سرشناسه:علي احمدي، سيد قاسم، 1345 -
عنوان و نام پديدآور:تنزيه المعبود في الرد علي وحده الوجود/ قاسم علي احمدي.
مشخصات نشر:قم : موسسه السيده المعصومه (سلام الله عليها) ، 1425ق.= 2004م.= 1383.
مشخصات ظاهري:474 ص.
شابك:: 964-6197-95-7
يادداشت:عربي.
موضوع:وحدت وجود
الهيات
هستي شناسي (فلسفه اسلامي)
رده بندي كنگره:BBR55 /و3 ع8 1383
رده بندي ديويي:189/1
شماره كتابشناسي ملي:م 83-35267
ص: 1
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحيم
ص: 3
عن مولانا أبي الحسن الرضاعليه السلام انّه قال :
« سبحانك ما عرفوك ولا وحّدوك فمن أجل ذلك وصفوك . . سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك . . سبحانك كيف طاوعتهم أنفسهم أن شبّهوك بغيرك ؟ إلهي لا أصفك إلاّ بما وصفت به نفسك ولا أُشبّهك بخلقك ، أنت أهل لكلّ خير ، فلا تجعلني من القوم الظالمين» .(1)
* * *
وعن مولانا الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال :
« ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة ، ويعيش في ملك اللَّه ، ويأكل من نعمه ، ثمّ لا يعرف اللَّه حقّ معرفته ، حدّ المعرفة أنّه لا إله غيره ، ولا شبيه له ولا نظير ، وأن يعرف أنّه قديم موجود غير فقيد ، موصوف من غير شبه ولا مبطل ، ليس كمثله شي ء وهو السميع البصير » .(2)
* * *
وعنه عليه السلام :
«من دخل في هذا الدّين بالرجال أخرجه منه الرجال كما أدخلوه فيه ، ومن دخل فيه بالكتاب والسنّة زالت الجبال قبل أن يزول » .(3)
ص: 4
بسم اللَّه الرحّمن الرّحيم
الحمد للَّه ربّ العالمين وصلّي اللَّه علي سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطّاهرين لا سيّما بقيّةاللَّه في الأرضين روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء ، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين من الآن إلي يوم الدين .
أما بعد : فقد تطابق العقل والنقل علي شرف العلم و ارتفاع محلّه وعظم جوهره ونفاسة ذاته لا سيّما علم التوحيد الذي هو اساس كل علم و مدار كل معرفة.
وممّا يعزّ علي كلّ غيور أن يري ثلّةً ممّن يتزيّن بزيّ العلم ويتشدّق بألفاظ المعرفة يقف - ويا للأسف - ليفتح باباً ويحمل راية أمام مدرسة أهل البيت عليهم السلام ومعارفهم الإلهيّة وهو يحسب أنّه يحسن صنعاً ، يحدو به دواعي دنيويّة أو وساوس شيطانيّة أو أهواء نفسيّة ، أعاذنا اللَّه من أمثال هذه النزعات الانحرافيّة والأفكار الشيطانيّة .
ولمّا انتهي الأمر إلي ازدياد هذه الأفكار الكاسدة وانتشارها في هذه البرهة الزمنيّة بين طلاّب العلوم الدينيّة تصدّت دار نشر السيّدة معصومةعليها السلام لنشر الكتاب الّذي بين يدي القاري إحياءً لمعارف أهل البيت عليهم السلام وخدمة للدّين وأهله . والكتاب الحاضر بين يديك القاري العزيز يشتمل علي مطالب مهمّة شتّي : منها : نقد أساس وأصول الفلسفة والعرفان وأبحاث اعتقاديّة مهمّة من الكتاب والسنّة ، وإبطال أصالة الوجود والاشتراك فيه ، وأدلّة الفلاسفة في وحدة الوجود ووحدة
ص: 5
الخالق والمخلوق وذكر( 21 ) مورداً أساسيّاً من المفاسد المترتبة علي الإعتقاد بوحدة الوجود وذكر قريب ( 20 ) مورداً من موارد الافتراق بين مكتب الوحي ومكتب الفلسفة والعرفان ، والتعرّض لبحث مفصّل حول وحدة الوجود والموجود ، ونقل أقوال القائلين بها مع بيان منشأ هذه الفكرة ، وإبطال أدلّتهم العقليّة والنقليّة ، وإبطال مكاشفات العرفاء من الآيات والأخبار ، وبيان الميزان في تمييز الحقّ من الباطل من الكرامات ، وأخيراً ذكر الفوائد المهمّة ومنها : نقل كلمات العلماء الأعلام والفقهاء العظام في ردّ فكرة وحدة الوجود .
وفي الختام : فهذه بضاعتي المزجاة ، واللَّه اسأل أن ينفع بها بغاة العلم وأن يتقبّلها بقبول حسن ، وأن يكون نشر هذا الكتاب مرضّياً لسيّدي ومولاي الحجة بن الحسن العسكري روحي وارواح العالمين لتراب مقدمه الفداء .
ص: 6
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للَّه الّذي أعجز الأوهام أن تنال إلاّ وجوده .. وحجب العقول عن أن تتخيّل ذاته في امتناعها من الشبه والشكل .. بل هو الّذي لم يتفاوت في ذاته ، ولم يتبعّض بتجزئة العدد في كماله . .(1) الأحد ، الصمد ، الّذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد .(2)
والصلاة والسلام علي أكرم المرسلين وسيّد الأوّلين والآخرين ، محمّد بن عبداللَّه خاتم النبيّين، وعترته الطاهرين المعصومين الّذين أذهب اللَّه عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً ، لا سيّما مولانا وسيّدنا الإمام المبين، والكهف الحصين ، وغياث
ص: 7
المضطرّ المستكين ، الحجة بن الحسن العسكريّ ، روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء ، صلاة تتعاقب عليهم تعاقب الليالي والأيّام .. ولعنة اللَّه علي أعدائهم والمنكرين لشرف مقامهم وإمامتهم إلي يوم يُدعي كّل أناس بإمامهم .
أمّا بعد ، فيقول العبد المضطّر المستكين المحتاج إلي ربّه الرحيم ، السيّد قاسم بن إبراهيم علي أحمديّ - ثبتّهما اللَّه تعالي علي ولاية أميرالمؤمنين وأولاده المعصومين عليهم آلاف التحيّة والتسليم ، وحشرهما تحت لوائهم ، وجعلهما ممّن يتبرّء من أعدائهم . . آمين . . آمين - :
هذه رسالة في ردّ القول بوحدة الوجود المشهورة عند أهل الفلسفة والعرفان ، وحاصلها : أنّ الوجود واحد ، بسيط غير متعدّد ، وأن حقيقة جميع الكائنات - من الخالق تعالي وخلقه - هو الوجود لا غير ، وأوردوا لها جملة من التوهمات والتخرصات زعموها براهين عقليّة وقد حللنا كلماتهم ونقلنا أقوالهم ثم استدللنا علي ردها بما وسعنا من الأدلة العقلية والنقليّة ، وقد ذكرت فيها ما دلّت عليه السنّة والكتاب ، وصرّحت به الأئمة الاطياب عليهم السلام ، وحقّقه علماءالدين وأولوا الألباب ، من أنّ المباينة وعدم السنخيّة بينه سبحانه وبين خلقه من أصول عقائد الإماميّة بل جميع الأديان ، ولا تكون معرفة التوحيد الحقيقيّ إلاّ بمعني تنزيهه سبحانه وتعاليه عن خلقه ، ونفي التشابه والتماثل بين الخالق والمخلوق .
ولم أرد بذا وذاك إلاّ نشر معارف الأئمة عليهم السلام وظهور حقّانيتها ..
وأرجو من إخواني في الدين أن ينظروا إلي هذه الرسالة بعين بصيرة خالية من أدران التعصّب والأهواء ليمكنهم الوصول إلي حقيقة ما ذكرناه من الحقّ والصواب ، واللَّه من وراء القصد .
ثمّ إنّ هذه الرسالة تشتمل علي فصول أربعة وخاتمة ، وإثبات عقيدة الفلاسفة
ص: 8
في التوحيد من طريق الاستدلال يبتني عندهم علي أمور ثلاثة :
(1) إثبات أصالة الوجود واعتبارية الماهيّة ،
(2) وأنّ مفهوم الوجود مشترك معنوي لا لفظي ،
(3) وأنّ الوجود حقيقة مشكّكة لا حقائق متبائنة ، ولا يثبت توحيدهم إلاّ بتماميّة كلّ واحد من هذه الأمور الثلاثة . فنحن نذكرها في ضمن هذه الفصول ونناقشها .
الفصل الأوّل : في أنّ الأصل هل الوجود أم الماهيّة ؟
حاصله : أنّهم اختلفوا في الأصل في التحقّق ، هل أن الوجود هو المتحقّق الأصيل فتكون الماهية علي هذا أمرا اعتباريا (1) أم أن الماهيّة هي المتحقّق الأصيل فيكون الوجود أمرا اعتباريا ؟
فالقائل بأصالة الوجود يقول : إنّ المتحقّق بالذات في الخارج هو الوجود، وإنّ الآثار الخارجيّة إنّما هي للوجود أصالةً، وتنسب إلي الماهيّة الموجودة بالعرض .
والقائل بأصالة الماهيّة يقول : إنّ المتحقّق بالذات هو الماهيّة وتلك الآثار تترتّب علي الماهيّة الموجودة حقيقةً ، وتنسب إلي وجودها بالعرض .(2)
ولا ريب أنّ إثبات وحدة الوجود يتوقف علي القول الأوّل .
الفصل الثّاني : في أن الوجود هل هو مشترك معنوي أم لفظي ؟
حاصله : أنّهم قد اختلفوا في أنّ الوجود بمفهومه هل هو مشترك معنويّ يحمل علي موضوعاته بمعني واحد ، أم أنه مشترك لفظيّ يحمل عليها بمعاني متعدّدة ؟
فإذا قيل : اللَّه تعالي موجود ، أو زيد موجود ، أو الملكيّة موجودة ، أو الزوجيّة للأربعة موجودة ، هل الوجود في الجميع بمعني واحد ومفهوم فارد ، أو
ص: 9
بمعاني متعدّدة ، ومفاهيم مختلفة ، والاشتراك في لفظ الوجود فقط ؟ واثبات وحدة الوجود عندهم يتوقّف علي القول الأوّل .
الفصل الثّالث : في أن الوجود هل هو حقيقة واحدة مشكّكة أم لا ؟
حاصله : إنّهم اختلفوا في أنّ الوجود هل هو حقيقة واحدة ذات تشكّك ومراتب متفاوتة - بالشدّة والضعف ، والتقدّم والتأخّر ، والغني والفقر ، والكمال والنقص - بحسب أصل تلك الحقيقة، وليس التفاوت والاختلاف بينها نوعيّاً ، أم أن الوجودات حقائق متباينة بتمام ذواتها البسيطة ، أم أنّ الوجود واحد حقيقيّ لا كثرة فيها اصلاً، لا بحسب الأنواع، ولا بحسب الأفراد، ولا بحسب المراتب ، والموجود متعدّد وهو الماهيّة ، وموجوديّة الكلّ بانتسابه إلي الوجود ، أو . . .(1) .
ولا ريب أن اثبات وحدة الوجود عندهم إنما يتوقّف علي القول الأوّل .
الفصل الرابع : في أن وحدة الوجود والموجود هل هو حق أم لا؟!
حاصله : إنّ الصوفيّة قائلون بوحدة الوجود والموجود بمعني أن الوجود واحد شخصي هو اللَّه سبحانه، ولا موجود سواه، وإنما يتصف غيره بالموجودية علي سبيل المجاز(2) .
وأمّا العرفاء - المسمّي عندهم بالعرفاء الشامخين ! - فإنّهم قالوا بوحدة الوجود والموجود جميعاً في عين كثرتهما، وهذا هو الّذي اختاره ملاصدرا والسبزواري، إذ أن هؤلاء يقولون بتكثر الوجود والموجود ومعذلك يثبتون الوحدة في عين الكثرة ! وقد يمثل له بأنّه كما إذا كان إنسان مقابلاً لمرائي متعددّة ،
ص: 10
فالإنسان متعدّد وكذا الإنسانيّة لكنّه في عين الكثرة واحد بملاحظة العكسيّة وعدم الأصليّة ، فإنّ عكس الشي ء بما هو عكسه ليس شيئاً علي حياله ، إنّما هو آلة لحاظ الشي ء .
والحاصل؛ إنّ القائلين بوحدة الوجود والموجود - أي الصوفيّة والعرفاء الشامخين ! - يقولون : بأنّه ليس في دار التحقّق إلاّ موجود واحد وهو الحق سبحانه وما سواه من الموجودات أطواره وشؤونه ، كما سنذكر كلماتهم تفصيلاً في الفصل الرابع، فلاحظ .
وأمّا الخاتمة : ففي سرد كلمات الأعلام في وحدة الوجود .
هذا ؛ ونستّمد من العليّ القدير أن يسدّد خطانا ، ويخلص أعمالنا ، ويجعل قادم أيّامنا خيراً من ماضيه ، ويرضي موالينا سلام اللَّه عليهم عنّا . . بمنّه وكرمه . .
وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين .
ص: 11
ص: 12
ص: 13
ص: 14
قد اختلفت الفلاسفة في الأصيل منهما ، فنسب إلي المشائين أصالة الوجود ، وإلي الإشراقيّين القول بأصالة الماهيّة .
ومحصله : أنّهم متّفقون علي أنّ الوجود والماهيّة متّحدان في الخارج والتمايز بينهما في الذهن ، والمتّحدان في الخارج يجب أن يكون أحدهما أصلاً والآخر أمراً انتزاعيّاً عقليّاً .(1)
فالاتحاد بين الوجود والماهية يتحقّق إمّا بأن يكون الوجود أصيلاً والماهية اعتباريّة ، وهذا هو مختار القائلين بأصالة الوجود ، وإمّا بأن تكون الماهية أصيلة
ص: 15
والوجود اعتباريّاً ، وهذا هو مختار القائلين بأصالة الماهية .(1)
فإنّ مفهوم الوجود المنتزع من الخارج تارة يقال بأنّ منشأ انتزاعه نفس ما يقع موضوعاً في القضية الحمليّة الّتي يكون مفهوم الوجود محمولاً فيها ، وهذا معناه القول بأصالة الماهية . وأخري يقال بأنّ منشأ انتزاعه حقيقة وراء ذلك ، وتكون الماهية بدورها منتزعة عن تلك الحقيقة أيضاً ، وهي سنخ حقيقة لو أمكن تصّورها مباشرة لكان ذلك مساوقاً للتصديق بوجودها وطارديتها للعدم ، وهذا هو القول بأصالة الوجود .
فعلي الأوّل يكون المحقق في الخارج هو ذوات الأشياء، أي هي ذات الفرس وذات الشجر وذات الحجر و . . ومتعلّق جعل الجاعل - عزّ اسمه - هو الفرس بما هو فرس والشجر بما هو شجر و . . وعلي هذا لا اشكال في التكثّر لتعدّد الماهيات وتباين الحقائق الموجودة الخارجيّة .
وعلي الثاني يكون المتحقّق هو حقيقة الوجود ووجود الأشياء، لا غير .
ص: 16
ولنتساءل هل الوجدان والفطرة السليمة يحكمان بأنّ الأشياء والماهيات الخارجيّة أشياء حقيقيّة واقعيّة وأوّلاً وبالذات ، أو أنّ الموجود المحقّق أوّلاً وبالذات هو حقيقة الوجود ، والأشياء لها تحقّق مجازاً وثانياً وبالعرض ؟ !
أي هل الأشياء لها وجودات خارجيّة واقعا خارجة عن اطار الذهن أم لا ؟
وهل المتبادر من نصوص الكتاب والسنّة أنّ الواقعيّات الخارجيّة مصاديق حقيقيّة لمفهوم الإنسان والفرس والبقر والشجر وأنّ هذه الأمور متحقّقة في الخارج حقيقة وأوّلاً وبالذات ، أو أن الموجود والمحقّق هو وجود هذه الأشياء أي حقيقة الوجود وهي ( أي الأشياء والماهيّات الخارجيّة ) كسراب بقيعة يحسبها الجاهل أنّها موجودة ، فالموجوديّة إنّما هي وصف للوجود وإنّ موجوديّة الماهيّة أيضاً بالوجود .
وهل أن المتبادر عند عموم العقلاء : أنّ المتحقّق هو ذوات الأشياء أي ذات الشجر والحجر و . . أو أمر آخر يسمّي بالوجود ، فيكون هذه الذوات والأشياء في الخارج منتزعاً عن الوجود كما عليه القائل بأصالة الوجود .
وببيان آخر نقول : هل يمكن سلب التحقّق والموجوديّة عن الأشياء والماهيات الخارجيّة حقيقة أم لا ؟
فإن كان مقتضي الوجدان والفطرة، والمتبادر من نصوص الكتاب والسنّة ، والمنسبق عند عامة العقلاء أنّ المتحقّق في الخارج هو الّذي يقال له : شمس وقمر وحجر وشجر و . . (1) ولا يرون إلاّ الذات المشخصّة بالشخصيّة الخاصة الّتي لا يصح سلب الموجوديّة عنها ، لا انتزاعيّة هذه الذوات والأشياء الخارجيّة عن
ص: 17
الوجود (1) فكيف يجوز للعاقل رفع اليد عن ذلك ، مع عدم إقامة البرهان والدليل
ص: 18
ص: 19
ص: 20
ص: 21
المعتدّ به للقول بأصالة الوجود ؛ لأنّ أدلّتهم مبتنية علي مقدّمات غير مسلّمة أو مصادرة علي المطلوب، فلاحظ .
وممّا يؤيّد ما سلف كلام المحقق الداماد حيث قال في مجعوليّة الماهيّة بالذات : إنّه لمّا كان نفس قوام الماهيّة مصحح حمل الوجود ، فاحدس أنّها إذا استغنت بحسب نفسها ومن حيث أصل قوامها عن الفاعل ، صدق حمل الموجود عليها من جهة ذاتها وخرجت عن حدود بقعة إمكانها وهو باطل . . . (1) .
قوله : نفس قوام الماهيّة مصحح حمل الوجود . . يعني أنّ الماهيّة متحقّقة في الخارج أوّلاً وبالذات وبدون واسطة في العروض .
وقد أقرّ السبزواريّ بخفاء وساطة الوجود حيث قال : صحّة سلب التحقّق والتحصّل [ أي عن الماهيّة ] هنا بالنظر الدقيق البرهاني بل بإعانة من الذوق العرفاني ، وأمّا بعد التنزل فالتحقّق لذي الواسطة [ أي الماهية ] هنا حقيقي وصحّة السلب منتفية .(2)
ص: 22
وقال في حاشية الكتاب : صحّة سلب الوجود عن الكليّ الطبيعيّ ضعيفة وثبوت الوجود له كاد أن يكون بالحقيقة ، فالكليّ الطبيعيّ موجود بحكم العقل الفطريّ ، وهذا حقيقة عقليّة ، مجاز عرفانيّ ، وبهذا يمكن التوفيق بين قولي المثبت والنافي ؛ فإن الطبيعيّ موجود بواسطة في العروض ،(1) وغير موجود لصحة سلب الوجود . . وإن كانت هذه الصحّة أخفي واحتاجت إلي زيادة تدقيق وإعانة مذاق رشيق .(2)
أقول : وهو وإن كان من القائلين بأصالة الوجود وأقام لها أدلّة وكان هنا بصدد تثبيت اعتباريّة الماهية وأنّ الوجود واسطة في عروض موجوديّة الماهيّة إلاّ أنّه يقول بأنّ هذه الوساطة أخفي ( أي هو في بيان إخفائية وساطة الوجود ) فهو لا شعوريّا قد أقرّ بأنّ العاقل يحكم بمقتضي الفطرة السليمة بموجوديّة الماهيّة وتحققها في الخارج حقيقة وأوّلاً وبالذات ، وأقرّ أيضاً بعجز البرهان العقليّ عن المنع للحكم الفطريّ وسلب التحقّق عن الماهيّة أي الطبيعيّ ، واستشهد لمدعاه ( أي سلب التحقّق عن الماهيّة ) بالذوق العرفانيّ ، ولنا معه كلام في إبطاله سيأتي إن شاء اللَّه تعالي .
وقريب من هذا ما اعترف به بعض المعاصرين في شرحه .(3)
وقال صاحب حكمت بوعلي سينا : يعدّ القول بأصالة الوجود - الّذي هو مفتاح للقول بوحدة الوجود بل الموجود - من أخطر وأشدّ ما يصدم المعرفة الإلهيّة ، بخلاف أصالة الماهيّة الّتي هي محفوظة من هذه الخطرات . . . وهي لباب التقديس
ص: 23
والتنزيه في الحس والعيان ، وفي الأعيان لا يشاهد إلاّ الذوات المتنوّعة حقيقيّة .(1)
ثمّ إنّ كلمات بعض أتباع المشايين ظاهرة في القول بأصالة الوجود ،(2) كما أنّ كثيراً من كلمات الإشراقيّين ظاهرة في القول بأصالة الماهيّة(3) .
وقد كان صاحب الأسفار برهة من الزمان قائلاً بأصالة الماهيّة بل كان شديد الذبّ عنها (4) ثمّ رجع عنها ، كما أنّ بعض كلمات ابن سينا والخواجة الطوسيّ ونظرائهم ظاهرة في القول بأصالة الماهيّة واعتباريّة الوجود .(5)
وقد اعترف المحقق الإصفهانيّ في نهاية الدراية بذهاب المشهور من الحكماء والمتكلّمين إلي أصالة الماهيّة وتعلق الجعل بها .(6)
كما اعترف بعض المعاصرين بأنّ المباحث الفلسفيّة قبل الفارابيّ كانت تدور علي أصالة الماهيّة ، ثمّ ذهب إليها الفارابيّ وابن سينا وبهمنيار وميرداماد وشيخ الإشراق وصاحب الأسفار في بدء الأمر، ولايمكن استناد القول بأصالة الوجود إلي المشايين وأصالة الماهيّة إلي الإشراقيّين مع عدم طرح مسألة أصالة الوجود قبل صاحب الأسفار كمسألة فلسفيّة مستقلّة .
وعلي فرض صحّة الاستناد المذكور ، إنّه لم تطرح أصالة الوجود من أتباع
ص: 24
المشايين علي نحو يظهر تأثيرها في حلّ المسائل الفلسفيّة ، بل هم أيضاً يطرحون المسائل غالباً علي نحو يتلائم مع أصالة الماهيّة (1).
قال صاحب الشّوارق - بعد نقل كلام المحقق الطوسيّ في التجريد ، معلّقا علي قوله : (ليس الوجود معني به يحصل الماهيّة في العين بل الحصول) - : هذا ردّ لما ذهب إليه جماعة من أتباع المشايين من كون الوجود صفة موجودة في الخارج منضمّة إلي الماهيّة وكون الماهيّة موجودة بها، فعندهم المجعول بالذات والصادر من الجاعل بالحقيقة إنّما هو الوجود ، والماهيّة من حيث هي غير مجعولة ومن حيث الاتصاف بالوجود مجعولة بالعرض وهذا المذهب بظاهره سخيف جدّاً وقد أبطله شيخ الإشراق في كتاب الإشراق وغيره بما لا مزيد عليه .(2)
أقول : يعلم من هذا الكلام أنّ القول بأصالة الوجود مختار جمع من أتباع المشايين لا جمهورهم ، من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وثامسطيوس وإسكندر إلي فارابي و ابن سينا و . .
والغرض مما ذكرناه في المقام من نقل بعض الكلمات : أنّ ما ذهبوا إليه من مسلّميّة أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة ممنوع .
والمهم في هذه الرسالة البحث عن ما يأتي في الفصل الثالث والرابع ، إذ المقصود من ذكر هذا الفصل هو أنّ القول بأصالة الوجود ليس أمراً مفروغاً عنه ، بل محلّ بحث ونزاع بينهم فضلاً عن غيرهم ، ولا ريب في أنّ إثبات وحدة الوجود يتوقف علي تماميّة هذا الفصل أي أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة . وبعد إبطال
ص: 25
ص: 27
ص: 28
ص: 29
ص: 30
إنّ الّذي يقتضيه الوجدان والفطرة السليمة والمتبادر من الكتاب والسنّة أنّ متعلّق جعل الجاعل - جلّ جلاله - هو الإنسان بما هو إنسان ، والشجر بما هو شجر والسّماء والأرض . . وكون هذه الأشياء في الخارج منتزعاً عن حقيقة الوجود - كما يقوله القائل بأصالة الوجود - تخيّل باطل .
ويمكن استظهاره من كلام ثامن الأئمّةعليه السلام أيضاً كما في رواية عمران الصابيّ في تفسير الآية الشريفة : « ومن كان في هذه أعمي فهو في الآخرة أعمي وأضلّ سبيلاً »(1) يعني أعمي عن الحقائق الموجودة .(2)
ولعلّه إلي ذلك أشارعليه السلام بقوله : « لا يقال له ما هو ؟ لأنّه خلق الماهيّة » .(3)
ص: 31
ونحن بالمراجعة إلي عقولنا ووجداننا وكافّة حواسّنا نعلم وندرك بوضوح أنّ الأشياء الّتي حولنا حقّ وواقع ، ولم يخطر ببالنا - قبل تشويش أفكارنا بالآراء المنحرفة - هذا التساؤل :
هل الأشياء الخارجيّة موجودة ؟
وهل السّماء والأرض والجبال و . . حقّ أم إنّها ظلال للحقّ ؟ !
وبعد كلّ هذا ، هل نحن موجودون ؟ !
ولماذا أنكرت هذه الطائفة أصالة الأشياء والماهيّات الخارجيّة ؟ وهربوا من ذلك بإنكار المخلوقات رأساً ؟ مع أنّ الآيات القرآنيّة - مضافاً إلي الوجدان والعقل والحسّ - تشهد جميعاً بحقّانيّة المخلوقات .
قال اللَّه جلّ جلاله : « الحمد للَّه الّذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثمّ الّذين كفروا بربّهم يعدلون » .(1)
وقال عزّ اسمه : « ما خلق اللَّه السماوات والأرض وما بينهما إلاّ بالحقّ وأجل مسمّي » .(2)
ويرشدنا سبحانه إلي أنّ الخلق ليس باطلاً فيقول : « الّذين يذكرون اللَّه قياماً وقعوداً وعلي جنوبهم ويتفكّرون في خلق السماوات والأرض ربّنا ماخلقت هذا باطلاً » .(3)
يقول عزّ من قائل : « و الشمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره » .(4)
إلي غير ذلك من الآيات الّتي تشهد بحقّانيّة الموجودات .
ص: 32
وثمّة طائفة من الآيات القرآنيّة تبيّن أنّه سبحانه منزّه عن أوصاف خلقه ، وليس كمثله شي ء ، وأنّه خلو عن خلقه وخلقه خلو عنه . .
قال اللَّه عزّ وجلّ : « سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون » .(1)
« سبحان ربّ السماوات والأرض ربّ العرش عمّا يصفون » .(2)
« لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » .(3)
« ليس كمثله شي ء وهو السّميع العليم » .(4)
« شهد اللَّه أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولوا العلم » .(5)
« ذلكم اللَّه ربّكم لا إله إلاّ هو خالق كلّ شي ء فاعبدوه » .(6)
« الّذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلاّ هو يحيي ويميت » .(7)
فهذه الآيات - وما أكثرها - تصرح أنّ اللَّه غير خلقه وخلقه غيره ، وأنّ خلقه شي ء متحقّق وموجود في الخارج ، وتشهد - أيضاً - لهذه المغايرة بين اللَّه وبين خلقه الآيات الواردة في التسبيح ، كقوله جلّ وعزّ : « و إن من شي ء إلاّ يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم » .(8)
« سبّح اللَّه ما في السّماوات والأرض وهو العزيز الحكيم » .(9)
ص: 33
« تري الملائكة حافين من حول العرش يسبّحون بحمد ربّهم » .(1)
« يسبّح للَّه ما في السّماوات وما في الأرض الملك القدّوس العزيز الحكيم » .(2)
إلي غير ذلك من الآيات .
وأيضاً الآيات الّتي تبيّن ذنوب عباده وشركهم أو ما أشبه ذلك كلّها تدلّ علي ما ذكرناه ، كقوله تعالي :
« قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ » .(3)
« فنادي في الظّلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين » .(4)
« قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتّخذ من دونك أولياء » .(5)
« يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات اللَّه وأنتم تشهدون » .(6)
وهذا ، مضافاً إلي أنّ الأخبار المتواترة والأدلّة العقليّة القطعيّة ، بل الفطرة والوجدان والبداهة كلّ ذلك يدلّ علي موجوديّة الأشياء وتحقّقها .
فهذه الفرق من الفلاسفة يلغون وجود الأشياء وتبعوا السوفسطائيّين الّذين يزعمون أنّ العالم غير موجود رأساً ، ونحن ندرج بعض الشواهد الدالّة علي ذلك من كلماتهم :
ص: 34
قال صاحب الأسفار : إنّ الماهيّات الإمكانيّة أمور عدميّة . . . بمعني أنّها غير موجودة لا في حدّ أنفسها بحسب ذواتها ، ولا بحسب الواقع ؛ لأنّ ما لا يكون وجوداً ولا موجوداً في حدّ نفسه لا يمكن أن يصير موجوداً بتأثير الغير وإفاضته ، بل الموجود هو الوجود ، وأطواره وشؤونه وأنحاؤه .(1)
وقال أيضاً : وفي كلام المحقّقين إشارات واضحة ، بل تصريحات جليّة بعدميّة الممكنات أزلاً وأبداً ، وكفاك في هذا الأمر قوله تعالي : « كلّ شي ء هالك إلاّ وجهه » .
قال الشيخ محمّد الغزاليّ - مشيراً إلي تفسير هذه الآية عند كلامه في وصف العارفين بهذه العبارة - : فرأوا بالمشاهدة العيانيّة أن لا موجود إلاّ اللَّه ، وأنّ كلّ شي ء هالك إلاّ وجهه ، لا أنّه يصير هالكاً في وقت من الأوقات ، بل هو هالك أزلاً وأبداً لا يتصوّر إلاّ كذلك ، فإنّ كلّ شي ء إذا اعتبر ذاته من حيث هو فهو عدم محض ، وإذا اعتبر من الوجه الّذي يسري إليه الوجود من الأوّل الحقّ ، رُئي موجوداً لا في ذاته لكن من الوجه الّذي يلي موجده .(2)
وهكذا يري صاحب الأسفار : أنّ الأرض والسّماء والإنسان وغيرها ممّا يسمّيها ( الماهيّات الإمكانيّة ) ليست في الواقع إلاّ اعتبارات وهميّة .
وقال إمامه في المعارف ابن العربيّ في الفصّ اليعقوبيّ : إنّ الممكنات علي أصلها من العدم ، وليس وجود إلاّ وجود الحقّ بصور ما عليه الممكنات في أنفسها ، فقد علمت من يتلذّ ومن يتألّم .
قال القيصريّ في شرحه : ليس وجود في الخارج إلاّ وجود الحقّ متلبّساً
ص: 35
بصور أحوال الممكنات ، فلا يلتذّ بتجلّياته إلاّ الحقّ ولا يتألّم سواه .(1)
وقال ابن العربيّ في الفصّ الهوديّ : وما خلق تراه العين إلاّ عينه حقّ .
و قال القيصريّ في شرحه : أي ليس خلق في الوجود تشاهده العين إلاّ وذاته عين الحقّ الظاهرة في تلك الصورة ، والحقّ هو المشهود ، والخلق موهوم ، لذلك سمّي به ، فإنّ الخلق في اللغة هو الإفك والتقدير !(2)
وقال بعض المعاصرين : إنّ أهل التحقيق في التوحيد - أعني المتألّهين في التوحيد - قائلون بأنّ الحق سبحانه ليس له سوي فضلاً عن أن يكون قديماً أو حادثاً ، بل ليس الوجود إلاّ لحقّ وآياته .(3)
وقال بعض آخر : ليس الموجود الأزليّ إلاّ واحداً مطلقاً غير محدود ، فلا غير هناك حتّي تباين معه ، إذ لا مجال للغير في تجاه الموجود الغير المتناهي .(4)
ثمّ إنّ منشأ هذا الاعتقاد هو القول بأنّ ماهيّات الممكنات ليست إلاّ منتزعة من حدود الوجود ، وليست لها واقعيّة وحقيقة ، وهي - أي الأشياء والماهيّات الخارجيّة - كسراب بقيعة يحسبها الجاهل أنّها موجودة ، وليس في دار التحقّق إلاّ حقيقة واحدة وموجود واحد وهو الوجود ، وأنّ ما يري من الكثرات مراتب وتطوّرات لتلك الحقيقة الواحدة ، وأنّ جميع هذه الأشياء أطوار هذه الحقيقة وشؤونها وتعيّناتها وأنّ التوحيد الّذي يجب الاعتقاد به هو هذا المعني .
أقول : وهذا خلاف ما يقتضي به الوجدان والفطرة السليمة والآيات والأخبار من أنّ الأشياء الخارجيّة حقائق متبائنة و . .
ص: 36
فعلي ما ذكروه يلزم إتّحاد الخالق والمخلوق والعابد والمعبود والفاعل والفعل أو المفعول . . كلّ ذلك ممّا لا تقبله العقول بالبداهة ، وخلاف ما هو المأثور من قوله عليه السلام في دعاء يستشير : « أنت الخالق وأنا المخلوق ، وأنت المالك وأنا المملوك ، وأنت الربّ وأنا العبد ، وأنت الرازق وأنا المرزوق ، وأنت المعطي وأنا السائل ، وأنت الجواد وأنا البخيل . . » .(1)
وهو خلاف الأخبار الواردة في نفي التشبيه ، فإنّ فرض الصدور والترشّح والتجلّي والتجزّي والتغيّر و . . يستلزم المعلوليّة والمخلوقيّة ، ولابدّ من تنزيهه سبحانه عمّا كان فيه ملاك المعلوليّة والمخلوقيّة ، والتشبيه علي نحوين : إمّا بين الموجودين ، وإمّا لوجود ملاك المخلوقيّة والمعلوليّة في شي ء واحد ، وإن لم يكن الموجود إلاّ أحدهما .
وأيضاً هو خلاف الأخبار الواردة في نفي السنخيّة بينه تعالي وبين خلقه و . .
ويلزم ممّا ذكروه سقوط التكاليف جميعاً ، بل بطلان النبوّة والإمامة و . .
وقد ورد عن مولانا أبي الحسن عليه السلام في حديث أنّه قال : « لو كان كما يقول المشبهة لم يعرف الخالق من المخلوق ، ولا المنشي ء من المنشأ ، لكنّه المنشي ء ، فرق بين من جسّمه وصوّره وأنشأه إذ كان لا يشبهه شي ء ولا يشبه هو شيئاً » .(2)
وعن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث : « . . خالقنا لا مدخل للأشياء فيه ؛ لأنّه واحد وأحديّ الذّات وأحديّ المعني » .(3)
ص: 37
وعن أبي جعفرعليه السلام : « إنّ اللَّه خلو من خلقه وخلقه خلو منه » .(1)
وعن أبي عبداللَّه عليه السلام : « إنّه ليس شي ء إلاّ يبيد أو يتغيّر أو يدخله التغيّر والزوال أو ينتقل من لون إلي لون ومن هيئة إلي هيئة ومن صفة إلي صفة ومن زيادة إلي نقصان ومن نقصان إلي زيادة إلاّ ربّ العالمين ، فإنّه لم يزل ولا يزال بحالة واحدة ، هو الأول قبل كلّ شي ء ، وهو الآخر علي ما لم يزل ، ولا تختلف عليه الصفات والأسماء كما تختلف علي غيره » .(2)
والعاقل - غير المشوب ذهنه بكلمات العرفاء والفلاسفة - يفهم من هذه الأخبار وغيرها : وجود الأشياء حقيقة في العالم ، وأنّها غير اللَّه تعالي ومبائنة معه سبحانه ، كما قرّرنا هذا البيان في قوله سبحانه : « ليس كمثله شي ء »(3) وقلنا إنّ المستفاد من هذه الآية أمران :
أحدهما : ما يدلّ علي نفي شي ء مثله .
ثانيهما : ما يدلّ علي وجود شي ء ليس مثله .
أي إنّ ما هو غيره تعالي ليس مثله والتوحيد الّذي نعتقد هو مفاد : « ليس كمثله شي ء » لا مفاد ليس شي ء غيره ، ولا مفاد لا شي ء غيره . . كما عليه العرفاء والفلاسفة .
وقد ورد عن مولانا أبي الحسن عليّ بن موسي الرضاعليه السلام : « إنّما اختلف الناس في هذا الباب حتّي تاهوا وتحيّروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمة في وصفهم اللَّه بصفة أنفسهم فازدادوا من الحقّ بعداً ، ولو وصفوا اللَّه عزّ وجلّ بصفاته
ص: 38
ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا بالفهم واليقين ، ولما اختلفوا ، فلمّا طلبوا من ذلك ما تحيّروا فيه ارتبكوا واللَّه يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم » .(1)
وسيأتي في الفصل الرابع بيان أنّ ما ورد في الفلسفة من الإيمان بأصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة ووحدة الوجود ، وأنّ اللَّه تعالي مساوٍ للوجود يتّفق مع اعتقاد عرفاء المسالك والأديان من البراهمة والبودا و . .
فتحصّل ممّا ذكرناه بطلان القول بأصالة الوجود وعليه فيكفي لإبطال القول بوحدة الوجود ممنوعيّة هذا القول وعدم ثبوته .
ص: 39
ص: 40
ص: 41
ص: 42
الكلام في أنّ مفهوم الوجود هل هو مشترك معنويّ أم لفظيّ ؟
والمراد من القول بكون اشتراك الوجود لفظيّاً هو : أنّ المفهوم من الوجود المضاف إلي الإنسان غير مفهوم الوجود المضاف إلي الفرس ولا اشتراك بينهما في مفهوم الكون، وعلي هذا فلا اشتراك هناك إلاّ في لفظ الوجود .(1)
والمراد من القول بكون اشتراك الوجود معنويّاً هو : أنّ للوجود مفهوماً واحداً مشتركاً بين الموجودات ، ويحمل الوجود علي موضوعاته بمعني واحد .(2)
وبعبارة أخري ، هل للوجود معني واحد في جميع المحمولات علي الذوات ، أم له معانٍ متعددة بحسب تعدد الذوات والماهيّات بحيث يكون للوجود المحمول علي الإنسان في قولنا (الإنسان موجود) معني ، والمحمول علي الماء في قولنا (الماء موجود) معني آخر . والقائلون بالاشتراك المعنويّ هم أصحاب القول الأوّل والقائلون بعدمه هم أصحاب القول الثاني .
ص: 43
ذهب جمع إلي القول بالاشتراك اللفظيّ(1) ، ولكن الفلاسفة قائلون بالاشتراك المعنويّ .
هذا، وقد قيل : إنّ وصفه تعالي بالوجود من ضيق العبارة ، وإنّ معني قولنا ( إنّه موجود ) أنّه ليس بعدم ولا معدوم ، فيكون مرجع اتصافه به إلي سلب العدم عنه لا إثبات الوجود الّذي هو نقيض العدم له ، فإنّه تعالي منزّه عن ذلك ؛ لأنّ الوجود الّذي هو نقيضه حدّ له واقع في طرفه وقباله .
كما يتّضح ذلك بقولنا مثلاً خرج الشي ء من العدم إلي الوجود ومن الوجود إلي العدم ، فإنّ الوجود والعدم متناقضان متقابلان صار كلّ منهما حدّاً للآخر وفي قباله وطرفه ، واللَّه سبحانه لمّا كان منزّهاً عن الحدود لايمكن اتّصافه بالوجود الّذي هو حدّ العدم وطرفه، ويوضح ذلك قوله عليه السلام : «سبق الأوقات كونه والعدم وجوده» .(2)
وأيضاً الوجود الّذي هو نقيض العدم إنّما يتصوّر فيما يتصوّر فيه العدم كالماهيّات ، واللَّه عزّ وجلّ منزّه عن الماهيّة وعن عوارضها .
والحاصل أنّ وصفه بالوجود كوصفه بسائر أوصاف الجمال مثل قولنا : إنّه عالم أي ليس بجاهل ، وقادر أي ليس بعاجز وهكذا ، وأمّا غيره تعالي من
ص: 44
الموجودات الممكنة فإنّما يتّصف بالوجود المقابل للعدم المناقض له لكونه ذي ماهيّة مشخصّة لوجوده كما أنّ وجوده كان مشخّصاً له، فإنّ الشي ء ما لم يتشخّص لم يوجد، وما لم يوجد لم يتشخّص .(1)
أو يقال : لا ضير في التزام صدق لا موجود علي اللَّه بالمعني الّذي نقصده فينا ؛ فإنّ المقصود بالموجود فينا ما ينحل إلي ماهيّة ووجود، وقد تحقّق أنّ الحق ماهيّته إنيته ، فليس هو بموجود بهذا المعني ، ونمنع أن يكون مفهوم الوجود العام الوحدانيّ ضروريّ الصدق علي اللَّه وغيره ، وإنّما ضروريّة صدقه علي اللَّه بالمعني الكنائي الّذي لا يستطاع التعبير عمّا كني به عنه وعلي خلقه بالمعني الحقيقيّ الجاري عليه حقيقة .(2)
أقول : وعلي ما ذكروه فليس اللَّه تعالي موجوداً بالمعني الّذي نفهمه في غيره تعالي ، ولا معدوماً ، ولايلزم ارتفاع النقيضين ؛ لأنّ من شرط التناقض هو وحدة الرتبة .(3)
ووجود الخالق ليس في رتبة وجود المخلوق حتّي يقال : إن لم يكن موجوداً فكان معدوماً ، وهذه الملازمة فرع اتّحاد الرتبة بين الوجود والعدم كما في المخلوقات، فهو تعالي ليس بموجود بهذا المعني ، ولايلزم من ذلك أن يكون معدوماً ومستلزماً للتعطيل .
ص: 45
نعم هو تعالي موجود وشي ء لا بهذا المعني .
ويؤيّده قوله عليه السلام : « . . فمعاني الخلق عنه منفيّة » .(1)
وقوله عليه السلام : « كلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه وكلّ ما يمكن فيه يمتنع من صانعه » .(2)
وقوله عليه السلام : « الكائن قبل الكون بغير كيان » .(3)
وقوله عليه السلام : « ما زال «ليس كمثله شي ء»(4) عن صفة المخلوقين متعالياً » .(5)
وقوله عليه السلام : « أنّ الخالق لا يوصف الاّ بما وصف به نفسه » .(6)
وقوله عليه السلام : « فليست له صفة تنال ، ولا حدّ يضرب له الأمثال » .(7)
ص: 46
وقوله عليه السلام : « الحمدللَّه الّذي كان قبل أن يكون كان » .(1)
وقوله عليه السلام : « سبق الأوقات كونه والعدم وجوده » .(2)
وغيرها من الأخبار .
وقد مرّ أنّ اللَّه تعالي مكوّن الكون وليس وجوده مقابلاً للعدم فإنّه مسبوق بالعدم ، والوجود فيه سبحانه إنّما هو تعبير يراد به نفي العدم وكون العدم مسبوقاً باعتبار أنّه منتزع من الوجود لأنّه عدم الوجود ، وبعد كون الوجود حادثاً ومجعولاً بجعله يكون العدم أيضاً حادثاً ، وليس المقصود إثبات السّبق بالنسبة إليه تعالي فإنّه موجد السبق وهو قبل القبل ولا يتّصف بالقبليّة ، والمقصود أنّ العدم أيضاً حادث .
وقوله عليه السلام : « موجود لا عن عدم » .(3) أي أنّه ليس هو الموجود المقابل
ص: 47
للمعدوم بأن يكون مورداً لهذا الطرف الجامع بين الوجود والعدم دون الطرف الآخر فإنّه مسبوق بالذات علي العدم لا محالة ، بل الموجود تعبير يراد منه نفي تطرّق العدم بالنسبة إليه .
وبالجملة ، إنّه تعالي منزّه عن الوجود الّذي هو نقيض العدم ، ونسبة الوجود إليه تعالي سلب نقص العدم عنه لا إثبات الوجود ، فوصفه تعالي بالوجود من ضيق العبارة يعني ليس بعدم ولا معدوم .(1)
هذا ؛ والظاهر أنّ الوجود في الجميع مشترك في المعني العام الطارد للعدم والنفي والبطلان فقط .
فإذا قيل : اللَّه تعالي موجود ، أو الإنسان موجود ، أو الزوجيّة موجودة ، أو الملكية موجودة فالوجود فيها مشترك في المفهوم العام أي الخروج عن حدّ البطلان والنفي والتعطيل .
فهما ( أي الموجود المخلوق المتجزّي المحتمل للزّيادة والنقصان ، مع الموجود الّذي يكون بخلاف ذلك كلّه متعالياً عنه ) مشتركان في أنّ كليهما يدلاّن علي نفي العدم والبطلان ، ويحكيان عن مجرّد الثبوت والواقعيّة ونفي التعطيل فقط .(2)
ص: 48
والأدلّة الّتي ذكرها الفلاسفة للاشتراك المعنويّ - مضافاً إلي عدم تماميّتها في نفسها ، كما وقد أجاب عنها جمع من الأعلام - لا تدلّ علي أكثر ممّا ذكرناه وهو أنّ لفظ الوجود أو الموجود إذا أطلق في أيّ مورد كان بمعني واحد ومفهوم فارد ، وهو خروجه عن حدّ البطلان والنفي والتعطيل .
كما أنّ مفهوم المباينة والمناقضة والمقابلة إنما ينتزع من المتباينين والمتناقضين و المتقابلين ، ولا يدلّ علي جامع حقيقيّ خارجيّ بينهما .
والحاصل : بعد مسلّميّة التباين وعدم السنخيّة والشباهة بين اللَّه تعالي وبين خلقه - بدلالة الآيات المتظافرة والاحاديث المتواترة، بل بمقتضي صحّة بعث الرسل وإنزال الكتب والوعد والوعيد وخروجها عن اللّغويّة، ومقتضي الحكم العقليّ القطعيّ كما سيأتي بيانها - لابدّ من الحكم بعدم صحة كلّ ما يخالفها ، فلو لم يمكن انتزاع مفهوم واحد - ولو بنحو ما ذكرناه - من الحقائق المتبائنة فلا مناص من القول بتعدّد المفهوم .(1)
ص: 49
ما عن أبي عبداللَّه عليه السلام : « مثبت موجود ، لا مبطل ولا معدود » .(1)
وعن مولانا أبي الحسن الرضاعليه السلام : «مثبت موجود غير فقيد» .(2)
وتقريره عليه السلام قول يونس : « . . .ثابت موجود غير مفقود ولا معدوم» .(3)
وعن أبي عبداللَّه عليه السلام : « . . فانف عن اللَّه البطلان والتشبيه ، فلا نفي ولا تشبيه ، هو اللَّه الثابت الموجود . . » .(4)
وغيرها من الأخبار الكثيرة ، ولا يخفي أنّ الأخبار الدالّة علي نفي التعطيل تدلّ علي ما ذكرناه أيضا فلاحظ .
ثم إنّ هذا البيان - الّذي مرّ آنفاً - يجري في مفهوم العلم والقدرة والحياة وغيرها ممّا يتّصف به ذاته سبحانه .
فتحصّل أنّ المراد من الاشتراك في مفهوم الوجود بينه تعالي وبين خلقه هو الاشتراك في المفهوم العام أي خروجهما عن حدّ البطلان والنفي والعدم، وهذا لا يستلزم الاشتراك في حقيقة الوجود فإذا علمنا أنّهما خارجان عن حدّ النفي والعدم، وكانا أمرين واقعيّين نحكم بأنّهما موجودان بلا توجه والتفات إلي وجود السنخيّة ووحدة الحقيقة وعدمهما بينهما كما لا يخفي ، بل يصحّ الحكم بالموجوديّة علي الخالق والمخلوق بشهادة الوجدان بذلك وقيام الفطرة عليه مع فرض التغاير والتباين وعدم التشكيك والسنخيّة بينهما ، وهذان الأمران لا ينافيان .
فلا يكون الحكم بالموجوديّة علي الشيئين - علي النحو الّذي ذكرناه - دالاً علي وحدة الحقيقة بينهما - كما ادّعاه الفلاسفة - وعليه فلابدّ لإثبات التشكيك
ص: 50
ووحدة الوجود من التماس دليل آخر غير وحدة المفهوم ، كما سيأتي بحثه .
ومن هنا ظهر فساد ما ذكره السبزواريّ : من أنّه إذا كان مفهوم الوجود مشتركاً فيه لجميع الأشياء ، ومعلوم أنّ مفهوماً واحداً لا ينتزع من حقائق متباينة بما هي متباينة ، لم يكن الموجودات حقائق متباينة ، بل مراتب حقيقة مقولة بالتشكيك .(1)
والوجه فيه : أنّ اشتراك الموجودين في مجرّد أصل الموجودية والخروج عن حدّ البطلان لا يكون دليلاً علي وحدة سنخ الحقيقة والموجودية ، فجهة الوحدة هو خروجهما عن حدّ التعطيل والعدم لا غير ، وسنرجع إلي الحديث عن هذا الموضوع .
بل نقول : إنّ الاشتراك المعنويّ في مفهوم الوجود ليس دليلاً علي وحدة الحقيقة ؛ لأنّ مفهوم الوجود ليس من المفاهيم الحقيقيّة والمعقولات الأولي ، بل من المفاهيم الاعتباريّة والمعقولات الثانية(2) الّتي لا تحقّق لها في الأعيان كما أنّ مفهوم ( المناقضة ) و( المباينة ) و( المقابلة ) و . . ينتزع من ذوات المتبائنات ، أي من المتناقضين والمتبائنين والمتقابلين ، ولا يدلّ علي جامع حقيقيّ خارجيّ بينهما .
ولا بأس بختم الكلام في المقام بذكر ثلاث أحاديث وما علّق عليها العلاّمة المجلسي رحمه الله :
الحديث الأوّل : في صحيحة عبد الرحمن بن أبي نجران قال : سألت أباجعفرعليه السلام عن التوحيد فقلت : أتوهّم شيئاً ؟ فقال : « نعم ، غير معقول ولامحدود ،
ص: 51
فما وقع وهمك عليه من شي ء فهو خلافه ، لايشبهه شي ء ولا تدركه الأوهام، كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل وخلاف ما يتصوّر في الأوهام ؟! إنّما يتوهّم شي ء غير معقول ولا محدود » .(1)
قال العلاّمة المجلسيّ رحمه الله في شرح هذا الخبر : قوله أتوهّم شيئاً : الظاهر أنّه استفهام بحذف أداته أي أتصوّره شيئاً وأثبت له الشيئيّة . . . قوله عليه السلام : «نعم غير معقول» أي تصوّره وتعقّله شيئاً غير معقول بالكنه . . .
وجملة القول في ذلك أنّ من المفهومات مفهومات عامّة شاملة لا يخرج منها شي ء من الأشياء لاذهناً ولا عيناً كمفهوم الشي ء والموجود والمخبر عنه ، وهذه معان اعتباريّة يعتبرها العقل لكلّ شي ء ، إذا تقرّر هذا فاعلم :
أنّ جماعة من المتكلّمين بالغوا في التنزيه (2) حتّي امتنعوا من إطلاق اسم الشي ء بل العالم والقادر وغيرهما علي اللَّه سبحانه ، محتجّين بأنّه لو كان شيئاً شارك الأشياء في مفهوم الشيئيّة وكذا الموجود وغيره ، وذهب إلي مثل هذا بعض معاصرينا ، فحكم بعدم اشتراك مفهوم من المفهومات بين الواجب والممكن ، وبأنّه لا يمكن تعقّل ذاته وصفاته تعالي بوجه من الوجوه ، ويكذب جميع الأحكام الإيجابيّة عليه تعالي ، ويردّ قولهم هذا الخبر وغيره من الأخبار المستفيضة ، وبناء غلطهم علي عدم الفرق بين مفهوم الأمر وما صدق عليه ، وبين الحمل الذاتيّ والحمل العرضي وبين المفهومات الاعتباريّة والحقائق الموجوده .
فأجاب عليه السلام : بأنّ ذاته تعالي وإن لم يكن معقولاً لغيره ولا محدوداً بحدّ إلاّ أنّه
ص: 52
ممّا يصدق عليه مفهوم شي ء ، لكن كلّ ما يتصوّر من الأشياء فهو بخلافه ؛ لأنّ كلّ ما يقع في الأوهام والعقول فصورها الإدراكيّة كيفيات نفسانيّة ، وأعراض قائمة بالذهن ، ومعانيها ماهيات كليّة قابلة للاشتراك والانقسام ، فهو بخلاف الأشياء .(1)
الحديث الثاني : عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال للزنديق حين سأله : ما هو ؟ قال : « هو شي ء بخلاف الأشياء ، ارجع بقولي إلي إثبات معني وأنّه شي ء بحقيقة الشيئيّة غير أنّه لا جسم ولا صورة ولا يحس . . .»
قال له السائل : فقد حدّدته إذ أثبت وجوده ، قال أبو عبد اللَّه عليه السلام : « لم أحدّه ، ولكنّي أثبتّه ؛ إذ لم يكن بين النفي والإثبات منزلة . . . لابدّ من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه ؛ لأنّ من نفاه فقد أنكره ودفع ربوبيّته وأبطله ، ومن شبّهه بغيره فقد أثبته بصفة المخلوقين المصنوعين . . »(2)
قال العلامة المجلسيّ رحمه الله في شرحه : قوله : « فقد حدّدته » إيراد سؤال علي كونه موجوداً بأنّ إثبات الوجود له يوجب التحديد إمّا باعتبار التحدّد بصفة هو الوجود ، أو باعتبار كونه محكوماً عليه فيكون موجوداً في الذهن محاطاً به .
والجواب أنّه لا يلزم تحديده وكون حقيقته حاصلة في الذهن أو محدودة بصفة ، فإنّ الحكم لا يستدعي حصول الحقيقة في الذهن ، والوجود ليس من الصفات المغايرة الّتي تحدّ بها الأشياء كما قيل ، أو إنّ الوجود بالمعني العام أمر عقليّ متصوّر في الذهن ، مشترك بين الموجودات ، زائد في التصوّر علي المهيّات ، وأمّا . . . ذات الواجب جلّ اسمه فلا حدّ له ولا نظير ولا شبه ولا ندّ ، فلا يعرف إلاّ بتنزيهات
ص: 53
وتقديسات وإضافات خارجة عنه ، فلا ينحو نحوه الأوهام والتصوّرات ، لكن يعرف بالبرهان أنّ مبدأ الموجودات وصانعها موجود بالمعني العام ثابت ؛ إذ لو لم يكن موجوداً بهذا المعني لكان معدوماً إذ لامخرج عنها وأشار إليه بقوله : «لم أحدّه ولكنّي أثبتّه ، إذ لم يكن بين النفي والإثبات منزلة » ، فلما انتفي النفي ثبت الثبوت .(1)
الحديث الثالث : عن أبي هاشم الجعفريّ قال : كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فسأله رجل فقال : أخبرني عن الربّ تبارك وتعالي ، أله أسماء وصفات في كتابه ؟ وهل أسماؤه وصفاته هي هو ؟ فقال أبو جعفرعليه السلام : « إنّ لهذا الكلام وجهين : إن كنت تقول : هي هو أنّه ذو عدد وكثرة ، فتعالي اللَّه عن ذلك . . . والمذكور بالذكر هو اللَّه القديم الّذي لم يزل ، والأسماء والصفات مخلوقات ، والمعني بها هو اللَّه الّذي لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف ، وإنّما يختلف ويأتلف المتجزئ ، ولا يقال له قليل وكثير ، ولكنّه القديم في ذاته ؛ لأنّ ما سوي الواحد متجزّئ ، واللَّه واحد لا متجزّئ ولا متوهّم بالقلّة والكثرة ، وكلّ متجزّئ أو متوهّم بالقلّة والكثرة فهو مخلوق دالّ علي خالق له . فقولك : إنّ اللَّه قدير ، خبرت أنّه لا يعجزه شي ء فنفيت بالكلمة العجز وجعلت العجز سواه .
وكذلك قولك : عالم ، إنّما نفيت بالكلمة الجهل وجعلت الجهل سواه . . . »
فقال الرجل : فكيف سمّينا ربّنا سميعاً ؟ فقال : « لأنّه لا يخفي عليه ما يدرك بالأسماع ، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس . وكذلك سمّيناه بصيراً ؛ لأنّه لا يخفي عليه ما يدرك بالأبصار من لون أو شخص أو غير ذلك ، ولم نصفه ببصر طرفة العين . وكذلك سمّيناه لطيفاً ؛ لعلمه بالشي ء اللطيف . . .
ص: 54
فربّنا تبارك وتعالي لا شبه له ولا ضدّ ولا ندّ ، ولا كيفيّة ولا نهاية ولا تصاريف ، محرّم علي القلوب أن تحتمله ، وعلي الأوهام أن تحدّه ، وعلي الضمائر أن تصوّره ، جلّ وعزّ عن أداة خلقه وسمات بريّته وتعالي عن ذلك علوّاً كبيراً » .(1)
قال العلاّمة المجلسيّ رحمه الله في شرح هذا الخبر : اعلم أنّ المقصود ممّا ذكر في هذا الخبر وغيره من أخبار البابين(2) ، هو نفي تعقّل كنه ذاته وصفاته تعالي ، وبيان أنّ صفات المخلوقات مشوبة بأنواع العجز ، واللَّه تعالي متّصف بها معري من جهات النقص والعجز ، كالسمع فإنّه فينا هو العلم بالمسموعات بالحاسة المخصوصة ولمّا كان توقف علمنا علي الحاسة لعجزنا وكان حصولها لنا من جهة تجسّمنا وإمكاننا ونقصنا ، وأيضاً ليس علمنا من ذاتنا لعجزنا وعلمنا حادث لحدوثنا ، وليس علمنا محيطاً بحقائق ما نسمعه كما هي لقصورنا عن الإحاطة ، وكلّ هذه نقائص شابت ذلك الكمال ، فقد أثبتنا له تعالي ما هو الكمال وهو أصل العلم، ونفينا عنه جميع تلك الجهات الّتي هي من سمات النقص والعجز ، ولمّا كان علمه تعالي غير متصوّر لنا بالكنه وإنّا لمّا رأينا الجهل فينا نقصاً نفيناه عنه ، فكأنّا لم نتصوّر من علمه تعالي إلاّ عدم الجهل ، فإثباتنا العلم له تعالي إنّما يرجع إلي نفي الجهل ، لأنّا لم نتصوّر علمه تعالي إلاّ بهذا الوجه، وإذا تدبّرت في ذلك حقّ التدبّر وجدته نافياً لما يدّعيه جماعة عن الاشتراك اللفظيّ في الوجود وسائر الصفات ، لا مثبتاً له وقد عرفت أنّ الأخبار الدالّة علي نفي التعطيل ينفي هذاالقول .(3)
وقال أيضاً في رسالة الاعتقادات : إنّ التعطيل ونفي جميع صفاته تعالي عنه
ص: 55
باطل كما يلزم علي القائلين بالاشتراك اللفظيّ ، بل يجب إثبات صفاته تعالي علي وجه لا يتضمّن نقصاً ، كما تقول : إنّه عالم لكن لا كعلم المخلوقين بأن يكون حادثاً أو يمكن زواله أو يكون بحدوث صورة أو بآلة أو معلولاً بعلّة ، فأثبت له تعالي الصفة ونفيت عنها ما يقارنها فينا من صفات النقص ، ولا تعلمها بكنه حقيقتها . .(1)
ص: 56
ص: 57
ص: 58
قد قلنا : إنّ غرضنا المهم في هذه الرسالة هو هذا البحث وما يأتي بعده ، وهذه المسألة أيضاً مورد للخلاف بينهم ، وإثبات توحيد الفلاسفة يتوقّف علي تماميّة هذه المقدّمة أيضاً .
قال السبزواري :
الفهلويّون الوجود عندهم
حقيقة ذات تشكّك تعمّ
مراتباً غني وفقراً تختلف
كالنور حيثما تقوّي وضعف
وعند مشائية حقائق
تباينت وهو لديّ زاهق(1)
بيان ذلك :
اختلف القائلون بأصالة الوجود فذهب بعضهم إلي أنّ الوجود حقيقة واحدة مشكّكة ذات مراتب قويّة وضعيفة كالنور الّذي له حقيقة واحدة لكنه مختلف قوّة وضعفاً ، وذهب قوم من المشّايين إلي كون الوجودات حقائق متبائنة وقبل الورود في البحث وتوضيح المرام .
نتساءل : هل المتحقّق والموجود في الخارج حقيقة وأوّلاً وبالذات هو ذوات الأشياء أم حقيقة الوجود ؟ بمعني أنه هل المتحقّق هو الشمس والقمر والحجر
ص: 59
والشجر أو أمر آخر يسمّي بالوجود يغايرها ؟ أي هل يعقل للوجود في الخارج حقيقة مغايرة للذوات أم لا ؟ !
ثمّ نتساءل ما هو الوجود ؟ هل أنّ وجود زيد ووجود عمرو واحد أم متغايران ؟ ! وهل أنّ وجود الأشياء الّتي حولنا شي ء واحد ممتدّ عليها ؟
والسؤال الأخطر هو عن الخالق : هل وجوده هو عين وجود المخلوق في أُفُقه الأعلي أم لا ؟
وهناك أسئلة أُخري وهي :
ما الكثرة والوحدة في الأشياء ؟
وما العلاقة بين الخالق والمخلوق ؟
وهل هناك نوع من الوحدة بحيث تنعدم التكثرات فيها أم لا ؟
تعدّدت آرائهم في الإجابة عن هذه الأسئلة إلي أربعة أقوال علي حسب ما نعلم ، منها : قول الفهلويّين القائلين بأنّ الوجود واحد مشكّك له مراتب مختلفة .
ومنها : قول العرفاء الشامخين ! فإنّهم تجاوزوا عن هذا القول وقالوا بوحدة الوجود والموجود في عين كثرتهما ، وهذا هو الّذي ذهب إليه ملاّ صدرا والسبزواريّ وصاحب نهاية الحكمة و . . . (1)
ومنها : قول المشّايين .
ومنها : قول المتألّهين !
وعليه : فإنّ في حقيقة الوجود - عند هؤلاء - أربعة أقوال :
الاوّل : أنّ الوجود واحد شخصيّ هو اللَّه تبارك وتعالي ولا موجود سواه ، وإنّما يتصف غيره بالموجود علي سبيل المجاز ، وهو ظاهر كلام الصوفيّة ، ويعبّر عنه
ص: 60
ب : وحدة الوجود والموجود . . . ويمكن أن يأوّل كلامهم إلي ما يرجع إلي قول صاحب الأسفار من انحصار الموجود المستقلّ فيه سبحانه ، لكون سائر الموجودات روابط لوجوده وأضواء وأشعة لنوره الحقيقي .(1)
الثاني : إنّ الوجود واحد شخصيّ كما قالت به الصوفيّة إلاّ أنّ الموجود لا ينحصر في الواجب تعالي ، بل مخلوقاته أيضاً موجودة حقيقة ، لكن معني الموجود فيها هو المنسوب إلي الوجود - كالتامرو المشمّس المنسوبين إلي التمرو الشمس - وهو قول المحقّق الدوانيّ الّذي نسبه إلي ذوق المتألّهين ، ويعبّر عنه ب : وحدة الوجود وكثرة الموجود .
الثالث : قول المشّايين - علي ما نسب إليهم - وهو كون الموجودات حقائق متباينة بتمام ذواتها البسيطة ، ويعّبر عنه ب : كثرة الوجود والموجود .
الرابع : ما نسب إلي الفهلويّين - واختاره صاحب الأسفار وأتباعه ومنهم صاحب نهاية الحكمة - وهو كون الوجود حقيقة واحدة مشكّكة أي ذات مراتب مختلفة يرجع ما به الامتياز فيها إلي ما به الاشتراك ، ويعبّر عنه ب : وحدة الوجود في عين كثرته .(2)
ونحن نذكر أدلّة وحدة الوجود الّتي قال به الفهلويّون وأتباعهم - كصاحب الأسفار والمنظومة ونهاية الحكمة - أوّلا ونجيب عنها ، ثمّ يتّضح منه جواب غيرهم ، فنقول :
ص: 61
وعند مشائية حقائق
تباينت وهو لديّ زاهق
لأنّ معني واحداً لاتنتزع
ممّا لها توحّد ما لم يقع
وقال في شرحه : إنّه لو انتزع مفهوم واحد من أشياء متخالفة بما هي متخالفة بلا جهة وحدة هي بالحقيقة مصداقه لكان الواحد كثيراً .(1)
وقال في نهاية الحكمة : الحقّ أنّها حقيقة واحدة في عين أنّها كثيرة ، لأنّا ننتزع من جميع مراتبها ومصاديقها مفهوم الوجود العام الواحد البديهيّ ، ومن الممتنع انتزاع مفهوم واحد من مصاديق كثيرة بما هي كثيرة غير راجعة إلي وحدة ما .(2)
محصّله : بعد ثبوت الاشتراك المعنويّ في المفهوم يقال :
لا يمكن أن ينتزع مفهوم واحد من حقائق متخالفة بما هي متخالفة بلا جهة وحدة هي بالحقيقة مصداقه .
