بحوث تحليلية في قاعدة التسامح الفقهية

اشارة

سرشناسه : محرابي، محمدامين، 1374 -

عنوان ونام پديدآور : بحوث تحليلية في قاعدة التسامح الفقهية/ مولف محمدامين محرابي.

مشخصات نشر : قم: مركز نشر كتاب، 1397.

مشخصات ظاهري : 232 ص.

شابك : 978-622-6122-13-9

وضعيت فهرست نويسي: فيپا

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس.

موضوع : قاعده تسامح در ادله سنن

موضوع :Tasamohdaradallehsonan formula (Islamic law)*

موضوع : فقه -- قواعد

موضوع : Islamic law -- *Formulae

رده بندي كنگر : BP169/52/ت5م31397

رده بندي ديويي : 297/324

شماره كتابشناسي ملي : 5270418

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

ص: 3

بحوث تحليلية في قاعدة التسامح الفقهية

تأليف: محمد أمين المحرابي

ص: 4

الفهرس

مقدّمة 13

بحوثٌ عامةٌ (المبادي التصوريّة والتصديقيّة) 15

تاريخ البحث عن القواعد الفقهية بشكل عام 17

عوامل تطوير وتدوين القواعد الفقهية 25

موانع تطوير وتدوين القواعد الفقهية 26

فوائد دراسة القواعد الفقهيّة 29

تقسيم القواعد الفقهية 31

مصادر القواعد الفقهية 36

عدد القواعد الفقهية 38

الفرق بين القواعد الأصولية والفقهية 40

الفرق بين القواعد الفقهية ومسائلها 50

أربع مسائل في بعض شؤون القاعدة و عنوانها 51

تاريخ البحث عن قاعدة التسامح 53

مظاهر التسامح و أقسامه 56

شرح الموضوع وهو التسامح في أدلة السنن 61

عنوان التسامح قيد احترازي 63

أدلّة قاعدة التسامح 67

الوجه الأول: الإجماع والشهرة علي القاعدة 69

الوجه الثاني: دلالة العقل 72

بحث في دلالة العقل 77

ص: 5

الوجه الثالث: السيرة المتشرعيّة 87

الوجه الرابع: أخبار من بلغ 88

تنبيهات و فوائد 97

التنبيه الأول: إخباريّة دلالة الأخبار الشريفة 99

التنبيه الثاني: التسامح في أدلة المندوبات يساوق التسامح في المدلول 100

التنبيه الثالث: عدم ثبوت التسامح في الاستحباب الشرعي 102

التنبيه الرابع: نفي التعارض بين الأخبار وعدم ثبوت الندب الشرعي 106

التنبيه الخامس: استدلال القائلين بالاستحباب الشرعي 108

التنبيه السادس: عدم حجية الخبر الضعيف بواسطة أخبار من بلغ 111

نظريّة المحقق الإصفهاني(قدس سره) في مفاد أخبار القاعدة 112

التنبيه السابع: نظريّة الانحلال الخطابي و جريانها في المقام 113

التنبيه الثامن: شمول أخبار من بلغ وقاعدة التسامح لفتوي الفقيه والشهرة والإجماع المنقول 116

التنبيه التاسع: شمول أدلة قاعدة التسامح للواجب 120

التنبيه العاشر: جريان القاعدة في المكروه والحرام 122

تنبيه نافع 125

التنبيه الأحد عشر: التسامح من الأحكام الثانوية 144

التنبيه الثاني عشر: تعلق الثواب والأجر بالعنوان أو المعنون 147

التنبيه الثالث عشر: اعتبار قاعدة التسامح في أدلة السنن يدلّنا علي عدم تكليفنا بالأوامر الواقعية الأولية 148التنبيه الرابع عشر: مبحث تعارض قاعدة التسامح بمصاديقها المتعددة 151

التنبيه الخامس عشر: حكمة جعل هذه القاعدة الفقهية 157

التنبيه السادس عشر: الاستناد إلي قاعدة التسامح في الفضائل الأخلاقية 160

التنبيه السابع عشر: تعيين موضوع الحكم بجريان القاعدة 162

ص: 6

التنبيه الثامن عشر: التمسك بقاعدة التسامح في أخبار الحوادث الواقعة علي النّبي وعترته المعصومين(عليهم السلام) 163

التنبيه التاسع عشر: توقف الأخذ بهذه القاعدة علي تسليم وجود روايات ضعيفة وأسباب غير معتبرة 167

التنبيه العشرون: تكملة في مقدار سعة الموضوعات والمصاديق للقاعدة 168

التنبيه الواحد و العشرون: إجراء القاعدة بالنسبة إلي ما ورد من أخبار أهل الخلاف 169

التنبيه الثاني و العشرون: جواز الإفتاء فيما إذا احتمل الفقيه ندباً أو كراهة أو غيرهما بناء علي التوسعة في الأسباب والمسبّبات 171

التنبيه الثالث و العشرون: إجراء المقلّد قاعدة التسامح في أدلّة السنن بنفسه 174

التنبيه الرابع و العشرون: إجمال المحتمل للندبية والكراهية وغيرهما مفهوماً ومصداقاً 176

التنبيه الخامس و العشرون: ترك الالتزام بقاعدة التسامح لا يساوق دائماً معني التجري علي الشارع 178

التنبيه السادس و العشرون: جريان الإطلاق والتقييد في مصاديق القاعدة 179

التنبيه السابع و العشرون: الاستحباب والكراهة الثابتان بهذه القاعدة ليسا كالمستحب والمندوب الثابتين بالأدلة المعتبرة 181

التنبيه الثامن و العشرون: قاعدة التسامح في أفضلية مندوب من آخر ومكروه من مكروه آخر 182

التنبيه التاسع و العشرون: نسبة القاعدة مع الأخبار المضمرة والمرسلة 183

التنبيه الثلاثون: قاعدة التسامح في أدلة السنن علي مذهب الأخباريين 184

ص: 7

التنبيه الواحد و الثلاثون: قاعدة التسامح في أدلة السنن عند أهل السنة 186

التنبيه الثاني و الثلاثون: جريان قاعدة التسامح في حقوق الناس 189

التنبيه الثالث و الثلاثون: نسبة الأصول العملية مع قاعدة التسامح في أدلّة السنن 190

التنبيه الرابع و الثلاثون: وجه تخصيص القاعدة بالسنن والمندوبات في كلمات الأعلام 191

التنبيه الخامس و الثلاثون: إشكال علي الحسن العقلي في قاعدة التسامح 193

التنبيه السادس و الثلاثون: اتيان المندوب بقاعدة التسامح في الصلاة وحكم أقسام هذا التصور 196

التنبيه السابع و الثلاثون: انتفاء وجود دليل روائي في مورد قاعدة التسامح في أدلة السنن 198

التنبيه الثامن و الثلاثون: تأثيرات القاعدة في الآثار الفردية وغيرها 200

التنبيه التاسع و الثلاثون: نسبة قاعدة التسامح مع القواعد الّتي لوحظ فيها جانب التيسير ورفع التكاليف الشاقة كقاعدة لا ضرر ورفع العسر والحرج 204

تطبيقات عملية لقاعدة التسامح 205

فهرس المصادر 219

فهرس الآيات القرآنية 226

فهرس الروايات الشريفة 228

فهرس الاصطلاحات 230

ص: 8

الصورة

ص: 9

الصورة

ص: 10

آثار المؤلّف:

1_ منهج التحقيق في الاجتهاد والتقليد، (شرح وحاشية علي العروة الوثقي) - (مجلّدان)

2_منهج التحقيق في مبادئ الطب والأخلاق

3_نهج الوصول إلي مسائل الأصول

4_ الغاية القصوي في الحواشي علي العروة الوثقي - (أربعة مجلّدات)

5_ تحليل الأنظار في لا ضرر ولا ضرار (تقريراً لبحوث آية الله السيّد عادل العلوي)

6_منهج التقرير في مباحث الأصول (تقريراً لبحوث آية الله السيّد علي المحقّق الداماد)

7_العدالة في الفقه الإسلامي والشرع المبين8_منهج التحقيق في تفسير القرآن الكريم

9_ بحوث تحليلية في قاعدة التسامح الفقهية

10_منهج التحقيق في المسائل الاعتقادية

11_مختصر النحو

12-المباني في الرجال

13- العوائد في حجية خبر الواحد

14- البيّنة في الفقه الاستدلالي

ص: 11

الإهداء

إلي خير خلق الله محمّد بن عبدالله الصادق الأمين(صلي الله عليه وآله)

إلي سيّد الوصيّين وعمود الدّين أميرالمؤمنين علي بن أبيطالب(عليه السلام)

إلي سيّدة نساء العالمين بضعة النبي الكريم فاطمة الزهراء؟عها؟

إلي سبط الرّسول، الزّكي الحسن بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)

إلي سيّد الشهداء أبي الأحرار الحسين بن علي بن أبيطالب(عليه السلام)

إلي هؤلاء القادة أقدّم كتابي هذا هديّة آملاً شفاعتهم يوم القيامة.

ص: 12

مقدّمة

بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم

الحمدللّه ربّ العالمين والصلاة علي رسوله المصطفي محمّد وآله الميامين سيّما بقيّة اللّه إمام زماننا الحجة بن الحسن المهدي عجّل الله فرجه الموفور بالفرج والسرور.

الرسالة الّتي بين يديك عزيزي القارئ اانّما هي باحثة عن ااحدي القواعد الفقهية المشهورة المتداولة في ألسنة الفقهاء العظام قديماً وحديثاً وهي قاعدة التسامح في أدلة السنن المندوبة والمستحبّات الّتي يترقّب عليها الثواب الأخروي.

فنحن في هذه الفرصة المغتنمة نشير أيضاً بإشارة تفصيلية االي الوجوه الّتي يقال إنّها تصلح لبيان الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية ونذكر ما فيها من النقض أو الإبرام ث-مَّ ندخل في أصل البحث الذي صغنا لأجله هذا الأثر وهو التسامح الذي يقال به لظاهر الأخبار في أمر المندوبات وانّه هل يقبل هذا التسامح بأن يكون صرف العمل بمندوب علي انه ورد فيه خبر دالّ علي الثواب عليه كافياً ولو لم نفحص عن سنده بدليل أخبار التسامح أم لا؟ ينبغي الالتفات إلي أنّ من ميّزات هذا الكتاب هو تفصيله الكامل للتحقيق عن جميع جوانب البحث عن هذه القاعدة الشريفة بما يقلّ نظيره لمن

ص: 13

كان أهل الفحص والتتبع في كتب القواعد الفقهية، مع أنّ كثيراً من مباحثه قد درّسناها في بحوث خارجنا فقهاً وأصولاً واكتسب بذلك مرتبة خاصّة من التعميق الاجتهادي.

ختاماً يهدي هذا الأثر والخطوة اليسيرة في سبيل الخدمة لأهل العلم إلي صاحب العصر والزمان وليّ العصر الحجّة بن الحسن عليه آلاف التحية والثناء.

محمد أمين المحرابي

01/10/1439ه- .ق

25/03/1397 ه- .ش

ص: 14

بحوثٌ عامةٌ (المبادي التصوريّة والتصديقيّة)

اشارة

ص: 15

ص: 16

تاريخ البحث عن القواعد الفقهية بشكل عام

يمكن أن يقسّم تاريخ القواعد الفقهية إلي دورين أساسيّين:

الدور الأوّل: دور التأسيس

لقد كانت البذرة الأولي للقواعد الفقهيّة في عصر المعصومين(عليهم السلام)، فإنّ القرآن الكريم يشتمل علي بعض القواعد الفقهيّة، كقاعدة «لاحرج» التي نصّ عليها بقوله تعالي: «وَمَا جَعَلَ عَلَيكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»(1)، وقاعدة اللزوم التي نصّ عليها بقوله تعالي: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2)؛ كما أنّ النبيّ الأعظم(صلي الله عليه وآله) الذي أنطقه الله بجوامع الكلم كانت أحاديثه الشريفة مشتملة علي كثير من القواعد الفقهيّة الّتي تنطوي تحتها فروع كثيرة، كقاعدة «الخراج بالضمان» وقاعدة «علي اليد ما أخذت» وقاعدة «العجماء جُبار» وقاعدة «الراهن والمرتهن ممنوعان».

و اشتدّ الأمر في تخريج القواعد الفقهيّة وتعليمها في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، بحيث صار تفريع الفروع علي الأصول المسموعة عنهم والقواعد الكليّة المأخوذة عنهم أصلاً محكماً، كما روي عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله(عليه السلام)، قال: «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا»(3)، وعن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن الرضا(عليه السلام)، قال: «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع»(4).

ص: 17


1- 1.. الحجّ، 78.
2- 2.. المائدة، 1.
3- 3.. وسائل الشيعة، ج18، ص 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 51 و52.
4- 4.. المصدر.

و عليه فالقواعد الفقهيّة كانت موجودةً في عصر الرسالة و زمن المعصومين(عليهم السلام)، ولكنّها كانت متناثرة لاتعرف بأنّها قواعد مدوّنة.

الدور الثاني: دور التدوين والتصنيف دور التدوين في مدرسة فقهاء العامّة يختلف عن دوره في مدرسة فقهاء الإماميّة.

لمّا اضمحلّ الاجتهاد وظهر التقليد بين العامّة من المسلمين بدأ كلّ أناس بدراسة مذهبهم واستخراج القواعد الفقهيّة ولم تظهر القواعد الفقهيّة بعدُ علماً مستقلاً إلّا في القرن الرابع الهجري.

يشهد التاريخ(1) أنّ أوّل من أقدم علي جمعٍ للقواعد الفقهيّة بصيغتها الفقهيّة هو أبوطاهر الدبّاس الحنفي (المتوفي 340ه-)، فإنّه كان ضريراً يكرّر كلّ ليلة سبع عشرة قاعدة كلّيّة من مذهب الحنفيّة بمسجده بعد انصراف الناس وذكروا أنّ أبا سعد الهروي الشافعي قد رحل إليه ونقلعنه بعضها، ومنها: قاعدة «الأمور بمقاصدها» وقاعدة «اليقين لايزول بالشكّ»، وقاعدة «المشقّة تجلب التيسير» وقاعدة «الضرر يزال»، وقاعدة «العادة محكّمة».

ثمّ بعده جاء أبوالحسن الكرخي (المتوفي 340ه-)، وهوكان من أقران أبي طاهر الدبّاس، فاقتبس منه بعض القواعد وضمّها إلي رسالته المشهورة الّتي تسمّي «الأصول» وتحتوي علي سبع وثلاثين قاعدة وتعدّ هذه الرسالة أوّل نواة للتأليف في فنّ القواعد الفقهيّة.

ثمّ جاء بعدهما أبوزيد الدبّوسي (المتوفي 430ه-)، فألفّ كتاب «تأسيس النظر»، وهو

ص: 18


1- 5.. راجع الأشباه والنظائر (للسيوطي)، ص 8، المجموع المذهب، ج1، ص 252.

يعدّ أوّل من ألّف كتاباً في القواعد الفقهيّة، حيث ضمّن كتابه هذا طائفة هامّة من الضوابط والقواعد الفقهيّة مع التفريع عليها.

هكذا واصلوا تدوين الكتب ونهضوا بالتأليف في هذا الفنّ في القرون التالية ومن مؤلّفاتهم في هذا الفنّ حسب الترتيب الزمني الهجري في المذاهب الأربعة مايلي:

أمّا كتب القواعد الفقهيّة في المذهب الحنفي: فهي مضافاً إلي ما مرّ من كتاب «تأسيس النظر» مايلي عنوانها:

1- «الفروق»، لأبي المظفّر أسعد بن محمّد الكرابيسي (المتوفّي 570ه-).

2- «الأشباة والنظائر»، لإبراهيم بن نجيم المصري (المتوفّي 970 ه-).

3- «مجامع الحقائق»، لأبي سعيد محمّد الخادمي (المتوفّي 1155ه-) وهو في أصول الفقه، ولكن ضمّن القواعد الفقهيّة في أربع وخمسين قاعدة في نهاية الكتاب.

4- «الفوائد البهيّة في القواعد والفوائد الفقهيّة»، للشيخ محمود حمزة الدمشقي (المتوفي 1305ه-).

5- «المدخل الفقهي العامّ»، للشيخ مصطفي أحمد الزرقا (المعاصر).

6- «مجلّة الأحكام العدليّة» للجنة من علماء الدولة العثمانية، الصادرة سنة 1286ه-.

وأمّا في المذهب المالكي فهي مايلي:

1- «أصول الفتيا»، لأبي عبدالله محمّد بن حارث الخشني القيرواني (المتوفّي 361ه-).

2- «الفروق»، «أنوار البروق في أنواء الفروق»، لشهاب الدين أبي العبّاس أحمد بن

ص: 19

إدريس القرافي المالكي، (المتوفّي 684 ه-).

3- «إدرار الشروق علي أنواع الفروق»، لأبي القاسم، قاسم بن عبدالله الأنصاري، المعروف بابن الشاط، (المتوفّي 723 ه-).

4- «القواعد»، لأبي عبدالله محمّد بن محمّد بن أحمد المقرّي المالكي (المتوفي 756ه-).

5- «إيضاح المسالك إلي قواعد الإمام المالك»، لأبي العبّاس أحمد بن يحيي الونشريسي، (المتوفّي 914 ه-).

و أمّا في المذهب الشافعي فهي ما يلي:

1- «الفروق»، لعبدالله بن يوسف بن محمد بن حيوية، (المتوفّي 438ه-).

2- «قواعد في فروع الشافعية»، لأبي حامد محمّد بن إبراهيم الجاجرمي الشافعي، (المتوفي 613 ه-).

3- «قواعد الأحكام في مصالح الأنام»، للعزّ بن عبدالسلام، أبي محمّد عزّالدين عبدالعزيز بن عبدالسلام السلمي (المتوفي 660ه-).

4- «الأشباه والنظائر»، لصدرالدين محمّد بن عمر بن الوكيل الشافعي (المتوفي 716ه-).

5- «المجموع المُذهَب في قواعد المذهب الشافعي»، لصلاح الدين بن خليل كَيكَلدي العلائي الشافعي، (المتوفي 761ه-).

6- «الأشباه والنظائر»، لتاج الدين عبدالوهّاب بن علي بن عبدالكافي السبكي،

ص: 20

(المتوفي 771ه-).

7- «الأشباه والنظائر»، لجمال الدين عبدالرحيم بن حسن الأسنوي الشافعي، (المتوفي 772ه-).

8- «القواعد في الفقه»، «المنثور في ترتيب القواعد الفقهيّة»، لبدرالدين محمّد بن عبدالله الزركشي، (المتوفي 794ه-).

9- «القواعد»، لشرف الدين عليّ بن عثمان العزي، (المتوفّي 799ه-).

10- «نواظر النظائر»، لسراج الدين عمر بن علي، المعروف بابن الملَقَّن (المتوفي 804ه-).

11- «الأشباه والنظائر»، لجلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، (المتوفي 911ه-).

12- «الفوائد المكيّة فيما يحتاجه طلبة الشافعيّة والضوابط والقواعد الكليّة»، للسيّد علوي بن أحمد السقاف.

13- «القواعد الفقهيّة علي المذهب الحنفي والشافعي»، لمحمّد الزحيلي.

وأمّا في المذهب الحنبلي فهي هذه الكتب التي نذكر أساميها:

1- «الفروق»، لأبي عبدالله محمّد بن عبدالله بن الحسين السامري الحنبلي، المعروف بابن سُنينة، (المتوفي 616ه-).

2- «الرياض النواضر في الأشباه والنظائر»، لسليمان بن عبدالقوي بن عبدالكريم الصرصري الطوفي، (المتوفي 710 ه-).

ص: 21

3- «القواعد النورانية الفقهيّة» لأحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام الحراني، المعروف بابن تيميّة، (المتوفي 728ه-).

4- «القواعد»، لأحمد بن الحسن بن عمر المقدّسي، المعروف بابن قاضي الجبل، (المتوفّي 771ه-).

5- «القواعد»، للحافظ أبي الفرج عبدالرحمن بن رجب الحنبلي، (المتوفي 795ه-).

6- «القواعد والفوائد الأصوليّة»، لعلي بن عبّاس البعلي، المعروف بابن اللحّام، (المتوفّي 803ه-).

7- «رسالة في القواعد الفقهيّة»، لعبدالرحمن السعدي الحنبلي، (المتوفّي 1376ه-).

لكن إذا استعرضنا تطوّرات حركة التأليف الإمامي في مجال القواعد الفقهيّة نلاحظ أنّ الشهيد الأوّل محمّد بن مكّي العاملي (المستشهد سنة 786ه-) هو أوّل من أفرد مجموعة من القواعد الفقهيّة في كتاب مستقل أسماه ب- «القواعد والفوائد».

ويشهد لذلك أنّه قد وصفه في إجازته المعروفة لابن الخازن بأنّه «مختصر يشتمل علي ضوابط كليّة أصوليّة وفرعيّة تستنبط منها الأحكام الشرعيّة، لم يعمل الأصحاب مثله»(1).

وقد يتوهّم أنّ أوّل من ألّف الكتاب في فنّ القواعد الفقهيّة هو يحيي بن سعيد الحلّي (المتوفي 610ه-)، فإنّه ألّف كتاب «نزهة الناظر في الأشباه والنظائر».

ولكنّ التحقيق أنّ المؤلّفات في فنّ الأشباه والنظائر علي قسمين:

ص: 22


1- 6.. بحارالأنوار، ج104، ص 187.

الأوّل: ما يشتمل علي القواعد الكلّية الّتي يستفاد منها حكم المسائل المختلفة، كما يشتمل علي فنون أخر، كالفروق، والضوابط، والمراسلات وغيرها ومن هذا القبيل كتاب «الأشباه والنظائر» للسيوطي، لابن الوكيل، ولابن نجيم، وللأسنوي وبعض آخر م-مّا مرّ.

فهذا القسم يعدّ من المؤلّفات في فنّ القواعد الفقهيّة، لاشتماله عليها أيضاً.

الثاني: ما يجمع فيه المسائل المختلفة الموضوع والموزّعة بين أبواب مختلفة من الفقه والمشتركة في حكم من الأحكام التكليفيّة، أو يجمع فيه موضوع واحد لها أحكام متعدّدة بحسب ما يعرضه من الحالات المختلفة.فهذا القسم لا يعدّ من المؤلّفات في فنّ القواعد الفقهيّة، فإنّها - كما سيأتي - قضايا كليّة تشتمل علي موضوع كلّي ذي مصاديق مختلفة ثبت له حكم كلّي.

وكتاب «نزهة الناظر في الأشباه والنظائر» من هذا القسم، فلا يعدّ من المؤلّفات في فنّ القواعد الفقهيّة كي يتوهّم أنّه أوّل ما ألّف في هذا الفنّ في مدرسة الإمامية.

فالشهيد الأوّل حسب نصّه هو أوّل من اقتحم هذا الميدان من الأصحاب الإماميّة وأفرد مجموعة من القواعد الفقهيّة في كتاب مستقلّ(1).

و استمرّت حركة التدوين الفقهي في فنّ القواعد الفقهيّة بعدالشهيد الأوّل أيضاً، ومن المصنّفات في هذا المجال ما يلي:

1- «نضد القواعد الفقهيّة علي مذهب الإمامية»، لتلميذ الشهيد الأوّل أبي عبدالله

ص: 23


1- 7.. القواعد و الفوائد، ج1، ص 7.

الفاضل المقداد السيوري (المتوفي 826ه-).

قال مصنّفه: «كان شيخنا الشهيد(قدس سره) قد جمع كتاباً يشتمل علي قواعد وفوائد في الفقه، تأنيساً للطلبة بكيفيّة استخراج المعقول من المنقول، وتدريباً لهم في اقتناص الفروع من الأصول، لكنّه غير مرتّب ترتيباً يحصّله كلّ طالب وينتهز فرصة كلّ راغب، فصرفتُ عنان العزم إلي ترتيبه وتهذيبه وتقريبه، وسمّيته (نضد القواعد الفقهيّة علي مذهب الإماميّة)...»(1).

2- «القواعد الستّة عشر»، للشيخ جعفر كاشف الغطاء (المتوفّي 1227ه-).

3- «الأصول الأصليّة والقواعد الشرعيّة»، للسيّد عبدالله شبّر.

4- «عوائد الأيّام من مهمّات أدلّة الأحكام»، للمولي أحمد بن محمّد مهدي بن أبيذر النراقي الكاشاني (المتوفي 1245 ه-).

5- «العناوين»، للسيّد مير عبدالفتّاح الحسيني المراغي (المتوفي 1274ه-). قد طبع في مجلّدين كبيرين، ويشتمل علي 93 قاعدة كلّيّة.

6- «خزائن الأحكام»، تأليف آغا بن عابد الشيرواني الدربندي (المتوفي 1285ه-).

7- «مناط الأحكام»، تأليف ملّانظر علي الطالقاني (المتوفّي 1306ه-).

8- «تحريرالمجلّة»، للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (المتوفّي 1373ه-).

9- «مستقصي قواعد المدارك ومنتهي ضوابط الفوائد»، لملّا حبيب الكاشاني، (المتوفّي 1340ه-).

10- «القواعد الفقهيّة»، للشيخ مهدي الخالصي الكاظمي (المتوفي 1343ه-).

ص: 24


1- 8.. نضد القواعد الفقهيّة، ص 4.

11- «القواعد الفقهيّة»، للشيخ محمّد تقي آل فقيه العاملي.

12- «القواعد الفقهيّة»، للسيد الميرزا حسن البجنوردي (المتوفي 1396ه-) في سبعة أجزاء.

13- «القواعد الفقهيّة»، لسماحة الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني (المتوفي 1428ه-).

14- «القواعد الفقهيّة»، للشيخ ناصر المكارم الشيرازي في أربعة أجزاء.

15- «القواعد الفقهيّة»، للسيّد محمّد الشيرازي (المتوفي 1423ه-).

16- «القواعد الأصولية والفقهية علي مذهب الإمامية»، للجنة علمية في الحوزة الدينية بقم بإشراف الشيخ محمّد علي التسخيري.

17- «قواعد فقه»، للسيّد مصطفي المحقّق الداماد.

18- «القواعد الفقهية»، للسيّد محمّد كاظم المصطفوي(1).

عوامل تطوير وتدوين القواعد الفقهية

أ- معرفة وتحديد القاعدة: ففي البدأ ينبغي تجميع وتحديد البحوث والنكات التي يُمكن تنظيم القاعدة علي أساسها من المصادر والمُستندات المُعتبرة ثمّ تبويبها بطريقة فنّية خاصّة.

ب - تبيين القاعدة: يجب أوّلاً تنظيم البحوث المرتبطة بالقاعدة الفقهية ضمن هيكلية وطريقة خاصّة، بعدها يُصار إلي تطبيقها، ومراحل التبيين هي: تعريف القاعدة،

ص: 25


1- 9.. اعلم أنّ ما ذكرناه إنّما هو العمدة فيما ألفّ في هذا المضمار و الأهمّ من جميع هذه الكتب «القواعد الفقهية» للسيد حسن البجنوردي(قدس سره) حيث إنّ كتابه يمتاز بخصائص و ميّزات و لم يعمل بمثله لحدّ الآن في بحث القواعد الفقهية.

بيان مفادها، الأدلّة والمُستندات، موارد شمول القاعدة، تطبيق القاعدة علي مصاديق جديدة.

ج- مرحلة تقعيد القواعد: بعد تبيين القاعدة فلكي تُبرز بصورة القاعدة والقانون الكلي لابدّ من صياغتها ببعض المفردات تحت عنوان مُحدّد، ثمّ تكون في معرض الاستفادة، وقد تمّ في بلدنا تدوين بعض القواعد في قالب قانون مدني، نظير: قاعدة الصحّة، قاعدة السلطنة وغيرهما.

د- التفسير الصحيح للقواعد: في هذه المرحلة تُبيّن وتُفسّر القاعدة بنحو صحيح، فإنّ القواعد هي قضايا كلّية لابدّ من تصدّي جهة علمية تمتلك الصلاحية وتتحمّل مسؤولية تفسير القاعدة كي لا تتأثر القاعدة بسبب ما يحصل أحياناً من اختلاف في الفهم وتعدّد في الآراء.

ه- - النقد والتقييم: في هذه المرحلة توضع القاعدة التي تمّ إعدادها علي طاولة النقد والتقييم من قِبل أصحاب الأنظار، كي تُشخّص نقاط قوّتها ونقاط ضعفها ويتمّ تكميل نواقصها وعند إتمام هذه المراحل يُمكن الأمل ببلورة قواعد مجتمعة فاعلة في مجال الاستنباط تُسعف المجتهد.

موانع تطوير وتدوين القواعد الفقهية

أ- التبيين الخاطي للقواعد: من الممكن تصوّر أنّ بعض القواعد يتمّ تبيينها وتفسيرها برؤية ذوقية وسطحية، وفي هذه الحالة تفقد قيمتها العلمية والفنّية، ونتيجة ذلك أنّه في مرحلة الإجراء سوف تختلّ عملية استنباط الفروع الفقهية في ضوئها.

ص: 26

ب - التصوّر الخاطي عن حدود ونطاق القواعد: فقد لا يتمّ تبيين حدود دائرة القاعدة بصورة دقيقة لعدم تشخيص الأبواب الفقهية التي هي مورد لجريان القاعدة، فإنّ بعض القواعد من الممكن اختصاصها بباب مُعيّن من أبواب الفقه أو إنّها تجري في عدّة أبواب.

ج- - الاشتباه في تطبيق القواعد علي المصاديق: حيث إنّ تطبيق وتعيين مصاديق موضوعات الأحكام والفروع الفقهية أمر صعب وفي منتهي الدقّة؛ لذا يجب إجمال الدقّة لتتمّ عملية التطبيق والتشخيص بصورة صحيحة لكي نحصل علي النتيجة المرادة والمرجوّة من القاعدة.

د- عدم الفرز بين القواعد الاجتماعية والقواعد الفردية: يلزم الإلتفات إلي أنّ بعضها قواعد اجتماعية ذات أولوية، وربّما يقع التعارض أحياناً بين قاعدتين، لذا لابدّ من تشخيص الأهمّ والمهمّ، وتقديم القواعد التي يترتّب علي عدم إجرائها اختلال النظام والنوع البشري علي القواعد الفردية والجزئية.

ه- - فقدان كتب تدريس القواعد والبرامج التعليمية في الحوزات العلمية والجامعات: إنّ عدم تدريب الطالب علي كيفية الاستفادة من القواعد وعدم إدراجها ضمن الكتب الدراسية يُفوّت علي الطالب فرصة الإحاطة بهذه القواعد، لذا فإنّ إدراج القواعد الفقهية ضمن الكتب الدراسية يُعدّ خطوة ذات قيمة يُمكن أن تُسهّل عملية استنباط الأحكام، كما أنّ التعرّف علي هذه القواعد يخلق التناسق في ذهن المُخاطب ويُوفّر عليه المزيد من الوقت.

ص: 27

فمن الجدير بالذكر أنّه رغم البُعد التطبيقي للقواعد الفقهية فلم يُستوف بحثها لا في علم الفقه ولا في علم الأصول، فمن ناحية لا يتيسّر البحث عن هذه القواعد بشكل وافٍ في علم الفقه؛ لأنّ كلّ مسألة من المسائل الفقهية ترتبط ببحث خاصّ وبباب معيّن، ومن ناحية اُخري إنّالكثير من هذه القواعد لم تندرج مع المسائل الأصولية كي يقع البحث عنها في دائرة علم الأصول، فلذا من الضروري أن يتمّ البحث عنها ضمن علم أو فنّ مُستقلّ ليتسنّي لطلاب علم الفقه الاطلاع الأكثر علي هذه البحوث.

أضف إلي ذلك أنّ الرؤية الجزئية والفردية لقسم من القواعد الفقهية لا تُؤمّن حاجات عصر التّقنيّات والمعلومات والاتصالات، وما أحوجنا في هذه الفترة الزمينة التي يحكم المجتمع فيها حكومة إسلامية إلي إعادة النظر في قسم من القواعد والأحكام وتقديم قراءة جديدة لها علي أساس الرؤية الشاملة والرؤية الاجتماعية لكي يحلّ الفقه الاجتماعي وفقه الدولة محلّ الفقه الفردي؛ لأنّ الفقه الفرديغير قادر علي تلبية متطلّبات النظام الاجتماعي؛ إذ أنّ للحكومة والنظام الإسلامي شؤوناً وزوايا مُختلفة، م-مّا يُملي علي الفقيه أن يتصدّي لبحث المسائل الفقهية كافّة لغرض سدّ حاجة الدولة والمجتمع والنظام الإسلامي، كي يُمكن حفظ الفقه الإسلامي بصورة عامّة والإمامي بصورة خاصّة حيّاً وغضّاً لفترة مديدة.

ص: 28

فوائد دراسة القواعد الفقهيّة

إنّ لدراسة القواعد الفقهيّة والعناية بها فوائد جمّة للفقيه المجتهد الّذي كان في مقام الإفتاء والاستنباط وتربية العلماء والفقهاء، منها ما يلي:

الفائدة الأولي: إنّ دراسة القواعد الفقهيّة تسهل علي العلماء الباحثين في الفقه الاطّلاع علي القواعد الرئيسة للاجتهاد في الأحكام الثابتة للفروعات المختلفة في أبواب الفقه.

الفائدة الثانية: حيث كانت مصادر القواعد الفقهيّة ما ينتج في البحث عن المسائل الأصوليّة من حجيّة الكتاب والسنّة والإجماع والسيرة والعقل وغيرها فتفيد دراسة القواعد الفقهيّة الممارسة للحجج الأصولية في مقام الاستنباط. الفائدة الثالثة: إنّ الأسلوب المتداول في تدريس الأبحاث العالية الاجتهادية في الحوزات العلميّة من اعتماد الأستاذ علي كتب الفتاوي - كالعروة الوثقي- وطرح مسألة واحدة وإقامة الدليل علي إثباتها أو نفيها وإن كان حسناً ونافعاً، ولكن الأحسن والأنفع ضمّ دراسة القواعد الفقهيّة الّتي تتفرّع عليها فروعات كثيرة في مختلف أبواب الفقه والوجه في ذلك أنّ في الأسلوب المتداول نواقص يمكن رفعها بدراسة القواعد الفقهيّة: منها: أنّه قد يتكرّر البحث عن مصدر واحد ومدرك فارد حين البحث عن الفروعات الّتي لم يكن مستندها إلّا ذاك المدرك الواحد الّذي مفاده قاعدة من القواعد الفقهيّة.

ومنها: أنّه في الأسلوب المتداول إنّما يبحث عن باب خاصّ من أبواب الفقه، والمجتهد يفوته التدريس لمصادر كثير من الفروعات في مختلف أبواب الفقه.

ص: 29

ومنها: أنّه هذا الأسلوب لا يعطي حفظ جميع المباني الاجتهادية الّتي تكون مدرك كثير من الأحكام الفرعيّة.

ومنها: أنّه في هذا الأسلوب يكتفي علي البحث عن الفروعات الموجودة في الكتاب الّذي يدور البحث حول فروعاته من دون إلحاق فرع جديد إليها.

وأمّا دراسة القواعد الفقهيّة، فإنّها تربّي الملكة الفقهيّة وتنمي القدرة علي إلحاق المسائل المستحدثة وتخريج أحكام الفروع والمسائل والحوادث والوقائع الّتي تتجدّد علي مرّ الزمان، فلذلك من الأحسن أن نواصل السيرة العلمية للعلماء والمجتهدين في البحث الإستدلالي عن الفروع الفقهيّة لكن لرفع بعض النواقص الموجودة علينا أن نضمّ البحث الاستدلالي عن القواعد الفقهيّة لهذه الفوائد التي ذكرناها.

هذا مضافاً إلي أنّ دراسة القواعد الفقهيّة تعطي حفظ المباني الاجتهادية للكثير من الفروعات الفقهيّة.

مع أنّ البحث عن كلّ قاعدة يتمّ في مدّة قصيرة وينتج تخريج أحكام فروعات كثيرة.

الفائدة الرابعة: إنّ دراسة القواعد الفقهيّة تساعد الفقيه الدراس في أبواب الفقه المتعددة علي البحث عن القواعد المختصّة بكلّ باب، كما تساعده علي ربط الفقه بأبوابه المختلفة بوحدات موضوعيّة يجمعها قاعدة فقهيّة من القواعد العامّة.

ص: 30

تقسيم القواعد الفقهية

التقسيم الأول:

إنّ القواعد الفقهية علي قسمين: أحدهما القواعد التعبدية و هي ما نحتاج في إثباتها إلي التماس دليل تعبدي من الكتاب الكريم و السنة الشريفة و الإجماع، كقاعدة الطهارة، ثانيهما القواعد العقلائية و هي ما يكفي في إثباتها عدم ردع من الشارع الحكيم عنها بأنّ يقرّر اعتبارها، كقاعدة وجوب الدفاع بما استطاع المكلف و قاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به و قاعدة الفراغ عن العمل و غيرها.

التقسيم الثاني:

إنّ القاعدة الفقهية تنقسم في هذا التقسيم إلي قسمين: الأول منهما القواعد المنصوصة وهي القواعد التي ورد من الشارع نصّ عليها كقاعدة «علي ما اليد ما أخذت حتي تؤدّي» و قاعدة «لاضرر و لاضرار» و قاعدة «الخمس بعد المؤونة» و هكذا مثلها من القواعد المتعددة الأخر.

الثاني من القسمين القواعد المصطادة الّتي لم يرد نصّها الصريح في كلام الشارع و المعصوم، بل يستفاد من لوازم معني النصوص الواردة في المواضع المختلفة الكثيرة، كقاعدة الإتلاف و قاعدة بطلان البيع في المجهول وهكذا بعض قواعد أخري.

التقسيم الثالث:

إن القواعد الفقهية علي قسمين:

الأول: القواعد العبادية وهي القواعد التي تجري في إحدي العبادات كما نشاهد ذلك في القواعد الجارية في باب الصلاة والحجّ والصوم و نذكر من باب المثال قاعدة «لا تعاد» التي تجري في الصلاة.

الثاني: القواعد المعاملية و هي القواعد الشريفة الجارية في أبواب المعاملات،

ص: 31

كالقواعد المعمول بها في باب البيع و الإجارة و المضاربة و غيرها.

التقسيم الرابع:

القواعد الفقهية باعتبار آخر علي ثلاثة أقسام:

الأوّل: القواعد القرآنية و هي القواعد التي استفيد اعتبارها من إطلاق أو عمومات الآيات الدالة عليها كما في مورد قاعدة «لاحرج».

الثاني: القواعد النبويّة وهي القواعد المعتبرة من طريق السنّة النبوية كما نري ذلك في قاعدة «علي اليد» النبوية.

الثالث: القواعد الولوية وهي التي ثبت اعتبارها من طريق الأخبار الشريفة الناقلة لترتيب الإمام المعصوم(عليه السلام) الاعتبار لها، كقاعدة «لاتعاد».

التقسيم الخامس:

تنقسم القواعد الفقهية باعتبار خامس علي قسمين:

الأول: القواعد الشاملة للأحكام الأولية كقاعدة «حليّة البيع» و قاعدة «الإتلاف».

الثاني: القواعد التي تبيّن الأحكام الثانوية في مفادها، كما في قاعدة «لاحرج» و قاعدة «لاضرر و لاضرار».التقسيم السادس: وهو عبارة عن انقسام القواعد الفقهية إلي قسمين باعتبار كميّة جريانها في الفقه، فالقسم الأول هي القاعدة الفقهية الجارية في أكثر من باب واحد في الفقه و يعبَّر عنه بالقاعدة غيرالمختصة بباب واحد كما في قاعدة نفي العسر و الحرج، وقاعدة الفراغ و الإقرار.

أما القسم الثاني فهي القواعد الفقهية المختصّ جريانها بباب فقهي معيَّن و ذلك كما في مورد قاعدة «لا تعاد» و «حليّه البيع» و هكذا غيرهما.

ص: 32

ذكر الشهيد الصدر(قدس سره) في المقام تقسيماً خماسيّ الأطراف نذكر ماهو مضمون كلامه ليتّضح المقصود و المراد من كلامه إن شاء الله تعالي بشكل كامل:

القسم الأول: ماليس بقاعدة بالمعني الفني كقاعدة لاضرر، فإن القاعدة متقوّمة بشيئين: الأول أن تكون أمراً كلياً والثاني وجود نكتة ثبوتية واحدة ترجع إلي حقيقة واحدة و هي في الأحكام الشرعية و القواعد المجعولة الشرعية عبارة عن وحدة الجعل كقاعدة علي اليد و حجية خبرالثقة و كقاعدة الملازمة بين وجوب المقدمة و ذي المقدمة في القواعد المجعولة العقلية و الممضاة شرعاً.

أمّا مثل قاعدة لاضرر فإنها مجموعة من التشريعات العدمية جمعت في عبارة واحدة، فبما أنها غير راجعة إلي نكتة واحدة و جعل واحد بل كلها في عرض واحد، فليست بقاعدة بالمعني الفني لها.

القسم الثاني: مايكون قاعدة بمعناها الدقيق الفنيّ مع دلالتها في نفسها علي حكم واقعي كلي مجعول بجعل واحد كقاعدة «ما يضمن» التي ترجع إلي ضمان اليد.

فهي قاعدة دالة علي نكتة ثبوتية واحدة تدلّ بنفسها علي الحكم الشرعي المتقرّر في صقع الواقع و لاتكون طريقاً لإثبات الحكم الشرعي و من هذه القاعدة يستفاد الضمان في البيع الفاسد، من هذا البيان يتضح الفرق بين القواعد الأصولية والفقهية حيث إن الأولي منهما تقع في طريق الاستنباط و إثبات الأحكام الشرعية الإلهية.

القسم الثالث: مايكون قاعدة مع دلالتها علي الحكم الظاهري و بها يحرز صغري الحكم الشرعي كقاعدة الفراغ، فهذا القسم الثالث يقع في طريق إثبات مصداق متعلّق

ص: 33

الجعل الذي هو الحكم الشرعي.

القسم الرابع: مايكون قاعدة مع دلالتها علي الحكم الظاهري المأخوذ في موضوعه قيد الجهل بالواقع، لكن هي تفيدنا في التوصّل إلي الحكم الشرعي الجاري في الشبهات الحكمية كقاعدة الطهارة فيما اشتبهت طهارته بالشبهة الحكمية.

القسم الخامس: مايكون قاعدة فقهية استدلالية استند إليها الفقيه في الاستنباط كما يستفيد من القواعد الأصولية في هذا الغرض و الفرق هو عدم اختصاص القواعد الأصولية بباب معيَّن(1).

أقول: لايخفي أن ما ذكره معياراً لكون القاعدة فقهية من اشتراط الكلية أمر مسلّم و إلّا فلو كانت العلة للحكم الشرعي مختصة بمسألة واحدة بحيث لاتشمل أفراد باب واحد علي الأقلّ، فليس لنا أن نسمّي ذلك قاعدة لأنّ المراد من هذه اللفظة عرفاً، لغة و فقهائياً اشتراط دخول مصاديق متعددة تحت القاعدة.

أمّا ما ذكره بعنوان الشرط الثاني فهو أيضاً في محلّه، لكن إخراج قاعدة لاضرر من إطار القواعد الفقهية م-مّا لايكاد يوجّه عندنا حيث إن حال قاعدة لاضرر كغيرها، فما ذكره من عدم رجوع هذه القاعدة إلي نكتة ثبوتية واحدة أمر غير صحيح لأن أفراد هذه القاعدة ترجع إلي قدر مشترك فيما بينها و هذا كاشف إنّي عن وجود النكتة الثبوتية الواحدة بحسب تعبير السيدالشهيد(قدس سره).

فما علّل به إخراج قاعدة لاضرر ليس مطابقاً لمقتضي التحقيق عندنا، مع أنّ كون

ص: 34


1- 10. . بحوث في علم الأصول، البحوث المقدمية، ج1، ص 24.

القاعدة عبارة عن تشريعات عدمية فإن أريد من لفظة العدم، العدم المطلق المحض، فيرد عليه إشكال واضح بأن العدم الذي لاشيئية له كيف يمكن أن يوجب ثبوت الحكم الوجودي الشرعي؟!

فالظاهر أنّ العدم يعني عدم الضرر في المقام، فهو عدم إضافي و بذلك يكتسب نوعاً من الوجود فيصح له أن يكون سبباً لوجود الحكم الثانوي منه، فعدم الضرر يرجع إلي معني إيجابي وهو التشريع غيرالمشتمل علي الضرر و هذا قد بحثنا عنه في بحوثنا الأخري و ذكره أحد أكابر الأعلام(1).

ثمّ إن الفرق المذكور في القسم الخامس بين القواعد الأصولية والفقهية غير تامّ كما سنذكره في المباحث الآتية، كما أنّ تقسيم القواعد الفقهية إلي ما تبيّن الحكم الواقعي أو الظاهري أمر وجيه يؤيّده أدني تأمل و مقدارٌ من الفحص في مصاديق القواعد الفقهية و إن كان في بعض آخر م-مّا ذكر في كلامه الشريف مجال لبعض النقوض لكن نتجنّب عن ذلك احترازاً للإطالة.

فهذا إجمال الكلام عن بعض تقسيمات القواعد الفقهية و السرّ في ذلك وجود الاعتبارات و الإضافات المختلفة و المتعددة، حيث إنّ تعدد الاعتبارات هنا يوجب إمكان تصوّر الأقسام المتعددة لمقولة واحدة و هي ماهية القواعد الفقهية، كيف؟ فإنه نأخذ في كلّ واحد من هذه التقسيمات ميّزة و خاصيّة مرتبطة ببعض القواعد في قبال البعض الآخر، فتارة بلحاظ كون المدرك لقسم منها هو القرآن و لقسم آخر هي السنة،

ص: 35


1- 11. . تحليل الأنظار في لاضرر ولاضرار، للمؤلّف.

يتحصّل لدنيا تقسيم كما أنه مثل-اً بلحاظ كون الرواية الدالّة علي اعتبار القاعدة صادرة عن الرسول الأكرم(صلي الله عليه وآله) و أخري عن الأئمة(عليهم السلام)، يتحصّل تقسيم آخر و هكذا.

مصادر القواعد الفقهية

إن معرفة مصادر القواعد الفقهية لُيساعد و يفيدنا في معرفة طريقة استخراج القواعد الفقهية و يمهّد الأرضية المناسبة لاستنتاج قواعد جديدة أحياناً، كما أنّ له دوراً ملحوظاً أساسياً في دفع الشكوك والشبهات التي تواجهها ويورث الوثوق والاطمينان في نفس المخاطب حيث إنّ اعتبار و حجية القاعدة تابع و ناشيء من المصادر المعتبرة المسلّمة.

بناء علي ذلك نقول: إنّ مصادر القواعد الفقهية وكذلك الأصولية - بناء علي اتحاد المقامين - هي الكتاب الكريم و السنة المعصومية الشريفة والإجماع و العقل و تتمثّل هذه الأدلة و القواعد الفقهية في طرق كشفها عن الأحكام في قوالب منها ما يلي بيانه:

أ: النصّ الصريح في دلالته: المراد من النصّ ما يشمل آيات القرآن و الروايات، من قبيل قاعدة «نفي السبيل» المتّخذة من الآية الكريمة التالية: «وَلَنْ يجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»(1)، أو تكون مستفادة من الروايات كقاعدة «لاضرر و لاضرار» التي استفيدت من الرواية النبوية المشهورة و الواردة في قضية سمرة بن جندب.

ب-: التعليل: إذا ورد أحياناً تعليل في أحد النصوص المتضمّنة لبيان الحكم الشرعي الفقهي، يمكن اكتشاف قاعدة فقهية كلية من ذلك مبتنياً ذلك علي تنقيح المناط الذي نبحث عنه في بعض المباحث الآتية إنشاءالله تعالي.

ص: 36


1- 12. . النساء، 141.

فمثل-اً قاعدة السوق يستفاد اعتبارها من قوله(عليه السلام): «ولو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»(1) في مورد خاص لكن العرف العقلائي يعمّم في دائرة هذا التعليل المستفاد من كلام الشارع المقدّس و يتعدّي من جريان هذه القاعدة في النطاق الخاص.ج. التتبع و استقراء النصوص: من خلال الفحص في الروايات الشريفة والأخذ بعين الاعتبار جريان مفاد في أبواب متعددة يمكن أن يتمّ كشف القاعدة، فمثل-اً قاعدة «الجاهل معذور» نستنتج ذلك من تتبّع مجموعة من الأحكام الفقهية في أبواب مختلفة كباب الصلاة و الصوم و الحجّ و الحدود، فمن صلّي أربعاً وهو مسافر جهلاً منه بوجوب القصر، صحّت صلاته و من صام في السفر جاهلاً بالحكم صحّ صومه، كما أنّ من شرب الخمر جاهلاً بحرمة هذا العمل لايحدّ.

