مناهج حكومه الامام اميرالمومنين عليه السلام

اشارة

مناهج حكومه الامام اميرالمومنين عليه السلام

تاليف : باقر شريف القريشي

تحقيق : مهدي باق الترشي

الناشر :... ماهر

المطبعة :...ستاره

الطبعة الأولي :...1432ه/ 2011م

عدد النسخ :...1000

حقوق الطبع والنشر محفوظه للمولف

ISBN 978 _ 600 _ 5995 _ 17 - 6

6- 17- 5995- 600- 978 ردمك

النجف الأشرف - نهاية شارع الرسول صلي الله عليه و آله

www. hassanlib.com

البريد الالكتروني hasanlih @ yahoo.com

009647805694970

ص: 1

اشارة

ص: 2

مناهج حكومه الامام اميرالمومنين عليه السلام

ص: 3

ص: 4

مناهج حكومه الامام اميرالمومنين عليه السلام

تاليف : باقر شريف القريشي

تحقيق : مهدي باق الترشي

الناشر :... ماهر

المطبعة :...ستاره

الطبعة الأولي :...1432ه/ 2011م

عدد النسخ :...1000

حقوق الطبع والنشر محفوظه للمولف

ISBN 978 _ 600 _ 5995 _ 17 - 6

6- 17- 5995- 600- 978 ردمك

النجف الأشرف - نهاية شارع الرسول صلي الله عليه و آله

www. hassanlib.com

البريد الالكتروني hasanlih @ yahoo.com

009647805694970

ص: 5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 6

كلمه المحقق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الإمام علي عليه السلام باب مدينة العلم وينبوع الحكمة والعدل ، فقد تجسد العدل بكل صوره في زمن حكومته ، حيث رفع لواء المساواة بين جميع أفراد المجتمع ، وكان مبدؤه رعاية المصلحة العامة فوق كل شيء.

فكان عهده لمالك الأشتر ووصاياه لولاته تمتل روح الإخاء والمودة ومبدأ المساواة وجوهر العدل ، فقد كان الإمام أرقي مثل للعواطف الإنسانية ، فكان إمام الفقراء والمساكين ، فكان يأكل الجشب ويلبس الخشن ، ويقول عليه السلام : « أريد أن أكون كما يكون أفقر المسلمين» إنه الحاكم العادل والعدل الخالص ، فكان عليه السلام شهيد العدالة الاجتماعية .

والكتاب الذي بين يديك - أيها القارئ الكريم - يبحث عن أرقي منهج في الحكم بعد حكومة الرسول صلي الله عليه و آله، ففيه دراسة وتحليل عن الشؤون الإدارية العامة التي وضع أساسها وبرامجها الإمام عليه السلام .

فسماحة العلامة الوالد حفظه الله كتب هذا الكتاب وهو في حالة مرضية غير مستقرة ، وكنت أراه يسهر الليل إلي الفجر وهو يطالع ويكتب ، وقلت له : إن هذا الوقت هو للاستراحة ، فكان جوابه : إني في أواخر العمر أرغب أن أملي هذه الصفحات عن أسمي شخصية قد ذاب حبه في عروقي ودمي ، وهو سيد المتقين ، وإمام الموحدين ، وسيد الناس ، ويعسوب الدين .

ص: 7

ونحن نحمد الله عز وجل علي ما وفقنا لمراجعة نصوص ومصادر الكتاب ، وبذل الجهد في طبعه ونشره .

وفي الختام نقدم آيات الشكر والتقدير إلي المحسن الوجيه الحاج سلمان القريشي علي طبعه هذا الكتاب ، نسأل المولي العزيز أن يوفقه لكل مسعي نبيل .

الله رب العاملين

مهدي باقر القرشي 17 /ربيع الثاني / 1432ه

ص: 8

تقديم

(1)

هذه بحوث عن أسمي حكم ظهر علي الصعيد العالمي تميز بالإخلاص للعدل والحق ونكران الذات والتجرد عن أبهة الملك والسلطان ، إنه حكم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وصي رسول الله وباب مدينة علمه.

وليس في هذا الشرق العربي وغيره حكم قام علي تأسيس الصالح العام ، ورعاية مصلحة كل فرد بما يتفق مع شؤون الشريعة الإسلامية من دون فرق بين ميوله واتجاهاته الفكرية والعقائدية ، فالناس أحرار فيما يعتقدون ، ويذهبون إلي أي نظام شريطة أن لا يخلوا بالأمن العام أو يحدثوا فسادا في الأرض.

(2)

الحكم في الإسلام سلطان الله تعالي في الأرض ، يأوي إليه الخائف ، ويأمن من خلاله المظلوم ، وتقام فيه حدود الله تعالي وأحكامه ، وهذا الحكم كان شبحا مبهما في العصور الإسلامية لم يتحقق له ظل إلا في حكومة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذي زهد في أبهة الحكم، ومغريات

ص: 9

السلطان، واعتبر نفسه كابناء الشعب لا ميزة له عليهم ، كما سنوضحه في غضون هذا الكتاب .

(3)

وشيء مهم جدا في عبقريات الإمام عليه السلام ومواهبه ، وهو أنه أقام المناهج الرائعة لأنظمة الحكم والإدارة في مجتمع لم يفقه أي بند من بنودها ، ولاالحكمة من تشريعها ، وهي من أروع صور الحضارة ، ومن أبهي ألوان التطور والتقدم.

إن الإنسانية علي ما جربت من تجارب ، وبلغت من رقي وإبداع في تأسيس أنظمة الحكم والإدارة ، فإنها لم تصل إلي مثل ما قئنه الإمام عليه السلام من المناهج الصالحة لحياة الإنسان واستقامة سلوكه ، آمنا مطمئنا في منأي من الخوف والقلق والاضطراب ، وضمان حقوقه.

(4)

وهل تجدون في الأديان السماوية والمذاهب الاجتماعية تشريعا مثل ما شرعه الإمام عليه السلام من المساواة العادلة بين أفراد الشعب ، من دون فرق بين ذوي الوجاهة وغيرهم من البؤساء والفقراء في عهده الذهبي للزعيم مالك الأشتر ، فقد أمره أن يساوي بين الناس حتي في اللحظة والنظرة ، وليس له من سبيل أن يميز بعض أفراد الشعب علي بعض حتي في هذا الأمر البسيط.

هذا هو حكم الإمام عليه السلام، عدل شامل ، ومساواة بين الناس ، وإلغاء الفوارق الاجتماعية ، ولم يعهد مثل ذلك في الحكم الأموي والعباسي

ص: 10

وغيرهما من أنظمة الحكم التي عاشها المسلمون .

(5)

تدول الدول ، وتفني الحضارات أو تدوم ، وفلسفة الإمام في الحكم أحق بالبقاء وأجدر بالخلود من كل كائن. انظروا إلي العدل الرائع الذي تبناه الإمام عليه السلام في سياسته الاقتصادية ، فقد أرصد أموال الدولة لصالح المواطنين ، وتطوير حياتهم الاقتصادية ، ولم يؤثر نفسه وأهل بيته وأجهزة دولته بأي شيء منه ، وحمل نفسه رهقا بما احتاطه من أموال الشعب ، فكانت حياته عليه السلام الاقتصادية قبل توليه للحكم وبعده علي سمت واحد ، فلم يدخر لنفسه ولا لأبنائه أي شيء من متع الدنيا وزخارفها ، واكتفي من لباسه بطمريه ، ومن طعامه بقرصيه.

حقا هذا هو العدل الذي انعدم مثله في جميع الأحقاب والآباد.

(6)

والشيء المؤكد حسب الدراسة الجادة لوثائق التاريخ أن ما عاناه الإمام عليه السلام من الاضطهاد والعصيان المسلح علي حكومته من الحزب القرشي كان ناجما عن سياسته الاقتصادية التي لا تقر بحال من الأحوال التلاعب باقتصاد الأمة ، والحكم بمصادرة الأموال المنهوبة من قبل ولاة عثمان بن عفان عميد الأمويين ، فأشعلوا نار الحرب عليه خوفا علي ما بأيديهم من الأموال التي اختلسوها ، فاتخذوا دم عثمان الذي سفكه المسلمون شعارا للمطالبة بدمه ، ومعاوية كان قادرا علي حمايته ، فقد كان جيشه بالقرب من يثرب ، وعهد إلي قيادته بعدم التحرك لإنقاذه

ص: 11

حتي قتل ، فاتخذ دمه ورقة رابحة للمطالبة بدمه .

(7)

إن السياسة الأموية بما تملك من أجهزة اقتصادية وإعلامية قد رصدتها للنيل من قيم الإمام عليه السلام ، والحط من شأنه ، ولكن حكمة الله تعالي شاءت بفشلها وخسرانها ، فقد برز الإمام أمير المؤمنين عليه السلام علي الصعيد العالمي أسمي شخصية في مواهبه وعبقرياته ونزاهة حكمه ، وعدالة سياسته ، وظهر معادوه أنهم حفنة من الخونة واللصوص ، الذين لا يحملون أي طابع من الشرف والكرامة .

وسيبقي الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مصباحا خالدا في سياسته وعدله وأصالة مناهجه.

(8)

ولم يعد عرض فلسفة الإمام في الحكم وبيان أنظمته الإدارية منهجا أدبيا أو لونا من ألوان الترف البياني ، وإنما هو عرض تصميم العقيدة الإسلامية التي شملت جميع مناهج الحياة ، ويجب علي المسلم أن يحافظ بصورة موضوعية علي معالم دينه وما حواه من المعالم السياسية والاقتصادية والتربوية ، فإن الإسلام ليس دين عبادة فحسب .. والإمام أمير المؤمنين عليه السلام الممثل الأعلي للإسلام بجميع مقوماته ومكوناته ، ولم يؤثر عن غيره من خلفاء المسلمين مثل ما أثر عنه في بيان أحكام الإسلام وفلسفة تشريعاته ، فيجب التعرف عليه والاقتداء به.

ص: 12

(9)

وليس في عرض هذه البحوث وإشاعتها بين الناس دعوة للطائفية وإثارة لبعض فتنها الكريهة ، فإن ذلك بعيد كل البعد عن سيرتي وسلوكي ، فإني - يعلم الله تعالي - من أخلص الدعاة إلي الإسلام ، فقد ألفت عشرات الكتب عن النظم الإسلامية ، وقد ترجم معظمها إلي كثير من لغات العالم ، وقد دللت فيها علي أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يضمن كرامة الإنسان ويحقق أهم ما يصبو إليه من إشاعة العدل والأمن والرخاء ، وقد استندت في بحوثي الإسلامية إلي ما أثر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام من أنواع المعارف والعلوم ، وآداب السلوك والأخلاق ، ومن الطبيعي أن ذلك ليس من الغلو ، ولا من الطائفية في شيء.

(10)

وقبل أن أطوي الحديث في هذا التقديم أري أن أقدم آيات الشكر والمزيد من الدعاء إلي ولدي العلامة الزكي المحقق الشيخ مهدي حفظه الله ووفقه للمزيد من طاعته ، فقد أنفق معظم أوقاته علي تصحيح وتحقيق وطبع ما ألفته من الكتب ، خصوصا موسوعة أهل البيت عليهم السلام التي بلغت أربعين مجلدا ، شكر الله مساعيه ، ووفقه لكل ما يرضيه ، إنه تعالي ولي ذلك والقادر عليه .

مكتب الامام الحسن العامه النجف الاشرف

باقر شريف القريشي

22صفر1432ه

ص: 13

ص: 14

الدولة

اشارة

ص: 15

ص: 16

أدلي فقهاء القانون الدولي العام ، وفقهاء القانون التشريعي بتعاريف متعددة للدولة ، أحصاها بعض علماء الاجتماع إلي مائة وخمسة وأربعين تعريفا.

والذي نراه أن الدولة تطلق تارة ويراد بها الجهاز الحاكم ، وأخري يراد بها الشعب مع حكومته ، وهذا هو المفهوم السائد في العرف العام.

أما الجهاز الحاكم إذا كان صالحا ومنسجما مع إرادة الشعب ومتطلعاته ، فهو من ضروريات الحياة الاجتماعية لا تستقيم الحياة بدونه ، فقد أنيطت به مسؤوليات جسام كتوفير الأمن والرخاء ، وإشاعة العلم، ومكافحة الجريمة ، والاحتياط بأموال الدول ، وغير ذلك من البنود الضرورية للشعب ، وبدونه يعيش الإنسان في غابة موحشة كالحيوان السائم.

وأما الحكم المنحرف عن موازين العدل ، والغارق في ظلمات الظلم والاستبداد ، فإنه كارثة مدمرة للشعوب ، وتعاني منه ألوانا قاسية من الجور والطغيان ، مما يجعل الحياة في ظلام قاتم ، كما كان الحكم الأسود في أيام الأمويين ، فكان الناس يقولون: انج سعد فقد هلك سعيد.

وقد سملت الأعين، وقطعت الأيدي والأرجل في أيام زياد بن أبيه والي معاوية الذي نعتوه بأنه كسري العرب ، وكذلك كان الحكم في أيام العباسيين ، حتي قال الشاعر:

ص: 17

لا ينقضي الجور وعلي الامة***وال من آل عباس

وسنتحدث عن ذلك في بعض فصول هذا الكتاب .

الدولة الإسلامية

لم تكن للعرب دولة قبل أن يشرق نور الإسلام، وكانوا يعيشون في متاهات سحيقة من مجاهيل الحياة ، فالقوي يأخذ أموال الضعيف أما بالنهب أو القتل ، قد نخب الفقر أجسامهم، فكانوا يأكلون القدة ويشربون الرنق ، أذلة خاسئين حتي من الله تعالي عليهم برسوله العظيم علي حد تعبير سيدة نساء العالمين ، بضعة الرسول صلي الله عليه و آله.

ومن أمثلة الانحطاط في ذلك المجتمع ما تعانيه المرأة من البؤس والحرمان ، فقد كانوا بدفنون بناتهم وهن أحياء ، وقد شاع المثل: « دفن البنات من المكرمات »، كما كانوا يقتلون الذكور من أبنائهم خشية إملاق.

ومن أبشع ألوان التأخر والانحطاط للحياة في الجاهلية العربية عبادتهم للأصنام التي صنعوها بأيديهم ، وقد تفانوا في عبادتها وتقديم القرابين لها، وكان أبو سفيان عميد الأمويين قد اتخذ له ربا خاصا علقه علي جدار ظهر الكعبة ، فكان ينحني له إجلالا وإكبارا ، ويعبده بإخلاص ، وقد ظل عاكفا عليه طوال حياته.

ولما رفع النبي صلي الله عليه و آله كلمة التوحيد، ومحاربة الأصنام والأوثان كان أبو سفيان المناهض الأول لدعوة الإسلام، وقد أنفق جميع أمواله في محاربة النبي صلي الله عليه و آله، وإقصاء أرصدته الروحية والحضارية، وقد باء بالخزي والخسران ، فقد فتح الله تعالي الفتح المبين لنبيه ، فدمرمعالم الجاهلية ، وسحق كبرياء طغاة القرشيين ،

ص: 18

وحصد رؤوس معظم زعمائهم من الأمويين وغيرهم.

وقد أقام دولته صلي الله عليه و آله العظمي في يثرب ، فأسس حقوق الإنسان ، ومعالم الحضارات التي تسعد بها أمم العالم وشعوب الأرض ، فلاظل في دولته للبؤس والحرمان ، ولا للظلم والطغيان ، ولا شبح للجهل والتردي في شقائه وظلماته .

وكان النبي صلي الله عليه و آله حريصا علي سعادة أمته وسلامتها من التصدع، وقد حكي القرآن الكريم ذلك بقوله تعالي :«لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ»(1)، ولقد أقام لأمته رصيدين يقيها من الفتن والزيغ في حاضرها وعبر أجيالها الصاعدة ، وهما كتاب الله تعالي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وفيه تبيان لكل شيء، ففيه الأحكام والحدود وما ينفع الناس.

والرصيد الثاني العترة الطاهرة التي هي مصابيح الإسلام ، والدعاة إلي الله تعالي ، وقد أقام النبي صلي الله عليه و آله الله سيد عترته الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وصيا له وخليفة الأمته من بعده ، وهو منه بمنزلة هارون من موسي علي حد تعبيره ، وقد أخذ له البيعة في غدير خم ، وقال :

«اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ وَ انْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ».

وبعد وفاة النبي صلي الله عليه و آله أصيبت الأمة بزلزال مدمر، وانقلاب علي الأعقاب ، حسبما تحدث عنه القرآن الكريم ، قال تعالي : «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَي عَقِبَيْهِ

ص: 19


1- التوبة 9: 128.

فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ»(1).

لقد صمم الحزب القرشي بقيادة أبي بكر وعمر وعثمان وابن الجراح علي صرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حسدا له ، وطمعا بأبهة الملك ، وراح أحد قادة الانقلاب رافعا عقيرته أمام الجماهير قائلا: «أبت قريش أن تجتمع النبؤة والإمامة في بيت واحد»، وهو شعار مزيف لا نصيب له من الصحة ، فإن قريشا هي التي ناجزت النبي صلي الله عليه و آله وجهدت علي تصفيته جسديا ، وعذبت من آمن به من الأرقاء والمستضعفين أشق ألوان التعذيب حتي اضطروا إلي الهجرة ، ولولا رحمة الإسلام بعد الفتح لنفذ النبي صلي الله عليه و آله بهم مثل ما قاساه منهم من الاضطهاد والتنكيل .

وعلي أي حال ، فقد تم ما أراده الحزب القرشي من صرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وقد وقعت الأمة فريسة بأيدي الطغاة والمستبدين من حكام الأمويين ، فجهدوا علي إذلالها وإرغامها علي الذل والعبودية.

وعلي أي حال ، فإن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام صاحب المواهب والعبقريات قد أقامه النبي صلي الله عليه و آله قائدا لأمته بعد وفاته ، لأنه لم يجد من يضارعه من أسرته وأصحابه في ملكاته ، ونكرانه للذات ، وزهده في الدنيا ، واحتياطه أشد ما يكون الاحتياط في أموال المسلمين ، وهو امتداد ذاتي لسيرته وشريعته ، فلذا قلده الخلافة من بعده ، وهذه شذرات من نظرة الإمام للحكم ، وهي تحكي أصالة القيم الإسلامية :

أهمية الحكم عند الإمام عليه السلام

الحكم عند الإمام عليه السلام وسيلة لتحقيق العدل وإشاعته بين الناس ، ولا أهمية للسلطة عنده مطلقا إذا لم يتحقق هذا الهدف ، يقول الرواة إن الإمام كان يخصف

ص: 20


1- آل عمران 3: 144.

بيده نعله من ليف ، فجاء إليه ابن عباس فقال له الإمام : يابن عباس ، ما قيمة هذا العل؟

وكانت من ليف لا قيمة له يا أمير المؤمنين .

هو خير من خلافتكم إِلاّ أَنْ أُقِيمَ حَقّا وَأُدْفِعَ باطِلاً.

أرأيتم هذا العدل الخالص الذي مثله رائد العدالة الإسلامية ، إنه لم يقم أي وزن للحكم ما لم تتحقق فيه أهدافه العظيمة .

ومن صور هذا النكران للمصالح الخاصة ما أكده الإمام عليه السلام في رفضه لحكومة أبي بكر ، قال :

«اللَهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَ نَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ وَلاَ التِمَاسَ شَي ْءٍ مِنْ فُضُولِ الحُطَامِ، وَلَكِنْ لِنَرُدَّ المَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَنُظْهِرَ الإصْلاَحَ فِي بِلاَدِكَ فَيَأْمَنَ المَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَتُقَامَ المُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ.»(1).

من أجل هذه الأهداف النبيلة أحجم عن بيعة أبي بكر ، ورفض حكومته لأنها لم تحقق ما يصبو إليه من إشاعة العدل بين الناس.

ويقول عليه السلام في طبيعة حكمه:

«الذَّلِيلُ عِنْدي عَزيزٌ حَتَّي آخُذَ الْحَقَّ لَهُ، وَ الْقَوِيُّ عِنْدي ضَعِيفٌ حَتَّي آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ. رَضِينَا عَنِ اللَّهِ قَضَاءَهُ وَ سَلَّمْنَا لِلَّهِ أَمْرَهُ.»(2).

ص: 21


1- نهج البلاغة : 2: 13.
2- نهج البلاغة : 1: 89.

وكان من تنمره في ذات الله تعالي وشدة احتياطه في أمور دينه أن عبدالرحمن ابن عوف - أحد أعضاء الشوري - قد خف إليه بعد اغتيال عمر بن الخطاب ، فعرض عليه البيعة وطلب منه أن يسير بسيرة الشيخين ، فأبي وقال : إنه لا يسير إلا وفق كتاب الله العظيم واجتهاد رأيه ، ولو كانت سيرة الشيخين يرتضيها لوافق علي ذلك.

وعرض الخلافة علي عثمان بن عفان شيخ الأمويين ، فأجاب إلي ذلك بلا تردد ، فبايعه ، ولكن لم يلبث عثمان حتي خالف ما شرط عليه ، فسلم جهاز الدولة مناصبا واقتصادا إلي بني أمية وآل أبي معيط ، فاضطر المسلمون إلي الإجهاز عليه.

لقد كان خط الإمام عليه السلام صريحا وواضحا لا التواء فيه ولا غموض ، وهو مسايرة الحق ، وإن كلفه عسرا ورهقا ، ولو كان من عشاق الملك والسلطان الأجاب ابن عوف إلي ما شرط عليه ، ثم بعد ذلك يعمل برأيه.

وبادرة أخري من سياسته الواضحة أن الخوارج الذين أرغموا الإمام عليه السلام علي التحكيم بعد رفع المصاحف ، فعذلهم الإمام عليه السلام ، وجهد علي إقناعهم، فأصروا علي ضلالهم وشهروا سيوفهم في وجهه ، وهم أهل الجباه السود الذين هم من بهائم البشر ، فتركهم الإمام وشأنهم ، فأقاموا أبا موسي الأشعري ، وهو من أعمدة الباطل ، ومن شيوخ الخوارج ممثلا عنهم ، فالتقي بالماكر الخبيث عمرو بن العاص في محل التحكيم ، فخلع الأشعري الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وأقام ابن العاص معاوية في مركزه ومنحه الخلافة العامة للمسلمين.

ووقعت الفتنة في جيش الإمام عليه السلام ، وبادر الخوارج قائلين للإمام عليه السلام : نحن كفرنا وتبنا، وطلبوا منه ذلك ، فأبي لأنه لم يقترف ذنبا حتي يعلن التوبة عنه ،

ص: 22

ولو كان من عشاق الملك الأجابهم إلي ذلك وتخلص منهم ، ولكنه لم يسلك في جميع فترات حياته إلا النهج القويم المجرد عن الخديعة والتضليل.

وبادرة أخري من سلوكه ونهجه أنه لما تغلب عليه معاوية وأحرز النصر بادر إليه ابن عباس مستشاره ، فأشار عليه للتغلب علي الأحداث ، وإحراز النصر علي خصمه معاوية قائلا: يا أمير المؤمنين ، فضل العرب علي العجم ، وفضل قريشأ علي العرب.

فرمقه الإمام بطرفه وقال له:

«أَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ وَاللَّهِ لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً!

لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ ! أَلَا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الْآخِرَةِ وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَلَا عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ إِلَّا حَرَمَهُ اللَّهُ شُكْرَهُمْ وَكَانَ لِغَيْرِهِ وُدُّهُمْ فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ يَوْماً فَاحْتَاجَ إِلَي مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيلٍ وَأَلْأَمُ خَدِينٍ !»(1).

إن النصر السياسي والتغلب علي الأحداث بالطرق الملتوية لا يقرهما ضميرالإمام عليه السلام ودينه.

ص: 23


1- نهج البلاغة : 1:6 . الإمامة والسياسة : 132.

الأسباب في صراحة الإمام عليه السلام

أدلي الإمام في بعض أحاديثه عن الأسباب التي دعته إلي الصراحة وترك المواربة التي يتوقف عليها النصر السياسي ، وهي:

1. قال عليه السلام:

«وا ويلاه ! يمكرون بي ، ويعلمون أني بمكرهم عالم ، وأعرف منهم بوجوه المكر ، ولكني أعلم أن المكر والخديعة في النار ، فاصبر علي مكرهم ولا أرتكب مثل ما ار تكبوا »(1).

لقد تجنب المكر الذي تسلح به أعداؤه في التغلب عليه ، لأنه يؤدي إلي النار ، فصبر علي مكرهم خوفا من الانحراف عن طريق الحق.

2. قال عليه السلام:

«والله ما معاوية بأدهي مني ، ولكنه يغدر ويفجر. ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهي الناس ، ولكن كل غدرة فجرة ، و كل فجرة كفرة. «ولكل غادرلواء يعرف به يوم القيامة».

والله ما أستغفل بالمكيدة ، ولا أستغمز بالشديدة»(2) .

إن العناصر البارزة في معاوية الغدر والفجور، وهما من ذاتياته ، ومن عناصره

ص: 24


1- جامع السعادات : 1: 202. الكافي : 2: 336. أمالي الصدوق : 344. بحار الأنوار : 109:1
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 206:20 . نهج البلاغة : 2: 180 ، الخطبة 200 ينابيع المودة لذوي القربي : 1: 454.

النفسية ، وقد تجرد منهما الإمام تجردا كاملا ، ولم يعد لهما أي ظل علي حياته .

3. قال عليه السلام :

«مَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ. وَ لَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً وَ نَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلَي حُسْنِ الْحِيلَةِ، مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ. قَدْ يَرَي الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَ دُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَ نَهْيِهِ، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَ يَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ.»(1).

لا غدر ولا مساومة ولا خداع ولا تضليل في سيرة بطل الإسلام والإيمان ، وهذا هو السبب في خلوده في جميع الأحقاب والآباد .

أجهزة الدولة

اشارة

وضع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الأسس الوثيقة لأجهزة الدولة ، وما يتعلق بها من الشؤون الإدارية والسياسية وغيرها ، وهذا عرض لبعضها:

أولا: رئيس الدولة

ولا بد أن تتوفر في الرئيس الأعلي للدولة الإسلامية جميع النزعات الخيرة والصفات الرفيعة من العلم والتقوي وجودة الرأي وأصالة الفكر والدراية التامة بشؤون الحكم والإدارة ، وما تحتاج إليه الأمة في شؤونها السياسية .

قال عليه السلام :

ص: 25


1- نهج البلاغة : 1: 92، الخطبة 41.

«أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهذَا الاَمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ، وَ أَعْلَمُهُمْ بِاَمْرِ اللهِ فِيهِ. فِإِنْ شَغَبَ شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ، فَإِنْ أَبَي قُوتِلَ. وَ لَعَمْرِي، لَئِنْ كَانَتِ الاِمَامَةُ لاَ تَنْعَقِدُ حَتَّي يَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ، فَمَا إِلَي ذلِكَ سَبِيلٌ، وَ لكِنْ أَهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَي مَنْ غَابَ عَنْهَا، ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ، وَ لاَ لِلْغَائِبِ أَنْ يَخْتَارَ. أَلاَ وَ إِنِّي أُقَاتِلُ رَجُلَيْنِ: رَجُلا ادَّعَي مَا لَيْسَ لَهُ، وَ آخَرَ مَنَعَ الَّذِي عَلَيْهِ.»(1).

وقال عليه السلام في حديث آخر له:

«وَ إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ ، وَ يَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ وَ يُبَلِّغُ اللَّهُ فِيهَا الْأَجَلَ وَ يُجْمَعُ بِهِ الْفَيْ ءُ

وَ يُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ وَ تَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ وَ يُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ حَتَّي يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ »(2).

أوصافه

وحدد الإمام عليه السلام الأوصاف التي يجب أن تتوفر فيمن يتولي قيادة الأمة بقوله:

«وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَي الْفُرُوجِ وَ الدِّمَاءِ وَ الْمَغَانِمِ وَ الْأَحْكَامِ وَ إِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ، فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ، وَ لَا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَ لَا الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ

ص: 26


1- نهج البلاغة : 2: 86.
2- نهج البلاغة : 1: 91

بِجَفَائِهِ، وَ لَا الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ، وَ لَا الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ، فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَ يَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ، وَ لَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الْأُمَّة.(1) .

وحدد الإمام عليه السلام في حديث آخر سيرة الحاكم بأن يكون مثلا أعلي في تهذيب نفسه وصيانة سلوكه.

قال عليه السلام :

«مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ وَ لْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ»(2).

ولم تتوفر الصفات الرفيعة والممثل إلا في شخصيته الكريمة وسيرة أبنائه العظام .

يقول عليه السلام في مساواته للرعية:

«أَلَا وَ إِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَ يَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ؛ أَلَا وَ إِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَي مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَ مِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ؛ أَلَا وَ إِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَي ذَلِكَ، وَ لَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ وَ عِفَّةٍ وَ سَدَادٍ. فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً وَ لَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَ لَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً وَ لَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً وَ لَا أَخَذْتُ مِنْهُ إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ، وَ لَهِيَ فِي

ص: 27


1- نهج البلاغة : 2: 41.
2- نهج البلاغة : 4: 16.

عَيْنِي أَوْهَي وَأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ بَلَي كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللَّهُ وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وَغَيْرِ فَدَكٍ وَالنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا وَتَغِيبُ أَخْبَارُهَا وَحُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا وَأَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا لَأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ وَسَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَي لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ وَتَثْبُتَ عَلَي جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَي مُصَفَّي هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَي تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَي وَأَكْبَادٌ حَرَّي أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ*** وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ

أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ!»(1)

هكذا كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قد تبني شؤون الفقراء، وسلك مسلكهم

ص: 28


1- نهج البلاغة : 3: 72.

في البؤس والحرمان من جميع متع الحياة .

وقال عليه السلام في بعض خطبه:

« أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي وَ اللَّهِ مَا أَحُثُّكُمْ عَلَي طَاعَةٍ إِلَّا وَ أَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا، وَ لَا أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وَ أَتَنَاهَي قَبْلَكُمْ عَنْهَا»(1).

لقد كان الإمام عليه السلام المثل الأعلي في تطبيق الفضائل علي نفسه قبل غيره من أفراد الشعب.

حديث مهم للإمام الرضا عليه السلام في الإمامة

اشارة

الإمامة عند أهل البيت عليه السلام مركز حساس في صيانة الأمة وحمايتها من الغزو ، وقد أدلي الإمام الرضا عليه السلام بحديث بالغ الأهمية عن الإمامة في حديثه مع عبدالعزيز بن مسلم ، قال عليه السلام :

يا عبد العزيز ، جهل القوم وخدعوا عن أديانهم ، إن الله جل وعزلم يقبض نبيه صلي الله عليه و آله حتي أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن ، فيه تبيان كل شئ ، وبين في الحلال والحرام ، والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا ، فقال : «مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ»(2)

وأنزل عليه في حجة الوداع ، وهي آخر عمره صلي الله عليه و آله : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(3).

ص: 29


1- نهج البلاغة : 2:90
2- الأنعام 6: 38.
3- المائدة 5: 3.

وأمر الإمامة من كمال الدين ، ولم يمض صلي الله عليه و آله حتي بين لأمته معالم دينه ، وأوضح لهم سبلهم ، وتركهم علي قصد الحق ، وأقام لهم عليا عليه السلام علما واماما ، وما ترك شيئا ما تحتاج إليه الأمة إلا وقد بينه .

حكي هذا المقطع أهمية الإمامة عند النبي صلي الله عليه و آله وأنه قام بتنفيذها ، فنصب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام خليفة له وقائدا لمسيرة أمته في غدير خم، وقد بايعه المسلمون إماما لهم.

وأضاف الإمام قائلا:

فمن زعم أن الله لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله ، ومن رد كتاب الله فقد كفر. هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها بين الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟

إن الإمامة خص الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة ، وفضيلة شرفه بها ، وأشاد بها ذكره ، فقال جل وعز: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»(1)، فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلي يوم القيامة ، وصارت في الصفوة.

عرض الإمام في هذا المقطع إلي الإمامة ، وأنها بيد الله تعالي غير خاضعة الاختيار الناس ورغباتهم ، وأنها كالنبوة ، لا يتقلدها ظالم إلي يوم القيامة.