أقول : إنّ هذا أهمّ دليلهم علي وحدة الوجود ، ولذا اكتفي به السبزواريّ في متن كتابه ، ولكنه مردود بوجوه :
ص: 62
إنّ انتزاع مفهوم الوجود من الحقيقتين المختلفتين في الخارج - أي الخالق تعالي والمخلوق - من حيث خروج تحقّق كلّ واحد منهما عن حدّ نقيضه بمكان من الإمكان ، فإنّ جهة الوحدة بينهما هو خروجهما عن حدّ النفي والعدم ، وحينئذ إطلاق لفظ الوجود علي وجوديهما نظير إطلاق الشي ء عليهما لا يقتضي وحدة الحقيقة والسنخ .
وبعبارة أخري : نحن إذا علمنا أنّ الخالق تعالي والمخلوق خارجان عن حدّ النفي والعدم وكانا واقعيّين نحكم عليهما بأنّهما موجودان بلا توجه إلي السنخيّة وعدمها ، بل يصح حكم الموجوديّة عليهما بالوجدان والفطرة العقليّة مع التغاير والتباين وعدم التشكيك بينهما ، ولا تنافي بين الحكم بالموجوديّة علي شيئين مع فرض التغاير وعدم السنخيّة بينهما .
فاستنتاج وحدة حقيقة الوجود من وحدة مفهوم الوجود وعدم إمكان انتزاع مفهوم واحد عن الحقائق المتبائنة إدّعاء محض وقول بلا دليل ، كيف ومفهوم المناقضة ينتزع من المتناقضين ، والمبائنة من المتبائنين ، والمقابلة من المتقابلين و . .
فكذا مفهوم الوجود من اللَّه سبحانه ومن خلقه من دون أن يكون دليلاً علي لزوم السنخيّة وعدم البينونة بينهما .
ص: 63
إنّ ما ذكره المستدل - من أنّ ملاك عدم جواز صدق مفهوم واحد علي الحقائق المتبائنة بما هي كذلك هو استحالة كون الواحد عين الكثير - لو تمّ إنّما يجري في المفاهيم الحقيقيّة - وهي ما كان بإزائها شي ء في الخارج - لا المفاهيم الاعتبارية الّتي لا يكون بإزائها شي ء في الخارج وإنّما الوجود في الخارج لمنشأ انتزاعها كالشيئيّة والإمكان والوجود والماهيّة وما ماثلها .(1)
وعليه ، فالقائل بوحدة الوجود ليس له التمسّك بصدق مفهوم الموجود علي الواجب وغيره إلاّ بعد إثبات أنّ ذلك المفهوم من المفاهيم الحقيقيّة ، وقد ادّعي ملا صدرا في الأسفار اتّفاق الفلاسفة علي أنّ الوجود المطلق العام من المعقولات الثانية والأمور الاعتباريّة الّتي لا تحقّق لها في الأعيان .
ويؤيّد ما ذكرناه ما ذكره بعض المعاصرين(2) في ردّ هذا الاستدلال - الّذي تقدّم عن صاحب المنظومة - من أنّه :
يمكن المناقشة في هذه الحجة بأنّ انتزاع مفهوم واحد عن أشياء كثيرة إنّما يدلّ علي جهة اشتراك عينيّة فيها إذا كان ذلك المفهوم من قبيل المعقولات الأولي أي من المفاهيم الّتي يكون عروضها كاتصافها في الخارج ، كما أنّ كثرة مثل هذه المفاهيم هي الّتي تدلّ علي كثرة الجهات العينيّة ، وأمّا المعقولات الثانية ، فيكفي لحمل واحد منها
ص: 64
علي مصاديقه وحدة الجهة الّتي يلاحظها العقل ، كما أنّه يكفي لحمل أكثر من واحد منها علي مصداق واحد كثرة الجهات الملحوظة عند العقل وإن لم يكن بإزائها جهات متكثّرة عينيّة ، فلا يدلّ وحدة المعقول الثاني(1) علي وجود جهة عينيّة مشتركة بين مصاديقه ولا كثرته علي كثرة الجهات الخارجيّة ، كما لا يدل وحدة مفهوم ( المهيّة ) أو مفهوم ( العرض ) علي وحدة ماهويّة بين الأجناس العالية ، وإلاّ لزم وجود جنس مشترك أو مادّة مشتركة بينها ، وكما لا يدلّ تعدّد مفاهيم الوجود والوحدة والفعليّة علي تعدّد الجهات العينيّة في الوجود البسيط الّذي لا جهة كثرة فيه(2) .
ص: 65
أنّا لو فرضنا أنّ انتزاع مفهوم واحد لا يمكن إلاّ فيما كان هناك وحدة السنخ والحقيقة ، فنقول لا مناص من القول بتعدد المفهوم ؛ لأنّا سنثبت بالأدلة الواضحة - من الوحي والبرهان بل الوجدان - تعدّد الحقيقة وعدم السنخية(1) كما سيأتي .
ص: 66
وبعبارة أخري : لا ريب أنّ علمنا باختلاف الحقائق وما هناك من التباين بين الخالق والمخلوق يشهد بأنّ انتزاع مفهوم واحد من الحقائق المتبائنة ممكن ، ولو افترضنا عدم إمكان ذلك إلاّ إذا كانت الحقيقة واحدة فلابدّ من القول باستحالة انتزاع مفهوم واحد في هذا الحال .(1)
ص: 67
قد يقال : بأنّ هذا الدليل دوريّ ؛ لأنّ العلم بمفهوم واحد انتزاعي يتوقف علي وحدة المنتزَع منه - يعني لابدّ وأن يكون الشخص المنتزِع عالماً بوحدة المنتزَع منه حتي يقدر أن ينتزع منه مفهوماً واحداً - لأنّه لو لم تكن هذه الوحدة - أي وحدة حقيقة الوجود - يلزم عدم صحة الحمل والانتزاع عند المستدل ، بل يكون هذا المفهوم من المفاهيم العامة وبلا حقيقة أو . .
فالاستدلال لوحدة حقيقة الوجود بوحدة مفهوم الوجود - بأن نقول : العلم بوحدة الحقيقة أي المنتزَع منه يتوقف علي العلم بوحدة المفهوم - دوري ، فتأمل .(1)
ص: 68
كيف يحكم عاقل بصرف وجود مفهوم واحد انتزاعيّ - بتوهّم أنّ انتزاع المفهوم الواحد لا يمكن إلاّ من الحقائق الواحدة - بالوحدة والسنخيّة في ما : « لا يخطر ببال أولي الرويّات خاطرة من تقدير جلال عزّته»(1)
ص: 69
و : « ضلّت في إدراك كنهه هواجس الأحلام»(1)
و : « يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول» .(2)
و : « فات لعلوّه علي أعلي الأشياء مواقع رجم المتوهمين»(3) ، فيحكم الجاهل الغافل بالوحدة والسنخيّة فيما «سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه . . »(4) ، بل كان الراسخون في العلم لزموا الإقرار والاعتراف بالعجز عن ذلك ، ومدح اللَّه تعالي هذا الاعتراف منهم . . (5)
ف « إن كنت صادقاً - أيّها المتكلّف لوصف ربّك - فصف جبريل وميكائيل وجنود الملائكة المقرّبين في حجزات القدس مرجحنّين متولّهة عقولهم أن يحدّوا أحسن الخالقين» .(6)
فنقول - كما قال مولانا أبو الحسن الرضاعليه السلام - : « سبحانك ما عرفوك ولا وحّدوك فمن أجل ذلك وصفوك ، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك ، سبحانك كيف طاوعتهم أنفسهم أن شبّهوك بغيرك ؟ إلهي لا أصفك إلاّ بما وصفت به نفسك ولا أشبّهك بخلقك ، أنت أهل لكلّ خير ، فلا تجعلني من القوم الظالمين» .(7)
فمن أجل هذا - أي إدّعاء انتزاع مفهوم واحد من حقيقة واحدة مسانخة ذات
ص: 70
تشكك ومراتب متفاوتة من الخالق تعالي إلي الذرّة - ذهب جمع إلي وحدة الوجود والموجود ، وأنّه تعالي عين الموجودات كما سيأتي .
هذا مجمل ما يرد علي الدليل الأوّل ، ولا يخفي أنّ هذا الدليل الذي ناقشناه هو عمدة أدلّتهم علي وحدة الوجود ، ولنشرع في ذكر باقي أدلّتهم والجواب عنها فنقول :
ص: 71
قال بعض المعاصرين - بعد المناقشة في الدليل الأوّل لإثبات التشكيك - : ويمكن إثبات التشكيك في حقيقة الوجود من طريق رابطيّة المعلولات بالنسبة إلي عللها حيث يترتب عليها أنّ وجود المعلول أضعف من وجود علّته المفيضة له ، بل هو شأن من شؤونها لا استقلال له دونها ، وعلي هذا فالموجودات الواقعة في سلسلة العلل والمعاليل تشكّل حقيقة واحدة ذات مراتب يتقوّم بعضها ببعض ، ويتقوّم الكلّ بالواجب تبارك وتعالي من دون أن يلتزم بالاختلاف التشكيكيّ بين المعلولات الواقعة في مرتبة واحدة ، فلا يكون شي ء منها متقوّماً بما في مرتبته ، وإن كانت جميعاً متقوّمة بعلّتها المفيضة ، وهكذا حتّي تنتهي المراتب إلي الواجب تعالي الّذي هو القيّوم المطلق ، وهذا هو المعني الحقّ لوحدة الوجود ، ويمكن عدّه قولاً خامساً في المسئلة ، ولا يرد عليه شي ء من الإشكالات . . .(1)
أقول : لا يخفي أنّ العليّة والمعلوليّة التطوّريّة بين الخالق والمخلوق مقالة فاسدة من أصلها ، فكيف بالتفريع عليها ؟ ! فإنّ باب الخالقيّة والمخلوقيّة ليس من باب العلّيّة
ص: 72
والمعلوليّة الطبيعيّة التطوّريّة(1) والفرق بينهما من وجوه :
الأوّل : إنّ باب العلّيّة والمعلوليّة يتمّ فيما إذا كان إعطاء المعطي من ذاته ، وأمّا بالنسبة إلي المبدء المتعال الّذي كان إعطاؤه حقائق الأشياء بالإبداع لا من شي ء فلا .
وبعبارة أخري : إنّ موضوع العلّيّة في ما إذا كانت الفاعليّة بالرشح والفيضان بمعناه الحقيقيّ عن ذات العلّة ، أمّا الحق سبحانه المتعالي من تولّد شي ء منه ، والذي كانت فاعليّته بالمشيّة والإبداع لا من شي ء فلا تجري القاعدة المذكورة فيه .
وقد أفاد السيد الخوئي رحمه الله في مباحثه الأصولية حيث قال :
إنّ ارتباط المعلول بالعلّة الطبيعيّة يفترق عن ارتباط المعلول بالعلّة الفاعليّة في نقطة . . . فهي : أنّ المعلول في العلل الطبيعية يرتبط بذات العلّة وينبثق من صميم كيانها ووجودها ، ومن هنا قلنا إنّ تأثير العلّة في المعلول يقوم علي ضوء قانون التناسب ، وأمّا المعلول في الفواعل الإرادية فلا يرتبط بذات الفاعل والعلّة ولا ينبثق من صميم وجودها ، ومن هنا لا يقوم تأثيره فيه علي أساس مسألة التناسب ، نعم يرتبط المعلول فيها بمشية الفاعل وإعمال قدرته ارتباطاً ذاتيا ، يعني يستحيل انفكاكه عنها حدوثاً وبقاءاً ، ومتي تحقّقت المشيّة تحقق الفعل ، ومتي انعدمت انعدم .
وعلي ذلك فمردّ ارتباط الأشياء الكونيّة بالمبدأ الأزلي وتعلّقها به ذاتاً إلي ارتباط تلك الأشياء بمشيّته وإعمال قدرته ، وإنّها خاضعة لها خضوعاً ذاتياً ، وتتعلق بها حدوثاً وبقاءاً ، فمتي تحقّقت المشيّة الإلهية بإيجاد شي ء وجد ، ومتي
ص: 73
انعدمت انعدم ، فلا يعقل بقاؤه مع انعدامها ، ولا تتعلق بالذات الأزلية ولا تنبثق من صميم كيانها ووجودها كما عليه الفلاسفة .
ومن هنا قد استطعنا أن نضع الحجر الأساسي للفرق بين نظريتنا ونظرية الفلاسفة ، فبناءاً علي نظريتنا ارتباط تلك الأشياء بكافة حلقاتها بمشيّته تعالي وإعمال سلطنته وقدرته ، وبناءاً علي نظرية الفلاسفة ارتباطها في واقع كيانها بذاته الأزليّة وتنبثق من صميم وجودها .(1)
الثاني : إنّ العلّيّة التوليديّة تقتضي الإيجاب ، وليس اللَّه تعالي موجَباً في فعله .
بعبارة أخري : هذا الدليل يتمّ لو كان المؤثر موجَباً وأمّا إذا كان مختاراً فلا . وواضح أنّ فاعليّته تعالي للأشياء إنّما هي بالإرادة والمشيّة لا بالذات وإلاّ لزم أن يكون اللَّه سبحانه وتعالي موجَباً في فعله ؛ لأنّ تخلّف ما بالذات عن الذات محال ، وتخلف المعلول عن العلّة الموجبة محال ، وهذا ينافي اختياره تعالي الّذي يفعل ما يشاء ويختار ما يشاء باتفاق العقل والشرع .(2)
ص: 74
الثالث : إن كانت فاعليّته تعالي بنحو العلّيّة والترشح لزم انتفاء وجوده سبحانه بانتفاء شي ء من هذه الأشياء في سلسلته الطوليّة ؛ لاستحالة انتفاء المعلول بدون انتفاء علّته التامّة الموجبة ، وهذا مخالف لما ثبت في الدين والمذهب من أنّ سلطنته تعالي تامّة لا يتصوّر فيها نقص ، وأنّه فاعل ما يشاء كيف شاء ، ومتي شاء إيجاد شي ء أو إعدامه أوجده أو أعدمه بلا توقّف علي أيّة مقدّمة خارجيّة .
الرابع : إن كانت فاعليّته تعالي للأشياء بنحو العلّيّة والترشّح يلزم تعدّد القدماء وقدم الممكنات ؛ لأنّ الانفكاك بين العلّة والمعلول محال ، وقد أثبتنا بالدلائل الواضحة الصريحة حدوث العالم بالمعني الصحيح ، وقلنا إنّ الاعتقاد بتعدّد القدماء شرك ، وإنّ الحدوث لا يجامع القدم ، فلا يكفي الحدوث الذاتيّ فقط ، فلاحظ .(1)
الخامس : إن كانت فاعليّته تعالي للأشياء بنحو العليّة والترشّح فلابدّ وأن تكون هناك سنخيّة بينه تعالي وبين خلقه وهو المعلول ؛ لأنّ من الواجب أن تكون بين العلّة الفائضة ومعلولها - الّذي يكون رشحاً من ذاتها - سنخيّة ذاتيّة .
ولا يخفي أنّ الآيات المتظافرة والروايات المتواترة وردت عنهم عليهم السلام في نفي السنخيّة ، مضافاً إلي الأدلة العقليّة التي قامت علي نفيها كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالي .
السادس : إنّه يستلزم من هذه المقالة الاعتقاد بقاعدة : الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد ؛ لأنّه لو صدرت عن العلّه الواحدة - وهي الّتي ليست لها في ذاتها إلاّ جهة
ص: 75
واحدة - معاليل كثيرة بما هي كثيرة متباينة غير راجعة إلي جهة واحدة لزمه تقرّر جهات كثيرة في ذاتها وهي ذات جهة واحدة ، وهذا محال ، وإنّ ما يصدر عنه الكثير من حيث هو كثير فإنّ في ذاته جهة كثرة .
وهذا الاعتقاد فاسد من أصله وباطل بوجوه وليس هنا محلّ بحثه ، ويكفيك ما أجاب به العلامة الحلّي رحمه الله حيث قال : بعد تسليم أصوله إنّه إنّما يلزم لو كان الموثر موجَباً ، وأمّا إذا كان مختاراً فلا ، فإن المختار تتعدد آثاره وأفعاله .(1)
أقول : إنّ ما ذكرناه من الوجوه في الرد علي العلّيّة والمعلوليّة يأتي هنا - أي في الردّ علي قاعدة الواحد - أيضاً من أنّه يستلزم أن تكون فاعليّته تعالي للأشياء بالذّات لا بالإرادة ، وأن يكون موجَباً في فعله ،(2) وأن يتعدد القديم ويلزم السنخيّة بينهما و . . مضافاً إلي أنّه مخالف لما ثبت عقلاً وشرعاً في أصول التوحيد من أنّه لا مؤثر في إيجاد الموجودات إلاّ اللَّه تعالي .
ص: 76
الأوّل : إنّ الفلاسفة ادّعوا وجود عقول تكون رابطة بين الذات الإلهيّة والعالم المادي ، ووقع الخلاف بين أرسطو وأفلاطون فادّعي الأوّل أنّ العقول طوليّة ، ويري الثاني أنّها عرضيّة ، وتمسّكوا في ذلك بقاعدة : الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد ، وقالوا : إنّه لم يصدر منه تعالي إلاّ العقل الأوّل ، وسائر موجودات العالم صدر منه بواسطته ، ويستحيل صدور غيره منه تعالي بلا واسطة .
قال بعض المعاصرين : لمّا كان الواجب تعالي واحداً بسيطاً من جميع الجهات امتنع أن يصدر منه الكثير ، سواء كان الصادر مجرّداً كالعقول العرضيّة ، أو مادّياً كالأنواع الماديّة ؛ لأنّ الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد . فأوّل صادر منه تعالي عقل واحد يحاكي بوجوده الظلّي وجود الواجب تعالي في وحدته .
ولمّا كان معني أوّليّته هو تقدّمه في الوجود علي غيره من الموجودات الممكنة وهو العليّة ، كان علّة متوسطة بينه تعالي وبين سائر الصوادر منه ، فهو الواسطة في صدور مادونه ، وليس في ذلك تحديد القدرة المطلقة الواجبيّة التي هي عين الذات المتعالية علي ما تقدّم البرهان عليها ، وذلك : لأنّ صدور الكثير من حيث هو كثير من الواحد من حيث هو واحد ممتنع علي ما تقدّم ، والقدرة لا تتعلّق إلاّ بالممكن ، وأمّا المحالات الذاتية الباطلة الذوات كسلب الشي ء عن نفسه والجمع بين النقيضين
ص: 77
ورفعهما مثلاً فلا ذات لها حتّي تتعلّق بها القدرة . . هناك عقولاً طوليّة كثيرة ، وإن لم يكن لنا طريق إلي إحصاء عددها .(1)
وفيه - مضافاً إلي ما مرّ آنفاً - إنّه إدّعاء محض ولم يقم دليل عقلي بديهي أو برهاني أو نقلي علي صحة هذه القاعدة ، وما ذكر ليس ببرهان بل مصادرة واضحة ، مع أنّه حصر لقدرته تعالي علي العقل الأوّل ونفي شمولها علي إيجاد ساير موجودات العالم بلا واسطة .(2)
علي أنهّا - لو سلّمت - إنما تجري عقلاً فيما إذا كان الفاعل منفرداً عن معني الفاعلية الحقيقية ، بل كان أثره علي نحو الفيضان والترشح منه كما ذكرناه آنفاً .
ولكن حيث إنّ فاعليّته تعالي ليست علي نحو الفيضان والتنزّل ، بل هي علي نحو الإبداع لا من شي ء فلا يمتنع منه إيجاد المركّب أو الأشياء الكثيرة - كائنةً ما كانت - في رتبة واحدة ، فإنّ الفطرة والعقل يحكمان بأنّ الموجود القادر علي إبداع الحقائق والأشياء لا من شي ء أشرف وأكمل من الموجود الّذي تكون فاعليّته وقادريّته بفيّاضيّته من ذاته .(3)
وهذا النحو من الفاعليّة هو من كمالاته وخصائص ذاته تعالي شأنه ، وليس
ص: 78
كمثله شي ء ، والّذين ذهبوا إلي خلاف ذلك ما قدروا اللَّه حقّ قدره .
وأيضاً ظهر ممّا قلناه أنّ عدم جريان قاعدة الواحد في مورد ذاته تعالي وخروجه سبحانه عنها يكون من باب الخروج الموضوعي والتخصّص ، لا الخروج الحكمي والتخصيص في الحكم العقلي كما هو واضح .
وقد أجاب العلاّمة الطبرسي النوري رحمه الله عن هذه القاعدة بإثني عشر وجهاً فلاحظ .(1)
وامّا ما اعتذر به جمع من الفلاسفة ومنهم : صاحب نهاية الحكمة - كما تقدّم كلامه - بأنّه ليس تحديداً في القدرة ، بل القدرة إنّما تتعلّق بالممكن دون المحال .
فمدفوع بأنّ القدرة لا تتعلّق بما كان ممتنع الوجود كاجتماع النقيضين دون ما كان ممكن الوجود ، لكن يستحيل صدوره من هذا الفاعل لأجل أنّه ليس فيه إلاّ حيثية واحدة تقتضي صدور العقل الأوّل دون غيره من الموجودات إلاّ بواسطته ، وليس ذلك إلاّ تحديداً لقدرته ، وعدم شمولها علي إيجاد سائر الموجودات بنفسه وعجزه عنه ، تعالي عن ذلك علّواً كبيراً .
لا شك في أنّ إرادته تعالي ومشيّته لا تكون من صفات ذاته المعتبرة له في الأزل مثل العلم والقدرة بل من أفعاله التي يصحّ سلبها عنه تعالي في الإزل . ولكن المعروف بين الفلاسفة قديماً وحديثاً هو أنّ إرادته تعالي من الصفات الذاتية وعلي هذا الأساس يقولون : إنّه تعالي علة تامّة وتخلّف المعلول عن العلّة التامّة محال ، ويستلزم هذا القول الجبر وسلب الإختيار عن اللَّه تعالي لأنّه يجب حينئذ
ص: 79
صدور المعلول عنه تعالي وليس له سبحانه اختيار في ترك الفعل ، ولا يقدر علي الخلق والإيجاد .
قال في نهاية الحكمة : في وجوب وجود المعلول عند وجود علّته التامة ووجوب وجود العلة عند وجود معلولها . . .(1) ، معني كونه تعالي فاعلاً مختاراً أنّه ليس وراءه تعالي شي ء يجبره علي فعل أو ترك فيوجبه عليه ، فإنّ الشي ء المفروض إمّا معلول له وإمّا غير معلول والثاني محال لأنّه واجب آخر أو فعل لواجب آخر وأدلّة التوحيد تبطله ، والأول أيضاً محال ، لا ستلزامه تأثير المعلول بوجوده القائم بالعلة المتأخر عنها في وجود علّته التي يستفيض عنها الوجود . فكون الواجب تعالي مختاراً في فعله لا ينافي إيجابه الفعل الصادر عن نفسه ولا إيجابه الفعل ينافي كونه مختاراً فيه .(2)
وقال في تعليقة نهاية الحكمة : حقيقة الاختيار كون الفاعل راضياً بفعله غير مجبور عليه ، وهذا حاصل في الواجب بتمام معني الكلمة حيث إنّه لا يعقل أن يجبره شي علي الفعل .(3)
وقال في الأسفار : إنّ الفاعل إمّا أن يكون لذاته مؤثراً في المعلول أو لا يكون ، فإن لم يكن تأثيره في المعلول لذاته بل لا بدّ من اعتبار قيد آخر مثل وجود شرط أو صفة أو إرادة أو آلة أو مصلحة أو غيرها لم يكن ما فرض فاعلاً فاعلاً بل الفاعل إنّما هو ذلك المجموع ، ثمّ الكلام في ذلك المجموع كالكلام في المفروض أوّلاً فاعلاً إلي أن ينتهي إلي أمر يكون هو لذاته وجوهره فاعلاً ، ففاعليّة كلّ فاعل تامّ
ص: 80
الفاعليّة بذاته وسنخه وحقيقته لا بأمر عارض له ، فإذا ثبت أنّ كلّ فاعل تامّ فهو بنفس ذاته فاعل وبهويّته مصداق للحكم عليه بالاقتضاء والتأثير ، فثبت أنّ معلوله من لوازمه الذاتيّة المنتزعة عنه المنتسبة إليه بسنخه وذاته .(1)
أقول : والحاصل إنّهم يقولون : بوجوب صدور العالم عنه تعالي علي النظام العلي والمعلولي لأنه سبحانه تامّ الفاعليّة وتخلّف الأثر عنه محال .
وهذا مخالف للآيات والأحاديث الكثيرة الدالة علي أن إرادته سبحانه فعله وإيجاده للأشياء لا غير كما سيأتي ، وأنّه سبحانه فاعل بالمشيّة عن قدرة وعلم . والمراد من قدرته تعالي هو كون ذاته تعالي مختاراً فعّالاً لما يشاء وتاركاً لما يكره ، سواء كان من شي ء أو لا من شي ء ، وسواء كان شيئاً واحداً أو أشياء كثيرة ولو في رتبة واحدة ، فكان تعالي بذاته قادراً حقيقة علي إبداع كل شي ء فليست فاعليته كفاعليّة سائر الأشياء إذ ليس كمثله شي ء .
وبعبارة أخري : انّه تعالي فاعل مختار إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، بمعني أن له التمكّن التامّ والقدرة الكاملة علي الفعل والترك واقعاً بخلاف القول بصدور الفعل عنه دائماً وإيجاب المشية عليه كما قاله الفلاسفة ؛ لأنّه ينافي إثبات القدرة بمعني التمكن التام من الفعل والترك فيه .(2)
فالقول بأنّ اللَّه تعالي قادر بمعني أنّه عالم ومريد بالإرادة الذاتية لأثره الّذي
ص: 81
يجب عنه وجوده ويمتنع عدمه إنكار لقدرته وإن كان في ظاهر اللفظ اعترافاً بذلك .
وعلي هذا لا يصدق عليه سبحانه : له أن يفعل وله أن لا يفعل ، بل لابدّ أن يفعل ويمتنع أن لا يفعل ، وهذا عين الجبر وسلب القدرة عنه عزّ وجلّ .(1)
وتفسير القدرة بمفهوم الشرطيّتين - كما قيل - تمويه للأمر لئلا يصيبهم رمي التكفير والتلحيد من أهل الملّة ؛ لأنّ مفهوم القضية من المعقولات الثانية ليس بإزائه في الخارج شي ء لينطبق عليه ، والقدرة للواجب أو الممكن حقيقة خارجية فلابدّ أن تفسّر بما ينطبق علي الحقيقة الخارجية .
قال المرجع الديني السيد الخوئي رحمه الله في مباحث أصول الفقه في ردّه علي هذه المقالة من بعض الفلاسفة :
من البديهي أنّ وجوب وجوده تعالي لا يستدعي ضرورة صدور الفعل منه في الخارج ، وذلك لأنّ الضرورة ترتكز علي أن يكون إسناد الفعل إليه تعالي كإسناد المعلول إلي العلّة التامّة لا إسناد الفعل إلي الفاعل المختار .
فلنا دعويان :
الأُولي : إنّ إسناد الفعل إليه ليس كإسناد المعلول إلي العلة التامة .
الثانية : إنّ إسناده إليه كإسناد الفعل إلي الفاعل المختار .
أمّا الدعوي الأُولي فهي خاطئة عقلاً ونقلاً .
أمّا الأوّل : فلأنّ القول بذلك يستلزم في واقعه الموضوعي نفي القدرة والسلطنة عنه تعالي فإنّ مردّ هذا القول إلي أنّ الموجودات بكافّة مراتبها الطولية والعرضية موجودة في وجوده تعالي بنحو أعلي وأتمّ وتتولّد منه علي سلسلتها
ص: 82
الطولية تولّد المعلول عن علّته التامة ، فإنّ المعلول من مراتب وجود العلة النازلة وليس شيئاً أجنبيا عنه .
مثلاً : الحرارة من مراتب وجود النار وتتولد منها وليست أجنبيّة عنها . . وهكذا ، وعلي هذا الضوء فمعني علية ذاته تعالي للأشياء ضرورة تولدها منها وتعاصرها معها ، كضرورة تولد الحرارة من النار وتعاصرها معها ، ويستحيل انفكاكها عنها ، غاية الأمر أنّ النار علة طبيعية غير شاعرة .
ومن الواضح أنّ الشعور والالتفات لا يوجبان تفاوتاً في واقع العلية وحقيقتها الموضوعية ، فإذا كانت الأشياء متولدةً من وجوده تعالي بنحو الحتم والوجوب ، وتكون من مراتب وجوده تعالي النازلة بحيث يمتنع انفكاكها عنه ، فإذن ما هو معني قدرته تعالي وسلطنته التامة ؟
علي أنّ لازم هذا القول انتفاء وجوده تعالي بانتفاء شي ء من هذه الأشياء في سلسلته الطولية لاستحالة انتفاء المعلول بدون انتفاء علة التامة .
وأمّا الثاني : فقد تقدّم ما يدلّ من الكتاب والسنة علي أنّ صدور الفعل منه تعالي بإرادته ومشيته .
ومن هنا يظهر أنّ ما ذكر من الضابط للفعل الاختياري - وهو أن يكون صدوره من الفاعل عن علم وشعور ، وحيث إنه تعالي عالم بالنظام الأصلح فالصادر منه فعل اختياري - لا يرجع إلي محصل ، بداهة أنّ علم العلة بالمعلول وشعورها به لا يوجب تفاوتاً في واقع العلية وتأثيرها ؛ فإنّ العلة سواء أكانت شاعرة أم كانت غير شاعرة فتأثيرها في معلولها بنحو الحتم والوجوب ، ومجرد الشعور والعلم بذلك لا يوجب التغيير في تأثيرها والأمر بيدها ، وإلاّ لزم الخلف .
فما قيل : من أنّ الفرق بين الفاعل الموجب والفاعل المختار هو أنّ الأوّل غير
ص: 83
شاعر وملتفت إلي فعله دون الثاني ، فلأجل ذلك قالوا : إنّ ما صدر من الأوّل غير اختياري وما صدر من الثاني اختياري ؛ لا واقع موضوعي له أصلاً ، لما عرفت من أنّ مجرّد العلم والالتفات لا يوجبان التغيير في واقع العلية بعد فرض أنّ نسبة الفعل إلي كليهما علي حدّ نسبة المعلول إلي العلة التامة .
وأمّا الدعوي الثانية ، فقد ظهر وجهها مما عرفت من أنّ إسناد الفعل إليه تعالي إسناد إلي الفاعل المختار ، وقد تقدّم أنّ صدوره بإعمال القدرة والسلطنة ، وبطبيعة الحال أنّ سلطنة الفاعل مهما تمّت وكملت زاد استقلاله واستغناؤه عن الغير ، وحيث إنّ سلطنة الباري عزّوجلّ تامّة من كافّة الجهات والحيثيات ولا يتصوّر فيها النقص أبداً ، فهو سلطان مطلق وفاعل ما يشاء .
وهذا بخلاف سلطنة العبد ؛ حيث إنها ناقصة بالذات فيستمدّها في كل آن من الغير ، فهو من هذه الناحية مضطرّ فلا اختيار ولا سلطنة له وإن كان له اختيار وسلطنة من ناحية أُخري وهي ناحية إعمال قدرته وسلطنته ، وأمّا سلطنته تعالي فهي تامّة وبالذات من كلتا الناحيتين . .(1) .
ص: 84
هو أنّه علي القول بالحقائق المختلفة يلزم أن لا تكون الموجودات آيات اللَّه تعالي إذ المبائن لا يكون آية للمبائن ! (1)
وفيه أوّلاً : انّ الآية بمعني العلامة والدلالة علي الشي ء ، والخلائق آيات اللَّه بمعني أنّها علامات تهدينا إلي وجود اللَّه سبحانه كما أنّ الأثر آية المؤثر والخط آية الفكرة و . .
ولا ريب أنّ كون شي ء علامة لشي ء آخر لا يستلزم منه السنخيّة بينها وبين ذي الآية ، كما لا يلزم أن يكون جزءاً منه .
وثانياً : كون المخلوق والمصنوع آية لوجود الصانع دليل علي أنّ ذاته تعالي خارج عن حدّ التعطيل والنفي ، بل دليل علي عدم كونه سبحانه مشابهاً ومسانخاً لخلقه ، وإلاّ فهو أيضاً يحتاج إلي صانع آخر .
والحاصل أنّ الآية دالّة علي أصل وجود ذي الآية وبعض أوصافه ، وذلك ممكن عند تباين الآية وذي الآية بالذات(2) وأمثلته كثيرة جدّاً ، منها : دلالة البناء
ص: 85
علي وجود المهندس وعلمه وعقله .
مضافاً إلي أنّ ما ذكرناه من الأدلة علي المغايرة والبينونة التامّة بين الخالق والمخلوق بالآيات والأخبار المتواترة القطعيّة و . . إنّما هو من المحكمات ، والمخالف له - لو سلّم - يعدّ من المتشابهات ، فلابدّ من توجيهه إن أمكن وإلاّ طرحه . وهذا أصل في جميع هذه المباحث .
ص: 86
إنّه يلزم علي القول بالحقائق المتخالفة عدم صحّة القاعدة البديهيّة : أنّ معطي الشي ء ليس فاقداً له بالنسبة إلي المبدء المتعال .
وقد استدلّ السبزواري في حاشية شرحه(1) علي منظومته - ردّاً علي القائلين بتعدّد الوجود وتباين الوجودات مع تأصله إلزاماً لهم - وقال : لو قلنا بتعدّد الوجود وتباينه لم تصحّ هذه القاعدة ؛ لأنّ كلّ وجود علي قولهم غير الآخر ومباين له ، فوجود الواجب غير وجود الممكن ، فكيف يكون معطياً له ؟ ! فلا يمكن تصحيحها إلاّ بالوحدة .
وفيه : إنّ موضوع هذه القاعدة ما إذا كانت العلّيّة والفاعليّة بالرشح والفيضان عن ذات العلّة ، أو بتجلّي العلّة بذاتها في أطوارها وشؤونها .
وأمّا الحقّ المتعالي عن أن يتولّد منه شي ء ، أو يتغيّر بفعله ، أو يتطوّر . . والّذي كانت فاعليّته بالمشيّة والإبداع لا من شي ء بلا تغيّر أو تطوّر في ذاته كما في غير واحد من الروايات فلا تجري القاعدة المذكورة فيه .
وبعبارة أخري : إنّ هذه القاعدة تتمّ فيما إذا كان المعطي إعطائه من ذاته ، وأمّا بالنسبة إلي المبدأ المتعال الّذي إعطاؤه ليس علي نهج الولادة وخروج الشي ء من الشي ء بل بالإبداع لا من شي ء فلا .
ص: 87
إنّ وجود العلّة حدّ تام لوجود المعلول ، ووجود المعلول حدّ ناقص لوجود العلّة ، وهذا لا يستقيم إلاّ علي القول بوحدة الوجود ؛ فإنّ المبائن لا يكون حدّاً للمبائن مطلقاً ، أي إنّه يلزم أن لا يكون وجود العلّة حدّاً تامّاً لوجود المعلول ووجود المعلول حدّاً ناقصاً لوجودها علي القول بالحقائق المختلفة .(1)
وفيه : إنّ تماميّة هذا الدليل تتوقف علي أمرين فاسدين :
الأوّل : قياس الخالق بالمخلوق .
الثاني : إنكار الأمر البديهي وهو استحالة الدور .
بيان ذلك : أنّ هذا الدليل - لو تمّ - إنّما هو فيما إذا كانت الفاعليّة بالفيضان والترشح أو التنزّل ، ولا يتمّ في الخالق الّذي ليست فاعليّته للأشياء بالولادة والترشح أو التنزّل بل كانت بالمشيّة والإبداع لا من شي ء كما مرّ ، مضافاً إلي أنّ تماميّة هذا الدليل وصحّته تتوقّف علي تماميّة وحدة الوجود وعدم تباين حقائق الموجودات ، فالاستدلال بهذه القاعدة لوحدة الوجود دوري .
وبعبارة أوضح : أنّ كون شي ء حدّاً تامّاً أو ناقصاً لشي ء يتوقّف علي
ص: 88
الإتّحاد بينهما في تمام الذات أو بعض الذات وهذا لا يعقل إلاّ بفرض وحدة الوجود .
بل ليست هي - أي القاعدة المذكورة - إلاّ تعبير آخر عن وحدة الوجود ، فكيف يمكن أن نجعلها دليلاً علي فكرة وحدة الوجود ؟ فالاستدلال بهذا الدليل مصادرة ظاهرة كما لا يخفي .
وبما ذكرناه يظهر فساد سائر التوهّمات ، فلاحظ .
ص: 89
لقد استدلّوا علي وحدة الوجود بقوله تعالي : «إن من شي ء إلاّ عندنا خزائنه»(1) ، و«كلّ يعمل علي شاكلته»(2) ، و«ألم تر إلي ربّك كيف مدّ الظل»(3) ، وقول أميرالمؤمنين عليه السلام : « توحيده تمييزه عن خلقه وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة »(4) و . .
وجوابه واضح لا يخفي علي البصير الخبير بالمعارف ؛ إذ يرد علي الأوّل بأنّه لم تكن الآية هكذا : ( إن من شي ء إلاّ فينا خزائنه ) ليتوهّم منه ما توهّم .
ولا يخفي أنّ ما هو خارج عن ذاته تعالي من خزائن الأشياء وغيرها يصدق عليه أنّه عند اللَّه .
وعلي الثّاني : بأنّ المراد من الشاكلة هو النيّة كما في اللغة والحديث ، أو الطريقة والمذهب كما يناسبه التفريع بالفاء في ما بعد بقوله : «فربّكم أعلم بمن هو أهدي سبيلاً» كما قيل ، مضافاً إلي أنّ الآية لا عموم لها ، بل الظاهر منها أنّ الخطاب
ص: 90
متوجّه إلي المخاطبين ، ويكون المراد - حينئذ - أنّ كلّكم يعمل علي شاكلته ، فلا يشمله سبحانه وتعالي .
وعلي الثالث : بأنّ هذا الاستدلال من أظهر مصاديق التفسير بالرأي ولا شاهد عليه أصلاً ، مضافاً إلي ورود الدليل علي خلافه كما في تفسير القمّيّ(1) من تفسير الظلّ بما بين طلوع الفجر إلي طلوع الشمس .
وعلي الرابع : بأنّ المراد بعدم بينونة العزليّ - كما مرّ آنفاً في الحديث - هو ما يدلّ عليه قوله تعالي : «هو معكم أين ما كنتم»(2) و«نحن أقرب إليه من حبل الوريد»(3) و«ما يكون من نجوي ثلاثة إلاّ هو رابعهم»(4) والمراد من بينونة الصفة : أنه مبائن للخلق في جميع الأحكام والأوصاف وقد دلّت عليه الأحاديث الواردة في نفي السنخيّة الّتي سلف بعضها وسيأتي .
ثمّ بعد الجواب عن أدلّتهم علي وحدة الوجود ينبغي أن نذكر أقوالهم في ذلك ونشير إلي نصّ عباراتهم كي يتّضح منها فساد مدّعاهم ويكون زيادة للبصيرة .
فنقول :
ص: 91
حاصل القول بوحدة الوجود : أنّ المتحقّق في وعاء التحقّق والخارج ليس إلاّ الوجود ، وهو واحد غير متعدّد ، وحقيقة جميع الكائنات من الخالق تعالي وخلقه هو الوجود ، كما سنذكر تصريحاتهم .
بيان ذلك :
انّه قد ظهر من الفصل الأوّل أنّ أكثر الفلاسفة قائلون بأنّ الأصل الأصيل في التحقق هو الوجود ، والماهيات ما هي إلاّ حدود اعتباريّة لا تقرّر لها واقعاً ، كما ظهر من الفصل الثالث أنّهم يقولون : إنّ الوجود واحد بسيط غير متعدّد ، أي وحدة حقيقة الوجود .(1)
ص: 92
وبالتأمّل في هذين الفصلين - كما يزعمون - يفهم وحدة الخالق والمخلوق بحسب الحقيقة والذّات !(1) وليس الفارق بينهما إلاّ السّبق واللّحوق أي محض كون أحدهما سابقاً والآخر مسبوقاً ، كالنار المتّخذة من نار أخري ، فإنّ الحقيقة فيهما واحدة والذاتيات متّحدة ، والفارق : أنّ الأولي سابقة ، والثانية لاحقة ، والأولي علّة تطوّرية والثانية معلولة لها !
ومقتضي الاتّحاد رفع الإثنينية ، إذ الامتياز والإثنينيّة بالماهيّة ، وهي عندهم اعتباريّة ، فحينئذ الوحدة الواقعيّة الحقيقيّة عينيّة ، فلا يبقي شي ء إلاّ الوجود وهو الخالق وهو المخلوق ! وهو الآمر وهو المأمور ! وهو الناهي وهو المنهيّ !
ثمّ إنّ الفلاسفة والعرفاء جمعوا بين الوحدة والإثنينية بالفرق الاعتباريّ بينهما ، إذ الوحدة عندهم عينيّة واقعيّة والإثنينيّة اعتباريّة ،(2) وتخيّلوا أنّها كافية في تحقّق الإثنينيّة غير منافية للوحدة الواقعيّة .
وبعد اتّفاقهم علي كفاية الفرق الاعتباريّ بين الخالق والمخلوق لتصحيح الإثنينيّة اختلفوا في توجيهه وكيفيّته :
ص: 93
فقيل : إنّ حقيقة الوجود واحدة - وهي واجب الوجود وحده - وأمّا سائر ما يترائي من الموجودات فهي من تنزّلات ذلك الواحد وتطوّراته .
وقيل - تشبيهاً له تعالي وخلقه بالبحر وأمواجه - بأنّ الموج في الحقيقة عين البحر وفي الاعتبار غيره .
وقيل : إنّ وجود غيره تعالي من الممكنات هو عكسه ، نظير العكوس الواقعة في المرايا المختلفة الألوان ، فالعكس بالاعتبار غير المعكوس .
وقيل : بل خلقه ظلّه ، نظير الظل لذي الظل .
وقيل : بل خلقه نَفْسُهُ ، لا موجه وظلّه وعكسه ، ولا بمعني هو هو بعينه ، بل بمعني : أنّ الواجب هو الوجود ، والممكن أيضاً هو الوجود ، لكن له مراتب كثيرة مختلفة شدّة وضعفاً ، فالوجود الشّديد - الّذي فوق ما يتناهي شدّة - هو الواجب ، وساير المراتب الضعيفة الّتي ليست بخارجة عن تلك المرتبة اللامتناهية هي غيره !
فالواجب لا حدّ له - وهو الوجود المطلق - والممكن محدود بالماهية وإن كانت هي اعتباريّة .
وهذا القول مذهب الفهلويين علي ما نسب إليهم واستحسنه السّبزواري .
فالوحدة الحقّة الحقيقيّة لا تعدّد واقعي فيها أصلاً ، وإنّما يفرض لها التعدّد اعتباراً لذهابهم إلي أنّ الوجود واحد شخصيّ جزئي وهو لا يتعدّد .
ولا يخفي أنّ هذا القول يكون كغيره في ما هو الأصل من لزوم الشرك ، ومخالفة العقل والشّرع ، أعني لزوم الاشتراك في حقيقة الخالق بل عينيّة حقيقته تعالي مع غيره واتّحادهما .
وقيل : إنه واحد في عين كثرته ، وكثير في عين وحدته ، لا تضرّ إحديهما بالأخري ، فالوجود واحد والموجود كثير وفي عين الكثرة واحد .
ص: 94
فإن نظرت إلي الموجود من حيث الوجود فإنّه واحد ، وإن نظرت إلي الموجود من حيث الموجود لا من حيث الوجود فهو كثير ، وفي عين الكثرة أيضاً واحد ، إذ ليس إلاّ وجود واحد . وهذا قول صاحب الأسفار بل عرفائهم الشّامخين - عندهم - ! وسيأتي نقل كلامهم تفصيلاً في الفصل الرابع .
فعلي هذا لا فرق بين هذه المقالة من الفلاسفة - أي وحدة حقيقة الوجود - وبين القول بوحدة الوجود والموجود ، كما قال ابن العربيّ : سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها ! !
وكيف كان ؛ فهذه أقوالهم في الجمع بين المتنافيين من الالتزام بالوحدة مع القول بالإثنينية . وليس لهم طريق للتّخلّص من الإشكال ؛ إذ الواحد الحقيقيّ لا يصير اثنين ولو بألف اعتبار ، فإنّ الاعتبار إنّما يصحّح الإثنينية فيما كان الحكم معلّقاً علي العنوان الاعتباريّ كالصّلاة والغصب .
وأمّا اتّحاد الخالق والمخلوق فهو خلاف العقل والوجدان ، فإنّهما قاضيان بأنّ الخالق غير المخلوق ، والمخلوق غير الخالق ، والمخلوق حادث - بمعني أنّ أزمنة وجوده في جانب الأزل متناهية ، ولوجوده ابتداء - والخالق قديم - بمعني أنّه لا أوّل له ولم يكن مسبوقاً بالعدم - فلو كانا متّحدين في الهويّة والذّات ، فإمّا أن يكون الخالق حادثاً ؛ لأنّه من سنخ المخلوق الحادث ومن جنسه ، أو المخلوق قديماً ؛ لأنّه من سنخ ما هو قديم ، ثمّ لا يمكن القديم أن يخلق ما هو من سنخه ؛ لأنّ سنخه لو كان قابلاً للخلق لم تكن ذاته إذاً بالذّات .
فتحصل أنّ هذا القول مخالف للعقل والوجدان ، فضلاً عن مخالفته للشرع المبين وسائر الأديان ، إذ إنّ البينونة بين الخالق والمخلوق من ضروريّات الأديان وسيأتي عن قريب تفصيل الجواب عن هذه التّخيّلات .
ص: 95
ولا بأس - تمهيداً للدخول إلي تفصيل الأجوبة - من نقل نصوص عبارات بعض الفلاسفة والعرفاء في وحدة الوجود كي يتضح منها بشاعة مدّعاهم ويكون زيادة للبصيرة ، وتجلية لما هو الحق في المقام فنقول :
قالوا : كلّ ما ندركه فهو وجود الحقّ في أعيان الممكنات . . . فالعالم متوهّم ، ما له وجود حقيقيّ ، فهذا حكاية ما ذهب إليه العرفاء الإلهيّون والأولياء المحقّقون(1) .
ونصّوا أيضاً بأنّه : ليس في الدّار غيره ديّار ، كلّ ما يترائي في عالم الوجود أنّه غير الواجب المعبود فإنّما هو من ظهورات ذاته وتجلّيات صفاته الّتي هي في الحقيقة عين ذاته(2) . .
وهم قالوا : إنّ أهل التحقيق في التوحيد - يعني المتألّهين في التوحيد - قائلون بأنّ الحقّ سبحانه ليس له سوي فضلاً عن أن يكون قديماً أو حادثاً ، بل ليس الوجود إلاّ لحق وآياته .(3)
وصرحوا بأنّه : ليس الموجود الأزليّ إلاّ واحداً مطلقاً غير محدود ، فلا غير هناك حتّي يتباين معه ، إذ لا مجال للغير في تجاه الموجود الغير المتناهيّ .(4)
ووجّهوا عقيدتهم بأنّه : يمكن أن يقال : إنّ القول بأنّ للأشياء وجوداً حقيقيّاً أقرب إلي دعوي شركة الممكن مع الواجب في الوجوب وكون الممكن واجباً ، وهو كفر من حيث لا يشعر .(5)
ص: 96
ومما أثبتوه لنا هو : أنّه علي هذا المشرب الرّابع - وهو التوحيد الأفعاليّ المبحوث عنه في العرفان النظريّ المشهور في العرفان العمليّ - لا وجود له [ للإنسان ] إلاّ مجازاً بحيث يكون إسناد الوجود إليه إسناداً إلي غير ما هو له ، نظير إسناد الجريان إلي الميزاب في قول من يقول : جري الميزاب ؛ لأنّ الوجود الإمكانيّ علي هذا المشرب صورة مرآتية لا وجود له في الخارج . . . فحينئذ يصير معني نفي الجبر والتفويض عن تلك الصورة . . . من باب السالبة بانتفاء الموضوع .(1)
وممّا قالوا - ما حاصله - : العرفاء القائلون بوحدة الوجود هم منكرون لقانون العلّيّة ؛ لأنّهم يقولون بأنّه ليس في الدّار غيره ديّار(2) !
وقال ابن العربيّ :
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيّداً
وإن قلت بالتّشبيه كنت محدّداً
وإن قلت بالأمرين كنت مسدّداً
وكنت إماماً في المعارف سيّداً(3)
أقول : يعني فإن قلت إنّه تعالي جسم مثلاً كنت محدّداً ، وإن قلت إنّه ليس بجسم كنت مقيّداً ! وإن قلت إنّه جسم ( أي من حيث وجود الجسم ) وإنّه ليس بجسم ( أي من حيث حدود الجسم وماهيّته ) كنت مسدّداً !
وبعبارة أخري ، فإن قلت إنّه تعالي ليس وجود الجسم فقط بل هو وجود كلّ شي ء كنت مسدّداً !
وقال أيضاً : سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها(4) !
وقال : إنّ الأشياء لم تفارق خزائنها ، وخزائن الأشياء لم تفارق عنديّة
ص: 97
الحق تعالي ، وعنديّة الحق تعالي لم تفارق ذات الحق تعالي ، فمن شهد واحدة من هذه الأمور الثلاثة فقد شهد المجموع ، وما في الكون أحديّة إلاّ أحديّة المجموع .(1)
وقال أيضاً : اعلم أنّ وصف الحق تعالي نفسه بالغني عن العالمين إنّما هو لمن توهّم أنّ اللَّه تعالي ليس عين العالم .(2)
وقال : فإذا شهدْناه شهدْنا نفوسنا - لأنّ ذواتنا عين ذاته . . . - وإذا شَهدَنا - أي الحقّ - شَهدَ نفسه - أي ذاته الّتي تعيّنت وظهرت في صورتنا -(3) .
وقال أيضاً : فما عبد غير اللَّه في كلّ معبود ؛ إذ لا غير في الوجود(4) !
وقال : العارف المكمّل من رأي كلّ معبود مجلي للحقّ يعبد فيه - فالحقّ هو المعبود مطلقاً سواء كان في صورة الجمع أو في صور التّفاصيل - ولذلك سمّوه كلّهم إلهاً مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو فلك .(5)
قال في الفصّ الشعيبيّ : من عرف نفسه بهذه المعرفة فقد عرف ربّه ؛ فإنّه علي صورته خلقه ، بل هو عين حقيقته وهويّته(6) !
وقال القيصريّ في شرح كلام ابن العربيّ : إنّ لكلّ شي ء - جماداً كان أو حيواناً - حياة وعلماً ونطقاً وإرادةً وغيرها ممّا يلزم الذّات الإلهيّة ؛ لأنّها هي
ص: 98
الظّاهر بصورة الحمار والحيوان(1) ! !
وقال الشّبستريّ :
مسلمان گر بدانستي كه بت چيست
بدانستي كه دين دربت پرستي است(2) وقال أيضاً :
روا باشد ( أنا الحق ) از درختي
چرا نبود روا از نيكبختي(3)
وقال المولويّ :(4)
ما عدمهاييم وهستي ها نما
تو وجود مطلقي هستي ما(5)
وعنه أيضاً :
چون كه بي رنگي اسير رنگ شد
موسئي با موسئي در جنگ شد
چون كه اين رنگ از ميان برداشتي
موسي و فرعون دارند آشتي(6)
وعنه أيضاً :
هر لحظه به شكلي بت عيّار در آمد
دل برد ونهان شد
ص: 99
هردم به لباس دگر آن يار برآمد
گه پير و جوان شد(1)
وقال ابن العربي أيضاً : إنّ هويّه الحقّ هي الّتي تعيّنت وظهرت بالصّورة العيسويّة كما ظهرت بصورة العالم كلّه(2) .
وقال : إنّ الممكنات علي أصلها من العدم ، وليس وجود إلاّ وجود الحقّ بصور أحوال ما هي عليه الممكنات في أنفسها وأعينها ، فقد علمت من يلتذّ ومن يتألّم(3) .
حاصل مراده أنّ في دار التحقّق ليس إلاّ وجود الحقّ تعالي ، وهو الّذي يتطوّر بأطوار الممكنات ويتصوّر بصورهم ! وهو الملتذّ وهو المتألّم وهو العاصيّ وهو المطيع وهوالخالق وهو المخلوق وهو العابد وهو المعبود وهو المثيب وهو المثاب .
ولا يخفي أنّ ما هو المعبّر عنه عندهم ب : الحكمة المتعالية هو هذه الاعتقادات الّتي تسمّي ب : وحدة الوجود ، وقد تكرّر تصريح صاحب الأسفار كثيراً بهذا المذهب وأقرّ وأثبت جميع ما مرّ عن ابن العربيّ في وحدة الوجود وتبعهما من حذا حذوهما من العرفاء والفلاسفة وتمسّكوا لإثبات مرامهم بالمتشابهات الّتي دلّت علي خلافها المحكمات من القرآن والعترة ، وفساد هذه الكلمات لا يحتاج إلي بيان ومزيد برهان ؛ إذ علي ما ذكروه تلزم حقّيّة جميع الأديان والمذاهب وكلّ الملل والأهواء ، بل وحقّيّة أميرالمؤمنين عليه السلام خليفة سيّد المرسلين ووارث علمه ومستودع سرّه وكذا من ظلمه وغصب حقّه وقتل زوجته وأحرق بيته و . .
وقد قال رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم فيما رواه الكلّ من الخاصّة والعامّة : « إنّ أُمّتي
ص: 100
ستفترق بعدي علي ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة منها ناجية واثنتان وسبعون في النّار » (1) .
وعلي ما أسّسوه وقرّروه لا يكون النّاجي فرقة واحدة بل كلّهم ناجون ومهتدون ! فلا نار إذاً ولا عقاب ولا . . ولا . .
ولذا تري ابن العربيّ صرّح بأنّ المتوكّل من الأقطاب ورجال اللَّه حيث قال عند تعداد الأقطاب ورجال اللَّه : ومنهم من يكون ظاهر الحكم ويحوز الخلافة الظاهرة كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ [عليه السلام ]والحسن [عليه السلام] ومعاوية بن يزيد وعمر بن عبد العزيز والمتوكّل(2) و . . !
مع أنّ المتوكّل - الّذي عدّه من الأقطاب وممّن حاز الخلافة الظّاهرة والباطنة - هو الّذي صرّح السيوطيّ - في كتابه تاريخ الخلفاء - بأنّه في سنة ستّ وثلاثين أمر بهدم قبر الحسين عليه السلام وهدم ما حوله من الدّور وأن يعمل مزارع ومنع النّاس من زيارته(3) .
كما أنّه صرّح بأنّ فرعون مؤمن وناج ، وخالف بذلك إجماع المسلمين ، بل كلّ أهل الكتاب ، مضافاً إلي مخالفته لظاهر كتاب اللَّه المبين وصريح صحاح أخبار الأئمّة المعصومين عليهم السلام ، حيث قال ابن العربيّ : فقبضه - أي الحقّ - طاهراً مطهّراً ليس فيه شي ء من الخبث ؛ لأنّه قبضه عند إيمانه . . (4) .
ص: 101
وقال : كان عتب موسي أخاه هارون لأجل إنكاره عبادة العجل وعدم اتّساع قلبه لذلك ، فإنّ العارف من يري الحقّ في كلّ شي ء ، بل يراه عين كلّ شي ء . (1)
وصرّح بأنّ النّصاري إنّما أخطأوا حيث قالوا : إنّ اللَّه هو المسيح بن مريم ولم يقولوا : إنّ اللَّه هو العالم كلّه ، فلو قالوا كذلك ارتفع عنهم الخطاء بالمرّة(2) .
وقال في موضع آخر - وهذا محصّل كلامه وكلام القيصريّ - : إنّ الأصنام جميعاً مجالي الحقّ ومظاهره ، بل هي عين الحق ، بل الأشياء جميعاً مظاهره ومجاليه وعبدة الأوثان والأصنام وكذلك العابدون للشّمس والقمر والكواكب والشّجر والحجر والنّار والعجل وكذلك عبادة المدّعين للألوهيّة من فرعون وشدّاد و . . . كلّهم جميعاً عابدون للَّه تعالي ؛ لأنّ هذه المعبودات كلّها هي الحقّ الذي ظهر في هذه المظاهر وتصوّر بهذه الصّور المختلفة ، فهي علي كثرتها ليست في الحقيقة إلاّ واحداً ، ومنع الأنبياء والأولياء من عبادة الأصنام لم يكن من حيث إنّها عبادة باطلة مبغوضة للَّه تعالي ، بل من أجل بطلان حصر العابد معبوده بالصّنم أو الشّجر أو الحجر . .(3) إلي آخر كلامه ! ! عامله اللَّه بعدله .
ص: 102
وقال أيضاً - وهذا محصّل كلامه - : إنّ قوم نوح في عبادتهم للأصنام كانوا محقّين ؛ لكونها مظاهر الحقّ ، كما أنّ العابدين لها كذلك ، لأنّهم أيضاً كانوا مظاهر الحقّ وكان الحقّ معهم ، بل هو عينهم ، وكان نوح أيضاً يعلم أنّهم علي الحقّ إلاّ أنّه أراد علي وجه المكر والخديعة أن يصرفهم عن عبادتها إلي عبادته . . .
ثمّ أسند الخطأ إلي نوح النّبيّ عليه السلام ، وقال : فلو أنّ نوحاً جمع بين الدعوتين لأجابوه . . (1) .
هذا ، والعجب كلّ العجب أنّهم يزعمون أنّهم الموحّدون العارفون وأنّ غيرهم لمحجوبون ، وبالحقّ جاهلون . . ! !
وأعجب منه أنّه كيف يقول الإماميّ في حقّ هذا الرجل وأضرابه : المحقّق العارف باللَّه . . ومن لا يجازف في القول . .
ثمّ ها هو صاحب الأسفار في تفسيره - بعد نقله كلام ابن العربيّ في إيمان فرعون واختياره له - قال : يفوح من هذا الكلام رائحة التحقيق ، وقد صدر من مشكاة التحقيق وموضع القرب والولاية . . (2) .
فلاحظ كتب ملاّ صدرا ومن تابعه كي تري كيفيّة خضوعهم واعتقادهم لابن العربيّ(3) ، ما ذلك إلاّ لقولهم بوحدة الوجود ، وما هذا إلاّ من ثمراته ونتائجه .
ص: 103
فإن أردت أن تعرف حال الرجل فراجع : تحفة الأخيار(1) ، وبشارات الشّيعة للفيض(2) ، وعين الحياة(3) ، وحديقة الشيعة(4) ، وروضات الجنّات(5) ،
ص: 104
ولؤلؤة البحرين(1) ، ومستدرك الوسائل(2) ، وغيرها(3) .
فانظر - يا أخي - إلي مهملات هذا الجاهل كيف موّه الباطل بصورة الحقّ وأوّل كلام اللَّه بآرائه الفاسدة وأحلامه الكاسدة علي طبق عقيدته الباطلة لتصحيح عبادة الأوثان وتوجيه مذهب خلفاء الشّيطان ، وأقلّ ما يلزم من هذا هو تكذيب الأنبياء والرّسل ، وهدم أساس الإسلام والإيمان ، وإبطال جميع الشّرايع والأديان ،
ص: 106
وترويج عبادة الأصنام والأوهام ، ونعم ما قال العلاّمة المجلسيّ رحمه الله : إنّ القول بأنّ الواجب تعالي هو الموجود المطلق ، وهو واحد لا كثرة فيه أصلاً ، وإنّما الكثرة في الإضافات والتّعيّنات الّتي هي بمنزلة الخيال والسّراب - إذ الكلّ في الحقيقة واحد يتكرّر علي المظاهر لا بطريق المخالطة ، ويتكثّر في النواظر لا بطريق الانقسام - ، فأمره دائر بين القول باتّحاد جميع الموجودات مع الواجب تعالي ، أو القول بعدم تحقّق موجود آخر غير الواجب في الواقع ، وكلّ منهما سفسطة تحكم بديهة العقل ببطلانه وضرورة الدّين بفساده وطغيانه .(1)
فتحصل أنّ ما قالت به الفلسفة اليونانية هو : أنّ العالم صدر عن ذاته تعالي وتولّد عنها .
وما ذهب إليه العرفان والحكمة الصّدرائيّة هو : أنّ العالم ليس له وجود حقيقيّ ، بل هو مجموعة توهّمات ، وأنّ الخالق تعالي تجلّي بصور خلقه ، وليس في الدّار غيره ديّار !
ص: 107
قد وردت روايات كثيرة في أنّ الأئمّةعليهم السلام تبرّؤوا عن هذه الأقاويل والعقائد ، ونحن نذكر بعضها ، وهي علي طوائف :
عن مولانا أبي الحسن الرّضاعليه السلام أنّه قال لابن قرّة النّصرانيّ : « ما تقول في المسيح » ؟ قال : يا سيّدي! إنّه من اللَّه . فقال : « وما تريد بقولك من ؟ ومن علي أربعة أوجه لا خامس لها : أتريد بقولك من كالبعض من الكلّ فيكون مبعّضاً ، أو كالخلّ من الخمر فيكون علي سبيل الاستحالة ، أو كالولد من الوالد فيكون علي سبيل المناكحة ، أو كالصّنعة من الصّانع فيكون علي سبيل المخلوق من الخالق ، أو عندك وجه آخر فتعرفناه . . » فانقطع .(1)
أقول : هذا الحديث الشّريف نصّ علي أنّ ما سوي اللَّه تعالي ليس قائماً بذاته تعالي علي سبيل الصدور والترشّح والفيضان ولا تكون نسبة الأشياء إلي الخالق تعالي إلاّ نسبة الخالقيّة والمخلوقيّة لا نسبة العينيّة والسّنخيّة والعلّيّة التطوّريّة .
ص: 108
وعن مولانا وسيّدنا سيّد الشّهداءعليه السلام في تفسير قوله تعالي : «لم يلد» قال : « لم يخرج منه شي ء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة الّتي تخرج من المخلوقين ، ولا شي ء لطيف كالنّفس ، ولا يتشعّب منه البدوات كالسنة والنوم . . . تعالي أن يخرج منه شي ء وأن يتولّد منه شي ء كثيف أو لطيف . . . مبدع الأشياء وخالقها ومنشئ الأشياء بقدرته » .(1)
قال القاضي سعيد القمّي في شرحه : فالقول بأنّ المبدء هو الوجود بلا شرط ، و« أمره » هو الوجود بشرط لا أو بالعكس ، والمعلول هو الوجود بشرط شي ء ، وكذا القول بأنّ المبدأ هو الوجود الشخصيّ المتشخّص بذاته الواقع في أعلي درجات التشكيك المشتمل علي جميع المراتب السافلة . وبالجملة فالقول بكون المعلول عين العلّة بالذات وغيره بالاعتبارات السلبيّة ، وكذا القول بالجزئيّة سواء كانت من طرف العلّة أو المعلول ، أو القول بالأصليّة والفرعيّة ، والقول بالسنخيّة أو الترشّح أو العروض سواء كان الأخير من جهة العلّة أو المعلول ، والقول بالكمون والبروز وما يضاهي ذلك ، علي حد الشّرك والكفر . وكلّ ذلك تولّد معنويّ وتناسل حقيقيّ وموجب لتهوّد القائل به ومستلزم لتنصّر الذاهب إليه حيث قالت اليهود : «عزير ابن اللَّه» والنصاري : «المسيح ابن اللَّه» ، هذا مع قيام البراهين القواطع علي بطلانها ، وشروق الدلائل السواطع علي إمحائها . أحدها أنّه يلزم علي تلك التقادير أن يكون المبدأ الأوّل علّة مادّية للكلّ . . (2)
أقول : فانظر - يا أخي - إلي كلام من كان من أساطين الفلسفة والعرفان وسلك مسلكهم في بعض المقامات ، كيف اعترف وحكم فيهم - أي الفلاسفة
ص: 109
والعرفاء - بهذه التّعرّضات ، وقال بأنّ الاعتقاد بالسنخيّة والترشّح ووحدة الوجود و . . علي حدّ الشرك والكفر والقول بها موجب لتهوّد القائل به ومستلزم لتنصّر الذاهب إليه .
ولنعم ما قيل :
در خانه اگر كس است
يك حرف بس است(1)
فهذا الحديث نصّ علي أنّ الصدور من الذات والترشّح منها يساوي التولّد المحال في حقّه سبحانه ، والقول بوحدة الوجود يكون قولاً بأنّ اللَّه سبحانه والد ، لصدق الولادة علي خروج كلّ شي ء .
وعن أبي عبد اللَّه الصّادق عليه السلام : « سبحان اللَّه الّذي ليس كمثله شي ء ، ولا تدركه الأبصار ، ولا يحيط به علم ، «لم يلد» لأنّ الولد يشبه أباه ، «ولم يولد» فيشبه من كان قبله ، «و لم يكن له» من خلقه «كفواً أحد» تعالي عن صفة من سواه علوّاً كبيراً » .(2)
أقول : لا يخفي أنّ الصدور هو الولادة لا غير ، مضافاً إلي أنّ المستفاد من قوله تعالي : « ليس كمثله شي ء »(3) أمران :
أحدهما : يدلّ علي نفي شي ء مثله .
وثانيهما : يدلّ علي وجود شي ء ليس مثله وإلاّ لكان الكلام لغواً وغير مفيد ، فالمعني هو أنّ ما هو غيره ليس مثله ، فالتوحيد الّذي نعتقده هو مفاد « ليس كمثله شي ء » لا مفاد ليس شي ء غيره ، ولا مفاد لا شي ء غيره ، كما عليه العرفاء الصّوفيّة .
ص: 110
فلو كان التوحيد هو نفي الغير ولا شي ء غيره وليس في الدار غيره ديّار ، فلا يجوز أن يقال : «ليس كمثله شي ء» الموهم لوجود غيره غير المماثل له تعالي ، وأن يعبّر بجملة كانت ظاهرة في نفي المثل والشريك ، وهذا خلاف الفصاحة والبلاغة كما أفيد .