د. إطلاق أو عموم اللفظ: نظير قاعدة الوفاء بالعهد و أصالة اللزوم في العقود المعاملية حيث يستفاد كلّ منهما -لو لم نرجعهما إلي مآل واحد - من قوله تبارك و تعالي في محكم كتابه الحكيم: «يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2).

ه-. القواعد العقلية: يمكن أن يسترشد الإنسان الفهيم من عقله في اصطياد القواعد المعتبرة الفقهية، كما يتمثّل هذا المعني في أمثال قاعدة «قبح ترجيح المرجوح علي الراجح» التي للعقل حكم واضح فيها.

و. العرف والسيرة العرفية العقلائية: إن بعض القواعد لها جذور عرفية ارتكازية،

ص: 37


1- 13. . وسائل الشيعة، ج27، ص 292، باب كيفية الحكم و أحكام الدعوي.
2- 14.. راجع من باب التمثيل منتهي المطلب:ج9، ص308.

فهذه القواعد تكون ممضاة في أغلب الموارد من ناحية الشارع الحكيم، وبذلك نعتبرها في مقام العمل بها كما في قاعدة «الرجوع إلي أهل الخبرة و الفنّ الخاص(1)».

ز. السيرة الشرعية: إن البعض الآخر من السير المشهودة لم يكن لها طابع عرفي عقلائي بل الأساس و العمدة في اعتبارها، هو الدليل الشرعي والتقنين الديني و لذلك يعبَّر عنها بالتعبدي، كما نعتقد بذلك في مورد قاعدة «عدم جواز استيلاء علي المسلمين».

عدد القواعد الفقهية

حينما نلتفت إلي الاضطراب و الاختلاف الموجود في عدد القواعد الفقهية التي يبحث عنها العلماء حيث تارة نري ذكر أحدهم خمسين قاعدة و الآخر يبحث عن ثلاثين منها، يتبادر إلي الذهن هذا السؤال التالي:

هل تنحصر القواعد الفقهية في عدد معيّن أم يمكن أن يجي كلّ جيل من الأعلام بقواعد جديدة ولذلك ليس يتوقف هذا الأمر عند حدّ معيَّن؟

قال أحد أهل التحقيق في المقام مانصّه:

الذي يبدو في النظر هو عدم كون القواعد الفقهية توقيفية، ولا تتوقف عند رقم معيَّن ولا تنحصر في عدد خاص، إذ كما يمكن تأسيس قاعدة من آية «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَي وَالْيتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا»(2) أو آية «أوفوا بالعقود»(3)، كذلك

ص: 38


1- 15.. كليّات في علم الرجال، ص 133، منتقي الأصول، ج3، ص 408.
2- 16.. البقرة، 83.
3- 17.. المائدة، 1.

يمكن استخراج قاعدة من سائر الآيات، مثلما قام به الفقهاء و الأصوليون العظام من استخراج القواعد الأصولية كالأصول العملية من الروايات كأصل الاستصحاب، فمثل-اً من القواعد المغفول عنها و التي يجب الالتفات إليها قاعدة العدالة، حيث يمكن استنتاجها من نصوص الآيات و الروايات(1).

أقول: إنّ في التعبير في المقام بلفظ التوقيفية ما لايخفي حيث إن المتبادر من ذلك هو كون القواعد الفقهية متوقفة علي إمضاء الشارع المقدس و ذلك مما لايختلف فيه أحد ولكن الظاهر عدم إرادة هذا المعني.

نعم يمكن إرادة التوقف علي رقم معيّن فلذلك توصف القواعد الفقهية في كلامه بالتوقيفية ولكن فيه ما ذكرناه أولاً حيث إن هذا اللفظ لايفي بذلك المراد لكون اللفظ مصطلحاً خاصاً يتبادر منه معني مغاير عن المفهوم المذكور.

هذا مع أنّ القول بعدم توقف القاعدة الفقهية علي عدد معيَّن فإن أريد منه عدم تناهي القواعد الفقهية فيما وصل إلينا من المصادر المعتبرة كالقرآن و الروايات، فذاك م-مّا لاينبغي التفوّه به و إن أريد أن القواعد الفقهية يمكن في الأدوار التالية و الأجيال المتعاقبة أن يزيد عددها عمّا هي عليه نظراً لالتفات اللاحقين بمالم يلتفت إليه السابقون فذاك أمر ممكن جداً و قد يؤيّد الفحص لتاريخ بعض العلوم صدق ذلك كما لايخفي.

ص: 39


1- 18. . القواعد الفقهية، البوشهري، ص 55.

الفرق بين القواعد الأصولية والفقهية

اشارة

اعلم أنّ استنباط الأحكام الشرعية الفقهية كما يتيسّر بالرجوع إلي الأدلة الخاصة الواردة في مسألة دون أخري، كذلك يكون لكثير من أدلة الأحكام الشرعية إطلاق وعموم، بحيث يقبل الجري في أكثر من مسألة بل باب واحد.

فهذه الأدلة الشاملة بأنواع الشمول، حيث إنّها إمّا من باب الإطلاق بأقسامه أو العموم اللفظي المتمثّل في العموم المجموعي والاستغراقي الشمولي والبدلي، تسمّي القواعد الكلية التي تعارف عند علماء الأصول والفقهاء الكبار تقسيمها إلي أصول فقهية وقواعد فقهية.

فهذا هو الدأب الرائج والمشهور المتداول في بحوث العلماء المتأخرين وكتبهم التحقيقية الأصولية والفقهية(1)، أمّا الأصوليون والفقهاء القدماء فهذا التفكيك م-مّا لانجده في مباحثهم الشريفة بل كان الشيخ طوسي(قدس سره) يبحث عن الأصول الفقهية في الأصول ، وعن القواعد الفقهية الجزئية الخاصة ببعض الأبواب أو العامة الشاملة لكثير منها في نفس الكتب الفقهية عند التعرّض للمسألة التي تتوقف علي القاعدة الفقهية(2).

نعم إنّ الشهيد الأول في «القواعد والفوائد» والفاضل المقداد في «نضد القواعد الفقهية» تعرّضا إلي هذه القواعد العامة التي تعتبر دخيلة في الاستنباط ولا تندرج تحت إطار الأصول الفقهية وهكذا غيرهما ممّن تأخّر عنهما، لكن هذا الإفراز وتدوين هذا

ص: 40


1- 19. . كفاية الأصول، ص 337؛ جواهرالكلام، ج5، ص 337. محاضرات في أصول الفقه للسيّد الخوئي، ج1، ص 6، مناهج الوصول إلي علم الأصول للإمام الخميني، ج1، ص 51.20 .العدّة في أصول الفقه، ج1، ص7.
2- 21. . الخلاف، ج3، ص 228.

السنخ من القواعد مستقلة في مجال آخر م-مّا لانجده في قدماء الأصحاب كما مرّ ما يرتبط بهذا الجانب في بيان تاريخ القواعد الفقهية.

الملفت للنظر هنا أنه نقول بكون هذه المسألة التي نبحث فيها عن وجود الفرق بين القاعدة الفقهية والأصولية أو عدم ذلك، تابعة لاعتبار المعتبر، كيف؟ فإن البعض من علماءنا الكرام يأخذون بعين الاعتبار هذه التفارقات التي نذكر جميعها فيما يلي ويعتبرون هذه الميّزات بحسب رأيهم الشريف من الحيثيات التقييدية والحال أن البعض الآخر من العلماء الذين لايرون تفاوتاً أساسياً فيما بين البابين ويذهبون إلي الاتحاد الماهوي الجوهري بينهما، يفرضون التغايرات المذكورة من الجهات والحيثيات التعليلية، وهذا المبني الثاني هو ما نذهب إليه وستطلع علي ذلك إنشاءالله من خلال هذه الوجوه التي تذكر بوصف المائزية بين الأصول الفقهية والقواعد الفقهية.

فاتضح أن ملاك المبحث وصقع هذا الباب هو عالم الاعتبار، فالبعض يرجّح وجود التغاير بين باب قواعد الأصول وما تندرج بعنوان القواعد الفقهية حيث يري بحسب اجتهاده واستنباطه رجحان هذا الاعتبار والبعض الآخر يعتقد بعدم صلاحية هذه الوجوه المتعددة لتكون مائزة وفارقة بين البابين، لأنها لا تعدو في نظر هؤلاء المحققين الذين نؤيّد مسلكهم، عن كونها حيثيات تعليلية، والحيثية التقييدية التي تكون موجبة لوجاهة القول باستقلال القاعدة الأصولية عن الفقهية، هي بمعني وجود تفارق ماهوي جوهري يوجب اندراج المقولتين تحت عنوانينمستقلين وهذا بخلاف الحيثيات التعليلية التي تتمحّض في كونها وجوهاً لا توجب التغاير الجنسي والجوهري، بل ربما الشيئان مشتركان في أصل النوع لكن بواسطة الحيثيات التعليلية

ص: 41

يميّز بينهما تمييزاً غير فارق بحسب الحقيقية النوعية(1).

إذا أردنا التمثيل لهذا المطلب فنقول: بأن الفرق المتصوّر والمتحقق بين الإنسان والبقر هو في النوع الذي يتقوّم بالفصل وهو في الإنسان كونه حيواناً ناطقاً، فهذا الفصل حيث تقييدي يوجب تعدّد الوجود وصحة القول بوجود الفرق الحقيقي، لكن لو فرضنا التفريق بينهما بمجرد لون البشرة أو العضو الخاص، فهذا حيث تعليلي لايوجب الاستقلال ذاتاً بين الشيئين.

إذا عرفت ذلك يسهل عليك ما مرّ من أن القائل بوجود الفرق بين قاعدة أصولية وقاعدة فقهية يعتقد بوجود هذا الفرق الجوهري والحيث التقييدي الذي يتمثّل بالوجوه الآتية إحداها أو أكثر منها، لكن الفقيه الذي يلغي هذه الوجوه عن كونها مائزة يعتقد أنها ليست إلّا في مرتبة الحيثيات التعليلية.

و في تقريرات بحث الفقيه المعظّم والأستاذ الأعظم آيةالله العظمي السيّد الإمامالخميني(قدس سره) ما يوضّح الحال عن الحيثيات التقييدية والتعليلية التي يهمّنا أمرها في المقام، حيث قال سماحته:

العرض الذي يطرء علي الموضوع ويوجب التغاير في الجملة بين الشيئين، إن عرض بواسطة الحيثية التعليلية فيكون عرضاً ذاتياً متحداً مع الحيث التعليلي فلا يكاد يكون هناك تغاير بين الوجودين، وإن كانت الواسطة حيثية تقييدية فالتغاير متواجد لكون الحيث تقييدياً وبذلك

ص: 42


1- 22. . نهاية الحكمة، ج1، ص 192.

يكون العرض غريباً مصحِّحاً للتفاوت(1).

هناك عدّة وجوه يطرحها علمائنا الأعلام والمشهور من محققي أصحابنا لبيان وجه التمايز بين القاعدة الأصولية والفقهية كيف ؟ فإنّهم يخصّصون لكلّ واحدة منهما مجالاً مختصاً به واالا فلو كان حال القواعد الفقهية كالقواعد الأصولية لم يبق وجه لهذا التفارق والتباعد، لكن يجدر بنا أن نشير في مستهلّ البحث إلي أنّ القاعدة الأصولية سواء اتحدت مع القاعدة الفقهية أم سلّمنا تلك الأمور المائزة ولو بعضها ليوجبَ ذلك لزوم طرح كل واحدة في مجال مستقلّ به فإنه لا تتغير الثمرة العملية في الخارج بل البحث علمي صرف، فلنتعرّض بعد أخذ هذه النكتة بعين الاعتبار إلي ما قيل في بيان الفرق بين القاعدتين لنري ما فيه من النقض أو الإبرام فنقول بعونه تعالي:

الوجه الأول: القاعدة الفقهية ما يمكن للمكلف أن يجريها بنفسه فيما يبتلي به من الحوادث والوقائع كما لو رأي في الشارع عيناً بيد أحد فيحكم وفقاً لمفاد قاعدة اليد علي أنّ المكلّف الذي بيده المال مالك لتلك العين المرئية وهذا بخلاف القاعدة الأصولية حيث اانّ المكلف في مثل اعتبار خبر الواحد أو الإستصحاب لا يمكنه تطبيق الحكم في مجال العمل بل يحتاج إلي أن يطبّق الحكمَ الفقيه المقلَّد عنه.

فيه: انّه إن أريد من عدم تمكن المكلف في إجراء القاعدة الأصولية انّه في إحراز الكبريات أو تشخيص بعض الموضوعات والصغريات عاجز فلذا يُمنع من تطبيق الكبري الكلية فنقول في ردّه أنّ حاله في القاعدة الفقهية كذلك فالفرق ليس بتامّ،مثل-اً لو لم يعلم بأنّ هذا ثقة ليُجري كبري اعتبار أخبار الثقات أم هو غير ثقة فاانّه يمنعه ذلك

ص: 43


1- 23. . جواهرالأصول، ج1، ص 41 وكذلك راجع: الحكمة المتعالية، ج1، ص 33.

من إجراء القاعدة الأصولية فكذلك الأمر في القواعد الفقهية عند الجهل بالصغري واان اُريد أنه مع إحراز الصغري والعلم بالكبري يُمنع من ذلك ففيه انّ الأمر حينئذ في المقام بين القاعدتين الأصولية والفقهية سواء فكما يمكن للمكلف تطبيق القواعد الفقهية كذلك يمكنه أن يطبّق قواعد الأصول ويؤيّد المذهب القائل بعدم الفرق بين البابين انّه يشاهد بعضاً مّا ذكر اعتبار خبر الثقة تارة في عداد القواعد الأصولية وأخري في ضمن القواعد الفقهية(1).

الوجه الثاني: القاعدة الفقهية هي ما ترتبط بجانب العمل بلا واسطة ولكن الكبري الكلية الأصولية تحتاج إلي إحراز موضوع وصوغ برهان وقياس وبعبارة اُخري: القواعد الفقهية بنفسها أحكام شرعية والقواعد الأصولية تبيّن الأحكام الشرعية لا أنّها بلا واسطة وبنفسها تمثّل الحكم الشرعي فمثل-اً قول الشارع باعتبار قاعدة اليد وااعتباره لترتب مالكية ذي اليد حكم شرعي تكليفاً ووضعاً ولكن حكم الشارع باعتبار خبر الواحد أو اعتبار الشهرة لا يبيّن الحكم الشرعي االا بعد أن دلّ الخبر علي وجوب مفاده ولزوم العمل علي وفقه.

و قد قرّب المحقّق النائيني(قدس سره) هذا الوجه حيث قال:

إنّ النتيجة في المسألة الأصولية إنّما تكون كليّة ولايمكن أن تكون جزئية وهذا بخلاف النتيجة في القاعدة الفقهية، فإنها تكون جزئية ولو فرض أنه في مورد كانت النتيجة كلية ففي مورد آخر تكون جزئية.

فالمائز بين المسألة الأصولية والمسألة الفقهيّة هو أن النتيجة في المسألة

ص: 44


1- 24. . القواعد الفقهية، المكارم الشيرازي، ج2، ص 81.

الأصولية دائماً تكون حكماً كلياً لا يتعلق بعمل آحاد المكلفين إلّا بعد التطبيق الخارجي، وأمّا النتيجة في القاعدة الفقهيّة فقد تكون جزئية لاتحتاج في تعقلها بعمل الآحاد إلي التطبيق بل غالباً تكون كذلك(1).

فيه أيضاً ما مرّ سابقاً في بيان واقع الأمر بالنسبة إلي الوجه الأول حيث نقول بأنّ الأمر بين القاعدة الأصولية والفقهية سواء فكما انّ اعتبار الشهرة يدلّ علي الوجوب مثل-اً بعد كون مفاد نفس الشهرة هو الوجوب وهذا الاعتبار للشهرة يعدّ سابقاً عن مرحلة ترتّب الحكم، فكذلك الأمر في قاعدة اليد فإنّها تثبت انّ هذا المكلف مالك ومن بعد ااثبات مالكيته وبواسطة دليل تسلّط الملاك علي أموالهم وحرمة التصرف في أموالهم بغير إذنهم يترتب علي قاعدة اليد حرمة التصرف في مال ذي اليد.

الوجه الثالث: إنّ القاعدة الفقهية لا ينحصر عددها في مقدار محدود ومعيّن وهذا بخلاف القواعد المقرّرة في الأصول حيث إنّها عبارة عن عدّة معيّنة خاصة.

فيه أولاً إنّ القواعد الفقهية أيضاً منحصرة عند الفقيه في عدد معيّن لعدم معقولية الإبهام في عددها لمعلومية الأدلة عدداً فتكون القاعدة الناشئة منها كذلك.

ثانياً إنّ هذه الجهة لايكاد يمكن أن نعتبرها جهة فارقة ومميّزة فإنّ صرف التغاير بالعدد ليس من مقوّمات القاعدتين ليصلح أن يعدّ فارقاً، لكن الأمر بيد المعتبر فلو اعتبر هذه الحيثيات التعليلية فيمكنه أن يفرّق بها بين المشتركات ولو ألغاها فلايبقي وجه للتفرقة بها فلربما يعتدّ بكثرة القواعد الفقهية دون القواعد الأصولية حيث تزيد

ص: 45


1- 25. . فوائد الأصول، ج4، ص 309.

القواعد الفقهية علي الأصولية عدداً.

الوجه الخامس:

انّ الاختلاف ومجال النقاش في المسائل الأصولية أفسح من دائرة النقاشات الّتي يمكن أن يقال بها في موارد القواعد الفقهية فلذا يفرّق بينهما ويجعل كلّ واحد منهما مستقلاً وعلي حدة، قال بعض العلماء المعاصرين في بيان هذا الوجه:

إنّ مجال البحث واختلاف الآراء في المسائل الاصولية أكثر منه في القواعد الفقهية وذلك لأنّ الأولي عقلية أو أقرب إليها ولكنّ الثانية شرعية أو أقرب إليها فتبتني كثيراً علي الأدلة الشرعية ولكنّ الأولي تبتني كثيراً علي الأدلة العقلية(1).

لا يخفي انّه لو سلّم هذا الوجه فهو من الحيثيات التعليلية الّتي لا توجب التباين الذاتي بين القاعدتين لأنّ كثرة النقاش أو عدمها أو عقليّة المدارك وهكذا لا يوجب

ص: 46


1- 27. . المصدر.

التنويع والاختلاف الذاتي الجوهري الذي هو الملاك لنا في هذا المقام مع انّ في القواعد الفقهية أيضاً ما هو عقلي ومورد النقاش كما أنّ في القواعد الأصولية ما يكون قليل النقاش كحجية خبر الثقة حيث إنّه في أصلها لا يظهر خلاف واختلاف كذائي.

قال صاحب الكفاية في الأصول العملية ما يظهر منه ذهابه إلي الوجهين الأخيرين:

وهي التي ينتهي إليها بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل، م-مّا دل عليه حكم العقل أو عموم النقل والمهمّ منها أربعة، فإن مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية وإن كان م-مّا ينتهي إليه فيما لاحجة علي طهارته ولا علي نجاسته، إلّا أن البحث عنها ليس بمهمٍّ، حيث إنها ثابتة بلاكلام، من دون حاجة إلي نقض وإبرام، بخلاف الأربعة وهي البرائة والاحتياط والتخيير والاستصحاب، فإنها محلّ الخلاف بين الأصحاب ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضي عموم النقل فيها إلي مزيد بحث وبيان ومؤونة حجة وبرهان، هذا مع جريانها في كلّ الأبواب واختصاص تلك القاعدة ببعضها (1).

الوجه الرابع:

القاعدة الفقهية مختصة موارد جريانها بباب أو بابين لكن القاعدة الأصولية تجري في جميع الأبواب الفقهية.قال أحد الأعلام في بيان هذا الوجه ما نصّه:

يمكن أن يقال: إنّ دائرة المسائل الأصولية أوسع مورداً من دائرة القواعد الفقهية غالباً بمعني أنّ مصاديق الأولي كحجية الظهورات مثل-اً أكثر من مصاديق الثانية كحجية سوق المسلمين مثل-اً، نعم يكون نادراً مصاديق الأولي أقلّ من مصاديق الثانية (2).

فيه ماسبق من ذكر مختارنا في خصوص الوجه الثالث من كون الحيثية تعليلية.

الوجه السادس:

ما ذهب إليه السيّد الإمام الخميني(قدس سره) حيث قال في تعريف القاعدة الأصولية:

هو القواعد الآلية التي يمكن أن تقع كبري استنتاج الأحكام الكلية الإلهية أو الوظيفة العملية.

فالمراد بالآلية ما لاينظر فيها بل ينظر بها فقط، ولايكون لها شأن إلّا ذلك،

ص: 47


1- 28. . كفاية الأصول، ص337.
2- 26. . تحقيق في القواعد الفقهية- ص 13.

فتخرج بها القواعد الفقهية، فإنها منظور فيها، لأنّ قاعدة مايضمن وعكسها - بناء علي ثبوتها- م-مّا ينظر فيها وتكون حكماً كلياً إليهاً (1).

لكن التحقيق يساعد علي أنّ حال كلتا القاعدتين واحد لأنّ القاعدة الفقهية أيضاً تقع كبري قياس الاستنباط للأحكام الشرعية، وفي هذا الحال تكون قاعدة آلية ينظر بها كما أنّ القاعدة الأصولية تكون كذلك.

هذا مع أنه لونظرنا إلي القاعدة الأصولية مع قطع النظر عن كونها كبري لقياس الاستنباط، فتكون حينئذ م-مّا ينظر بها أيضاً، فاتضح أن الأمر في التفريق بين البابين أو عدم ذلك، هو بكيفية اعتبار المعتبر وقد رأينا من مقتضي النظر الدقيق كون القاعدة الأصولية والفقهية علي حال واحد في هذا المقام أيضاً.

الوجه السابع:

هو عبارة عمّا ذكره أحد الأعلام المعاصرين حيث قال:

القواعد الأصولية لاتقبل التخصيص والقواعد الفقهية تقبل التخصيص أو التقييد، إن القواعد الفقهية تحتاج إلي القواعد الأصولية ولكن القواعد الأصولية لاتحتاج إليها، وبعبارة أخري إن القواعد الأصولية لا يتوقّف ثبوتها علي قاعدة فقهية بخلاف القواعد الفقهية فإنّها جميعاً م-مّا لابدّ في حصولها من كبري أصولية(2).

أقول: لايخفي أن الفرق الأول منتقض لإمكان التصور الصحيح عن وقوع التخصيص أو التقييد في الدليل الذي يدلّ علي حجية خبرالثقة كما يدّعي ذلك في عدم قبول

ص: 48


1- 29. . مناهج الوصول إلي علم الأصول، ج1، ص 51.
2- 30. . القواعد الفقهية، السبزواري، ج1، ص 27.

خبر الثقة الدالّ علي الاعتقاديات(1)، فيكفينا إمكان ذلك للحكم باتحاد القاعدة الأصولية والفقهية جنساً، كما أنّ تقييد بعض القواعد الفقهية كقاعدة التجاوز مثل-اً لدليل الاستصحاب في كثير من الموارد بلا إشكال كما أشار إلي ذلك التقييد علي وجه كلي صاحب الكفاية(2)، لأنه لو قدّمنا الاستصحاب مطلقاً لم يبق مجال لجريان القاعدة التي تجري في المقام الصالح لأن يجري فيه الاستصحاب أيضاً، فبتقديم الاستصحاب عليها في جميع الموارد يلزم عدم محمل للخبر الدالّ علي اعتبار تلك القاعدة الفقهية.

أمّا الوجه الثاني في كلامه للتفرقة بين القاعدتين بأنّ القواعد الأصولية تحتاج إليها القاعدة الفقهية دون العكس كما لو فرضنا توقفها علي قاعدة أصولية معبَّر عنها بحجية القطع، فيرد عليه أيضاً بأنّ بعض القواعد الأصولية كنفس قاعدة حجية القطع محتاجة أيضاً إلي موضوع لتجري فيه، يعني مادام لم يكن مقطوع في المقام فليس هناك مجال لجريان كبري اعتبار القطع الذي هو قاعدة أصولية، فكما أن الكبري تحتاج إليها الصغريات في القواعد الفقهية فهكذا الأمر بالعكس ولنا بعض أجوبة أخري نغضّ البصر عنها إحترازاً عن الإطالة.

فالخلاصة أن مقتضي التحقيق التابع لكيفية اللحاظ والاعتبار في المقام عدم نهوض دليل ووجه قويّ غير وارد عليه أيّ إشكال، علي صحة التفرقة بين البابين وذهب بعض المتأخرين ممّن ذكر بعض وجوه أصلاً لتصحيح التفرقة إلي عدم نهوض كثير من هذه الوجوه لإمكان التفرقة بين القاعدة الأصولية والفقهية بها، حيث قال في ردّها ما يشمل

ص: 49


1- 31. . تهذيب الأصول، السبزواري، ج2، ص 102.
2- 32. . كفاية الأصول، ص 433.

تلك الوجوه التي ادّعي كونها صالحة للتمييز بها بين القواعد الأصوليةوالفقهية(1)، لكن يمكن توجيه المذهب القائل بصحة التفريق بأنه أخذ تلك التمايزات التي يمكن إيراد الإشكال الأساسي عليها حيثيات تقييدية حيث يصح جعل التفارق بواسطة الحيث التقييدي الذي هو تغايري جوهري بين الوجودين في مقام التفريق والمقايسة.

الفرق بين القواعد الفقهية ومسائلها

وممّا ذكرنا في الأمر السابق يظهر الفرق بين القواعد الفقهية ومسائلها، فإن القواعد الفقهية كالأصولية أحكام كلية شرعية تقع في طريق تشخيص وظيفة المكلف في مقام العمل والمسائل الفقهية أحكام جزئية فقهية تعمل بها المكلف في مقام العمل، كيف؟ فإن المسألة الفقهية بمثابة الصغريات والموضوعات الجزئية لتلك القواعد الأصولية أم الفقهية الكبروية.

ولا يخفي أنه ليس كل حكم كلي قاعدة فقهية، بل القاعدة الفقهية عبارة عن قضية كلية شرعية لها موضوع عام يشمل كلّ فعل أو ذات يصدق عليه ذلك الموضوع ويكون الحكم فيها يحمل علي ذلك الموضوع العام بجميع أفراده ومصاديقه إلّا ماخرج بالدليل.

فلا تشمل هذه الماهية الثبوتية المقرّرة القضايا التي كانت أفراد موضوعها محدّدة ومعيّنة في الشريعة بل هي تدخل في المسائل الفقهية فقولهم: «الصلاة واجبة» مسألة فقهية لأنّ الوجوب لايتعلق بكلّ صلاة علي نحو القضايا الحقيقة الانحلالية حيث بتعدد موضوعاتها ينطبق الحكم الكبروي عليها ولاتكون هذه الموضوعات معيّنة في حدّ خاص، بل الصلوات التي يحمل عليها وصف الوجوب في الشريعة معلومة معدودة في الفقه الإسلامي.

ص: 50


1- 33. . القواعد الفقهية، السبزواري، ج1، ص 27-21.

أربع مسائل في بعض شؤون القاعدة و عنوانها

اشارة

ص: 51

ص: 52

تاريخ البحث عن قاعدة التسامح

اانّ البحث عن تاريخ الاستدلال بالقاعدة والتصريح باعتبارها يفيدنا كون القاعدة مسكوتاً عنها عند القدماء حيث عند مراجعتنا لكتابات الشيخ الطوسي والشيخ المفيد والسيّد المرتضي وابن إدريس وسلاّر لا نجد تصريحاً بالقاعدة(1) واان كان من الممكن أن يسامحوا في الآداب والسنن المندوبة، لكن مرادنا هنا التصريح بالقاعدة وانه لدينا قاعدة تسمّي بكذا وتثبت عدم لزوم البحث عن السند في الأخبار الدالّة علي المستحبات.

قال الشهيد الأول في تصريحه لهذه القاعدة ضمن بيان واجبات القرائة:

و عاشرها أنه يجب فيه الموالاة الواجبة في القرائة ومراعاة اللفظ المخصوص به باللسان العربي فلا تجزئ ترجمته.

نعم لو إضطرّ إليه ولم يمكنه العربية فالأقرب جوازه... وحادي عشرها المشهور أنّه لا يستحب الزيادة علي إثنتي عشرة وقال ابن أبي عقيل يقول: سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلّا اللّه واللّه أكبر سبعاً أو خمساً وأدناه ثلاث في كل ركعة ولا بأس باتّباع هذا الشيخ العظيم الشأن في استحباب تكرار ذكر اللّه تعالي(2).

حيث اانّ الاستدلال للاستحباب بهذا النحو دالّ علي تسليم التسامح في المندوبات عند الشهيد(قدس سره).

قال المرحوم المراغي في العناوين بالنسبة إلي القاعدة ما لفظه:

ص: 53


1- 34.. راجع من باب التمثيل منتهي المطلب:ج9، ص308.
2- 35. . الذكري: ج3، ص 319.

اشتهر في كلمة الأصحاب سيّما المتأخرين منهم التسامح في دليل المستحبّات والمكروهات ويتفرّع علي هذه القاعدة كثير من الأحكام الشرعية في أبواب الفقه إذ أغلب المندوبات والمكروهات ليس له دليل قوي(1).

و قد ذكر الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره):

المشهور بين أصحابنا والعامة التسامح في أدلّة السنن بمعني عدم اعتبار ما ذكروه من الشروط للعمل بأخبار الآحاد من الإسلام والعدالة والضبط في الروايات الدالّة علي السنن فعلاً أو تركاً (2).

وجاء في كتاب الذكري للشهيد الأول(قدس سره) أيضاً:

إنّ أخبار الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم.(3)

قال في الحدائق بشأن هذه المسألة:

لا يخفي انّه قد وقع لنا تحقيق نفيس في هذه المسألة لا يحسن أن يخلو عنه كتابنا هذا وهو أنّه قد صرّح جملة من الأصحاب في الاعتذار عن جواز العمل بالأخبار الضعيفة في السنن بأنّ العمل في الحقيقة ليس بذلك الخبر الضعيف وإنّما هو بالأخبار الكثيرة الّتي فيها الصحيح وغيره الدالة علي أنّ من بلغه شيء من الثواب علي عمل فعمله ابتغاء ذلك الثواب كان له واان لم يكن كما بلغه... (4).

الظاهر أنّ تسالم العلماء عمل-اً علي هذه القاعدة قديماً وحديثاً مما لا ينكر ويؤيّده ظاهر

ص: 54


1- 36. . العناوين الفقهية: ج 1، ص 420.
2- 37. . رسائل فقهية: ص 137.
3- 38. . ذكري الشيعة: ص 68 من أحكام الميت.
4- 39. . الحدائق الناضرة: ج 4، ص 198.

كلمات هؤلاء الأعاظم كيف؟ فإنّ التغافل عنها وهي مفاد بعض الأخبار بعيد غايته.

فاتّضح أنّ التسالم العملي مع كون القاعدة مفاد بعض الأخبار المعتبرة وظهور كلمات المصرّحين بالقاعدة في اشتهارها بين جميع الأصحاب أمر مسلّم ولكن البحث في أنّ القدماء قبل العلامه الحلّي(قدس سره) لم يذكروا هذه القاعدة صراحة، فكيف كان القاعدة مسلّمة بين الكلّ أو الجلّ وتمتاز بدرجة من الأهمية الفائقة حيث تشمل المندوبات والمكروهات الواردة في كل باب فقهي من الطهارة والصلاة إلي الحدودوالديات، بل ولو ذهبنا في بيان مفاد القاعدة علي اقتصاره للمندوبات خاصة دون المكروهات لكانت من القواعد الهامة المستوعبة لكثير من الفروع الفقهية الّتي ربّما تخرج عن الحدّ والإحصاء ولا يقلّل عدم شمولها للمكروهات عن شأنها وأهميّتها .

ربّما يُورد علي القول بأنّ العلماء قديماً وفي العصور المتأخرة تسالموا علي القاعدة ويُناقش فيه، والحال نري عبائر بعض الأعلام ظاهرة في السعة والشمول بين الأصحاب وغيرهم أحياناً في الاستناد إليها، قال الشيخ البهائي(قدس سره) في كتابه «الحبل المتين» ما نصّه:

إنّ من عادتهم (قدّس اللّه أرواحهم) التسامح في دلائل السنن والعمل فيها بالأخبار الضعيفة تعويلاً علي الحديث الحسن المشهور الدالّ علي جواز العمل في السنن بالأحاديث الضعيفة (1).

و هكذا قال المرحوم الوحيد البهبهاني(قدس سره) بما يظهر منه نفس تلك السعة في المفهوم

ص: 55


1- 40. . الحبل المتين: ج 2، ص 373.

وأنه تسالم العلماء والأصحاب علي قبول القاعدة:

مع أنّ التسامح في أدلّة السنن م-مّا حقّق في محله ومسلّم بين الأصحاب وبسطنا الكلام في حاشيتنا علي المدارك(1).

و أيضاً يقول السيد المجاهد في مفاتيح الأصول:

إنّ جميع المحقّقين قبلوا التسامح في أدلّة السنن والعلامة فقط خالف هذه القاعدة في موردين من كتاب المنتهي وكذلك صاحب المدارك(2).

فالخلاصة انّ التسالم والعبرة بالقاعدة نظراً لاعتبار أخبارها وكونها مما دلّت عليه الأخبار - فلا يبقي مجال لدعوي الغفلة بعد عدم الصراحة في كلمات القدماء مع ظهور هذه العبائر ووجود فروع فقهية لا دليل عليها إلّا روايات ضعيفة السند - يقوّي في النظر تسالم الكلّ أو قاطبة الأعاظم علي العمل بالقاعدة بل يكفي في إثبات الاهتمام منهم بالقاعدة المذكورة ما يحصل لنا في السير التاريخي من التفات المحققين من الأصحاب إليها ولو ردعوا التمسك بمفاد القاعدة بعد النظر في أدلّتها.

مظاهر التسامح و أقسامه

اشارة

التسامح من المفاهيم الإسلامية العظيمة التي يلزم أن تشاع و تذاع ليعرفها الكلّ و تزدهر بذلك مكانة هذه الماهية الشاملة لمظاهر متعددة، عندالدين الإسلامي الخاتم للشرائع، و تُعلم جامعية الإسلام و أكمليته في التقنين و نظارته الجامعة لأفضل البرامج التشريعية الفردية والجمعية، هذا العنوان الذي تعرّضنا لذكره يتكفّل لبيان مظاهر

ص: 56


1- 41. . مصابيح الظلام، ج 2، ص 85.
2- 42. . مفاتيح الأصول: ص 346.

التسامح في دين الإسلام، ليتعيّن من خلال ذكر هذه المظاهر المختلفة محلّ بحثنا عن التسامح، لأنّ التسامح له مجارٍ متنوعة و ألوانٌ متعددة، و هذه الأنواع و المصاديق المختلفة و إن كانت ترجع إلي قدر واحد مشترك و هو جنس التسامح المتمثّل من خلالها، لكن موضوع كتابنا هو التسامح الخاصّ بجريانه في إطار مشخّص، فلذلك نحن نعيّن ذلك و نبيّن أقساماً أخري ليتمكن القاري و الباحث الخبير لتصور وجود الاشتراك بينه و سائر المصاديق في الحقول المتمايزة و كذلك يطلع علي ما يفرز المصاديق عن الأخري و يتحصّل من جرّاء ذلك تصور كامل له عن التسامح الفقهي، لأنّ مجرّد التعبير عن موضوع كلامنا بالتسامح في أدلة السّنن، لايكاد يفيد تلك المرتبة الأكمل من التصور الذهني لهذه الماهية المبحوث عنها في الفقه.

أ. التسامح في العبادات

من مظاهر هذا التسامح والتيسير جواز التيمم لمن أراد الصلاة و كان مريضاً بحيث يمنعه المرض من استعمال الماء، أو يؤدي استعمال ذلك إلي عدم البرء من المرض بسرعة، وكذلك يشرّع التيمم للمسافر السالك طريق الصحراء أو الطرقات العامة، بل الطهارة يبدل عن المائية منها بالترابية سواء كانت عن الحدث الأصغر أو الأكبر و ذلك كما في قوله تعالي: «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَي أَوْ عَلَي سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيمَّمُوا صَعِيدًا طَيبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا»(1) بل العبادات بنيت كلّها علي السماحة و التيسير في الأداء، فلم

ص: 57


1- 43. . النساء، 43.

تقم علي ما يشقّ أداءه و فعله، فكان القانون العام الإلهي هو «لَا يكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»(1) و قوله تعالي «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(2)، بناء علي أنه يدلّ علي التكليف بمقدار ما يسعه المكلف كما هو الظاهر، فالوسع و الاستطاعة هما معياران للوجوب، فتؤدّي الصلاة و الصيام و الحجّ التي هي ركائز العبادات البدنيةبما يقدر عليه المكلّف.

هذا مع أنّ التسامح و التيسير المذكور و الجاري في خصوص الأعمال العبادية أمر واضح لدي المتشرعة فضلاً عن باحثي طريق الاجتهاد و الاستنباط، فاحترازاً عن التطويل نتعرّض لذكر المصاديق الأخر للتسامح.

ب. التسامح في المعاملات

يمكن ملاحظة التسامح في المعاملات يعني مطلق العلاقات الثابتة بين أفراد الأمة الإسلامية بالنظر إلي مدارك الفقه الإسلامي، حيث نذكر من باب المثال أنّ الله شرّع للأمة المسلمة القصاص و الدية و العفو و جعل دليل ذلك قوله تعالي «وَجَزَاءُ سَيئَةٍ سَيئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَي اللَّهِ إِنَّهُ لَا يحِبُّ الظَّالِمِينَ»(3)، فالتعامل بين الناس في مطلق طبيعة العلاقات قائم علي العفو و المسامحة و الرفق، فيكون الأصل هذا المنهج التعاملي المتمثل برعاية الاعتدال و التسامح، إلّا إذا كانت هناك سيئة كالقتل فشرّع في خصوص هذه المقامات التقابل بالمثل أيضاً.

كذلك من مظاهر التسامح التي يشرّعها الدين الإسلامي في التعامل بين الناس

ص: 58


1- 44. . البقرة، 286.
2- 45. . التغابن، 16.
3- 46. . الشوري، 40.

أنّ الطلاق قبل الدخول يترتّب عليه دفع نصف المهر للزوجة و النصف الآخر هو للزوج إلّا أن الإسلام رغّب الزوجة و حثّها علي التنازل عن النصف الخاص بها حيث قال: «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَي وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَينَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(1) بناء علي اختصاص الخطاب للمرأة، كما أنّ كظم الغيظ و غضّ البصر عن إبراز الغضب في موارد وجوب الموجب له قد وقع محلّ الترغيب القرآني في قوله تعالي: «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يحِبُّ الْمُحْسِنِين»(2)، كذلك يمكن الإشارة إلي ما ورد في باب استحباب الإجمال في طلب الرزق و المسامحة في المعاملة مع الناس بأن لايبخل و يخفّف في الثمن و لا يردّ الاستقالة، نذكر هنا بعض الأحاديث كقوله(صلي الله عليه وآله): ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتي تستكمل رزقها، فاتقوا الله و أجملوا في الطلب(3)، وقوله(عليه السلام): أيّما عبد مسلم أقال مسلماً في بيع، أقال الله عثرته يوم القيامة(4).

ج. التسامح مع الأديان الأخري

تعامل المسلمين مع غيرهم من أهل الأديان الأخر قائم علي العديد من الضوابط التي تحكمه و من مظاهر هذا التعامل المسامحي معهم و إن كانوا من غير الفرقة الإسلامية التي تمتاز باعتناق أكمل دين سماوي، هذه الآية الكريمة: «لَا ينْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيهِمْ إِنَّ اللَّهَ يحِبُّ

ص: 59


1- 47. . البقرة، 237، مجمع البيان، ج2 ، ص 125.
2- 48. . آل عمران، 134 .
3- 49. . وسائل الشيعة، ج17، ص 44.
4- 50. . المصدر،ج17، ص 385.

الْمُقْسِطِينَ»(1)، لأنّه يأمر الله تعالي المسلمين بالبرّ و القسط مع غيرالمسلمين من معتنقي سائر الأديان السماوية مالم يكن أهل تلك المذاهب قد قاتل المسلمين و لم يخرجوهم من المنطقة التي كانوا فيها أول البعثة، و كذلك الآية الشريفة: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»(2)، حيث إنها لا تجبر الناس علي الاعتقاد بمعارف الإسلام بل يقرّر زعمهم بحجية معتقداتدينهم السماوي المنسوخ الذي يعتنقون به و هذا نوع تسامح معهم في بقاءهم علي شريعتهم و ناشٍ عن مصلحة في ذلك كما هو الشأن في جميع الأحكام الإسلامية.

هناك بعض مصاديق أخر للتسامح و هي التسامح الفكري و الثقافي بمعني الابتعاد عن التعصب في الأفكار، بأن يحترم فكر و منطق الآخرين و يتأدّب في الحوار و المخاطبة معهم، كذلك هناك تسامح عرقي بمعني تقبّل الفرد للآخرين الذين يختلفون معه في الأصالة النسبية و اللغة المحاورية واللون و هكذا.

د. التسامح في الفقه

هذا هو مرادنا للبحث عنه في الكتاب حيث إنّا نبسط الكلام هنا للبحث عن التسامح في المندوبات بأن يُعتني باحتمال كون الفعل مندوباً و راجحاً لاشتماله علي المصلحة الواقعية غيرالبالغة إلي مرتبة الإلزام، و كذلك يمكن أن تجري القاعدة في دائرة أوسع بأن يعتني باحتمال المكروه أو سائر الأحكام بناء علي جريانها في هذا الإطار المذكور، و سيأتي بعض المباحث في هذا الخصوص.

ص: 60


1- 51. . الممتحنة، 8.
2- 52. . وسائل الشيعة، ج17، ص 44.

فاتضح أنّ التسامح الفقهي ليس المراد منه أن يسامح المكلف في تفريغ الذمة بأن يكون مُجرياً التسامحَ حينما يشكّ في الفراغ عن التكليف المعلوم اشتغال الذمة به، كما أنه ليس المراد عنه التسامح في المعاملات بأن لا يعتدّ باحتمال الغرر و الضرر كأن لا يتعيّن الثمن أو الأجل فيها، بل المعاملات في هذه الموارد باطلة(1) و العبادات التي حالها كذلك بأن يسامح في أجزائها أو شرائطها تكون باطلة، لأن التسامح في هذه الموارد ينافي أدلة العبادات و المعاملات المقيّدة بقيود و شروط أصلاً.

قد عرفت أنّ التسامح الذي نبحث عنه هو في موارد احتمال التكليف و الاعتناء به، انقياداً و خضوعاً لله تبارك و تعالي و أنه يمكن اشتراكه مع بعض الأقسام الأخر في الجنس المشترك كما يفترق عنها في موارد جريانه و بعض أحكامه التي تذكر في البحوث الآتية.

شرح الموضوع وهو التسامح في أدلة السنن

المراد من هذه القاعدة كما أشرنا إليه إجمالاً وبالمناسبة فيما سبق عدم المداقة في الأخذ بالأخبار الدالة علي المندوبات والمكروهات بناء علي ما يأتي بيانه من تنقيح المناط، والمعني المذكور هنا بمعني عدم قدح الضعف السندي فيُقبل الخبر ولو كان في الواقع خاطئاً أو كذباً وكذا لو كان في الخبر إشكال دلال-يّ، كلّ ذلك لوجود أخبار معتبرة تدلّ علي أنّ من بلغه ثواب علي عمل فعمل ذلك العمل لرجاء ذلك الثواب ولم يكن الواقع كما في الخبر الواصل إليه فإنّه يبلغ مراده ومطلوبه من القرب والثواب الإلهي.

أمّا التعدي إلي الإشكال الدلالي فهو مبني علي التوسعة في الحكم الناشئة من سعة

ص: 61


1- 53. . العروة الوثقي، ج5، ص 83.

العلة المقتضية وهي دلالة العقل علي هذه القاعدة علي ما يأتي، فبهذا يتضح أيضاً انّ أحد المباني في المسألة إرشادية الروايات الدالة علي مفاد القاعدة إلي ما يحكم به العقل من حسن الانقياد والعبودية الانقيادية.

أمّا لفظ التساهل فلربّما يخطر ببال الباحث جواز استعماله بدل التسامح، بأن يقال: التساهل في سند الأحكام غير الإلزامية، لكن التبادر العرفي يكذّب دعوي صحة هذا التصوّر ويخطّأ المعتقد بذلك، حيث إن المعني العرفي المتبادر من لفظة التساهل غير ما يتبادر من لفظة التسامح، كيف؟ فإن التسامح يراد منه عرفاً ولغة بناء علي اتحاد المعنين في المقام كما هو مشهود في كثير من الموارد، غضّ البصر عن التدقيق والمداقة في الأمر انطلاقاً عن السماحة والكرم وعزة النفس مع أنّ ما يفهم من لفظ التساهل هو عدم الاعتناء قصوراً أو تقصيراً في الأمر وهو بعيد عن شأن الشارع المقدّس كما هو واضح بأدني تأمّل.

يمكن أن نشير في المقام إلي المعني اللغوي لكلمة التساهل حتي يتضح الفرق بينه وبين المعني الذي يخطر إلي الذهن من لفظ التسامح، قال الجوهري في الصحاح ما نصّه:

السهل: نقيض الجبل وأرض سهلة والنسبة إليه سهلي بالضمّ علي غيرقياس، وأسهل القوم: صاروا إلي السهل ورجل سهل الخلق، والسهلة رمل ليس بالدقاق والتسهيل التيسير(1).

فإن تعريف السهل والتسهيل بالتيسير يصطاد منه حال الرخاوة وعدم الاعتناء

ص: 62


1- 54. . الصحاح، ج5، ص 1173.

قصوراً أو تقصيراً.

نعم مقتضي التحقيق الأدقّ والتعميق الأكثر أن يقال: إن لفظ التساهل يمكن أن يتبادر منه غضّ البصر عن كرامة ولطف كما هو كذلك في مورد التسامح حيث إن الغضّ فيه صادر عن المسامحة واللطف ولذلك فسّر الجوهريّ نفسه التساهل في موضع آخر بالتسامح(1)، لكن علي أيّ حال هذا الاشتراك اللفظي أو المعنوي للفظ التساهل بين معني إيجابي وسلبي وهما غضّ البصر وعدم المداقة تارة عن لطف وأخري من قصور مثلاً، م-مّا يبعّد رجحان استعمال لفظ التساهل في خصوص ما ينسب إلي الشرع الحكيم الحنيف.

ممّا يؤيّد استعمال لفظ التساهل في المعني السلبي المذكور ما ذكره بعض كبار العلماء حيث قال في خصوص ارتكاب بعض أطراف العلم الإجمالي ما نصّه:

إن ارتكاب بعض الأطراف تساهل في الدين وعدم مبالاة بإلزامات المولي(2).

عنوان التسامح قيد احترازي

الأصل في القيود احترازيتها لأنّ الغالب أن يؤتي بها للافتراق عن غير المتصف بها وخلاف ذلك بأن يكون القيد توضيحياً غير موجب لإخراج غير الذات المتصفة بذلك الوصف، يحتاج إلي قرينة، والسرّ في كون الأصل في الأوصاف في كثير من الموارد علي الاحترازية حكم العرف العقلائي بأن المولي حينما يريد أن يأمر عبيده ويقول لهم: إكرام الفقير العادل واجب، يتبادر منه إكرام خصوص الفقير العادل دون الفقير الفاسق لكون

ص: 63


1- 55. . الصحاح، ج5، ص 1733.
2- 56. . تهذيب الأصول، ج2، ص 45.

الوصف في مقام الإطلاق.

فاتضح أن المراد من التعبير بكون الأصل في القيود أن تكون احترازية - كما في كفاية الأصول(1) - أن استعمال الوصف في مقام الاحتراز به عن غيرالمتصف به هو الأكثر ولربّما واضع الهيئة الوصفية وضع هذه الهيئة اللفظية للاحتراز ولكن مع ذلك قد يستعمل الوصف في المحاورات المتعارفة في غير هذا الغرض كقولك لأحد: رأيت في الطريق عالماً عادلاً، فإنه لامعني للاحترازية بالوصف هنا علي قول.

فكيف كان، سواء كانت ماهية مبنانا في الاحترازية مسلّمة كما هو كذلك بحسب رأينا أم لا، وسواء كان الوصف في المثال احترازياً أم لا، يتبادر من قيد التسامح في عنوان القاعدة في مقام التعبير عنها ب- «التسامح في المندوبات» احتراز عن غير المندوبات.