وأضاف الإمام قائلا:

ثم أكرمها الله بأن جعلها في ذرية أهل الصفوة والطهارة ، فقال : «وَوَهَبْنَا

ص: 30


1- البقرة 2: 124

لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ*وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ »(1).

فلم تزل ترثها ذريته عليه السلام بعض عن بعض ، قرنا فقرنا ، حتي ورثها النبي صلي الله عليه و آله، فقال الله : «إِنَّ أَوْلَي النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا»(2)

فكانت لهم خاضه، فقلدها النبي صلي الله عليه و آله عليا عليه السلام، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان ، وذلك قوله:«وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَي يَوْمِ الْبَعْثِ ۖ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»(3) علي رسم ما جري ، وما فرضه الله في ولده إلي يوم القيامة؛ إذ لا نبي بعد محمد صلي الله عليه و آله، فمن أين يختار هذه الجهال الإمامة بارائهم؟

إن الإمامين منزلة الأنبياء ، وإرث الأوصياء .

إن الإمامة خلافه الله ، وخلاقه رسوله صلي الله عليه و آله، ومقام أمير المؤمنين عليه السلام، وخلاقه الحسن والحسين عليهماالسلام .

إن الإمام زمام الدين ، ونظام المسلمين ، وصلاح الدنيا ، وعز المؤمنين .

ص: 31


1- الأنبياء 21: 72 و 73.
2- آل عمران 3: 68.
3- الروم 30: 56.

الإمام أس الإسلام النامي ، وفرعه السامي.

بالإمام تمام الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج، والجهاد ، وتوفير الفيء،والصدقات ، وإمضاء الحدود والأحكام ، ومنع الثغور الأطراف.

الإمام يحلل حلال الله ، ويحرم حرامه ، ويقيم حدود الله ، ويذب عن دين الله ، ويدعو إلي سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة.

الإمام الشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم، وهو بالافق حيث لا تناله الأبصار ولا الأيدي.

الإمام البدر المنير ، والسراج الزاهر، والنور الطالع ، والنجم الهادي في غيابات الدجي ، والدليل علي الهدي ، والمنجي من الردي .

الإمام النار علي اليفاع الحار لمن اصطلي ، والدليل في المهالك ، من فارقه فهالك.

الإمام السحاب الماطر، والغيث الهاطل ، والماء الظليلة ، والأرض البسيطة ، والعين الغزيرة ، والغديروالروضة.

الإمام الأمين الرفيق ، والوالد الشفيق ، والأخ الشقيق ، وكالام البر بالولد الصغير ، ومفرع العباد .

الإمام أمين الله في أرضه و خلفه ، وحجته علي عباده ، وخليفته في بلاده ، والداعي إلي الله ، والذاب عن حريم الله.

الإمام مطهر من الذنوب ، مبرء من العيوب ، مخصوص بالعلم ، موسوم

ص: 32

بالحلم، نظام الدين ، و المسلمين ، وغيظ المنافقين ، بوارالكافرين .

الإمام واحد دهري ، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم ، ولا يوجد له بدل، ولا له مثل ولا نظير. مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه ولا اكتساب ، بل اختصاص بين المفضل الوهاب ، فمن ذا يبلغ معرفة الإمام أو كنه وصفه .

حفل هذا المقطع بأهمية الإمام عليه السلام ، وأن جميع مصالح الأمة ترتبط به، وأن أهدافه العظيمة ومثله العليا قد منحها الله تعالي له كما منح أنبياءه العظام هباته العظمي ، وأن الصفات العظيمة للإمام لم تتوفر إلا عند أئمة الهدي ومصابيح الإسلام ودعاة الله تعالي في أرضه.

ويواصل الإمام عليه السلام حديثه عن الإمام بقوله:

هيهات هيهات ، ضلت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب ، وحصرت الخطباء ، وكلت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعييت البلغاء، و فحمت العلماء عن وصف شأن من شأنه ، أو فضيلة من فضائله ، فأقرت بالعجز والقصير، فكيف يوصف بكليته ، أو ينعت يكفيته ، أو يوجد من يقوم مقامه ، أو يغني غناه ، وأني وهو بحي النجم عن أيدي المتناولين ، ووصف الواصفين ؟

أيظنون أنه يوجد ذلك في غير آل رسول الله صلي الله عليه وعليهم؟ كذبتهم والله أنفسهم، ومنتهم الأباطيل إذ ارتقوا مرتقئ صعبا ، ومنزلا دحضا. زلت بهم إلي الحضيض أقدامهم، إذ راموا إقامة إمام بآرائهم.

ص: 33

وكيف لهم باختيار إمام، والإمام عالم لا يجهل ، وراع لا يمكر؟ معدن النبوة لا يغمز فيه بنسب ، ولا يدانيه ذو حسب ، فالبيت من قريش ، والذرروة بين هاشم ، والعترة من الرسول صلي الله عليه و آله. شر الأشراف ، والفرع عن عبد مناف . نامي العلم ، كامل الحلم، مضطلع بالأمر، عالم بالسياسة ، مستحق للرئاسة ، مفترض الطاعة ، قائم بأمر الله ، ناصح لعباد الله .

إن الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم يوفقهم الله ،ويسددهم، ويؤتهم من مخزون علمه وحكمته ما لا يؤتيه غيزهم ، يكون علمهم فوق علم أهل زمانهم.

وقد قال الله جل وعز :«أَفَمَن يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَي ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(1).

وقال تعالي في قصه طالوت:«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ »(2)

وقال في قصة داود عليه السلام:«وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ »(3).

وقال لنبيه صلي الله عليه و آله :«وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن

ص: 34


1- يونس 10: 35.
2- البقرة 2: 247.
3- البقرة 251:2.

تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا »(1).

وقال في الأئمة من أهل بيته و عترته وذريته: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَي مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ- إلي قوله تعالي : -سَعِيرًا»(2).

وإن العبد إذا اختاره الله لأمور عباده شرح صدره لذلك ، وأودع قلبه ينابيع الحكمة ، وأطلق علي لسانه ، فلم يع بعده بجواب ، ولم تجد فيه غير صواب ، فهو موفق مسدد مؤيد ، قد أمن من الخطا والزلل.

خصه بذلك ليكون ذلك حجه علي خلقه ، شاهدا علي عباده ، فهل يقدرون علي مثل هذا يختارونه فكون مختارهم بهذه الصفة »(3).

وانتهي هذا الحديث الشريف عن أهمية الإمام وسمو منزلته ، وأن اختياره ليس بيد الناس وإنما هو بيد الخالق العظيم العالم بأسرار عباده ، فهو الذي ينتخب ويختار أفضلهم وأكملهم ، وليس هناك غير أئمة الهدي ومصابيح الإسلام، الذين اختارهم لهداية عباده .

مسؤوليات رئيس الدولة

تناط برئيس الدولة واجبات كثيرة ومسؤوليات كان منها:

1. حفظ الدين ، وردع المبتدعين والتنكيل بهم إن أصروا علي ضلالهم وغيهم.

ص: 35


1- النساء 4: 113.
2- النساء 4: 54 - 57.
3- تحف العقول : 436 - 442.

2- حماية بيضة المسلمين ، والدفاع عن الوطن الإسلامي ، ومحاربة الغازين لأي جزء من أجزاء الدولة الإسلامية.

3- تنفيذ الأحكام الإسلامية ، والتي منها صد الاعتداء علي الناس ، والأخذ بحق المظلوم من الظالم.

4- إقامة الحدود التي شرعها الإسلام حفظا للأمن العام.

5- الاطلاع شخصيا علي شؤون المسلمين ، والتعرف علي ما هم فيه من العسر والغبن ، وغير ذلك.

6- الاحتياط التام في أموال الدولة ، وعدم إنفاق أي شيء منها في غير صالح المسلمين ، وكان ذلك من مهام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في أيام حكومته.

7- فتح أبواب الرئيس لذوي الحاجة والمضطهدين ، فقد أخرج الترمذي من حديث عمرو بن مرة الجهني أنه قال لمعاوية : سمعت النبي صلي الله عليه و آلهيقول: ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجات والمسكنة إلا أغلق الله تعالي أبواب السماء دون خلقه -أي حاجته . وحاجته »(1).

وقد بني الإمام عليه السلام بيتا في الكوفة سماه بيت المظالم يضع فيه المظلومون ظلامتهم فيه ، وكان يشرف عليه بنفسه ويطلع علي ذوي الحاجات و المظلومين .

8- مواساة الفقراء في فقرهم. ووقد واساهم الإمام عليه السلامالفقراء في بؤسهم .

يقول :

«إِنَّ اللَّهَ تَعَالَي فَرَضَ عَلَي أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ

ص: 36


1- صحيح الترمذي : 6: 73.

النَّاسِ، كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ.!»(1).

وقال عليه السلام:

«إن الله تعالي جعلني إماما لخلقه ، ففرض علي التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس كي يقتدي الفقير فقري ، ولا يطغي الغني غناه »(2)

9- إلغاء جميع مظاهر العظمة والتفوق علي الناس ، وقد طبق الإمام عليه السلام ذلك علي نفسه ، فقد استقبل في الأنبار باستقبال شعبي حاشد ومعهم دوابهم ، فأنكر ذلك والتفت إلي الأنباريين قائلا: ما هذه الدواب التي معكم؟ وما أردتم بهذا الذي صنعتم ؟

فقالوا: يا أمير المؤمنين ، إن هذا الذي صنعنا فهو خلق منا نعظم به الأمراء ، وأما هذه البراذين فهدية لك ، وقد صنعنا لك وللمسلمين طعاما ، وهيأنا لدوابكم علفا كثيرا.

فزجرهم الإمام عليه السلام وقال لهم:

أما هذا الذي زعمتم أنه منكم خلق حتي تعظمون به الأمراء، فوالله ما ينفع هذا الأمراء ، وإنكم لتشقون به علي أنفسكم وأبدانكم ، فلا تعودوا له ، وأما دوابكم هذه فإن أحببتم أن نأخذها منكم فنحسبها من خراجكم أخذناها منكم، وأما طعامكم الذي صنعتم لنا فإنا نكره أن نأكل من أموالكم

ص: 37


1- نهج البلاغة : 2: 188.
2- الكافي : 410:1 .

شيئا إلا بثمن(1).

وهكذا نظر الإمام عليه السلام إلي الحاكم أنه كبقية أفراد الشعب لا ميزة له عليهم ، كما كان النبي صلي الله عليه و آله يشجب جميع ألوان العظمة ، فقد وفد عليه شخص فأخذته هيبته وأخذ بدنه پرعد ، فأنكر النبي صلي الله عليه و آله ذلك وقال له: أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد.

علي هذا الخط سار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فلم يحفل بأي مظهر من مظاهر العظمة التي يقيمها الناس لملوكهم ورؤسائهم.

10- إلغاء الاطراء ، وكان من مظاهر حكومة الإمام عليه السلام إلغاء الاطراء والثناء عليه الذي لا يخلو من التملق والتزلف للسلطة ، وقد أثني عليه شخص فزجره وقال له:

وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس ، أن يظن بهم حب الفخر، ويوضع أمرهم علي الكبر ، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء ، واستماع الثناء؛ ولست - بحمد الله - كذلك ، ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركه انحطاطا به سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء . وربما استحلي الناس الثناء بعد البلاء».

ثم أخذ يبين حديثه :

«فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِإِخْرَاجِي نَفْسي إِلَي اللَّهِ سُبْحَانَهُ

ص: 38


1- صفين : 160 و 161.

وَ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ [الْبَقِيَّةِ] فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا. فَلَا تُكَلِّمُونِي بمَا تُكَلَّمُ بهِ الْجَبَابرَةُ وَ لَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بمَا يُتَحَفَّظُ بهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادرَةِ وَ لَا تُخَالِطُونِي بالْمُصَانَعَةِ، وَ لَا تَظُنُّوا بي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي وَ لَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ. فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بعَدْلٍ، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسي بفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَ لَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسي مَا هُوَ أَمْلَكُ بهِ مِنِّي؛ فَإِنَّمَا أَنَا وَ أَنْتُمْ عَبيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسنَا وَ أَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَي مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بالْهُدَي وَ أَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَي»(1).

حكي حديث الإمام عليه السلام أمورا بالغة الأهمية ، كان منها :

1- عدم مخاطبته بالألقاب العظيمة التي تضفي علي عشاق الملك والسلطان .

2- عدم التحفظ والخوف من الالتقاء به باعتباره الحاكم العام في البلاد.

3. عدم مخالطته بالمصانعة وسائر ألوان المجاملات ، فإن مخالطة الحكام يجب أن تكون مشفوعة بالنصيحة والصراحة لا بالمصانعة وغيرها من وسائل النفاق الاجتماعي.

4- عدم الظن به أنه يستثقل من سماع الحق والعدل .

ص: 39


1- نهج البلاغة : 2: 201.

5- الجهر بالحق ومجابهة السلطة بواجباتها ومسؤولياتها .

6. الصراحة بمشورة العدل وما يصلح للرعية.

هذه بعض المواد في حديث الإمام عليه السلام ، وهي تحكي العدل بجميع رحابه وبنوده ، كما أنها من أهم الأسباب التي توجب الترابط بين الإمام عليه السلام ورعيته .

طاعة الإمام

اشارة

وتجب طاعة الإمام، ولكن إذا كان ملتزما بأحكام الله تعالي ، ومنصرفا عما حرم الله ، أما إذا كان شاذا في سلوكه وليست له أية علاقة بالإسلام ، وإنما فرض حكمه بقوة السلاح كحكام بني أمية وبني العباس فتجب مقاومتهم وتحرم طاعتهم ، حسب ما جاء في كتاب الله تعالي :«وَلَا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ »(1).

وتظافرت الأخبار بحرمة التعاون مع الظالمين ، وهذه بعضها:

1. قال رسول الله صلي الله عليه و آله: «سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون ، ويفعلون ما تنكرون، فليس لأولئك عليكم طاعة »(2).

2. وقال صلي الله عليه و آله: «إنه سيكون بعدي امراء ، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم ، وأعانهم علي ظلمهم فليس مني ولست منه ، وليس واردا علي الحوض »(3).

ص: 40


1- هود 113:11 .
2- فتح الباري : 13: 6.
3- صحيح ابن حبان : 518:1

3- قال صلي الله عليه و آله: «إنما الطاعة في المعروف ، فمن أمركم بمعصية فلا تطيعوه»(1).

وكثير من الأحاديث أعلنت أنه لا طاعة للحكام إذا أمروا بمعصية الله تعالي ، وشذوا عن الطريق القويم كالحكام الأمويين والعباسيين الذين عاثوا في الأرض فسادا وعملوا كل ما حرم الله تعالي من إثم ، وقد أفتي فقهاء المسلمين بمقاومتهم .

قال إمام الحرمين: «إن الإمام إذا جار وظهر ظلمه وغشه ، ولم يرعو لزاجر عن سوء صنيعه فلأهل الحل والعقد التواطؤ علي ردعه ، ولو بشهر السلاح ونصب الحروب »(2).

وقد فجر الإمام الحسين عليه السلام سبط رسول الله صلي الله عليه و آله ثورته الكبري علي الدعي ابن الدعي يزيد بن معاوية حينما أعلن الكفر والإلحاد والفسق والفجور ، وهي أعظم ثورة إصلاحية استهدفت إقامة العدل ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورفع الظلم والمنكر عن الناس ، وستبقي حية ندية في جميع الأحقاب والآباد .

ثانيا: الوزارة

من أجهزة الدولة ذات الأهمية البالغة الوزارة ، فإنها مسؤولة عن الأوضاع الراهنة في البلاد التي تعم الحركة الاقتصادية والثقافية والعسكرية والأمن والاستقرار في البلاد.

وقد أكد الإمام عليه السلام في عهده الخالد لمالك الأشتر أن لا يمنح الوزارة لشخص كان وزيرا لحاكم ظالم.

قال عليه السلام :

ص: 41


1- صحيح ابن حبان : 422:10 .
2- الأحكام السلطانية : 17.

»ِإِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلاَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآْثَامِ فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الاَثَمَةِ، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ؛ وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَ أَوْزَارِهِمْ وَ آثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَي ظُلْمِهِ، وَلاَ آثِماً عَلَي إِثْمِهِ، أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَي عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً، فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلاَتِكَ؛ ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ وَأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لاَوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ. وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَي أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ يَبْجَحُوكَ بِبَاطِل لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الاِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ.»(1).

الاتصال بالطبقات الشريفة

اشارة

وأمره أن يتخذ الصالحين والمتقين له أولياء لأنهم لا يقولون إلا الحق ولا يأمرون إلا بالعدل ، وأكد علي مجالسة المتقين والصالحين ليكتسب من هديهم وصلاحهم ، لا سيما العلماء والحكماء

قال عليه السلام :

«وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ، وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ، فِي تَثْبيتِ مَا صَلَحَ

ص: 42


1- نهج البلاغة : 3: 88، عهده علا لمالك الأشتر

عَلَيْهِ أَمْرُ بلاَدكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بهِ النَّاسُ قَبْلَكَ»(1).

من أجل هذه الأهداف النبيلة أمر الإمام عليه السلام بالاتصال بهذه الطبقة الواعية حتي يتوصل الوالي إلي معرفة ما تحتاج إليه البلاد من الخدمات ليقوم بتنفيذها.

وأكد الإمام في حديث له علي ضرورة اتصال الولاة ببعض الطبقات الشريفة من الشعب. قال عليه السلام:

«ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالاَْحْسَابِ، وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ؛ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ، وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ. ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، وَلاَ يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ، وَلاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ، فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَي بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ؛ وَلاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالاً عَلَي جَسِيمِهَا، فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لاَ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ»(2).

وحكت هذه الوصية مدي اهتمامه عليه السلام بالطبقة الشريفة والصالحة في الشعب ، وأن من مسؤوليات الحاكم البر بهم والإحسان إليهم والتعهد لشؤونهم ليظفر بإخلاصهم وتسديد النصيحة له.

ص: 43


1- نهج البلاغة : 3: 89.
2- نهج البلاغة : 3: 92.

وعلي أي حال، فإن للوزارة منزلة متميزة في الإسلام ، وتأتي في الأهمية بعد رئيس الدولة ، وقد أضفي النبي صلي الله عليه و آله لقب الوزارة علي أخيه ووصيه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فقال :

«أنت أخي ووزيري ، تقضي ديني ، وتنجر موعدي ، وتبرئ ذمتي»(1) وقال صلي الله عليه و آله: «إنه -أي الإمام أمير المؤمنين عليه السلام - أخي ووزيري وخليفتي في أهل بيتي ، وخير من أخلف بعدي »(2).

وقال صلي الله عليه و آله: «اللهم إني أقول كما قال أخي موسي: اللهم اجعل لي وزيرا من أهلي أخي عليا ، اشدد به أزري ، وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ، ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا»(3).

وقد أضفي النبي صلي الله عليه و آله لقب الوزارة علي أخيه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في كثير من أحاديثه لأنه لم ير مثله في أصحابه ، وأهل بيته من يضارعه في هديه وإيمانه ، وشدة حرصه علي الإسلام ، وقد اتخذ أبو بكر عمر بن الخطاب وزيرا له لأنه باني دولته والراعي لشؤونه ، وفي أيام عثمان اتخذ مروان بن الحكم وزيرا له ، فكان هو القائم بجميع شؤونه ، وقد أغدق عليه الكثير من أموال الدولة.

وفي أيام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام اتخذ له عدة وزراء ، منهم الزعيم مالك الأشتر وعبدالله بن عباس وحجر بن عدي ، وأمثالهم من عيون المؤمنين والمتقين .

ص: 44


1- مجمع الزوائد : 9: 121.
2- بحار الأنوار : 212:18 .
3- أمالي الطوسي : 551.

وفي أيام معاوية كان وزراؤه وحاشية ملكه الخونة واللصوص أمثال المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص وزياد بن أبيه وبسر بن أرطاة ، وغيرهم من الذين أغرقوا العالم الإسلامي بالدم والمحن والخطوب.

وهكذا استمرت الوزارة في حكم بني مروان والعباسيين تنتقل من ذئب إلي ذئب ، ومن لص إلي لص ، وقد امتحن بهم المسلمون امتحانا عسيرا، وارهقوا ارهاقا شديدا.

ثالثا: المستشارون

وكان من منهج الإمام وفضائله ومميزاته أنه اتخذ أولياء الله تعالي وأحباءه أولياء له يستشيرهم في مهام دولته وشؤون حكومته ، أمثال الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر وحجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي الذين هم من خيار المسلمين تقوي وورعا وزهدا في الدنيا وإعراض عن مباهجها، وصراحة في الحق وصدقا في القول.

وقد أكد الإمام في عهده لمالك الأشتر علي اتخاذ الأخيار مستشارين له ، وذكر كوكبة منهم ، وهم الذين لا يعاونون الظالم علي ظلمه ، ولا الآثم علي إثمه ، وأكد علي ملازمتهم بقوله:

«فاتخذ أولئك خاصه لخلواتك وحفلاتك ، ثم ليكن آثرهم عندك اقولهم بمر الحق لك ، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه ، واقعا ذلك من هواك حيث وقع. والصق بأهل الورع والصدق ؛ ثم رضهم علي ألا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله ، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو، وتدني

ص: 45

|من العزه »(1).

أرأيتم هذه القيم التي يسعد بها الناس حكومة وشعبا، وليس في مواثيق السياسة مثل هذه المناهج المشرقة التي تبنت العدل بجميع رحابه .

الابتعاد عن بعض الأصناف

وكان من مناهج الإمام عليه السلام في حكمه إبعاد الحاكمين والمسؤولين عن بعض الأصناف من الناس.

قال عليه السلام في عهده لمالك:

«وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَي مَا غَابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ. أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْد، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْر، وَتَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لاَ يَضِحُ لَكَ، وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَي تَصْدِيقِ سَاعٍ، فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وَ إِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ.

وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ وَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلاَ جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الاُمُورِ، وَلاَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ

ص: 46


1- نهج البلاغة : 3: 88.

لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ؛ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّي، يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ.»(1).

إن هذه القيم هي المناهج المشرقة في سياسة الإمام أمير المؤمنين ، ووصي رسول الله صلي الله عليه و آله، وباب مدينة علمه ، فقد أراد بسط العدل وإشاعة قيم الإسلام بين الناس .

إن الذين نهي الإمام عن دخولهم في جهاز الحكم هم عصابة من الأشرار الذين لا صلة لهم بالله تعالي ، وهم أداة تخريب و فساد للحكم.

اختيار الحكام

وشيء بالغ الأهمية في أنظمة الإمام عليه السلام في الحكم أنه لا ينصب حاكما إلا بعد الفحص عن سيرته، والوقوف التام علي شؤونه واتجاهاته الفكرية والعقائدية حتي يكون جهاز الحكم نظيفا وسليما.

تكريم الحكام المخلصين

اشارة

وعهد الإمام لمالك بتكريم الحكام الشرفاء ، وتوفير الرخاء والسعة في العطاء لهم. قال عليه السلام:

«وافسح له _أي للحاكم_في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلي الناس. وأعطه من المنزله لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك .

ص: 47


1- نهج البلاغة : 3: 86.

فانظر في ذلك نظرا بليغا فإن هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار ، يعمل فييه بالهوي ، وتطلب به الدنيا»(1).

حكي هذا المقطع أمرين: .

الأول : الترفيه علي الحكام والسعة في أرزاقهم حتي تقل حاجتهم إلي الناس فيخلصوا في عملهم.

الثاني: تكريمهم والاحتفاء بهم أمام الشعب وتعظيم منزلتهم عند السلطة ، وفي ذلك من الفوائد التي تعود إلي المجتمع والتشجيع للحكام في إخلاصهم للعمل.

رابعا: العمال

وهم الموظفون في جهاز الدولة الذين يتولون معظم الأعمال ، وقد عرض لهم الإمام في عهده للزعيم مالك الأشتر بقوله:

«ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا ، ولا تولهم محاباة وأثرة ، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة . وتوخ منهم أقل التجربة والحياء ، من أهل البيوتات الصالحة ، والقدم في الإسلام المتقدمة ، فإنهم أكرم أخلاقا ، وأصح أعراضا، وأقل في المطابع إشراقا ، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا. ثم أسبغ عليهم الأرزاق ، فإن ذلك قوة لهم علي استصلاح أنفسهم، وغني لهم

ص: 48


1- نهج البلاغة : 3: 95.

عن تناول ما تحت أيديهم ، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك(1).

حكي هذا المقطع بعض الأمور التي تتعلق في عمال الدولة وهي :

أولا: أن لا يولي أي موظف عملا إلا بعد الفحص والاختبار التام عن حاله وأمانته .

ثانية : لا يجوز أن يسند أي عمل لأحد محاباة أو اثرة فإنه خيانة للأمة، وفساد لجهاز الحكم.

ثالثا: أن يولي العمل إلي أهل التجربة والدراية علي شؤون العمل الذي يسند إليهم.

رابعا : أن يختار للعمل من يتصف بالحياء ، وعدم الصلف ، وأن يكون من ذوي البيوتات الشريفة حتي يقوم بخدمة المواطنين ، ولا يجحف في حقهم.

خامسا: أن يسبغ علي العمال الرواتب التي تسد حاجاتهم ، ولا يضيق عليهم معيشتهم ليكونوا بمأمن عن تناول ما في أيدي الناس ، ويبتعدوا عن الرشوة.

سادسا: مراقبة العمال مراقبة دقيقة ، وبث العيون عليهم للنظر في تصرفاتهم ، فإن كانت شاذة عن شريعة الله تعالي بادر إلي عزلهم وإقصائهم عن وظائفهم وشهر بهم ليكونوا عبرة لغيرهم.

سابعا : أن ينتخب العمال من العناصر الشريفة والبيوتات الرفيعة ، فإنهم أكرم أخلاقا وأصح أعراضا.

ص: 49


1- نهج البلاغة : 3: 95.

مراقبة العمال

أوصي الإمام عليه السلام في عهده لمالك بوضع الرقابة والعيون علي العمال ، ومراقبة شؤونهم ، قال عليه السلام:

«ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لاُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَي اسْتِعْمَالِ الاَْمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ.

وَتَحَفَّظْ مِنَ الاَعْوَانِ، فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَي خِيَانَة اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ، اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ.»(1).

عرض الإمامة عليه السلام إلي إقامة العيون والرقباء علي العمال للنظر في شؤونهم وقيامهم بما عهد إليهم من الالتزام بالعمل علي وجهه ، وعدم اختلاسهم للأموال ، فإن خاس أحد منهم بذلك عاقبه وأذله ردعا للفساد وبسطا للعدل والأمانة.

إرضاء العامة

وكان من بنود سياسة الإمام عليه السلام الداخلية إرضاء العامة وتقديمهم علي رضاءالخاصة.

ص: 50


1- نهج البلاغة : 3: 96.

الرعية طبقات

اشارة

أعلن الإمام عليه السلام في عهده أن الرعية طبقات يتصل بعضها ببعض في منافعها الاقتصادية والاجتماعية.

لنقرأ كلامه في عهده . قال عليه السلام:

«واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ، ولا غني ببعضها عن بعض:

فمنها جنود الله .

ومنها كتاب العامة والخاصة .

ومنها قضاة العدل.

ومنها عمال الإنصاف والرفق .

ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمه ومسلمة الناس .

ومنها التجار وأهل الصناعات .

ومنها الطبقة السفلي من ذوي الحاجة والمسكنة .

و كل قد سمي الله له سهمه ، ووضع علي حد فريضة في كتابه أو سنة نبية - صلي الله عليه وآله وسلم - عهدا منه عندنا محفوظا»(1)

ص: 51


1- نهج البلاغة : 3: 89.

وهذا تحليل رائع للطبقات الاجتماعية التي يرتبط بعضها ببعض في منافعها والتي يقوم علي أساسها المجتمع ، وقد عدد الإمام عليه السلام هذه الطبقات وهي:

1- الجنود .

2- كتاب العامة والخاصة.

3. قضاة العدل.

4. عمال الإنصاف والرفق .

5- أهل الجزية والخراج من أهل الذمة .

6- التجار.

7- أهل الصناعات .

8- الطبقة الفقيرة من ذوي الحاجات والمسكنة .

1- الجنود

وقد فصل الإمام حقوق هذه الطبقات التي يتكون منها الشعب ، فابتدأ عليه السلام بحقوق الجنود حيث قال عليه السلام:

«فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَ زَيْنُ الْوُلاَةِ، وَعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الاَمْنِ وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ. ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَيَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ.».

إن الجنود هم السياج الواقي لحماية البلاد من الغزو الخارجي الذي يستهدف

ص: 52

استعمارها والتحكم في مصير الأمة ومستقبلها ، فلا حياة لشعب ولا وجود له ولا استقرار إلا بالجند الذين هو حماة الوطن ومصدر عزه واستقلاله .

ولا قوام للحياة الاقتصادية للجيش إلا بما فرض الله تعالي له من الحقوق في أموال الدولة التي يجب أن تنفق منها علي المعدات الحربية المتطورة التي توجب حماية البلد من التدخل الخارجي ، وكلما زادت تطورا بما يملكه من وسائل الدفاع كان لها رصيد شعبي وولاء عارم في الأوساط الاجتماعية .

2- القضاة والعمال والكتاب

ثم عرض الإمام إلي حقوق هذه الأصناف ومدي ارتباطها بالدولة . قال عليه السلام:

«ثُمَّ لا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَ يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ

ثُمَّ لا قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلاَّ بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَ الْعُمَّالِ وَ الْكُتَّابِ لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ وَ يَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَ يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الاُمُورِ وَ عَوَامِّهَا

وَ لا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي الصِّنَاعَاتِ، فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْوَ يُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَ يَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ(5)بِأَيْدِيهِمْ مَا لا يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ».

إن هذه الأصناف يرتبط بعضها ببعض، ولها دورها الفعال في إقامة النظام الاجتماعي في البلاد.

ص: 53

3- أهل الحاجة والمسكنة

أوصي الإمام عليه السلام برعاية الفقراء والبؤساء وسد حاجاتهم . قال عليه السلام:

«ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَي مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكنَةِ الَّذِينَ يحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ. وَفِي اللهِ لِكلّ سَعَةٌ، وَلِكلّ عَلَي الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يصْلِحُهُ، وَلَيسَ يخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللهُ مِنْ ذَلِك إِلاَّ بِالاِهْتِمَامِ وَالاِسْتِعَانَةِ بِاللهِ، وَتَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَي لُزُومِ الْحَقِّ، وَالصَّبْرِ عَلَيهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيهِ أَوْ ثَقُلَ».

أكد الإمام عليه السلام رعاية الفقراء والإحسان إليهم ، لأنهم لا يجدون من يلوذون به في سد حاجاتهم ودفع البؤس عنهم إلا الله تعالي ووليه القائم في شؤون المسلمين.

ص: 54

الإمام عليه السلام مع القضاة

اشارة

ص: 55

ص: 56

نظر الإسلام بعمق وشمول إلي القضاء والقضاة فأولاهما المزيد من الأهمية ، وذلك لما لهما من الأثر الفعال إيجابا و سلبا علي النظام الاجتماعي الذي يسود البلاد ، ونعرض -بإيجاز لهما - مع ما يرتبط بذلك من بحوث.

أهمية القضاء

أما القضاء فهو من أهم المراكز الحساسة في الدولة الإسلامية ، وإقامته من الواجبات علي رئيس الدولة ، فإنه ملزم بتنفيذها.

وقد تحدث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مع شريح القاضي عن سمو هذا المنص ومدي أهميته قائلا: يا شريح ، قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبئ أو وصي نبئ ، أو شقي(1).

إن منصب القضاء والقيام بمسؤولياته وواجباته علي الوجه الصحيح إنما هو من وظائف الأنبياء وأوصيائهم ليحكموا بين الناس بالحق والعدل ، أما إذا تولي هذا المنصب غيرهما ممن لا دراية له بشؤون القضاء أو لا حريجة له في الدين فإنه شقي قد حاد عن الطريق القويم، وعرض البلاد للخطوب والأزمات .

ص: 57


1- من لا يحضره الفقيه : 3: 4. وسائل الشيعة : 7:18.