وهذا البيان يجري في الأخبار الدالّة علي نفي التشبيه والسنخيّة وغيرهما كما هو واضح ولائح وهو مقتضي العبوديّة والربوبيّة أي مقتضي الإيمان بكوننا عبيداً للَّه تعالي وكونه ربّاً لنا وللخلائق أجمعين .
عن يونس بن بهمن قال : قال لي يونس : اكتب إلي أبي الحسن عليه السلام ، فاسأله عن آدم هل فيه من جوهريّة اللَّه شي ء . قال : فكتبت إليه ، فأجاب : «هذه المسألة مسألة رجل علي غير السنّة» .(1)
عن يونس بن عبد الرحمن ، أنّه قال : كتبت إلي أبي الحسن الرضاعليه السلام ، سألته عن آدم هل كان فيه من جوهريّة الرّب شي ء ؟ فكتب إليّ جواب كتابي : « ليس صاحب هذه المسئلة علي شي ء من السنّة ، زنديق » .(2)
أقول : هذان الحديثان أيضاً نصّان في ما ذكرناه أي لا يكون ما سوي اللَّه صادراً وفيضاً من ذاته تعالي .
عن مولانا أبي الحسن الرضاعليه السلام : « لا يتغيّر اللَّه بانغيار المخلوق كما لا يتحدّد بتحديد المحدود » .(3)
ص: 111
أقول : لا يخفي أنّ مرجع التطوّر والتشؤّن إلي التغيّر والانقسام في العقل والوهم ، بل الوجود العيني الّذي أشار إليه أميرالمؤمنين عليه السلام في بيان معني الواحد حيث قال عليه السلام : « . . لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم . .» .(1)
وعن أبي الحسن الرضاعليه السلام : « . . يوحّد ولايبعّض . .» .(2)
وعن أبي جعفرعليه السلام : « . . إنّ اللَّه تبارك وتعالي خلو من خلقه وخلقه خلو منه . .» .(3)
أقول : يستفاد من قوله عليه السلام : « خلو من خلقه » بطلان الترشّح ووحدة الوجود ، كما يستفاد من قوله : « خلقه خلو منه » بطلان القول بانبساطه تعالي علي هياكل الموجودات كما سيأتي بيانه .
عن أبي الحسن الرضاعليه السلام : « هو اللطيف الخبير السميع البصير الواحد الأحد الصمد الّذي لم يلد ولم يكن له كفواً أحد . منشئ الأشياء ومجسّم الأجسام ومصوّر الصّور ، لو كان كما يقولون لم يعرف الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشأ ، لكنّه المنشئ ، فرق بين من جسّمه وصوّره وأنشأه وبينه ، إذ كان لا يشبهه شي ء ولا يشبه هو شيئاً » .(4)
عن مولانا أبي الحسن الرضاعليه السلام في مناظرته مع عمران الصابيّ قال عمران : يا سيّدي ! ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شي ء غيره ولا شي ء معه أليس قد تغيّر بخلقه الخلق ؟ قال الرضاعليه السلام : « لم يتغيّر عزّ وجلّ بخلق الخلق ولكن الخلق
ص: 112
يتغيّر بتغييره . . . قال عمران : يا سيّدي ! فإنّ الّذي كان عندي أنّ الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق ، قال الرضاعليه السلام : « أحلت - يا عمران - في قولك أنّ الكائن يتغيّر في وجه من الوجوه حتّي يصيب الذّات منه ما يغيّره » . . . قال عمران : لم أر هذا ، ألا تخبرني يا سيّدي أهو في الخلق أم الخلق فيه ؟ قال الرضاعليه السلام : « جلّ - يا عمران - عن ذلك ، ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه ، تعالي عن ذلك ، وسأعلّمك ما تعرفه به ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللَّه » .(1)
عن الصّادق عليه السلام أنّه قال - حيث سئل عن وجوده تعالي بذاته في كلّ مكان - : « ويحك ! إنّ الأماكن أقدار ، فإذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول أقدار وغير ذلك ، ولكن هو بائن من خلقه ، محيط بما خلق علماً وقدرة وإحاطة وسلطاناً » .(2)
وعنه عليه السلام : « ويحك ! كيف تجترئ أن تصف ربّك بالتّغيّر من حال إلي حال ، وأنّه يجري عليه ما يجري علي المخلوقين » .(3)
وعن أميرالمؤمنين عليه السلام : «ليس بذي كبر امتدّت به النهايات فكبّرته تجسيماً ، ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيداً ، بل كبر شأناً وعظم سلطاناً » .(4)
ومنها : ما ورد في امتناع ذاته تعالي عن أن تدرك
عن مولانا الصّادق عليه السلام : « . . فإن قالوا : أوليس قد نصفه ؟ فنقول : هو العزيز الحكيم الجواد الكريم قيل لهم : كلّ هذه صفات إقرار ، وليست صفات إحاطة ، فإنّا
ص: 113
نعلم أنّه حكيم ولا نعلم بكنه ذلك منه ، وكذلك قدير وجواد وسائر صفاته . . » .(1)
وعن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال : « . . ممتنع عن الأوهام أن تكتنهه وعن الأفهام أن تستغرقه . . » .(2)
وعنه أيضاً : « . . قد ضلّت في إدراك كنهه هواجس الأحلام ؛ لأنّه أجلّ من أن تحدّه ألباب البشر بالتفكير . . » .(3)
وعنه عليه السلام أنّه قال : « . . ردعت عظمته العقول ، فلم تجد مساغاً إلي بلوغ غاية ملكوته . . » .(4)
وعنه عليه السلام أنّه قال : « . . قد يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول . . » .(5)
إنّ الّذي يقال فيه تعالي : « مثبت ، موجود ، لا مبطل ولا معدود . . »(6) « وأنّه شي ء موجود فقط » (7) ، « ومن يزد عليه ويقول : ما هو وكيف هو فقد هلك . . » (8) .
وعليه ، فالعلم بالوجود لا يلازم العلم بالذّات حتّي يقال : كيف يعلم وجوده ولا يعلم ذاته ، كما عن مولانا الصّادق عليه السلام حيث قال : « . . ليس علم الإنسان بأنّه
ص: 114
موجود موجب له أن يعلم ما هو وكيف هو . . » .(1)
وعن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال : « . . لا يقال له ما هو لأنّه خلق الماهيّة . . » .(2)
وعن الإمام الصادق عليه السلام : « . . سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلاّ هو . . » .(3)
فالمعرفة الحقّة بل غاية ما يمكن أن يقال في التّعريف والتوصيف بالنسبة إلي ذاته تعالي : أنّه مثبت موجود وشي ء بحقيقة الشيئيّة ؛ لأنّه لو لم يكن شيئاً لم يكن موجوداً ، ولو لم يكن موجوداً لكان موهوماً ، ولكن لا كالأشياء ؛ لأنّه لو كان كالأشياء لكان مصرفاً محدوداً ، فكان إذن حادثاً لا يمتنع من الحوادث .(4)
وبعبارة أخري : غاية ما يقال في باب معرفة اللَّه تعالي علي ما يستفاد من الأدلّة أمران :
أحدهما : الخروج عن حدّ التعطيل ؛ بمعني : الإيمان والاعتقاد بوجوده وثبوته تعالي بما له من الحياة والعلم والقدرة وغيرها من الكمالات في مقابل النّفي لوجوده تعالي أو لإحدي الكمالات . وهذا أوّل درجة المعرفة به تعالي .
ثانيهما : الخروج عن حدّ التشبيه ؛ بمعني : المعرفة والاعتقاد بأنّه تعالي لا يشبه شيئاً من المخلوقين ، وأنّه مباين لهم في جميع أوصافهم ومنزّه عنها .
وقد ورد عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قال : « . . اعلم - رحمك اللَّه - أنّ المذهب الصّحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللَّه جلّ وعزّ ، فانف عن اللَّه تعالي البطلان والتشبيه ، فلا نفي ولا تشبيه . هو اللَّه الثابت الموجود ، تعالي اللَّه عمّا يصفه
ص: 115
الواصفون ، ولا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان . . » (1)
فهذا نزر يسير من الأخبار الكثيرة الواردة في أنّه تعالي خارج عن الحدّين - حدّ التعطيل وحدّ التّشبيه - وأنّه لا يجوز التفكّر والتكلّم والخوض في ذاته تعالي ، وأنّه تعالي لا يدرك بالحواس الظاهرة والباطنة وبالعقول والعلوم والأفهام وتوهّم القلوب . فالأخبار الدالّة علي النهي عن الخوض والتكلّم والتعمّق والتفكّر في ذاته سبحانه واكتناهه تعالي تدلّ علي بطلان المقالات الّتي قدّمناها من العرفاء والفلاسفة .
ثمّ إنّ القول بأنّه سبحانه ( وجود ) هو إخبار عن حقيقة ذاته تعالي ، وتعيين كنهه سبحانه بحقيقة الوجود الّتي هو حقيقة جميع الأشياء عندهم - بالرشح والفيضان أو التطوّر والتجلّي - ممنوع عقلاً وشرعاً .(2)
وفرق بين القول بأنّه تعالي موجود ، ثابت ، محقق كما في الأخبار ، والقول بأنّه سبحانه وجود ؛ لأنّ الأوّل إخبار عن كونه شيئاً حقيقيّاً لا موهوماً ولا باطلاً بخلاف الثاني فإنّه إخبار عن معرفة كنهه وحقيقة ذاته سبحانه كما سيأتي بيانه .(3)
ومنها : الأخبار الدالّة علي أنّه سبحانه أبدع وخلق وأوجد العالم لا من شي ء ، والقول بأنّ العالم عينه تعالي أو مرتبة من مراتب وجوده ينافي الإبداع والخلق والايجاد بالبداهة .
ص: 116
فليس ما سوي اللَّه صادراً عن ذاته حتّي يكون جزءه أو كلّه أو مرتبة من مراتب وجوده أو تطوّره .
ومنها : الأخبار الواردة في أنّه سبحانه لا يشبه شيئاً من المخلوقين ، إذ هو مباين لهم في ذاتهم وأوصافهم ، ومنزّه عن مجانسة مخلوقاته .
وهذا هو العمدة في معرفة اللَّه تعالي وبه تمتاز المعارف الإلهيّة الحقّة عن غيرها من المعارف البشريّة .
وغير ذلك من الإشكالات الواردة علي مقالة العرفاء والفلاسفة كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالي .
والعجب العجاب من قول بعضهم : إنّ القول بأنّ للأشياء وجوداً حقيقيّاً أقرب إلي دعوي : شركة الممكن مع الواجب في الوجوب وكون الممكن واجباً ، وهو كفر من حيث لا يشعر .(1)
وما لي لا أعجب من أنّ اللَّه سبحانه وتعالي حكم بكفر النصاري ولعنهم وطردهم وإبعادهم لأجل قولهم بحلوله في عيسي عليه السلام فقط ، فكيف بمن يقول بحلوله في جميع الأعيان والأكوان حتّي الكلاب والخنازير ، أو بإتّحاده معها ، أو بأنّه تعالي عين جميع الأشياء وليس في الخارج إلاّ وجود واحد وهو عين الأشياء فيلزم أن يكون المبدء عزّ اسمه عين الحيوانات النجسة و . . تعالي اللَّه عمّا يصفه الظالمون علوّاً كبيراً ، ونعوذ باللَّه ثمّ نعوذ باللَّه من هذه الأقاويل والأباطيل .
والشّيخ علاء الدولة السمنانيّ - مع غاية غلوّه واعتقاده في ابن العربيّ ، حتّي أنّه خاطبه في حواشيه علي الفتوحات بقوله : أيّها الصدّيق ! أيّها المقرّب ! وأيّها
ص: 117
الوليّ ! وأيّها العارف الحقّانيّ ! - كتب علي قول ابن العربيّ في الفتوحات : ( سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها )(1) ما لفظه : إنّ اللَّه لا يستحيي من الحقّ ، أيّها الشيخ ! لو سمعت من أحد أنّه يقول : فضلة الشيخ عين وجود الشيخ ، لا تسامحه البتّة ، بل تغضب عليه ، فكيف يسوغ لك أن تنسب هذا الهذيان إلي الملك الديّان ؟ ! تب إلي اللَّه توبة نصوحاً لتنجو من هذه الورطة الوعرة الّتي يستنكف منها الدهريّون والطبيعيّون ! والسّلام علي من اتّبع الهدي .
أقول : انظر إلي الأدلّة الّتي ذكرناها في المقام والأخبار الكثيرة الّتي بين يديك وذكرت نزراً منها في هذه الرسالة وكلمات الفقهاء العظام ، المروّجين لدين سيّد الأنام وأئمّة الكرام عليهم آلاف التحيّة والسلام - كما سنذكر كلمات بعضهم في باب مستقل إن شاء اللَّه تعالي - حتّي تعلم أيّ القولين أقرب إلي الشّرك ، القول بوحدة الخالق والمخلوق أو كونهما موجودين حقيقيّين أحدهما خالق والآخر مخلوق ؟ !
ويعجبني أن أذكر حديثاً روي عن مولانا وسيّدنا وهادينا أبي عبد اللَّه الصّادق عليه السلام حيث قال : لعن اللَّه المعتزلة ، أرادت أن توحّدت فألحدت ، ورامت أن ترفع التشبيه فأثبتت .(2)
أقول : كفي في فضيحة القوم ذهابهم إلي ما عليه معظم النصاري مع أنّ المحذور اللازم لأتباعهم لازم لأتباع هؤلاء ، لجريان العلّة المذكورة فيهم .
ونحن نقول : إنّ اللَّه تبارك وتعالي جلّ أن تكون حقيقته من سنخ مخلوقاته كما ورد عن مولانا عليّ بن موسي الرّضاعليهما السلام : « بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له ، وبمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له ،
ص: 118
وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له » .(1)
والمفهوم من هذا الخبر وغيره من الأخبار هو البينونة الذّاتية بينه سبحانه وبين ما سواه من الممكنات .
وعنه عليه السلام : « كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم » .(2)
والمفهوم منه - أيضاً - بينونة الكائن القديم عن الكائن الحادث ، والموجود غير المسبوق بالعدم عن المسبوق بالعدم .
وعنه عليه السلام : « . . بل أنشأته ليكون دليلاً عليك بأنّك بائن من الصنع » .(3)
وعنه عليه السلام : « التّوحيد الإقرار بالوحدة وهو الانفراد ، والواحد المتباين الّذي لا ينبعث من شي ء ولا يتّحد بشي ء » .(4)
وعنه عليه السلام : « حدّ الأشياء كلّها عند خلقه إيّاها إبانة لها من شبهه وإبانة له من شبهها » .(5)
وعنه عليه السلام : « فكلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه ، وكلّ ما يمكن فيه يمتنع من صانعه » .(6)
وعنه عليه السلام : « . . وكنهه تفرقة بينه وبين خلقه » .(7)
ص: 119
وعن ثامن الحجج عليه السلام : « من وصف اللَّه بخلاف ما وصف به نفسه فقد أعظم الفرية علي اللَّه » .(1)
وعن سيّدالشهداءعليه السلام : « . . أنّه لا يوصف بشي ء من صفات المخلوقين وهو الواحد الصمد ، ما تصوّر في الأوهام فهو خلافه » .(2)
وعن أميرالمؤمنين عليه السلام : « فمعاني الخلق عنه منفيّة . . . المعروف بغير كيفيّة ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالنّاس ، ولا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأفكار ، ولا تقدّره العقول ، ولا تقع عليه الأوهام ، فكلّ ما قدّره عقل أو عرف له مثل فهو محدود » .(3)
وتأمّل في هذه الأحاديث الّتي تنادي بأعلي صوتها علي توحيد الخالق تعالي والتفريق بينه وبين خلقه ، وأنّه سبحانه متعال عن المقدار والعدد والحدود و . . ومبائن لكلّ شي ء ومنزّه عن مجانسة مخلوقاته .
وهؤلاء الفلاسفة والعرفاء وقفوا في قبالهم عليهم السلام وبالغوا في الإنكار والمكابرة والمعارضة وأصرّوا في جعله عزّ وجلّ عين خلقه ، زاعمين أنّ ذلك عين التوحيد مع أنّه عين الجحود والتشريك والإلحاد . وملاك التشبيه الّذي اقتضت الضرورة العقليّة والنقليّة بعدمه هو هذه العينيّة والسنخيّة .
فإن كنت قد اكتحلت عين بصيرتك بنور أخبار آل محمّد صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين يظهر لك حال من قال : إنّ الذات الإلهيّة هي الّتي تظهر بصور العالم ، وأنّ أصل تلك الحقائق وصورها تلك الذات ، وأنّها هي الّتي ظهرت في الصّورة
ص: 120
الجوهريّة المطلقة الّتي قبلت هذه الصّور .(1)
وقال : فكلّ ما تدركه فهو وجود الحقّ في أعيان الممكنات .(2)
وقال : إنّ اللَّه تجلّي لي مراراً وقال : انصح عبادي ! .(3)
وقال : فإنّ الوجود منه أزليّ ومنه غير أزليّ وهو الحادث ، فالأزليّ وجود الحقّ لنفسه ، وغير الأزليّ وجود الحقّ بصور العالم الثابت فيسمّي حدوثاً ، لأنّه يظهر بعضه لبعضه ، وظهر لنفسه بصور العالم ، فكمل الوجود وكانت حركة العالم حبيّة للكمال .(4)
أو من قال : إنّ واجب الوجود تمام الأشياء وكلّ الموجودات ، وعقد لذلك فصلاً مستقلاً .(5)
وبعد مراجعة العقل والوجدان والفطرة وأخبار العترةعليهم السلام كقولهم : « من شبّه اللَّه بخلقه فهو مشرك » .
أو قولهم : « من وصف اللَّه بوجه كالوجوه فقد كفر . . » .
ما تقضي وتحكم في القائل بهذه المقالات ؟ !
نعم : « من التمس الهدي في غيره - القرآن - أضلّه اللَّه » .(6)
وقد قال اللَّه تعالي : «فلا تضربوا للَّه الأمثال إنّه يعلم وأنتم لا تعلمون»(7) .
ص: 121
وقال : «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» .(1)
وقال : «من لم يحكم بما أنزل اللَّه فأولئك هم الكافرون» .(2)
وقال : «إنّ اللَّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » .(3)
وقال : « إنه من يشرك باللَّه فقد حرّم اللَّه عليه الجنّة ومأواه النّار » .(4)
وقال : « ومن يشرك باللَّه فكأنّما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق » .(5)
وهذه الآيات وغيرها تبيّن المقصود بوضوح .
ثمّ ينبغي أن نذكر هنا بعض ما يترتّب علي هذا القول من التوالي الفاسدة ، فنقول :
ص: 122
لمّا فرغنا عن الجواب عن أدلّتهم علي وحدة الوجود ينبغي أن نذكر بعض ما يترتّب علي هذا القول من التوالي الفاسدة إذ بها يكشف إنّاً بطلان جميع أدلّتهم لوحدة الوجود مع ما تقدّم من الجواب عن أدلّتهم .(1)
وقد تقدّم أنّ المشهور بين فلاسفة المشّاء والمتكلّمين أنّ الوجود غير قابل للشّدة والضعف إلاّ أنّ الإشراقيّين قالوا به وتابعهم في ذلك ملاصدرا . وسيثبت بوضوح - في ضمن بيان المفاسد - بطلان القول بأنّ للوجود مراتب متعدّدة وأنّه حقيقة واحدة مشكّكة .
أنه علي القول بوحدة الوجود واشتراكه بين الخالق والمخلوق يلزم أن لا يكون الوجود - مع قطع النظر من مرتبتيه - متّصفاً بصفة الإمكان والوجوب ، والاتّصاف بهما إنّما يحدث فيه بواسطة مرتبتيه ، فيكون الاتّصاف بهما عرضياً لا ذاتياً وهو باطل بالضرورة .
ص: 123
وببيان آخر: الوجود المشترك بين المرتبتين إمّا واجب ، أو ممكن ، أو ليس بواجب ولا ممكن ، فإن كان واجباً لزم أن يكون جميع مراتبه واجباً ، وإن كان ممكناً لزم أن يكون جميع مراتبه ممكناً بذاته ولو صار واجباً بالعرض ، وإن لم يكن ممكناً ولا واجباً فمع فرض تصوّره يلزم أن لا يكون وجوبه وإمكانه ذاتيين بل عرضيين وهو أقبح فساداً .
فإن قلت : إنّما يلزم ما ذكرت إذا كانت المراتب صفات خارجة عارضة علي الوجود ، وأمّا إذا كان اختلاف المرتبة باعتبار شدة الوجود وضعفه كالنّور القوي والضعيف فلا يلزم ذلك ، إذ المرتبة حينئذ من جنس الوجود لا أمر خارج عنه ، قلت : ما يقبل المتقابلين من الشدة والضعف فهو في حدّ نفسه خال عنهما ، فاتّصافه بأحدهما زائد علي ذاته موجب لتغيره عما هو عليه ، ولا يتصف بصفة الإمكان أو الوجوب إلاّ بعد اتّصافه بأحد المتقابلين من الشدة والضعف الخارجين عن ذاته ، بل يلزم حينئذ أن يكون الواجب وهو الوجود الشديد منقسماً في عقل أو وهم ، لرجوعه تحليلاً إلي صفة وموصوف .
انه إذا فرض اشتراك الوجود بين وجود الواجب ووجود الممكن وفرض أنّ الوجود الضعيف ممكن ذاتاً لا يعقل أن يكون الشديد واجباً بذاته ؛ لأنّ شدّة الشي ء وقوّته إنّما توجب الشدّة في الأثر لا انقلابه عمّا كان عليه ذاتاً كالنّور ، فإنّ الضعيف منه يوجب رفع الظلمة في الجملة ، والقويّ منه أشدّ تأثيراً في رفع الظلمة لا انقلابه عمّا كان عليه ذاتاً .
ص: 124
انّ الوجود الشديد عندهم ما كان مطلقا مجرّداً عن القيود لعمومه وشموله جميع الموجودات ، والضعيف ما كان مقيداً ، وتختلف مراتب ضعفه باختلاف مراتب القيود ، فالجزئي الخارجي أضعف من النوع وجوداً ، والنوع أضعف من الجنس القريب كذلك ، وهو أضعف من الجنس البعيد إلي أن ينتهي إلي الوجود المطلق ، فهو لإطلاقه وتجرّده عن القيد أشدّ وأقوي من الجميع ، وهو واضح البطلان ؛ لأن الوجود الذي يتطرّق فيه التحديد والاتحاد مع الماهية هويةً وخارجاً لا يتم إلاّ بالتعيّن التام وهو التشخّص ، ضرورة أنّ الشي ء ما لم يتشخّص لم يوجد كما أنه ما لم يوجد لم يتشخّص ، فمطلق الوجود الذي يتطرّق فيه التحديد والاتحاد مع الماهية في الخارج لا يكون وجودا إلاّ بعد تشخّصه وتعيّنه في الخارج ، وقبله يكون مبهما ومفهوما محضا لا عين ولا أثر له في الخارج ، ووجود الواجب تعالي شأنه لا يكون محدوداً بمعني أنّه لا يتطرق فيه التحديد ، لا أنه يتطرق فيه التحديد ويكون غير محدود ، فليس وجوده تعالي من سنخ وجود الممكن مختلفاً معه في المرتبة كما زعمته جماعة من الصّوفية ومن يحذو حذوهم .(1)
انّ القول بوحدة الوجود يلزم منه مشاركته تعالي لما سواه في حقيقة الكنه والذات الّتي هو الوجود ، ويلزم حينئذ إثبات المثل والشبه له سبحانه ، وهو ينافي قوله سبحانه : «ليس كمثله شي ء»(2) بقول مطلق ، حيث نفي شيئاً مثله ، أي كلّ ما
ص: 125
هو غيره فهو ليس مثله ، والأخبار الدّالّة علي بطلان المثل والشبه والشركة في الوجود بين اللَّه تعالي وبين غيره من المخلوقات .
وينافي أيضاً تفرّده وتوحّده تعالي في حقيقة الذّات .
لا ريب في أنّه لا يعرف كنه ذاته سبحانه وصفاته ؛ إذ إنّ ذاته لا تكشف لا بإشارة ولا عبارة « وقد أخطأ من اكتنهه » (1) ، « ولا به صدّق من نهّاه » (2) ، « ولا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته » (3) ، ولم يعلم من ذاته سبحانه إلاّ أنّه موجود وأنه شي ء بخلاف الأشياء ، والعلم بالوجود لا يلازم العلم بالذّات ، فلا يقال كيف يعلم وجوده ولا يعلم ذاته ؟ كما مرّ .
ولا يخفي أنّ الأصل في امتناع إدراكه تعالي امتناع الذّات لا قصور المدرِكات - وإن كانت هي قاصرة بالذات - كما ستأتي الإشارة إليه في الروايات .
وعلي هذا ، فمن سئل عن كنه ذاته سبحانه فأجاب : إنّه تعالي وجود ، فقد أخبر عن حقيقة ذاته تعالي(4) وإن لم يفهم حقيقة الوجود ، واعترف بعجزه عن
ص: 126
درك حقيقة الوجود وقال بأنّ كنهه لا يدرك .(1)
وبناءاً علي هذا ما الفرق بين الخالق والمخلوق في هذه الجهة ؟ ! أي العجز عن درك حقيقة الوجود .
وإذا كان كنه الأشياء - وما سوي اللَّه - في غاية الخفاء فما الوجه في ورود
ص: 127
الأحاديث المتواترة عن الأئمّة المعصومين - عليهم آلاف التحيّة والتسليم - في المنع عن التفكّر والتكلّم والبحث والخوض و . . في كنهه سبحانه وحقيقة ذاته وتجويز ذلك في مخلوقاته(1) - كما سيأتي بعضها - مع أنه لا فرق بين الخالق والمخلوق في خفاء كنههما المشترك بينهما وهو الوجود علي هذا المسلك !
والحاصل : أنّ القول بانّ الباري تعالي يتطوّر ويتجلّي بصور المخلوقات ليس هو إلاّ نوع من التكلّم في حقيقته سبحانه ، والخوض في كيفيّة ذاته تعالي المنهي عنهما في الشريعة وهكذا القول بأنّ اللَّه تعالي وجود بمعني أنه حقيقة الوجود وكنهه الوجود المشترك بينه وبين خلقه .
ولا يخفي أنّ الشركة في الوجود تستدعي المناسبة بينهما ؛ بل هي في الحقيقة نوع من التشبيه ، بخلاف القول بأنّه تعالي موجود ، فإنّه بمعني أنه ثابت ومتحقّق ، أو أنّه ذي الثبوت والتحقق .
وببيان أوضح : إنّ الإخبار علي نوعين : إمّا إخبار عن ذاته تعالي ككونه تعالي موجوداً عالماً قادراً ، وإمّا إخبار عن حقيقة الذّات والكنه .
أمّا الإخبار عن ذاته تعالي فذاك جايز تشهد عليه الآيات والأخبار
ص: 128
الواردة فيه ، كقوله تعالي : «إنّ اللَّه واسع عليم» .(1)
وقوله عزّ شأنه : «اللَّه لطيف بعباده يرزق من يشاء . . » .(2)
وقوله سبحانه : «إنّه هو العليم الحكيم» .(3)
وقوله جلّ وعزّ : «هو السميع البصير» .(4)
قوله عز من قائل : «اللَّه خالق كلّ شي ء . . » .(5)
فإنّها إخبار عن أوصافه الذاتيّة والفعليّة ، فلا إشكال في الإخبار عنه تعالي .
وأمّا الإخبار عن حقيقة الذات كالقول بأنّه سبحانه وجود ( أي حقيقة الوجود الّتي هي حقيقة جميع الأشياء علي زعمهم ) والقول بالتطوّر وتجلّيه تعالي فإنّها إخبار عن حقيقته تعالي وهو ممنوع عقلاً وشرعاً .(6)
وعلي هذا ظهر الفرق بين القول بأنّه تعالي منزّه عن الإدراك والتصوّر والجسميّة والقول بأنّه تعالي وجود حيث إنّ في الأوّل إخباراً عن ذاته تعالي وليس عن حقيقة الذات وفي الثاني إخباراً عن حقيقة ذاته تعالي وكنهه .
ص: 129
وقد ورد في الأخبار عنهم عليهم السلام : « ولا إيّاه وحّد من اكتنهه »(1) ، و« كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم »(2) ، و« ليس بإله من عرف بنفسه »(3) ، و« كلّ معروف بنفسه مصنوع »(4) ، و« ما تصوّر في الأوهام فهو خلافه »(5) ، و« ما توهّمتم من شي ء فتوهّموا اللَّه غيره »(6) ، « ولا يقع عليه الأوهام ، ولا تصفه الألسن »(7) ، و« مدح اللَّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمّي تركهم التعمق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخاً »(8) ، و« إن قالوا : فأنتم الآن تصفون من قصور العلم عنه وصفاً حتّي كأنّه غير معلوم ، قيل لهم : هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كنهه والإحاطة به ، وهي من جهة أخري أقرب من كلّ قريب إذ استدلّ عليه بالدلائل الشافية ، فهو من جهة كالواضح لا يخفي علي أحد ومن جهة كالغامض لا يدركه أحد »(9) ، و« لا يخطر ببال أولي الرويّات خاطرة من تقرير جلال عزّته لبعده أن يكون في قوي المحدودين ، لأنه خلاف خلقه فلا شبه له من المخلوقين ، وإنّما يشبه الشي ء بعديله ، فأمّا ما لا عديل له فكيف يشبه بغير مثاله »(10) ، و« إن قالوا : أو ليس نصفه ؟
ص: 130
فنقول : العزيز الحكيم الجواد الكريم ، قيل لهم : كلّ هذه صفات إقرار ، وليست صفات إحاطة ، فإنّا نعلم أنّه حكيم ولا نحيط بكنه ذلك منه وكذلك قدير وجواد وسائر صفاته » .
« فإن قالوا : فكيف يكلّف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به ؟ قيل لهم : إنّما كلّف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه ولم يكلّفوا الإحاطة بصفته » (1) ، و« يصيب الفكر منه الإيمان به موجوداً ووجود الإيمان لا وجود صفة »(2) ، و« ليس علم الإنسان بأنّه موجود موجب له أن يعلم ما هو وكيف هو ، كما أنّ علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم ما هي وكيف هي ، وكذلك الأمور الروحانية اللطيفة » .(3)
وبالجملة فالمستفاد من الكتاب والسنّة : أنّه تعالي لا تدرك ذاته ولا صفاته ، وأنّ اللَّه تعالي ذات مبائن لمخلوقاته ومنزّه عن الإدراك والتصوّر والتوهّم ، مع أنّ له تحقّق وثبوت في الخارج ، وليست مباينته تعالي للأشياء من جهة الأمر الاعتباري ( أي الماهيّة ) ببيان أنّ الممكن زوج تركيبيّ له ماهيّة ووجود ، وهو تعالي منزّه عن الماهيّة ، وأمّا في حقيقة الوجود فهو متّحد مع سائر الأشياء .
بل المستفاد من القرآن والعترة أنّه تعالي باين الأشياء بالذات تبايناً كلّيّاً حقيقة وواقعاً .
وبعبارة أخري : كان اللَّه تعالي متعالياً عن ملاك المصنوعيّة والمخلوقيّة ( وهو قابليّة الوجود والعدم والزيادة والنقيصة وكونه ذا جزء وعدّ ومقدار وزمان ومكان
ص: 131
و . . ) وليس هو تعالي حقيقة الوجود الّتي تشترك فيها الممكنات أو مصداقاً لمفهوم يطلق علي الأمور المشتركة في حقيقة الوجود .
وأمّا علي ما ذكروه ليست الممكنات والمخلوقات موجودات حقيقة بل الموجود هو حقيقة الوجود الواحد الساري في الجميع .
وعليه فتنعدم البينونة - المستفادة من القرآن والأخبار والأدعيّة - بين الخالق والمخلوق والداعي والمدعوّ والمرسل والرسول ، فتكون اعتباريّة صرفة ، وهذا إنكار أبده البديهيّات والفطريّات .
فالقول باشتراك الخالق والمخلوق في حقيقة الوجود - مع القول باعتباريّة الماهيّة - ينافي الآيات والأخبار الواردة في تنزيهه تعالي عن مسانخة المخلوقات ، بل لا يبقي إلاّ الوجود وهو الخالق وهو المخلوق وهو الآمر وهو المأمور ! وكيف يخلق الوجود شيئاً بعد القول بأصالة الوجود ووحدة حقيقة الوجود ؟ !
مضافاً إلي أنّ العلّيّة في المتماثلات ليست بالعلّيّة الفاعليّة ؛ لأنّ الشّي ء إن كان في حقيقته محتاجاً إلي الفاعل من سنخه - بفرق من المرتبة - يوجب عدم انقطاع الحاجة إلي الفاعل ؛ لأنّ الحاجة إلي الفاعل إنّما هو في أصل الشي ء لا في حدّه الّذي هو اعتباريّ ، لأنّه لو لم يجعل الأصل لم يصر مجعولاً ، والأصل مفروض في كلّ مرتبة ، كما لا يخفي .
وحاصل دعوانا - تبعاً لساداتنا أهل البيت عليهم السلام - أنّ ذاته تعالي لا يعرف ولا يوصف ولا يدرك . كما عن أبي الحسن عليه السلام : « إنّ الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه ، وأنّي يوصف الّذي تعجز الحواس أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحدّه ، والأبصار عن الإحاطة به » ؟
ص: 132
« جلّ عمّا وصفه الواصفون ، وتعالي عمّا ينعته الناعتون » .(1)
وعن أبي الحسن موسي بن جعفرعليهما السلام : « لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره اللَّه تعالي ذكره في كتابه فتهلك . . . تعالي عن صفات المخلوقين علوّاً كبيراً » .(2)
عن أبي الحسن الرضاعليه السلام : « من وصف اللَّه بخلاف ما وصف به نفسه فقد أعظم الفرية علي اللَّه » .(3)
وعن أبي الحسن موسي بن جعفرعليهما السلام أنّه قال : « إنّ اللَّه أعلي وأجلّ وأعظم من أن يبلغ كنه صفته ، فصفوه بما وصف به نفسه وكفّوا عمّا سوي ذلك » .(4)
ولكن الفلاسفة أرادوا الوصول إلي ما ليس من طورهم وحدّهم وأخطأوا فضلّوا وأضلّوا ، وقد قال مولانا الرضاعليه السلام : « من يصف ربّه بالقياس لا يزال الدهر في الالتباس ، مائلاً عن المنهاج ، ظاعناً في الإعوجاج ، ضالاًّ عن السبيل ، قائلاً غير الجميل . . » .(5)
وواضح عند أولي الألباب أنّ تنزيهه تعالي عن التوصيف والتعريفات لا يلازم نفي صفاته ونعوته الّتي هي كمال حقيقيّ لابدّ من إثباته في حقّه سبحانه .
فإنّا ننزّهه - سبحانه وتعالي - من مشابهة خلقه في ذاته وصفاته ، ونصفه بصفات ذاته ونقول : إنّه تعالي حيّ ، عالم ، سميع ، بصير ، قادر ، قيّوم ، خبير ، بمعني
ص: 133
أجلّ وأعلي ممّا يتصوّره العقل ، علي ما نبّه عليه الأئمّة الهادون المعصومون عليهم السلام في شرح الأسماء الحسني .
ونقدّسه جلّ وعزّ من صفات المخلوقات مطلقاً سواء كانت صفة نقصان كالعجز والحاجة والافتقار ، أو صفة كمال كالعلم والإرادة والقدرة والإختيار ، فإنّ هذه الصّفات وإن كانت كمالات للمخلوق إلاّ أنّ إثباتها للخالق بالاعتبار الثابت للمخلوق موجب لاتّصافه بصفات المحدثات ، فتكون بالنسبة إليه - سبحانه وتعالي - نقصاً لا كمالاً .
وحيث انجرّ الكلام إلي هنا يحسن بنا أن ننقل بعض كلمات الفلاسفة والعرفاء في المقام في هذه المسألة - أي التشبيه والتنزيه - حتّي يظهر لك مذهبهم ومرامهم بوضوح ، ثمّ ننقضها ونردّها من لسان أئمّة الهدي ومصابيح الدجي وكهف الوري .
فنقول :
قال ابن العربيّ :
فإن قلت بالتشبيه كنت محدّداً
وإن قلت بالتنزيه كنت مقيّداً
وإن قلت بالأمرين كنت مسدّداً
وكنت إماماً في المعارف سيّداً ! (1)
وقال أيضاً : اعلم أنّ التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد ، والمنزّه إمّا جاهل وإمّا صاحب سوء أدب ! (2)
ص: 134
وعن بعض : يجب التحرز عن التنزيه الصرف كما يجب التنزه عن التشبيه المحض للزوم الإتقاء عن حدّي التعطيل والتشبيه !(1)
وعن بعض آخر : صفات الممكن نوعان ، نوع منها لازم جهة وجوده وهو لا يخالف صفات الواجب بل يشبهها .(2)
وعن بعض : إنّ سريان الهويّة الإلهيّة في الموجودات كلّها أوجب سريان جميع الصفات الإلهيّة فيها من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها كلّيها وجزئيّها .(3)
وقال أيضاً : إنّ وحدة الوجود إن لم يكن صحيحة فيلزم أن يكون الحق تعالي محدوداً ! .(4)
وقال : إنّ التمايز بين الحق سبحانه وبين الخلق ليس تمايزاً تقابليّاً ، بل التميّز هو تميّز المحيط عن المحاط بالتعيّن الإحاطيّ والشمول الإطلاقيّ . . . وهذا الإطلاق الحقيقيّ الإحاطيّ حائز للجميع ولا يشذّ عن حيطته شي ء . . . وكون العلّة والمعلول علي النحو المعهود المتعارف في الأذهان السافلة ليس علي ما ينبغي بعزّ جلاله سبحانه وتعالي .(5)
وقال أيضاً : چون بدقت بنگري آنچه در دار وجود است وجوب است وبحث در امكان براي سرگرمي است .(6)
ص: 135
وقال : الهي تا به حال مي گفتم لا تأخذه سنة ولا نوم الآن مي بينم مرا هم لا تأخذني سنة ولا نوم .(1)
الهي از گفتن نفي واثبات شرم دارم كه اثباتيم . لا إله إلاّ اللَّه را ديگران بگويند ، اللَّه را حسن .(2)
الهي از من وتو گفتن شرم دارم ؛ أنت أنت . الهي عمري كوكو مي گفتم وحال هو هو مي گويم .(3)
أقول : ولنأخذ بنقد كلام ابن العربيّ حتّي يظهر بطلان كلام الجالسين علي فضلات طعامه ، وسنرجع للجواب عنها تفصيلاً في المباحث التالية .
كيف يكون التنزيه موجباً للتحديد مع أنّ معني التنزيه : هو إبداء المغايرة بينه تعالي وبين خلقه ، لأجل اتصاف الخلق بأوصاف بري ء منها الحق المتعال ، وتقديسه عن جميع ما أحدث ، وتنزّهه تعالي عن مجانسة مخلوقاته وعن تشبيهه بخلقه وتطوّره بأطواره وتنزّله في مرتبة مخلوقاته .
وبعبارة أخري : إنّ التنزيه هو جعله سبحانه خلواً من خلقه وخلقه خلواً منه ،(4) فعليه إنّ حقيقة التنزيه هو إظهار كونه سبحانه مبائناً لمخلوقاته ، مفارقاً لها بنفس ذاته الأقدس الأعلي .
ص: 136
وقد قال الصادق عليه السلام : « لا يليق بالّذي هو خالق كلّ شي ء إلاّ أن يكون مبائناً لكلّ شي ء ، ومتعالياً عن كلّ شي ء ، سبحانه وتعالي » (1) .
وقال عليه السلام : « فالحجاب بينه وبين خلقه لامتناعه ممّا يمكن في ذواتهم ، ولإمكان ذواتهم ممّا يمتنع منه ذاته ، ولافتراق الصانع والمصنوع ، والرب والمربوب ، والحادّ والمحدود » .(2)
وما ذكرناه من الأخبار كافٍ لبطلان هذه المقالات إن لم نقل بكفاية العقل السليم والوجدان النظيف لبيان سخفها وحماقة قائلها ، فإنّ العقل والنقل متّفقان علي تنزّهه تعالي عن اتّصافه بصفات المحدثات وعن مشابهة المخلوقات .
كيف وقد نزّه اللَّه سبحانه ذاته القدّوس في كتابه الكريم بقوله : «و ما أمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون» .(3) وقال سبحانه : «سبحانه وتعالي عمّا يقولون علوّاً كبيراً»(4) وقال تعالي : «سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون»(5) وقال عزّ اسمه : «أم لهم إله غير اللَّه سبحان اللَّه عمّا يشركون»(6) وغيرها من الآيات .
بل نقول : إنّ عمدة الغرض من التنزيهات الواردة في الكتاب المبين والصادرة عن ألسنة الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين والحجج المعصومين سلام اللَّه عليهم أجمعين ليس إلاّ تنزيهه سبحانه وتقديسه عمّا نسبته إليه عزّ وجلّ هذه
ص: 137
الطائفة من ظهوره في صور الموجودات ، واتصافه بصفات المحدثات « فتعالي اللَّه عمّا يشركون » (1) و « سبحان اللَّه عمّا يصفون ) .(2)
وكيف يجتري ء المؤمن أن ينسب من قال : « لا إله إلاّ اللَّه » و« سبحان اللَّه »(3) إلي الجهل وسوء الأدب ، ومن قال : ( سبحاني ما أعظم شأني ) ،(4) وقال : ( إنّي أنا اللَّه ) و( ليس في جبّتي سوي اللَّه ) وقال : ( أنا الحقّ ) ،(5) إلي الأدب والعلم ؟ ! !
ص: 138
وكيف يجسر المؤمن علي أن يقول : إنّ «لا إله إلاّ اللَّه» هو توحيد العوام(1) ( و لا موجود إلاّ اللَّه ) هو توحيد الخواص ؟ ! مع ما روي عن النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « ما قلت ولا القائلون قبلي مثل لا إله إلاّ اللَّه » .(2)
وعنه صلي الله عليه وآله وسلم أيضاً : « كلّ جبّار عنيد من أبي أن يقول : لا إله إلاّ اللَّه » .(3)
وعنه صلي الله عليه وآله وسلم : « ما من الكلام كلمة أحبّ إلي اللَّه عزّوجلّ من قول لا إله إلاّاللَّه ، وما من عبد يقول لا إله إلاّ اللَّه يمدّ بها صوته فيفرغ إلاّ تناثرت ذنوبه تحت قدميه كما يتناثر ورق الشجر تحتها » .(4)
ص: 139
وعنه صلي الله عليه وآله وسلم : « قال اللَّه جلّ جلاله لموسي : يا موسي ! لو أنّ السماوات وعامريهنّ والأرضين السبع في كفّة ولا إله إلاّ اللَّه في كفّة مالت بهنّ لا إله إلاّ اللَّه».(1)
وهو ( أي قول لا إله إلاّ اللَّه ) خير العبادة(2) ، وثمن الجنة(3) ، وحصن اللَّه جلّ جلاله(4) ، وكلمة عظيمة كريمة علي اللَّه عزّوجلّ(5) .
فيا للَّه من سوء الاعتقاد والزيغ عن نهج الرشاد ، وصرف الآيات المحكمات عن ظواهرها إلي تصحيح عبادة الطاغوت والاستناد إلي المتشابهات في إثبات مذهب هو أوهن من بيت العنكبوت . . !
وقد قال عزّ من قال : «فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ اللَّه والرّاسخون» .(6)
وحريّ بنا أن ندرج جملة من الرّوايات الناصّة علي أنّه تعالي منزّه عن مجانسة مخلوقاته ، والمفيدة للبينونة والإثنينيّة ، والمكفّرة للوحدويّة ، ثمّ نستعرض لبعض الروايات الدالة علي أنّه سبحانه منزّه من التحديد والتّشبيه فنقول :
إنّ نسبة الأشياء إلي الخالق تعالي ليست إلاّ نسبة الخالقيّة والمخلوقيّة ، لا نسبة العينيّة والسنخيّة ولو مع تحقّق الغيريّة الاعتباريّة الوهميّة كما :
ص: 140
عن سيّد الشهداءعليه السلام : « أنت الّذي أنشأت الأشياء من غير سنخ » .(1)
وعن أميرالمؤمنين عليه السلام : « وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته » .(2)
وعن الإمام عليه السلام : « . . بل أنشأته ليكون دليلاً عليك بأنّك بائن من الصنع » .(3)
وعن مولانا الرضاعليه السلام : « . . ذاته حقيقة وكنهه تفرقة بينه وبين خلقه . . » (4)
وعن أميرالمؤمنين عليه السلام : « . . مباين لجميع ما أحدث في الصفات . . » .(5)
عنه عليه السلام : « . . ليس بجنس فتعادله الأجناس ، ولا بشبح فتضارعه الأشباح ، ولا كالأشياء فتقع عليه الصفات . . » .(6)
عنه عليه السلام : « . . خلق اللَّه الخلق حجاب بينه وبينهم ومباينته إيّاهم مفارقته إنّيتهم . . . بمفارقته بين الأمور عرف أن لا قرين له . . . فكلّما في الخلق لا يوجد في خالقه ، وكلّ ما يمكن فيه يمتنع من صانعه . . . ولا في إبانته عن الخلق ضيم إلاّ بامتناع الأزليّ . . » .(7)
وعن أبي عبد اللَّه عليه السلام : « أمّا التوحيد فأن لا تجوز علي ربّك ما جاز عليك » .(8)
ص: 141
وعن أميرالمؤمنين عليه السلام : « . . بان من الخلق فلا شي ء كمثله » .(1)
وعنه عليه السلام : « . . حدّ الأشياء كلّها عند خلقه إيّاها إبانة لها من شبهه وإبانة له من شبهها » .(2)
إلي ما شاء اللَّه من أحاديث الباب ، والمتحصّل منها : أنّ اللَّه سبحانه وتعالي منزّه عن تشبيهه بخلقه ، وتطوّره بأطوار خلقه ، وتنزّله في مرتبة مخلوقاته ، وتعيّنه بحدودها ، وقبوله الأحكام الجارية علي ما سواه سبحانه .
وأما الرّوايات الناصّة علي أنّه تعالي منزّه عن الحدّ والشبه وأنّ القائل بهما مشرك فهي كثيرة جدّاً ، منها : ما عن أميرالمؤمنين عليه السلام : « . . ولا حقيقته أصاب من مثّله . . . ولا إيّاه عني من شبّهه » .(3)
فإنّه صريح في التنزيه من التمثيل والتشبيه ، لا الجمع بين التنزيه والتشبيه كما يقولون !
وعنه عليه السلام : « حدّ الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها » .(4)
وعنه عليه السلام : « . . تعالي عمّا ينحله المحدّدون من صفات الأقدار ، ونهايات الأقطار ، وتأثّل المساكن ، وتمكّن الأماكن ، فالحدّ لخلقه مضروب وإلي غيره منسوب » .(5)
ص: 142
وعنه عليه السلام : « لمّا شبّهه العادلون بالخلق المبعّض المحدود في صفاته ، ذي الأقطار والنواحي المختلفة في طبقاته ، وكان عزّوجلّ الموجود بنفسه لا بأداته ، انتفي أن يكون قدّروه حقّ قدره ، فقال تنزيهاً لنفسه عن مشاركة الأنداد وارتفاعاً عن قياس المقدّرين له بالحدود من كفرة العباد : « وما قدروا اللَّه حقّ قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويّات بيمينه سبحانه وتعالي عمّا يشركون » .(1)
وعن المفضّل بن عمر ، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنه قال : « من شبّه اللَّه بخلقه فهو مشرك ، إنّ اللَّه تبارك وتعالي لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شي ء ، وكلّما وقع في الوهم فهو بخلافه » .(2)
وعنه قال : كتبت إلي الرجل ( يعني أبا الحسن عليه السلام ) إنّ من قبلنا من مواليك قد اختلفوا في التوحيد ؛ فمنهم من يقول : جسم ! ومنهم من يقول : صورة ! فكتب عليه السلام بخطّه : « سبحان من لا يحدّ ولا يوصف ، ليس كمثله شي ء وهو السميع العليم » أو قال : « البصير » .(3)
وعنه عليه السلام أيضاً أنّه قال : « سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلاّ هو ، ليس كمثله شي ء وهو السميع البصير ، لا يحدّ ولا يحسّ ولا تدركه الأبصار ولا يحيط به شي ء ولا هو جسم ولا صورة ولا بذي تخطيط ولا تحديد » .(4)
وعن هشام بن إبراهيم أنه قال : قال العبّاسيّ : قلت له ( يعني أبا الحسن عليه السلام ) : جعلت فداك ! أمرني بعض مواليك أن أسألك عن مسألة ، قال عليه السلام : « ومن هو » ؟
ص: 143
قلت : الحسن بن سهل ، قال : « في أيّ شي ء المسألة » ؟ قال : قلت : في التوحيد ، قال : « وأيّ شي ء من التوحيد » ؟ قال : يسألك عن اللَّه جسم أو لا جسم ؟ قال : فقال لي : « إنّ للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب : مذهب إثبات بتشبيه ، ومذهب النفي ، ومذهب إثبات بلا تشبيه ، فمذهب الإثبات بتشبيه لا يجوز ، ومذهب النفي لا يجوز ، والطريق في المذهب الثالث إثبات بلا تشبيه » .(1)
وعن يونس بن ظبيان أنّه قال : دخلت علي أبي عبد اللَّه عليه السلام فقلت له : إنّ هشام بن الحكم يقول قولاً عظيماً ، إلاّ أنّي أختصر لك منه أحرفاً ، يزعم أنّ اللَّه جسم ؛ لأنّ الأشياء شيئان ، جسم وفعل جسم ، فلا يجوز أن يكون الصانع بمعني الفعل ويجوز أن يكون بمعني الفاعل !
فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام : « ويله ! أما علم أنّ الجسم محدود متناه ، والصورة محدودة متناهية ؟ ! فإذا احتمل الحدّ احتمل الزيادة والنقصان ، وإذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقاً » .
قال : قلت : فما أقول ؟ قال : « لا جسم ولا صورة ، وهو مجسّم الأجسام ، ومصوّر الصور ، لم يتجزّأ ولم يتناه ولم يتزايد ولم يتناقص . لو كان كما يقول لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق ، ولا بين المنشي ء والمنشأ ، لكن هو المنشي ء ، فرق بين من جسّمه وصوّره وأنشأه ، إذ كان لا يشبهه شي ء ولا يشبه هو شيئاً » .(2)
والأحاديث في ذلك كثيرة جدّاً .
أقول : هذه الأخبار دالّة علي إبطال مقالة العرفاء والصوفية القائلين بأنّ جميع ما للمخلوقات من الصفات فهي صفات الخالق ؛ لأنّهم مظاهر الحقّ ومجاليه ،
ص: 144
وقد علم من هذه الأحاديث أنّه تعالي منزّه عن التحديد والتشبيه ، وأنّ القائل بهما مشرك كافر ، فكم فرق بين هذا وقولة ابن العربيّ من أنّ القول بهما عين التوحيد ! وأنّ القائل بهما مؤمن موحّد كامل . . ! ! والنّافي لهما عنه تعالي جاهل ! والمنزّه إمّا جاهل وإمّا صاحب سوء أدب ! ! كما مرّ نصّ كلامه قريباً .
ثمّ بعد كلّ هذا فما أروع قول مولانا سيّدالشهداء حسين بن عليّ عليهما السلام : « أيّها الناس ! اتّقوا هؤلاء المارقة الّذين يشبّهون اللَّه بأنفسهم ، يضاهئون قول الّذين كفروا من أهل الكتاب ، بل هو اللَّه ليس كمثله شي ء وهو السميع البصير ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير . . . لا يوصف بشي ء من صفات المخلوقين ، وهو الواحد الصمد ، ما تصوّر في الأوهام فهو خلافه » .(1)
ووصيّة سيّدنا أميرالمؤمنين عليه السلام : « يا معشر شيعتنا والمنتحلين مودّتنا ! إيّاكم وأصحاب الرأي ، فإنّهم أعداء السنن ، تفلّتت منهم الأحاديث أن يحفظوها ، وأعيتهم السنّة أن يعوها ، فاتخذوا عباد اللَّه خولاً وماله دولاً ، فذلّت لهم الرقاب ، وأطاعهم الخلق أشباه الكلاب ، ونازعوا الحق أهله ، وتمثّلوا بالأئمّة الصادقين ، وهم من الجهّال الكفّار الملاعين ، فسئلوا عمّا لا يعلمون ، فأنفوا أن يعترفوا بأنّهم لا يعلمون ، فعارضوا الدّين بآرائهم فضلّوا وأضلّوا » .(2)
وناهيك بهذا الحديث الشريف في أهل الرأي كفايةً ، وبه عما سواه درايةً ، وهو شامل لما كان في أصول الدين وفروعه ، بل الأمر في الأصول أصعب وأخطر وأشكل ، والملاك المستفاد من هذا الحديث عام لا يختصّ بالعامّة العمياء ، كمالايخفي.
ص: 145
القائل بوحدة الوجود يعرّف كنهه سبحانه ؛ لأنّ القول بأنّه سبحانه وجود هو إخبار عن كنهه تعالي كما مرّ ، والقول بأنّ كنه الوجود لا ينال ولا يعرف - بعد تعيين الكنه - ليس إلاّ تناقضاً بيّناً في الكلام .
ولا ريب أنّ معرفة كنه ذاته سبحانه محال عقلاً إذ لا إحاطة هناك ، ونقلاً كما وردت أخبار متواترة في النهي عن التفكّر والتكلّم والخوض و . . فيه تعالي .
وببيان آخر : إنّ مدّعي القول بأنّه سبحانه هو الوجود ( أي إنّه حقيقة الوجود ) فقد وقع في عدّة محاذير نذكر منها أمرين :
الأوّل : التشبيه بالمخلوق ؛ إذ الانبساط والشعاع والفي ء والعكس و . . من خواصّ المخلوق المتجزّي ذا مقدار وعدد و . . وهذا ظاهر علي مسلك وحدة الوجود كما مرّ .
الثاني : التعيين ؛ إذ القائل بوحدة الوجود - مضافاً إلي خوضه في ذاته تعالي وهو منهيّ عنه - فقد عيّن الكنه حيث قال : إنّ ذاته الوجود ، ووصفه بأنّه كيف هو(1) حيث قال : بأنّ الموجودات وجوداته ، وأنّه منبسط علي الماهيّات بالذات أو بشعاعه وفيئه أو بعكسه ، وأنّه واحد في عين الكثرة ، وكثير في عين الوحدة وأمثال ذلك ، وحينئذ لا ينفعه قول السبزواري في المنظومة : ( وكنهه في غاية الخفاء ) في إدّعاء عدم الإكتناه بعد تعيين ذاته سبحانه بأنّه الوجود ، لصدق الاكتناه علي مجرّد التعيين . مع أنّهم إذا لم يعرفوا حقيقته فمن أين عرفوا أنّه هو الوجود ؟
والحاصل : الجمع بين القول بأنّه تعالي هو الوجود والقول بعدم اكتناهه فاسد .
ص: 146
ولنتساءل ، أيّ فرق بين القول بأنّ الإنسان هو الجوهر الجسم النامي الحسّاس المتحرّك بالإرادة الناطق . . وبين القول بأنّ اللَّه هو الوجود . . في أنّ الأوّل اكتناه والثاني ليس باكتناه ، مع أنّ هذه المفاهيم في الذهن في كلا المقامين - بزعم الفلاسفة - عين ما في الخارج ، حتّي أنّ بعضهم صرّح بأنّ مشاهدة النفس مفهوم الوجود عين مشاهدة اللَّه تعالي إلاّ أنّه مشاهدة له من البعيد كمن يري شبحاً من البعيد !
فهل المعرفة بحقائق المفاهيم في المقامين تختلف اكتناهاً في المصداقين ؟ فلِم سمّوا أحدهما : معرفة بالوجه والآخر : معرفة بالكنه ؟
وقد مرّ أنّ القول بأنّه سبحانه موجود ليس إخباراً عن الكنه وحقيقة الذات ، بل هو إخبار عن كونه تعالي شيئاً بحقيقة الشيئيّة وثبوته واقعاً ، وإخراجه عن حدّ التعطيل . ولا نقصد به إثبات أنّه تعالي وجود والوجود أمر حقيقيّ وكذا وكذا .
قال مولانا الرضاعليه السلام : « فليس اللَّه عرف من عرف بالتشبيه ذاته ، ولا إيّاه وحّد من اكتنهه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله » .(1)
انّ القول بأنّ الوجود حقيقة واحدة ذات تشكّك ومراتب متفاوتة يستلزم عدم تصوّر مرتبة إلاّ وهي قابلة للزيادة والكمال ، فلا تقف إلي حدّ ومرتبة غير قابلة للاشتداد إلاّ ويتصوّر أشدّ وأتمّ منها ؛ لأنّ ذلك خلاف ذاتها ، فلا يمكن - والحال هذه - إثبات الباري تعالي كما لا يخفي .
ص: 147
وببيان آخر : إنّ القول بأنّه عزّ وجلّ في أعلي درجات الوجود المشكّك يستلزم عدم إمكان تحققه تعالي ؛ لأنّه لا يتصوّر مرتبة إلاّ وهي قابلة للزيادة والكمال .
انّ القول بوحدة الوجود الفلسفي - أي كون الوجود حقيقة واحدة مشكّكة وذات مراتب مختلفة بحيث كان وجوده تعالي في أعلي درجات الوجود - لا يتصوّر إلاّ في ما كانت نسبة الأشياء إلي الخالق تعالي نسبة العينيّة والسنخيّة لا الخالقيّة والمخلوقيّة ؛ لأنّ تصوّر التفاضل والاشتداد وعدمهما بين الشيئين فرع السنخيّة والمشابهة لا البينونة .
والأدلّة النقليّة الدالّة علي تنزّه حقيقته عن سنخيّة الحقائق ، ونزاهة ذاته تعالي عن جنسيّة الخلائق متواترة جدّاً ، وقد سلف منّا بمناسبة جملة من الروايات المفيدة لذلك - تعرّضنا لها طرداً للباب - وهنا نذكرها وغيرها كدليل مستقلّ مع الإشارة إلي الوجه العقلي في ذلك .
أقول : إنّ القول بوحدة الوجود يستلزم السنخيّة بينه تعالي وبين خلقه ، وهو فاسد من أصله كما لا يخفي ؛ لأنّه تعالي لا يشبه شيئاً من المخلوقين ومباين لهم في ذاتهم وأوصافهم ، ومنزّه عنها ، وهذه المعرفة ( أي معرفة البينونة وعدم الشباهة بينهما ) هي العمدة في باب معرفة اللَّه تعالي ، وبها تمتاز المعارف الإلهيّة الحقّة عن غيرها .
وقد ذكر بعض الأعاظم رحمه الله في بطلان السنخيّة بين الخالق والمخلوق وجوهاً أربعة وهي :
ص: 148
الأوّل : إنّ السنخيّة متقومة بالمماثلة والمشابهة ، واللَّه تعالي لا شبيه له ولا مثيل ولا نظير ولا حدّ له ، ولذا فهي محالة في حقّه تعالي .
الثّاني : إنّ وحدته تعالي ليست من سنخ وحدة سائر الموجودات ، فوحدتها عدديّة قابلة للتّكرّر والتكثّر بخلاف وحدته ؛ فإنّها ليست من باب الأعداد ، فهو لا يتثنّي ، ولا يمكن أن يكون له ثان ، فلا شبيه له ولا نظير . فأي تسانخ بينه تعالي وبين سائر الموجودات بعد عدم إمكان الشبيه والمثيل له ؟ !
الثالث : إنّ جميع ما عداه من الموجودات فهو مركّب ، ولا يوجد موجود له الوحدة الحقيقيّة إلاّ اللَّه جلّ وعلا . فأي سنخيّة بينه - وهو لا تركيب فيه لا عقلاً ولا وهماً ولا خارجاً - وبين سائر الموجودات وهي مركّبة ؟
الرابع : إنه لو صحّت المسانخة بين العلّة والمعلول فموردها العلّة الموجبة ، لا الفاعل المختار ، واللَّه سبحانه وتعالي فاعل مختار .
هذا ، وقد وردت الأحاديث المتواترة من المعصومين عليهم السلام علي التباين الكلّي ذاتاً وصفة بينه تعالي وبين خلقه ، ننقل هنا بعض الآيات والأخبار المنساقة علي طبق الفطرة المستقيمة الدالّة علي نفي المشابهة والسّنخيّة .
وقبل سردها لا بدّ من التوجّه إلي نكتة مهمّة وهي : أنّ غرضنا هنا وإن كان بحكم العقل لا بحكم الشرع ولكن أداء حكم العقل بلسان الشرع - الّذي هو أبلغ الألسنة - أدخل في الغرض .(1)
ص: 149
مع أنّ في مثل هذه الأحكام يكفي فيه الضرورة الشرعيّة - مع الإغماض عن الضرورة العقليّة - لأنّ التنزيهات الواقعة علي ألسنة الأنبياء والأوصياءعليهم السلام - كسائر الأحكام - يكفي في وجوب تصديقهم فيها والإقرار بها ما ظهر علي أيديهم من المعجزات الظاهرة ، وما جري علي ألسنتهم من الحكم الباهرة .
وببيان آخر : بعد إثبات الصانع تعالي وكونه عالماً وقادراً وصانعاً وصادقاً و . . وإثبات الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وكونه معصوماً بالبراهين العقليّة يمكن التمسّك بقولهما علي إثبات سائر المسائل الّتي لا تتوقّف عليها إثبات النّبوّة .(1)
ص: 150
وعلي هذا ، لا ينحصر إثبات هذه المسائل - ومنها : تنزيهه تعالي عن سنخيّة الخلائق و . . - بالدليل العقليّ فقط ، بل حيث قد قام عليه الدليل الشرعيّ كذلك فيكفينا - بل يجب علينا - الأخذ به مع قطع النظر عن وجود أيّ دليل آخر ، مع أنّ أكثر السمعيّات مشتمل علي شواهد واضحة وبراهين عقليّة لائحة يهتدي الطّالب بالتأمّل فيها إلي لبّ المعرفة .
من كلام اللَّه سبحانه : «أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكّرون»(1) دلّت هذه الآية الشريفة علي أنّ اللَّه خالق وغيره مخلوق ، والخالق لا يجوز أن يكون من سنخ المخلوق ، وإنّ هذا الحكم فطريّ يكفي تذكّر ما هو المفطور في العقل في تصديقه ، وهذا القدر يكفي للأذهان الخالية عن الشبهات الواهية .
بيان ذلك : لو كان الخالق من سنخ المخلوق وموصوفاً بأوصافه لجرت أحكامه من الاحتياج إلي الخالق والفقر والعجز و . . عليه تعالي أيضاً ، وهو خلاف حقيقته عزّ وجلّ ، فيحكم العقل بأنّ الّذي ليس بمخلوق ليس من سنخه ، ولا يشبهه ولا يجري فيه ما يجري فيه .(2)
وقوله تعالي : « ليس كمثله شي ء » .(3) وقد مرّ تقرير هذه الآية المباركة .
ص: 151
عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال : « يا من دلّ علي ذاته بذاته ، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته ».(1)
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله في شرحه : ( تنزّه ) أي تباعد وتقدّس عن ( مجانسة مخلوقاته ) أي أن يكون من جنسها إذ لا يشاركه شي ء في المهيّة .(2)
وعن الإمام الرضاعليه السلام أنه قال : « ومباينته إيّاهم مفارقته إنيّتهم . . . وكنهه تفريق بينه وبين خلقه . . . مبائن لا بمسافة . . . فكلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه ، وكلّ ما يمكن فيه يمتنع من صانعه ».(3)
ص: 152
أقول : صرّح الإمام عليه السلام في هذا الحديث أنّ مباينته تعالي إيّاهم ليست بحسب المكان بل بأن فارق إنّيّتهم .
وقوله عليه السلام : « و كنهه تفريق بينه وبين خلقه » أصرح ما في هذا الباب في إظهار مذهب الأئمّةعليهم السلام من أنّ توحيده تعالي هو المباينة بينه وبين خلقه .
وعن أميرالمؤمنين عليه السلام قال : « دليله آياته ، ومعرفته توحيده ، وتوحيده تمييزه من خلقه ، وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة ، إنّه ربّ خالق غير مربوب مخلوق ، كلّ ما تصوّر فهو بخلافه » .(1)
أقول : لايخفي أن قوله عليه السلام : « توحيده تمييزه من خلقه » يفيد أنّه سبحانه ممتاز عن خلقه بالحقيقة في شؤونه ، ولا سنخيّة بينه وبين خلقه بوجه .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله في شرح قوله عليه السلام : « حكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة » : أي تميّزه عن الخلق بمباينته لهم في الصّفات ، لا باعتزاله عنهم في المكان .(2)
وعن مولانا عليّ بن الحسين عليهما السلام في دعاء يوم العرفة : « أنت الّذي أنشأت الأشياء من غير سنخ » .(3)
عن مولانا الصّادق عليه السلام أنه قال : « هو واحد أحديّ الذّات ، بائن من خلقه ، وبذلك وصف نفسه وهو بكلّ شي ء محيط بالإشراف والإحاطة والقدرة . . » .(4)
عن مولانا أبي الحسن الرضاعليه السلام أنّه قال : « . . أحد لا بتأويل عدد . . . مباين لا بمسافة ، قريب لا بمداناة ، لطيف لا بتجسّم ، موجود لا بعد عدم » .(5)
ص: 153
أقول : إنّ الوحدة العدديّة لا تتطرّق إلاّ فيما أمكن له الثاني وما هو مورد للتعدد ممّا هو داخل في جامع ، وهو أحد بمعني أنّه لا يتطرّق فيه التعدد والكثرة ، وأنّه أحديّ المعني أي لا ينقسم في الوجود لا عقلاً ولا وهماً ولا خارجاً وليس له شبه في الأشياء ولا يشارك مع المخلوق في عنوان من العناوين وجهة من الجهات ، كما في رواية المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه قال : إنّ أعرابياً قام يوم الجمل إلي أميرالمؤمنين عليه السلام فقال : يا أميرالمؤمنين أتقول : إنّ اللَّه واحد ؟ قال : فحمل الناس عليه . . . إلي آخر الحديث .(1)
ومن هذا يتّضح أنّ ما استصعبوه في إثبات التوحيد من دفع الشبهة المعروفة من ابن كمونه وملئوا به الكتب ناش من عدم تعقّل معني وجوب الوجود ومقايسته بالممكن ؛ فإنّ الواجب ليس مورداً للوحدة العدديّة حتّي نحتاج في نفي التعدّد إلي الدليل .