الظاهر بل المتعيّن كون المحترز عنه هو الوجوب والتحريم علي الأقل، توضيح البحث يستلزم بسط المقال وتبسيط المجال بنحو يتضح به واقع الحال فنقول بعون الله تعالي:إنه في خصوص المستفاد عن قاعدة التسامح في المقام رأيان: الرأي الأول هو ثبوت الندب المولوي الشرعي بأخبار المقام كما ذهب إليه كثير من الأعلام كصاحب الكفاية(2) والمدارك(3) والرأي الثاني هو الاعتقاد بعدم ثبوت الندب الشرعي وكون الحسن الثابت للفعل الذي يؤتي به بداعي كونه محبوباً، إنّما هو بالعقل فتكون الأخبار الواردة في القاعدة إرشادية، وقد اخترنا هذا المبني كما ستطلع علي ذلك مفصّلاً في خلال طرح

ص: 64


1- 57. . كفاية الأصول، مبحث مفهوم الجملة الوصفية.
2- 58. . كفاية الأصول، ص352 .
3- 59. . مدارك الأحكام، ج3، ص 238، .

البحوث الآتية إنشاءالله تعالي.

أمّا علي المبني الأول فثبوت الندب الشرعي بل الكراهة الشرعية - بناء علي تنقيح المناط كما يأتي بيانه - بلا إشكال، فعليه ليس التسامح في الواجب والحرام بل ذاك ثابت في خصوص المندوب والمكروه وإلّا فالشارع يحرّم الافتراء في موارد عدم العلم المعتبر بثبوت الواجب والحرام بأن يقول المكلف في هذا الفرض بأن الفعل المشكوك وجوبه واجب أو المشكوك تحريمه حرام، أمّا علي المبني الثاني فلا يثبت إلّا الندب والكراهة بالعنوان الثانوي، فعليه يكون القول بثبوت الأحكام الأربعة المولوية التشريعية من الوجوب والتحريم والندب والكراهة بل الإباحة الاقتضائية(1) خاصة أو هي مع اللاقتضائية، كذباً وافتراء محرّماً بقوله تعالي: «قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللَّهِ تَفْتَرُونَ»(2) وغيره من الأدلة المبحوث عنها في محلّها.

قال صاحب العناوين في المقام:

ظاهر لفظ التسامح هنا يدلّ علي أنّ الأصحاب في دليل الوجوب والتحريم يأخذون بالمداقة بمعني أنّهم لا يعتمدون فيهما إلّا علي ما هو دليل شرعاً، أي ما قام الدليل علي حجيته بخلاف غيرهما، فإنهم يعتمدون فيه علي ما لم يقم دليل علي حجيته كالخبر الضعيف وفتوي الفقيه الواحد والشهرة

ص: 65


1- 60. . الإباحة الاقتضائية بمعني وجود المصلحة الواقعية في كون الفعل مباحاً فيحكم الشارع بذلك كما يحكم بالأحكام الأربعة للمصالح الواقعية وأمّا الإباحة اللاقتضائية فهي بمعني عدم مصلحة في الحكم بها ولاغيرها من الأحكام وحيث في الحكم بالإباحة اللاقتضائية ليست مولوية ظاهراً، فليس هناك تشريع لها ليكون الحكم بها مصيباً أو افتراء، فتأمّل.
2- 61. .يونس، 59.

المجرّدة عند من لا يري حجيتها (1).

لكن ثبوت التسامح في المندوب والمكروه ليس إلّا مبتنياً علي القول بأن المستفاد من أخبار الباب هو حكم الشارع بترتيب المندوبية الواقعية والمكروهية كذلك -بناء علي تنقيح المناط - تسامحاً، في الفعل المشكوك كونه مندوباً وكذلك في الفعل المشكوك في كراهته، لكن بناء علي مبني عدم الندب الشرعي المولوي بل العقل حاكم بحسن الاتيان بالفعل المحتمل للندبية والأخبار إرشاد إلي ذلك وليست دالة علي الحكم المولوي، فليس عدم ثبوت التسامح مختصاً بالواجب والحرام، بل يشمل المندوب والمكروه أيضاً كما لايخفي علي أهل التدبر والتحقيق.

يبقي أن نقول بأنه بناء علي عدم التسامح في البين لأنه رجّحنا المذهب القائل بالحكم العقلي الذي تكون الروايات الواصلة في الباب مرشدة إليه، فما هو تكليف هذا القيد الظاهر منه كونه احترازياً؟

أقول: بأن كون القيد المذكور في عنوان القاعدة وهو لفظ التسامح، ظاهراً في الاحترازية مسلَّم ولكن الظاهر كون هذا التعبير دارجاً من أصحاب المبني الأول حيث أثبتوا الندب الشرعي بهذه الأخبار التي نذكرها في المقام واحترزوا بهذه القاعدة المثبتة للندب الشرعي ولو مع ضعف الدليل الدالّ علي الندب، عن الوجوب والتحريم اللذين ربّما يدلّ عليهما دليل ضعيف.

فهذا جمع عرفي متناسب بين المبني الثاني وهذا القيد الاحترازي وإلّا فعدم اجتماع ذلك المبني مع الاحتراز المذكور بلفظ التسامح أظهر من أن يخفي علي أولي الدراية.

ص: 66


1- 62. . العناوين الفقهية، ج1، ص 420.

أدلّة قاعدة التسامح

ص: 67

ص: 68

أدلّة قاعدة التسامح

الوجه الأول: الإجماع والشهرة علي القاعدة

لا يخفي علي المتأمّل البصير أنه في المسألة الّتي فيها بعض الأخبار المعتبرة الواردة ودلالة العقل القطعي لا يبقي مجال للإستدلال بالإجماع والشهرة ليكونا مثبتين لأصل القاعدة فضلاً عن حدودها والتفريعات والتفصيلات لها والسرّ فيه انه يكون الإجماع فضلاً عن الشهرة الفتوائية محتمل المدركي وبأصالة العدم يندفع احتمال وجود دليل آخر علي القاعدة لم يصل إلي أيدينا، هذا لو سلّمنا صغروية المقام للإجماع والشهرة الفتوائية أمّا لو قلنا بمنع ذلك أو الشك فيه فالبحث والاستدلال بهما مما لا يكاد يفيد شيئاً بطريق أولي(1).

قال بعض العلماء المعاصرين في رسالته التحقيقية في القاعدة ما نصّه:

والظاهر أنّه لا يمكننا القول بأنّ صحة التسامح في أدلّة السنن هي مسألة إجماعية بين الفقهاء لأنّ القدماء لم يتعرضّوا لها كما تقدّمت الإشارة إلي ذلك وأنّ أخبار من بلغ لم ترد أبداً في كتاب التهذيب والاستبصار والمبسوط والخلاف وكذلك لم تطرح في كلمات الشيخ المفيد والسيد المرتضي وأمثالهما، إذن فعندما نري أنّ الشيخ لم يذكر هذه الروايات الّتي تعتبر أهمّ مدرك لقاعدة التسامح في كتابيه الأصليين وكذلك الشيخ الصدوق في من لا يحضره الفقيه بل إنّه ذكرها فقط في كتاب ثواب الأعمال... فكيف

ص: 69


1- 63. . راجع ماكتبناه في بحث الحجج و الأمارات، نهج الوصول إلي مسائل الأصول، ص 180، كذلك لاحظ تهذيبالأصول، ج2، ص 139.

يمكن الادعاء بأنّ هذه القاعدة كانت مشهورة بين الفقهاء(1) .

لكن يمكن القول بأنّ الاستدلال السابق منّا يبعّد عدم وقوف القدماء وعدم أخذهم بالقاعدة فلربّما استندو إليها في فتاواهم وتسالموا في الأخذ بها وإن لم يصرّحوا بأنّ القاعدة الكذائية هي مستندنا في هذه المسألة وأمثالها ولم يسمّوها في مقالاتهم كما هو الشأن في بعض القواعد الفقهية الأخري، هذا مع انّ إخبار الوحيد البهبهاني(قدس سره) بأنّ اعتبار القاعدة (مسلّم عند الأصحاب)(2) وقول الشيخ الأعظم(قدس سره):إنّ هذه القاعدة مشهورة بين الأصحاب،(3) يقطع مجال الشبهة والإشكال ولا يقال :اانّ إخبارهما عن الشهرة والإجماع مثل-اً مستند بالحدس أوالطرق الخاصة بهما من اجتهادهما واستنتاجهما والحال أنّ الخبر الذي يعتبره العرف والشرع هو خبر الواحد الثقة عن حس لأنه نقول: يندفع هذا الإيراد بأنّ مقتضي إطلاق كلام العلمين هو استنادهما إلي الحس وكأنّهما يريان الشهرة من الفقهاء أو التسالم منهم علي العمل بالقاعدة فلا تغفل.

نعم ربّما يقال باانّه تكثر الأقوال والمباني في مسألة التسامح في أدلة السنن فكيف يمكن تصور الإجماع ثبوتاً وإثباتاً والحال انّه لا رأي واحد وقول فارد يتوارد عليه كل واحد من أقوال الفقهاء والعلماء؟ وبعبارة أخري اانّ الإجماع أو الشهرة يعرضان علي محل فحيث اانّ الرأي الواحد هو الذي يصلح لاتصافه بالشهرة أو وصف الإجماع وهو مفقود بالفرض فلا يعقل وجود الوصف أي الإجماع والشهرة بدون المعروض وهو القول الواحد.

يرد علي هذا القول أنّ الاختلاف في حدود القاعدة لا يضرّ في أصل الاتفاق علي

ص: 70


1- 64. . قاعدة التسامح في أدلة السنن: ص 26.
2- 65. . مصابيح الظلام: ج 2، ص 85.
3- 66. . رسائل فقهية: ص 137.

اعتبارها فكما يمكن الاستدلال بالإجماع المركب في سائر الموارد وهو الإجماع الذي يتّفق المجمعون فيه علي قدر مسلّم واحد ومشترك بين الكل فكذلك الأمر هنا فإنّ اختلافهم في خصوصيات القضية لا يمنع من التسالم علي قدر جامع.

نعم لو أردنا أنّ العلماء مجمعون في تلك الخصوصيات كما في أصل المسألة لكان لهذا الإشكال مجاله، فهنا أحد مصاديق الإجماع المركب حيث انّ المختلفين في شؤون القاعدة يتّفقون في قدر جامع وجهة مشتركة.

فتلخّص انّ العمدة هو الإشكال الكبروي الوارد في المسألة ونظائرها م-مّا يوجد فيه دليل شرعيّاً كان أوعقليّاً وأمّا النزاع الصغروي فقابل للاندفاع حيث لا يبعد تحقق الشهرة أو الإجماع وأمّا الإشكال بما ذكرناه أخيراً فقد عرفت جوابه. قال السيد حسن البجنوردي(قدس سره) صاحب الكتاب القيّم «القواعد الفقهية» في هذا المجال وانّه هل تحقق إجماع أو شهرة في القاعدة المبحوث عنها أم لا؟ ما نصّه:

و من جملة القواعد الفقهية المشهورة قاعدة التسامح في أدلّة السنن(1).

و نقلنا عن صاحب العناوين قوله الظاهر في تحقق الشهرة من جميع الأصحاب حيث قال:

اشتهر في كلمة الأصحاب سيّما المتأخرين منهم التسامح في دليل المستحبات والمكروهات(2).

ص: 71


1- 67. . القواعد الفقهية: ج 3، ص327.
2- 68. . العناوين: ج 1، ص 420.

الوجه الثاني: دلالة العقل

اشارة

ليعلم أنّ لتقرير دلالة العقل علي هذه القاعدة بيانين فنتعرض لهما ث-مَّ بيان النقض والإبرام فيهما.

البيان الأول: إنّ التجري وهو فعل ما لا يعلم كونه معصية وإتيانه جرأة علي الله تبارك وتعالي أو إتيان ما عدّه حراماً ث-مَّ ظهر إباحته موجب لاستحقاق المتجري للعقوبة وفيه مفسدة نفسية واقعية، فكذلك الانقياد وعنوان بذل الطاعة فيما يحتمل الأمر اللزومي أو الندبي باتيان شيء، فإنه أمر ذو مصلحة نفسية واقعية ويستحق به العبد الثواب والأجر لكون الانقياد بنفسه عنواناً حسناً مترتباً عليه الأجر وهكذا الأمر لو اعتقد انّ الفعل المزبور مندوب وعلم به ث-مَّ انكشف كونه مباحاً لا رجحان في فعله، إذا عرفت ذلك فالمقام الذي نحن فيه مصداق لكبري الانقياد فإنّ مجرد كون هذا العمل محتمل الرجحان والمندوبية الشرعية يوجب انقداح إرادة العبد لأن يأتي بالفعل برجاء المطلوبية والانقياد فيترتب الأجر علي العمل المحتمل المندوبية والموعود علي اتيانه الثواب ولو كان في الواقع غير مندوب أصلاً لثبوت عنوان الانقياد المستقل، بل لو كان الخبر موافقاً لما في الواقع فإنه يتعدد الأجر لتعدد السّبب المقتضي له وهذا ليس من باب الاجتماع المحال لأنّ هنا عملين: الانقياد وذلك العمل المستقل في ترتب الثواب عليه بدون ملاحظة عنوان الانقياد.

ص: 72

قال بعض الأعلام:

لا أثر لتحقيق وجه ثواب العامل بما وعد عليه وأنّه يكون من باب تفضّل اللّه أو يكون من باب انقياد العبد وتسليمه حتي لما احتمل أنّ فيه رضياللّه أو من باب رعاية احترام ما قرع سمعه من رسول اللّه صلّي الله عليه وآله أو...(1) .

أقول: نعم في بعض أحاديث الباب قيّد ثواب العامل برجائه له أو بالتماسه له لأنه م-مّا نقل عن الرسول وكذلك عن اهل بيته(عليهم السلام) ولكن لا ريب في أنّ هذا القيد لا يزيد علي أصل المطلب بل يكون في الحقيقة مبيّناً له وبعبارة أخري لا يكون قيداً احترازياً بل يكون توضيحياً إذ من الواضح أنّ العامل يعمل للرجاء أو الالتماس المزبورطبعاً واان لم يلتفت االيه تفصيلاً ظاهراً.

نعم الثمرة العملية الّتي تترتّب علي أيّ حال هو استحقاقه للثواب لكن بيان وجه ذلك من المسائل العلمية الّتي لا يكاد يغضّ البصر عنها مع أنّ هذا القيد بمقتضي الإرتكاز والوجدان ملتفت إليه إجمالاً والعامل يأتي انقياداً ولرجاء ذلك الثواب وهذا القيد احترازي عمّا لو أتي بنية غير ذلك والظاهر خلط الاصطلاح في كلامه الشريف.

البيان الثاني: اانّ العبد يستحقّ الثواب الموعود علي ذلك العمل ولو لم يكن العمل في الواقع مندوباً وراجحاً، من حيث صدق الاحتياط لأنّ الفعل الذي فيه احتمال كونه مندوباً لا يكون العبد مستحقاً لأجل اتيانه العقاب، فإذا انتفي هذا الاحتمال للعقاب

ص: 73


1- 69. . قاعدة التسامح في أدلة السنن، ص 35.

فلا يأتي العبد بالعمل إلّا احتياطاً ولاادراك الواقع المحتمل وحيث صدق الاحتياط في موارد الوجوب والحرمة معلوم كذلك يصدق في مقام بحثنا في المندوبات والمكروهات.

قال صاحب الفصول(قدس سره) في هذا المقام:

قد تداول بين أصحابنا التسامح في أدلّة السنن والمكروهات باتيانهما بالروايات الضعيفة... ويدلّ عليه أمران: الأول الاحتياط الثابت رجحانه بالعقل والنقل أمّا الأوّل فلأنّ الاتيان بالفعل المحتمل للمطلوبية دون المبغوضية لاحتمال المطلوبية وترك الفعل المحتمل للمبغوضية دون المطلوبية لاحتمال المبغوضية راجح عند العقل رجحاناً ظاهرياً بالضرورة(1).

قال في العناوين في تقريب هذا البيان ما نصّه:

و الأقوي الحكم بالاستحباب بصوره الخمسة لوجوه أقواها الاحتياط العقلي وتقريره أنه لا ريب أنّ في هذه الصور نقطع بعدم الضرر في اتيان هذا المشكوك لدورانه بين إباحة واستحباب بخلاف تركه فإنه محتمل لتفويت ما هو مطلوب في نفس الأمر ولا ريب في ترجيح العقل هنا الاتيان ولذا نري أنّ العبيد إذا احتملوا كون شيء مطلوباً للمولي وعلموا عدم ترتب ضرر ونقص علي الاتيان به يقدمون عليه بهذا الاحتمال ويستحقّون المدح من العقلاء وإن لم يكن ذلك الشيء مطلوباً في نفس الأمر(2).

لا يخفي انّ الاحتياط كما قاله صادق هنا ولو كان مقامنا من مصاديق الندبيات أو

ص: 74


1- 70. . الفصول الغروية: ص 305.
2- 71. . العناوين : ج 1، ص 423.

المكروهات الغير الإلزامية حيث إنّ الاحتياط في كلّ مجال ومقام بحسبه، لكن الظاهر رجوع هذا البيان إلي التقرير الأول لأنّ المكلف في هذا الفرض المتصور بمقتضي التقرير الثاني يأتي بذلك العمل الذي وصل عليه الثواب الموعود في الرواية الضعيفة السند برجاء إدراك الثواب وهذا العمل بقصد الرجاء انقياد وعبودية والاحتياط إنّما يكون حسناً بالحسن اللزومي أو الندبي لهذه الجهة وهو كونه متلازماً بل متحداً مع الانقياد.نعم ربّما يقال: إنّ الاحتياط الّذي يعبّر عنه في هذا البيان يمتاز بجهة مفقودة في البيان الأول وهو حيث الخوف من عدم إدراك المصلحة اللزومية أو الندبية كما في المقام لكنّ الأقوي كون هذه الجهة تعليلية محضة وإلّ-ا فالعمدة الاتيان رجاء وصدق الانقياد فإنّ ذلك يوجب ترتب الثواب علي أيّ حال سواء كان هناك خوف أم شوق إلي إدراك المصلحة بدون خطور الخوف علي نفس المكلف.

بقي الكلام في انّه لو كان ملاك الثواب علي العمل المندوب لملاك صدق الرجاء والانقياد في المقام فلماذا يطابق ثواب الانقياد وبذل الطاعة الخالصة ثواب العمل الذي دلّ الخبر علي استحبابه؟! فهذا ينافي المسلك والقول بأنّ الملاك هو الانقياد لأنّ لازمه ترتّب الثواب علي مقدار ما يقتضيه الانقياد لا ذلك العمل، فتلخص انّ ترتّب نفس الثواب الموعود سواء كان العمل ندبياً في الواقع حائزاً لتلك المصلحة الراجحة أم كان مباحاً مثل-اً أمارة علي خطأ هذا المسلك فلابدّ وأن يكون معيار ترتّب الثواب التفضّل من اللّه تبارك وتعالي.

يمكن أن يقال بشأن هذا الإشكال وتقريبه: أنّ كلّ عمل سواء كان حسناً أو سيّئاً

ص: 75

فإنّه في الواقع يقتضي ويكون علة لترتب المقدار الخاص المعيّن من المثوبة أو العقوبة بلا فرق بين الحسن والقبح الأوّلي الواقعي أو الثانوي العارضي، فإذا ترتّب الثواب الّذي يخصّ العمل البالغ عليه الثواب في الرواية بمقدار معين، فهذا يرشدنا إلي أنّ التفضل هو موجب الثواب لعدم الحسن الواقعي في العمل(1) وعدم الاقتضاء من جانب الانقياد لذلك المقدار.

لكن الظاهر أنّ التفضّل ليس عبثياً ولغواً بل لابدّ أن يكون له منشأ يوجب ترتّب الثواب التفضلي وهذا أمر واضح بأدني التفاتٍ كما لا يخفي ولا يحتاج إلي إطالة الكلام وحينما نفحص عن هذا المنشأ لتفضّل اللّه سبحانه وتعالي نجده نفس ما قلناه من صدق بذل الطاعة والانقياد العبودي الخالص ويندفع الإشكال المزبور القائل بعدم معني لتطابق الثواب الانقيادي مع الثواب المخبر به في الرواية بأنّ الذهاب إلي أصل ترتّب الثواب إنّما يكون لصدق العبودية والانقياد وأمّا مقدار ذلك الثواب المتعلق بعمل العبد فإنّما يكون من باب الكرم والتفضل وبهذا يظهر أنّ الجمع بين التفضل وكون الملاك هو صدق الانقياد، بالجمع العرفي المقبول والمذكور هنا أمر قريب إلي الوجدان وارتكاز أهل العرف.

ص: 76


1- 72. . لأنّ الأحكام الثابتة للأعمال تابعة للمصالح الواقعية النفس الأمرية والتي ليست مقيّدة بالعلم أو الجهل في أصل تحققها، راجع كفاية الأصول، ص 258.

بحث في دلالة العقل

لمّا كانت قاعدة التسامح ينصبّ البحث فيها عل مبنيين: الأول هو حكم العقل بحسن الفعل الذي احتمل المكلف محبوبيته والثاني ثبوت الاستحباب الشرعي لهذا الفعل المشكوك كونه مندوباً، كما لو ثبت الاستحباب الشرعي للفعل الذي علم من الشارع كونه مندوباً، فلنتعرض لبيان ماهية العقل وكيفية اعتبار حكمه وأنواع أحكامه وما إلي ذلك من أبحاث مرتبطة بالمقام علي وجه الاقتصار، وذلك لما عرفت من كون هذا البحث من المبادي التصديقية العقلية للحكم العقلي في قاعدة التسامح حيث إن الإعتراف باعتبار حكم العقلاء والاستنتاج منه يتوقف علي معرفة كاملة للعقل وماهيته وأنواع أحكامه، خصوصاً نري أنه يقلّ التعرّض لمثل هذا البحث في طيّات التعرّض لمسائل القواعد الفقهية.

بل حتي لو ذهبنا إلي كون هذا المبحث الذي نصوغ البحث عنه في المقام، من المبادي التصورية لحكم العقل في خصوص القاعدة فالبحث مفيد أيضاً، حيث تمهّد الذهن بأن يتمكن من تصوّر صحيح من الأحكام العقلية التي أحد مصاديقها يتمثّل في القاعدة الفقهية المبحوث عنها، لأنّه لا يكاد يخرج بذلك هذا المقام عن كونه ذا فائدة خطيرة، ولكن نحن نعتقد بأن الراجح هو القول الأول وقد بيّنّا في بعض دروسنا العالية مسائل دقيقة في خصوص المبادي التصورية والتصديقية وإمكان إرجاع التصورية إلي المبادي التصديقية في بعض الأحيان بتغيير كيفية الاعتبار، ولكن ليس المقام محلّ ذكر تلك التفصيلات.

ص: 77

فإذا عرفت منصّة هذا البحث وتعرّفت جريان حكم العقل في هذه المسائل التي نأتي بها في الكتاب، فنقول: ذكر أهل اللغة معاني مختلفة للعقل، مثل-اً يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي: «العقل نقيض الجهل(1)» وعرّف الجهل ب- «الجهل نقيض العلم(2)».

يتضح من مقايسة هاتين الجملتين أن هذا العالم اللغوي يري العقل هو العلم وقد عرّف الجوهري العقل ب- «الحِجر والنُهي(3)» ويقول ابن منظور: «العقل الحِجر والنهي ضدّ الحمق(4)».

بناء علي هذا يكون المعني الآخر للعقل هو الرشد والفكر الذي يقابل الحماقة.

نحن عندما نراجع إلي مرتكزات العرف العقلائي في المقام نجد هناك اتحاداً في المعني اللغوي والعرفي للفظة العقل كما هو يتّفق كثيراً ما في مواضع مختلفة ويتّضح ذلك للمتتبّع والسرّ في اتحاد البابين هي العلقة الوثيقة بين العرف واللغة، وعلي أيّ حال ما يتضح لنا من خلال المراجعة إلي المعني العرفي المتبادر وما ذكره أهل اللغة من المعني للفظة العقل، هو كون العقل بمعني آلة التكفير والمحاسبة ولذلك قد يطلق - كما رأيت في بعض الأقوال - علي نفس التفكر والتدبير مجازاً بعلاقة السببية التي للعقل للإدراكات الحاصلة منه.

محصلّ الكلام أنّ الكلّ متّفقون حول إطلاق العقل علي جوهر نفساني يدرك

ص: 78


1- 73. . العين، ص 565.
2- 74. . المصدر، ص 185.
3- 75. . صحاح اللغة، ج5، ص 1768.
4- 76. . معجم مقاييس اللغة، ج4، ص 70.

الخير والشرّ وحسن الفعل الخير وقبح الفعل الشرّ، استناداً في هذه الدعوي إلي التبادر ومقتضي الجمع بين الأقوال المنقولة من أهل اللغة، والسؤال المطروح هنا أنه هل للفظة العقل في الفقه معني خاص أم لم يكن لها فيه اصطلاح خاص؟

في الإجابة عن هذا السؤال نقول: إن استعمالات العقل في عملية الاستنباط والبحث عن القواعد الأصولية والفقهية علي قسمين: تارة يكون العقل يستعمل بالاستقلال وأخري علي نحو غيرالاستقلال، ففي الصورة الأولي يعدّ العقل مصدراً مستقلاً إلي جانب القرآن والحديث، فكلمّا رأي العقل بناء علي هذا القسم مصلحة قطعية في عمل ما، فيمكن الاستناد إلي هذا الإدراك العقلي فيعتبر الفعل واجباً اتيانه مثلاً، كما أنه لو رأي العقل مفسدة لزومية في الفعل يُحكم وفقاً لإدراكه علي أنّ هذا الفعل غير جائز الاتيان، ونستطيع أن نمثّل لهذا القسم بإدراك العقل حسن العدل وقبح الظلم حيث إنه مستقل في ذلك ولذا يسمي نتاج حكمه في هذه الموارد بالمستقلات العقلية، بل الاستناد في هذه الأحكام إلي الشرع المقدس في آيات القرآن وروايات السنة الشريفة لايخلو عن دور مصرّح كما بُيّن ذلك في محلّه تفصيلاً وقد بحثه العلماء الأعاظم في بحوثهم(1).

أمّا العقل في الاستعمال الثاني فهو بخدمة سائر المصادر المعتبرة في الفقه حيث يستعان منه لاستنتاج الحكم الشرعي، مثل-اً الفقيه في استنباط الأحكام بعد أن يلاحظ

ص: 79


1- 77. . الأصول العامة للفقه المقارن، ص 385، أصول الفقه، ج2، ص 267، كفاية الأصول، ص 308.

«أقيموا الصلاة(1)» ومع تسليمه لحجية ظهور صيغة الأمر في الوجوب وحجية الظواهر اللفظية، يتوصّل باستمداد من عقله لتشكيل قياس وبرهان لفهم الحكم الشرعي، فيتلّخص دورالعقل في هذا السنخ بترتيب صغري وكبري القياس، فيكون قوّة درّاكة وصل بها الفقيه إلي نتاج من البرهان وهو وجوب الصلاة المقررّة اليومية.

فالعقل الذي نحن نبحث عنه ونحكم به في مورد قاعدة التسامح، هو العقل الاستقلالي الذي من سنخ القسم الأول حيث إنه يحكم بأن هذا العمل وهو اتيان محتمل المندوبية حسن ومحبوب ولو لم يكن في الواقع ندب واستحباب لهذا الفعل ولكن العبد أتي بانقياد في المقام وحسنُ هذه المصاديق والأمثلة يكون كحكم العقل بحسن العدل ورعاية الأمانة وغيرهما حيث الاستناد في هذه المصاديق المختصة بالقسم الأول إلي الشارع لايخلو عن منع كما مرّ.لكن وجود هذا الاصطلاح الخاص الواقع في محلّ السؤال، فذاك مندفع لعدم قرينة فيما وقفنا عليه من كلمات جلّ العلماء علي وجود اصطلاح خاص لهم في لفظ العقل، بل ظاهر إطلاقات كلامهم حينما يستعملون لفظ العقل هو أنهم يقصدون نفس المعني العرفي العقلائي، قال بعض الأعلام المحقّقين في المقام:

يظهر من التتبع الواسع في كلمات علماء الأصول والفقه أن المراد من العقل في استعماله الاستقلالي وإن كان العقل المستقلّ عن القرآن والسنّة وأن المراد من حكم العقل هو حكمه القطعي إلّا أن هذا التفسير للعقل لا يجعله

ص: 80


1- 78. . البقرة، 43.

مقابلاً لمصطلحه الفلسفي(1).

يعني أنه حيث كان المراد من العقل في اصطلاح الفلسفة هو الجوهر القدسي الدرّاك فنفس هذا المعني يراد من لفظ العقل في المباحث الفقهية والأصولية، فكما أن عدّ العقل مستقلاً عن القرآن والروايات واعتبار حكمه قطعياً يقيناً، لايوجب تغايراً في معني العقل في الفقه والأصول مع العقل الفلسفي، فكذلك وجود تقسيمات أخر للعقل ليس بمعني تعدّد معناه وتغايره مع مصطلح العقل في الفلسفة.

أمّا اعتبار العقل وإدراكاته فذلك م-مّا تعرّضنا له مفصّلاً في سائر كتبنا وقد جعله العلماء علي طاولة البحث التفصيلي أيضاً، لكن نقول إجمالاً بأن إدراك العقل حجة لكون القطع حجة ذاتية وتوقف اعتبار العقل علي الشرع يرجع في نهاية الأمر إلي حكم العقل باعتبار كلمات الشارع المعصوم عن الزلل والخطأ ومن ثمَّ الحكم باعتبار العلم الحاصل من كلمات الشارع، فاعتبار كلام الشارع أيضاً يتوقف علي كون كلامه معتبراً ونافذاً بحكم العقل حيث يدلّنا علي أنه معصوم عن المزلّة.

فلذلك العلم الحاصل من بيانه مصيب وحجة، فالطريق الانحصاري لاعتبار العقل هو نفسه وإلّا فلو لو يرجع اعتبار كلام الشارع الدالّ علي حجية العقل في مثل «وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ»(2)، «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يعْقِلُونَ»(3)،

ص: 81


1- 79. . الفقه والعقل، ص 34.
2- 80. . العنكبوت، 43.
3- 81. . النحل، 12.

«أول ما خلق الله العقل»(1)، «ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل»(2)، «إن لله علي الناس حجتين ظاهرة وباطنة ... وأمّا الباطنة فالعقول»(3)، إلي العقل بل توقف علي نفس الشرع، فذاك بمعني الدور المصرّح الباطل كما لايخفي.

قال أحد الأعلام المحقّقين في المقام:

بل ثبوت الشرائع من أصلها يتوقف علي التحسين والتقبيح العقليين ولو كان ثبوتها من طريق شرعي لاستحال ثبوتها لأنا ننقل الكلام إلي هذا الطريق الشرعي فيتسلسل إلي غير النهاية والنتيجة أن ثبوت الحسن والقبح شرعاً يتوقف علي ثبوتهما عقلاً(4).

نعم كما أنّ اعتبار العقل يرجع إلي حكم العقل بحجية ذلك ذاتاً كما بحث هذا في مبحث القطع المتعلّق بأنواع المتعلقات، فكذلك اعتبار الشارع وكلامه في التحسين والتقبيح لفعل من الأفعال، بعد كونه أحد مصاديق القطع العقلي حيث يحصل من كلام الشارع علم واطمينان، متوقف علي العقل، كيف؟ فإنه من المسلَّم وجوب طاعة الأوامر والنواهي الشرعية وكذلك وجوب معرفة الشارع دفعاً للضرر المحتمل في مخالفته، وهذا الوجوب لوكان وجوباً شرعياً فنقول: من أين يثبت هذا الوجوب؟ فلابدّ أن يثبت بأمر الشارع، فننقل الكلام ونقول: من أين يجب امتثال هذا الأمر الصادر من الشارع؟ فلو

ص: 82


1- 82. . بحارالأنوار، ج1، ص 97.
2- 83. . الكافي، ج1، ص 29.
3- 84. . الكافي، ج1، ص 35.85 . أصول الفقه، ج2، ص 29.
4- أصول الفقه، ج2، ص 29.

افترضنا هذا الوجوب عقلياً فهو المطلوب الذي يقطع الدور المصرّح أو التسلسل، لكن إن كان شرعياً فلابدّ له من أمر فننقل الكلام هكذا إلي غيرنهاية وهو التسلسل الباطل.

هذا إجمال الكلام عن منصّة العقل واعتباره بما يناسب المقام، لكن قد يتوهم هنا أن اعتبار القطع بنفس القطع يوجب الدور المصرَّح أو التسلسل الباطل أيضاً؟

يرد عليه أن دعوي التسلسل الباطل مندفعة لعدم التسلسل في المقام لأنّ العقل والوجدان الفطري البشري يحكم بحجية القطع، وبعد ذلك ليس هناك من داع لأن نبحث عن دليل اعتبار القطع باعتبار القطع بل يتوقف الأمر هنا ويلحق البحث بالبديهيات المستغنية عن السؤال عنها، أمّا عدم وجود الدور بأن يتوقف اعتبار القطع الحاصل بالعقل علي نفس العقل فنقول بأنه هنا لانجد شيئاً واحداً ليتوقّف علي نفسه فيحصل الدور، بل الفارق بالإجمال والتفصيل موجود في المقام حيث إن الإنسان يقطع بعقله في مسألة فهذه مسألة خاصة قد حصل القطع الجزئي التفصيلي فيها، لكن العقل يحكم بحكم كليّ علي اعتبار مطلق القطع الحاصل وطبيعة العلم الناتج عن إدراك العقل بما يشمل هذا المورد الجزئي كما لا يخفي.

و في ختام هذا الفصل النافع والمفيد الذي كان مرتبطاً بحكم العقل بحسن التسامح في المندوبات، هذا الحكم الذي نتعرّض له في طيّات هذا الكتاب بوصفه أحد المبنيين وكثيراً نبحث عنه في الفصول المتعددة الآتية، نشير إلي بعض آراء الفرق المختلفة في خصوص العقل وإدراكاته حيث قال الأخباريون من مذهب الشيعة الإمامية بعدم

ص: 83

جواز الاعتماد علي شيء من الإدراكات العقلية في إثبات الأحكام الشرعية(1) وقد فسّر هذا القول بأحد وجوه ثلاثة حسب اختلاف العبارات التي عبّر بها الباحثون منهم: الوجه الأول هو إنكار إدراك العقل للحسن و القبح الواقعيين، الوجه الثاني هو إنكار الملازمة بين الحكم العقلي وحكم الشرع بعد الاعتراف بإدراك العقل والثالث هو إنكار وجوب الطاعة للحكم الشرعي الثابت من طريق العقل، بعد الاعتراف بإدراك العقل وثبوت الملازمة لكن لا يعتبر الحكم الشرعي المتلازم مع إدراك العقل بناء علي هذا الوجه، وقد تبيّن التحقيق في هذه الوجوه المحتملات وبُحث عنها في كتب تفصيلية وإنما أردنا الإشارة الإجمالية إلي شقوق هذا الاختلاف وبيانُ واقع هذه النسبة إلي الأخباريين وتفنيد أقوال المخالفين منهم لما عليه الأصوليون من أصحاب الإمامية خارج عن طاقة الكتاب، فليطلب هذا البحث بتفصيله من المطوّلات(2).

أمّا مذهب الماتريدية من أتباع أبي منصور محمد الماتريدي من الأحناف، فهم ينكرون ترتب حكم الشرع علي حكم العقل لأن العقول مهما نضجت قد تخطي ولأن بعض الأفعال م-مّا تشتبه فيه العقول(3)، لكن هذا المذهب باطل حيث إن خطأ العقل في إحراز الموضوعات ممكن لكن في الأحكام الجمعية العقلائية لا الحكم الشخصي

ص: 84


1- 86. . الفوائد المدنية، ص 241.
2- 87. . راجع أصول الفقه، ج2، ص 30، يحسن المراجعة إلي هذا الكتاب لاستعراض حججهم والإجابة عليها فإنه من خير ما كتب في هذا الحقل، مع أنه بحثنا عن هذه المسألة والأخبارية في كتابنا «المباني في علم الرجال» فراجع.
3- 88. . مباحث الحكم، ج1، ص 174.

الخاص من فرد أو نحلة، لا مجال لهذا الاحتمال، فبناء علي ذلك يتمّ اعتبار إدراك العقل حسن التسامح في إتيان المندوب و ترك المكروه - بناء علي تنقيح المناط - ويكون اتيان محتمل المندوبية حسناً عقلاً وانقياداً والشارع حكم وفقاً للملازمة بنفس هذا الحكم، لكن هذا لا يلازم كون حكم الشارع مولوياً بل الظاهر كما يأتي بيانه مفصّلاً إرشاده إلي حكم العقل لعدم قرينة علي إرادته للحكم المولوي المستقلّ عن تلك المصلحة التي وصل إليها العقل.

و أمّا بيان الملازمة بين حكم الشرع والعقل فذلك لما ذكرناه في بعض كتبنا من أن التخالف يوجب نقض حكم العقل يعني إذا حكم العقل بحسن هذا الفعل الانقيادي لاحتمال مندوبيته لدي الشارع، فهذا الحكم العقلي ليس إلّا عبارة عن الحكم العقلائي المجموعي الخالص عن الآراء والسلائق الخاصة بفرد دون آخر، فلو انتقض هذا الحكم البسيط العقلي، يلزم منه نقض سائر أحكام العقل لأن حكم الأمثال فيما تجري عليها من العوارض والآثار وفيما يجوز عليها وما لايجوز واحد(1)، وإذا بطل حكم العقل الذي كان اعتبار الشارع بحكمه كما ثبت سابقاً إجمالاً وعلي نحو التفصيل في الكتب التحقيقية المطوّلة وبعض كتبنا الأصولية التحليلية، يلزم منه بطلان الشرع، هذا إجمال الكلام عليهذه الملازمة بقدر ما يحتاج إليه هذا الكتاب والتحقيق التفصيلي مطروح في محلّه(2)،و هناك استدلالات علمية عميقة أخري فاكتفينا ببيان واحدة منها

ص: 85


1- 89. . نهاية الحكمة، ص 32.
2- 90. . راجع ما كتبناه في «نهج الوصول إلي مسائل علم الأصول» مبحث القطع والملازمات العقلية وهكذا الأصول العامة للفقه المقارن، ص 301، أصول الفقه، ج2، ص 30.

تكون من أهمّ الأدلة أو العمدة منها في الباب.

فاتضح ببيان هذا المبدء التصديقي العقلي مع تفصيله وإن كنّا بصدد الإجمال في كثير من شقوقه العلمية - أن العقل مصدر الحجج وإليه تنتهي، فهو المرجع الوحيد في أصول الدين وفي بعض الفروع التي لايمكن للشارع المقدّس أن يصدر حكمه فيها، كأوامر الإطاعة وكالانقسامات اللاحقة للتكاليف من قبيل العلم والجهل بها في مرتبة نفس التكاليف لا في مرتبة لاحقة متأخرة، كلّ ذلك لوجود المحذور من الدور أو التسلسل في هذه الأقسام والمصاديق، فكما أن العقل هو حجة في مثل هذه الأمور واعتبار إدراكه ثابت، فكذلك يعتبر حكمه في المقام الذي نحن نبحث عنه وهو مبحث قاعدة التسامح حيث إنه يحكم بحسن التسامح وأنه محبوب لاشتماله علي مصلحة راجحة من الانقياد للمولي حتي في صورة عدم مصادفة احتمال الندبية لما في الواقع.

ص: 86

الوجه الثالث: السيرة المتشرعيّة

المدّعي هنا قيام السيرة المتشرعية الجارية علي التسامح في الأخذ بالأخبار الدالة علي المندوبات وذلك بعد انعدام السيرة العقلائية واضح حيث إنّ أهل التديّن في كلّ عصر ومصر يأخذون بالخبر الدالّ علي الندب بدون التدقيق في سند هذه الأخبار.

فيه أنّ هذا الوجه الذي لم نر من الأعلام - فيما كان بوسعنا من كلامهم - من تعرّض له يواجه إشكالات غير واحدة، حيث اانّ السيرة الشرعية كما مرّ في الإجماع والشهرة أن قلنا بااشكال فيهما لا يمكنها أن تثبت شيئاً لأنّه مع وجود هذه الأدلة النقلية والعقلية تكون السيرة الشرعية مستندة إلي تلك الأدلة واحتمال وجود دليل آخر مندفع بأصالة العدم، هذا من جهة الإشكال الكبروي، مع أنه يمكن أن يقال بالقدح في هذا الوجه وبالإيراد صغروياً وذلك أن نقول: إنّ جريان السيرة من أهل التدين والتشرع أول الكلام حيث لم يحرز ذلك فيما بأيدينا من موارد السير المتشرعية ولو اُريد جريان السيرة المتشرعية الفقهائية فيرد عليه أنه نفس الشهرة الفتوائية الّتي مرّ الكلام فيها، مضافاً إلي ذلك كله فإنّ أهل الشرع من المؤمنين لو سلّمنا كونهم مطبقين علي القاعدة في أعمالهم فإنّما يكون ذلك لعقلائيتهم وفطرتهم الداعية لهم إلي ذلك، فيرجع الاستدلال بهذا الوجه إلي السيرة العقلائية وحكم العقل بحسن الانقياد لكن لا يخفي أنّ هذا الإشكال يؤول إلي ما قلناه من الإيراد الأول علي هذا الاستدلال الثالث فلا يمكن أن نعتبره دليلاً مستقلاً برأسه ليقدح كذلك في هذا الاستدلال.

ص: 87

الوجه الرابع: أخبار من بلغ

فقد اتّضح من خلال التقريرات وبيان الوجوه السابقة المتعلقة بإثبات القاعدة أنّ الاستدلال التام من بين تلك التقريرات هو الأخذ بدلالة العقل واان كان لا يخلو التمسك بالإجماع أو الشهرة عن تأييدٍ مّا لهذا الحكم المستند إلي العقل وهو جواز التسامح وترتّب الثواب الانقيادي له لكنه كما عرفت لا يعتبر ذلك الاستناد إلي الأدلة الغير العقلية دليلاً مستقلاً برأسه، فقد وصل حان التعرّض للدليل الرابع والأخير لهذه القاعدة وجعلها كثير ممّن بحثوا عن المسألة الدليل الأصلي وربّما نشأ ذلك من عدم أخذهم بحكم العقل كوجه ركني وإلّ-ا فلا يكون الدليل الرابع وهي الأخبار وجهاً مستقلاً للاستدلال به بل هو إرشاد إلي حكم العقل.

اان قلت: لماذا تحمل الروايات المتعددة الواردة في القاعدة علي الإرشادية ليسقط الاستدلال بها عن الركنية ومعني الاستقلال بأن يؤخذ بها ويستند إليها وتكون مستمسكاً بها علي حدة؟

يجاب عن ذلك بأنّ مقدّمات الإطلاق غير متوفّرة في المقام وبعبارة أخري إنّ حكم العقل برجحان ومطلوبية الانقياد والعبودية التامة يصير قرينة لبّية(1) حافّة بالكلام، فيحمل الكلام الدال علي حسن الرجاء العملي والانقياد علي نفس ذلك الحكم العقلي إلّا أن يجيء دليل أو قرينة دالة علي وجود مصلحة أخري غير تلك المصلحة الّتي كانت في حكم العقل بحسن الخضوع للّه تعالي وقد حكم العقل علي وفقها.

ص: 88


1- 91. . مستمسك العروة الوثقي، ج1، ص 93، جواهرالكلام، ج7، ص 398.

ث-مَّ إنّ هذه الأخبار قد سمّيت بهذا العنوان حيث إنّ كل النظر إلي عنوان «من بلغه ثواب...» الوارد في الأخبار وكان هذا المطلب هي العمدة في الأخبار فسمّيت به كما هو الشأن في تسمية السور القرآنية والأخبار الشريفة الأخري.

الرواية الأولي: محمد بن علي بن بابويه في كتاب ثواب الأعمال عن أبيه عن عليّ بن موسي عن أحمد بن محمد عن عليّ بن الحكم عن هشام عن صفوان عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال: من بلغه شيء من الثواب علي شيء من الخير فعمله كان له أجر ذلك وإن كان رسول اللّه(صلي الله عليه وآله) لم يقله(1).

الرواية الثانية: عن عيون الأخبار عن عبد الواحد بن محمد بن عبدوس عن علي بن محمد بن قتيبة عن حمدان بن سليمان قال: «سألت أبا الحسن عليّ بن موسيالرضا(عليه السلام) عن قول اللّه عزوجلّ: «فَمَنْ يرِدِ اللَّهُ أَنْ يهْدِيهُ يشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ...»(2) قال: من يُرد اللّه أن يهديه باايمانه في الدنيا إلي جنّته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم للّه والثقة به والسكون إلي ما وعده من ثوابه حتي يطمئنّ إليه...» (3).

الرواية الثالثة: أحمد بن أبي عبداللّه البرقي في المحاسن عن علي بن الحكم عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال: «من بلغه عن النبي(صلي الله عليه وآله) شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول اللّه لم يقله»(4).

ص: 89


1- 92. . وسائل الشيعة، ج1، ص 80.
2- 93. . سورة الأنعام، 125.
3- 94. . عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، ج1، ص 131.
4- 95. . المحاسن، ج1، ص 25.

الرواية الرابعة: عن محمد بن مروان عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال: «من بلغه عن النبي(صلي الله عليه وآله) شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي(صلي الله عليه وآله) كان له ذلك الثواب وإن كان رسول اللّه لم يقله»(1).

الرواية الخامسة: عن عليّ محمد القاساني عمّن ذكره عن عبداللّه بن القاسم الجعفري عن أبي عبداللّه عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلي الله عليه وآله): من وعده اللّه عن عمل ثواباً فهو منجزه له ومن أوعده علي عمل عقاباً فهو فيه بالخيار»(2).الرواية السادسة: محمد بن يعقوب بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال: «من سمع شيئاً من الثواب علي شيء فصنعه كان له وإن لم يكن علي ما بلغه»(3).

الرواية السابعة: عن محمد بن يحيي عن محمد بن الحسين عن محمّد بن سنان عن عمران الزعفراني عن محمد بن مروان قال سمعت أباجعفر(عليه السلام) يقول: «من بلغه ثواب من اللّه علي عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه»(4).

الرواية الثامنة: عن أحمد بن فهد في عدّة الداعي قال: روي الصدوق عن محمد بن يعقوب بطرقه إلي الأئمة(عليه السلام): «إنّ من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له من

ص: 90


1- 96. . بحارالأنوار، ج2، ص 256.
2- 97. . وسائل الشيعة، ج1، ص 81.
3- 98. . الكافي، ج3، ص 225.
4- 99. . نفس المصدر.

الثواب ما بلغه واان لم يكن الأمر كما نقل إليه»(1).

الرواية التاسعة: علي بن موسي بن جعفر بن طاووس في كتاب الإقبال عن الصادق(عليه السلام) قال: «من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك واان لم يكن الأمر كما بلغه»(2).

هذه الأخبار الّتي ذكرناها تجدها في الباب الثامن عشر من أبواب مقدمة العبادات في الوسائل، وكلّ واحدة من هذه الأخبار الشريفة معتبرة سنداً كما هو واضح بالنظر إلي توثيقات الرجاليين لرواتها وكذلك ما نعتقد به من اعتبار هذه الأخبار بناء علي المبني المختار لنا في بحوثنا الرجالية العالية يثبت الاعتبار لهذه الطائفة، هذا حال الروايات الواردة في المقام علي نحو العام الاستغراقي، أمّا لحاظ مجموع هذه الأخبار فيفيد ثبوت التواتر الإجمالي علي القول به - علي إشكال في صحة تصوره كما بينّاه في محلّه - أو التواتر المعنوي علي المختار، فلايبقي إشكال من جهة صدور الأخبار المذكورة.

فلنتعرض إلي فقه الحديث بالنسبة إليها، مضامين كل هذه الأخبار عدا الرواية الثانية تفيدنا أنّ المكلف لو بلغه ثواب موعود علي عمل فعمل ذلك العمل فاانه يثاب بنفس الثواب المذكور له واان كان الخبر ليس كما بلغه، فالدلالات بين هذه الأخبار واحدة مشتركة وطبعاً - كما ذكرنا - يمكننا القول بالتواتر المعنوي في الأخبار أو قل بالتواتر الإجمالي الذي ابتكره علي ما يقال سماحة المرحوم الآخوند الخراساني(قدس سره) ومعناه

ص: 91


1- 100. . وسائل الشيعة: ج 1، ص 82 - 80، كتاب الطهارة أبواب مقدمة العبادات.
2- 101. . نفس المصدر.

انّه نعلم بصدور بعض الأخبار المتعددة لبعد كذب الجميع جداً، فكيف كان هذه الكثرة في الروايات تفيد الوثوق والاطمينان بالأخبار والدلالة الواحدة المشتركة فيما بينها وأمّا الرواية الثانية فالظاهر أنّها خارجة عن محل الكلام ولا دلالة لها لما نحن فيه واان ذكرها المرحوم الحرالعاملي(قدس سره) في عداد أخبار من بلغ، غاية الأمر أنَّ الدلالة الّتي تؤديها تلك الرواية قاصرة غير تامة فتحتاج إلي أن تكتمل بهذه الأخبار المتعددة الصريحة الأخر، بل الظاهر أنّ الرواية الخامسة أيضاً يقال فيها بنفس هذه المشكلة فهي اامّا لا تكون في مقام البيان من الجهة الّتي نحن بصددها أو تحتاج في دلالتها إلي غيرها من هذه الأخبار الصريحة المذكورة في المقام.