وكان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يحتاط أشد ما يكون الاحتياط في قضاء شريح قاضي الكوفة ، فكان يأمره بعدم تنفيذ ما يقضي به حتي يعرضه عليه(1)، خوفا من أن يكون قد جافي الواقع في ما قضي به .

مع القضاة

واشترط الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في القضاة أن يكونوا أفضل أبناء الأمه تقوي وورعا وكمالا ونزاهة ، ولنستمع إلي ما جاء في عهده لمالك الأشتر من البنود المشرقة التي تخص القضاة ، قال عليه السلام:

«ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاُْمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمَادَي فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَي الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَي طَمَع، وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَي فَهْم دُونَ أَقْصَاهُ، وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَي تَكَشُّفِ الاُْمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ وَأُولَئِكَ قَلِيلٌ؛ ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ، وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَي النَّاسِ»(2).

ص: 58


1- فروع الكافي : 7: 407. وسائل الشيعة : 6:18.
2- نهج البلاغة : 3: 434 و 435.

حفل هذا المقطع الشريف من عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام المالك الأشتر واليه علي مصر بأمور بالغة الأهمية ، لم يحفل بمثلها أي نظام اجتماعي عرض النظام الحكم والادارة .. لقد نظر الإمام عليه السلام بعمق وشمول إلي أهم جهاز في الدولة وهو القضاء ، فألزم أن يكون أفضل من في الرعية علما و تقوي وورعا ، وعليهم أن يتحملوا المسؤوليات التالية:

1. أن يكون القاضي واسع الأفق، لا يضيق من الدعاوي التي ترفع إليه ، ولا ينزعج ويتبرم أمام المتخاصمين.

2. أن لا يتمادي في الزلل ، وعليه أن يقف أمام الأحداث التي تعرض عليه بتبصر وترو.

3- عليه أن يتبع الحق إذا تبين له.

4- أن يبتعد عن الطمع ، ولا تميل نفسه إلي حطام الدنيا .

5- عليه أن ينظر في الدعاوي التي ترفع إليه نظرة فاحصة ، ويبذل قصاري فهمه فيها حتي يكون حكمه مصيبا.

6- عليه أن يقف في الشبهات ، ولا يحكم حتي يتبين له الحق .

7- أن يأخذ بحكمه بالحجج القاطعة.

8- لا يمل ولا يسأم من مراجعة المتخاصمين.

9. أن يكون شديدا في جانب الحق ، ولا يميل لأي طرف من المتنازعين .

10- أن لا يزدهيه إطراء الناس ، ولا يستميله إغراؤهم .

ص: 59

مسؤوليات رئيس الدولة مع القضاة

وأدلي الإمام عليه السلام -في هذا المقطع - ببعض المسؤوليات التي تترتب علي رئيس الدولة تجاه القضاة وهي:

أولا : أن يتعاهد الأحكام التي تصدر من القضاة ، ويشرف بنفسه عليها لئلا تكون مجافية للعدل ، ومنافية لأحكام الإسلام.

ثانيا : أن يجزل لهم الرواتب الضخمة ، ويوسع عليهم ، ولا يدع أي ظل للحاجة عليهم حتي يبتعدوا عن الرشوة التي هي من أهم الأسباب في فساد جهاز الحكم.

ثالثا: أن يقابلهم بمزيد من الحفاوة والتكريم ، ويظهر سمو مكانتهم أمام المجتمع بحيث لا يدانيهم أي أحد من حاشيته وخاصته في منزلتهم، وبذلك يكسب القضاة الاستقلال وسمو المكانة الاجتماعية.

أنواع القضاء

أما القضاء فهو أنواع مختلفة بعضها حق ، وبعضها ضلال ، ومن أنواعها ما يلي:

1. القضاء وفق الموازين الشرعية من قبل السلطان العادل ، وهو جائز بلا كلام.

2. القضاء بغير علم ، وهو محرم بلا خلاف ، وقد مر الإمام علي قاض فقال له: «أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ ؟ »، قال : لا ، فقال :«هَلَكتَ وَأَهلَكتَ... الخ »(1).

3. القضاء من قبل السلطان الجائر إذا كانت أحكامه مخالفة للشريعة

ص: 60


1- أصول الكافي : 1: 33. وسائل الشيعة : 7:18.

الإسلامية ، وقد تواترت الأخبار بحرمته .

ويشير الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في حديثه التالي إلي ذلك ، قال عليه السلام:

«إن الناس الوا بعد رسول الله صلي الله عليه و آله إلي ثلاثة : آلوا إلي عالم علي هدئ من الله قد أغناه الله بما علم عن غيره ، وجاهل مدع للعلم لا علم له، معجب بما عنده، قد فتتته الدنيا وفتن غيره ، ومتعلم من عالم علي سبيل هدي من الله ونجاة ، ثم هلك من ادعي وخاب ممن افتري »(1).

شروط القضاة

اشارة

ولا يعين الشخص للقضاء إلا بعد أن تتوفر فيه الصفات التالية وهي :

1. الذكورة

ويشترط في القاضي أن يكون رجلا ، ولا يجوز للسيدات أن يتولين القضاء ، فقد جاء في وصية النبي صلي الله عليه و آله

للإمام علي عليه السلام النهي عن تولي المرأة للقضاء (2).

وليس ذلك طعنا في شخصية المرأة التي تحتل أسمي مكانة في الإسلام ، وإنما القضاء مذهب حساس يستدعي الصرامة والشدة ، وعدم الميول لأي جانب من المتخاصمين ، والمرأة بحسب تكوينها وذاتياتها ملهبة العواطف رقيقة القلب ، ولولا رقتها ورأفتها التي طبعت عليها لما تكون المجتمع الإنساني ، وهو مدين لعواطفها وتربيتها ، وهي لا تصلح للقضاء لا لنقصان في شخصيتها

ص: 61


1- من لا يحضره الفقيه : 3: 263. وسائل الشيعة : 7:18.
2- وسائل الشيعة : 16:27 .

واستهانة بها وإنما لثقل هذا المنصب وحساسيته كما ذكرنا .

2- البلوغ

وقد استدل لهذا الشرط بقوله عليه السلام: «انظروا إلي رجل عرف حلالنا حرامنا»، وعنوان الرجل لا يشمل الصبي ، بالإضافة إلي رفع القلم عنه .

3- العدالة

من الشروط التي يجب أن تتوفر في القاضي العدالة ، وهي صفة نفسية تقتضي أداء الواجبات الإلهية واجتناب المحرمات ، فإذا لم يتمتع القاضي بهذه الصفة فلا سبيل له لتولي القضاء

4. الإسلام

ويجب أن يكون القاضي مسلما ، واستدل عليه بقوله تعالي :«وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»(1)، ومن الطبيعي أن تولي الكافر للقضاء يكون له سبيل علي المؤمنين .

5- الاجتهاد

ولا بد أن يكون القاضي مجتهدا ومحيطا بالأحكام الشرعية لا عن تقليد وإنما عن اجتهاد ، وهو استنباط الحكم الشرعي من أدلته الأربعة، وهي:

1. الكتاب .

2- السنة ، ونعني بها فعل المعصوم وقوله وتقريره عند الشيعةالإمامية .

ص: 62


1- النساء 4: 141.

3- الإجماع.

4- العقل.

فإذا لم يتوفر أحد هذه الأدلة للفقيه في إحدي المسائل ، فإنه يرجع إلي ما تقتضيه الأصول العملية ، وهي:

1- البراءة ، بقسميها العقلية والنقلية .

2 - الاستصحاب في الموضوعات والأحكام .

3- التخيير.

4- الاحتياط .

و تفصيل هذه الأمور ، وما يعتبر فيها من الشروط قد تكفلت بها كتب الأصول. هذه بعض الشروط التي ذكرت في كتب القضاء ، وهناك شروط أخري كالحرية وطهارة المولد وغيرهما.

آداب القضاء

أفاد الفقهاء في آداب القضاء أمورا ترجع بعضها إلي صفات القاضي في حال حكمه وهي : أن لا يكون في حالة الحكم مشغول الفكر بامور الدنيا ، ولا بمرض يشغله عن الالتفات إلي الحكم وموازينه ، وأن لا يقضي وهو غضبان أو ضجر أو قلق ، وأن لا يكون بمدافع للأخبثين البول والغائط ، وأن يكون علي سكينة ووقار ، وأن يساوي بين الخصمين.

في الرواية : أن يهوديا نازع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في درع زعم أنها له فحاكمه عند عمر ، فقال للإمام : قم يا أبا الحسن مع خصمك ، فتأثر الإمام عليه السلام وبان الغضب علي سحنات وجهه الشريف ، وبعد الفراغ من المحاكمة انبري

ص: 63

عمر فقال للإمام: لقد بدي عليك الغضب لأتي أمرتك بالمثول أمام القضاء مع خصمك اليهودي ؟

فأجاب الإمام: «ليس الأمر كذلك ، ولكن لم تساو بيني وبين اليهودي ، فقد كنيتني وقلت يا أبا الحسن ولم تكن اليهود»، فانبهر عمر من ذلك ، لقد أظهر الإمام مدي تطور القضاء الإسلامي ، وضرب بذلك أمثلة في تحقيق القضاء للعدالة الاجتماعية وأصالته وأبعاده الفكرية وعمقه الحضاري.

وهناك شروط أخري نص عليها السادة الفقهاء ، وبعضها قد ثبت بأدلة التسامح في السنن (1).

راتب القاضي

ذهب بعض الفقهاء إلي حرمة أخذ القاضي الأجور ، مستدلين علي ذلك بأن القضاء واجب عيني إذا انحصر في شخص ، أو كفائي إذا لم ينحصر فيه ، ولا يجوز أخذ الأجرة علي الواجب ، وتتضاعف الحرمة إذا أخذ الأجرة من أحد المتخاصمين بأن بذل للقاضي ليحكم له بالحق أو بغيره فإنه يكون من الرشوة التي هي الكفر بالله تعالي أو الشرك به كما في بعض الأخبار .

وللقاضي أن يأخذ راتبه من بيت مال المسلمين الذي أعد لمصالحهم، و تفصيل هذه البحوث قد عرضها الفقهاء في رسائلهم وموسوعاتهم ، وقد أجري الإمام لشريح القاضي 500 درهم في الشهر (2).

ص: 64


1- المحاكمة في القضاء : 93.
2- أخبار القضاة : 2: 227.

عزل القاضي

يعزل القاضي من منصبه إذا جافت أحكامه النصوص الشرعية بأن كانت مخالفة لها، وكذلك يعزل ويعاقب إذا ثبت أنه قد ارتشي أو مال إلي بعض المتخاصمين فحكم له ، وإن كان حكمه موافقا للواقع.

ص: 65

ص: 66

الإمام عليه السلام مع الولاة

اشارة

ص: 67

ص: 68

قبل الخوض والدخول في البحث عن شؤون ولاة الإمام عليه السلام وعماله وجباة الضرائب والخراج ، وما زودهم به الإمام عليه السلام من الأنظمة والنصائح في وثائقه إليهم، نعرض إلي بعض البحوث التي ترتبط ارتباطا وثيقا وموضوعيا بأجهزة الحكم ومناصب الدولة وشؤون الموظفين والعمال وغير ذلك.

وفيما يلي هذه البحوث :

أهمية الولاة

اشارة

أما الولاة علي الأقطار والأقاليم الإسلامية فهم الذين يعينهم الخليفة الذي تقلد أمور المسلمين ليحكموا بينهم بالحق والعدل ، ويقيموا سنة الله تعالي وأحكامه في الأرض ، ويعملوا علي تطوير العالم الإسلامي في إنماء ثرواته، وعمارة أرضه ، وإقصاء الفقر والحاجة عن كل مواطن يقيم في بلاد المسلمين ، وهذاعرض لبعض مسؤوليات الولاة وأهميتهم :

1- خطر الإمارة

الامارة علي الأقطار والأقاليم من المناصب الحساسة في جهاز الحكم الإسلامي ، فإن أديت علي الوجه الصحيح نجا صاحبها من عذاب الله وعقابه ،

ص: 69

وإن لم تؤد علي واقعها المشروع تعرض من تقلدها للنقمة والعذاب ، وقد أدلي بذلك الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

قال عليه السلام :

«سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله يقول : أيما وال ولي الأمر من بعدي أقيم علي حد الصراط ، ونشرت الملائكة صحيفته، فإن كان عادلا اتجاه الله بعدله ، وإن كان جائرا انتفض به الصراط حتي تتزايل مفاصله، ثم يهوي إلي النار، فيكون أول ما يتقيها أنفه وحر وجهه(1)»(2).

أرأيتم خطر الامارة ومدي المسؤولية العظمي لمن تولاها ، فإن عدل في إمارته وأقام الحق كان بمنجي من عذاب الله تعالي ، ومن جار في حكمه وابتعد عن الطريق القويم كان في عذاب الله ونقمته.

وفي حديث آخر للنبي صلي الله عليه و آله أنه قال لأصحابه : وإن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي ؟

فانبري إليه عوف بن مالك قائلا : ما هي يا رسول الله ؟

فقال صلي الله عليه و آله : أولها - أي الامارة - ملامة ، وثانيها ندامة ، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل ، وكيف يعدل مع قريبه (3).

ص: 70


1- حر الوجه : ما بدا من الوجنة .
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 7: 36 و 37.
3- مجمع الزوائد : 5: 200.

إن الامارة عذاب وندامة وخسران لمن حاد عن الطريق واقترف الظلم والاعتداء علي الناس ، وقال صلي الله عليه و آله محذرا لأصحابه من الامارة قائلا:

«ستحرصون علي الإمارة ثم تكون حسرة وندامة يوم القيامة ، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمه»(1).

وقد حرص الكثيرون من الصحابة وتهالكوا علي الامارة والسلطان فكانت النتائج المؤسفة أن العالم الإسلامي غرق بالفتن والكوارث. وحدث عوف بن مالك أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : إني أخاف علي أمتي من أعمال ثلاث . فسارع بعض أصحابه قائلا: ما هي يا رسول الله ؟

زلة عالم ، وحكم جائر ، وهوي متبع.

إن أي واحدة من هذه الأمور الثلاثة توجب سخط الله وإطفاء نور العدل و شيوع الجور في الأرض.

وكان الأخيار والصلحاء من الصحابة يتحرجون من قبول الامارة لأنها من موجبات الاغراء والتعالي علي الناس ، يقول المقداد : استعملني رسول الله صلي الله عليه وآله علي عمل فلما رجعت قال لي : كيف وجدت الإمارة ؟

يا رسول الله ، ما ظننت إلا أن الناس خول لي ، والله ! لا ألي علي عمل ما دمت حيا (2).

إن الحكم يوجب الاعتزاز بالنفس ويغري الإنسان بالعظمة والكبرياء ، ولا يفلت من ربقته إلا المتحرج في دينه فإنه لا ضير عليه في تقلد الامارة .

ص: 71


1- عيون الأخبار لابن قتيبة : 1:1.
2- حلية الأولياء : 1: 174.

فقد روي عطاء بن يسار ، قال : «إن رجلا كان عند النبي صلي الله عليه و آله فقال : بئس الشيء الامارة .

فأجابه النبي صلي الله عليه و آله : نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها(1).

انتخاب الولاة وتعيينهم

أما انتخاب الولاة وتعيينهم في مناصب الدولة ، فإنه من مختصات زعيم الدولة ، فهو الذي يختار وينتخب لهذا المنصب من تتوفر فيه النزعات الكريمة والصفات الفاضلة من العلم والورع والتقوي وأصالة الرأي وعمق التفكير والدراية التامة بشؤون الحكم والإدارة .

وهذه بعض الصفات التي ينبغي أن تتوفر فيه :

1- الصدق في القول .

2- الوفاء بالعهد والوعد .

3- أداء الأمانه إلي أهلها .

4- التجنب عن الخيانة .

5. لين الكلام وحسن الخلق مع الرعية .

6- العطف والرفق بالأيتام وتعهد شؤونهم .

7- التفقه في أحكام الإسلام .

8- الحلم وكظم الغيظ .

9- خفض الجناح للرعية (2).

ص: 72


1- عيون الأخبار : 1:1.
2- نظام الحكم والإدارة في الإسلام : 361 و 362 .

هذه بعض الصفات التي يعتبر مثولها في الولاة، ويجب علي ولي أمر المسلمين الفحص بدقة وإمعان عن المتصدي لهذا المنصب لئلا يتولي أمور المسلمين من لا حريجة له في الدين .

2- عقاب السلطان الجائر

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :

«إن شر الناس إمام جائر ضل ، وضل به ، فأمات سنة مأخوذه ، وأحيي بدعة متروكة ، وإني من رسول الله صلي الله عليه و آله يقول : يؤتي بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقي في جهنم فيدور كما تدور الرحي ، ثم يرتبط في قعرها »(1).

3- التباعد عن السلطان الجائر

أوصي الإمام عليه السلام بالتباعد عن السلطان الجائر فقال :

«تباعد عن السطان الجائر، ولا تأمن لخدع الشيطان، فتقول: أنكرت، نزعت، فإنه هذا هلك من كان قبلك ، فإن أبت نفسك إلا حب الدنيا ورب السلاطين وخالفتك عما فيه رشدك فاملك عليك لسانك فإنه لا بقية للموت عند الغضب ، ولا تسل عن أخبارهم، ولا تنطق بأسرارهم، ولا تدخل فيما بينهم» (2).

ص: 73


1- ربيع الأبرار : 4: 224.
2- المصدر المتقدم : 227.

إمارة السفهاء

وحذر النبي صلي الله عليه و آله من امارة السفهاء الذين لا رصيد لهم من الوعي والتقوي ، وقد روي كعب بن عجرة عن النبي صلي الله عليه و آله أنه قال له : أعاذ الله يا كعب من إمارة السفهاء.

وبادر كعب قائلا : ما إمارة السفهاء يا رسول الله ؟

فقال صلي الله عليه و آله : أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهديي ، ولا يستنون بسنتي ، فمن صدقهم بكذبهم ، وأعانهم علي ظلمهم ، فأولئك ليسوا مني ولست منهم ، ولايردون علي حوضي ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ، ولم يعنهم علي ظلمهم، فاوليك مني وأنا منهم ، وسيردون علي حوضي(1).

إن إمارة السفهاء ظلم وجور واعتداء علي الناس ؛ لأنهم لا يهتدون بهدي النبي صلي الله عليه و آله، ولا يستنون بسنته .

عشاق السلطة

وحذر الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله، من توظيف العاشقين للسلطة والمتهالكين علي المنصب ، فقد روي أن رجلا قال : يا رسول الله ، استعملني؟

فرده النبي وقال : إنا لا نستعمل علي عملنا من أراده(2).

وعلق أبو الوليد علي هذه الرواية بقوله : السر في ذلك أن الولايات أمانات ، وتصريف في أرواح الخلائق وأموالهم، والتسرع إلي الأمانة دليل علي الخيانة ،

ص: 74


1- سنن البيهقي : 4: 115. الأموال لأبي عبيد : 57.
2- صحيح البخاري : 2: 789.

وأنه لا يخطبها إلا من يريد أكلها ... وإذا ائتمن خائن علي موضع الأمانات كان كمن استرعي الذئب علي الغنم، ومن هذه الخصلة تفسد قلوب الرعايا علي ملوكها ؛ لأنه إذا اهتضمت حقوقهم وأكلت أموالهم فسدت نياتهم ، وأطلقوا ألسنتهم بالدعاء والتشكي ، وذكروا سائر الملوك بالعدل والإحسان فكانوا كالبيت السائر.

وراعي الشاة يحمي الذئب عنها*** فكيف إذا الذئاب لها رعاء

وإذا خان أهل الأمانات وفسدت قلوب أهل الولايات كان الأمر كما قال الأولون :

الملح يصلح ما نخشي تغيره*** فكيف بالملح إن حلت به الغير(1)

إن الإسلام احتاط أشد ما يكون الاحتياط في مناصب الدولة ، فلم يسمح لولي أمر المسلمين أن يمنح الولاية لمن طلبها وتهالك عليها ، وقد دفع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام طلحة والزبير عن الولاية حينما أصرا عليها ؛ لأنهما لم يكونا مدفوعين برعاية الصالح العام ، وإنما رغبا في الولاية ليتخذا منها وسيلة للثراء العريض والتحكم في رقاب المسلمين .

واجبات الولاة

وعلي الولاة في الأقاليم الإسلامية أن يقيموا العدل ويحكموا بين الناس بالحق ، ويتعاهدوا مصالح المسلمين وقضاياهم، ومن أوليات مسؤولياتهم ما يلي :

ص: 75


1- حقيقة الإسلام وأصول الحكم : 70.

1- إشاعة تعليم أحكام الإسلام المستمدة من الكتاب والسنة .

2- تربية المجتمع بالأخلاق الفاضلة والآداب العالية .

3- الرفق بالرعية والعفو عن المسيء من غير ترك للحق العام .

4- القضاء علي معالم الجاهلية الرعناء.

5-الاهتمام بالشعائر الإسلامية ومن أهمها الصلاة 6- نشر الوعظ والإرشاد لوقاية المجتمع من الانحراف .

7- نشر العلوم النافعة التي بها تتطور الحياة كالطب والهندسة وغيرهما (1).

وقد قال : «يجب علي الوالي أن يتعهد أموره ويتعهد أعوانه حتي لا يخفي عليه إحسان محسن ، ولا إساءة مسيء ، ثم لا يترك واحدا منهما بغير جزاء ، فإن ترك ذلك تهاون المحسن ، واجترا المسيء ، وفسد الأمر، وضاع العمل»(2).

هذه بعض البنود التي يلزم الولاة بتنفيذها علي مسرح الحياة العامة .

تعاليم وأحكام

ووضع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مناهج وآدابا خاصة للولاة ، وأمرهم بالتحلي بها ليكونوا هداة للناس وأمثلة للحكام الصالحين وذلك في عهده لمالك الأشتر ، ونشير إلي بعضها :

1. علي الولاة أن يشعروا في قلوبهم الرأفة والرحمة للرعية من دون فرق بين المسلمين وغيرهم.

ص: 76


1- نظام الحكم والإدارة في الإسلام: 364.
2- صبح الأعشي : 2: 325.

يقول عليه السلام لمالك :

وأشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان :

إما أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق.

وحكت هذه الكلمات المسؤوليات التي ينبغي للولاة مراعاتها وهي :

أن يحملوا في مشاعرهم وعواطفهم المحبة والرأفة لجميع المواطنين .

أن لا يكونوا كالأسود الضارية للشعب ينهبون أرزاقهم ومواردهم الاقتصادية .

أن يعاملوا المواطنين من مسلمين وغيرهم علي حد سواء ، من دون أن يكون الأحدهم فضل علي أحد ولا لفئة علي أخري ، فالمسلمون وغيرهم علي صعيد واحد.

2- أن لا يتخذوا الامرة والسلطة وسيلة للاستعلاء علي الناس والتكبر عليهم. يقول عليه السلام :

ولا تقولن إني مؤمر آمر فاطاع ، فإن في ذلك إدغالا (1)في القلب ، ومنهكة للدين ، وتقربا من الغير.

وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك ابهة، أو مخيلة (2) ، فانظر إلي عظم من الله فوقك ، وقدرته منك علي ما لا تقدر عليه من نفسك ، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك ، ويكف

ص: 77


1- الادغال : الافساد .
2- المخيلة : الخيلاء والعجب بالنفس .

عنك من غربك(1)، ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك !

إياك و مساماة (2) الله في عظمته ، والتشبه به في جبروته ، فإن الله يذل كل جبار ، ويهين كل مختال.

وقد نهي الإمام عليه السلام وحذر واليه علي مصر من التكبر علي الرعية ، فإن التكبر مفسد للدين ومحبط للعمل، وقد علمه الوسيلة التي ينجو بها ويتخلص من التكبر ، وهي أن ينظر إلي عظمة الله تعالي المالك القادر الذي هو فوق كل شيء فإنه يكف عنه هذا الداء وينجيه من هذا الشر.

3- علي الولاة أن ينصفوا الله تعالي وذلك بطاعته وامتثال أوامره ، وأن ينصفوا الناس وذلك بإعطاء حقوقهم ، وقد حفل بذلك وغيره من صنوف العدل قوله عليه السلام: أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ، وممن خاصة أهلك ، ومن لك فيو هوي من رعيتك ، فإنك إلا تفعل تظلم!

ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ، ومن خاصمه الله ادحض حجته (3)، وكان لله حربا حتي ينزع أو يتوب.

وليس شيء أدعي إلي تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة علي ظلم ، فإن الله سميع دعوة المضطهدين ، وهو للظالمين بالمرصاد .

ص: 78


1- الغرب : الحدة .
2- المساماة : المباراة في السمو.
3- أدحض حجنه : أي أبطل حجته .

أرأيتم هذا العدل الذي ينعش الشعوب، ويعود بالخير العميم علي الجميع، ويساوي بين السلطة والشعب ، ولا يجعل لأي أحد سلطانا أو تفوقا علي غيره ؟

4- قال عليه السلام :

وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق ، وأعمها في العدل ، وأجمعها لرضي الرعية ، فإن سخط العامة يجحف برضي الخاصه (1) ، وإن سخط الخاصة بنت مع رضي العامة . وليس أحد من الرعية أثقل علي الوالي مووته في الرخاء ، وأقل معونة له في البلاء ، وأكرة للانصاف ، وأسأل بالإلحاف (2)، وأقل شكرا عند الإعطاء ، وأبطأ عذرا عند المنع ، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر بين أهل الخاصة . وإنما عماد الدين ، وجماع المسلمين ، والعدة الأعداء ، العامة من الأمة ؛ فليكن صغوك لهم ، وميلك معهم.

أوصي الإمام عليه السلام بهذا المقطع عامله مالك برعاية العامة من الشعب ، وتلبية مطالبهم ، و تنفيذ رغباتهم ؛ لأن الدولة لا تقوم إلا بهم ، فهم عموده الفقري ومركز ثقلها.

5- قال عليه السلام:

ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ، فإن في ذلك

ص: 79


1- أجحف : أي أذهب .
2- الالحاف : الالحاح .

تَزْهِيداً لأَهْلِ الإِحْسَانِ فِي الإِحْسَانِ - وتَدْرِيباً لأَهْلِ الإِسَاءَةِ عَلَي الإِسَاءَةِ !

وأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَه واعْلَمْ أَنَّه لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَي - إِلَي حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِه - مِنْ إِحْسَانِه إِلَيْهِمْ وتَخْفِيفِه الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ - وتَرْكِ اسْتِكْرَاهِه إِيَّاهُمْ عَلَي مَا لَيْسَ لَه قِبَلَهُمْ(1).فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ - يَجْتَمِعُ لَكَ بِه حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ - فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً(2) طَوِيلًا.

وإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِه لَمَنْ حَسُنَ بَلَاؤُكَ عِنْدَه

أكد الإمام عليه السلام علي تكريم المحسن، والإشادة به وأنه ليس من الإنصاف في شيء أن يساوي بينه وبين المسيء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان ، وتشجيعا للمسيئين .

كما أكد الإمام عليه السلام علي الإحسان إلي الرعية والبر بهم وتخفيف المؤونات عنهم، فإن ذلك مما يوجب ارتباط الشعب بحكومته ، وهو من أنجع الوسائل وأكثرها نجاحا لاستقرار الدولة وسلامتها من الفتن الداخلية .

1. قال عليه السلام:

ولَا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِه الأُمَّةِ - واجْتَمَعَتْ

ص: 80


1- قبلهم: أي عندهم .
2- النصب : النعب .

بِهَا الأُلْفَةُ وصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ .

ولَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ - فَيَكُونَ الأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا - والْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا.

وأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ ومُنَاقَشَةَ (1) الْحُكَمَاءِ - فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْه أَمْرُ بِلَادِكَ - وإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِه النَّاسُ قَبْلَكَ.

حكي هذا المقطع ضرورة الابقاء علي السنة الصالحة وما يستفيد منه الناس من القوانين الصالحة التي عمل بها المسلمون وأقرها الإسلام ، كما حذر من سن القوانين التي تضر بالناس وتجحف حقوقهم.

وأكد الإمام عليه السلام علي مجالسة العلماء ومحادثة الحكماء ، فإنها تفتح آفاقا كريمة من الوعي والتطور وتهدي إلي سواء السبيل .

7. قال عليه السلام :

وَارْدُدْ إِلَي اللهِ وَرَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ(2)مِنَ الْخُطُوبِ، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الاُمُورِ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَي لِقَوْم أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَي اللهِ وَالرَّسُولِ»(3). فَالرَّدُّ إِلَي اللهِ الاَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ

ص: 81


1- المناقشة : المحادثة .
2- بضلعك : أي ما يشكل عليك .
3- النساء4: 59.

وَالرَّدُّ إِلَي الرَّسُولِ الاَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ.

أمر الإمام عليه السلام مالكا برد ما اشتبه عليه من الأمور الإدارية وغيرها من المسائل التي يبتلي بها هو والرعية إلي كتاب الله تعالي ففيه تبيان كل شيء وأمره بالرد إلي السنة النبوية الجامعة ، فقد تعرضت لكل ما أشكل وأبهم.

8. قال عليه السلام:

ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاُمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ(1)، وَلاَ يَتَمَادَي فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ (2)مِنَ الْفَيْءِ إِلَي الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ(3) عَلَي طَمَع، وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَي فَهْم دُونَ أَقْصَاهُ، وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَي تَكَشُّفِ الاُمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ(4) ، إِطْرَاءٌ وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ وَأُولَئِكَ قَلِيلٌ.

ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ، وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ(5)، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَي النَّاسِ

ص: 82


1- تمحكه : أي لا تغضبه .
2- يحصر : أي يضيق صدره .
3- تشرف نفسه : أي لا تدنو نفسه .
4- يزدهيه : أي يستخفه.
5- يزيل عنه : أي يرفع حاجته

وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ.

فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً، فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الاَشْرَارِ، يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَي، وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا.

نظر الإمام عليه السلام في هذا المقطع إلي القضاة والحكام فأولاهم المزيد من اهتمامه ، وقد حفل كلامه بما يلي :

أولا : أن يكون القضاة الذين يعينهم للحكم بين الناس أفضل الرعية في علمهم وتقواهم وتحرجهم في الدين ، وأن تتوفر فيهم الصفات التالية .

أن لا تضيق بهم الأمور بل لا بد أن يكونوا علي سعة في الخلق .

أن لا يغضبوا عندمخاصمة الناس عندهم.

أن لا يتمادوا في الزلل ، ويرجعون إلي الحق إذا عرفوه .

أن لا ينقادوا إلي الأطماع ، ويتبعوا الأهواء بل يكونون في منتهي النزاهة .

أن لا يكتفوا في النظر إلي شكاوي الناس ودعاواهم إلي أبسط النظر وإنما عليهم أن يمعنوا كثيرا في الأمور التي ترفع إليهم.

أن يقفوا ويتأملوا كثيرا في الشبهات حتي يتبين لهم الحق .

أن لا يضجروا من مراجعة الخصوم لهم ، ويصبروا عند رفع الدعاوي إليهم .

أن يتصفوا بالشدة والصرامة عند اتضاح الحق لهم . ولا يميلوا مع الجانب الآخر الذي تذرع بالباطل.

أن لا يزدهيهم ويخدعهم إطراء وثناء ، فلا يحفلوا بذلك .

ثانيا : علي الولاة أن يكثروا من تعاهد القضاة ويطلعوا علي قضائهم لئلايكون

ص: 83

مجافيا للواقع .

ثالثا : أن يزيد في عطاء ورواتب القضاة حتي تقل حاجتهم إلي الناس ويحكموا بما أنزل الله تعالي .

رابعا : أن يشيد الولاة بالقضاة ويرفعوا منزلتهم حتي يشعروا بالكرامة والمنزلة الرفيعة ليخلصوا بذلك في عملهم.

9- قال عليه السلام:

ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ، فَوَلِّ عَلَي أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ، وَاخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَائِدَكَ وَأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الاَخْلاَقِ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ(1)،فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلاَف لَكَ بِحَضْرَةِ مَلاَ وَلاَ تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمَّالِكَ عَلَيْكَ، وَإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَي الصَّوَابِ عَنْكَ، فِيَما يَأْخُذُ لَكَ وَيُعْطِي مِنْكَ، وَلاَ يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ، وَلاَ يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ، وَلاَ يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الاُمُورِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ.