وعن يعسوب الدين أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال : « حدّ الأشياء كلّها عند خلقه إيّاها إبانة لها من شبهه وإبانة له من شبهها » .(2)
وعنه عليه السلام أيضاً : « مبائن لجميع ما أحدث في الصفات وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات » .(3)
وعنه عليه السلام : « لا يقال له : كان بعد أن لم يكن ، فتجري عليه الصفات المحدثات ولا يكون بينها وبينه فصل ولا له عليها فضل ، فيستوي الصانع والمصنوع » .(4)
ص: 154
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : « هو باين من خلقه ، محيط بما خلق علماً وقدرة وإحاطة وسلطاناً » .(1)
وعنه عليه السلام أيضاً : « لا يليق بالّذي هو خالق كلّ شي ء إلاّ أن يكون مبايناً لكلّ شي ء ، متعالياً عن كلّ شي ء ، سبحانه وتعالي » .(2)
وعن مولانا أبي الحسن الرضاعليه السلام : « لا يشمله المشاعر ولا يحجبه الحجاب ، فالحجاب بينه وبين خلقه لامتناعه ممّا يمكن في ذواتهم ولإمكان ذواتهم ممّا يمتنع منه ذاته ، ولافتراق الصانع والمصنوع ، والرب والمربوب ، والحادّ والمحدود » .(3)
وعن زرارة أنه قال : سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول : « إنّ اللَّه تبارك وتعالي خلو من خلقه وخلقه خلو منه ، وكلّ ما وقع عليه اسم شي ء ما خلا اللَّه عزّ وجلّ فهو مخلوق ، واللَّه خالق كلّ شي ء ، تبارك الّذي ليس كمثله شي ء » .(4)
وعن أبي عبداللَّه عليه السلام أنه قال : « اسم اللَّه غير اللَّه ، وكلّ شي ء وقع عليه اسم شي ء فهو مخلوق ما خلا اللَّه . . . واللَّه خلو من خلقه وخلقه خلو منه » .(5)
وعنه عليه السلام : « واحد ، صمد . . . لا خلقه فيه ولا هو في خلقه » .(6)
وعن مولانا الرضاعليه السلام في مناظرته مع عمران الصابيّ ، قال عمران : لم أر هذا
ص: 155
إلاّ أن تخبرني يا سيّدي ! أهو في الخلق أم الخلق فيه ؟
قال الرّضاعليه السلام : « جلّ هو - يا عمران - عن ذلك ، ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه . . تعالي عن ذلك » .(1)
أقول : لا يخفي أنّ هذه الطائفة من الأخبار - أي أخبار الخلو - مسوقة لإبطال ما يمكن أن يتوهّم من أنّ معني خلقه تعالي الخلق هو تنزّله تعالي وتطوّره بأطوار خلقه بأيّ معني يفترض .
ويستفاد من قوله عليه السلام : « إنّ اللَّه تبارك وتعالي خلو من خلقه » بطلان العقائد التالية :
1 - القول بالرشح والفيضان والصدور والاتحاد بالسنخ بينه تعالي وبين خلقه .
2 - القول بأنّ المبدأ هو الوجود الحقيقيّ الّذي هو جزئيّ حقيقيّ في أعلي مراتب الشدّة ، ومشتمل علي جميع مراتب ما تحته من الموجودات الممكنه .
3 - ما ذهب إليه الصوفيّة من أنّ الممكنات عوارض للوجود الحقيقيّ الّذي هو المبدأ تعالي .
4 - قول من قال : إنّ الصّورة المعقولة قائمة به تعالي أو في صقع من الربوبيّة .
ويستفاد من قوله عليه السلام : « و خلقه خلو منه » إبطال مذهب القائلين بأنّ الوجود الحقيقيّ الّذي هو المبدأ قد انبسط علي هياكل الممكنات ، وأنّ الممكن هو الحق المقيّد ، وأنّ الواجب تعالي هو الموجود المطلق ، فهو واحد لا كثرة فيه أصلاً وإنّما الكثرة في الإضافات والتعيّنات الّتي هي بمنزلة الخيال والسراب ؛ إذ الكلّ في الحقيقة واحد .
ص: 156
عن مولانا الرضاعليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم : قال اللَّه جل جلاله : « ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي ، وما عرفني من شبّهني بخلقي » .(1)
وعنه عليه السلام أنه قال : « إلهي ! بدت قدرتك ولم تبد هيئة فجهلوك وقدروك ، والتقدير علي غير ما به وصفوك ، وإنّي بري ء - يا إلهي ! - من الّذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك شي ء ، إلهي ولن يدركوك ، وظاهر ما بهم من نعمك دليلهم عليك لو عرفوك ، وفي خلقك يا إلهي مندوحة أن يتناولوك ، بل سوّوك بخلقك فمن ثمّ لم يعرفوك ، واتخذوا بعض آياتك ربّاً فبذلك وصفوك ، فتعاليت ربّي عمّا به المشبّهة نعتوك » .(2)
وعنه عليه السلام أنه قال : « كيف يجري عليه ما هو أجراه ، أو يعود فيه ما هو ابتدأه ؟ إذاً لتفاوتت ذاته ولتجزّأ كنهه ولامتنع من الأزل معناه ولما كان للباري معني غير المبروء » .(3)
وعنه عليه السلام : « ليس في محال القول حجّة ، ولا في المسألة عنه جواب ، ولا في معناه له تعظيم ، ولا في إبانته عن الخلق ضيم إلاّ بامتناع الأزليّ أن يثنّي ، وما لا بدء له أن يبدأ » .(4)
ص: 157
وعن مولانا الرضاعليه السلام : « من شبّه اللَّه تعالي بخلقه فهو مشرك » .(1)
وعن يونس بن عبدالرحمن أنه قال : كتبت إلي أبي الحسن الرضاعليه السلام سألته عن آدم ، هل كان فيه من جوهريّة الربّ شي ء ؟ قال : فكتب إليّ جواب كتابي : « ليس صاحب هذه المسألة علي شي ء من السنّة ، زنديق ! » .(2)
عن أميرالمؤمنين عليه السلام : « . . لم تحط به الصفات فيكون بإدراكها إيّاه بالحدود متناهياً ، وما زال ليس كمثله شي ء عن صفة المخلوقين متعالياً » (3) .
وعنه عليه السلام : « . . فمعاني الخلق عنه منفيّة ، وسرائرهم عليه غير خفيّة ، المعروف بغير كيفيّة . . » (4) .
وعن مولانا الحسين عليه السلام : « . . لا تدركه العلماء بألبابها ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلاّ بالتحقيق ، إيقاناً بالغيب ؛ لأنّه لا يوصف بشي ء من صفات المخلوقين » (5) .
وعنه عليه السلام : « هو - عزّوجلّ - مثبت موجود ، لا مبطل ولا معدود ، ولا في شي ء من صفات المخلوقين » (6) .
وعنه عليه السلام - وقد سئل عنه - : « أمّا التوحيد ؛ فأن لا تجوّز علي ربّك ما جاز عليك » (7) .
ص: 158
وعن موسي بن جعفرعليهما السلام : « وهو القديم وما سواه مخلوق محدث ، تعالي عن صفة المخلوقين علوّاً كبيراً » (1) .
وعن مولانا الرضاعليه السلام : « تعالي اللَّه الّذي ليس له شبه ولا مثل ولا عدل ولا نظير ، ولا هو بصفة المخلوقين » (2) .
وعن أميرالمؤمنين عليه السلام : « لمّا شبّهه العادلون بالخلق المبعّض المحدود في صفاته ذي الأقطار والنواحي المختلفة في طبقاته وكان - عزّ وجلّ - الموجود بنفسه لا بأداته ، انتفي أن يكون قدّروه حقّ قدره ، فقال تنزيهاً لنفسه من مشاركة الأنداد وارتفاعاً عن قياس المقدّرين له بالحدود من كفرة العباد : « وما قدروا اللَّه حقّ قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويّات بيمينه سبحانه وتعالي عمّا يشركون » .(3)
وعنه عليه السلام : « كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كلّ شي ء لا بمقارنة ، وغير كلّ شي ء لا بمزايلة » .(4)
فانّ قوله عليه السلام : « موجود لا عن عدم » نصّ صريح في أنّ وجوده ليس مثل وجود ساير الموجودات المسبوق بالعدم المناقض له ، كما أنّ إثبات مغايرته لكلّ شي ء ونفي مقارنته له صريحان في عدم الاتّحاد والوحدة ، بل قوله : « مع كلّ شي ء » أيضاً لايخلو عن الدلالة ؛ لأنّ المعيّة مقتضية للإثنينيّة المنافية للوحدة والعينيّة .
ص: 159
وعنه عليه السلام : « كذب العادلون بك إذ شبّهوك بأصنامهم ، ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم . . . وأشهد أنّ من ساواك بشي ء من خلقك فقد عدل بك ، والعادل بك كافر بما تنزّلتْ به محكمات آياتك ، ونطقت عنه شواهد حجج بيّناتك » .(1)
هذا الخبر - كساير الأخبار المتواترة والآيات القرآنية - صريح في كفر من شبّهه عزّوجلّ بالأصنام وزيّنه بزينة المخلوقات فكيف بالمتصوّفة والعرفاء الجاعلون إيّاه سبحانه عين الأصنام ، والمعتقدون أنّ هويّته سارية فيها ، وأنّ وجودها عين وجوده الظاهر في صورة الصّنميّة ، وأنّها مجالي ومظاهر له ، وأنّ العبادة لها عبادة له تعالي ، عمّا يقول الملحدون علوّاً كبيراً .
إلي غير ذلك من الآيات والأخبار الموافقة للفطرة السليمة الدالّة علي نفي المشابهة ، الفطرة الّتي أمرنا بإتباعها في قوله تعالي : «فأقم وجهك للدّين حنيفاً فطرة اللَّه الّتي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللَّه ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون» .(2)
أقول : هذه الأخبار وغيرها صريحة في التباين والتغاير الكلّي بين الخالق والمخلوق ، وعدم المشابهة والمثليّة والسنخيّة بينهما في شي ء من الصفات .
وفرض الزيادة والنقيصة والشدّة والضعف والمحدوديّة وعدمها والأكمليّة و . . بأن نقول : هذه الأوصاف الّتي في المخلوق من الوجود والعلم والقدرة والحياة و . . أكملها وأشدّها موجودة في الواجب - ليس من التباين والتغاير الكلّي كما هو واضح .
كما أنّ وجود ملاك المخلوقيّة والمصنوعيّة في موجود واحد - أي فرض
ص: 160
الصدور والترشّح والتجلّي والتجزّي والعدد والمقدار والامتداد و . . - يستلزم المخلوقيّة والمصنوعيّة والمعلوليّة .
ومن أراد التفصيل والزيادة علي ذلك فلابدّ له من الرجوع إلي مفصّلات الخطب والأدعيّة وسائر ما ورد عنهم عليهم السلام بعد ردّ متشابهها إلي محكمها ، فإنّ جميع ذلك بيان لأساس ما جاء به صاحب الشريعة الغرّاء في معرفة اللَّه تعالي من طريق العقل ، وتنزيهه سبحانه عمّا تكلّم به كثير من علماء البشر - الّذين أخذوا مبادي ء علومهم ومعارفهم من غير طريق الوحي - في ذاته القدّوس تعالي وصفاته وأفعاله ، وعمّا أثبتوه له تعالي شأنه بالقواعد العقليّة الّتي موضوعاتها المخلوقات والمصنوعات ، قياساً له تعالي بها .
فتحصّل إلي هنا : أنّ اللَّه سبحانه من جهة قدسه عن معادلة مفعولاته وتنزّهه عن مجانسة مخلوقاته لا يستوي مع شي ء من مخلوقاته بوجه من الوجوه ، وليست نسبة الأشياء إلي الخالق تعالي إلاّ نسبة الخالقيّة والمخلوقيّة(1) لا نسبة العينيّة والسنخيّة ، وملاك التشبيه الّذي اقتضت الضرورة العقليّة والنقليّة بعدمه هو هذه العينيّة والسنخيّة .
وببيان آخر : ليس الترشّح والصدور والتجلّي والتطوّر والتشؤّن من الخلق في شي ء ؛ لأنّ الخلق بمعني الإيجاد لا من شي ء ، مضافاً إلي أنّ الذات المتعالية عن المقدار والأجزاء و . . . تباين الموجود المخلوق المتجزّي ء الحادث ، ولا تكون معرفة التوحيد إلاّ بمعني تنزيهه عزّ وجلّ عن خلقه وتباينهما ، كما أنّ الاعتقاد بالتشابه والمسانخة بين الخالق والمخلوق - فضلاً عن العينيّة - هو الشرك(2) .
ص: 161
ثمّ إنّ القائلين بالسنخيّة(1) بين اللَّه تعالي وبين خلقه استدلّوا بوجوه :
الأوّل : أنّه لا بدّ من أن تكون بين العلّة والمعلول السنخيّة والمناسبة وإلاّ لصدر كلّ شي ء من كلّ شي ء .
وفيه : أنّ هذا الدليل علي فرض تماميّته إنّما هو فيما إذا كان المعطي إعطاؤه من ذاته ، وكانت الفاعليّة بالرشح والفيضان من ذات العلّة ، وأمّا بالنسبة إلي المبدء
ص: 162
المتعال الّذي كان إعطاؤه حقائق الأشياء بالإبداع لا من شي ء فلا .
مضافاً إلي أنّ باب الخالقيّة والمخلوقيّة ليس من باب العلّيّة والمعلوليّة الطبيعية التطوريّة ، والفرق بينهما من وجوه ، وقد مرّ مفصّلاً .(1)
الثّاني: إنّ اشتراك المعنويّ في مفهوم الوجود بين الخالق والمخلوق دليل علي السنخيّة بينهما ؛ لأنّ المفهوم الواحد لا ينتزع من الحقائق المتباينة بما هي متباينة غير راجعة إلي وحدة ما .(2)
وفيه أوّلاً : من تتبّع كتب الفلاسفة يجد موارد كثيرة ليست فيها جهة مشتركة لمصاديق مفهوم واحد بل مصاديقه متباينة بتمام الذات ، ومع هذا فإنّ الذهن ينتزع منها مفهوماً واحداً ويحمل عليها ، كما لا تدلّ وحدة مفهوم ( المهيّة ) أو مفهوم ( العرض ) علي وحدة ماهوية بين الأجناس العالية وإلاّ لزم وجود جنس مشترك أو مادّة مشتركة بينهما ، وهم يقولون بأنّ أعراض التسعة متباينات لا اشتراك بينها ، ومع ذلك يطلق العرض بمفهوم واحد علي جميعها .
والحاصل : كما أنّ المهيّة بمفهوم واحد يطلق علي الماهيّات المتباينات ، والعرض بمفهوم واحد يطلق علي الأعراض التسعة المتباينات ، فكذلك كلمة موجود - بمعني واحد - يطلق علي الأشياء المختلفة المتباينة كما تقدم .(3)
وهكذا العكس أي يجوز انتزاع المفاهيم الكثيرة من شي ء واحد ، كما صرّح به في الأسفار(4) ؛ ولذلك تنتزع مفاهيم القدرة والعلم والحياة ونحوها عن الذات الواجبة مع أنّها مجرّد بسيط عند الإماميّة .
ص: 163
وثانياً : قد ينتزع المفهوم الواحد ( وهو طارد العدم ) من الحقائق المتباينات ويطلق عليها ، فإذا قلنا : اللَّه تعالي موجود ، نقصد به : اللَّه تعالي طارد العدم ، وإذا قلنا : الخلق موجود ، نعني به : الخلق طارد العدم .
وعلي هذا يصحّ إطلاق موجود بمعني واحد - أي طارد العدم - علي اللَّه تعالي وخلقه ، وهذا المعني - أي طارد العدم - انتزاعيّ يطلق علي الأشياء المتباينة ، وهذا لا يدلّ علي السنخيّة بينهما كما مرّ .
وهذا الخلط صدر عنهم لاشتباه المفهوم بالحقيقة فإنّه تعالي مشترك مع غيره في كثير من المفاهيم العامّة والخاصّة كالشيّ ء والموجود والعالم والقادر وغيرها . . والاشتراك في المفهوم لا يستدعي الاشتراك في الحقيقة ، والدليل قائم علي مباينة حقيقته مع غيره .
وقد يقال في الجواب أيضاً : إنّ واجب الوجود لو كان مساوياً في الذات مع غيره لكان الغير واجب الوجود بالذات ، وقد ثبت امتناع تعدّده ، فلازم القول بالسنخيّة هو تعدّد الواجب .
وأيضاً مقتضي استدلالهم تساوي ذاته مع ذوات الممكنات بعضها مع بعض ، فيلزم جواز اتصاف كلّ شي ء بما يتّصف به غيره - واجباً كان أو ممكناً - لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، وهذا باطل بالضّرورة .
ولا يخفي أنّه بعد بطلان القول بالسنخيّة بين الخالق والمخلوق يظهر بوضوح بطلان العينيّة ، ولا يحتاج إلي البحث عن فسادها وبطلانها ، كما يظهر فساد ما يبتني علي القول بالسنخيّة من قاعدة : الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد ، وقاعدة : بسيط الحقيقة كلّ الأشياء . . وغيرهما ، وبالتالي يكشف بهذا البحث بطلان القول بوحدة الوجود والموجود كما سيأتي تفصيلاً في الفصل الرّابع إن شاء اللَّه تعالي .
ص: 164
لا ريب أنّ المستفاد من الوحي والبرهان هو التباين الكلّي وعدم التشابه والسنخيّة بين الخالق تعالي والمخلوق كما مرّ ، ولكن العرفاء والفلاسفة أنكروا هذا التباين صريحاً لمنافاته مع ما هو أساس عقائدهم من الإلتزام بوحدة حقيقة الوجود وأنّه واحد بسيط ذو مراتب ، ومن الإلتزام بالعلّيّة والمعلوليّة التطوّريّة الّتي تقتضي العينيّة - فضلاً عن السنخيّة - بينهما بالضرورة ، ونذكر بعض تصريحاتهم في المقام لزيادة البصيرة فيما نحن بصدد بيانه من بطلان عقيدة العرفاء والفلاسفة في أهمّ مسائل الدّين وهو توحيد ربّ العالمين .
قال ابن العربي : فسبحان من أظهر الأشياء وهو عينها ! .(1)
وقال أيضاً : فإنّ العارف من يري الحقّ في كلّ شي ء ، بل يراه عين كلّ شي ء !(2)
وقال : وما خلق تراه العين إلاّ عينه حقّ .(3)
وقال القيصريّ في شرحه : أي ليس خلق في الوجود تشاهده العين إلاّ وعينه وذاته عين الحقّ الظاهر في تلك الصورة ، فالحقّ هو المشهود ، والخلق موهوم ، لذلك يسمّي به ؛ فإنّ الخلق في اللّغة الإفك والتقدير .(4)
وقال ابن العربيّ أيضاً :
العارف المكمّل من رأي كلّ معبود مجلي للحقّ يعبد فيه ولذلك سمّوه كلّهم إلهاً
ص: 165
مع اسمه الخاص بحجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك أو فلك !(1)
وقال : فما وصفناه إلاّ كنّا نحن ذلك الوصف . . . فإذا شهدْناه شهدْنا نفوسنا ، وإذا شهدَنا شهدَ نفسه .(2)
وقال : كلّ ذلك من عين واحدة ، لا بل هو العين الواحدة ، وهو العيون الكثيرة . . !
وقال القيصريّ في شرحه : أي كلّ ذلك الوجود الخلقي صادر من الذات الواحدة . ثمّ أضرب عنه لأنّه مشعر بالمغايرة فقال : بل ذلك الوجود الخلقي هو عين تلك العين الواحدة المظاهرة في مراتب متعددة ، وذلك العين الواحدة التي هي الوجود المطلق هي العيون الكثيرة باعتبار المظاهر الكثيرة كما قال : سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب ، ثمّ بدا في خلقه ظاهراً في صورة الآكل والشارب .(3)
وقال صاحب الأسفار : إنّ المسمّي بالعلّة هو الأصل ، والمعلول شأن من شؤونه وطور من أطواره ، ورجعت العليّة والإفاضة إلي تطوّر المبدأ الأوّل بأطواره وتجلّيه بأنواع ظهوراته .(4)
وقال : الثّابت بالبرهان والمعتضد بالكشف والعيان أنّ الحقّ موجود مع العالم ومع كلّ جزء من أجزاء العالم ، وكذا الحال في نسبة كلّ علّة مفيضة بالقياس إلي معلولها .(5)
ص: 166
وقال أيضاً : إعلم أنّ واجب الوجود بسيط الحقيقة غاية البساطة ، وكلّ بسيط الحقيقة كذلك فهو كلّ الأشياء ، فواجب الوجود كلّ الأشياء ، لا يخرج عنه شي ء من الأشياء .(1)
وقال أيضاً : الموجود والوجود منحصرة في حقيقة واحدة شخصيّة ، لا شريك له في الموجوديّة الحقيقيّة ولا ثاني له في العين ، وليس في دار الوجود غيره ديّار ، وكلّما يتراءي في عالم الوجود أنّه غير الواجب المعبود فإنما هو من ظهورات ذاته ، وتجلّيات صفاته الّتي هي في الحقيقة عين ذاته ، كما صرّح به لسان العرفاء بقوله : فالمقول عليه سوي اللَّه أو غيره أو المسمّي ب : العالم فهو بالنسبة إليه تعالي كالظلّ للشخص ، فهو ظلّ اللَّه . . . وإذا كان الأمر علي ما ذكرته فالعالم متوهّم ما له وجود حقيقيّ ، فهذا حكاية ما ذهبت إليه العرفاء الإلهيّون والأولياء المحقّقون !(2)
وقال أيضاً : كلّ ما ندركه فهو وجود الحقّ في أعيان الممكنات . .(3)
وقال : إعلم أنّ ذاته تعالي حقيقة الوجود بلا حّد ، وحقيقة الوجود لا يشوبه عدم ، فلا بّد أن يكون بها وجود كلّ الأشياء ، وأن يكون هو وجود الأشياء كلّها . .(4)
وفي تحفة الحكيم:
وحيث إنّه وجود محض
فكونه كلّ الوجود فرض
صرف الوجود ذاته البسيطة
بكلّ معلولاته محيطة
فإنّه كما اقتضي الشهود
كلّ الوجود كلّه الوجود
ص: 167
فذاته بمقتضي الجمعيّة
حقيقة الحقائق العينيّة
وكنهه يعرف بالشهود
لا غير كالرسوم والحدود
وهو وجود مطلق كما وصف
وكونه خيراً بديهياً عرف
ما لم يكن وجود ذات الواجب
صرفاً ومحضاً لم يكن بواجب(1)
وقال بعض المعاصرين : كلّ ما عداه فهو فيضه ، فلا يكون أمراً مبائناً عنه . . ! (2)
وقال أيضاً : ليس الموجود الأزليّ إلاّ واحداً مطلقاً غير محدود ، فلا غير هناك حتّي تباين معه ، إذ لا مجال للغير في تجاه الموجود الغير المتناهي !(3)
وقال : إنّ غير المتناهي قد ملأ الوجود كلّه . . . فأين المجال لفرض غيره .(4)
وقال غيره : وما قالوه من أنّ العقل يعقل ذاته . . . فليس عقلاً مبايناً وموجوداً متمايزاً عن فاعله سبحانه .(5)
وقال أيضاً : الوجود غير مجعول مطلقاً كما أنّه غير قابل للعدم مطلقاً لاستحالة انفكاك الشي ء عن نفسه وانقلابه إلي غيره .(6)
وقال بعضهم : ولمّا كان الواجب تعالي واحداً بسيطاً من كلّ وجه ، لا يتسرّب إليه جهة كثرة لا عقليّة ولا خارجيّة ، واجداً لكلّ كمال وجوديّ وجداناً تفصيليّاً في عين الإجمال لا يفيض إلاّ وجوداً واحداً بسيطاً . . . لمكان المسانخة
ص: 168
بين العلّة والمعلول .(1)
وقال : ذات الوجود المعلول عين الحاجة ، أي أنّه غير مستقلّ في ذاته قائم بعلّته الّتي هي المفيضة له ، ويتحصّل من ذلك أنّ وجود المعلول بقياسه إلي علّته وجود رابط موجود في غيره ، وبالنظر إلي ماهيّته الّتي يطرد عنها العدم وجود في نفسه . . (2)
وقال أيضاً : إنّ نشأة الوجود لا تتضمّن إلاّ وجوداً واحداً مستقلاًّ هو الواجب عزّاسمه ، والباقي روابط ونسب وإضافات .(3)
ص: 169
وصرّح في كتاب أصول فلسفه وروش رئاليسم بأنّ حقيقة الخلق عين الظهور والتجلّي وأسند هذا القول إلي الفلاسفة والعرفاء .(1)
ثمّ ذكر عن صاحب الأسفار أنّه أثبت أنّ المعلول عين الفقر والربط والتعلّق إلي العلّة ، والعلّة مقوّم لوجود المعلول ، والمعلوليّة تساوي الظهور والتشؤّن والتجلّي .(2)
وصرّح في موضع آخر بأنّ المدافعين عن نظريّة وحدة الوجود - وفي صدرهم العرفاء - منكرون لقاعدة العلّيّة ، وأنّه ليس في الدار غيره ديّار علي
ص: 170
مختارهم ، ولا واقعيّة سوي واقعيّة واحدة من جميع الجهات ، بل هم يجتنبون من استعمال لفظي العلّيّة والمعلوليّة .(1)
وقد صرّح بعضهم بالسنخيّة بين الخالق والمخلوق حيث قال : إنّ السنخيّة بين الفاعل وفعله ممّا لا يعتريه ريب ولا يتطرّق إليه شائبة دغدغة ، ويعبرون عنها ب : السنخيّة بين العلّة ومعلولها .(2)
وقال أيضاً : إنّ أهل التحقيق في التوحيد - أعني المتألّهين في التوحيد - قائلون بأنّ الحق سبحانه ليس له سوي فضلاً عن أن يكون قديماً أو حادثاً ، بل ليس الوجود إلاّ لحقّ وآياته .(3)
وقال أيضاً : البحر الذي أنتم تطلبونه وتريدون التوجّه اليه هو معكم وأنتم معه ! وهو محيط بكم وأنتم محاطون به ! والمحيط لا ينفكّ عن المحاط به ، والبحر عبارة عن الذي أنتم فيه ، فأينما توجّهتم في الجهات فهو البحر ، وليس غير البحر عندكم شي ء ، فالبحر معكم وأنتم مع البحر ، وأنتم في البحر والبحر فيكم . . . إنّ البحر والماء شي ء واحد في الحقيقة وليس بينهما مغايرة أصلاً . . . فالماء إسم للبحر بحسب الحقيقة والوجود ، والبحر إسم له بحسب الكمالات والخصوصيّات والانبساط والانتشار علي المظاهر كلّها ، ثمّ قال : إنّ الحق الذي تسألون عنه وتطلبونه . . . هو مع كلّ شي ء ، وهو عين كلّ شي ء . . . وليس لغيره وجود أصلاً لا ذهناً ولا خارجاً .(4)
وصرّح الآخر بعدم التباين والامتياز بين الخالق وخلقه حيث قال : إنّ وجود المعلول أضعف من وجود علّته المفيضة له ، بل هو شأن من شؤونها
ص: 171
لا استقلال له دونها ، وعلي هذا فالموجودات الواقعة في سلسلة العلل والمعاليل تشكّل حقيقة واحدة ذات مراتب يتقوّم بعضها ببعض ، ويتقوّم الكلّ بالواجب تبارك وتعالي . . . الوجود عبارة عن موجود مستقلّ علي الإطلاق هو الواجب تعالي ومخلوقاته الّتي هي مجاري فيضه ومجالي نوره . . (1)
أقول : هذه العبارات صريحة في السنخيّة بين الخالق والمخلوق وإنكار البينونة بينهما ، بل صريح بعضها إنكار وجود العالم بالمرّة وعدم كونه خارجاً عن ذاته تعالي ، وليس في دار الوجود غيره ديّار . . !
وقد مرّت النصوص الواضحة المتواترة في تنزيهه تعالي عن اتّصافه بصفات المحدثات وعن مشابهة المخلوقات ، وأنّ أساس الدين علي أنّ المخلوق مباين لخالقه مباينة الصفة لا مباينة العزلة .
وبعد هذه الأخبار عن مخزن الوحي هل يصحّ تأويل جميع هذه النصوص الصريحة علي خلاف ظاهرها ؟ !
وهل كان بإمكان الأحاديث أن تبيّن المقصود بأكثر ممّا بيّنت ؟
وهل يستطيع أحد تبيين البينونة وعدم المشابهة والسنخيّة بين الخالق والمخلوق بأصرح من هذه التعابير ؟ !
كقوله عليه السلام : « كلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه ، وكلّ ما يمكن فيه يمتنع في صانعه » .
وقوله عليه السلام : « التوحيد أن لا تجوّز علي ربّك ما جاز عليك » .
وقوله عليه السلام : « إنّ اللَّه خلو من خلقه وخلقه خلو منه . . » .
وقوله عليه السلام : « من شبّه اللَّه بخلقه فهو مشرك . . » .
ص: 172
وقوله عليه السلام : « لا يليق بالّذي هو خالق كلّ شي ء إلاّ أن يكون مبائناً لكلّ شي ء متعالياً عن كلّ شي ء سبحانه وتعالي » .
وقوله عليه السلام : « يا من دلّ علي ذاته بذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته » .
وقوله عليه السلام : « جلّ - يا عمران ! - عن ذلك ، ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه ، تعالي عن ذلك » .
إلي ما شاء اللَّه ممّا يعسر علينا حصره وعدّه .
ولنا بعد كلّ هذا أن نتساءل : لو لم تكن هذه الأحاديث صريحة في المطلوب فما هو اللفظ الصّريح إذن . . ؟ !
ولو أريد التعبير عن بيان الواقع وعدم السنخيّة فما يكون اللفظ المناسب يا تري ؟ !
مضافاً إلي اتّفاق الأصحاب من الفقهاء العظام والمروّجين لشريعة سيّد الأنام صلي الله عليه وآله وسلم علي بطلان القول بالسنخيّة بين الخالق والمخلوق ، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالي .
وإرجاع أدلّة التنزيه والأخبار المذكورة إلي جهة الماهيّة لا الوجود - بعد قولهم بأصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة وعدميّتها - واضح البطلان ، ولا يشكّ فيه ذو مسكة وإنصاف .
إنّ الاعتقاد بوحدة حقيقة الوجود لا يجتمع مع القول بوجود ما سوي اللَّه تعالي ، إذ الاعتقاد بعينيّة الخالق والمخلوق، أو كون المخلوق مرتبة من ذات الخالق ينافي القول بوجود ما سوي اللَّه تعالي ومخلوقيّته؛ فإنّ ما سوي اللَّه سبحانه فعل
ص: 173
له تعالي ، أوجده وأبدعه بمشيّته وإرادته لا من شي ء ، أي لا من رشح وإشراق من نفسه ؛ فإنّه الولادة منه الملازمة للتغيّر بفعله ، ولا من تطوّر وتشؤّن في نفسه ؛ فإنّه عين التغيّر في الذات الأزليّ ، ولا من مادّة أزليّة تكون مشاركة له في التحقق والوجود ، فإنّ الخلقة بأحد الوجوه الثّلاثة ليست لا من شي ء .
لأنّها لو كانت من المادّة الأزليّة لكانت من شي ء فيلزم وجود قديم سوي اللَّه وهو عين الشرك ؛ لأنّ التأثير بالإرادة والاختيار لا يعقل إلاّ في الحادث ، وأنّ القدم مستلزم لوجوب الوجود .
ولو كانت من نفسه تعالي بأن تكون بالفيضان والرشح أو بالتطوّر والتشؤّن ، ففي كلا الفرضين تكون الخلقة من الشي ء - وهو الذات الأزليّ - بل لا يكون من معني الخلقة في شي ء أصلاً فلا يصحّ التعبير بأنّها لا من شي ء ، كما صرّحت به الروايات الكثيرة .
وعلي هذا ، فليس ما سوي اللَّه تعالي صادراً عن ذاته سبحانه حتّي يكون جزءه أو كلّه أو مرتبة من مراتب وجوده أو تطوّره وتشؤّنه ، بل اللَّه تعالي أحدث واخترع الخلق ، وكانت فاعليّته تعالي للأشياء بالإرادة والمشيّة لا بالذات .
ثمّ ، لا شك في أنّ إرادته تعالي ومشيّته لا تكون من صفات ذاته المعتبرة له في الأزل مثل العلم والقدرة ، فإنّ نفيهما عنه تعالي يوجب النقص فيه للزوم الجهل والعجز ، بل من أفعاله الّتي يصحّ سلبها عنه تعالي في الأزل ولا يلزم منه نقص .
والمستفاد من القرآن والعترة أنّ إرادة اللَّه تعالي هي فعل اللَّه وإحداثه وايجاده وليست الإرادة بمعني الابتهاج ولا بمعني المراد ولا بمعني الاختيار ولا بمعني العلم .
والأخبار في ذلك كثيرة جدّاً ، ونحن نشير إلي بعضها إجمالاً ، ومن أراد
ص: 174
الوقوف عليها تفصيلاً فليراجع إلي مظانّها .(1)
روي الشّيخ الصدوق رحمه الله بسند صحيح عن عاصم بن حميد ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال : قلت له : لم يزل اللَّه مريداً ؟ فقال : « إنّ المريد لا يكون إلاّ لمراد معه ، بل لم يزل اللَّه عالماً قادراً ثمّ أراد » .(2)
أقول : فيه إشارة إلي أنّ الإرادة الإلهيّة لو كانت ذاتيّة لزم قدم العالم ، وهو باطل بل محال .
وروي أيضاً بإسناده عن سليمان بن جعفر الجعفريّ ، قال : قال الرضاعليه السلام : « المشيّة والإرادة من صفات الأفعال ، فمن زعم أنّ اللَّه تعالي لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد » .(3)
أقول : هذه الرواية صريحة في أنّ إرادته سبحانه ليست عين ذاته كالعلم ، والقدرة ، والحياة .
وروي في الصحيح عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام : « المشيّة محدثة » .(4)
وروي في الصحيح أيضاً عن صفوان بن يحيي ، قال : قلت لأبي الحسن عليه السلام : أخبرني عن الإرادة من اللَّه ومن المخلوق ، قال : فقال عليه السلام : « الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من اللَّه عزّ وجلّ فإرادته إحداثه لا غير ذلك ؛ لأنه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر وهذه الصفات منفيّة عنه ، وهي صفات
ص: 175
الخلق ، فإرادة اللَّه الفعل لا غير ذلك ، يقول له : كن فيكون ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لذلك كما أنه لا كيف له » (1) .
وقد روي الصدوق رحمه الله باسناده عن بكير بن أعين ، قال : قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام : علم اللَّه ومشيّته هما مختلفان أم متّفقان ؟ فقال : « العلم ليس هو المشيّة ، ألا تري أنّك تقول : سأفعل كذا إن شاء اللَّه ، ولا تقول : سأفعل كذا إن علم اللَّه ، فقولك : إن شاء اللَّه دليل علي أنّه لم يشأ ، فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء ، وعلم اللَّه سابق للمشيّة » .(2)
وفي رواية الهاشمي - الطويلة المشتملة علي مباحثة مولانا الرضاعليه السلام مع أهل الملل - قال عمران : فأيّ شي ء غيره ؟ قال الرضاعليه السلام : « مشيّته واسمه وصفته وما أشبه ذلك ، وكلّ ذلك محدث مخلوق مدبّر » .
وقال عليه السلام فيها أيضاً : « واعلم أنّ الإبداع والمشيّة والإرادة معناها واحد وأسمائها ثلاثة » .(3)
قال العلامة المجلسي رحمه الله : هذا الخبر يدلّ علي أنّ إرادته تعالي من صفات الفعل وهي عين الإبداع وهي محدثة .(4)
وللإمام الرضاعليه السلام كلام طويل - في مناظرته مع سليمان المروزي(5) - في إبطال قدم الإرادة وكونها من صفات الذات ، وكونها نفس العلم ، وكونها نفس الأشياء كما
ص: 176
قال به أصحاب الفلسفة ، وقسّموا الإرادة إلي الذاتيّة والفعليّة ، والرواية - بطولها وتشديدها - حجة ساطعة لمرادنا ، وكأنّ الإمام عليه السلام كان ناظراً إلي أقوال الفلاسفة فردّ عليهم .
وصحيحة ابن أذينة عن الصادق عليه السلام قال : « خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة » .(1)
قال القاضي سعيد القمي في شرحها : لمّا كان المقرّر عندهم عليهم السلام وعند أصحابهم المقتفين لآثارهم أنّ المشيّة محدثة ؛ لأنّها نفس الإيجاد والإحداث ، وعند ذلك ترد شبهة هي أنّ كلّ حادث لابدّ له من محدث ، وإحداث ذلك الحادث يتوقّف علي المشيّة ، فإذا كانت المشيّة حادثة فهي مسبوقة بمشيّة أخري حادثة وهكذا يتسلسل ، أجاب الإمام عليه السلام عن هذه الشبهة بقوله : « خلق اللَّه المشيّة بنفسها » يعني أنّ المشيّة بمعني الإيجاد والإحداث أمر مصدري - كما أشير إليه في الخبر السابق : أنّ « المريد لا يكون إلاّ لمراد معه » وهكذا حكم المشيّة - والأمر المصدري لا يستدعي جعلاً برأسه ؛ لأنّه لا يمكن أن يكون المراد بها النسبة المتحقّقة بين الجاعل والمجعول ، إذ النسبة متأخّرة عن الطرفين ، وذلك ينافي قوله عليه السلام : « خلق الأشياء بالمشيّة » فتعيّن أنّ تكون المشيّة عبارة عن كون الفاعل موثّراً . .(2)
ثمّ إنّه ليس في شي ء من هذه الروايات وغيرها إيماء فضلاً عن الدّلالة علي أنّ له تعالي إرادة ذاتيّة أيضاً ، بل فيها ما يدلّ علي نفي كون إرادته تعالي ذاتيّة كصحيحة عاصم بن حميد ورواية الجعفريّ و . . فلو كانت للَّه تعالي إرادتان ذاتيّة وفعليّة لأشارت الرّوايات إلي ذلك .(3)
ص: 177
لكنّ الفلاسفة أغمضوا أعينهم عن صراحة هذه الروايات ، فوجّهوها بتوجيهات باردة وحملوها علي محامل بعيدة فاسدة ، بل بعضها مخالف لصراحة بعض الرّوايات المذكورة فلاحظ .(1)
وكيف يمكن أن نقول : إنّ الأئمةعليهم السلام بيّنوا العلم والقدرة والحياة ، وعينيّتها لذاته القدّوس ، ولكن لمّا وصل بيانهم عليهم السلام إلي الإرادة لم يبيّنوها ، لعدم استعداد الأذهان ؟ ! - كما يقوله بعض هؤلاء - أو أنّهم عليهم السلام بيّنوا الإرادة الفعليّة وأهملوا ذكر الإرادة الذاتيّة ؟ ! مع أنه لا أثر لها إلاّ في أوهام هذا القوم .
فلاحظ الأخبار الواردة في المقام هل تجد رواية - ولو ضعيفة السند والدلالة - علي أنّ الإرادة قديمة ؟ أو عين ذاته ؟ أو هي راجعة إلي العلم ؟ مع أنّ الصفات الذاتيّة مصرّح بها في الروايات الكثيرة عن مجاري العصمة ومعادن الحكمة !
والمسألة واضحة جدّاً إلي حدّ يقول القاضي سعيد القمي - وهو من الفحول
ص: 178
في المسائل الفلسفيّة - : هي ( أي الإرادة ) من صفات الفعل كما هو المتلقّي من أهل بيت النبوّة والحكمة ، والضروري من أهل بيت العصمة والطهارة حيث عارضهم متكلّموا زمانهم ، وكان ذلك ممّا يعدّ من مذهبهم وممّا اشتهر منهم بين الموافق والمخالف ، فإنكار ذلك مستلزم للردّ عليهم ، والرادّ عليهم كالرادّ علي اللَّه ، والرادّ علي اللَّه علي حدّ الكفر .(1)
وقال في موضع آخر منه : اعلم أنّ حدوث الإرادة والمشيّة من مقرّرات طريقة أهل البيت ، بل من ضروريّات مذهبهم - صلوات اللَّه عليهم - فالقول بخلاف ذلك فيهما مثل القول بالعينيّة والزيادة الأزليّة وأمثالهما إنّما نشأ من القول بالرأي في الأمور الإلهيّة ، وأكثر العقلاء من أهل الإسلام لمّا لم يفكّوا رقبتهم عن ربقة تقليد المتفلسفة بالكليّة وأرادوا تطبيق ما ورد عن أهل البيت علي هذه الآراء المتزيّفة ، فتارة يقولون : نحن لا نفهم حقائق هذه الأخبار الّتي هي أخبار الآحاد ، ولعلّهم أضمروا في أنفسهم أنّ الأمر ليس كذلك لكن لا يجرؤون علي إظهاره .(2)
وعلي هذا ، فلا يكون ما سوي اللَّه تعالي مرتبة من مراتب ذاته تعالي ولا إشراق ورشح من نفسه ، ولا تطوّر وتشؤّون في نفسه تعالي ؛ لأنّه إذا كانت الإرادة والمشيّة محدثة وجميع الأشياء موجودة بالإرادة والمشيّة ، فهي أولي بالحدوث .
الأدلّة الدالّة علي تنزّهه سبحانه عن كلّ ما يتّصف به المخلوقات من قبيل الزمان والمكان والحركة والسكون والجسم والصورة والشبه والمثل والقابليّة
ص: 179
للوجود والعدم ، والزيادة والنقيصة ، والجزء والكلّ ، والمقدار والعدد والتجزئة والتغيّر ، والانتقال والامتداد - إلي نهاية أو لا نهاية - والدخول والخروج ، والتصوّر والتوهّم والإدراك وغيرها من الأوصاف الّتي تجري علي المخلوقات ، ولا يجوز اتصافه سبحانه بها ، وقد قامت الضرورة فضلاً عن البرهان علي أنّ ما لا يكون كذلك يلزم أن يكون ذاتاً متفرّداً متوحّداً منزّهاً عن كلّ ما سواه .
ولا شك أنّ الالتزام بوحدة الوجود وبسط الوجود علي هياكل الموجودات ، وأكمليّة الوجود وأشدّيته بالنسبة إليه تعالي ، وكونه كلّ الوجود والوجود المطلق والإحاطة الذاتيّ الوجوديّ إلي ما لا نهاية و . . كلّ ذلك وما شاكله يستلزم منه الاتصاف بالأوصاف المذكورة الخاصّة للمخلوقات ؛ لأنّ القبض والبسط والشدّة والضعف والأكمليّة والامتداد والزيادة والنقيصة والمكان والزمان والحواية والشمول وما قاربها من تعابيرهم ، كلّ هذه الأوصاف لا تجري عليه سبحانه(1) ، بل هي آية للمصنوعيّة والاحتياج ، كما لا يخفي .
ص: 180
إنّ القول بوحدة حقيقة الوجود يناقض الأدلّة الدالّة علي حدوث العالم ، وقد ثبت بإجماع أهل الملل والنصوص المتواترة حدوث جميع ما سوي اللَّه تعالي .
والمراد بالحدوث هو أنّ أزمنة وجود ما سواه تعالي في جانب الأزل متناهية ، ولوجوده ابتداء ، وأنّ اللَّه سبحانه وتعالي أبدع وأحدث وأوجد الأشياء بعد أن لم تكن ، كما هو مضمون الآيات والأخبار والأدلة العقليّة ،(1) خلافاً للفلاسفة ، إذ المشهور منهم يقولون بأنّ ما سوي اللَّه حادث بالذّات وقديم بالزّمان .
فلو كان وجوده تعالي عين وجود خلقه ، أو كان الخلق مرتبة من مراتب وجوده تعالي فلا معني لمسبوقيّته بالعدم الحقيقيّ .
ولنذكر هنا بعض الروايات الدالّة علي الحدوث بالمعني المذكور :
فعن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال : « . . لم يخلق الأشياء من أصول أزليّة ، ولا من أوائل أبديّة ، بل خلق ما خلق . . » .(2)
وعن أبي جعفر الباقرعليه السلام أنّه قال : « يا إبراهيم ! إنّ اللَّه تبارك وتعالي لم يزل عالماً قديماً خلق الأشياء لا من شي ء ، ومن زعم أنّ اللَّه خلق الأشياء من شي ء فقد كفر ؛ لأنّه لو كان ذلك الشي ء الّذي خلق منه الأشياء قديماً معه في أزليّته وهويّته كان ذلك الشي ء أزليّاً ، بل خلق اللَّه تعالي الأشياء كلّها لا من شي ء » .(3)
ص: 181
وسئل أبو جعفرعليه السلام عن الشي ء هل خلقه من شي ء أو من لا شي ء ؟ فقال : « خلق الشي ء لا من شي ء كان قبله ، ولو خلق الشي ء من شي ء إذاً لم يكن له انقطاع أبداً ، ولم يزل اللَّه إذاً ومعه شي ء ، ولكن كان اللَّه ولا شي ء معه . . » .(1)
وعن أميرالمؤمنين عليه السلام : « . . إنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً» .(2)
وعن مولانا أبي الحسن الرضاعليه السلام أنّه قال : « . . فقد بان لنا بإقرار العامة مع معجزة الصفة أنّه لا شي ء قبل اللَّه ولا شي ء مع اللَّه في بقائه ، وبطل قول من زعم أنّه كان قبله أو كان معه شي ء ، وذلك أنّه لو كان معه شي ء في بقائه لم يجز أن يكون خالقاً له ، لأنّه لم يزل معه ، فكيف يكون خالقاً لمن لم يزل معه ؟ ! » .(3)
وعنه عليه السلام أنّه قال : « . . كذلك التوراة والإنجيل والزبور ، وهي كلّها محدثة مربوبة ، أحدثها من ليس كمثله شي ء هديً لقوم يعقلون ، فمن زعم أنّهنّ لم يزلن معه فقد أظهر أنّ اللَّه ليس بأوّل قديم ولا واحد ، وأنّ الكلام لم يزل معه . . » .(4)
وعنه عليه السلام : « . . إنّ الشي ء إذا لم يكن أزليّاً كان محدثاً وإذا لم يكن محدثاً كان أزليّاً ، ألا تعلم أنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً وقديماً وحديثاً في حالة واحدة ؟ ! » .(5)
وغيرها من الأخبار الكثيرة في هذا الباب والّتي غفل عنها هؤلاء - ويا
ص: 182
للأسف - ولذا انحرفوا عن جادّة الصواب وألحدوا بربّ الأرباب .
ولا يخفي أنّ هذه الأحاديث صريحة في مسبوقيّة العالم بالعدم ، فلا معني للقول بعينيّته تعالي مع الخلق ، أو كون الخلق مرتبة من ذاته الأزليّ أو غير ذلك .
إنّ القول بوحدة الوجود يستلزم الخوض في ذاته تعالي واكتناهه مع ورود النهي عنه ،(1) بل من مسلّمات الدين الحنيف أنّه لا سبيل للمخلوق إلي معرفة ذات الخالق والإحاطة به ومعرفة حقيقته .
وقد قال اللَّه تعالي : « يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً »(2) ، وقال سبحانه : « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار »(3)
وعن أبي عبداللَّه عليه السلام في قوله عزّ وجلّ : « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » قال عليه السلام : « إحاطة الوهم ، ألا تري إلي قوله : « وقد جاءكم بصائر من ربّكم » ليس يعني بصر العيون ، « فمن أبصر فلنفسه » ليس يعني من البصر بعينه ، « ومن عمي فعليها » لم يعن عمي العيون ، إنما عني إحاطة الوهم كما يقال : فلان بصير بالشعر ، وفلان بصير بالفقه ، وفلان بصير بالدراهم ، وفلان بصير بالثياب ، اللَّه أعظم من أن يري بالعين » .(4)
وورد في دعاء المشلول المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام : « يا من لا يعلم ما هو
ص: 183
ولا كيف هو ولا أين هو ولا حيث هو إلاّ هو »(1) .
وروي عن مولانا وسيّدنا الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : « الحقّ الّذي تطلب معرفته من الأشياء هو أربعة أوجه : فأوّلها أن ينظر أموجود أم ليس بموجود .
الثاني : أن يعرف ما هو ذاته وجوهره .
الثالث : أن يعرف كيف هو . . . »
إلي أن قال : « فليس من هذه الوجوه شي ء يمكن المخلوق أن يعرفه من الخالق حقّ معرفته غير أنّه موجود فقط ، فإذا قلنا : كيف ؟ وما هو ؟ فممتنع علم كنهه وكمال المعرفة به » .(2)
وعن الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام أنّه قال : « سبحان من لم يجعل من معرفة نعمه إلاّ بالتقصير عن معرفتها ، كما لم يجعل في أحد من معرفة إدراكه أكثر من العلم أنّه لا يدركه » .(3)
وعن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال : « لم تجعل للخلق طريقاً إلي معرفتك إلاّ بالعجز عن معرفتك » .(4)
وعنه عليه السلام : « اتّقوا اللَّه أن تمثّلوا بالربّ الّذي لا مثل له ، أو تشبّهوه بشي ء من خلقه ، أو تلقوا عليه الأوهام ، أو تعملوا فيه الفكر ، أو تضربوا له الأمثال ، أو تنعتوه بنعوت المخلوقين ، فإنّ لمن فعل ذلك ناراً » .(5)
ص: 184
وعن مولانا عليّ بن موسي الرضاعليه السلام أنه قال : « فليس اللَّه عرف من عرف بالتشبيه ذاته ، ولا إيّاه وحّد من اكتنهه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله . . . ولا إيّاه عني من شبّهه » .(1)
وعن مولانا الإمام الباقرعليه السلام أنه قال : « يا جابر ! إنّ اللَّه تبارك وتعالي لا نظير له ولا شبيه ، تعالي عن صفة الواصفين » .(2)
وعن الإمام الباقرعليه السلام أنه قال : « كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم » .(3)
وعن أميرالمؤمنين عليه السلام : « ليس بإله من عرف بنفسه » .(4)
وعن أبي الحسن الرضاعليه السلام : « كلّ معروف بنفسه مصنوع » .(5)
وعن الإمام الصادق عليه السلام : « كيف أصف ربّي بالكيف والكيف مخلوق ؟ واللَّه لا يوصف بخلقه » .(6)
وعن مولانا الحسين عليه السلام : « ما تصوّر في الأوهام فهو خلافه » .(7)
وعن مولانا الرّضاعليه السلام : « ما توهّمتم من شي ء فتوهّموا اللَّه غيره » .(8)
وعن الإمام الصادق عليه السلام : « ولا يقع عليه الأوهام ، ولا تصفه الألسن ، فكلّ
ص: 185
شي ء حسّته الحواس أو جسّته الجواس أو لمسته الأيدي فهو مخلوق » .(1)
عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال : « إنّ الراسخين في العلم هم الّذين أغناهم اللَّه عن الاقتحام علي السّدد المضروبة دون الغيوب إقراراً بجهل ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فقالوا : آمنّا به ، كلّ من عند ربّنا ، فمدح اللَّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمّي تركهم التعمق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخاً ، فاقتصر علي ذلك ولا تقدّر عظمة اللَّه سبحانه علي قدر عقلك فتكون من الهالكين » .(2)
وعن الإمام الصادق عليه السلام : « فإن قالوا : فأنتم الآن تصفون من قصور العلم عنه وصفاً حتّي كأنّه غير معلوم ، قيل لهم : هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كنهه والإحاطة به ، وهي من جهة أخري أقرب من كلّ قريب إذ استدلّ عليه بالدلائل الشافية ، فهو من جهة كالواضح لا يخفي علي أحد ، ومن جهة كالغامض لا يدركه أحد » (3)
وعنه عليه السلام : « ولا يخطر ببال أولي الرويّات خاطرة من تقرير جلال عزّته لبعده أن يكون في قوي المحدودين ؛ لأنه خلاف خلقه فلا شبه له من المخلوقين ، وإنّما يشبه الشي ء بعديله ، فأمّا ما لا عديل له فكيف يشبه بغير مثاله » .(4)
وعنه عليه السلام : « فإن قالوا : أو ليس نصفه ؟ فنقول : العزيز الحكيم الجواد الكريم ، قيل لهم : كلّ هذه صفات إقرار ، وليست صفات إحاطة ، فإنّا نعلم أنّه حكيم ولا نحيط بكنه ذلك منه ، وكذلك قدير وجواد وسائر صفاته » .
ص: 186
« فإن قالوا : فكيف يكلّف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به ؟ قيل لهم : إنّما كلّف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه ، ولم يكلّفوا الإحاطة بصفته . . » .(1)
وعنه عليه السلام أنّه قال : « فهو بالموضع الّذي لا يتناهي ، وبالمكان الّذي لم يقع عليه الناعتون لا بإشارة ولا عبارة ، هيهات ! هيهات ! » .(2)
وعنه عليه السلام : « ويصيب الفكر منه الإيمان به موجوداً ووجود الإيمان لا وجود صفة » .(3)
وعنه عليه السلام : « وليس علم الإنسان بأنّه موجود موجب له أن يعلم ما هو وكيف هو ، كما أنّ علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم ما هي وكيف هي ، وكذلك الأمور الروحانية اللطيفة » .(4)
والحاصل أنّه تعالي عندهم عليهم السلام لا تدرك ذاته ولا صفاته لا بإشارة ولا عبارة . وقد ورد النهي الأكيد منهم عليهم السلام عن الخوض والتعمّق والتكلّم والتفكّر في ذاته تعالي ، وأنّ البحث عنه موضوع ، بل ورد النهي عن المجالسة مع الخائضين في ذلك .
وعن عليّ بن الحسين عليهما السلام أنّه قال : « إنّ اللَّه تعالي علم أن يكون في آخر الزّمان أقوام متعمّقون فأنزل اللَّه « قل هو اللَّه أحد اللَّه الصمد »(5) والآيات من
ص: 187
سورة الحديد إلي قوله : « وهو عليم بذات الصدور »(1) ، فمن رام ما وراء ذلك فقد هلك » . (2)
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله : ظاهره المنع عن التفكّر والخوض في مسائل التوحيد والوقوف مع النصوص . .(3)
وعن أمير المؤمنين عليه السلام : « . . والغلوّ علي أربع شعب : علي التعمّق بالرّأي والتنازع فيه والزيغ والشقاق ، فمن تعمّق لم ينب إلي الحقّ ولم يزدد إلاّ غرقاً في الغمرات ولم تنحسر عنه فتنة إلاّ غشيته أخري وانخرق دينه . . »(4)
وعنه عليه السلام : « تكلّموا في خلق اللَّه ولا تتكلّموا في اللَّه ، فإنّ الكلام في اللَّه لا يزداد صاحبه إلاّ تحيّراً » .(5)
ص: 188
وعنه عليه السلام : « تكلّموا في كلّ شي ء ولا تتكلّموا في ذات اللَّه » .(1)
وعنه عليه السلام : « إنّ الناس لا يزال لهم المنطق حتّي يتكلّموا في اللَّه ، فإذا سمعتم ذلك فقولوا : لا إله إلاّ اللَّه الواحد الّذي ليس كمثله شي ء » .(2)
وعنه عليه السلام : « من نظر في اللَّه كيف هو هلك » .(3)
وعنه عليه السلام : « إذا انتهي الكلام إلي اللَّه فأمسكوا » .(4)
وعنه عليه السلام : « إيّاكم والتفكّر في اللَّه . . » . (5)
وأيضاً قد وردت روايات أخر بأنّه لا يوصف ولا يجوز توصيفه إلاّ بما وصف به نفسه وذلك مثل :
ما روي عنه عليه السلام : « إنّ اللَّه عزّ وجلّ لا يوصف » . (6)
وعنه عليه السلام : « سبحان من لا يحدّ ولا يوصف » . (7)
وعنه عليه السلام : « لا يوصف اللَّه بمحكم وحيه ، عظم ربّنا عن الصفة وكيف يوصف من لا يحدّ وهو يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار » . (8)
وعنه عليه السلام : « عزّ وجلّ عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهّم المتوهّمين » . (9)
ص: 189
وعنه عليه السلام : « . . من جزّأه فقد وصفه ، ومن وصفه فقد ألحد فيه » . (1)
وعنه عليه السلام : « الممتنع من الصفات ذاته ، ومن الأبصار رؤيته ، ومن الأوهام الإحاطة به » . (2)
وعنه عليه السلام : « فمن وصف اللَّه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن عدّه فقد أبطل أزله . . » . (3)
وعنه عليه السلام : « من وصف اللَّه سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه . . » . (4)
وعنه عليه السلام : « فلا دهر يخلقه ولا وصف يحيط به » . (5)
وعنه عليه السلام : « فليست له صفة تنال ، ولا حدّ يضرب فيه الأمثال ، كلّ دون صفاته تحبير اللغات ، وضلّ هنالك تصاريف الصّفات . . . سبحانه ، هو كما وصف نفسه والواصفون لا يبلغون نعته » . (6)
وعنه عليه السلام : « لا يحويه مكان ولا يصفه لسان » . (7)
وعنه عليه السلام : « لا يقع عليه الأوهام ولا تصفه الألسن » . (8)
وعنه عليه السلام : « الحمد للَّه الّذي أعجز الأوهام أن تنال إلاّ وجوده وحجب العقول أن تتخيّل ذاته » . (9)
ص: 190
وعنه عليه السلام : « . . وجهل اللَّه من استوصفه » . (1)
وعنه عليه السلام : « كلّ موصوف مصنوع ، وصانع الأشياء غير موصوف بحدّ » . (2)
وعنه عليه السلام : « الّذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحدّ ولا ببعض ، بل وصفته بأفعاله ودلّت عليه بآياته » . (3)
وعنه عليه السلام : « انحسرت الأبصار عن أن تناله ، فيكون بالعيان موصوفاً ، وبالذات الّتي لا يعلمها إلاّ هو عند خلقه معروفاً ، وفات لعلوّه علي الأشياء مواقع رجم المتوهّمين ، وارتفع عن أن تحوي كنه عظمته فهّاهة رويّات المتفكّرين . . » . (4)
وعنه عليه السلام : « سبحان من لا يعلم كيف هو إلاّ هو ، ليس كمثله شي ء » . (5)
وعنه عليه السلام : « من يصف ربّه بالقياس لا يزال الدهر في الالتباس ، مائلاً عن المنهاج ، ظاعناً في الإعوجاج » .(6)
وعنه عليه السلام : « إن كنت صادقاً - أيّها المتكلّف لوصف ربّك - فصف جبرئيل وجنود الملائكة المقرّبين في حجزات القدس مُرجَحِنّين ، متولّهة عقولهم أن يحدّوا أحسن الخالقين ، وإنّما يدرك بالصفات ذووا الهيئات والأدوات » . (7)
وعنه عليه السلام : « الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه ، وكيف يوصف الخالق
ص: 191
الّذي يعجز الحواس أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تحدّه والأبصار عن الإحاطة به ؟ ! جلّ عمّا يصفه الواصفون . . . فهو الأحد الصمد كما وصف نفسه والواصفون لا يبلغون نعته » . (1)
وعنه عليه السلام : « سبحانك ما عرفوك ولا وحّدوك ، فمن أجل ذلك وصفوك سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك ، سبحانك كيف طاوعتهم أنفسهم أن شبّهوك بغيرك . . . ما توهّمتم من شي ء فتوهّموا اللَّه غيره » . (2)
وعنه عليه السلام : « عجزت دونه العبارة ، وكلّت دونه الأبصار ، وضلّ فيه تصاريف الصفات » . (3)
وعنه عليه السلام : « لا إيّاه وحّد من اكتنهه » . (4)
وعنه عليه السلام : « وقد أخطأه من اكتنهه » . (5)
وعنه عليه السلام : « . . معترفة بأنّه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته » . (6)
وعنه عليه السلام : « ممتنع عن الأوهام أن تكتنهه ، وعن الأفهام أن تستغرقه وعن الأذهان أن تمثّله » . (7)
وعنه عليه السلام : « قد يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول » . (8)
ص: 192
وعنه عليه السلام : « قد ضلّت في إدراك كنهه هواجس الأحلام ؛ لأنّه أجلّ من أن تحدّه ألباب البشر بالتفكير » . (1)
وعنه عليه السلام : « ردعت عظمته العقول ، فلم تجد مساغاً إلي بلوغ غاية ملكوته » . (2)
وعنه عليه السلام : « ارتفع عن أن تحوي كنه عظمته فهّاهة رويّات المتفكّرين » . (3)
وعنه عليه السلام : « كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه » . (4)
وعنه عليه السلام : « كيّف الكيفيّة فلا يقال له : كيف ؟ ، وأيّن الأين فلا يقال له : أين ؟ هو منقطع الكيفوفيّة والأينيّة ، فهو الأحد الصمد كما وصف نفسه ، والواصفون لا يبلغون نعته » . (5)
وغيرها من الأحاديث المتواترة معنيً أو إجمالاً ، مع صحة السند ووضوح الدلالة المؤيّدة ببعض الآيات .
ولكنّ الفلاسفة والصوفيّة تركوا ما أمروا بعلمه ، وتكلّفوا ما لم يؤمروا بعلمه حتي تكلّموا في معرفة كنه ربّ العالمين(6) ، وأوقعوا أنفسهم في الهالكين ، وقالوا
ص: 193
بمقالات ليست من الدين حيث ادّعوا : أنّ ذاته تعالي هو الوجود المطلق ، وغيره من الموجودات بأسرها تنزّلاته وأطواره ! وحقيقتها أيضاً هو الوجود المحدود بحدود التعيّنات الاعتباريّة مع بقائه علي بساطته ، فهو عينها وغيرها اعتباراً .
لابدّ من الإشارة إلي نكتة مهمة وهي : انّه لا يعلم كنهه تعالي أحدٌ من الخلائق ، وأنّ إدراك ذاته سبحانه وكشفه ممتنع بالذات مطلقاً ، خلافاً لما ذهب إليه بعض المعاصرين من أنه : لا مانع من أن يعرّف اللَّه تعالي أولياءه الخاصة ذاته المقدسة بالذات المقدسة بنوره عرفاناً شهودياً بقدر ما شاء من غير طريق الفناء - الّذي يقول به الصوفية - وزعم أنه من معرفة الذات بالذات ، وأنّ فساد الكشف لأجل عدم أهلية مدّعيه ، أو لأجل قولهم بالفناء ، وقد مرّ سابقاً أنّ الأصل في امتناع إدراك ذاته تعالي امتناع الذات لا قصور المدركات ، وإن كانت هي أيضاً قاصرة بالذات ؛ لأنّ المخلوق محدود والخالق حادّ ، والمحدود مبائن للحادّ ذاتاً ، كما عن مولانا الإمام الرضاعليه السلام : « لافتراق الصانع والمصنوع والرّب والمربوب والحادّ والمحدود » .(1) فلا تدرك ولا تنال ذاته تعالي بأيّ نحو من التصوّر والنيل .
وعلي هذا ، لا فرق هناك بين الكامل والناقص في امتناع إدراك الكنه ؛ لأنّ نصوصهم وتعليلاتهم عليهم السلام آبية عن التخصيص كقول الإمام الصادق عليه السلام : « وهو من جهة كالغامض لا يدركه أحد » .(2)
وعنه عليه السلام أيضاً : « سبحان من لا يعلم كيف هو إلاّ هو » .(3)
ص: 194
وعن أمير المؤمنين عليه السلام - بعد قوله : إنّه سبحانه لا يوصف إلاّ بما وصف نفسه - قال : « سمّي تركهم التعمق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخاً » .(1)
وعن مولانا الصادق عليه السلام : « فان قالوا أو ليس قد نصفه فنقول هو العزيز الحكيم الجواد الكريم ؟ قيل لهم : كلّ هذه صفات إقرار وليست صفات إحاطة ، فإنّا نعلم أنّه حكيم ولا نعلم بكنه ذلك منه ، وكذلك قدير وجواد وسائر صفاته ، كما قد نري السّماء ولا ندري ما جوهرها ، ونري البحر ولا ندري أين منتهاه ، بل فوق هذا المثال بما لا نهاية له ؛ لأنّ الأمثال كلها تقصر عنه ، ولكنّها تقود العقل إلي معرفته » .(2)
وعنه عليه السلام : « فإذا قلنا كيف ؟ وما هو ؟ فممتنع علم كنهه وكمال المعرفة به » .(3)
أقول : أُنظر ، كيف صرّح الإمام عليه السلام عن نفسه بمساواته مع غيره في امتناع الاكتناه !