فالخلاصة نحن نتمسك هنا بسبع روايات ولا إشكال فيها دلالة ولا سنداً وبقية الكلام فيها والتحقيق الأكثر في دلالتها وحول تفصيلات القاعدة تأتينا ضمن فصول متعددة إن شاء اللّه تعالي ولا بأس قبل التعرض لتلك المسائل من تكملة البحث السندي.

قال الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) في البحث عن سند هذه الروايات ما نصّه:

هذه الأخبار مع صحّة بعضها غنية عن ملاحظة سندها لتعاضدها وتلقيها بالقبول بين الفحول(1).

وقد ادّعي التواتر المعنوي في نتائج الأفكار ولذلك لم ير حاجة إلي البحث عن

ص: 92


1- 102. . رسائل فقهية : ص 143.

سند الأخبار(1).

قال بعض الأعلام في هذا المقام بما لا يبعد أن يستفاد منه التواتر المعنوي واللفظي واان كان مآل الثاني إلي الأول لكنه يدلّ علي كون التواتر المعنوي في أعلي درجاته حيث اللفظ فيه أيضاً واحد كالمعني:

قد عمل بالقاعدة كثير من الفقهاء إن لم نقل جميعهم واستدلّوا عليها بأحاديث صحيحة تسمّي بأخبار من بلغ وهي متشابهة معني بل ولفظاً ولذا نكتفي بواحد منها وهو يغني عن سائرها وهي صحيحة هشام عن الصادق(عليه السلام): «من بلغه عن النبي(صلي الله عليه وآله) شيء من الثواب فعمله كان له أجر ذلك وإن كان رسول اللّه(صلي الله عليه وآله) لم يقله»(2).

قال السيد البجنوردي(قدس سره) في البحث عن سند هذه الأخبار:

وهو الأخبار الكثيرة المعتبرة الواردة في هذا المقام المعروفة بعنوان أخبار من بلغ فلنذكر جملة منها...(3).

نعم هنا إشكال أساسي هامّ لا يختصّ بهذا المقام بل يجري في موارد متعددة ومواضع مختلفة من الفقه وهو انّه في بعض الأحيان نري اشتراك أخبار غير واحدة في راوٍ واحد، فمثل-اً نجد انّ هناك خمس روايات تصل ثلاثة منها في آخر السند إلي زرارة فلذلك تعود هذه الثلاثة في واقعها إلي رواية واحدة وإن كان الراوي الثاني في كل واحدة منها فرداً

ص: 93


1- 103. . نتائج الأفكار : ج 4، ص196.
2- 104. . تحقيق في القواعد الفقهية: ص 215.
3- 105. . القواعد الفقهية : ج 3، ص 328.

غير الراوي الثاني في الآخر، فإذا عرفت ذلك نقول: الأمر فيما نحن فيه كذلك حيث اانّ هشام بن سالم ينقل عنه أكثر من رواية وهكذا محمد بن مروان علي قول فلذلك عبّر بعض الأعلام عن هذا الأمر والإشكال وعدد الروايات الأصلية الباقية بعد إسقاط بعضها بما يلي:

ففي هذ المورد فإنّ الروايات الأربع تعود إلي رواية واحدة وبالتالي فإنّ مجموع أخبار من بلغ تصل إلي أربع أو خمس روايات في الحدّ الأقصي ومعلوم أنّ ورود خمس روايات لا يعني تحقق التواتر بل غاية ما يمكن القول أنّ هذه الروايات قد تصل إلي حدّ الاستفاضة (1).التحقيق أنّه واان كان الأمر كذلك ولا أقلّ من احتمال رجوع الأخبار بعضها إلي خبر واحد بل يضرّ صرف احتمال ذلك في كثرة العدد لكنه يكفينا الأربع أو الخمس من تلك الروايات بل ربّما أقلّ من ذلك حيث إنّ الاطمينان يحصل بسند الأخبار والملاك هو حصول الوثوق ولذا أناط اعتبار التواتر بعض العلماء من الخاصة والعامة بحصول الوثوق في الأخبار الّتي يدّعي التواتر المعنوي وغيره فيها.

نعم التواتر الاصطلاحي المتقوم بالكثرة وإن أشكل إنطباقه في المقام لكن الوثوق حاصل سواء صدق معه التواتر أو الاستفاضة.

هذا كله مع كفاية كون بعض الأخبار صحيحاً سنداً بحيث لا مجال للخدشة من جهة الصدور في ذلك البعض وقد اتّكل البعض في البحث عن السند بالتصريح بكون بعض تلك الأخبار صحيحاً.

ص: 94


1- 106. . قاعدة التسامح في أدلة السنن : ص35.

ثمَّ إنّك تعرف بعد ذكرنا لأدلة هذه القاعدة الشريفة أن الكتاب الكريم ليس في عداد هذه الأدلة نظراً إلي أنّ هذه القاعدة الفقهية تندرج في جزئيات المسائل التي تعرّض لبيانها أهل بيت العصمة والطهارة(عليهم السلام) من خلال الروايات الوارده في الباب، و لذا لم يذكر العلماء الأعلام و الفقهاء الكرام أيضاً، دلالة من آيات القرآن الكريم بعنوان الدليل و المدرك لاعتبار هذه القاعدة فضلاً عن جزئياتها و تنبيهاتها(1).

ص: 95


1- 107. . القواعد الفقهية، السيد البجنوردي، ج3، ص 230، تحقيق في القواعد الفقهية، ص 215، العناوين الفقهية، ج2، ص 426.

ص: 96

تنبيهات و فوائد

اشارة

ص: 97

ص: 98

التنبيه الأول: إخباريّة دلالة الأخبار الشريفة

الظاهر أنّ هذه الروايات تفيد معني إخبارياً بداعي الإنشاء، توضيح ذلك أنّ كلّ كلام إخبارياً كان أم إنشائياً فللمتكلم به قصد وراء ذلك، فتارة يريد بإخباره صرف وقوف المخاطب علي شيء وأخري يريد أن يبعثه نحو فعل شيء أو تركه مع كون المستعمل فيه اللفظ إخبارياً وهكذا الكلام في الإنشائيات حيث ربّما يراد بقوله: صلّ أنّي أعلم بتركك وتهاونك بهذه الفريضة الجليلة ويراد أحياناً أخري البعث الحقيقي أو الترك كذلك، فعلي أيّ حال هذا الداعي لا يوجب أن يتغير المعني المستعمل فيه والموضوع له اللفظ وفيما نحن فيه الظاهر العرفي والارتكاز العقلائي في المحاورات يرشد إلي أنّ المتكلم بهذه الكلمات الشريفة في الروايات وهو الإمام(عليه السلام) يريد المعني الإخباري بقصد وقوع مدلوله والبعث نحوه في الخارج.

هذا وربّمايقال في وجه دلالة الأخبار بأنّ المسلك القائل بإرشادية هذه الأخبار مخدوش حيث إنّ الظاهر والمنسبق العرفي بعد الدقة والتأمل كون الشارع يريد التفضل ولا نظر له في هذه الروايات إلي جهة دلالة العقل بحسن الانقياد بل يقول: إنّي أثيب المكلف الذي عمل كذلك وأتفضّل عليه مستقلاً عن أيّة جهة ومطلب آخر؟

يرد عليه أنّنا لم نمنع القول بثبوت التفضّل في هذه الروايات كما أنه قلنا: اانّ التفضّل لا يكون عبثاً واعتباطياً بل لابدّ وأن يقع عن ملاك موجب له وذاك الملاك هو الانقياد وظاهر الأخبار وإن كان كما قال به المستشكل إلاّ أنّه قابل للتوجيه بأنّ الشارع يخاطب هذا العرف العام ويريد تحريكهم بأقرب وجه وأشدّ نحو ويسوقهم نحو العمل

ص: 99

فهذه الطريقة وهو ظهور الأخبار في تفضّله مع قطع النظر عن أيّة جهة أخري أسهل فهماً وإدراكاً لهم.

التنبيه الثاني: التسامح في أدلة المندوبات يساوق التسامح في المدلول

يجدر بنا أن نشير إلي هذه الفائدة الدقيقة وبيانها: إن الفقيه في المقام إمّا يقبل التسامح من ناحية الشارع الحكيم في أدلة المندوبات أو يقول بأنه ليس هناك حكم مولوي مستقل في الشريعة ليكون به التسامح صادقاً بل العقل يحكم بحسن اتيان محتمل الرجحان للانقياد فلايبقي مجال للقول بالتسامح.

فقد عرفت أنه في الفرض الثاني لاتسامح ليجري فيه هذا البحث الذي نحن فيه، بل ينحصر محلّ طرح هذه المسألة الحالية فيما إذا تسالمنا علي وجود تسامح في الشرع بترتيب الأثر علي محتمل الندبية بحكم الشارع.

اعلم أنه بعد تعيّن موضوع جريان كلامنا هنا، تصل النوبة إلي طرح الفائدة وهي أن التسامح في الدليل يعدّ تسامحاً في المدلول، يعني إذا قام عندك الخبر الضعيف سنداً أو دلالة أيضاً، علي استحباب العمل الفلاني، فمع التسامح في هذا الدليل بغضّ البصر عن كون الموضوع للقاعدة هنا ضعفه السندي أو الدلالي، يحصل التسامح في مدلول هذا الدليل، لأنه لامعني للدليل بدون مدلوله، فهناك تلازم بين الأمرين وهما الدليل والمدلول.

نستطيع أن نقول بعبارة أخري: إن الدليل علة لوجود المدلول الذي يخطر ببال المخاطب، فكما أنّ المعلول تابع للعلة في أصل وجوده، فكذلك يتبعها في آثار وأحكام الوجود كالتسامح الذي هو من أحوال الدليل والمدلول.

ص: 100

قال العلّامة الطباطبائي(قدس سره) في مقام التعليل لهذه القضية:

الهوية العينية لكلّ شيء هي وجوده الخاص به، والماهية اعتبارية منتزعة منه - كما تقدّم بيانه - ووجوده الممكن المعلول وجود رابط متعلّق الذات بعلّته متقوّم بها لا استقلال له دونها، لا ينسلخ عن هذا الشأن، فحاله في الحاجة إلي العلّة حدوثاً وبقاء واحد والحاجة ملازمة له(1).

تقريب ذلك أنّ الوجود الرابط والمتقوّم بالغير يحتاج في أصل الوجود إلي علته المفضية عليه، فلوكان الوجود العلّي مطلقاً عن قيد فيكون الوجود المعلول كذلك، كما أن العكس بالعكس وإلي ذلك يشير صاحب الكفاية(قدس سره) من كون المادة تابعة للهيئة، فلو كانت الهيئة مقيّدة فلامحالة يسري هذا التقييد إلي المادة أيضاً (2).

لايقال: هذا بحث دقيق فلسفي لاربط له بالمقام، لأنه نقول بكون هذه المسألة ليست بعيدة عن متناول الأذهان، بل الفقيه يعلم بذلك بما هو عقلائي ومن أهل العرف العقلائي، لا بماهو يغور في الفلسفة حتي يكون البحث غير مترابط مع الفقه والقاعدة الفقهية، كما أنّ الثمرة التي تترتب علي هذا البحث أن التسامح الذي يجري في الدليل الموجب لاستفادة المدلول المراد منه، يسري بواسطة ذلك إلي المدلول وإلّا فليس هناك تسامح، فثمرة كلامنا تنطوي في هذه الفائدة حيث تبرز المسامحة في المندوب بعد التسامح في الدليل.

اللّهمَّ إلّا أن يقال بترتب الثمرة الثبوتية والتفريع الآتي أيضاً حيث إن كون التسامح

ص: 101


1- 108. . نهاية الحكمة، ج1، ص 83.
2- 109. . كفاية الأصول، ج1، ص 97.

راجعاً أولاً وبالذات إلي الدليل الذي هو سبب المدلول يوجب الالتفاتُ إلي هذه النكتة تنويعاً لا يخلو من ثمرة ثبوتية علمية والتفريع لأنّ التسامح الذي يسري إلي المدلول إمّا جري قبل ذلك في السند الضعيف للدليل أو في الدلالة الضعيفة للدليل، والتسامح في الدلالة في رتبة متأخرة عن التسامح في السند ولكن علي أيّ حال يتقدّم كل واحد منهما علي التسامح في المدلول، تقدّم العلة علي المعلول، وإن كان يمكن هنا فرض وجود أحد التسامحين من ضعف السند أو الدلالة كما أن وجود كليهما في صورة وجود الضعف الدلالي والسندي معاً فرض صحيح.لكن علي كلّ حال هذه الثمرة الثانية علي القول بها، ثمرة علمية محضة والعمدة هي الثمرة الأولي التي مع علميتها، يترتب عليها أثر عملي، فتأمّل.

التنبيه الثالث: عدم ثبوت التسامح في الاستحباب الشرعي

قد يقال بأنّه لو كان تمام الملاك حكم العقل بحسن الانقياد ولو مع التفضّل في كيفية إعطاء الثواب للعامل فاانّه لا تسامح هنا في الاستحباب الشرعي لعدم الاستحباب الشرعي حتي يتسامح فيه أم لم يتسامح، بل هنا استحباب عقلي لا تسامح فيه حيث إنّ ترتّب الثواب علي العنوان الحسن بالذات ليس فيه تسامح وإن كان بحث مفصّل في انّ الثواب الذي يعطيه اللّه تعالي للعباد في الندبيات والواجبات هل علي الاستحقاق أو التفضل؟ لكنه لا مجال للتسامح هنا كما لا يخفي.

قال السيد البجنوردي(قدس سره) في تنقيح هذا الكلام بما نصّه:

علي فرض صدق الانقياد علي اتيان محتمل الوجوب أو محتمل الاستحباب

ص: 102

لا ربط له بأخبار من بلغ لأنّ حسن الانقياد مثل الإطاعة عقلي سواء أكانت أخبار من بلغ أم لم تكن وكذلك لا ربط له بالتسامح في أدلة السنن كما هو واضح بل هو حكم عقلي إرشادي(1).

يجاب عن هذا البحث بأنّه بعد قيام الدليل علي كون المسألة عقلية ولو مع التفضّل في بعض جوانبها لا نضايق القول باندفاع أن يذهب أحد إلي الاستحباب الشرعي لأنه كما هو المشهور: نحن أبناء الدليل حيثما يميل، نحن نميل.

هذا مضافاً إلي أنّ في صدق التسامح في الثواب علي الندبيات والواجبات بحثاً ليس هنا مجاله لكن نقول ملخّصاً:

إنّ أصل الثواب لهما اامّا من باب الاستحقاق أو التفضل فما المانع لأن يطلق علي التفضّل هنا لفظ التسامح؟ فالتسامح الذي ردّه في الواجب والندب العقليين محل إشكال لأنه نقول: يمكن طرح المسألة هناك بأنّ الثواب في الواجب والندب العقلي هل بالاستحقاق أو التفضّل والتسامح في هذا الإعطاء المبارك من اللّه سبحانه وتعالي لعباده المطيعين.

هل الفعل الذي يأتي به المكلف بعنوان الاستحباب أعمّ عن كونه كذلك واقعاً أم لا يترتّب عليه الثواب مطلقاً أو يقيّد الثواب بأن يكون ذلك القصد الانقيادي ونية الندب المحتمل والجزاء الموعود متمشياً ومنويّاً عند المكلف؟

للإجابة عن هذا السؤال لا نري عناء البحث وتكلّف إقامة الدليل لأنه يتضح

ص: 103


1- 110. . القواعد الفقهية، ج 3، ص 331.

من خلال التأمل إلي ما سبق أنّ حكم العقل بحسن الانقياد والطاعة البالغة غاية العبودية لاحتمال كون الفعل مطلوباً للشارع وراجحاً، له موضوع كما أنّ كلّ حكم عرفي وشرعي كذلك وهذا الموضوع لذلك الحكم العقلي إنّما هو الاتيان بقصد الثواب وبنية المحبوبية وبذل الانقياد فكلّ واحد من هذه القيود مأخوذ في موضوع الثواب المترتب علي حكم العقل بحسن الانقياد.

نعم يكفي في ترتب الثواب علي العمل الذي بلغه أنه مندوب وله ثواب قصد الانقياد دون النظر إلي ترتب الثواب لأنّ ترتب الثواب علي العمل الحسن في الواقع وهو أي العمل عبارة عن الانقياد، لا يتوقف علي قصد ترتب الثواب بل يكفي قصد موضوعه وهو الانقياد ولكن لا يمنع هذا قصد الثواب أيضاً وإن كان أشبه بعبادة التجّار كما في الخبر(1) ويكون العبد بذلك في درجة أردء م-مّا لو كان قصده محض الطاعة والانقياد.

فالخلاصة انّه يكفي في ترتب الثواب قصد موضوع الترتب وحكمِ العقل بحسن الانقياد وذلك الموضوع هو الإتيان بقصد الانقياد والعبودية لأنّ صدق العنوان الحسن والانقياد في المقام يترتب عليه الثواب وحكمُ العقل بالحُسن والرجحان ولو لم يقصد ولم يلتفت العبد إلي الثواب أصلاً ولكن لو قصد الثواب يترتب علي عمله وإن كان هذا أشبه بعبادة أهل الدنيا - أعاذنا اللّه- .

و إلي هذا أي عدم تقيّد ترتب الثواب وتوقفه علي قصده أشار بعض الأعلام حينما صار بصدد بيان احتمالات القاعدة وذكر عدّة مبانٍ وفروض:

ص: 104


1- 111. . غررالحكم ودررالكلم، ص 239.

الاحتمال الأوّل: إنّ هذه الروايات تدلّ علي ترتب الثواب علي الفعل مطلقاً، مثل-اً إذا وردت رواية تقول: إنّ الدعاء عند رؤية الهلال يترتّب عليه الثواب الفلاني ففي هذه الصورة فإنّ مضمون أخبار من بلغ هو أنّ هذا الثواب يترتّب علي ذلك الفعل مطلقاً وغير مقيّد بأيّ شرط(1).

هذا كله مع أنه يمكن الإشكال في صدق التسامح حتي لو سلّمنا ترتّب الندب الشرعي والاستحباب المولوي علي عمل دلّ علي استحبابه خبر ضعيف، لأنّ الفقيه يأخذ في هذه الصورة بالدليل الذي يدلّ علي اعتبار الخبر الضعيف، فليس هنا تسامح أيضاً لرجوع الأمر إلي الدليل الذي ثبت اعتباره وهو ما أعطي الاعتبار للأخبار الدالة علي السنن وإن كان فيها ضعف سنداً أو دلالة.

لكن الإنصاف أن نفي التسامح في هذا الفرض ليس خالياً عن الإشكال، لأنه يتبع الأمر هنا اعتبار المعتبر، فإن أخذنا بعين الاعتبار، الدليل المعتبر الذي يعطي الاعتبار للأخبار الضعاف المستفاد منها ندب، فليس مجال في هذا الاعتبار للقول بصدق التسامح، لكن إذا التفتنا مع لحاظ الدليل المعتبر الناصّ أو الظاهر في إعطاء الاعتبار للأخبار الضعيفة، إلي أنه قد ألغي الشارع ضعف سند العمل الذي يحتمل كونه مندوباً وغضّ البصر عن ذلك، فحينئذ يثبت التسامح كما لايخفي.

قد أجاب عن هذه الشبهة المرحوم المراغي في كتاب العناوين حيث قال:

لايقال: إنه علي هذا لا يسمي تسامحاً في دليل المستحبّ، بل هو أخذ

ص: 105


1- 112. . قاعدة التسامح في أدلّة السنن: ص 46.

بالحجة لأنّا نقول: تسمية ذلك بالتسامح بملاحظة أمرين: أحدهما ملاحظة الوجوب والتحريم، فإنه إذا لم يكن شيء حجة فيهما وصار حجة في الندب ونحوه، فيكون هذا بعد اتحاد طبقة الأحكام الفرعية في أغلب المآخذ بمنزلة المسامحة ويكون كأنهم اعتمدوا علي ما لاينبغي أن يعتمد عليه في الحكم الفرعي.

و ثانيهما أنّ الدليل الدال علي حجية الدليل الضعيف في المندوب ينبيء عن نوع مسامحة في الباب، فكأنّ الشارع لم يبن الأمر في الآداب والسنن علي المداقة كالأحكام اللازمة، فتدبّر(1).

هذا الكلام راجع إلي ما قلنا مع أن الظاهر اتحاد الوجهين المذكورين في كلامه ورجوعهما إلي مآل واحد.

التنبيه الرابع: نفي التعارض بين الأخبار وعدم ثبوت الندب الشرعي

قد اتضح من خلال ما ذكر أنّ المحبوبية الّتي تتصوّر في المقام إنّما هي بحكم العقل والشارع بمقتضي الإطلاق في كلامه المتمثل في هذه الروايات الشريفة يرشد إلي نفس حكم العقل، فلا استحباب شرعي في المقام كما أنّ التعارض الذي يقال به بين أدلة قاعدة التسامح وأدلّة اعتبار أخبار الآحاد منتف كيف؟ فإنّ التعارض منوط ومتوقف علي أن يكون هنا دليل شرعي معتبر يدلّ علي ترتّب الأثر علي الروايات الضعيفة والأخبار الّتي لا تجمع شرائط الاعتبار، لو وصلنا خبر ضعيف وقد دلّ علي استحباب

ص: 106


1- 113. . العناوين، ج1، ص 421.

تقبيل يد العالم أو الأضرحة المقدسة وهكذا ودلّنا بعض أخبار معتبرة أو حكم العقل علي المعاملة مع هذه الرواية الضعيفة كما لو كانت صحيحة، فعندئذ يقال: بين أدلة اعتبار خبر الواحد المشترط فيها بعض الشروط المفقودة هنا وأدلة التسامح تعارض واضح فإمّا أنه تعارض مستقر أو غير مستقر فيمكن الجمع العرفي في هذا الفرض الثاني، لكنه مقام بحثنا ليس كذلك لأنه لا يترتّب الأثر علي تلك الروايات الضعيفة علي أنّها حجة معتبرة بل يحكم العقل - وقد أيّده الشرع ورتّب الثواب علي وجه التفضل كما مرّ بيانه حيث لم يكن الثواب إلّا بقدر ما في الرواية لا علي قدر الانقياد - بحسن الإتيان بالعمل بصرف الاحتمال لا أنّ هذا الخبر نفس الواقع ليكون هناك تعارض، فاتّضح انّ التعارض مما لا مجال له هنا كما أنه ثبت إجمالاً ويأتي تفصيله من أنّ اعتبار دلالة الروايات الضعيفة الدالة علي جهة المولوية في المندوبات محل منع جداً.

قال الميرزا النائيني(قدس سره) علي ما في أجود التقريرات حول مشكلة التعارض:

وحينئذ يقع المعارضة بينها وبين ما دلّ علي إشتراط العدالة والوثوق مثل-اً في حجية الخبر ولكنّه مع ذلك لابدّ من تقديم هذه الأخبار ورفع اليد عن دليل الاشتراط في مواردها، أمّا ما كان من أدلّة الاشتراط من قبيل قوله تعالي: «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَينُوا»(1) أو غير المفيد لاشتراط العدالة مطلقاً فوجه تقديمها عليه واضح فإنّ هذه الأخبار أخصّ من تلك الأدلّة فيقدّم عليها بالأظهرية وأمّا ما كان منها دالاً علي اشتراط شرط مخصوص

ص: 107


1- 114. . الحجرات، 6.

في خصوص مواردها وهي الأحكام الغير الإلزامية حتي يكون النسبة بينهما التباين فلأنّ هذه الأخبار معمول بها عند الأصحاب، فلا محالة يكون ما هو المعارض لها علي تقدير وجوده معرضاً عنه عندهم فيسقط عن قابليّة المعارضة لها (1).

و قد عرفت أنّ التعارض لا تصل النوبة إليه، نعم لو فرض ذلك لكان الجمع العرفي الممكن بالفرض هنا هو الطريق الصحيح في المقام لكون التعارض في المقام غير مستقر، علي حسب ما قال به المرحوم الميرزا(قدس سره) من تقديم روايات هذا الباب علي الأدلة المطلقة أو العامة الّتي تدلّ علي اعتبار أوصاف وشروط مفقودة في روايات المندوبات الضعيفة.

التنبيه الخامس: استدلال القائلين بالاستحباب الشرعي

قال المرحوم الآخوند(قدس سره):

ث-مَّ إنّه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار علي استحباب ما بلغ عليه الثواب، فإنّ صحيحة هشام بن سالم المحكيّة عن المحاسن عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال: من بلغه عن النبي(صلي الله عليه وآله) شيء من الثواب كان أجر ذلك له وإن كان رسول اللّه لم يقله، ظاهرة في انّ الأجر كان مترتّباً علي نفس العمل الذي بلغه عنه(صلي الله عليه وآله) أنّه ذو الثواب.

و كون العمل متفرّعاً علي البلوغ وكونه الداعي إلي العمل غير موجب لأن يكون الثواب إنّما يكون مترتّباً عليه فيما إذا أتي برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط بداهة أنّ الداعي إلي العمل لا يوجب له وجهاً وعنواناً

ص: 108


1- 115. . أجود التقريرات: ج 2، ص 208.

يؤتي به بذلك الوجه والعنوان واتيان العمل بداعي طلب قول النبي(صلي الله عليه وآله) كما قيّد به في بعض الأخبار وإن كان انقياداً إل-اّ انّ الثواب في الصحيحة إنّما رتّب علي نفس العمل ولا موجب لتقييدها به لعدم المنافاة بينهما بل لو أتي به كذلك أو التماساً للثواب الموعود كما قيّد به في بعضها الآخر لأوتي الأجر والثواب علي نفس العمل لا بما هو احتياط وانقياد، فيكشف عن كونه بنفسه مطلوباً وإطاعة فيكون وزانه وزان «من سرح لحيته أو من صلّي أو صام فله كذا» ولعلّه لذلك أفتي المشهور بالاستحباب فافهم وتأمل(1).

لا يخفي انّه قد مرّ منع القول بالإطلاق في الأخبار الشريفة وقد بيّنا الدليل لذلك سابقاً حيث إنّ القرينة اللبية العقلية حافة بالكلام ولو بالتأمل أحياناً فيما إذا كان هناك ظهور في الأخبار في استقلال المناط عن حكم العقل، فلا يبقي لهذه الدعوي بوجود الإطلاق مجال مع انّ التقييد بالأخبار الأخر لو سلّمنا الإطلاق في البعض الآخر أمر مسلّم إلا أنّ العمدة انتفاء الإطلاق من رأسه وعدم المقتضي له، وأمّا إفتاء العلماء الأعلام بالاستحباب في الموارد المختلفة فلا يدلّ علي أنّ العمل الذي لا دليل معتبر عليه يكون بهذه القاعدة مندوباً شرعاً لأنّ ذلك أعمّ من ذهابهم إلي الاستحباب الشرعي كما لا يخفي حيث يمكن أنهم أرادوا الاستحباب العقلي لحسن الانقياد علي الطريقة الّتي قلنا بها بل ولو قبلنا أنّ حكمهم تعلّق بنفس العمل ويكشف بذلك بناءهم علي ندبية هذه الأفعال الّتي دلّ علي استحبابها خبر ضعيف فإنّه لا يفيد في

ص: 109


1- 116. . كفاية الأصول: ص 353- 352.

الاستدلال حيث نحن نتّبع الدليل وهو بالفرض قائم علي كون الملاك هو الانقياد وبذل الخضوع التام للّه تعالي الذي هو عنوان حسن في نفسه وبذلك أيضاً أجبنا عن دعوي الإجماع والشهرة الفتوائية فراجع.

قال أحد الأعاظم في تقرير الإشكال علي المسلك القائل بأنّ ترتّب الثواب في المقام إنّما يكون لعنوان الانقياد وبذل الطاعة بمجرد احتمال الرجحان لدي المولي الذي هو عنوان حسن بالذات موجب لترتب الثواب بما نصّه:اانّه لا انقياد هاهنا لأنه مقابل التجري فكما أنّ التجري عبارة من مخالفة الحجة غير المصادفة للواقع كذلك الانقياد عبارة عن موافقة الحجة غير المصادفة للواقع والمفروض أنه ليس حجة في البين لأنّ الخبر الضعيف ليس بحجة علي الفرض وليس مشمول-اً لأدلة حجية الخبر الواحد الموثوق الصدور، فليس مفاد هذه الأخبار إلّا إعطاء الأجر والثواب علي نفس العمل الذي بلغه الثواب علي ذلك العمل(1).

لا يخفي أنّ كلامه محلّ نظر حيث إنه(قدس سره) علّق صدق الانقياد علي وجود حجة في المقام غير مصيبة إلي الواقع وقد وافقها العبد بأن يعتقد أنّ هذا الفعل قد دلّ علي كونه مندوباً الخبر الحجة ث-مَّ انكشف كذب الخبر وعدم كون الواقع كما وصل إلينا وفيه انّ تضييق دائرة صدق عنوان الانقياد بما ذكره هذا العلم غير صحيح لأنّه في المقام وهو فرض وقوع الانقياد يكفي مجرد تصور إصابة هذه الرواية للواقع .

ص: 110


1- 117. . القواعد الفقهية : ج 3، ص 332.

بعبارة أخري أنّ موضوع الانقياد هو بذل الطاعة للموالي الجعلية أو للّه تعالي الواجبي الوجود بالذات فيما يحتمل وجود تكليف ويظنّ بوجود مصلحة ولا يتوقّف الأمر علي وجود الحجة المعتبرة لدينا الخاطئة والكاذبة في الواقع، بل لو احتمل التكليف وأتي به رجاء ومنقاداً فإنّ الانقياد هنا صادق بطريق أولي عمّا لو أراد الانقياد بعد وجود الدليل المعتبر عند المنقاد الدالّ علي فعل شيء أو تركه، لزوماً أو ندباً.

التنبيه السادس: عدم حجية الخبر الضعيف بواسطة أخبار من بلغ

اشارة

يجدر بنا أن نشير إلي هذه المسألة الّتي تعدّ ثمرة مهمّة للذهاب إلي انّ الملاك في ترتّب الثواب هو حكم العقل بحسن الانقياد والخضوع التام فنقول: إنّه حيث قلنا بأنّ المعيار في ترتّب الثواب هو حكم العقل بحسن الانقياد والخضوع للمولي فلابدّ وأن يقال كما مرّ: اانّ وجود الخبر والرواية يعني الحجة وعدمه سواء لأنّ تمام الملاك هو احتمال وجود التكليف الوجوبي أو الندبي ولو من خارج الرواية، فحينئذ يتضح عدم تعرّض حكم العقل والحسن العملي لوجود الرواية وعدمه، فلو كان هذا حال أصل الخبر فكيف بوصفه من الصحة وجبران الضعف السندي وغيرهما؟

قال أحد العلماء في هذه المسألة ما نصّه:

و لا يخفي انّ أحاديث من بلغ واان كانت حجة في نفسها ولكنّها لا تجعل الرواية الضعيفة الدالة علي استحباب شيء حجة واقعاً حتي تصير مثل الرواية الصحيحة فيترتّب عليها جميع آثارها بل تجعلها مع إبقائها علي

ص: 111

ضعفها حجة ظاهراً أي اان عمل بها يثاب عليها (1).

قال المرحوم السيد حسن البجنوردي(قدس سره) في هذا المقام :

ولكن عرفت انّ هذه الأخبار لا تدلّ علي حجية الخبر الضعيف بالنسبة إلي ثبوت الاستحباب كي تكون شرائط حجية الخبر في إثبات الواجبات غير شرائط حجيته في باب المستحبّات(2).

نظريّة المحقق الإصفهاني(قدس سره) في مفاد أخبار القاعدة

قال المحقق الإصفهاني(قدس سره) في بيان مفاد الأخبار الواردة بشأن قاعدة التسامح ما لفظه:

بل مقتضي التأمّل في الأخبار أنها في مقام الترغيب في العمل لا في تحصيل الثواب فقط ولا معني للترغيب في العمل إلّا لكونه راجحاً شرعاً (3).

التحقيق انّ المقطع الأول في كلامه لا غبار عليه بالدقة العقلية فإنّ ظاهر الأخبار واان كان الجمود والتأكيد علي الثواب ليكون دافعاً نحو العمل بالانقياد والمندوبات الواقعية والمحتملة لكن بالتأمّل العقلي يتبيّن أنه ليس للثواب دخل بل الملاك هو الترغيب في العمل ولا ترغيب في العمل كما قال أيضاً إلاّ إذا كان العمل في نفسه راجحاً شرعاً، لكن أيّ عمل هذا الذي يرغّب في اتيانه الشارع؟ الظاهر أنّ هذا العمل هو الانقياد أو المستحب الواقعي لا كلّ عمل وعد عليه بالثواب ليكون مفاد الأخبار ااثبات الندب لكلّ فعل بلغ عليه الثواب.

ص: 112


1- 118. . تحقيق في القواعد الفقهية: ص 216.
2- 119. . القواعد الفقهية: ج 3، ص 334.
3- 120. . نهاية الدراية: ج 4، ص 184.

التنبيه السابع: نظريّة الانحلال الخطابي و جريانها في المقام

لا يخفي أنه من المباحث الدقيقة والفنية الأصولية والفقهية هذه المسألة التي ندّعي جريانها في المقام وهي نظرية انحلال الخطابات الشرعية والقانونية التي تصاغ في قالب القضايا الشرطية الحقيقية التعليقية بتعدد المصاديق والموضوعات.

بيان ذلك أنه نشأت نظرية الخطابات القانونية كما هو المعروف في سياق المحاولات التي تصدّت للإجابة عن الشبهة المذكورة التي أوردها الشيخ البهائي؟ره؟ في بحث اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاص في العبادات(1)، فهكذا شاع ذكر هذا البحث تفصيلاً في بحوث الأعلام حيث إنه كثيراً من موضع واحد وبحث خاص يفصّل الكلام في قاعدة كلية كانت مرتكزة علي الإجمال قبل ذلك.

فأبدع العلماء آرائهم القيّمة في خصوص هذا البحث العميق الأصولي والفقهي إلي أن جاء دور الأعلام الفقهاء المعاصرين الذين بحثوا عن هذه المقولة في أسفارهم ودروسهم العالية(2).

مفاد هذه النظرية أنه في الخطابات اللفظية القانونية العرفية أو الشرعية، نلاحظ أنها تصاغ في قالب القضية الحقيقية القابلة للانحلال بحيث بتعدد المصاديق في الزمان الواحد أو المتغاير، يتجدّد الحكم وبعبارة أخري يكون لكلّ موضوع حكمه الناشي من انحلال ذلك الخطاب الواحد.

ص: 113


1- 121. . راجع زبدة الأصول، ص 117 والخطابات القانونية، ص 12.
2- 122. . نذكر علي سبيل المثال أنوار الهداية في التعليقة علي الكفاية، ج1، ص 39، نهاية الدراية، ج2، ص 575، فوائد الأصول، ج1، 550؛ دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة، ص 88.

بل شمول العموم والإطلاق لكلّ فرد من أفرادهما يبتني بحسب رأينا المحقّق في هذه المسألة في محلّها علي هذه النظرية العقلائية.

فكما أنه لو كان هناك خطاب لفظي، يجري فيه هذا المعني، فكذلك يجري في المقام الذي نحن نبحث عنه وهو مباحث قاعدة التسامح حيث إن هذه القاعدة لو قلنا بثبوت الاستحباب الشرعي المولوي بالأخبار الواردة فيها، فتكون الأخبار الدالة علي التسامح قضايا حقيقية تعليقية حقيقة فيشملها ما كان يشمل سائر القضايا التشريعية الشمولية، لكن إذا كان التسامح من باب التحسين العقلي بحيث كانت الأخبارالواردة في المقام إرشادية محضة فلا يثبت الاستحباب المولوي المستقل عن العقل في البحث ولكن هذا لا ينافي جريان الانحلال في الحكم القطعي المذكور والمرشدة إليه أخبار الباب المذكورة سابقاً.

كيف؟ فإن الحكم العقلي سواء حُكي عنه بالقضية اللفظية في الأخبار أو غيرها، أم لا، فإنه يقبل الانحلال بتعدد المصاديق والموضوعات الصغروية الجزئية والسرّ في ذلك أنّ مناط الأحكام الشرعية والقانونية ليس معلّقاً علي وجود اللفظ بحيث كان وجودها في صقع الاعتبار والواقع متوقفاً علي اللفظ.

بل الأحكام التقنينيةلها ثبوتها وتقرّرها في عالم الواقع، فلو علم بها الفرد لكفي ذلك في تعدّدها بتعدد المصاديق التي تجري فيها هذه الأحكام.

فلتقريب البحث إلي الأذهان نمثل بهذا المثال وهو أنه يحكم العقل بحسن رعاية العدالة، فهذا الحكم العقلي موجود في وعاء ثبوته بلا دخل باللفظ في ذلك، فلو

ص: 114

وجد العاقل مصاديق متعددة له في الزمان الواحد وكذا في الأزمنة المتغايرة والمتباعدة، فيجري هذا الحكم العقلي الواحد بعد انحلاله وتعدّده بكثرة مصاديقه.

إذا عرفت هذه المسألة النظرية والاستدلال عليها، تعرف أنّها تجري في الأحكام العقلية أيضاً وحيث إنّ التسامح في المندوبات بل مطلق الأحكام غير الإلزامات من الندب والكراهة، بناء علي تنقيح المناط في المقام، حكم عقلي تحسيني، فيجري فيه هذا المبني المسمّي بانحلال الخطابات وقد فصّلنا الكلام عنه في محله وثبت هناك كونه علي درجة من الوضوح والوجاهة وليس المقام محلّ ذكر جميع ما يطرح هناك، فنكتفي بنقل كلام أحد الأعلام في خصوص رأيه في المسألة حيث سلّم اعتبار هذه المقولة الدقيقة العلمية مع ما لها من الآثار في الفقه والأصول وإحدي تلك المواقع جريان ذلك في قاعدة التسامح علي كلا تقريريها، قال هذا الفقيه المحقق:

كل واحد من الأفراد وإن كان محكوماً بحكم مخصوص به، والحكم وإن تقوّم بالإرادة بمعني أنه هو عينها أو هو متأخر عنها لاحق بها، ولكن تكفي تلك الإرادة المتعلّقة بالكلّي والقانون العام لاعتبار الحكم المزبور لكلّ أحد، أو يقال بأنّ تلك الإرادة الواحدة المتعلقة بالخطاب العام القانوني، تنحلّ حكماً - حسب الأفراد وحسب حكم العقل وفهم العرف - إلي الأفراد، فيكون الانحلال إلي الكثير بنحو العموم الاستغراقي ويكون الانحلال

حكمياً، ضرروة أنّ الوجدان قاضٍ بوحدة الإرادة، فالكثرة اعتبارية بلحاظ أنّ المراد معني كليّ انحلالي وهذا المعني الانحلالي يوجب سريان الانحلال

ص: 115

حكماً إلي الإرادة(1).

فلقد أجاد هذا الفقيه فيما ذهب إليه حيث بيّن بأنّ الإرادة التي يكون تقوّم الحكم بها وإن كانت ماهية بسيطة واحدة لكن بتعدد المصاديق والموضوعات الخاصة الجزئية، يسري هذا الانحلال إلي تلك الإرادة فيكون انحلال الإرادة حكمياً.

التنبيه الثامن: شمول أخبار من بلغ وقاعدة التسامح لفتوي الفقيه والشهرة والإجماع المنقول

يبحث هنا عن سؤال وهو أنّه هل مناط البحث في الأخبار الضعيفة الّتي تدلّ علي ترتّب الثواب لفعل مندوب مدلول علي كونه مندوباً في نفس تلك الأخبار جار في الفعل المدلول علي استحبابه بفتوي الفقيه أو الشهرة أو الإجماع المنقول وبعبارة أخري إذا قام الإجماع المنقول أو أفتي الفقيه باستحباب هذا العمل المعين وكذلك دلّت الشهرة الفتوائية علي انّ الفعل مندوب، فهل يقال بثبوت الندب والاستحباب الشرعيين أو العقليين - بناء علي الخلاف في المسألة -في هذه الموارد أم يقتصر الأمر في الفعل المندوب بدلالة الروايات الفاقدة لبعض شرائط الوثوق والاعتبار علي كونه مندوباً؟

نقول _ بعد عدم جري البحث في مجال الإجماعات المحصّلة الخارجة عن المقام لأنه هناك قد ثبت استحباب المستحبات ولم يبق تردد ليصدق الانقياد واحتمال مخالفة المعلوم بذلك الإجماع من ندبية هذا الفعل لما في الواقع مندفع لأنه لا يجتمع هذا الاحتمال مع وثوق المحصّل للإجماع بالحكم _ بأنّ الظاهر جريان المناط حيث

ص: 116


1- 123. . تحريرات في الأصول، ج3، ص 454.

انّ الملاك لحكمنا بالحسن وترتّب الثواب بعنوان الانقياد الحسن بالذات، كان بالعقل ونفس حكم العقل جار كما قلنا إجمالاً، في مطلق الاحتمال ووجود رواية أو إجماع أو شهرة ليدلّ واحد منها علي ندبية الفعل حيث تعليلي لا يلتفت إليه كما لا يخفي.

نعم ربّما يشكل بأنه يلزم علي قولكم هذا أن يذهب إلي الحسن وترتّب الثواب علي كلّ فعل يحتمل المكلف ولو عند وجدانه حبّ الشارع اتيانه ويقرّر هذا الإشكال في كلام أحد الأعلام علي النحو التالي:

نعم الإنصاف أنّه لا يناسب مذاق الشرع واعتبارَ العقل أن يُحكم باستحباب أيّ شيء بلغ الثواب عليه مطلقاً ولو باحتمال ضعيف جداً، بل إنّ هذا لا يظهر من أحاديث من بلغ أيضاً بل يظهر منها أنّها تحكم باستحباب ما يكون احتماله م-مّا يعتني به العقلاء ويلائم سائر الأحكام، غاية الأمر أنّه لا يبلغ حدّ الاطمينان اللازم في غيره، أضف إلي هذا أنّ العمل بكلّ احتمال ولو ضعيف جداً خصوصاً الفتوي به موجب للتساهل الشديد الذي ينجرّ إلي ما لا يرضي الشارع به(1).

فيه أنّ تلك التوسعة لا مانع منها حيث قام الدليل علي اعتبارها فلا مجال للنقاش فيها ونقول بالتوسعة المذكورة بالعنوان الأولي -أولاً وبالذات - .

نعم ربّما يتعارض هذا الحكم ويقدّم عليه حكم آخر بالعنوان الثانوي الرافع كما لو تصوّر أنّ الفقيه لو أراد أن يفتي ويحكم باستحباب كلّ فعل يحتمل المكلف استحبابه لأوجب ذلك وهن الشرع والتلاعب بأمر الدين، فاانّه حينئذ لا يكاد يقدم علي هذه

ص: 117


1- 124.. تحقيق في القواعد الفقهيّة: ص216.

التوسعة أحد والظاهر أنّ المحقّق المذكور كلامه، قد أراد هذه الصورة، هذا لكن ما ذكره من عدم دلالة أخبار من بلغ لهذه التوسعة ففيه أنّ أخبار القاعدة كانت علي المختار مرشدة إلي ما يحكم به العقل مع التفضل في كيفية إعطاء الثواب فلا استقلالية في دلالة الأخبار ليقال فيها بأنها تدلّ علي التوسعة أم لا تدلّ.

و لما ذكرنا من تنقيح المناط وتسرّي الحكم إلي مطلق الاحتمال بمندوبية ومطلوبية الفعل سواء كان من الرواية أو الإجماع أو غيرهما يندفع ما قد يقال من التفرقة بين الرواية الضعيفة وفتوي الفقيه أو الشهرة والإجماع حيث قلنا لا موضوعية لما يحصل به الاحتمال وأمّا تلك الفروق فبحسب ما يلي بيانه:الفرق الأول:اانّ الرواية الضعيفة الّتي تدل علي الثواب تحكي عن قول المعصوم في حين أنّ فتوي الفقيه علي استحباب عمل معيّن تحكي عن رأي نفسه(1).

الفرق الثاني: إنّ الشهرة أو الإجماع ينقل الندب عن جماعة كثيرة والحال أنّ الرواية الضعيفة تنقل عن الإمام(عليه السلام) ولو لم يعلم أصل الانتساب هل هو صحيح في الواقع أم لا.

قد مرّ انّ الملاك هو صرف الاحتمال الحاصل لدي المكلف وخصوصية كونه عن الإمام المعصوم(عليه السلام) بأن قال في خصوص الرواية الغير المعلوم انتسابها إليه: إنّ هذا مندوب، أو عن الفقيه غير ملحوظ أصلاً وأمّا الفرق الثاني ففيه أيضاً ما في سابقه.

ث-مَّ بقي الكلام في أنه هل يمكن أن يفتي الفقيه باستحباب العمل الذي يحتمل علي اتيانه الثواب لرواية ضعيفة أو غيرها بناء علي التعميم، بالاستحباب المطلق أو يلزم عليه

ص: 118


1- 125. . قاعدة التسامح في أدلة السنن : ص156.

أن يصرّح بقيد الرجاء وقصد الانقياد؟

قال أحد الباحثين والعلماء في هذا المقام بما ظاهره جواز صريح الإفتاء بدون الإشارة إلي أنّه للانقياد أو لغيره بل يفتي بالاستحباب المطلق كما في موارد قيام الدليل الشرعي المعتبر علي كون العمل الفلاني مندوباً، قال:

ولا يخفي أيضاً أنّه كما يستحبّ للعامي العمل وفق أحاديث من بلغ كذلك يجوز للمجتهد الفتوي وفقها خصوصاً بملاحظة أنّها تعطي ضابطة كليّة يمكن إصدار الفتوي بالنظر إليها (1).

نعم لا يبعد جداً إجمال الكلام حيث يمكن في هذا الكلام إرادة الإفتاء بعنوان الانقياد لكنه حيث لم يكن في مقام بيان هذه الجهة لم يتعرّض لها .

فعلي أيّ حال مقتضي التحقيق أنّ ذلك غير جائز كيف؟ فإنّ العرف إذا ألقي إليهم انّ هذا الفعل مندوب يفهمون ثبوت الثواب لنفس العمل لكونه في نفسه مندوباً، لكن الواقع فيما نحن فيه أنه ليس أصل الفعل كذلك بل يحتمل إباحته أو كراهته فالقول بكونه ندباً علي وجه القطع خلاف شرع إمّا للإفتراء أو للتجري - معاذ اللّه.

هذا ولكن يواجهنا الإشكال بأنّ الأمر لو كان كذلك فكيف يوجّه ما نراه في حواشي العروة وغيرها حيث يقول الفقيه هناك بدون الإشارة إلي وجه الثواب: إنّ العمل الفلاني مندوب مع أنه ليست هناك رواية معتبرة؟

يجاب عنه بأنّ مذهب المشهور كما يقال هو انجبار ضعف ذلك السند للرواية

ص: 119


1- 126. . تحقيق في القواعد الفقهية: ص 216.

الدالة علي الندب وثبوت الاستحباب الشرعي بواسطة أخبار من بلغ، فالإخبار بعد ذلك بالندب خال عن الإشكال كما لا يخفي مع أنه باب التوجيهات والتقريباتِ الأخر مفتوح هنا إلّا انّ العمدة والسهل ما ذكرناه من التوجيه وله وجه قويّ في المقام.

قال السيد البجنوردي(قدس سره) في بيان تأييد هذا الوجه ما نصّه:

نعم للفقيه أن يفتي باستحباب ما قام علي استحبابه أو وجوبه خبر ضعيف فيما إذا تعنون بعنوان البلوغ لا بعنوانه الأولي ولا من جهة أنّ الخبر الضعيف حجة كما توهّم بل من جهة دلالة حجة معتبرة وهي أخبار من بلغ علي استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب كما استظهرنا هذا المعني منها (1).

التنبيه التاسع: شمول أدلة قاعدة التسامح للواجب

يبحث هنا عن توسعة أو ضيق هذه القاعدة وأنّها هل تشمل المندوبات خاصة أو دائرتها أوسع من ذلك فتكون حجيتها شاملة للواجبات؟ بعد أنّه يمكننا تصور قدر جامع مشترك بين الوجوب والندب وذلك هو المحبوبية وجنس المطلوبية الصادقة علي المطلوب الإلزامي والندبي، فلو سلّمنا هذه التوسعة فمعني شمول القاعدة للواجبات أنه يحسّن ويثاب العبد علي اتيان الواجب بمجرد دلالة رواية ضعيفة غير معلوم اعتبارها.

