. ومعه نبقي جاهلين بتقدم خروج يأجوج ومأجوج عليٰ عهد الظهور.

يبقيٰ التساؤل عن مديٰ صحة التفاصيل الموجودة في الحديث، ومديٰ إمكان الأخذ بها. والصحيح إنها لا تكاد تصلح للإثبات التاريخي. وهذا واضح أن أسقطنا الحديث تماماً. وأمّا إذا غضضنا النظر عن ذلك واعتبرنا الآية قرينة عليه، وأخذنا به. فأننا إنما نأخذ بالحديث بمقدار مطابقته للآية، وهو دلالته عليٰ فكرة تقدم خروج

ص: 135

يأجوج ومأجوج علي الظهور. وأمّا التفاصيل، فتبقي غير ثابتة طبقاً للتشدد السندي، ومعه لا يكون من المهم أن ننظر في تمحيص هذه التفاصيل.

فهذه جملة مهمة من علائم الظهور، كما وردت في نصوص الأخبار .

ص: 136

الناحية الثانية: في محاولة إعطاء المفهوم العام المنظم عن مجموع العلامات جهد الإمكان، بنحو يرتبط بالقواعد العامة التي عرفناها من قانون المعجزات وقانون التمحيص وشرائط الظهور، ونحوها
اشارة

ويمكن التعرض إليٰ العلاقات عليٰ مستويات ثلاثة:

المستويٰ الأول:

ما يكون مندرجاً في ظواهر الانحراف العام، الناتج عن تمحيص عصر الغيبة الكبريٰ. سواء ما وقع منه كدولة العباسيين والحروب الصليبية، وما لم يقعكظهور الدجال والسفياني.

المستويٰ الثاني:

ما يكون مندرجاً في ظواهر الانحراف العام، الناتج عن تمحيص عصر تقويمه قبل عصر الظهور. سواء ما وقع منها كثورات الحسنيين في عصر الخلافة، أو مما لم يقع كحركة اليماني والنفس الزكية، لوثبت وجودها.

المستويٰ الثالث:
اشارة

ما يكون عليٰ مستويٰ التنبيه الإلهي الإعجازي عليٰ خطورة الانحراف وقرب الظهور، كالصيحة والخسوف في آخر الشهر والكسوف في وسطه.

فلا بد من التكلم عليٰ كل هذه المستويات.

ص: 137

المستويٰ الأول: ما يكون عليٰ مستويٰ الانحراف العام السائدفي عصر الغيبة أسباباً له أو مسببات
اشارة

ويندرج في ذلك أكثر العلامات الواردة في الأخبار، سواء ما حدث منها أو مالم يحدث. فإنها تعبر عن أشكال السلوك المنحرفة في المجتمع المنحرف. سواء حملنا هذه العلامات عليٰ وجهها الصريح أو عليٰ وجهها الرمزي.

أمّا إذا حملناها عليٰ صراحتها، فالأمر واضح، ولا يحتاج إليٰ مزيد من الكلام سواء في ذلك انحراف القيادة الإسلامية، بعد النبي (صلّي الله عليه وآله ) أو حدوث دولة بني العباس أو خروج الرايات السود بقيادة أبي مسلم الخراساني. أو اختلاف أهل المشرق والمغرب أو ثورة صاحب الزنج أو الحروب الصليبية أو مقاتلة الترك أو نزول الترك بالجزيرة أو نزول الروم الرملة أو قتل النفس الزكية أو ظهور الدجال والسفياني، طبقاً للفهم الكلاسيكي لهما.. إليٰ آخر ماعددناه من أمثال هذه العلامات.

وأمّا إذا حملناها عليٰ أنها مسوقة مساق الرمز، فهو المهم الذي نستطيع به أن نقدم فهما متكاملاً لمجموع العلامات. وإن كان سيكلفنا هذا الفهم الاستغناء عن بعض التفاصيل الواردة في الأحاديث. وقد سبق أن قلنا إنّ شيئاً من التفاصيل لم يثبت بعد التشدد السندي، ولكنه بعد الحمل الرمزي ستكون أكثر التفاصيل قد تحققت في الخارج في التاريخ البشري. وكل ما تحقق في التاريخ فالأخبار عنه صادق كما سبق أن ذكرنا. وكل شيء من التفاصيل لا يدخل في هذا الفهم الرمزي العام، يبقي لا دليل عليٰ ثبوته وصدقه، ومن ثم يقتضي التشدد السندي نفيه.

ص: 138

تحليل السيد الشهيد الصدر(قدس سرّه) للدجال بأنه اتجاه حضاري معاد للإسلام

وإنّ أهم وأعم ما يواجهنا في هذا الصدد، مفهوم الدجال، الذي يمثل الحركة أو الحركات المعادية للإسلام في عصر الغيبة عصر الفتن والانحراف.. بادثاً بالأسباب الرئيسية وهي الحضارة الأوربية بما فيها من بهارج وهيبة وهيمنة عليٰ الرأي العام العالمي، ومخططات واسعة... ومنتهيا إليٰ النتائج وهو خروج عدد من المسلمين عن الإسلام واعتناقهم المذاهب المنحرفة، وما يعم الأفراد والمجتمعات من ظلم وفساد.

فليس هناك ما بين خلق آدم إليٰ يوم القيامة خلق منحرف أكبر من الدجال. باعتبار هيبة الحضارة الأوربية وعظمتها المادية ومخترعاتها وأسلحتها الفتاكة وتطرفها الكبير نحو سيطرة الإنسان والإلحاد بالقدرة الإلهية... بشكل لم يعهد له مثيل في التاريخ، ولن يكون له مثيل في المستقبل أيضاً. لأن المستقبل سيكون في مصلحة نصرة الحق والعدل.

ويؤيد هذا الفهم قوله في الخبر الآخر: «ليس ما بين خلق آدم إليٰ يوم القيامة أمر أكبر من الدجال» (1). والتعبير بالأمر واضح في أنّ الدجال ليس رجلاً بعينه وإنما هو اتجاه حضاري معاد للإسلام.

وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، وأن يأمر الأرض أن تنبت فتنبت (2). وكل هذا وغيره مما هواهم منه من أنحاء السيطرة عليٰ المرافق الطبيعية مما أنتجته الحضارة الأوربية .

ص: 139


1- صحيح مسلم: ج 8، ص 1360.
2- ابن ماجة: ج 2، ص 1360 وما بعدها.

ولا يخفيٰ ما في ذلك من الفتنة، فأنّ أعداداً مهمة من أبناء الإسلام حين يجدون جمال المدنية الأوربية، فأنهم سوف يتخيلون صدق عقائدها وأفكارها وتكوينها الحضاري بشكل عام. وهذا من أعظم الفتن والأوهام التي يعيشها الأفراد في العصور الحاضرة. وهي غير قائمة عليٰ أساس صحيح. إذ لا ملازمة بين التقدم التكنيكي المدني والتقدم العقائدي والفكري والأخلاقي.. يعني لا ملازمة بين الجانب الحضاري والجانب المدني في المجتمع فقد يكون المجتمع متقدماً إليٰ درجة كبيرة في الجانب المدني ومتأخراً إليٰ درجة كبيرة في الجانب الحضاري... كما عليه المجتمع الأوربي. كما قد يكون العكس موجوداً أحياناً في مجتمع آخر.

«وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه، فلا تبقي لهم سائمة إلّا هلكت، وإنّ من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، حتي تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه، وأمدّه خواصراً وأدرّه ضروعاً» (1).

وهذا يعني علي وجه التعيين: أنّ المكذب للمد المادي الأوربي والواقف أمام تياره يمني بمصاعب وعقبات ويكون المال والقوة إليٰ جانب السائرين في ركابها المتملقين لها المتعاونين معها. والتعبير بالحي يعني النظر إليٰ المجتمع علي العموم. وهذا هو الصحيح بالنسبة إليٰ المجتمع المؤمن في التيار المادي، إذ لو نظرنا إليٰ المستويٰ الفردي، فقد يكون في إمكان الفرد المعارض أن ينال تحت ظروف معينة قسطا من القوة والمال.

والدجال أيضاً يدعي الربوبية إذ ينادي بأعليٰ صوته يسمع ما بين الخافقين...

ص: 140


1- ابن ماجة: ج 2، ص 1360 وما بعدها.

يقول: « إليّ أوليائي، أنا الذي خلق فسوي وقدر فهديٰ أنا ربكم الأعليٰ »(1).

وكل ذلك واضح جداً من سير الحضارة الأوربية وأسلوبها. فإنها ملأت الخافقين بوسائل الإعلام الحديثة بماديتها، وعزلت البشر عن المصدر الإلهي والعالم العلوي الميتافيزيقي، فخسرت بذلك العدل والأخلاق والفكر الذي يتكلفه هذا المصدر. وأعلنت عوضاً عن ذلك ولايتها عليٰ البشرية وفرضت أيديولو جيتها عليٰ الأفكار وقوانينها عليٰ المجتمعات، بدلاً عن ولاية الله وقوانينه. وهذا يعني ادعاءها الربوبية عليٰ البشر أي أنّها المالكة لشؤونهم من دون الله تعاليٰ.

ومن الملحوظ في هذا الصدد، أنّ الوارد في الخبر إنّ الدجال يدعي الربوبية، لا أنه يدعي الألوهية.. والربوبية لا تحمل إلّا المعنيٰ الذي أشرنا أليه.

وأمّا دعوتها، لأوليائها من أطراف الأرض، ليتم تثقيفهم الفكري وتربيتهم الأخلاقية والسلوكية تحت إشرافها، ولترتبط مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية بها. فهذا أوضح من أن يذكر أو يسطر.

« ولا يبقيٰ شيء من الأرض إلّا وطئه وظهر عليه» (2) وهو ما حدث فعلا بالنسبة إليٰ شمل التفكير الأوربي في كل البسيطة. فليس هناك دولة في العالم اليوم لا تعترف بالاتجاهات العامة للفكر والقانون الأوربي. ونريد بأوربا كلي قسميها الرأسمالي والشيوعي. فإن كليهما معاد للإسلام، وممثل للدجال بأوضح صوره ».

وأمّا استثناء مكة والمدينة من ذلك، فقد يكون محمولا عليٰ الصراحة، وقد يكون محمولاً عليٰ الرمز. أمّا حملها عليٰ الصراحة، فيعني أن سكان هاتين المدينتين المقدستين سوف لن يعمهما الفكر الأوربي والمد الحضاري المادي. بل

ص: 141


1- أخرجه الصدوق، المصدر المخطوط.
2- ابن ماجة: ج ص 1360 وما بعدها.

يبقي سكانها متمسكين بالإسلام، بمقدار ما يفهمونه، صامدين تجاه الإغراء الأوربي إليٰ حين ظهور المهدي (عليه السّلام).

وأمّا حملها عليٰ الرمزية، فهو يعني أنّ الفكرة الإلهية المتمثلة بمكة، والفكرة الإسلامية المتمثلة بالمدينة المنورة، لا تنحرف بتأثير المد الأوربي، بل تبقي صامدة محفوظة في أذهان أهلها وأيمانهم. وهذا يدل عليٰ انحفاظ الحق في الجملة بين البشر، وأنّ الانحراف لا يشمل البشر أجمعين، وإن كانت نسبة أهل الحق إليٰ غيرهم، كنسبة مكة والمدينة إليٰ سائر مدن العالم كله.

وهذا مطابق لما عرفناه من نتائج التخطيط الإلهي، ببقاء قلة من المخلصين الممحصين المندفعين في طريق الحق. وأكثرية من المنحرفين والكافرين. ويكون لأولئك القلة المناعة الكافية ضد التأثر بالأفكار المادية والشبهات المنحرفة. بل أن هذه الشبهات لتزيدهم وعياً وإيماناً وإخلاصاً.

وهذا هو معنيٰ ما ورد في بعض أخبار الدجال من منعه عن مكة والمدينة بواسطة ملك بيده سيف مصلت بصده عنها، وأنّ عليٰ كل نقب ملائكة يحرسونها. فإنّ تشبيه العقيدة الإسلامية بالملك ومناعتها بالسيف مما لا يخفي لطفه. وأمّا كون الملائكة عليٰ كل نقب، فهو يعني الإدراك الواعي للمؤمن بان للإسلام حلاً لكل مشكلة وجواباً عليٰ كل شبهة، فلا يمكن لشبهات الأخرين أن تغزو فكره أو تؤثر عليٰ ذهنه.

والدجال طويل العمر، باق من زمن النبي (صلّي الله عليه وآله ) حين لم يؤمن برسالته من ذلك الحين، بل ادعيٰ الرسالة دونه، ولا زال علي هذه الحالة إليٰ الآن.

فإن الدجال أو المادية، تبدأ أسسها الأوليٰ من زمن النبي(صلّي الله عليه وآله ) حيث كان للمنافقين أثرهم الكبير في اداء أوارها ورفع شأنها. فكانوا النواة الأوليٰ التي حددت تدريجاً سير التاريخ عليٰ شكله الحاضر، بانحسار الإسلام عن وجه المجتمع في العالم وسيطرة المادية والمصلحية عليه.

ص: 142

إذن فالمنافقون الذين لم يؤمنوا برسالة النبي(صلّي الله عليه وآله ) ، أولئك الذين كان مسلك الدجل والخداع مسلكهم إذ يظهرون غير مايبطنون، هم النواة الأوليٰ للمادية المخادعة التي تظهر غير ما تبطن، وتبرقع قضايا بمفاهيم العدل والمساواة. فهذا هو الدجال، بوجوده الطويل.

ومن هنا نفهم معنيٰ ادعائه للرسالة، فإنّ المادية كانت ولا زالت تؤمن بفرض ولايتها عليٰ البشر، غير أنّها كانت في المجتمع النبوي ضعيفة التأثير جداً، لا تستطيع الارتباط بأي إنسان. ولكن حين أُذِنٌ للدجال المادي بالخروج، في عصر النهضة الأوربية، استطاعت المادية أن تفرض ولايتها وسلطتها عليٰ العالم.

ومن هذا المنطلق نفهم بكل وضوح معنيٰ أنه عند الدجال ماء ونار، وماؤه في الحقيقة هو النار، وناره هي الماء الزلال. وقال النبي(صلّي الله عليه وآله ) - في الحديث -: «فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه ناراً فإنه ماء عذب طيب» (1).

فإنّ ماء الدجال هو المغريات والمصالح الشخصية التي تتضمنها الحضارة المادية لمن تابعها وتعاون معها. وناره عبارة عن المصاعب والمتاعب والتضحيات الجسام التي يعانيها الفرد المؤمن الواقف بوجه تيار المادية الجارف، وتلك المصالح هي النار أو الظلم الحقيقي، وهذه المصاعب هي الماء العذب أو العدل الحقيقي. ومن الطبيعي أنّ النبي(صلّي الله عليه وآله ) بصفته الداعية الأكبر للأيمان الإلهي، ينصح المسلم بأن لا ينخدع بماء الدجال وبهارج الحضارة ومزالق المادية، وأن يلقي بنفسه فيما يراه ناراً ومصاعب، فإنه ينال بذلك طريق الحق والعدل.

ونستطيع في هذا الصدد أن نفهم: أنّ نفس سياق الحديث ولهجته دال عليٰ ذلك، فإنّ قوله: « فأمّا الذي يراه الناس ماء فنار تحرق، وأمّا الذي يراه الناس ناراً فماء بارد

ص: 143


1- صحيح مسلم: ج 8، ص 196.

عذب» (1). يكاد يكون أيضاً واضحاً في أنه ليس المراد به الماء والنار عليٰ وجه الحقيقة، بل هو ماء ونار عليٰ وجه الرمز. وإلّا لزم نسبة المعجزات إليٰ المبطلين، وقد برهنا عليٰ فساده.

ومن طريف ما نستطيع أن نلاحظه في المقام: أنّ النبي(صلّي الله عليه وآله ) لم يقل في الخبر: أنّ الناس جميعاً حين يقعون في الماء فإنهم يجدونه ناراً أو حين يقعون في النار، يجدونها ماء. بل يمكن أن نفهم أنّ بعض الناس وهم المؤمنون خاصة هم الذين يجدون ذلك. وإلّا فإن أكثر الناس حين يقعون في ماء الدجال أو بهارج المادية لا يجدون إلّا اللذة وتوفير المصلحة، كما أنّهم حين يقعون في المصاعب والمتاعب لا يجدون إلّا الضيق والكمد.

والدجال أعور، نعم بكل تأكيد، من حيث إنّ الحضارة المادية تنظر إليٰ الكون بعين واحدة، تنظر إلي مادته دون الروح والخلق الرفيع والمثل العليا. ومن يكون الأعور إلّا غير المدرك للحقائق رباً صالحاً للولاية عليٰ البشرية.. وإنما تكون الولاية خاصة بمن ينظر إليٰ الكون بعينين سليمتين، بما فيه من مادة وروح ويعطي لكل زاوية حقها الأصيل « وإنّ ربكم ليس بأعور »(2).

والدجال كافر، لأنه مادي ومن أعداء الإسلام وأبعدهم عن الحق والصواب. « مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب» (3) فإنّ هذه الكتابة ليست من جنس الكتابة، وإنما هي تعبر عن معرفة المؤمنين بكفر المنحرفين ونفاقهم، وهذا لا يتوقف عليٰ كون الإنسان قارئاً وكاتباً أو لم يكن. ومن المعلوم اختصاص! هذه المعرفة بالمؤمنين يقرؤه كل مؤمن «لأنهم يعرفون الميزان

ص: 144


1- صحيح مسلم: ج 8، ص 196.
2- صحيح مسلم: ج 8، ص 195.
3- صحيح مسلم: ج 8، ص 195.

الحقيقي العادل لتقيم الناس. وأمّا المنحرفون، فهم لا يقرأون هذه الكتابة، وإن كانوا عليٰ درجة كبيرة من الثقافة. لأنهم مماثلون لغيرهم في الكفر والانحراف. ومن الطبيعي أن لا يريٰ الفرد أخاه في العقيدة كافراً.

ومن أجل هذا كله حذر النبي(صلّي الله عليه وآله ) منه أمته واستعاذ من فتنته، لأجل أن يأخذ المسلمون حذرهم عليٰ مديٰ التاريخ من النفاق والانحراف والمادية. بل قد حذر كل الأنبياء أممهم من فتنة الدجال. لما سبق أنّ فهمنا أنّ المادية السابقةعليٰ الظهور هي من أعقد وأعمق الماديات عليٰ مديٰ التاريخ البشري « ما بين خلق آدم إليٰ يوم القيامة» (1) وتشكل خطراً حقيقياً عليٰ كل الدعوات المخلصة للأنبياء أجمعين.

وهو بالرغم من ذلك كله « أهون عليٰ الله من ذلك» (2) باعتباره حقيراً أمام الحق والعدل. مهما كانت هيمنته الدنيوية وسعة سلطته. وليس وجوده قدراً قهرياً أو أثراً تكوينياً اضطرارياً، وإنما وجد من أجل التمحيص والاختبار، بالتخطيط الإلهي العام، وسوف يزول، عندما يقتضي هذا التخطيط زواله، عند الظهور، وتطبيق يوم العدل الموعود.

ومن هنا نفهم أنه لا تعارض بين الخبر الدال عليٰ أنّ معه جبل خبز ونهر ماء، والخبر الدال عليٰ أنه أهون عليٰ الله من ذلك. فإنّ هو أنه عند الله لا ينافي حصوله عليٰ السلطة والإغراء، آخذاً بقانون التمحيص والإمهال الإلهي طبقاً لقوله تعالي:

«حَتَّي إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » (3). فهذه هي الفكرة العامة الرمزية عن الدجال.

ص: 145


1- صحيح مسلم: ج 8، ص 1360.
2- البخاري: ج 9، ص 74.
3- يونس 24.

وأمِا السفياني، فهو يمثل خط الانحراف في داخل المعسكر الإسلامي، أو الفكرة الإسلامية العامة. يندرج في ذلك كل الحركات والعقائد الخاطئة التي تدعي الانتساب إليٰ الإسلام، مما كان أو يكون إليٰ يوم الظهور الموعود.

ومن هنا اعتبر أبو طاهر القرمطي، في بعض الروايات: السفياني الأول، والسفياني الموعود هو الثاني. مع أنّ هذا القرمطي لا ينتسب إليٰ أبي سفيان بحال. وإنما صفته الأساسية هو أنه قائد لحركة كبيرة من حركات الانحراف في المجتمع الإسلامي. اذن فهو ينتسب إليٰ أبي سفيان عقيدة وإن لم ينتسب نسباً.

وفي الإمكان معرفة اتجاهه الفكري والعسكري، مستتجا مما نسب إليه في الأخبار من الأفعال والمشاغبات في المجتمع المسلم. يكون آخرها إرساله الجيش ضد الجماعة الممثلين للحق المستجيرين بالبيت الحرام في مكة. وحينما يصل جيشه إليٰ البيداء يخسف بهم أجمعين، لا ينجو منهم إلّا المخبر.. حفظاً لحرمة البيت الحرام من ناحية، وحفظاً للجماعة الممحصين الذين يجب أن يقوموا بمهام اليوم الموعود. ولعل المهدي (عليه السّلام) نفسه يكون من بينهم يومئذ.

وهذه الحركة بالذات تقوم بها بعض السلطات المنحرفة في المجتمع المسلم، فهي أوضح أشكال الفكرة العامة للسفياني، بالشكل الذي فهمناها.

وخروج السفياني من الوادي اليابس، محمول عليٰ المستوي الفكري الذي يتصف به، فإنه ينطلق فكرياً عن أيديولوجية ممحلة وضحلة وجافة. بمعنيٰ أنها تتجافيٰ الحق وتقوم عليٰ الفهم الخاطيء.

وعليٰ أي حال، فكل من الدجال والسفياني، طبقاً لهذا الفهم، مما قد حدث في التاريخ فعلا، وليس أمراً منتظراً. نعم، لم تصل حركة السفياني إليٰ نتائجه النهائية التي هي الخسف.

ص: 146

المستويٰ الثاني: ما يكون عليٰ مستويٰ مكافحة الانحراف وجهاده ومحاولة تقويم
اشارة

يندرج في ذلك ما حدث في التاريخ، كالثورات التي كانت تحصل في زمن الأمويين والعباسيين. وهي تعرف بمراجعة التاريخ العام ولسنا الآن بصددتحليلها.

وإنما المهم محاولة فهم ما لم يحدث من ذلك. وهو أمران، بحسب ما حددته الروايات:

الأمر الأول:

خروج اليماني الذي رايته ودعوته قائمة عليٰ الحق، إن ثبت ذلك بالتشدد السندي الذي تسير عليه.

وحينئذ، فأمّا أن نحمله عليٰ المعني النوعي الرمزي أو نحمله عليٰ المعني الشخصي الصريح.

فإن حملناه عليٰ المعني الشخصي، بمعني وجود شخص معين مناصر للحق منصف بهذه الصفات.. فهو مما لم يعهد حدوثه في التاريخ، فيكون منتظراً. وهذا هو الأقرب إلي ظاهر التعبير، وخاصة مع اتصافه بكونه يمنياً.

وإن حملناه عليٰ المعني النوعي الرمزي الدال عليٰ وجود حركات وثورات محقة في عصر الفتن والانحراف، تدعو إليٰ الحق وتلتزم به، وهذا مما حدث في التاريخ بكثرة.. منها الثورات الداعية إليٰ الرضا من آل محمد (صلّي الله عليه وآله ) في عصر الخلافة. ولعله يوجد في مستقبل الزمان حركات أخريٰ بشكل وآخر، تحدث فتزعزع الانحراف، ونثبت معنيٰ البطولة والصمود في سبيل الحق.

ص: 147

وهذا يندرج في الحقيقة، تحت معني التمحيص الاختياري الذي سبق أن عرفناه، وهو المتضمن للإعلاء الإرادي إلي درجة الإخلاص والصبر في نفس الفرد والمجتمع. والثار للحق دائماً يكون علي هذا المستويٰ الرفيع.

الأمر الثاني:

مقتل النفسي الزكية. فإنه أحد الثائرين في وجه الظلم والانحراف والطغيان..ولا تكون ثورته ناجحة، بل يكون ذلك سبباً لمقتله. وقد جعل مقتله علامة للظهور باعتبار أهميته وعمق فكرته.

سواء كان مما حدث فعلاً، كما رجحناه، أو مما لم يحدث، كما هو مقتضيٰ الفهم الكلاسيكي الذي تعضده بعض الروايات التي أخرجها في البحار، كما سمعنا.

فإن كان مما حدث فيما سبق، فقد عرفنا أنه هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وأنه أحد الثائرين بوجه الدولة العباسية في عصورها الأولي.

وإن كان مما لم يحدث، فيكفينا مجرد التنبوء بمقتله وأهميته لنعرف أنّه مقتول بين الظالمين المنحرفين لا محالة. عليٰ أنّ مكان مقتله، وهو ما بين الركن والمقام بدلنا عليٰ أهمية مقتله وخطورته بنظر قاتليه والمعتدين عليه، حيث لا يكون بإمكانهم القبض عليه أو تأجيله أو إخراجه من المسجد الحرام، بل يكون من مصلحتهم استعجال قتله هناك، وهتك الحرمة الإسلامية الكبريٰ لذلك المسجد المقدس. وما ذلك إلّا لعمق دعوته وصراحتها في الحق، ومجافاتها لمسالك الظلم والانحراف.

ص: 148

المستوي الثالث: ما كان عليٰ مستويٰ التنبيه الإلهي الإعجازي عليٰ خطورة الانحراف وقرب الظهور

وأهم ما يندرج في ذلك: الصيحة والنداء باسم المهدي(عليه السّلام) وكسوف الشمس في وسط الشهر وخسوف القمر في آخره. وهي وإن كان بالإمكان حملها علي الرمز، إلّا انه بعيد. والمعتقد أن الدلالة عليها صريحة غير رمزية. وقد سبق أن عرفنا مالها من التأثير في تنبيه المؤمنين الممحصين عليٰ قرب الظهور،ولزوم المبادرة إليٰ نصرة الإمام المهدي(عليه السّلام) .

وأمّا المعجزات الأخريٰ المروية، فليست عليٰ هذا المستويٰ الثالث: أمّا النار التي تخرج من الحجاز تضيء لها أعناق الإبل في بصريٰ، فقد حملناها عليٰ ظهور المهدي(عليه السّلام) نفسه. ومعه لا معنيٰ لإدراجها في العلامات.