فمفاد هذه الروايات وغيرها هو عدم إمكان معرفة الكنه لكلّ أحد ، ويشهد بذلك ما نقله العلاّمة المجلسي رحمه الله عن بعض الأعلام حيث قال : الاطلاع علي حقيقة الذات المقدسة فممّا لا مطمع فيه للملائكة المقربين والأنبياء المرسلين فضلاً عن غيرهم ، وكفي في ذلك قول سيّد البشر : « ما عرفناك حقّ معرفتك » .
وفي الحديث : « إنّ اللَّه احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار ، وأنّ الملأ الأعلي يطلبونه كما تطلبونه أنتم »(4) ، فلا تلتفت إلي من يزعم أنّه قد وصل إلي
ص: 195
كنه الحقيقة المقدسة ، بل أحث التراب في فيه ، فقد ضلّ وغوي وكذب وافتري ، فإنّ الأمر أرفع وأظهر من أن يتلوّث بخواطر البشر ، وكلّما تصوّره العالم الراسخ فهو عن حرم الكبرياء بفراسخ ، وأقصي ما وصل إليه الفكر العميق فهو غاية مبلغه من التدقيق ، وما احسن ما قال :
آنچه پيش تو غير از او ره نيست
غايت فهم تو است اللَّه نيست
بل الصفات الّتي نثبتها له سبحانه إنّما هي علي حسب أوهامنا وقدر أفهامنا ، فإنّا نعتقد اتصافه بأشرف طرفي النقيض بالنظر إلي عقولنا القاصرة ، وهو تعالي أرفع وأجلّ من جميع ما نصفه به ، وفي كلام الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقرعليهما السلام إشارة إلي هذا المعني حيث قال : « كلّما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم ، ولعلّ النمل الصغار تتوهم أنّ للَّه تعالي زبانيتين ؛ فإنّ ذلك كمالها ويتوهّم أنّ عدمهما نقصان لمن لا يتصّف بهما ، وهذا حال العقلاء فيما يصفون اللَّه تعالي به » انتهي كلامه ، صلوات اللَّه عليه وسلامه .(1)
إنّه يلزم علي هذا المبني سلب الألفاظ عن معانيها الواقعيّة ودلالتها اللفظيّة ، فلا مناص من أن يكون ألفاظ الخالق والمخلوق والخلق ، والرازق والمرزوق والرزق ، والجاعل والمجعول والجعل وأمثالها لا تدلّ علي ما وضعت له من المفاهيم والمعاني ، بل تفسّر هذه الألفاظ بما هو غير المتبادر منها ، كتفسير الخالق والجاعل والصانع والمحيي والمميت و . . بالعلّة ، كما ويفسّر المخلوق والمجعول والمصنوع و . . بالمعلول .
ص: 196
وعليه ، فتكون كلّها ظهوراته سبحانه وتجلّياته وشؤونه وأطواره ، ويكون هو تعالي حقيقة هذه الأشياء وعينها .
وإن شئت قلت : ليس علي مذهبهم خلق وإيجاد وصنع ، بل الإيجاد عندهم عبارة عن تجلّي الحق ونزوله في منازل الهويّات وتشؤّن الوجود بشأن من الشؤون وتطوّره بطور من الأطوار ، وأنّه لا يمكن أن يكون وجود وموجود حقيقةً غير الحقّ وليس غيره موجوداً ، وذوات الممكنات ما شمّت رائحة الوجود ، والمراتب الوجودية اعتبارات صرفة . . .
ولا ريب أنّ ما ورد من ألفاظ قرآنية أو نصوص شرعيّة ك : السّماء ، والأرض ، والشّمس ، والقمر ، والنجوم ، والحجر ، والشجر ، والأنبياء ، والرّسل ، والملائكة . . كلّها حقائق وواقعيّات متحققة ، وإلاّ للزم بطلان الاستدلال بالآيات الأنفسيّ والآفاقي الموجودة في الآيات والأخبار ، إذ يكون استدلالاً بالأوهام والأعدام . كما يلزم أن تكون الخطابات القرآنيّة بلا مخاطب بل غير حقيقيّة ، كقوله سبحانه : « إنّما إلهكم إله واحد »(1) وقوله عزّ وجلّ : « إنّما إلهكم اللَّه الّذي لا إله إلاّ هو »(2) وقوله تعالي : « اشكروا للَّه إن كنتم إيّاه تعبدون »(3) . .
ومن هنا كان استناد هذا المذهب - أي مذهب الفلاسفة والقائلين بالحكمة المتعالية ! الّذي يشترك فيه جميع عرفاء الملل والمذاهب حتّي عبّاد الأصنام و . . - إلي الإسلام والكتاب والسنّة افتراء محض واجتراء بلا ريب ، كيف فإنّ دعوة الأنبياء والقرآن والعترة علي أنّه تعالي موجود محقّق ، وليس كمثله شي ء ، وهو هو ، وذاته
ص: 197
ذاته ، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته ومشابهة مصنوعاته . .
فعلي هذا ، توحيد القرآن والحديث لا ينافي غيريّة الخالق والمخلوق والبينونة الذاتيّ بينهما ، وليس في توحيده تعالي نفي غيره سبحانه ، بل وحدة الخالق والربّ والرازق تتضمّن الإقرار بوجود الغير أي المخلوق والمربوب والمرزوق .
فتحصّل : أنّ القول بأنّ حقيقة ذاته تعالي هو الوجود وليس في دار التحقّق سوي الوجود ، وما سوي وجوده سبحانه مراتب ضعيفة للوجود ، فما هو المحقّق الموجود الخارجي هو الوجود خلاف المعارف الأوّليّة الدينيّة سواء قلنا بوحدة شخصيّة للوجود أو وحدة السنخيّة له والتمايز بالمراتب ، أكمله وأتمّه هو وجود الواجبي ، أو قلنا بأنّ الوجود منحصر به تعالي ، والوجودات الأخر خيال وهمي أو ظلّي أو . . مضافاً إلي أنّه تعالي أخبر في كتابه الكريم من خلق السماء والأرض وآدم والجنّة والنار و . . والقائل بوحدة الوجود يقول : إنّ الجعل تعلّق بوجودها(1) لا بماهيّتها ، وأيضاً يقول : بأنّ الوجود واحد بسيط غير متجزّي ء وغير متعدّد ، فعلي هذا كيف أخبر اللَّه تعالي بخلق السماء والأرض و . . مع أنّ الخلق والجعل تعلق بالوجود ، والوجود واحد والماهيّة أمر اعتباريّ ؟
هل يمكن أن يخلق الوجود وجوداً مستقلاً آخر ؟ أو مرتبة من نفسه ؟
وهل يمكن أن يكون العالم والموجودات حادثاً مسبوقاً بالعدم مع كون الأصل الأصيل في التحقّق عندهم هو الوجود والماهيّة أمر اعتباريّ ؟
فوحدة الوجود لا معني محصّل لها سوي التزويق اللفظي والتلاعب بالكلمات ونوع من السفسطة وإنكار البديهيّات الأوليّة !!
ص: 198
قبل ذكر هذا الدليل علي بطلان القول بوحدة الوجود لابدّ من التنبيه علي نكتة مهمّة وهي : أنّه لمّا كان الوجود عندهم هو الأصل الأصيل لا يتعدّد ولا يتجزّي ء وهو الخالق وهو المخلوق ، وأنّ التعدد والامتياز بالماهية ، وهي عندهم اعتبارية ؛ فلا يبقي شي ء إلاّ الوجود ، وقد ذكرنا فيما سبق - وسيأتي بيانه تفصيلاً - بأنّه لا فرق بين القول بوحدة الوجود الفلسفي - أي أنّ الوجود حقيقة واحدة مشكّكة - وبين القول بوحدة الوجود العرفاني - أي وحدة الوجود والموجود - لأنّ هذه المراتب إمّا أن تكون عين الوجود الحقيقي أم غيره ، وعلي الأوّل : يستلزم وحدة الوجود الحقيقية ، وهو الواجب وهو الممكن ، كما أقرّوا بمقتضي مذهبهم من أنه ( ليس في دار الوجود غيره ديّار ) و( أنّ الشرك عبارة عن الاعتقاد بوجود غيره تعالي ) كما في كلام غير واحد منهم . وعلي الثاني : يلزم تعدّد الحقائق ، وهو عين القول بالماهيات .(1)
فعلي هذا الأساس نقول : ومن مفاسد القول بوحدة الوجود :
إنّه يلزم علي ما ذكروه من وحدة الوجود نفي خالقيّته تعالي وكذا مخلوقيّة ما سواه رأساً ! أمّا نفي مخلوقيّة الوجود ؛ إذ الوجود عندهم هو ذاته تعالي وهو غير مخلوق ، فإن وجد منه وجود آخر مخلوق يلزم تعدّد الوجود ( وجود قديم ووجود
ص: 199
حادث ) ؛ لأنّ وجود المخلوق غير الوجود الّذي هو الخالق إذ لا يكون الشي ء موجداً لنفسه ، وهم يقولون بوحدة الوجود .
وأمّا نفي مخلوقيّة غير الوجود(1) ؛ فغير الوجود ليس عندهم شيئاً مطلقاً حتّي يبحث عن كونه مخلوقاً أو غير مخلوق ، وبسط الذّات ليس بخلق حقيقة وواقعاً ، فلا خالقيّة ولا مخلوقيّة ، وهذا خلاف الضرورة والوجدان والبرهان .
وقد أفاد بعض الأعاظم في هذا المقام ما نصّه :
إنّ الخالق جاعل بالذّات ، والمخلوق مجعول بالذات ، فإنّ المجعول بالعرض - وهو المهيّة - علي هذا القول في الحقيقة ليس مجعولاً ، وإنّما المجعول الوجودات الخاصّة ، ولا شك أنّ خصوصيّات الوجود غير قابلة للمجعوليّة إلاّ بتبع أصله وبالعرض ؛ لأنّ الضعف أمر عدميّ - كالماهيّة - لا يقبل الجعل بالذات ، فرجع الجعل إلي سنخ الحقيقة ، فسنخ الحقيقة مجعول بالذّات ، فلو كان الجاعل بالذات من سنخ الحقيقة لزم كون الجاعل بالذات عين المجعول بالذات ، واختلاف المرتبة ليس بين مرتبة اللَّه وسنخ حقيقته ، وإنّما هو بينها وبين المراتب النازلة ، وقد عرفت أنّ حدود المراتب ليست بمجعولة إلاّ بتبع أصل الحقيقة .(2)
علي القول ببساطة الوجود كيف صار الوجود الواحد البسيط وجودات متعددة حقيقة ؟ ! إذ البسيط كيف يتجزّي ء بالحصص ؟ ! وكيف ينحلّ إلي وجودات متعددة سماوية وأرضية ؟
ص: 200
فإنّ بسط وجوده تعالي عن نفسه علي هياكل الموجودات غير معقول ؛ لأنّ القبض والبسط والانتفاح والامتداد يتصوّر في الموجودات الجسمانيّ ومحال في حقّه «سبحانه وتعالي عمّا يقولون علوّاً كبيراً» (1) .
مضافاً إلي أنّه يلزم التأثّر والتغيير في ذاته الأقدس بسبب حدوث الوجودات الظلّية الحبابيّة وانعدامها .
وقريب من هذا البيان ما ذكره بعض الأعلام رحمه الله بقوله :
لو كان وجود اللَّه عين وجود خلقه - سواء كان علي وجه الاتّحاد أو وحدة الوجود - لزم انقسام ذات الواجب ؛ إذ لا شك في تعدّد أفراد الممكنات ، فإمّا أن يكون كلّ واحد من وجوداتها - الّتي هي من الأجزاء الوجوديّة للواجب - إلهاً لزم تعدّد الآلهة ، وإن كان المجموع إلهاً توقّف إلهيّة المجموع علي أجزائه واجتماعها وائتلافها علي جامع ومؤلّف ، وهو إن كان ذاته لزم كونه إلهاً قبل كونه إلهاً ، وإن كان غيره لزم توقّف إلهيّته علي غيره فيكون ممكناً ، وقد فرضناه واجباً .(2)
يلزم علي هذا القول سراية كمالات الخالق تعالي حتّي في الهيولي ؛(3) لأنّها
ص: 201
متّحدة الحقيقة مع الوجود ، فكما أنّ الوجود منبسط علي الهيولي وإن اختلفت بالشّدّة ، فكذلك العلم والقدرة مثلاً(1) ، وضرورة الوجدان والبرهان حاكمة بكذبه .
بيان ذلك : لمّا قالوا بأنّه ليس إلاّ الوجود الواحد ، والماهيّة غير مجعولة ، فلا تكون صادرة ، والصادر لا يكون إلاّ متحقّقاً ولا تحقّق للماهيّة .
وعلي هذا يلزم - كما قيل - إنكار العلّيّة والمعلوليّة ؛ إذ ليس عندهم إلاّ بسط الوجود من دون انثلام في وحدته ، فلا معني لكون بعضه علّة وبعضه معلولاً .
فإن أضيفت العلّة إلي نفس الوجود بلحاظ البسط فليست إلاّ اعتباريّة ، وإن أضيفت إلي الماهيّة فكذلك ؛ لعدم قبولها الجعل ولكونها اعتباريّة ، وإن أضيفت إلي الوجود من حيث الفي ء والعكس فليس المراد بهما الحقيقة وإلاّ لزم أن يكون للَّه تعالي في ء وعكس ، فلا تكون أيضاً إلاّ اعتباريّة .
بل يستلزم نفي كلّ علّة ومعلول علي الإطلاق في جميع الأشياء ؛ إذ الوجود بسطه شمولي عامّ لا يختصّ ببعض دون بعض ، فما به التحقّق في الجميع واحد وهو الوجود ، فلا معني لكون شي ء علّة لوجود آخر .
وأمّا الماهيّات فهي عندهم متباينات ، والمباين لا يكون علّة للمباين لعدم السنخيّة ، ومع ذلك فهي اعتباريّة منتزع كلّ ماهيّة عن حصّة وجودها ، وأيضاً الاعتباريّ لا يمكن أن يكون علّة ولا معلولاً إلاّ بالاعتبار .
بل ليس للأشياء إذن تباين ؛ لأنّ تجوهر كلّ شي ء بحقيقته ، وحقيقة كلّ شي ء بوجوده ، والوجود واحد بالفرض ، فالموجودات مشتركة في الحقيقة فكلّها بمنزلة أفراد حقيقة واحدة والماهيّة اعتباريّة ، والاعتبار لا يصيّر الحقيقة الواحدة حقيقتين ، مع أنّها ليست إلاّ من مشخّصات الحدود الفرضيّة ، والمشخّصات لا توجب التباين في الحقيقة ، فالأشياء إذن كلّها متّفقة الحقيقة ، والتباين في الأمر الاعتباريّ .
أقول : إنّ هذا الدليل ينحلّ في الحقيقة إلي ثلاثة أدلّة ، كما لا يخفي ، فتدبّر .
ص: 203
إنّ ذلك يستلزم إنكار الثواب والعقاب ؛ فإنّهما يعودان إلي نفس المثيب والمعاقِب ، والشخص لا يثيب ولا يعاقب نفسه .(1)
إذ بعد قبض الوجود وارتفاع الماهيّة رجع الجزء إلي الكلّ والخاص إلي العام والمقيّد إلي المطلق والظلّ إلي ذي الظلّ ، فلا يبقي إلاّ حقيقة الوجود وهي نفسه .
وكذا يستلزم إنكار التكليف والحدود ، إذ الماهيّة غير قابلة للتكليف ؛ لأنّها اعتباريّة ، وهي ليست منشأ للآثار ، والوجود هو حصّة من المعبود ! ولا معني لتكليف نفسه وتأديبه بالحدود ولا الأمر بعبادته ؛ إذ ليس العابد إلاّ المعبود ! كما أُفيد .
أقول : فيلزم جواز الافتراء والكذب والزور والظلم والخيانة والسّرقة وغيرها من المنكرات ؛ لأنّ الخوف والترهيب و . . لابدّ أن يكون من اللَّه ، وبعد الاعتقاد بأنّ اللَّه تعالي هو حقيقة الوجود المشتركة بينه وبين سائر الموجودات ،
ص: 204
وكونهما موجوداً بوجود واحد لا معني لخوفه عن نفسه ، مضافاً إلي أنّ الفعل فعله تعالي - علي ما مرّ بيانه - فلا معني للخوف والترهيب و . . فعلي هذا لا يبقي دينٌ ولا مذهب ، ويبطل الشرع والثواب والعقاب ؛ لأنّ الجنّة والنار والأنبياء والأشقياء و . . كلّها هي حقيقة الوجود الّتي ليس في دار الوجود غيرها ديّار ، وهو اللَّه تعالي عندهم .
هو أنّ الغور في الكتاب الكريم وآياته وسبر سوَره وأجزائه يفيد مغايرة المنزِل والمنزَل إليه والمنزَل فيه ، وذلك بالغيريّة الحقيقيّة الواقعيّة لا الاعتباريّة الفرضيّة ، بل جميع الآيات المباركات - من أوّل القرآن إلي آخره - يدلّ بدلالة الاقتضاء(1) علي ذلك المغايرة .
مع أنّ القول به - أي وحدة الوجود - يستلزم صحّة نسبة اللّهو واللّعب إلي نفسه القدّوس في جميع أفعاله من بعث الرّسل وإنزال الكتب وما حوته من البشارات والإنذار ونحوهما .
إنّ لازم هذا القول هو إنكار كون الأفعال للعباد ؛ بل لازمه القول بأنّ اللَّه
ص: 205
سبحانه هو الفاعل لكلّ فعل يقع في عالم الوجود ، وأنّه أيضاً المفعول ، إذ الوجود عندهم فاعل إراديّ ؛ لأنّه المنشأ للآثار ، والماهيّة ساقطة عن الاعتبار ، وليس الوجود إلاّ اللَّه ، وهذا هو الجبر المطلق .
وعلي هذا ، فاللَّه تعالي - العياذ باللَّه - فاعل للفجور كلّها ؛ إذ هو فاعل الأمور كلّها ، فيلزم نسبة الفواحش إليه سبحانه ، تعالي اللَّه عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً .
و ببيان آخر : إنّ لازم هذه الدعوي هو القول بالجبر ؛ فإنّ الخلق إذا كان عين الحقّ وكان الحق سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله وجميع جوارحه - علي زعمهم الفاسد - يلزم كون جميع ما يصدر منه مستنداً إلي اللَّه سبحانه .
وفساده واضح لا يحتاج إلي البحث هنا بعد قيام الأدلة العقليّة والنقليّة علي بطلانه ، وبسط القول في تلك المسئلة وإيراد الدلائل والبراهين علي ذلك ودفع الشكوك والشبهة عنها لا يناسب ما هو المقصود من هذه الرسالة (1) .
ص: 206
ص: 207
ص: 208
إنّ العلم والقدرة وغيرهما من الكمالات في العلوم البشريّة راجعة إلي الوجود ، والمشية والارادة أيضاً نفس ذاته التي هي عين الوجود - عندهم -
ص: 209
وحينئذ تكون تحقق الأشياء الممكنة في مذهب الفلاسفة بالوجوب والضرورة بالمشيّة الذاتيّة الأزليّة لا بالمشيّة والإرادة التي هي فعل حادث للَّه سبحانه ، ( وتعبيرهم عن المشيّة بالأزليّة عجيب ، فلرعاية الشرايع عبّروا بالمشيّة ولرعاية أصول الفلسفة عبّروا بالأزليّة ) ، وبعد كون علمه تعالي وقدرته تعالي عين ذاته ، ومشيّته عندهم عين علمه قالوا بعليّة العلم لتحقّق الأشياء ، وأنكروا الفعل الحادث للَّه تعالي ويقولون : إنّ اثبات الفعل الحادث له تعالي موجب لتغيّر الذات ، وقالوا : إنّ هذا النظام هو النظام الأتمّ في الكائنات واستحالة تغييرها عمّا هو في علمه تعالي ، فوقعوا في القول بالجبر في أفعال العباد ؛ لأنّ مشيّتهم منتهية إلي مشيّة الأزلية ، ونتيجة ذلك إبطال الشرايع ولغوية إرسال الرّسل وإنزال الكتب والوعد والوعيد من غير تخلّص من هذه العويصة ، وأمّا في الواجب تعالي فقالوا : بالايجاب فيما يصدر عنه تعالي ، هذا علي مذهب الفلاسفة .
وأما العارف فهو في فسحة من هذا بعد القول بوحدة الوجود بل الموجود ، فانظر أيّها العاقل المتشرّع إلي ثمرات العلوم البشرية !(1)
العشرون : لزوم كون الأشياء الخسيسة مظاهره تعالي(2)
ويلزم علي هذا أن يكون المبدء تعالي ( والعياذ باللَّه ثمّ العياذ باللَّه ) عين المخلوقات حتي الأشياء النجسة والقاذورات و . . ! !(3) و« سبحانه وتعالي عمّا يقولون علوّاً كبيراً »(4) ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللَّه .
ص: 210
وببيان آخر : إنّ الأشياء كلّها - بناءاً علي التجلّي والانبساط - تكون مظهراً للذات ، وهم يصرّحون بذلك كثيراً ، فإنّا لو لم نقل باستلزامه العينيّة - كما اعترف به ابن العربي ومن حذا حذوه - فإنّه لا شبهة عندهم في المظهريّة ، وكيف يرضي المسلم العاقل بأن يقول : إنّ الأشياء الخسيسة مظاهر لذاته تعالي ؟ بأن كان وجود الخسيس وجوده المحدود . . ! ! تعالي اللَّه عمّا يصفه الجاهلون علوّاً كبيراً ، « وما قدروا اللَّه حقّ قدره »(1) ، « وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون »(2) .
وأخيراً نقول : إنّه يكفي في بطلان القول بوحدة الوجود عدم ورود نصّ ودليل معتبر من الكتاب والسنّة وأخبار الأئمّة المعصومين عليهم السلام علي ذلك مع أنهم عليهم السلام دعاة الناس إلي التوحيد وهداة البشر إلي المعرفة وبهم عرف اللَّه ولولاهم ما عرف اللَّه وما وحّد اللَّه ، ويمتنع عادة مع تمام شفقتهم بالشيعة وكمال اعتنائهم ببيان الشريعة أن لا يتعرّضوا لهذا الّذي هو من أعظم مهمّات الدين وأجلّ أركان معرفة ربّ العالمين ، ويهملوه بغير دليل !
فعدم دليل قطعيّ علي صحّة هذه الدعوي كاف في بطلانها ، ولا ريب أنّ العمل بالظنّ هنا ممنوع ، بل بطلانه اتفاقيّ ، ولم يذكروا لهذا القول في كتبهم دليلاً قابلاً للالتفات إليه ، وقد سمعت أهمّ دليلهم من صاحب المنظومة السبزواريّ . وما تشبّثوا بها من الشبهات الواهية فقد مرّت مع أجوبتها .
هذا ؛ مع أنّ هناك أحاديث متواترة من طريق أهل البيت عليهم السلام تخالف هذه الدعوي صريحاً بل تنفيها قطعاً وتحكم بكفر قائلها بتاً ، تعرّضنا نزراً يسيراً منها فيما سبق وسنرجع لها بإذن اللَّه تعالي .
ص: 211
وإذا انجرّ الكلام إلي هنا لابدّ من التنبيه علي نكتة مهمّة وهي :
إنّ اللَّه تعالي أكمل دينه بنبوّة خاتم الأنبياءصلي الله عليه وآله وسلم وخلافة سيّد الأوصياء أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام والأئمّة الطاهرين عليهم آلاف التحيّة والثناء ؛ فإنّهم عليهم السلام ذكروا لهذه الأمّة المرحومة كلّ ما تحتاج إليه إلي يوم القيامة من أصول الاعتقاديّة والأحكام العمليّة حتّي أرش الخدش وأحكام الكنيف والبالوعة وسائر المكروهات والمستحبّات ، فلا يبقي عذر لمن تخلّف عن الثقلين الّذين لن يفترقا إلي يوم القيامة ، ولا ذريعة لمن تمسّك بعروة غيرهم وسلك غير طريقتهم .
وقد ورد من طريق الخاصّة والعامّة عن النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « مثل أهل بيتي كسفينة نوح ، من ركبها نجي ومن تخلّف عنها غرق » .(1)
وليس في الكتاب الّذي« لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه »(2) ، ولا في السنّة النبويّة ولا أخبار الأئمة الطاهرة الّذين هم معادن علم اللَّه وتراجم كتاب اللَّه ودعاة الناس إلي التوحيد وهداة البشر إلي معرفة اللَّه ما يشعر بقول الفلاسفة والعرفاء . . ! فهل عجز الكتاب والسنّة عن إيراد مقالة الفلاسفة والعرفاء في وحدة الوجود .
والقائل بوحدة الوجود وتأصّله يقول ب : أنّ الإله الّذي نعتقده ونعبده هو حقيقة الوجود المشترك بين الخالق والمخلوق ، فالوجود واحد وهو الخالق وهو المخلوق وهو السماء وهو الأرض وهو الشمس وهو القمر ، وليس في دار التحقّق
ص: 212
سوي حقيقة الوجود ، وما سواه مرتبة من مراتبه أو طور من أطواره أو . . ويصرّحون بأنّ الاعتقاد بوجود موجود غيره تعالي يساوق الشرك .(1)
والمنكرون لهذه المقالة - وهم جمهور علمائنا من الفقهاء والمحدّثين - أنكروا ألوهيّة الإله الّذي يعبده ويعتقده الفلاسفة والعرفاء ، بل يعبدون ويعتقدون الإله الّذي هو هو وذاته ذاته وتنزّه عن مجانسة الأغيار ومشابهة الآثار ، فليس إلههم هو حقيقة الوجود الكذائيّ .
فما السبب في تقصيرهم عليهم السلام - والعياذ باللَّه - مع بيانهم لأقلّ المستحبّات وأدني التكاليف أن لا يشيروا لهذا الأمر الخطير الجليل الّذي هو مدار الإيمان والكفر والتوحيد والشرك ؟ !
بل لم تكن بعثة الأنبياء والأوصياء إلاّ لأجل إعلان التوحيد وتبليغ أحكام اللَّه ، ومع هذا كيف أهمل اللَّه تعالي في كتابه وأهمل سيّد الأنبياء وأهل بيته - صلوات اللَّه وسلامه عليهم - هذا الأمر العظيم ؟ ! وهل يقبل مثل هذا ذومسكة أو يرتضيه ذو دراية ؟ ! وقد قال جلّ وعزّ : « سبحانه وتعالي عمّا يقولون علوّاً كبيراً »(2)
وهؤلاء الفلاسفة والعرفاء لابدّ أن يقولوا بأنّ علماء الأمّة وأساطين الشريعة ونقلة الأخبار والآثار - الّذين هم لم يعرفوا هذه الحقيقة ولم يدركوا كنه هذه الجوهرة الثمينة ! بل أنكروها أشدّ الإنكار ورموا القائل بهذه المقالة إلي ما يستحقّه
ص: 213
القائل بالتثليث والثنويّ - لم يكونوا موحّدين مؤمنين ، كما قال بعض المعاصرين(1) بأنّ هذا التوحيد - أي وحدة الوجود - هو الّذي خفي علي الأعلام الماضين والقدماء و . . حتّي صار في القرون الأخيرة واضحة ومكشوفة !
هل يعقل مثل هذا أم يقول به من له أدني إنصاف ؟ ! هيهات هيهات أن ننسب جميع علماء الشيعة وأساطين الشريعة إلي الفساد في العقيدة والشرك في التوحيد - والعياذ باللَّه - ، ونحكم بنقص الدين والشرع طوال هذه القرون الطويلة والأعصار السحيقة ، وكانوا ينتظرون توحيد العرفاء والفلاسفة ، بل لم يكن لهم توحيد حتي أكمل لهم علي يد المقلّدين لإبن العربي ومن جاراهم .
وهذا نزر يسير ممّا يترتب علي القول بوحدة الوجود وتأصّله من المفاسد وتشهد بفساده وبطلانه ، وإلاّ فالمتأمّل يظفر بأزيد من ذلك بكثير .
وبالتأمّل فيما ذكرناه تظهر التناقضات الواضحة في كلماتهم ، كما كان ذلك ديدنهم والشايع بينهم مثل قولهم : التنزيه في عين التشبيه والتشبيه في عين التنزيه ، والوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة ، وعدميّة الحدود والاعتبارات والماهيّات ، والإطلاق ولا بشرطيّة الوجود ، وبسط الوجود علي الموجودات مع القول بوحدته وغيرها ، فلاحظ كلماتهم فتارةً يقولون بالعلّة والمعلول وإنّ المعلول مرتبة نازلة من العلّة ، وإنّ اللَّه خالق وما سواه مخلوقاته ، وأُخري ينكرون البينونة والتغاير بينه تعالي وبين خلقه ، بل ليس في الدار غيره ديّار ، ولا واقعيّة لشي ء سواه تعالي ، وما تراه العين هو عين الحقّ ، وأنّ المنكر لوحدة الوجود هو المنكر لتوحيده
ص: 214
سبحانه كما في كلمات جمع منهم وبينها تهافت صريح .
وتارةً يقولون باختياره تعالي وأنّه سبحانه فاعل ما يشاء و . . وأُخري يقولون : إنّ الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد ، وهو تعالي علّة تامّة وما سواه تعالي معلول له ، ولا يمكن تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، وأنّ الذاتي لا يمكن تخلفه عن الذات ، وإرادته تعالي من صفات الذات ، مع أنّ القول بقدم الإرادة وبأزليّة العالم ومقالة العلّيّة والمعلوليّة الترشّحيّة يستلزم الجبر وعدم اختياره سبحانه وتعالي .
وتارة يصرّحون بأنّ المحسوسات عدم وهباء(1) ، وكلّ ما ندركه فهو وجود الحقّ في أعيان الممكنات(2) .
وتارة يقولون بوجود الخالق والمخلوق والمعاد والحساب و الحشر والنشر ، مع أنّ القول بأصالة الوجود ووحدته وعدميّة الماهيّات والممكنات يناقض التكليف والحساب والعذاب والثواب و . .
فكلماتهم صريحة في التشبيه المنهي عن القول به في الأخبار والآثار عن الأئمّة الأطهارعليهم السلام ، ويوجّهون كلماتهم بشكل ملتوي لا تخرج معه عن التشبيه ومخالفة العقل وصريح النقل مع ما فيها من تدليس وتلبيس .
كما قال ابن العربي : اعلم أنّ التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهيّ عين التحديد والتقييد ، فالمنزّه إمّا جاهل وإمّا صاحب سوء الأدب .(3)
أقول : كيف يمكن أن نعتقد بأنّ اللَّه سبحانه مع تنزّهه عن الجزء والشبه والمقدار والصورة و المثل والتركيب ذا جزء وصورة ومقدار وشكل ؟ ! وتأويلاتهم
ص: 215
الباردة في المقام لا تسمن ولا تغني من شي ء .
وعليه ، فكيف يمكن الجواب عن أسئلة الدهريّين والملحدين ، والمخالفة لمقالة المنكرين ؟
فإذا قلت - في الإشكال عليهم - : كيف يعقل انبساط الوجود علي هياكل الموجودات بحيث لا يخلو عنه شي ء من الأشياء بل هو حقيقتها وعينها مع كونه عين الواجب وغير قابل للتجزّي والانقسام ؟ !
فيقولون : إنّ هذا طور وراء طور العقل لا يتوصّل إليه إلاّ بالمشاهدات الكشفيّة و الرياضات .
ثمّ إنّهم يتفوّهون بهذه العقائد عند كلّ عالم وجاهل ، ويكتبونها بأصرح عبارة وأوضح بيان يفهمه الكلّ . وعند ضيق الخناق وامتناع إقامة البرهان - وذلك لأنّ البرهان لا يقام إلاّ علي الحق - يقولون : إنّ هذه من الأسرار الإلهيّة والحقائق الربانيّة(1) لا يفهمها إلاّ الأوحدي من الناس ومن صفت سريرته وأدرك ذلك
ص: 216
بالمكاشفات والرياضات الشاقّة ! وينسبون المخالف لهم في ذلك إلي الجهل وعدم الفهم ولو كان من أكابر الفقهاء وأجلّة العلماء ، فيرمون قاطبة الفقهاء وأهل الفضل والتحقيق بأنهم جاهلون وقاصرون عن درك الدقائق أو الوصول إلي صقع الحقائق ، بل قاصرون عن فهم كلامنا ، فكيف عن تحمّل مقامنا ! ؟
وهذا من خواص هذين الفريقين ، إذ ليس لهم عن الحق جواب ، فيعارضون الخصوم بالتجهيل ، وهذه الرذيلة ممّن يدّعي الحكمة والعرفان عجاب ! وبهذه الوسيلة يدفعون كلّ من أنكر مقالتهم كائناً من كان ، وإن كان من أجلّة من يستحقّ التبجيل والتجليل .
ص: 217
والحاصل : أنّ الفلاسفة والعرفاء في قولهم بوحدة الوجود خالفوا البداهة والفطرة ، و أنكروا الحقائق العينيّة المسمّاة ب : السماء والشمس والحجر والشجر وغيرها ، وقالوا بأنّها أوهام وخيالات - كالسوفسطائين - لزعمهم الباطل بأنّ إثبات الشيئيّة والوجود للغير يلزم المزاحمة لوجود الباري تعالي ! مع أنّ المزاحمة تتصوّر بين الشي ء المصنوع المتجزّي ( أي ذا جزء ومقدار وعدد ، وقابل للزيادة والنقيصة ) وبين ما كان مثله ، لا الموجود المصنوع المحتاج مع الخالق المتعالي عن ذلك كلّه ، وليس بينهما نسبة القرب والبعد ، والدخول والخروج ، والتحديد والتزاحم والتناهي؛ لأنّها من خصائص وملكات المقادير والمخلوقات ، وسريانها إلي الموجود المباين المتعالي عن ذلك - مضافاً إلي كونه قياس الخالق بالمخلوق - قد نشأ من الجهل المحض وانحراف العقيدة في معرفة ذات :
« ضلت في ادراك كنهه هواجس الأحلام » . (1)
و : « ردعت عظمته العقول ، فلم تجد مساغاً إلي بلوغ غاية ملكوته » . (2)
و : « يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول » . (3)
و : «نضبت عن الإشارة إليه بالاكتناه بحار العلوم » . (4)
و : « فات لعلوّه علي الأشياء مواقع رجم المتوهّمين » . (5)
و : « حسرت دون كنهه نواقد الأبصار وأقمع وجوده جوائل الأوهام » . (6)
ص: 218
و : « كلّ دون صفاته تحبير اللّغات وضلّت هنالك تصاريف الصفات » . (1)
و : « لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن » . (2)
فإنّ غاية عرفان العارفين إقرارهم بالعجز عن درك ذاته واعترافهم بالتقصير عن فهم كنهه ، فالقول بأنّ الممكنات من شؤون ذاته المقدسة وأطوارها ، أو أنّها ظلّ لوجوده أو رشحة من رشحات ذاته أو . . (3) ، كلّ ذلك - كما تقدّم - مخالف لجميع الأخبار المتواترة الدالّة علي التغاير والتباين الذاتي بين الخالق والمخلوق ، والدالّة علي مسبوقيّة العالم بالعدم حقيقة ، والدالّة علي وجود ما سوي اللَّه حقيقة من السّماء والأرض والشمس والقمر ، مع ما يستلزم منها لغويّة بعث الرسل وإنزال الكتب والوعد والوعيد و . . ؛ لأنّه لا موجود في دار التحقّق إلاّ الحقّ وشؤونه وأطواره .
إن قلت : القول بوحدة الوجود مذهب جمع من الأعلام وقد أثبتوه في مصنفاتهم واستدلوا عليه في أسفارهم و . . وهل تكون أنت أكثر فهماً وعلماً من هؤلاء المعتقدين بمسلك الفلسفة والعرفان ؟
ص: 219
قلنا : الحقّ أحقّ أن يتبّع ، «و لا يعرف الحقّ بالرجال ، اعرف الحقّ تعرف أهله» .(1)
« وإنّ دين اللَّه لا يعرف بالرجال ، بل بآية الحقّ ، فاعرف الحقّ تعرف أهله »(2) و« انظر إلي ما قال ، ولا تنظر إلي من قال » كما ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام ، مضافاً إلي عدم جواز التقليد في أصول الدين والعقائد ، مع أنّ أساطين المذهب وفقهاء الشريعة والمروّجين لعلومهم عليهم السلام تبرّؤوا عن مسلك الفلسفة والعرفان وأنكروه أشدّ الإنكار لما فيه من اشتماله علي هذه العقائد الباطلة وغيرها .
قال قطب الدّين الراوندي قدس سره : إعلم أنّ الفلاسفة أخذوا أصول الإسلام ثمّ أخرجوها علي رأيهم . . . فهم يوافقون المسلمين في الظاهر وإلاّ فكلّ ما يذهبون إليه هدم للإسلام ، وإطفاء لنور شرعه ، ويأبي اللَّه إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون .(3)
وقال العلاّمة المجلسيّ رحمه الله : إنّهم عليهم السلام تركوا بيننا أخبارهم ، فليس لنا في هذا الزمان إلاّ التمسّك بأخبارهم والتدبّر في آثارهم ، فترك الناس في زماننا آثار أهل بيت نبيّهم واستبدّوا بآرائهم ، فمنهم من سلك مسلك الحكماء الّذين ضلّوا وأضلّوا ، ولم يقرّوا بنبيّ ولم يؤمنوا بكتاب ، واعتمدوا علي عقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة ، فاتخذوهم أئمّة وقادة ، ومعاذاللَّه أن يتكل الناس علي عقولهم في أصول العقائد فيتحيّرون في مراتع الحيوانات .(4)
ص: 220
وقال الشيخ الأنصاريّ رحمه الله في كتاب الطهارة : إنّ السيرة المستمرّة من الأصحاب قدس سرهم في تكفير الحكماء المنكرين لبعض الضروريّات .(1)
وقال صاحب الجواهررحمه الله : واللَّه ما بعث رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم إلاّ لإبطال الحكمة .(2)
وقال صاحب الحدائق رحمه الله : إنّ الأصحاب قدس سرهم ذهبوا إلي تكفير الفلاسفة ومن يحذو حذوهم . .(3)
فبالرّجوع إلي كلمات العلماء والمحدّثين والفقهاءرحمهم الله يعلم أنّهم لم يذهبوا إلي مقالات الفلاسفة والعرفاء بل أعرضوا - في كتبهم وأقوالهم وأعمالهم - عن تلك المقالات ،(4) وقد كفّروا القائلين بقدم العالم والمنكرين للمعاد الجسماني والقائلين بوحدة الوجود وغير ذلك ممّا ذهبوا إليه ، بل كان أصحاب الأئمّةعليهم السلام معرضين عن أهل الفلسفة والعرفان ، ولهذا كتبوا في الردّ علي الطائفتين كتباً كثيرة(5) .
ولتصريح الآيات والروايات والأدعيّة والخطب عن الأئمّةعليهم السلام بخلاف مطالب هؤلاء القوم - ممّا لا يكاد يحصي - أعرض المسلمون والمؤمنون عنهم في عصر الأئمةعليهم السلام إلي هذه الأعصار وكانت الطائفتان في كلّ الأعصار يتّقون من أهل
ص: 221
أقول : جهات البحث في ذمّ الفلسفة والعرفان المصطلح كثيرة وليس هنا محلّ البحث عنها ، وقد أفردناها في رسالة معدّة لذلك ، وأثبتنا فيها بالأدلّة العقليّة والنقليّة عدم صحة الأخذ بهما وبطلانهما .
ص: 222
وينبغي لنا أن نختم هذا الفصل بالتنبيه علي بعض مواضع الخلاف بين مكتب الوحي ومكتب الفلسفة والعرفان ؛ ليظهر للقاري ء الكريم بوضوح أنّ طالب الفلسفة والعرفان في خطر عظيم ، خصوصاً في هذه الأزمنة الّتي أدخل أهل الفلسفة والعرفان أذواقهم الفلسفيّة والعرفانيّة في العقائد الدينيّة والمعارف الإلهيّة لا سيّما في التوحيد الّذي تتقوّم به باقي أصول الدّين ، وقد خلطوا بينهما خلطاً لا يعرفه إلاّ الخبير البصير ، ثمّ ولع كثير من أهل زماننا هذا بمطالعة كتبهم وأخذ العقائد والدين منهم بحيث صار تعلّم العرفان والفلسفة من وظائف أهل العلم حتّي ادّعوا أنّ حقيقة المعارف الإلهيّة لا تنال إلاّ بالفلسفة والعرفان ! ورغبوا عن التمسّك بالكتاب الكريم والسنّة الشريفة وأخبار أئمّة الدين عليهم السلام .
وبعد ، فقد أوّلوا النصوص الواضحة الصريحة عن مخازن الوحي علي طبق مقاصدهم وانحرافاتهم بما لا يساعده الفهم العرفيّ العقلائيّ ، وتمسّكوا لإثبات مرامهم بالمتشابهات الّتي دلّت علي خلافها محكمات الكتاب والسنّة .
ولا ريب أنّ العقل لو كان مستقلاًّ وقادراً علي التفكّر في التوحيد لما وجدت هذه الفرق المختلفة الكثيرة من المتكلّمين والفلاسفة ، ولما تشعّبت الأقوال ، ولا تكثرت الأهواء ، ولا . . مع أنّ المفروض أنّ كلّهم يدّعون أنّهم من العقلاء ، فلا تري في هذا الباب فرقتين متوافقتين(1) ، ومن هنا ثبت أن لا نجاة إلاّ بالتمسّك
ص: 223
ص: 224
بأخبارهم عليهم السلام و آثارهم الّذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً وجعلهم معادن علمه وحكمته .
ص: 225
بعد الإقرار بوجوده تعالي وتصديقه - الّذي خرج العبد معه من التعطيل والإنكار - فكلّ محاولة وبحث لفهم ذاته تعالي ممنوع شرعاً وداخل في التشبيه ، وأساس المعارف الإلهيّة هو تنزيهه سبحانه عن صفات المخلوقات ومشابهة المحدثات .
ونستنتج ممّا ذكرناه أنّ الاختلاف بين مكتب الوحي والفلسفة والعرفان بوجوه نذكر بعضها :
إنّ مكتب الوحي - أي القرآن والحديث - يثبت وجوده تعالي ويصدّقه بلا تشبيه له بخلقه ، فالمبدء المتعال هو الحقيقة المجهولة الكنه الخارجة عن الحدّين : حدّ التعطيل وحدّ التشبيه ، كما تقدّم .
ومذهب الفلسفة يقول بإثباته مع التشبيه والعرفان يقول : بإثبات الوحدة ونفي الغيريّة وإليه يرجع قول الفلاسفة أيضاً كما مرّ وجه اتّحاد القولين ، فإنّه سبحانه تعالي عندهم هو الوجود المطلق الساري في الممكنات .
ص: 226
إنّ مكتب الوحي ينهي ويمنع من التفكّر في ذاته تعالي . ومذهب الفلسفة و العرفان يري كمال البشر في التفكّر في ذاته تعالي(1) كما هو واضح لمن لاحظ كلماتهم في تحقيق وحدة الوجود و . .
وببيان آخر : إنّ مذهب الفلسفة والعرفان يدّعي معرفة كنه ذاته سبحانه ، ويقول : إنّها حقيقة الوجود ، وهي ليست إلاّ كلّ الموجودات .
وعلي هذا ، لا فرق عندهم بين الخالق والمخلوق في خفاء كنههما المشترك بينهما وهو الوجود علي هذا المسلك ! ولا ينحصر عدم إمكان المعرفة بذاته سبحانه ، بل إنّ الأشياء كلّها لا يمكن الاكتناه والمعرفة بها عندهم ؛ لأنّ حقيقة الوجود مشتركة بينه سبحانه وبين خلقه (2) .
مع أنّ ادّعاء كونه سبحانه حقيقة الوجود خلاف الأخبار والآثار(3) ،
ص: 227
ومأخوذ من المنحرفين عن الأئمّة الأطهارعليهم السلام وهم العامّة العمياء ومن تبعهم (1) .
كما أنّ ادّعاء المعرفة بكنه ذاته سبحانه حصوليّاً كان أو حضورياً خلاف معارف الأئمّةعليهم السلام ؛ وكما أنّ حصول الصورة في الذهن يستلزم مخلوقيّته تعالي وكونه سبحانه متجزّياً ومتصوّراً ومحاطاً ، فهكذا ادّعاء المعرفة بالعلم الحضوري يستلزم مفاسد كثيرة ، ومنها : وحدة الخالق والمخلوق ، وحضور ذاته سبحانه في الأشياء ، وهو خلاف العقل والفطرة والنقل .
إنّ مكتب الوحي والقرآن يقول : بالتباين الذاتي بين الخالق والمخلوق ، وإنّه تعالي خلو من خلقه وخلقه خلو منه ، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه ، وكلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه وكلّ ما يمكن فيه يمتنع من صانعه ، وإنّ الزمان والمكان والحركة والسكون والدخول والخروج والترشّح والفيضان والتطوّر والتجلّي والتجزّي والتركّب والوجدان والفقدان والإطلاق والتقييد والجزء والكلّ والشدّة
ص: 228
والضعف والصغر والكبر والتناهي وعدمه في الوجود و . . كلّ ذلك من ملكات الأشياء الحادث الممكن ، وأنّ اللَّه - جلّ وعزّ - منزّه ومتعال عن ذلك كلّه .
ومذهب الفلسفة يقول : بالتشكيك والسنخيّة بينه تعالي وبين خلقه ، والعرفان يقول : بالوحدة وأنّه ليس في الدار غيره ديّار . . ! وقد قلنا إنّ مرجع القولين واحد .
وببيان آخر : إنّ مكتب الفلسفة والعرفان يقول بالسنخيّة والشباهة بين الخالق والمخلوق(1) ، وأنّ الخالق تعالي علّة ، والمخلوق معلول له ، والمنشأ لهذا الاعتقاد عندهم هو ما تقدّم من تفسير الخلق بالصدور والفيضان ، بل التطوّر والتجلّي والتشؤّن ، وأنّ اللَّه تعالي عين الأشياء .
وواضح أن الموجود الّذي يعطي من ذاته ويفيض منها هو مخلوق قابل للانقسام والتجزّي و . . ، فلا يكون خالقاً وموجداً . فتطبيق قاعدة معطي الشي ء لا يكون فاقداً له عليه سبحانه خلاف معارف القرآن والحديث ؛ لأنّ خالق الشي ء لابدّ أن يكون متعالياً عنه لا واجداً له .(2)
ص: 229
إنّ مكتب الوحي يقول بأنّ فاعليّته تعالي للأشياء هي بالإرادة والمشيّة ، و مذهب الفلسفة والعرفان يعتقد بأنّ فاعليّته سبحانه هي بالتجلّي أو العناية ، ويقول بأنّ صدور العالم عن اللَّه سبحانه إنّما هو علي نحو العلّيّة والمعلوليّة ، وأنّ علمه تعالي علّة لهذا النظام المحدود من دون فرق بين أوّله وآخره الذي لا منتهي له ، وأنّ هذا النظام الذي افترضوه صدر عن علمه تعالي من دون فرق بين أوّله وآخره ، أي كما أنّ أوّل النظام معلول لعلمه تعالي ، كذلك آخره أيضاً معلول له بلا فرق بينهما(1) .
ص: 230
إنّ مكتب الوحي - القرآن والحديث - يثبت له تعالي علماً وإرادة ويقول : إنّ العلم من صفات ذاته تعالي المعتبرة له في الأزل ، بخلاف الإرادة فإنّها من صفات الفعل الّتي يصحّ سلبها عنه تعالي في الأزل ، ومذهب الفلسفة والعرفان يقول : إنّ الإرادة هي علم لا غير .(1)
ص: 231
قال القاضي سعيد القمي - وهو من الفحول في المسائل العقليّة - : من أصولهم عليهم السلام المقرّرة عندهم ممّا لا مرية ولا تأويل يعتريه أمور أوّلها : حدوث الإرادة والمشية بمعني كونهما عين الفعل . . . وكلّ من قال غير ذلك فقد ناقض مقتضي مذهبه ، وعاند الأئمّة الطاهرة في قوله ؛ إذ ليسوا يعجزون عن أن يقولوا : ذاته إرادة كما يقولوا ذاته علم كلّه ، قدرة إلي غير ذلك ، ولم يكن في ذلك تقيّة ، بل القائلون بالصفات الأزليّة في زمانهم أكثر ، علي أن الأمور الصادرة عنهم للتقيّة قد ورد
ص: 232
خلافها أيضاً إتماماً للحجّة وإكمالاً للهداية ، وليس في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا في السنّة النبويّة وأخبار الأئمّة الطاهرة ما يشعر بخلاف حدوث الإرادة ، كما هو غير خفيّ علي أهل البصيرة .(1)
إنّ مكتب الوحي يقول بأنّ العالم - أي جميع ما سوي اللَّه - حادث وكائن بعد أن لم يكن بعديّة حقيقيّة ، ومذهب الفلسفة والعرفان يقول بأنّ ما سوي اللَّه حادث بالذات وقديم بالزمان ، وأن الشي ء الحادث لا بدّ أن يكون مسبوقاً بمادّة أو مدّة .(2)
ص: 233
إنّ مكتب الوحي يحكم بأنّ العبد مختار حقيقة ، ومذهب الفلسفة والعرفان يقول بسلب الاختيار عن العباد وإنكار فاعليّته ، ويسندون كلّ فعل من الأفعال إليه سبحانه ، ويفسّرون فاعليّة كلّ شي ء علي قاعدة الجبر وضرورة العلّية والمعلوليّة ، فالعبد عندهم مجبور في فعاله ، فلاحظ كلماتهم في علّيّة علم الباري تعالي و . . (1) .
وقال بعض الأعلام : إنّ ملاّ صدرا يقول كأكثر الفلسفة : إنّ الإنسان مجبور في صورة الاختيار ، ويقول : إذا كان الفعل مسبوقاً بالإرادة فيسمّي ذلك الفعل اختيارياً والفاعل مختاراً وإن كانت هذه الإرادة مستندة إلي إرادة أخري حتّي تنتهي إلي إرادة اللَّه تعالي وتكون بحيث لابدّ وأن تتحقّق ، فالإنسان الّذي يكون فعله بإرادته ولكن إرادته مسبوقة بعلّة أخري بحيث لابّد أن يتحقق ويكون مجبوراً في صورة الاختيار نسميّه مختاراً ، ونسمّي الفعل إختيارياً لسبق الفعل بالإرادة .
ولكن في مدرسة الوحي ليس كذلك ، بل الإنسان مختار حقيقةً وبحقيقة الاختيار ، وهذا من أبين البيّنات في القرآن والحديث ؛ فإنّ إرسال الرّسل وإنزال الكتب والأمر والنهي والتكليف وغير ذلك تدلّ علي أنّ الإنسان في مدرسة الوحي مختار ، ملّكه اللَّه تعالي الاختيار - أي القدرة علي الفعل والترك - في هذه الأعمال الّتي كلّفه بها .
ص: 234
وبعبارة أخري : إنّ اللَّه تعالي أجبره علي الاختيار ؛ فإرادة الانسان معلولة لاختياره ، واختياره معلول لإرادة اللَّه ، فلما ملّكه اللَّه تعالي الاختيار فهو مختار حقيقةً لا مجازاً (1) .
إنّ مكتب الوحي والقرآن يقول بمسألة البداء ، وهي من المسائل المهمّة الدينيّة عند الفرقة الناجية الإماميّة .(2)
ومذهب الفلسفة يقول بالجبر العليّ والمعلوليّ ، فيلزمه عدم إمكان التغيير والتغيّر في العالم ، وإنكار البداء أو التأويل علي خلاف المحكمات والواضحات من النصوص ، فلاحظ كلماتهم .
إنّ مكتب القرآن والحديث يثبت المعاد الجسمانيّ بمعناه الماديّ العنصريّ ، ومذهب الفلسفة - أي الحكمة المتعالية عندهم ! - أنكر المعاد الجسمانيّ العنصريّ(3) ،
ص: 235
ص: 236
ويأوّل الآيات والأخبار المحكمات علي قواعدهم السخيفة الضعيفة .(1)
ص: 237
وإن شئت قلت : هل المحشور في المعاد هو الروح والنفس الإنساني مع بدنه العنصري المادّي أو المحشور في المعاد هو الروح مع البدن المثالي المختَرع باختراع الروح بإذن اللَّه تعالي ، وليس من هذا البدن العنصري المادّي أثر أصلاً ؟
المستفاد من الآيات والروايات والاتّفاق هو الأوّل ، ولكنّ المستفاد من الأسفار هو الثاني ، وأنّ المحشور ليس إلاّ الروح ، والروح تخترع بإذن اللَّه تعالي بدناً مثاليّاً مشابهاً للبدن العنصري المادّي الدنيوي .
إنّ مكتب الوحي - أي القرآن والحديث - يقول بأنّ الجنّة والنار مخلوقتان بالفعل ، وأنّهما حقيقتان موجودتان علي استقلالهما .
ومذهب الفلسفة - أي الحكمة المتعالية ! - تقول بأنّهما من حصيلة النفس وقائمتان بها ، وليست لهما واقعيّة خارجيّة علي حيالها واستقلالها(1) ، فلاحظ كلماتهم .
قال بعض الأعلام : إنّ المولي صدرا يقول : إنّ للمؤمن جنات بعد الحشر أعظم وأوسع من الدنيا وما فيها من الأشجار والقصور والحور وغير ذلك ممّا يسرّه ويلتذّ به ممّا لا يحصي ، وكلّ ذلك قائم بنفس وفيها المؤمن ، ومنشَأ نفسه ، لا أنّها مخلوقة في الخارج معدّة للمؤمن ، بل كلّ ما يكون للمؤمن في الجنة ليس إلاّ ما
ص: 238
أنشأتها نفس المؤمن وقائمة بها ، ولكن ما يستفاد من مدرسة الوحي أنّ الجنة مخلوقة في الخارج وليست قائمة بنفس المؤمن ، نعم بعض الأعمال بل كثير منها سبب لإيجاد اللَّه تعالي في الخارج من النعم ما لا يحصي ولكنّها مخلوقة في الخارج وليست قائمة بنفس المؤمن أبداً ، وأيضاً يمكن أن يقال : إنّ بعض النعم هو تبديل عمل المؤمن به ولكن لا علاقه لها بما قال ، ووضوح نسبة هذا المطلب إلي المولي صدرا ومخالفتها مع ما في الوحي للمراجع البصير يغني عن التوضيح والاستشهاد ، فراجع الأسفار المجلد التاسع .(1)
إنّ مذهب الوحي يقول بأنّ الكفّار والمعاندين من أهل الخلاف مخلّدون في النّار بلا انقطاع العذاب عنهم .
ومذهب الفلسفة - أي الحكمة المتعالية ! - والعرفان يحكم بانقطاع العذاب للمخلّدين في النار وهم يتلذّذون بما هم فيه من نار وزمهرير وما فيها من لدغ الحيّات والعقارب ، كما يلتذّ أهل الجنّة بالظلال والنور ؛ لأنّ طبايعهم تقتضي ذلك . . !(2)
ص: 239
ص: 240
إنّ مكتب القرآن والأخبار يقول بأنّ اللَّه تعالي كان ولم يكن معه شي ء ، وتفرّد بوحدانيّته ، ثمّ خلق الأشياء ، ثمّ يبقي ويفني كلّ شي ء ويعود إلي ما كان و . .
أمّا مذهب الفلسفة والعرفان يقول بأنّ الموجوديّة ليست إلاّ بالوجود ، والوجود قد كان ولا موجود سواه ، وهو الآن علي ما كان لم تنثلم وحدته ، ولم يتعدّد وجوده ، فهو الموجود .
ص: 241
وببيان آخر : فإنّهم يقولون : إنّ الوجود حقيقة واحدة سارية في جميع الموجودات ، وليست ماهيّات الممكنات إلاّ أموراً اعتباريّة ، والموجودات بأسرها مظاهر تلك الحقيقة الواحدة ، فالواجب إذا اشتمل علي الحدّ والتعيّن صار ممكناً ، والممكن إذا ارتفع عنه الحدّ والتعيّن صار واجباً ، ففي قوس النزول يكون الواجب ممكناً وفي قوس الصعود يكون الممكن واجباً .
ومنشأ هذا الاعتقاد هو قولهم بأنّ ما سوي اللَّه سبحانه صدر عن ذاته تعالي ، فإنّ الصدور والترشّح يرجع كلّ واحد منهما إلي تنزّل العلّة بمرتبة المعلول وتطوّرها بطور المعلول ، فاتحدت عندهم حقيقة الخالق والمخلوق في الذات ؛ لأنّ ذات كلّ شي ء وحقيقته عندهم هو ما به تحققه ، وتحقّق كلّ شي ء بالوجود لا غير . فالوجود حقيقة الواجب و الممكن ، وجوهريّة الجميع الّتي بها تتحقّق وتظهر واحدة ، والإعتبار إنّما يؤثّر في التشخّص لا في الحقيقة والجوهريّة . وقد قلنا : إنّ العقل والوجدان وجميع الأديان يحكم بالافتراق الحقيقيّ بين الخالق والمخلوق .
فظهر ممّا ذكرناه انّ معني التوحيد في الفلسفة والعرفان - لا سيّما في الحكمة المتعالية - واحديّته تعالي مع ما سواه وكون الأشياء شيئاً واحداً ، بخلاف توحيد القرآن والحديث ، فإنّه سلب الألوهيّة عن ما سواه تعالي .
إنّ مكتب الوحي يقول بأنّه تعالي قادر علي كلّ شي ء ، بمعني كونه سبحانه مختاراً ، فعّالاً لما يشاء وتاركاً لما يكره ، سواء كان من شي ء أو لا من شي ء ، وسواء كان شيئاً واحداً أو أشياء كثيرة ولو في رتبة واحدة .
ومذهب الفلسفة يقول بعدم قدرته تعالي علي غير العقل الأوّل ، بل عليه
ص: 242
أيضاً ؛ لأنّ القدرة هو التسلّط والتمكّن التام علي الفعل والترك واقعاً ، والقول بالصدور وعدم انفكاك العقل الأوّل عن ذاته سبحانه وعدم كونه مسبوقاً بالعدم يقتضي الإيجاب وكونه سبحانه موجَباً في فعله .
إنّ مكتب الوحي يحكم بأنّه سبحانه خالق لجميع الأشياء بعد أن لم تكن ، وليست فاعليّته تعالي علي نحو الترشّح والتنزّل ، بل هي علي نحو الإبداع لا من شي ء ، فلا يمتنع منه إيجاد المركّب أو الأشياء الكثيرة كائنةً ما كانت في رتبة واحدة ، وإن أراد إعدامها جميعاً أو شيئاً من الأشياء فيعدمها بلا استلزام محذور من الاستحالة .
وأمّا مذهب الفلسفة والعرفان يأوّل معني الحقيقي للخلق والإيجاد ، ويعتقد بأنّ وجود العالم صدر عن ذاته سبحانه بل هو عين ذاته تعالي ، ويقول بعدم إمكان انعدام شي ء من الأشياء ؛ لأنّ انعدامه مستلزم لانعدام وجوده سبحانه بقدر ذلك .(1) فالإله الّذي يعتقده الفلاسفة والعرفاء لا يقدر علي الإيجاد والإعدام والإنشاء والخلق ، فليس موجِداً ومبتدِعاً و . . بل كان مصدراً ومنبعاً ومولّداً و . .(2)
ص: 243
بخلاف الإله الّذي اعتقده الأنبياء والأوصياء وأتباعهم .
إنّ مذهب الفلسفة والعرفان يقول بوجود موجودات وممكنات مجرّدة قديمة ، ومذهب الوحي يقول بامتناع الموجود المخلوق المجرّد القديم ، ويحكم بأن ما سوي الواحد متجزّئ ، واللَّه واحد لا متجزّئ ولا متوهّم بالقلّة والكثرة ، وكلّ متجزّئ أو متوهّم بالقلّة والكثرة مخلوق(1) .
ص: 244
ص: 245
إنّ مذهب الفلسفة والعرفان يقول بأنّ اللَّه سبحانه علّة العلل وصرف الوجود وحقيقة الوجود المتطوّر والساري في الممكنات(1) . ومذهب القرآن والحديث ينفيه ويقول بأنّه سبحانه موجد ، خالق ومنشِي ء ، وليس من العلّة التطوّرية والترشّحيّة في شي ء ، بل ذاته تعالي ذاته وهو هو ، وهو شي ء لا كالأشياء .
ص: 246
إنّ مكتب الوحي يقول بأنّ علمه تعالي عين ذاته ، وكما أنّ كنه ذاته سبحانه لا يدرك ولا يعلم هكذا علمه عزّ وجلّ(1) .
بخلاف مكتب الفلسفة والعرفان حيث يدّعون أنّ علمه تعالي للأشياء
ص: 247
حضوري ، وكانت الأشياء حاضرة عند ذاته سبحانه(1) أي موجودة في ذاته .
يقول الفلسفة والعرفان بأنّ هذا النّظام الإمكانيّ مطابق للنظام الربّاني - أي النظام الّذي كان موجوداً في ذاته تعالي - ، ثمّ أراد سبحانه صنع ذلك في الخارج فكان نظاماً تامّاً غير قابل للتغيير حتّي أنّ الدّعا أيضاً لا يؤثر في أقلّ الحوادث .(2)
وببيان آخر : فإنّهم يقولون بأنّ هذه الدنيا نظامها أتمّ النظامات ، والنظام الشريف الرّباني الأتم لابدّ وأن يكون كلّ الجهات فيه منتهية إلي المشيّة الأزليّة الوجوبية .
فوقعوا في القول بالجبر في أفعال العباد لأنّ مشيّتهم منتهية إلي مشيته الأزلية ونتيجة ذلك إبطال الشرايع ولغوية إرسال الرّسل وإنزال الكتب والوعد والوعيد ، كما مّر .
ولكنّ القرآن والحديث أنكرا هذا الاعتقاد أشدّ إنكار ؛ فإنّه - مضافاً إلي أنّ الالتزام به يستلزم قدم العالم وأزليّته وجزئيّة هذا النظام لذاته القدوس المنزّه عن
ص: 248
ذلك - مخالف لقدرته تعالي وسلطنته التامّة علي الفعل والترك ؛ فإن كان هذا النظام أحسن النظام ولا يمكن التغيير فيه فلابدّ أن تكون الحوادث - ومنها أفعال الإنسان أيضاً - جزئاً من هذا النظام ولا يقبل التغيير بوجه كما التزموا بذلك(1) ، وعلي هذا ، فلا يكون له سبحانه سلطنة تامّة عليه ، ويلزم أن نقول كما قالت اليهود : « يد اللَّه مغلولة »(2) ، وقال تعالي : « غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء » .(3) وهذه العقيدة مخالفة للآيات والأخبار الدالّة علي قدرته تعالي واختياره ، وسلطنته التامّة .
ص: 249
وقد قال سبحانه وتعالي : « قل اللّهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير إنّك علي كلّ شي ء قدير »(1) .
أليس الإعطاء وعدمه تغييراً في النظام ، وكذا قدرته واختياره علي الفعل والترك ، وأنّه علي كلّ شي ء قدير ، « و ربّك يخلق ما يشاء ويختار »(2) ، و« إنّا لقادرون علي أن نبدّل خيراً منهم » .(3)
وعلي ما ذكروه يلزم لغويّة الأمر بالدعاء والوعد والوعيد والإجابة وقضاء الحاجة و . .
إنّ مذهب الوحي يقول بوجود الملائكة - ومنهم جبرئيل وعزرائيل وميكائيل وإسرافيل - وكونهم أجساماً لطيفة ، وأنّ لهم صعوداً ونزولاً ، ومذهب الفلسفة يقول إنّ الملك من المجرّدات وليس له مادة و . .
قال العلاّمة المجلسي قدس سره : إعلم أنّه أجمعت الإمامية بل جميع المسلمين إلاّ من شذّ منهم من المتفلسفين - الذين أدخلوا أنفسهم بين المسلمين لتخريب أصولهم وتضييع عقائدهم - علي وجود الملائكة وأنهم أجسام لطيفة نورانية ، أولي أجنحة مثني وثلاث ورباع واكثر ، قادرون علي التشكل بالأشكال المختلفة ، وأنه سبحانه يورد عليهم بقدرته ما يشاء من الأشكال والصور علي حسب الحكم والمصالح ؛
ص: 250
ولهم حركات صعوداً وهبوطاً ، وكانوا يراهم الأنبياء والأوصياءعليهم السلام ، والقول بتجرّدهم(1) وتأويلهم بالعقول والنفوس الفلكية والقوي والطبائع ، وتأويل الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة تعويلاً علي شبهات واهية واستبعادات وهميّة زيغ عن سبيل الهدي ، واتّباع لأهل الجهل والعمي .(2)
وغيرها من الموارد الكثيرة الّتي تمتاز بها المعارف الإلهيّة عن المعارف البشريّة كما سنشير إلي بعضها في مطاوي أبحاثنا في هذه الرسالة .
والحاصل : أنّ الفلسفة المتداولة الّتي يدّعي أنّها مبتنية علي أصول التعقّل المسمّاة بالحكمة المتعالية الّتي يصرّ عليها ملاصدرا في كتبه لا سيّما الأسفار فهي في أكثر
ص: 251
مباحثه المهمّة الاعتقادية تخالف الوحي والبرهان ، وكذلك العرفان المصطلح .