الظاهر أنه لا يبقي مجال تأمل لمن أمعن النظر ودقّق البصر فيما سبق من المباحث حيث كان الملاك في هذه القاعدة المستوعبة لجلّ الأبواب الفقهية هو العقل ولذلك

ص: 120


1- 127. . القواعد الفقهية: ج 3، ص 334.

يكون تنقيح المناط بحسب حكمه وتعيين دائرة مصاديقه أسهل م-مّا لو كان الدليل هو اللفظ وقلنا أيضاً انّ العقل يحكم بحسن الانقياد بمجرد الاحتمال غير ملحوظ لديه كون سبب ذاك الاحتمال رواية ضعيفة أو غيرها، فنظراً إلي ذلك وبعد وجود أصل المطلوبية واحتمالها يمكن القول بأنه يحكم هنا بترتب الثواب الانقيادي بمجرد اتيان ما هو محتمل الوجوب رجاء ان يكون مطلوباً للمولي وحيثية المطلوبية البالغة رتبة الإلزام أو غير الإلزام ليس إلّا كالحجر في جنب الإنسان ولا يعتدّ إليها لكونها حيثية تعليلية لا دخل لها في الحكم نفياً ولا إثباتاً.

قال أحد الأعلام القائلين بالتوسعة والتعميم في بيان وجه ذلك:

ث-مَّ اانّه بناء علي استفادة الاستحباب لا فرق بين أن يكون الخبر الضعيف مفاده استحباب الشيء أو وجوبه لاتّحاد المناط فيهما وهو بلوغ الثواب والأجر فيهما كما أنّه بناء علي سائر الاحتمالات أيضاً لا فرق في تحقق الموضع وصدق البلوغ بينهما(1).

لكن لا يخفي أنه لو قلنا بثبوت الاستحباب الشرعي وانجبار ضعف الدلالة اللفظية والإشكال السندي في الأخبار بواسطة هذه القاعدة فلا يمكننا أن نعتبر القاعدة شاملة للواجبات بسهولة لأنه حينئذ تخرج القاعدة عن العقلية وتصير تعبدية متوقفة علي بيان الشارع لتوسعتها وضيقها ولكمّها وكيفها، فالتعدي مطلقاً علي أيّ واحد من المباني والأقوال غير المذهب العقلي المذكور إلي غير المندوبات محل ااشكال ونظر.

ص: 121


1- 128. . القواعد الفقهية: ص 336.

التنبيه العاشر: جريان القاعدة في المكروه والحرام

ذكرنا فيما مضي أنّ معيار وما به الحكم في مقام البحث هو الحكم العقلي الدالّ علي انّ الانقياد والخضوع التام باتيان محتمل الوجوب والندب م-مّا يثاب عليه ولو مع عدم كون الواجب والمندوب واجباً ومندوباً في الواقع وحيث اانّ الملاك والعلة الموجبة لهذا الحكم العقلي هو عنوان الانقياد الواسع انطباقه حتي لموارد المكروهات والمحرّمات فنقول بتوسعة الكلام لهما.

وبعبارة أخري إنّ العقل يحكم بحسن الانقياد والانقياد هو موضوع حكمه بالحسن فمتي صدق ذلك يترتّب الحكم لا محالة وعندما نراجع مجال المكروهات والمحرّمات المحتملة الصدق بأن يكون المكروه مكروهاً واقعياً والحرام كذلك نجد هذا العنوان صادقاً، فلا مناص عندئذمن ترتب الحكم العقلي ونتيجة ذلك انه لو وردت رواية ضعيفة أو احتمل المكلف كراهة هذا الفعل فلو تركه رجاء كونه تاركاً لما لا يحبّه المولي فالانقياد الصادق يوجب ترتّب الثواب علي عمله وهكذا لو سمع رواية غير ثابتة الاعتبار تدلّ علي الحرمة فاجتنب عن اتيان ذلك الفعل المحتمل كونه مبغوضاً لازم الترك فيترتب علي انقياده الصادر عنه في الفرض الثواب الاالهي.

قد يقال في بيان المنع عن التعدي للمكروه والمحرّم بما نصّه:

نواجه مشكلة وهي انّ صدق عنوان بلوغ الثواب في المحرّمات محلّ ترددٍ يعني إذا دلّ خبر علي حرمة فعل معيّن فمن غير المعلوم ان يقال عنه بلوغ الثواب خلافاً للواجبات حيث قلنا: لا شكّ أنّ الإخبار عن الوجوب هو

ص: 122

إخبار عن الثواب(1).

فيه انّ حيثية بلوغ الأجر وترتّب الثواب واان كان بالنظر العرفي وللوهلة الأولي هو المعيار الأصلي كما مرّ لكنه قد مضي ان قلنا بأنّ ذلك يزول بأدني تأمل ويفهم من الأخبار بقرينة حكم العقل انّ ميزان قاعدة التسامح في أدلّة السنن هو صرف احتمال تكليف بعثاً أو تركاً، لزومياً أو غير لزومي مع صدق الانقياد بالاتيان الموافق لذلك الاحتمال، فالثّواب يترتّب علي هذا الإنقياد ولو لم يكن في مورد المحرمات المحتملة ذكر ثواب وبلوغ أجر في الرواية الضعيفة بل ذكر فيها العقاب الشديد والعسر الأكيد.

قال أحد الأعلام في هذا المقام وتأييد الذهاب إلي توسعة الحكم المستفادة من قاعدة التسامح:

و اختلف أيضاً في أنه هل يصحّ تعميمه للمكروه أيضاً من حيث ترتّب الثواب علي تركه أم لا يصح؟ الظاهر في هذه المسألة أيضاً أنه يصحّ التعميم خصوصاً إذا دلّت عليه رواية ضعيفة وذلك لعين ما ذكرنا في المسألة السابقة (2).

قال سماحة الشيخ محمد حسين الإصفهاني في نهاية الدراية ما نصّه:

إنّ مورد الأخبار وإن إختصّ بالفعل إلّا أنّ ظاهر الأخبار أنّها في مقام الترغيب في تحصيل الثواب البالغ من حيث إنّه ثواب بالغ لا لخصوصيّة فيما يثاب عليه حتي يقتصر علي ثواب الفعل، فالحقّ حينئذ مع المشهور

ص: 123


1- 129. . قاعدة التسامح في أدلّة السنن : ص169.
2- 130. . تحقيق في القواعد الفقهية: ص217.

في إلحاق الكراهة بالاستحباب(1).

نعم لو قلنا بأنّ الوجوب مفاده انه يلزم اتيان هذا الفعل ويحرم تركه والآتي به مثاب بالأجر العظيم والتارك يعاقب بالعقوبة الشديدة كما أنّ الحرمة معناها انه يلزم ترك هذا الفعل وفي فعله عقاب ولو تركه المكلف فيكون قد فعل واجباً ويثاب وهكذا لو جعلنا ترك المندوب مكروهاً وترك المكروه مندوباً ذا أجر وثواب، فيصدق بناء عليه في المقام عنوان بلوغ الثواب فيما إذا دلّت رواية ضعيفة علي كراهة فعل أو حرمته والتحقيق: أنّ كون ترك الحرام واجباً وترك الواجب حراماً أو ترك المندوب مكروهاً وبالعكس وإن كان أمراً مسلّماً ولا مانع منه حيث اانّ فعل الحرام فيه عقوبة شديدة وتركه واجب لهذا الضرر المحتمل بل القطعي العظيم والواجب لو تركه قد فوّت مصلحة هامة بالغة مرتبة اللزوم فيكون ارتكب معصية مترتّباً عليها العقاب وكذلك الأمر في المندوب والمكروه والسرّ فيه تعدّد الوجه المانع من اجتماع الثواب والعقاب أو المصلحة والمفسدة في محل واحد، لكنه لا يقال بهذا الجواب إلاّ مماشاة لمن يجعل قاعدة التسامح متعلقة بعنوان البلوغ وإلّا فنحن في فسحة من ذلك حيث جعلنا الملاك هو الانقياد الصادق في جميع هذه المقامات بلا حاجة إلي هذه التكلفات(2).

ث-مَّ اانه حيث كان المعيار صدق الانقياد ولو مع فرض عدم ذكر الثواب وبلوغ أجر في الأخبار وسائر أسباب الاحتمال، يندفع القول باشتراط دلالة الألفاظ المستعملة في الرواية الضعيفة صريحاً علي عنوان بلوغ الثواب او إذا كان سبب الاحتمال للمطلوبية

ص: 124


1- 131. . نهاية الدراية للإصفهاني: ج4، 190 - 189.
2- 132. . قد ذهب إلي المبني المذكور من كون ترك الحرام واجباً وهكذا ترك الواجب، الميرزا القمي(قدس سره) بناء علي ظاهر كلامه، القوانين المحكمة، ج1، ص 153.

أمراً آخر مثلاً، فلا يشترط أن يكون - مع الاحتمال الناشئ من السبب - عنوان البلوغ ملحوظاً وملتفتاً إليه خلافاً لبعض الأعلام حيث قال:

ث-مَّ إنّه بناء علي ما استظهرنا من هذه الأخبار من استحباب العمل الذي صار معنوناً بعنوان بلوغ الأجر والثواب عليه، فلابدّ من صدق البلوغ عرفاً لتحقق موضوع الاستحباب به وذلك لا يكون إلّا بدلالة الخبر الضعيف عليه بإحدي الدلالات اللفظية الوضعية حسب الظهور العرفي فلو كان الخبر الضعيف غير ظاهر في البلوغ فلا يثبت به الاستحباب(1).

تنبيه نافع

اشارة

قلنا إنه علي رأي ومبني يقتضيه الاعتبار الدقيق والتحقيق الجدير بالتصديق، يشمل تنقيح المناط قاعدة التسامح في السنن ونتعدي بعد ذلك لنطبّق هذه القاعدة في المكروهات أيضاً، لكن حيث إن تنقيح المناط أخذ أصلاً موضوعياً في العنوان السابق وكان البحث متوقفاً عليه، فلا بأس أن نذكر لإتمام الفائدة وإكمال العائدة مباحث مختضبة في خصوصه، فتكون هذه البحوث التي نلقيها في المقام من المبادي التصديقية العرفية لقاعدة التسامح حيث يتوقف الاستنتاج في جواز التعدي عن المندوبات إلي المكروهات أيضاً علي الإشراف الكامل لمباحث تنقيح المناط.

عندما يراجع المتتبع الباحث المسائل الفقهية الاستدلالية، يجد أن الفقهاء من الفريقين يستندون إلي تنقيح المناط للتعدي عن المنطقة الخاصة التي نصّ عليها في الخطاب إلي المصاديق الأخري المشتركة في المناط والملاك الواقعي للحكم، فلنذكر من باب المثال وقبل

ص: 125


1- 133. . القواعد الفقهية: ج 3، ص 337.

الدخول في أصل بيان المطلب في المقام موارد من ذكر الفقهاء والأعلام من الفريقين لينكشف ما لهذه المسألة من الثمرات في الفقه، تلك الثمرات التي تكون قاعدة التسامح أحدها، قال سماحة السيد العظيم آية الله العظمي الخوئي(قدس سره) في باب الجبائر وإلحاق الموانع بها ولو مع كون البدن سالماً:

أخبار الجبائر مختصة بالجراحة والقرحة والكسر وأمّا مع عدم شيء من ذلك وكون الموضع سليماً فلا دليل علي أنّ اللاصق عليه حكمه حكم الجبيرة واستدلّ علي ذلك بتنقيح المناط وأن المناط في أحكام الجبائر ليس هو وجود الجرح والخرقة عليه وإنما المناط عدم تمكن المتوضي من إيصال الماء إلي بشرته(1).

كما قال أيضاً سماحة السيد الفقيه آية الله الحكيم(قدس سره) في نجاسة المتولد عن الكافرين مباحث في باب تنقيح المناط، وفيما يلي ننقل بعضها:

و قد يستدلّ لذلك بتنقيح المناط عند المتشرّعة، فإنهم يتعدّون من نجاسة الأبوين إلي نجاسة الولد، نظير ما تقدم في المتولد بين الكلب والخنزير(2).كذلك قال صاحب الجواهر فيمن صلّي من وراء الجدار علي الميت ولكن كان مضطراً في تلك الحال:

الأقوي عدم الوجوب بل عدم الصحة بعد حرمة القياس ومنع الأولوية أو تنقيح المناط، فلعلّ حيلولة خصوص القبر كعدمها عند الشارع مثل

ص: 126


1- 134. . التنقيح في شرح العروة الوثقي، كتاب الطهارة، ج5، ص 220.
2- 135. . مستمسك العروة الوثقي، ج11، ص 381.

النعش ونحوه م-مّا لا يمنع صدق اسم الصلاة عليه(1).

و من العامة أيضاً قد بحث موفق الدين المالكي في مقام بيان الماهية الذهنية لمفهوم تنقيح المناط ما لفظه:

هو أن يضيف الشارع الحكم إلي سببه فتقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة فيجب حذفها عن الاعتبار ليتّسع الحكم(2).

و هكذا غيره كالغزالي في المستصفي(3) والرازي في المحصول(4) حيث بحثوا عن تنقيح المناط.

فهذه نبذة من موارد جريان تنقيح المناط ونحن في البحث عن تعدّي قاعدة التسامح إلي المكروهات، تعرّضنا سابقاً إلي ذكر بعض القائلين بتعدّي هذا الحكم العقلي أو الشرعي المولوي بتحسين التسامح، استناداً إلي تنقيح المناط، كيف؟ فإنه لا يوجد دليل هناك علي التعدي إلّا دعوي فهم العرف والعقلاء من خطابات الشارع الواردة في المقام تسرية الحكم إلي الكراهة أيضاً حيث إنه لا نجد دليلاً غير هذه الدعوي بعد عدم إجماع ولا شهرة لم يكن أيّ واحد منهما مدركياً أو محتمل المدركي والحال أنه ليس أيّ دليل نقلي علي جريان القاعدة الفقهية الجارية في المندوبات، في مورد المكروهات أيضاً.

ص: 127


1- 136. . جواهرالكلام، ج12، ص 59.
2- 137. . روضة الناظر، ص 146.
3- 138. . المستصفي، ص 304.
4- 139. . المحصول، ص 20.

أمّا حقيقة تنقيح المناط حيث ادّعينا علي ما يؤدّي إليه التحقيق، جريانه في قاعدة التسامح، فهي عبارة عن فهم العرف العقلائي ملاك وجود الحكم في سائر المصاديق غيرالمذكورة في الرواية، فذلك فهم مستند إلي الخطاب الشرعي مثل-اً بمعونة من الدلالة الالتزامية بأن يُذكر في النصّ مناط الحكم في موردٍ لكن حيث كان المناط بدلالة فهم العرف العقلائي يعني الدلالة الالتزامية جارياً وموجوداً في غير المورد، فيقال بالتعدي إلي سائر المصاديق، وقد مرّ مثاله الشرعي فيما سبق إجمالاً وأمّا مثاله الحالي فإنه قال الشارع الحكيم: «قليل ما أسكر وكثيره حرامٌ»(1)، فنحن نتعدي عن هذا المورد إلي مصاديق أخر توجب الإسكار فنحكم فيها أيضاً بنفس ذلك الحكم، ولو كان الخبر في خصوص المصاديق المتعارفة آنذاك.

و قد عُرّف تنقيح المناط بعبارات أخري في لسان العلماء الأعاظم، كلّها راجعة إلي معني واحد وماهية فاردة، مثل-اً عُرّف تارة بأنه «الجمع بين الأصل والفرع لعدم الفارق، فإن علمت المساواة من كلّ وجه جاز تعدية الحكم إلي المساوي»(2) وأخري «بأنه عبارة عمّا إذا علم عدم مدخلية بعض الأوصاف فخذف وعُلِّل بالباقي»(3).

الظاهر هو تعيّن التعريف المختار حيث إنه لم يذكر مدرك العلم ومستند الفهم لعموم العلّة، في هذين التعريفين، فمن هذه الناحية يمكن إيراد الإشكال عليهما.

أمّا لو أردنا التفصيل الأكثر لبيان مسائل تنقيح المناط إجمالاً، باعتبار أن هذه

ص: 128


1- 140. . الكافي، ج6، ص 450.
2- 141. . معارج الأصول، ص 185.
3- 142. . الوافية، ص 238.

المسألة مبدأ تصديقي عقلائي و عرفي لتوسعة جريان قاعدة التسامح سبباً و مورداً فنقول بلغة واضحة فصيحة و عصرية:

رغم كون الشريعة الإسلامية واضحة الأصول و المعالم إلّا أنّ هناك عوامل عديدة حالت دون وصول الكثير من أحكامها إلي المكلّفين.

في حين الوقت لا يمكن للقواعد و الأصول إلّا أن تحلّ الجانب العملي من المشكلة، إذ لا يمكنها أن تعوّض ما فات علي المكلّف من المصالح و الملاكات المترتّبة علي العمل بالأحكام الواقعية ومن الواضح أنّ محاولة توسيع دائرة العمل بالأدلة الاجتهادية يتوقّف في كثير من الأحيان علي إحراز وحدة المناط و إلغاء الخصوصية، إذ بدونهما تبقي أعداد هائلة من الموضوعات مجهولة الحكم.

فلولا تنقيح المناط لضاق علي الفقيه مجال الاستنباط(1)، لأنّ الأئمة(عليهم السلام) و إن كانوا قد وضعوا حلولاًمناسبة لجميع الموضوعات المبتلي بها آنذاك إلّا أنّها تبقي قليلة بالقياس إلي الموضوعات الأخري التي ابتلي بها المكلّفون بعد ذلك.

ولو لا تنقيح المناط و إلغاء الخصوصية لبقي المكلّف جاهلاً بالكثير من أحكام الشريعة و ظلّ محروماً من كثير من مصالحها و مبتلي بكثير من المفاسد المترتّبة علي تركها، و في ذلك دلالة علي أهمية البحث عن إلغاء الخصوصية و وحدة المناط.

ص: 129


1- 143. . الحدائق الناضرة، ج4، ص 193.

المناط في اللغة: هو عبارة عمّا يرتبط به الشيء و يتوقّف عليه(1)، و النياط عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه(2)، و منه قولهم: يكاد منه نياط القلب ينحذق(3)، أي ينقطع.

أمّا في الاصطلاح: فهو عبارة عن الملاك المصطاد بفهم العرف و العلّة التي يقوم علي أساسها الحكم الشرعي، كالإسكار الذي قيل: إنّه علّة لتحريم الخمر.

لكن هناك إطلاقات أخري للمناط يتداولها علماؤنا و لا يقصدون بها معناه الاصطلاحي، فهم يطلقونه مرة و يريدون به المعيار و المرجع الذي يمكن من خلاله تحديد بعض المفاهيم، فيقولون مثلاً: إنّ المناط في معرفة النص الكذائي هو العرف(4) ويطلقونه أخري ويريدون به المحور و المركز الذي تدور حوله بحوثهم، فيقولون في باب الرضاعة مثلاً: لابدّ من بيان كمية الرضاعة و كيفيتها التي هي مناط اختلاف الأعلام في التحريم(5)، إلّا أنّ مثل هذه الإطلاقات خارجة عن معني المناط الاصطلاحي.

أمّا إلغاء الخصوصية: فهي عبارة عن عدم الاعتناء بالخصوصية الواردة فيدليل الحكم استناداً إلي فهم العرف هذه التوسعة المستفادة من الدليل الالتزامي الدالّ علي تساوي سائر المصاديق مع هذا الموضوع المنصوص عليه.

ص: 130


1- 144. . الصحاح، ج3، ص 1165، س 33، مجمع البحرين، ج4،ص 277.
2- 145. . المصباح المنير، ص 630.
3- 146. . كتاب العين، ج3، ص 42، ص 13.
4- 147. . تذكرةالفقهاء، ج4،ص 455.
5- جواهرالكلام، ج35، ص 281؛ القواعد الفقهية (البجنوردي)، ج3، ص 66.

إذا عرفت هذا المطلب فيمكننا التمييز بين هذا الاصطلاح و بين وحدة المناط التي لم يلحظ فيها خصوصية مذكورة في لسان الدليل، بل لوحظ فيها اشتراك موارد متعدّدة في علّة واحدة تؤدّي إلي اشتراكها في حكم واحد، فيتبين أنّ العلاقة بين إلغاء الخصوصية و وحدة المناط علاقة الكاشف و المنكشف باعتبار أنّ العرف قد يلغي خصوصية المورد بمناسبة الحكم والموضوع(1)، فيكشف إلغاؤه لها عن وحدة المناط بين واجد الخصوصية وفاقدها، وقد يحصل العكس بأن يكون المناط كاشفاً عن عدم دخل الخصوصية كما لو كان المناط محرزاً بالنصوص الشرعية، فيكون إحرازه ممهداً لإلغاء الخصوصية.

إذن فقد يكون إلغاء الخصوصية كاشفاً عن وحدة المناط، وقد تكون وحدة المناط كاشفة عنه وهذا الفرق بين وحدة المناط وإلغاء الخصوصية مبنيّ علي عدم اتحاد معناهما، و أمّا بناءً علي تفسير بعضهم لوحدة المناط - بأنّها إلغاء بعض الأوصاف التي أضاف الشارع الحكم إليها، لعدم صلاحيتها للاعتبار في العلّة(2) - فسوف لن يبقي مجال لهذا الكلام بالتفريق بين الأمرين.

ثم اعلم أنه لقد شاع اصطلاح وحدة المناط و إلغاء الخصوصية بين علمائنا المتأخّرين، بعد أن كان المتقدّمون يطلقون عليه عنوان «منصوص العلّة» و «التعدّي

ص: 131


1- 149. . جامع المقاصد، ج12، ص 267.
2- 150. . المقصود من مناسبة الحكم والموضوع هو الذوق و المرتكزات العرفية العامة التي تقوم علي خبرة مشتركة و ذهنية موحدة، و قد عبّر عنها بعضهم بالفهم الاجتماعي للنص.

إلي غير مورد النص بدليل قطعي»(1).

لكن الملفت للنظر أنّ الغزالي كان قد استعمل هذا الاصطلاح منذ أكثر من تسع مأة سنة عند تعرّضه لوجوب الكفّارة علي من وطأ أمته في شهر رمضان، حيث قال:ولو وطأ أمته أوجبنا عليه الكفّارة؛ لأنّا نعلم أنّ كون الموطوءة منكوحة لامدخل له في هذا الحكم، بل يلحق به الزنا، لأنّ هذه إلحاقات معلومة تنبي عن تنقيح مناط الحكم بحذف ما علم بعادة الشرع و مصادره في أحكامه أنّه لا مدخل له في التأثير(2).

يجدر ذكر أن هناك عدّة اصطلاحات قريبة من اصطلاحي إلغاء الخصوصية و وحدة المناط، لا بأس بالتعرّض لها تكميلاً للفائدة و احترازاً من وقوع الخلط بينها و بين هذين الاصطلاحين حيث إن بعضاً من تلك الماهيات يمنع العمل بها شرعاً و عند وقوع الخلط ربما يشكل بأنّ قاعدة التسامح هنا جري فيها ذلك البعض المحرّم شرعاً و بعض آخر منها له أحكام متفاوتة عن تنقيح المناط فلذلك يلزم العلم بهذه الماهيات فنقول:

1- القياس:

هو عبارة عن تعدية الحكم من موضوعه إلي موضوع آخر ظنّ مشاركته له في علّة الحكم(3)، و هذا المعني للقياس مرفوض علي أساس المذهب الشيعي كما هو واضح.

ص: 132


1- 151. . شرح الطوفي، ج3، ص 237، كما أنه منقول في حاشية روضة الناظر و جنة المناظر، ج2، ص 148.
2- 152. . الفوائد الرجالية (بحرالعلوم)، ج3، ص 214.
3- 153. . المستصفي، ج2، ص 232.

وبذلك يمكننا التفريق بين القياس و إلغاء الخصوصية، لأنّ إلغاء الخصوصية يتمسك به في موارد يحصل فيها القطع بعدم دخل الخصوصية في موضوع الحكم، كما في قوله: «رجل شك في الوضوء بعدما فرغ من الصلاة»(1)، و قوله: «أصاب ثوبي دم رعاف»(2)، فإنّ العرف يري أنّ الحكم ثابت للشك و الدم، لا للرجل والثوب بخلاف القياس الذي يكون الحكم فيه متعلّقاً بموضوع ذي خصوصية و أريد تسريته إلي فاقد الخصوصية بوجوه ظنّية أو اعتبارية(3).

لعلّ عدم التمييز بين هذين الاصطلاحين هو الذي دعا البعض إلي اتهام ابن الجنيد بالقياس في مسائل فقهية متفرّقة يستشم منها رائحة القياس، كمسألة المذي الذي اعتبره كالبول ناقضاً للوضوء، و مسألة الشفعة التي اعتبرها ثابتة للشريك بأيّة معاوضة كانت حتي ولو لم تكن بيعاً لاشتراكها معه في الحكمة التي تبتني عليها الشفعة، و مسألة الدّين المؤجّل الذي اختار حلوله علي المفلّس قياساً له بحلوله علي الميت، و غير ذلك من المسائل(4) التي قد يتوهم التزامه فيها بالقياس، خصوصاً أنّه مارس الفكر الأصولي السنّي و استأنس به مدّة طويلة من حياته، و إن كان هناك من ذكر أنّ مستنده في المسائل المذكورة هو وحدة المناط و إلغاء الخصوصية.

ص: 133


1- 154. . الأصول العامّة، صص 316-313.
2- 155. . اصطلاحات الأصول، ص 226.
3- 156. . الوسائل، ج1، ص 47، باب 42 من أبواب الوضوء، ح5.
4- 157. . الوسائل، ج3، ص 402 باب 7 من أبواب النجاسات، ح2.

2- مفهوم الموافقة:

هو المدلول الالتزامي المقتضي لثبوت نفس الحكم في المدلول المطابقي لموضوع آخر غير مذكور في الدليل.

لابدّ في مفهوم الموافقة أن يكون جريان مناط الحكم في الفرع أقوي من جريانه في الأصل، كما في قوله تعالي «فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ»(1)، المستفاد منه أولوية تحريم ضربهما وتوجيه الإهانة إليهما(2)، بخلاف إلغاء الخصوصية التي لايكون ذو الخصوصية فيها أقوي مناطاً من فاقدها(3).

يحتمل أن يقال: مما يميّز إلغاء الخصوصية عن مفهوم الموافقة هو أنّ التعدّي من الأصل إلي الفرع يمكن أن يكون بالقرينة العقلية في مفهوم الموافقة، بخلاف إلغاء الخصوصية التي يحصل التعدي فيها بقرينة غير عقلية سواء كانت لفظية مستندة إلي مناسبة الحكم والموضوع مثل-اً أو غير لفظية مستندة إلي إجماع أو غيره.

لكن يرد عليه بحسب رأينا بأنّ القياس يفارق تنقيح المناط في الاعتبار حيث يمنع الشرع العمل بالقياس لكن هذه الماهيات الأخر مشاركة مع تنقيح المناط في الأثر العملي الخارجي و توسط العقل فيها و الفرق إنما هو في بعض الأحكام و الحيثيات التعليلية ككون مفهوم الموافقة تلاحظ فيه الأولوية في الفرع و الحال أن تنقيح المناط لايلزم فيه ذلك.

ص: 134


1- 158. . مختلف الشيعة، ص 57، سطر 25.
2- 159. . راجع الفوائد الرجالية (رجال بحر العلوم)، ج3،ص 214.
3- 160. . الإسراء، 23.

3- تحقيق المناط:

هي محاولة تطبيق قاعدة مسلّمة و التأكّد من جريانها في مصاديقها المحتملة، من قبيل السعي للتعرّف علي جهة القبلة التي لاشك في وجوب التوجّه إليها في الصلاة، و بعبارة أخري إن المناط قد علم وجوده لكن أريد أن يطبّق في عالم الإثبات و يتجسّم في المصداق الخارجي العيني.

4- تخريج المناط:

هو الاجتهاد في تخريج المناط و اكتشافه من حكم لم ينص الشارع علي مناطه ومثّلوا له بتحريم الربا في الحنطة و تعميم حكمها لكلّ مكيل بدعوي أنّ علّة تحريمها كونها مكيلة غير موزونة و الفرق بين هذا القسم و تنقيح المناط لايكاد يخفي حيث إنّه في المقام لم يذكر الشرع في أدلته مناطاً أصلاً و إنما كان إحراز أصل ذلك بالاكتشاف ولكن في تنقيح المناط يتعدي عن المناط المعلوم في نصّ الشارع.

اللّهمَّ إلّا أن يقال: إن بعض مصاديق تنقيح المناط يكون كذلك حيث يعلم المناط لا من صراحة النصّ فبذلك يتحد القسمان و يرجعان إلي مآل واحد.

5- حكمة الحكم:

هي مصلحة مقصودة من تشريع الحكم مترتّبة علي الالتزام به، مع إمكان تخلّفها أحياناً، فلا يمكن اعتبارها أمارة علي الحكم الشرعي، لاختلافها عن علل الأحكام و مناطاتها من هذه الجهة، لعدم دوران الحكم مدارها وجوداً وعدماً ومن هذا القبيل خيار الحيوان الثابت للمشتري حيث قيل: إنّ الحكمة في تشريعه خفاء حاله حين

ص: 135

العقد، ومع ذلك فإنّه غير ثابت للبائع إذا كان المثمن حيواناً (1)، مع أنّ خفاء الحال ثابت في حقه، و ما ذلك إلّا لكونه حكمة لتشريع الخيار وليس علّة.

6- العموم و الإطلاق:

إنّ إلغاء الخصوصية و إن كان يؤدّي إلي توسيع دائرة الحكم و شموله لسائر أفراد موضوعه إلّا أنّه يختلف عن العموم و الإطلاق، فيأنّ التوسعة المستفادة منه تتمّ بعد تجاوز الخصوصية المذكورة في مورد الدليل و عدم الاعتناء بها، بخلاف التوسعة المستفادة من العموم و الإطلاق فإنّها تتم مباشرة من لسان الدليل ومن دون حاجة إلي إلغاء خصوصية.

وبعبارة أصرح إن التوسعة في العموم و الإطلاق ذات مرحلة واحدة حيث يستفاد الشمول فيهما من اللفظ العامّ أو مقدّمات الحكمة و في تنقيح المناط يحتاج إلي إلغاء الخصوصية و مرتبة متأخرة عن النصّ، يعني بعد الأخذ بأصل المدلول تصل النوبة إلي طرح الخصوصية.

اعلم أن إلغاء الخصوصية ليست متوقّفة دائماً علي إحراز ملاك الحكم، بل يمكن التوصل إليها بإحراز موضوعه أيضاً، كما في مسألة ولاية الأب علي الصغيرة في النكاح، فإنّه بعد التأكّد من أنّ موضوعها البنت الصغيرة يمكن تجاوز خصوصية البكارة في مورد الدليل و التعدّي منها لغير الباكر بإلغاء الخصوصية(2).

ص: 136


1- 161. . معجم المصطلاحات الأصولية، ص 153.
2- 162. . جواهرالكلام، ج29، ص 62.

بل إنّ أكثر موارد جريان إلغاء الخصوصية من هذا القبيل، ممّا يعني أنّ إحراز الموضوع و التأكّد من مدخليته في فعلية الحكم له تأثير كبير في إلغائها، ولذا غلب التعبير بالمناط علي موضوعات الأحكام.اللّهمَّ إلّا أن يقال: إن تنقيح الموضوع إنّما يصار إليه بلحاظ تعلق الحكم الشرعي بذلك الموضوع فليس الموضوع مستقلاً بل إنما التنقيح فيه كان باعتبار الحكم المتعلق به و هذا مطلب دقيق و يتجه اعتباره في المقام.

علاقة تنقيح المناط بتبعية الأحكام للمصالح و المفاسد:

ممّا اتّفقت عليه العدلية(1) تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد، خلافاً للأشاعرة الذين منعوا من تبعيتها لها حيث جوّزوا صدورها جزافاً من دون ملاك و لا إشكال في أنّ البحث حول وحدة المناط و إلغاء الخصوصية يتوقّف علي الاعتراف مسبقاً بوجود ملاكات للأحكام، إذ بدونه لا يبقي معني لتعميم الحكم بوحدة المناط و الملاك.

نعم، لا يجري هذا الكلام بتوقف تنقيح مناط الأحكام علي وجود الملاك الواقعي، فيالمناطات الموضوعية التي لايكون التعدّي بواسطتها مستدعياً لاستناد الحكم فيها إلي ملاك، بل يكفي التعدّي بها حتي ولو كانت الأحكام جزافية لاملاك فيها، لارتباطها بتحقق الموضوع فقط، يعني لو قبلنا أن هناك تنقيح مناط بواسطة الموضوع مستقلاً عن تنقيح المناط الناظر إلي الحكم، فليس توسيع الحكم بواسطة التنقيح الموضوعي متوقفاً علي وجود ملاكات الأحكام إلّا أنك قد عرفت عدم استقلال هذا التنقيح.

ص: 137


1- 163. . جواهرالكلام، ج23، ص 27.

شروط إلغاء الخصوصية:

يبدو أنّ الشرط الأساسي لإلغاء الخصوصية هو القطع بعدم دخلها في موضوع الحكم، فمع الظنّ بدخلها فيه أو احتماله لا يصح إلغاؤها(1)، لأنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً، فلا يكفي عدم تعقّل الخصوصية، بل لابدّ من تعقّل عدم الخصوصية(2)، و كلّ الشروط التي ذكرها الأعلام تدور في الحقيقة حول هذا الشرط، ومع ذلك فنحن نحاول طرحها للتعرّف علي أبعادها و ما تتركه من آثار و نتائج فقهية في مجال الاستنباط، و هي كالتالي:

الشرط الأول: وجود قرينة علي الإلغاء(3):

لابدّ في إلغاء الخصوصية من وجود قرينة داخلية أو خارجية تدلّ علي عدم الاعتناء بالخصوصية، و مع عدم القرينة يكون الإلغاء قياساً باطلاً.

فلو قام الإجماع علي عدم اعتبار خصوصية مذكورة في رواية - مثل-اً - كان ذلك قرينة خارجية علي عدم الاعتناء بها في هذه الرواية كما أنه لو قال المولي: لاتشرب الخمر لأنّه مسكر، كان التعليل قرينة داخلية علي إلغاء خصوصية الخمرية و تعميم الحكم لكلّ ما كان مسكراً.

الشرط الثاني: عدم مخالفة الحكم للقاعدة:

لابدّ في إلغاء الخصوصية من عدم كون الحكم مخالفاً للقاعدة، كما في الحكم بأنّ

ص: 138


1- 164. . الحدائق الناضرة، ج23، ص 204.
2- 165. . الانتصار، ص 264، مصباح الفقاهة، ج1، ص 344.
3- 166. . نقل عنهم ذلك في تنقيح الأصول (تقريرات الإمام الخميني)، ج2، ص 211.

تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه، فإنّه لمّا كان مخالفاً للقاعدة، لا يصح إلغاء خصوصية البيعية عنه و التعدّي به إلي سائر العقود الأخري كالإجارة و غيرها (1).

الشرط الثالث: عدم التعبّد في مورد الإلغاء:

لابدّ أن لا يكون مورد إلغاء الخصوصية من الأمور التعبديّة، فلايصح اعتبار القطعة المنفصلة عن بدن الإنسان - مثل-اً - كميتته في وجوب غسل مسّ الميت بإلغاء الخصوصية عن الأدلة الاجتهادية الواردة فيها و تعميمها للأجزاء المنفصلة عن البدن، مع أنّ الأحكام المترتّبة علي ميتة الإنسان من الأحكام التعبّدية التي لا مجال للعرف لإلغاء خصوصية موردها و تعميمها لغير ما وردت فيه، إذ لعلّ لميتة الإنسان خصوصية غير ثابتة لأجزائه المنفصلة عنه(2)و من الأمثلة علي ذلك أيضاً الدم، حيث يكون معفواً عنه في الصلاة إذا كان مقداره أقلّ من درهم، وغير معفو عنه فيها إذا كان بمقداره أو أكثر، فإنّ عقولنا عاجزة عن تمييز المناط في الحالة الأولي عن المناط في الحالة الثانية، والسبب في ذلك يكمن كما قلنا في كون ذلك من الأمور التعبدّية التي لا مجال لعقولنا من دركها(3)، و حينئذٍ لا يصح إلغاء خصوصية ما دون الدرهم و تعميمه إلي أكثر من ذلك مثلاً، و بالجملة ربما يكون هناك نصّ في تعبدية الحكم أو تفوح منه رائحة التعبدية، فلايكاد يجوز هنا تنقيح المناط في الحكم.

ص: 139


1- 167. . فوائد الأصول، ج3، ص 24، مصباح الفقيه، ج2، ص 88.
2- 168. . فقه الصادق (للسيد الروحاني)، ج10، ص 49.
3- 169. . معتمد العروة الوثقي، ج1، ص 44، كتاب الطهارة (للإمام الخميني)، ج3، ص 468.

اكتشاف المناط و التعرّف عليه

لايمكن اكتشاف مناطات الأحكام الشرعية و التعرّف عليها (1) إلّا إذا دلّ عليها دليل من إجماع كاشف أو نصّ أو غيرهما (2)، لأنّ اكتشافها و إن كان ممكناً من الناحية النظرية إلّا أنّه صعب التحقق من الناحية الواقعية، لضيق دائرة العقل و محدودية اطلاع الإنسان التي تجعله غالباً يحتمل فوات بعض الأمور عليه.

فقد يدرك الإنسان المصلحة في فعل لكنّه لايجزم عادة بدرجتها و مدي أهميتها و عدم وجود مزاحم لها، فما لم يحصل الجزم بكلّ ذلك لا يتم الاستكشاف(3).

الاختلاف في مناط الأحكام

لمّا كان مناط بعض الأحكام واضحاً لدي البعض و غير واضح لدي آخرين وقع الخلاف بينهم في تعميم بعض الأحكام و التعدّي بها إلي غير مورد النص، و لذلك أمثلة كثيرة: منها مسألة تعلّق الخمس بالأرض التي اشتراها الذمي، التي ورد فيها قول الإمام الباقر(عليه السلام)، «أيّما ذمي اشتري من مسلم أرضاً فإنّ عليه الخمس»(4). ظاهر الفتاوي(5) قصر الحكم علي الشراء خاصة لأصالة البرائة(6)، بينما عمّمه الشهيدان في البيان(7)،

ص: 140


1- 170. . كتاب البيع (للإمام الخميني)، ج5، ص 390.
2- 171. . كتاب الطهارة (للإمام الخميني)، ج3، ص 136.
3- 172. . كتاب الطهارة (للإمام الخميني)، ج3، ص 436.
4- 173. . نهاية الأفكار، ج1، ص 443.
5- 174. . جواهرالكلام، ج7، ص 317، س 10.
6- 175. . دروس في علم الأصول، الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة، صص 420 - 426.
7- 176. . الوسائل، ج6، ص 505 باب 9 من أبواب ما يجب فيه الخمس، ح1.

والروضة(1)، ليشمل مطلق الانتقال، ولو بغير عقد معاوضة، وذلك لوحدة المناط بينهما(2)، بينما عدّاه صاحب الجواهر لمطلق المعاوضة العقدية دون مطلق الانتقال غيرالمتوقف علي العقد، فلو كان المناط واضحاً و متّفقاً عليه لدي الجميع لما حصل الاختلاف فيه في هذا المجال(3).

ومنها: كراهة الجماع في أوقات مخصوصة، لما ورد في الأخبار من ترتّب بعض الآثار السيئة فيها علي الطفل(4)، فقد ذهب الشهيد الثاني إلي أنّ هذه الآثار تعتبر علّة للكراهة لاحكمة لها، فقال ما هذا نصه:

إنّ مقتضي التعليل بسقط الولد أنّ الخطر في جماع يمكن أن يحصل به ولد، أو في جماع الحامل، فلو كانت خالية من ذلك كاليائسة احتمل قوياً عدم الكراهة؛ إذ ليس في الباب غير ما ذكر من النصوص، وليس فيها الحكم بالكراهة مطلقاً، كما أطلقة الفقهاء، فيختصّ بموضع الخطر(5).

بينما ذهب صاحب الجواهر إلي أنّها من باب الحكمة، وليست من باب العلّة التي يدور مدارها الحكم وجوداً و عدماً، حيث قال(قدس سره):

إنّ المراد من نحو هذه التعليلات ذكر بعض الحكمة في هذا الحكم المبني

ص: 141


1- 177. . الخلاف، ج2، ص 73، طبع مؤسسة النشر الإسلامي، شرائع الإسلام، ج1، ص 135. مدارك الأحكام، ج5، ص 385.
2- 178. . استدل بالأصل لهم في الجواهر، ج16، ص 65.
3- 179. . البيان، ص 346.
4- 180. . الروضة البهية، ج2، ص 72.
5- 181. . استدل لهم في جواهرالكلام، ج16، ص 66.

علي العموم، لا أنّ المراد منها دوران الحكم مدارها وجوداً وعدماً و إن لم يفهم أحد من الفقهاء منها ذلك، لعدم كونها مساقة لمثله، بل المتأمّل يقطع بعدم إرادة ذلك، كما أنّ الخبير الممارس لأقوالهم يعلم ذلك منها أيضاً (1).

نري أنه اختلف بعض العلماء في تشخيص المناط في هذه المسألة أيضاً و هذا كاشف إنّي عن وجود الاختلاف في إحراز المناط و دائرة جريانه.

المناطات التشريعية و الحفظية في الإسلام

لقد طرح العلّامة ملّا نظر علي الطالقاني(قدس سره)(2) نظرية تبدو أنّها جديدة في مناطات الأحكام وملاكاتها عندما أكّد علي وجود نوعين من المناطات، يعتبر بعضها أساساً لأصل التشريع، وبعضها الآخر لحفظه و حفظ مناطاته من الضياع.

أمّا المناطات التشريعية: فهي المناطات الخاصّة لكلّ حكم علي حدة، كالإسكار الذي هو مناط لحرمة الخمر.

و أمّا المناطات الحفظية: فهي المناطات التي يتّسع من خلالها الحكم الشرعي ليشمل ما لا وجود للمناط الأصلي فيه، كما في مثال قطرة الخمر التي يحرم شربها لا لأجل إسكارها - لعدم تحقق الإسكار بها قطعاً - بل لأجل المحافظة علي حكم الخمر من الضياع و الزوال؛ لأنّ الامتناع عن شرب القطرة يؤدّي إلي الامتناع عن شرب ما يسكر من الخمر.

ص: 142


1- 182. . جواهرالكلام، ج16، ص 66.
2- 183. . وسائل الشيعة، ج20، ص 252، باب 150 من أبواب مقدمات النكاح.

و بعبارة أخري: إنّ مناط التحريم في الخمر إسكاره، و مناط التحريم في القطرة الابتعاد عن الإسكار الذي هو مناطه.

و من هنا جاءت توسعة الأحكام و المناطات الثانوية لتكون بمثابة الدرع الحافظ للمناعات الأصلية من الانهيار؛ لأنّ لكلّ شيء حصناً و حصن المناطات تعميم أحكامها و توسعتها (1).

فبذلك حاول الملّا نظر علي أن يضع مانعاً للجدل الدائر حول مصداقية بعض المناطات، حينما يكون انتفاؤها غير موثر في رفع حكمها كالإسكار فيالمثال المتقدم الذي يبقي حكمه مستمراً رغم زواله في القطرة الواحدة من الخمر، و إلي هذا المعني أشار المحقق النائيني(قدس سره) عندما قال:

يمكن انفكاك الحكم عن [الملاك] أحياناً، كما في وجوب العدّة علي المطلّقة، فإنّ ملاك وجوبها إنّما هو حفظ الأنساب و عدم اختلاط المياه، وهذا الملاك و إن لم يكن مطّرداً و سائراً فيجميع الموارد، إلّا أنّ تمييز موارد الاختلاط عن غيرها لكونه عسيراً في الغاية بل متعذّراً أحياناً، جعل الشارع وجوب العدة علي نحو الإطلاق تحفّظاً علي غرضه، فوجوب العدة في موارد عدم الخلط واقعاً و إن كان خالياً عن الملاك، إلّا أنّ تشريع الحكم علي الإطلاق ناشيء عن ملاك يقتضيه، أعني به التحفّظ علي الغرض(2).

ص: 143


1- 184. . مسالك الأفهام، ج7، ص 37.
2- 185. . جواهرالكلام، ج 29، ص 63-62.

إنّ هذا النوع من المناطات هو الذي أطلقنا عليه عنوان مناط الحفظ تمييزاً له عن مناط الحكم و التشريع و قد كان الغرض من تشريع هذا المناط المحافظة علي المناطات الواقعية في فرض وجودها في صقع الواقع.

هذا إجمال الكلام عن تنقيح المناط ومحلّ بحثنا هنا وهي قاعدة التسامح إحدي مصاديقه كما مرّ ذلك، والدليل علي اعتبار تنقيح المناط هي السيرة العقلائية الآخذة بهذه الآلة المستعملة في مقام المحاورات والشارع الأقدس لم يمنع من ذلك، بل الظاهر للفقيه أنه يتبع في أصول ومناهج المحاورات السيرة العقلائية ويمضي اعتباراتهم، وبهذا التعليل لوجه اعتبار تنقيح المناط نختم الكلام في هذا العنوان وقد أردنا الإشارة بقدر ما يسعه الكتاب إلي هذه القاعدة الكلية المتوقف عليها بعض مسائل القاعدة الفقهية التي نبحث عنها.

التنبيه الأحد عشر: التسامح من الأحكام الثانوية

إن الأحكام الشرعية تنقسم باعتبار إلي الأحكام الأولية التي لم يؤخذ فيها أيّ قيد من القيود المتصورّة بل قال الشارع مثلاً: الخمر حرام، ولم يعبِّر عن الموضوع وهو الخمر مع توصيفه بالعلم به أو الجهل به، بل قال الحكم الواقعي مع قطع النظر عن هذه الأمور، غاية الأمر أنّ القطع طريق ذاتي إلي الحكم وموضوعه وأين ذلك م-مّا لو أخذ القطع والعلم أو الجهل بالحكم؟ حيث يكون ذلك بمعني خروج الحكم الأولي عن كونه أولياً.

فالحكم الذي كان بهذا الشكل ولم يؤخذ فيه عنوان بل هو حكم واقعي محض، يسمي بالحكم الأولي، لكن لو فرضنا أن الحكم قيّد بالعلم به أو أخذ بعنوان آخر كوجود

ص: 144

الجهل بالحكم الواقعي أو كون الحكم يتوقف علي العسر الذي يعدّ موضوعاً له وهكذا سائر العناوين الثانوية الأخري، فإنه حينئذ يوصف الحكم بكونه ثانوياً حيث لم يكن الموضوع موضوعاً متمحضاً في موضوعيته، بل كان العلم أو الجهل أو سائر العناوين الثانوية كالعسر والحرج والإكراه مأخوذاً في الموضوع.

هذا المطلب والتقسيم دارج ورائج فيما بين العقلاء أيضاً حيث يقول الآمر العرفي تارة: يجب عليك أن تخدم العلماء، وأخري يأمر بالحكم الثانوي المأخوذ في موضوعه أحد الاعتبارات السابقة حيث يقول: إذا كان بك اضطرار فليس عليك إلّا أن تخبرني به حتي اُخلّصك عن ذلك والتكاليف حينئذٍ مرتفعة عنك.

تفصيل الكلام أنّ الحكم الواقعي الأولي يراد به الحكم المجعول للشيء أولاً وبالذات، أي بلا لحاظ ما يطرأ ويعرض عليه من العناوين الاعتبارية ومثاله الأحكام الواقعية تكليفية كانت أم وضعية.

أمّا الحكم الواقعي الثانوي فيراد منه ما يجعل للشيء من الأحكام بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين واعتبارات خاصة تقتضي تغيّر حكمه الأولي، فشرب الماء مثل-اً مباح بعنوانه الأولي ولكنه بعنوان إنقاذ الحياة يكون واجباً، والصناعات التي يتوقف عليها نظام الحياة واجبة علي نحو الكفاية ولكنها مع الانحصار بشخص أو فئة تكون واجبة عيناً.

و ما أكثر الأحكام الواقعية الأولية التي تتبدّل بطروء هذه العناوين الثانوية علي موضوعاتها، فالواجب ربما يتحوّل إلي حرام والحرام إلي مباح كمن كان مضطراً إلي أكل

ص: 145

الميتة في الصحراء بقدر الضرورة(1).

إذا عرفت هذا التقسيم وماهيته يسهل لك أن تعرف دخول الأفعال التي يستحبّ الاتيان بها لقاعدة التسامح، في إطار هذا التقسيم.

كيف؟ فإن الفعل الذي يأتي به المكلف علي رجاء أن يكون محبوباً للمولي جلّ شأنه، قد أخذ فيه قيد الجهل بواقع الحكم الثابت لذلك الفعل ولذلك يكون الفعل محكوماً بحكم ثانوي ظاهري حيث إنّ أخذ قيد الجهل في موضوعه يدرجه في الأفعال ذات الأحكام الثانوية الظاهرية.