وأمّا النار التي تخرج من قعر عدن أو من اليمن، تسوق الناس إليٰ المحشر، فهي عليٰ تقدير ثبوتها بعد التشدد السندي، من علامات القيامة المتأخرة عن الظهور، لا من علامات الظهور نفسه. وكذلك خروج الشمس من مغربها، إلّا إذا حملنا ذلك عليٰ الرمز إليٰ ظهور المهدي (عليه السّلام) نفسه، كما سبق أن حاولنا أن نفهمه. عليٰ كلا التقديرين، فهو ليس من علامات الظهور.

وأمّا انحسار الفرات عن كنز من ذهب، فقد تكلمنا عنه، وعرفنا كونه أمراً طبيعياً غير إعجازي.

وأمّا رجوع الأموات إليٰ الدنيا أو وقوع المسخ، وظهور وجه وصدر في

ص: 149

الشمس(1) وغيرها مما ذكرناه أو مما لم نذكره، فلم يثبت شيء منها بالتشدد السندي، ومعه لا حاجة إلي محاولة حملها عليٰ المعنيٰ الرمزي، وإن كان ذلك في بعضها ممكناً.

ص: 150


1- الإرشاد ، ص 337.

الباب الثاني: ويحتوي علي العلامات التي ذكرت في كتاب تاريخ ما بعد الظهور

اشارة

ص: 151

ص: 152

الفصل الأول: الظواهر الطبيعية والسماوية

اشارة

الفصل الأول: الظواهر الطبيعية والسماوية (1)

ونريد بها الحوادث المنقول حدوثها في الطبيعة، وإن كانت صفتها إعجازية. والمنقول منها أُمور عديدة. ونحن نقتصر - اختصاراً للكلام وتمحيصاً للروايات - عليٰ ما كانت متصفاً بشرائط ثلاث:

الشرط الأول: عقدنا من أجله هذا الباب، وهو خصوص الحوادث القريبة من الظهور، بحسب أدلتها دون البعيد منها.

الشرط الثاني: أن تكون الحادثة مما يمكن إثباته، بحسب المنهج الذي اتخذناه مع محاولة تجنب ما لا يمكن إثباته.

الشرط الثالث: أن يكون مما ورد ارتباطه في الأخبار نفسها بظهور الإمام المهدي(عليه السّلام) . وبهذا تختص هذه الحوادث بالمصادر الخاصة الإمامية، وليس في المصادر العامة منها إلّا النادر.

وما يبقيٰ مندرج تحت هذه الشروط، من الحوادث، عدة أُمور، نذكر كلا منها :

ص: 153


1- تاريخ ما بعد الظهور من ص 117 إليٰ ص 138 ط دار الفقه للطباعة والنشر.
الخسوف والكسوف:
اشارة

ويراد به حدوثهما بشكل يختلف عن الشكل الاعتيادي له. فبدلاً عن أن يحدث الكسوف في أول الشهر والخسوف في وسطه، كما هو المعتاد، فإن حدوثهما. سوف يكون بالعكس، فيحدث الكسوف في وسط الشهر والخسوف في أوله.. بشكل لم يسبق له نظير منذ أول البشرية إليٰ حين حدوثه.

وهذا ما تعرب عنه عدد من الروايات، ذكرنا ثلاثاً منها في القسم الأول عن الشيخ الطوسي والشيخ المفيد والشيخ النعماني. وأخرج الشيخ الطوسي في (الغيبة)(1)

أيضاً بسنده عن بدر الأزدي، قال:

قال أبو جعفر الإمام الباقر (عليه السّلام) آيتان تكونان قبل القائم لم تكونا منذ هبط آدم (عليه السّلام) إليٰ الأرض. تنكسف الشمس في النصف من شهر رمضان والقمر في آخر.. فقال رجل: يا بن رسول الله، تنكسف الشمس في آخر الشهر والقمر في النصف. فقال أبو جعفر: إني لأعلم بما تقول ولكنهما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم (عليه السّلام).

وأخرج السيوطي في العرف الوردي (2) عن الدارقطني في سننه عن محمد بن علي الإمام الباقر (عليه السّلام)، قال:

إنّ لمهدينا آيتين لم تكونا منذ خلق الله السموات والأرض: ينكسف القمرلأول ليلة من رمضان، وتنكسف الشمس في النصف منه. ولم يكونا منذ خلق الله السماوات والأرض.

وفيما روينا هناك ما يدل عيل أن انكساف القمر يكون في الخامس والعشرين

ص: 154


1- ص 270.
2- الحاوي للفتاوي: ج 2 ص 136.

من رمضان. وأما انكساف الشمس فهو في ثلاث عشرة أو أربع أو خمس عشرة منه. ويدل سياق هذه الرواية وأكثر من رواية أُخري علي قرب هذه العلامة من قيام القائم أعني ظهور المهدي (عليه السّلام).

وهذا العدد من الروايات يكفي للاثبات التاريخي حتيٰ مع (التشدد السندي) الذي سرنا عليه في السابق وطبقناه هنا عليٰ الروايات الناقلة للمعجزات.

وقد أشرنا هناك إلي المبرر الذي دعا إلي إيجاد هاتين الواقعتين في التخطيط الإلهي لما قبل الظهور. وهو - باختصار - : ترسيخ فكرة المهدي (عليه السّلام) عند حدوث هذه العلامة، أولاً. والايعاز إليٰ المخلصين من الخاصة إليٰ قرب الظهور ثانياً.

يبقيٰ علينا الآن أن نتكلم عن المبرر الكوني لوجودها. وهل هو بطريق إعجازي أو طبيعي. وإذا كان طبيعياً فكيف يحصل.. وهذا ما لم نفض فيه الحديث في السابق.

إن لحدوث هذه الوقائع عدة أُطروحات لابد من استعراضها ونقدها:

الأطروحة الأوليٰ:

حصول الكسوف والخسوف بسبه (العلمي) الاعتيادي لكن مع اختلاف بسيط هو الاختلاف في الزمان. فإذا ثبت في العلم الحديث أن الكسوف يحصل بتوسط القمر بين الأرض والشمس. وأن الخسوف يحصل، بتوسط الأرض بين الشمس والقمر، أمكن حصول ذلك في زمان آخر جديد.

وهذه الأطروحة هي الأوفق بالظاهر الأولي من الروايات، لو فرض الالتزام بكون هذه الحوادث طبيعية غير إعجازية.

إلّا أنها واضحة المناقشة طبقاً للنظرية العلمية الحديثة، ومن ثم لابد من التنازل عن هذا الظهور الأولي للروايات.

ص: 155

فإن القمر - وهو يستمد نوره من الشمس، والنور يسير بخطوط مستقيمة لا يمكن أن تنعطف انعطافاً كبيراً - أن القمر لا يمكن أن يكسف الشمس حال كونه بدراً في وسط الشهر، لأن انكساف الشمس به، يلازم بالضرورة كون الوجه المظلم من القمر متوجهاً إلي الأرض، وهذا ينافي بالضرورة، كونه بدراً.

كما أن خسوف القمر لا يكون إلّا بوقوع ظل الأرض عليٰ القمر، بعد توسطها بينه وبين الشمس. وهذا معناه: أنّ الأرض أقرب إليٰ الشمس من القمر. وهذا لا يحدث إلّا في وسط الشهر حين يكون القمر بدراً.

ولا يمكن دفع هذه المناقشة، إلّا بالطعن بالنظرية العلمية، انطلاقاً من زاوية أن النظريات العلمية مهما تأكدت، فإنها قائمة عليٰ الحساب الظني، وإن كان راجحاً ولا تنتج يقيناً تاماً بأي حال. وهذا موكول إلي وجدان القاريء.

الأطروحة الثانية:

أن تكون رؤية الكسوف والخسوف في غير الأرض بل في مناطق أو كواكب أخريٰ من المجموعة الشمسية.

أما بالنسبة إليٰ كسوف الشمس، فقد حدث فعلاً عام (1391 ه. 1971 م) حين كان بعض رواد الفضاء عليٰ القمر، فشاهدوا الشمس مكسوفة كسوفاً كلياً بتوسط الأرض بينهم وبينها. وهذا التوسط لا يحدث عادة - إلّا في وسط الشهر.

وأما الخسوف فلم يحدث إليٰ حد الآن، لكن في الإمكان تصور حدوثه فيما إذا انتقل بعض أفراد الإنسان إليٰ كوكب آخر من المجموعة الشمسية كالمريخ أو الزهرة، فإنه قد تصبح الأرض ما بين القمر وذلك الكوكب. فيحدث الخسوف في نظرهم. ومن الواضح: أن هذا غير مشروط بحدوثه في وسط الشهرالقمري، بل قد يحدث في أوله أو آخره أيضاً.

ص: 156

ويمكن المناقشة في هذه الأطروحة من أكثر من جهة:

أولاً: أن الظهور الأولي للروايات يقتضي حدوث الكسوف والخسوف بالنسبة إليٰ ساكني الأرض، لا بالنسبة إلي من في القمر أو المريخ.

غير أنه يمكن الاستغناء عن هذا الظهور، من زاوية أن ظهورها في أن الإنسان هو الذي يريٰ هاتين الواقعتين، وهو أمر لا يختلف فيه الحال بين الأرض والقمر والمريخ، ما دام الإنسان هو المشاهد.

ثانياً: أن الظهور الأولي للروايات يقتضي حدوث هاتين العلامتين في شهر واحد، هو شهر رمضان، وهذا مما لم يتحقق في الخارج.

ثالثاً: أن الظهور الواضح لهذه الروايات - كما قلنا - يقتضي قرب هذه الوقائع إليٰ اليوم الموعود، فإذا كان قد حدث أحد الأمرين، إذن فهو لم يحدث قريباً من اليوم الموعود.

الأطروحة الثالثة:

أن يحدث الكسوف والخسوف بتوسط جرم آخر طاريء في الفضاء صدفة، من الأجرام التي تعتبر علمياً تائهة في الفضاء، أو ذات مدار ضخم جداً وغير محدد. فيحجب القمر عن الشمس، فيحدث الخسوف، أو يحجب الشمس عن الأرض في وسط الشهر، فيحدث الكسوف. ومن الواضح أن مرور الجرم الطاريء غير محدد بزمان معين من الشهر.

وقد يؤيد ذلك بقوله في أكثر من رواية أنهما آيتان لم تحدثا منذ هبط آدم (عليه السّلام) . فلعل جرماً ما قد أوجد هذه الظاهرة قبل وجود البشرية. ثم يكون وقت مروره بالمجموعة الشمسية منوطاً بتاريخ معين يصادف قبل ظهور المهدي بقليل.

وهذه الأطروحة لا ترد عليها المناقشة الأولي للأطروحة السابقة، لفرض أنها

ص: 157

تريٰ من الأرض.

وأما المناقشة الثانية: فمن حيث حصول الواقعتين في شهر واحد، أمر لا غبار عليه، إذا التفتنا إليٰ أن جرماً واحداً هو الذي يعمل كلا العملين. فإن المذنب وأمثاله إذا ظهر قريباً من الأرض لا يختفي عادة لليلة واحدة، بل يبقيٰ مدة من الزمن حتيٰ ينتهي عبوره فضاء المجموعة الشمسية، فيمكن أن يحدث خلال وجوده كلا هذين الأمرين.

وأما حدوث ذلك في شهر رمضان دون غيره، فهذا عليٰ تقدير ثبوته، لابد من إيكال علمه إليٰ أهله. وسيأتي ما يوضحه فيما يلي.

الأطروحة الرابعة:
اشارة

أن يحدث الكسوف والخسوف بتوسط جرم آخر طاريء، ولكنه من الأجرام المنطلقة من الأرض لبعض الأغراض العلمية أو الحربية. إذ لعل البشرية تتطور حتيٰ تصل إليٰ المستويٰ الذي يؤهلها لإطلاق الأجرام الضخمة المنتجة لمثل هذه النتائج الكبيرة.

وقد ورد في الذهن: أنه إذا كان ذلك بفعل البشر، فكيف يكون ذلك علامة عليٰ اليوم الموعود؟

وجوابه من عدة وجوه

أولاً: لعل البشر يطلقون الجرم لا لأجل إحداث الكسوف والخسوف، بل لغرض آخر، فيترتب عليه من حيث لا يعلمون، فإذا كان من الضروري أن تكون العلامة قهرية الوقوع، فهذه بمنزلة العلامة القهرية.

ثانياً : أن البشر حتيٰ لو كانوا ملتفتين إليٰ إمكان حدوث الكسوف والخسوف من إطلاق الجرم، إلّا أن الذين يطلقونها لا يحملون عن المهدي (عليه السّلام) وعلامات ظهوره

ص: 158

أية فكرة، فتكون هذه العملية بالنسبة إلي فكرة علامينها كالقهرية.

ثالثاً: أن البشر الذين يطلقون الجرم حتي لو التفتوا إليٰ فكرة العلامية، إلّا أنهم لا يمكن أن يطلقونه إلا بعد بلوغهم مستويٰ (مدنياً) معيناً، فمن الممكن أن تكون العلامة في الواقع هو هذا المستويٰ المدني العلمي وإنما ذكرت الروايات وجود الكسوف والخسوف للإشارة إليه، بشكل لا ينافي المستويٰ الفكري العام لعصر صدور الأخبار.

وأما ورود المناقشات التي أوردناها علي الأطروحة الثانية، فهو غير مهم، كما هو واضح لمن يفكر. سويٰ حصول ذلك في شهر رمضان وهو ما سيأتي إيضاحه.

وقد يخطر في الذهن: أن الروايات دالة عليٰ حدوث هاتين الواقعتين قبل وجود البشرية، فكيف ينسجم ذلك مع هذه الأطروحة؟

وجوابه واضح: من زاوية أن الروايات لم تدل عليٰ أكثر من عدم حصوله خلال عمر البشرية (منذ هبط آدم (عليه السّلام)). وأما حصوله قبل ذلك، فليس لها ظهور تام في ذلك، وإن كانت مشعرة به قليلاً. ويمكن الاستغناء عن هذا الإشعار مع تأكد هذه الأطروحة.

فهذه جملة من الأطروحات الطبيعية أعني حدوث هاتين العلامتين بشكل غير خارق لنظام الطبيعة، وهناك بعض الأطروحات الأخريٰ منها ما هو مبننٍ عليٰ النظرية النسبية، لاحاجة إليٰ التطويل بذكرها.

ويرد عليٰ هذه الأطروحة إشكال مشترك هو ما أشرنا إليه من التوقيت سواء منه التوقيت بشهر رمضان أو بقرب الظهور. فإنّهما معاً قد يستشكل بعدم اسنجامهما مع الحدوث الطبيعي لهاتين الواقعتين بأي أَطروحة كان.

ويمكن الجواب عليٰ هذا الإيراد من أكثر من وجه واحد، نذكر منها ما يلي:

الوجه الأول: الطعن بصحة هذا التوقيت. والالتزام بأن أقصيٰ مايثبت هو وجود

ص: 159

هاتين الواقعتين في غير أوانهما الطبيعي من الشهر، فإن هذا المعنيٰ تسالمت عليه الروايات، وأما غير ذلك من الصفات فهو مما استقلت به البعض دون البعض، فلا يكون له الاثبات التاريخي الكافي، فلا يكون هذا الإشكال المشترك وارداً.

إلّا أن هذا الوجه لا يتم في بعض الصفات الأساسية كحدوث الواقعتين قرب الظهور... وإن صح الاستغناء عن بعض الصفات الأخريٰ.

الوجه الثاني: أننا إذا سلّمنا بثبوت التوقيت، لم يبق من إشكال إلّا في أصل جعلها علامة عليٰ الظهور، مع أنها حوادث مستقبلة، وهي مما لا يمكن الاطلاع عليها من قبل أحد. وهذا ما سبق أن ناقشناه في السابق، ومع ارتفاعه وتسليم إمكان التنبؤ بالمستقبل من قبل قادة الإسلام المعصومين(عليهم السّلام) ، وتسليم ثبوت هذه الصفات - كما قلنا .. لا يبقيٰ لهذا الإشكال مجال.

الأطروحة الخامسة:
اشارة

أن يحدث هذا الكسوف والخسوف عليٰ نحو الإعجاز، بخرق نواميس الطبيعة. وقد تؤيد هذه الأطروحة ببعض القرائن المؤيدة:

القرينة الأوليٰ: قوله في أكثر من رواية: أنهما آيتان لم تحدثا منذ أن هبط آدم (عليه السّلام) إليٰ الأرض. إذ لو كانت هذه الحوادث طبيعية لحدثت خلال وجود البشرية أكثر من مرة.

إلّا أن هذه القرينة لا تتم مع ثبوت إحديٰ الأطروحتين الأخيرتين بل مع مجرد احتمالهما، فإنهما يعطيان التبرير (الطبيعي) لعدم حدوث هذه الوقائع خلال عمرالبشرية، فلا ينحر أن يكون هذا إعجازياً.

القرينة الثانية: أن إعجازية هذه الوقائع هي المناسبة مع جعلها علامة للظهور ومنبهة للمخلصين الممحصين، وأما مع وجودها وجوداً طبيعياً، فتضعف فكرة

ص: 160

جعلها علامة إلي حد كبير.

وهذه القرينة أيضاً قاصرة، لأنها تتضمن غفلة عن معنيٰ جعل العلامة، الذي سبق أن ذكرناه في السابق، وعرفنا هناك أن السر الأساسي فيه ليس منطلقاً من الإعجاز، بل من الإخار نفسه، حيث يختار قادة الإسلام (عليه السّلام) شيئاً مهماً ملفتاً للنظر فيخبرون به مرتبطاً بالظهور، حتيٰ ما إذا وقعت الحادثة ثبت عند الجيل المعاصر لها صدق الإخبار عنها بالوجدان فيثبت بالوجدان أيضاً صدق ما ارتبط بها في الرواية، وهو أصل الظهور إن كانت علامة مطلقة، أو قربه إن كانت علامة قريبة.

وأضفنا هناك، ومن هنا لا معنيٰ لكون بعض هذه الحوادث علامة، إلّا إذا ورد في الروايات ذكره، وجعل منها علامة عليٰ الظهور.

أقول: فالأساس في ذلك هو الإخبار لا الإعجاز، وما دام الإخبار موجوداً وكافياً للاثبات التاريخي، لا يكون حدوثها (الطبيعي) مخلاً بفكرة جعلها علامة.

هذا وينبغي الالماع إليٰ أن في هذه الأطروحة الاعجازية، نقطة ضعف ونقطة قوة، بالنسبة إليٰ (قانون المعجزات)، فهي موافقة له من زاوية كون هذه الوقائع واقعة في طريق الهداية، كما أسلفنا في السابق، وهذه نقطة قوته. ولكنها مخالفة له باعتبار عدم انحصار طريق الهداية بها، ولا أقل من الشك في ذلك، ومعه لا تكون موافقة مع هذا القانون من جميع جهاته فلا تكون صحيحة. فإذا انحصر الأمر بالأطروحة الإعجازية، كان اللازم رفض الأخبار الدالة عليها، إلّا أننا عرفنا عدم الانحصار بها، ومعه يتعين رفض هذه الأطروحة والحفاظ عليٰ الأخبار مع حملها عليٰ إحديٰ الأطروحات الطبيعية.

ص: 161

الفزعة والصيحة:
اشارة

وهما أيضاً من الحوادث المنقولة في الأخبار، وإنما دمجناهما في عنوان واحد، لاحتمال أن يكون المراد بهما شيء واحد، عليٰ ما سوف نشير.

أخرج الصدوق (1) بإسناده إليٰ محمد بن مسلم عن أبي جعفر محمد بن علي

الباقر (عليه السّلام) في حديث، قال فيه:

«ومن علامات خروجه(عليه السّلام) .. وصيحة من السماء في شهر رمضان ».

وأخرج أيضاً عن الحرث بن المغيرة، عن أبي عبد الله(عليه السّلام) :

«الصيحة التي في شهر رمضان تكون ليلة الجمعة لثلاث وعشرين مضين من شهر رمضان» .

وأخرج عن عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول: « قبل قيام القائم خمس علامات محتومات.. وعد منها: الصيحة ».

ونحوه أخرج النعماني في (الغيبة)(2) إلّا أنه قال: « والصيحة في السماء ».

وأخرج النعماني أيضاً (3) عن داود الدجاجي، عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السّلام) قال:

«سئل أمير المؤمنين (عليه السّلام) عن قوله تعالي: «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ » . فقال: انتظروا الفرج من ثلاث! فقيل يا أمير المؤمنين، وما هن؟!.. فقال.. والفزعة في شهر رمضان. فقيل: وما الفزعة في شهر رمضان؟ فقال: أو ما سمعتم قول الله عزوجل في القرآن: « «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ »، هي آية تخرج الفتاة من خدرها توقظ النائم ويفزع اليقظان ».

ص: 162


1- أنظر إكمال الدين للصدوق (نسخة مخطوطة).
2- ص 133.
3- نفس الصفحة.

وأخرج أيضاً (1) عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في حديث قال: «وفزعة في شهر رمضان توقظ النائم وتفزع اليقظان، و تخرج الفتاة من خدرها»

وفي حديث آخر: عن أبي بصير عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السّلام) ، في حديث أنه قال:

«الصيحة لا تكون إلّا في شهر رمضان شهر الله - وهي صيحة . جبرئيل إليٰ هذا الخلق. ثم يقول - بعد حديث طويل - إذا اختلف بنو فلان فيما بينهم، فعند ذلك فانتظروا الفرج، وليس فرجكم إلّا في اختلاف بني فلان. فإذا اختلفوا فتوقعوا الصيحة في شهر رمضان وخروج القائم، إنّ الله يفعل ما يشاء » الخبر.

ولعل من أهل ما دل عليٰ وقوع الصيحة من الأخبار، ما ورد في الخطاب الذي أخرجه السفير الرابع عن الإمام المهدي(عليه السّلام) ، والذي أعلن فيه المهدي (عليه السّلام) انتهاء السفارة بموت هذا السفير، يقول فيه:

«ألا فمن ادّعيٰ المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كذاب مفتر» (2).

وأخرج القندوزي في ينابيع المودة بعض هذه الأخبار.

ونستطيع أن نعطي لفهم هذه الصيحة، عدة أُطروحات، لنريٰ ما يصح منها وما لا يصح:

الأطروحة الأوليٰ:

أن الصيحة والفزعة بمعنيٰ واحد، ويراد بهما صوت عظيم يكون في السماء، يوقظ النائم ويفزع اليقظان، ويخرج الفتاة من خدرها خوفاً وفزعاً. ومن هنا سميت

ص: 163


1- أنظر غيبة النعماني ص 134 وكذلك الحديث الذي يليه.
2- انظر الاحتجاج للطبرسي ط النجف ج 2 ص 297، وانظر تاريخ الغيبة الصغريٰ ص 133 وما بعدها.

بالفزعة، ويكون الصوت حادثاً بالمعجزة، ولا يكون له مدلول كمداليل الكلام. وإنما هو صوت كالرعد أو الهدة العظيمة.

إلّا أن هذا مما لا يكاد يصح، فإن أهم ما ينافيه في الروايات، قوله: وهي صيحة جبرئيل إليٰ هذا الخلق. فإن صيحته تكون - لا محالة - ذات معنيٰ كمعاني الكلام، لا أنها مجرد صيحة صامتة. وسيأتي ما يدل عليٰ ذلك في أخبار النداء).

الأطروحة الثانية:

أن المراد بالصيحة هو النداء الآتي ذكره، وهو نداء جبرئيل عليٰ ما سنسمعه من الأخبار. وفي التعبير بأنها صيحة جبرئيل، ما يؤيد ذلك.

ويكون السبب في هذا الصوت شيء من قبيل المعجزة، فإن سببه صادر من فوق الطبيعة المادية، لأنه صوت أحد الملائكة الكرام كما سمعنا من الأخبار.

وعليٰ أي من هاتين الأطروحتين، يكون الصوت إعجازياً حادثاً من أجل مصالح معينة، أهمها ما أشرنا إليه من التنبيه عليٰ قرب الظهور، من أجل إيجاد الاستعداد النفسي لديٰ المخلصين والمسلمين لاستقباله.

الأطروحة الثالثة:

أن يكون المراد بالصيحة والفزعة معان طبيعية غير إعجازية فالفزعة تعبير عن وجود رعب عام لسبب من الأسباب كتوقع حرب أو وباء مثلاً، ويكون المراد بالصيحة صوت عظيم صادر من بعض القنابل أو الصواريخ، أو من اختراق إحديٰ الطائرات حاجز الصوت، أو انفجار بعض المستودعات.. ونحو ذلك.

غير أن الأطروحة بعيدة للغاية عن مداليل هذه الأخبار وسياقها العام، وخاصة مع الاستدلال بقوله تعاليٰ: « «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا

ص: 164

خَاضِعِينَ »(1).

وقد استدل بهذه الآية عليٰ الفزعة، كما سبق أن سمعنا، وعليٰ الصيحة، فيما رواه الصافي في منتخب الأثر(2) والقندوزي في الينابيع (3) عن أبي عبد الله(عليه السّلام) ، وقال في آخره: فتلوت هذه الآية أي قوله تعاليٰ: «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً »... الآية، فقلت: أهي الصيحة؟ قال: نعم، لو كانت الصيحة خضعت أعناق أعداء الله عزوجل.

وإنما تخضع أعناق أعداء الله عزوجل نتيجة لحادث كوني كبير غير معهود، فيه عنصر إعجازي، لا لحادث بسيط كصوت صاروخ أو طائرة.

ولعل في تفسير الآية تارة بالصيحة وأخريٰ بالفزعة، ما يوحي بالأطروحة الأوليٰ، أو أن تكون الفزعة بمعنيٰ الصيحة، فإنّهما آية واحدة تخضع لها أعناق أعداء الله سبحانه، ويكون ذلك مطابقاً للأطروحة الثانية، ويكون الفزع ناشئاً من صوت جبرئيل الأمين، في قلوب أعداء الله... وأما المؤمنين فيكون الصوت بشارة كبريٰ لهم عن قرب الفرج وتوقع الظهور.

ومن أجل هذا يحصل الاهتمام الكبير بهذا الصوت، يستيقظ منه النائم ويفزع اليقظان، وتخرج الفتاة الحيية المخدرة من خدرها، ولا تتحدث عن الفتيات غير المنصفات بالحياء.

هذا، والظاهر من سياق هذه الأخبار، وخاصة مثل قوله: فتوقعوا الصيحة وخروج القائم.... أن تكون الصيحة قبل الظهور بزمن قليل نسبياً. وهو المقصود.

ص: 165


1- الشعراء: 26/ 4.
2- ص 404.
3- ص426.
النداء:
اشارة

والأخبار عن ذلك عليٰ ثلاثة أشكال:

الشكل الأول:

ماكان دالاً علي وجود النداء إجمالاً، وأنه من المحتوم.