وهذه الجهالة والضلالة من البشر نشأت لأجل إعراضهم عن باب العلم الإلهي وهو علم القرآن بتعليم حملته ، وإقبالهم إلي منسوجات أفكار الفلاسفة ومخترعات المشايخ والأقطاب ، ومقتضي العدل من اللَّه - جلّ جلاله - سدّ باب العلم عليهم وخذلانهم وإن لم يتعمّدوا الضلال ، لأنّهم تركوا باب العلم الّذي فتحه لهم وأرادوا الدخول من غير الباب الذي فتحه اللَّه لهم فحجبوا ، وقد ورد عن الإمام عليه السلام : « من طلب الهداية بغير القرآن ضلّ »(1) ، وقال أيضاً : « من ابتغي العلم في غيره أضلّه اللَّه »(2) ، وعنه صلي الله عليه وآله وسلم : « من ابتغي علمه ( أي علم القرآن ) عند غير علي هلك » .(3)
أقول : وبعد ما تبيّن الحال في الفصل الثالث فلنعطف عنان الكلام إلي بسط المقال في الفصل الرابع ونبيّن فيه ما نسجه أهل العرفان والفلسفة ليظهر أنّهم أعرضوا عن المحكمات الّتي هنّ أمّ الكتاب وتشبّثوا بالمتشابهات وحرّفوا الآيات ولم يسلكوا ما هو طريق الحق والصواب .
ص: 252
ص: 253
ص: 254
وفيه مقدمة وبابان
أمّا المقدمة : ففي نقل كلمات العرفاء والفلاسفة في القول بوحدة الوجود والموجود تفصيلاً ونقدها .
وأمّا الباب الأوّل : ففي المكاشفة .
والباب الثاني : في الدليل العقلي والنقلي .
ص: 255
قد ذكرنا في الفصل الثالث أنّه لا فرق بين القول بوحدة الوجود في عين كثرته - أي القول بأنّ الوجود حقيقة مشكّكة - وبين القول بوحدة الوجود والموجود في مخالفة العقل والشرع - أعني وحدة الخالق والمخلوق بحسب الحقيقة والذات - إذ التعدّد والامتياز بالماهيّة وهي عندهم اعتباريّة فإذن لا يبقي شي ء إلاّ الوجود . . وهو الخالق وهو المخلوق . . ! وهو الآمر وهو المأمور . . !
وبعبارة أوضح : إنّهم يقولون : إنّ الأصل في التحقّق هو الوجود والماهيّة اعتباريّة ، وأيضاً يقولون : إنّ الوجود واحد لا متعدّد ، فإذا تأمّلت في هذين الأمرين - أي وحدة الوجود وكونه تعالي هو الوجود ، مع قولهم بتأصّل الوجود في كلّ موجود - تجدهم أنّهم قائلون بوحدة الخالق والمخلوق بحسب الذات ، فالوجود عندهم هو الأصل الأصيل لا يتعدّد ولا يتجزّي ، وهو الخالق وهو المخلوق ، والفرق والإثنينيّة بينهما اعتباريّة .
وبعد اتفاقهم علي الفرق الاعتباريّ بين الخالق والمخلوق اختلفوا في بيانه وكيفيّته : فقيل : خلقه موجه ، وقيل : خلقه تنزّلاته ، وقيل : خلقه ظلّه ، وقيل : نفسه - لا موجه ولا ظلّه ولا بمعني هو هو بعينه بل - بمعني : أنّ الواجب هو الوجود والممكن
ص: 256
أيضاً هو الوجود ولكن له مراتب كثيرة مختلفة ، وهو المعبّر عنه بوحدة الوجود في عين كثرته وهو مذهب الفهلويّين .
وببيان ثالث : إن تكثّر الموجودات من السماء وما فيها والأرض وما عليها من الأنواع المختلفة و . . غير قابل للإنكار ، وهؤلاء - أي القائلون بوحدة الوجود - قالوا : إنّ الوجود واحد منبسط ، ثمّ اضطربوا في كيفيّة بسطه علي الماهيّات بحيث لا يتجزّي ولا يتقسّط .
فقيل في تصحيح ذلك : بسطه علي الماهيّات علي وجه الإشراق ، والإضافة إشراقيّة من دون تجزئة الوجود وتقسيطه ، والكثرات بالحدود الإعتباريّة .
وقيل : إنّ الماهيّات مجالي ومظاهر للوجود المطلق . .
وغير ذلك من التزويقات اللفظيّة التي توجب فتح باب التكلّم في ذات اللَّه سبحانه .
وعلي أيّ حال ؛ إنّ ذات كلّ شي ء وحقيقته عندهم هو ما به تحقّقه ، وتحقّق كلّ شي ء بالوجود لا غير ، فالوجود هو حقيقة الواجب والممكن . . !
والحاصل ؛ أنّ التفرقة بينهما - أي وحدة الوجود ووحدة الوجود والموجود - وجعلهما بحثين لا وجه له ، كما لا يخفي علي المتأمّل .
وينبغي قبل البحث عن الأدلّة أن ننقل بعض كلمات الفلاسفة والعرفاء في المقام حتّي لا يبقي شكّ لأحد في مرادهم ، ولا يقول : كيف يمكن أن يعتقد المسلم خلاف ما يحكم به بداهة العقول ويكون أساس المعارف الإلهيّة ، ومن أهمّ الضروريّات الدينيّة أعني توحيد ربّ العالمين ! فلأجل صحّة النسبة و حقيّتها بعلم اليقين حتّي لا يبادر في تكذيبنا ونسبتنا إلي العصبيّة والعناد ، ننقل بعض كلماتهم كي نكشف الغطاء عن وجه كلامهم .
ص: 257
اعلم أنّ الصوفيّة قائلون بوحدة الوجود والموجود جميعاً .
وأمّا العرفاء الشامخون ! فإنّهم قالوا بوحدة الوجود والموجود جميعاً في عين كثرتهما ، وهذا هو الّذي اختاره صاحب الأسفار والمنظومة ومن تابعهم ، فهؤلاء يقولون بتكثّر الوجود والموجود ومع ذلك يثبتون الوحدة في عين الكثرة . . !
وقد يمثّل له بما إذا كان إنسان مقابلاً لمرائي متعدّدة فالإنسان متعدّد وكذا الإنسانيّة لكنّه في عين الكثرة واحد بملاحظة العكسيّة وعدم الأصليّة ، فإنّ عكس الشّي ء بما هو عكسه ليس شيئاً علي حياله ، إنّما هو آلة لحاظ الشي ء .
قال السبزواري - في حاشيته علي كتاب الشواهد الربوبيّة - : القائل بالتوحيد إمّا يقول بكثرة الوجود وكثرة الموجود جميعاً ومع هذا يعدّ من الموحّدين لكونه متفوّهاً بكلمة التوحيد وهذا توحيد العوام .
وإمّا يقول بوحدة الوجود وكثرة الموجود بمعني المنسوب إلي الوجود فإنّ حقيقة الوجود عنده ليس له أنواع ولا أفراد ولا مراتب ولا أجزاء عقليّة وخارجيّة ولا قيام ولا عروض لها بالنسبة إلي الماهيّة ، بل واحدة بسيطة قائمة بذاتها ، إنّما الماهيّات منتسبات إلي هذه الحضرة والكثرة فيها لا فيه، وهذا قول منسوب إلي ذوق التّالة وهو توحيد الخواص ! وعكسه لم يقل به أحد بل لا يصحّ .
وإمّا يقول بوحدتهما جميعاً وهو قول الصوفيّة حيث يقولون : ليس في الواقع إلاّ وجود وموجود واحد تقيّد بقيود اعتباريّة يترأي منها كثرة وهميّة، وهذا يعدّ عندهم توحيداً خاصياً بل أخصيّاً ، وليس كذلك بل التوحيد الأخصّي ما سيجي ء لكن يمكن إرجاعه إليه .
ص: 258
وإمّا يقول بوحدتهما جميعاً في عين كثرتهما ، أمّا وحدة الوجود ؛ فلأنّه كما مرّ لا أنواع تحته ولا أفراد . وأمّا كثرته ؛ فلانّ له مراتب ودرجات متفاوتة بالكمال والنقص والتقدّم والتأخّر . . ونحو ذلك ، وأمّا وحدة الموجود في عين كثرته ؛ فلانّ الوجود لمّا كان أصيلاً كان الموجود الحقيقيّ هو الوجود ، فوحدته وحدته ، ومراتبه مراتبه ، وهذا هو التوحيد الأخصّي .(1)
وقال الشيخ محمد تقي الآملي في درر الفوائد : اعلم أنّ القائل بالتوحيد إمّا يقول بكثرة الوجود والموجود جميعاً ويختصّ فرداً منها بالواجب ، وهذا هو الموافق لمذهب المشّائين ومعتقد أكثر النّاس الّذين يتكلّمون بكلمة التوحيد لساناً ويعتقدون بها إجمالاً ، ويعبّر عن هذا التوحيد بالتوحيد العامي ؛ لأنّ أكثر الناس في هذا المقام .
وإمّا يقول بوحدة الوجود والموجود جميعاً قبال الطائفة الأولي بتمام المقابلة ، وهذا مذهب الصوفيّة ، وهم علي طائفتين :
الأولي : ما يكون هو ظاهر كلامهم ويدور في ألسنة جهلتهم من أنّ للوجود مصداقاً حقيقيّاً واقعيّاً وأنّه ليس إلاّ واحداً ، وهذا الشّي ء الواحد يتشأّن بشؤون مختلفة ويتطوّر بأطوار متكثّرة ، ففي السّماء سماء وفي الأرض أرض . . وهكذا ، وليس له حقيقة أخري مجرّداً عن تلك المجالي ، وهذه الكثرات لا تنثلم بوحدته ؛ لأنّها أمور اعتباريّة ، وهذا هو المذهب المنسوب إلي جهلة الصوفيّة .
والثانية : وهم الأكابر منهم القائلون بأنّ للوجود حقيقة مجرّداً عن المجالي لكن الوجود بجميعه من المجرّد عن المجالي وغيره واجب ، وليست مرتبته الواجبيّة
ص: 259
عندهم مختصّة بمرتبة المجرّدة عن المجالي المعبّر عنها بمرتبة بشرط لا ، بل الكلّ من الدرّة إلي الذرّة والقرن إلي القدم وجود الواجب مع كون ما عدي تلك المرتبة البشرط اللائية مفتقرة إلي تلك المرتبة بل عين الفقر إليها ، وإذا سئلوا بأنّ الفقر ينافي الوجوب ، يجيبون بعدم المنافات ؛ لأنّ هذا الفقر فقر إلي نفس الحقيقة ، والافتقار المنافي مع الوجوب هو الفقر إلي الغير لا فقر الشي ء إلي نفسه ، وهذا المذهب منسوب إلي أكابر الصوفيّة ، ويظهر من صدر المتألهين ارتضاؤه في كتبه خصوصاً في مبحث العلّة والمعلول من الأسفار وبكون الوجود بجميعه واجباً من المجرّد وغيره . يفترق هذا المذهب عن مذهب الفهلويّين فإنّهم يقولون بأنّ الواجب هو المرتبة المجرّدة عن المجالي المعبّر عنها بمرتبة بشرط لا ، وما عداها وجودات ممكنة ، فمذهب الفهلويّين قريب إلي مذهب الصوفيّة ، وإنّما التفاوت بينهم وبين المتصوّفة الجهلة وأكابر الصوفيّة بجعلهم مراتب للوجود دون المتصوّفة الّذين لا يقولون بمراتب للوجود وأنّه ليس إلاّ مرتبة واحدة وهي الواجب وما عداه شؤونه وأطواره ، وإختصاصهم الوجود الواجبي بالمرتبة الشديدة الّتي فوق ما لا يتناهي بما لا يتناهي دون أكابر الصوفيّة ، وهذا ما يعبّر عنه ب : التوحيد الخاصي ، وتوحيد الخواص .
وإمّا يقول بوحدة الوجود وكثرة الموجود ، هذا مذهب المنسوب إلي ذوق التّالّه ، ويعبّرون عنه ب : توحيد خاصّ الخاص ، وهو الّذي ارتضاه جمّ غفير من المحقّقين كالمحقّق الدّواني والمحقّق الداماد ، وكان عليه صدر المتألهين في برهة من الزمان ، وحاصل هذا القول : أنّ الوجود واحد حقيقيّ لا كثرة فيها أصلاً ، لا بحسب الأنواع ولا بحسب الأفراد ولا بحسب المراتب ، والموجود متعدّد ، وهو الماهيّة ، وموجوديّة الكلّ بانتسابه إلي الوجود ، لا بالوجودات الخاصّة الإمكانيّة بالإمكان الفقريّ . . .
ص: 260
وأمّا عكس هذا القول ، أعني القول بوحدة الموجود وكثرة الوجود ، فهو باطل لم يذهب إلي وهم .
وإمّا يقول بوحدة الوجود والموجود جميعاً في عين كثرتهما - أي كثرة الوجود و الموجود - وهو مذهب صدر المتألهين والعرفاء الشامخين ويعبّرون عنه ب : توحيد أخصّ الخواص . فللتوحيد مراتب أربع وهي : توحيد العوام ، وتوحيد الخواص ، وتوحيد خاص الخاص ، وتوحيد أخصّ الخواص . . (1)
ص: 261
أقول : هذه الأقوال - أي ما ذكره صاحب درر الفوائد - فاسدة ، أمّا الأوّل منها - أي القول بكثرة الوجود والموجود جميعاً - وإن كان سالماً عن بعض ما يرد علي الأقوال الأخر إلاّ أنّه أيضاً ممنوع ؛ لأنّه - مضافاً إلي ابتنائه علي أصالة الوجود - يستلزم الإخبار عن كنه ذاته تعالي ، والاشتراك في حقيقة الوجود بين الواجب والممكن ، وإن قالوا : بأنّ الحقائق الوجوديّة كلّها غير وجوده تعالي ممكنة .
ص: 262
قال ملاّ صدرا في الأسفار : فكما وفّقني اللَّه بفضله ورحمته علي الإطلاع علي الهلاك السرمديّ والبطلان الأزليّ للماهيّات الإمكانيّة والأعيان الجوازيّة ، فكذلك هداني ربّي بالبرهان النيّر العرشيّ إلي صراط المستقيم ، من كون الموجود والوجود منحصرة في حقيقة واحدة شخصيّة لا شريك له في الموجوديّة الحقيقيّة ولا ثاني له في العين وليس في دار الوجود غيره ديّار .
وكلّما يتراءي في عالم الوجود أنّه غير الواجب المعبود فإنّما هو من ظهورات ذاته وتجلّيات صفاته الّتي هي في الحقيقة عين ذاته ، كما صرّح به لسان بعض العرفاء بقوله : فالمقول عليه سوي اللَّه أو غيره أو المسمّي بالعالم هو بالنسبة إليه تعالي كالظلّ للشخص ، فهو ظلّ اللَّه . . .
فكلّ ما ندركه فهو وجود الحقّ في أعيان الممكنات ، فمن حيث هويّة الحقّ هو وجوده ، ومن حيث اختلاف المعاني والأحوال المفهومة منها المنتزعة عنها بحسب العقل الفكريّ والقوّة الحسّيّة فهو أعيان الممكنات الباطلة الذوات ، فكما لا يزول عنه باختلاف الصور والمعاني اسم الظلّ كذلك لا يزول عنه اسم العالم وما سوي الحق ، وإذا كان الأمر علي ما ذكرته لك فالعالم متوهّم ما له وجود حقيقيّ ، فهذا حكاية ما ذهبت إليه العرفاء الإلهيّون والأولياء المحقّقون .(1)
وقال أيضاً : إعلم أنّ واجب الوجود بسيط الحقيقة غاية البساطة ، وكلّ بسيط الحقيقة كذلك فهو كلّ الأشياء ، فواجب الوجود كلّ الأشياء لا يخرج عنه شي ء من الأشياء ، وبرهانه علي الإجمال : أنّه لو خرج عن هويّة حقيقته شي ء
ص: 263
لكان ذاته بذاته مصداق سلب ذلك الشي ء .(1)
وقال : فإذا ثبت تناهي سلسلة الوجودات من العلل والمعلولات إلي ذات بسيطة الحقيقة النوريّة الوجوديّة . . . وثبت أنّه بذاته فيّاض وبحقيقته ساطع و . . . تبيّن وتحقّق أنّ لجميع الموجودات أصلاً واحداً أو سنخاً فارداً هو الحقيقة والباقي شؤونه ، وهو الذات وغيره أسماؤه ونعوته ، وهو الأصل وما سواه أطواره وشؤونه ، وهو الموجود وما وراءه جهاته وحيثياته ، ولا يتوهّمنّ أحد من هذه العبارات أنّ نسبة الممكنات إلي ذات القيّوم تعالي تكون نسبة الحلول ، هيهات ، إنّ الحاليّة والمحلّيّة ممّا يقتضيان الإثنينيّة في الوجود بين الحالّ والمحلّ ، وهيهنا - أي عند طلوع شمس التحقيق من أفق العقل الإنسانيّ المتنوّر بنور الهداية والتوفيق - ظهر أن لا ثاني للوجود الواحد الأحد الحقّ واضمحلّت الكثرة الوهميّة وارتفعت أغاليط الأوهام ، والآن حصحص الحقّ وسطع نوره النافذ في هياكل الممكنات ، يقذف به علي الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، وللثنويّين الويل ممّا يصفون ، إذ قد انكشف أنّ كلّ ما يقع اسم الوجود عليه ولو بنحو من الأنحاء فليس إلاّ شأناً من شؤون الواحد القيّوم ونعتاً من نعوت ذاته ولمعة من لمعات صفاته .
فما وضعناه أوّلاً إنّ في الوجود علّة ومعلولاً بحسب النظر الجليل قد آل آخر الأمر بحسب السلوك العرفاني إلي كون العلّة منهما أمراً حقيقيّاً والمعلول جهة من جهاته ، ورجعت علّيّة المسمّي بالعلّة وتأثيره للمعلول إلي تطوّره بطور وتحيّثه بحيثيّة لا انفصال شي ء مباين عنه .
فاتقن هذا المقام الّذي زلّت فيه أقدام أولي العقول والأفهام واصرف نقد
ص: 264
العمر في تحصيله لعلّك تجد رائحة من مبتغاك إن كنت مستحقاً لذلك وأهله . . ! ! (1)
أقول : إنّ بعض عبارة صاحب الأسفار وإن كان ظاهراً في القول بالعلّيّة والمعلوليّة في الوجود ولكنّه صرّح هنا بقوله : فما وضعناه أوّلاً إنّ في الوجود علّة ومعلولاً بحسب النظر الجليل قد آل آخر الأمر بحسب السلوك العرفاني إلي كون العلّة أمراً حقيقيّاً والمعلول شأن من شؤنه وطوراً من أطواره .
ففي دار التحقّق ليس إلاّ حقيقة واحدة وموجود واحد وما سواه شأن من شؤونه وطور من أطواره وليس له وجود .
كما قال في موضع آخر : إيّاك أن تزلّ قدمك من استماع هذه العبارات وتتوهّم أنّ نسبة الممكنات إليه تعالي بالحلول والإتّحاد ونحوهما ، هيهات! إنّ هذه يقتضي الإثنينيّة في أصل الوجود ، وعندما طلعت شمس الحقيقة وسطع نورها النافذ في أقطار الممكنات المنبسط علي هياكل الماهيّات ظهر وانكشف أنّ كلّما يقع عليه اسم الوجود ليس إلاّ شأناً من شؤون الواحد القّيوم ولمعة من لمعات نور الأنوار ، وما وضعناه أوّلاً بحسب النظر الجليل من أنّ في الوجود علّة ومعلولاً أدّي بنا أخيراً من جهة - وهو نمط أخري من جهة السلوك العلميّ والنسك العقليّ - إلي أنّ المسمّي بالعلّة هو الأصل والمعلول شأن من شؤونه وطور من أطواره ، ورجعت العلّيّة والإفاضة إلي تطوّر المبدأ الأوّل بأطواره وتجلّيه بأنواع ظهوراته .(2)
وقال في الأسفار : إنّ العرفاء قد اصطلحوا في إطلاق الوجود المطلق والوجود المقيّد علي غير ما اشتهر بين أهل النظر ؛ فإنّ الوجود المطلق عند العرفاء عبارة عمّا لا يكون محصوراً في أمر معيّن محدوداً بحدّ خاص ، والوجود المقيّد بخلافه
ص: 265
كالإنسان والفلك والنفس والعقل ، وذلك الوجود المطلق هو كلّ الأشياء علي وجه أبسط وذلك لأنّه فاعل كلّ وجود مقيّد وكماله ، ومبدء كلّ فضيلة أولي بتلك الفضيلة من ذي المبدء ، فمبدء كلّ الأشياء وفياضها يجب أن يكون هو كلّ الأشياء علي وجه أرفع وأعلي .
فكما أنّ السواد الشّديد يوجد فيه جميع الحدود الضعيفة السواديّة الّتي مراتبها دون مرتبة ذلك الشّديد علي وجه أبسط وكذا المقدار العظيم يوجد فيه كلّ المقادير الّتي دونه من حيث حقيقة مقداريّتها لا من حيث تعيّناتها العدميّة من النهايات والأطراف ، فالخط الواحد الّذي هو عشرة أذرع مثلاً يشمل الذراع من الخط والذراعين منه وتسعة أذرع منه علي وجه الجمعيّة الاتصاليّة وإن لم يشتمل علي أطرافها العدميّة الّتي يكون لها عند الانفصال عن ذلك الوجود الجمعيّ ، وتلك الأطراف العدميّة ليست داخلة في الحقيقة الخطّيّة الّتي هي طول مطلق حتّي لو فرض وجود خطّ غير متناه لكان أولي وأليق بأن يكون خطاً من هذه الخطوط المحدودة وإنّما هي داخلة في مهيّة هذه المحدودات الناقصة لا من جهة حقيقتها الخطّيّة بل من جهة ما لحقها من النقائص والقصورات وكذا الحال في السواد الشديد واشتماله علي السوادات الّتي هي دونه وفي الحرارة الشديدة واشتمالها علي الحرارات الضعيفة ، فهكذا حال أصل الوجود وقياس إحاطة الوجود الجمعيّ الواجبيّ الّذي لا أتمّ منه بالوجودات المقيّدة المحدودة بحدود يدخل فيها أعدام ونقائص خارجة عن حقيقة الوجود المطلق داخلة في الوجود المقيّد .(1)
وقال في موضع آخر من الأسفار : اعلم أنّ القول بأنّ العالم غير موجود مع الحقّ في مرتبة وجوده قول محصّل لا شبهة فيه عند العلماء ، لكن الثابت بالبرهان
ص: 266
والمعتضد بالكشف والعيان أن الحقّ موجود مع العالم ومع كلّ جزء من أجزاء العالم ، وكذا الحال في نسبة كلّ علّة مقتضية بالقياس إلي معلولها ، فالمعلول - لأجل نقصه وإمكانه - غير موجود مع العلة في مرتبة ذاتها الكمالية ولكن العلة موجودة مع المعلول في مرتبة وجود المعلول من غير مزايلة عن وجودها الكماليّ ، ومن أمعن في تحقيق هذه المسئلة أوتي خيراً كثيراً ، والدليل علي ما ذكرنا قوله سبحانه : « هو معكم أينما كنتم »(1) ، وقوله : « وهو الّذي في السماء إله وفي الأرض إله »(2) ، وقوله : « أينما تولّوا فثمّ وجه اللَّه »(3) . . وغير ذلك من الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة .
فإذا تقرّر هذا نرجع ونقول : إنّ الحقّ المنزّه عن الزّمان موجود في كلّ وقت من الأوقات لا علي وجه الاختصاص والتعليق ، والحق المنزّه عن المكان موجود في كلّ واحد واحد من الأمكنة لا علي وجه التقييد والتطبيق كما يقوله المشبهة ولا علي وجه المباينة والفراق كما يقوله المنزّهة من العلماء الّذين لم يبلغوا في العلم إلي درجة العرفاء ليعرفوا أنّ تنزيههم ضرب من التشبيه والتقييد ؛ لجعلهم مبدء العالم محصور الوجود بالتجرّد عن بعض أنحاء الوجود بالمباينة والمغايرة ، وقد ثبت أنّ واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات والحيثيات وليست في ذاته المحيطة بالكلّ جهة إمكانيّة ، فهو مع كلّ موجود بكلّ جهة من غير تقييد ولا تكثّر ، فهو في كلّ شي ء وليس في شي ء ، وفي كلّ زمان وليس في زمان ، وفي كلّ مكان وليس في مكان ، بل هو كلّ الأشياء وليس هو الأشياء . . . ! ! (4)
ص: 267
قال الفيض : كيف لا يكون اللَّه سبحانه كلّ الأشياء وهو صرف الوجود الغير المتناهي شدّة وقوّة وغنيً وتماماً ! فلو خرج عنه وجود لم يكن محيطاً به لتناهي وجوده دون ذلك الوجود ! تعالي عن ذلك ، بل إنّكم لو دلّيتم بحبل إلي الأرض السفلي لهبط علي اللَّه ! ؟ فأينما تولّوا فثمّ وجه اللَّه إنّ اللَّه واسع عليم .(1)
وقال ملا صدرا - في شرح الكافي في شرح الحديث الأوّل من باب جوامع التوحيد - :
توحيد عرشي : اعلم أنّ ذاته تعالي حقيقة الوجود بلاحدّ ، وحقيقة الوجود لا يشوبه عدم ، فلابد أن يكون بها وجود كلّ الأشياء وأن يكون هو وجود الأشياء كلّها ؛ إذ لو كانت تلك الذّات وجود الشي ء بعينه أو الأشياء بعينها ولم تكن لشي ء آخر أو لأشياء أخري لم يكن حقيقة الوجود وقد فرضناها حقيقة الوجود أو حقيقة الشي ء ، وصرفه لا يتعدّد كالإنسان مثلاً فإنّه لا يمكن أن يتعدّد من حيث هو إنسان وليس التعدّد في زيد وعمرو إلاّ بأمر خارج عن حقيقة الإنسانيّة ، فحقيقة الوجود لا يتعدّد إلاّ بشي ء خارج ، ولكن الخارج ليس إلاّ العدم ؛ إذ المعاني والماهيّات تابعة للوجود ، والعدم ليس بشي ء ثابت ، فثبت أن لا تعدّد في الوجود إلاّ من جهة الأعدام والنقائص ، فإذن لمّا كان واجب الوجود محض حقيقة الوجود الصّرف الّذي لا أتمّ منه فلا خارج عنه إلاّ النقائص العدميّة والأعدام ، فهو كلّ الذوات ولا يشذّ عنه شي ء من الموجودات من حيث كونه موجوداً ، بل من حيث كونه ناقصاً أو معدوماً .(2)
وقال أيضاً : انظر أيّها السالك طريق الحقّ ! ماذا تري من الوحدة والكثرة
ص: 268
جمعاً وفرادي ، فإن كنت تري جهة الوحدة فقط فأنت مع الحقّ وحده لارتفاع الكثرة اللاّزمة عن الخلق ، وإن كنت تري الكثرة فقط فأنت مع الخلق وحده ، وإن كنت تري الوحدة في الكثرة محتجبة والكثرة في الوحدة مستهلكة فقد جمعت بين الكمالين وفزت بمقام الحسنيين .(1)
وقال : فصل في التنصيص علي عدميّة الممكنات بحسب أعيان ماهيّاتها ، كأنّك قد آمنت من تضاعيف ما قرع سمعك منّا بتوحيد اللَّه سبحانه توحيداً خاصّيّاً وأذعنت بأنّ الوجود حقيقة واحدة هي عين الحقّ ، وليس للماهيّات والأعيان الإمكانيّة وجود حقيقيّ ، إنّما موجوديّتها بإنصباغها بنور الوجود ، ومعقوليّتها من نحو من أنحاء ظهور الوجود وطور من أطوار تجلّيه ، وإنّ الظاهر في جميع المظاهر والماهيّات والمشهود في كلّ الشؤون والتعيّنات ليس إلاّ حقيقة الوجود بل الوجود الحقّ بحسب تفاوت مظاهره وتعدّد شؤونه وتكثّر حيثيّاته ، والماهيّة الخاصّة الممكنة كمعني الإنسان والحيوان حالها كحال مفهوم الإمكان والشيئيّة ونظائرها في كونهما ممّا لا تأصّل لها في الوجود عيناً . . . إلي أن قال : فانكشف حقيقة ما اتّفق عليه أهل الكشف والشهود من أنّ الماهيّات الإمكانيّة أمور عدميّة لا بمعني أنّ مفهوم السلب المفاد من كلمة لا وأمثالها داخل فيها ولا بمعني أنّها من الاعتباريات الذهنيّة والمعقولات الثانية ، بل بمعني أنّها غير موجودة لا في حدّ أنفسها بحسب ذواتها ولا بحسب الواقع ؛ لأنّ ما لا يكون وجوداً ولا موجوداً في حدّ نفسه لا يمكن أن يصير موجوداً بتأثير الغير وإفاضته ، بل الموجود هو الوجود وأطواره وشؤونه وأنحاؤه ، والماهيّات موجوديّتها إنّما هي بالعرض بواسطة تعلّقها في العقل بمراتب الوجود وتطوّره بأطوارها كما قيل شعراً :
ص: 269
وجود اندر كمال خويش ساري است
تعيّنها امور اعتباري است
. . . وفي كلام المحقّقين إشارة واضحة بل تصريحات جليّة بعدميّة الممكنات أزلاً وأبداً وكفاك في هذا الأمر قوله تعالي : «كلّ شي ء هالك إلاّ وجهه»(1) .
قال الشيخ العالم محمّد الغزالي - مشيراً إلي تفسير هذه الآية عند كلامه في وصف العارفين - بهذه العبارة : فرأوا بالمشاهدة العيانيّة أن لا موجود إلاّ اللَّه وأنّ كلّ شي ء هالك إلاّ وجهه لا أنّه يصير هالكاً في وقت من الأوقات بل هو هالك أزلاً وأبداً لا يتصوّر إلاّ كذلك ؛ فإنّ كلّ شي ء إذا اعتبر ذاته من حيث هو فهو عدم محض وإذا اعتبر من الوجه الّذي يسري إليه الوجود من الأوّل الحقّ رُأي موجوداً لا في ذاته لكن من الوجه الذي يلي موجده ، فيكون الموجود وجه اللَّه فقط ، فلكلّ شي ء وجهان : وجه إلي نفسه ووجه إلي ربّه ، فهو باعتبار وجه نفسه عدم وباعتبار وجه ربّه موجود . فإذن لا موجود إلاّ اللَّه ، فإذن كلّ شي ء هالك إلاّ وجهه أزلاً وأبداً .
وكتب العرفاء - كالشيخين العربي وتلميذه صدر الدين القونوي - مشحونة بتحقيق عدميّة الممكنات وبناء معتقداتهم ومذاهبهم علي المشاهدة والعيان وقالوا : نحن إذا قابلنا وطبقنا عقائدنا علي ميزان القرآن والحديث وجدنا منطبقة علي ظواهر مدلولاتهما من غير تأويل ، فعلمنا أنّها الحقّ بلا شبهة وريب .(2)
وقال أيضاً في موضع آخر : قال العارف القيومي مولانا جلال الدين الرومي في مثنويه :
ما عدمهاييم هستيها نما
تو وجود مطلقي هستي ما(3)
ص: 270
ولا يخفي في ما ذكر من التهافت الواضح ، إذ كيف يمكن تصديق دعوي الوحدة مع هذه التكثّرات الحسّيّة ؟ ! وما قيل في رفع هذا التهافت لا يرجع إلي معني محصّل أبداً ، وتأويل الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة - تعويلاً علي شبهات واهية واستبعادات وهميّة - زيغ عن سبيل الرّشاد واتّباع لأهل العناد .
ثمّ إنّ ما ذكروه مخالف لضرورة الأديان والوجدان والفطرة السليمة ، والكتاب والسنّة ، فإنّ المستفاد من سورة ( الفاتحة ) إلي ( الناس ) هو التغاير بين الخالق والمخلوق وتكثّر الموجودات و . . وسلب التحقق والوجود عن غير اللَّه سبحانه خلاف الوجدان وتوحيد الأنبياء والقرآن ، وكذلك الروايات المتواترة الصادرة عن المعصومين عليهم السلام الدالّة علي المباينة والمغايرة بمعناها الحقيقيّ بين الخالق والمخلوق ، والدالّة علي أنّ المخلوق حادث ، خلق لا من شي ء . . وغيرها من الأخبار ، فإنّها تدلّ علي الإضافة الإبداعية بين الخالق تعالي والمخلوق - بمعني أنّه سبحانه أبدع الأشياء وأخرجها من كتم العدم إلي التحقق فهو فاطر الخلائق بعد أن كانت معدومة - وقد دلّت عليه الضرورة العقليّة والنقليّة فانّ الممكنات ليس وجودها وجوداً ربطيّاً أو ظليّاً - الذي هو في الحقيقة عبارة عن أطوار العلّة ولا ينفك عنها بل هو عينها - كما يري ذلك صاحب الأسفار(1) ومن تبعه من الفلاسفة والعرفاء . كما تدلّ علي بطلان الإضافة الإشراقيّة المبتنيّة علي القول بأصالة الوجود ووحدته ، وأنّ
ص: 271
صدور الممكنات من الباري تعالي انّما هو بإشراق وجوده .
فكما أنّ فكرة الوجود الظلّي والرّبطي قائمة علي أساس الإيمان بفكرة الفيض والإضافة الإشراقية ، كذلك أنّ فكرة الإضافة الإشراقية أيضاً قائمة علي أساس الإيمان بوحدة الوجود وأصالته ، وبعد وضوح مغايرة الواجب للممكن وعدم مجانسته لها(1) ، وبطلان أصالة الوجود ووحدته فالنتيجة واضحة .
ومن العجب أنّ هذا الفيلسوف نزّل اللَّه تعالي عن مرتبة الألوهيّة إلي مرتبة أخسّ الموجودات السفليّة ، ثمّ يدّعي بأنّه مطابق للقرآن والحديث من غير تأويل ! فإنّ العقل والنقل والأنبياء والرّسل اتّفقوا علي تنزيهه تعالي عن اتّصافه بصفات المحدثات وعن مشابهة المخلوقات كما مرّ .
كيف ! وقد نزّه اللَّه تعالي في محكم كتابه ذاته المتعالي بقوله : « وما أمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون » .(2)
وقوله : « سبحانه وتعالي عمّا يقولون علوّاً كبيراً » .(3)
وقوله : « سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون » .(4)
وقوله : « أم لهم إله غير اللَّه سبحان اللَّه عمّا يشركون » .(5)
ونزّهته دعاة الرسالة السماوية وحملة الشريعة المحمّديّةصلي الله عليه وآله وسلم وهداة البشر إلي المعرفة والتوحيد ، حيث ورد عنهم عليهم السلام الأخبار الدالّة علي تنزيهه تعالي عن صفات
ص: 272
المخلوقين ، إلي ما شاءاللَّه كما تقدّم في الفصل الثالث ، فلاحظ .(1)
قال ملاّ صدرا : وهم وتنبيه : إنّ بعض الجهلة من المتصوّفين المقلّدين الّذين لم يحصّلوا طريق العلماء العرفاء ولم يبلغوا مقام العرفان توهّموا - لضعف عقولهم ووهن عقيدتهم وغلبة سلطان الوهم علي نفوسهم - أن لا تحقّق بالفعل للذات الأحديّة - المنعوتة بألسنة العرفاء بمقام الأحديّة وغيب الهويّة وغيب الغيوب - مجرّدة عن المظاهر والمجالي ، بل المتحقّق هو عالم الصورة وقواها الروحانيّة والحسيّة ، واللَّه هو الظاهر المجموع لا بدونه ، وهو حقيقة الإنسان الكبير والكتاب المبين الّذي هذا الإنسان الصغير أنموذج ونسخة مختصرة عنه ، وذلك القول كفر فضيح وزندقة صرفة لا يتفوّه به من له أدني مرتبة من العلم ، ونسبة هذا الأمر إلي أكابر الصوفيّة ورؤسائهم افتراء محض وإفك عظيم ، يتحاشي عنه أسرارهم وضمائرهم ، ولا يبعد أن يكون سبب ظنّ الجهلة بهؤلاء الأكابر إطلاق الوجود تارّة علي ذات الحقّ وتارّة علي المطلق الشامل وتارّة علي المعني العام العقليّ فإنّهم كثيراً ما يطلقون الوجود علي المعني الظلّي الكوني ، فيحملونه علي مراتب التعيّنات والوجودات الخاصّة فيجري عليه أحكامها . . (2)
ص: 273
وقال السبزواري في الحاشية - توضيحاً لمراده - : بالحقيقة هذا الّذي اعترفوا به مقام الوحدة في الكثرة ، وقد أنكروا مقام الكثرة في الوحدة وهو المراد بالوجود المجرّد عن المجالي والمظاهر وهو المراد بقول الفحول - ومنهم المصنّف - بسيط الحقيقة كلّ الأشياء ، لا مقام الوحدة في الكثرة . ولو كان الأمر كما توهّموه لزم
ص: 274
أن يتصوّر ما هو أكمل من الواجب ؛ لأنّ الوجود الجامع بين المقامين مقام الكثرة في الوحدة ومقام الوحدة في الكثرة وبعبارة أخري : مقام التفصيل في الإجمال ومقام الإجمال في التفصيل كما هو مصطلحهم .
وبالجملة ، مقام الخفاء ومقام الظهور أكمل بالضّرورة ، فكلّ ما يقول به من الكمال له تعالي هذا القائل المتعرّف يقول به ذلك العارف الفحل ذو الرياستين الفائز بالحسنيين ولا عكس . . (1)
أقول : تكفير صاحب الأسفار إيّاهم - كما أفاده بعض الأعلام المعاصرين(2) - حقّ لا ريب فيه إلاّ أنّ ما فرّق به بين قول الشامخين وقول جهلة الصوفيّة لا يجدي في إخراج مقال الشامخين عن الفساد عقلاً وفطرة ونقلاً بالنقل المتواتر ؛ لأنّ مقال الشامخين - الّذي ارتضاه في غير موضع من كلامه - منه : ما نقلناه عنه سابقاً : من أنّ كلّ ما يقع عليه اسم الوجود بنحو من الأنحاء فليس إلاّ شأناً من شؤون الواحد القيّوم .
ومنه : أنّ جميع الموجودات عند أهل الحقيقة والحكمة المتعالية - عقلاً كان أو صورة نوعيّة - مراتب أضواء النور الحقيقيّ وتجلّيات الوجود القيّوميّ الإلهيّ .
ومنه : كلامه الآخر الّذي أنكر فيه العلّيّة والمعلوليّة في الوجود .
ومنه : قوله : بأنّ فاعليّته تعالي بالتجلّي .
ومنه : قوله : بأن ليس في الدار غيره ديّار .
ومنه : ارتضاؤه بتقوّلات ابن العربيّ في الفتوحات والفصوص ، بقوله في شأنه : أنّه لا يجازف في القول ، وغير ذلك من كلماته .
ص: 275
وبالجملة ؛ لازم ذلك المقال أنّ مراده من أضواء النور الحقيقيّ هو المراتب الضعيفة من الوجود ، وكذا المراد من الوجود الظلّي ، إذ مفروض كلامه أن لا واقعيّة لشي ء سواه ، وهذا ممّا يخالفه العقل والفطرة والنقل المتواتر معنيً ، وهو نفس ما نسبه إلي جهلة المتصوّفة وحكم عليه بأنّه كفر وزندقة .
أمّا عقلاً فلأنّه - مضافاً إلي بطلان الأدلّة الّتي استدلّوا بها علي اثبات وحدة الوجود والموجود كما بيّناه - عين التغيّر المنفيّ عقلاً عن الذات الأزلي ، كما أشار إليه صلوات اللَّه عليه بقوله : « لا يتغيّر اللَّه بانغيار المخلوق »(1) .
وعين التقسيم المنفي عنه تعالي ولو في الوهم ، كما أشير إليه في الأخبار ، ومنها : قول أميرالمؤمنين عليه السلام - في جواب الأعرابيّ الّذي سأله عن معني الواحد - : « أنّه تعالي لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم » (2) .
فهل تقسيم حقيقة الوجود إلي مقام الأحديّة والواحديّة وما دون ذلك خارج عن التقسيم ولو في الوهم ، وخارج عن قول مولانا الرضاعليه السلام : « يوحّد ولا يبعّض » .(3)
وعن قول أبي جعفر الباقرعليه السلام : « كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم ومردود إليكم » (4) ، إلي غير ذلك .
ولاستلزام القول به عبثيّة ولغويّة بعث الرّسل وإنزال الكتب والوعد والوعيد
ص: 276
وغيرها من المفاسد الّتي ذكرناها في الفصل الثالث .
ثمّ ينبغي أن نذكر هنا كلمات بعض المعتقدين بوحدة الوجود من سائر الملل والأديان والمذاهب حتّي يظهر بوضوح أنّ العرفاء والفلاسفة أخذوا الاعتقاد المذكور منهم وأقحموها في الشريعة وألبسوها لباس المذهب ولا دخل له بالشرع والمذهب .
في بعض التواريخ أنّ أوّل من نقل عنه القول بأنّ العالم جوهر واحد وهو عين الصانع هو اكسيوفان اليوناني الفيلسوف في المأة السادسة قبل ميلاد المسيح وتبعه تلميذه الحكيم برمانيدس و . .
قال برمانيدس تلميذ اكسيوفان ( ولد سنة 634 قبل الميلاد ) :
لا يعتقد العاقل إلاّ بوجود واحد الّذي هو كلّ الوجود ووجود الكلّ .(1)
وقال مؤسس العرفان في المسيحيّة فلوتين ( ولد سنة 204 ميلادي ) :
هو كلّ الأشياء ، ولكن ليس بشي ء منها . . والموجودات جميعاً فيضان وترشّح من ذلك . . (2)
وقال : لابدّ للوصول إلي هذا المطلب التجاوز من العقل والحسّ والتوسّل بالكشف والشهود . . (3)
إنّ ذات الحقّ المقدّسة تتصوّر بكلّ صورة . . (4) ويجب عليه تعالي النزول عن
ص: 277
الإطلاق والظهور في كلّ نوع من المخلوقات . . . ومن الذرّة إلي الشّمس كلّها عين ذات الحقّ .(1)
الإشراق - أحيوا مكتب الزردشت وهم الفرس قبل الإسلام .
فهذه الأقوال كانت متداولة بين البشر قبل بعثة النبي صلي الله عليه وآله وسلم فهل يمكن سكوته صلي الله عليه وآله وسلم عن بيان المعارف الإلهيّة في قبال الأقوال المختلفة البشريّة مع أنّه أشرف من بعثه اللَّه جلّ جلاله لتعليم المعارف الإلهيّة فلابدّ من إعلانه صلي الله عليه وآله وسلم - وكذا أوصيائه عليهم السلام - بضلالة المكاتب البشريّة ، فلاحظ الأخبار الواردة في ذلك كما تقدّم بعضها .
قال صاحب الأسفار - في مقام التجليل لمؤسّس مكتب الإشراق ؛ السهروردي ما هذا لفظه - : شيخ أتباع المشرقيّين ، المحيي رسوم الحكماء الفرس في قواعد النور والظلمة . . ! ! (1)
وهذا اعتراف بأنّهم تبعوا في عقائدهم الدينيّة حكماء قبل الإسلام ، كما أنّ الكشف والذوق ميراث عرفاء الفرس والزردشت ، وقد صرّح به في شرح حكمت الإشراق حيث قال : وتحرير حكمة الإشراق أي الحكمة المؤسّسة علي الإشراق الّذي هو الكشف أو حكمة المشارقة الّذين هم أهل فارس ، وهو أيضاً يرجع إلي الأوّل ؛ لأنّ حكمتهم كشفيّة ذوقيّة فنسبت إلي الإشراق - الّذي هو ظهور الأنوار العقليّة ولمعانها وفيضانها بالإشراقات علي الأنفس عند تجرّدها - وكان اعتماد الفارسيّين في الحكمة علي الذوق والكشف ، وكذا قدماء يونان خلا أرسطو وشيعته فإنّ اعتمادهم كان علي البحث والبرهان لا غير .(2)
فتري اعترافهم بأنّ العرفاء يحفظون ميراث آبائهم وأجدادهم ويأوّلون القرآن والحديث علي آرائهم وآثارهم ولا يقولون إلاّ ما قاله الفلاسفة قبل الميلاد ،
ص: 279
وقد قال اللَّه تعالي : « و إذا قيل لهم تعالوا إلي ما أنزل اللَّه وإلي الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آبائنا » .(1)
وقال سبحانه : « إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل اللَّه قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون » .(2)
ثمّ إنّ صاحب الأسفار قال : فلا جرم أبدع - جلّ شأنه - أوّلاً العقول الفعّالة والصور المكرّمة . . . ثمّ سائرها وما سواه علي الترتيب إلي أواخر تلك الطبقة وهي أرباب الأصنام ، ومثل الأنواع الطبيعيّة الّتي أثبتها أفلاطون وأفلاطونيّون ، ونحن قد أحيينا رسوم المتقدّمين في القول بهذا المذهب وتقويمه وذببنا عنه بقمع الشبه ورفع الشكوك ! (3)
وهذا أيضاً اعتراف بأنّهم أخذوا معارفهم من غير الأئمّةعليهم السلام وأصرّوا عليها ، بل هم يفتخرون بذلك ويتبجّحون ، وقد قال تعالي في ذمّهم : « إنّا وجدنا آباءنا علي أمّة وإنّا علي آثارهم مهتدون » .(4)
مع أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم قال : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها (5) ، ومن أراد العلم فليأتها من بابها » .
وعنه صلي الله عليه وآله وسلم : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، وكذب من زعم أنّه يدخل المدينة لا من قبل الباب » .(6)
ص: 280
وعن أميرالمؤمنين عليه السلام : « نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب ولا تؤتي البيوت إلاّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير بابها سمّي سارقاً » .(1)
وعن الإمام الهادي عليه السلام : « من أراد اللَّه بدء بكم ، ومن وحّده قبل عنكم ، ومن قصده توجّه بكم . . » (2)
وعنه عليه السلام : « من أتاكم نجي ومن لم يأتكم هلك » .(3)
و وردعنهم عليهم السلام : « من يحكم بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت » (4) .
و ورد أيضاً : « لا تقولوا ما لا نقول » (5) .
وقد اعترف أيضاً بعض المعاصرين المعتقدين لهذا المسلك بقوله : وفي هذا البرهة من الزمن نقلت علوم الأوائل من المنطق والرياضيّات والطبيعيات والإلهيّات والطبّ والحكمة العمليّة إلي العربيّة ، نقل شطر منها في عهد الأمويّين ثمّ أكمل في أوائل عهد العبّاسيّين ، فقد ترجموا مئات من الكتب من اليونانيّة والروميّة والهنديّة والفارسيّة والسريانيّة إلي العربيّة .(6)
ص: 281
أقول : وليس إيراد الفلسفة من اليونان وترجمتها ونشرها إلي الممالك الإسلاميّ في زمان الأمويّين والعبّاسيّين إلاّ لأجل معارضة الأئمّةعليهم السلام وإطفاء نور اللَّه بأفواههم - « واللَّه متمّ نوره ولو كره الكافرون »(1) - واستغناء الناس عن أهل بيت الرسالةعليهم السلام ، وطلب الهداية والعلم والدين عن غيرهم عليهم السلام .
ومن كان عارفاً بسياسة الخلفاء - كما قيل - يظهر له كالشمس في رابعة النهار أنّ العلّة في ترجمة الفلسفة اليونانيّة وترويج مذهب الصوفيّة والعرفان - المأخوذين من اليونان - ما كانت إلاّ السياسة لمغالبة علوم أهل البيت عليهم السلام ، وإغناء الناس عنهم(2) . . ! بعد ما فتحوا باب التكلّم في جميع الأبواب قبل الترجمة وقد ظفروا
ص: 282
ص: 283
بمقصدهم بعد أخذ النتيجة ، وغلبوا عليها كما غلبوا عليهم من حيث السلطنة الظاهريّة ، فإنّ المسلمين اشتغلوا بالعلوم البحثيّة النظريّة ، وبعد ترجمة الفلسفة استغنوا بها عن علوم آل محمّد صلوات اللَّه وسلامه عليهم حتّي آل الأمر إلي البحث والاحتجاج معهم كما يظهر من تاريخ ثامن الحجج عليهم السلام ، بل انتهي الأمر إلي أن صغرت علومهم في أنظار تابعيهم فأوّلوا كلماتهم علي العلوم البشريّة اليونانيّة ، وزعموا أنّ فهم مرادات الأئمّة متوقّف علي تعلّم العلوم اليونانيّة ، هيهات . . هيهات ، وليس هذا إلاّ سوء الظنّ بالدين وصاحبه !! كيف يعقل أنّ صاحب الشريعة أحال الأمّة في تكميل دينهم إلي من يعلم العرفان والفلسفة اليونانيّة .
وقد قال تعالي في القرآن الكريم : «اتبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتبعوا
ص: 284
من دونه أولياء قليلاً ما تذكّرون» .(1)
وقال : «أنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم» .(2)
وقال : «كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلي النور بإذن ربّهم إلي صراط العزيز الحميد» .(3)
وقال : «ما أنزلنا عليك الكتاب إلاّ لتبيّن لهم الّذي اختلفوا فيه» .(4)
وقال : «هو الّذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحقّ » .(5)
وقال : «كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون» .(6)
وقال : «فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» .(7)
وقال : «من لم يحكم بما أنزل اللَّه فأولئك هم الكافرون» (8) .
وقال : «لا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين» (9) .
وقال : «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» (10) .
ص: 285
وقال : «ومن أصدق من اللَّه قيلاً» (1) .
وقد ورد في الأخبار : « من التمس الهدي في غيره - أي القرآن - أضلّه اللَّه » (2) .
و : «كذب من زعم أنه يعرفنا وهو متمسك بعروة غيرنا » (3) .
و : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي اهل بيتي وانهما لن يفترقا » (4) .
و : « واللَّه ما جعل اللَّه لأحد خيرة في اتباع غيرنا » (5) .
وغيرها كثير .
ومع هذه الحجج الواضحة الآمرة باتباع القرآن والعترة يظهر لك أنه لاصلة لهذه العقائد الفلسفيّة بالإسلام والإيمان ، واتّباع هؤلاء والتمسك بقولهم هو المصداق الأتم والأكمل لقوله عليه السلام : « من أتاها من غير بابها سمّي سارقاً ! » ، وقوله عليه السلام : « من لم يأتكم هلك » وقوله عليه السلام : « ويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلي ما يريدون » .
وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : « ترد علي أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيه برأيه ، ثم ترد تلك القضية بعينها علي غيره فيحكم فيه بخلافه ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الّذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا ، وإلههم
ص: 286
واحد ونبيّهم واحد وكتابهم واحد ، أفأمرهم اللَّه تعالي بالاختلاف فأطاعوه ؟ أم نهاهم عنه فعصوه ؟ أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم علي إتمامه ؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يَرْضي ؟ أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول صلي الله عليه وآله عن تبليغه وأدائه ؟ واللَّه سبحانه يقول : « ما فرّطنا في الكتاب من شي ء »(1) وفيه تبيان كلّ شي ء ، وذكر أنّ الكتاب يُصدّق بعضه بعضاً وأنّه لا اختلاف فيه ، فقال سبحانه : « ولو كان من عند غير اللَّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً »(2) وإنّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق لا تفني عجائبه، ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلاّ به » .(3)
أقول : هذا الحديث تشنيع علي من يحكم برأيه وعقله من غير رجوع إلي الكتاب والسنة والأئمّةالهدي عليهم السلام وكم له نظير من كلماتهم سلام اللَّه وصلواته عليهم .
وقال أيضاً : « فبعث محمّداًصلي الله عليه وآله بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلي عبادته ومن طاعة الشيطان إلي طاعته بقرآن قد بيّنه وأحكمه ليعلم العباد ربّهم اذ جهلوه » (4) .
فظهر من ذلك : أنّه لابدّ من الرجوع إلي القرآن ، ومفسّره الحقيقي الّذي هم العترة الطاهرة والتمسك بقولهما والإعراض عن غيرهما ، ولو كان في الرجوع إلي الفلاسفة و . . مصلحة وهداية فلِمَ حصرت الهداية في اتباعهما ؟ ! وقد ورد في أخبار كثيرة : « إنّ دين اللَّه لايصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة ، والمقاييس
ص: 287
الفاسدة ، ولايصاب إلاّ بالتسليم ، فمن سلم لنا سلم ومن اقتدي بنا هدي . . » (1) .
قال ابن العربي : فإذا شَهدْناه شهدنا نفوسنا ، - لأنّ ذواتنا عين ذاته لا مغايرة بينهما الّا بالتعيّن والإطلاق - واذا شَهدَنا . . أي الحق شَهدَ نفسه . . أي ذاته الّتي تعيّنت وظهرت في صورتنا (2) .
وفي الفصوص وشرحه : إنّ الذات الإلهية هي الّتي تظهر بصور العالم ، وإنّ أصل تلك الحقائق وصورتها تلك الذات وأنّها هي الّتي ظهرت في الصورة الجوهريّة المطلقة . . . (3) بل هو عينها لا غيرها - أعني أعيان الموجودات العينيّة - ؛ لأنّ الحقيقة الواحدة الّتي هي حقيقة الحقائق كلّها هي الذّات الإلهيّة وباعتبار تعيّناتها وتجلّياتها في مراتبها المتكثّرة تتكثّر وتصير حقائق مختلفة جوهريّة متبوعة وعرضية تابعة .(4)
وقال ابن العربي في الفصّ الهاروني : والعارف المكمّل مَن رأي كلّ معبودٍ مَجليً للحقّ يعبد فيه ، ولذلك سمّوه كلّهم إلهاً مع إسمه الخاصّ بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك .(5)
وقال : « أفرأيت مَن اتّخذ إلهه هواه »(6) وهو أعظم معبود .(7)
ص: 288
وقد تحصّل من ذلك : أنّ العارف يعتقد بأنّ كلّ معبود هو الحقّ ، وعبدة الأوثان والأصنام وكذلك العابدون للشمس والقمر والشجر و . . كلّهم عابدون للَّه تعالي .
أقول : كيف يسوغ عبادة اللاّت والعزّي بزعم أن عبادتهما عين عبادة العليّ الأعلي ، وأن الحقّ تعالي تجلّي فيهما وليس هذا إلاّ الافتراء ، وقد نطق الكتاب المبين علي رغم ابن العربي ماحي الدين ومن حذا حذوه من أتباعه القائلين بوحدة الوجود وبأنّ عبادته يحصل بعبادة كلّ معبود ، فقال : «بسم اللَّه الرحمن الرحيم ، قل يا أيّها الكافرون ، لاأعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابدٌ ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبُدْ ، لكم دينكم ولي دين» .(1)
وقال : « قل إني نُهيتُ أن أعبد الّذين تدعون من دون اللَّه » .(2)
وقال : « إنّكم وما تعبدون من دون اللَّه حَصَب جهنّم أنتم لها وارِدون » .(3)
وقال : « إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الّذين تعبدون من دون اللَّه» .(4)
وقال : « أُفّ لكم ولما تعبدون من دون اللَّه أفلا تعقلون » .(5)
ص: 289
وقال : « أتعبدون ماتنحتون » .(1)
وقال : « ما أُمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً» .(2)
أَ بقِيَ بعد هذا التفكيك الصريح والبيان الفصيح ريب في بطلان القول بوحدة الوجود وأنّ عبادته سبحانه وتعالي تحصل بعبادة كلّ معبود . . تعالي اللَّه المعبود الحقّ المبين وتنزّه عن مجانسة المخلوقين .
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : « . . فاستقبح مقالتهم كلّ الفرق ولعنهم كلّ الأُمم ، فلمّا سُئلوا الحجّة زاغوا وحادّوا ، فكذّب مقالتهم التوراة ولعنهم الفرقان ، وزعموا مع ذلك أن إلههم ينتقل من قالب إلي قالب وأنّ الأرواح الأزلية هي الّتي كانت في آدم ثمّ هلُمّ جرّاً تجري إلي يومنا هذا في واحد بعد آخر ، فإذا كان الخالق في صورة المخلوق فبما يستدلّ علي أنّ احدهما خالق صاحبه . . . فطوراً تخالُهُم نصاري في أشياء وطوراً دهريّة ، يقولون : إنّ الأشياء علي غير الحقيقة » .(3)
وعن أبي الحسن الرضاعليه السلام : « ويحك كيف تجتري ء أن تصف ربّك بالتغيّر من حال إلي حال وأنّه يجري عليه ما يجري علي المخلوقين ؟ ! » .(4)
وعن مولانا الصادق عليه السلام : «مَنْ زعم أنّ اللَّه عزّ وجل في شي ء أو من شي ء أو علي شي ء فقد أشرك » .(5)
عن مولانا الرضاعليه السلام : « من وصف اللَّه بوجه كالوجوه فقد كفر » .(6)
ص: 290
فلاحظ ما مّر في الفصل الثالث في الرّد علي هذا الاعتقاد حتّي يزيدك معرفة بضلالتهم ، وهذا نتيجة كلّ من دان اللَّه بالرّأي واتّبع هواه في معرفة اللَّه ودينه ، وحام حول كنهه سبحانه .
وقد قال مولانا أبو جعفر عليه السلام : « من دان اللَّه بغير سماع عن صادق ألزمه اللَّه التّيه إلي يوم القيامه » .(1)
وقال عليه السلام في تفسير قوله سبحانه : « ومن أضلّ ممّن اتّبع هواه بغير هدي من اللَّه »(2) : « من اتّخذ دينه رأيه من غير إمام من أئمّة الهدي » .(3)
وروي الكلينيّ رحمه الله بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال : قال أبو عبداللَّه عليه السلام : « إيّاك والرياسة . . وإيّاك أن تطأ أعقاب الرّجال » قلت : جعلت فداك أمّا الرياسة فقد عرفتها ، وأمّا أن أطأ أعقاب الرجال فما ثلثا ما في يدي إلّا ممّا وطئت أعقاب الرجال ، فقال عليه السلام لي : « ليس حيث تذهب ، إيّاك أن تنصب رجلاً دون الحجّة فتصدّقه في كلّ ما قال » .(4)
ولاحظ أيضاً ما ورد في تفسير قوله تعالي : « اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللَّه »(5) حتّي تعرف أن سلوك طريق الهداية ليس إلاّ بالتمسّك بأذيال محمّد وآل محمّدعليهم السلام(6) الّذين هم معصومون مطهّرون لا يأمرون بمعصية .(7)
قال ابن العربي في الفصّ اليعقوبيّ : إنّ الممكنات علي أصلها من العدم ، وليس وجود إلاّ وجود الحقّ بصور أحوال ما هي عليه الممكنات في أنفسها وأعينها ، فقد علمت من يلتذّ ومن يتالّم .
وقال القيصريّ في شرحه : ليس وجود في الخارج إلاّ وجود الحقّ متلبّساً بصور أحوال الممكنات ، فلا تلتذّ بتجلّياته إلاّ الحقّ ، ولا يتالّم منها سواه .(8)
ص: 291
قال ابن العربي : كلّ ما تدركه فهو وجود الحقّ في أعيان الممكنات . . . فالعالم متوهّم ما له وجود حقيقي ، وهذا معني الخيال .(1)
وقال : ما عبد غير اللَّه في كلّ معبود إذ لاغير في الوجود .(2)
وقال القيصريّ في شرح كلامه : إنّ لكلّ شي ء جماداً كان أو حيواناً ، حياةً وعلماً ونطقاً وإرادةً و . . غيرها ممّا يلزم الذات الإلهيّة ؛ لأنّها هي الظاهر بصور الحمار والحيوان .(3)
قال ابن العربي : إنّ هويّة الحقّ هي الّتي تعيّنت وظهرت بالصورة العيسويّة كما ظهرت بصورة العالم كلّه . . ! (4)
وقال القيصريّ : هو الّذي يظهر بصور البسائط ثمّ بصور المركّبات ؛ فيظنّ
ص: 292
المحجوب أنّها مغايرة بحقائقها وما يعلم أنّها أُمور متوهّمة ولا موجود إلاّ هو .(1)
وقال القيصريّ : نفس العارف ليست مغايرة لهويّة الحقّ ولا شي ء من الموجودات أيضاً مغاير لها ؛ لأنّ الهويّة الإلهيّة هي الّتي ظهرت في هذه الصور كلّها ، فهو العارف والعالم والمقرّ في صور أهل العلم والعرفان والإيمان .(2)
وقال ابن العربي : فإنّ الوجود منه أزليّ ومنه غير أزلي وهو الحادث ، فالأزليّ وجود الحقّ لنفسه ، وغير الأزليّ وجود الحقّ بصور العالم الثابت ، فيسمّي حدوثاً ؛ لأنّه يظهر بعضه لبعضه ، وظهر لنفسه بصور العالم فكمل الوجود وكانت حركة العالم حبيّة للكمال .(3)
وقال القيصريّ : فالحقّ هو المسمّي باسم المحدثات بحسب تنزّلاته في منازل الأكوان .(4)
وقال أيضاً : فالعالم باللَّه ومظاهره يعلم أنّ المعبود هو الحقّ في أيّ صورة كانت سواء كانت حسيّة كالأصنام ، أو خياليّة كالجنّ ، أو عقليّة كالملائكة .(5)
ص: 293
ص: 294
قال ابن العربي والقيصريّ في الفصّ الهاروني - بعد ما ذكرا غضب موسي عليه السلام علي أخيه هارون لمّا شاهد من قومه عبادة العجل - : قال هارون لموسي : إني خشيت أن تقول : فرّقت بين بني إسرائيل فتجعلني سبباً في تفريقهم ، فإنّ عبادة العجل فرّقت بينهم ، فكان منهم من عبده اتّباعاً للسامري وتقليداً له ، ومنهم من توقّف عن عبادته حتّي يرجع إليهم موسي فيسألونه في ذلك ، فخشي هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه ، وكان موسي أعلم بالأمر من هارون ؛ لأنّه علم ما عبده أصحاب العجل .
قال القيصريّ في شرحه : . . أي علم موسي ما الّذي عبده أصحاب العجل في الحقيقة ؛ لعلمه بأنّ اللَّه قضي ألاّ يعبد إلاّ إيّاه كما قال تعالي : «وقضي ربّك ألّا
ص: 295
تعبدوا إلّا إيّاه»(1) ، وما حكم اللَّه بشي ء إلاّ وقع ، فكان عتب موسي أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتّساعه . أي كان عتب موسي أخاه هارون لأجل إنكاره عبادة العجل وعدم اتّساع قلبه لذلك .
فإنّ العارف من يري الحقّ في كلّ شي ء بل يراه عين كلّ شي ء ، فكان موسي يربّي هارون تربية علم . . ! ! (2)
إلي أن قال ابن العربي : فكان عدم قوّة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط علي العجل كما سلّط عليه موسي حكمة من اللَّه ظاهرة في الوجود ليعبد في كلّ صورة وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك ، فما ذهبت إلاّ بعد ما تلبّست عند عابدها بالأُلوهيّة .
ولهذا - أي ولأجل أنّه أراد أن يعبد في كلّ صورة - ما بقي نوع من الأنواع إلاّ وعبد إمّا عبادة تألّه وإمّا عبادة تسخير ، فلابدّ من ذلك لمن عقل .
أمّا العبادة بالإلهيّة فكعبادة الأصنام وغير ذلك من الشمس والقمر والكواكب والعجل .
وأمّا العبادة بالتسخير فكما يعبدون الأموال وأصحاب الجاه والمناصب . .(3)
إلي أن قال : والعارف المكمّل من رأي كلّ معبود مجلي للحقّ يعبد فيه . . إلي آخر كلامه .(4)
ومحصّل كلامهما : أنّ الأصنام جميعاً مجالي الحقّ ومظاهره بل هي عين الحقّ ، بل الأشياء جميعاً مظاهره ومجاليه ، وعبدة الأوثان والأصنام وكذلك العابدون
ص: 296
للشمس والقمر والكواكب والشجر والحجر والنار والعجل وكذلك عبادة المدّعين للأُلوهيّة من فرعون وشدّاد ومثلهم المنقادين للجبابرة وساير الظلمة من أرباب الجاه والمناصب المسلّطين علي الرعيّة كلّهم جميعاً عابدون للَّه تعالي ؛ لأن هذه المعبودات كلّها هو الحقّ ظهر في هذه المظاهر وتصوّر بهذه الصور المختلفة ، فهي علي كثرتها ليست في الحقيقة إلاّ واحداً !
ومنع الأنبياء والأولياء من عبادة الأصنام لم يكن من حيث إنّها عبادة باطلة مبغوضة للَّه تعالي ، بل من أجل حصر العابد للصنم أو الشجر أو الحجر مثلاً عبادته في هذا المعبود الخاصّ ، فبعث اللَّه الأنبياء ليرشدوا أُمّتهم ويعلّموهم أنّ اللَّه شاء وقضي أن يعبد في كلّ صورة ومجلي ، وأنّ المجالي كلّها إله ، فليس لكم أن تقصروا عبادتكم بمعبود خاصّ وتخصّصوه به وتتّخذوه إلهاً دون غيره .
وكان غضب موسي علي هارون من هذا الباب ، فإنّه عليه السلام لمّا كان أعلم منه وكان يعلم أنّ اللَّه شاء أن يعبد في كلّ صورة حتّي في صورة العجل ، وما شاءه وقضاه عزّوجلّ لابدّ من وقوعه لا محالة ، وكان هارون لا يعلم ذلك ولذلك أنكر علي قومه عبادته ، فعتب موسي عليه السلام لأجله ، ونبّهه علي عدم اتّساع قلبه وعلي غفلته وذهوله عن حقيقة الأمر .