ينبغي أن ندقّق في مسألة وهي توسعة العنوان الثانوي للجهل أو العلم اللذين قد يؤخذان في موضوع الحكم، فبناء علي ذلك لايقال: إن العناوين الثانوية لا تشتمل علي قيد العلم والجهل، بل يندرج تحتها مثل العسر والحرج والضرورة والحاجة الشديدة وهكذا دون العلم والجهل.

و السرّ في ذلك أنّ الاعتبار الذي رجّحناه بحسب منهجنا يشمل العنوان الثانوي فيه حتي العلم والجهل وإن أبيت عن ذلك فيقال: حكم العقل أو الشرع مستقلاً عن العقل، بحسن التسامح يوجب توصيف تلك الأفعال بكونها ذات أحكام ظاهرية فحسب.

ص: 146


1- 186. . راجع الأصول العامة للفقه المقارن، ص 73، محاضرات في أصول الفقه، ج1، ص 529، منتقي الأصول، ج2، ص 5.

التنبيه الثاني عشر: تعلق الثواب والأجر بالعنوان أو المعنون

قد عرفت أنّ في المقام مبنيين رئيسين: المبني الأول هو القول بالاستحباب الشرعي في العمل الذي دلّ علي بلوغ الثواب عليه خبر ضعيف أو غيره من أسباب ثبوت الثواب والندب والمبني الثاني هو الذهاب إلي أنّ ترتب الثواب ليس لجهة مولوية شرعية بل ذاك لحكم العقل بحسن الانقياد وترتّب الثواب عليه بدون ثبوت المندوبية الشرعية وأمّا البحث الّذي نحن بصدده الآن فهو أنّ الثواب يتعلق بالعنوان أو المعنون الذي هو الفعل الخارجي؟

الجواب عن ذلك يقرّر بأنّه علي القول بثبوت الاستحباب الشرعي يترتب الثواب علي نفس العمل والمعنون لعدم تعقل عروض الثواب علي العنوان الذي هو مجرد صورة ذهنية وأمّا بناء علي المسلك الثاني وهو كون الثواب اانّما هو للانقياد لا للندبية المولوية الشرعية فنقول أيضاً بعدم تعقل طروء الثواب علي الصورة المجردة عن المادة والمتنزهة الذهنية لكن ما هذا المعنون الخارجي الذي يتصف ويعرض عليه الحُسن والثواب؟

وفقاً لهذا المبني لا يبقي معنون وعمل لكي يتصف بالثواب إل-اّ الإنقياد الخارجي المتمثّل في اتيانه بالعمل، فهنا فرق بين ترتّب الثواب علي نفس العمل من حيث استحباب العمل في نفسه وترتّب الأجر علي العمل من جهة اتحاده مع الانقياد والأول بمقتضي المبني الأول والثاني علي القول بكون المناط في ترتّب الثواب هو الحكم العقلي.

فاتضح انّ الفعل علي أحد المبنيين مستحبّ نفساني معروض للثواب وعلي الآخر يترتب الثواب علي ذلك الفعل بما هو انقياد لا بما هو مندوب من جهة غير الانقياد.

ص: 147

التنبيه الثالث عشر: اعتبار قاعدة التسامح في أدلة السنن يدلّنا علي عدم تكليفنا بالأوامر الواقعية الأولية

نري من اللازم أن نؤكّد علي نكتة وهي أنّ التسامح يصدق علي مبني الذي يعتبر الندب الشرعي بمقتضي أخبار «من بلغ» ثابتاً في المقام لكن حيث نفينا ذلك فلا مسامحة في الأدلة الضعيفة التي تدلّ علي الندب بل الملاك هو الحكم العقلي الكلي والمجموعي ولا تسامح هنا كما لا اعتبار بثبوت احتمال الندبية بخصوص الرواية الضعيفة أو الإجماع المنقول أو غيرهما، فلا مجال للتسامح لا من نفس أخبار «من بلغ» لكونها بياناً للعقل الذي لا تسامح في حكمه ولا في الأخبار الضعيفة الخاصة في الموارد المختلفة الّتي تدلّ علي الندب لأنّ الملاك هو صرف الاحتمال لا ثبوت الندب الشرعي إلّا أن يقال: إنّ حكم العقل يجعل هذه الأخبار الخاصة حجة لكنه ليست بمعني الحجية التي المسلك الآخر بصددها حيث يثبت بها جميع آثار صدور الخبر.

فعلي أيّ حال حينما نقول ونعبّر عن القاعدة بقاعدة التسامح في أدلة السنن إنّما نجري في ذلك مجري القوم من علمائنا الأعلام.

ث-مَّ ندخل بعد هذه التقدمة الهامّة إلي أصل السؤال الّذي نحن بصدد البحث والإجابة عنه فنقول بعونه تعالي:

اانّ الفعل الذي يتصف بالاستحباب بعد إثباته بالدليل الشرعي وهي أخبار «من بلغ» أو حكم العقل بناء علي المسلك الآخر، له في الواقع حكم واقعي بالعنوان الأولي فلو كان ذاك الحكم الثابت في صقع الواقع الاستحباب أيضاً فيكون لدينا استحبابان

ص: 148

بناء علي كلا المسلكين ولا مانع من ذلك حيث إنّ تعدد الرتبة يمنع عن إجراء حكم العقل باستحالة اجتماع المثلين في محل واحد كيف؟ فإنّ الندب الشرعي علي القول به مطلق لإطلاق أخبار «من بلغ» يشمل حالة انطباق الواقع مع الخبر الضعيف وغيرها كما انّ حكم العقل بالندب لملاك آخر وهو الانقياد باق علي حاله فكما أنه يحتمل أن يكون الحكم الواقعي الاستحباب كذلك يحتمل أن يكون كراهة أو وجوباً وهكذا ولكن لا يعلم المكلف بتلك الأحكام الواقعية.

فإذا تأمّلت في هذا الذي قلناه يتضح لك ما رسمناه في عنوان البحث وهو أنّ الملاك ليس ذلك الحكم الواقعي المغفول عنه والمجهول بل الحكم الواقعي الثابت كونه كذلك في علم المكلف الذي هو في مرتبة متأخرة ويكون العلم به حاصلاً وذاك عبارة عن ترتب الندب والثواب علي هذا العمل بالأخبار أو دلالة العقل كيفما كان ذلك الحكم الثابت في نفس الأمر لهذا الفعل.

ان قلت :لو كان الحكم الواقعي الذي لا يعلم به المكلف غير مؤثّر في ترتّب ثواب أو عقاب فلماذا يقال بانه بعد ثبوت الندب الواقعي يتضاعف الاستحباب كلّ في محله(1)؟

يجاب: نعم لا يبعد القول بأنّ المكلف حيث يفعل ما هومندوب واقعاً مع الالتفات إلي أنه يحتمل أن يكون كذلك فيترتّب علي عمله الثواب الواقعي أيضاً مع الثواب المترتّب علي الحكم الثانوي، لكن هذا يكون من باب التفضّل وبقرينة كون أخبار الباب واردة للتفضّل وهو وجه غير بعيد.

ص: 149


1- 187. . كفاية الأصول، ج1، ص 469.

أمّا التفاته إلي كون الواقع هي الحرمة وكذلك غيرها لا أثر له وإنّما كان الأصل في الندب الواقعي أيضاً كذلك لكنّه بقرينة المقام خرج المورد عن مقتضي الأصل المزبور.

اان قيل: كيف يقال بتعدد الحكم في المقام؟

يجاب عنه بأنّ وجود الأوامر الواقعية النفس الأمرية بالعناوين الأولية وكذلك الأوامر الثانوية الظاهرية بالعناوين الّتي هي ثانوية أيضاً أمر مسلّم ولا إشكال فيه، فليكن هذا أصل-اً موضوعياً فيما نحن فيه من مقام البحث وإلاّ فكيفية جعل الحكم الظاهري واجتماعه مع الحكم الواقعي وسائر ما يرتبط بمقام هذا المبحث يستوعب مجالاً خاصاً ومقالاً مختصاً به لا يسع هذا المختصر بيان ذلك مع خروجه بتفصيله و بيان جميع شقوقه عن موضوع الكلام هنا (1).

ص: 150


1- 188. . منتقي الأصول، ج4، ص 559، نهاية الدراية، ج4، ص 34، كفاية الأصول، ج1، ص 276.

التنبيه الرابع عشر: مبحث تعارض قاعدة التسامح بمصاديقها المتعددة

اشارة

قد تعرّفت فيما سبق علي أنّ مطلق الاحتمال في الندب والكراهة بل الوجوب والحرمة كاف في حسن الاتيان الانقيادي بالعقل.

نعم قد قيّدنا ذلك بخصوص موارد العنوان الأولي وقلنا: لو طرء علي هذه السعة عنوان ثانوي كوهن الشرع فإنّه يقدّم هذا العنوان الثانوي المترتّب عليه حكم ثانوي، والبحث الذي نبتغي الوقوف علي حقيقته هنا أنه في بعض الأحيان يتعارض مفاد القاعدة مع مصاديقها المتعددة كما لو فرضنا قيام رواية ضعيفة علي استحباب هذا العمل وقيام رواية أخري كذلك علي كراهته، فماذا نفعل في هذه الأحيان مع تعدّي هذا التعارض إلي موارد الوجوب والحرمة وإرادة الانقياد فيهما بناء علي الوجه المذكور المتصوّر سابقاً في كيفية الانقياد في هذين النوعين من الأحكام؟

قبل الولوج في صلب الموضوع لابدّ من ذكر مقدّمتين ترتبطان بالمبحث الأصلي فنقول وعلي اللّه التوكل وإليه المآب:

المقدمة الأولي:

اشارة

إنّ دائرة البحث أعمّ من ذلك الذي ذكرناه بل حتي لو قامت رواية ضعيفة أو سبب آخر من علل حدوث الاحتمال علي استحباب هذا العمل بعنوان ودليل كتقوية الإرادة مثل-اً وقامت رواية ضعيفة أخري دالة علي كون نفس العمل ندباً لكن بعنوان آخر ثان ككونه تشبّهاً بأولياء اللّه، فاانّه حينئذ يجري هذا المبحث فيه فلنتعرّض لبيان كل واحد من هذه الأقسام المتصورة المتعددة.

المقدمة الثانية:

اشارة

قد ألغينا فيما سبق خصوصية الدالّ علي الاحتمال المتعلق بكون

ص: 151

العمل مندوباً أو مكروهاً وهكذا وقلنا: إنّ ملاك حكم العقل هو مجرد لحاظ الاحتمال المتعلّق بكون هذا الفعل مندوباً ولا يعتدّ بأنّ سبب الظنّ هو الخبر الضعيف أو الإجماع وإلاّ فلو كان الملحوظ هو الخبر بوصفه رواية ضعيفة دالة علي استحباب العمل، فيحصل هناك تعارض غير التعارض الّذي نحن بصدد بيان الواقع فيه ومعالجته لأنّ التعارض الحاصل علي فرض أخذ حيثية الخبرية في سبب الاحتمال بعين الاعتبار يرجع فيه إلي الجمع العرفي إن كان ممكناً ويقبله العرف وإلّ-ا فيرجع إلي قواعد المتعارضين بالتعارض المستقرّ، فالقاعدة الأولية في هذا الفرض هو التساقط ث-مَّ بواسطة دلالة بعض الأخبار يقدّم الترجيح علي التساقط أو يقال بتقديم التخيير أيضاً ولا تصل النوبة إلي التساقط، بناء علي اختلاف المباني(1) والحال أنّ التعارض في المقام الذي نحن فيه غير ذلك حسب ما يأتي بيانه.

الحالة الأولي:

تعارض الوجوبين أو الندبين وكذلك التعارض بين الكراهتين أو الحرمتين حيث قلنا بأنه يمكن تصور تعلق كلّ واحد من هذه العناوين بفعل واحد بدليلين ومصلحتين أو مفسدتين وقد مرّ التمثيل لهذا البحث.

مقتضي التحقيق في هذا المقام أن يقال: إنّ المكلّف يستطيع اتيان الفعل الواحد بكلّ واحد من هذين العنوانين مستقلاً لأنّ معيار حكم العقل كما كرّرنا ذلك هو صرف تواجد الاحتمال لدي المكلف فإذا حصل يترتب عليه الحكم بحسن الانقياد ولا

ص: 152


1- 189. . كفاية الأصول، ج1، ص 438، نهاية الأفكار، ج4، ص 209.

يلاحظ الاحتمال الآخر الذي حاله أيضاً كذلك، أي يمكن أن يعتبر المكلف العنوان الأول مستقلاً بدون لحاظ هذا الاحتمال الآخر وكذلك يستطيع أن يأتي بالفعل الواحد بقصد العنوانين والوجوبين معاً وذلك لا ينافي الوجه الذي هو مقتضي التحقيق في باب اجتماع الأمر والنهي من استحالة ذلك ليقال هنا أيضاً باستحالة اجتماع الندبين لأنه واان كان ذاك محقَّقاً في محله لكن تعدد العنوان بقرينة لفظية أو عقلية يوجب تعدد المعنون بصورته الذهنية.

توضيح ذلك أنّه مادام لم تكن قرينة عقلية أو نقلية علي تعدد المعنون فاانّه كما في الخارج يكون واحداً فكذلك في الذهن ويستحيل آنذاك طروء وجوبين أو حكمين آخرين عليه، لكن بمجرد قيام القرينة المذكورة والدالة علي لحاظ الشارع تبعاً للحاظ العقلاء هذا الفعل متعدداً في صورته الذهنية وعالمه الاعتباري التشريعي بدليل تعدّد عنوانه الموجب لتعدد المعنون فاانه يتعدد المعنون ويطرء كل واحد من الحكمين المتماثلين أو غير المتماثلين علي معروض مختص به فلا استحالة، وفيما نحن فيه أيضاً حيث تتواجد القرينة العقلية الدالة علي تعدد العنوان وكفايته لتعدد المعنون فبناء عليه لو أتي المكلف بالصلاة الكذائية في الوقت المعيّن بعد احتمال كونها مندوبة للخشوع وأخري لقضاء الحاجة بالروايتين الضعيفتين بقصد كلا العنوانين يترتّب علي عمله كلا المطلوبان من الأجرين .

الحالة الثانية:

تعارض الأحكام الأربعة بل الخمسة بأن يتعارض احتمال الندب مع احتمال الكراهة وهكذا سائر الأقسام وربّما يتعارض احتمال الإباحة مع الظنّ بكون الفعل

ص: 153

مندوباً، فعلي هذا لو أردنا وجه علاج لهذا التعارض فلابدّ وأن نقول بنفس ما سطّرناه من بيان حكم التعارض البدوي لتلك الأقسام فيما كان هناك تماثل ويجري نفس ذلك الدليل هنا لاتحاد المناط في كلا القسمين وبهذا البيان قد تعرّضنا لبيان جميع الأقسام المتصوّرة والمشار إليها في صدر المسألة ولنمثّل لبعض أقسام هذا المقام وندخل في البحث الجديد الذي يلي هذه المسألة:

لو احتمل المكلف حرمة هذا العمل لروايتين ضعيفتين غير معتبرتين، كل واحدة تبيّن علّة دون الرواية الأخري فلو أراد المكلف هنا ترك العمل انقياداً فاامّا أن يترك العمل لوجه خاص من ذلكما الوجهين دون الوجه الآخر أو يقصد وينوي الترك للوجهين معاً علي حسب ما مرّ وكذلك لو احتمل الندب والوجوب في الفعل الواحد بدليلين ومصلحتين فإنه يأتي بأحد الطريقين المذكورين.

نعم لو كان أحد الطرفين المحتملين الإباحة فاانه لا يمكنه قصد الإباحة المحتملة أو الندب معاً لعدم ترتّب الثواب علي الإباحة بما هي إباحة كما انّه يفارق هذا القسم، الحالة الأولي في أنّ المكلف لو احتمل الوجوب والكراهة أو الحرمة مع الوجوب وهكذا الحرمة مع الندب والندب مع الكراهة فإنه لا يستطيع اتيان الفعل بقصد كلّ واحد من الحكمين كما لا يخفي.

ربّما يقال بأنّ هذا التقسيم متمحّض في كونه تقسيماً ثبوتياً والخارج لا يساعد علي وقوعه فلا ثمرة في هذا البحث إلا الثمرة العلمية لشحذ الأذهان؟

فيه مع كفاية ذلك لو سلّم، أنّه لا يبعد جداً وقوع ذلك في عالم الخارج بل ربّما

ص: 154

يقال بكونه كثير الابتلاء حيث يحتمل المكلف كون هذا العمل ندبياً أو مكروهاً لأنه نسي الحكم الذي رآه في رسالة الفقيه العملية وقس علي ذلك مصاديق أخري للشك والاحتمال من هذا النوع المذكور وغيره م-مّا لم يذكر ويطول بذكره المقال.

لا يخفي انّ هذا فيما ااذا قلنا بالتعدي إلي المكروهات والواجبات والمحرّمات وإلّ-ا فلا يبقي لدينا إلا الاستحباب المتعارض مع مثله أو الإباحة كما أنّه غير خفيّ علي أهل التعمق والتدبّر أنّ الإباحة لو صارت بعنوان ثانوي ندباً كما لو قصد كونها مقدمة للعبادة المندوبة فاانّه يكون العمل المباح بالعنوان الأولي مندوباً فيعارض غيره وهو مندوب كالمندوب الأصلي.

قال أحد الأعلام فيما يرتبط بهذه المسألة بناء علي ما قرّر من بحثه:

إاذا وردت في فعل معيّن رواية ضعيفة تدلّ علي الاستحباب ووردت رواية أخري تدلّ علي كراهة هذا الفعل، فعلي أساس عدم إلحاق الكراهة بالاستحباب في أخبار «من بلغ» فإنّ هذه الأخبار تشمل فقط الخبر المستحبّ ولا كلام حينئذ أمّا علي أساس القول بالإلحاق فسيقع هنا تعارض بين هاتين الروايتين (1).

فيه أنه مبني علي ملاحظة حيثية الأخبار وقد مرّ انّها ملغاة ولا يعتدّ بهذا الحيث التعليلي في شيء، فلو قطعنا النظر عن ملاحظة الأخبار ونظرنا إلي الاحتمالين بما هما احتمالان فيجري الكلام السابق الذي ذكر مفصّلاً إلّا أن يريد ما قلناه وقد عبّر عنه هنا

ص: 155


1- 190. . قاعدة التسامح في أدلة السنن : ص173.

بالتعارض لأنه يمكن اعتباره تعارضاً وتنافياً بدوياً.

نعم ربّما يقال بأنه كما في مورد وجود روايتين متعارضتين يتنافي كلّ واحد مع الآخر ويحصل التساقط لولا دلالة أخبار الترجيح أو التخيير، فكذلك الأمر فيما نحن فيه حيث اانّ احتمال الندب ينافي وينفي احتمال غيره المماثل وهو الندب لغير تلك الجهة الخاصة الّتي للندب الأول فضل-اً عن غير مماثله، فحينئذ لا يبقي احتمال ندب ولا غير ندب فيحصل التساقط كما في ذلك المقام؟

يجاب عن ذلك بوجود الفرق في البابين فاانّه في فرض وجود خبرين ينافي كلّ واحد الآخر،لا دليل لولا دلالة الأدلة النقلية علي جواز الجمع بل العقل يحكم باستحالة الترجيح بغير مرجّح(1) كما يحكم بعدم الجمع وامتناعه بين الروايتين، فعليه يكون الطريق منحصراً برأي الشرع وهذا بخلاف مقام البحث هنا حيث إنّ العقل كما يحكم بإمكان التعبد بخصوص أحدهما كذلك يحكم بإمكان الجمع بينهما علي النحو الذي عرفناه بعد عدم الدليل علي كون الواقع متعيناً في خصوص أحدهما لكن في باب الأخبار الدليل النقلي كان شاملاً لهذا أو ذلك ولم يكن للعقل الدور الذي له هنا.

ص: 156


1- 191. . نهاية الحكمة، ج1، ص 142.
التنبيه السادس عشر: الاستناد إلي قاعدة التسامح في الفضائل الأخلاقية

هل يمكن أن نستند في موارد المحاسن والفضائل الأخلاقية إلي الروايات الضعيفة الدالة عليها بل مطلق الاحتمال بناء علي التعدي من الروايات إلي كلّ سبب موجب للظنّ واحتمال المحبوبية؟

فيه وجهان يحتمل الإلحاق إلي المندوبات وغيرها لاتّحاد الملاك والمناط حيث اانّ المكلف يحتمل كون هذا الخُلق م-مّا يحبّذ الشارع عليه وكونه حسناً محبوباً لدي اللّه سبحانه وتعالي فيتّصف العبد لأجل ذلك بتلك الأوصاف، وجه عدم الإلحاق التغاير بين البابين لأنّ الملاك في الأفعال الّتي يحتمل كونها مندوبة أو واجبة أو غيرهما هو الظاهر وواقعيتها الأولية الأصلية لا ينظر إليها وهذا بخلاف الأخلاق الّتي تتمثّل واقعيتها وهويّتها في وجود الإنسان وتكون تلك الواقعيات المتجسّدة خارجاً ملحوظة.

لكن الظاهر كون العمدة هنا في بيان عدم الإلحاق وجهاً آخر وبيانه أنّ الأمور الأخلاقية إمّا تكون م-مّا للعقل دلالة فيها فتكون الأدلة النقلية إرشادية محضة أو تكون مغفولة والشرع يرشد ث-مَّ يلتفت الإنسان لعقله القطعي فتكون الروايات مرشدة بعد التفات الإنسان، فأمر الخلقيات بكونها حسنة أم لا واضح لدي العقل فلا يبقي للاتصاف بها لرجاء كونها مطلوبة مجال وأمّا البيان الذي قد مرّ لتقريب وجه عدم الإلحاق، فالظاهر اتحاد المقامين مقام البحث عن الأفعال والأخلاق حيث اانّ الملاك في كلّ واحد منهما هو العالم الظاهري دون ما في صقع الواقع.

لو قلت: إنّه يحتمل ترتّب الضرر المحتمل باتصاف العبد بالأوصاف المقبّحة فيجاب

ص: 160

بكونه جارياً ومشتركاً في باب الأفعال أيضاً.

نعم غاية الأمر احتمال الفساد في الأفعال أخفّ تحملاً واحتمالاً منه في الأخلاق كما أنّ العقوبات الأخروية الّتي يعذّب بها الإنسان العمدة منها تلك العقوبات المترتبة علي الأخلاق الفاسدة دون الأعمال السريعة الحدوث والزوال كما يستفاد من مذاق الأخلاقيين ومطاوي كلمات بعض الأساطين الربانيّين والبحث ليس هنا مجاله ولذلك أرسلناه إرسال المسلّمات لكونه كذلك عندنا وإن احتاج إلي تفصيل ومؤونة بيان واستدلال لمن يريد كشف الواقع فليراجَع إلي مظانّ هذا المبحث(1).

قد يقال بأنّ الرواية الضعيفة الّتي تدلّ علي كون الاتصاف بصفة كذا محبوباً ومستحسناً واان لم تكن فيها دلالة مطابقية علي ترتب الثواب لكن بالدلالة العقلية والتضمنية الّتي في نفس الحديث نستفيد ترتّبه فيدخل المورد بذلك تحت أدلّة وأخبار قاعدة «من بلغ»؟

أقول: نعم الأمر كذلك لولا استقلال العقل في الحكم بصحّة أو فساد ذلك الخُلق المذكور في الرواية وإلّ-ا فلا تصل النوبة إلي مسألة الثواب بالانقياد فيحكم العقل بصحة الخلق فالثواب مترتّب قطعاً أو بفساد الخلق وعدم صحة الرواية فالثواب مندفع القول بترتّبه بلا شبهة.

قال الشهيد الثاني(قدس سره) بالنسبة إلي مقام البحث وأنه هل تلحق أخبار الفضائل الأخلاقية إلي الأفعال المحتمل كونها مندوبة أو غيرها ما نصّه:

ص: 161


1- 195. . جامع السعادات، ج1، ص 35.

إنّ أكثر الفقهاء يقولون بأنّ التسامح في أدلّة السنن يشمل الفضائل والمناقب والمواعظ والمصائب والمساجد والمراقد أيضاً (1).

لكن فيه ما عرفت بناء علي مذهبنا في خصوص هذا المقام.

التنبيه الخامس عشر: حكمة جعل هذه القاعدة الفقهية

المراد من كلمة الجعل هو الجعل التكويني حيث قد عرفنا فيما مرّ أنّ المعيار في المسألة هو حكم العقل والمسألة بذلك عقلية، فتكون أدلة الشرع مرشدة فحسب وعليه جعل اللّه سبحانه وتعالي العقل حاكماً علي حسن الانقياد وترتّب الثواب علي هذه المصلحة النفسية ث-مَّ أيّد الشرع الحكيم بالأدلة العامة الدالة علي تطابق حكم الشرع مع العقل القطعي وبالتقرير مثل-اً هذا الحكم العقلي.

فاتّضح انّ المراد من الجعل هو الجعل التكويني والشارع ليس فيما ورد من كلماته الشريفة جعل أصل-اً بل هو إرشاد فعنوان السؤال هكذا: ما هي حكمة جعل هذه القاعدة تكويناً وفي فطرة الإنسان بحيث يذعن كلّ أحد بها لأجل حكم عقله القطعي باعتبارها؟ لا أنه ما هي حكمة تقرير الشارع أو جعله الشرعي للقاعدة؟ لأنّ الأول فرع حكم العقل فالسبب الأول والذاتي أولي باللحاظ والثاني منتف بالفرض في المقام.

الظاهر انّ ذلك من معلولات حق المولوية التامة الذاتية للّه تعالي علي مخلوقاته وكذلك يسري في كل مولوية اعتبارية جعلية مسلِّطة لأحد علي جماعة آخرين وهذا تابع للأول فحيث اانّ اللّه تعالي هو معطي الوجود وشؤونات الوجود لمخلوقاته فلذلك يستحقّ كمال العبودية والخضوع وجبلت في فطرة الإنسان قاعدة تحسين الذلّ والانقياد بين يديه تعالي والعقل حاكم بذلك، فلأجل ذلك كله تعتبر قاعدة التسامح عقلية مسلّمة فطرية ومن هذا المجال الأصلي والأساسي تجري القاعدة بالنسبة إلي كل مولي

ص: 157


1- 196. . الدراية في علم الرواية، ص 29.

اعتباري غير حقيقي كما أنّ الأمر في التشريع كذلك لأنّ التشريع التام والذاتي للّه تعالي(1) ولكنه يجعل هذا الحق لبعض الموالي العرفيين الغير المنسوبين بأخبار الوحي والسماء .

قد يحتمل أيضاً ان تكون المصلحة متصورة في شيء آخر بلا تناف بين الأمرين وتلك المصلحة هي عبارة عن التحفظ علي الحقوق الواقعية وبعبارة أخري اانّ خلق الفطرة والجبلة البشرية علي هذا الشكل اانما يكون لإدراك المصالح الواقعية وترك المفاسد النفس الأمرية كيف؟ فإنّ الانقياد هو فعل ما يحتمل كونه نفس الواقع.

هذا كلّه بالنسبة إلي السؤال عن علة جعل الفطرة الجبلية كذلك وإن كان البحث أشبه بالكلام مثل-اً لكنه لشدة ارتباطه واشتماله علي بعض فوائد ذكرناه وأمّا السؤال عن دليل تقرير الشارع وجعله الإرشادي إلي هذه القاعدة فاانّه واان قلنا بأنّ الذاتي وهو حكم العقل أولي بالاستدلال واللحاظ، لكن هذا باعتبار المعتبر فيمكن أن نجعل المطلوب الأصلي للسؤال هو التقرير الشرعي لأنّ البحث هنا فقهي لا تكويني، نعم الإشكال علي الجعل المستقل الشرعي للقاعدة باق علي حاله فنقول:

يظهر لدي المتأمل انّ التقرير الشرعي يتبع الجعل التكويني فكلّما قلنا به في ذلك المجال يجري بعينه في المقام التشريعي وهذا وجه قوي جداً خصوصاً بناء علي انّ عالم التشريع يتبع عالم التكوين في الاعتبار دون العكس(2) فمثل-اً نفرض انّ هناك مصلحة خاصة واقعية تقتضي جعل هذا الحكم أو مفسدة في نفس الأمر توجب النهي

ص: 158


1- 192. . محاضرات في الإلهيات، ج1، ص 74.
2- 193. . كفاية الأصول، ج1، ص 157، نهاية الدراية، ج3، ص 416.

عن الاقتراب من هذا العمل، فالتكوين والمصالح الكونية هناك أوجب إصدار هذه الأحكام المولوية الشرعية وما نحن فيه أيضاً غير مستثني عن هذا الإطار والقاعدة الكلية لأنه يقال: الشارع الواجب الوجود بحسب المصالح الكونية جبل الإنسان بفطرته علي أن يساق ويحكم بحسن الانقياد، فالخلق التكويني تبع المصلحة الكونية الواقعية ث-مَّ الجعل التشريعي كالتكويني تابع لتلك المصالح الكامنة ويشرّع معلولاً لها.

هذه خلاصة الكلام في هذا الباب عسي أن ينتفع به إخواني الأعزّاء والمؤمنون كيف؟ وفيه من الثمرات العلمية ما لا يخفي ولا يحتاج إلي بيان لأنّه بذلك يتفرع الفقه ويقال: اانّ هذا الحكم التشريعي تابع لمصلحة تكوينية والولاية المعطاة لأهل بيت العصمة والطهارة صلوات الله عليهم ولعنة الله علي أعدائهم، ولاية حقيقية تشريعية وتكوينية تستمدّ من ولاية اللّه تعالي الذاتية تكويناً وتشريعاً لكن العمدة الإلفات إلي ما يرتبط بمقام بحثنا وتفصيل ذلك موكول إلي محله من الرسائل والمقالات المؤلفة والمتكفلة للاعتقادات(1).

ص: 159


1- 194. . الإرشاد، ج2، ص168، الإمامة الإلهية، ج1، ص 84.
التنبيه السابع عشر: تعيين موضوع الحكم بجريان القاعدة

يبحث هنا عن كون الموضوع هل هو الظن الشخصي الذي لا دليل علي اعتباره أم يكفي وجود الوهم علي ترتّب الثواب ومحبوبيّة العمل؟

قال الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره):

هل يعتبر في الرواية الضعيفة أن تفيد الظن أو يكفي فيها أن لا تكون موهونة أو لا يعتبر ذلك أيضاً؟ وجوه منشأها إطلاقات النصوص والفتاوي وإمكان دعوي انصراف النصوص التي هي مستند الفتاوي إلي صورة عدم كون مضمون الرواية موهوماً أو إلي صورة كونه مظنوناً والاحتمال الأوسط أوسط(1).

التحقيق أنّ اعتبار الوهم وعدم اعتباره والنزاع فيه غير معقول لأنّ ما فيه جانب الحركة والإثبات هو الظن والعلم وحيث اانّ العلم والظن المعتبر النازل منزلته منتف في المقام فيكون مجرد الظنّ الغير القائم علي اعتباره دليل معتبر محرّكاً فلا أقلّ في البحث من وجود هكذا ظنّ ليحرّك ويكون علّة لاندفاع المكلّف نحو العمل وإلّ-ا فالبحث مع الوهم فضلاً عن عدمه أشبه شيء بالقضية السالبة بانتفاء الموضوع لأنّ الوهم مادام لم

ص: 162


1- 197. . رسائل فقهية، ص 158.

يبلغ مرتبة الظنّ فلا يعتدّ به أصلاً.

التنبيه الثامن عشر: التمسك بقاعدة التسامح في أخبار الحوادث الواقعة علي النّبي وعترته المعصومين(عليهم السلام)

من المسائل ذات العلاقة بقاعدة التسامح والّتي تعدّ من مصاديقها، البحث عن كون الأخبار الّتي تحكي الحوادث المرتبطة بزمن النّبي وأهل بيته(عليهم السلام) مشمولة لأدلة القاعدة أم لا؟

التحقيق أنّ القاعدة الّتي اعتبرنا الدليل الأصلي لها هو العقل لا تجري بالنسبة إلي هذا السنخ من الأحاديث إلّا إذا رجع الأمر فيها إلي الوعد بالثواب أو الوعيد عن العقاب، فحينئذ وبعد حدوث الاحتمال في ترتّب الثواب والعقاب يحكم العقل وتكون تلك الأخبار الواردة في قاعدة التسامح والروايات الخاصة الّتي توعد فيها العقوبات والمثوبات إرشادية وإلاّ فلو فرضنا كون الروايات ملحوظة بما هي أخبار ضعيفة مع قطع النظر عن الوعد والوعيد فاانّه حينئذ تدخل هذه الأخبار في الظنون الّتي لا دليل علي اعتبارها لا من أدلة اعتبار خبر الثقة المفيد للظن النوعي الاطميناني ولا من العقل بل الدليل عقلاً وشرعاً علي عدم الاعتبار(1).

قال المحقِّق الإصفهاني(قدس سره) في هذا المجال بما لا يخلو نقله مع تفصيله وطوله عن فوائد:

إنّ الخبر عن الموضوع بما هو لا يراد منه إلّا العمل المتعلّق به إلاّ أنّ العمل

ص: 163


1- 198. . كفاية الأصول، ج1، ص 286.

تارة يكون من غير مقولة القول كما فيما إذا قام الخبر علي أنّ هذا الموضع الخاص مدفن نبي من الأنبياء أو مسجد فإنّ الثابت به استحباب الحضور عنده وزيارته واستحباب الصلاة فيه وهذا في نفسه لا محذور فيه وأخري من مقولة القول المتّصف بالصدق والكذب ولابدّ حينئذ من تنقيح أنّ الكذب القبيح عقلاً والمحرّم شرعاً ماذا؟

لا ينبغي الريب في أنّ الصدق الخبري والكذب الخبري لا حكم لهما عقلاً ولا شرعاً وإنّما المناط في الحسن والقبح والجواز والحرمة بالصدق والكذب المخبريين، ولا ريب في انّ الصدق المخبري هو القول الموافق للواقع بحسب اعتقاد المخبر إلّا أنّ الكلام في الكذب المخبري المقابل للصدق المخبري... نعم إذا قلنا بأنّ الأخبار المزبورة تثبت حجية الخبر الضعيف فلازمه اندراج الفضيلة والمصيبة فيما قامت الحجة عليه شرعاً فيخرج عن تحت الكذب المخبري والقبيح عقلاً والمحرّم شرعاً (1).

ثم اانّه بعد عدم شمول القاعدة لأخبار الحوادث الجارية علي أهل العصمة والطهارة(عليهم السلام) وفضائلهم والأخبار الأخري كالّتي تتعلق بالأماكن المذهبية والقبور الدينية إذا لم تعدّ دالة علي وعد أو وعيد محتمل فهل الإخبار علي نحو الجزم بتلك الأخبار محرّم أم لا؟

صدق الكلام بمعني مطابقته لما في الواقع وكذبه عبارة عن كون الكلام علي خلاف الواقع فلو اعتقد أحد بالصدق فهو خارج عن محل الكلام الذي هو عبارة عن احتمال مفاد الخبر ولو أخبر وهو عالم بكذب الخبر فيكون كاذباً فاعلاً للحرام حيث إنّ القدر

ص: 164


1- 199. . نهاية الدراية، ج4، ص 193- 192.

المتيقَّن من أدلّة حرمة الكذب هذا القسم والفرض أنّ هذا الفرض لا ينافي موضوع كلامنا وهو احتمال مفاد الخبر، لكن العمدة هو الإخبار بمفاد ذلك الاحتمال الحاصل في نفس المخبر إخباراً علي وجه الجزم مع عدم العلم بكذب الخبر فهل هذا يعدّ كذباً أيضاً أم لا؟

الظاهر - بعد خروج الفرض الأول وهو العلم بالصدق وكذلك الفرض الثاني وهو العلم بكذب الخبر ومخالفته للواقع لأنه مع العلم بأحد الطرفين يخرج البحث عن المقام الذي موضوعه احتمال مفاد الخبر لا العلم به نفياً أو إثباتاً -عدم اعتبار هذا الكلام الغير المعلوم صدقه وكذبه مع الإخبار القاطع، من أفراد ومصاديق عنوان الكذب، لأنّ القدر المتيقن والمسلّم من موارد إطلاقات الكذب بل المتبادر المنساق من لفظ الكذب هو إرائة خلاف الواقع وقيد العلم بالواقع مع إرائة خلافه في الكذب مطوي كما لا يخفي، فلا محالة يستند لحرمة هذا النحو من الكلام بحرمة التجري حيث إنّه يهتك ستر العصمة والحياء ويتجرأ علي المولي عزّوجلّ فيستحقّ العقوبة والمذمة، ث-مَّ لو لم يكن من قصده التجري بل كان متساهلاً أو غير ملتفت وهكذا فاان بلغ ذلك درجة عدم التكليف كما لو كان ناسياً وهكذا فلا تكليف وإلّ-ا فإقامة الدليل علي التحريم لا يخلو عن شوب الإشكال وإن كان رفع اليد عن الاحتياط وإمساك النفس أيضاً فيه إشكال خفيّ ولكن علي أيّ حال، الراجح هو الحلّ لو تصوّر واقعاً عدم قصد الهتك وكونُ المكلف متساهلاً متحرّجاً عن التقيد بمثل هذا التكليف وهو أي عدم التصور غير بعيد ثبوتاً وإثباتاً حيث ربّما يصحّ ان يدّعي تلازم الهتك والتجري في أمثال المقام.

ص: 165

قال السيد الروحاني(قدس سره) في هذا المقام ما نصّه علي حسب ما في التقرير:

و الصحيح ان يقال في وجه حرمته وقبحه عقل-اً: إنّ كل ما لا يعلم انّه كذب يكون طرفاً لعلم إجمالي بحرمة الإخبار به أو بنقيضه أو ضدّه للعلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع، فااذا لم يعلم بمجيء زيد يعلم إجمالاً بأنّ الإخبار به أو الإخبار بعدم مجيئه حرام واقعاً لخلوّ الواقع عن أحدهما فهو يعلم أنّ الكذب لا يخرج عن أحدهما فهو علم إجمالي منجّز فيستلزم حرمة كلّ من الطرفين عقلاً فلاحظ وتدبَّر(1).

فيه أنّه مع كونه بياناً بديعاً لم يعهد لدينا مثله في ألسنة الباحثين عن المسألة غير متقَن لأنّ العلم الإجمالي المتعلق بكون أحد الطرفين مخالفاً للواقع ليس هنا منجّزاً والسرّ في كون هذا العلم الإجمالي غير منجّز هو خروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء كيف؟ فإنّ المخبر علي وجه القطع عن مجيء زيد مع كون مفاد الخبر غير معلوم صدقه وكذبه إنّما يحتمل كذب المفاد امّا صدقه فلا حكم تحريمي له.

ص: 166


1- 200..منتقي الأصول: ج4، ص541.
التنبيه التاسع عشر: توقف الأخذ بهذه القاعدة علي تسليم وجود روايات ضعيفة وأسباب غير معتبرة

لا يخفي أنّه وإن تعدّينا عن الرواية الضعيفة الدالة علي وجود الاستحباب في عمل إلي كلّ سبب موجب لذلك الاحتمال سواء تعلّق بالندب أو سائر الأحكام الأخر الباقية دون الإباحة ما دام لم يتغيّر بعنوان ثانوي، فلو احتمل من أيّ سبب كراهة فعل فله الانقياد بترك اتيانه، لكن هذا البحث الواسع مصداقاً وأفراداً يتوقف علي تسليم عدم الاعتبار بروايات خاصة وكونها لا تفيد إلّا ظناً شخصياً لا دليل علي اعتباره وإلّ-ا فلو اعتبرنا كل واحدةٍ من الأخبار الشريفة الّتي في المجاميع الروائية كالمذهب المنسوب إلي بعض الطائفة الإمامية(1) نظراً لتصريح أرباب تلك الكتب الحديثية أو دعوي الانسداد بناء علي شمولها لهذه المصاديق الداخلة تحت مقام بحثنا علي إشكال فيه، فلا يكون الاحتمال من الرواية الضعيفة متصوراً لأنّ الفرض اعتبار الاحتمال وكونه ظناً معتبراً فلا يبقي شك ليتمشّي قصد الانقياد، فلابدّ وأن يتصوّر الاحتمال والانقياد من سائر مناشيء حدوث الظن الذي لا دليل علي اعتباره وهكذا الأمر لو اعتقد باعتبار الإجماع المنقول وقال بترتب الندب الشرعي عليه.

ص: 167


1- 201. . الفوائد المدنية، ج1، ص 144.
التنبيه العشرون: تكملة في مقدار سعة الموضوعات والمصاديق للقاعدة

قد تعرّفت علي إطار الموضوع للقاعدة وأنه يشمل الوجوبات والمندوبات والمكروهات والمحرّمات لكن هل مطلق الوجوب يدخل تحت إطار أفراد القاعدة أم يختصّ ذلك بالوجوب النفسي مثل-اً وهكذا؟

الظاهر أنّ الحكم العقلي له سعة جداً فيشمل الندب المحتمل بجميع أنحائه وأطواره نفسياً كان أو غيرياً كما لو قيّد دليل الندب بما إذا وجب الغير وكما لو حدث الندب لفعل وقيّد عروض الندب علي هذا الفعل المتوقف الندبي علي ثبوت الندب لفعل آخر وأيضاً يشمل الكلام الوجوب المحتمل النفسي والغيري والكفائي والعيني والتخييري والتعييني.

نعم ربّما يشكل الكلام بالنسبة إلي الوجوب الغيري المحتمل حيث إنه يجب الاتيان بهذا الوجوب الغيري بعد فعلية الوجوب النفسي لأنّه لا يكاد يحصل العلم بفراغ الذمة من الواجب النفسي مادام لم يأت بالوجوب الغيري المحتمل، فاان الاصل العملي في جانب الوجوب الغيري واان كان البرائة فيمكن تصور الانقياد مع عدم العلم بلزوم الاتيان أو عدم الاتيان به، لكن أصالة الاشتغال وبقاء العمل الواجب النفسي يكون رافعاً لموضوع البرائة ووارداً عليه فيتعيّن اتيانه من هذه الجهة ويخرج الوجوب الغيري عن محل الكلام.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ التصور هنا متعدد فإنّ الواجب الغيري بلحاظ ذلك البحث المذكور يتعيّن الاتيان به لكن نحن في مسألتنا هذه نغضّ البصر إلّا عن جوانب البحث

ص: 168

المرتبطة بالمقام وبهذا الحيث.

فيتمشي الكلام في إمكان الانقياد وعدم لزوم الاتيان بالغيري بعد غضّ البصر عن حيثية توقف الواجب النفسي عليه.

لكن يرد عليه أنّ هذا اللحاظ يخرج الغيري عن كونه غيرياً فيصير نفسياً وإلّ-ا ففرض بقائه علي وصف غيريته لا يكاد تنحلّ معه المشكلة المذكورة المترتّبة عليه.

التنبيه الواحد و العشرون: إجراء القاعدة بالنسبة إلي ما ورد من أخبار أهل الخلاف

قال الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) في هذا المجال ما نصّه:

هل يعتبر فيها ان تكون مدوّنة في كتب الخاصة أم لا؟ الأقوي هو الثاني لإطلاق الأخبار وقد حكي عن بعض منكري التسامح االزام القائلين به بأنه يلزمهم أن يعملوا بذلك مع ما ورد من النهي عن الرجوع إليهم وإلي كتبهم وفيه أنه ليس رجوعاً إليهم ومجرد الرجوع إلي كتبهم لأخذ روايات الآداب والأخلاق والسنن مما لم يثبت تحريمه (1).

التحقيق - كما مرّت الإشارة إلي مقتضاه مراراً وكراراً - ان يقال بدخول مطلق الاحتمالات تحت إطار قاعدة التسامح ولا ينظر إلي حيثية الدليل والسبب للاحتمال وأنه الإجماع أو الرواية وهكذا، فبناء علي هذا الأصل الكلي الذي يمكن الإجابة به عن كثير من الفروع المبحوث عنها في هذه المسألة من الفصول والمقامات المختلفة، فلا

ص: 169


1- 202. . رسائل فقهية: ص 157.

بأس بالمراجعة إلي كتبهم لأخذ ما هو مندوب أو واجب وهكذا لكن مقيّداً بعدم قصد التشريع أو كون خلاف ذلك معلوماً في مذهبنا، أمّا الأول فلأنّ قاعدة التسامح في أصلها يشترط فيها ان لا يأتي المكلف بقصد التشريع واالّا فلا أقلّ من ترتّب مفسدة الهتك والتجري ومعه كيف يقال بحسن الانقياد؟ حيث لا يبقي انقياد ويرتفع حسن العمل بالنهي المقدّم كما في أمثال الموارد من العبادات الّتي يتقدم فيها النهي ويقتضي زوال المصلحة وبطلان العمل(1).

فاتضح انّ قصد التشريع م-مّا يخلّ ويترتب عليه زوال الحسن العقلي في الإنقياد بل يرتفع موضوع ذلك الحكم وهو صدق الانقياد .

أمّا الثاني وهو كون خلاف ما ثبت في أسفارهم الروائية ثابتاً في كتبنا فلأنّ فعل ما هو حرام عندنا يحرم وإن قيل في أخبار العامة بكونه مندوباً علي احتمال لم يثبت عند المراجع إلي كتبهم، لأنّ الفرض في القاعدة هو صرف الظن الغير المؤيّد وبعبارة أخري إنّه في هذه الموارد لا موضوع للقاعدة لتجري حيث عرفت انّ القاعدة تجري فيما لم يثبت تعيّن الفعل أو الترك والحال أنّه فيما نحن فيه يتعيّن أحد الطرفين بما ورد في أخبارنا الشريفة المعتبرة، أمّا عدم صدق المراجعة إليهم كماقال به الشيخ الأعظم(قدس سره) فمحلّ إشكال.

نعم النهي عن مجرد المراجعة إلي كتبهم محل إشكال قوي أيضاً بل النهي هناك إرشادي عقلي لعدم الوقوع في مخالفة الواقع.

ص: 170


1- 203. . كفاية الأصول، ج1، ص 187؛ نهاية الأفكار، ج1، ص 457.
التنبيه الثاني و العشرون: جواز الإفتاء فيما إذا احتمل الفقيه ندباً أو كراهة أو غيرهما بناء علي التوسعة في الأسباب والمسبّبات

قد مرّ سابقاً أن قلنا بجريان الإشكال لو أراد أحد فتوي أو إخباراً لغيره أن يقول: هذا العمل مستحب، بعد أن احتمل كونه كذلك بالنظر إلي رواية ضعيفة غير معتبرة أو غيرها حيث اانّ ااطلاق هذا الكلام في عرف المخاطبين من أهل التشرع يساق منه أنه ورد من الشرع استحباب هذا العمل الكذائي، ووجّهنا هناك كلام من يصرّح بالاستحباب وقلنا: اانّ بعض الأساطين ربّما يصرّحون بذلك مع عدم رواية معتدّ بها في البحث فيحتمل أنّهم رأوا روايات كلّ مستحب ولو كانت ضعيفة بدءً، منجبرة سنداً بعد قيام أدلة قاعدة التسامح وحينئذ يثبت الاستحباب الشرعي ويصح لهم أن يخبروا بذلك، لكن العمدة في هذا الفصل والإعادة أن نذكر كلام الشيخ الأنصاري(قدس سره) في هذا المجال حيث قال باستدلال دقيق لإثبات جواز فتوي الفقيه بالاستحباب:

إنّه لو سلّمنا عدم دلالة تلك الأخبار إلّا علي استحباب الفعل في حقّ من بلغه لا علي حجية ما بلغ لمن بلغ، لكن نقول قد عرفت أنّ أمثال هذه المسائل مسائل أصولية ومرجع المجتهد في الأحكام الشرعية دون المقلّد فالقيود المأخوذة في موضوعها اانّما يعتبر اتصاف المجتهد بها دون المقلّد ألا تري أنّ المعتبر في استصحاب الحكم الشرعي كون المجتهد شاكّاً في بقاء الحكم وارتفاعه والمعتبر في الاحتياط كون المجتهد شاكّاً في المكلّف به؟ وكذا الكلام في البرائة والتخيير والسرّ في ذلك أنّ هذه القيود يتوقف تحققها إثباتاً ونفياً في مراجعة الأدلة وبذل الجهد واستفراغ الوسع فيها وكلّ

ص: 171

ذلك وظيفة المجتهد فكأنه يفعل ذلك من طرف المقلّد ويسقط الاجتهاد عنه بفعله وهذا بخلاف القواعد الفرعية الظاهرية فاانّ القيود المأخوذة في موضوعاتها نظير القيود المأخوذة في الأحكام الواقعية كالسفر والحضر والصحة والمرض يشترك فيها المجتهد والمقلّد من دخل في الموضوع ثبت له الحكم ومن خرج فلا كالاستصحاب والاحتياط والبرائة والتخيير في الشبهة الموضوعية في الأمور الخارجية وقد عرفت سابقاً وستعرف انّ إثبات بلوغ الثواب علي وجه لا يعارضه بلوغ العقاب أو ثبوته ليس من وظيفة المقلّد(1).