أخرج الصدوق (1) بسنده إليٰ ميمون البان عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) قال:

«خمس قبل قيام القائم... وعد منها: المنادي ينادي من السماء» وروي المفيد (2) بسنده عن أبي حمزة الثمالي، قال: «قلت لأبي جعفر(عليه السّلام) :

خروج السفياني من المحتوم؟ قال: نعم، والنداء من المحتوم. الحديث.

وأخرج النعماني (3) بسنده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السّلام) أنه قال:النداء من المحتوم... » الحديث.

الشكل الثاني:

النداء بالحق والباطل، ويكون النداء بالحق أولا، ثم النداء بالباطل. أخرج الصدوق (4) بسنده إليٰ ميمون البان في حديث عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: «ثم قال: ينادي مناد من السماء: أن فلان بن فلان هو الإمام باسمه، وينادي إبليس لعنه الله من الأرض، كما ناديٰ برسول الله (صلّي الله عليه وآله ) ليلة العقبة ».

وأخرج النعماني في الغيبة (5) عن أبي بصير عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السّلام) في حديث طويل، قال فيه: « ينادي مناد من السماء باسم القائم، فيسمع من

ص: 166


1- إكمال الدين (المخطوط).
2- الإرشاد: ص 338 .
3- الغيبة: ص 134.
4- أنظر إكمال الدين المخطوط.
5- ص 134.

بالمشرق ومن بالمغرب، لا يبقيٰ راقد إلّا استيقظ ولا نائم إلّا قعد ولا قاعد إلّا قام عليٰ رجليه فزعاً من ذلك الصوت، فرحم الله عبداً اعتبر بذلك الصوت فأجاب، فإنّ الصوت صوت جبرئيل الروح الأمين » وقال(عليه السّلام) : « الصوت في شهر رمضان في ليلة جمعة، ليلة ثلاث وعشرين، فلا تشكوا في ذلك، واسمعوا وأطيعوا.

وفي آخر النهار صوت إبليس اللعين ينادي: ألا إنّ فلاناً قتل مظلوماً، ليشكك الناس ويفتنهم، فكم ذلك اليوم من شاك متحير، قد هويٰ في النار.

فإذا سمعتم الصوت في شهر رمضان، فلا تشكوا فيه أنه صوت جبرئيل وعلامة ذلك أنه ينادي باسم القائم واسم أبيه(عليه السّلام) ، حتيٰ تسمعه العذراء في خدرها، فتحرض أباها وأخاها عليٰ الخروج.

إليٰ أن قال: فاتبعوا الصوت الأول وإياكم والأخير أن تفتنوا به.. » الحديث.وأخرج السيوطي في العرف الوردي (1) قال: أخرج نعيم عن علي، قال: « إذا ناديٰ مناد من السماء: إنّ الحق في آل محمد، فعند ذلك يظهر المهدي عليٰ أفواه الناس، ويشربون حبه، ولا يكون لهم ذكر غيره» .

وأخرج أيضاً(2) عن نعيم بن حماد أيضاً، عن أبي جعفر، قال: « ينادي منادٍ من السماء: إنّ الحق في آل محمد، بنادي مناد من الأرض: إنّ الحق في آل عيسيٰ - أو قال: العباس شك فيه . وإنما الصوت الأسفل كلمة الشيطان، والصوت الأعليٰ كلمة الله العليا»..

وأخرج القندوزي في الينابيع شيئاً من ذلك.

ص: 167


1- أنظر الحاوي للسيوطي: ج 2، ص 140
2- المصدر ص 151.
الشكل الثالث:
اشارة

النداء باسم القائم(عليه السّلام) بدون أن يكون في الأخبار تعرض إليٰ نداء آخر:

أخرج الصدوق (1) بسنده إليٰ محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر (عليه السّلام) ، في .

حديث، قال: «ومن علاماته خروج السفياني... ومنادٍ ينادي باسمه واسم أبيه ».

وأخرج النعماني (2) بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله(عليه السّلام)، قال: «قلت له: جعلت فداك، متيٰ خروج القائم؟ فقال: يا أبا محمد، إنا أهل بيت لا نوقت... إليٰ أن قال: ولا يخرج القائم حتيٰ يناديٰ باسمه في جوف السماء، في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان، ليلة جمعة، قلت: بم بناديٰ؟ قال: باسمه واسم أبيه، ألا إنّ فلان بن فلان قائم آل محمد، فاسمعوا له وأطيعوه.

فلا يبقيٰ شيء من خلق الله فيه الروح، إلّا سمع الصيحة، فتوقظ النائم ويخرج إلي صحن داره، وتخرج العذراء من خدرها، ويخرج القائم مما يسمع، وهي صيحة جبرئيل (عليه السّلام) ».

وأخرج الشيخ في الغيبة (عليه السّلام) بسنده عن محمد بن مسلم، قال: « ينادي منادٍ من السماء باسم القائم، فيسمع ما بين الشرق إليٰ الغرب، فلا يبقيٰ راقد إلّا قام ولا قائم إلّا قعد ولا قاعد إلّا قام عليٰ رجليه من ذلك الصوت، وهو صوت جبرئيل الروح الأمين ».

وأخرج أيضاً (3) عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله(عليه السّلام) : « إن القائم صلوات الله عليه يناديٰ اسمه ليلة ثلاث وعشرين... » الحديث.

إليٰ غير ذلك من الأخبار .

ص: 168


1- أنظر إكمال الدين المخطوط.
2- أنظر غيبة النعماني: ص 134.
3- الغيبة للطوسي: ص 274.

والمعنيٰ المفهوم من مجموع هذه الأخبار وأخبار الجهة السابقة: أنّ أخبار الصيحة والفزعة وأخبار النداء بأقسامها تشير إليٰ معنيً مشترك وحادثة واحدة، لا اختلاف فيها، وإن تعددت أساليب الأخبار. ولا تعارض بينها في الحقيقة، كما أنها لا تدل عليٰ كثرة النداءات أكثر من صوتين، لو تم القسم الثاني من الأخبار.

وعليٰ ذلك عدة قرائن، من هذه الأخبار نفسها:

منها: أن الصيحة والنداء معاً نسبا إليٰ جبرئيل (عليه السّلام) بشكل مستفيض.

ومنها: أن وقتهما معا في ليلة الجمعة الثالث والعشرين من شهر رمضان.

ومنها: أنها جميعاً تورث الاهتمام الكبير، يستيقظ النائم ويقوم القاعد وتخرج العذراء من خدرها.

ومنها: أن الصيحة والنداء من المحتوم، إليٰ غير ذلك مما لا يخفيٰ عليٰ المتتبع.

وبعد حمل المطلق علي المقيد والمجمل عليٰ المفصل، ما يلي: 1- إنّ المراد من النداء الذي هو من المحتوم هو نداء جبرئيل باسم القائم.

2 - إنّ المراد من النداء بالحق ليس إلّا ذلك.

3 - إنّ صيحة جبرئيل هي هذا النداء أيضاً.

4 - إنّ الآية التي تخضع لها أعناق أعداء الله هو ذلك أيضاً.

5- إنّ الفزعة التي تخرج الفتاة من خدرها هو ذلك أيضاً.

6 - إنّ التوقيت في الثالث عشر من شهر رمضان، توقيته أيضاً.

فإنّ القسم الثالث من أخبار النداء، أعني النداء باسم القائم واسم (أبيه) هي أخص هذه الأخبار جميعاً، بما فيها أخبار الصيحة والفزعة... فتصلح أن تكون مفسرة لها وشارحة لمدلولها. كما ستكون الصفات الأخريٰ المعطاة في تلك الأخبار، صفة للنداء أيضاً، كالتوقيت والحتمية وغيرها.

وإذا تمّ هذا الفهم العام كانت الأخبار الدالة عليٰ هذا المعنيٰ المشترك متواترة بل

ص: 169

تزيد علي التواتر، فإنّ أخبار النداء وحدها مستفيضة، فإذا أضفنا إليها أخبار الفزعة والصيحة كانت متواترة.

كما أن بعض الخصائص المذكورة لها مستفيضة، كحصول الاهتمام المتزايد، والتوقيت الذي عرفناه، وكونها من المحتوم، وكونها صوت جبرئيل الأمين، وأنها تكون بالحق وضد أنصار الباطل.

لا يبقيٰ بعد ذلك مجال للنقد إلّا في مستويين:

المستويٰ الأول:

ما هو محتويٰ النداء؟ هذا ما بيَّتهُ الروايات التي سمعناها عليٰ شكلين:

الشكل الأول: النداء باسم المهدي واسم أبيه.

الشكل الثاني: النداء بأن الحق في آل محمد.

فقد تحصل المعارضة بين هذه الروايات، ويبقيٰ محتويٰ النداء خالياً من الدليل الصالح للاثبات.

والصحيح هو عدم التعارض، باعتبار احديٰ نقاط:

النقطة الأوليٰ: إن افترضنا أنّ كلاً من الندائين ذو دليل كاف لإثباته، إذاً، فينبغي أن نلتزم بوجود نداء واحد يحتوي عليٰ كلا المدلولين، فهو يقول إن الحق في أل محمد وإن إمامكم فلان بن فلان، ولا تنافي بين الأمرين.

النقطة الثانية: أن نفهم أن الشكل الثاني للنداء راجع إلي الشكل الأول منه، وأن الأول عليٰ شكلين، هما نفس الشكلين اللذين أشرنا إليهما، فيكون ما دل عليٰ أن النداء هو من الشكل الأول قرينة علي فهم معين لما دل علي أن النداء هو من الشكل الثاني، وأنه صدر في ظروف معينة.

النقطة الثالثة: أننا لو تنزلنا عن كلا النقطتين السابقتين، وافترضنا حصول التنافي

ص: 170

بين الندائين، للعلم بأن أحدهما غير حاصل، إذاً، يتعين الأخذ بالشكل الأول من النداء، ورفض الشكل الثاني، لوفرة الأخبار الدالة عليٰ أنه ينادي باسمه واسم أبيه، لأن منها ما ورد مستقلاً وهو القسم الثالث من الأخبار، ومنها ما ورد مع عطف النداء الباطل عليه، وهو أغلب القسم الثاني، فلا يكون ما دل من الأخبار علي الشكل الثاني للنداء معارضاً، لقلة عدد الأخبار فيه. فيكون مرفوضاً.

المستويٰ الثاني:
اشارة

هل الأخبار الدالة عليٰ النداء بالباطل كافية للاثبات أو لا؟

هناك بعض المقدمات الفكرية التي يمكن أن تنتج رفضها:

المقدمة الأوليٰ: أن عدد الأخبار الدالة عليٰ النداء بالباطل أقل بكثير من الأخبار الدالة عليٰ النداء بالحق، فبينما نريٰ الأخبار الدالة عليٰ النداء بالحق أو باسم المهدي (عليه السّلام) عديدة فإذا ألحقنا بها أخبار الصيحة والفزعة، كما سبق -أصبحت متواترة. نريٰ أن الأخبار الدالة عليٰ النداء بالباطل ذات عدد قليل، تمثل قسماً من أخبار النداء فقط.

المقدمة الثانية: أننا إذا سرنا عليٰ الفهم التقليدي لهذه الأخبار المطابق مع ظهورها الأولي، وهو صدور النداء بالباطل بشكل إعجازي أو ميتافيزيقي، فيكون هذا معجزة صادرة في جانب الباطل، وقد برهنا عليٰ استحالة ذلك في السابق، لما فيه من التغرير بالجهل والدفع إليٰ الفتنة والانحراف وهو مستحيل عليٰ الحكيم المطلق جل وعلا.

فإذا تمت هاتان المقدمتان لزمنا رفض هذه الأخبار، لأنها أخبار قليلة نسبياً ودالة عليٰ أمر مستحيل، فيكون الأخذ بمضمونها مستحيلاً.

وهذا لا يعني إسقاط القسم الثاني من أخبار النداء كله، بل الساقط هو الجزء الدال عليٰ وجود النداء بالباطل فقط، وأما الجزء الدال منها عليٰ النداء بالحق فيبقيٰ ساري

ص: 171

المفعول، معتضداً بالأخبار الأخريٰ الدالة عليٰ ذلك، وقد سبق أن برهنا عليٰ إمكان التبعيض في الأخذ بمدلول الخبر.

نعم، لو ناقشنا بالمقدمة الثانية، وأمكننا حمل النداء عموماً أو النداء بالباطل خصوصاً، عليٰ معنيٰ (طبيعي) غير إعجازي، أمكن الأخذ بالأخبار الدالة عليه غير أن هذا سوف يكون قابلاً للمناقشة عليٰ ما سيأتي.

وإذا نحاول تكوين فهم متكامل عن هذين الندائين، نواجه عدة أُطروحات منها الطبيعي ومنها الإعجازي.

الأطروحة الأوليٰ:

أن نفهم من (جبرئيل) المنادي بالحق و (پليس) المنادي بالباطل، أن نفهم منهما - ولو بنحو الرمز أو المجاز - التعبير عن أنصارالحق وأنصار الباطل، فجبرئيل كناية عن (المهدي) نفسه، ونداوه نداء الحق. وإبليس عبارة عن أعداء المهدي والمنحرفين من البشر عموماً.

ويكون المراد بسعة الصوت وانتشاره إلي الشرق والغرب أو إليٰ كل إنسان، كونه مبثوثاً عن طريق وسائل الإعلام الحديثة، كالاذاعة والتلفزيون وما ورد من أن الصوت من السماء، فباعتبار أن البث الإذاعي والتلفزيوني لا يكون التقاطه، إلّا من الفضاء، وخاصة مع وجود الكواكب الصناعية للبث الإذاعي والتلفزيوني.

ومعه يكون من السهل بل من الطبيعي أن نتصور أن (جبهة) الإمام المهدي (عليه السّلام) تنادي باسمه بطريق هذه الوسائل الحديثة. و (جبهة) أعدائه تنادي بنداء مضاد سوف نعرف مدلوله، تريد به الفتنة وصرف الناس من الحق إليٰ الباطل.

ويكون السبب في التأثير النفسي البالغ، والاهتمام

الذي يحدثه الصوت الحق في العالم، ليس هو ارتفاع الصوت، بل هو أهمية المضمون، فإن الإعلان العام عن

ص: 172

ظهور المهدي (عليه السّلام) لأول مرة، وإعطاء المفهوم الواضح لثورته العالمية، مع كون المسلمين عامة، بل أكثر البشر ممن يتوقع حدوث دولة الحق، سوف يحدث ردود فعل عنفية مختلفة في الناس، بلا شك.

وهذه الأطروحة، وإن كانت واضحة منطقياً، غير أنه يرد عليها بعض الإشكالات التي من أهمها: أن ما يستفاد من سياق هذه الأخبار من أن النداء وصوت الحق وصوت الباطل، إنما يكون قبل ظهور المهدي (عليه السّلام) وليس بعده.. وهذا يكون منافياً مع مضمون هذه الأطروحة، لأنها تنظر إليٰ دعوات الحق والباطل بعد الظهور.

الأطروحة الثانية:

أن نلتزم - طبقاً لظاهر الأخبار - بأن هذين الصوتين يوجدان قبل ظهور المهدي (عليه السّلام) لكن بطريق طبيعي أيضاً، عن طريق وسائل الاعلام الحديثة، ويكون السبب في هذين الصوتين وجود حركتين متناحرتين في العالم الإسلامي، إحداهما مجقّة، تهدي الناس إليٰ الإسلام الصحيح، والأخريٰ حركة مبطلة، تغوي الناس وتخدعهم وتثير فيهم الشبهات.

ويكون التأييد لحركة الحق في أول قيامها تأثير كبيراً في الناس، حتيٰ أن المرأة تحث أباها وأخاها عليٰ نصرة هذه الحركة وتأييدها، ولكن هذه الحركة لن تدوم طويلاً، بل تكون ضدها حركة مبطلة تعلن عن رأيها وتصرح بمقاصدها فتوقع الناس في بلبلة وشبهات في العقيدة الإسلامية أو ما يمت لها بصلة.

ويكون من نداءاتها وشعاراتها المهمة: أن فلان قتل مظلوماً، والمراد به - والله العالم - ذلك الشخص الذي قتلته وقضت عليٰ حكمه الحركة الأوليٰ المحقة. ومن هنا تصرح الحركة الثانية بمظلوميته وانتهاج سبيله، والاحتجاج عليٰ قتله.

ولعل التعبير يكون نداء الحركة الأوليٰ صادراً من السماء ونداء الحركة الثانية

ص: 173

صادراً من الأرض، باعتبار احترام النداء الأول، وكونه محقاً، وانتقاص النداء الثاني باعتباره باطلا وزخرفاً.

إلّا أن هذه الأطروحة لا تصح، لوضوح أن نداء الحركة المحقة سوف يكون هو الدعوة إليٰ مبادئها وتأييدها، لا النداء باسم القائد المهدي واسم أبيه كما صرحت به الأخبار العديدة، ومعه يبقيٰ هذا النداء بلا تفسير من زاوية هذه الأطروحة.

وأما احتمال: أن يكون المراد من لفظ القائم: قائد الحركة المحقة باعتبار أنه قائم بالسيف وناصر للحق بالسلاح، في الجملة، وإن لم تكن حركته عالمية فهذاالاحتمال غير صحيح، فإن الأخبار صرحت بكونه قائم آل محمد وأنه المهدي، وفي بعضها وجود الصلاة والسلام عليه، وهو مما لا ينطبق إلّا عليٰ المهدي الموعود.

الأطروحة الثالثة:

وهي المطابقة مع ظاهر الأخبار وسياقها العام. وهو أن نفهم الأسلوب الإعجازي للنداء بالحق، باسم القائم واسم أبيه، ويكون ذلك من المنبهات للاستعداد النفسي للظهور، كما قلنا.

وهو في عين الوقت يضفي أهمية عظميٰ مسبقة عليٰ يوم الظهور، ويعين اسم القائد العظيم فيه، ويكفي أن يقال بعد الظهور، الذي يبدو أنه سوف لن يتأخير كثيراً بعد النداء: أن هذا القائد العظيم هو الذي هتف الهاتف باسمه وحدثت المعجزة الضخمة آمرة بإطاعته والتسليم لأمره، وسوف يكون لذلك أعظم الأثر في نصره وانتشار دعوته، وقد عرفنا أن يوم الظهور هو نتيجة جهود الأنبياء والأوصياء والصالحين والشهداء، وهو الغرض الأسميٰ من خلق البشرية، فلا عجب أن يمهد الله تعاليٰ بمثل هذه المعجزات.

وهو مما دلت الأخبار المتواترة عليه، كما عرفنا، وهو غير مناف مع قانون

ص: 174

المعجزات، لوقوعه في طريق الهداية؛ إذاً فلابد من التسليم به والاعتراف بوقوعه.

ويكون هذا الصوت في شهر رمضان في ليلة ثلاث وعشرين، التي هي - الأرجح - ليلة القدر، وهي أفضل ليالي السنة، ويكون التوجه الديني في ذلك الحين لديٰ المسلمين وتقبل المفاهيم الدينية والأمور الروحية قد بلغ ذروته، فإنّه يزداد في مناسبات العبادة وخاصة في شهر رمضان، وبالأخض في ليلة القدر.

وسيكون رد الفعل بالاهتمام والفزع لهذا النداء، ناشئاً من عوامل ثلاثة مقترنة:

العامل الأول: ارتفاع الصوت وانتشاره بحيث يسمع الأفاق كلها. العامل الثاني: جانبه الإعجازي، الذي لا يكاد يمكن تفسيره تفسيراً مادياً.

العامل الثالث: مضمونه، من حيث كونه مشيراً إليٰ القائد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً.

وأود أن ألاحظ عليٰ النداء بعض الملاحظات:

الملاحظة الأوليٰ: هناك فهم تقليدي للنداء، بأنه يقع في لحظة الظهور إعلاناً عنه وايذاناً بوقوعه، وهذا ما لم نجد شيئاً من الروايات دالاً عليه، ومن هنا لا يمكن الالتزام بصحته.

ولكن لا يمكن مع ذلك رفع اليد عن فكرة الإيذان والإعلان عن الظهور إلّا أن هذا كما يمكن أن يحصل عند إيجاد النداء مع الظهور، كذلك يمكن أن يحصل مع إيجاد النداء قبله بقليل، ويبدو كأن الظهور قائم عليٰ أساس النداء ومنطلق منه، وإن كان الأمر - في الواقع - بالعكس.

ولا يبعد القول بإمكان البرهنة عليٰ تقدم النداء علي الظهور، بفترة زمنية، وذلك أن النداء إذا حصل مع الظهور كان المتعين عالمياً انطباقه عليٰ المهدي (عليه السّلام) الذي لا زال في أول ظهوره غير راسخ الملك والقوة، ومن هنا ينفتح احتمال توجه الأسلحة العالمية ضده، وهو خلاف بعض الضمانات التي سنذكرها لانتصاره.

ص: 175

بخلاف ما لو حصل النداء قبله، فإن حركة المهدي (عليه السّلام) في أول عهدها سوف لن تكون ضرورة الانطباق عليٰ ذلك النداء، عالمياً، وسوف لن يلتفت إليٰ ذلك إلّا المؤمنين به والمنطقة التي تعاصر حركته الأوليٰ، وهذا هو الأنسب مع بعض الضمانات التي سنذكرها.

وحيث إن النداء باسم المهدي (عليه السّلام) مع ظهوره مخلاً بانتصاره، إذاً فيتعين عدم حصوله ساعتئذ، وحيث ثبت وجود النداء إجمالاً، إذا فهو يحصل قبل الظهور،بزمن قليل لا يضر مع وجود فكرة الإعلام والتنبيه.

الملاحظة الثانية: إن حصول النداء قبل الظهور، معناه حصوله في عصر الغيبة طبقاً للمفهوم الإمامي عن المهدي.

وهذا النداء عندئذ، لا ينافي الغيبة الحاصلة في الفترة المتخللة بين النداء والظهور، لأنّ المعنيٰ الأساسي للغيبة، كما عرفناه في تاريخ الغيبة الكبريٰ(1)، هو الجهل المطلق بحقيقة شخص المهدي(عليه السّلام)، فبالرغم من أن الناس يرون الإمام ويعاشرونه، إلا أنهم يعرفونه باسم آخر غير صفته الواقعية، ومن الواضح أن هذا المعنيٰ لا يتغير بوجود النداء ما لم يطبقه المهدي نفسه عليٰ نفسه عند ظهوره.

وكذلك الحال مع الأطروحة الأخريٰ التي رفضناها هناك، وسميناها ب (أطروحة خفاء الشخص)، إذ يمكن استمرار خفاء الشخص حتي مع وجود النداء ولا يرتفع إلّا مع الظهور.

الملاحظة الثالثة: كم هي الفترة المتخللة بين النداء والظهور؟ دلت الروايات السابقة عليٰ وقوع النداء في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان (2)، ولعله هو

ص: 176


1- تاريخ الغيبة الكبرئ ص 34 وما بعدها.
2- المصدر ص 31 وما بعدها.

الشهر الذي يقع فيه الكسوف والخسوف علي غير المألوف، أو رمضان آخر قريب منه نسبياً، والملاحظ أن هذا التوقيت في روايات النداء مستفيض صالح للاثبات التاريخي، إلّا أن هذا التوقيت لم يبلغ إليٰ هذه الدرجة من الكثرة في روايات الخسوف والكسوف.

وسوف يأتي أن الروايات تدل عليٰ حصول الظهور في مساء اليوم العاشر من محرم الحرام.. فإذا استطعنا أن نبرهن - كما سبق - عليٰ قصر المدة بين النداء والظهور، تعين القول: إن المحرم الذي يتم فيه الظهور هو المحرم الذي يأتي بعد ذلك الرمضان الذي يوجد فيه النداء، ويفصل بينهما . في كل عام - ثلاثة أشهر من الأشهر القمرية، فتكون المدة المتخللة ثلاثة أشهر وسبعة عشر يوماً، إن كان شهر رمضان تاماً.

وستكون هذه المدة المتخللة كافية لتنبيه المؤمنين، واجتماعهم لاستقبال إمامهم وقائدهم عند ظهوره، كما سيأتي.

فهذه الملاحظات، عن النداء بالحق، وهو الصالح للاثبات كما عرفنا، وأما النداء بالباطل فهو غير صالح للاثبات، فلا يهم التعرض إليٰ تفاصيله.

ص: 177

المطر:

أخرج الطبرسي في اعلام الوريٰ (1) عن عبد الكريم الخثعمي عن أبي عبد الله الصادق(عليه السّلام) ، في حديث عن القائم يقول فيه: « وإذا آن قيامه، مطر الناس في جمادي الآخرة وعشرة أيام من رجب مطراً لم ير مثله. » الحديث.

وذكر المفيد في الإرشاد(2): قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي(عليه السّلام) ، وحوادث تكون أمام قيامه، و آيات ودلالات ثم إنه (عليه الرحمة)ذكر العديد منها إليٰ أن قال: « ثم يختم ذلك بأربع وعشرين مطرة تتصل فتحييٰ بها الأرض بعد موتها وتعرف بركاتها ».

وأخرج الشيخ في « الغيبة» (3) بإسناده عن سعيد بن جبير قال: « السنة التي يقوم فيها المهدي تمطر أربعاً وعشرين مطرة يريٰ أثرها وبركاتها ».

ولا تخفيٰ الحكمة من هذا المطر، وهو الاستعداد للظهور، بإنعاش الأرض إنعاشاً كافياً لتوفير الزراعة، ذلك التوفير العظيم الذي سنسمع عنه فيما يلي من الفصول:

وهذا التقديم خير من نزول المطر بعد الظهور بغزارة، بحيث قد يعيق عن جملة من الأعمال التي يريد القائد المهدي (عليه السّلام) انجازها، ففي تقدمه عليٰ الظهور جني

الفوائد المطر مع تفادي مضاعفاته.

ونزول المطر ليس إعجازياً، بطبيعة الحال، إلّا أن توقيته وكميته، يبدو من سياق الروايات أنها بقصد إعجازي خاص من قبل الباريء الحكيم، توصلاً للنتائج المطلوبة من ورائها.

ص: 178


1- أنظر ص 432.
2- أنظر ص 337.
3- أنظر ص 269.

غير أن عدة نقاط ضعف تبرز في هذا الصدد.

النقطة الأوليٰ: ضعف الروايات من حيث السند، فإن روايتي الطبرسي والمفيد مرسلتان، ورواية الشيخ منقولة عن سعيد بن جبير لا عن أحد الأئمة المعصومين، فلا تكون صالحة للاثبات التاريخي.