والحاصل أنّ الأنبياء إنّما بعثوا ليأمروا أُمّتهم بعبادة كلّ شي ء من صنم أو غيره ، وليردعوهم عن قصر عبادتهم بشي ء مخصوص معيّن فقط .(1)
قال ابن العربي والشارح القيصريّ في الفصّ النوحي ما حاصل كلامهما : إنّ قوم نوح في عبادتهم للأصنام كانوا محقّين ؛ لكونها مظاهر الحقّ كما أنّ العابدين لها
ص: 297
كذلك ؛ لأنّهم أيضاً كانوا مظهر الحقّ وكان الحقّ معهم بل هو عينهم ، وكان نوح أيضاً يعلم أنهم علي الحقّ إلّا أنّه أراد علي وجه المكر والخديعة [ ! ] أن يصرفهم عن عبادتها إلي عبادته ، وإنّما كان هذا مكراً منه عليه السلام ؛ لأنّه كان يقول لهم ما لم يكن معتقداً به ، ويموّه خلاف ما أضمره واعتقده ؛ إذ كان عالماً وعلي بصيرة من ربّه بأنّ الأصنام مظاهر الحق وعبادتها عبادته ، إلاّ أنّه عليه السلام أراد أن يخلّصهم من القيود حتي لا يقصروا عبادتهم فيها فقط بل يعبدوه في كلّ معني وصورة .
ولمّا شاهد القوم منه ذلك المكر أنكروا عليه وأجابوه بما هو أعظم مكراً وأكبر من مكره [ ! ] فقالوا : لا تتركوا آلهتكم إلي غيرها ؛ لأنّ في تركها ترك عبادة الحق بقدر ما ظهر فيها ، وقصر عبادته في سائر المجالي وهو جهل وغفلة ؛ لانّ للحق في كلّ معبود وجهاً يعرفها العارفون سواء أكان ذلك المعبود في صورة صنم أو حجر أو بقر أو جنّ أو ملك أو غيرها .(1)
قال العلاّمة الخوئي رحمه الله بعد هذا الكلام : هذا محصّل كلام هذين الرجسين النجسين النحسين ، وكم لهما في الكتاب المذكور من هذا النمط والأُسلوب ، فلينظر المؤمن الكيّس البصر إلي أنّهما كيف موّها الباطل بصورة الحقّ ، وأوّلا كلام اللَّه تعالي بآرائهم الفاسدة وأحلامهم الكاسدة علي طبق عقائدهم الباطلة ، وقد قال النبي المختارصلي الله عليه وآله وسلم : « من فسّر القرآن برأيه فليتبوّء مقعده من النار » .
ولعمري إنّهما ومن حذا حذوهما حزب الشيطان وأولياء عبدة الطاغوت والأوثان ، ولم يكن غرضهما إلاّ تكذيب الأنبياء والرسل وما جاؤوا به من البيّنات والبرهان وهدم أساس الإسلام والإيمان وإبطال جميع الشرايع والأديان ، وترويج عبادة الأصنام ، وجعل كلمة الكفر العليا ، وخفض كلمة الرحمن .
ص: 298
أُقسم باللَّه الكريم - وإنّه لقسم لو تعلمون عظيم - أنّهم المصداق الحقيقي لقول أمير المؤمنين عليه السلام : « اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً ، واتّخذهم له أشراكاً ، فباض وفرخ في صدورهم ، ودبّ ودرج في حجورهم ، فنظر بأعينهم ، ونطق بألسنتهم فركب بهم الذّلل ، وزيّن لهم الخطل ، فعل من شرّكه الشيطان في سلطانه ، ونطق بالباطل علي لسانه » .
ومع ذلك فالعجب كلّ العجب أنّهم يزعمون أنّهم الموحّدون العارفون الكملون وأنّ غيرهم لمحجوبون وبالحقّ جاهلون ، بل يترقّي بعضهم ويدّعي الولاية والقطبية ، ويطغي آخرون فيدّعون لأنفسهم الأُلوهية والربوبيّة ، ويزعمون أنّ ربّهم تجلّي فيهم وظهر في صورهم المنحوسة .
فيقول ابن عربي في فتوحاته : إنّ اللَّه تجلّي لي مراراً وقال : انصح عبادي !
ويقول البسطامي : سبحاني وما أعظم شأني ، ولا إله إلّا أنا !
ويقول الحلاّج : ليس في جبّتي سوي اللَّه !
ويقول : أنا الحقّ ، وأنا اللَّه !
وبعضهم يبلغ الغاية ويجاوز النهاية فيقول ويهجر ، ويتكلّم تكلّم المجنون الّذي لايشعر ، فيخاطب الرّب عزّوجلّ - والعياذ باللَّه - مخاطبة الموالي للعبيد ، وهو قطبهم أبو يزيد .
فقد نقل عنه القيصريّ في شرح الفصّ النوحي أنّه قال - في مناجاته عند تجلّي الحقّ له - : ملكي أعظم من ملكك ؛ لكونك لي وأنا لك ، فأنا ملكك وأنت ملكي [ ! ]وأنت العظيم الأعظم ، وملكي أنت ، فأنت أعظم من ملكك وهو أنا .
فلينظر العاقل إلي مهملات هذا الجاهل ، ثمّ لينظر إلي سوء أدبه وقبح خطابه ومناجاته حيث لم يرفع يده عن الأنانيّة فعبّر بلفظ أنا وأنت غير مرّة في مثل هذا
ص: 299
المقام الّذي هو مقام الفناء والتجلّي - علي زعمهم - ، وكيف يجتمع ذلك مع قولهم السائر :
بيني وبينك إنني ينازعني
فارفع بلطفك انني من البين
وإنّما أطنبنا الكلام في المقام تنبيهاً علي ضلالة هذه الجهلة الذين زعموا أنهم من أهل الكشف والشهود واليقين والموحّدين المخلصين ؛ مع أنّهم من الضالّين المكذّبين للأنبياء والمرسلين ، وتعالي اللَّه عمّا يقول الظالمون والملحدون علوّاً كبيراً .(1) انتهي كلامه رفع مقامه .
أقول : لقد أفاد وأجاد بما هو الحق والصواب .
قال أبوحامد محمّد الغزالي : . . ولم يكن علمه بالعالم إلاّ علمه بنفسه ؛ اذ لم يكن في الوجود إلاّ هو . . . وأنّ كلّ ما يتصوّر المتصوّر فهو عينه لا غيره .(2)
قال ملاّ صدرا : فكلّ من أدرك شيئاً من الأشياء بأيّ إدراك كان فقد أدرك الباري ! (3)
وقال : كلّ ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات .(4)
أقول : وقد مرّ شطر من كلامه فلاحظ .
وقد أصرّ صاحب الأسفار علي هذه العقيدة أي وحدة الوجود وقال : الفصل ( 12 ) في أن واجب الوجود تمام الأشياء وكلّ الموجودات(5) ، ثمّ اشترط فهمه
ص: 300
وتصديقه بالعلم اللّدنّي وادّعي كونه من الغوامض - حيث قال : هذا من الغوامض الإلهيّة الّتي يستصعب إدراكه إلاّ علي من آتاه اللَّه من لدنه علماً وحكمة - حتّي لا يجتري ء أحد علي تكذيبه وردّه ، وهذا من حيله وتلبيساته في ادعائه حيث يسوّل علي مثال الحقّ بدعة وضلالاً .
وقال أيضاً : ذهبت طائفة أُخري - وهم الراسخون في العلم وأهل اللَّه خاصّة - إلي أنّ الموجودات علي تباينها في الذوات والصفات والأفعال وترتّبها في القرب والبعد من الحقّ الأوّل والذات الأحديّة يجمعها حقيقة واحدة إلهيّة جامعة لجميع حقائقها وطبقاتها . . . وهذا المطلب الشريف الغامض اللطيف ممّا وجدوه وحصّلوه بالكشف والشهود عقيب رياضاتهم وخلواتهم ، وهو ممّا أقمنا عليه البرهان مطابقاً للكشف والوجدان ، فإذاً كما أنّه ليس في الوجود شأن إلاّ وهو شأنه كذلك ليس في الوجود فعل الّا وهو فعله .(1)
أقول : يا أخي ! إنّك تري أنّ صاحب الأسفار مع تصريحه بوحدة الوجود والتوحيد الأفعاليّ - أي إنّ اللَّه تعالي فاعل أفعال العباد - يعتقد بأنّ العرفاء القائلين بوحدة المذكورة هم الراسخون في العلم ، كما اشترط فهمه وتصديقه بالعلم اللّدني وبعد ملاحظة الآيات والأخبار تفهم أنّه كذب وإضلال للناس وبدعة بلا ريب .
قال اللَّه تعالي : « وما يعلم تأويله إلّا اللَّه والراسخون في العلم»(2)
وعن مولانا الإمام الصادق عليه السلام : « نحن الراسخون في العلم ، ونحن نعلم تأويله » .(3)
ص: 301
وعن مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام : « أين الّذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا . . . بنا يُستعطي الهدي ويُستجلي العمي » .(1)
والأخبار في هذا المعني كثيرة فلاحظ مظانّه(2) ، ولا قدح عندهم في مخالفة مكاشفاتهم للقرآن والعترة ، وسيأتي عن قريب الجواب عن هذه الخرافات .
والحاصل : أنّ هؤلاء العرفاء - كابن العربي ومن حذا حذوه من تلامذته ومتابعيه - يقولون : إنّه سبحانه وجود صرف ومطلق بالتعيّن والتشكلّ يخرج عن الإطلاق ، ففي النتيجة : المخلوق هو الخالق نفسه لا غير ، ولا اختلاف بينه وبين الخالق تعالي إلاّ بالإطلاق والتقييد .
وبعبارة أُخري : الوجود إذا اعتبر لا بشرط التعيّن وعدم التعيّن يكون حقيقة الواجب ، وإذا اعتبر بشرط التعيّن بالماهيّة يكون عين حقيقة الممكنات ، فيكون حقيقة كلّ ممكن هو الوجود المتعيّن بالماهيّة ، فإذا لم يعتبر فيه التعيّن كان عين حقيقة الواجب ،«سبحانه وتعالي عمّا يشركون» (3) .
أقول : فهذا المعني الّذي ذكره العرفاء من التوحيد حاصل لليهود والنصاري والمجوس بل لعبدة الأصنام ، وعليه حصل الصلح والاتّحاد بين القائلين بالثنويّة والتثليث وعبادة الأصنام وتوحيد الإسلام وغيرهم(4) كما قاله المولوي :
ص: 302
ص: 303
ص: 304
چون كه بي رنگي اسير رنگ شد
موسي با موسي در جنگ شد
چون كه اين رنگ از ميان برداشتي
موسي وفرعون كردند آشتي(1)
فحقيقة الوجود عندهم هو اللَّه تعالي ، وهو الخلق ، وهو أشرف المخلوقات ، وهو أخسّ الموجودات حتّي الكلب والخنزير و . . والمتبادر من دعوة القرآن والأنبياء هو البينونة الذاتيّة الحقيقيّة بين الخالق تعالي والمخلوق وبين الأصنام والمسيح عليه السلام وبينه سبحانه ، وواقعيّة وجودهما في الخارج .
ولا تكون بينونته - جلّ وعزّ - للأشياء بينونة ذي ظلّ وظلّ ، واستفادة عدم تناهي الذات - علي نحو يشمل الكلّ ، وله إحاطة وجوديّة علي جميع ما سواه بحيث يشمل بوجوده جميع الأشياء - مخالف لتوحيد خالق الكائنات وتوحيد الأنبياء الّذي يبتني علي الفصل الذاتيّ بينهما بمعني أن وجود الخالق مباين ومغاير لوجود خلقه .
ولازم قول الفلاسفة - بالتشكيك في الوجود بين الخالق والمخلوق أو القول
ص: 305
بالتجلّي والتشؤّن والتطوّر بصور المخلوقات والموجودات الّذي يقوله العرفاء - هو الاشتراك في الوجود بين الخالق والمخلوق ، وكونهما من جنس واحد وسنخ فارد ، بل وحدة وجودهما كما يتبجّحون به وينادون بأعلي صوتهم : ليس في الدار غيره ديار .
حتّي تمادي بعضهم حيث جعلها - أي وحدة الوجود - أصل التوحيد حتّي قالوا بأنّ من لم يكن معتقداً بها لم يكن موحّداً حقّاً .(1)
فانظر أيّها العاقل إلي هؤلاء وعقائدهم في اللَّه ، ما الفرق بين العارف المبغض لآل الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليهم والعارف المحبّ لهم في هذه العقيدة الّتي يستنكف منها الملّيون بل ما الفرق بينهم وبين المادّيّين الّذين يقولون بأنّ الأصل في العالم هو المادّة وهي الّتي تتشكّل بأشكال مختلفة وتتصوّر بصور متعدّدة من سماء
ص: 306
وأرض وحجر وشجر و . . فإنّ هؤلاء أيضاً يقولون : إنّ الأصل في العالم هو الوجود وهو الّذي يتشكّل بأشكال ويتصوّر بصور الممكنات والموجودات ، وليس بينهما فرق إلّا أنّ المادّيين لا يعتقدون بالشعور والحياة للمادّة بخلافهم ؛ فإنّهم يقولون بهما للوجود وإن كان لا أثر لهما كما مرّ من قواعد وحدة الوجود .
فالقول بوحدة الوجود يتّفق مع المذهب المادّي القائل بأنّ مرجع كلّ شي ء إلي المادّة وأنّها توصف بجميع صفات اللَّه من الأبدية والأزليّة والقدرة . .
فتحصل ممّا سبق أنّ نظريّة وحدة الوجود - الّتي تعتبر أهمّ عنصر وأقوي أساس يستند إليه التفكير العرفاني والفلسفي - تنبع من عرفان الهند والفارس . . المشرك الملحد . .
والمقصود من هذه التطويلات أنّه ينفتح من هذا القول ألف باب من أقوال الشرك بل المساواة بين الكفر والإيمان تبتني علي وحدة الوجود ، فكلّ من قال بوحدة الوجود لا يري فرقاً بين الأديان ، ولا بينهما وبين الإلحاد كما هو واضح .
وقد قال تعالي : « ومن الناس من يجادل في اللَّه بغير علم ويتّبع كلّ شيطان مريد »(1) ، وقال : « ومن الناس من يجادل في اللَّه بغير علم ولا هديً ولا كتاب منير »(2) .
وورد عنهم عليهم السلام : « من طلب الهداية بغير القرآن ضلّ »(3) .
وأيضاً : « من ابتغي العلم في غيره أضلّه اللَّه » .(4)
ص: 307
ونقول كما قال سبحانه : «بسم اللَّه الرحمن الرحيم ، قل هو اللَّه أحد ، اللَّه الصمد ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد » .(1)
هذه الآيات وغيرها - وما أكثرها - تدلّ علي بطلان قول العرفاء والفلاسفة من صدور الأشياء عن ذاته تعالي ، بل عينيّتها معه سبحانه ، وتصوّره بصور الممكنات والمخلوقات ، وتدلّ علي بطلان قولهم بحقيقة الوجود الذي هو الأصل والمولّدة لهذه المخلوقات .(2)
نعم توجّه الإنسان إلي اللَّه تعالي وقطع نظره عن جميع ما سوي اللَّه بحيث لا يلتفت إلي نفسه وتكون أوقاته مستغرقة بذكر اللَّه تعالي وقلبه مشغولة به وخاطره متعلّقاً بالملأ الأعلي وكان متوجّهاً إليه سبحانه ومقبلاً بكلّيّته عليه فهو مستحسن بل كمال للعبودية .(3)
ص: 308
وفرق بين القول بأنّي ما رأيت غيره تعالي ؛ لأنّ كلّ ما رأيت هو اللَّه تعالي ، والقول بأنّي ما رأيت غيره تعالي لا لأنّ غيره سبحانه هو اللَّه تعالي ، بل لأنّ الاشتغال به عزّ وجلّ منعني عن الاشتغال والالتفات والتوجّه إلي غيره مع وجوده وتحقّقه ، وعدم رؤية الغير بهذا المعني لا ينافي التحقّق الخارجي الواقعي بخلافه في الأوّل ؛ لأنّ معناه أنّ كلّ الأشياء هو اللَّه سبحانه ، وهو كلّ الأشياء ، وليس في الدّار غيره ديّار ، والوجود واحد شخصيّ أو سنخيّ ذو مراتب . . ، إلي غير ذلك من عباراتهم .
وهذا باطل وفاسد ومخالف لدعوة الأنبياء والرسل ، وهو المقصود بالبحث ومراد الخصم هنا .
والحاصل : لابدّ من التوجّه والتذكّر إلي أنّه ليس مراد القائلين بالوحدة المذكورة هو غاية التوجّه والالتفات والتذكّر له تعالي ، كما توهّم بعض حيث قال :
ص: 309
الذاكر للَّه تعالي يحبّه حبّاً شديداً ويغفل عن جميع ما سواه حتّي عن نفسه ، والواصل إلي هذا المقام لا يري في الوجود إلّا هو ، وهذا معني وحدة الوجود !
أقول : إنّما أطنبنا في هذه المقدّمة تنبيهاً علي بيان سخف أقوالهم وانحراف عقائدهم والتزامهم لما ثبت بطلانه وفساده بالكتاب والسنة .
وفتح باب التأويل في كلماتهم - كما قيل - أوّل مراتب الإلحاد وبدء الضلال عن السداد ، إذ بانفتاح تلك الأبواب وقبول الاحتمالات السخيفة في التكلّم والخطاب ومقام السؤال والجواب ينهدم أساس الدين وتنثلم أحكام الشرع المبين ، وتبطل إقامة التعزيرات والحدود علي المستحقّين لها من أهل الفسق والارتداد والجحود ، كما يبطل تكفير المتشرّعين لسائر الكفّار إذ تكلّموا بكلمات الكفر ثمّ اعتذروا بعدم الاختيار أو ادّعوا الحذف والإضمار ، وظاهر أنّ بناء علماء الإسلام - بل سائر المليّين - علي خلاف ذلك في جميع الأعصار ، فإنّهم لا يقبلون تأويلاً من غير دليل ، وقد ورد النهي الصريح من الأئمّة عليهم السلام في ارتكاب التأويل كما مرّ عن البزنطيّ عن مولانا الصادق عليه السلام : « إنّهم - أي الصوفيّة - أعداؤنا ، فمن مال إليهم فهو منهم ويحشر معهم ، وسيكون أقوام يدّعون حبّنا ويميلون إليهم ويتشبّهون بهم ويلقّبون أنفسهم بلقبهم ويأوّلون أقوالهم ، ألا فمن مال إليهم فليس منّا وإنّا منه براء ، ومن أنكرهم وردّ عليهم كان كمن جاهد الكفّار بين يدي رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم» (1) .
والأخبار الدالة علي « أنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولاً ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين »(2) ، وهم فقهاء الدين
ص: 310
وحافظين لشريعة سيّد المرسلين الّذين ورد فيهم : « فقيه واحد أشدّ علي إبليس من ألف عابد » (1) ؛ إذ به إرغام كلّ شيطان مارد وإبطال عقائد كلّ كافر ملحد .
فتحصّل ممّا ذكرناه من كلمات هؤلاء القوم في وحدة الوجود أنّ نفس المدّعي لا تخلو من تهافت بيّن ، إذ دعوي الوحدة مع هذه التكثّرات الحسيّة غير قابلة للتصديق العقليّ والاعتقاد القلبيّ ، وكلّ ما قيل في رفع هذا التهافت لا يرجع إلي معني محصّل أبداً .
ومع الغضّ عن هذه الجهة وفرض تعقّل المدّعي وصحّته في نفسه فلابدّ من ملاحظة دليله .
ص: 311
لقد عدّ من أدلّة القول بوحدة الوجود والموجود المكاشفة ، فإنهم لمّا ضاق عليهم الخناق عن إقامة البرهان علي مذهبهم استندوا إلي الكشف والعيان ، وقالوا : إنّ هذا طور وراء طور العقل لا يتوصّل إليه إلّا بالمشاهدات الكشفيّة دون المظاهرات العقلية .
وبعبارة أخري إنّهم يقولون : بأنّ الوحدة المذكورة لا تثبت بالبرهان العقلي ، بل لابدّ لإثباتها من طريق الكشف والشهود .
وقبل الجواب عن هذه المقالة ينبغي تقديم نكات ثلاثة :
لا يخفي أنّ أهمّ أدلتهم علي القول بوحدة الوجود والموجود هو المكاشفة ، وربّما يعبّرون عنها ب : الواقعة المفسّرة بالأمور العينيّة الّتي يراها الإنسان بين اليقظة والمنام ، ومرادهم منها - كما يظهر من مكاشفات ابن العربي(1)
ص: 312
، واللاهيجي(1) - ليس إلاّ ما يراه النائم في المنام ، أو في ما بينه وبين اليقظة .
قال القيصريّ : اعلم أنّ الكشف لغة رفع الحجاب ، يقال : كشفت المرأةُ وجهها أي رفعت نقابها ، واصطلاحاً هو : الاطّلاع علي ماوراء الحجاب من المعاني الغيبيّة والأمور الحقيقية وجوداً أو شهوداً ، وهو معنوي وصوري ، وأعني بالصوري : ما يحصل في عالم المثال من طريق الحواس الخمس ، وذلك إمّا أن يكون علي طريق المشاهدة كرؤية المكاشف صور الأرواح المنجسدة والأنوار الروحانية ، وإمّا أن يكون علي طريق السماع كسماع النبي صلي الله عليه وآله الوحي النازلة عليه . . (2)
وقال أيضاً : مشاهدة الصور تارة يكون في اليقظة وتارة في النوم وكما أن النّوم ينقسم بأضغاث أحلام وغيرها كذلك ما يري في اليقظة ينقسم إلي أمور حقيقيّة محضة واقعة في نفس الأمر وإلي أمور خياليّة صرفة لا حقيقة لها شيطانيّة وقد يخلطها الشيطان بيسير من الأمور الحقيقيّة ليضلّ الرأي ، لذلك يحتاج السالك إلي مرشد يرشده وينجيه من المهالك .
والأول إمّا أن يتعلّق بالحوادث أوْ لا ، فإن كان متعلقاً بها فعند وقوعها كما شاهدها أو علي سبيل التعبير وعدم وقوعها يحصل التميّز بينها وبين الخيالية الصرفة ، وعبور الحقيقة عن صورتها الأصلية إنّما هو للمناسبات الّتي بين الصّور الظاهرة هي فيها وبين الحقيقة ، ولظهورها فيها أسباب كلّها راجعة إلي أحوال الرائي ، وتفصيله يؤدّي إلي التطويل .
وأمّا إذا لم يكن كذلك فللفرق بينها وبين الخياليّة الصرفة موازين يعرفها
ص: 313
أرباب الذوق والشهود بحسب مكاشفاتهم ، كما أنّ للحكماء ميزاناً يفرق بين الصواب والخطأ وهو المنطق ، منها : ما هو ميزان عام وهو القرآن والحديث المبنيّ كلّ منهما علي الكشف التام . . (1)
لا يخفي أنّ القائلين بوحدة الوجود والموجود لم يقيموا برهانا صحيحاً واضحاً علي مختارهم إلي الآن ما يشفي الغليل ، حتي أنّ محقّقيهم قائلون بأنّ الوحدة المذكورة لا تثبت بالبرهان العقلي بل لا بدّ لإثباتها من طريق الكشف والشهود ، فلاحظ .
قال المحقق الشريف في حواشي شرح التجريد : إن قلت : ماذا تقول في من يري أنّ الوجود مع كونه عين الواجب وغير قابل للتجزّي والانقسام قد انبسط علي هياكل الموجودات فظهر فيها فلا يخلو عنه شي ء من الأشياء ، بل هو حقيقتها وعينها وإنما امتازت وتعدّدت بتقيّدات وتعيّنات اعتبارية ، ويمثّل ذلك بالبحر وظهوره في صورة أمواج متكثّرة مع أنّه ليس هنالك إلاّ حقيقة البحر فقط .
قلت : هذا طور وراء طور العقل ، لا يتوصّل إليه إلاّ بالمشاهدات الكشفيّة دون المظاهرات العقلية ، وكلّ ميسّر لما خلق له .(2)
وقال اللاهيجي - في الفصل الّذي ساقه لبيان كيفيّة صدور المعلول من العلّة ما محصّل ترجمته - : إنّ الصوفية قالوا : إنّ صدور المعلول من العلّة عبارة عن تنزّل العلّة إلي مرتبة وجود المعلول وتطوّرها بطوره ، ومن هنا ذهبوا إلي وحدة الوجود
ص: 314
بمعني أنّ الوجود حقيقة سارية في جميع الموجودات ، وليست مهيّات الممكنات إلّا أموراً اعتبارية ، والموجودات بأسرها مظاهر تلك الحقيقة الواحدة بحيث لا يلزم الاتّحاد والحلول ؛ لانهما فرع الإثنينيّة ولا موجود إلاّ واحد .
ثمّ قال : وفهم هذا المعني في غاية الإشكال ؛ لأنهم ادّعوا أنّ فهم ذلك لا يتيسّر بالعقول المتعارفة ، بل لا بدّ له من الرياضة والمجاهدة وبطور وراء طور العقل ، وهو فناء السالك في سلوكه من نفسه وعقله ومن جميع المعقولات والموهومات فضلاً عن المحسوسات وقصر همّته في التوجّه إلي الحقّ وذكره له بلسانه وقلبه بحيث لا يخطر بقلبه سواه ولا يبقي في قلبه غيره حتّي يغيب عن نفسه حال ملاحظته لجلال اللَّه ، وان لاحظها فمن حيث هي لاحظه لا من حيث هي مزّينة بزينة الحقّ ، بل لا يكون الذكر أيضاً ملحوظاً فضلاً عن الذاكر .
وقال : وإذا داوم السالك علي ذلك يفيض عليه نور من أنوار الإلهيّة يشاهد به حقائق الأشياء علي ما هي عليها كما يشاهد المحسوسات بحسّ البصر (1) .
ونقل العلّامة الخوئي رحمه الله عن بعضهم أنّه قال : إنّ مستند الصوفيّة في ما ذهبوا إليه هو الكشف والعيان لا النظر والبرهان ، فإنّهم لمّا توجّهوا إلي جناب الحق سبحانه بالتّعرية الكاملة وتفريغ القلب بالكليّة عن جميع التعلّقات الكونية والقوانين العلميّة مع توحيد العزيمة ودوام الجمعيّة والمواظبة علي هذه الطريقة بدون فترة ولا تقسيم خاطر ولا تشتّت عزيمة مَنَّ اللَّه سبحانه عليهم بنور كاشف يريهم الأشياء كما هي ! وهذا النور يظهر في الباطن عند ظهور طور وراء طور العقل ، ولا تستبعدنّ وجود ذلك ؛ فوراء العقل أطوار كثيرة يكاد لا يعرف عددها إلاّ اللَّه ، ونسبة العقل
ص: 315
إلي ذلك النور كنسبة الوهم إلي العقل ! فكما يمكن أن يحكم العقل بصحّة ما لا يدركه الوهم كوجود موجود مثلاً لا خارج العالم ولا داخله ، فكذلك يمكن أن يحكم ذلك النور الكاشف بصحة بعض ما لا يدركه العقل ، كوجود حقيقة مطلقة محيطة لا يحصرها التقييد ولا يقيّدها التعيين ، مع أنّ وجود حقيقة كذلك ليس من هذا القبيل ، فإنّ كثيراً من الحكماء والمتكلّمين ذهبوا إلي وجود الكلّي الطبيعي في الخارج .
والمقصود هنا رفع الاستحالة العقليّة والاستبعادات العادية عن هذه المسألة لا إثباتها بالبراهين والأدلّة . انتهي .
ثمّ أجاب عنه رحمه الله بقوله : وهو سخيف جدّاً ؛ لامتناع أن يكون طور وراء العقل إلاّ النبوّة ولو جوّز ذلك لبطلت الشرايع والأديان والأحكام النقليّة والعقليّة وارتفع الأمان وانسدّ باب الإيمان .
وليس نتيجة ما ذكر من الرياضة والمجاهدة إلّا تلطيف السّر وتهذيب الباطن وتصفية القلب ليسهل النظر ويسرع الفكر ويصفو الذهن من الكدر ، فيتجرّد المعقولات النظريّة عن الغواشي الوهميّة ويتميّز المعقول عن الموهوم ، وذلك هو معني الكشف ونور اللَّه الكاشف لا ما توهّموه .(1)
قال ملّا صدرا في شرح الكافي في شرح الحديث الأوّل من باب أدني المعرفة : اعلم أنّ للتوحيد وسائر معارف الإيمان أربع درجات كقشر الجوز ، وقشر قشره ، ولبّه ، ولبّ لبّه .
الدرجة الاُولي : أن يقول باللسان « لا إله إلّا اللَّه » وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافق .
ص: 316
الثانية : أن يصدّق بمعني اللفظ قلبه كما يصدّق به عموم المسلمين ، وهو اعتقاد وليس بعرفان .
الثالثة : أن يعرف ذلك بطريق الكشف بالبرهان بواسطة نور الحق وهو مقام المقرّبين ، وذلك بأن يري أشياء كثيرة ولكن يراها علي كثرتها صادرة من الواحد القهّار .
الرابعة : أن لا يري في الوجود إلاّ واحداً وهو مشاهدة الصدّيقين ، وتسمّيه الصوفية ب : الفناء في التوحيد .(1)
قال صاحب تمهيد القواعد : طائفة من الصوفية قد ذهبت . . . ولعلّهم يسندون ذلك القول إلي مكاشفاتهم ويلزمهم نفي الشرايع والملل وإنزال الكتب وإرسال الرسل ، ويكذّبهم الحسّ والعقل كما عرفت ، وهذا إمّا من غلبة حكم الوحدة عليهم ، وإمّا من مداخلة الشيطان في مكاشفاتهم .(2)
وأيضاً اعترف القيصريّ بأنّ بعضها رحمانيّ وبعضها ملكيّ ، وبعضها شيطانيّ وجنيّ (3) .
وقال أيضاً : مشاهدة الصور تارة تكون في النوم وتارة في اليقظة ، وكما أنّ النوم ينقسم بأضغاث أحلام وغيرها كذلك ما يري في اليقظة .(4)
وقال ملا صدرا في ضمن كلام له : وكتب العرفاء - كالشيخين العربي وتلميذه
ص: 317
صدرالدين القونوي - مشحونة بتحقق عدمية الممكنات وبناء معتقداتهم ومذاهبهم علي المشاهدة والعيان وقالوا : نحن إذا قابلنا وطبقنا عقائدنا علي ميزان القرآن والحديث وجدنا منطبقة علي ظواهر مدلولاتهما من غير تأويل ، فعلمنا أنّها الحق بلا شبهة وريب (1) .
وقال اللاهيجي بعد ذكر مكاشفة له : تصديق هذه المكاشفات بلا دليل منصوص مشكل (2) .
وكذا قال غيرهم ممن سلك مسلكهم (3) .
إنّ المكاشفات عند أكابرهم بعضها حق وبعضها باطل ، والميزان في معرفة حقّها وباطلها - باعترافهم - الدليل العقلي أو النقلي من الكتاب والسنة كما مرّت الإشارة إليه آنفاً .
فعلي هذا لابدّ - قبل النظر إلي المكاشفات - من الرجوع إلي المرجع والميزان من الدليل العقلي أو النقلي ؛ فإنّهما ما بالذات في كشف المطلب وإثباته ، وسيأتي إبطال أدلّتهم من العقلي والنقلي ، وبعد إبطالها لا مجال للاستدلال بالمكاشفة
وبعبارة أُخري : إذا انحصر دليلهم لوحدة الوجود في المكاشفة والمشاهدة ، وهم معترفون بأنّ منها رحماني ، ومنها شيطاني كما سيأتي ، فما الحجّة علي أنّها لا تكون من القسم الثاني .
ص: 318
وما قيل : من أنّ الدليل علي صحّة المكاشفة مطابقتها للبرهان العقلي والنقلي خلاف الفرض ؛ لأنّ المفروض انحصار الدليل في الكشف ، وعلي تقدير عدم الانحصار أيضاً لا وجه للاستدلال بالمكاشفة بعد إبطال أدلّتهم العقليّة والنقلية كما سيأتي ؛ لعدم الحجة علي أنّها رحماني كما هو واضح .(1)
ولا يخفي أنّ هذا القدر من الجواب يكفي لردّ هذا الدليل .
هذا ؛ ولو تنزّلنا وقلنا بكون المكاشفة دليلاً مستقلاً مع قطع النظر عن البرهان ففيها وجوه للبطلان :
الأوّل :
لا دليل علي وقوع الكشف ؛ لأنّه لو ثبت إخبارهم ببعض المغيبات فوافق ذلك المخبر به فإنّ ذلك لا يدلّ علي حصول الكشف لهم ؛ لاحتمال كونه عن حدس وتخمين ، أو فراسة ، أو كهانة ، أو استخدام ، أو علم بالنجوم ، أو بالرمل ، أو وقوع الموافقة اتفاقاً وأشباه ذلك ، ومعه فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال .
وعليه ، فلا دليل قطعي علي حصوله ، وقد قال سبحانه : « قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين » .(2)
وعلي تقدير حصول الظن بذلك ف : « إنّ الظن لا يغني من الحق شيئاً »(3) .
ومن رجع إلي أحوال أهل الكشف من العرفاء والصّوفية يعرف أنّ
ص: 319
بعضهم (1) حصل لهم خبط وتغيّر مزاج بتحمّل المشاق والرياضات المبتدعة والجلوس في بيت مظلم أربعين يوماً ونحو ذلك ، فيوجب ذلك في نفوسهم الاختراعات الخيالية فيتوهّم الشخص المتخيّل محسوساً مع أنّه لا أصل له كالسّراب يحسبه الظمآن ماءاً حتّي إذا جاءه لم يجده شيئاً .(2)
وقد يبلغ الفساد في بعضهم إلي حدّ يظنّ أنّه يعلم الغيب ، وفي بعض إلي حدّ يظنّ أنّه صار ملكاً ، وقد يبلغ في بعضهم إلي حدّ يظنّ أنّه الحقّ سبحانه وتعالي ! كما قال ابن العربي : ألا إنّي كنت في أوقات في حال غيبتي أشاهد ذاتي في النور الأعم والتجلّي الأعظم بالعرش العظيم يصلّي بها ( أي يصلّي النور بذاتي ) وأنا عري عن الحركة بمعزل عن نفسي ، وأشاهدها بين يديه ( أي أشاهد ذاتي بين يدي النور ) راكعة وساجدة ، وأنا أعلم أنّي ذلك الراكع والساجد كرؤية النائم واليد في ناصيتي ، وكنت أتعجّب من ذلك وأعلم أنّ ذلك ( أي الراكع والساجد ) ليس غيري ولا هو أنا ومن هناك عرفت المكلّف والتكليف والمكلِّف إسم فاعل وإسم مفعول . . !
فقد أبنت لك حالة المأخوذين عنهم من المجانين الإلهيّين إبانة ذائق بشهود حاصل ، واللَّه يقول الحق وهو يهدي السبيل .(3)
ص: 320
فأشار ابن العربي في هذه المكاشفة - كما في سائر مكاشفاته - إلي الوحدة بين الخالق والمخلوق وأنّه مجالي الحقّ ومظاهره بل عين الحق وصرّح كثيراً بهذه العقيدة في جميع كتبه ، وقد ذكرنا بعض كلماته في ذلك في أوّل البحث فلاحظ .(1)
فتري كونه ممّا أراه الشياطين مناسباً لما اعتقد به ، كي يزيده ضلالاً ويقرّه علي ما اعتقد به من الضلال(2) ، وما كان ذلك إلاّ عمّا استحقه هو وأمثاله برجوعهم
ص: 321
في هذا الأمر الخطير إلي من لا يجوز الرجوع اليه .
الثاني :
ولو سلّمناه - وقلنا بوقوع الكشف حقيقةً - فلا يدلّ مجرّد الوقوع علي مشروعيته ، وإلاّ للزم مشروعية الكهانة والسحر ونحوهما .
وبعبارة أخري : هل يدلّ وقوع المكاشفة علي أنّها حجة فيلزم منه الاستغناء عن الأدلّة الشرعية ؟ !
الثالث :
إنّ الضرورة قاضية ببطلان الاستدلال به شرعاً بمعني عدم حجيته في الشؤون الدينيّة وعدم جواز التعويل عليه في شي ء من الأحكام الشرعية .
والفرق بين هذا الوجه والوجه السابق واضح ؛ لأنّ عدم الدليل علي حجيّته كما في الوجه الثاني غير قيام الدليل علي عدم حجيته كما هو مقتضي هذا الوجه .
الرّابع :
الاختلاف العظيم بين أصحاب الكشف فيما يخبرونه دليل علي أنّه لا حقيقة له ؛ فإنّ صاحب كلّ مذهب يدّعي حصول الكشف له ببطلان مذهب مخالفه كالغزالي ، فقد ذكر أنّه لزم الرياضة والخلوة وترك الدرس عشرين سنين فانكشف
ص: 322
له بطلان مذهب الإماميّة ! وأفضليّة أبي بكر علي عليّ ( امير المؤمنين عليه السلام ) بمراتب .(1)
وما أكثر دعاوي الصوفية من الشيعة وغيرهم ، بل كل فريق بما لديهم فرحون حتّي الكفّار من الهند و . .
وعن بعض الأعلام أنّه قال : إنّي لأعجب ممن يدّعي هذه المرتبة علي اختلاف مذاهبهم ظاهراً مع أنّ كلاً منهم يدّعي كشفاً يوافق مذهبه واعتقاده ، فالغزالي مع دعواه الوصول إلي هذه المرتبة انكشف له فضل أبي بكر علي عليّ عليه السلام بمراتب كما هو ظاهر لمن طالع إحياءه ، وكما انكشف له عدم جواز سبّ يزيد لعنه اللَّه ، فإنّه قال في كتاب إحياء العلوم(2) : فإن قيل : هل يجوز لعن يزيد لكونه قاتلاً للحسين [ عليه السلام ] أو آمراً به ؟ قلنا : لم يثبت أصلاً فلا يجوز أنّه قتله أو أمر به فضلاً عن اللعنة ، فلا يجوز نسبة كبيرة إلي مسلم من غير تحقيق ! .
. . إلي أن قال : فإن قيل : هل يجوز أن يقال قاتل الحسين أو الآمر بقتله لعنه اللَّه ؟
قلنا : الصواب أن يقال : قاتل الحسين إن مات قبل التوبة فعليه لعنة اللَّه ؛ لأنّه يحتمل أن يموت بعد التوبة ، انتهي .(3)
أقول : وقد أجاب عنه العلامة الأميني رحمه الله(4) ، والمحدّث القمي رحمه الله فراجع .(5)
ص: 323
الخامس :
لا شك في ظهور خارق العادات والأمور الغريبة من المؤمن والكافر ، فلو كان هذا دليلاً علي حقيّة صاحبه للزم به حقيّة المؤمن والكافر علي حدّ سواء ، وهذا أمر محال ، وهو - كما تري - قريب من الوجه السابق .
ولا يخفي أنّ مثل هذا الكشف بل ما هو أعظم منه حاصل للكفّار والمجانين ، وكثيراً ما ينكشف للمجانين مثل ذلك ، فأيّ فضيلة فيما يجامع الكفر والجنون .(1)
وستأتي عن قريب الأخبار الدالة علي « أنّ ابليس يأتي الرجل في كلّ صورة إلّا ما استثني » و« يلقي في روعه أنّك أنت اللَّه » و« يوحي إليه زخرف القول » و« يخاطبهم انّي أنا اللَّه لا إله إلّا أنا فاعبدني » و« يؤدّي إليهم ما يحدث من الحوادث والوقايع » وغيرها ، وهو أعظم ممّا يدّعيه هؤلاء العرفاء والصّوفية .
وكم للصّوفية من دعوي المكاشفات والمشاهدات العجيبة ! وأعظمها : دعوي رؤساء كلّ فرفة تجلّي الرّب سبحانه وتعالي فيهم ومعاينتهم له بالكشف والشهود ، مع أنّ بعضهم مؤمن وبعضهم ملحد وبعضهم شيعي وبعضهم سنّي و . .
فمع الاختلاف العظيم بين هذه الطوائف في العقائد والأعمال ولعن بعضهم
ص: 324
بعضاً وتبرّي كلّ طائفة من الأخري وكلّ فرقة تدّعي أنّها حقّ وغيرها باطل ، فلو كانت هذه المكاشفات الّتي تدّعيها كلّ طائفة صحيحةً صادقةً لصحّت هذه المذاهب المختلفة كلّها ، ولما كان هناك فرقة ناجية بل جميع هذه الفرق علي حدّ سواء ، وما هذا إلّا سفه وجنون .
كيف ! ؟ مع أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه وآله قال في الحديث الّذي رواه الفريقان :
« إنّ أمّة موسي افترقت بعده علي إحدي وسبعين فرقة ، فرقة منها ناجية وسبعون في النار ، وافترقت اُمّة عيسي بعده علي إثنتين وسبعين فرقة ، فرقة منها ناجية وإحدي وسبعون في النار ، وإنّ اُمّتي ستفترق بعدي علي ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة منها ناجية وإثنتان وسبعون في النار » .(1)
فعلم بذلك أنّ ما يدّعونه كلّه تدليس وتلبيس للحق ، وشرك لصيد العباد وجمع الأموال والاعتبار .
وحيث إنّ القوم عدّوا مكاشفاتهم نوعاً من خوارق العادات والإعجاز يمكن أن يقال : ما السّر في وصولهم إلي الأمور الغريبة والمكاشفات العجيبة ولِمَ لا يكون ذلك دليلاً علي كونهم حقّاً ؟
قلت : لو سلّمنا أنّ صدور الغرائب منهم مستند إلي اللَّه تعالي كاستجابة دعواتهم(2) نقول : سرّ وصول جميع من يسلك علي سبيل الضلالة والرّدي - وإن
ص: 325
ص: 326
كانوا علي تقصير وعناد ، ومع ذلك يحصل لهم الأمور الغريبة - يمكن أن يستفاد من الآيات التالية :
قوله تعالي : « من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثمّ جعلنا له جهنّم يصليها مذموماً مدحوراً ، ومن أراد الآخرة وسعي لها سعيها وهو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا ، كلّا نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك وماكان عطاء ربّك محظورا » .(1)
وقوله سبحانه : « من كان يريد الحيوة الدنيا وزينتها نوف اليهم اعمالهم وهم فيها لا يبخسون ، اولئك الّذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون » .(2)
وقوله جلّ وعزّ : « من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان
ص: 327
يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب » .(1)
وقوله عزّ من قائل : « من يرد ثواب الدنيا نوته منها ومن يرد ثواب الاخرة نوته منها » .(2)
وقوله جلّ جلاله : « أني لا أضيعُ عمل عامل منكم من ذكر او انثي » .(3)
وغيرها من الآيات .
أقول : إنّ بمراجعة التفاسير(4) الواردة في ذيل الآيات المذكورة يظهر ما هو المقصود في المقام .
وقوله تعالي : « والذين كذّبوا بآياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُم من حيث لا يعملون » .(5)
وقوله سبحانه : « من يُكذِّبُ بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعملون » .(6)
قوله جلّ وعزّ : « أنّما نُملي لهم خير لأنفسهم إنّما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مُهين » .(7)
أقول : إنّ صدور خوارق العادات من الصّوفية - خذلهم اللَّه تعالي - لا تدلّ علي صحة طريقتهم ، بل تحصل لهم من باب الاستدراج وإتمام النعمة كما تدل عليه
ص: 328
الآيات المذكورة والرّوايات الواردة في ذيلها ، وقد جمع العلامة المجلسي قدس سره الآيات والروايات الواردة في الاستدراج في الموضعين من بحار الأنوار(1) ، وكذا العلاّمة النوري رحمه الله في دار السّلام(2) وغيرهما من الأعلام (3) .
ويويّده ما روي : أنّ رجلاً من الشيعة أتي موسي بن جعفرعليهما السلام وهو في بغداد ، فقال : يابن رسول اللَّه ! رأيت هذا اليوم في ميدان بغداد رجلاً كافراً والناس مجتمعون حوله ، وهو يخبر كلّ إنسان بما أضمره فهو يعلم الأسرار ! فقال عليه السلام : « فغدوا عليه » فأتي عليه السلام إلي الميدان ورآي النّاس حوله وهو يخبرهم عمّا في ضمائرهم ، فطلبه الإمام عليه السلام فسأله عن سبب ذلك ، فقال : يا عبداللَّه ! ما أوتيت هذا إلّا بأنّي أعمل خلاف ما تشتهيه نفسي وخلاف مطلوبها ، فقال عليه السلام : « يا فلان ! أعرض الإيمان علي نفسك وانظر هل تقبله أم لا » ؟ فتغشّي في منديل وتفكّر ، فلمّا رفع المنديل قال : إنّي عرضت الإسلام عليها فأبت ، فقال له : « اعمل علي خلاف إرادتها كما هو عادتك الّتي أوتيت عليها هذه المرتبة » . فأسلم وحسن إسلامه وعلّمه عليه السلام شرائع الإسلام ، فكان من جملة أصحاب الإمام عليه السلام ، فقال له يوماً : « يا فلان ! أضمرت أنا شيئاً فقل ما هو ؟ » فلمّا رجع وتفكّر لم يدر ما يقول ، فتعجّب ، فقال : يابن رسول اللَّه ! كنت أعرف الضمائر وأنا كافر ، فكيف لا أعرفها اليوم وأنا مسلم ؟ فقال عليه السلام : « إنّ ذلك كان جزاءأ لأعمالك ، واليوم قد ذخر اللَّه لك أعمالك ليوم القيامة ، فجزاؤها ذلك اليوم » .(4)
ص: 329
وروي أيضاً : أنّ اللَّه تعالي أرسل الملكين فتلاقيا في الهوي فتسائلا ، فقال أحدهما : إنّي كنت في أمر عجيب وهو أنّ سلطاناً كافراً يعبد الأصنام وقد مرض واشتدّ مرضه فطلب الأطباء فقالوا له : إنّ علاجك في سمكة ، وفي هذه الأيّام ما توجد إلّا في البحر السابع ، فأنت ميت علي كلّ حال ، فقال لبعض خدمه : إذهبوا إلي هذا البحر لعلّكم تجدون هذه السمكة ، فأمرني اللَّه سبحانه أن أزجر تلك السمكة من ذلك البحر حتّي تأتي إلي ذلك البحر الّذي هو قرب ذلك السلطان ، فاصطادوها وأكلها فبرئ من مرضه ، فقال له الآخر : وأنا كنت في أمر أعجب من هذا وهو : أنّ رجلاً صالحاً عابداً في البلد الفلاني كان صائماً نهاره وكان قد هيّأ شيئاً من بقول الأرض لأجل الإفطار وجعله في القدر وهو يغلي عليه ، فبعثني اللَّه سبحانه إلي ذلك القدر أن أكفيه حتّي يبقي هذه الليلة بلا إفطار ويصوم اليوم الثاني علي ذلك الحال ، فلمّا عرجا إلي محلهما قالا : يا ربّ ! ما الحكمة في هذا ؟ فقال سبحانه : « إنّ ذلك الكافر لا يخلو من بعض العدل مع الرعيّة وأعمال الخير ، فأردت أن أكمل جزاء أعماله في الدنيا حتّي إذا أتاني ليس له عندي حجّة يحتجّ بها عليّ ، وأمّا ذلك المومن فأردت أن أكفّر ذنوبه حتّي إذا أتاني أتاني نقيّا من الذنوب فأسكنه في جواري » .(1)
وروي الصدوق رحمه الله بإسناده عن مولانا الإمام الكاظم عليه السلام أنّه قال : « كان في بني إسرائيل رجل مؤمن وكان له جار كافر ، وكان يرفق بالمؤمن ويوليه المعروف في الدنيا ، فلمّا أن مات الكافر بني اللَّه له بيتاً في النّار من طين وكان يقيه حرّها ويأتيه الرزق من غيرها وقيل له : هذا بما كنتَ تدخل علي جارك المؤمن فلان بن فلان من الرفق وتوليه من المعروف في الدنيا » .(2)
ص: 330
وروي الكلينيّ رحمه الله بإسناده عن الوصّافي قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : « إنّ في ما ناجي اللَّه عزّ وجلّ به عبده موسي عليه السلام قال : إنّ لي عباداً أبيحهم جنّتي وأُحَكّمهم فيها ، قال : يا ربّ ومن هؤلاء الّذين تبيحهم جنّتك وتحكّمهم فيها ؟ قال : من أدخل علي مؤمن سروراً ، ثمّ قال : إنّ مؤمناً كان في مملكة جبّار فولع به فهرب منه إلي دار الشرك ، فنزل برجل من أهل الشرك فأظلّه وأرفقه وأضافه ، فلمّا حضره الموت أوحي اللَّه عزّوجلّ إليه : « وعزّتي وجلالي لو كان لك في جنّتي مسكن لأسكنتك فيها ولكنّها محرّمة علي من مات بي مشركاً ، ولكنّ يا نار هيديه ولا تؤذيه . . ويؤتي برزقه طرفَي النّهار » قلت : من الجنّة ؟ قال : « من حيث شاء اللَّه » .(1)
وبالجملة ؛ الأخبار الواردة بهذا المضمون كثيرة جدّاً ، ويتفرّع عليها ما يفعله
ص: 331
جمهور أهل الخلاف في أذكارهم وأوقاتهم في قبض الأفاعي والحيّات و . . فإنّها أيضاً جزاء أعمالهم .
ولوضوح هذا المرام يحسن بنا أن نذكر بيان بعض الأعلام في المقام ليظهر لك ما هو الحقّ من الكلام عن باطله .
قال بعض الأعلام رحمه الله ما ملخّصه : إنّ ظهور الكرامات من أولياء اللَّه الجامعين بين مرتبتَي العلم والعمل علي اصطلاح المتشرعة ، وبين الشريعة والطريقة والحقيقة والمعرفة علي اصطلاح المتصوفة غير قابل للإنكار وليس عليه غبار ، وقد نقل من أصحاب النبيّ وأتباع الائمةعليهم السلام الكاملين في مقام المعرفة والولاية ومن العلماء الصالحين المتقين المتصفين بالصفات المتقدمة في حديث همّام كرامات متجاوزة عن حدّ الإحصاء ، وظهورها منهم عناية خاصّة من اللَّه عزّ وجلّ بهم ولطف مخصوص في حقّهم إكراماً لهم وإظهاراً لشرفهم لديه وقربهم إليه .
وأمّا غير هؤلاء من أهل التّصنع والتكلّف والتصوّف فظهور بعض خوارق العادة منهم مستند إلي أحد أمور :
منها : الشعبدة . .
ومنها : التنجيم . . وقد تضمّنت كتب التواريخ وغيرها الإخبار بنبوّة موسي ورسالته من النجوم ، وكذا نبوّة نبيّنا صلي الله عليه وآله ، وظهور العرب علي الفرس ، كما لا يخفي علي من لاحظها . .
ومنها : الكهانة ، وهي عمل تقتضي طاعة بعض الجانّ . .
ومنها : السحر . .
ثمّ أخذ في شرح كلّ واحد منها وأقسامها ثمّ قال : ولا يخفي أنّ ظهور بعض الأمور الخارقة للعادة من أحد من هؤلاء الطّائفة أو من غيرهم لا يدلّ علي كونه
ص: 332
عارفاً باللَّه كاملاً في معرفة اللَّه ومن أهل الزّلفي والكرامة لديه ، لما عرفت من أنّ جلّ مدارك الخوارق وعمدة أسبابها أمور غير شرعيّة ؛ فإنّ الشعبدة والسحر والكهانة وعلم السّيميا والنّيرنجات كلّها محرّمة بالأدلة الشرعية المحكمة ، كما فصّلها فقهاؤنا رضوان اللَّه عليهم في أبواب المكاسب من الفقه .
وأعظم أسباب ظهور الخوارق من هذه الطائفة من جانب وليّهم إبليس ، فإنّهم لأخذهم في الأصول والفروع خلاف مسلك أهل الشرع كان للشيطان بهم مزيد عناية وفي إعداد معدّات ضلالهم وخذلانهم زيادة اهتمام ، فيوحي إليهم زخرف القول غروراً وينطق علي لسانهم ويريهم العجائب وينبّههم بالغرائب ، ليطيب بذلك أنفسهم وليقرّوا به عيناً ويفرحوا به ليثبتوهم علي ما دانوا به من الدين الفاسد ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالاخرة وليقترفوا ما هم مقترفون .
فلو سلّمنا أنّ صدور العجائب والغرائب منهم مستند إلي اللَّه سبحانه كاستجابة دعواتهم وتأثير أنفاسهم ، فهو أيضا لا يدلّ علي القرب والزلفي مع زيغهم عن نهج الهدي وضلالهم عن الحنيفية البيضاء ، لجواز كون ذلك من قبيل الاستدراج .
بيان ذلك : أنّهم لمّا تحمّلوا المشاق وارتاضوا بالرّياضات الشاقة نيلاً إلي ما طلبوه من الأرباب الدنيوية ، فلا يبعد أن يؤتيهم اللَّه ما طلبوه بمقتضي رحمته الرحمانية ، فإنّه تعالي لا يضيع عمل عامل - برّاً كان أو فاجراً - كما ورد في الأخبار .
وقال في كتابه الكريم : « ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب »(1) ، وقال : « فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
ص: 333
وقنا عذاب النار اولئك لهم نصيب ممّا كسبوا » .(1)
ويقرّب ما ذكرناه أنّ الشيطان بعد ما عبد اللَّه تعالي في السماوات ستة آلاف سنة ثمّ صار رجيماً بإبائه عن السجود لآدم أعطاه اللَّه النظرة جزاء لعمله وسلّطه علي ابن آدم وأعطاه ساير ما سأل .
ومثله أنّ فرعون اللعين مع قوله : « أنا ربكم الأعلي »(2) أمهله اللَّه أربعمأة عام لحسن خلقه وكونه سهل الحجاب واستجاب دعاءه في إجراء النّيل ، فإنّه لمّا غار النّيل وأتاه أهل مملكته وسألوه إجراءه فخرج معهم إلي الصّعيد وتنحّي عنهم حيث لا يرونه ولا يسمعون كلامه ، فألصق خدّه بالأرض وأشار بالسبّابة وقال : اللّهمّ إنّي خرجت إليك خروج العبد الذّليل إلي سيّده وإنّي أعلم أنّك تعلم أنّه لا يقدر علي إجرائه أحد غيرك فأجره ، قال : فجري النّيل جرياً لم يجر مثله ، فأتاهم وقال لهم : إنّي قد أجريت لكم النّيل ، فخرّوا له سجّداً .(3)
ص: 334
وأوضح من ذلك كلّه أنّ كفّار الهند - مع ما هم عليه من الكفر والجحود - ربما يخبرون بالمغيبات إذا تكلّفوا بالمشاق والرّياضات . . .
وقد تحصّل ممّا ذكرنا كلّه أنّ ظهور العجائب والغرائب تارة يكون مستنداً إلي
ص: 335
أسباب صحيحة ، وأخري إلي مقدمات فاسدة ، وأنّ المدار في الكرامات علي صحة الاعتقاد ومواظبة الرياضات الشرعية .
وعلي ذلك فإذا رأيت من أحد أموراً خارقة للعادات أو إخباراً عن الغايبات أو استجابة للدّعوات ، فلا تحكم بمجرّد رؤية ذلك علي أنّه من أهل الزهد والصلاح والفوز والفلاح . وأنّ ذلك من فضل اللَّه عليه ، بل انظر إلي عقيدته وعمله ، فإن كان موافقاً للأصول الشرعية والقواعد لمذهب الحقة الإمامية فاعلم أنّ ما ظهر منه كرامة وتفضّل من اللَّه الكريم إليه ولطف ربّاني في حقّه ، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء واللَّه ذوالفضل العظيم .
وإن لم يكن كذلك ، سواء كان كافراً أو مسلماً ، سنيّاً أو إمامياً ، آخذاً في سلوك طريق العبودية غير ما قرّره صاحب الشريعة ، فليس ما يظهر منه بكرامة وإنّما هو وزر ووبال ، معقّب لويل ونكال ؛ لاستناده إمّا إلي مقدّمات فاسدة وأسباب محرّمة أو إلي إضلال شيطاني أو إلي استدراج رحماني ، كما قال تعالي(1) : « ولا يحسبنّ الّذين كفروا أنّما نملي لهم خير لأنفسهم إنّما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين » .(2)
وقال السيّد الجزائري رحمه الله في هذا المقام ما حاصله : إنّ اللَّه سبحانه أخبر في كتابه فقال : « ومن يرد حرث الدنيا نزد له في حرثه ما نشاء وما له في الآخرة من خلاق » .
وفي الحديث : « أنّ اللَّه تعالي لا يضيع عمل عامل برّاً كان أو فاجراً » وقد تقدّم أنّ الشيطان لمّا صعد مع الملائكة إلي السّموات وقرأ في الألواح أنّ من عمل
ص: 336
عملاً جوزي عليه سواء كان للدّين أو الدنيا ، ورآي أنّ الدنيا عاجلة ، عبد اللَّه تعالي ستّة آلاف سنة مضمراً في قلبه أنّ هذه العبادة لأجل طلب الدنيا ، وبعد ما عصي طالب اللَّه بثواب عبادته فأعطاه ما أضمر ، فهذه الحالة لرئيس الصوفية وعبّاد المخالفين - أعني الشيطان - فهؤلاء يعبدون اللَّه ويريدون ما أراده الشيطان من الأمور الدنيويّة ، فلو أعطاهم اللَّه سبحانه بعض مطالبهم المقصودة لهم حالة العبادة - من الجاه والاعتبار الدّنيويّ ويكون ذلك جزاءً لأعمالهم ، وليس لهم في الآخرة من خلاق - لم يكن بعيداً ، ألا تري إلي كفّار الهند ، فإنّهم يريضون أنفسهم رياضات شاقّة ويزعمون أنّها عبادة له سبحانه ، وكثيراً من الأخبارات والحوادث يخبرون بها قبل وقوعها وربّما جرت علي أيديهم الأفعال العجيبة والأمور الغريبة ، وليس هذا إلّا جزاء لأفعالهم الّتي زعموا أنّها عبادة .(1)
ص: 337
وحيث إنّ القوم عدّوا أمثال هذه المكاشفات نوعاً من الكرامة بل والإعجاز ينبغي أن ننبّه علي الفارق بين ما ذكروه وبين الكرامات لكي لا يختلط الأمر علي الباحث المتتبّع ، فنقول :
إنّ الكرامة : هي الإسم من التكريم والإكرام ، وهي فضيلة تختصّ لبعض المؤمنين كرامةً به وإكراماً له ، وللَّه تعالي عناية خاصّة ولطف مخصوص في حقه إكراما له وإظهاراً لشرفه لديه وقربه إليه تعالي وهذا ممّا لا شكّ فيه وقد ورد في الشرع تقريره ، كما في قوله تعالي : « نحن اَوْلياؤكم في الحيوة الدنيا » (1)
وقوله : « إنّ اللَّه يدافع عن الّذين آمنوا » (2)
وقوله : « إن تنصروا اللَّه يَنصركم » (3)
وقوله : « ولو أن اهل القري آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السّماء والأرض » (4)
وقوله : « واللَّه وليّ المؤمنين » (5)
وقوله : « واللَّه وليّ المتقين » (6)
ص: 338
وغيرها من الآيات الكثيرة الدالة علي تفضّله تعالي ولطفه في حق المؤمن بل اتّفاق هذه الأمور لا يختصّ بالمؤمن ، نعم بالنسبة إليه أكثر وأوفر لمزيد فضله وإحسانه سبحانه إلي المؤمن كما لا يخفي .
وهذا بالنسبة إلي المؤمن كرامة وعناية خاصة من اللَّه عزّ وجلّ بهم ، وبالنسبة إلي غيره من باب الرّحمة العامة ، أو إتمام الحجة ، أو الاستدراج أو . .
وإكرام اللَّه سبحانه وتعالي للعبد علي نوعين : إمّا يكرمه اللَّه تعالي ويختصّه برحمته ولطفه بلا إرادة واختيار للعبد في ذلك ، وإمّا يتوقف علي إرادة العبد واختياره .
والبحث فيهما وحدّهما في الحكم بالصحة والبطلان يقتضي مجالاً آخر ، وخارج عن موضوع بحثنا فعلاً ، والمقصود الآن بيان صحّة أصل الكرامة في الجملة ، والميزان في صحتها وسقمها لا البحث في حدّها وتحديدها .
قال العلاّمة المجلسي قدس سره : إنّ الكرامات من غير الأنبياء والأئمّة قد جوّزها أكثر علمائنا .(1)
وقال قدس سره أيضاً في شرح حديث في الكافي : فمن بذل ما أعطاه اللَّه من الأموال الفانية عوّضه اللَّه من الأموال الباقيه أضعافها ، ومن بذل قوّته البدنيّة في طاعةاللَّه أبدله اللَّه قوّةً روحانيّة لا يفني في الدنيا والآخرة ، فتبدو منه المعجزات وخوارق العادات والكرامات وما لا يقدر عليه بالقوي الجسمانية . .(2)
وقد عقدرحمه الله في موسوعته الرائعة بحار الأنوار باباً في : صفات خيار العباد وأولياءاللَّه ، وفيه ذكر بعض الكرامات الّتي رويت عن الصالحين (3) .
ص: 339
كما وقد ذكر بعض أحواله في هذا الباب ممّا يرتبط بالمقام (1) .
وقد عقد العلامه المحدّث النوري رحمه الله في دار السلام باباً في الكرامات وقضايا متفرّقة فيها(2) .
أقول : إنّ ظهور الغرائب والخوارق تارة يستند إلي أسباب صحيحة وأخري إلي مقدمات فاسدة .
والميزان والمعيار في الكرامات علي صحة الاعتقاد والدين ، والمواظبة علي أحكام الشرع المبين ، فبمجرّد رؤية الأمر الخارق للعادة أو استجابة الدعوات لا يمكن الحكم علي أنّها كرامة من اللَّه تعالي وكون صاحبها من أهل الفوز والفلاح ، بل لابدّ من ملاحظة عقيدته ودينه أولاً وأعماله وأفعاله ثانياً ، فإن كان موافقاً للأصول الاعتقادية الشرعية وقواعد المذهب الإمامية فهي كرامة وتفضّل من اللَّه سبحانه في حقّه ، وإن لم يكن كذلك في العقيدة والعمل فليست ما يظهر منه كرامة بل مستند إلي أمور أخري كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالي وقد تقدّم بعضها .(3)
ص: 340
ولقد أجاد بعض الأعلام رحمه الله في هذا المقام حيث قال ما ترجمته : . . ظهور الخارق بالنسبة إلي مدّعي النبوّة والإمامة معجزة ، وهو مختصّ بالنّبي [ والأئمّة عليهم السلام ]وأمّا الخوارق غير المعجزه إمّا كرامة أو سحر أو كهانة أو مكر واستدراج والتمييز بينها موقوف علي ظهور حسن حال صاحب الخوارق كسلمان وأبي ذر ومقداد وعمّار ورشيد وقنبر وسعيد بن جبير وميثم وأمثالهم ممن ثبت إيمانهم وعدالتهم وحسن حالهم بالأخبار وشهادة الأخيار ، فإن ثبت من الخارج حسن حال صاحب الخوارق فتكون كرامة وإلّا فلا يمكن الحكم بكونها كرامة ، فيحتمل أن تكون من قبيل السّحر والكهانة أو المكر والاستدراج .
فالاستدلال لحسن حال الشخص - خصوصاً إذا كان مجهول الحال ، بل ظاهر الفسق في الفعال والمقال - بمجرد ظهور خارق العادة عنه - كما عن جمع من أهل
ص: 341
الحال - غلط كالخوارق الظاهرة من فرعون والدّجال وبلعم والجوكي والخارجي والقالي والغالي و . . لأنه لا ملازمة بين ظهور الخارق من الشخص وحسن حاله ، كما لا ملازمة بين سوء حاله وعدم ظهور الخارق منه كما لا يخفي علي من له فهم في
الجملة .(1)
ص: 342
إنّ القائلين بالكشف يدّعون كشف ذاته تعالي وإدراكه من حيث هو ذاته وتجلّي الرّب تعالي فيهم ومعاينتهم له سبحانه بالكشف والشهود ، فاللَّه تعالي عندهم قد يري بالكشف ويقولون : إنّ فهم هذا المعني - أي وحدة الوجود - في غاية الإشكال ولا يتيسّر بالعقول المتعارفة ، بل بطور وراء طور العقل وهو : الكشف والعيان لا النظر والبرهان . . !
ولا يحصل الكشف إلاّ بعد الفناء التامّ ، ولا يحصل إلاّ بعد زوال جميع التعيّنات .
فالقائل بالكشف يقول بوحدة الوجود وذلك : لأنّ حقيقة كلّ موجود عندهم هو الوجود ولكنّه في الواجب مطلق وفي غيره مقيّد بالحدود ، وليس المقيّد إلاّ نفس المطلق ، فاذا زالت الحدود بقي مطلق الوجود .
فمقالتهم عند التحليل ترجع إلي ثلاث دعاوي :
الأولي : أنّ ذاته تعالي هو الوجود .
الثانية : الاشتراك بينه تعالي وبين مخلوقاته في حقيقة الوجود أي وحدة حقيقة الوجود .
الثالثة : أنّ إدراك حقيقة الوجود الّتي هي ذاته تعالي ممكن .
وهذه الدعاوي كلّها باطلة عند أهل البيت عليهم السلام ، ولكنّ المقصود بالبحث الآن الدّعوي الثالث وقد مرّ الأمران الأوّلان في الفصل الثالث وسيأتيان أيضاً .