ثُمَّ لاَ يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَي فِرَاسَتِكَ وَاسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ، فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالاَمَانَةِ شَيْءٌ. وَلكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ، فَاعْمِدْ لاَحْسَنِهِمْ كَانَ

ص: 84


1- تبطره : أي تفسده .

فِي الْعَامَّةِ أَثَراً، وَ أَعْرَفِهِمْ بِالاَمَانَةِ وَجْهاً، فَإِنَّ ذلِكَ دَلِيلٌ عَلَي نَصِيحَتِكَ لِلّهِ وَلِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ.

وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْر مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ، لاَ يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا، وَلاَ يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا، وَمَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْب فَتَغَابَيْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ.

عرض الإمام عليه السلام في هذا المقطع إلي كتاب الولاة، واعتبر أنه لا بد أن تتوفر فيهم الصفات التالية :

أولا : أن يكونوا من خيرة الرجال في وثاقتهم وإيمانهم ومعرفتهم بشؤون الإدارة وقضايا الحكم.

ثانيا : أن يحتفظوا بالرسائل والوثائق التي تخص الدولة فيحافظوا علي أسرارها ، ولا يبيحوا محتوياتها لأحد.

ثالثا: أن يكون الكتاب علي جانب وثيق من سمو الأخلاق والآداب الذين لا يجرؤون علي مخالفة الوالي ، وعدم امتثال أوامره .

رابعا: أن لا يغفلوا عما يرد إليهم من الوثائق من العمال وسائر الموظفين في سلك الدولة ، وعليهم أن يعرضوها علي الوالي ليطلع عليها.

خامسا: أن يجيب الكتاب عما يرد إليهم من الموظفين من الرسائل ، وأن لا يهملوا أجوبتها علي الوجه الصحيح وعليهم تسجيل ما يأخذون ويعطون .

سادسا : أن يكون اختيار الوالي للكتاب قائما علي الفحص والاختبار ، ولا يكون خاضعا للفراسة.

سابعا: إن اختبار العمال والكتاب يكون علي الفحص بسيرتهم في عملهم

ص: 85

قبل أن يتولي الوالي وظيفته ، فإن كانت سيرتهم حسنة عند الولاة قبله عهد إليهم بالوظائف ، وقلدهم المناصب .

11- قال عليه السلام:

وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً(1) تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً، فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ(2) جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ، حَتَّي يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِع، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّي الله عليه و آله و سلم يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِن: «لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِع(3)»

ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ(4) مِنْهُمْ وَ الْعِيَّ(5)،وَ نَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالاَنَفَ يَبْسُطِ اللهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ، وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ.

وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً، وَامْنَعْ فِي إِجْمَال وَإِعْذَار!

ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لاَ بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا:

ص: 86


1- قسما : أي وقتا خاضا .
2- تقعد عنهم : أي تبعد عنهم.
3- التتعتع : هو العجز عن الكلام لخوف من السلطة .
4- الخرق : العنف .
5- العي : العجز عن النطق .

مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ.

وَمِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ.

وَمِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ. واجعل لنفيك

وَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ وَأَجْزَلَ تِلْكَ الاَقْسَامِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ، وَسَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ.

وحفل هذا المقطع بالآداب العالية ، والحكم النافعة ، والتعاليمالرفيعة التي منها ما يلي :

-أن يجعل الوالي وقتا خاصا للمواطنين يلتقي بهم ليعرف حوائجهم ويطلع علي متطلباتهم .

-أن يجلس الوالي مجلسا متواضعا غير محفوف بالعظمة والكبرياء ، وأن يكون تواضعه الله تعالي خالق الكون وواهب الحياة .

-أن ينحي عن المواطنين الجنود والأعوان حتي يتكلموا بحرية وأمان .

-أن يتحمل الوالي ما يظهر من بعض المواطنين من العنف والشدة .

-أن ينحي الوالي عن نفسه ضيق الصدر والتكبر ليستقبل المواطنين برحابة وسعة في القول.

-إذا أعطي الوالي لبعض المواطنين شيئا من الرزق فعليه أن يعطيه بلطف لا بمئة ، كما إنه إذا أراد أن يمنع رزقا عن أحد فعليه أن يمنعه بإعذار وإجمال .

-إجابة العمال في طلباتهم إذا عجز عن تلبيتها الكتاب .

ص: 87

-عدم تأخير متطلبات الناس وحاجاتهم وأن تقضي فورا من غير تأخير ،وأن يمضي الوالي في كل يوم عمله.

12- قال عليه السلام :

وَلْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلَّهِ دِينَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً، فَأَعْطِ اللهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَنَهَارِكَ، وَ وَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَي اللهِ مِنْ ذَلِكَ كَامِلاً غَيْرَ مَثْلُوم وَلاَ مَنْقُوص، بَالِغاً مِنْ بَدَنِكَ مَا بَلَغَ. وَإِذَا قُمْتَ فِي صَلاَتِكَ لِلنَّاسِ، فَلاَ تَكُونَنَّ مُنَفِّراً وَلاَ مُضَيِّعاً(1)، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَ لَهُ الْحَاجَةُ.

وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ (صلي الله عليه وآله) حِينَ وَجَّهَنِي إِلَي الْيَمَنِ كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟

فَقَالَ: صَلِّ بِهِمْ كَصَلاَةِ أَضْعَفِهِمْ وَ كُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً.» .

عرض الإمام عليه السلام في هذا المقطع إلي بعض النصائح الرفيعة وهي :

أن يقيم الوالي بإخلاص فرائض الله تعالي من الصلاة والصيام .

أن يؤدي الفرائض كاملة غير ناقصة .

أن يصلي بالناس صلاة تتسم بعدم الإطالة ، وأن يراعي حال الضعفة من المصلين الذين لا طاقة لهم علي إطالة الصلاة .

13 . قال عليه السلام:

ص: 88


1- التنفير : تطويل الصلاة . التضييع : نقص الصلاة ، والمراد التوسط في أدائها .

وَأَمَّا بَعْدُ:

فَلاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْم بِالاُْمُورِ؛ وَالاِحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ، فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ.

وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لاَ يَعْرِفُ مَا تَوَارَي عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الاُمُورِ، وَلَيْسَتْ عَلَي الْحَقِّ سِمَاتٌ (1)تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ؛ وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ:

إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ، فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقّ تُعْطِيهِ، أَوْ فِعْل كَرِيم تُسْدِيهِ! أَوْ مُبْتَلًي بِالْمَنْعِ، فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ! مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ مِمَّا لاَ مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ، مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَة، أَوْ طَلَبِ إِنْصَاف فِي مُعَامَلَة..

عرض إمام العدل في هذا المقطع إلي إلزام واليه الزعيم مالك علي مصر بعدم احتجابه عن الرعية ؛ لأن في الاحتجاب مضاعفات سيئة والتي منها :

إن الاحتجاب يحول عن الرعية علم ما احتجبوا دونه ، ويسبب ذلك أن يصغر عندهم كبير الأمور ويعظم صغيرها ، ويحسن عندهم القبيح ويقبح الحسن .

ص: 89


1- السمات:جمع سمة،وهي العلامة

إن احتجاب الوالي عن الرعية موجب لأن يتواري عنه ما ألم بالناس من الأحداث التي يعود حجبها بضرر بالغ علي الوالي وعلي المواطنين.

إن الناس إذا يئسوا من ملاقاة الوالي فإنهم يكفون عن مسألته ، ويحتجبون عنه.

إن شكاوي الناس التي ترفع إلي الوالي هي إما من مظلمة أو طلب انصاف في معاملة لهم ، ومن الطبيعي أنه ليس علي الوالي بذلك ضرر.

14- قال عليه السلام:

وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ صَابِرا مُحْتَسِباً، وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ، وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ، فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ.

أوصي الإمام عليه السلام واليه علي اتباع الحق وتطبيقه علي القريب والبعيد ، مهما ثقل ذلك عليه فإن فيه سعة .

10. قال عليه السلام:

وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً(1) فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ، وَاعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ، وَ رِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ، وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَي الْحَقِّ.

عهد الإمام عليه السلام لمالك أن الرعية إذا ظنت به الظلم فعليه أن يقدم لها اعتذاره ، ويبين لها الأسباب التي دعته إلي الإقدام علي ما سنه وعمله.

16- قال عليه السلام :

ص: 90


1- الحيف : الظلم .

إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْنَي لِنِقْمَة، وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَة، وَلاَ أَحْرَي بِزَوَالِ نِعْمَة، وَانْقِطَاعِ مُدَّة، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا.

وَاللهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَلاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَم حَرَام، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَ يُوهِنُهُ، بَلْ يُزِيلُهُ وَ يَنْقُلُهُ.

وَلاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللهِ وَلاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، لاَنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ(1).

وَإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإ وَأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ سَيْفُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ -فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً- فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَي أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ.

واحتاط الإمام أشد ما يكون الاحتياط في سفك الدماء بغير حق، فإنه من موجبات النقمة وزوال النعمة ، وعذاب الله تعالي ، وقد ألزم الإمام واليه علي مصر مالك الأشتر أن لا يقيم سلطانه بسفك الدماء المحرمة فإن ذلك مما يوهنه ويزيله ولا عذر له مطلقا عند الله تعالي.

وقد عرض الإمام عليه السلام إلي القتل العمدي ، فإن ديته القود ، وإن رضي ولي الدم بالدية ، فهي الدية الثقيلة المشددة ، وقد ذكرها الفقهاء ، وأما قتل الخطأ فإن فيه الدية دون القود وتؤدي إلي أولياء الدم.

ص: 91


1- القود : القصاص .

17- قال عليه السلام:

وَإِيَّاكَ وَالاِعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الاِطْرَاءِ، فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الُمحسِنِينَ.

وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَي رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيَما كَانَ مِنْ فِعْلِكَ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ، فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الاِحْسَانَ، وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ، وَالْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ. قَالَ اللهُ تَعَالي : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ).(1).

حفل هذا المقطع بمعالي التربية الأخلاقية التي يتزين بها الولاة وهي :

النهي عن الاعجاب بالنفس الذي يقود إلي التكبر ويلقي الشخص في شر عظيم.

الحذر من حب المدح والاطراء والثناء ، فإنه مما يؤدي إلي استيلاء الشيطان وتمكنه من إغراء الشخص حتي يفسد عليه عمله .

أن لا يمن الوالي علي رعيته بما يسديه عليها من خدمات تأسيس المشاريع الزراعية والمعامل وغير ذلك مما تتقدم به البلاد ، فإن ذلك واجب علي الولاة والمسؤولين ، وليس في أدائه م علي الرعية .

أن لا يخلف الوالي ما بعد به الرعية ، فإن ذلك مما يوجب سقوط هيبته وعدم

ص: 92


1- الصف 3:61.

الوثوق بقوله .

18. قال عليه السلام:

وَإِيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالاُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا، أَوِ التَّسَقُّطَ فِيهَا(1) عِنْدَ إِمْكَانِهَا، أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ(2)، أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ. فَضَعْ كُلَّ أَمْر مَوْضِعَهُ، وَأَوْقِعْ كُلَّ أَمْر مَوْقِعَهُ.

وَإِيَّاكَ وَالاِسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ(3)، وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَي بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ، وَعَمَّا قَلِيل تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الاُمُورِ، وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ. امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ(4)، وَسَوْرَةَ حَدِّكَ(5)، وَسَطْوَةَ يَدِكَ وَغَرْبَ لِسَانِكَ؛ وَاحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ وَتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ، حَتَّي يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الاِخْتِيَارَ؛ وَلَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّي تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَي رَبِّكَ.(6).

ووضع الإمام عليه السلام بعض المناهج التربوية لسلوك واليه وهي :

ص: 93


1- التسقط : التهاون .
2- تنكرت : أي لم يعرف وجه الصواب فيها .
3- أسوة : المراد أن لا يستأثر بشيء من أموال الدولة بما يكون الناس فيه اسوة .
4- حمية أنفك : المراد به الإباء.
5- سورة حدك : السورة الحدة.
6- نهج البلاغة : 3: 82۔ 110 ، الخطبة 53.

انه نهي عن العجلة في الأمور التي ليس وراءها إلا الفشل والخيبة ، وأوصي بالتروي فإنه مفتاح النجاح، وإذا اتضحت الأمور وظهرت فعليه المبادرة للفعل أو الكف . واللازم أن يضع كل أمر موضعه وفي محله.

ونهي الإمام عليه السلام واليه من الاستئثار بما الناس فيه أسوة ، فليس له من سبيل أن يستأثر بشيء يعود لجميع المواطنين ، فإن ذلك ينم عن الشره والطمع ، وذلك مما لا يليق بالوالي النزيه ... هذه بعض النقاط التي حفل بها هذا المقطع.

بطانة الولاة

عرض الإمام عليه السلام في عهده لمالك إلي بطانة الولاة الذين يتخذوهم الولاة مستشارين لهم ، وقد حذره من الاتصال بالأصناف التالية :

1- من يذكرون عيوب الناس تقربا إلي السلطة ، وذلك بإظهار الاخلاص لها .قال عليه السلام :

وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَي مَا غَابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ.(1).

2- إبعاد السعاة الذين لا يألون جهدا في ظلم الناس والبغي عليهم . يقول عليه السلام:

ص: 94


1- نهج البلاغة : 3: 82.

وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَي تَصْدِيقِ سَاعٍ، فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وَ إِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ.

3- إبعاد البخلاء لأنهم يعدلون بالوالي عن الفضل والإحسان ويعدونه الفقر والحرمان .

4- إقصاء الجبناء لأنهم يضعفونه ويخذلونه عن أداء الواجبات .

4-اجتناب الحريصين فإنهم يزينون له الشر بالجور.

6- الابتعاد عن الوزراء وأعوانهم الذين كانوا لأئمة الظلم وزراء وأعوانا، فإنهم لا يألون جهدا في ظلم الناس وإرهاقهم.

هذه بعض الأصناف التي يجب علي الولاة الابتعاد عنها ؛ لأنها بطانة السوءوالجور، وأداة للحكم الفاسد .

ولاية المظالم

وأول من أسس ولاية المظالم في الإسلام هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فقد اتخذ في الكوفة بيتا سماه بيت المظالم ، وأمر المظلومين أن يسجلوا فيه ظلاماتهم ، وقد تطورت هذه الولاية في العصر العباسي ، وفاقت منصب القضاء ، وقد عهد إليها بالأمور التالية :

1- النظر في الشكاوي التي يرفعها المواطنون ضد الولاة والحكام إذا انحرفوا عن طريق الحق وجاروا علي الرعية .

2- النظر في جور العمال إذا شذوا في جباية الأموال .

3- النظر في كتاب الدواوين لأنهم الأمناء علي بيوت الأموال فيما يستوفونه ويوفونه .

ص: 95

4-النظر في مظالم المرتزقة وسائر الموظفين إذا تأخر دفع رواتبهم إليهم .

5- رد ما غصبه الظالمون إلي المظلومين والمستضعفين .

6- الإشراف علي الأوقاف العامة والخاصة لتجري علي ما أوقفت عليه .

7- تنفيذ ما وقف ولم ينفذ من الأحكام الصادرة من القضاة والمحتسبين ؛ لأن والي المظالم أقوي يدا وأنفذ أمرا من غيرهم.

8- مراعاة إقامة الشعائر الدينية والعبادات كصلاة الجمعة والعيد والحج والجهاد .

9- إنزال عقوبة التأديب بالعمال وغيرهم من كبار الموظفين إذا شذوا في

سلوكهم ، ولم يؤدوا واجباتهم(1).

هذه أهم الأمور التي يعهد بها إلي والي المظالم ، وقد أهملت هذه الولاية التي هي من أهم المناصب وأخطرها ، فقد أنيط بها تطبيق العدل وصيانة الحقوق وإقصاء الظلم عن الناس .

عمال الخراج والصدقات

أما عمال الخراج فهم الذين يستوفون الأموال التي فرضت علي الأراضي التي فتحها المسلمون عنوة، وأما عمال الصدقات فهم الذين يجلبون الأموال التي فرضت علي الأعيان التي تجب فيها الزكاة كالغلات الأربعة ، والأنعام الثلاثة ، والنقدين ، ويشترط في هؤلاء العمال أن يكونوا أمناء فيما يجبونه من الناس وفيما ينفقونه علي المرافق العامة ، وقد وضع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لهم منهجا خاصا حافلا بالآداب ، ورعاية الصالح العام، والرفق الكامل بالمواطنين ، ونسوق نص

ص: 96


1- النظم الإسلامية : 325.

كلامه من دون أن نتعرض لتحليله لأنه وافي القصد، واضح المعالم ، سهل البيان ، قال عليه السلام البعض عماله :

انْطَلِقْ عَلَي تَقْوَي اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَ لَا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً وَ لَا تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً وَ لَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ؛ فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَي الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ، ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَ الْوَقَارِ حَتَّي تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَ لَا تُخْدِجْ (1)بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ. ثُمَّ تَقُولَ عِبَادَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ وَ خَلِيفَتُهُ لِآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ، فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَي وَلِيِّهِ؟

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَا، فَلَا تُرَاجِعْهُ، وَ إِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ(2)، فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ.

فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلَا تَدْخُلْهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَيْهَا دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ وَ لَا عَنِيفٍ بِهِ.

وَ لَا تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَ لَا تُفْزِعَنَّهَا وَ لَا تَسُوءَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا وَ اصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ(3) ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعَرَّضَنَّ لِمَا

ص: 97


1- لا تخج : أي لا تبخل .
2- يقصد به «المنعم »دافع الزكاة ، وهذا من روائع الأدب العلوي .
3- صدعين : أي قسمين؛ ليختار صاحب المال أيهما شاء.

اخْتَارَهُ ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعَرَّضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّي يَبْقَي مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ فَاقْبِضْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ.

فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ(1) ثُمَّ اخْلِطْهُمَا ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلًا حَتَّي تَأْخُذَ حَقَّ اللَّهِ فِي مَالِهِ .

وَ لَا تَأْخُذَنَّ عَوْداً (2)وَ لَا هَرِمَةً وَ لَا مَكْسُورَةً وَ لَا مَهْلُوسَةً وَ لَا ذَاتَ عَوَارٍ وَ لَا تَأْمَنَنَّ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ تَثِقُ بِدِينِهِ رَافِقاً بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّي يُوَصِّلَهُ إِلَي وَلِيِّهِمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ. وَ لَا تُوَكِّلْ بِهَا إِلَّا نَاصِحاً شَفِيقاً وَ أَمِيناً حَفِيظاً غَيْرَ مُعَنِّفٍ وَ لَا مُجْحِفٍ(3) وَ لَا مُلْغِبٍ (4)وَ لَا مُتْعِبٍ.

ثُمَّ احْدُرْ(5) إِلَيْنَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ فَإِذَا أَخَذَهَا أَمِينُكَ فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَ نَاقَةٍ وَ بَيْنَ فَصِيلِهَا وَ لَا يَمْصُرَ (6)لَبَنَهَا فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِوَلَدِهَا وَ لَا يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً

ص: 98


1- فإن استقالك فأقله : أي إن طلب الإعفاء من هذه القسمة فأعفه منها .
2- العود : المسنة من الإبل .
3- المجحف : الذي يشتد في سوق الأنعام حتي تهزل .
4- اللغب : التعب.
5- احدر : أي أرسل.
6- يمصر اللبن : تقليله بالحلب

لْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذَلِكَ وَ بَيْنَهَا وَ لْيُرَفِّهْ عَلَي اللَّاغِبِ(1) وَ لْيَسْتَأْنِ بِالنَّقِبِ(2) وَ الظَّالِعِ وَ لْيُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ الْغُدُرِ(3) وَ لَا يَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ الْأَرْضِ إِلَي جَوَادِّ الطُّرُقِ وَ لْيُرَوِّحْهَا فِي السَّاعَاتِ وَ لْيُمْهِلْهَا عِنْدَ النِّطَافِ (4)وَ الْأَعْشَابِ حَتَّي تَأْتِينَا بِإِذْنِ اللَّهِ بُدَّناً مُنْقِيَاتٍ غَيْرَ مُتْعَبَاتٍ وَ لَا مَجْهُودَاتٍ لِنَقْسِمَهَا عَلَي كِتَابِ اللَّهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلي الله عليه وآله) فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِكَ وَ أَقْرَبُ لِرُشْدِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .»(5).

وحفل هذا العهد بأصول الفضائل والآداب ، واحتوي علي جميع صنوف العدل ورعاية حقوق من وجبت عليهم الزكاة ، كما تضمن الرفق الكامل بالحيوان ، وعدم إجهاده والاضرار به كما نص العهد علي الاحتياط بأموال الدولة ،والاهتمام بها إلي غير ذلك من الأنظمة الرائعة التي لم تقنن مثلها في الأنظمة الحديثة .

حسن الظن بالرعية

من المناهج السياسية التي تبناها الإمام عليه السلام حسن ظن الولاة بالرعية ، وعدم إساءة الظن بهم.

قال علي في عهده لمالك الأشتر:

ص: 99


1- اللاغب : الذي أعياه التعب .
2- النقب : الخرق.
3- الغدر : هو ما غادره السيل من الماء .
4- النطاف : المياه القليلة .
5- نهج البلاغة : 3: 23 - 26.

«وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَي إِلَي حُسْنِ ظَنِّ رَاع بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَتَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَي مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ؛ فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلاً. وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ».

إن حسن ظن الوالي بالرعية له آثاره الايجابية الحسنة التي منها ارتباط الشعب بحكومته ، وتخفيف المؤونات عنهم ، وترك استكراهه إياهم.

ومن المؤكد أن هذه الأمور لها آثارها الوضعية في جمع الشمل وإشاعة المودة بين أبناء الشعب.

تأنيب الولاة وعزلهم

أنب الإمام عليه السلام كوكبة من ولاته لأن المواطنين شكوا سوء أخلاقهم للإمام، وهذا عرض لبعضهم :

1- إن جماعة من الدهاقين الذين لم يدخلوا في دين الإسلام ، وبقوا علي دينهم شكوا إلي الإمام عليه السلام غلظة عاملهم ، فكتب الإمام إليه هذه الرسالة :

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ دَهَاقِينَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وَ قَسْوَةً وَ احْتِقَاراً وَ جَفْوَةً وَ نَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلًا لِأَنْ يُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ وَ لَا أَنْ يُقْصَوْا وَ يُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّينِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ وَ دَاوِلْ لَهُمْ بَيْنَ الْقَسْوَةِ وَ الرَّأْفَةِ ،

ص: 100

وَ امْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْرِيبِ وَ الْإِدْنَاءِ وَ الْإِبْعَادِ وَ الْإِقْصَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ(1).

وقد أمر الإمام عليه السلام عامله أن يتجنب الغلظة والقسوة والاحتقار ويسير بين الذميين سيرة معتدلة قوامها العدل الخالص والحق المحض.

2. رفع بعض العيون الذين أقامهم الإمام علي واليه بالبحرين النعمان بن عجلان أنه ذهب بمال البحرين ، فكتب إليه الإمام هذه الرسالة :

أما بعد، فإنه من استهان بالأمانة ، ورغب في الخيانة ، ولم ينزه نفسه ودينه ، أخل نفسه في الدنيا ، وما يشفي عليه بعد أمر وأبقي وأشقي وأطول.

فخف الله إنك من عشيرة ذات صلاح ، فكن عند صالح الظن بك ، وراجع إن كان حقا ما بلغيني عنك ، ولا تقلبن رأيي فيك ، واستنظف خراجك ثم اكتب إلي إيأتيك رأيي وأمري إن شاء الله(2)

لقد ساق الإمام عليه السلام اللوم والتقريع علي تهمة الخيانة لبيت المال ، وهي تهمة لم يتأكد الإمام منها ، وإنما وشي بها إليه ، ولو كان علي بينة منها لبادر إلي عزله .

3. وافت الأنباء إلي الإمام عليه السلام أي عامله علي اصطخر المنذر بن جارود العبدي قد شذ في سلوكه ، فكتب إليه هذه الرسالة يؤنبه وينقم عليه ، وهذانصها :

ص: 101


1- نهج البلاغة : 376.
2- تاريخ اليعقوبي : 2: 177.

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ صَلَاحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ، وَ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ وَ تَسْلُكُ سَبِيلَهُ؛ فَإِذَا أَنْتَ فِيمَا رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لَا تَدَعُ لِهَوَاكَ انْقِيَاداً وَ لَا تُبْقِي لِآخِرَتِكَ عَتَاداً، تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ وَ تَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ.

وَ لَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً، لَجَمَلُ أَهْلِكَ وَ شِسْعُ نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَ مَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ أَوْ يُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ أَوْ يُعْلَي لَهُ قَدْرٌ أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَةٍ أَوْ يُؤْمَنَ عَلَي جِبَايَةٍ. فَأَقْبِلْ إِلَيَّ حِينَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.(1).

وفي هذه الرسالة التقريع والتوبيخ واللوم علي ما صدر من المنذر العبدي من المخالفات التي لا يقرها الشرع.

مع عثمان بن حنيف

وشيء جدير بالدراسة والاهتمام موقف الإمام عليه السلام مع عثمان بن حنيف واليه علي البصرة حينما دعي إلي وليمة من قبل أشراف البصرة ، فأجاب لها.

وكره الإمام عليه السلام ذلك وندد بابن حنيف ، لأن بواعث ذلك قضاء حوائجهم التي قد لا تتفق بعضها مع الشريعة الإسلامية ، مضافة إلي تقديمهم علي غيرهم في مراجعة السلطة ، وهذا غاية ما توصلت له الحضارة الإسلامية من الإبداع .

ولنستمع إلي رسالة الإمام عليه السلام :(1) نهج السعادة : 5: 23.

ص: 102


1- نهج السعادة:5:23

«أَمَّا بَعْدُ، يَا ابْنَ حُنَيْفٍ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَي مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا، تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ وَ تُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ؛ وَ مَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَي طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَ غَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ. فَانْظُرْ إِلَي مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَ مَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ [وَجْهِهِ] وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ».

عرض الإمام إلي أن الولائم التي تقام للولاة يدعي فيها الوجوه والأعيانوذوو الثراء العريض ، أما الفقراء والبؤساء فلانصيب لهم فيها. سيدي أبا الحسن في صف لنا تجردك عن الدنيا وإعراضك عنها. قال :|

«إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا، فَحَبْلُكِ عَلَي غَارِبِكِ، قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ وَ أَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ وَ اجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ. أَيْنَ الْقُرُونُ الَّذِينَ غَرَرْتِهِمْ بِمَدَاعِبِكِ؟ أَيْنَ الْأُمَمُ الَّذِينَ فَتَنْتِهِمْ بِزَخَارِفِكِ؟ فَهَا هُمْ رَهَائِنُ الْقُبُورِ وَ مَضَامِينُ اللُّحُودِ. وَ اللَّهِ لَوْ كُنْتِ شَخْصاً مَرْئِيّاً وَ قَالَباً حِسِّيّاً لَأَقَمْتُ عَلَيْكِ حُدُودَ اللَّهِ فِي عِبَادٍ غَرَرْتِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ وَ أُمَمٍ أَلْقَيْتِهِمْ فِي الْمَهَاوِي وَ مُلُوكٍ أَسْلَمْتِهِمْ إِلَي التَّلَفِ وَ أَوْرَدْتِهِمْ مَوَارِدَ الْبَلَاءِ، إِذْ لَا وِرْدَ وَ لَا صَدَرَ. هَيْهَاتَ، مَنْ وَطِئَ دَحْضَكِ زَلِقَ وَ مَنْ رَكِبَ لُجَجَكِ غَرِقَ، وَ مَنِ ازْوَرَّ عَنْ حَبَائِلِكِ وُفِّقَ، وَ السَّالِمُ مِنْكِ لَا يُبَالِي إِنْ ضَاقَ بِهِ مُنَاخُهُ وَ الدُّنْيَا عِنْدَهُ كَيَوْمٍ حَانَ انْسِلَاخُهُ..

ص: 103

وأضاف الإمام عليه السلام قائلا في تجرده الكامل عن الدنيا:

اعْزُبِي عَنِّي!، فَوَاللَّهِ لَا أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي وَ لَا أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي..وَ ايْمُ اللَّهِ يَمِيناً -أَسْتَثْنِي فِيهَا بمَشيئَةِ اللَّهِ- لَأَرُوضَنَّ نَفْسي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَي الْقُرْصِ إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ مَطْعُوماً وَ تَقْنَعُ بالْمِلْحِ مَأْدُوماً»(1).

وكان الإمام عليه السلام وحده في هذه الدنيا الذي أعرض عن جميع مباهجها وزينتها واتجه صوب الله وآثر رضاه علي كل شيء وعلي كل ما يقربه إلي الله زلفي .

مع الأشعث بن قيس

وقدم الأشعث حلوي للإمام عليه السلام بعد أن عرف أنه لا يتناول في طعامه إلا قرصا من الشعير وإدامه الملح، وقد عجب الإمام عليه السلام من ذلك ، ونترك الحديث للإمام عليه السلام :

وَأَعْجَبُ مِنْ ذلِكَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَة(2) فِي وِعَائِهَا، وَمَعْجُونَة شَنِئْتُهَا ، كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّة أَوْ قَيْئِهَا، فَقُلْتُ:أَصِلَةٌ، أَمْ زَكَاةٌ، أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَذلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ! فَقَالَ: لاَ ذَا وَلاَ ذَاكَ، وَلكِنَّهَا هَدِيَّةٌ.

فَقُلْتُ: هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ! أَعَنْ دِينِ اللهِ أَتَيْتَنِي لَتَخْدَعَنِي؟

ص: 104


1- نهج البلاغة : 3: 74.
2- الملفوفة : نوع من الحلوي .

أَمُخْتَبِطٌ أَنْتَ أَمْ ذُو جِنَّة، أَمْ تَهْجُرُ؟ وَاللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الاَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا، عَلَي أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَة أَسْلُبُهَا جُلْبَ (1) شَعِيرَة مَا فَعَلْتُهُ، وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لاَهْوَنُ مِنْ وَرَقَة فِي فَمِ جَرَادَة تَقْضَمُهَا. مَا لِعَلِيٍّ وَلِنَعِيم يَفْنَي، وَلَذَّة لاَ تَبْقَي! نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ، وَقُبْحِ الزَّلَلِ. وَبِهِ نَسْتَعِينُ.»(2).

أرأيتم هذا التجرد الرهيب عن جميع ما فيه شبهة لغرض الوصول إليه .

حق الوالي علي الرعية وحقها عليه

أشار الإمام عليه السلام في حديثه التالي إلي حق الوالي علي الرعية ، وحقها عليه ، قال :

«حَقُّ الْوَالِي عَلَي الرَّعِيَّةِ وَ حَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَي الْوَالِي، فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَي كُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَ عِزّاً لِدِينِهِمْ، فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ، وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ.

فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَي الْوَالِي حَقَّهُ وَ أَدَّي الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا، عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَ قَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ وَ اعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَ جَرَتْ عَلَي أَذْلَالِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ وَ طُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَ يَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ.

ص: 105


1- الجلب : القشر.
2- نهج البلاغة : 2: 218.

وَ إِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ وَ ظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ وَ كَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ وَ تُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَي وَ عُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَ كَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ وَ لَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ، فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ وَ تَعِزُّ الْأَشْرَارُ(1).

ص: 106


1- ربيع الأبرار : 4: 241 و 242.

السياسة الاقتصادية الحكومة الإمام عليه السلام

اشارة

ص: 107

ص: 108

كان للإمام عليه السلام منهج خاص متميز في سياسته المالية ، ومن أبرز مناهجه أنه كان يري المال الذي تملكه الدولة مال الله تعالي ومال المسلمين ، ويجب إنفاقه علي تطوير حياتهم ، وإنقاذهم من عائلة البؤس والحاجة ، ولا يختص ذلك بالمسلمين ، وإنما يعم جميع من سكن بلاد المسلمين من اليهود والنصاري والصابئة ، فإن لهم الحق فيها كما للمسلمين ، وقد تقدم في البحوث السابقة ما يدعم ذلك . كان الإمام عليه السلام يري الفقر كارثة اجتماعية مدمرة يجب القضاء عليه بجميع الوسائل ، وقد أثر عنه أنه لو كان رجلا لأجهز عليه ..