النقطة الثانية: قلة عدد الروايات الدالة علي ذلك، فإن منهجنا في هذا الكتاب وإن كان قائماً عن أساس قبول الخبر الواحد، غير أننا أشرنا إليٰ لزوم تطبيق (التشدد السندي) في روايات المعجزات، وهذه منها بلحاظ ما قلناه من التوقيت الإعجازي، فلا تكون هذه الروايات كافية للاثبات حتيٰ ولو لم تكن مرسلة.

النقطة الثالثة: أن هذه الروايات لا تدل عليٰ أمطار ضخمة جداً، فإن أربعاً وعشرين مطرة موزعة عليٰ شهر أو شهرين مما يحدث في البلاد المتوسطة المطر فضلاً عن الغزيرة الباردة، ومعه لا يمكن أن يكون هذا المطر علامة عليٰ الظهور، الأن فكرة العلامة منطلقة من الإخبار عن شيء مهم وملفت للنظر في التاريخ، وليس هذا المطر كذلك.

النقطة الرابعة: أن هذه الروايات لا تدل عليٰ مكان حدوث هذه الأمطار، فقد تكون بلاداً باردة ممطرة وقد تكون بلاداً جافة... كل ما يمكن قوله: إن المطر سوف يحدث في بلاد الشرق الأوسط الإسلامية، إلّا أن هذه البلاد نفسها تحتوي عليٰ كلا القسمين من المناخ، فهناك الباردة الممطرة كيران ولبنان، وهناك الجافة الممحلة كالحجاز ونجد علي العموم.

نعم، يمكن أن يقال ك (أُطروحة) من أجل اكتساب هذا المطر الأهمية ومن ثم تصدق عليه فكرة العلامية: أن مكان هذا المطر يمكن أن يكون عليٰ شكلين:

الشكل الأول: أنه ينزل في الأماكن المقدسة: مكة والمدينة المشرفتين وهي من البلاد الجافة الممحلة، فيكون وجود هذه الكمية من المطر فيها مهماً جداً.

ص: 179

الشكل الثاني: أنه ينزل في منطقة الشرق الأوسط برمتها، وبشكل مشترك.... بالعدد والزمان المحددين السابقين، فيكتسب أهمية كبيرة أيضاً.

غير أن هذين الشكلين إنما يكتسبان الأهمية، لو تم إثباتهما التاريخي، وقد عرفنا في النقطتين الأوليتين عدم صلاحية الروايات للاثبات التاريخي.

وإذا لم يثبت ذلك، كان العديد مما ذكر في المصادر من الحوادث والعلامات القريبة للظهور غير قابل للاثبات التاريخي أيضاً، لأنه ليس أحسن حالاً في النقل من هذه الحادثة عليٰ أي حال، ومن ثم يكون الأحجيٰ أن نعرض عنها، وندع العلم بها إليٰ أهله.

فهذا هو الكلام عن العلامات (الطبيعية) أعني الكونية الخارجة عن المجتمع البشري، وعرفنا أن أهمها وأوضحها اثنان فقط هما النداء باسم القائد واسم أبيه، ويليه الكسوف والخسوف، وليس هناك ما يمكن اثباته من الحوادث والعلامات (الطبيعية) غير ذلك، إذا مشينا عليٰ منهجنا في التمحيص التاريخي.

ص: 180

الفصل الثاني: الظواهر الاجتماعية أعني الظواهر التي تنطلق من المجتمع وتصرفات الناس وهي عدة علامات، نذكر كلاً منها بعنوان لدجّال

اشارة

الفصل الثاني: الظواهر الاجتماعية (1)

أعني الظواهر التي تنطلق من المجتمع وتصرفات الناس وهي عدة علامات، نذكر كلاً منها بعنوان لدجّال

وقد سبق أن عرضناه مفصلاً في السابق، وقدمنا هناك الفهم المتكامل عنه،والمناسب مع كل ما ورد وثبت عنه من الخصائص والصفات.

وإنما كررنا العنوان في هذا الفصل باعتبار ما دلت عليه بعض الأخبار، مما سيأتي من قرب ظهور الدجال إليٰ ظهور المهدي(عليه السّلام) ، فيكون من العلامات القريبة للظهور، التي نحن بصددها، وهذا ممكن الصدق علي كلا الفهمين اللذين قدمناهماللدجال في السابق.

وسوف لن نكرر ما ذكرناه هناك، بطبيعة الحال، وإنما المهم هنا أن نسير خطوات أخريٰ إليٰ الأمام في فهم الدجال، ونؤكد عليٰ مديٰ علاقة الدجال بالمهدي والمسيح (عليهما السّلام) ، وإيراد ما ورد في ذلك من الأخبار ونحوها من الخصائص التي لم

ص: 181


1- تاريخ ما بعد الظهور: من ص 139 إليٰ ص 186 ، ط دار الفقه للطباعة والنشر.

تتوفر عليٰ عرضها في التاريخ السابق.

الناحية الأوليٰ: موقف الدجال من الأمة الإسلامية، ومديٰ تأثيره فيها، ذلك التأثير الذي نستطيع أن نفهم استمراره إليٰ حين الظهور.

ويواجهنا بهذا الصدد عدد من الأخبار، نذكر ما أورده الشيخان من العامة وبعض الإمامية.

أخرج مسلم(1) بسنده عن حذيفة قال: قال رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) : « لأنا أعلم بما مع الدجال منه، معه نهران يجريان، أحدهما: رأي العين ماء أبيض، والآخر رأي العين نار تأجج، فأما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً، وليغمض،ثم ليطأطيء رأسه فيشرب منه، فإنّه ماء بارد، وإن الدجال ممسوح العين، عليها ظَفُرة غليظة، مكتوب بين عينيه: كافر، يقرأه كاتب وغير كاتب ».

وفي حديث آخر أخرجه أيضاً(2) عن النواس بن سمعان، قال: ذكر رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) الدجال، إليٰ أن قال: « إنه خارج خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله فانبثوا، إليٰ أن قال: فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحنهم أطول ما كانت ذراً واسبغه ضروعاً وأمده خواصر.

ثم يأتي القوم، فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين، ليس بأيديهم شيء من أموالهم.. » الخ. وأخرج البخاري (3) عن أنس بن مالك، قال: قال النبي(صلّي الله عليه وآله ) : « يجيء الدجال حتيٰ ينزل في ناحية المدينة، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل

ص: 182


1- أنظر صحيح مسلم: ج 8، 195 ، ونحوه في البخاري: ج 9، ص 75.
2- صحيح مسلم نفس الجزء والصفحة.
3- أنظر الصحيح: ج 9، ص 71.

كافر و منافق ».

وأخرج الصدوق(1) بإسناده عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) يتحدث عن الدجال ويقول عنه: « ينادي بأعليٰ صوته يُسمع ما بين الخافقين.. يقول: إليّ أوليائي، أنا الذي خلق فسويٰ وقدر فهديٰ أنا ربكم الأعليٰ، وكذب عدو الله، إنه أعور بطعم الطعام ويمشي في الأسواق، وإن ربكم ليس بأعور ولا يطعم ولا يمشي في الأسواق، ولا يزول تعاليٰ الله عن ذلك علواً كبيراً.

ألا وإنّ أكثر أتباعه يومئذ أولاد الزنا، وأهل الطيالسة الخضر... الخ »الحديث. وغير ذلك من الأخبار .

وقد أعطينا في السابق أطروحتين لفهم الدجال: إحداهما: تقليدية تقول إن الدجال شخص معين طويل العمر، سيظهر في آخر الزمان من أجل ضلال الناس وفتنتهم عن دينهم، ويدل عليه قليل من الأخبار (2)، والأخريٰ: أن الدجال عبارة عن مستويٰ حضاري ايديولوجي معين معاد للإسلام والإخلاص الإيماني ككل.

وقد سبق هناك أن ناقشنا الأطروحة الأوليٰ ورفضناها بالبرهان، ولابد من طرح ما دل عليها من قليل الأخبار، ودعمنا الأطروحة الثانية وهي التي ستكون منطلق كلامنا الآن.

ونحن نعلم، فيما يخص الحضارة المادية المعاصرة، كيف استطاعت غزو المجتمع المسلم فكرياً وعسكرياً ونادت بأعليٰ صوتها فأسمعت ما بين الخافقين، عن طريق وسائل الإعلام الحديثة، فجمعت إليها أولياءها، وهم كل من يؤمن بعظمتها وصدقها وأغراه العيش بين أكنافها.

ص: 183


1- أنظر إكمال الدين المخطوط.
2- أنظر تاريخ الغيبة الكبري: ص 578 وما بعدها وص617.

ونريٰ كيف أنها أمدت هؤلاء بالخير الوفير والمال والقوة والسيطرة، فتروح سارحتهم) أي أغنامهم، وهو كناية أو رمز عن كل مصدر للمال والقوة (أطول ما كانت ذراً واسبغه ضروعاً وأمده خواصر) يكنيٰ بذلك عما ينال المنحرفون من خير الحضارة المادية وما تستطيع هذه الحضارة أن تضمنه لهم من مستقبل عريض.

عليٰ حين نريٰ الخاصة المخلصين، الذين شجبوا هذه الحضارة، وأنكروا عليها ماديتها ولا أخلاقينها وظلمها، يعيشون في الضيق والضرر (يصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم) كما يقول الخبر.

(يجيء الدجال) ممثل هذه الحضارة (حتيٰ ينزل في ناحية المدينة) أي مدينة ليس له فيها إلّا مركز واحد غير ملفت للنظر، قد يكون هو سفارة وقد يكون مركز تبشير وقد يكون مدرسة أو مستشفيً، ولكن بمضي الأيام والليالي (ترجف المدينة ثلاث رجفات) خلالها، وهو كناية أو رمز عن المصاعب والمحن التي تمر بها المجتمعات، وهي محن لتمحيص دائماً (فيخرج إليه كل كافر ومنافق) فاشل في التمحيص.

وقد ذكرنا في السابق معنيٰ ادعاء الدجال للربوبية، وأن له نهرين طبقاً لهذه الأطروحة... فلانعيد.

(أكثر أتباعه أهل الطيالسة الخضر) وهم - حسب ما يبدو - أهل الأموال والسمعة والسيطرة الاجتماعية في المجتمع المسلم المنحرف، و (أولاد الزنا) يمكن أن يراد بذلك أحد معنيين:

المعنيٰ الأول: أولئك الذين انقطعوا عن آبائهم عقائدياً ومفاهيمياً. وأصبحوا أولاداً للناس الآخرين الذين آمنوا بربوبيتهم وولايتهم ومبادئهم.

المعنيٰ الثاني: أن الإيمان بالاتجاه المادي الحديث، ينتج إنكار عقد الزواج وتكوين الأسرة بدونه، كما عليه عدد من الناس في البلاد الإسلامية الآن، فينتجون

ص: 184

ذرية تكون لقمة سائغة في شدة السبع المادي الهائل.

وليس هذا موقف الحضارة المادية المعاصرة فقط، بل موقف كل حضارة مادية عليٰ مديٰ التاريخ، وخاصة فيما إذا استمرت في المستقبل عدداً مهما من الأجيال، ومفهوم (الدجال) شامل لمجموع الحضارة المادية عليٰ مديٰ التاريخ، لا خصوص حضارتنا المعاصرة المحترمة!!!

وإذا كان للدجال أن يعاصر ظهور المهدي ونزول المسيح، أو أن يوجد قبل ذلك بقليل، ليكون من علاماته القريبة.. فمعنيٰ ذلك استمرار الحضارة المادية إليٰ ذلك الزمان، مهما كان بعيداً، لكي يستمر التمحيص ويتعمق بالتدريج، حتيٰ ينتج نتيجته المطلوبة المنتظرة.

والدجال يقتله المسيح والمهدي (عليهما السّلام) ، كما سنسمع، لأن نظامهما سيقضي تماماً عليٰ الحضارة المادية وما ملأت به الأرض من الظلم والجور والانحراف، ويتبدل إليٰ القسط والعدل والإنصاف والرفاه

الناحية الثانية: علاقة الدجال بالمسيح (عليه السّلام) عند نزوله.

أخرج مسلم (1) من حديث عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) الدجال.. إليٰ أن يقول: « فبينما هو كذلك، إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهر ودتين، واضعاً كفيه عليٰ أجنحة ملكين... فيطلبه حتيٰ يدركه بباب لد، فيقتله. ثم يأتي عيسيٰ ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة.. » الحديث.

وفي حديث آخر لمسلم (2) قال: قال رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) : « يخرج الدجال في أمتي

ص: 185


1- أنظر صحيح مسلم: ج 8، ص 197 - 198.
2- صحيح مسلم: ج 8، ص 201.

فيمكث أربعين... فيبعث الله عيسي ابن مريم، كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه فيهلكه. ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة... » الحديث.

وهناك في المصادر العامة الأخريٰ أخبار أخريٰ بهذا المضمون، ولكننا نقتصر عليٰ ما أخرجه مسلم.

والمصادر العامة اقتصرت عليٰ ذكر العلاقة بين الدجال، بأي معنيٰ فهمناه، وبين المسيح (عليه السّلام) عليٰ حادثة قتله، كما اقتصرت في قاتل الدجال عليٰ المسيح(عليه السّلام) ولم تتعرض للمهدي (عليه السّلام) عليٰ ما سنسمع ذلك ونناقشه

ومنطلق الأشياء يقتضي أن يسبق مقتل الدجال حرب سجال بينه وبين المسيح، يكتب فيها النصر للمسيح فيقتله، وأما فوزه عن طريق المعجزة، كما يظهر من البرزنجي في (الاشاعة)(1)، فهو مخالف لما قلناه من أن أسلوب الدعوة الإلهية غير قائم عليٰ المعجزات، ما لم ينحصر بها الأمر، وإلّا كان نبي الإسلام(صلّي الله عليه وآله ) في نصره عليٰ قريش أوليٰ بالمعجزات، ولاستطاع السيطرة عليٰ كل العالم بين عشية وضحاها، ومن هنا لا نقول بوجود المعجزات في طريق نصر المهدي (عليه السّلام) إلّا بمقدار الضرورة التي لا بديل عنها.

وقد سمعنا في هذه الأخبار عدة خصائص من حيث إن قتل الدجال سيكون في دمشق، وهو أمر يصعب اثباته تاريخياً، ولكنه لو تم فهو يدل عليٰ أن هذه البلدة ستصبح مسرحة مهماً ومركزاً رئيسياً للدجال، بأي معنيٰ فهمناه. ولا يخفيٰ أنه طبقاً للاطروحة التي فهمناها للدجال، لا يكون لقتل الدجال هناك أكثر من هذا المعنيٰ، أعني تحويل دمشق من الانحراف إليٰ الإيمان.

وهذا مما يفسر لنا ما سيأتي من وجود عدد من المخلصين الممحصين

ص: 186


1- أنظر ص 135.

الراسخين في الإيمان في دمشق، عليٰ ما دلت عليه الأخبار، وسيأتي في محله من هذا الكتاب، فإن انحراف المجتمع كلما تزايد والظلم كلما تضاعف أوجب ذلك عمق التمحيص ودقته، الأمر الذي يوجب زيادة عدد المؤمنين وزيادة إخلاص الموجود منهم.. حتيٰ وصفوا في هذه الأخبار بالأولياء والأبدال.

وهؤلاء وأمثالهم هم الذين يأتي إليهم عيسيٰ ابن مريم (فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة)، كما سمعنا في الحديث.

غير أن ظاهر الحديث أنه يأتي إليهم بعد أن يتم قتل الدجال علي يديه، لا أنه يرتكز عليهم في قتاله. والصحيح أن الحديث دال عليٰ أنه (عليه السّلام) يأتي إليهم ويبشرهم بالجنة بعد قتل الدجال، ولكنه لا يدل عليٰ عدم مشاركة هؤلاء في قتله أو قتاله، بل لعل الدرجات التي استحقوها في الجنة ناشئة إلي حد كبير من هذه الأعمال الكبريٰ.

الناحية الثالثة: في علاقة الدجال بالمهدي(عليه السّلام).

وهذا ما وجدناه في المصادر الخاصة، دون العامة.

أخرج الشيخ الصدوق(1) بإسناده عن النزال بن سبرة قال: خطبنا علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، فحمد الله عزوجل وأثنيٰ عليه وصليٰ عليٰ محمد وآله، ثم قال: « سلوني قبل أن تفقدوني ثلاثاً، فقام إليه صعصعة بن صوحان، فقال: يا أمير المؤمنين متيٰ يخرج الدجال؟ فقال له: اقعد فقد سمع الله كلامك وعلم ما أردت.. إليٰ أن يقول بعد حديث طويل: يقتله الله عزوجل وجل بالشام عليٰ عقبة تعرف بعقبة أفيق، لثلاث ساعات مضت من يوم الجمعة عليٰ يد من (2) يصلي عيسيٰ ابن مريم خلفه... » الحديث.

ص: 187


1- أنظر إكمال الدين المخطوط) باب حديث الدجال وما يتصل به من أمر القائم صلوات الله وسلامه عليه.
2- في المخطوط: علي من يد من... وهو تحريف.

أقول: والذي يصلي عيسيٰ ابن مريم خلفه هو المهدي (عليه السّلام) كما وردت بذلك الآثار المستفيضة. ومنها ما في الصحيحين (1): «كيف بكم إذا نزل عيسيٰ ابن مريم نيكم وإمامكم منكم ».

وأخرج الصدوق(2) أيضاً بإسناده عن المفضل بن عمر، قال: قال الصادق جعفر بن محمد(عليه السّلام) : « إنّ الله تبارك وتعاليٰ خلق أربعة عشر نوراً قبل خلق الخلق بأربعة عشر ألف عام، فهي أرواحنا، فقيل له: يابن رسول الله، ومن الأربعة عشر؟ فقال: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، والأئمة من ولد الحسين، آخرهم القائم الذي يقوم بعد غيبة فيقتل الدجال(3) ويطهر الأرض من كل جور و ظلم ».

وفي منتخب الأثر (4) في حديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السّلام) يقول فيه: « ومنا رسول الله ووصية وسيد الشهداء وجعفر الطيار في الجنة، وسيطا هذه الأمة، والمهدي الذي يقتل الدجال ».

ومن الغريب أن الصحاح تذكر أحاديث في علاقة الدجال بالمسيح، وأحاديث في علاقة المسيح بالمهدي(عليه السّلام) ، ولا تورد أي خبر في علاقة المهدي بالدجال، مع أنه تفهم من تينك العلاقتين معاصرته له، ومن المعلوم كون المهدي(عليه السّلام) هو رائد الحق في العالم فكيف لا يكون له اليد الطولي في قتله وقتاله.

ولو نظرنا من زاوية أخريٰ، رأينا أن تأخر نزول المسيح(عليه السّلام) عن ظهور المهدي (عليه السّلام) بفترة من الزمن، عليٰ ما سنسمعه عن المصادر العامة، ينتج لنا: أنّ السبب الرئيسي الوحيد في زوال الدجال هو عمل القائد المهدي(عليه السّلام) ضده وتخطيطه للقضاء عليه،

ص: 188


1- أنظر صحيح البخاري: ج 4، ص 205، وصحيح مسلم: ج 1، ص 94 .
2- أنظر إكمال الدين المخطوط.
3- كذا نقله في منتخب الأثر (ص 480) ولكنه في المخطوط: الرجال بالراء.
4- أنظر ص 172 وما بعدها.

ومن المقطوع بزيفه وبطلانه باليقين أن يظهر الإمام المهدي (عليه السّلام) فلا يحارب الدجال - بأي معنيٰ فهمناه - ويرجيء قتاله إليٰ حين نزول المسيح من السماء، فإن ذلك خالف تكليفة الإسلامي ووظيفته الإلهية في قمع الكفر والانحراف ونشر الهداية في العالم.

كما أن المقطوع ببطلانه: أن يفترض أن المهدي (عليه السّلام) يحارب الدجال فيندحر أمامه، وينتصر الدجال ويحاصر المهدي (عليه السّلام) ورجاله، كما يظهر من البرزنجي في الاشاعة(1) وكيف يمكن أن يتحقق ذلك؟ وقد ثبت بضرورة الدين وتواتر الأخبار وعن طريق البرهان عليٰ التخطيط العام الذي عرفناه، كون الإمام المهدي(عليه السّلام) منصوراً مؤيداً حتيٰ يفتح العالم بأجمعه، ويجمع البشر عليٰ الحق والعدل.

إذاً، فاليد الطوليٰ في الإجهاز عليٰ الدجال ونظامه، للمهدي(عليه السّلام) نفسه. نعم، يمكن أن نفترض مشاركة المسيح (عليه السّلام) من قتل الدجال ضمن إحديٰ أطروحتين:

الأطروحة الأوليٰ:

أنّ المسيح (عليه السّلام) يقتل الدجال بالمباشرة، والمهدي (عليه السّلام) يقتل الدجال بالتسبيب أعني بصفته قائداً أعليٰ لاتصدر التعليمات الأساسية إلّا منه، فيكون اسناد القتل إليٰ المهدي(عليه السّلام) من قبيل قولنا: فتح الأمير المدينة، يعني بأمر منه، والفاتح المباشر هو الجيش بطبيعة الحال.

وهذه الأطروحة، كما تناسب الفهم الكلاسيكي للدجال، وهو كونه شخصاً يعينه كذلك تناسب مع الفهم الرمزي الذي دعمناه، ويكون الإجهاز عليٰ الدجال من قبل المسيح (عليه السّلام) بصفته أحد القادة الرئيسيين في دولة المهدي العالمية.1

ص: 189


1- أنظر ص 135 .
الأطروحة الثانية:

أن المسيح (عليه السّلام) إذا كان يتأخر نزوله عن ظهور المهدي (عليه السّلام)، فقد نتصور أن المهدي (عليه السّلام) عند ظهوره يقاتل الدجال، بأي فهم فهمناه وبعد نزول المسيح يوكل هذه المهمة إليٰ المسيح(عليه السّلام) .

ولا تنافي بين هاتين الأطروحتين، كما هو واضح لمن يفكر، وبها نجمع بين الأخبار الدالة عليٰ أن المسيح يقتل الدجال والأخبار الدالة عليٰ أن المهدي يقتله فإن كلا هذين القسمين من الأخبار صادقاً، ولا تنافي بينهما.

ص: 190

يأجوج ومأجوج
اشارة

وهذا ما ورد الإخبار عنه في القرآن الكريم، في أكثر من موضع.. وتطاحنت التفاسير فيه، حتيٰ لم تكد ترسو عليٰ أمر مشترك، وذكر لهم بعضها صفات غريبة، وليس المهم الآن الدخول في تفاصيل ذلك، وإنما المقصود هو معرفة مديٰ ارتباطه بالظهور ومديٰ ما يمكن أن يكون مديٰ تأثيره لو كان له ارتباط.

وقد ذكر في السابق شيئاً من الأخبار عن يأجوج ومأجوج، وتكلمنا عما إذا كان القرآن الكريم بضمه إليٰ الأخبار دالاً عليٰ تقدم خروج يأجوج ومأجوج عليٰ الظهور، ولم نستطع أن نتميز ظهور القرآن في ذلك، بل بات الأمر محتملاً غير قابل للاثبات التاريخي، وإن كان محتملاً جداً.

وقد روينا هناك ما أخرجه مسلم ، نكرر منه هذه الفقرة:

«ثم يسيرون حتيٰ ينتهوا إليٰ جبل الخمر، وهو جبل بيت المقدس، فيقولون: لقد قتلنا أهل الأرض، هلم فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشابهم إليٰ السماء، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوية بالدم».

وأخرج ابن ماجة (1) عن أبي سعيد الخدري، أنّ رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) ، قال:

« تفتح يأجوج ومأجوج، فيخرجون، كما قال الله تعاليٰ: « وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ » فيعمون الأرض وينحاز منهم المسلمون، حتيٰ تصير بقية المسلمين في

ص: 191


1- انظر السنن: ج 2، ص 1363.

مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم، حتيٰ إنهم ليمرون بالنهر فيشربونه، حتيٰ ما يذرون فيه شيئاً، فيمر آخرهم عليٰ أثرهم، فيقول قائلهم: لقد كان بهذا المكان مرة ماء.

ويظهرون عليٰ الأرض، فيقول قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، ولتنازل أهل السماء، حتيٰ أن أحدهم ليهز حربته إليٰ السماء فترجع مخضبة بالدم، فيقولون: قد قتلنا أهل السماء.

فبينما هم كذلك إذ بعث الله دراب كننف الجراد، فتأخذ بأعناقهم، فيموتون موت الجراد، يركب بعضهم بعضاً.

فيصبح المسلمون لا يسمعون لهم حساً، فيقولون: من رجل يشري نفسه وينظر ما فعلوا؟ فينزل منهم رجل قد وطن نفسه عليٰ أن يقتلوه، فيجدهم موتيٰ، فيناديهم: ألا أبشروا، فقد هلك عدوكم، فيخرج الناس ويخلون سبيل مواشيهم،فما يكون لهم رعي إلّا لحومهم، فتشكر عليها، كأحسن ما شكرت من نبات أصابته قط».

وأخرج الصحيحان(1) وغيرهما بالاسناد عن زينب بنت جحش قالت: إن النبي (صلّي الله عليه وآله ) استيقظ من نومه وهو يقول: «لا إله إلّا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وعند سفيان بيده عشرة، قلت: يا رسول الله، أفنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث »، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، جوّد سفيان هذا الحديث.

وأخرج أبو داود(2) بإسناده عن حذيفة الغفاري في حديث قال فيه: فقال رسول

ص: 192


1- انظر صحيح البخاري: ج 8، ص 76 ، وصحيح مسلم: ج 8، ص 265 واللفظ لمسلم.
2- أنظر السن: ج 2، ص 429.

الله(صلّي الله عليه وآله ) : «لن تكون أو لن تقوم الساعة حتي يكون قبلها عشر آيات: وعدّ منها: خروج يأجوج ومأجوج ».

وينبغي أن نتكلم حول هذه الأخبار في عدة نواحي:

الناحية الأوليٰ:

أنه لا يمكننا الأخذ بالدلالة (الصريحة) لهذه الأخبار الأمر الذي يعين علينا الالتزام بالفهم (الرمزي) لها، وذلك لوجود عدة موانع عن الأخذ بصراحتها، نذكر منها ما يلي:

المانع الأول: وجود التهافت بين بعض مدلولاتها، الأمر الذي يسقطها عن قابلية الإثبات التاريخي.

فإنّ الخبر الذي أخرجه مسلم ورويناه في السابق، يدل علي وجود نبي الله عيسيٰ ابن مريم (عليه السّلام) بين المسلمين عند انتشار يأجوج ومأجوج، وقد أعرضت عنه سائر الأخبار الأخريٰ، فتكون دالة عليٰ عدم وجوده، لأن وجوده ليس بالواقعة البسيطة التي يمكن إهمالها.