تقرير ذلك وبيانه: أنّ هذا الاستدلال يبتني علي ما يجري في غير المقام وهو كون الفقيه كأنّه وكيل عن العامي في الفحص عن المقيّد والمخصّص والمعارض وما نحن فيه أيضاً الفقيه عندما يفتي بالاستحباب، فمعني ذلك أنه فحص عن معارضات هذا الندب أو الكراهة ث-مَّ حكم بحسب الراجح والحجة في رأيه بأنّ الندب ثابت والأخذ به بلا إشكال وهذا استدلال بظاهره ربّما يلجيء الباحث في المسألة إلي طرف إثبات الجواز في الإفتاء بالمندوب المحتمل ولكن عند التأمل سرعان ما يذهب ووجه هذا الردّ علي الاستدلال المذكور أنّه خارج موضوعاً وتخصّصاً عن مقام بحثنا كيف؟ فإنّ فحص المجتهد وإفتائه في نهاية الأمر بأنّ الحجة والراجح كذلك ولا مانع ليمنع عن الإفتاء والعمل به متوقف علي وجود ندب بحسب رواية معتبرة ث-مَّ الفحص عمّا يمكن معارضته لهذا الندب أو تخصيصه له وتقييده اايّاه والحال انّ موضوع كلامنا هو عدم

ص: 172


1- 204. . رسائل فقهية: ص 162.

الثبوت للندب ولا غيره م-مّا يراد إجراء قاعدة التسامح في قالبه كما لا يخفي.

فاتضح انّ المختار م-مّا لا غبار عليه وإفتاء البعض من الأعيان بالندب والحال هذه موجّه بما قلنا أو غيره وإلي الوجه المختار يشير ما عن مناهج الأصول حيث قال بما مضمونه:

إنّ ما يستفاد من الأخبار هو إعطاء الثواب لمن بلغه الرواية فيلزم الاقتصار علي مدلولها فإفتاء المجتهد باستحبابه مطلقاً مشكل، نعم للمجتهد ان يروي الحديث ث-مَّ يفتي بأنّ من عمل بمقتضاه فاانّه يستحقّ الثواب بفضل اللّه تعالي(1).

فاانّه يوافق المسلك المختار في الجملة حيث كما أنّ للفقيه ان يروي ويقول: من عمل بها فهو ينال المثوبة، كذلك يمكنه نقل كيفية العمل وانه من عمله ينال المثوبة لتسامح الشارع في احتساب المثوبات مع كون هذا الذي قلت لكم غير نقيّ السند.

ص: 173


1- 205. . مناهج الأصول: الفائدة الأولي.
التنبيه الثالث و العشرون: إجراء المقلّد قاعدة التسامح في أدلّة السنن بنفسه

يرجع البحث في هذه المسألة إلي قاعدة وأصل كلي عام وهو انّه هل يمكن للعامي أن يجري القواعد الفقهية والأصولية بنفسه أم لا؟

فحيث اانّ هذا المقام الذي نحن بصدد بيان واقع الحال فيه مصداق صغروي وموضوع جزئي لتلك الكبري الكلية فبالالتفات إلي تلك القاعدة العامة الكلية يتضح الجواب لهذا السؤال في هذا المجال، فنقول بعون اللّه تبارك وتعالي: إنّ القاعدة الأصولية والفقهية بلحاظ مقام البحث عن أصل اعتبارها والفحص عن معارضاتها المحتملة ومخصّصات أو مقيّداتها يجري الاستدلال والنظر فيها بيد الفقيه المجتهد كما لا يخفي لعدم تمكن العامي وصلاحيته لذلك، لكن بعد إثبات القاعدة الأصولية الكبروية أو الفقهية فيكون الفقيه والعامي في إجرائهما سواء فبعد إحراز الموضوع بيد العرفي العامي فكما أنّ الفقيه يجري القاعدة فكذلك العرفي يستطيع ذلك.

نعم بيان أصل هذا الحكم الكلي بالجواز الشرعي في إجراء العامي لها أو عدمه أيضاً يكون بيد الفقيه، قال الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره):

هل يجوز للمقلّد ان يعمل بقاعدة التسامح إذا أخذها تقليداً من المجتهد أو حكم عقله بها بناء علي الاستناد فيه إلي الاحتياط أم لا؟

الظاهر من بعض هو الأول والتحقيق أنّ قاعدة التسامح كما عرفت سابقاً مسألة أصولية يرجع إليها المجتهد في إثبات الاستحباب ودعوي جواز رجوع المقلّد إليها إذا أمكنه تشخيص الموضوع بأن يفهم دلالة الرواية الضعيفة وسلامتها عن المعارض ببلوغ الحرمة أو ثبوتها بدليل معتبر ويفهم

ص: 174

علي تقدير المعارضة ترجيح مدلول أحدهما علي الآخر من حيث قوة الدلالة أو وجود الجابر إلي غير ذلك معارضة بجواز ذلك في سائر القواعد الأصولية مثل العمل بالأصول في الأحكام الشرعية بل العمل بالأدلة الشرعية مثل الكتاب بأن يفهم دلالتهما وسلامتهما عن المعارض كما لا يخفي، فالأقوي عدم جواز رجوع المقلّد إليها إلاّ في طائفةمن الموارد الّتي يعلم المجتهد بعدم ثبوت الحرمة فيها وثبوت الأخبار الضعيفة الواضحة الدلالة بحيث يأمن المجتهد وقوع المقلّد في خلاف الواقع لكن العمل بالقاعدة حينئذ أيضاً جائز بعد تقليد المجتهد في تحقيق شروطها وانتفاء موانعها(1).

فيه انّه كما يمكنه تقليد الفقيه في انتفاء الموانع من إجراء القاعدة بعد إحراز موضوعها ومصداقها كذلك يمكنه الأخذ بالقاعدة بناء علي فرض عدم العلم الإجمالي بوجود معارضات للقاعدة وموضوعها الخاص لأنه قد زال العلم الإجمالي وانحلّ بعد الظفر ببعض المقيِّدات والمخصِّصات في دائرة الأحكام فيستطيع بنفسه إجراء القاعدة بعد إحراز موضوعها وإنّما يقلّد في هذا الفرض في أصل القاعدة الكبروية وأصالة عدم المعارض من مخصِّص ومقيِّد أو متعارض مستقرّ، فتأمّل.

ص: 175


1- 206. . رسائل فقهية، ص 163.
التنبيه الرابع و العشرون: إجمال المحتمل للندبية والكراهية وغيرهما مفهوماً ومصداقاً

تصوير محلّ الكلام أنّه لو قامت الرواية الضعيفة علي استحباب العمل المعيّن لكن تردّد هذا المتعلق للندب في الخارج وبعبارة اُخري كان العمل متعيّناً في الرواية مفهوماً لكنه قد اشتبه الأمر خارجاً ومصداقاً أو كان نفس العمل مبهماً مفهوماً مع العلم الإجمالي بوجود دلالة للرواية الضعيفة علي الندب.

يجدر بنا الإشارة إلي سعة دائرة هذا البحث الحالي حيث يشمل الواجب والمكروه والمحرّم أيضاً بجميع أقسامها دون الواجب الغيري كما مرّ وكذلك جميع أقسام الندب مشمول لهذه المسألة كما في السابق حيث كان كلّ واحد من هذه المصاديق مشترك الدخول في المباحث المختلفة في هذه القاعدة الفقهية، مضافاً إلي لزوم الإشارة تفصيلاً بعد الإجمال في عنوان البحث: بأنّ الشبهة هنا موضوعية أو مفهومية يعني محلّ كلامنا هو ما ااذا وردت رواية ضعيفة من باب الفرض والتمثيل وقد دلّت علي استحباب هذا العمل المبهم مفهوماً والمعلوم مصداقاً وتارة أخري يكون العمل مبهماً مفهوماً فضلاً عن الإبهام المصداقي - والإبهام في العمل مصداقاً ناش عن الجهل بالمفهوم أحياناً - فإنّ بحثنا يشمل كلا الفرضين وإن كان يمكن إرجاع الشبهتين إلي مآل واحد كيف؟ فإنّ أصل اتحاد الحكم بينهما أمارة وشاهد صدق علي كونهما في الواقع أمراً واحداً فنقول: لو احتمل المكلف استحباب أو كراهة فعل وتعدّد المتعلق بين شيئين فعندئذ له أن ينقاد بكل واحد من العملين بدون انضمامه مع الآخر بأن يفعل أو يترك واحداً من

ص: 176

المحتملين كما له أن ينقاد باتيان أو ترك كلّ واحد من المحتملات المشتبهات بحيث يحسب هناك انقياد لهذا الفعل وانقياد ثان للآخر ويعدّ كلّ واحد من الفردين فرداً مستقلاً قد انقاد المكلف به تركاً أو فعل-اً.

و بعبارة أخري اانّ المكلف لو احتمل كراهة هذا الفعل وكذلك احتمل استحباب ذاك الفعل فكما له أن يأتي بأحدهما ويترك الآخر معاً أو بواحد منهما خاصة ولكلّ حسابه الخاص وثوابه المنفرد علي أيّ حال فكذلك الأمر فيما نحن فيه حيث إنّ المكلف وإن كان الاستحباب واحداً مردّداً بين المتعلقين إلّا أنّهما في قوة استحبابين وانقيادين بحسب الرأي العرفي العقلائي فيحسب لكلّ واحد ثواب مستقل وحكم خاص غير ما للآخر، قال المرحوم الشيخ الأنصاري(قدس سره):

لو علم استحباب شيء وتردّد بين شيئين فلا إشكال في استحباب المتيقّن إذا كان بينهما قدر متيقن ولا فيما إذا كانا متباينين ولم يكن قدر متيقن وإنّما الكلام في استحباب غير المتيقّن إذا ورد رواية ضعيفة أو فتوي فقيه وفي استحباب أحد المتباينين، مثال الأول ما إذا ورد رواية أو فتوي باستحباب الزيارة الجامعة ولو مع عدم الغسل وباستحباب النافلة ولو إلي غير القبلة وزيارة عاشوراء مع فقد بعض الخصوصيات ومثال الثاني ما إذا تردّد المسح المستحبّ بثلاث أصابع بين ان يكون طولاً وأن يكون عرضاً... فالظاهر أنّ الاتيان بالفرد المشكوك في الأول وبأحد المتبائنين في الثاني لاحتمال مصادفته لرضي المولي لا يخلو عن رجحان...(1).

ص: 177


1- 207. . رسائل فقهية، ص 167.
التنبيه الخامس و العشرون: ترك الالتزام بقاعدة التسامح لا يساوق دائماً معني التجري علي الشارع

ربّما يتوهّم انّ ترك الالتزام العملي بقاعدة التسامح يساوي وقوع التجري علي الشرع كما يقال بمثل هذا القول بالنسبة إلي أصل المندوب الثابت بالعلم أو العلمي وكذلك المكروه الثابت بأحدهما حيث يشكل أحياناً بأنّ تاركهما يصدق عليه لفظ التجري فلذلك يستوجب العقوبة.

يجاب عن ذلك بما يسدّ المجال لهذا القول في كلا المقامين وهو أنّ التلازم المدّعي أول الكلام حيث اانّ كون ترك المندوب المحتمل أو الثابت مساوقاً لقصد الهتك والتجري غير صحيح لأنّ المكلف التارك كثيراً مّا يجهل الندب أو يغفل وينسي وحينئذ لا موضوع للتجري وعدمه لعدم الالتفات وأخري يكون الالتزام عسرياً وحرجياً مع عدم قصد الهتك وفي بعض الأحيان فقط يقصد التجري فالتلازم الدائمي غير وجيه والأغلبي مشكل جداً وغير ثابت.

ويجاب عن إشكال التلازم بجواب ثان وهو أنّ ترك الانقياد والتعاهد للمندوبات المحتملة فضلاً عن الثابتة إنّما لا يلازم التجري لأنّ التجري فعل وجودي وترك الانقياد أمر عدمي فكيف يساوي ويكون عين التجري الوجودي؟

لكن يردّ علي هذا الكلام بأنّ العدم والعدمي لو كانا لا شيئية لهما بحيث كان ترك الانقياد أمراً عدمياً فلم يصدق في الخارج شيء وأنه ترك المكلف ذلك الفعل، فنفس هذا الإخبار دالّ علي كون التجري أمراً وجودياً مخبراً عنه اللَّهمَّ إلّا أن يراد من العدم العدم

ص: 178

الإضافي(1) الذي له حظّ من الوجود فهو قول وسيط وله وجه جداً.

التنبيه السادس و العشرون: جريان الإطلاق والتقييد في مصاديق القاعدة

لو وردت رواية ضعيفة السند أو الدلالة حيث اانّ مطلق الاحتمال هو ملاك حكم العقل بحسن الانقياد ودلّت في الفرض الأول وكذلك علي فرض ضعف دلالته -لكن كان القدر المتيقن مع هذا الضعف الدلالي هو ثبوت أصل الندب - علي استحباب العمل الكذائي علي وجه الإطلاق وقد وردت رواية أخري مقيّدة وأضيق دائرة كما إذا دلّت الرواية الضعيفة الثانية علي استحباب نفس العمل لكن في وقت خاص أو مكان متعيّن، فعندئذ هل يمكن إبقاء الإطلاق علي حاله أو يجري التقييد ولزوم الأخذ به لا محالة كما هو الشأن في سائر موارد الإطلاق والتقييد؟

مقتضي التحقيق في المقام بعد جريان البحث في كل الشقوق المفصّلة والمتصورة المذكورة سابقاً أن يقال: إنّ باب الاحتمال كما قلنا وأكّدنا عليه مفتوح علي مصراعيه وبذلك الاحتمال يحكم العقل بحكم مطلق في جميع موارد صدق الانقياد الّتي منها ما نحن فيه، فلو ورد خبر مطلق ضعيف سنداً علي استحباب عمل ومقيّد كذلك وقد دلّ علي تقييده فإنّه وإن كان مقتضي القاعدة الأولية هو حمل المطلق علي المقيِّد لكن في المقام يتعبّد بالمطلق أيضاً رجاء وانقياداً وأمّا لو كان المطلق أو المقيّد معتبراً سنداً ودلالةً فاانّه حينئذ ربّما يذهب إلي تعينه لكنه هنا احتمال كون ما يدلّ عليه الخبر الضعيف مطابقاً للواقع باق علي حاله فيمكن الانقياد إلّا أن يدلّ ذلك الخبر المعتبر علي انتفاء

ص: 179


1- 208. . نهاية الحكمة، ج1، ص 191.

مدلول الرواية الضعيفة، فاانّه حينئذ لا يبقي موضوع لقاعدة التسامح وهو الاحتمال المنتفي في المقام وليتعبّد المكلف بما اتّضح له حينئذ بواسطة دلالة تلك الرواية المعتبرة وإلي ما ذكرناه هنا من إلحاق الضعف الدلالي بالضعف السندي أشار الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) حيث قال:

قد يجري في لسان بعض المعاصرين من التسامح في الدلالة نظير التسامح في السند بأن يكون في الدليل المعتبر من حيث السند دلالة ضعيفة فيثبت بها الاستحباب تسامحاً وفيه نظر فإنّ الأخبار مختصّة بصورة بلوغ الثواب وسماعه فلابدّ أن يكون البلوغ والسماع ومع ضعف الدلالة لا بلوغ ولا سماع.

نعم قاعدة الاحتياط جارية لكنها لا تختصّ بالدلالة الضعيفة بل تجري في صورة إجمال الدليل واحتماله للمطلوبيّة (1).

الشقّ الأول من كلامه مختصّ علي من يلاحظ حيثية الخبرية في إيجاد الاحتمال وقد ألغينا ذلك وقلنا بكون الملاك التام هو مطلق الاحتمال وبقوله: قاعدة الاحتياط أشار إلي هذا المبني المختار ولازمه من الذهاب إلي اعتبار كلّ احتمال كما لا يخفي.

ص: 180


1- 209. . رسائل فقهية: ص 170.
التنبيه السابع و العشرون: الاستحباب والكراهة الثابتان بهذه القاعدة ليسا كالمستحب والمندوب الثابتين بالأدلة المعتبرة

السؤال الذي يطرح في هذا المقام علي طاولة النقاش أنه هل المندوب الثابت بقاعدة التسامح هو مندوب مطلقاً وهكذا المكروه بمعني انّه لو نذر أحد ان يتصدّق للّه تعالي إذا عمل عبده أو ولده مستحباً أو داوم علي ترك مكروه، فهل يختص إجراء هذه الأحكام علي المستحب والمكروه المعلومين بالدلالة المعتبرة ويكون مفاد قاعدة التسامح ترتّب الثواب فقط علي المندوب الثابت بها أم ينزّل المندوب بمقتضي التسامح منزلة المندوب المعلوم بالدليل التام سنداً ودلالة؟

الظاهر بل الذي لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه أن يقال:

إنّ ذلك أمر يرتبط بكيفية قصد الناذر فلو قصد أن يتصدّق بكذا إن رأي عاملاً بمندوب أو تاركاً لمكروه مطلقاً، فيصحّ تنزيل مفاد القاعدة منزلة المندوب والمكروه الثابتين بالدليل القطعي المعتبر ولو قصد دائرة أضيق من ذلك فيتّبع قصده وهكذا الأمر لو ترتّب أثر في الأخبار علي عامل المستحبّات وتارك المكروهات أو بالعكس بأن ذمّ عامل المكروهات وتارك المستحبّات، فلو كان هناك إطلاق أو دليل عام أم قرينة لبيّة أو لفظية مبيّنة للحال فبها وإلّ-ا فيؤخذ بالقدر المتيقن ويجري الأصل العملي المتناسب في كل مجال بحسبه، قال المحقق السبزواري في ذخيرة المعاد:

لكن لا يخفي أنّ هذا الوجه إنّما يفيد مجرد ترتّب الثواب علي ذلك الفعل لا أنّه أمر شرعي يترتّب عليه الأحكام الوضعية المترتبة علي الأحكام الواقعية(1).

ص: 181


1- 210. . ذخيرة المعاد: مبحث الوضوئات المستحبة.

و قد عرفت مقتضي التحقيق وأنّ القول بالتفصيل هو أفضل وأقرب إلي النظر والاعتبار.

التنبيه الثامن و العشرون: قاعدة التسامح في أفضلية مندوب من آخر ومكروه من مكروه آخر

يبحث هنا عن سعة شمول القاعدة وأنّها هل تشمل ما لو علمنا بالدليل المعتبر كون هذا العمل مندوباً وهكذا ذاك الفعل الآخر ثبت استحبابه بدليل معتبر ث-مَّ أردنا التسامح في تقديم أحدهما علي الآخر لاحتمال أولويته؟ وهكذا البحث لو كان المندوبان قد ثبتا تسامحاً بالقاعدة وأردنا التفضيل بالقاعدة لأحدهما علي الآخر وكذلك المسألة المذكورة تجري في المكروهين والواجبين المحتملين بدون دليل معتبر دلّ علي الوجوب أو معه وقد حصل التزاحم ويجري البحث في المحرّمين الثابتين بالعلم أو العلمي أو صرف الاحتمال لو أردنا تقديم أحدهما تسامحاً فهل تجري هنا القاعدة؟

الظاهر جريان القاعدة لأنّ احتمال أولوية أحدهما عنوان مستقل يمكن الانقياد به اللَّهمَّ إلّا أن يقال بكون جهة الأولوية المحتملة لأحد الفعلين حيثية تعليلية ويرجع هذا البحث في واقعه إلي تعارض مندوب مع مثله أو مكروه مع مثله كما مرّ وقلنا بإمكان التخيير هناك.

قال سماحة الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره):

يجوز العمل بالروايات الضعيفة في أفضلية مستحبّ من مستحبّ آخر أمّا علي

ص: 182

قاعدة الاحتياط فواضح لأنّ طلب المزية المحتملة في أحدهما محبوب عقلاً... (1).

و قد أشرنا إلي كون احتمال الأولوية أو مزية أحد الفعلين علي الآخر حيثية تعليلية غير مؤثرة نفياً وإثباتاً في الحكم، غاية الأمر يكون مجرّد مؤيّد إذا قلنا بإمكان وجواز تقديم أحد المندوبين.

التنبيه التاسع و العشرون: نسبة القاعدة مع الأخبار المضمرة والمرسلة

لا يخفي أنّ الأدلة الّتي أقيمت علي بيان اعتبار القاعدة لم يت-مّ منها إلّ-ا دليل العقل القائم علي حسن الانقياد تركاً أو فعلاً بمطلق الاحتمال، فحيث قلنا وفقاً لهذا المناط الواسع باعتبار الاحتمالات من أيّ سبب كان حدوثها، فالقول باعتبار الاحتمال الناشئ من الرواية الضعيفة والمرسلة بطريق أولي حيث إنّ البعض يعتقد بانحصار مفاد القاعدة بما في الروايات الضعيفة، فحينئذ القول بجريان القاعدة في المرسلات والمضمرات أولي من جريانها في الاحتمال الحادث من إجماع ظني واان كان الأخذ للقاعدة هنا حجة أيضاً.

اان قلت: لا فرق بين الرواية الضعيفة الّتي هي مشمولة لأدلة «من بلغ» وأخبار القاعدة وبين الرواية المرسلة والمضمرة.

قلنا: اانّ الظاهر من أخبار القاعدة والتعبير فيها ب- «من بلغه عن النّبي(2)» هو اتصال السند إلي أن يصل إلي النبي الأكرم(صلي الله عليه وآله)، فلو أردنا الجمود علي مقتضي اللفظ وتركنا دليل العقل فلابدّ من عدم إلحاق المرسلات بالأحاديث الضعيفة ولا تنافي بين هذا

ص: 183


1- 211. . رسائل فقهية: ص 171.
2- 212. . المحاسن، ج1، ص 25.

الكلام والأولوية المزبورة فيما قلنا عمّا قليل كما هو واضح علي أهل التأمّل ولو ساوينا بين المرسلات والمضمرات والأخبار الضعيفة فمعناه الأخذ بدليل العقل فيلزم التعدي إلي مطلق الاحتمال.

التنبيه الثلاثون: قاعدة التسامح في أدلة السنن علي مذهب الأخباريين

من أصحابنا الإمامية من يسمّون بالأخباريين نظراً إلي تمسكهم بالأخبار الشريفة المذكورة في مجاميعنا الروائية بنحو أوسع من غيرهم حيث ينفون الحاجة إلي الفحص عن مسانيد الأخبار ويعتبرون كلّ رواية وصلتهم صحيحة وفقاً لتصريح أرباب الكتب الروائية باعتبار ما تتضمنها أسفارهم الشريفة من أحاديث النّبي وأهل بيته(عليهم السلام) وكان لهم دورهم في الأزمنة السابقة إلي أن جاء السيد وحيد البهبهاني العالم جليل القدر(قدس سره) وبني مدرسة الأصوليين بعد أفولها النسبي كما كانت مزدهرة فيما قبل ظهور الأخباريين وصارت مدرسة أصولية مستحكمة وقد انهدمت بذلك أركان الأخبارية ولذلك يسمَّي أصحاب هذه الطائفة الأصوليين، بالأصوليين لاتّكالهم علي قواعد خاصة معلومة وضوابط متشخصّة كلّية، ااذا عرفت ذلك فليبحث هنا عن القاعدة بالنسبة إلي الأخباريين فيقال: هل الأخباريون كالأصوليين الذين اعتبروا قاعدة التسامح مثبتة للاستحباب الشرعي فيما وردت أخبار ضعيفة تدلّ علي حسن العمل أم لا؟

الظاهر إلحاقهم بالأصوليين القائلين بذلك المبني لأنّ مقتضي قول الأخبارية بأنّ كلّ ما في الكتب الأربعة مثل-اً روايات معتبرة لا حاجة إلي الفحص عن مسانيدها

ص: 184

هو إثبات مضامين تلك الأخبار الشريفة الواردة في اعتبار قاعدة التسامح وليس ما حصل من مذهبهم كما ينسب إلي الانسداديين حيث قلنا بعدم ثبوت الندب والكراهة بالأخبار الضعاف علي مبني الانسداد لو أردنا لحاظ الخبرية لا حكم العقل المستقل في باب التسامح الذي دائرة حكمه واسعة كما تعرفت علي ذلك لوضوح الفرق بين المذهبين، تأمّل في المقام فإنّه دقيق(1).

لكن هذا لايعني أنّ الأخباريين لايمكن و لايعقل أن يأخذوا بإرشادية الأخبار الواردة في باب التسامح حيث كان لهم أن يختاروا ثبوت الحسن العقلي لقاعدة التسامح.

ص: 185


1- 213. .لمعرفة هذا البحث التاريخي راجع كتاب(علم الأصول تاريخاً وتطوراً)، ص165.
التنبيه الواحد و الثلاثون: قاعدة التسامح في أدلة السنن عند أهل السنة

قال أحمد بن علي الخطيب البغدادي فيما يخصّ مقام بحثنا:

قد ورد عن غير واحد من السلف انّه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم إلّا عمّن كان بريئاً من التهمة بعيداً من المظنة وأمّا أحاديث الترغيب والمواعظ ونحو ذلك فاانّه يجوز كتبها عن سائر المشائخ(1).

الظاهر من هذا الكلام ونقل تلك الأقوال التي ذكرها في كتابه وكذلك ما قلنا عن علمائنا من ادعاء الشهرة والوفاق بين الفريقين انّ هذه القاعدة مأخوذ بها لدي طائفة التسنن أيضاً ولو خلّينا نحن وهذه الأقوال والكلمات فيتبادر استنادهم في القضية إلي حكم العقل بل ولو ذكروا روايات دالة في مذهبهم علي هذه القاعدة، فإنّها إرشادية والعمدة في هذا الفرض هو العقل أيضاً اللَّهمَّ إلّا ان يجعل بعضهم الأخبار هي العمدة كما هو أحد أقوال الباب عند علمائنا الأعلام.

كذلك قال سفيان الثوري فيما نقل عنه:

لا تأخذوا هذا العلم في الحلال و الحرام إلّا من الرؤساء المشهورين بالعلم، الذين يعرفون الزيادة و النقصان، و لا بأس بما سوي ذلك من المشائخ(2).

أيضاً قال ابن صلاح في كتابه «معرفة أنواع علم الحديث» ما نصه:

يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد و رواية ما سوي الموضوع من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير اهتمام ببيان ضعفها فيما

ص: 186


1- 214.الكفاية في علم الدراية، ص 162.
2- 215. . المصدر، ص 134.

سوي صفات الله تعالي و أحكام الشريعة من الحلال و الحرام و غيرهما و ذلك كالمواعظ و القصص و فضائل الأعمال و سائر فنون الترغيب و الترهيب و سائر ما لاتعلق له بالأحكام و العقائد(1).

لكن هناك من يرفض منهم هذه القاعدة حيث قال ابن حزم الأندلسي في صريح كلام له:

نقل أهل المشرق و المغرب أو كافّة عن كافّة أو ثقة عن ثقة حتي يبلغ النبي(صلي الله عليه وآله) إلّا أن في الطريق رجلاً مجروحاً بكذب أو غفلة أو مجهول الحال، فهذا أيضاً يقول به بعض المسلمين، و لا يحلّ عندنا القول به و لا تصديقه و لا الأخذ بشيء منه (حتي المندوبات)(2).

فالخلاصة أن هذه القاعدة حيث كانت عندنا من القواعد التي يكون الحاكم فيها هو العقل، فليس من العجيب أن يحكم جميع أعلام الفرق الإسلامية علي وفقها، نظراً إلي كونها عقلية و عقلانية، فلذلك وجود المنكر لها - بناء علي دلالة العقل القطعي المجموعي علي صحتها - من المظاهر المثيرة للعجب، اللهمَّ إلّا أن ينفي ذلك بكون المراد عن النفي هو نفي التسامح شرعاً بأن لا يدلّ مفاد الأخبار في هذا الرأي علي ثبوت الاستحباب الشرعي.

يعني أنه لو فسَّرنا القاعدة الفقهية التي نبحث عنها، بكونها عقلية، كما هو كذلك

ص: 187


1- 216. . معرفة أنواع علم الحديث، ص 210، النوع 42، الفصل الأول.
2- 217. . الملل و الأهواء و النحل، ج2، ص 222 و هكذا اعتقد مسلم و البخاري بذلك، راجع قواعد التحديث، ص 165.

عندنا، فإنكار مفادها م-مّا لايكاد يعقل صدوره عن أحد لوضوح حكم العقل بذلك لدي كلّ عاقل و مفكّر فيما يخطر بباله مفهوم الانقياد، حيث يقطع بحسن ذلك، و مانحن فيه أيضاً، يكون التسامح فيه بناء علي هذا المبني العقلاني من مصاديق الانقياد و الاحتياط الراجح.

لكن لو ذهبنا إلي أنه هل يمكن اصطياد الندب الشرعي المولوي عن قاعدة التسامح أم لا؟ و بعبارة أخري قلنا: بأنه هل يمكن ثبوت التسامح الشرعي في المقام بأن يقال بترتّب الندب المولوي الشرعي بمجرّد قيام خبر ضعيف، نظراً إلي أخبار الباب أم لا؟

فيحسن بناء علي ذلك المبني و اللحاظ أو يمكن علي الأقلّ أن ينفي التسامح المذكور و لا بأس بذلك، لأنّ غاية الأمر بناء علي نفي التسامح الشرعي أن الشارع المقدّس لا يعامل مع العمل الذي ورد فيه خبر ضعيف دالّ علي كونه مندوباً، معاملة المندوب الشرعي علي النحو الذي لو كان الخبر صحيحاً كان الاستحباب ثابتاً، بل قد عرفت نظراً إلي المباحث السابقة أن مقتضي صحة المبني القائل بإرشادية الأخبار إلي نفس الحكم العقلي بحسن الانقياد المتمثّل بالتسامح هنا، بطلان القول بثبوت الاستحباب الشرعي مستقلاً عن حكم العقل بحسن العمل المأتي به لرجاء مطلوبيته.

ص: 188

التنبيه الثاني و الثلاثون: جريان قاعدة التسامح في حقوق الناس

كلّ ما مثّلنا به من موارد القاعدة كان منحصراً بحقوق اللّه سبحانه وتعالي فنبحث هنا عن شمول القاعدة لحق الناس وحينئذ نقول: اانّ حكم العقل باعتبار القاعدة عام شامل لمصاديق كثيرة جداً كما عرفت ولذلك السريان والإطلاق تكون القاعدة شاملة لحقوق الناس المحتملة لوحدة المناط بين حقّ اللّه تعالي وحقوق مخلوقاته حيث يرجع حقّ الناس إلي لزوم مراعاة حقّ اللّه تعالي المعطي هذه الحقوق للناس، كيف؟ فإنّ كلّ ما بالعرض لابدّ من أن ينتهي إلي ما بالذات فالقاعدة جارية في كلّ واحد من المجالين علي حد سواء.

بل ربّما يدّعي كون جريان القاعدة في مورد حقوق الناس بالأولوية لأنّ اللّه تعالي علمنا من مذاق الأخبار أنه يمكن أن يتسامح في حقوقه علي العباد، لكن الروايات الواردة والأخبار المحكية بشأن حقوق الناس ترشدنا إلي أهمية وخطورة مراعاة هذه الحقوق المجعولة لكلّ واحد من الناس قبال الآخرين ويتأكد الحق الشرعي بينهم كلّما كانت العلائق أوثق كما في الجار مع جاره أو الأصدقاء والإخوة بالإيمان المعدودة لهم وعليهم حقوق كثيرة في الأخبار، فلو احتملنا رجحان فعل حسن أو ترجيح ترك فعل قبالهم، يتعين ذلك لقاعدة التسامح.

ص: 189

التنبيه الثالث و الثلاثون: نسبة الأصول العملية مع قاعدة التسامح في أدلّة السنن

إنّه يمكن ان يتوهّم تعارض بين ما يستفاد من الأصول العملية النافية أو المثبتة للأحكام الأربعة ومفاد القاعدة، فلابدّ من بسط المقال في هذا المقام لينجلي الحق فيه بعون اللّه سبحانه وتعالي فنقول: الأصل العملي هنا اامّا مثبت للحكم أو ناف فالأول كما في أصالة بقاء الندب السابق والثابت بالدليل المعتبر والنافي كما في أصالة بقاء عدم ورود الندب أو الكراهة عن الشارع علي نحو الأصل العدمي القهقرائي وكذلك يمكن التمثيل للأصل النافي للحكم الفلاني بأصالة البرائة عن الوجوب فيما احتمل الوجوب واريد الانقياد باتيانه.

لا يخفي أنّ الاستصحاب المثبت لبقاء الندب السابق يترتب عليه ثبوت الندب فلا يبقي مجال للظن الغير المعتبر والاحتمال المتعلق بالندب في اللاحق وأمّا استصحاب نفي الندب علي نحو الأصل العدمي القهقرائي أو المستقبلي علي القول به فاانّه واان يترتب عليه نفي الاستحباب إلّا أنّ ما يستفاد منه نفي الندب ظاهراً لا نفي جواز الانقياد وترتّب الثواب عليه، فما يترتّب علي هذا الأصل لا يمسّ ولا يتنافي مع حسن الانقياد وترتب الحسن والثواب عليه، وهكذا يقال بالنسبة إلي أصالة البرائة فاانّ من يريد ان ينقاد باتيان محتمل الوجوب مع عدم دليل معتبر نفياً وإثباتاً في المقام فاانّ أصالة البرائة وإن ينتفي بإجرائها احتمال الوجوب وكذا الحرمة لكن المستفاد منها نفي اللزوم لا نفي ما يترتب علي الانقياد من الثواب والأجر .

ص: 190

أمّا جريان أصالة البرائة لنفي الندب والكراهة فهو محل إشكال جداً لعدم اللزوم الذي هو موضوع البرائة فيهما وأمّا الابتلاء بالآثار الوضعية والتكوينية فيهما فتكفّل البرائة لنفيهما أول الكلام ومحل نظر ودعوي الإطلاق مندفعة والأقلّ كونها مشكوكة لاختصاص أدلة البرائة بالتشريعيات وأمّا الأصول العملية الأخري كالتخيير والاحتياط فلا يجريان لاختصاصهما باللزوم المنتفي هنا وفي القول بجريان الاستحبابي منهما وجه قوي كما عرفت.

التنبيه الرابع و الثلاثون: وجه تخصيص القاعدة بالسنن والمندوبات في كلمات الأعلام

قد مرّ ملاك البحث ولزوم القول بالتعدي إلي الأحكام الأربعة بأقسامها الكثيرة، كل ذلك لاتحاد المناط وجري ذلك الحكم العقلي بلا تفاوت في هذه الموارد ولكن في بعض الأحيان الأحكام العقلية المعتبرة تكون مغفولاً عنها عند الناس والشارع يرشد ويذكّر الناس بها بخلاف تلك الأحكام العقلية الّتي لا تحتاج إلي مذكّر كقبح الظلم وحسن بل لزوم العدل، فالشارع بناء علي ذلك أرشد الناس إلي هذه القاعدة العقلية في خصوص الندب فكان سبب الالتفات إلي القاعدة الكلية هذه الرواية الواردة في مجال خاص ولذلك سميت القاعدة باسم ذلك المورد الخاص الجزئي ولكنّه لا يوجب عدم جواز التعدي وهذا أصل مسلّم كلّي شائع حيث ينتقل الإنسان في أحيان كثيرة من استقراء الجزئيات وقياس البعض منها إلي بعضها الآخر إلي حكم كلّي عام.

اان قلت: اانّ الناس لم يكن كلّ واحد منهم غافلاً وذاهلاً عن هذه القاعدة فلا

ص: 191

يصدق الإرشاد بالنسبة إلي تلك الطائفة هنا.

يجاب عن ذلك بأنّ الخطابات المطلقة والعامة ليست كالخطابات الخاصة الجزئية بل هي تنحلّ بعدد أفراد المخاطبين والمكلفين فلو كان المكلف عالماً فيصدق أنّ الشارع ركّز علي القاعدة له للتأكيد وفي خصوص الجاهل يصدق الإرشاد له إلي ما يحكم به العقل وقد غفل عن ذلك الحكم.

بل ربّما يقال: اانّ الشارع أصدر هذه القاعدة وأمثالها لخصوص موضوعها وهو الجاهل ولم يلاحظ العالمين والملتفتين إلي القاعدة ليشكل بالإيراد المذكور، فكيف كان لا يقدح هذا الكلام في مقام البحث والمسألة كما هو أوضح من أن يخفي لما عرفت من تقرير اندفاع الإشكال.

ص: 192

التنبيه الخامس و الثلاثون: إشكال علي الحسن العقلي في قاعدة التسامح

لابدّ وأن يقال - بناء علي الإشكال في حسن قاعدة التسامح عقلاً - إمّا تكون هذه القاعدة تعبدية شرعية أو يقال بعدم الدليل عليها لو لم نقبل دلالة الأدلة النقلية علي وجه المولوية وذلك كله لامتناع القول بالحسن العقلي في قاعدة التسامح ليكون هو الدليل علي الانقياد وحسنه فاامّا نقول بعدم الاعتبار أو شرعية القاعدة وأمّا الإشكال الذي يورد به علي من يدّعي حكم العقل بحسن الانقياد فيقرّر علي هذا النحو التالي:

اانّ الأحكام الّتي للعقل فيها دلالة يمكن مشاهدة تجسّد تلك الأحكام عملياً في الواقع الخارجي بواسطة رؤية ما عليه السيرة العرفية العقلائية، فلو كان الحكم العقلي هو حسن التعبد الانقيادي والخضوع التامّ للّه تعالي، فلماذا العقلاء يذمّون المنقاد والراجي جلب نظر من هو أعلي منه رتبة ومنزلة بالاحتياطات ويقولون في حقّه بما يشينه ويسمّونه متملّقاً ومرائياً؟

الجواب عن هذا الكلام أن يقال: اانّ المقطع الأول من هذا الكلام صحيح متين لكن ما ذكرناه في متن الإشكال أخيراً من مذمّة المنقاد بتلك الأوصاف المستقبحة محلّ إشكال جداً لأنّ ما ذكر في هذا المقطع من الإشكال ليس هو الانقياد الذي محل نظرنا في هذا المقام ويعتبر موضوعاً لبحثنا، كيف؟ فإنّ الإشكال المزبور يتوقف قوامه علي تطبيق الانقياد علي شيء ليس انقياداً في واقعه وحقيقته.

بيانُ ذلك أنّ الانقياد والخضوع التام للمولي الحقيقي تعالي أو الموالي العرفية الاعتبارية هو بمعني خلوص القصد لكسب رضي المولي باتيان ما هو محبوب له أو

ص: 193

محتمل كونه كذلك وترك ما هو مبغوض ومحتمل كونه كذلك، وهذا هو محطّ نظرنا في السيرة العرفية العقلائية ودائرة أحكام العبودية للشارع الأقدس ويسمّي انقياداً وأمّا اتيان المحتملات لبلوغ مرتبة ونيل مقام لدي المولي بدون المطاوعة القلبية لرضي المولي وأغراضيه فهو نفاق وليس انقياداً.

بل ربّما يمكن القول بأنّ ذلك أيضاً يشتمل علي حسن مصلحة وإن كان عمله ليس كمن يعمل خالصاً لمولاه كما ورد في الحديث العلوي تقسيم العبادات، فإنّ الانقياد ولو للمتملق في المجالات العادية العرفية صادق لكن في درجة أضعف والتملق في دائرة أحكام الشرع مع عدم الانطباع القلبي الشرعي وعدم تعلق الفكر بتحصيل رضي المولي حقيقة صادق.

نعم الذمّ إنّما يكون لإرائة هذا الفرد خلاف واقعه وباطنه فيشبه عمله النفاق ولا أقلّ من القول بغفران الأمر المذكور وعدم قدحه في صدق الانقياد في خصوص دائرة الانقياد للّه تبارك وتعالي واان كان لا حسن فيه أحياناً في مجالات العرف.بهذا قد اتضح المراد من الانقياد وهو الانقياد الخالص القلبي الحقيقي فيترتب عليه في حكم العرف العقلائي والمجالات العامة العادية وكذا في دائرة الأحكام الشرعية والعبودية الحقيقية للواجب تعالي الحسن العقلي والمدح للمنقاد، أمّا الانقياد النفاقي المسمّي بالتملّق في دائرة العرف والشرع فهل يلحق بالانقياد الحقيقي الخالص؟

الظاهر انّه واان كان العرف يأبي التحسين والمدح له لكن مقام الباري تعالي وفضله العميم لا يمنع ذلك فلا يقاس مقام الممكنات والعرف بملاكات الحكم عند الشارع

ص: 194

الواجبي بالذات اللامتناهي.

يمكن أن يوجّه تعدية الحكم بأنّ العرف واان كان متقذراً عندهم عمل المتملّق لكن إذا نظرنا إلي هذه القضية من طرف الآمر فلا قبح فيه بل هو يحبّذ علي الطاعة المطلقة منه؟

جواب ذلك انّ الآمر العرفي من العقلاء والشارع الأقدس هو سيّد العقلاء فكيف يتمشّي هذا الكلام بالنسبة إليه؟ فهو يحكم علي وفق ما يحكم به العقل القطعي وقد جعل العقل رسولاً وشرعاً باطنياً لعباده، كيف؟ والشاهد علي هذا الذي قلناه تحريم الشرع للتملق فيما بين الناس كما لا يخفي علي من راجع مجال البحث عن التملق.

اللَّهمَّ إلّا أن يقال بتحريمه إذا اشتمل علي كذب ومعصية، فكيف كان لا إشكال في عدم حسن هذا الانقياد في دائرة العرف خاصة وفي دائرة الشرع لا يبعد أن يأتي به ولو مع هذا الحال رجاء ولكن لا يحكم العقل بترتّب شيء لا نفياً ولا إثباتاً لعدم وقوفه علي ما في نفس الأمر وصقع الواقع، فإنّ العقل وإن كان يدرك الكبريات الكلية العقلية أولاً وبالذات أو بعد تنبيه الشارع إيّاه عليها، لكن بعض الصغريات والمصاديق الجزئية والموضوعات الخاصة قد لا تصل يد العقل الإمكاني إليه كما في مقام البحث وغيره من أمثاله وبهذا قد تمّ الكلام عن هذه المسألة الهامة المتوقف عليها تعيين الانقياد الذي هو موضوع لقاعدة التسامح.

ص: 195

التنبيه السادس و الثلاثون: اتيان المندوب بقاعدة التسامح في الصلاة وحكم أقسام هذا التصور

يجدر أن نذكر المبنيين السابقين في هذا المجال لاختلافهما حكماً فنقول بعونه تبارك وتعالي: اامّا نقول بإثبات الاستحباب الشرعي بواسطة قاعدة التسامح، فعندئذ فهو مستحب شرعي حقيقة ويكون حكم اتيانه في الصلاة كحكم سائر المندوبات الثابتة بالأدلة المعتبرة ولكن لو قلنا بعدم ثبوت الاستحباب الشرعي وكون الثواب والحسن إنّما تعلّق بالانقياد لا بنفس العمل بما هو هو بحيث لم يكن مستحباً في نفسه والثواب يعرض له، فعندئذ نحتاج إلي ذكر شيء يبيّن واقع الحال في هذه القضية والفرض، لأجل ذلك نقول:

بأنّ نفس العمل ليس مستحباً كما مرّ ليكون كسائر الأعمال المندوبة كما في الصلاة علي محمد وآله وأذكار اللّه الدالة علي أوصافه المختلفة المقدسة بل الاستحباب إنّما طرء علي العمل بوصفه انقياداً والمستحب هنا هو الانقياد، فلو أراد المكلف بناء علي هذا المبني أن يأتي بالعمل المحتمل كونه مندوباً في داخل الصلاة فهو يدخل عملاً مندوباً في الصلاة لا ذكراً مندوباً، فتصل النوبة إلي أن نقول هل إدخال الأعمال المندوبة لا الأذكار المستحبة في الصلاة مبطل لها أم لا؟

الظاهر أنّ العمل المندوب كالعمل المحرّم الذي يفعله -معاذ اللّه-في الصلاة فكما لو نظر إلي الأجنبية مثل-اً فاانّه يفعل حراماً مع اتيانه بالصلاة - لا في مثل العناوين الانطباقية كالغصب المتحد مع الصلاة - فكذلك لو أتي بالمندوب كالنظر إلي وجه

ص: 196

الوالدة بالمحبّة أو أتي بالانقياد في الصلاة فاانّه أيضاً لصدق اتيانه بالصلاة مع المندوب العملي لا إخلال من ناحية الزيادة ولكن هذا لا يكفي في حلّ المسألة والمشكلة في المقام الذي نحن فيه لأنّ العمل الصامت كالمثال المزبور ليس مورداً لكلامنا بل مرادنا العمل الندبي بالانقياد وانطباقه عليه، والذي يلاحظ فيه جانب الذكر أي الانقياد المندوب والمتمثل بالذكر فهل هذا الذكر الذي ليس معلوم الندب وإنّما المعلوم ندبية الانقياد يوجب إدخال هذا الذكر خللاً في الصلاة أم لا؟

وبعبارة أخري هل إنّ إدخال الذكر الذي ليس من كلام الآدمي بل هو ذكر ليس من ذلك السنخ وإنّما يحتمل كونه محبوباً مندوباً للشارع يخلّ بالصلاة المقيّدة بعدم الزيادة فيها حتي من أجزائها فكيف بغيرها؟

الظاهر خروج هذا السؤال والجواب علي وجه التفصيل عن محلّ الكلام وإنّما نتعرّض في غاية الإجمال وعلي اللّه الاتكال:

لا يبعد أن يقال بأنّ فعل الانقياد العملي عمل مستقل لا دخل له في الصلاة نفياً ولا إثباتاً وأمّا الذكر الذي يتجسّد به الانقياد العملي الخارجي فإن صدق عليه لفظ ذكر اللّه تعالي، فبناء علي كون ذكر اللّه حسناً علي كلّ حال لو قيل به وإطلاق الأدلة في جواز اتيان المكلف في الصلاة بما يصدق عليه لفظ ذكر اللّه تعالي فالجواز له وجه.

ص: 197

التنبيه السابع و الثلاثون: انتفاء وجود دليل روائي في مورد قاعدة التسامح في أدلة السنن

قد يقال: إنه ليس دليل نقلي ولا رواية في مقام الاستدلال علي قاعدة التسامح في أدلة السنن والمندوبات سواء حملنا تلك الروايات علي كونها مولوية مستقلة في مناطها أم علي الإرشادية والسرّ في هذا القول ظهور بعض الأخبار من طائفة الروايات الّتي ذكرناها في أنّ اعتبار الروايات الدالة علي مفروضية الندب مسلّم مفروغ عنه وإنّما المكلف يشكّ ويتوهم عدم ترتّب الثواب، فالأخبار هنا تدلّ علي الحثّ والتشويق له للاتيان بتلك الأعمال كيف؟ فإنّ قوله(عليه السلام): «من بلغه شيء من الثواب علي شيء من الخير(1)» دالّ علي مفروغيّة الخيرية في الشيء الوارد في استحبابه الخبر وذاك الفرض لا يكاد يصحّ إلّا بعد اعتبار الأخبار الدالة علي استحباب الفعل الفلاني، فإنّ هذه الرواية من شأنها أن تصير قرينة المراد الواقعي من الأخبار الأخر المطلقة أحياناً كما هو ثابت في غير واحد من تلك الروايات.

التحقيق في مقام الإجابة عن هذا الإشكال أن يقال: إنه حتي لو فرضنا عدم تمامية دلالة هذه الأخبار علي القاعدة فإنّ العقل هو العمدة، حتي في فرض تمامية دلالة الأخبار أيضاً تكون إرشادية لو فرض القول بدلالتها تامة، لكن الإنصاف هو التمسك للقاعدة بدلالة العقل والإطلاق في جميع الأخبار ثابت فتكون إرشادية حيث يمكن أن يقال: إنّ ظاهر الأخبار الواردة في الباب هو كونها في مقام بيان أنّ المندوب إذا وصل

ص: 198


1- 218. . وسائل الشيعة، ج1، ص 59.

إلي المكلف وكان في الواقع غير مندوب فإنه يثاب المكلف عليه فإنّ حيثية اعتبار الرواية عند المكلف ث-مَّ انكشاف فسادها واقعاً بعد اتيان المكلف بالعمل مسلّم ظاهر في الرواية، لكن لماذا يعطي للمكلف الأجر والثواب؟

فذاك لانقياده وإن كان حين العمل غير ملتفت إلي عنوان الانقياد حيث إنّ موضوع الحكم هنا واقعي لا علمي والتفاتي.