ونلمح - بإيجاز - إلي بعض معالم سياسته المالية :

توزيعه عليه السلام المال

من المناهج في السياسية المالية التي انتهجها الإمام عليه السلام في حكومته توزيع الأموال التي تجبي للخزينة المركزية حين وصولها ، فكان يبادر إلي إنفاقها علي مستحقيها ، والجهات المختصة كتعمير الأراضي وإصلاح الري ، الأمرالذي يعود علي البلاد بالفائدة ، وكانت هذه سيرته ومنهجه .

ويقول الرواة : إن ابن النباح . وهو أمين بيت المال - جاءه يقول: يا أمير المؤمنين ، امتلأ بيت المال من الصفراء والبيضاء.

ص: 109

فقال عليه السلام : الله أكبر ، وقام متونا علي ابن النباح ، فلما انتهي إلي بيت المال قال :

هذا جناي وخياره فيه*** وكل جان يده إلي فيه

ثم أمر الإمام عليه السلام بأشياع الكوفة فحضروا ، ووزع جميع ما في بيت المال ، وهو يقول : «يا صفراء ! ويا بيضاء ! غري غيري »ولم يبق فيه دينارا ولا درهما ، ثم أمر بنضحه ، وصلي فيه ركعتين(1).

وورد إليه مال فقسمه ، ففضل منه رغيف فقسمه سبعة أقسام وأعطاها لهم، كما وردت إليه زقاق من عسل ، فقسمه عليهم ، ثم جمع الأيتام فجعل يطعمهم ما بقي في الزقاق من عسل.

لقد كانت هذه سيرة إمام الحق ورائد العدل في الأموال التي تجبي للخزينة المركزية ، ثم لا يستأثر بأي شيء منها لا هو ولا أهل بيته.

المساواة في العطاء

وانتهج الإمام عليه السلام طريقة خاصة في العطاء ، وهي التسوية بين المسلمين ، فلم يميز قوما علي قوم ، ولا فئة علي فئة ، وقد جرت له هذه السياسة الأزمات ، وخلقت له المصاعب ، فقد فسد عليه جيشه وتنكرت له الوجوه والأعيان ، و ناهضته الرأسمالية القرشية التي استأثرت بأموال المسلمين في عهد الخلفاء

وقد خالف الإمام عليه السلام بذلك سياسة عمر التي بنيت علي التفاوت بين المسلمين في العطاء فقد فضل البدريين علي غيرهم، وفضل الأنصار علي

ص: 110


1- حلية الأولياء : 1: 81. نهج البلاغة : 4: 17، الخطبة 77. فتح الباري : 12: 275. تاريخ مدينة دمشق : 23: 401. الغارات : 2: 942. الصراط المستقيم : 1: 102. نظم درر السمطين: 135. كنز العمال : 13 : 156.

غيرهم ، وبذلك فقد أوجد الطبقية والرأسمالية بين المسلمين.

لقد ألغي الإمام هذه السياسة إلغاء تاما ، وساوي بين المسلمين كما كان يفعل رسول الله صلي الله عليه و آله، ولما مني جيش الإمام عليه السلام بالانحلال والتخاذل واتجهوا صوب معاوية سارع ابن عباس نحو الإمام عليه السلام فعرض عليه حالة جيشه ، وما يصلحه قائلا: يا أمير المؤمنين ، فضل العرب علي العجم، وفضل قريشأ علي سائر العرب.

فرمقه الإمام بطرفه ، ورد عليه قائلا:أَتَأْمُرُونِي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ؟لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ..

لقد تبني هذا العملاق العظيم مصالح البؤساء والمحرومين ، فمن مظاهر عدله في مساواته أن سيدة قرشية ، وفدت عليه طالبة منه زيادة مرتبها ، فلما انتهت إلي الكوفة لم تهتد إلي محل إقامته ، فسألت سيدة عنه ، وطلبت منها أن تأتي معها التدلها عليه وسارت معها السيدة ، فسألتها القرشية عن مرتبها فأخبرتها به ، وإذا هو يساوي مرتبها ، وسألتها عن هويتها فأخبرتها أنها أعجمية ، فلما انتهت إلي الجامع الأعظم الذي يقيم فيه الإمام ، أمسكت بها القرشية ، ولما انتهت إلي الإمام أخذت تصيح :

أمن العدل يابن أبي طالب أن تساوي بيني وبين هذه الأعجمية ؟ فالتاع الإمام منها ، وأخذ قبضة من التراب وجعل يقلبها بيده وهو يقول : لم يك بعض هذا التراب أفضل من بعض ، وتلا قوله تعالي :«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَي وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ »(1).

ص: 111


1- الحجرات 13:49 .

لقد أدت هذه السياسة المشرقة التي انتهجها الإمام إلي إجماع القوي المنحرفة والباغية علي الاطاحة بحكومته وشل فعالياتها .

يقول المدائني : «إن من أهم الأسباب التي أدت إلي تخاذل العرب عن الإماماتباعه لمبدأ المساواة حيث كان لا يفضل شريفا علي مشروف في العطاء ولا عربيا علي أعجمي»(1).

إن الإنسانية علي ما جربت من تجارب ، وبلغت من رقي وإبداع في الأنظمة الاقتصادية التي تسير عليها الدولة ، فإنها لم تستطع بحال من الأحوال أن تنشئ أو تقيم مثل هذا النظام.

احتياطه عليه السلام في أموال الدولة

اشارة

واحتاط الإمام أشد ما يكون الاحتياط في أموال الدولة ، وقد روي المؤرخون صورا مدهشة من احتياطه فيها كان منها ما يلي :

1. مع أخيه عقيل

وفد عليه عقيل طالبا منه أن يرفه عليه ويمنحه الصلة ، فأخبره الإمام أن ما في بيت المال للمسلمين ، وليس له أن يأخذ منه قليلا ولا كثيرا ، وإذا منحه وأعطاه منه فإنه يكون خائنا ومختلسا ، وأخذ عقيل يلح عليه ويجهد في مطالبته ، فأحمي له الإمام حديدة وأدناها منه ، فظن أنها صرة فيها مال ، فألقي نفسه عليها ، فلما مسها كاد أن يحترق من ميسمها ، وضج ضجيج ذي دنف منها.

فلما أفاق أجمع رأيه علي الالتحاق بمعاوية لينعم بصلاته وأمواله التي اختلسها

ص: 112


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1: 180.

من بيت مال المسلمين.

2- مع الحسن والحسين عليهما السلام

ولم يمنح الإمام أي شيء من بيت المال لسبطي رسول الله صلي الله عليه و آله وعاملهما كبقيةأبناء المسلمين .

يقول خالد بن معمر الأوسي لعلباء بن الهيثم وكان من أصحاب الإمام : اتق الله يا علباء ! في عشيرتك ، وانظر لنفسك ولرحمك ، ماذا تؤمل عند رجل أردته أن يزيد في عطاء الحسن والحسين دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف العيش فأبي وغضب فلم يفعل(1)؟

3- مع عبدالله بن جعفر

ووفد عبدالله بن جعفر ومعه زوجته عقيلة بني هاشم طالبا منه أن يسعفه بالأموال ، ويهبه الثراء العريض ، فتنكر له الإمام ، وأعرض عنه ، وخطب خطبة بليغة ذكر فيها ما يريد تحقيقه من إقامة العدل بين الناس ، فتنكر له القريب والبعيد.

إن النظام الاقتصادي الذي أقامه الإمام يهدف إلي إقامة مجتمع متوازن لا تقف فيه الرأسمالية ولا يوجد فيه بائس وفقير و محروم

مع جباة الصدقات

وعهد الإمام إلي كوكبة من أصحابه بجباية الصدقات -وهي الزكاة - الشاملة اللحنطة والشعير والتمر والزبيب والنقدين الذهب والفضة وللأنعام الثلاثة :

ص: 113


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10: 250.

الغنم والإبل والبقر ، وقد زودهم الإمام عليه السلام بهذه الرسالة الذهبية .

وقد علق عليها السيد الشريف الرضي بقوله: «إنما ذكرنا هنا جملة منها ليعلم بها أنه كان يقيم عماد الحق ، ويشرع أمثلة العدل في صغير الأمور وكبيرها ،ودقيقها وجليلها».

وهذه صور منها:

انْطَلِقْ عَلَي تَقْوَي اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً وَلَا تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً وَلَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَي الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ حَتَّي تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَلَا تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ ثُمَّ تَقُولَ عِبَادَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ وَخَلِيفَتُهُ لِآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَي وَلِيِّهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَا فَلَا تُرَاجِعْهُ وَإِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلَا تَدْخُلْهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَيْهَا دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ وَلَا عَنِيفٍ بِهِ وَلَا تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَلَا تُفْزِعَنَّهَا وَلَا تَسُوأَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا وَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا

ص: 114

اخْتَارَهُ فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّي يَبْقَي مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ فَاقْبِضْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ ثُمَّ اخْلِطْهُمَا ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلًا حَتَّي تَأْخُذَ حَقَّ اللَّهِ فِي مَالِهِ وَلَا تَأْخُذَنَّ عَوْداً وَلَا هَرِمَةً وَلَا مَكْسُورَةً وَلَا مَهْلُوسَةً وَلَا ذَاتَ عَوَارٍ وَلَا تَأْمَنَنَّ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ تَثِقُ بِدِينِهِ رَافِقاً بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّي يُوَصِّلَهُ إِلَي وَلِيِّهِمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ وَلَا تُوَكِّلْ بِهَا إِلَّا نَاصِحاً شَفِيقاً وَأَمِيناً حَفِيظاً غَيْرَ مُعْنِفٍ وَلَا مُجْحِفٍ وَلَا مُلْغِبٍ وَلَا مُتْعِبٍ ثُمَّ احْدُرْ إِلَيْنَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَإِذَا أَخَذَهَا أَمِينُكَ فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ أَلَّا يَحُولَ بَيْنَ نَاقَةٍ وَبَيْنَ فَصِيلِهَا وَلَا يَمْصُرَ لَبَنَهَا فَيَضُرَّ [فَيُضِرَّ] ذَلِكَ بِوَلَدِهَا وَلَا يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً وَلْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذَلِكَ وَبَيْنَهَا وَلْيُرَفِّهْ عَلَي اللَّاغِبِ وَلْيَسْتَأْنِ بِالنَّقِبِ وَالظَّالِعِ وَلْيُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ الْغُدُرِ وَلَا يَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ الْأَرْضِ إِلَي جَوَادِّ الطُّرُقِ وَلْيُرَوِّحْهَا فِي السَّاعَاتِ وَلْيُمْهِلْهَا عِنْدَ النِّطَافِ وَالْأَعْشَابِ حَتَّي تَأْتِيَنَا بِإِذْنِ اللَّهِ بُدَّناً مُنْقِيَاتٍ غَيْرَ مُتْعَبَاتٍ وَلَا مَجْهُودَاتٍ لِنَقْسِمَهَا عَلَي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلي الله عليه وآله فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِكَ وَأَقْرَبُ

ص: 115

لِرُشْدِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.(1).

وحفل خطاب الإمام عليه السلام بجميع القيم التي يعتز بها الإسلام، وأوضحت المسيرة الرائدة للنبي صلي الله عليه و آله في تعيين الإمام قائدا لأمته وخليفة من بعده ، ومن المؤكد أن هذه الأحكام الرفيعة لا تصدر إلا من وصي نبي منحه الله تعالي الحكمة وفصل الخطاب.

وكان من بين ما عني به الإمام عليه السلام في هذا الخطاب ما يلي:

1. أن يتقي الله تعالي ، فلا يروع مسلما ولا يخيفه ، ولا يأخذ منه أكثر مما فرض الله تعالي عليه من الحق.

2- أن ينزل مع الجيش الذي معه بعيدا عن حيهم ومنازلهم مخافة ذعرهم.

3- أن يسلم عليهم سلاما حفيا ، ويقول لهم بأدب إلي ولي الله تعالي وإمام المسلمين بعثني إليكم أن آخذ حق الله تعالي منكم، فإذا قالوا ليس عندنا حق فيتركهم وشأنهم، وإذا قالوا عندنا حق فينطلق معهم، فيأخذه ، فإن كان من النقدين الذهب والفضة استلمها منهم ، وإن كانت من المواشي أو الإبل فليس له من سبيل أن يدخلها دخول متسلط ، وعليه أن يقسم المال قسمين ويجعل الخيار لهم في اختيار أحد القسمين.

4- أن لا يأخذ الهرمة والمكسورة وذات العوار .

5- أن يبعثها إلي الإمام علي بيد ثقة أمين حتي يقسمها بين المسلمين .

6. أن يرفق بالحيوانات رفقا رقيقا فلايتعبها ولا يجيعها ويروحها ، وليس هناك من البر بالحيوان مثل الذي ذكره الإمام عليه السلام.

ص: 116


1- نهج البلاغة : 3: 26.

هذه بعض البنود في هذا الخطاب وهي تحكي الرأفة والرحمة بالقرويين ، وقد واجهوا من الظلم والاعتداء في العصر الأموي والعباسي ما لا يوصف لمرارته وقسوته.

من وصاياه عليه السلام لعماله

وأوصي الإمام عليه السلام عمال الخراج بهذه الوصية القيمة ، وقد جاء فيها :

وَ لَا تَبِيعُنَّ لِلنَّاسِ فِي الْخَرَاجِ كِسْوَةَ شِتَاءٍ وَ لَا صَيْفٍ وَ لَا دَابَّةً يَعْتَمِلُونَ عَلَيْهَا وَ لَا عَبْداً.

وَ لَا تَضْرِبُنَّ أَحَداً سَوْطاً لِمَكَانِ دِرْهَمٍ.

وَ لَا تَمَسُّنَّ مَالَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مُصَلٍّ وَ لَا مُعَاهِدٍ إِلَّا أَنْ تَجِدُوا فَرَساً أَوْ سِلَاحاً يُعْدَي بِهِ عَلَي أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدَعَ ذَلِكَ فِي أَيْدِي أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونَ شَوْكَةً عَلَيْهِ.

وَ لَا تَدَّخِرُوا أَنْفُسَكُمْ نَصِيحَةً وَ لَا الْجُنْدَ حُسْنَ سِيرَةٍ وَ لَا الرَّعِيَّةَ مَعُونَةً وَ لَا دِينَ اللَّهِ قُوَّةً.

وَ أَبْلُوا فِي سَبِيلِهِ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اصْطَنَعَ عِنْدَنَا وَ عِنْدَكُمْ أَنْ نَشْكُرَهُ بِجُهْدِنَا وَ أَنْ نَنْصُرَهُ بِمَا بَلَغَتْ قُوَّتُنَا وَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ(1).

ص: 117


1- مصادر نهج البلاغة . قسم الرسائل والوصايا : 235 - 236.

وحوت هذه الكلمات جميع صور العدل ، وما ينشده الإسلام من الرحمة والرأفة للناس جميعا علي اختلاف قومياتهم ولغاتهم وأديانهم.

مع عمال الصدقات

وضع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام البرامج الرفيعة والآداب الإسلامية للعمال الذين يجلبون الزكاة من المواطنين ، انظروا بعمق إلي هذه التعاليم العلوية .

قال عليه السلام لبعض عماله :

أَمَرَهُ بِتَقْوَي اللَّهِ فِي سَرَائِرِ أَمْرِهِ وَ خَفِيَّاتِ عَمَلِهِ، حَيْثُ لَا شَهِيدَ غَيْرُهُ وَ لَا وَكِيلَ دُونَهُ.

وَ أَمَرَهُ أَلَّا يَعْمَلَ بِشَيْءٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا ظَهَرَ فَيُخَالِفَ إِلَي غَيْرِهِ فِيمَا أَسَرَّ، وَ مَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ سِرُّهُ وَ عَلَانِيَتُهُ وَ فِعْلُهُ وَ مَقَالَتُهُ فَقَدْ أَدَّي الْأَمَانَةَ وَ أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ.

وَ أَمَرَهُ أَلَّا يَجْبَهَهُمْ وَ لَا يَعْضَهَهُمْ وَ لَا يَرْغَبَ عَنْهُمْ تَفَضُّلًا بِالْإِمَارَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمُ الْإِخْوَانُ فِي الدِّينِ وَ الْأَعْوَانُ عَلَي اسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ.

وَ إِنَّ لَكَ فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَ حَقّاً مَعْلُوماً وَ شُرَكَاءَ أَهْلَ مَسْكَنَةٍ وَ ضُعَفَاءَ ذَوِي فَاقَةٍ وَ إِنَّا مُوَفُّوكَ حَقَّكَ فَوَفِّهِمْ حُقُوقَهُمْ وَ إِلَّا تَفْعَلْ فَإِنَّكَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ خُصُوماً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ بُؤْسَي لِمَنْ خَصْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ الْفُقَرَاءُ وَ الْمَسَاكِينُ

ص: 118

وَ السَّائِلُونَ وَ الْمَدْفُوعُونَ وَ الْغَارِمُونَ وَ ابْنُ السَّبِيلِ!

وَ مَنِ اسْتَهَانَ بِالْأَمَانَةِ وَ رَتَعَ فِي الْخِيَانَةِ وَ لَمْ يُنَزِّهْ نَفْسَهُ وَ دِينَهُ عَنْهَا فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ الذُّلَّ وَ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ أَذَلُّ وَ أَخْزَي.

وَ إِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الْأُمَّةِ وَ أَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الْأَئِمَّةِ وَ السَّلَامُ .(1)

من وصاياه عليه السلام الخالدة لعمال الصدقة

من وصايا الإمام الخالدة التي حوت الفضائل والآداب الرفيعة هذه الوصية التيعهد بها إلي عمال الصدقة .

قال عليه السلام :

انْطَلِقْ عَلَي تَقْوَي اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَ لَا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً وَ لَا تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً وَ لَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ؛ فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَي الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ، ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَ الْوَقَارِ حَتَّي تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَ لَا تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ(2).

ثُمَّ تَقُولَ عِبَادَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ وَ خَلِيفَتُهُ لِآخُذَ

ص: 119


1- نهج البلاغة 3: 26.
2- تخدج : أي تبخل .

مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ، فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَي وَلِيِّهِ؟

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَا، فَلَا تُرَاجِعْهُ، وَ إِنْ أَنْعَمَ(1) لَكَ مُنْعِمٌ(2)، فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ. ،فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلَا تَدْخُلْهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَيْهَا دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ وَ لَا عَنِيفٍ بِهِ.

وَ لَا تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَ لَا تُفْزِعَنَّهَا وَ لَا تَسُوءَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا وَ اصْدَعِ الْمَالَ(3) صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعَرَّضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعَرَّضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّي يَبْقَي مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ فَاقْبِضْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ ثُمَّ اخْلِطْهُمَا ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلًا حَتَّي تَأْخُذَ حَقَّ اللَّهِ فِي مَالِهِ.

وَ لَا تَأْخُذَنَّ عَوْداً(4) وَ لَا هَرِمَةً وَ لَا مَكْسُورَةً وَ لَا مَهْلُوسَةً (5)وَ لَا ذَاتَ عَوَارٍ وَ لَا تَأْمَنَنَّ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ تَثِقُ بِدِينِهِ رَافِقاً

ص: 120


1- أنعم : أي قال لك نعم.
2- المنعم : هو الذي يدفع الزكاة ، وهذا من روائع الأدب العلوي .
3- أصدع المال : أي قسمه نصفين .
4- العود : المسنة من الإبل .
5- المهلوسة : الضعيفة .

بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّي يُوَصِّلَهُ إِلَي وَلِيِّهِمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ. وَ لَا تُوَكِّلْ بِهَا إِلَّا نَاصِحاً شَفِيقاً وَ أَمِيناً حَفِيظاً غَيْرَ مُعَنِّفٍ وَ لَا مُجْحِفٍ(1) وَ لَا مُلْغِبٍ(2) وَ لَا مُتْعِبٍ.

ثُمَّ احْدُرْ(3) إِلَيْنَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ فَإِذَا أَخَذَهَا أَمِينُكَ فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَ نَاقَةٍ وَ بَيْنَ فَصِيلِهَا وَ لَا يَمْصُرَ(4) لَبَنَهَا فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِوَلَدِهَا وَ لَا يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً وَ لْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذَلِكَ وَ بَيْنَهَا وَ لْيُرَفِّهْ عَلَي اللَّاغِبِ(5) وَ لْيَسْتَأْنِ بِالنَّقِبِ وَ الظَّالِعِ وَ لْيُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ الْغُدُرِ(6) وَ لَا يَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ الْأَرْضِ إِلَي جَوَادِّ الطُّرُقِ وَ لْيُرَوِّحْهَا فِي السَّاعَاتِ وَ لْيُمْهِلْهَا عِنْدَ النِّطَافِ(7) وَ الْأَعْشَابِ حَتَّي تَأْتِينَا بِإِذْنِ اللَّهِ بُدَّناً مُنْقِيَاتٍ غَيْرَ مُتْعَبَاتٍ وَ لَا مَجْهُودَاتٍ لِنَقْسِمَهَا عَلَي كِتَابِ اللَّهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلي الله عليه وآله) فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِكَ وَ أَقْرَبُ لِرُشْدِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .(8).

ص: 121


1- المجحف : الذي يشتد في سوق الأنعام حتي تهزل .
2- الملغب : الذي أعياه التعب .
3- احدر : أي أرسل.
4- يمصر : أي يأخذ لبنها .
5- الملغب : الذي أعياه التعب .
6- الغدر : هو ما يغادره السيل من المياه .
7- النطاف : المياه القليلة.
8- نهج البلاغة 3: 23 - 26.

وتمثلت جميع صور الكرامة والشرف في هذه الوصية التي عهد الإمام بها إلي عمال الزكاة ، وكان من بنودها ما يلي :

1. إنه أوصي الجباة في أخذهم الحق الشرعي من المواطنين أن لا يروعوهم ولا يجتازوا عليهم بالكره والقوة والاجبار.

2. أن ينزل الجباة بأمكنة بعيدة عن بيوت المزارعين لئلا يخافوا.

3- أن يقابل الجباة المزارعين باللطف ، والتواضع ، ولا يبخلوا عليهم بالتحية والسلام ، ويقولون لهم بأدب : إن خليفة الله أرسلنا لكم فإن كان عندكم حق من حقوق الله فسلموه لنا ، فإن أجابوا بالايجاب استلموه منهم ، وإن قالوا ليس في أموالنا حق فلا يراجعوهم وينصرفوا عنهم من غير إرهاق وعسف معهم.

4. إن الإمام عليه السلام عرض إجمالا إلي ما تجب فيه الزكاة ، وهي الذهب والفضة ، والأنعام الثلاثة ، والحنطة والشعير .

5. وذكر الإمام عليه السلام حكم الزكاة في الماشية والإبل فإذا كان فيها حق ، فعلي الجباة أن لا يدخلوا عليها دخول متسلط ولا عنيف ، وأن يقسموها إلي قسمين فيما إذا كانت كثيرة ويجعلوا الخيار لصاحب المال فيها ، ثم يقسموها إلي قسمين آخرين ويجعلوا لصاحبها الخيار ، وهكذا يستمر التقسيم حتي يأخذ الجباة حق الله منها ، وأوصاهم أن لا يختاروا المسنة والهرمة والمكسورة ولا ذات العوار .

6. وأوصي الإمام العمال بمراعاة الحيوان والرفق به ، وأن تصل إليه سالمة غير مجهدة ...

هذا بعض ما في هذا العهد من تعاليم و آداب .

ص: 122

القطاع الزراعي

اشارة

اهتم الإمام عليه السلام اهتماما بالغا بتنمية المشاريع الزراعية وأولاها المزيد من رعايتهلأنها في تلك العصور العمود الفقري للاقتصاد العام للبلاد، وقد أكد الإمام في عهده لمالك الأشتر علي ضرورة إصلاح الأرض قبل أخذ الخراج منها فلنستمع لقوله :

وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاَنَّ ذَلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ؛ وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ .

أرأيتم كيف نظر الإمام بعمق وشمول إلي الإصلاح الزراعي الذي يتولد منه زيادة الدخل الفردي ، ويرتبط به نشر الرخاء والرفاه بين الناس ؟ وفي نفس الوقت فإنه من العناصر الأساسية في القضاء علي البطالة .

أهمية الخراج

اشارة

أما الخراج فهو الضريبة المالية التي فرضها الإسلام علي غلة الأرض(1)، وهو شريان الاقتصاد الإسلامي ، فإن معظم واردات الدولة تستند إليه ، كما إن نفقاتها كانت عيالا عليه فرواتب الجيش ، ورواتب سائر الموظفين في جهاز الدولة معظمها من هذه الضريبة ، وقد اعتني الإمام بها عناية بالغة .

وهذا حديث عن أهمية الخراج في عهده لمالك الأشتر قال عليه السلام :

وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صَلاَحِهِ وَصَلاَحِهِمْ

ص: 123


1- مجمع البحرين-مادة خرج،و جاء فيه:أنّه قيل: يقع اسمه علي الضريبة و الجزية و الغلّة

صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَي الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ. وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاَنَّ ذَلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ؛ وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً.

فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً، أَوِ انْقِطَاعَ شِرْب أَوْ بَالَّة(1)، أَوْ إِحَالَةَ أَرْض اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ، أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ، خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ؛ وَلاَ يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلاَدِكَ وَتَزْيِينِ وِلاَيَتِكَ، مَعَ اسْتِجْلاَبِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ، وَتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ، وَالثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ وَرِفْقِكَ بِهِمْ؛ فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الاُْمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ، فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ؛ وَإِنَّمَا يُؤْتَي خَرَابُ الاَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لاِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَي الْجَمْعِ(2)، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ،

ص: 124


1- البلة: ما يبل به الأرض من الماء.
2- الجمع : يراد به جمع المسؤولين للمال .

وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ.(1).

وحوي هذا المقطع جميع صنوف العدل والشرف ، وما ينشده الإسلام من عمران الأرض ، وإشاعة الرخاء بين الناس ، وقد حفل بأمور بالغة الأهمية، منها :

1- تفقد الخراج

أما الخراج فهو من أهم واردات الدولة الإسلامية في تلك العصور، وأما كيفية شرائطه وشؤونه فقد تعرضت لها كتب الفقه الإسلامي ، وقد عرض الإمام عليه السلام في كلامه إلي أن صلاح الخراج صلاح لأهله ، وصلاح لجميع المواطنين لأنهم جميعا عيال عليه.

2- عمارة الأرض

وأكد الإمام عليه السلام علي ضرورة إعمار الأرض ، وذلك بشق الأنهر وما يحتاجه المزارعون في شؤون زراعتهم وتنميتها ، فإن زيادة الخراج لا يكون إلا بعمارة الأرض

3- إهمال الأرض

أما إهمال الأرض وعدم الاهتمام بها فإنه يعود بالأضرار الفادحة علي المزارعين والمواطنين ، ويشيع البؤس والفقر بين الناس .

4- الاستجابة لطلبات المزارعين

وحث الإمام عليه السلام السلطة علي الاستجابة الكاملة للمزارعين فيما يطلبونه من

ص: 125


1- نهج البلاغة : 3: 97، الخطبة 53.

إصلاح لأرضهم ، وما يعود علي زرعهم بالنماء فإن إهمال طلباتهم يوجب خراب الأرض ، وموت الزرع.

كما أن الاستجابة لطلباتهم فيه زين للمسؤولين ، وتبجح لهم بإشاعة العدل ، ومن الطبيعي أن ذلك يوجب ربط المواطنين بالدولة وإخلاصهم لها.

5- سبب خراب الأرض

أما السبب في خراب الأرض فإنه ناجم عن فقر المزارعين وعدم تمكنهم من إصلاح زرعهم ، ومن المؤكد أن ذلك ناشئ عن جشع المسؤولين ، واهتمامهم بجلب الخراج ، ولا يعيرون أي اهتمام لإصلاح الأرض ، وسنتحدث في بعض بحوث هذا الكتاب عما عاناه المزارعون من الظلم والدمار من الجباة أيام الحكم الأموي والعباسي.

التعاليم السامية لعمال الخراج

ووضع الإمام عليه السلام المناهج الرفيعة لعمال الخراج ، وأوصاهم بتطبيقها والأخذ بها في ميدان عملهم ، وهذه وصيته بعد البسملة:

من عبدالله علي أمير المؤمنين إلي أمراء الخراج :

أما بعد ، فإنه من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ولم يحرزها ، ومن اتبع هواه وانقاد له علي ما يعرف نفع عاقبته عما قليل ليصبحن من الناديين .

ألا وإن أسعد الناس في الدنيا من عدل عما يعرف ضره ، وإن أشقاهم من اتبع هواه ، فاعتبروا واعلموا أن لكم ما قدمتم

ص: 126

من خير ، وما سوي ذلك وددتم لو أن بينكم وبينه أمدا بعيدا ، ويحذركم الله نفسه والله رؤوف ورحيم بالعباد ، وأن عليكم ما

فرطتم فيه ، وأن الذي طلبتم ليسير و ان ثوابه لكثير ، ولو لم يكن فيما نهي عنه من الظلم والعدوان عقاب يخاف ، كان في ثوابه ما لا عذر لأحد بترك طلبته ، فارحموا ترحموا ولا تعذبوا خلق الله ، ولا تكلفوهم فوق طاقتهم وأنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنكم خزان الرعية ، لا تتخذن حجابا ولا تحجبن أحدا عن حاجته حتي ينهيها(1) إليكم، ولا تأخذوا أحدا بأحډ إلا كفيلا عمن كفل عنه ، واصبروا أنفسكم علي ما فيه الإغتباط ، وإياكم وتأخير العمل ودفع الخير ، فإن في ذلك الدم، والسلام(2).

وحفل هذا الكلام بأمور بالغة الأهمية ، وهي :

1-إلي الإمام عليه السلام أوصي عمال الخراج بتقوي الله تعالي وطاعته ، والاجتناب عن معاصيه ، ومما لا ريب فيه أن من يتقي الله تعالي فإنه لا يعتدي ، ولا يظلم ، ولا يقترف إثما، ويسعد المجتمع في حكمه إذا كان حاكما .

2- إنه أمر العمال بأن لا يكلفوا الناس فيما يجبونه فوق طاقتهم وعليهم أن يسيروا بين الناس بالمعروف.

ص: 127


1- ينهيها : أي يتركها.
2- كتاب صفين : 108، وقريب منه في نهج البلاغة 3: 80-81

3- وعهد عليه السلام لعماله بانصاف الناس ، والصبر علي قضاء حوائجهم، فإنهم خدم الرعية وخزان أموالها .

4- إنه أمرهم أن لا يتخذوا حجابا يمنعون الناس من الوصول إليهم ، فإن ذلك مما يوجب شيوع البغضاء بين المواطنين والحكومة.

5- إنه أوصاهم أن لا يأخذوا أحدا من الناس بجرم غيره إلا أن يكون كفيلا عنه .

6. إنه عليه السلام نهي عن تأخير أعمال المواطنين ، والواجب أن يقوموا بقضائها بالوقت دون تأخير .

الرقابة علي السوق

الإمام عليه السلام أول خليفة في الإسلام قام بالرقابة علي السوق ، وكان يتجول بين الباعة ، ويوصيهم بتقوي الله تعالي ، وينهاهم عن معصيته ، ويأمرهم بالاستقامة في معاملاتهم وكان يقول لهم: أحسنوا ، أرخصوا بيعكم علي المسلمين فإنه أعظم للبركة.

مع التجار

كان عليه السلام يسير في الأسواق وفي يده الدرة ، ويقول للتجار : «يا معشر التجار ! خذوا الحق وأعطوا الحق تسلموا »(1).

ص: 128


1- أخبار القضاة : 1: 196 وفي ربيع الأبرار : 4: 144 زيادة علي ذلك : «ولا تردوا قليل الحق فتحرمئا كثيره ما منع من حق إلا ذهبت في باطل أصعافه » . كنز العمال : 10: 281.

مع القصابين

كان عليه السلام يمشي وحده في الأسواق ، ويأمر الناس بتقوي الله ، وحسن البيع ويقول : أوفوا الكيل والميزان ولا تنفحوا اللحم(1).