كما أن ذاك الخبر دال عليٰ أن زوال يأجوج ومأجوج كان بدعاء المسيح وأصحابه، وأن إزالة جثثهم كان بدعائه أيضاً، والأخبار الأخريٰ خالية عن ذلك، ويدل خبر ابن ماجة عليٰ أنهم يهلكون بإرادة مباشرة من الله عزوجل.

كما أن خبر مسلم متضمن لوجود المطر الذي يغسل الأرض من نتنهم بعد زوال جثثهم.. وهذا ما سكتت عنه الأخبار الأخريٰ، واعتبرته كأنه لا حاجة إليه.

كما أن خبر مسلم دال عليٰ أن الطير تنقل الجثث إلي حيث يشاء الله، ولكن خبر ابن ماجة دال عليٰ أن الأغنام تأكل لحومهافنشكر عليها أي تسمن أحسن من أكلها للنباتات.

المانع الثاني: قيام عدد من الحوادث في نقل هذه الأخبار عليٰ المعجزات، بشكل يتنافيٰ مع (قانون المعجزات) الذي تم البرهان عليه في محله.

منها: موت يأجوج ومأجوج، فجأة بطريق إعجازي، وهذا غير ممكن في قانون

ص: 193

المعجزات، فإن أسلوب الدعوة الإلهية . كما قلنا ۔ قائم عليٰ مقابلة السلاح بالسلاح، وتحصيل النصر بالكفاح، لا عن طريق المعجزات.

وبتعبير آخر: إن كل ما يمكن حصوله بالطريق الطبيعي مهما كان صعباً وبعيداً، لا تقوم المعجزة لتحصيله، ومن الواضح أن تربية وتأديب يأجوج ومأجوج، أو استئصالهم إذا لم يتأدبوا أمر ممكن بالطريق الطبيعي.

ومنها: إزالة آثار نتن الجثث بطريق إعجازي، بشكل وآخر، وإن اختلفت الأخبارفي أسلوبه، ومن الواضح إمكان التنظيف بالطريق الطبيعي.

ومنها: افتراض أكل الماشية للحم، وهو أمر غريب ولا مبرر له في قانون المعجزات، ويزيد غرابة استفادتهم الصحية من أكل اللحم أكثر من أكل النبات.

ومنها: ما ذكر من تصرفات يأجوج ومأجوج أنفسهم، كشربهم بحيرة طبرية حتيٰ تجف، كما في خبر مسلم، أو شربهم من النهر حتيٰ يجف، كما في خبر ابن ماجة، فإن هذا مما لم يتضح فهمه، مهما تزاد عددهم وطال بقاؤهم، ومهما طالت أجسامهم، كما تقول الأساطير.

ومنها: إرسالهم السهام إلي السماء لأجل غزوها.. وليس في هذا غرابة إذا كانوا أغبياء إليٰ هذه الدرجة... وإنما الغرابة في أن تعود السهام مكسوة بالدم من أجل إيهامهم بأنهم قد قتلوا الناس الموجودين في السماء.. فإنه من الأساطير التي لا يمكن أن يكون لها أي مبرر، فضلاً عن موافقته لقانون المعجزات.

هذا ولكن أغلب هذه الأشياء ستصبح حقائق، عند دمجها في تكوين متكامل من الفهم الرمزي، عليٰ ما سنذكر بعد قليل، ومعه تصبح هذه الاعتراضات واردة عليٰ الفهم التقليدي لمثل هذه الأخبار، لا للمقاصد الحقيقة منها.

الناحية الثانية:
اشارة

في عرض أطروحة متكاملة لفهم يأجوج ومأجوج، منطلقة عن (الفهم الرمزي)

ص: 194

للأخبار.

مرت البشرية، بحسب ما هو المقدر لها في التخطيط الإلهي العام، بشكلين منفصلين من الايديولوجية:

الشكل الأول: الاتجاه الذي ينفي ارتباط العالم بخالقه بالكلية، ونستطيع أن نسميه بالمادية المحضة أو الإلحاد التام.

الشكل الثاني: الاتجاه الذي يربط العالم بوجود لخالقه، بشكل وآخر.

ولكل من هذين الاتجاهين فروعه وانقساماته التي تختلف باختلاف المستويٰ العقلي والحضاري للمجتمع البشري.

ويمكن القول بأن تاريخ البشرية عليٰ طوله عاش في الأعم الأغلب الاتجاه الثاني، بمختلف مستوياته، نتيجة لجهود الأنبياء وتربية الصالحين، ومهما فسد المنحرفون والمصلحيون فإنهم لم يخرجوا عن الاعتراف الغامض بالخالق الحكيم، ويكفينا مثالاً عليٰ ذلك قوله تعاليٰ عليٰ لسان مشركي قريش: « مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَي اللَّهِ زُلْفَي » (1) فهم بالرغم من تطرفهم في الكفر، مؤمنون بالخالق، ومن ثم مندرجون في الاتجاه الثاني، وعليٰ هذا الغرار.

يقابل ذلك، الاتجاه الأول الرافض لوجود الخالق تماماً..... والمعطي زمام قيادة الإنسان بيد نفسه، بالرغم من قصوره وتقصيره.

ولم يوجد عليٰ مر التاريخ لهذا الاتجاه وجود مهم، فيما عدا الأفكار الشخصية المتفرقة في التاريخ.. ما عدا مرتين - فيما نعرف .:

المرة الأوليٰ: اتجاه المادية البدائية، المتمثلة بشكل رئيسي في قبائل يأجوج ومأجوج.

ص: 195


1- الزمر: 29 /3 .

والمرة الثانية: اتجاه المادية الحديثة المعاصرة، بمختلف أشكالها وألوانها.

وقد كان المد المادي الأول خطراً وبالغ الضرر، عليٰ ذوي الاتجاه الثاني عموماً، وبخاصة تلك الشعوب الصالحة المتبعة لدعوات الأنبياء. ولعل القسط الأهم من الضرر لم يكن هو الإفساد العقيدي، وإن كان هذا موجوداً من أولئك الملحدين البدائيين.. وإنما الأهم من أشكال الضرر هو الضرر الاجتماعي والاقتصادي وأشكال القتل والنهب الذي كانت توقعه القبائل البدائية الملحدة علي المجتمع المؤمن.

ومن هنا، خطط الله تعالي للقضاء الحاسم عليٰ هذا المدّ الواسع، بإيجاد قائدكبير ذو حركة عالمية وقدرة واسعة، وممثل لأفضل أشكال الاتجاه المؤمن، هو الاسكندر ذو القرنين.

وقد شكيٰ المجتمع المتضرر لهذا القائد من حملات أولئك البدائيين: «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا » (1) أي أجرة، لكي تكفينا شرهم وتكسر شوكتهم.

وقد استطاع هذا القائد الكبير أن يعلن دعوة الله في الأرض، ويحصر نشاط ذلك المد المادي في أضيق نطاق، وأن يعيد المجتمع البشري إليٰ سابق عهده، من كون الاتجاه المسيطر هو الشكل الثاني للايديولوجية، ويبقيٰ الاتجاه الأول اتجاهاً شخصياً متفرقاً.

وقد اتخذت تدابير ذي القرنين في هذا الصدد، شكلين أساسيين:

الشكل الأول: بناء السد المصوف في القرآن الكريم المتكون من الحديد والصفر، وهو يحتوي عليٰ الحماية (العسكرية) من هجمات القبائل البداية الملحدة.

الشكل الثاني: بناء السد المعنوي في المجتمع المؤمن، وزرع المفاهيم وقوة الإرادة الكافية ضد الانحراف والفساد.

ص: 196


1- الكهف: 18 / 94.

ولعل في الإمكان مع بعض التوسع في فهم القرآن الكريم، أن نحمل السد الموصوف فيه عليٰ السد المعنوي الذي يفصل بين الحق والباطل، وأن الحديد والصفر عبارة عن مكوناته المفاهيمية، إلّا أننا نعرض ذلك كأطروحة محتملة، عليٰ غير اليقين... وإن كان ذلك ممكناً في لغة العرب، ولكننا سنسير بهذاالاتجاه ريثما تتم هذه الأطروحة.

« قال: ما مكني فيه ربي خير ) مما لديكم من المال والحطام، بعد أن مكنه الله تعاليٰ من الملك والهداية معاً.

وكان السد الذي بناه ذو القرنين ضخماً ومهماً، إليٰ حد يكفي لكبح جماح البدائيين الملحدين ورد عاديتهم، «فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً» ، فإن الاتجاهات الملحدة تكون دائبة في نشر عقيدتها واختراق السد الإيماني وقهر قوة الإرادة والإخلاص عند المؤمنين، إلّا أن سد ذي القرنين كان منيعاً لا يمكن لهذه الاتجاهات أن تؤثر فيه.

ولكنه عليٰ أي حال، لم يستطع القضاء عليه نهائياً، بل بقي بوجوده الضعيف مؤثراً في المجتمع الإنساني بمقدار ما يستطيع «وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ » ، ولم يكن مقدراً في التخطيط الإلهي استئصاله عن الوجود، لإمكان مشاركته في التمحيص العام الذي حملنا عنه فكرة كافية، ولذا كان لابد من الاقتصار عليٰ كبح جماحه وكسر شوكته فقط، ببناء السد ضده، عليٰ وجه الأرض أو في نفوس المؤمنين.

ومن هنا بقي هذا الاتجاه في التاريخ، لكي ينمحض بعد حوالي ثلاثة آلاف عام عن السيطرة الجديدة للمادية علي البشر للمرة الثانية، ولكنها في هذه المرة ليست بدائية، ولكنها مادية (تقدمية) ومعقدة ومفلسفة وذات شعارات براقة، وذات قوة ومنعة بحيث يصعب مجرد التفكير في منازلتها فضلاً عن القضاء عليها، وهو معنيٰ قوله في أحد الأخبار السابقة: لا يدان لأحد في قتالهم.

ص: 197

لقد خرقت السد القديم، ولم يعد كافياً للسيطرة عليهم وكبح جماحهم، إن ذلك السد كان مناسباً مع مستويٰ عصره العقلي والثقافي والعسكري، ولم يعدالآن كافياً «حَتَّي إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ »(1) أي من كل جهة ينتشرون، كذلك انتشرت المادية الحديثة.

وتسيطر الحضارة المادية علي خيرات البلاد الإسلامية، في ضمن سيطرتها عليٰ العالم كله، وتستولي مصادرها الطبيعية، فتشرب البحيرات، والأنهار - كما أشارت الأخبار - بمعنيٰ أنها تستغلها تماماً لصالحها، وتمنع أهلها من الاستفادة منها، فيحصل الفقر والقحط في البلاد المحكومة المستعمرة « حتيٰ يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم».

وتأتي الأجيال المتأخرة من اتباع الحضارة المادية، فيقولون: «لقد كان بهذا المكان ماء» ، فإنهم عرفوا من التاريخ أن هذه المنطقة كانت تغل لأملها وتفيدهم، وأما الآن - وبعد سيطرة الحضارة الكافرة - فقد أصبحت الغلات لها، وأصبح وجود الماء كالعدم بالنسبة إلي أهل البلاد.

وأما المسلمون المخلصون فينحازون عنهم ويبتعدون عن ممالأتهم والسير في طريقهم، خوفاً عليٰ إيمانهم من الانهيار، وعليٰ سلوكهم من التفسخ والانحلال.

وحين يتم للحضارة المادية الملحدة، بسط السيطرة عليٰ الأرض، تتجه أطماعها إليٰ السماء، ومن هنا نجدهم « يقولون: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، ولننازلن أهل السماء ، وهذا - بمعناه الرمزي - مما حدث فعلاً، فإن الحضارات المادية بعد أن أحكمت قبضتها عليٰ الأرض، طمعت بغزو السماء، بادثة بالأقرب من الكواكب، ومن هنا انبثقت فكرة غزو الفضاء الخارجي والسير بين الكواكب.

ص: 198


1- الأنبياء: 21/ 96.

« فيرمون بنشابهم إليٰ السماء، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة بالدم »، وهذا ۔ بمعناه الرمزي - مما حدث فعلاً، متمثلاً بإطلاق الاقمار الصناعية والمركبات الفضائية والصواريخ الكونية، فأعجب لمثل هذا التنبؤ الصادق الذي لم يكن للنبي (صلّي الله عليه وآله ) أن يصرح به في عصره إلّا بمثل هذا الرمز، طبقاً لقانون «كلّم الناس عليٰ قدر عقولهم».

ومعنيٰ كونها تعود مخضبة بالدم، هو أنها محاولات ناجحة، تنتج الأثر المطلوب المتوقع.. فكما أن المتوقع من القتل بالحربة أو السهم أن تتخضب بالدم، كذلك من المتوقع للمركبات أن تنتج الخبرات العلمية المطلوبة، وأن تجلب التراب من القمر - مثلاً۔

ولعل في التعبير بأن السهام « ترجع، عليها الدم الذي اجفظ » أي فاض وغزر.... فيه إشارة واضحة إليٰ ذلك... بعد العلم أن السهم الاعتيادي لا يفيض منه الدم، وإنما يراد بذلك التأكيد عليٰ نجاح الرحلات الفضائية، وسعة ماتتجه من نتائج، من حيث العمق والانتشار في العالم.

وحين يتم لهم ذلك ينالهم الغرور بعلومهم ومدنينهم « فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء» ، وكل حضارة ينالها الغرور، وتفشل في التمحيص الإلهي العام للبشرية، لابد أن يحكم عليها بالزوال، ويكون غرورها نذير فنائها واندثارها.. طبقاً للقانون الذي يعرب عنه قوله تعاليٰ: « حَتَّي إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ »(1)

وكما كان للاسكندر ذي القرنين الدور الأهم في منازلة المادية الأوليٰ. سيكون للقائد المهدي (عليه السّلام) الدور الأهم في منازلة المادية الحديثة، ولذا قورن الإمام المهدي (عليه السّلام) بذي القرنين بعدد من الروايات، كما سنسمع بعد ذلك.

ص: 199


1- يونس: 10/ 24.

وسيكون للمسيح (عليه السّلام) مشاركة فعالة في هذا الصدد، تحت قيادة القائد المهدي (عليه السّلام)... إليٰ حد يمكن أن نعبر عنه بأنه السبب المباشر لذلك، مع شيء من التجوز والتعميم، ومن هنا تسبب موت يأجوج ومأجوج إليٰ عمله وجهوده، كما سمعنا من بعض الأخبار.

وأما أسلوب موت هؤلاء، فيمن أن نطرح له أطروحتان:

الأطروحة الأوليٰ:

موتهم عن طريق تفشي الأمراض والأوبئة فيهم.. كما هو الموافق مع ظاهر الأخبار، عليٰ المستويٰ (الصريح) دون الرمزي ففي خبر مسلم: فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم. وفي خبر ابن ماجة: فبينما هم كذلك، إذ بعث الله دراب كنغف الجراد، فتأخذ بأعناقهم فيموتون موت الجراد، يركب بعضهم بعضاً، والنغف دود صغار يكون في الإبل، وكل ما هو حقير عند العرب فهو نغفة(1). ومن هنا يكون الأرجح كونه تعبيراً عن مكونات الأمراض (الميكروبات)، ومن هنا يكون الخبر نبوءة عن هلاك الملايين الجدد عن طريق الأوبئة الفتاكة أو الحرب الجرثومية ونحوها.

الأطروحة الثانية:

أن نفهم من الموت موت الكفر والانحراف، لا موت الأبدان، وهي المهمة الكبريٰ التي يقوم بها المهدي والمسيح (عليهما السّلام) في العالم، ولئن كان الكفر قاتلاً للإيمان، وهو أشد من موت الأبدان «وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ » (2)، فإنّ الإيمان قاتل للكفر، وهو أفضل شكلي الحياة.

وهذا هو الذي يفسر لنا ما يظهر من الأخبار السابقة، من أن موتهم جميعاً يكون سريعاً وفي زمان متقارب جداً، فإنه طبقاً للاطروحة الثانية - نتيجة للجهود الكبيرة

ص: 200


1- راجع أقرب الموارد، مادة نغف.
2- البقرة: 2/ 217، وأنظر أيضاً:2/ 191.

المركزة في السيطرة عليٰ العالم بالعدل وتربية البشرية باتجاه الكمال، وهو أيضاً - دليل عليٰ النجاح الفوري الأكيد لتلك الجهود في اليوم الموعود.

وستكون مخلفات الحضارة المادية الملحدة، كبيرة جداً من الناحية الصناعية والعلمية، وسيكون لذلك الأثر الكبير في دعم الدولة العالمية العادلة، وترسيخ جذور التربية في المجتمع البشري، « فما يكون لهم(1) رعي إلّا لحومهم، فتشكر عليها كأحسن ما شكرت عليٰ نبات قط» فلحومهم - طبقاً لهذه الأطروحة - مخلفاتهم(2)، ومن المعلوم أن المستويٰ التكتيكي الرفيع إذا اقترن بمستويٰ اجتماعي عادل، أنتج أضعافاً مضاعفة من النتائج، مما إذا لم يقترن بالمستويٰ الاجتماعي العادل.

ولم تنج البشرية، ما بين المادتين: البدائية والتقدمية!!! من جذور وبذور وإرهاصات للتجدد والاشتعال، ومن هنا تأسف نبي الإسلام(صلّي الله عليه وآله ) أسفاً شديداً، لأنّه قد «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وعقد عشراً ، من حيث أن هذا الردم الإيماني قد بدأ بالتصدع مقدمة لوجود المادية التقدمية!!

غير أن موقف المهدي والمسيح (عليهما السّلام) سيختلف عن موقف ذي القرنين، فلئن اكتفيٰ ذو القرنين ببناء السد، مع الحفاظ عليٰ وجودهم إجمالاً، طبقاً للتخطيط العام، فإنّ المهدي (عليه السّلام) سيتخذ موقف الاستئصال التام لكل العقائد المنحرفة والكفر

ص: 201


1- الضمير في العبارة راجع إليٰ المواشي، والملحوظ أنه ضمير لمن يعقل، ولو أراد المواشي عليٰ التعيين لقال: لها. ومن هنا يمكن أن نفهم التعميم.
2- وأوضح في الاستفادة من المخلفات ما أخرجه ابن ماجة (ج 2، ص 1359): قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله ) : سيوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم وأترستهم سبع سنين. أقول: ذلك الشاب الذي سمعنا أنهم يرسلونها إليٰ السماء.

والضلال، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، «فيموتون موت الجراد، يركب بعضهم بعضاً ».

الناحية الثالثة:

في الفرق بين يأجوج ومأجوج، والدجال.

فإنه قد يرد إليٰ الذهن: أننا بعد أن فسرنا الدجال بالحضارة المادية، كيف صح لنا أن نفسر يأجوج ومأجوج بنفس التفسير؟ وهل يمكن أن نعترف أنهما تعبيران عن حقيقة واحدة، مع العلم أن تعدد الأسماء والعناوين دليل علي تعدد الحقائق؟

ويمكن أن يجاب ذلك بعدة أجوبة، يصلح كل منها تفسيراً كاملاً للموقف:

الجواب الأول: أن مفهوم (الدجال) ناظر إليٰ الحضارة المادية ككل، ومستوعب لها عليٰ نحو المجموع، وأما مفهوم (يأجوج ومأجوج) فيقسم تلك الحضارة إليٰ قسمين متميزين.

فإنه بالرغم من أن للحضارة المادية ككل مميزاتها وخصائصها التي تفصلها عن الاتجاه الآخر بميزاته وخصائصه، ولها فروقها عن الحضارة الإسلامية والمفاهيم الدينية الإلهية، وهذه الحضارة المادية المنظور إليها بهذا الشكل هي التي تمثل مفهوم الدجال.

..... بالرغم من ذلك، فإن للحضارة المادية انقساماتها الداخلية التي تجعلها في معرض الصراع الداخلي، الذي يكون في الأعم الأغلب عنيفاً وعميقاً، وهذا الانقسام هو المعبر عنه بمفهوم (يأجوج) مرة ومفهوم (مأجوج) أخريٰ.

وهذا الانقسام ليس حديثاً، بل هو قديم قدم المادية نفسها، فالمادية البدائية كانت منقسمة، وكان انقسامها مشوياً بالشعور القبلي، والمادة (التقدمية) منقسمة، ولكن انقسامها أيديولوجي ومصلحي معاً.

الجواب الثاني: إن مفهوم الدجال يمثل المادية الحديثة. ولذا لم ينقل عنه قبل الإسلام أي وجود، وإنما بدأت إرهاصاته - حسب إفادات الأخبار التي عرفناها في

ص: 202

السابق - بعد بدء الإسلام، وكان وجوده الكامل متأخراً عنه بألف عام. وأما مفهوم (يأجوج ومأجوج) فهو يمثل الخط المادي بتأريخه الطويل، ولذا كان له وجود بدائي ووجود حديث، ولم يخل التاريخ المتوسط بينهما من التأثيرات والإرهاصات. وهذا يعني أن الوجود الحديث ليأجوج ومأجوج، هو الدجال نفسه، وليس شيئاً آخر.

الجواب الثالث: إن مفهوم يأجوج ومأجوج، يعني الحضارتين الماديتين بوجودهما الأصيل، وأما عنوان الدجال فلا يعني ذلك بالضبط، وإنما النظر فيه إليٰ نقطة تأثر المسلمين بتلك الحضارة المادية، فالدجال يعبر عن عملاء تلك الحضارة في البلاد الإسلامية، وهم متصفون بنفس أوصافهم ومتخذون نفس منهجهم في الحياة.. وكثيراً ما مارسوا الحكم وزرعوا الشبهات، وحاولوا فك المسلمين عن دينهم ويعادهم عن طريق ربهم.

ويؤيد ذلك اتخاذ مفهوم الدجال، الدال عليٰ أنه مسلم بالأصل، ولكنه أصبح كافراً ومنحرفاً، يدعو الناس إليٰ الكفر والانحراف، وقد ينطلق في إثبات أفكاره في الأذهان عن طريق الخداع والتمويه، باستعمال المفاهيم الإسلامية بشكل مشوه و مستغل للمنافع الشخصية والنتائج الباطلة. كما يدل عليه الحديث الذي أخرجه أبو داود(1)، قال: قال رسول الله(صلّي الله عليه وآله ) : « من سمع الدجال قلينا عنه، فوالله إن الرجل

ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات » وهناك أجوبة أخريٰ محتملة للجواب عليٰ السؤال الذي ذكرناه في هذه الناحية،الاحاجة إليٰ سردها.

وللقاريء أن يختار أيّاً من هذه الوجوه الثلاثة شاء... فإن أيّاً منها كاف في تصحيح تفسيرنا للدجال وليأجوج ومأجوج معاً.

ص: 203


1- أنظر السنن: ج 2، ص 431.
الناحية الرابعة:

طبقاً للاطروحة التي فهمناها عن يأجوج ومأجوج، فإن انتشارهما من ردمهما سيكون قبل عصر الظهور، وسيظهر المهدي (عليه السّلام) وينزل المسيح عيسيٰ ابن مريم، وهم حلبة العالم، فيتم القضاء عليهم تماماً.

غير أن بعض الأخبار دال عليٰ تأخر انتشارهما عن عصر الظهور.

منها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك(1) في حديث يتحدث فيه عن نزول المسيح وسيطرة المسلمين وقتلهم لليهود، ويقول: ويظهر المسلمون فيكسرون الصليب ويقتلون الخنزير ويضعون الجزية، فينما هم كذلك أخرج الله أهل يأجوج ومأجوج.. الحديث.

فإذا عرفنا أن نزول المسيح وكسر الصليب وقتل الخنزير تعبير آخر عن قيام الدولة العالمية المهدوية العادلة... كان الحديث دالاً عليٰ خروج يأجوج ومأجوج بعد تأسيس هذه الدولة.

ومنها: ما أخرجه مسلم (2) ورويناه في السابق في حديث يذكر فيه حادثة نزول المسيح ثم يقول: « فبينما هو كذلك إذ أوحيٰ الله إلي عيسيٰ أني قد أخرجت عباداً لي لا بدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إليٰ الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون... » الحديث.

فإذا استطعنا أن نبرهن - كما سيأتي - عليٰ تأخر نزول المسيح (عليه السّلام) عن ظهورالمهدي (عليه السّلام)، وكان انتشار يأجوج ومأجوج بعد نزول المسيح - كما قال هذا الخبر - إذاً، فسيكون انتشارهم بعد ظهور المهدي(عليه السّلام) .

ص: 204


1- أنظر المستدرك عليٰ الصحيحين: ج 4، ص 491.
2- أنظر صحيح مسلم: ج 8، ص 197 وما بعدها.

إلّا أنه يمكن المناقشة في هذه الأخبار من وجهين:

الوجه الأول: وجود الدلالات المعارضة في الأخبار لهذه الدلالة.. تدل عليٰ تقدم ظهور يأجوج ومأجوج عليٰ الظهور.

ولعل أهم ما يدل عليٰ ذلك: ما دل من الأخبار عليٰ خوف المسلمين من فتح يأجوج ومأجوج، وهي عديدة وقد سمعنا بعضها، وهي دالة بوضوح عليٰ تحصن المسلمين منهم وعجزهم عن قتالهم وسحبهم لمواشيهم معهم وهذا الخوف إنما يمكن تحققه قبل تأسيس الدولة العالمية، بل قبل ظهور المهدي (عليه السّلام) أساساً، إذ لا معنيٰ للخوف بعد الظهور، حين يكون النصر محرزاً والأمن مستتباً ..... طبقاً لقوله تعاليٰ: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَي لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا »(1).

إذاً، فيتعين أن يكون انتشار يأجوج ومأجوج الموجب للخوف والتحرز بين المسلمين، سابقاً عليٰ الظهور حين لا يكون للمسلمين قوة عليا وهيمنة.

وقد يخطر في الذهن: أن هذه الأخبار دلت عليٰ وجود هذا الخوف بين المسلمين بالرغم من وجود المسيح (عليه السّلام) فيهم، وأنه(عليه السّلام) مأمور بتحصينهم ضد اعتداءات يأجوج ومأجوج، فإذا كان نزول المسيح (عليه السّلام) بعد الظهور كما أسلفنا، إذاً فسيكون فتح يأجوج ومأجوج بعده أيضاً.

والصحيح: أن هذه الرواية إنما تدل عليٰ تقدم نزول المسيح عليٰ الظهور، وأنه ينزل في زمان اضطراب المسلمين وضعفهم ووجود الفتن فيهم.. ويكفينا الآن أن نعلم بوجود عدد من الأخبار دال علي تأخر نزوله (عليه السّلام) عن الظهور.

ص: 205


1- النور: 24/ 55.