فاتّضح أنّ الأخبار حتي تلك الرواية الّتي عبّر فيها عن لفظة الخير مطلقة وتكون بعد ضمّ دلالة العقل داخلة في المقام من باب كونها إرشادية كما اتضح أيضاً أنّ المكلَّف في بعض الأحيان كما لو كانت الرواية عنده معتبرة ث-مَّ علم فسادها وإن لم يلتفت إلي عنوان الانقياد لكن الثواب المترتَّب عليه لا يتوقف علي التفاته وهذا يعني كون الموضوع أمراً واقعياً لا ذكرياً وعلمياً.

نعم لو علم بضعف الرواية وعدم اعتبارها فاتيانه بالعمل المحتمل كونه ندباً من باب الانقياد ملتفت إليه تفصيلاً.

أمّا بناء علي دلالة القاعدة علي الندب الشرعي، فنقول بأنّ الظاهر حمل الروايات علي المعني الأعمّ بقرينة الأخبار الكثيرة المطلقة الأخري ولكن ثبوت ملاك الإثابة في فرض ثبوت الخيرية في العمل آكد.

ص: 199

التنبيه الثامن و الثلاثون: تأثيرات القاعدة في الآثار الفردية وغيرها

إنّ أحكام الإسلام سواء الإلزامية منها أو الترخيصية تنقسم إلي أحكام فردية شخصية وأحكام تلاحظ بالنسبة إلي الطائفة والمجتمع والكتلات الاجتماعية المختلفة(1)، فأمّا الأمر بالنسبة إلي الأحكام الّتي هي من سنخ القسم الثاني فلا إشكال فيها، أنّها تقوم بذلك الجمع الذي يتعلّق بهم الحكم ولكن القسم الأوّل وهو كالصلاة والصوم ووجوب الحج لكلّ مستطيع فإنّها وإن كانت أحكاماً فردية حيث يلاحظ في موضوع الحكم المكلف الخاص، لكن لم يقطع الإسلام ارتباط الفرد مع المجتمع مطلقاً ولو في هذه الأحكام الفردية، بمعني أنه ليس هناك حكم فردي وشخصي لا يؤثّر في الفرد والاجتماع مقابل الأحكام الّتي تعتبر من مصاديق القسم الثاني بل الأمر بالعكس، لتلك الأحكام الفردية تأثيراتها علي المجتمع كالصلاة الّتي تنهي الفرد عن الفحشاء والمنكر(2) ويؤثّر اتيان هذا العمل الفردي في إصلاح المجتمع فكيف بتلك الأحكام المرتبطة أولاً وبالذات بالاجتماع؟!

فإذا عرفت هذه القاعدة الكلية والمقدّمة الأساسية فتعرف لزوم ترقّب هذه الفائدة ذات النطاق الوسيع والشاملة للفرد والمجتمع معاً من هذه القاعدة الّتي بحثنا عنها في مختلف الشؤون المرتبطة بها، فإنّ التأثيرات الثابتة للقاعدة علي الجوانب الفردية والجمعية هي محطة الكلام هنا بعد أن تقرّر في محله أنّ الحكيم تعالي هو يضع كلّ شيء في الموضع المتناسب معه

ص: 200


1- 219. . راجع للتحقيق الأكثر المباحث الأصولية، ج1، ص2، العقائد الإسلامية، ج2، ص249.
2- 220. . العنكبوت، 45.

ولا يفعل العبث وما لا فائدة فيه(1) وقد ثبت كلّ ذلك في جميع الأحكام الإسلامية الفردية والجمعية، فنبحث هنا عن قاعدة التسامح ومنافعها في دائرة المجالات الفردية والجمعية. لكن لا يلزم أن يكون كلّ واحد من هذه الأمور الّتي نذكرها علة تامّة لجعل قاعدة التسامح كيف؟ فإنّ التسامح أمر واحد ويستحيل أن تؤثّر فيه علل متعددة كلّ منها تامة في عليّته لأنه من مصاديق توارد العلل التامّة علي معلول واحد(2).

نعم يمكن أن تتصوّر عليّة ناقصة في كلّ واحدة من هذه المسائل المذكورة فيما يلي بل ربّما تكون هناك مصالح أخر غير واصلة إلينا ولا نحتملها كما يحتمل أن لا تكون بعض المصالح الّتي تذكر هنا م-مّا لها دخل في صقع الواقع وإنّما نحتمل كونها دخيلة في مرحلة الظاهر.

الفائدة الأولي: تقوية الإرادة لاتيان الواجبات وترك المحرّمات وكذلك المندوبات والمكروهات التي يعلم المكلف بها في ظلّ دليل معتبر

إنّ المكلف إذا تعاهد اتيان الواجبات والمندوبات وهكذا ترك المحرّمات والمكروهات الّتي يحتمل صدورها وكونها قطعية في عالم الواقع ونفس الأمر، فإنّه تتقوّي إرادته لاتيان ما هو معلوم من تلك الأحكام الأربعة بطريق أولي كيف؟ فإنّ الإرادة أمر باطني نفساني فإذا كانت هناك ممارسة دائمية من الفرد لتنمية هذه القوّة الهامة في دائرة الأفعال فإنّها تتقوّي وتزدهر شيئاً فشيئاً حتي تصير الإرادة القوية ملكة للفرد ويستطيع اتيان الأفعال

ص: 201


1- 221. . قواعد المرام، ص 123.
2- 222. . نهاية الحكمة، ج1، ص 286.

الّتي تناسب تلك الإرادة المزدهرة بسهولة، فمن العلل الناقصة المحتملة في المقام والمنافع الهامّة المترتبة علي هذه القاعدة ذات النطاق والشمول الواسع تقوية الإرادة.

هذا من الجانب الفردي للقضية لكن إذا لاحظنا جانب القضية باعتبار تأثيرها في المجتمع بناء علي ذلك الأصل الكلي، فإنّه تتقوي إرادة الفرد لأموره الجمعية ويزدهر المجتمع الإسلامي الذي يتشكّل من هذه الأفراد الملتزمين لممارسة إرادتهم في أمورهم الشخصية.

الفائدة الثانية: تقوية جانب النظم في الأمور الفردية وغيرها

يترتّب علي تعاهد هذه القاعدة تنمية قوة النظم في المجالات الفردية والأمور الاجتماعية فإنّ لحاظ الأمور الدقيقة الّتي تكون مغفولة عند عامّة الناس يوجب زيادة التركيز علي الأمور الجزئية ويجمع للإنسان فكره وحواسه الظاهرية والباطنية لعدم تساهل في أموره العبادية وغيرها وهذا الأثر أيضاً عامّ جار في المجالات الفردية ويسري إلي المجتمع الإسلامي.

فإذن يمكن اعتبار هذه القاعدة من أهمّ أركان ومقدمات تحصيل النظم الفردي والجمعي وكلّنا نعرف أهمية النظم في السير العقلائية والآيات والأخبار المتكثرة المتعددة الّتي هي إرشادية إلي ما يحكم به العقل، فإنّ آخر كلام للإمام علي(عليه السلام) آخر حياته هو التوصي بالنظم حيث قال: «أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوي اللّه ونظم أموركم(1)».

ص: 202


1- 223. . نهج البلاغه: الرسالة 47.

الفائدة الثالثة: تنمية التساهل والتيسير في المجالات الشخصيّة الفردية والأمور المرتبطة بالمجتمع

يمكن أن يقال بأنّ مدرك القاعدة وإن كان هو العقل وما وردت من الأخبار إنّما هي إرشادات إلي حكمه إلّا أنّ ترتّب الآثار الأخري الّتي ربّما يكون بينها وبين مفاد القاعدة بونٌ مّا غير بعيد فلا يبعد أن يقال بأنّ التسامح وتنمية روح التيسيرِ الموافقِ لرفع العسر والحرج في السيرة العقلائية والمرتكز في الفطرة والوارد في الأخبار هو من الآثار الآخر لهذه القاعدة، فإنّ من لا يفحص عن واقع الأمر في المندوبات والمكروهات ويأتي انقياداً ورجاء لترتّب المصلحة والمنفعة يقوّي الجانب المذكور من روحية الإنسان .

نعم لا يبعد عدم إمكان الجمع بين هذه الفوائد لأنّ التساهل المزبور ربّما يقال بعدم إمكان اجتماعه مع روحية النظم الأكيد والإرادة القوية فتأمّل.

الفائدة الرابعة: تبليغ الشرع المقدّس بأعلي درجاته وأفضل الطرق المؤثّرة لمن ينظر إلي هذه الديانة الشريفة

إنّ التجربة والعقل يؤيّد كل واحد منهما ثبوت التأثير المتضاعف للعمل بدل القول، فإنّ من يعمل بفعل حسن فهذا الفعل الصادر منه يكشف عن ترسّخ إرادته في وجوده وأين هذا مع مجرد الكلام الذي لا كشف به عن ترسّخ الإرادة في وجوده بهذه الدرجة من الكاشفية الّتي في الفعل ويؤيّد هذا الحكم المتسالم عليه الحديث الشريف الوارد عن الإمام الصادق(عليه السلام)حيث يقول: «كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم»(1).

ص: 203


1- 224. . بحار الأنوار للعلامة المجلسي؟ره؟، ج 5، ص 198.
التنبيه التاسع و الثلاثون: نسبة قاعدة التسامح مع القواعد الّتي لوحظ فيها جانب التيسير ورفع التكاليف الشاقة كقاعدة لا ضرر ورفع العسر والحرج

قد يقال بأنّ العلقة بين قاعدة التسامح وقواعد رفع العسر والحرج ولا ضرر وثيقة بل يذهب البعض من الباحثين في المقام إلي إمكان الاستدلال أحياناً بإحدي هذه القواعد علي القاعدة الأخري مثل-اً بأن نثبت بقاعدة لا ضرر ولاضرار اعتبار التسامح وقد ألمحنا فيما سبق من المنافع والفوائد الّتي نحتمل دخلها في القاعدة ترتّب التّساهل علي الملتزم بااجرائها واان مرّ الإشكال فيه وأنه لا يكاد يجتمع مع بعض الثمرات الأخري كتقوية الإرادة والجزم وتنمية الهمة والنظم.

لكن التحقيق الذي يفيدنا في هذا الفصل بل ربّما في مبحث المنافع والثمرات المترتبة علي القاعدة انّ المقصود من جعل القاعدة تكويناً ث-مَّ تشريعاً وتقريراً بناء علي ما مرّ من مراحل الجعل لها، ليس إلّا بذل الطاعة التامة والانقياد الكامل وربّما فيه تكلف زائد وبذل مؤونة أزيد فكيف يقال بأنه يراعي فيه أن تنمي قوة التساهل في الأمور الدنيوية والجزئية والمسائل الفردية والاجتماعية؟!

فبهذا ينكشف الإشكال في هذه المقالة الّتي ذكرها ذلك البعض ممّن بحث عن القاعدة في بعض المجلّات والمقالات المنشورة (1) مدعياً لهذه العلقة المذكورة.

ص: 204


1- 225. . جايگاه تساهل وتسامح در قوانين حقوقي واجتماعي اسلام، مجله قبسات، شماره 32.

تطبيقات عملية لقاعدة التسامح

اشارة

من الجدير بالذكر أن نذكر عدّة أمثلة فقهية لهذه القاعدة لنلمس منصّة القاعدة في عالم الإثبات بعد تمامية البحوث المرتبطة بالقاعدة ثبوتاً:

1- قول الشهيد الأوّل في الذكري

قال الشهيد(قدس سره):

قال صاحب الروضة: هذا التلقين استحبّه جماعة من أصحابنا منهم القاضي حسين وصاحب التتمة ونصر المقدسي في كتاب التهذيب وغيرهم ونقله القاضي حسين عن أصحابنا مطلقاً والحديث الوارد فيه ضعيف لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم وقد اعتضد بشواهد من الأحاديث الصحيحة كحديث إسألوا اللّه له التثبيت... (1).

البحث هنا عن تلقين الميت بدعاء قد ورد فيه خبر متّصف بالضعف في هذا الكلام الذي نقلناه وذاك الخبر هذا نصّه :ياعبد اللّه بن أمة اللّه، أذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة ان لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه وانّ الجنة حقّ وأنّ النار حقّ وانّ الساعة آتية لا ريب فيها وانّ اللّه يبعث من في القبور وأنّك رضيت باللّه ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمّد نبيّاً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً.

والظاهر ضعف السند لكونه عامياً كيف؟ فإنه نقل هذا الخبر عن المذهب الشافعي لكن قاعدة الانقياد تجري فيه بلا إشكال حيث لا نري مانعاً من ذلك من دلالة دليل

ص: 205


1- 226. . ذكري الشيعة:ج 2، ص 34.

معتبر علي خلافه كما لو كان مخالفاً لما هو معلوم قطعي في المذهب الحقّ الإمامي.

2- قول العلامة الخوانساري(قدس سره) في مشارق الشموس

قال(قدس سره) في بحث ندبية التوضؤ لحمل المصحف:

لم نقف في الروايات علي ما يدلّ علي الأمر بالوضوء للصلاة المندوبة مطلقاً بل في بعض الصلوات بخصوصه.

نعم الاشتراط في الجميع يدلّ عليه الروايات مثل قوله(عليه السلام): لا صلاة إلّا بطهور والصلاة ثلاثة أثلاث، فحينئذ اامّا ان يتمسك في عموم الاستحباب للصلاة المندوبة بعموم الاشتراط بناء علي أنّ شرط المستحبّ مستحبّ كما أنّ شرط الواجب واجب أو بالإجماع كما نقله العلماء وأمّا استحبابه للطواف المندوب واشتراطه به وعدمه فسيجيء إن شاء اللّه تعالي في كتاب الحج وحمل المصحف لم نقف في الرواية علي ما يدلّ عليه والعلامة في المنتهي والنهاية والمصنف في الذكري علّلاه بالتعظّم ولا يخفي انّ إثبات الحكم به مشكل لكن لا بأس للقول به للشهرة بين الأصحاب بناء علي التسامح في أدلّة السنن... (1).

لا يخفي أنّه واان جعل خصوص استحباب الوضوء لحمل القرآن من مصاديق قاعدة التسامح في أدلة السنن لكن يمكن أن يقال علي نحو الإشكال عليه أم علي وجه آخر بأنه تجري القاعدة بالنسبة إلي الطواف واستحباب الوضوء له وكذا بالنسبة إلي استحباب الطهارة الحدثية في الصلوات المندوبة، فإنّه في خصوص الوضوء للصلوات

ص: 206


1- 227. . مشارق الشموس: الطبع القديم، ص 34.

المندوبة وإن يمكن القول بعدم ورود رواية أو وردت رواية مع الخدشة فيها دلالة مثلاً، كما يؤيّد عدم وصول حجة في المقام علي استحباب الوضوء الفحص الإجمالي الذي بذلناه لتحقيق الواقع في المقام، لكن إجراء قاعدة التسامح بلا إشكال وهكذا الأمر في خصوص حمل القرآن الكريم فإنه لا يوجد لذلك دليل معتبر شرعي ودلالة الأدلة الّتي تبيّن حرمة المسّ بغير وضوء لا تتكفّل لبيان لزوم أو حتي استحباب الوضوء لحمل المصحف.

فهذه الأمثلة الأربعة الّتي لا دليل معتبر فيها كما شاهدنا ذلك في الرواية العامية لبيان كيفية التلقين وهكذا في هذا المقام، يجوز فيها إجراء القاعدة لكن مقيّدة بتوفّر الشروط اللازمة الّتي منها عدم قصد الورود وعدم كون العمل ثابتاً خلافه بالدليل المعتبر الشرعي فيما بأيدينا من الروايات الأخر.

3- قول السيد اليزدي(قدس سره) في العروة

قال السيد(قدس سره):

و يستحبّ أن يقدّم الاستنجاء من الغائط علي الاستنجاء من البول... .(1)

فاانّه وإن وردت فيه الرواية الموثّقة عن عمّار عن الإمام الصادق(عليه السلام) حيث ذكر السائل: سألته عن الرجل إذا أراد أن يستنجي بالماء يبدء بالمقعدة أو بالإحليل؟ فقال: بالمقعدة ث-مَّ بالإحليل(2) لكنه لو بنينا علي عدم ثبوت الاستحباب الشرعي لتقديم

ص: 207


1- 228. . العروة الوثقي:ج 1، ص 343.
2- 229. . وسائل الشيعة، ج1، الباب الرابع عشر من أحكام الخلوة.

الاستنجاء عن الغائط يدخل البحث في محلّ الكلام والسرّ في ذلك أنه ربّما يرشد الشارع إلي طريق الاستنجاء الأسهل أو لمصالح أخري ولكن مجرد هذا لا يعدّ دليلاً علي أنّ هذا العمل محبوب لدي الشارع الأقدس وهو يحبّذ عليه كما يحثّ لاتيان صلاة الليل وهكذا، فإذا سلّمنا ذلك أو ضعف الدلالة وإجمال الخبر فجريان القاعدة خال عن الإشكال، اللَّهمَّ إلّا أن يدّعي ثبوت الاستحباب الشرعي لعدم الاعتبار بالقياس والذوقيات الغير المعتبرة وأنّ المصلحة كيفما فرضت فإنّها توجب ثبوت الندب وصدق الاستحباب علي العمل.

4- قول العلامة الخوانساري(قدس سره) في مشارق الشموس

قال(قدس سره) في بحث استحباب الوضوء قبل الغسل :و في التهذيب يستحبّ مع غسل الجنابة والمشهور عدم الاستحباب ومستند قول الشيخ(قدس سره) روايتا أبي بكر الحضرمي ومحمد بن ميسر السابقتان في البحث المذكور ولا يخفي أنّ القول باستحباب الوضوء قبل الغسل لا بأس به بناء علي التسامح في أدلّة السنن لروايتين وعدم معارض ظاهر لأنّ ما ورد من أنه لا وضوء فيه يحمل علي الوجوب وما ورد من أنّ الوضوء بعد الغسل بدعة لاينافيه... (1).

يتضح من خلال التأمل في هذا الكلام أنّ توصيفه للوضوء بالندب بهذا النحو يدلّ علي ضعف الروايتين وأنّه لا يكاد يثبت بهما الندب الشرعي لولا قاعدة التسامح عقلاً مع أنّ

ص: 208


1- 230. .مشارق الشموس: ج1، ص348.

عدم المعارضة الذي هو شرط أساسي في بحثنا قد ذكره العلامة الخوانساري(قدس سره).

5- كلام السيد اليزدي(قدس سره) في العروة

قال السيد(قدس سره):

الرابع لتكفين الميت أو دفنه بالنسبة إلي من غسله ولم يغتسل غسل المس(1).

و الفحص يشهد بعدم دليل في استحباب الوضوء لتكفين الميت فلابدّ أن يستند القول بذلك إلي قاعدة التسامح في المندوبات، قال السيد الخوئي(قدس سره) في توجيه الفرع المذكور علي حسب ما في التقرير:

لم ترد أية رواية في استحباب الوضوء في المقام وليس في المسألة إلّا فتوي الأصحاب بالاستحباب، إذن يبتني الحكم بذلك علي القول بالتسامح في أدلّة المستحبّات وفرض شمول أخبار من بلغه ثواب لفتوي الأصحاب بالاستحباب(2).

6. كلام صاحب الجواهر(قدس سره) حيث قال:

ولا منع في سؤر البغال و الحمير، كما هو المشهور نقلاً و تحصيلاً، كالخيل أيضاً، و ربما زيدالدوابّ، بل كل ما يكره لحمه، كما صرّح به بعضهم و يظهر من آخرين، لتعليلهم الكراهة في المقام بكراهة اللحم، بل يستفاد منه أن ذلك من المسلّمات، و علي كل حال فلعلّ الحكم بالكراهة لمكان التسامح في هذا الحكم، والاحتياط الذي يحسّنه العقل(3).

ص: 209


1- 231. . العروة الوثقي: ج 4، ص 19.
2- 232. . التنقيح في شرح العروة الوثقي، ج5، ص 14.
3- 233. . جواهرالكلام، ج1، ص 381.

7. كلام الأعلام في الاستخارة

من المسائل الكثير ابتلاء الناس بها خصوصاً المتشرعة المتقيّدين بآداب الشريعة المقدّسة الإسلامية، مسألة الاستخارة في الأمور الهامّة التي يتحيّر فيها المكلف، فيستخيرون بالطرق الصحيحة الواردة في الشرع عن الله تبارك و تعالي لاختيار الطريق المشتمل علي المصلحة.

هذا، و قد يقال بكون الاستخارة مندوبة من باب الاستحباب الشرعي المولوي، كما قد يذكر استحبابه من باب التسامح في أدلة السنن و إفادة هذه القاعدة للندبية الشرعية، فالمسألة و إن كان مجال البحث فيها واسعاً جداً و شأنها خطيراً و لنا فيها مباحث دقيقة يقتضيها التحقيق، لكن نجمل الكلام فيها احترازاً عن التطويل الذي لايسعه المقام.

عمدة مدرك الاستخارة التي يحتمل كونها من مصاديق قاعدة التسامح المثبتة للندب الشرعي، علي أحد الأقوال و أحد المبنيين، هي النصوص الواردة في أنحاء الاستخارة، من الاستخارة بالرقاع و البنادق و المصحف و السّبحة و القرعة.

يظهر من صاحب الجواهر(قدس سره) نسبة دعوي الإجماع إلي السيّد بن طاووس(1)، ولكن كون هذا الإجماع غير تعبدي ولا كاشف عن وجهة نظر الشرع الأقدس أظهر من الشمس و أبين من الأمس، لأن من المحتمل جداً استنادهم في محبوبية الاستخارة إلي الأدلة النقلية و احتمال وجود مدرك آخر لديهم منتف بأصالة العدم كما حقّقنا ذلك

ص: 210


1- 234. . جواهرالكلام، ج12، ص 168.

في دروسنا و بعض كتبنا (1).

فالروايات التي في المقام من قبيل قوله(عليه السلام): «من دخل في أمر بغير استخارة ثمّ ابتلي لم يوجر»، و قوله(عليه السلام): «من استخارالله فجائته الخيرة بما يكره فسخط، فذلك الذي يتهم الله(2)»، تدلّ علي مشروعية و صحة الاستخارة.

لكن بحسب رأينا لا يكاد يستفاد في المقام استحباب شرعي، لأن ذلك إنّما يتصوّر حينما تكون في نفس العمل مصلحة مطلوبة للشرع الحكيم راجعة إليه و مشتملة علي شؤون التعبّد و العبودية كما في استحباب التصدّق و زيارة المؤمنين و إدخال السرور في قلوب أهل الإيمان، و إلّا فمثل الاستخارة أو مطلوبية التدبير قبل الدخول في عمل أو كيفية التطهير عن الخباثة و النجاسة الخبثية لايكاد يندرج تحت المندوبات المولوية التي منها الأمثلة السابقة و كون المكلف علي طهارة دائمة و هكذا، و قد أشار إلي إشكال تصوير الاستحباب بعض الأعلام في شروحهم و حواشيهم لبعض المسائل المتناثرة في الفقه(3).

فالاستحباب الشرعي ثبوته لماهية الاستخارة غير خال عن الإشكال، لكن يمكن تصحيح ذلك الاستحباب لها بتكلّف و مؤونة بيان، إلّا أن المهمّ أن نبحث عن نسبة هذه القاعدة مع الاستخارة و أنه هل يمكن القول بكون الاستخارة داخلة تحت إطار مصاديق التسامح في أدلة السنن و المندوبات؟

ص: 211


1- 235. . منهج التحقيق في الاجتهاد و التقليد، اشتراط الأعلمية في مرجع التقليد.
2- 236. . وسائل الشيعة، ج5،ص 204، أبواب الاستخارة.
3- 237. . العروة المحشاة، ج1، مسألة التطهير عن الخبث.

الظاهر أن سند أخبار الاستخارة في رأي الأعلام و الفقهاء الكبار يبتلي بضعف لايكاد يغضّ البصر عنه، فلذلك يدخل هذا المصداق تحت مصاديق التسامح في أدلة السنن ليترتب بعد ذلك، الندب الشرعي، بناء علي الاعتقاد بأنّ مفاد أخبار قاعدة التسامح هو إعطاء الندب الشرعي للعمل المشكوك استحبابه.

قال صاحب العروة(قدس سره) في المقام:

بل أنكر بعض ماعداها م-مّا يشتمل علي التفأل و المشاورة بالرقاع و الحصي و السبحة و البندقة و غيرها، لضعف غالب أخبارها و إن كان العمل بها للتسامح في مثلها لا بأس به أيضاً (1).

كذلك قال صاحب الجواهر(قدس سره) في خصوص المقام ما يلي نصّه:

و إن كان الأظهر أن استحباب الاستخارة بهذا الطريق أو غيره، لاريب في أنه من السنن التي يتسامح في أدلّتها، فلا بأس في نية القربة للمستخير بذلك حينئذ و لا ينافيه اشتمال الدليل علي علامة الخبرة، إذ لاريب في أنّ للفاعل إيقاع فعله كيف شاء و مباح له الفعل و الترك، فلا حرج عليه بإناطة الفعل و الترك بهذه العلامة لاحتمال إصابتها الواقع و لا تشريع فيه.

و من ذلك تعرف أنه لا بأس حينئذ بالأخذ بجميع ما سمعت من أقسام الاستخارات و إن ضعف سند دليل بعضها (2).

ص: 212


1- 238. . العروة الوثقي، ج2، ص 411.
2- 239. . جواهرالكلام، ج12، ص 166.

لكن نحن نعتقد أولاً بأن الأخبار الواردة و الدالة علي الاستخارة و أنواعها أو أحكامها، أخبار كثيرة و أحاديث متعددة متضافرة، فلذلك ليس من البعيد أن ندّعي حصول التواتر الإجمالي علي مبني صاحب الكفاية أو التواتر المعنوي بحسب المختار في المقام، حيث إثبات أصل التشريع للاستخارة بل لبعض أنواعها م-مّا ليس بذلك البعيد.

ثانياً إنّ قاعدة التسامح بناء علي ما مرّ مكرّراً و مفصَّلاً لا تدلّ علي ترتيب الاستحباب الشرعي المولوي، فلذلك حتي بناء علي افتراض ضعف سندي في الأخبار الواصلة المرتبطة بالاستخارة، لايكاد يدخل المقام تحت إطار القاعدة بحيث يثبت بها للاستخارة الندبية الشرعية المولوية ذات المصلحة المستقلة في صقع الواقع.

لقائل أن يقال: إنه لو افترضنا الضعف السندي في مفاد الأخبار الواردة و عدم تكفّل قاعدة التسامح لإثبات الندبية الشرعية، فما هو الرأي المختار للعمل بالاستخارة؟

أقول: إن وجود الضعف السندي في طوائف الأخبار التي تعبّر عن الاستخارة و شؤونها مجرّد فرض، بل لو سلّمنا هذا الضعف المدّعي فهو في البعض منها موجود، لكن بتضافر العديد من هذه الروايات و استفاضتها يرتفع الإشكال في السند كما لايخفي.

فبناء علي عدم ثبوت الاستحباب الشرعي من هذه الروايات الشريفة، يقال بأن الأخبار ترشد إلي طريق الخروج عن التحيّر و الأخذ بالطريق الأصلح للتوصل إلي المصالح المطلوبة الواقعية، كما أنه بناء علي ثبوت الندب الشرعي منها يكون الأمر سهلاً حيث يقال بأن الاستخارة حينئذ مع كونها محرزة للطريق المشتمل علي المنفعة و المصلحة، تتّصف بكونها مستحبّة مطلوبة للشارع المقدّس.

ص: 213

لو سلّمنا مفروض السؤال من عدم إمكان الاستناد إلي الأخبار الموجودة في الباب و رجحان المراجعة أو انحصار الطريق في المراجعة إلي قاعدة التسامح، نقول بأن قاعدة التسامح بناء علي الرأي المختار تدلّ علي الحسن العقلي في مراعاة العمل المحتمل كونه مطلوباً بأن يأتي به المكلف، فعلي ذلك حيث لاطريق للمكلف لإحراز الطريق الأولي لأن يسلكه، يترجّح أن يتطرّق إلي الاستخارة لأنه إمّا أن يكون العملان متساويين عنده في إحراز المصلحة بهما أو أحدهما أرجح بالاستخارة، فلذلك يتعين بحكم العقل أن يختار الطريق المحتمل كونه موصلاً إلي المصلحة بالاستخارة.

هذا الوجه الأخير و إن كان دقيقاً و من أحد مصاديق قاعدة التسامح لكنه قد عرفت كونه مجرّد فرض، نعم البحث مع هذا الفرض أيضاً نافع من حيث دخله و تأثيره في تنمية و تفعيل ملكة الاجتهاد لدي الباحثين.

نذكر كلام أحد المحقّقين من أعلام العصر في خصوص المقام، حيث قال(1):

النصوص الواردة في أنحاء الاستخارة المذكورة و إن كانت بآحادها ضعيفة إلّا أن كثرة ما ورد من النصوص في كلّ واحد من أنحاء هذه الاستخارات و تضافرها يوجب الوثوق النوعي بصدورها في كلّ قسم من هذه الأقسام في الجملة، كما أشارإليه صاحب الحدائق(قدس سره) بعد ذكر أنحاء الاستخارة و نصوصها بقوله: و هذه عشرة وجوه و مجموعها يصلح مدركاً لمثل هذا الأمر و مسلكاً لهذا الشأن و إن تطرّق علي بعضها المناقشة(2).

ص: 214


1- 240. . مباني الفقه الفعال، ج3، ص 408.
2- 241. . الحدائق الناضرة، ج10، ص 533.

أقول: النصوص الواردة في باب الاستخارة بالرقاع و المصحف و السبحة مستفيضة و يحصل الوثوق العقلائي و الاطميناني العرفي منها، و إن يمكن تصوّر ضعف أحياناً في بعضها، و هذا الوثوق النوعي و الارتياح النفساني يكفي في اعتبار الاستخارة و مشروعيتها علي وجه المندوبية أو المحبوبية العقلية خاصة، كيف؟ فإنّ كثرة هذه النصوص الروائية و تعدّدها البالغ يوجب الثقة بمفادها و إن اختلفت مواردها و ألسنة بيانها في الجملة، لكن تشترك الكلّ منها في قدر مشترك جامع و مفهوم واحد.

هذا كله مع إمكان دعوي جبر ضعف سند الأخبار في الجملة، حيث إن بعضها إذا أخذناه بعين الاعتبار يمكن كونه غيرخال عن بعض وجوه الإشكال، فيجبر الضعف لعمل المشهور بها، لكن هذا المبني موافق لما عليه مشهور العلماء الأصوليّين(1) و نحن نخالف جبر الضعف السندي بذلك في محلّه.

قد أشار سماحة السيّد السبزواري(قدس سره) إلي انضباط نطاق الاستحباب الشرعي بما يقرب من مسلكنا حيث قال:

قد جرت سيرة العلماء علي التسامح في المندوبات التوصلية و في أدلة المكروهات و الفضائل و المعاجز و الأخلاقيات و ما ورد لدفع الأوجاع و الأمراض و ما ورد لقضاء الحوائج من الصلوات و الدعوات و غيرها، و ما ورد في الأمور التي لها آثار وضعية دنيوية.

مع أنّ أدلة المقام مشتملة علي الثواب كما مرّ و لايبعد أن يكون الوجه في

ص: 215


1- 242. . مصباح الأصول، ج3، ص 443، منتقي الأصول، ج1، ص 301، نهاية الأفكار، ج4، ص 205.

ذلك أنّهم حملوا الثواب علي مجرّد المثالية، و أنه ذكر من باب الغالب و الترغيب لا الخصوصية(1).

تقريب ذلك أنه ربما لايكون للعمل مصلحة تكوينية واقعية و راجعة إلي الشارع و شؤون العبودية له تعالي، لكن الشارع المقدّس يرغّب في العمل كما في المندوبات الثاب-تة شرعاً، لكي يندفعوا انطلاقاً من تأكيد الشارع لهذه الأفعال ذات المصلحة الراجعة إلي أنفسهم بحيث لو وقفوا عليها و علموا بها حكموا عقلانياً بحسنها و رجحان اتيانها.

اللّهمَّ إلّا أن يقال بأن ظاهر لفظ الشارع يؤيّد ترتب الثواب بناء علي توفّر الإطلاق في الروايات و عدم قرينة علي المبني الذي قلنا، مع عدم كفايته في قبال إطلاق الأخبار الشريفة، و هذا وإن لم يكن غير خال عن التكلف و شوب الإشكال إلّا أنه قابل للذهاب إليه، مع أن لنا تحقيقاً دقيقاً في المقام في محلّه يبتني علي مسألة الانقياد، لانذكره هنا احترازاً عن الإطالة.

و بهذا قد تمّ الكلام عن مباحث هذا الفصل و قد بسطنا الكلام و فصّلنا المقال في خصوص هذا المصداق الأخير، انطلاقاً من كثرة أهميّة هذه المسألة و تنوّع المباحث المرتبطة بها و اختلاف الأنظار التحليلية الاستدلالية بشأنها، و بتتميم هذا الفصل الذي استعرضناه مع تحقيق وتحليل واقع الأمر فيه قد تمّ بحمداللّه المالك الوهّاب سبحانه وتعالي ما أردت بيانه وتسويد الأوراق به وأنا العبد الحقير العاجز المسكين متوسلاً في

ص: 216


1- 243. . تهذيب الأصول، ج2، ص 190.

الدنيا والآخرة بمحمد وآله الأطيبين، و علي الطلّاب الأعزّاء و سالكي طريق الاستنباط و الاجتهاد أن يواصلوا منهج التحقيق و التدقيق في المباحث الفقهية و الأصولية التي بحث عنها العلماء الكرام و كذلك تلك المسائل التي تعتبر مستجدّة و مستحدثة في كل دور من الأدوار الزمنية، و آخر دعوانا أن الحمدلله ربّ العالمين.

7/10/1439 ه-.ق

30/03/1397 ه-.ش

المؤلّف - قم المقدّسة

ص: 217

ص: 218

فهرس المصادر

1. القرآن الكريم

2. نهج البلاغة

3. ابن حزم، علي بن أحمد، الفصل في الملل و الأهواء و النحل، دارالكتب العلمية، بيروت، بيتا.

4. ابن صلاح، عثمان بن عبدالرحمن، معرفة أنواع الحديث، دارالكتب العلمية، بيروت، 1423ه.ق.

5. ابن فارس، أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، 1434ه.ق.

6. ابن قدامة، عبدالله، روضة الناظر، مكتبة الرشد، الرياض، 1406ه.ق.

7. الأسترآبادي، محمدأمين، الفوائد المدنية، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1436ه.ق.

8. الإصفهاني، محمدحسين، نهاية الدراية، نشر مؤسسة آل البيت، قم، 1374.

9. الأنصاري، الشيخ مرتضي، رسائل فقهيّة، كنگره جهاني بزرگداشت شيخ اعظم انصاري، قم ايران، 1414ه.ق، بي طا.

10. الآخوند الخراساني، محمّد كاظم، كفايةالأصول، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء

ص: 219

التّراث، قم، ايران، 1427ه.ق، الطبعة الرابعة.

11. الآمري، عبدالواحد، غرر الحكم و درر الكلم، ترجمه محمد علي انصاري، تهران، 1387.

12. البجنوردي، حسن، القواعد الفقهية، نشر الهادي، قم، 1377.

13. البحراني، شيخ يوسف، الحدائق الناضرة. الطبعة الحجرية، المطبعة العلمية، قم، 1412ه.ق.

14. البشروي الخراساني، عبدالله، الوافية في أصول الفقه، مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الأولي، 1412ه.ق.

15. البهبهاني، محمّد باقر، مصابيح الظّلام، مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني، قم ايران، 1424ه.ق، الطبعة الأولي.

16. جايگاه تساهل وتسامح در قوانين حقوقي واجتماعي اسلام، مجله قبسات، شماره 32.

17. الجبلي العاملي، زين الدين (شهيد ثاني)، الدراية، نشر مكتبة آية الله المرعشي، 1408ه.ق.

18. الجوهري، إسماعيل بن حمّاد، الصّحاح. تحقيق أحمد عبدالغفور العطّار. بيروت: دار العلم للملايين، 1407ه.ق.

19. الحسيني البوشهري، السيد هاشم، القواعد الفقهية بوشهري، مؤسسة أنوار طاها، قم، 1394ه.ش.

ص: 220

20. الحكيم، السيد محمدتقي، الأصول العامة للفقه المقارن، دارالفقه، الطبعة الأولي، 1431ه.ق.

21. الحكيم، السيّد محسن، مستمسك العروة الوثقي، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1404.

22. الحلاق القاسمي، محمد جمال الدين، قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، دارالكتب العلمية، بيروت، 1422ه.ق.

23. الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية، نشر المكتبة العلمية، المدينة المنورة، 2010م.

24. الروحاني، السيد محمد، منتقي الأصول، نشر تك، قم المقدسة، 1393ه.ش.

25. السبزواري، السيد عبدالأعلي، تهذيب الأصول، نشر منا، قم، 1421ه.ق.

26. السبزواري، عباسعلي، القواعد الفقهية، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1438 ه.ق.

27. السبزواري، محمد باقر بن محمد، ذخيرة المعاد، نشر مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، 1421ه.ق.

28. السيفي المازندراني، علي اكبر، مباني الفقه الفعال في القواعد الأساسية، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1434ه.ق.

29. السيوري، الفاضل المقداد، نضد القواعد الفقهية، نشر مكتبة آيةالله المرعشي النجفي(قدس سره)، قم، 1403ه.ق.

ص: 221

30. السيوطي، عبدالرحمن، الأشباه و النظائر، دارالكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1418ه.ق.

31. الشيخ البهايي، محمد بن حسين، الحبل المتين، المحقق: الموسوي الحسيني، نشر آستان قدس رضوي، مشهد، 1392.

32. الشيخ الحر العاملي، محمد بن حسن، المحقق: مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، وسائل الشيعة، الطبعة الأولي، قم، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، 1409ه.ق.

33. الشيرازي، صدرالدين، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1981م.

34. الشيخ الطوسي، أبوجعفر، عدّة الأصول، مؤسسة البعثة، الطبعة الأولي، 1417.1.

35. الصدر، السيد محمدباقر، دروس في علم الأصول، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1406ه.ق.

36. الطباطبايي اليزدي، سيدمحمد كاظم، العروة الوثقي، مكتبة الداوري قم، ايران.

37. الطباطبايي، محمد بن علي، مفاتيح الأصول، نشر لاحياء التراث العربي، قم، 1412ه.ق.

38. الطوسي، الشيخ محمدحسن، الخلاف، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1387ه.ش.

39. العراقي، ضياء الدين، نتائج الأفكار، مجمع ذخاير اسلامي، قم، 1387.

40. العلامة الحلي، حسن بن يوسف، منتهي المطلب، مجمع البحوث الإسلامية،

ص: 222

مشهد، 1412ه.ق.

41. العلامه الخوانساري، حسين، مشارق الشموس، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، قم، 1419ه.ق.

42. عليدوست، أبوالقاسم، الفقه و العقل، معهد أديب الفقه الجواهري، 1395ه.ش.

43. الغروي الإصفهاني، محمدحسين، الفصول الغروية، الطبعه الحجرية، دار أحياء العلوم الإسلامية، 1404ه.ق.

44. الغزالي، محمد، المستصفي من علم الأصول، شركة دارالأرقم، بيروت، 1435ه.ق.

45. الفاضل القائيني، علي، علم الأصول تاريخاً و تطوراً، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، بيتا.

46. الفاضل اللنكراني، محمد، قاعدة التسامح في أدلة السنن، مركز فقه الأئمة الأطهار(عليهم السلام)، قم، 1432ه.ق.

47. الفراهيدي، خليل بن أحمد، كتاب العين، الطبعة الثانية، قم، نشر هجرت، 1409ه.ق.

48. الفرحي، السيد علي، تحقيق في القواعد الفقهية، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1396ه.ش.

49. الكليني، أبوجعفر محمد بن يعقوب، الكافي، دار الكتب الإسلامية، 1407ه-.ق.

50. المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار، الطبعة الثانية، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1403ه.ق.

ص: 223

51. المحرابي، محمد أمين، منهج التحقيق في الاجتهاد و التقليد، نشر آواي بيصدا، قم المقدسة، 1396ه.ش.

52. المحرابي، محمد أمين، نهج الوصول إلي مسائل علم الأصول، نشر آواي بيصدا، قم المقدسة، 1396ه.ش.

53. المحرابي، محمدأمين، تحليل الأنظار في لاضرر و لاضرار، نشر آواي بيصدا، قم، 1397ه.ش.

54. المحقق الحلي، جعفر بن حسن، معارج الأصول، مؤسسة الإمام علي(عليه السلام)، 1437ه.ق.

55. المراغي الحسيني، السيد ميرعبدالفتاح، العناوين الفقهية، دفتر انتشارات اسلامي، 1417 ه- ق، الطبعة الأولي، قم، ايران.

56. المظفر، الشيخ محمدرضا، أصول الفقه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، الطبعة الرابعة، 1370ه.ش.

57. المكي العاملي، الشهيد الأول، الذكري، دفتر نشر اسلامي، قم، 1421، الطبعة الثانية.

58. المكي العاملي، ذكري الشيعة، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، قم، 1377.

59. الموسوي الخميني، السيد روح الله، أنوار الهداية التعليقة علي الكفاية، مؤسسة نشر آثار الإمام الخميني(قدس سره)، 1422ه.ق.

60. الموسوي الخميني، السيد مصطفي، تحريرات في الأصول، مؤسسة نشر آثار الإمام الخميني(قدس سره)، 1415ه.ق.

ص: 224

61. الموسوي الخميني، السيّد روح الله، مناهج الوصول إلي علم الأصول، مؤسسة نشر آثار الإمام الخميني، الطبعة الأولي، 1414.

62. الموسوي الخوئي، السيّد أبوالقاسم، التنقيح في شرح العروة الوثقي، دار الهادي، الطبعة الثانية، 1410.

63. النائيني، الميرزا محمد حسين، أجود التقريرات، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1418ه.ق.

64. النائيني، الميرزا محمدحسين، فوائد الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1438ه.ق.

65. النجفي، الشيخ محمدحسن، جواهرالكلام، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1362ه.ش.

66. النراقي، أحمد بن محمد، مناهج الأصول، منظّمة الأوقاف والشؤون الخيرية، تهران، 1418ه.ق.

67. النووي، يحيي بن شرف، المجموع شرح المهذّب، دارالفكر، بيروت، 1434ه.ق.

68. النووي، يحيي بن شرف، المجموع شرح المهذّب، دارالفكر، بيروت، لبنان، بيتا.

69. الهاشمي الشاهرودي، السيد محمود، بحوث في علم الأصول، المجمع العلمي للشهيد الصدر، 1416ه.ق.

ص: 225

فهرس الآيات القرآنية

«وَمَا جَعَلَ عَلَيكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» 17

«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» 17

«وَلَنْ يجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» 36

«يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» 37

«وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَي أَوْ عَلَي سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيمَّمُوا صَعِيدًا طَيبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا» 57

«لَا يكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» 57

«فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» 57

«وَجَزَاءُ سَيئَةٍ سَيئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَي اللَّهِ إِنَّهُ لَا يحِبُّ الظَّالِمِينَ» 58

«وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَي وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَينَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» 58

«وَالْكَاظِمِينَ الْغَيظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يحِبُّ الْمُحْسِنِين» 58«لَا ينْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيهِمْ إِنَّ اللَّهَ يحِبُّ الْمُقْسِطِين» 59

«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» 59

«قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللَّهِ تَفْتَرُونَ» 65

ص: 226

«أقيموا الصلاة» 79

«وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ» 81

«إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يعْقِلُونَ» 81

ص: 227

فهرس الروايات الشريفة

عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال: «من بلغه شيء من الثواب علي شيء من الخير فعمله كان له أجر ذلك وإن كان رسول اللّه(صلي الله عليه وآله) لم يقله» 89

عن حمدان بن سليمان ق ال: «سألت أباالحسن عليّ بن موسي الرضا(عليه السلام) عن قول اللّه عزوجلّ: «فَمَنْ يرِدِ اللَّهُ أَنْ يهْدِيهُ يشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ...» قال: من يُرد اللّه أن يهديه باايمانه في الدنيا إلي جنّته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم للّه والثقة به والسكون إلي ما وعده من ثوابه حتي يطمئنّ إليه» 89

عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال: «من بلغه عن النبي(صلي الله عليه وآله) شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول اللّه لم يقله» 89

عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال: «من بلغه عن النبي(صلي الله عليه وآله) شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي(صلي الله عليه وآله) كان له ذلك الثواب وإن كان رسول اللّه لم يقله» 90

عن أبي عبداللّه عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلي الله عليه وآله) من وعده اللّه عن عمل ثواباً فهو منجزه له ومن أوعده علي عمل عقاباً فهو فيه بالخيار» 90

عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال: «من سمع شيئاً من الثواب علي شيء فصنعه كان له وإن لم يكن علي ما بلغه» 90

عن محمد بن يعقوب بطرقه إلي الأئمة(عليه السلام): «إنّ من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له من الثواب ما بلغه واان لم يكن الأمر كما نقل إليه» 90

عن الصادق(عليه السلام) قال: «من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك واان لم يكن الأمر كما بلغه» 91

عن الإمام الصادق(عليه السلام)حيث يقول: «كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم» 203

ص: 228

عن الإمام الصادق(عليه السلام) حيث ذكر السائل: «سألته عن الرجل إذا أراد أن يستنجي بالماء يبدء بالمقعدة أو بالإحليل؟ فقال بالمقعدة ث-مَّ بالإحليل» 207

ص: 229

فهرس الاصطلاحات

أ

أخبار: 13, 43, 54, 61, 69, 88, 89, 92, 93, 94, 103, 105, 106, 107, 111, 112, 116, 118, 120, 148, 149, 155, 156, 161, 163, 169, 170, 183, 184, 209

أدلة: 13, 61, 70, 71, 94, 103, 106, 107, 118, 120, 148, 155, 157, 163, 171, 184, 186, 191, 198, 206

إثبات: 56, 112, 172, 174, 185, 206

إخبار: 70, 123

إرشادية: 62, 160, 163, 186, 198, 199, 202

احتياط: 109

استحباب: 53, 74, 102, 106, 108, 111, 116, 118, 120, 121, 125, 147, 151, 152, 164, 171, 176, 177, 179, 198, 206, 207, 208, 209

استدلال: 108, 161, 172

انقياد: 73, 75, 109, 110, 147, 170, 176, 177

ب

بناء: 61, 116, 118, 121, 124, 125, 147, 148, 149, 151, 152, 155, 158, 160, 167, 171, 174, 175, 191, 193, 196, 202, 204, 206, 208

ت

تجري: 46, 157, 163, 170, 180, 182, 205, 206

تخصيص: 191

تسامح: 4, 102, 148, 204

تطبيقات: 205

ص: 230

تعارض: 107, 151, 152, 153, 155, 182, 190

تقرير: 110, 157, 158, 172, 192

تنقيح: 61, 102, 118, 121, 164

ث

ثبوت: 102, 106, 112, 119, 120, 147, 148, 149, 168, 175, 179, 185, 190, 196, 203, 207, 208

ج

جعل: 150, 157, 158, 195, 204, 206

ح

حجية: 107, 110, 111, 112, 164, 171حرام: 166, 170

حقوق: 189

حكمة: 157

د

دلالة: 62, 69, 72, 92, 99, 108, 118, 120, 124, 149, 152, 156, 160, 161, 171, 174, 176, 180, 181, 193, 198, 199, 205, 207

دليل: 45, 54, 56, 69, 71, 87, 88, 106, 107, 109, 151, 156, 158, 162, 163, 167, 168, 181, 182, 183, 190, 198, 201, 205, 207, 209

س

سند: 87, 92, 93

سنن: 4

ش

شرع: 119

شروط: 108

شهرة: 71, 117

ص

صحيحة: 93, 107, 108, 184

ظ

ظاهر: 54, 99, 112, 123, 125, 198, 199, 208

ع

ص: 231

عرف: 171

ف

فقه: 4, 91

ق

قاعدة: 13, 43, 44, 45, 53, 69, 70, 71, 94, 105, 106, 112, 116, 118, 120, 123, 124, 148, 151, 155, 157, 160, 161, 163, 169, 170, 171, 173, 174, 180, 181, 182, 183, 184, 186, 189, 190, 193, 196, 198, 201, 204, 205, 206, 207, 208, 209

قواعد: 4, 44, 152, 184, 204

م

مذهب: 119, 184

مصاديق: 46, 71, 74, 155, 165, 179, 200, 201, 206

مكروه: 181, 182

ملاك: 75, 99, 152, 179, 191

مناط: 116

موضوع: 44, 104, 111, 122, 125, 150, 162, 165, 170, 172, 174, 178, 180, 191, 195, 199, 200

ن

ندب: 156, 172

نسبة: 183, 190, 204

و

واجب: 124, 170, 206

ص: 232

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.