في سوق الإبل

خرج الإمام عليه السلام إلي سوق الإبل فلما توسطه رفع صوته قائلا : يا معشر التجار ! إياكم واليمين الفاجرة فإنها تنفق السلعة، وتمحق البركة(2)

عدم شرائه عليه السلام ممن يعرفه

كان الإمام عليه السلام لا يشتري أية سلعة ممن يعرفه خوفا من أن يسامحه فيها ، فقد روي الرواة أنه جاء إلي سوق الكرابيس فقصد رجلا وسيما فقال له : يا هذا ! عندك ثوبان بخمسة دراهم؟

فقال الرجل : نعم ، يا أمير المؤمنين ، فلما عرفه تركه الإمام وانصرف(3).

الاهتمام بالفقراء

أولي الإمام عليه السلام المزيد من الاهتمام بالفقراء والبؤساء، وقد أكد ذلك فيما مضي ، وأعاد القول فيهم حين قال عليه السلام:

ص: 129


1- الطبقات الكبري :18:2 ، القسم الأول . مستدرك الوسائل : 3: 220. البداية والنهاية : 4 :8 .
2- الغارات : 1: 105. مكارم الأخلاق : 100.
3- المصدر المتقدم : 1: 99. بحار الأنوار : 92:100 .

ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَي مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ، مِنَ الْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَي وَ الزَّمْنَي، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ، وَقِسْماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الاِْسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَد، فَإِنَّ لِلاَْقْصَي مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلاَدْنَي، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ؛ وَلاَ يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهَ لاِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ؛ فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ»(1).

أرأيتم هذا العدل الذي أراد الله تعالي تطبيقه علي عباده ، وقد تبناه سيد الأوصياء وإمام المتقين وسيد العترة الطاهرة.

إن للفقراء منزلة عظمي عند الإمام عليه السلام ، فهو صديقهم وملاذهم والملجأ لهم، وقد لاحظ جميع حقوقهم ، ويري أن التغيير في أداء أبسط حقوقهم غير جائز ومسؤول عنه عند الله تعالي.

ص: 130


1- نهج البلاغة : 3: 100.

السياسة الداخلية الحكومة الإمامعليه السلام

اشارة

ص: 131

ص: 132

المساواة

اشارة

وتبني الإمام عليه السلام في جميع مراحل حكمه المساواة والعدالة بين الناس ، فلا امتياز لأي أحد علي غيره ، وهذه بعض مظاهر مساواته :

أولا: المساواة في العطاء

وساوي الإمام عليه السلام في العطاء بين المسلمين وغيرهم ، فلم يقدم عربيا علي غيره، ولا مسلما علي مسيحي(1)، ولا قريبا علي غيره ، وسنتحدث عن كثير من مساواته في العطاء الأمر الذي نجم منه أنه تنكرت له الأوساط الرأسمالية وأعلنوا الحرب عليه.

ثانيا: المساواة أمام القانون

وألزم الإمام عماله وولاته علي الأقطار بتطبيق المساواة الكاملة بين الناس في القضاء وغيره ، قال عليه السلام في إحدي رسائله إلي بعض عماله :

«فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ، حَتَّي لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ، وَ لَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ

ص: 133


1- تاريخ اليعقوبي 2: 129.

مِنْ عَدْلِكَ...»(1).

ثالثا: المساواة في الحقوق والواجبات

ومن مظاهر المساواة العادلة التي أعلنها الإمام عليه السلام المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ، فلم يفرض حقا علي الضعيف ويع عن القوي ، بل الكل متساوون أمام عدله.

رابعا: المساواة بين المراجعين

من عدل الإمام عليه السلام وسمو سياسته المساواة بين المراجعين ، حتي في اللحظة والنظرة . قال في عهده لمحمد بن أبي بكر:

«فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ، حَتَّي لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ، وَ لَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَي يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَ الْكَبِيرَةِ وَ الظَّاهِرَةِ وَ الْمَسْتُورَةِ، فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ، وَ إِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ.«(2)

وهذه المساواة منتهي العدل ، ولم يشرع لها مثيل في جميع الأديان والمذاهب الاجتماعية ، وهي من محاسن سياسة الإمام عليه السلام ومن مظاهر عدله في حكومته .

نعم ، إذا كان أحد المراجعين من المتقين الأخبار والآخر فاسق شرير فليس

ص: 134


1- نهج البلاغة 3: 563.
2- نهج البلاغة : 3: 88.

السياسة الداخلية لحكومة الإمام ايه .......

للوالي أن يساوي بينهما ، قال عليه السلام في عهده لمالك الأشتر:

«وَلاَ يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَة سَوَاء، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لاَهْلِ الاِحْسَانِ فِي الاِحْسَانِ، وَتَدْرِيباً لاَهْلِ الاِسَاءَةِ عَلَي الاِسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ.».

وليس من المنطق في شيء المساواة بين الأخبا المتحرجين في دينهم وبين الأشرار الذين لا يرجون لله تعالي وقارة ، فإن التسوية بينهما إلغاء للقيم الإنسانية وتدمير للأعراف والقوي العقلية .

وبهذا العرض الموجز ينتهي بنا الحديث عن بعض معالم سياسته الهادفة إلي تحقيق مجتمع متوازن لا ظل فيه للغبن والتأخر.

الحرية

من المبادئ التي طبقها الإمام في أيام حكومته منح الناس الحرية الكاملة شريطة أن لا تستغل في الاعتداء علي الناس ، ولا تضر بمصالحهم ، وأن لا تتنافي مع قواعد الشرع ، ومن معالمها ما يلي :

الحرية السياسية

ونعني بها أن تتاح للناس الحرية التامة في اعتناق أي مذهب سياسي من دون أن تفرض السلطة عليهم رأيا معاكسا، وقد منح الإمام عليه السلام هذه الحرية حتي الأعدائه الذين أعلنوا رفض بيعته التي قام عليها إجماع المسلمين كسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر ، وكعب بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وأبي سعيد الخدري ، وأمثالهم من أنصار الحكم المباد الذي كان يغدق عليهم بهباته وأمواله

ص: 135

ولم يجبرهم الإمام علي بيعته ، ولم يتخذ معهم أي إجراء حاسم كما اتخذه أبوبكر ضد المتخلفين عن بيعته .

كان الإمامعليه السلام يري الناس أحرارا في اتجاهاتهم وميولهم ، ويجب علي الدولة أن توفر لهم الحرية الكاملة ما لم يعلنوا التمرد علي الحكم القائم أو يحدثوا فسادا في الأرض ، وقد منح الإمام الحرية للخوارج فلم يحرمهم العطاء ولم تطاردهم الشرطة والجيش مع العلم أنهم كانوا من ألد أعدائه وخصومه ، ولما سعوا في الأرض فسادا ، وأذاعوا الذعر والخوف بين الناس انبري إلي قتالهم حفظا علي المصلحة العامة.

وعلي أي حال فيتفرع عن الحرية السياسية ما يلي :

1- حرية القول

من مظاهر الحرية الواسعة التي منحها الإمام عليه السلام للمواطنين حرية القول، وإن كان في غير صالح الدولة ما لم يتعقبه فساد ، فالعقاب يكون عليه .

وقد روي المؤرخون أن الإمام لما رجع من النهروان استقبل بمزيد من السب والشتم ، فلم يتخذ الإمام مع القائلين أي إجراء ، ولم يقابلهم بالعقوبة والحرمان(1)، وقد التقي أبو خليفة الطائي بجماعة من اخوانه وكان فيهم أبو العيزار الطائي وهو ممن يعتنق فكرة الخوارج فقال لعدي بن حاتم : يا أبا طريف ، أغانم سالم أم ظالم آثم ؟

وقد عرض بذلك إلي الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فقال له عدي : بل غانم سالم. الحكم ذاك إليك .

ص: 136


1- الغارات : 1: 31.

وأوجس منه خيفة الأسود بن زيد ، والأسود بن قيس ، فألقي القبض عليه ، ونقلا كلامه المنطوي علي الشر والخبث إلي الإمام ، فقال الإمام لهما : ما أصنع ؟

-نقتله.

-أقتل من لا يخرج علي ؟

-تحبسه.

-ليس له جناية ، خليا سبيل الرجل(1).

ولم يشاهد الناس مثل هذه الحرية في جميع مراحل التأريخ ، فلم يحاسب الإمام الناس علي ما يقولون وإنما تركهم وشأنهم ، فلم يفرض عليهم رقابة تحول بينهم وبين حريتهم.

2- حرية التنقل

ولم يفرض الإمام عليه السلام الإقامة الجبرية علي أي أحد من الصحابة وغيرهم كما فرضها عمر بن الخطاب ، وقد سمح الإمام لطلحة والزبير بالخروج من المدينة مع علمه أنهما يريدان الغدرة لا العمرة.

هذه بعض مظاهر الحرية التي منحها الإمام عليه السلام للمواطنين ، وقد حققت العدل بين الناس بجميع رحابه ومفاهيمه.

3- حرية النقد

ومنح الإمام الحرية الواسعة لنقد حكمه ، ولم يتعرض للناقدين له بسوء، وكان ابن الكواء من ألد أعداء الإمام عليه السلام ، فقد اعترض عليه وقال له :لَئِنْ أَشْرَكْتَ

ص: 137


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 3: 73. تاريخ بغداد : 14: 369

لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ»(1)

فرد عليه السلام عليه : «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ »(2).

ولم يتخذ الإمام ضده أي إجراء وإنما عفا عنه وخلي سبيله .

الشرطة

اشارة

أما الشرطة فهي من أجهزة الدولة الحساسة ، وأول من أسسها في الإسلام هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، فقد انتخب جماعة من خيار جنوده ، وأطلق عليهم «شرطة الخميس »وكانوا يمثلون النزاهة والتقوي حتي كانت شهادة أحدهم في المحاكم تعدل شهادة رجلين ، وكان منهم الشهيد الخالد حبيب بن مظاهر والثقة الأمين عبدالله بن يحيي الحضرمي ، وقد قال له الإمام عليه السلام: «أبشر يا عبد الله ، فإنك وأباك من شرطة الخميس ، حقا لقد أخبرني رسول الله صلي الله عليه و آله باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس»(3).

وأنيطت بالشرطة كثير من الواجبات والمسؤوليات كان من بينها :

1- القبض علي المجرمين .

2- اتخاذ التدابير الوقائية لمنع وقوع الجرائم .

3- المحافظة علي النظام والأمن العام .

4- المحافظة علي أموال الناس وأعراضهم .

ص: 138


1- الزمر39: 65.
2- الروم30 :60.
3- وسائل الشيعة : 20: 247، الحديث 714.

وقد حدد الإسلام صلاحيات الشرطة فليس لها أن تعتقل أي شخص إلا إذا ثبتت في حقه تهمة يعاقب عليها القانون الإسلامي ، وإذا ارتكب بعض الشرطة المخالفات فإنهم يقدمون للقضاء ، ويخضعون للعقوبات المقررة في الإسلام (1).

ومن الجدير بالذكر أن الشرطة في الأندلس قد انقسمت إلي شرطة كبري ، وشرطة صغري ، فالكبري هي التي تضرب علي أيدي الزعماء ، ومن يتصل بهم ، والصغري تحكم في الغوغاء وعامة الناس ... وكانت ولاية الشرطة للزعماء والأكابر من رجال الدولة(2).

شرطة الخميس

وأحدث الإمام عليه السلام جهازا للمحافظة علي الأمن ومراقبة الأحداث ، وقد سماه ( شرطة الخميس)، وقد اختار لها خيرة الرجال في إيمانهم وتحرجهم في الدين ، وكان منهم المجاهد الشهيد حبيب بن مظاهر وعفاق بن المسيح الفزاري (3).

إحداثه عليه السلام للسجن

والإمام هو أول خليفة أحدث السجن ، وقد بني سجنا يسمي نافعا ، ولم يكن بناؤه محكما ، فكان السجناء يخرجون منه ، فهدمه وبني سجنا سماه نحيسا

وقال :

ص: 139


1- نظام الحكم والإدارة في الإسلام : 441.
2- النظم الإسلامية : 334.
3- خزانة الأدب : 7: 130.

«ألا تراني كيسا مكيسا*** بنيت بعد نافع نحيسا

حصن حصينا وأميرة كيسا»

انشاؤه عليه السلام بيتا للمظالم

وأنشأ الإمام بيتا للمظالم أنشأه للذين لا يتمكنون من الوصول إلي السلطة ، وكان عليه السلام يشرف عليه بنفسه ولا يدع أحدا يصل إليه فيطلع علي الرقاع ، ويبعث خلف المظلوم ويأخذ بحقه من الظالم ، ولما صارت واقعة النهروان ورجع إلي الكوفة فتح باب بيته فوجد الرقاع كلها مليئة بسبابه وشتمه ، فألغي ذلك البيت(1).

أمره عليه السلام بكتابة الحوائج

وأصدر الإمام عليه السلام مرسومة بكتابة الحوائج وعدم ذكر أسمائهم ، فقد قال عليه السلام لأصحابه : من كان له إلي منكم حاجة فليرفعها في كتاب لاصون وجوهكم من المسألة (2).

إلغاء المهرجانات الشعبية

ولم يحفل الإمام عليه السلام بالمهرجانات الشعبية ونفر منها ، وكان من ذلك أنه لما قدم من حرب الجمل واجتاز علي المدائن خرج أهلها لاستقباله ، وعلت زغردة النساء ، وذهل الإمام من ذلك فسألهم عن مهرجانهم ، فقالوا له : إنا نستقبل ملوكنا بمثل ذلك.

ص: 140


1- صبح الأعشي 1: 471.
2- العقد الفريد: 1: 238. فيض القدير : 5: 430. الإمامة والسياسة : 2: 73.

فقال لهم الإمام بما مضمونه : إنه ليس ملكا وإنما هو كأحدهم، يقيم فيهم الحق والعدل ، ولم ينصرف عن مكانه حتي انصرف الناس إلي أعمالهم.

حرقه عليه السلام لمحلات الخمر

أما الخمر فإنه من الجرائم التي تصد عن ذكر الله وتلقي الناس في شر عظيم ، وقد اتخذ الإمام جميع الإجراءات لمنع انتشاره بين الناس ، وقد حرق الإمام قرية من قري الكوفة يباع فيها الخمر.

نهيه عليه السلام عن الجلوس في الطريق

ومنع عليه السلام الناس في الكوفة من الجلوس علي ظهر الطريق ؛ لأنه مظنة للتعرض الأعراض الناس ، فكلمه الكوفيون في ذلك فقال لهم : أدعكم علي شريطة ؟

قالوا : وما هي يا أمير المؤمنين ؟

قال : غض الأبصار ، ورد السلام ، وإرشاد الضال ، قالوا قد قبلنا فتركهم .

ص: 141

ص: 142

عهد الإمام المالك الأشتر

اشارة

ص: 143

ص: 144

الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام مواهب وعبقريات ، ولم تختص ملكاته العلمية بأحكام الشريعة ومعارف الإسلام ، وإنما كانت شاملة لجميع أنواع العلوم علي اختلافها وتعدد أنواعها ، وقد ذكر العقاد في عبقرية الإمام أنه فتق أكثر من ثلاثين علما ، لم يعرفها المسلمون من قبل.

ومن المؤكد أن سعة علوم الإمام عليه السلام وشموليتها لكل علم تتطور به الحياة كانت مستمدة من النبي صلي الله عليه و آله، فقد أفاض عليه علومه ، وغذاه بمكوناته الفكرية ، فقال : «أنَا مَدينَةُ العِلمِ وعَلِيٌّ بابُها»، فهو باب مدينة علم النبي صلي الله عليه و آله التي شملت جميع أنواع العلوم التي عرف الناس بعضها ، و جهلوا الكثير منها.

ومن بين العلوم التي انفرد بها الإمام وضعه لأنظمة الحكم والإدارة في عهده الدولي للزعيم مالك الأشتر واليه علي مصر، فقد وضع فيه أدق الأنظمة وأعمها إصلاحا لحياة الإنسان السياسية في مجتمع لم يفقه أي بند من أنظمة الحكم والإدارة، وقد شرع الإمام عليه السلام أروع صور الحضارة ، وأبهي ألوان التطور والتقدم الفكري.

تطلع الرعية إلي عدل الولاة

وشيء بالغ الأهمية عند الإمام عليه السلام ، وهو تطلع الرعية إلي عدل الولاة ، فقد تأمر

ص: 145

عليهم ولاة في الحكومات الظالمة قبل حكومته ، فأمعنوا في ظلم الناس وإرهاقهم ، فعهد الإمام عليه السلام إلي مالك أن يريهم صنوف العدل ، ويسوسهم سياسة قوامها الحق المحض ، وهذا كلامه :

«ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَي بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وَ جَوْرٍ، وَ أَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَاةِ قَبْلَكَ وَ يَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ، وَ إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَي الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَي أَلْسُنِ عِبَادِهِ. فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ وَ شُحَّ بِنَفْسِكَ(1) عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَت.».

أرأيتم هذه المثل العليا في سياسة الإمام عليه السلام ، فقد أكد فيها علي بسط العدل وإشاعته بين الناس ، وأن يعتبر مالك نفسه مواطنا لا زعيما ، فيرجو من الوالي تحقيق ما يصبو إليه من العدل ، وبما تسعد به الرعية.

وأكد الإمام عليه السلام ضرورة العمل الصالح، والسيطرة علي نزعات النفس ، وإنصاف الناس .

الرحمة بالرعية

وعرض الإمام عليه السلام في عهده لمالك رضي الله عليه إلي ضرورة الرحمة بالرعية ، والإحسان

ص: 146


1- شح بنفسك : ابخل بنفسك عن الوقوع في غير الحل ، فليس الحرص علي النفس إيفاءها كل ما تحب ، بل من الحرص أن تحمل علي ما تكره .

إليها ، والرفق بها ، والعفو عنها في موارد الزلل ، وأن يشفق بها مهما استطاع لذلك سبيلا.

استمعوا لقوله عليه السلام حيث قال :

«وَ أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اللُّطْفَ بِهِمْ، وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ (1)مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَ يُؤْتَي عَلَي أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَ الْخَطَإِ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَ صَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَ تَرْضَي أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَ صَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَ اللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ وَ قَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ (2)وَ ابْتَلَاكَ بِهِمْ.وَ لَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ(3)، فَإِنَّهُ لَا [يَدَيْ] يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ(4) وَ لَا غِنَي بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ».

وليس في قواميس الأديان و مذاهب السياسة مثل ما سنه الإمام عليه السلام من الرفق بالرعية علي اختلاف ميولها وأديانها ، فليس للوالي إلا اللطف والمبرة بها ، وأن لا يشمخ عليهم بولايته، ويكون سبعا ضاريا عليهم ، وعليه أن لا يحاسبهم علي ما صدر منهم من علل أو زلل ،ويمنحهم العفو والرضا لتنعم البلاد بالأمن ،

ص: 147


1- يفرط : يسبق.
2- استكفاك : طلب منك كفاية أمرك والقيام بتدبير مصالحهم .
3- أراد « بحرب الله » مخالفة شريعته بالظلم والجور.
4- لا بد لك بنقمنه : أي ليس لك يد أن تدفع نقمته ، أي لا طاقة لك بها .

وتسود فيها العافية .

ويستمر الإمام عليه السلام في عهده بالرفق بالرعية قائلا

وَ لَا تَنْدَمَنَّ عَلَي عَفْوٍ، وَ لَا تَبْجَحَنَّ (1)بِعُقُوبَةٍ، وَ لَا تُسْرِعَنَّ إِلَي بَادِرَةٍ (2)وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً(3)؛ وَ لَا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ(4) آمُرُ فَأُطَاعُ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ(5) فِي الْقَلْبِ وَ مَنْهَكَةٌ (6)لِلدِّينِ وَ تَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ(7)؛ وَ إِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً (8)أَوْ مَخِيلَةً(9) فَانْظُرْ إِلَي عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ وَ قُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَي مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ(10) إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ (11)وَ يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ (12)

ص: 148


1- بجح به :كفرح لفظا ومعني .
2- البادرة : ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل .
3- المندوحة : المتسع ، أي المخلص .
4- مؤمر - كمعظم - أي : مسلط.
5- الإدغال : إدخال الفساد .
6- منهكة : مضعفة ، وتقول : نهكه ، أي أضعفه .. وتقول : نهكه السلطان من باب فهم أي : بالغ في عقوبته .
7- الغير - بكسر ففتح - : حادثات الدهر بتبدل الدول.
8- الأبهة - بضم الهمزة وتشديد الباء مفتوحة - : العظمة والكبرياء .
9- المخيلة - بفتح فكسر -: الخيلاء والعجب .
10- يطامن الشيء : يخفض منه .
11- الطماح - ككتاب - : النشوز والجماح .
12- الغرب - بفتح فسكون -: الحدة .

وَ يَفِيءُ(1) إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ(2) عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ!

إِيَّاكَ وَ مُسَامَاةَ(3) اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار وَ يُهِينُ كُلَّ مُخْتَال.».

حكي هذا المقطع الأساليب التي يجب أن تتوفر في الولاة من عدم الندم علي عفو أصدروه علي مواطن ، وعدم التبجح بعقوبة أنزلوها بأحد ، وليس لهم الاعتزاز بالسلطة ، والغرور بالحكم ، فإن في ذلك مفسدة للدين ومفسدة للمواطنين ، وعليهم أن ينظروا إلي قدرة الله تعالي عليهم ، فإنه المالك لهم.

هذه بعض محتويات هذه الكلمات .

إنصاف الناس

وفي عهد الإمام عليه السلام لمالك رضي الله عليه الأمر بإنصاف الناس في سياسته وإنصافهم من خاصة أهله والتابعين له ، فإن ذلك من أسمي ألوان العدل الذي تبناه الإمام عليه السلام في حكومته ، وهذه كلماته عليه السلام:

«أَنْصِفِ اللهَ وَ أَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَ مِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَ مَنْ لَكَ فِيهِ هَوًي(4) مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ؛ وَ مَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَ مَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ (5)

ص: 149


1- يفيء : يرجع .
2- عزب : غاب .
3- المساماة : المباراة في السمو ، أي العلو .
4- من لك فيه هوي : أي لك إليه ميل خاص .
5- أدحض : أبطل .

حُجَّتَهُ، وَ كَانَ لِلَّهِ حَرْباً (1)حَتَّي يَنْزِعَ(2) أَوْ يَتُوبَ.

وَ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَي إِلَي تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهِ وَ تَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلَي ظُلْم، فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وَ هُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ.».

حكي هذا المقطع العدل الصارم في سياسة الإمام عليه السلام التي تسعد بها الأمم والشعوب ، وتكون آمنة من الظلم والاعتداء

إرضاء العامة

وشيء بالغ الأهمية في سياسة الإمام عليه السلام، وهو تبني رضاء العامة من الشعب ، وهم الذين يشكلون الأكثرية الساحقة من الشعب من ذوي المهن والحرف وغيرهم ، فإن الحكومة مدعوة لإرضائهم ، و تنفيذ رغباتهم المشروعة.

يقول الإمام عليه السلام:

«وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَي الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَي الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ (3)يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَي الْعَامَّةِ؛ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَي الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلاِنْصَافِ وَأَسْأَلَ

ص: 150


1- كان حربا أي : محاربا .
2- ينزع - كيضرب - أي : يقلع عن ظلمه .
3- يجحف برضي الخاضة : يذهب برضاهم .

بِالاِلْحَافِ(1)، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الاِعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ؛ وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ وَجِمَاعُ (2)الْمُسْلِمِينَ وَالْعُدَّةُ لِلاَعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الاُمَّةِ؛ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ (3)لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ.».

حكي هذا المقطع مدي أهمية العامة عند الإمام عليه السلام ، وأن رضاهم موجب النجاح الحكومة ، وسخطهم موجب لدمارها ، وأن العامة هم الذخيرة للدولة بخلاف الخاصة الذين هم أكره للإنصاف ، وأقل شكرا عند الإعطاء ، وأن عماد الدين وقوام السلطة إنما هو بالعامة دون الخاصة.

إبعاد الساعين لمعائب الناس

وكان من رحمة الإمام عليه السلام بالناس إبعاد الساعين لذكر معائبهم ، وطردهم ، ولزوم ستر معائب المواطنين ، وهذا جزء من سياسته العامة ، وهذا نص كلامه :

«وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَأَشْنَأَهُمْ(4) عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ(5) لِمَعَائِبِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَي مَا غَابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ

ص: 151


1- الإلحاف : الالحاح والشدة في السؤال .
2- جماع الشيء - بالكسر : جمعه ، أي جماعة الإسلام .
3- الصغو - بالكسر والفتح -: الميل .
4- أشنأهم : أبغضهم.
5- الأطلب للمعائب : الأشد طلبا لها.

يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ.

أَطْلِقْ(1) عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْد، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْر(2)، وَتَغَابَ (3)عَنْ كُلِّ مَا لاَ يَضِحُ (4)لَكَ، وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَي تَصْدِيقِ سَاعٍ، فَإِنَّ السَّاعِيَ(5) غَاشٌّ وَ إِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ.».

إن من مناهج سياسة الإمام إبعاد السعاة في ذكر مثالب الناس ، الأمر الذي يؤدي إلي إسقاط كرامتهم ، وتحطيم منزلتهم ، وهذا مما يرفضه الإمام عليه السلام الذي جهد علي تهذيب المجتمع و حسن سلوكه .

الابتعاد عن بعض الأشخاص

وعهد الإمام عليه السلام إلي مالك و بالابتعاد عن بعض الأشخاص المصابين بأخلاقهم ، وهم:

«وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ(6) وَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ(7)، وَلاَ جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الاُمُورِ، وَلاَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ(8) بِالْجَوْرِ؛ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ

ص: 152


1- أطلق عقدة كل حقد : احلل عقد الأحقاد من قلوب الناس بحسن السيرة معهم.
2- الوتر - بالكسر -: العداوة .
3- تغاب : تغافل .
4- يضح : يظهر، والماضي وضح .
5- الساعي : هو النمام بمعائب الناس .
6- الفضل - هنا -: الإحسان بالبذل .
7- يعدك الفقر : بخوفك منه لو بذلت .
8- الشره - بالتحريك - : أشد الحرص .

شَتَّي(1)، يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ.»

لقد حذر الإمام عليه السلام من مزاملة هؤلاء الأشخاص لأنهم يجلبون الويل والثبور الولاة الأمور.

إقصاء الوزراء في الحكومات السابقة

وأمر الإمام عليه السلام في عهده بإقصاء الوزراء في الحكومات السابقة لأنهم كانوا أن شر و زرائك وخونة ، خصوصا في حكومة عثمان ، ولنستمع إلي حديثه عليه السلام:

إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلاَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآْثَامِ فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً(2)، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الاَثَمَةِ(3)، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ؛ وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ(4) وَ أَوْزَارِهِمْ وَ آثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَي ظُلْمِهِ، وَلاَ آثِماً عَلَي إِثْمِهِ، أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَي عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً(5)، فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلاَتِكَ؛ ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ وَأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا

ص: 153


1- غرائز : طبائع متفرقة.
2- بطانة الرجل - بالكسر : خاصته ، وهو من بطانة الثوب خلاف ظهارته .
3- الأثمة : جمع آثم وهو فاعل الإثم أي الذنب.
4- الآصار : جمع إصر - بالكسر ، وهو الذنب والإثم .
5- الإلف - بالكسر .: الألفة والمحبة .

يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لاَوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ. وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ (1)عَلَي أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ يَبْجَحُوكَ(2) بِبَاطِل لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الاِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ(3)، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ.».

حكي هذا المقطع أسمي ما تصل إليه الحكومة من التطور في خدمة الشعب ، فقد عهد الإمام عليه السلام إلي مالك رضي الله عليه أن لا يتخذ وزيرا قد شارك في وزارة الحكومة السابقة التي جهدت في ظلم الشعب ، ونهب ثرواته ، كما كان في أيام حكومة عثمان بن عفان عميد الأمويين ، فقد وهب ثروات الأمة وما تملكه من قدرات اقتصادية لبني أمية وآل أبي معيط.

كما منحهم المناصب المهمة في الدولة ، وكان ذلك من الأسباب التي أدت إلي الإطاحة بحكومته.

الاتصال بالعلماء

وأكد الإمام عليه السلام في عهده علي ضرورة الاتصال بالعلماء والحكماء للتذاكر في شؤون البلاد ، وما يصلحها اقتصاديا وأمنيا، وغير ذلك. قال عليه السلام:

وَلاَ يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَة سَوَاء، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لاَهْلِ الاِحْسَانِ فِي الاِحْسَانِ، وَتَدْرِيباً لاَهْلِ الاِسَاءَةِ

ص: 154


1- رضهم : أي عودهم علي ألا يطروك ، أي يزيدوا في مدحك.
2- لا يبجحوك : أي يفرحوك بنسبة عمل عظيم إليك ولم تكن فعلته .
3- الزهو - بالفتح : العجب .

عَلَي الاِسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَي إِلَي حُسْنِ ظَنِّ رَاع بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَتَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَي مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ(1)؛ فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً (2)طَوِيلاً. وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ(3)، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ(4). وَلاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الاُمَّةِ، وَاجْتَمَعَتْ بِهَا الاُلْفَةُ، وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ. وَلاَ تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْء مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ، فَيَكُونَ الاَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا، وَالْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا. وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ، وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ.».

وهذا أنموذج من سياسة الإمام عليه السلام الهادفة لإصلاح المجتمع بجميع ما يحتاج إليه طبقات الشعب.

الاتصال بالأشراف والصالحين

من بنود عهد الإمام عليه السلام أنه أمر مالك رحمت الله عليه بالاتصال بالأشراف والصالحين الذين

ص: 155


1- قبلهم - بكسر ففتح - : أي عندهم .
2- النصب - بالتحريك : التعب.
3- حسن بلاؤك عنده : البلاء - هنا -: الصنع مطلقا حسنا أو سيئا.
4- حسن بلاؤك عنده:البلاء-هنا-:الصنعم طلقاً حسناً او سيئاً

يمثلون القيم الكريمة ليستعين بهم في إصلاح البلاد ، وهذا قوله عليه السلام:

«وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْض، وَلاَ غِنَي بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْض؛ فَمِنْهَا جُنُودُ اللهِ، وَمِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ، وَمِنْهَا عُمَّالُ الاِنْصَافِ وَالرِّفْقِ، وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، وَمِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَي مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ؛ وَكُلٌّ قَدْ سَمَّي اللهُ لَهُ سَهْمَهُ، وَ وَضَعَ عَلَي حَدِّهِ فَرِيضَةً فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلي الله عليه وآله) عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً.

فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَ زَيْنُ الْوُلاَةِ، وَعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الاَمْنِ وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ. ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَيَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ(1). ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلاَّ بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْكُتَّابِ، لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ(2)، وَيَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَيُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الاُمُورِ وَعَوَامِّهَا. وَلاَ قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي

ص: 156


1- يكون من وراء حاجاتهم : أي يكون محيطا بجميع حاجاتهم دافعا لها .
2- المعاقد : العقود في البيع والشراء وما شابههما مما هو شأن القضاة .

الصِّنَاعَاتِ، فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ(1)، وَيُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَيَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ (2)بِأَيْدِيهِمْ مَا لاَ يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ. ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَي مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ (3)وَمَعُونَتُهُمْ. وَفِي اللهِ لِكُلّ سَعَةٌ، وَلِكُلّ عَلَي الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ، وَلَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللهُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِالاِهْتِمَامِ وَالاِسْتِعَانَةِ بِاللهِ، وَتَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَي لُزُومِ الْحَقِّ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ.فَوَلَّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلاِمَامِكَ، وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً(4)، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً(5)، مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَي الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو عَلَي الاَقْوِيَاءِ(6)، وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ.».

ونظر الإمام عليه السلام بعمق إلي طبقات الشعب التي يرتبط بعضها ببعض ، وهي :

1- الجيش الذي به قوام الدولة والشعب.

ص: 157


1- المرافق : أي المنافع التي يجتمعون لأجلها .
2- الترفق : أي التكسب بأيديهم ما لا يبلغه كسب غيرهم من سائر الطبقات .
3- رفدهم : مساعدتهم وصلتهم.
4- جيب القميص : طوقه ؛ ويقال «نقي الجيب »، أي : طاهر الصدر والقلب .
5- الحلم - هنا -: العقل.
6- ينبو عليه : يتجافي عنهم ويبعد .