إذاً، فلابد من الالتزام بأن انتشار يأجوج ومأجوج سابق علي النزول والظهور معاً، ونرفع اليد عن دلالة هذا الخبر بهذا المقدار، وهو المطابق مع الأطروحة التي عرفناها قبل قليل.

الوجه الثاني: وجود الدلالات المعارضة من ناحية أخريٰ. وذلك: أننا سنسمع الروايات الواردة لسرد حوادث ما بعد الظهور، وسنجدها جميعاً خالية من التعرض ليأجوج ومأجوج، وإنما سنجد العالم هو العالم الذي نعرفه خالياً من الغرائب التي نسبت إلي هاتين القبيلتين، يظهر المظهدي(عليه السّلام) وينزل المسيح(عليه السّلام) فيحكمان فيه بالعدل، ومه تكون تلك الأخبار ككل دالة عليٰ عدم انتشار يأجوج ومأجوج يومئذ.

وحيث علمنا من القرآن الكريم والسنة الشريفة، أنهم لابد أن ينتشروا في يوم ما، إذا فهذا واقع قبل الظهور لا محالة.

وهنا لابد لنا أن نتنازل عما دلت عليه بعض الأخبار السابقة عن تأخر انتشار هاتين القبيلتين عن نزول المسيح، تماماً كما قلنا في الجواب السابق.

وينبغي أن نلاحظ أيضاً، أنه طبقاً للأطروحة التي فهمناها لا تكون هناك أية معارضة بين أخبار يأجوج ومأجوج وبين الروايات التي تذكر حوادث ما بعدالظهور، لأن هذه الأطروحة كما تقول بتقدم انتشار يأجوج ومأجوج المادية عليٰ الظهور، تنفي عن هاتين القبيلتين كل الغرائب، وإنما هما يمثلان العالم نفسه كما نعرفه؛ فما عرفناه من دلالة الأخبار عليٰ سيطرة المهدي (عليه السّلام) عليٰ العالم كما نعرفه، يكون منسجماً مع الأطروحة كل الانسجام.

نعم، طبقاً للاطروحة يكون عمل المهدي (عليه السّلام) مكرساً في أول ظهوره للسيطرة عليٰ يأجوج ومأجوج، أو المادية السابقة عليٰ ظهوره، وهذا المفهوم لم يرد في أخبار ما بعد الظهور، وهذا يعني تحول المفهوم في هذه الأخبار وترك التعرض إليٰ عنوان يأجوج ومأجوج ولا يعني وجود الإشكال في هذه الأطروحة.

ص: 206

السفياني
اشارة

وهو من الحركات الاجتماعية التي أكدت عليها المصادر الإمامية تأكيداً كبيراً، وأهملتها مصادر العامة إليٰ حد كبير، عليٰ العكس من الدجال، كما أشرنا في الباب الأول.

وقد سبق هناك أن ذكرنا العديد من تفاصيل أوصافه وأعماله، وأعطينا عنه فهماً خاصاً، وهو كونه يمثل حركة الانحراف، أو حركة منحرفة واسعة النفوذ، في داخل المجتمع المسلم.

والمهم هنا أن ننظر إليٰ أعمال السفياني، كشيء سبق عليٰ الظهور بقليل، بحيث يتم الظهور، ولا يزال السفياني يعمل عمله وينشر حكمه ودعوته، كما عليه ظاهر الأخبار.

وينبغي أن نتكلم حول ذلك ضمن عدة نواحي:

الناحية الأولي:

في سرد الأخبار التي تفيدنا في حدود الغرض الذي أشرنا إليه، بعد أن سردنا من أخبار السفياني في السابق الشيء الكثير وعرفنا أنها متواترة لا مناص من الأخذ بها إجمالاً.

ص: 207

أخرج الصدوق(1) عن أبي منصور البجلي، قال: سألت أبا عبد الله(عليه السّلام) عن اسم

السفياني، فقال: «وما تصنع باسمه؟ إذا ملك كور الشام الخمس: دمشق وحمص وفلسطين والأردن وقنسرين، فتوقعوا الفرج، قلت: يملك تسعة أشهر؟ قال: لا، ولكن يملك ثمانية أشهر لا يزيد يوماً».

وأخرج النعماني في الغيبة(2) عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السّلام) في حديث طويل يقول فيه: « لابد لبني فلان من أن يملكوا، فإذا ملكوا ثم اختلفوا تفرق ملكهم أو تشتت أمرهم، حتيٰ يخرج عليهم الخراساني والسفياني، هذا من المشرق وهذا من المغرب، يستيقان إليٰ الكوفة كفرسي رهان، هذا من هنا وهذا من هنا، حتي يكون هلاك بني فلان عليٰ أيديهما، أما إنهم لا يبقون منهم أحداً.

ثم قال: خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد،كنظام الخرز، يتبع بعضه بعضاً... » الحديث.

وأخرج النعماني أيضاً (3) بسنده عن الحارث عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) في حديث يقول فيه: « وإذا كان ذلك، خرج السفياني، فيملك قدر حمل امرأة، تسعة أشهر، يخرج بالشام، فينقاد له أهل الشام إلّا طوائف من المقيمين عليٰ الحق، يعصمهم الله من الخروج معه، ويأتي المدينة بجيش جرار، حتيٰ إذا انتهيٰ إليٰ بيداء المدينة خسف الله به، وذلك قول الله عز وجل في كتابه: «وَلَوْ تَرَي إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ »(4).

ص: 208


1- أنظر إكمال الدين (المخطوط).
2- ص 135.
3- ص 163.
4- سبأ: 34/ 51.

وأخرج أيضاً(1) بسنده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: « السفياني أحمر أصفر أزرق، لم يعبد الله قط، ولم ير مكة ولا المدينة قط، يقول: يارب ثأري والنار، يا رب ثأري والنار ».

وأخرج الشيخ في الغيبة(2)عن بشر بن غالب (قال): « يقبل السفياني من بلاد الروم منتصراً في عنقه صليب، وهو صاحب القول ».

وأخرج أيضاً (3) عن أبي عبد الله(عليه السّلام)

قال: «كأني بالسفياني - أو لصاحب السفياني - قد طرح رحله في رحبتكم بالكوفة، فناديٰ مناديه: من جاء برأس شيعة علي، فله ألف درهم، فيثب الجار عليٰ جاره، ويقول: هذا منهم، فيضرب عنقه ويأخذ ألف درهم، أما إن أمارتكم يومئذ لا تكون إلّا لأولاد البغايا ».

ولعل أهم الأخبار التي تحدد حركات السفياني وحروبه، خبران: أحدهما: ما أخرجه الشيخ (4) عن عمار بن ياسر (أنه قال:)

« إن دولة أهل بيت نبيكم في آخر الزمان، ولها أمارات... إليٰ أن قال: ويظهر ثلاثة نفر بالشام كلهم يطلب الملك: رجل أبقع ورجل أصهب ورجل من أهل بيت أبي سفيان، يخرج من كلب، ويحضر الناس بدمشق، ويخرج أهل المغرب إلي مصر، فإذا دخلوا فتلك أمارة السفياني.

ويخرج قبل ذلك من يدعو لآل محمد، وتنزل الترك الحيرة، وتنزل الروم فلسطين، ويسبق عبدُ الله عبدَ الله حتيٰ يلتقي جنودهما بقرقيسيا عليٰ النهر ويكون قتال عظيم، ويسير صاحب المغرب فيقتل الرجال ويسبي النساء، ثم يرجع في

ص: 209


1- الغيبة: ص 164.
2- ص 278.
3- المصدر: ص 273.
4- المصدر: ص 278.

قيس حتيٰ ينزل الجزيرة السفياني، فيسبق اليماني، ويحوز السفياني مع جمعوا، ثم يسير إليٰ الكوفة فيقتل أعوان آل محمد(صلّي الله عليه وآله ) ويقتل رجلاً من مسميهم، ثم يخرج المهدي عليٰ لوائه شعيب بن صالح.

وإذا رأيٰ أهل الشام قد اجتمع أمرها عليٰ ابن أبي سفيان، فالحقوا بمكة، فعند ذلك تقتل النفس الزكية، وأخوه بمكة ضيعة، فينادي مناد من السماء: أيها الناس، أميركم فلان، وذلك هو المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً» .

ثانيهما: ما أخرجه النعماني (1) بسنده إليٰ جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بنعلي (عليه السّلام) في حديث طويل يقول فيه:

«يختلفون عند ذلك عليٰ ثلاث رايات، راية الأصهب وراية الأبقع وراية السفياني، فيلتقي السفياني بالأبقع فيقتتلون، فيقتله السفياني ومن تبعه، ويقتل الأصهب، ثم لا يكون له همة إلّا الإقبال نحو العراق، ويمر جيشه بقرقيسيا، فيقتتلون بها، فيقتل بها من الجبارين مائة ألف، ويبعث السفياني جيشاً إليٰ الكوفة، وعدتهم سبعون ألفاً، فيصيبون أهل الكوفة قتلاً وصلباً وسبياً، فبينما هم كذلك إذ أقبلت رايات من خراسان، وتطوي المنازل طياً حثيثاً، ومعهم نفر من أصحاب القائم.

ثم يخرج من موالي أهل الكوفة في ضعفاء، فيقتله أمير جيش السفياني بين الحيرة والكوفة، ويبعث السفياني بعثاً إليٰ المدينة، فينفر المهدي (عليه السّلام) منها إليٰ مكة، فيبلغ أمير جيش السفياني أن المهدي قد خرج إليٰ مكة، فيبعث جيشاً عليٰ أثره، فلا يدركه حتيٰ يدخل مكة خائفاً يترتب عليٰ سنة موسيٰ بن عمران.

ص: 210


1- أنظر الغيبة للنعماني: ص 149.

قال: وينزل أمير جيش السفياني البيداء، فينادي مناد من السماء: يا بيداء أبيدي القوم، فيخسف بهم، فلا يفلت منهم إلّا ثلاثة نفر » الحديث.

ثم يبدأ الحديث بشرح حوادث الظهور التي ستسمعها في القسم الثاني.

وسنذكر الأخبار الدالة عليٰ قتال السفياني للمهدي ومقتله عليٰ يده في ناحية آتية.

الناحية الثانية:
اشارة

في إمكان الاعتماد عليٰ هذه الأخبار في الإثبات التاريخي، طبقاً للمنهج الذي سرنا عليه.

إن الاتجاه العام لهذه الأخبار منطبق علي هذا المنهج، لولا بعض نقاط الضعف:

النقطة الأوليٰ:

أن الخبر الذي رواه الشيخ عن عمار بن ياسر، لم يرو عن أحد المعصومين (عليهم السّلام) ، بل عن عمار نفسه، وإن كان من الراجح أنه استقي هذه المعلومات عنهم(عليهم السّلام)، إلّا أن الكلام كلامه، بدليل قوله في أول الخبر: إن دولة أهل بيت نبيكم في آخر الزمان.... الدال عليٰ أن المتحدث لم يعتبر نفسه من أهل البيت، وهذا ما لا يحدث لو كان المتحدث أحد المعصومين (عليهم السّلام) ومعه يسقط الخبر عن الإثبات التاريخي، وتكون صحته متوقفة عليٰ القرائن أو اشتراك نقله مع الأخبار الأخريٰ، أو تحقق ما أخبر به في العالم الخارجي.

وهذا هو الحال في الخبر الذي أخرجه الشيخ عن بشر بن غالب، فإن الظاهر منه أنه هو المتكلم، فلا يكون قابلا للاثبات التاريخي.

ص: 211

النقطة الثانية:

أن خبر عمار غير مترتب من حيث الزمان، فهو يحتوي عليٰ حوادث مختلطة: متقدمة ومتأخرة، وغير محددة عليٰ ما يبدو.

فنزول الترك الحيرة، تعبير عن السيطرة العثمانية عليٰ العراق، ونزول الروم فلسطين هو الغزو الصليبي، وصاحب المغرب هو - عليٰ الأرجح - أبو عبد الله الشيعي الذي مهد بقتاله الواسع في شمال افريقيا لحكم المهدي الافريقي(محمد بن عبد الله)(1) جد الفاطميين الذين حكموا بعدئذ مصر ردحاً من الزمن.

وهذه الحوادث وردت في الحديث عليٰ عكس حدوثها التاريخي تماماً كما ينضح بمراجعة التاريخ الإسلامي، وإذا كانت حوادث الماضي فيه غير مرتبة فلعل حوادث المستقبل فيه كذلك.

النقطة الثالثة:

أن هناك تهافتاً بين بعض مضامين هذه الأخبار.

فمن ذلك: مدة بقاء حكم السفياني، فبينما يصرح أحد الأخبار أنه يملك قدر حمل امرأة تسعة أشهر، نريٰ خبراً آخر ينفي ذلك بصراحة، وأنه لا يملك إلّا ثمانية.

ومن ذلك: موعد وجود حركة السفياني، فبينما يظهر من بعض هذه الأخبار أن زوال دولة بني العباس يكون عليٰ يده، إذا فهمنا من بني فلان ذلك كما هو الظاهر، ومعنيٰ ذلك أن حركة السفياني قد وجدت وانتهت منذ أمد بعيد.

.. نجد - إلي جنب ذلك - ارتباط حركة السفياني بالخسف، وأن المهدي (عليه السّلام) نفسه هو الذي يقتله. ومعنيٰ ذلك أن حركته لم تحدث لحد الآن، وكم بين هذين

ص: 212


1- أنظر تاريخ الغيبة الصغري: ص 354.

الموعدين من بعد شاسع.

غير أننا في السابق ناقشنا الخبر الدال عليٰ إزالته لدولة بني العباس.. ومعه يكون هذا الموعد منتفياً، ويتعين الموعد الآخر.

ومن ذلك: تعيين دين السفياني، فبينما نسمع من أحد الأخبار أنه مسيحي بشكل وأخر (في عنقه الصليب) نجد في خبر آخر أنه من المسلمين المهتمين باستئصال شيعة علي(عليه السّلام) ، مع الالتفات إليٰ أن المسيحي قلما يكون له اهتمام خاص بذلك.

ومن ذلك: أن هناك تشويشاً وتضارباً في تسمية القادة الموجودين قبل الظهور، فإن ظاهر الأخبار تعاصر هذه الحركات تقريبا، وكلها ذات أهمية في المجتمع، إليٰ درجة يكون إهمال الخبر لذكر بعض قرينة عليٰ عدمه أساساً لعدم إمكان الإعراض عن ذكره - عادة - مع وجوده.

ففي بعض الأخبار لا نجد غير السفياني، وفي بعضها نجد الخراساني والسفياني دون غيرهما، وفي أخبار أخريٰ نسمع بوجود عدة قواد: أبقع وأصهب وسفياني ويماني.

وقل مثل ذلك في المنطقة التي يحكمها السفياني، فإن المقدار الواضح من الأخبار انطلاقه من دمشق وسيطرته عليها، إليٰ جنب عدم وصوله إليٰ مكة والمدينة المشرفتين، وأما بالنسبة إليٰ باقي البلدان، فالأمر لا يخلو من تشويش.

ولعل من أوضح موارد التشويش هذه: الكوفة، حيث نسمع من بعض الأخبار ارتكازه فيها وسيطرته عليها نجد في بعضها الآخر أن (الخراساني) يحتلها معه أيضاً.

بل إن انطلاقه من دمشق أيضاً لا يخلو من ظلال، نظراً إلي الخبر القائل: بأن السفياني يقبل من بلاد الروم.

غير أن الذي يهون الخطب أن أكثر منطلقات هذه النقطة قابل للتذليل مع شيء من التفكير، كما سوف نطبق بعضه فيما يلي.

ص: 213

الناحية الثالثة:
اشارة

من الحديث عن السفياني: في محاولة فهم الحوادث التي تدل عليها هذه الأخبار،ومحاولة ضبطها وترتيبها، انطلاقاً من ظاهرها عليٰ المستويٰ (الصريح) دون (الرمزي)... مالم تعن الحاجة إلي الحمل عليٰ الرمز أحياناً.

إن منطلق السفياني سيكون هو الشام دون بلاد الروم، وأما الخبر الدال علي إقباله من هناك، فسنذكر له فهماً خاصاً في حديثنا عن علاقة السفياني بالدجال.

إن دمشق الشام ستكون في يوم من الأيام مسرحاً لحروب داخلية وصدام مسلح بين فئات ثلاث كلها منحرفة عن الحق، وكل منها يريد الحكم لنفسه، ولا تعبر لنا الأخبار عن اتجاهات هؤلاء وعقائدهم بوضوح، غير أنها توضح وجود الاختلاف بينها عن طريق اختلاف ألوانها.. وهي تعبر عن ألوان الأمراء باعتبارهم مركز الثقل في التوجيه الفكري والعسكري لقواعدهم الشعبية، فأحدهم: أبقع، والآخر: أصهب، والآخر: أحمر أصفر أزرق، وهو السفياني، وهو الذي يكتب له النصر في هذه المعمعة، ويستطيع السيطرة عليٰ الموقف في الشام، ويتبعه أهلها، إلّا عدد قليل من الناس، يعصمهم الله تعاليٰ عن اتباعه، وهم جماعة من المخلصين الممحصين الكاملين، المعبَّر عنهم في بعض الأخبار بالأولياء والأبدال، كما أسلفنا، ويحكم السفياني الكور الخمس: دمشق، وحمص وفلسطين والأردن وقنسرين(1) إليٰ جنب ما سوف يملكه من مدن العراق.

وحين يستتب له الأمر يطمع بالسيطرة عليٰ العراق، ويفكر في غزوها عسكرياً،

ص: 214


1- الكور جمع كورة، وهي المدينة والبقعة (أنظر أقرب الموارد ج 2، ص 1112)، وقنسرين كورة بالشام بالقرب من حلب، وهي أحد أجناد الشام. قبل ابن الأثير: وكان الجند ينزلها في ابتداء الإسلام ولم يكن لحلب معها ذكر (تاج العروس: ج 3، ص 508 مادة: قنسر).

فيوجه إليها جيشاً يكون هو قائده، فيلتقي في طريقه جيش أرسله حكام العراق من أجل دفعه، فيقتتل الجيشان في منطقة تسميٰ بقرقيسيا(1) ويكون قتالهما ضارياً، يقتل فيه من الجبارين حوالي مائة ألف، والجبار العنيد هو كل حاكم منحرف.. وهو كناية عن أن كل من يقتل يومئذ من أي الجيشين هو من الفاسقين المنحرفين. وبذلك تتخلص المنطقة من أهم القواد العسكريين الذين يحتمل أن يجابهوا المهدي (عليه السّلام) عند ظهوره.

وعليٰ أي حال، فالنصر سوف يكون للسفياني أيضاً، فيدخل العراق، ويضطر إلي منازلة (اليماني) في أرض الجزيرة(2) فيسيطر عليه أيضاً ويحوز من جيش اليماني ما كان قد جمعه من المنطقة خلال عملياته العسكرية.

ثم يسير إلي الكوفة، فيمعن فيها قتلاً وصلباً وسبياً.... ويقتل أعوان آل محمد(صلّي الله عليه وآله ) ورجلاً من مسميهم يعني من المحسوبين عليهم، وقد سمعت ما في أحد الأخبار من أنه ينادي مناديه في الكوفة: من جاء برأس من شيعة علي، فله ألف درهم، فيثب الجار عليٰ جاره، وهما عليٰ مذهبين مختلفين في الإسلام، ويقول: هذا منهم، فيضرب عنقه، ويسلم رأسه إليٰ سلطات السفياني، فيأخذ منها ألف درهم.

ولا تستطيع حركة ضعيفة وتمرد صغير يحدث في الكوفة من قبل مؤيدي اتجاه أهلها... لا تستطيع التخلص من سلطة السفياني، بل سوف يفشل وسيتمكن السفياني من قتل قائد الحركة بين الحيرة والكوفة، وكأنه يكون قد انهزم بعد فشل حركته، فيلقي السفياني عليه القبض في الطريق فيقتله.

ص: 215


1- في مراصد الاطلاع بالمد: بلد عليٰ الخابور عند مصبه، وهي عليٰ الفرات، جانب منها عليٰ الخابور وجانب عليٰ الفرات، أنظر ج 3 ص 1080.أقول: وهي منطقة واقعة في سوريا الآن قريبة من الحدود العراقية.
2- وهي أرض ما بين النهرين في العراق.

وفي بعض الأخبار أنه تراق بين الحيرة والكوفة دماء كثيرة، وهو إشارة إليٰ هذه الحادثة... وفيها الدلالة عليٰ أن لقائد الحركة مركزاً مهماً هناك، لن يستطيع السفياني السيطرة عليه بسهولة. وحين يستتب له الأمر في العراق أيضاً يطمع في غزو الأراضي المقدسة في الحجاز، فيرسل جيشاً ضخماً إليٰ المدينة لاحتلالها، وظاهر أغلب الأخبار أن السفياني نفسه ليس فيه، فيسير هذا الجيش بعدته وسلاحه متوجهاً نحو المدينة المنورة، ويكون الإمام المهدي (عليه السّلام) يومئذ في المدينة، فيهرب منها إليٰ مكة، فيعرف السفياني ذلك عن طريق استخباراته، فيرسل جيشاً في أثره متوجهاً نحو مكة محاولاً قتله والإجهاز عليه وعليٰ أصحابه، وظاهر سياق الأخبار أن الجيش المتوجه إليٰ مكة هو جزء من الجيش الذي كان متوجهاً إلي المدينة المنورة.

إلّا أن مكة حرم آمن بنص القرآن الكريم، لا يمكن أن يخاف فيه المستجير كما أن الإمام المهدي(عليه السّلام) قائد مذخور لليوم الموعود وهداية العالم، لا يمكن أن يقتل، ولابد من حمايته.. ومن هنا تقتضي الضرورة إفناء هذا الجيش، والقضاء عليه بفعل إعجازي إلهي، فيخسف به في البيداء، ولا ينجو منه إلّا نفر قليل: اثنين أو ثلاثة يخبرون الناس عما حصل لرفاقهم.

إلّا أن ذلك لا يعني الكفكفة من غلواء السفياني، بعد أن ملك سوريا والعراق والأردن وفلسطين ومنطقة واسعة من شبه الجزيرة العربية، وهدد الإمام المهدي وحاربه.. بل سيبقيٰ حكمه ريثما يظهر المهدي(عليه السّلام) بعد الخسف بقليل ويرد بجيشه إليٰ العراق، ويناجزه القتال فيسيطر عليه ويقتله، كما سنذكر.

هذا، وقد اعتبرنا في هذا الفهم التسلسل الحوادث أن كل ما ورد في شيء من الأخبار من دون أن يكون له ناف أو معارض في خبر آخر، فهو ثابت، وهذا صحيح في سائر الأخبار، غير الخبرين اللذين عرفنا ورودهما عن غير المعصومين (عليهم السّلام) ،

ص: 216

وهما من نقاط الضعف في هذا الفهم.

كما أنها قد تواجه نقاط ضعف أخريٰ، ينبغي عرضها ونقدها:

النقطة الأوليٰ:

أنه قد يخطر في الذهن: أن هذه التحركات العسكرية وما رافقها من الملابسات، صيغت عليٰ غرار تحركات الجيوش القديمة التي كانت تحارب خلال العصر العباسي -مثلاً- حيث لا يوجد قانون دولي ولا أمم متحدة ولا حدود معترف بها، وأما بعد أن تقدمت الحضارة وأسست هذه الأسس فمن غير المحتمل أن تحدث مثل هذه التحركات.

ويمكن عرض عدة أجوبة عليٰ هذه النقطة، نذكر منها جوابين:

الجواب الأول: أن قيمة القانون وما يستتبعه من الاعتراف بالأمم المتحدة والحدود الآمنة المعترف بها إنما تنطلق من المصلحة الخاصة ليس إلّا، لأنّ الفرد أو الدولة إذا تنازلت عن شيء من المصلحة أمكن تبادل هذا التنازل مع الآخرين، وبذلك تنحفظ مصالح خاصة أهم وأشمل.

وأما في الوقت الذي يحرز الفرد أو الحاكم إمكان سيطرته عليٰ الآخرين وحصوله عليٰ الربح مع إحراز دفع الضرر عن نفسه، فسيكون هو وبنود القانون عليٰ طرفي نقيض.

ومن هنا لم يكن وجود القانون ولا الأمم المتحدة ولا محكمة العدل الدولية مانعاً عن أنواع الاعتداءات وأشكال الغزو والسيطرة عليٰ الشعوب الضعيفة من قبل مختلف الأنظمة، كما نشاهده باستمرار، وليست حركة السفياني بأفضل من أي واحد من هذه الاعتداءات.

الجواب الثاني: أنه من المحتمل - عليٰ الأقل - أن تكون تحركات السفياني ذات طابع (قانوني) مشروع في حدود الفهم الحديث لهذه المشروعية، كما لوكانت

ص: 217

نتيجة لاتفاقيات بين الدول أو اتحاد في شكل الأنظمة فيما بينها، أو إعلان شكل من الاتحاد بين اثنين أو أكثر منها، وغير ذلك مما لا حاجة إليٰ الدخول في الحديث عن تطبيقاته في عالم اليوم.

وبهذا يرتفع الإشكال الذي قد يرد إليٰ الذهن، من حيث أن ظاهر الأخبار عدم وجود أية مقاومة ضد جيش السفياني حين يدخل الحجاز... فإن ذلك يكون نتيجة لاتفاقات معينة، أو لضعف الحكم القائم هناك يومئذ تجاه الجيش المحتل ضعفاً شديداً.

النقطة الثانية:

أن ظاهر بعض الأخبار التي سمعناها، كون الإمام المهدي (عليه السّلام) قبل ظهوره معروفاً للسفياني، ويبدو أن الهدف الرئيسي للجيش الذاهب إليٰ الحجاز هو قتل المهدي (عليه السّلام)، ومن هنا يخاف (عليه السّلام) ويهرب من المدينة إليٰ مكة عليٰ سنة موسي بن عمران(عليه السّلام) حين هرب إليٰ مدين... ويكون الخسف بالجيش إنقاذاً له، ويفهم السفياني بهرب المهدي (عليه السّلام) فيرسل خلفه جيشاً فيخسف به.

وهذا - بظاهره - مناف لمسلك الغيبة الذي يتخذه الإمام (عليه السّلام) إليٰ حين ظهوره، وخاصة من الأعداء الذين يحتمل فيهم أن يقتلوه أو يشكلون خطراً عليه ولو انحصر الأمر بذلك وجب رفض دلالة الخبر للجزم بثبوت الغيبة قبل الظهور.

لكننا يمكننا الاستغناء عن هذه النقطة أيضاً، لو التفتنا إليٰ (أطروحة خفاء العنوان) والتي تقول: إن المهدي (عليه السّلام) خلال غيبته يريٰ الناس ويرونه ولا يعرفونه، وإنما تكون غيبته باعتبار غفلة الناس مطلقة عن حقيقته.. ويعرفونه بعنوان مستعار وشخصية (ثانوية) يتخذها المهدي (عليه السّلام) في المجتمع.

ومعه، فمن الممكن أن السفياني يعرف تلك (الشخصية الثانوية) أعني ما اتخذه المهدي من عنوان مستعار في ذلك العصر، ويتابع أخباره بتلك الصفة، ويرسل

ص: 218

جيشاً لقتله بتلك الصفة أيضاً، وإنما عبر عنه في الأخبار بالمهدي باعتبار حقيقته، وإنما يخسف بالجيش المعادي له باعتبار ذلك أيضاً، إلّا أن السفياني لن يشعر أنه قاصد لقتل المهدي (عليه السّلام) نفسه، ولن يشعر الناس بذلك أيضاً لأنه والناس إنما يعرفونه بشخصيته الثانوية دون الحقيقية.

النقطة الثالثة:

أنه تبقيٰ عدة فجوات في تسلسل الحوادث لم تنطق بها الأخبار بوضوح.. ومن الصعب استدراكها بطبيعة الحال، نذكر لها بعض الأمثلة:

منها: دور الجماعة المقبلة من خراسان، وفيها بعض أصحاب القائم (عليه السّلام) بقيادة (الخراساني)، ما هو دورها في العراق هل هو عسكري أو فكري أو ليس لها أي دور؟ ما هو موقف السفياني منها حين يسيطر عليٰ البلاد؟

ومنها: دور اليماني عسكرياً وفكرياً وعقائدياً، وإن كان المظنون أنه هو المشار إليه في بعض الأخبار بأن راينه راية هديً، كما سمعنا في السابق، والسفياني سيجهز عليه وسيخلي الساحة العراقية منه، إلّا أن فجوات أخريٰ سوف تبقيٰ غير قابلة للجواب.

ومنها: عدد أفراد الجيش الذين يتجهون إليٰ مكة المكرمة للقبض عليٰ المهدي (عليه السّلام) فهل هو جماعة كبيرة أو صغيرة؟ فبينما يعبر عنه في عدد من الأخبار بالجيش، وهو يوحي بالعدد الكبير، ويؤيده ما في بعض الأخبار من أنهم ثمانون ألفاً.

إلّا أن بعض الأخبار تقول: فيبعث إليه بعث وهو يوحي بالإرسالية الصغيرة نسبياً، إلّا أن الأغلب عليٰ التعبير بالجيش عليٰ أي حال.

الناحية الرابعة:

أننا فهمنا في السابق من الأخبار التي تذكر خروج الرايات السود من خراسان

ص: 219

فهمنا الإشارة إليٰ حركة أبي مسلم الخراساني، التي أجهزت علي حكم بني أمية ومهدت لحكم العباسيين.. ومعه فقد يخطر في الذهن أن الخراساني المذكور في الأخبار التي ذكرناها هنا هو أبو مسلم أيضاً.

وهذا احتمال معقول لو استطعنا أن نفهم من (بني فلان) في الخبر الذي نقلنا عن النعماني في (الغيبة).. بني أمية دون بني العباس، فكأنه قال: لابد لبني أمية أن يملكوا، فإذا ملكوا خرج عليهم الخراساني فأهلكهم، فيكون واضح الانطباق عليٰ أبي مسلم دون شك.

غير أن هذا الفهم لا يخلو من بعض المصاعب:

أولاً: أن الخبر مروي عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السّلام)، وهو معاصر لدولة بني أمية.. فلا يكون قوله: «لابد لبني أمية أن يملكوا» ، معنيٰ واضح، بل يتعين حمله عليٰ الدولة التي لم تحدث في زمانه، وهي دولة بني العباس، ومن المعلوم أن أبا مسلم أسس دولة العباسيين لا أنه أهلكها.

ثانياً: أن الخبر كالصريح في تعاصر حركة الخراساني والسفياني، ومن المعلوم عدم تحقق حركة السفياني لحد الآن! إذا فحركة الخراساني لم تتحقق.. إذاً فهي ليست منطبقة عليٰ حركة أبي مسلم عليٰ أي حال.

ومعه، تكون الحركة المشار إليها في أخبار الرايات السود غير الحركة المشار إليها في هذه الأخبار بقيادة الخراساني، غير أننا نخسر بذلك شيئاً ذا بال، وهو: أن الحادثة المشار إليها لو كانت واحدة، لاستعطنا ضم أخبار الرايات السود إليٰ أخبار

(الخراساني)، فتصبح كثيرة ومستفيضة، إن لم تكن متواترة وهذا غير ممكن مع تعدد الحادثة المقصودة، ولكن هذا لا يعني سقوط كلا الطائفتين من الأخبار عن إمكان الإثبات التاريخي، كل بمقدار قابليته.

ص: 220

الناحية الخامسة:

قد ثبت بهذه الأخبار وغيرها، كون الخسف الذي استفاضت به الأخبار في مصادر الفريقين..... إنما يكون بجيش السفياني، حين يقصد قتل الإمام المهدي (عليه السّلام) وهو مستجير بمكة .

وبذلك نحصل عليٰ شيء ذي بال - عليٰ عكس الناحية السابقة . وهو انضمام أخبار الخسف المستفيضة إليٰ أخبار السفياني، وإن لم تذكر السفياني بالصراحة، فإذا علمنا أن أخبار السفياني مستفيضة، كان ضم المستفيض إلي المستفيض منتجاً للتواتر لا محالة.

الناحية السادسة:

بقي علينا التعرض إليٰ مقتل السفياني علي يد الإمام المهدي(عليه السّلام) ، ولا زلنا الآن نتكلم طبقاً للفهم (الصريح) دون الرمزي لمفهوم السفياني، لتتوفر في الناحية الأتية عليٰ عرض الفهم الرمزي له.

وقد وردت في ذلك عدة أخبار

قال في إسعاف الراغبين (1) وهو يعدد ما ورد في الروايات من حوادث ظهور المهدي(عليه السّلام) ... قال:

وإن السفياني يبعث إليه من الشام جيشاً فيخسف بهم بالبيداء فلا ينجو منهم إلّا المخبر، فيسير إليه السفياني بمن معه، فتكون النصرة للمهدي، ويذبح السفياني.

وروي في البحار (2) حديثاً طويلاً عن جابر الجعفي عن أبي جعفر(عليه السّلام) ، يتحدث

ص: 221


1- أنظر ص 138.
2- ج 13، 160 - 161.

فيه عن المهدي (عليه السّلام) وظهوره وما يحدث بعد ذلك، إليٰ أن قال:

«ثم يأتي الكوفة نيطيل فيها المكث ما شاء الله أن يمكث، حتيٰ يظهر عليها، ثم يسير حتيٰ يأتي العذرا(1) هو ومن معه، وقد الحق به ناس كثير والسفياني يومئذ بوادي الرملة، حتيٰ التقوا وهم، يوم الإبدال، يخرج أناس كانوا مع السفياني من شيعة آل محمد(صلّي الله عليه وآله ) ، ويخرج ناس كانوا مع آل محمد إليٰ السفياني، فهم من شيعته

حتيٰ يلحقوا بهم، ويخرج كل ناس إليٰ رايتهم، وهو يوم الأبدال. قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): يقتل يومئذ السفياني ومن معه حتيٰ لا يدرك منهم مخبر؛ والخائب يومئذ من خاب من غنيمة كلب(2)... » الحديث.

وفي خبر مطول آخر أخرجه المجلسي في البحار أيضاً(3) عن عبد الأعليٰ الحلبي قال:

قال أبو جعفر(عليه السّلام) : يكون لصاحب هذا الأمر غيبية... إليٰ أن يقول لأصحابه سيروا إليٰ هذه الطاغية، فيدعو إليٰ كتاب الله وسنة نبيه(صلّي الله عليه وآله ) ، فيعطيه السفاني من البيعة سلماً، فيقول له كلب - وهو أخواله - ما هذا؟ ما صنعت؟ والله ما نبايعك عليٰ هذا أبداً... فيقول: ما أصنع فيقولون: استقبله.. فيستقبله. .

ثم يقول له القائم صليٰ الله عليه: خذ حذرك، فإنني أديت إليك، وأنا مقاتلك، فيصبح، فيقاتلهم، فيمنحه الله أكتافهم، ويأخذ السفياني أسيراً، فينطلق به يذبحه بيد... » الخبر.

ولانجد في هذه الأخبار تنافياً يذكر، مع الأخبار السابقة والفهم العام الذي فهمناها.

ص: 222


1- في مراصد الاطلاع بالمد: قرية بغوطة دمشق معروفة إليها ينسب مرج عذراء ج 2، ص .924
2- أخوال السفياني والمحاربين معه، كما يظهر من الخبر الآتي وغيره.
3- أنظر ج 13، ص 189.

عنها، فإن الجو العام لها واحد، فينبغي الآن قصر الكلام علي الحوادث الزائدة التي تعرب عنها هذه الأخبار، مما لم يكن موجوداً في الأخبار السابقة، ويكون فهمنا الآن تتمة للفهم العام السابق.

إن مركز حكم السفياني سيكون هو العراق بعد انتقاله عن الشام، ولن يوجب الجيش الذي تفشل مهمته في الحجاز، انتقال مركز حكمه إلي هناك.

ومن هنا سوف يواجه المهدي(عليه السّلام) عند دخوله إليٰ العراق حكم السفياني بكل جبروته، غير أن السفياني - عليٰ ما يبدو - سوف يكره مناجزته القتال، لأن ذلك سوف يثير ضده مشاكل لا تطاق، ومن هنا يدخل المهدي (عليه السّلام) العراق سلماً ويمكث في الكوفة ما شاء الله له ذلك كزعيم شعبي، حتيٰ ما إذا اجتمع له من الرجال والسلاح ما يكفي للسيطرة عليٰ الحكم استطاع مواجهة السفياني بصراحة.

وطبقاً للقواعد الإسلامية سيبدأ المهدي (عليه السّلام) بعرض العقائد الإسلامية الحقة عليٰ السفياني، فإن قبل بذلك وصار معه فهو.. وإلّا ناجزه القتال.

وطبقاً للاتجاه النفسي لدي السفياني لمجاملة المهدي(عليه السّلام) ، سيعطي للمهدي ما يطلبه من الشهادة، إلّا أن بطانته سوف تحتج عليٰ ذلك وتشجب موقفه، وتلزمه بأن يواجه المهدي(عليه السّلام) في مواجهة كاملة.

ولعل هذا الاتجاه النفسي هو الذي يفسح المجال لتسرب كل المؤمنين المشتغلين في جيش السفياني إلي جيش المهدي (عليه السّلام)، وفي نفس الوقت يميل الفساق الفاشلين في التمحيص من سكان الكوفة قبل الظهور، إليٰ الالتحاق بجيش السفياني، وهو يوم الإبدال... أي تبادل الأصحاب، ويتم ذلك في الفترة الأوليٰ قبل مناجزة القتال.

وإذ يخضع السفياني لاقتراح بطانته، ينكمش ضد المهدي (عليه السّلام) ويتحداه فينذره المهدي (عليه السّلام) بالقتال، فيضطر السفياني إليٰ الصمود ضده، فتحدث المعركة بين

ص: 223

المعسكرين، ويكون الفوز للقائد المهدي، وينتهي حكم السفياني، ويؤخذ أسيراً ويقتله المهدي في الأسر، وبذلك تتم سيطرة المهدي عليٰ العراق.

بل سوف تتم سيطرة المهدي (عليه السّلام) عليٰ كل المنطقة التي عرفناها محكومة للسفياني، وهي العراق والشام والأردن وفلسطين، ومن هنا سوف تنفتح الفرصة المؤاتية للغزو العالمي.

الناحية السابعة:

في محاولة لإعطاء الفهم الرمزي عن السفياني، مع الإلماع إليٰ علاقة السفياني بالدجال.

يحتاج الفهم الرمزي إلي شرطين أساسيين، لا يصح إلّا من خلالهما، فإن فقد أحد الشرطين فضلاً عنهما معاً، كان الفهم الرمزي مما لا لزوم له.

الشرط الأول: أن يكون العمل بظاهر الأخبار متعذراً، والفهم (الصريح) منها ممتنعاً باعتبار قيام القرائن عليٰ عدم صحته أو اقتضاء القواعد العامة لنفيه

وهذا ما كنا نواجهه في مفهوم: الدجال أو مفهوم يأجوج ومأجوج، من حيث إن ظاهر الأخبار نسبة الخوارق والمعجزات إليٰ المنتسبين إليٰ الباطل، وهو مستحيل، وهو يعطي لهذين المفهومين صورة مخالفة للبشر الاعتياديين، مما يوثق بعدم صدقه، فيكون ذلك سبباً للانطلاق إليٰ الفهم الرمزي الذي يذلل هذه المصاعب، مع أخذ الشرط الثاني بنظر الاعتبار.

الشرط الثاني: أن يكون الفهم الرمزي أقرب ما يمكن إلي الظواهر، معطياً صورة شاملة ومتكاملة ومتساندة لمجموع الظواهر والمفاهيم الواردة في الأخبار. بحيث لا يند عن ذلك إلّا الخبر الشاذ غير القابل للاثبات التاريخي أساساً.

وهذا ما حاولنا تطبيقه في فهمنا الرمزي لمفهوم الدجال ومفهوم يأجوج ومأجوج.

ص: 224

غير أن مفهوم: السفياني فاقد للشرط الأول، إذ من الواضح بعد استعراض الأخبار السابقة وغيرها مما ورد في السفياني، أنها خالية من أية معجزات وخوارق منسوبة إليه أو إليٰ غيره من المبطلين، بل هي تخلو من أية معجزة سويٰ الخسف بالبيداء الذي يحدث دفاعاً عن الحق لا عن الباطل، وقد عرفنا مبرره الكامل فيما سبق.

كما أن هذه الأخبار تعرض البشر عليٰ حالهم في عصر التمحيص والفتن، فهناك الآراء المتعارضة والجيوش المتحاربة والحكام الظالمون، والقلة المدافعة عن الحق، وكل هذه الأمور صفات أساسية للمجتمع المعاصر، وبالتالي فهي لاتعطي صورة مخالفة للبشر الاعتياديين ليكون الوثوق بعدم صدقها موجوداً، ليكون ذلك منطلقة إليٰ الفهم الرمزي.

إذاً، فالفهم الرمزي الكامل مما لا لزوم له، وإنما الشيء الممكن هو ملاحظة الخصائص والصفات المعطاة حول هذا المفهوم، وإسقاط ما يمكن إسقاطه منها.

فإن أسقطناها جميعاً أو الأعم الأغلب منها، كان (الفهم) الذي ذكرناه في السابق صحيحة وهو أن السفياني يمثل خط الانحراف في داخل المعكسر الإسلامي ككل، فتندرج تحته كل الحركات والعقائد الخاطئة التي تدعي الانتساب إليٰ الإسلام، مما كان (بعد زوال الدولة العباسية) أو يكون إليٰ يوم الظهور الموعود.

وأما إذا أخذنا عدداً من الصفات بنظر الاعتبار مما تسالمت الروايات عليٰ صحته، فإن هذا المفهوم الواسع سوف يضيق، وسوف ينحصر في تطبيق واحد من تطبيقاته، فإني أود أن أقول: إن مفهوم السفياني يعبر عن آخر حكم منحرف للمنطقة قبل ظهور المهدي(عليه السّلام) .

ويمكننا أن نصف هذا الحكم بماثبت له من الصفات، كدخول سوريا والعراق تحت حكم واحد أو متشابه، وحقده علي أهل الحق، وإرساله الجيش ضد المهدي (أو ضد جماعة من أهل الحق المخلصين يكون المهدي (عليه السّلام) موجوداً فيهم بعنوان

ص: 225

آخر غير حقيقته)، وحدوث الخسف عليٰ هذا الجيش.

والمهدي (عليه السّلام) هو الذي يزيل حكم السفياني، لأنه إذا دخل العراق، فإنه يواجه حكومته لا محالة، فإذا كان الحاكم هو المعبر عنه بالسفياني كان الذي يواجهه بالعراق هو السفياني بطبيعة الحال، ولكنه سوف يقضي عليه عليٰ كل حال، وبذلك سوف يكون آخر الحكام المنحرفين لهذه المنطقة.

وأما الصفات الأخريٰ، كتسميته بعثمان بن عنبسة، وخروجه من الوادي اليابس، وصفات جسمه وسيطرته عليٰ الأردن وفلسطين، وتفاصيل مواقفه العسكرية، فهي مما ينبغي إسقاطها تحت وطأة الفهم الرمزي، وايكال علمها إليٰ أهله، وإن كان الوارد من الأخبار في بعض هذه الصفات صالح للإثبات التاريخي، وإن لم يكن أكيداً.

وانطلاقاً من فهمنا هذا تتضح علاقة السفياني بالدجال بالمعنيٰ الذي فهمناه أيضاً، بعد أن برهنا في السابق عليٰ أن هذين المفهومين يعبران عن شيئين لا عن شيء واحد.

فإن للفهمين (الصريحين) التقليديين للسفياني والدجال اتجاه إليٰ عزل أحدهما عن الآخر عزلاً تاماً، طبقاً للظهور الأولي للأخبار. فالمسيح ينزل فيقتل الدجال في دمشق بدون أن يكون السفياني موجوداً في العالم، والمهدي (عليه السّلام) يظهرفيحارب السفياني بدون أن يكون الدجال موجوداً في العالم.

ولكننا إذا علمنا أن زمن ظهور المهدي (عليه السّلام) ونزول المسيح واحد، حتيٰ أن المسيح بصلي وراء المهدي (عليه السّلام) تكرمة لهذه الأمة كما وردت بذلك الأخبار إذاً سيكون هذا الاتجاه التقليدي مبرهن البطلان، ولابد من أن يكون الدجال والسفياني متعاصرين، ولابد من وجود العلاقة بينهما بشكل من الأشكال.

وإذا كان الدجال عبارة عن الحضارة المادية الحديثة بخطها الطويل، وكان

ص: 226

السفياني آخر الحكام المنحرفين في الشرق، فسوف لن يصعب علينا تصور العلاقة بينهما... بعد أن أصبحنا نعيش بكل حواسنا تطبيقات الدجال والسفياني بكل وضوح.. ونعلم الأشكال الصريحة والمبطنة لعلاقة أحدهما بالآخر بشكل نكون في غنيّ عن عرضه.

وهذا التحديد للعلاقة منطلق من فهمنا لذينك المفهومين، بغض النظر عما اكتسبه مفهوم الدجال من رتوش محتملة عند الحديث عن علاقته بيأجوج ومأجوج، إذ مع الأخذ ببعض الأطروحات التي ذكرناها هناك سوف نحتاج إليٰ بعض التغيير في تصور العلاقة... وهذا ما نوكله إليٰ القاريء الذكي.

ص: 227

ص: 228

النفس الزكيّة
اشارة

وهو إنسان قرنت حركته ومقتله بظهور الإمام المهدي(عليه السّلام) ، في أخبار المصادر الخاصة عليٰ الأغلب.

وقد سبق أن بحثنا ذلك وعرضنا الأخبار التي تصرح بأن مقتل النفس الزكية من المحتوم، وغيرها، ولكننا لم نستطع هناك - بما كان لنا من منهج في الإثبات التاريخي - أن ندفع احتمالاً معيناً، هو أن تكون النفس الزكية هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(عليه السّلام) ، وحيث إن مقتله قد حصل في العهد العباسي الأول، فلا ينبغي انتظار حادثة أخريٰ لمقتل النفس الزكية في مستقبل الدهر.

ولكننا نحاول الآن أن نبحث المطلب بشكل جديد، انطلاقاً من المنهج الذي اتخذناه هنا، وهو التنزل عن التشدد السندي وقبول الخبر الموثوق، وإن لم تقم القرائن علي صدقه من الخارج.

وينبغي أن نتكلم عن النفس الزكية) ضمن عدة نواحي:

الناحية الأوليٰ:

في سرد الأخبار الواردة في هذا الموضوع، غير ما نقلناه في السابق، إلّا القليل الذي نحتاجه فنكرره.

ص: 229

روينا في السابق عن المفيد في الإرشاد(1) عن أبي جعفر الباقر(عليه السّلام) والشيخ في الغيبة(2) والصدوق في إكمال الدين (3) عن أبي عبد الله الصادق(عليه السّلام) بلفظ متقارب ۔ واللفظ للمفيد - : أنه قال: ليس بين قيام القائم (عليه السّلام) وقتل النفس الزكية أكثر من خمس عشرة ليلة.

وقال في الإرشاد (4): قد جاءت الآثار بذكر علامات الزمان قيام القائم المهدي (عليه السّلام).....وعد منها: ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام.

وأخرج في البحار (5) عن السيد علي بن عبد الحميد بالاسناد إلي أبي بصير عن أبي جعفر(عليه السّلام) ، في حديث طويل، يقول فيه:

«يقول القائم (عليه السّلام) لأصحابه: يا قوم، إن أهل مكة لا يردونني، ولكني مرسل إليهم لأحتج عليهم بما ينبغي لمثلي أن يحتج عليهم» .

فيدعو رجلاً من أصحابه، فيقول له: امضِ إليٰ أهل مكة، نقل: يا أهل مكة! أنا رسول فلان إليكم، وهو يقول: إنا أهل بيت الرحمة ومعدن الرسالة والخلافة، ونحن ذرية محمد وسلالة النبيين، وإنا قد ظلمنا واضطهدنا وقُهرنا وابتز منا حقنا، منذ قبض نبينا إليٰ يومنا هذا، فنحن نستنصركم فانصرونا.

فإذا تكلم هذا الفتيٰ بهذا الكلام، أتوا إليه فذبحوه بين الركن والمقام، وهو النفس الزكية... » الحديث.

ص: 230


1- ص 339.
2- ص 271 .
3- انظر المصدر المخطوط.
4- ص 336 .
5- ج 13، 180.

وأخرج أيضاً(1) عن الكافي بسنده عن يعقوب السراج عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في

حديث عن المهدي(عليه السّلام) يقول فيه:

«ويستأذن الله في ظهوره، فيطلع عليٰ ذلك بعض مواليه، فيأتي الحسني فيخبره الخبر، فيبندر الحسني إليٰ الخروج، فيشب عليه أهل مكة، فيقتلونه، ويبعثون برأسه إليٰ الشام، فيظهر عند ذلك صاحب الأمر... » الخبر.

وقال الراوندي في الخرائج والجرايح(2): وروي أن النفس الزكية هو غلام من آل محمد اسمه محمد بن الحسن يقتل بلا جرم، فإذا قتل فعند ذلك يبعث الله قائم آل محمد.

أقول: وأرسل الصافي في منتخب الأثر (3) هذا المعنيٰ إرسال المسلمات.

وأخرج الصافي (4) عن غيبة الشيخ بسنده عن سفيان بن إبراهيم الحريري أنه سمع أباه يقول:

«والنفس الزكية غلام من آل محمد، اسمه محمد بن الحسن، يقتل بلا جرم ولا ذنب، فإذا قتلوه لم يبق لهم في السماء عاذر ولا في الأرض ناصر، فعند ذلك يبعث الله قائم آل محمد.. » الحديث.

فهذا هو كل ما وجدناه من الأخبار بهذا الصدد، وسنمحصها بعد إعطاء الفهم المتكامل عنها.

ص: 231


1- البحار: ج 13، ص 178.
2- ص 196.
3- أنظر ص 454.
4- ص 455.
الناحية الثانية:

في محاولة فهم هذه الأخبار ككل، عليٰ تقدير صحتها وكفايتها للاثبات التاريخي، ويكون فهمنا هذا تتمة - بشكل وآخر للفهم العام الذي ذكرناه للسفياني.

إن المهدي (عليه السّلام) مع خاصة أصحابه حين يهربون من وجه جيش السفياني المبعوث ضدهم... من المدينة المنورة إليٰ مكة المكرمة، يصبح من الواجب عليٰ أهل مكة نصرته، بحسب تكليفهم في نصرة المؤمنين المظلومين ضد الظالمين ممن كان علي شاكلة السفياني.

ولكن لن يكون لأهل مكة استعداد للنصرة، إما لأجل اختلاف مذهبهم عن مذهب المهدي (عليه السّلام) في الإسلام، وإما لأجل خوفهم من سطوة السفياني وسلطته، وحسبنا أننا سمعنا أن السفياني دخل الحجاز من دون مقاومة عسكرية، لمديٰ الرهبة والخوف الذي زرعه في النفوس، ومن هنا يحافظ أهل مكة عليٰ مصالحهم الخاصة وينكمشون ضد المهدي(عليه السّلام) .. أعني: بعنوانه المعلن وإن جهلواحقيقته.

ويعلم الإمام المهدي(عليه السّلام) بعدم استعدادهم لنصرته، فيقول لخاصته: يا قوم، إن أهل مكة لا يريدونني، ولكني مرسل إليهم لأحتج عليهم، بما ينبغي لمثلي أن يحتج عليهم.

ويكون هذا الاحتجاج إتماماً للحجة عليهم، ومواجهة صريحة لهم بالموقف حتيٰ لا يبقيٰ منهم غافل أو مماطل.

ومن هنا يفكر المهدي (عليه السّلام) بأن يرسل شخصاً من قبله إليٰ أهل مكة ليقوم بهذا الاحتجاج، فيدعو بعض أصحابه، وهو من الهاشميين ومن المخلصين الممحصين، عليٰ ما سنعرف الوجه فيه... ويحمله رسالة شفوية معينة، ويأمره أن يخطب بها في المسجد الحرام بين الركن والمقام.

وينبغي هنا أن نلاحظ أنه حين يقول: أنا رسول فلان إليكم.. لا دليل عليٰ أنه

ص: 232

يورد اسم المهدي (عليه السّلام) بحقيقته ويعرف المخاطبين أنه هو المهدي الموعود، بل لعله بورد الاسم أو العنوان المعلن اجتماعياً له (عليه السّلام) في ذلك الحين. .

وما أن يسمع أهل مكة هذه الخطبة حتي يجتمعون عليه ويقتلونه بين الركن والمقام قرب الكعبة المشرفة في بيت الله الحرام، ولعلهم يقطعون رأسه ويرسلونه إليٰ الشام، إليٰ السفياني، ليكون لهم الزلفيٰ لديه.

هكذا تقول إحديٰ الروايات السابقة، ولكننا عرفنا أن مركز السفياني يومئذ لن يكون هو الشام بل هو العراق، وإن كان كلا القطرين تحت سيطرته وهذا له عدة توجيهات، أوضحها: احتمال أن يكون السفياني في ذلك الوقت قد ترك مركزه وسافر إليٰ الشام لإنجاز بعض المصالح المعينة، ريثما يعود مرة أخريٰ.