2- الكتاب ، وهم كتاب العامة والخاصة.

3- قضاة العدل ، وهم الذين يحكمون بين الناس فيما شجر بينهم من خلاف.

4- عمال الإنصاف والرفق ، وهم صنف من العمال يلاحظون أمور الناس .

5- الذين يأخذون الجزية التي هي من مواد الاقتصاد في الإسلام .

6-التجار ، وهم الذين يمثلون العصب الاقتصادي في البلاد.

7- أهل الصناعات ، وهم الذين يقومون بما يحتاج إليه المجتمع في شؤونه الاقتصادية.

8- الفقراء والمحتاجون.

ووضع الإمام عليه السلام لكل صنف منهجا خاصا وأوصي بمراعاة هذه الأصناف لأنهم هم دعائم المجتمع في البلاد.

ثُمَّ الْصَقْ بذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالاَحْسَاب، وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالسَّوَابقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ؛ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ، وَشُعَبٌ(1) مِنَ الْعُرْفِ(2). ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدهِمَا، وَلاَ يَتَفَاقَمَنَّ(3) فِي نَفْسكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بهِ، وَلاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً(4)

ص: 158


1- شعب - بضم ففتح : جمع شعبة .
2- العرف : المعروف.
3- تفاقم الأمر : عظم ، أي لا تعد شيئا قويتهم به غاية في العظم زائدا عما يستحقون ، فكل شيء قويتهم به واجب عليك اتبانه ، وهم مستحقون لنيله.
4- لا تحقرن لطفا : أي لا تعد شيئا من تلطفك معهم حقيرة فتتركه لحقارته ، بل كل تلطف وإن قل فله موقع من قلوبهم .

تَعَاهَدْتَهُمْ بهِ وَإِنْ قَلَّ، فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَي بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بكَ؛ وَلاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالاً عَلَي جَسيمِهَا، فَإِنَّ لِلْيَسيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بهِ، وَلِلْجَسيمِ مَوْقِعاً لاَ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ. ».

حكي هذا المقطع أصالة ما ذهب إليه الإمام عليه السلام من إشاعة الفضيلة وتوطيد أركان الإصلاح الاجتماعي بين الناس.

وهذه النقاط المهمة التي أدلي بها الإمام عليه السلام توجب التفاف المصلحين حول الولاة وتعاونهم معهم فيما يصلح أمر البلاد.

تكريم المخلصين من الجند

وعهد الإمام عليه السلام لمالك وال بتكريم المخلصين من الجند ، فإن ذلك مدعاة إلي إخلاصهم للحكومة ، والذب عنها ، ولنستمع إلي قوله عليه السلام:

«وَلْيَكُنْ آثَرُ(1) رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ(2) فِي مَعُونَتِهِ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ(3)، بِمَا يَسَعُهُمْ وَيَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ(4) أَهْلِيهِمْ، حَتَّي يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ« -

ص: 159


1- آثر : أي أفضل وأعلي منزلة .
2- واساهم : ساعدهم بمعونته لهم .
3- الجدة – بكسر ففتح - : الغني .
4- خلوف أهليهم : جمع خلف - بفتح وسكون - وهو من يبقي في الحي من النساء والعجزة بعد سفر الرجال .

الْعَدُوِّ؛ فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ، وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاَةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ؛ وإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بِسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ، وَلاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلاَّ بِحِيطَتِهِمْ(1) عَلَي وُلاَةِ الاُمُورِ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ، وَتَرْك اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ؛ فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ، وَ وَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْدِيدِ مَا أَبْلَي ذَوُو الْبَلاَءِ (2)مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وَتُحَرِّضُ النَّاكِلَ(3)، إِنْ شَاءَ اللهُ.».

أرأيتم هذا العمق في سياسة الإمام عليه السلام ودراسته لنفوس الجيش، والوقوف علي إخلاصهم وطاعتهم لقادتهم ، ولم يحفل أي دستور عسكري وضعه قادة الجيوش بمثل هذه الدراسة الوثيقة لطبائع نفوس العسكر، وكيفية إخلاصهم وطاعتهم لقادتهم.

وقد أوصي الإمام عليه السلام بإشاعة ذكر المخلصين من الجند ، فإن ذلك يهز عواطف الشجعان منهم ، ويحث الناكل علي الطاعة والإخلاص لدولته . ويضيف الإمام عليه السلام مؤكدا رعاية المخلصين من الجند قائلا:

«ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئ مِنْهُمْ مَا أَبْلَي، وَلاَ تَضُمَّنَّ بَلاَءَ امْرِئ(4) إِلَي غَيْرِهِ، وَلاَ تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلاَئِهِ، وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ

ص: 160


1- حيطة - بكسر الحاء -: من مصادر « حاطه » بمعني حفظه وصانه .
2- ذوو البلاء : أهل الأعمال العظيمة .
3- يحرض الناكل : يحث المتأخر القاعد .
4- بلاء امريء : صنيعه الذي أبلاه .

امْرِئ إِلَي أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ صَغِيراً، وَلاَ ضَعَةُ امْرِئ إِلَي أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ عَظِيماً.».

حكي هذا المقطع بعض الوصايا الذهبية في تكريم المخلصين من الجيش ، وأنه ليس له أن يعظم الأشراف علي ما صدر منهم من خدمات ما كان قليلا ويستهين بالفقراء ما صدر منهم خدمات جليلة ، وأن الواجب عليه الإشادة بهم وذكرهم بأطيب الذكر وأنداه .

اختيار الحكام

وشيء بالغ الأهمية في عهد الإمام عليه السلام، وهو أن يكون انتخاب الحكام غير خاضع للمؤثرات التقليدية ، وإنما يكون عن دراسة جادة للحاكم نفسيا وفكريا ، وإدارة ومعرفة بشؤون الحكم والإدارة علي ضوء الشريعة المقدسة ، وهذا حديث الإمام عليه السلام:

«وَارْدُدْ إِلَي الله وَرَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ(1)، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الاُمُورِ، فَقَدْ قَالَ اللهُ سبحانه لِقَوْم أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاَمْرِ مِنْكُمْ فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَي اللهِ وَالرَّسُولِ»، فَالرَّدُّ إِلَي اللهِ: الاَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ(2)، وَالرَّدُّ إِلَي الرَّسُولِ: الاَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ.

ص: 161


1- ما يضيعك من الخطوب : ما يؤودك ويثقلك ويكاد يبنيلك من الأمور الجسام .
2- محكم الكتاب : نصه الصريح

ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاُمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ(1)، وَلاَ يَتَمَادَي(2) فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ(3) مِنَ الْفَيْءِ(4) إِلَي الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ (5)نَفْسُهُ عَلَي طَمَع، وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَي فَهْم دُونَ أَقْصَاهُ(6)، وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً(7) بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَي تَكَشُّفِ الاُمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ (8)عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ (9)وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ وَأُولَئِكَ قَلِيلٌ؛

ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ(10) قَضَائِهِ، وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ(11) مَا يُزِيلُ

ص: 162


1- تمحكه الخصوم : تجعله ماحقا لجوجا. يقال : مخك الرجل - كمنغ - إذا لج في الخصومة ، وأصر علي رأيه .
2- يتمادي : يستمر ويسترسل.
3- لا يحصر : لا يعيا في المنطق .
4- الفيء : الرجوع إلي الحق .
5- لا تشرف نفسه : لا تطلع . والاشراف علي الشيء : الاطلاع عليه من فوق .
6- أدني فهم وأقصاه :أقربه وأبعده .
7- التبرم : الملل والضجر .
8- أصر مهم : أقطعهم للخصومة وأمضاهم.
9- لا يزدهيه إطراء :لا يستخفه زيادة الثناء عليه .
10- تعاهده : تتبعه بالاستكشاف والتعرف .
11- افسح له في البذل : أي أوسع له في العطاء بما يكفيه .

عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَي النَّاسِ،

وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ. فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً، فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الاَشْرَارِ، يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَي، وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا.».

حكي هذا المقطع شأن القضاة وحوي أمورة بالغة الأهمية ، كان منها:

أولا: أن يكون الحاكم أفضل الرعية في تقواه وورعه ، وأن تتوفر فيه هذه الصفات :

1- أن يكون واسع الصدر ، لا تضيق به مشكلات الناس ويمل منها .

2- أن يمعن وينظر بجد في القضايا التي ترفع إليه ، ويتبع سبيل الحق فيما يحكم به.

3- أن لا يتمادي في الزلل والخطأ ، فإنه يكون ضالا عن الطريقة إذا لم يعن بذلك.

4- أن يتبع الحق فيما يحكم به.

5-أن يكون شديدة في حكمه إذا اتضح له الحق .

ثانيا : أن يتعاهد الوالي قضاء الحاكم خشية الزلل فيما حكم به .

ثالثا: أن يوفر له العطاء، ولا يدعه محتاجا لأحد حتي يخلص فيما يحكم به .

رابعا: أن تكون للحاكم منزلة كريمة عند الوالي لا يطمع بها غيره .

هذه بعض النقاط في هذا المقطع.

ص: 163

العمال

نظر الإمام عليه السلام بعمق إلي العمال في جهاز الدولة ، فوضع منهجا لاختيارهم في هذا الجهاز ، وأن يكون انتخابهم غير خاضع للمؤثرات الخارجية ، بل لا بد من البحث عنهم والفحص عن سيرتهم ، وهذا نص عهده عليه السلام:

«ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً(1)، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً (2)وَأَثَرَةً(3)، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ. وَتَوَخَّ(4) مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ (5)فِي الاِسْلاَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاَقاً وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً، وَأَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً، وَأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الاُمُورِ نَظَراً.

ثُمَّ أَسْبِغْ(6) عَلَيْهِمُ الاَرْزَاقَ، فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَي اسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ، وَغِنًي لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ(7). ثُمَّ تَفَقَّدْ

ص: 164


1- اشتملهم اختبارا : ولهم الأعمال بالامتحان .
2- محاباة : أي اختصاصا وميلا منك لمعاونتهم.
3- أثرة - بالتحريك - أي : استبدادا بلا مشورة .
4- توخ : أي اطلب و تحر أهل التجربة ...
5- القدم - بالتحريك : واحدة الأقدام ، أي الخطوة السابقة . وأهلها هم الأولون .
6- أسبغ عليه :أكمله وأوسع له فيه .
7- ثلموا أمانتك : نقصوا في أدائها أو خانوا.

أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ (1) مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لاُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ (2)عَلَي اسْتِعْمَالِ الاَمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ. وَتَحَفَّظْ مِنَ الاَعْوَانِ، فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَي خِيَانَة اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ، اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ.».

ألقي الإمام عليه السلام الأضواء في هذا المقطع علي العمال في أجهزة الحكم، وأولاهم المزيد من الاهتمام ، لأنهم عصب رئيسي مهم في الدولة ، وكان مما أولاهم به :

1- إن الوظيفة لا تمنح لأي شخص إلا بعد اختباره ومعرفة سلوكه وإدارته .

2- إن منح الوظيفة يجب أن لا يكون محاباة أو أثرة ، وإنما يكون عن استحقاق ودراية .

3- إن العمال في الحكومات السابقة كانوا شعبا من الجور، وفي عهده يجب أن يكونوا مثالا للنزاهة والشرف.

4- أن يكون العمال من ذوي البيوتات الشريفة ، فإنهم يكونون بعيدين عن اقتراف الإثم وما يخل بالكرامة.

5- أن يوفر لهم المال ، فإنه ضمان لهم من أخذ الرشوة.

ص: 165


1- العيون : الرقباء .
2- حدوة : أي سوق لهم وحث.

6- أن يجعل عليهم العيون والرقباء خشية انحرافهم عن الحق.

7- إذا بدت منهم خيانة فعلي الوالي أن يأخذهم بالعقاب الصارم.

إن هذه الإجراءات مع العمال تضمن للأمة العدل ، ويشيع فيها الإخلاص للحكم.

الخراج

أما الخراج فهو شرايين اقتصاد الأمة حكومة وشعبا في عصورها الأولي ، وقد أمر الإمام عليه السلام في عهده بمراقبته وتفقده والاهتمام به ، وهذا كلامه عليه السلام:

«وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صَلاَحِهِ وَصَلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاَِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَي الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ.».

الحياة الاقتصادية لمة في تلك العصور منوطة بالخراج الذي تأخذه الدولة من المزارعين ، وقد أمر بتفقده وتفقدهم رعاية للمصلحة العامة.

عمران الأرض

وأولي الإمام عليه السلام المزيد من اهتمامه بعمران الأرض ، وما تحتاجه من الماء وغيره ، وقد أدلي بذلك بقوله:

«وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاَنَّ ذَلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ؛ وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً.».

ص: 166

حكي هذا المقطع مدي اهتمام عليه السلام الإمام لا بعمارة الأرض ، وتوفير جميع الوسائل لإصلاحها ، لأنها مصدر الحياة الاقتصادية في الأمة.

وصيته عليه السلام بالمزارعين

اهتم الإمام عليه السلام بالمزارعين ، فأوصي برعايتهم والعناية بهم ، وتصديقهم فيما يقولون في شأن الخراج ، وإقصاء كل لون من ألوان الضغط عليهم ، وهذا قوله عليه السلام :

«فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً(1)، أَوِ انْقِطَاعَ شِرْب(2) أَوْ بَالَّة(3)، أَوْ إِحَالَةَ أَرْض (4) اغْتَمَرَهَا(5) غَرَقٌ، أَوْ أَجْحَفَ(6) بِهَا عَطَشٌ، خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ؛ وَلاَ يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلاَدِكَ وَتَزْيِينِ وِلاَيَتِكَ، مَعَ اسْتِجْلاَبِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ، وَتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ (7)فِيهِمْ، مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ(8)،

ص: 167


1- إذا شكوا ثقلا أو علة : يريد المضروب من مال الخراج أو نزول علة سماوية بزرعهم أضرت بثمراته .
2- انقطاع شرب - بالكسر : أي ماء في بلاد تسقي بالأنهار .
3- انقطاع بالة : أي ما يبل الأرض من ندي ومطر فيما تسقي بالمطر .
4- إحالة أرض - بكسر همزة إحالة - : أي تحويلها البذور إلي فساد بالتعفن .
5- اغتمرها : أي عمها من الغرق فغلبت عليها الرطوبة حتي صار البذر فيها غمقة . ككتف . أي له رائحة خمة وفساد .
6- أجحف العطش : أي أتلفها وذهب بمادة الغذاء من الأرض فلم ينبت .
7- استفاضة العدل : انتشاره .
8- معتمدا فضل قوتهم : أي: متحدأ زيادة قوتهم عمادة لك تستند إليه عند الحاجة .

بِمَا ذَخَرْتَ (1)عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ(2) لَهُمْ، وَالثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ وَرِفْقِكَ بِهِمْ؛ فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الاُمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ، فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ؛ وَإِنَّمَا يُؤْتَي خَرَابُ الاَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ(3) أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لاِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَي الْجَمْعِ(4)، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ.».

حكي هذا المقطع مدي اهتمام الإمام عليه السلام بتنمية الاقتصاد القومي الذي يمثله قطاع الفلاحين ، فقد أوصي عليه السلام بعمارة الأرض ، وتوفير ما تحتاجه من المياه ، وإصلاحها فيما إذا غمرتها المياه ، وغير ذلك من وسائل الإصلاح.

وقد فقد المسلمون هذه الرعاية أيام الحكم الأموي والعباسي ، فقد شكا والي مصر إلي عاهل الشام سوء حالة المزارعين ورجاه تخفيف الخراج عنهم ، فكتب إليه بعد التأنيب: «احلب الدر ، فإذا انقطع فاحلب الدم»، وقد اضطر المزارعون إلي هجر مزارعهم فرارا من ظلم الولاة وجورهم.

كما حكي هذا المقطع البر بالمزارعين والإحسان إليهم ، ومراعاة حياتهم الاقتصادية بما لم يألفوا مثله في الحكومات السابقة. .

ص: 168


1- خرت : وفرت .
2- الإجمام : الترفيه والاراحة.
3- الإغواز : الفقر والحاجة .
4- إشراف أنفسهم علي الجمع : لتطلع أنفسهم إلي جمع المال ، ادخارا لما بعد زمن الولاية إذا عزلوا.

الكتاب

وهم من أهم الموظفين في جهاز الدولة ، فهم يتولون كتابة ما يصدر من الوالي من قرارات وشؤون اقتصادية وعسكرية ، وغير ذلك مما يتعلق بأمور الدولة والمواطنين ، وقد أولاهم الإمام عليه السلام المزيد من الاهتمام ، وهذا نص حديثه عليه السلام:

«ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ فَوَلِّ عَلَي أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ، وَاخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وَأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الاَخْلاَقِ، مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ (1)الْكَرَامَةُ، فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلاَف لَكَ بِحَضْرَةِ مَلاَ، وَلاَ تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ (2)عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّالِكَ عَلَيْكَ، وَإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَي الصَّوَابِ عَنْكَ، فِيمَا يَأْخُذُ لَكَ وَيُعْطِي مِنْكَ، وَلاَ يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ(3)، وَلاَ يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ(4)، وَلاَ يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الاُمُورِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ. ثُمَّ لاَ يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَي فِرَاسَتِكَ(5)

ص: 169


1- لا تبطره أي : لا تطغيه.
2- لا تقصر به الغفلة : أي لا تكون غفلته موجبة لتقصيره في إطلاعك علي ما يرد من أعمالك ، ولا في إصدار الأجوبة عنه علي وجه الصواب .
3- عقدة اعتقده لك : أي معاملة عقدها لمصلحتك.
4- لا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك : إذا وقعت مع أحد في عقد كان ضرره عليك لا يعجز عن حل ذلك العقد.
5- الفراسة - بالكسر -: قوة الظن وحسن النظر في الأمور .

وَاسْتِنَامَتِكَ(1)وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ، فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ(2)وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالاَْمَانَةِ شَيْءٌ؛ وَلَكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ، فَاعْمِدْ لاَِحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً، وَأَعْرَفِهِمْ بِالاَْمَانَةِ وَجْهاً، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَي نَصِيحَتِكَ لِلَّهِ وَلِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ. وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْر مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ(3)،لاَ يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا وَلاَ يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا، وَمَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْب، فَتَغَابَيْتَ(4)عَنْهُ، أُلْزِمْتَه.».

حكي هذا المقطع مدي أهمية الكتاب ، لأن قرارات الدولة ومهام الأمور بأيديهم ، ولا بد أن تتوفر فيهم الصفات الفاضلة من الأمانة والضبط، وعدم التهاون في أعمالهم ، وأن يكون اختبارهم وثيقا ، فلا يصح الاعتماد علي الفراسة ، وحسن الظن ، ولا علي ما يبدونه من الخدمات لجلب مودة الوالي ، فإن ذلك ليس له أي وزن في ترشيحهم لهذه الوظيفة المهمة ، فلابد أن يكون الاختبار وثيقا غير خاضع للرغبات الشخصية.

التجار وذوو الصناعات

يشكل القطاع من التجار وذوي الصناعات دورا مهما في إدارة الشؤون

ص: 170


1- الاستنامة : السكون والثقة.
2- بتصنعهم : بتكلفهم إجادة الصنعة.
3- أي اجعل لرئاسة كل دائرة من أعمالك رئيسا من الكتاب مقتدرا علي ضبط أمورك .
4- تغابيت : أي تغافلت .

الاقتصادية في البلاد، وقد أوصي الإمام عليه السلام برعايتهم والاهتمام بشؤونهم ، وهذا قوله عليه السلام:

«ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات ، وأوص بهم خيرا: المقيم منهم والمضطرب بماله (1)، والمترفق (2) ببدنه ، فإنهم مواد المنافع ، وأسباب المرافق (3)، وجلابها من المباعد والمطارح(4)، في برك وبحرك ، وسهلك وجبلك ، و لا يلتئم الناس لمواضعها(5) ، ولا يجترئون عليها ، فإنهم سلم(6) لا تخاف بائقته(7) ، وصلح لا تخشي غائله. وتفقذ أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك».

عرض الإمام عليه السلام إلي دور التجار في جلب ما يحتاج إليه الناس من المناطق البعيدة والأماكن النائية ليوفروا ما يحتاجون إليه من ضروريات الحياة ، والواجب علي الوالي رعايتهم وتسهيل أمورهم.

ص: 171


1- المضطرب بماله : المتردد به بين البلدان .
2- المترفق : المكتسب .
3- المرافق : ما ينتفع به من الأدوات والأنية .
4- المطارح : الأماكن البعيدة .
5- لا يلتئم الناس لمواضعها : أي لا يمكن التنام الناس واجتماعهم في مواضع تلك المرافق من تلك الأمكنة.
6- أنهم سلم : أي أن التجار والصناع مسالمون .
7- البائقة : الداهية .

مراقبة التجار

نظر الإمام عليه السلام بعمق إلي شؤون بعض التجار الذين يبلغ بهم الطمع إلي احتكار بعض السلع ومنعهم عنه ، وهذا قوله عليه السلام:

«واعلم - مع ذلك - أن في كثير منهم ضيقا (1) فاحشا، وشحا (2) قبيحا ، واحتكارا (3) للمنافع ، تحكما في البياعات ، وذلك باب مضرة للعامة ، وعيب علي الولاة. فامنع من الإحټكار ، فإن رسول الله - صلي عليه وآله وسلم - منع منه. وليين البيع بيعا سمحا بموازين عدل ، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع (4). فمن قارف(5) حكرة(6) بعد نهيك إياه فنكل به (7)، وعاقبه في غير إسراف (8)».

عرض الإمام عليه السلام إلي مراقبة السوق خشية من الاحتكار الذي يضر بالعامة ، وعلي الوالي أن يمنع المحتكر ، فإن أصر علي احتكاره فيعاقبه من غير إسراف ،

ص: 172


1- الضيق : عسر المعاملة .
2- الشح : البخل .
3- الاحتكار : حبس المطعوم ونحوه عن الناس لا يسمحون به إلا بأثمان فاحشة .
4- المبتاع - هنا - : المشتري .
5- قارف أي : خالط .
6- الحكرة - بالضم -: الاحتكار .
7- فنكل به : أي أوقع به النكال والعذاب ، عقوبة له .
8- في غير إسراف : أي من غير أن تجاوز حد العدل .

والاحتكار يؤدي إلي شل الحركة الاقتصادية في البلاد ، ويلقي الناس في ضائقة اقتصادية .

الطبقة السفلي

وليس في تاريخ الإسلام وغيره مثل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في اهتمامه بالفقراء ، فقد شاركهم في جشوبة العيش وخشونة الملبس ، فهو أبو الفقراء، وصديق المحرومين ، وملاذ البائسين ، وهذا نص حديثه في عهده عليه السلام:

«ثم الله الله في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسي(1) والزمني (2)، فإن في هذه الطبقة قانعا(3) معترا (4)، وحفظ لله ما استحفظك (5) من حقه فيهم ، واجعل لهم قسما من بيت مالك ، وقسما من غلات (6) صوافي الإسلام (7) في كل بلد ، فإن للأقصي منهم مثل الذي للادني ، و كل قد استرعيت حقه؛ فلا يشغلنك عنهم

ص: 173


1- البؤسي - بضم أوله - : شدة الفقر.
2- الزمني - بفتح أوله - : جمع زمين وهو المصاب بالزمانة - بفتح الزاي - أي العاهات ، يريد أرباب العاهة المانعة لهم عن الاكتساب .
3- القانع : السائل.
4- المعتر - بتشديد الراء - : المتعرض للعطاء بلا سؤال .
5- استحفظك : طلب منك حفظه.
6- غلات : ثمرات .
7- صوافي الاسلام : جمع صافية ، وهي أرض الغنيمة .

بطر ، فإنك لا تعذر بتضيييعك التافة لإحكامك الكثير المهم. فلا تشخص همك (1) عنهم، ولا تصعر خدك لهم (2)، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون(3)، وتحقره الرجال ؛ ففرغ لأولئك ثقتك(4) من أهل الخشبية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلي الله (5) يوم تلقاه ، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلي الإنصاف من غيرهم ، وكل أعذر إلي الله في تأدية حقه إليه».

أرأيتم هذا العطف والحنان علي الفقراء والضعفاء ، فقد احتضنهم الإمام عليه السلام وجعلهم من أهم مسؤولياته وواجباته.

إن رعاية الفقراء والبر بهم والإحسان إليهم عند الإمام عليه السلام جزء من رسالة الإسلام التي أكدت علي محو الفقر وإزالة شبحه ، ونشر السعة والرخاء بين المسلمين.

رعاية الأيتام والمتقدمين في السن

أكد الإمام عليه السلام في عهده علي ضرورة تفقد الأيتام والطاعنين في السن من الذين

ص: 174


1- لا تشخص همك : أي: لا تصرف اهتمامك عن ملاحظة شؤونهم.
2- صعر خده : أماله إعجابا وكبرا .
3- تقتحمة العين : تكره أن تنظر اليهاحتقارا وازدراء
4- فرغ لأولئك ثقتك : أي اجعل للبحث عنهم أشخاصا يتفرغون لمعرفة أحوالهم يكونون ممن تثق بهم.
5- بالاعذار إلي الله :أي بما يقدم لك عذرأ عنده .

لا حيلة لهم ، قال عليه السلام:

وتعتمد أهل اليتم وذوي الرقة في السن(1) ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه ، وذلك علي الولاة تقيل ، والحق كله ثقيل ؛ وقد يخففه الله علي أقوام طلبوا العاقبة فصروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم».

كان الإمام عليه السلام أبا عطوفا للأيتام ، وكان يجمعهم فيطعمهم العسل ، وكان شديد . العناية عليهم ، والرعاية لهم ، والعطف عليهم ، وكان من ذاتياته وعظيم أخلاقه .

وأثرت عنه وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام كوكبة من الأحاديث تحث علي رعاية اليتيم والبر به ، وتذكر ما أعد الله تعالي من الأجر الجزيل للقائم بذلك.

تفريغ وقت لذوي الحاجات

ومن بنود عهد الإمام عليه السلام أنه حث علي أن يجعل لذوي الحاجات وقتا لينظر فيها ، وهذا قوله عليه السلام:

«واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك ، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه و الذي خلقك ، وتقعد عنهم جندك(2) وأعوانك من أحراسك (3) وشرطك (4)، حتي

ص: 175


1- ذوو الرقة في السن : المتقدمون فيه .
2- تقعد عنهم جندك : تأمر بأن لا يتعرض لهم جندك .
3- الأحراس : جمع حرس - بالتحريك . وهو يحرس الحاكم من وصول المكروه .
4- الشرط - بضم ففتح -: طائفة من أعوان الحاكم ، وهم المعروفون بالضابطة ، واحدة شرطة - بضم فسكون ..

يكلمك متكلمهم غير متتعتع(1)، فاني سمعت رسول الله - صلي الله عليه وآله وسلم - يقول في غير موطن : «لن تقدس(2)أمة لا يوخذ للضعيف فيها حقه من التقوي غير متتعتع». ثم احتمل الخرق (3)منهم والعي(4)، ونح(5)عنهم الضيق (6) والأنف(7) يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمه (8)، ويوجب لك ثواب طاعته . وأعط ما أعطيت هنيئا (9)، وامنع في إجمال واعذار ! (10).

وكان من روائع عدل الإمام عليه السلام في أيام حكومته أنه عين وقتا للنظر في قضايا ذوي الحاجات ، فكان يأخذ بحق الضعيف من القوي وبحق المظلوم من الظالم ، وكذلك عهد إلي ولاته مثل ذلك ، وقد أمر عليه السلام في عهده بتنحية الشرطة والجنود حتي يتكلم ذو الحاجة غير متعتع ولا خائف ، وهذا منتهي العدل الذي أسسه رائد

ص: 176


1- التعتعة في الكلام : التردد فيه من عجز وعي ، والمراد غير خائف تعبيرا باللازم .
2- التقديس : التطهير ، أي لا يطهر الله أمة ...الخ.
3- الخرق - بالضم -: العنف ضد الرفق .
4- العي - بالكسر -: العجز عن النطق .
5- نح : فعل أمر من نحي ينحي ، أي ابعد عنهم .
6- الضيق : ضيق الصدر بسوء الخلق .
7- الأنف . محركة .: الاستنكاف والاستكبار .
8- أكناف الرحمة : أطرافها .
9- هنيئا : سهلا لا تخشنه باستكثاره والمن به .
10- امنع في إجمال وإعذار : وإذا منعت فامنع بلطف وتقديم عذر .

الحضارة والعدالة في الإسلام.

مباشرة الولاة لبعض الأمور

وكان من بنود عهد الإمام عليه السلام أن يتولي الولاة بعض القضايا بأنفسهم تحقيقا للعدل ، وهذا نص كلامه عليه السلام:

«ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها منها : إجابة عمالك بما يعيا عنه (1)كتابك ، ومنها إصدارحاجات الناس يوم ورودها عليك بما تخرج(2) به صدور أعوانيك . وامض لكل يوم عمله ، فإن كل يوم ما فيه . واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت ، وأجل تلك الأقسام ، وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النيه ، وسلمت منها الرعية».

حكي هذا المقطع أمورا يتعين علي الوالي القيام بنفسه في مباشرتها ، منها:

1- إجابة العمال فيما إذا عجز الكتاب عن القيام بها ، وهي إما أنها ترجع إلي الشؤون العامة أو إلي مصلحة العمال.

2- تنفيذ كل عمل من أعمال الدولة بنفس اليوم من دون تأخير، لأن التأخير يضر بالمصلحة العامة.

3- أن يخصص الوالي لنفسه وقتا للاتصال بالله تعالي .

ص: 177


1- يعيا : يعجز .
2- حرج يحرج - من باب تعب .: ضاق ، والأعوان تضيق صدورهم بتعجيل الحاجات ، ويحبون المماطلة في قضائها استجلابا للمنفعة ، أو إظهارا للجبروت .

هذه بعض النقاط في هذا المقطع .

إقامة الفرائض

وعهد الإمام عليه السلام لمالك رحمت الله عليه أن يقيم فرائض الله تعالي بإخلاص ، وإذا أقيمت صلاة الجماعة فعليه أن يلاحظ المصلين ، فلا يطيل في صلاته ، وإنما يصلي كما يصلي أضعف الناس ، وهذا حديث الإمام عليه السلام:

«ولكن في خاصه ما تخلص به لله ډينك : إقامة فرائضه التي هي له خاصه ، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك ، ووف ما تقربت به إلي الله من ذلك كاملا غير مثلوم(1)ولا منقوص ، بالغا من بدنك ما بلغ.

وإذا قمت في صلاتك للناس ، فلا تكونن منفرا ولا مضيعا (2)، فإن في الناس من به العله وله الحاجة. وقد سألت رسول الله - صلي الله عليه وآله وسلم - حين وجهني إلي اليمن كيف أصلي بهم ؟ فقال : «صل بهم كصلاة أضعفهم ، وكن بالمؤمنين حيما».

شملت تعاليم الإمام عليه السلام للولاة الحث علي الصلاة وكيفية أدائها جماعة ، ولم يعرض لذلك من ولي أمور المسلمين قبله وبعده.

ص: 178


1- غير مثلوم :أي غير مخدوش بشيء من التقصير ولا مخروق بالرياء.
2- لا تكونن منفرا ولا مضيعا : أي لا تطل الصلاة فتكره بها الناس ، ولا تضيع منها شيئا بالنقص في الأركان بل التوسط خير .

عدم الاحتجاب عن الرعية

وكان من وصايا الإمام عليه السلام لمالك رحمت الله عليه أن لا يحتجب عن الرعية ، وأن يكون علي اتصال دائم بهم ، فإن الاحتجاب له مضاعفاته السيئة التي تحدث عنها الإمام عليه السلام بقوله:

«وأما بعد، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك ، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق ، وقله ثم بالأمور ؛ والإحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم المميز ، ويقبح الحسن ، ويحسن القبيح ، ويشاب الحق بالباطل . وإما الوالي بشر لا يعرف ما تواري عنه الناس به من الأمور ، وليست علي الحق سمات(1)تعرف بها ضروب الصدق من الكذب ، وإنما أنت أحد رجليين : إما امرو سخت نفسك بالبذل في الحق ،ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه ، أو فعل كريم تسديه ، أو مبتلي بالمنع ، فما أسرع كف الناس عن مسالتك إذا أيسوا(2) من بذلك ! مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فييه عليك ، من شكاۃ(3) مظليمة ، أو طلب إنصاف في معاملة».

ص: 179


1- سمات : جمع سمة - بكسر ففتح - وهي العلامة .
2- أيسوا : قنطوا ويئسوا .
3- شكاة - بالفتح : شكاية .

حكي هذا المقطع ضرورة الانفتاح علي الشعب وعدم الاحتجاب عنه ، فإن الوالي الذي يترفع عن شعبه ، ويكون بمعزل عنهم يعود بالأضرار البالغة عليه ، والتي منها فتح أبواب المعارضة عليه ، ونقمة المجتمع منه ، وكراهيتهم لحكمه وسلطانه .

بطانة الوالي وخاصته

حذر الإمام عليه السلامرفي عهده من اتباع بعض الأشخاص الذين يتخذهم الوالي خاصة ، فإن فيهم تطاولا وقلة إنصاف ، وعليه أن يحسم شرورهم وأطماعهم ، ولا يقطعهم قطيعة أرض ، فيكون المهنأ لهم والوزر عليه ، وهذا كلامه عليه السلام:

«ثم إن الوالي خاصه وبطانه ، فيهم استئثار وتطاول ، وقله إنصاف في معاملة ، فاحسم(1) مادة أوليك يقطع أسباب تلك الأحوال . ولا تقطعن(2) لأحد من حاشيتك وحامتك (3)قطيعة ، ولا يطمعن منك في اعتقاد (4) عقدة ، تضر بمن يليها من الناس ، في شرب (5)أو عمل مشترك ، يحملون مؤونته علي غيرهم،

ص: 180


1- فاحسم : أي اقطع مادة شرورهم عن الناس بقطع أسباب تعديهم ، وإنما يكون بالأخذ علي أيديهم ومنعهم من التصرف في شؤون العامة.
2- الاقطاع : المنحة من الأرض . والقطيعة : الممنوح منها .
3- الحامة . كالطامة .: الخاصة والقرابة .
4- الاعتقاد : الامتلاك ، والعقدة - بالضم -: الضيعة ؛ واعتقاد الضيعة : اقتناؤها ، وإذا اقتنوا ضيعة فربما أضروا بمن يليها ، أي يقرب منها من الناس .
5- الشرب - بالكسر -: هو النصيب في الماء

فيكون مهنا(1) ذلك لهم دونك ، وبه عليك في الدنيا والآخرة».

لقد كان أمر الإمام عليه السلام حاسما في شؤون خاصة الولاة وبطانتهم، فقد سد عليهم جميع ألوان الطمع والتلاعب بأموال الدولة .

وأضاف الإمام عليه السلام بأمر الولاة باتباع الحق قائلا:

«وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد ، وكن في ذلك صابرا محتسبا ، واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه ، فإن مغبة(2) ذلك محمودة»

إن الحق هو النهج الواضح في سياسة الإمام عليه السلام وسيرته ، وليس للباطل أي التقاء به.

الرفق بالرعية

أكد الإمام عليه السلام في عهده علي الرفق بالرعية ومراعاة عواطفها ، وإذا ظنت به حيفا فعليه أن ينطلق إلي ساحتها ، ويقدم لها الاعتذار ، وهذا قوله عليه السلام:

وإن ظنت الرعيه بك حنيفا (3) فأصحر(4) لهم بعذرك ،

ص: 181


1- مهنا ذلك : منفعته الهنيئة .
2- المنية . كمحبة .: العاقبة .
3- حيفا :أي ظلما.
4- أصحز لهم بعذرك : أي أبرز لهم ، وبين عذرك فيه . وهو من الأصحار : الظهور ، وأصله البروز في الصحراء .

واعدل(1) عنك ظنونهم بإصحارك ، فإن في ذلك رياضة(2) منك لنفسك ، ورفقا برعيتك ، وإعذارة تبلغ به حاجتك من تقويمهم علي الحق».

حكي هذا المقطع مدي العمق في سياسة الإمام عليه السلام في وسائل ارتباط الحكومة مع الشعب ، وجعلهما جسدا واحدا.

الصلح مع العدو

إن الإسلام يدعو إلي السلم وتحريم سفك الدماء ، وإزالة جميع وسائل الخوف والارهاب ، وقد أكد الإمام عليه السلام علي ضرورة الاستجابة إلي الصلح إذا دعا إليه العدو ، وكان هذا صريحا في سياسته وأعماله وقوله عليه السلام.

ولا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضي ، فإن في الصلح دعه(3)لجنودك ، وراحه من همومك ، وأمنا لبلادك ، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل(4) فخذ بالحزم ، واتهم في ذلك حسن الظن . وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة ، أو البسته منك ذمه(5)، فحط

ص: 182


1- عدل الشيء عن نفسه :نحاه عنه .
2- رياضة : أي تعويدا لنفسك علي العدل .
3- الدعة . محركة : الراحة.
4- قارب ليتغقل : أي تقرب منك بالصلح ليلقي عليك عنه غفلة فيغدرك فيها .
5- أصل معني الذمة وجدان مودع في جبلة الإنسان ، ينبهه لرعاية حق ذوي الحقوق عليه ، ويدفعه لأداء ما يجب عليه منها ، ثم أطلقت علي معني العهد وجعل العهد لباسا لمشابهته له في الرقابة من الضرر .

عهدك (1) بالوفاء ، وارع ذمتك بالأمانة ، واجعل نفسك جنه(2) دون ما أعطيت ، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناش أشد عليه اجتماعا ، مع تفرق أهوائهم، وتشتت آرائهم ، من تنظيم الوفاء بالعهود . وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا(3) من عواقب الغدر؛ فلا تغدرن بذمتك ، ولا تخيسن بعهدك(4)، ولا تختلن (5)عدوك ، فإنه لا يجترئ علي الله إلا جاهل شقي . وقد جعل الله عهده ونذمته أمنا أفضاه(6) بين العباد برحمته، وحريما(7) يسكنون إلي منعته(8) ، ويستيضون إلي جواره(9)؛ فلا إدغال(10) ولا مدالسه(11) ولا خداع فيه ،

ص: 183


1- حط عهدك : امر من حاطه بحوطه بمعني حفظه وصانه .
2- الجنة - بالضم -: الوقاية ، أي حافظ علي ما أعطيت من العهد بروحك .
3- لما استوبلوا من عواقب الغدر : أي وجدوها وبيلة ، مهلكة .
4- خاس بعهده : خانه ونقضه .
5- الختل : الخداع.
6- أفضاه :- هنا -: بمعني أفشاه .
7- الحريم : ما حرم عليك أن تمسه .
8- المنعة - بالتحريك : ما تمتنع به من القوة .
9- يستفيضون أي : يفزعون اليه بسرعة .
10- الأدغال : الافساد .
11- المدالسة : الخيانة .

ولا تعقد عقدا تجؤز فيه الغلل(1)، ولا تعولن علي لحن قول (2) بعد التأكيد والتوثقة . ولا يدعونك ضيق أمر لزمك في عهد الله ، إلي طلب انفساخه بغير الحق ، فإن صبرك علي ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته ، خير من غدر تخاف تبعته وأن تحيط بك من الله فيه طلبة (3)، لا تستقبل فيها دنيا و آخرتك. »

حكي هذا الخطاب المناهج العسكرية ، وهذه شذرات منها :

أولا : إن الإمام عليه السلام أكد علي ضرورة قبول الصلح إذا دعا إليه العدو ، وذكر فوائده ، وهي:

1- إن فيه راحة للجيش لأنه يستريح من الجهد العسكري.

2- إن فيه راحة للوالي من الهموم التي تنشأ من العمليات العسكرية .

3- إن في الصلح أمنا للبلاد وعدم تعرضها للأزمات.

ثانيا : علي الوالي أن يراقب بيقظة العدو بعد الصلح خشية أن يكون ذلك تصنعا منه للكيد بالمسلمين.

ثالثا : إذا أبرم الوالي الصلح فعليه أن يحيط بنوده بالوفاء والأمانة ، ولا يخيس بأي شيء منه ، فإن الوفاء بالعهد والوعد من صميم الإسلام ، والغدر ونكث العهد

ص: 184


1- العلل : جمع علة ، وهي في النقد والكلام ، بمعني ما يصرفه عن وجهه ويحوله إلي غير المراد ، وذلك يطرأ علي الكلام عند إبهامه وعدم صراحته.
2- لحن القول : ما يقبل التوجيه كالتورية والتعريض .
3- أن تحيط بك من الله فيه طلبة :أي تأخذك بجميع أطرافك مطالبة الله إياك بحقه في الوفاءالذي غدرت به

يتجافي مع الإسلام ، فقد جعل الله تعالي الوفاء بالعهد حصنا وثيقا من حصونه ليس لأحد أن يقتحمه.

هذه بعض البنود في هذا المقطع .

حرمة سفك الدماء

أكد الإمام عليه السلام في عهده علي وجوب احترام الدماء، وحرمة سفكها بغير حق ، وهذا ما أعلنه الإمام عليه السلام:

«إياك والدماء وسفكها بغير حلها ، فإنه ليس شيء أدني لنقمة ، ولا أعظم لتبعة ، ولاأحري بزوال نعمة ، وانقطاع مدة ، من سفك الدماء بغير حقها. والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد ، فيما تسافكوا من الماء يوم القيامة ؛ فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام ، فإثر ذلك مما يضعفه وويوهنه ، بل يزيله وينقله. ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لأن فيه قود البدن(1). وإن ابتليت بخطا وأفرط عليك سوطك (2) أو سيفك أو يدك بالعقوبة ؛ فإن في الوكزة(3) فما فوقها مقتله ، فلا تطمحين بك(4)

ص: 185


1- القود - بالتحريك : القصاص ، وإضافته للبدن لأنه يقع عليه
2- أفرط عليك سوطك : عجل بما لم تكن تريده ، أردت تأديبا فأعقب قتلا.
3- الوكزة - بفتح فسكون -: الضربة بجمع الكف - بضم الجيم - أي قبضته ، وهي المعروفة باللكمة.
4- تطمحن بك : ترتفعن بك .

نخوه سلطانك عن أن تؤدي إلي أولياء المقتولي حقهم».

إلي سفك الدماء بغير حق من أعظم الجرائم ومن أفحش الموبقات في الإسلام ، فقد أعلن القرآن الكريم أن من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا، وإطلاق النفس شامل لجميع أصناف البشر من ذوي الأديان السماوية ، وغيرهم.

كما أعلن القرآن أن من قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه نار جهنم خالدا فيها .

وقد شدد الإمام عليه السلام في عهده علي ضرورة حفظ دماء المسلمين وحرمة سفكها ، وحذر أن يقوي سلطان ولاته بإراقة الدماء ، كما إن قتل العمد فيه القود وهو قتل القاتل ، كما ذكر دية المقتول خطأ ، وهو الدية ، وحذر أشد ما يكون التحذير من سفك الدماء.

الإعجاب بالنفس

وأوصي الإمام لا في عهده بأن لا يعجب الوالي بنفسه وولايته ، وأن لا يحب الاطراء ، وهذا حديثه عليه السلام:

«وَإِياكَ وَالْإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَهَ بِمَا يعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الْإِطْرَاءِ، فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيطَانِ فِي نَفْسِهِ لَيمْحَقَ مَا يكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الُمحسِنِينَ.

وَ إِياكَ وَ الْمَنَّ عَلَي رَعِيتِكَ بِإِحْسَانِكَ، أَوِ التَّزَيدَ (1)فِيما كَانَ مِنْ فِعْلِكَ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ، فَإِنَّ الْمَنَّ يبْطِلُ

ص: 186


1- التزيد . كالتقيد - : إظهار الزيادة في الأعمال عن الواقع منها في معرض الافتخار .

الْإِحْسَانَ، وَ التَّزَيدَ يذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ، وَ الْخُلْفَ يوجِبُ الْمَقْتَ(1)عِنْدَ اللَّهِ وَ النَّاسِ. قَالَ اللَّهُ تَعالي « كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ».

حكي هذا المقطع تحذير الإمام لواليه من أمرين ، وهما:

الأول : أن يمن علي رعيته بما يسديه من إحسان عليهم، فإن ذلك واجب عليه ، ولا مجال للتبجح بأداء الواجب.

والثاني : أن يعدهم بالإحسان ثم يخالف ما وعده ، فإن ذلك مما يوجب مقت الله تعالي و مقت الناس.

العجلة في الأمور

حذر الإمام عليه السلام من العجلة بالأمور قبل أوانها ، فإن ذلك مما لا يليق بالوالي ، وهذا حديثه عليه السلام :

«وَايّاكَ والعَجَلَهَ بالأُمُورِ قَبلَ اَوانِها ، اَوِ التَّسَقُّطَ (2) [التساقط - التثبط ] فيها عندَ اِمكانِها ، اَوِ اللَّجاجَهَ فيها اِذا تَنكَّرَتْ،(3)، اَوِ الوَهْنَ(4)عَنها اِذا اسْتَوضَحَتْ، فَضَعْ كُلَّ اَمْرٍ مَوضِعَهُ وَاَوقِعْ كُلَّ اَمْرٍ مَوقِعَهُ.»

ص: 187


1- المقت : البغض والسخط .
2- التسقط : من قولهم « تسقط في الخبر يتسقط » إذا أخذه قليلا ، يريد به هنا: التهاون .
3- اللجاجة : الاصرار علي النزاع. و تنكرت : لم يعرف وجه الصواب فيه .
4- الوهن : الضعف .

لقد أوصي الإمام عليه السلام بعهده أن يضع الوالي كل شيء من أموره الاجتماعية أو السياسية في موضعه من دون عجلة ، فإنها تهبط بمستوي الوالي شعبيا ، فإنه ينم عن عدم توازنه في سلوكه .

الاستئثار

حذر الإمام عليه السلام الوالي من الاستئثار بما فيه الناس سواء ، ولنستمع إلي قوله عليه السلام:

«وإياك والإستئثار(1) بما الناس فيه أسوه(2)، والتغابي(3) عما تعني به مما قد وضح للعيون ، فإنه مأخوة منك لغيرك . وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور ، وينتصف منك للمظلوم. املك حمية أنفك(4)، وسورة(5) حدك(6)، وسطوة يدك ، وغرب (7) لسانك ، واحترس من كل ذلك بك البادرة (8)، وتأخير السطوة ، حتي يسكن غضبك فتملك الإختيار؛ ولن تخم ذلك من نفسك حتي تكثر همومك بذكر المعاد

ص: 188


1- الاستئثار : تخصيص النفس بزيادة .
2- الناس فيه أسوة :أي متساوون .
3- التغابي : التغافل .
4- يقال : فلان حمي الأنف : إذا كان أبيا يأنف الضيم .
5- السورة - بفتح السين وسكون الواو - : الجدة .
6- الحدة - بالفتح : البأس .
7- الغرب - بفتح فسكون - : الحد تشبيها له بحد السيف ونحوه .
8- البادرة : ما يبدو من اللسان عند الغضب من سباب ونحوه.

إلي ربك ».

لقد عهد الإمامة عليه السلام إلي واليه التحلي بمكارم الأخلاق ، ومحاسن الصفات ، وليس له أدبيا أن يستأثر بما الناس فيه سواء ، وإنما عليه أن يتركه لهم لينظروا إلي نزاهة الحكم، وشرف الوالي. لقد أوصاه الإمام عليه السلام بكل فضيلة تخلد له الذكر الحسن ، وتكون له وسام شرف.

الاقتداء بالحكومات العادلة

وختم الإمام حديثه في عهده لمالك الأشتر رضي عنه الله بهذه الوصية القيمة التي يسمو بها إلي أرقي درجات الكمال ، قائلا

«وَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَي لِمَنْ تَقَدَّمَكَ مِنْ حُكُومَة عَادِلَة، أَوْ سُنَّة فَاضِلَة، أَوْ أَثَر عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّي اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أَوْ فَرِيضَة فِي كِتَابِ اللهِ، فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا، وَتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عَهْدِي هَذَا، وَاسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ، لِكَيْلاَ تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَي هَوَاهَا. وَأَنَا أَسْأَلُ اللهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَي إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَة، أَنْ يُوَفِّقَنِي وَإِيَّاكَ لِمَا فِيهِ رِضَاهُ مِنَ الاِقَامَةِ عَلَي الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْهِ وَ إِلَي خَلْقِهِ، مَعَ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِي الْعِبَادِ، وَجَمِيلِ الاَْثَرِ فِي الْبِلاَدِ، وَتَمَامِ النِّعْمَةِ وَتَضْعِيفِ الْكَرَامَةِ، وَأَنْ يَخْتِمَ لِي وَ لَكَ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّهَادَةِ، إِنّا «إِلَيْهِ

ص: 189

راجِعُونَ.

وَالسَّلاَمُ عَلَي رَسُولِ اللهِ صَلَّي اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً؛ وَالسَّلاَمُ.»(1).

وانتهي هذا العهد الذي يمثل العدل في السياسة والحكم بجميع رحابه ومكوناته ، وهو من ذخائر ما خلفته الإنسانية من تراث عالج فيه قضايا الحكم والإدارة بمنتهي الحكمة والدقة ، في وقت لم يكن المسلمون وغيرهم يعرفون هذه الأنظمة الخلاقة ، وهي جزء من مواهب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وعبقرياته التي لا تحد ، وحسبه علؤا أنه وصي رسول الله صلي الله عليه و آله وباب مدينة علمه ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسي عليه السلام.

وقد فرغت من تأليف هذا الكتاب في الساعة الواحدة صباحا في الثاني والعشرين من شهر صفر سنة 1437 ه، وصحتي في حال لا يحمد ، سائلا منه تعالي القبول ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .

الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمين

وَ صَلَّي اللَّهُ عَلَي مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّاهِرِين

ص: 190


1- نهج البلاغ : 61:3 - 83.

مصادر الكتاب

القرآن الكريم

1- الأحكام السلطانية : الماوردي

علي بن محمد ( 364 - 450ه)، دار إحياء التراث العربي - بيروت /1992م.

2- أخبار القضاة:

محمد بن خلف (وكيع ، عالم الكتب - بيروت .

3- الإسلام وأصول الحكم :

علي عبدالرزاق .

4 - الأمالي : شيخ الطائفة

أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ( 385 - 460ه)، تحقيق : قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة ، الناشر : نشر دار الثقافة -

قم المقدسة ، الطبعة الأولي /1414ه.

.. الأمالي : الشيخ الصدوق

أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسي بن بابويه القمي (311۔ 381ه) : تحقيق ونشر : قسم الدراسات الإسلامية ، مؤسسة البعثة -

قم المقدسة ، الطبعة الأولي /1417ه

- الإمامة والسياسة : ابن قتيبة .

عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (213 - 276ه) ، دار إحياء التراث

ص: 191

العربي - بيروت /1985م.

7- الأموال : القاسم بن سلام

أبو عبيد ( 226ه)، تحقيق : محمد خليل هراس . دار الفكر للطباعة والنشر - بيروت 1408ھ / 1988م.

8- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار: العلامة المجلسي

محمدباقر بن محمد تقي ( 1037- 1111ھ) ، الناشر : دار الرضا۔

بيروت / 1988م. 9 - البداية والنهاية في التاريخ: اين كثير

الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي (700 - 5776) ، تحقيق : أحمد عبدالوهاب ، دار الحديث - القاهرة ، الطبعة الخامسة

1618ھ / 1998م (14 جزءا في 7 مجلدات + مجلد الفهارس ).

10- تاريخ اليعقوبي : اليعقوبي

أحمد بن إسحاق ( 5278)، دار صادر - بيروت /1989م.

11 - تاريخ بغداد أو مدينة السلام : الخطيب البغدادي

أبو بكر أحمد بن علي (392 - 463ه)، دراسة وتحقيق : مصطفي عبد القادر عطا ، دار الكتب العلمية - بيروت ، الطبعة الأولي 1417ه /1997م ( 14 مجلدا + مجلد الفهارس ).

12 - تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر

الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبدالله الشافعي (499 ۔ 571ه)، تحقيق : علي شيري ، الناشر : دار الفكر - بيروت 1415ه /

1995م، ( 70 مجلدا).

13- تحف العقول عن آل الرسول : ابن شعبة

أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني ( من أعلام

ص: 192

القرن الرابع ) ، دار الشريف الرضي - قم المقدسة /1421ه

14 - جامع السعادات: النراقي

محمد مهدي بن أبي ذر ( 1128 - 1209ه) تعليق : السيد محمد كلانتر ، الناشر : مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت ، الطبعة السابعة

1422 /2002م.

15- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء : أبو نعيم الأصفهاني

الحافظ أحمد بن عبدالله (336 - 430ھ)، دار الكتاب - بيروت /1980م.

16 - خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب : البغدادي

عبدالقادر بن عمر (1030 - 1093ه) : دار صادر - بيروت ، الطبعة الأولي .

17- ربيع الأبرار ونصوص الأخبار: الزمخشري

محمود بن عمر ( 467 - 538ھ) ، دار الذخائر - قم المقدسة /1410ه.

18 - السنن الكبري : البيهقي

أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي (386 - 458ه)، دار الباز - مكة المكرمة /1414ه.

19 - شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد

عز الدين أبي حامد عبدالحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين المدائني المعتزلي (586 - 655ه)، قدم له وعلق عليه : الشيخ حسين الأعلمي ، الناشر : مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت ، الطبعة الأولي / 1410ه - 1995م.

20- صبح الأعشي : القلقشندي

أحمد بن علي بن أحمد ( 821ه)، المطبعة الأميرية - القاهرة /1913۔

ص: 193

21- صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان : محمد بن حبان

الحافظ علاء الدين محمد بن حبان بن أحمد بن حبان أبو حاتم التميمي السبتي السجستاني التميمي (ت 354ه)، قام بترتيبه علاء الدين علي بن بلبان الفارسي ( 739ه)، تحقيق : شعيب الأرنؤوط ، مؤسسة الرسالة - بيروت ، الطبعة الأولي 1418ه / 1997م (17 مجلدا + مجلد الفهارس ).

22 - صحيح البخاري: البخاري

أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة البخاري الجعفي ( 194- 256ه)، ضبطه ورقمه : الدكتور مصطفي ديب البغا ، دار ابن كثير - دمشق ودار اليمامة - دمشق. الطبعة الخامسة 1414ه / 1993م (1 مجلدات + مجلد الفهارس ).

23 - صحيح الترمذي : الترمذي

الحافظ أبو عيسي محمد بن عيسي بن سورة ( 209- 279ه) ، تحقيق : عبدالوهاب عبداللطيف ، الناشر : دار الفكر - بيروت /1403ه.

24 - الصراط المستقيم إلي مستحقي التقديم: زين الدين العاملي

أبو محمد علي بن يونس النباطي البياضي (ت 877 ه) ، نشر المكتبة المرتضوية - طهران /1384ه.

25 - الطبقات الكبري: ابن سعد الواقدي

محمد بن سعد بن منيع الهاشمي البصري ( 168- 230ه)، تحقيق : محمد عبد القادر عطا ، دار الكتب العلمية - بيروت ، الطبعة الأولي

1410 / 1990م ( 8 مجلدات + مجلد الفهارس ).

26 - العقد الفريد: ابن عبدربه

ص: 194

أبو عمر أحمد بن محمد الأندلسي (246 - 5328)، دار إحياء التراث العربي - بيروت /1989م.

27 - عيون الأخبار: ابن قتيبة الدينوري

عبدالله بن مسلم (276)، المؤسسة المصرية للتأليف والترجمة والنشر /1383ه.

28 - الغارات: الثقفي الكوفي

إبراهيم بن محمد (283ه) ، الثقفي ، تحقيق : السيد عبد الزهرة الحسيني ، الناشر : دار الأضواء - بيروت ، الطبعة الأولي /1407ه - 1987م.

29 - فتح الباري شرح صحيح البخاري : ابن حجر العسقلاني

الحافظ أحمد بن علي ( 852ه)، تحقيق : عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ، دار الفكر - بيروت ، الطبعة الأولي 1414ھ / 1993م ( 15 مجلدا + مجلدا المقدمة والخاتمة).

30 - فيض القدير شرح الجامع الصغير : المناوي

محمد عبدالرؤوف (952 - 1031ه)، دار الفكر - بيروت / 1423ه.

31 - الكافي : الكليني

ثقة الإسلام الشيخ أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الرازي ( 328 أو 329ه) ، الناشر : مؤسسة الأعلمي - بيروت ، الطبعة الأولي /1429ه. 2005م.

32 - كتاب صفين : نصر بن مزاحم

المنقري ( - 212ه)، مكتبة المرعشي - قم المقدسة / 1418ه.

33 - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال : المتقي الهندي

علاء الدين علي بن حسام الدين البرهان ( 888 - 970ه)، مؤسسة

ص: 195

الرسالة - بيروت /1993م.

34 - مجمع البحرين : الطريحي

فخر الدين محمد بن علي ( 1085ه)، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية ، مؤسسة البعثة - طهران ، الطبعة الأولي /1414ه (3 مجلدات ).

35 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: الهيثمي

الحافظ نورالدين علي بن أبي بكر ( 735 - 807ه) : الناشر دار الكتب العلمية - بيروت / 1408 - 1988م.

36 - محاكمة في القضاء : الهمداني .

حسين الحسيني ، قم المقدسة 1397ه.

37 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل : المحدث النوري

الحاج الميرزا حسين بن محمد تقي بن علي بن تقي الطبرسي ( 1256 - 1320ه) ، نشر و تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث -

قم المقدسة ، الطبعة الأولي /1408ه.

38 - مكارم الأخلاق : الطبرسي

رضي الدين أبو نصر الحسن بن الفضل ( 548ه)، مؤسسة النشر الإسلامي - قم المقدسة /1416ه.

39 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق

أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (311- 1381)، الناشر : مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، الطبعة الأولي 1426ه / 2005م.

40 - نظام الحكم والإدارة في الإسلام: القرشي

باقر شريف، مطبعة الآداب - النجف الأشرف ، الطبعة الأولي /

ص: 196

1966م.

41 - النظم الإسلامية :

حسن إبراهيم حسن وعلي إبراهيم حسن ، لجنة التأليف - القاهرة ، الطبعة الأولي /1929م.

42. نهج البلاغة : مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين عليه السلام.

تحقيق د. صبحي الصالح ، دار الأسوة التابع لمنظمة الأوقاف- طهران ، الطبعة الثانية /1418ه

43 - نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة : المحمودي

الشيخ محمد باقر ، وزارة الثقافة طهران /1412ه.

44 - وسائل الشيعة : الحر العاملي

محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن الحسين (ت11104)، مؤسسة آل البيت عليهم السلام ، قم المقدسة - الطبعة الثانية /1414ه.

45 - ينابيع المودة لذوي القربي : القندوزي

سليمان بن إبراهيم الحنفي (ت 1294ه) : تحقيق: السيد علي جمال أشرف الحسيني ، الناشر دار أسوة - قم المقدسة ، الطبعة الأولي /1416ه.

ص: 197

ص: 198

محتويات الكتاب

كلمة المحقق...7

تقديم...9

الدولة

الدولة الإسلامية...18

أهمية الحكم عند الإمام عليه السلام... 20

الأسباب في صراحة الإمام عليه السلام...24

أجهزة الدولة...25

أولا : رئيس الدولة...25

أوصافه...26

حديث مهم للإمام الرضاع عليه السلام في الإمامة...29

مسؤوليات رئيس الدولة...35

طاعة الإمام...40

ثانيا : الوزارة...41

الاتصال بالطبقات الشريفة...42

ثالثا : المستشارون...45

الابتعاد عن بعض الأصناف...46

ص: 199

اختيار الحكام...47

تكريم الحكام المخلصين...47

رابعا : العمال...48

مراقبة العمال...50

إرضاء العامة...50

الرعية طبقات...51

1. الجنود....52

2. القضاة والعمال والكتاب...53

3- أهل الحاجة والمسكنة...54

الإمام عليه السلام مع القضاة

أهمية القضاء...57

مع القضاة...58

مسؤوليات رئيس الدولة مع القضاة...60

أنواع القضاء...60

شروط القضاة ...61

1. الذكورة...61

2. البلوغ...62

3. العدالة...62

ص: 200

4. الإسلام...62

ه- الاجتهاد...62

آداب القضاء...63

راتب القاضي ...64

عزل القاضي...65

الإمام عليه السلام مع الولاة

أهمية الولاة...69

1. خطر الإمارة...69

انتخاب الولاة وتعيينهم...72

2۔ عقاب السلطان الجائر...73

3- التباعد عن السلطان الجزائر...73

إمارة السفهاء...74

عشاق السلطة...74

واجبات الولاة...75

تعاليم وأحكام...76

بطانة الولاة...94

ولاية المظالم...95

عمال الخراج والصدقات...96

ص: 201

حسن الظن بالرعية...99

تأنيب الولاة وعزلهم...100

مع عثمان بن حنيف...102

مع الأشعث بن قيس...104

حق الوالي علي الرعية وحقها عليه...105

السياسة الاقتصادية الحكومة الإمام عليه السلام

توزيعه عليه السلام المال...109

المساواة في العطاء...110

احتياطه عليه السلام في أموال الدولة...112

مع أخيه عقيل...112

2- مع الحسن والحسين عليها السلام...113

3. مع عبد الله بن جعفر...113

مع جباة الصدقات...113

من وصاياه عليه السلام لعماله...117

مع عمال الصدقات...118

من وصاياه عليه السلام الخالدة لعمال الصدقة...119

القطاع الزراعي...123

ص: 202

أهمية الخراج...123

1- تفقد الخراج...125

2- عمارة الأرض ...125

3- إهمال الأرض...125

4- الاستجابة لطلبات المزارعين...125

5- سبب خراب الأرض...126

التعاليم السامية لعمال الخراج...126

الرقابة علي السوق...128

مع التجار...128

مع القصابين...129

في سوق الإبل...129

عدم شرائه عليه السلام ممن يعرفه...129

الاهتمام بالفقراء...129

السياسة الداخلية الحكومة الإمام عليه السلام

المساواة...133

أولا : المساواة في العطاء...133

ثانيا : المساواة أمام القانون...133

ص: 203

ثالثا : المساواة في الحقوق والواجبات... 134

رابعا : المساواة بين المراجعين...134

الحرية...135

الحرية السياسية...135

1. حرية القول...136

2- حرية التنقل...137

3- حرية النقد...137

الشرطة...138

شرطة الخميس...139

إحداثه عليه السلام للسجن...139

انشاؤها عليه السلام بيتا للمظالم...140

أمره عليه السلام بكتابة الحوائج...140

إلغاء المهرجانات الشعبية...140

حرقه عليه السلام لمحلات الخمر...141

نهيه عليه السلام عن الجلوس في الطريق...141

عهد الإمام المالك الأشتر

تطلع الرعية إلي عدل الولاة...145

الرحمة بالرعية...146

إنصاف الناس...149

ص: 204

محتويات الكتاب...205

إرضاء العامة...150

إبعاد الساعين لمعائب الناس...151

الابتعاد عن بعض الأشخاص...152

اقصاء الوزراء في الحكومات السابقة...153

الاتصال بالعلماء...154

الاتصال بالأشراف والصالحين...155

تكريم المخلصين من الجند...159

اختيار الحكام...161

العمال...164

الخراج...166

عمران الأرض...166

وصيته عليه السلام بالمزارعين...167

الكتاب...169

التجار وذوو الصناعات...170

مراقبة التجار...172

الطبقة السفلي...173

رعاية الأيتام والمتقدمين في السن...174

تفريغ وقت لذوي الحاجات...175

مباشرة الولاة لبعض الأمور...177

إقامة الفرائض...178

عدم الاحتجاب عن الرعية...179

بطانة الوالي وخاصته...180

ص: 205

الرفق بالرعية...181

الصلح مع العدو...182

حرمة سفك الدماء...185

الاعجاب بالنفس...186

العجلة في الامور...187

الاستئثار...188

الاقتداء بالحكومات العادلة...189

مصادر الكتاب...191

محتويات الكتاب... 199

ص: 206

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.