وعليٰ أي حال، فإنهم حين يفعلون ذلك يكونون قد عصوا العديد من أهم أحكام الإسلام وضروريات الدين.

منها: المحافظة عليٰ حرمة البيت الحرام الذي اعتبره القرآن الكريم حرماً آمناً.

ومنها: قتل النفس المؤمنة بدون جرم وبغير نفس.

ومنها: رفض نصرة المستنصرين بالحق.

فيشتد غضب الله تعاليٰ عليٰ أهل الأرض، فيأمر الإمام المهدي(عليه السّلام) نفسه بالظهور لأخذ الحق ودحر الظالمين.

ويكون رسول المهدي (عليه السّلام) هذا هو النفس الزكية الموعود قتلها بين الركن والمقام، وسوف لن يكون بين مقتلها وبين الظهور أكثر من خمس عشرة ليلة.

وهذا هو التصور العام الذي تعكسه هذه الأخبار، لتاريخ تلك الفترة، وهو تصور سليم إليٰ حد كبير... لا يكاد يرد عليه إلّا المناقشات القليلة الآتية التي لا تغير من جوهره شيئاً، ومعه لا حاجة إليٰ الحمل عليٰ الرمز، لما قلناه من أنه يتعين ذلك عند قيام الدليل عليٰ بطلان المعني (الصريح).

ص: 233

إلّا أن ارتفاع هذا الفهم إلي مستويٰ الإثبات التاريخي منوط بصحة تلك الأخبار وصلاحيتها للاثبات، وهذا ما سنبحثه غير بعيد.

الناحية الثالثة:

في نقد بعض الاعتراضات التي قد تورد علي هذا الفهم العام:

الاعتراض الأول: أنه كيف يتيسر لرجل واحد أن يخاطب أهل بلدة بكاملها، بشكل طبيعي غير إعجازي؟

إلّا أن هذا السؤال يحتوي عليٰ سذاجة واضحة، لوضوح كفاية قيام الفرد خطيباً في المسجد الحرام المحتشد بأهل مكة، مستعملاً الأجهزة البث الصوت وتكبيره، لكي يستطيع الفرد أن يخاطب لأهل مكة جميعاً، ويبلغ الحاضر منهم الغائب في أقل من ساعة من نهار.

وقد يخطر في الذهن أنه من أين للنفس الزكية حصول مثل هذا الجمع، واستعمال المكبرات؟

وجوابه: أننا لم نلاحظ إليٰ الآن في (النفس الزكية) إلّا جهته الخفية وهو أنه من خاصة الإمام المهدي(عليه السّلام) في أواخر عصر الغيبة، ولم يتيسر لنا ملاحظة الجهة الاجتماعية المعلنة له عادة.

إن اختيار المهدي (عليه السّلام) له لينوب عنه بالتبليغ ليس جزافياً، إلّا بعد إحراز النجاح في ذلك، أعني التبليغ، وله القابلية الفكرية والاجتماعية له، إن الجهة الإجتماعية المعلنة له دخيلة لا محالة في ترجيح اختياره.

فقد يكون هذا الرجل خطيباً معروفاً أو وجيهاً أو له درجة من المسؤولية والسلطة في المجتمع، ومن الممكن له أن يجمع الناس ويخطب بهم بواسطة أجهزة التكبير.

ص: 234

وخاصة إذا عرفنا أنه سيقول قولته والناس لا زالت مجتمعة بعد الحج، فقد وردت روايات سنسمعها تعرب عن أن الظهور سيتم في العاشر من محرم الحرام، فإذا استثنينا من ذلك خمس عشرة ليلة، كان موعد خطاب النفس الزكية هو اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام، أي بعد انتهاء أعمال الحج بحوالي عشرة أيام.

الاعتراض الثاني: أنه كيف أمكن للنفس الزكية أن يطلع علي حقيقة الإمام المهدي(عليه السّلام) في خلال عصر غيبته، ويحمل منه الرسالة إليٰ أهل مكة، مع أن ذلك متعذر بالنسبة إلي كل أحد، إليٰ حين حصول الظهور.

والجواب الأولي الواضح لذلك هو أن الإرسال كان من قبل الإمام المهدي (عليه السّلام) نفسه، وهو العالم بالمصالح، ويستطيع أن يكشف حقيقته للفرد، أياً كان، في حدود ما يعرفه من ملابسات وحقائق.

لكننا لو عبرنا عن الاعتراض بتعبير آخر من زاوية كما قلنا في تاريخ الغيبة الكبريٰ (1) من أن مصلحة الغيبة مقدمة عليٰ كل مصلحة، فكيف جاز للإمام (عليه السّلام) أن يكشف حقيقته أمام هذا الرجل، مهما كان صالحاً؟

ويمكن الجواب عليٰ ذلك من عدة وجوه نلخصها فيما يلي:

الجواب الأول: أن ما عرفناه من تقديم مصلحة الغيبة عليٰ كل مصلحة، وإن كان صحيحاً إلّا أن السر الأساسي فيه هو: أن كشف الغيبة وارتفاعها مناف مع حفظ المهدي (عليه السّلام) لليوم الموعود، ومن ثم تكون مصلحة الغيبة هي مصلحة اليوم الموعود، ومصلحة ذلك اليوم مقدمة عليٰ كل مصلحة.

وهذا البرهان لا يرد في واقعة إرسال النفس الزكية، لأن مصلحة الظهور واليوم

ص: 235


1- تاريخ الغيبة الكبريٰ: ص 49.

الموعود نفسه أصبحت متوقفة عليٰ انكشاف الغيبة بالنسبة إلي هذا الشخص، وتعرفه عليٰ حقيقة المهدي(عليه السّلام) ..... بغض النظر عن الأجوبة الآتية، فيكون مقتضيٰ تقديم مصلحة هو هذا الانكشاف لا الغيبة.

الجواب الثاني: أننا قلنا في تاريخ الغيبة الكبريٰ(1) أيضاً: إن كل ناجح نجاحاً تاماً في التمحيص الإلهي بحيث يكون مؤهلاً للمشاركة في مهام عصر الظهور يكون في إمكانه رؤية الإمام المهدي (عليه السّلام) خلال عصر غيبته، إذ لا يحتمل أن يكون مورد خطر بالنسبة إليه، وقد دلت كثير من الروايات وعدد من أخبار المشاهدة بأن المجتمعين به (عليه السّلام) في عصر الغيبة متعددون، ممن يعرف هويته وصفته، وأنه يجمع إليه أنصاره ممن بلغ في التمحيص غايته، ونجح فيه النجاح المطلوب، وإن في ذلك من المصالح التي تمت إليٰ ممارسة هؤلاء للقيادة في اليوم الموعود، ما لا يخفيٰ.

ويبدو من سباق الرواية التي تعرب عن إرسال النفس الزكية أن هذا الرجل إنما هو من هؤلاء الخاصة الذين يجمعهم المهدي(عليه السّلام) ويعرّفهم بحقيقته، ومن هنا لا يكون في اطلاع النفس الزكية عليٰ حقيقة الإمام المهدي(عليه السّلام) علي أي إشكال. وينبغي أن نلاحظ هنا: أن النفس الزكية حتيٰ لو كان مطلعاً عليٰ حقيقة المهدي (عليه السّلام) حين إرساله، فإنه ليس من الضروري أن يسميه في خطبته، بل قد يذكر العنوان المعلن للمهدي (عليه السّلام) ويتجنب ذكر الحقيقة بالرغم من معرفته لها، تبعاً لأمر إمامه وقائده(عليه السّلام) .

الجواب الثالث: أن ننطلق من الزاوية التي تصورنا بها تعرّف السفياني، عليٰ تحركات الإمام المهدي(عليه السّلام) ، وهي اطلاعه عليه بعنوانه المعلن لا بحقيقته.

فمن المحتمل أن لا يكون (النفس الزكية) مطلعاً عليٰ حقيقة الإمام المهدي (عليه السّلام)

ص: 236


1- ص 150 وما بعدها.

الذي أرسله.. بل يذهب لتبليغ الرسالة وهو لا يعلم أكثر من كونها صادرة عن (فلان) الذي يسميه في خطبته، وهذا كاف في إقامة الحجة عليٰ الناس.

كما أنه كاف لتفسير مقتله، إذ لا دليل عليٰ أنهم يقتلونه باعتبار رسالته عن المهدي (عليه السّلام) بالذات، بل باعتبار مضمون خطبته، وقد يكون المهدي بعنوانه العلني مبغوضاً لديهم أيضاً، فينزعجون من تجاوب (النفس الزكية) معه وقبوله لتحمل

رسالته.

الاعتراض الثالث: إن هذا التسلسل التاريخي الذي عرفناه في (الفهم العام) مناف مع ما برهنا عليه من أن شرائط الظهور هي الحكم الفصل في إنجازه عند تحققها، وهذه الأخبار تدل عليٰ أن سبب الظهور هو تهديد السفياني للمهدي(عليه السّلام) بالقتل، وقتل النفس الزكية، فبأيهما نأخذ؟

والجواب: أن كلا الفكرتين صادقتان وكلا السببين سبب صحيح في نفسه، وليس مقتل النفس الزكية وتهديد المهدي(عليه السّلام) إلّا نتيجة من نتائج نجاز شرائط الظهور.

فإن التخطيط العام السابق عليٰ الظهور، بما له من خصائص وصفات، عرفناها في تاريخ الغيبة الكبريٰ، منتج لعدة نتائج يهمنا الآن منا اثنتان:

النتيجة الأوليٰ: وجود العدد الكافي من الأفراد المخلصين الممحصين، لغزو العالم بالعدل بين يدي الإمام المهدي (عليه السّلام)، وهذا هو الشرط الأخير المتبقي من شرائط اليوم الموعود الثلاثة التي عرفناها في تاريخ الغيبة الكبريٰ(1)، وبمجرد نجازه يتم الظهور وينجز اليوم الموعود.

النتيجة الثانية: تطرف العدد الأكبر من أفراد المسلمين، فضلاً عن غيرهم، إليٰ

ص: 237


1- أنظر تاريخ الغيبة الكبري: ص 475 وما بعدها إليٰ عدة صفحات.

جانب الإنحراف والضلال، وأخذهم بالأفكار اللا إسلامية وعصيانهم أحكام الإسلام.

وكلما ازداد الزمان ازدادت نتائج التمحيص تركيزاً.. وحصلت كلتا النتيجتين بشكل أوسع وأوضح، فيتكاثر في أحد الجانبين قويٰ الحق والإخلاص، ويتكاثر في الجانب الآخر انحراف المنحرفين وظلم الظالمين، عليٰ مختلف المستويات الاجتماعية.

حتيٰ يصبح جانب الانحراف والفساد في المجتمع المسلم عاصياً لأوضح أحكام الإسلام، ومنكراً لضروريات الدين، ومهدداً لحرمات الشريعة من أجل مصالحه وشهواته.. الأمر الذي ينتج أفظع النتائج لديٰ احتكاك اجتماعي بين الجانبين.

ومعه تكون كلتا النتيجتين اللتين سمعناهما من الأخبار طبيعية وواضحة، فموقف المهدي (عليه السّلام) من السفياني سوف لن يكون إلّا الشجب والاستنكار، في حدود المقدار الممكن له حال غيبته.. الأمر الذي يولد رد الفعل لديٰ السفياني بإرسال الجيش وتهديده بالقتل. وأما موقف النفس الزكية فواضح من خطبته، وإن هو إلّا صورة أخريٰ من صور الشجب والاستنكار، وسيكون رد الفعل هو قتله من داخل بيت الله الحرام.

وستكون ردود الفعل هذه متطرفة إلي درجة إهدارها للأحكام الضرورية في الدين، الأمر الذي يكشف عن تمخض التخطيط والتمحيص الالهيين عن نتائجهما المطلوبة... فيكون موعد اليوم الموعود قد تحقق.

الاعتراض الرابع: إنه قد يخطر في الذهن: أن المستفاد من سباق الأخبار أن سبب الظهور هو إثارة غضب المهدي (عليه السّلام) من الحادثتين المشار إليهما، وهذا غير صحيح، بعد أن قامت الضرورة القطعية لديٰ كل مؤمن بالمهدي كونه مذخوراً لإصلاح العالم برمته، وأنه ممن لا تهمه مصالحه الشخصية علي الإطلاق، فكيف

ص: 238

يصح أن يكون ظهوره ثأراً لهاتين الحادثتين؟!!

والجواب عليٰ ذلك واضح مما سبق، وواضح في ضمير كل مؤمن بعد وجود الضرورة القطعية المشار إليها.

إن هاتين الحادثتين ستغضبان الله تعالي، لا المهدي وحده... بما يستبطنان من إهدار لضروريات الدين، ولكن الظهور سوف لن يكون ثأراً لأي منهما. فإن مهمة المهدي (عليه السّلام) الموعود أوسع وأعمق من هذا المجال الضيق، بالرغم من أهميته، كل ما في الأمر أن ظهوره سيكون قريباً منهما زماناً، باعتبار تحقق شرائط الظهور، وليس الهاتين الحادثتين من صلة بالظهور إلّا ما قلناه من الكشف عن تحقق الشرائط، إليٰ جانب جعلها علامة عليه في الأخبار... الأمر الذي ينبه المخلصين الممحصين إليٰ قرب الظهور.

وهذا في واقعه، يمثل إحديٰ الفروق الجوهرية بين شرائط الظهور وعلاماته.

الناحية الرابعة:

في محاولة تمحيص تلك الأخبار التي ذكرناها في الناحية الأوليٰ، من حيث قابليتها للإثبات التاريخي وعدمه.

وفي هذا الصدد نواجه عدة نقاط :

النقطة الأوليٰ: أنها روايات قليلة نسبياً وغير مستفيضة، بخلاف ما جاء في السفياني أو الدجال، فإنه كثير، منها ما ذكرناه ومنها ما تركناه.

إلّا أن هذه النقطة غير مضرة، تمشياً مع ميزان الإثبات التاريخي الذي سرنا عليه.. لو كانت الروايات متفقة في المضمون، أو كان بعضها موثوقاً سنداً... ولم نكن نتوخيٰ في الإثبات حصول الاستفاضة في الأخبار.

وقد يخطر في الذهن: أن أخبار (النفس الزكية) الموعودة، كثيرة العدد،

ص: 239

ومستفيضة، كما هو معلوم لمن استعرضها... وليست قليلة كما قلناه.

والحق، أننا إذا نظرنا إلي مجموع أخبار (النفس الزكية) بما فيها الأخبار الدالة عليٰ أن مقتل النفس الزكية من المحتوم وأنه من علامات القائم، كانت الأخبار مستفيضة حتماً.

إلّا أن هذا المجموع لا يثبت إلّا مقتل النفس الزكية إجمالاً، وهذا لا يفيدنا في صدد كلامنا الحاضر ، لاحتمال انطباقها عليٰ محمد بن عبد الله الحسني الملقب بالنفس الزكية. وأما الأخبار التي تتحدث عن التفاصيل، والتي توضح أن هناك شخصاً آخر بهذا اللقب سوف يقتل في المستقبل، وهي ما سمعناه في أول الأمر، فليس مستفيضاً، وإن لم يكن عدم الاستفاضة مضراً.

النقطة الثانية: إن في هذه الأخبار عدداً من جوانب الضعف:

الجانب الأول: ما كان رواية عن غير المعصوم، كالخبر الذي نقله الشيخ عن سفيان بن إبراهيم الحريري عن أبيه.. وكلام الصافي في منتخب الأثر.

الجانب الثاني: ما كان مرسلاً، بدون ذكر أي راوٍ عليٰ الإطلاق، كخبر الإرشاد، وخبر الخرائج والجرايح.

الجانب الثالث: ما كان مرفوعاً مع وجود جزء من السند، أعني بعض الرواة وجهالة الباقي، وهو رواية البحار المتضمنة لخطبة النفس الزكية.. حيث رواها المجلسي عن السيد علي بن عبد الحميد بإسناده إليٰ أحمد بن محمد الأيادي برفعه إلي أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السّلام).

الجانب الرابع: ما كان قاصراً في دلالته أساساً عليٰ ما فهمناه، مثل خبر الإرشاد الذي يذكر من العلامات: ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام، فإنه لايتعين أن يكون هو النفس الزكية المسميٰ بمحمد بن الحسن في الأخبار الأخريٰ، وإن كان المظنون هو ذلك، لاستبعاد أن يقتل قبل الظهور بين الركن والمقام شخصان.. مع

ص: 240

قدسية بيت الله الحرام لديٰ المسلمين ووضوح حرمته.

وكذلك الخبر الثاني للبحار، فإنه يصرح باسم النفس الزكية، وإنما قال: فيبتدر الحسني إليٰ الخروج، وهو أيضاً غير متعين الانطباق عليه.

الجانب الخامس: وجود التعارض في دلالات بعض هذه الأخبار.

فلو حاولنا أن نعرف أن النفس الزكية هل هو مرسل من قبل المهدي (عليه السّلام) أو لا؟ نجد أن الخبر المطول الأول الذي نقلناه عن البحار يصرح بالايجاب، ونجد الخبر الثاني ينفيه بقوله: فيبندر الحسني للخروج، وهو واضح في عدم استئذانه من المهدي(عليه السّلام) فضلاً عن تحمل الرسالة عنه - مع افتراض أنه هو النفس الزكية والغض عما سبق ..

النقطة الثالثة: وفي هذه الأخبار بعض جوانب القوة، وإن لم تكن تعدل جميع جوانب الضعف السابقة.

الجانب الأول: أن الخبر القائل: ليس بين القائم وبين قتل النفس الزكية إلّا خمس عشرة ليلة، خبر موثوق قابل للاثبات التاريخي، حسب منهجنا هنا.

فقد رواه الشيخ المفيد في الإرشاد(1) عن ثعلبة بن ميمون عن شعيب الحداد عن صالح بن ميثم (الجمال)، قال: سمعت أبا جعفر(عليه السّلام) ، وكل هؤلاء الرجال موثقون أجلاء، وكان بودي أن أشير إليٰ تصريحات العلماء فيهم لولا أنه يطول به المقام، فنوكله إليٰ القاريء الباحث.

ورواه الشيخ الطوسي في الغيبة(2) عن الفضل بن شاذان عن الحسن بن علي بن فضال عن ثعلبة إلي آخر السند.. وكلاهما من العلماء الثقات.

ص: 241


1- ص 339.
2- ص 271.

وعليه فما ذكرناه في تاريخ الغيبة الكبريٰ (1) من المناقشة في سند هذا الحديث مبني عليٰ التشدد السندي الذي التزمناه هناك... وقد رفعنا اليد عن الالتزام به هنا.

الجانب الثاني: أن الخبر الثاني الذي نقلناه عن البحار موثوق أيضاً، فقد نقله(2) عن الكافي لثقة الإسلام الكليني عن محمد بن يحييٰ عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن يعقوب السراج عن الإمام أبي عبد الله الصادق(عليه السّلام) ، وكلهم ثقات أجلاء.

الجانب الثالث: أنا يمكن أن نستفيد من مجموع هذه الأخبار، ومن كلمات من سمعنا تصريحاتهم كالراوندي والصافي وإبراهيم الحريري، الذين اعتبروا الأمر في عداد المسلمات، فنستفيد وجود التسالم أو الشهرة الواسعة عليٰ أن مقتل النفس الزكية يكون قبل الظهور بقليل بين الركن والمقام، وأنه غير مقتل الحسني الملقب بهذا اللقب.

غير أن هذا الجانب لا يخلو من المناقشة.

أولا: لأنه لم يثبت وجود شهرة وتسالم أوسع من الأخبار الموجودة لتكون قرينة عليها. وكلمات الراوندي والصافي وغيرهما قد تكون اعتمادا عليٰ هذه الأخبار فقط.

ثانياً: أن هذه الشهرة - لوثبتت - تدفع احتمال انطباق مقتل النفس الزكية عليٰ الثائر الحسني السابق، إلّا أنها لا تثبت كل الخصائص المطلوبة، ككونه رسول المهدي (عليه السّلام) إليٰ الناس وخطبته فيهم، ويكون سبب مقتله بين الركن والمقام مجهولاً.

ص: 242


1- ص 613.
2- ص 178.

غير أن الأخذ بهذا الجانب الثالث قريب من النفس، وإن لم يصل إليٰ درجة الاثبات التاريخي.

فهذه هي النخبة من الحوادث الاجتماعية المروية، لما قبل الظهور، وهناك أمور متفرقة مروية أيضاً أعرضنا عنها، لقصورها عن الاثبات التاريخي فيكون الدخول في تفاصيلها تطويلاً بلا طائل.

والحمد لله أولاً وآخراً وصليٰ الله عليٰ سيدنا ومولانا سيد الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين، وعجل الله فرج مهديهم بقية الله في أرضه أمل المظلومين ونقمة الله عليٰ الظالمين والمطبّق لشريعة سيد المرسلين وجعلنا من المخلصين المعدّين لنصرته في اليوم الموعود.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ص: 243

المصادر

*تاريخ الغيبة الكبريٰ ، السيد الشهيد محمد الصدر(قدس سرّه) - دار الفقه للطباعة والنشر، الطبعة الثانية - 1425 ه.

* تاريخ ما بعد الظهور، السيد الشهيد محمد الصدر(قدس سرّه)، دار الفقه للطباعة والنشر، الطبعة الثانية - 1420 ه.

*زاد الخطباء، الشيخ مهدي تاج الدين، انتشارات الشريف الرضي، الطبعة الثانية .1423 ه.

* نحن والغرب، الشيخ محمد اليعقوبي، طبعة مركز الإمام المهدي (عليه السّلام) للدراسات الإسلامية، الطبعة الأوليٰ، 1424 ه.

* الإمام المهدي(عليه السّلام) من المهد الي الظهور، آية الله السيد محمّد كاظم القزويني(قدس سرّه) .

ص: 244

المحتويات

المقدمة ....5

الموضوع الأول: الأمام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) ......5

الإمام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) والمستقبل السعيد: .....6

ضرورة الاعتقاد بالإمام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف)........7

الإمام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) حقيقة لا أسطورة: ......9

النّصوص من أهل العامَّة في الإمام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) ..... 10

فارق اعتقاد أهل العامة مع الشيعة في الإمام المنتظر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) ......15

الموضوع الثاني: موسوعة الأمام المهدي (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) ......22

الموضوع الثالث: أهمية علامات الظهور ...23 علامات الظهور ......25

الباب الأول

العلامة الأولي: إخبار النبي(صلّي الله عليه وآله ) بانحراف القيادة الإسلامية في المجتمع بعده 29

العلامة الثانية: الإخبار عن شؤون دولة بني العباس.......31

العلامة الثالثة: ما ورد من التنبؤ بزوال دولة بني أمية قبل زوالها... 41

العلامة الرابعة: ما ورد من التنبؤ باختلاف أهل المشرق والمغرب ........ 43

العلامة الخامسة: التنبؤ بثورة صاحب الزنج ......... 45 العلامة السادسة: أخبار النبي(صلّي الله عليه وآله )

بوقوع الحروب الصليبية ...... 47

ص: 245

العلامة السابعة: مقاتلة الترك....57

العلامة الثامنة: فتح القسطنطينية ....59

علامات أخريٰ متحققة.......61

أولاً: مقتل الحسني .........61

ثانياً: اختلاف بني العباس في الملك الدنيوي: .......62

ثالثاً: إقبال رايات سود من قبل خراسان: ......62

رابعاً: ظهور المغربي بمصر وتملكه الشامات: ....... 62 خامساً: نزول الترك الجزيرة....63

سادساً: نزول الروم الرملة: ......63

سابعاً: خلع العرب اعنتها وتملكها البلاد، وخروجها عن سلطان العجم ....64

ثامناً: ثبت في الفرات، حتي يدخل الماء في أزقة الكوفة ........ 65

تاسعاً: عقد الجسر مما يلي الكرخ بمدينة بغداد: .....65

عاشراً: اختلاف صنفين من العجم، وسفك دماء كثيرة فيما بينهم ......... 65

فيما يشك في حدوثه من العلامات:.........67

فيما يشك في تقدمه علي الظهور، وتأخره عنه........67

فيما يعلم بتأخره عن الظهور وهو لا يكون من علامات الظهور..........68

في انقسام العلامات من ناحية وقوعها عليٰ الأسلوب الطبيعي أو الإعجازي ...69

النقطة الأوليٰ: في الحادث الطبيعي الذي لا إعجاز فيه .........69

النقطة الثانية: ما كان قائماً عليٰ المعجزة بمقدار إقامة الحجة .... 70

النقطة الثالثة: ما دل من المعجزات اكثر مما يقتضيه قانون المعجزات...... 73

طول عمر الدجال، عليٰ أساس الأطروحة الكلاسيكية المشهورة عنه.....74

ما ورد من منع الدجال دخول الحرمين: مكة والمدينة، بطريق إعجازي.... 77

ص: 246

اختلاف الزمان عما هو عليه الآن ......79

قتل الدجال لمؤمن ثم أحياؤه له ....82

ضخامة الحمار الذي يركبهالدجال....84

النار التي تخرج من أرض الحجاز ..........85

النار التي تخرج من اليمن.......86

انحسار الفرات عن كنز من الذهب........86

وقوع المسخ..........89

رجوع الأموات إليٰ الدنيا .......90

خروج الشمس من مغربها ...90

الصيحة ..........90

الخسف في البيداء .........95

في تعداد مفردات العلامات، ومحاولة فهمها فهماً منظماً شاملاً.......... 99

خروج الرايات السود من خراسان ........ 99

قتل النفس الزكية ...101

ظهور الدجال ....... 111

ظهور السفياني .........119

ظهور اليماني ....... 129

خروج ياجوج و ماجوج.......... ...131

مستويٰ الانحراف العام السائد في عصر الغيبة أسباباً ومسببات .........138

تحليل السيد الشهيد الصدر (قدس سرّه) للدجال بأنه اتجاه حضاري معاد للإسلام.. 139

مستويٰ مكافحة الانحراف وجهاده ومحاولة تقويمه .........147

التنبيه الإلهي الإعجازي عليٰ خطورة الانحراف وقرب الظهور ......... 149

ص: 347

الباب الثاني

الظواهر الطبيعية والسمارية ......153

الخسوف والكسوف.......... 154

الفزعة والصيحة: ....162

النداء: ........166

المطر......178

الفصل الثاني:

الظواهر الاجتماعية .....181

الدجال .......181

يأجوج ومأجوج .....191

السفياني...207

النفس الزكية......229

المصادر ......244

المحتويات.....245

ص: 248

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.