فنقول : إنّ كشف الذات وإدراكها من حيث هي ذاته تعالي ممتنعة بالذات
ص: 343
عقلاً وشرعاً ، سواء سُمِّي كشفاً صوفيّاً أم لم يسمّ ، وسواء قيل بوحدة الوجود أم لم يقل ، وسواء قلنا بأهليّة الكاشف أم لم نقل . .
فإنّ الكاشف والمدرك - أيّ شخص فرض ، وبأيّ نحو فرض - حقيقة قابلة للوجود والعدم والزيادة والنقصان ومكيّف محدود ذو مقدار وعدد متجّزي ء ، والمكيّف المحدود . . لا يمكن أن يدرك ويكشف الّذي لا كيف له ولا حدّ له ولا يكون قابلاً للزيادة والنقيصة وليس له جزء وكلّ ومقدار وزمان ومكان ، كما لا يتصف بالشدّة والضعف والصغر والكبر و . .
ونحن نسرد لك ما ورد عن الأئمّةعليهم السلام في خصوص القلب الّذي توهّموا أنّه كاشف حقيقة ذاته تعالي ، وما ورد في امتناع إدراك ذاته تعالي بما هو ذاته إجمالاً فنقول : روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : « . . لأنه اللطيف الّذي إذا أرادت الأوهام أن تقع عليه في عميقات غيوب ملكه ، وحاولت الفكر المبرّات من خطر الوسواس علم ذاته ، وتولّهت القلوب إليه لتحوي منه مكيّفاً في صفاته ، وغمضت مداخل العقول من حيث لا تبلغه الصفات لتنال علم إلهيّته ردعت خاسئة تجوب مهاوي سدف الغيوب ، متخلّصة إليه سبحانه ، رجعت إذ جُبهت معترفة بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته(1) ، ولا يخطر ببال أولي الرويّات خاطرة من تقدير جلال عزّته ، لبعده من أن يكون في قوي المحدودين ؛ لأنه خلاف خلقه ، فلا شبه له من المخلوقين » (2) .
وعنه عليه السلام : « . . ولا يخلو منه موضع ، ولا يسعه موضع ولا علي لون ولا علي
ص: 344
خطر قلب ولا علي شمّ رائحة ، منفيّ عنه هذه الأشياء » (1) .
وعنه عليه السلام : « . . ولا بمحدث فيبصر ، ولا بمستتر فيكشف ، ولا بذي حجب فيحوي » (2) .
وعنه عليه السلام : « . . البعيد من حدس القلوب ، المتعالي عن الأشباه والضروب » (3) .
وعنه عليه السلام : « . . ولا تحيط به الأبصار والقلوب » (4) .
وفي وصيّته لمولانا الإمام الحسن عليه السلام قال : « . . عظم أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بصر » (5) .
وعن مولانا الإمام الحسين عليه السلام : « . . ولا يخطر علي القلوب مبلغ جبروته ، لأنه ليس له في الأشياء عديل » (6) .
وعن الإمام أبي الحسن الرضاعليه السلام في قوله تعالي : « لا تدركه الأبصار »(7) : « إنّ أوهام القلوب أكثر من أبصار العيون ، فهو لا تدركه الأوهام وهو يدرك الأوهام » (8) .
وعن مولانا جواد الأئمةعليه السلام أنه قال : « . . محرّم علي القلوب أن تمثّله وعلي
ص: 345
الأوهام أن تحدّه وعلي الضمائر أن تكيّفه » (1) .
أقول : هذا بعض ما ورد في خصوص القلب الّذي توهّموا أنّه غير سائر المدركات ويمكن أن يكشف به حقيقة الذات كما قالت الصوفية : إنّه تعالي قد يري بالكشف في القلب للعارف الكامل الّذي وصل إلي حدّ الفناء . . !
وأما الأخبار الدالة علي امتناع الذات بما هي ذات عن الإدراك وتناول المدركات فهي علي طوائف :
منها : ما دلّ علي النهي عن التفكر والخوض فيه تعالي .
كما عن أبي عبداللَّه عليه السلام : « إيّاكم والتفكر في اللَّه ؛ فإنّ التفكر في اللَّه لا يزيد إلّا تيهاً ؛ لأنّ اللَّه عزّوجلّ لا تدركه الأبصار ، ولا يوصف بمقدار » (2) .
وعن أبي جعفرعليه السلام : «تكلّموا في خلق اللَّه ولا تكلّموا في اللَّه ؛ فإنّ الكلام في اللَّه لا يزيد إلاّ تحيّراً » (3) .
وعن أبي عبداللَّه عليه السلام : « . . سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلاّ هو » (4) .
وغيرها مما مرّ من الأخبار الكثيرة .
أقول : لو كان الكشف والوصول إلي ذاته تعالي ممكناً لكان ينبغي إرشاد النّاس إليه ولا وجه لنهيهم عليهم السلام عن التفكر والخوض فيه تعالي .
ومنها : ما دلّ علي أنّه تعالي لا يعرف بنفسه .
ص: 346
كما عن أمير المؤمنين عليه السلام : « . . ليس بإله من عرف بنفسه ، هو الدالّ بالدليل عليه»(1) .
وعن مولانا الرضاعليه السلام : « . . كلّ معروف بنفسه مصنوع ، وكلّ قائم في سواه معلول ، بصنع اللَّه يستدل عليه ، وبالعقول تعتقد معرفته » (2) .
وعن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام : « . . لا يعرف إلّا بخلقه » (3) .
إلي غير ذلك من الأخبار الكثيرة .
أقول : لو كان الكشفُ جائزاً وصحيحاً لكان اللَّه تعالي معروفاً بنفسه لا بخلقه ودليله .
ومنها : ما دلّ علي أنّه سبحانه لا ينال ولا يدرك .
كما عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال : « لايبلغه بعد الهمم ، ولا يناله غوص الفطن » (4) .
وعن مولانا الصادق عليه السلام : « إنّ اللَّه عظيم رفيع ، لا يقدر العباد علي صفته ولا يبلغون كنه عظمته » (5) .
وهذه الأخبار تدلّ بوضوح علي بطلان دعوي أهل الكشف ، حيث يزعمون أنّ البلوغ إلي هذه المرتبة من الكمال منوط بهمم الرجال قياساً علي غيرها من الأمور الّتي تتوقف المراتب الراقية لها علي الهمم العالية .
ص: 347
ومنها : ما دلّ علي نفي إحاطة العلم و . . به سبحانه .
عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام : « . . لا يدركه الحواسّ ولا يحيط به شي ء » (1) .
وعن أبي الحسن الرضاعليه السلام في نفي الرؤيه قال : « . . ولا يحيطون به علماً . . فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ، ووقعت المعرفة » (2) .
فتري أنّ الإمام عليه السلام علّل نفي الرؤية بإحاطة العلم ووقوع المعرفة .
ونظيره قوله عليه السلام أيضاً : « فإذا جاز أن يري اللَّه عزّوجلّ بالعين وقعت المعرفة ضرورة » (3) .
وهذا المناط حاصل في الكشف أيضاً ، فإنّ الإحاطة العلمية في الكشف تقع علي نفس الذات .
ومنها : ما دلّ علي أنّ المطلوب من كلّ أحد الإيمان بالغيب لا الوصول إلي الحقيقة والمعرفة الشهودية كما عند أهل الكشف ، فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : « لم تره العيون في مشاهدة الأبصار ، غير أنّ الإيمان بالغيب من عقد القلوب » (4) .
وعن سيّدالشهداء الإمام الحسين عليه السلام أنه قال : « لاتدركه العلماء بألبابها ، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلاّ بالتحقيق إيقاناً بالغيب ؛ لأنه لا يوصف بشي ء من صفات المخلوقين ، وهو الواحد الصمد ، ما تصوّر في الأوهام فهو خلافه . . . يصيب الفكر منه
ص: 348
الإيمان به موجوداً ووجود الإيمان لا وجود صفة » (1) .
وعن أمير المؤمنين عليه السلام : « . . وما دلّك الشيطان عليه ممّا ليس في القرآن عليك فرضه ولا في سنّة الرسول والأئمّة الهُدي أثره . . فكِل علمه إلي اللَّه عزّوجلّ ، فانّ ذلك منتهي حقّ اللَّه عليك » .
« واعلم أنّ الراسخين في العلم هم الّذين أغناهم اللَّه عن الاقتحام في السّدد المضروبة دون الغيوب فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فقالوا : « آمنّا به كلّ من عند ربّنا »(2) فمدح اللَّه عزّوجلّ اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمّي تركهم التعمق في ما لم يكلّفهم البحث عنه منهم رسوخاً ، فاقتصر علي ذلك ولا تقدّر عظمة اللَّه سبحانه علي قدر عقلك فتكون من الهالكين » (3) .
وعن مولانا الرضاعليه السلام : « فالحجاب بينه وبين خلقه ، لامتناعه ممّا يمكن في ذواتهم ، ولإمكان ذواتهم ممّا يمتنع منه ذاته ، ولافتراق الصانع والمصنوع ، والربّ والمربوب ، والحادّ والمحدود » (4) .
وعن أميرالمؤمنين عليه السلام : « . . لأنّه أجلّ من أن يحدّه ألباب البشر بالتفكير أو يحيط به الملائكة علي قربهم من ملكوت عزّته بتقدير . . » (5) .
وعن مولانا الرضاعليه السلام : « إنّ اللَّه تبارك وتعالي خلق العرش والماء والملائكة
ص: 349
قبل خلق السموات والأرض وكانت الملائكة تستدل بأنفسها وبالعرش والماء علي اللَّه عزّ وجلّ . . . ولكنّه عزّ وجلّ خلقها في ستة أيّام ، ليظهر للملائكة ما يخلقه منها شيئا بعد شي ء ، وتستدلّ بحدوث ما يحدث علي اللَّه تعالي ذكره » (1) .
وعن سيّدالشهداء الإمام الحسين عليه السلام : « . . احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار ، واحتجب عمّن في السماء احتجابه عمّن في الأرض » (2) .
أقول : فإذا كان ممتنعاً عليهم الكشف فكيف بغيرهم ؟ ! فهو محتجب عن الجميع ببعث الأنبياء والأوصياء ، فاكتفي ببعثهم إليهم عن مكالمتهم ومواصلتهم ، كما قال رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم : « فأحبّ الاختصاص بالتوحيد إذ احتجب بنوره وسما في علوّه واستتر عن خلقه وبعث إليهم الرسل لتكون له الحجّة البالغة علي خلقه ويكون رسله إليهم شهداء عليهم » (3) .
أقول : فمن قال في شأن المدرِك والمدرَك مثل ما قاله الحجج المعصومون عليهم السلام كيف يقول بعد ذلك : إنّني كشفته ؟ وهل هذا إلاّ تناقض واضح ؟ وهل يجوز من عاقل أن يقول لشي ء : إنّه محال ، ثمّ يدّعي أنه أوقعه ! ويقول : صيّرته واقعاً ؟ ! كما يفهم هذا الوجه من الاستدلال من كلام أبي الحسن الرضاعليه السلام في ردّ أبي قرّة(4) .
ص: 350
لا يخفي أنّ ترائي الشيطان في صور مختلفة هو نصّ الكتاب الكريم والأخبار الكثيرة الدّالة علي ظهورهم وترائيهم لأولياء الضلال .
فمن الكتاب الكريم قوله سبحانه وتعالي : « هل أنبّئكم علي من تنزّل الشياطين ، تنزّل علي كلّ أفّاك أثيم ، يلقون السمع وأكثرهم كاذبون »(1) .
أي تنزّل الشياطين علي كلّ كذّاب فاجر كثير الإثم .
قال الطبرسي رحمه الله : يلقون السمع معناه أنّ الشياطين يلقون ما يسمعونه إلي الكهنة والكذّابين ، ويخلطون به كثيراً من الأكاذيب ويوحونه إليهم .(2)
وفي تفسير الصافي : أي الأفّاكون يلقون السمع إلي الشياطين فيتلقون منهم ظنوناً وأمارات لنقصان علمهم ، فيضمون إليها - علي حسب تخيّلاتهم - أشياءاً لا يطابق أكثرها .(3)
وقوله سبحانه وتعالي : « وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّاً شياطين الإنس
ص: 351
والجنّ يوحي بعضهم إلي بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربّك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ، ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ماهم مقترفون » .(1)
وقوله عزّ وجلّ حكاية عن إبليس : « لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين » .(2)
إلي غير ذلك من الآيات .(3)
ولا يخفي أنّ رؤساء الصوفية هم أظهر مصاديق هذه الآيات ، ومن لاحظ كلمات ابن العربي - كدعواه رؤية النبي صلي الله عليه وآله وسلم وتجلّي الحق فيه وإسرائه إلي السّماء
ص: 352
وتلقّيه الأحكام من المعدن الّذي يأخذ منه الملك الّذي يوحي به إلي الرّسل ، وادّعائه أنّه خاتم الولاية ، واستهزائه بآيات اللَّه وتأويله لها علي المعاني الباطلة ، وتصحيحه لعبادة مَن دون اللَّه من الأصنام والأوثان إلي غير ذلك من الأباطيل - عرف أنّه ونظراءه من أظهر مصاديق تلك الآيات .(1)
وأمّا الاخبار ؛ فروي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال : « اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً واتّخذهم له أشراكاً فباض وفرّخ في صدورهم ودبّ ودرج في حجورهم فنظر بأعينهم ونطق بألسنتهم فركب بهم الزّلل وزيّن لهم الخطل فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه ونطق بالباطل علي لسانه . . » .(2)
وعن مولانا علي بن الحسين عليهما السلام قال : « . . إلهي جعلت لي عدوّاً يدخل قلبي ويحلّ محلّ الرّأي والفكرة منّي وأين الفرار إذا لم يكن منك عون عليه . . » .(3)
أقول : لا شك في أنّ الأئمّةعليهم السلام معصومون من السهو والخطأ والنسيان ومن جميع الرذائل والفواحش ومحفوظون من شرّ الشيطان ووسوسته من أوّل عمرهم إلي آخره ، فالمقصود من هذه العبارة غيرهم .
وروي الكشي رحمه الله عن سعد عن أحمد بن محمّد عن أبيه وابن يزيد والحسين بن سعيد جميعاً عن ابن أبي عمير عن إبراهيم بن عبدالحميد عن حفص بن عمرو النخعي قال : كنت جالساً عند أبي عبداللَّه عليه السلام فقال له رجل : جعلت فداك إنّ أبا منصور حدّثني أنّه رفع إلي ربّه وتمسّح علي رأسه وقال له بالفارسية : يا پسر !
فقال له أبو عبد اللَّه عليه السلام : « حدّثني أبي عن جدّي أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم قال : إنّ
ص: 353
إبليس اتّخذ عرشاً فيما بين السماء والارض ، واتخذ زبانية كعدد الملائكة ، فاذا دعا رجلاً فأجابه ووطئ عقبه وتخطت إليه الأقدام ، ترائي له إبليس ورفع إليه ، وإنّ أبا منصور كان رسول إبليس ، لعن اللَّه أبا منصور ، لعن اللَّه أبا منصور » ثلاثاً (1) .
أقول : أنظر إلي هذه الرواية الصحيحة حتّي تظهر لك حقيقة هذه المكاشفات وتعلم أنّهم - أي ابن العربي وأمثاله - عرجوا إلي الشيطان ومعراجه . . ومعه يحشرون .
وروي الكشي رحمه الله مسنداً عن زرارة ، قال : قال أبو عبد اللَّه عليه السلام : « أخبرني عن حمزة ، أيزعم أنّ أبي آتيه » ؟ قلت : نعم . قال : « كذب واللَّه ما يأتيه إلاّ المتكوّن ، إنّ إبليس سلّط شيطاناً يقال له : المتكوّن ، يأتي النّاس في أيّ صورة شاء ، إن شاء في صورة صغيرة وإن شاء في صورة كبيرة ، ولا واللَّه ما يستطيع أن يجي ء في صورة أبي عليه السلام » (2) .
وروي الكشي رحمه الله بإسناده عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال : قال : « تراءي - واللَّه - إبليس لأبي الخطاب علي سور المدينة أو المسجد فكانّي أنظر إليه وهو يقول له : إيهاً تظفر الآن ، إيهاً تظفر الآن . . » .(3)
ص: 354
قال العلامة المجلسي رحمه الله : الظاهر أنّ إبليس إنّما قال له ذلك عند ما أتي العسكر لقتله ، فحرّضه علي القتال ليكون أدعي لقتله ، فالمعني : اسكت ولا تتكلم بكلمة توبة واستكانة ؛ فإنّك تظفر عليهم الآن . . ! ويحتمل الرضا والتصديق أيضاً (1) .
وروي الكشي رحمه الله أيضاً : عن محمّد بن قولويه عن سعد عن محمّد بن عثمان عن يونس عن عبد اللَّه بن سنان عن ابيه عن أبي جعفرعليه السلام أنه قال : « إنّ عبد اللَّه بن سبا كان يدّعي النبوّة ويزعم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو اللَّه - تعالي عن ذلك - فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فدعاه وسأله ، فأقرّ بذلك وقال : نعم أنت هو . . وقد كان ألقي في روعي أنّك أنت اللَّه وأنّي نبيّ .
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : « ويلك ! قد سخر منك الشيطان ، فارجع عن هذا ، ثكلتك امّك وتب . . » فأبي فحبسه واستتابه ثلاثة أيّام ، فلم يتب فأحرقه بالنّار وقال : « إنّ الشيطان استهواه فكان يأتيه ويلقي في روعه ذلك » (2) .
وروي الكشي قدس سره في رجاله مسنداً عن مولانا الصادق عليه السلام أنّه قال : « سمعت أبي عليه السلام يقول : إنّ شيطاناً يقال له : المذهب ، يأتي في كلّ صورة إلاّ أنّه لا يأتي في صورة نبيّ ولا وصيّ نبيّ ، ولا أحسبه إلاّ وقد ترائي لصاحبكم فاحذروه » (3) .
وروي الكشي رحمه الله بسند صحيح عن محمّد بن عيسي ، قال : كتب إليّ أبو الحسن العسكري عليه السلام ابتداءاً منه : « لعن اللَّه القاسم اليقطيني ، ولعن اللَّه عليّ بن حسكة القمّي ، إنّ شيطاناً تراءي للقاسم فيوحي إليه زخرف القول غروراً » .(4)
وعن مولانا الإمام الباقرعليه السلام - في حديث طويل جاء فيه - : « إنّه ليس من
ص: 355
يوم ولا ليلة إلاّ وجميع الجنّ والشياطين تزور أئمّة الضّلالة ، ويزور أئمّة الهدي عددهم من الملائكة حتّي إذا أتت ليلة القدر فيهبط فيها من الملائكة إلي وليّ الأمر ، خلق اللَّه - أو قال : - قيّض اللَّه عزّوجلّ من الشياطين بعددهم ، ثمّ زاروا وليّ الضلالة فأتوه بالإفك والكذب حتّي لعلّه يصبح فيقول : رأيت كذا وكذا . . فلو سأل وليّ الأمر عن ذلك لقال : رأيت شيطاناً أخبرك بكذا وكذا . . حتي يفسّر لها تفسيرها ، ويعلّمه الضلالة الّتي هو عليها . . » .(1)
وروي الكشي قدس سره بإسناده عن يونس قال : سمعت رجلاً من الطيّارة يحدّث أبا الحسن الرضاعليه السلام عن يونس بن ظبيان أنّه قال : كنت في بعض اللّيالي وأنا في الطواف ، فإذا نداء من فوق رأسي : يا يونس ! إنّي أنا اللَّه لا إله إلّا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري فرفعت رأسي فاذا ج(2) .
فغضب أبو الحسن غضباً لم يملك نفسه ، ثمّ قال للرجل : « اخرج عنّي ، لعنك اللَّه ولعن اللَّه من حدّثك ، ولعن يونس بن ظبيان ألف لعنة يتبعها ألف لعنة كلّ لعنة منها تبلغك إلي قعر جهنّم ، وأشهد ما ناداه إلّا شيطان ، أما إنّ يونس مع أبي الخطاب في أشدّ العذاب مقرونان . . » .(3)
وفي الاحتجاج عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : « إنّ الكهانة كانت في الجاهلية في كل حين فترة من الرسل ، كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه في ما يشتبه عليهم من الأمور بينهم فيخبرهم عن أشياء تحدث وذلك من وجوه شتّي : فراسة العين ، وذكاء القلب ، ووسوسة النفس ، وفتنة الروح مع قذف في قلبه ؛ لأنّ ما
ص: 356
يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة فذلك يعلم الشيطان ويؤدّيه إلي الكاهن ويخبره بما يحدث في المنازل والأطراف ، وأمّا أخبار السماء فإنّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السّمع إذ ذاك وهي لا تحجب ولا ترجم بالنجوم ، وانّما منعت من استراق السّمع لئلاّ يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء فيلبس علي أهل الأرض ما جاءهم عن اللَّه لإثبات الحجة ونفي الشبه ، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من اللَّه في خلقه فيختطفها ثمّ يهبطها إلي الأرض فيقذفها إلي الكاهن ، فإذا قد زاد كلمات من عنده فيخلط الحق بالباطل ، فما أصاب الكاهن من خبر ممّا كان يخبر به فهو ما أدّاه إليه شيطانه لما سمعه وما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه ، فمنذ منعت الشياطين عن استراق السّمع انقطت الكهانة ، واليوم إنّما تؤدّي الشياطين إلي كهانها أخباراً للناس بما يتحدثون به وما يحدّثونه والشياطين تؤدّي إلي الشياطين ما يحدث في البعد من الحوادث من سارق سرق . . ومن قاتل قتل . . ومن غائب غاب . . وهم بمنزلة النّاس أيضاً صدوق وكذوب » .(1)
أقول : قال العلامة المحدث النوري رحمه الله : إنّ ما ينكشف للطوائف المذكورة ويخبرون به عن الغيب هو بعض الأمور الجزئية والحوادث اليومية مع التخلف في أغلب مواردها ، بل ومع انقطاع جملة منها بعد ولادة خاتم الأنبياءصلي الله عليه وآله وسلم ثمّ ذكررحمه الله هذا الحديث الشريف .(2)
وعن ابن عبّاس أنه قال : لما فرغ عليّ عليه السلام من قتال أهل البصرة ، وضع قتباً علي قتب ثمّ صعد عليه فخطب فحمد اللَّه وأثني عليه ، فقال : « يا أهل البصرة ، يا
ص: 357
أهل المؤتفكة ! . . » إلي أن قال : ثمّ نزل يمشي - بعد فراغه من خطبته - فمشينا معه فمرّ بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال : « يا حسن ، أسبغ الوضوء ! » فقال : يا أمير المؤمنين ! لقد قتلت بالأمس أناسا يشهدون أن لا إله إلاّ اللَّه وحده لا شريك له وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، يصلّون الخمس ويسبغون الوضوء ، فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام : « فقد كان ما رأيت . . فما منعك أن تعين علينا عدوّنا ؟ » فقال : واللَّه لاُصدقنّك يا أمير المؤمنين ! لقد خرجت في أوّل يوم فاغتسلت وتحنّطت وصببت عليّ سلاحي ، وأنا لا أشكّ في أنّ التخلّف عن أمّ المؤمنين عائشة هو الكفر ، فلمّا انتهيت إلي موضع من الخريبة ناداني مناد : يا حسن ! إلي أين ؟ ارجع ، فإنّ القاتل والمقتول في النّار ، فرجعت ذعراً وجلست في بيتي ، فلمّا كان في اليوم الثاني لم أشك أنّ التخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر ، فتحنّطت وصببتُ عليّ سلاحي وخرجت أريد القتال حتّي انتهيت إلي موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي : يا حسن ! إلي أين ؟ ارجع ، فإنّ القاتل والمقتول في النار ، فرجعت ذعراً وجلست في بيتي ، فلمّا كان في اليوم الثاني لم أشك أنّ التخلّف عن أمّ المؤمنين عائشة هو الكفر ، فتحنّطت وصببت عليّ سلاحي وخرجت أريد القتال حتّي انتهيت إلي موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي : يا حسن ! إلي أين مرة بعد أخري ؟ فإنّ القاتل والمقتول في النار . . قال عليّ عليه السلام : « صدّقك ! أفتدري من ذلك المنادي ؟ » قال : لا . قال عليه السلام : « ذاك أخوك إبليس ، وصدّقك أنّ القاتل والمقتول منهم في النار » .
فقال الحسن البصري : ألآن عرفت يا أمير المؤمنين أنّ القوم هلكي .(1)
أقول : يفهم من هذا الحديث أنّ الشياطين ربما ينادون أوليائهم ويخاطبونهم من غير أن يظهروا لهم .
ص: 358
ويدلّ علي ذلك أيضاً ما في الصحيح عن أمير المؤمنين عليه السلام في قصّة أصحاب الرّس - بعد ما ذكر أنّه كانت لهم إثنتي عشرة قرية ، وفي كلّ منها صنوبرة يعبدونها - قال عليه السلام : « . . وقد جعلوا في كلّ شهر من السّنة في كلّ قرية عيداً يجتمع إليه أهلها ، فيضربون علي الشجرة الّتي بها كلّة من حرير فيها من أنواع الصّور ، ثمّ يأتون بشاة وبقر فيذبحونها قرباناً للشجرة ، ويشعلون فيها النيران بالحطب ، فإذا سطع دخان تلك الذّبايح وقتارها في الهواء وحال بينهم وبين النّظر إلي السماء خرّوا للشجرة سجّدا من دون اللَّه عزّوجلّ ، يبكون ويتضرّعون إليها أن ترضي عنهم ، فكان الشيطان يجي ء ويحرّك أغصانها ويصيح - من ساقها صياح الصّبي - : إنّي قد رضيت عنكم عبادي ، فطيبوا نفساً وقرّوا عيناً ، فيرفعون رؤوسهم عند ذلك . . إلي أن قال عليه السلام : حتّي إذا كان عيد قريتهم العظمي اجتمع إليها صغيرهم وكبيرهم ، فضربوا عند الصنوبرة والعين سرادقاً من ديباج عليه أنواع الصّور ، وجعلوا له إثني عشر باباً كلّ باب لأهل قرية منهم ، فيسجدون للصّنوبرة خارجاً من السّرادق ويقرّبون لها الذبايح أصناف ما قرّبوا للشجرة الّتي في قراهم ، فيجي ء إبليس عند ذلك فيحرّك الصّنوبرة تحريكاً شديداً ، ويتكلّم من جوفها كلاماً جهوريّاً ، ويعدهم ويمنّيهم بأكثر ممّا وعدتهم ومنّتهم الشياطين في تلك الشجرات الأخر للبقاء ، فيرفعون رؤوسهم من السجود وبهم من الفرح والنشاط مالا يفيقون ولا يتكلّمون . . » .(1)
أقول : هذا الحديث الصحيح يوضح ويبيّن حال مشايخ الصوفيّة ومكاشفاتهم .
ثمّ إنّ تمثّل الشيطان بكلّ صورة وشكل - غير صورة الأنبياء والأوصياء - في
ص: 359
اليقظة والمنام من الواضحات في أحاديثنا ، والكتاب العظيم أيضاً شاهد عليه .
وقد جاء إبليس في صورة سراقة بن مالك عند كفار مكة في غزوة بدر ، فقال لهم : إنّي جار لكم ، ادفعوا إليّ رايتكم . . . فلمّا تراءت الفئتان نكص علي عقبيه وقال : إنّي بري ء منكم ، إنّي أري ما لا ترون .(1)
وقد تمثّل إبليس في صورة حبر من أحبار اليهود لمرحب - في غزوة خيبر حين هرب ولم يقف ، خوفاً ممّا حذرته منه ظئره وذاك عند ما سمع من أمير المؤمنين علي عليه السلام يرتجز ويقول : « أنا الّذي سمتني أمّي حيدرة » - فقال : إلي أين يا مرحب . . ؟ (2)
وفي قصة المرأة الأنصارية الّتي زنت مع الراعي . . . واعترض لها إبليس لعنه اللَّه فقال : أنت حامل ، قالت : ممّن ؟ قال : من الراعي . . فصاحت : وافضيحتاه ! فقال : لا تخافي ! إذا رجعت إلي الوفد قولي لهم : إنّي سمعت قراءة المقدسيّ فقربت منه ، فلمّا غلب عليّ النوم دنا مني وواقعني ولم أتمكّن من الدفاع عن نفسي بعد القراءة . . (3)
وقد روي في ما حدث في السقيفة من قصّة أوّل من بايع الخليفة الأوّل ، عن سلمان رضي الله عنه أنّه قال : رأيت شيخاً كبيراً يتوكأعلي عصاه بين عينيه سجّادة شديد التشمير ، صعد المنبر أوّل من صعد وخرّ وهو يبكي ويقول : الحمد للَّه الّذي لم يمتني
ص: 360
حتي رأيتك في هذا المكان ، ابسط يدك ، فبسط يده فبايعه ، ثمّ قال : يوم كيوم آدم ! ثمّ نزل فخرج من المسجد .
فقال علي عليه السلام : « يا سلمان ! أتدري من هو » ؟
قلت : لا ؟ . . . قال عليه السلام : « ذلك إبليس لعنه اللَّه » (1) .
وقد حكي عن رجل أنّ أباه كان يخبر بأخبار البلاد المتباعدة وما يقع بها ، ويرسل كتابات يصل من مثل الشّام إلي مكّة في أوقات يسيرة يعلم ذلك من تاريخها ، وكان النّاس يتعجّبون من ذلك ونحوه ، فلمّا توفّي الأب أخبر الولد أنّ بعد وفات أبيه جاء شخص بصورة عبد أسود طويل فقال له : أنا كنت خادما لأبيك في حياته ، فإن أردت أن أكون لك كما كنت لأبيك فعليك أن تقوم بشرط كان بيني وبينه ، وهو أنّي شرطت عليه أن يسجد لي دون اللَّه ! فقبل وفعل ، فامتنع الولد من ذلك فانصرف ولم يره بعده (2) .
وقد نقل المحقق التنكابني عن عمّه الآخوند ملاّ عبدالمطلب حكاية الدرويش المعروف بطيّ الأرض ، وكان شرط تعليمه إنكار إمامة عليّ بن موسي الرضاعليه السلام ، وترك الصلوة .
ثمّ ذكر حديثاً من كتاب زينة المجالس في قصة الإمام عليه السلام مع المرتاض الهندي وكيفية إسلامه ، فراجع إن شئت .(3)
أقول : إنّ التأمّل في ما ورد عن الأئمة المعصومين عليهم السلام في التوحيد وشؤونه وما
ص: 361
يتعلق به من معرفته سبحانه وصفاته و . . تغنينا عن مقالة المنحرفين وسفسطة المتشدّقين بعناوين أمثال : الحكيم الإلهي ، والحكماء المتألّهون ، والعرفاء الشامخون ، وأهل اللَّه وأمثال ذلك ؛ إذ هذا النوع من التبجيل والتكريم لا يختصّ بهؤلاء ، بل ذلك دعوي كلّ مبطل ، إذ إنّ كلّ منحرف يهتمّ بأمثال هذه العناوين كيما يروّج باطله ، ولا يسعه أن يسقي سمّه إلاّ وأن يخلطه بعسل الولاية وكلمات المعصومين عليهم السلام كي ينطلي ذلك علي البسطاء وأبناء الحقيقة ، فإنّك بعد ما سمعت من الأحاديث عن الّذين زكّاهم اللَّه واصطفاهم وجعلهم ولاة أمره والمستودعين لسرّه ومعادن علمه وحكمته : « إنّ إبليس اتّخذ عرشاً فيما بين السماء والأرض واتّخذ زبانية كعدد الملائكة » و « يرفع إليه بعض أوليائه » و« يأتي الرجل في كلّ صورة شاء إلاّ ما استثني » و« يأتيه ويلقي في روعه : انّك أنت اللَّه » و« يوحي إليه ويأتيه زخرف القول والإفك » و« قد ينادي أولياءه وأتباعه ويخاطبهم من غير أن يظهر لهم : إنّي أنا اللَّه لا إله إلاّ أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري » و« قد ينادي بأمر باطل آخر ، ويؤدّي إليهم ما يحدث من الحوادث والوقايع » و« قد كانت الشياطين تدخل أجواف بعض الأشياء ، وتخبر أهلها من كلّ ما يسألون » وهو أعظم ممّا يدّعيه هؤلاء الصوفية ، فلا أظنّ أنّك تشكّ في بطلان هذه المكاشفات من ابن العربي وغيره من الّذين ادّعوا أنّ الأشياء جميعاً مجالي الحق ومظاهره ، بل هي عين الحق وأنّ عبدة الأوثان والأصنام وكذلك العابدون للشمس والقمر والكواكب والشجر والحجر والنار والعجل كلّهم جميعاً عابدون للَّه تعالي .
والحاصل أنّه قد ظهر مما ذكرناه في هذا المقام : أنّ المؤسّس لهذا المسلك - أي وحدة الوجود والموجود - هو إبليس ، حيث أوحي بذلك إلي أوليائه فأطاعوه ، واتّخذه لهم ديناً ، وجعلوا أنفسهم للشيطان قريناً فساء قريناً .
ص: 362
قال ملاّ صدرا - في المشهد الثاني من المفتاح الرابع من مفاتيح الغيب ، بعد كلام له في باطن النبوة وهو الولاية ، وظاهره وهو الشريعة ، ما لفظه - : فالواجب علي الطالب المسترشد اتّباع علماء الظاهر في العبادات والطاعات والانقياد لعلم ظاهر الشريعة ، فإنّه صورة علم الحقيقة لا غير ، ومتابعة الأولياء في السير والسلوك لينفتح له أبواب الغيب والملكوت بمفاتيح إشاراتهم وهداياتهم ، وعند هذا الفتح يجب العمل له بمقتضي علم الظاهر والباطن مهما أمكن .
وإن لم يمكن الجمع بينهما فمادام لم يكن مغلوباً لحكم الواردة والحال أيضاً يجب اتّباع العلم الظاهر ، وإن كان مغلوباً لحاله بحيث يخرج عن مقام التكليف فيعمل بمقتضي حاله لكونه في حكم المجذوبين .
وكذلك العلماء الراسخون فإنّهم في الظاهر متابعون للفقهاء المجتهدين ، وأمّا في الباطن فلا يلزم لهم الاتّباع ؛ لأنّ الفقهاء الظاهريّين يحكمون بظاهر المفهوم الأوّل من القرآن والحديث ، وهؤلاء يعلمون ذلك مع المفهومات الأخر ، والعارف لا يتّبع من دونه ، بل الأمر بالعكس بشهوده الأمر علي ما نفسه .
قال : فإذا كان إجماع علماء الظاهر في أمر مخالف مقتضي الكشف الصحيح الموافق للكشف الصريح النبوي والفتح المصطفوي لا يكون حجة عليهم ، فلو خالف في عمل نفسه من له المشاهدة والكشف إجماع من ليس له ذلك لا يكون ملوماً في المخالفة ولا خارجاً عن الشريعة ؛ لأخذه ذلك عن باطن الرسول وباطن الكتاب والسنة ، انتهي .
أقول : نكتفي في الجواب عنه بذكر ما أفاده العلاّمة المحدّث النوري في ردّه ، قال رحمه الله : وفيه مواقع للنظر ، وليت شعري ما الّذي أراد من الواردة والحال ؟ !
ص: 363
فإن أراد بها ما يفيض علي القلب المهذّب بالرياضات الشرعيه من الحقائق والمعارف من النفوس الكلّية والعقول المجردة - بزعمه - من غير توسّط نظر وبرهان ، فهو ما ينوّره ويزيد في انشراحه وبصيرته وشوقه وانبعاثه إلي العمل ، فكيف يتصوّر الخروج به عن مقام التكليف ؟ ولا يخرج عنه إلاّ بانعدام العقل أو ضعفه المستلزم لجنونه ، ومعه لا شعور ولا معرفة فكيف يعمل بمقتضي الواردة ؟
ثمّ كيف يكون مقتضاها مخالفاً للشرع ؟ وحاشاه أن يخالف ظاهره باطنه ، أو يوجب الاطّلاع علي باطنه رفع اليد عن ظاهره كما زعمه الإسماعيلية فقالوا : للقرآن ظاهر وباطن ، والمراد منه باطنه لا ظاهره المعلوم من اللغة . . .
وإلاّ فلم ينكر الظاهريون - بزعمه - من علمائنا الأعلام ثبوت باطن للتكاليف العملية ، بل رووا متواتراً : « أنّ للقرآن ظهراً وبطناً إلي سبعة » وفي بعض الأخبار : « إلي سبعين . . » ، وأنّ أحاديث أئمتهم عليهم السلام يجري مجراه واتفقوا كالأخبار أنّ غاية جميعها المعرفة ، وانحصار طريق تكميلها في التقوي بشطريها العمل بالطاعات والاجتناب عن المعاصي الظاهرة والباطنة بل المكروهات ، وأنّه كلّما زاد في المعرفة والاطّلاع علي أسرار الشريعة وبواطنها الخفيّة يزيد في العمل ، وميزان صدقها ومعيار حقّها من باطلها كما قال أبو عبد اللَّه الشهيدعليه السلام : « إنّ اللَّه جلّ ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه » وأنّه لا يرفع التكليف بالظواهر لأحد إلاّ بالجنون وأخواته ، وأنّه لا قدر له فضلاً عن علوّ شأنه ورفعة مقامه عن ذي شعور فضلاً عن نواميس الدّين لسلبه تعالي عنه أشرف نعمه وهو العقل .
والحاصل أنّ العلم بباطن الصلاة مثلاً وأنّها فيه الولاية أو غيرها لا يوجب الخروج عن عهدة ظاهرها وهي الأركان ، بل هي طريق تحصيلها وصبغ القلب بها كما فصّلناه سابقاً .
ص: 364
وإن أراد بالواردة ما يعرض للانسان من ملاعبة الجنّ وإيذائهم فالأمر أشنع .
وما ذكره - من إمكان مخالفة الكشف لإجماع العلماء وتقديمه عليه - غير منطبق علي مذهب الشيعة القائلين بكشف إجماعهم - سيّما فيما يرسلونه إرسال المسلّمات - عن الحكم الواقعي ورضاء الإمام عليه السلام ورأيه فيه .(1)
أقول : إنّهم - أي العرفاء - ذكروا أنّ الحقّ من المكاشفات ما يصدّقه البرهان - كما مرّ كلامهم - وبعد قيام الإجماع - الّذي حجيّته باعتبار قول المعصوم عليه السلام - علي خلافها فقد قام البرهان النقلي علي خلافه فهو ممّا يكذّبه البرهان .
هذا كلّه مجمل ما يتعلّق بالمكاشفة بعنوان الشهود والرؤية والعيان .
وعليه مدار أكثر دعاوي الصّوفية وأباطيلهم حيث إنّ أعظم بضاعتهم : رأيت البارحة . . ! ورأي شيخنا . . ! وممّا شاهده مولانا . . ! وأمثال ذلك ، وقد جرت عادتهم علي أنّهم ينقلون ما يرون في المنام لمرشديهم ، فيعبّرونها لهم علي ما هو المناسب لمذاقهم ، فنقول :
روي الشيخ الكلينيّ رحمه الله في الكافي الشريف بسنده عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام : جعلت فداك ! الرؤيا الصادقة والكاذبة مخرجهما من موضع واحد ؟ قال : « صدقت ، أمّا الكاذبة المختلفة فإنّ الرجل يراها في أوّل ليلة في سلطان المردة الفسقة ، وانّما هي شي ء يخيّل إلي الرجل وهي كاذبة مخالفة لا خير فيها ، وأمّا الصّادقة إذا رآها بعد الثلثين من الليل مع حلول الملائكة - وذلك قبل السحر - فهي
ص: 365
صادقة لا تخلّف إن شاء اللَّه ، إلاّ أن يكون جنباً أو ينام علي غير طهر أو لم يذكر اللَّه عزوجل حقيقة ذكره فإنّها تختلف وتبطئ علي صاحبها » (1) .
وفي الكافي بسنده عن سعد بن أبي خلف عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال : « الرّؤيا علي ثلاثة وجوه : بشارة من اللَّه للمؤمن ، وتحذير من الشيطان ، وأضغاث أحلام » (2) .
وروي الصدوق رحمه الله في أماليه بسنده عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قال : « سئلت رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم عن الرجل ينام فيري الرؤيا فربّما كانت حقّاً وربما كانت باطلاً ؟ فقال رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم : « يا علي ! ما من عبد ينام إلاّ . . . فما رأي عند ربّ العالمين فهو حق ، ثمّ إذا أمر اللَّه العزيز الجبّار بردّ روحه إلي جسده فصارت الروح بين السماء والأرض فما رأته فهو أضغاث أحلام » (3) .
وفي الأمالي بسنده عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه السلام قال : سمعته يقول : « إنّ لإبليس شيطاناً يقال له : هزع ، يملأ ما بين المشرق والمغرب في كلّ ليلة يأتي النّاس في المنام » (4) .
وروي الصدوق رحمه الله بسنده عن معاوية بن عمار عن أبي جعفرعليه السلام قال : « إنّ العباد إذا ناموا خرجت أرواحهم إلي السماء فما رأت الروح في السماء فهو الحق ، وما رأت في الهواء فهو الأضغاث . . » .(5)
ص: 366
وغيرها من النصوص ، فراجع (1) .
أقول : إنّ المكاشفة بهذا المعني ( أي ما يراه النائم في المنام ) أيضاً لا اعتبار لها عقلاً ولا شرعاً لاحتمال كونها من أضغاث الأحلام ، وهي علي أنحاء مختلفة : منها : إلقاءات الشياطين ولا سيّما إذا كان في أوّل المنام وفي آخره حين تردّ الروح إلي جسدها كما نطقت به الروايات .(2)
ومنها : ما يحدّث به الإنسان نفسه في اليقظة فيراه في نومه .
وغير ذلك كما يأتي في كلام الشيخ السديد المفيد رحمه الله .
وما أروع قول مولانا الإمام الصادق عليه السلام - علي ما في حديث صحيح - : « إنّ دين اللَّه عزّوجلّ أعزّ من أن يري في النوم » (3) .
وعلي فرض انكشاف الأمور الغيبيّة في حال اليقظة أو النوم من طريق العين أو الأذن أو الإلقاء في القلب ولو في حال الذكر أو الخلسة فما الدليل - إذا وقع ذلك لغير المعصوم عليه السلام - علي أنّ الملقي ملك أو شيطان ، وقد اعترف القيصريّ وغيره بأنّ بعض المشاهدات والإلقاءات واقعيّ ورحمانيّ وبعضها خياليّ وشيطانيّ - كما تقدّم - ولذا قال بعضهم : إنّ الحق من المكاشفات ما يصدّقه البرهان العقلي .
فما كان هذا حاله كيف يجوز للعاقل أن يستند إليه في أمور دنياه فضلاً عن أحكام دينه ومعالم شريعته ؟ !
ثمّ إنّ تحقيق الكلام في هذا الأمر ( أي الكشف بالرؤيا ) هو ما أفاده الشيخ المفيدرحمه الله كما حكاه عنه العلاّمة الكراجكي في كنزه وقال : وجدت لشيخنا المفيد
ص: 367
رضي الله عنه في بعض كتبه أنّ الكلام في باب رؤيا المنامات غزير ، وتهاون أهل النظر به شديد ، والبليّة بذلك عظيمة ، وصدق القول فيه أصل جليل ، والرؤيا في المنام تكون من أربع جهات :
أحدها : حديث النفس بالشي ء والفكر فيه حتي يحصل كالمنطبع في النفس ، فيخيّل إلي النائم ذلك بعينه وأشكاله ونتائجه ، وهذا معروف بالاعتبار .
الجهة الثانية : من الطبائع وما يكون من قهر بعضها لبعض ، فيضطرب المزاج ويتخيّل لصاحبه ما يلائم ذلك الطبع الغالب من مأكول ومشروب ومرئي وملبوس ومبهج ومزعج .
وقد نري تأثير الطبع الغالب في اليقظة والشاهد حتّي أنّ من غلب عليه الصفراء يصعب عليه الصعود إلي المكان العالي ( بما ) يتخيل له من وقوعه ، ويناله من الهلع والزمع(1) ما لا ينال غيره ، ومن غلبت عليه السوداء يتخيل أنّه قد صعد في الهواء وناجته الملائكة ، ويظنّ صحة ذلك ، حتّي أنّه ربّما اعتقد في نفسه النبوّة وأنّ الوحي يأتيه من السماء وما أشبه ذلك .
والجهة الثالثة : ألطاف من اللَّه عزّوجلّ لبعض خلقه من تنبيه وتيسير وإعذار وإنذار ، فيلقي في روعه ما ينتج له تخيّلات أمور تدعوه إلي الطاعة والشكر علي النعمة وتزجره عن المعصية وتخوّفه الآخرة ويحصل له بها مصلحة وزيادة فائدة وفكر يحدث له معرفة .
الجهة الرابعة : أسباب من الشيطان ووسوسة يفعلها للانسان ، يذكره بها أموراً تحزنه وأسباباً تغمّه وتطمعه فيما لا يناله ، أو يدعوه إلي ارتكاب محظور يكون فيه عطبه ، أو تخيّل شبهة في دينه يكون منها هلاكه ، وذلك مختصّ بمن عدم التوفيق ،
ص: 368
لعصيانه وكثرة تفريطه في طاعات اللَّه سبحانه ، ولن ينجو من باطل المنامات وأحلامها إلاّ الأنبياء والأئمّةعليهم السلام ومن رسخ في العلم من الصالحين .
وقد كان شيخي رضي الله عنه قال لي : إنّ كلّ من كثر علمه واتّسع فهمه قلّت مناماته ، فإن رأي مع ذلك مناماً وكان جسمه من العوارض سليماً فلايكون منامه إلاّ حقّاً .
يريد بسلامة الجسم عدم الأمراض المهيّجة وغلبة بعضها علي ما تقدّم به البيان . والسكران أيضاً لايصحّ له منام ، وكذلك الممتلي ء من الطعام ؛ لأنّه كالسكران ، ولذلك قيل : إنّ المنامات قلّما تصحّ في ليالي شهر رمضان .
فأمّا منامات الأنبياءعليهم السلام فلا تكون إلاّ صادقة ، وهي وحي في الحقيقة ، ومنامات الأئمّةعليهم السلام جارية مجري الوحي وإن لم تسمّ وحياً ، ولا تكون قطّ إلّا حقاً وصدقاً ، وإذاً صحّ منام المؤمن ؛ لأنّه من قبل اللَّه تعالي كما ذكرناه ، وقد جاء في الحديث عن رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « رؤيا المؤمن جزء من سبعة وسبعين جزء من النبوّة » ، وروي عن عليّ عليه السلام قال : « رؤيا المؤمن تجري مجري كلام تكلّم به الرّب عنده » .
فأمّا وسوسة شياطين الجنّ فقد ورد السمع بذكرها ، قال اللَّه تعالي : « من شرّ الوسواس الخنّاس ، الّذي يوسوس في صدور النّاس ، من الجنّة والنّاس »(1)
وقال :« وانّ الشياطين ليوحون إلي أوليائهم ليجادلوكم . . »(2)
وقال : « شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلي بعض زخرف القول غروراً »(3)
ص: 369
فأمّا كيفية وسوسة الجنيّ للإنسي فهو أنّ الجنّ أجسام رقاق لطاف ، فيصحّ أن يتوصّل أحدهم برقّة جسمه ولطافته إلي سمع الإنسان ونهايته ، فيوقر فيه كلاماً يلبّس عليه إذا سمعه ويشبّه عليه بخواطره ؛ لأنّه لا يرد عليه ورود المحسوسات من ظاهر جوارحه ، ويصحّ أن يفعل هذا بالنائم واليقظان جميعاً ، وليس هو في العقل مستحيلاً .
وروي جابر بن عبداللَّه أنّه قال : بينما رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم يخطب إذ قام إليه رجل ، فقال : يا رسول اللَّه ! إنّي رأيت كأنّ رأسي قد قطع وهو يتدحرج وأنا أتبعه ، فقال رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم : « لا تحدّث بلعب الشيطان بك » ، ثمّ قال : « إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدّثن به أحداً » .
وأمّا رؤية الإنسان للنبي صلي الله عليه وآله وسلم أو لأحد الأئمةعليهم السلام في المنام فإنّ ذلك عندي علي ثلاثة أقسام : قسم أقطع علي صحته ، وقسم أقطع علي بطلانه ، وقسم أجوّز فيه الصحة والبطلان ، فلا أقطع فيه علي حال .
فأمّا الّذي أقطع علي صحّته فهو كلّ منام رأي فيه النبي صلي الله عليه وآله وسلم أو أحد الأئمّةعليهم السلام وهو فاعل لطاعة أو آمر بها ، وناه عن معصية أو مبيّن لقبحها ، وقائل بالحقّ أو داع إليه ، أو زاجر عن باطل ، أو ذامّ لمن هو عليه .
وأمّا الّذي أقطع علي بطلانه فهو كلّ ما كان علي ضدّ ذلك ، لعلمنا أنّ النبيّ والإمام عليهما السلام صاحبا حقّ ، وصاحب الحق بعيد عن الباطل .
وأمّا الّذي أجوّز فيه الصحة والبطلان فهو المنام الّذي يري فيه النّبي والإمام عليهما السلام وليس هو آمراً ولا ناهياً ولا علي حال يختصّ بالديانات ، مثل أن يراه راكباً أو ماشياً أو جالساً ونحو ذلك .
وأمّا الخبر الّذي يروي عن النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم من قوله : « من رآني فقد رآني ، فإنّ
ص: 370
الشيطان لايتشبّه بي » فإنّه إذا كان المراد به المنام يحمل علي التخصيص دون أن يكون في حال ، ويكون المراد به القسم الأوّل من الثلاثة الأقسام ؛ لأنّ الشيطان لايتشبّه بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم في شي ء من الحقّ والطاعات .
وأمّا ما روي عنه صلي الله عليه وآله وسلم من قوله : « من رآني نائماً فكأنّما رآني يقظاناً » فإنّه يحتمل أحد وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد به رؤية المنام ويكون خاصّاً كالخبر الأوّل علي القسم الّذي قدّمناه .
والثاني : أن يكون أراد به رؤية اليقظة دون المنام ويكون قوله : « نائماً » حالاً للنبيّ صلي الله عليه وآله وسلم وليست حالاً لمن رآه فكأنّه قال : من رآني وأنا نائم فكأنّما رآني وأنا منتبه .
والفائدة في هذا المقال : أن يعلّمهم بأنّه يدرك في الحالتين إدراكاً واحداً ، فيمنعهم ذلك إذا حضروا عنده وهو نائم أن يفيضوا فيما لا يحسن ذكره بحضرته وهو منتبه ، وقد روي عنه صلي الله عليه وآله وسلم أنّه غفا ثمّ قام يصلّي من غير تجديد الوضوء ، فسئل عن ذلك ، فقال : « إنّي لست كأحدكم ، تنام عيني ولا ينام قلبي » .
وجميع هذه الروايات أخبار آحاد ، فإن سلّمت فعلي هذا المنهاج .
وقد كان شيخي رحمه الله يقول : إذا جاز من بشر أن يدّعي في اليقظة أنّه إله كفرعون ومن جري مجراه مع قلّة حيلة البشر وزوال اللبس في اليقظة ، فما المانع من أن يدّعي إبليس عند النائم بوسوسته له أنّه نبيّ ؟ مع تمكّن إبليس بما لا يتمكّن منه البشر وكثرة اللبس المعترض في المنام .
وممّا يوضح لك - أنّ من المنامات الّتي يتخيّل للإنسان أنّه قد رأي فيها رسول اللَّه والأئمّة - صلوات اللَّه عليهم - منها ما هو حقّ ومنها ما هو باطل - أنّك
ص: 371
تري الشيعي يقول : رأيت في المنام رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم ومعه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام يأمرني بالاقتداء به دون غيره ويعلّمني أنّه خليفته من بعده .
ثمّ تري الناصبي يقول : رأيت رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم في النوم ومعه أبوبكر وعمر وعثمان ، وهو يأمرني بمحبّتهم وينهاني عن بغضهم ، ويعلّمني أنّهم أصحابه في الدنيا والآخرة ، وأنّهم معه في الجنّة ونحو ذلك .
فتعلم - لا محاله - أنّ أحد المنامين حقّ والآخر باطل ، فأولي الأشياء أن يكون الحقّ منهما ما ثبت بالدليل في اليقظة علي صحّة ما تضمّنه ، والباطل ما أوضحت الحجّة عن فساده وبطلانه .
وليس يمكن للشيعي أن يقول للنّاصبيّ : إنّك كذبت في قولك : رأيت رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم ؛ لأنّه يقدر أن يقول له مثل هذا بعينه .
وقد شاهدنا ناصبيّاً تشيّع ، وأخبرنا في حال تشيّعه بأنه يري منامات بالضّد ممّا كان يراه في حال نصبه ، فبان بذلك أنّ أحد المنامين باطل وأنّه من نتيجة حديث النفس أو من وسوسة إبليس ونحو ذلك ، وأنّ المنام الصحيح هو لطف من اللَّه تعالي بعبده علي المعني المتقدّم وصفه .
وقولنا في المنام الصحيح : إنّ الإنسان إذا رأي في نومه النبي صلي الله عليه وآله وسلم إنّما معناه : أنّه كان قد رآه ، وليس المراد به التحقيق في اتّصال شعاع بصره بجسد النّبي ، وأيّ بصر يدرك به في حال نومه ؟ وإنّما هي معان تصوّرت في نفسه ، تخيّل له فيها أمر لطف اللَّه تعالي له به قام مقام العلم .
وليس هذا بمناف للخبر الّذي روي من قوله : « من رآني فقد رآني » ؛ لأنّ معناه : فكأنّما رآني .
ص: 372
وليس بغلط في هذا المكان إلاّ عند من ليس له من عقله إعتبار .(1)
وإنّما نقلناه بطوله لاشتماله علي فوائد كثيرة ، وفيه قلع أساس منامات الصوفية ، حيث إنّهم يستندون أكثر أباطيلهم إلي الرؤيا والمنام ، فإن كانوا صادقين في أصل الرؤيا ، فإنّما هي من أضغاث الأحلام وعمل الشيطان ، وكفي بذلك شاهداً أنّ ابن العربي نسب كتاب الفصوص إلي رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم وذكر في أوّل الفصوص(2) : أنّه رأي رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم في المنام بمحروسة دمشق وبيده كتاب ، فقال له : هذا كتاب فصوص الحكم ، خذه واخرج به إلي النّاس ينتفعون به . . ! وذكر في الكتاب المذكور - مضافة إلي سائر أباطيله - منامات مخالفة لدين الإسلام وشريعة سيّد الأنام كما يعرفه من رجع إليه من ذوي البصائر والأفهام .
فما ورد في النّبوي وروايات أخري من «أنّ بعضها جزء من النبوّة » تختصّ بالمؤمن(3) ، فلا اعتبار بما يراه مثل ابن العربي الّذي ادّعي تارة : أنّه خاتم الولاية(4) ! واُخري : أنّه عديل النّبوة ومساو له صلي الله عليه وآله وسلم في الرتبة ! وثالثة : أنّه أفضل من الأنبياء والرّسل ، لتلقّيه الوحي بلا واسطة من الحق وتلقّي الرّسل له بواسطة الملك ! كما قال في آخر كلامه : فإنّه يأخذ من المعدن الّذي يأخذ منه الملك الّذي يوحي به إلي الرّسل وهو الحقّ تعالي .(5)
ص: 373
وبعضهم لأجل انحرافهم عن الصّراط المستقيم وأخذهم بالبدعات والضّلالات شملهم من اللَّه الخذلان وترائي لهم الشيطان وتجسّم في نظرهم وحضر في مجلسهم وتكلّم معهم تحكيماً وتثبيتاً لما أسّسوه من الضلال والإضلال وما جرّوه علي أنفسهم وغيرهم من الوبال .
فإنّ الشياطين تترائي لهم في صور مختلفة ؛ فربّما يغويهم الشيطان ويقول لهم : أنا إمامكم ؛ بل أنا إلهكم و . . كما اتّفق لأبي حامد الغزالي وأمثاله .
وقد حكي صاحب مفتاح السعادة عن أبي حامد الغزالي - في بعض مؤلّفاته - أنّه قال : كنت في بدايتي منكراً لأحوال الصالحين ومقامات العارفين حتّي حظيت بالواردات ، فرأيت اللَّه تعالي في المنام فقال لي : يا أبا حامد ! قلت : أو الشيطان يكلّمني ؟ ! قال : لا ، بل أنا اللَّه المحيط بجهاتك السّت ! ثمّ قال : يا أبا حامد ! ذر أساطيرك وعليك بصحبة أقوام جعلتهم في أرضي محلّ نظري وهم أقوام باعوا الدّارَين بحبّي . فقلت : بعزّتك إلّا أذقتني برد حسن الظنّ بهم ، فقال : قد فعلت ذلك . . ! والقاطع بينك وبينهم تشاغلك بحبّ الدنيا ، فاخرج منها مختاراً قبل أن تخرج منها صاغراً ، فقد أمضيت عليك نوراً من أنوار قدسي ، فقم وقل .
قال : فاستيقظت فرحاً مسروراً وجئت إلي شيخي يوسف النساج فقصصت عليه المنام ، فتبسّم وقال :
يا أبا حامد ! هذا ألواحنا في البداية فمحوناها ، بلي إن صحبتني سأكحل بصر بصيرتك بأثمد التّأييد حتّي تري العرش ومن حوله ، ثمّ لا ترضي بذلك حتّي تشاهد ما لا تدركه الأبصار ، فتصفو من كدر طبيعتك وترتقي علي طور عقلك وتسمع الخطاب من اللَّه تعالي - كما كان لموسي عليه السلام - : أنا اللَّه رب العالمين .(1)
ص: 374
وأجاب عنه العلاّمة الأميني رحمه الله وقال : مادح نفسه يقرءك السلام . . ! ليت شعري هل كان يضيق فم الشيطان عن أن يقول : أنا اللَّه المحيط بجهاتك السّت ، كما لم تضق أفواه المدّعين للرّبوبية في سالف الدّهر ؟ فمن أين عرف الغزالي - بصرف الدّعوي - أنّه هو اللَّه ؟ ! ولماذا لم يحتمل بعد أنّه هو الشيطان ؟ وإن كان قد صدّق الرؤيا وأذعن بأنّ اللَّه هو الّذي خاطبه فلماذا لم يدع الأساطير وقد خوطب ب : ذر الأساطير ، ولم ينسج علي نول النساج شيخه إلاّ التافهات ؟ وليته كان يوجد في صيدلية النساج كحل آخر تحدّ بصر الغزالي وبصيرته حتّي لا يبوء بإثم كبير ممّا في إحيائه من رياضيّات غير مشروعة محبّذة من قبله ؛ كقصّة لصّ الحمّام وغيرها ، وحديث منعه عن لعن يزيد اللعين في باب آفات اللسان ، إلي أمثاله الكثير الباطل .
وما أحدّ أثمد النسّاج الّذي يترك من اكتحل به لا يرضي بعد رؤيته العرش ومن حوله ، حتّي يشاهد ما لا تدركه الأبصار ويسمع الخطاب - كما سمعه موسي - : أنااللَّه ربّ العالمين ؟ وأنا إلي الغاية لا أدري أنّ موسي عليه السلام المشارك له في السماع هل شاركه في الرؤية ؟ ولعلّ صاحب الهذيان يجد نفسه مربّية علي نبي اللَّه موسي الّذي هو من أولي العزم من الرسل وخوطب بقول اللَّه العزيز : لن تراني يا موسي ! هكذا فليكن السالك المجاهد الغزّال .(1)
أقول : وقد ورد عن مولانا وسيّدنا الإمام جعفر بن محمّد عليهما السلام أنّه قال في جواب السائل عن أنّ رجلاً رأي ربّه عزّ وجلّ في منامه فما يكون ذلك ؟ ! فقال : « ذلك رجل لا دين له ، إنّ اللَّه تبارك وتعالي لا يري في اليقظة ولا في المنام ولا في الدنيا ولا في الآخرة » (2)
ص: 375
كيف يمكن رؤيته تعالي في أيّ حال من الأحوال وقد قال اللَّه جلّ وعزّ : « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار »(1) .
حريّ بنا أن نلقي الضوء - مجملاً - علي مبحث التجلّي(2) الّذي كثيراً ما يتشدّقون القوم به ويعدّونه نوعاً من الكشف بل لعلّه مرادفاً له ، وقد ذكروا له أنواعاً وعدّوا له أقساماً ، ولا غرض لنا بما فصّلوه إلاّ بمقدار ما يهمّنا منه في مقامنا هذا ، فنقول : لا يخفي أنّ التجلّي في اللغة إظهار الجلاء عن الخفاء ، وهو في اللَّه تعالي عندهم عليهم السلام إظهار الجلاء عن نفسه بآية من آياته لا بنفسه ؛ لأنّ التجلّي من غيره
ص: 376
تعالي إظهار نفسه إمّا بوجهه وبدنه أو بعلامة من علاماته .
ولمّا كانت رؤيته تعالي مستحيلة ، لم يحتمل التجلّي في حقّه تعالي إلّا بآياته ، سواء فرض تجلّيه للقلوب أم للأبصار ، فيُجْتَلي للعقول والقلوب علماً وقدرة وقهراً ؛ فإنّ آياته تعالي مختلفة ، فمنها ما هي آية العلم ، ومنها آية القدرة وآية القهر وآية العظمة و . . ، فبأيّ آية تجلّي به تعالي ينجلي ويظهر شأن من شؤونه ، فينجلي هو عند المتجلّي له بذلك الشأن ، فإذا تجلّي مثلاً بآية من آيات القهر والعظمة ، فمعني تجلّيه بها : أنّه أظهر قهره وعظمته ، وأظهر ما يدلّ علي قهره وعظمته ، فأظهر بذلك نفسه في قهره وعظمته .
والحاصل : أنّ تجلّي اللَّه تعالي ليس من تجلّي الشي ء وظهوره حسّاً بعد خفائه كتجلّي الشمس أي ظهورها من الأفق كما هو واضح .
ولا هو من تجلّي العلّة بمعلولها الّذي يتولّد ويترشّح منها ، كتجلّي الشمس بنورها المنتشر في الفضاء وعلي وجه الأرض ؛ لأنّه من الولادة المنفيّة عنه تعالي عقلاً ونقلاً - كما مرّ - ، فيكون هذا القول قولاً بأنّ اللَّه سبحانه والد ؛ لصدق الولادة علي خروج كلّ شي ء من شي ء بأيّ نحو من أنحاء الخروج كما تقدّم .
ولا من تجلّي الحقيقة الواحدة بأطوارها ، كتجلّي الماء تارة بصورة البحار ، واُخري بصورة الموج ؛ لأنّ مرجعه إلي التغيّر المنزّه عنه الحقّ تعالي .
بل المراد من التجلّي هنا : تجلّي الصانع بمصنوعاته وبما أبدع وعمل فيها من اللطائف والصور وغيرها ، فإنّ وجوده وعلمه وقدرته و . . تتجلّي بها ، ويكون ما صنعه وما أبدع فيه آيات له ولكمالاته .
والشاهد علي ذلك قوله عليه السلام : « بها ( أي بالأشياء ) تجلّي صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون » .(1)
ص: 377
وقول مولانا الصادق عليه السلام : « إنّ موسي لمّا أن سأل ربّه ما سأل ، أمر واحداً من الكروبيّين ، فتجلّي للجبل فجعله دكّاً » .(1)
وقول أبي الحسن الرضاعليه السلام : « . . فلمّا تجلّي ربّه للجبل بآية من آياته جعله دكّاً وخرّ موسي صعقاً . . » (2)
وقوله عليه السلام : « لم تحط به الأوهام بل تجلّي لها بها » (3) أي بالأشياء .
وقوله عليه السلام : « الحمد للَّه المتجلّي لخلقه بخلقه ، والظاهر لقلوبهم بحجتّه » (4) أي تجلّيه تعالي لخلقه ليس من سنخ ما يتجلّي به غيره سبحانه مثل تجلّي الشمس والفجر وغيرهما . . ولذا قال الصدوق قدس سره : معني قوله : إذا كان يوم القيامة تجلّي اللَّه لعبده . . أي ظهر له بآية من آياته يعلم بها أنّ اللَّه تعالي مخاطبه .(5)
وقال رحمه الله أيضاً في معني قوله تعالي : « فلمّا تجلّي ربّه للجبل »(6) : أي ظهر للجبل بآية من آياته .(7)
وقال الطبرسي رحمه الله في قوله تعالي : « فلمّا تجلّي ربّه للجبل »(8) : أي ظهر أمر ربّه لأهل الجبل فحذف ، والمعني : أنّه سبحانه أظهر من الآيات ما استدلّ به من كان عند الجبل علي أنّ رؤيته غير جائزة .(9)
ص: 378
وقال العلامة المجلسي رحمه الله : تجلّي اللَّه تعالي : ظهور آيات عظمته وجلاله ، أو هو كناية عن غاية المعرفة .(1)
وقال في موضع آخر في معني قوله عليه السلام : « فاذا اجتمعوا تجلّي لهم الربّ تعالي » : أي بأنوار جلاله وآثار رحمته وإفضاله .(2)
قال الطريحي في قوله سبحانه : « والنهار إذا تجلّي »(3) أي إذا ظهر وانكشف وقوله تعالي : « فلمّا تجلّي ربّه للجبل جعله دكاً »(4) أي ظهر بآياته الّتي أحدثها في الجبل ، والتّجلّي هو الظهور .(5)
وقال الراغب في المفردات : التجلّي قد يكون بالذات نحو : « والنهار إذا تجلّي » ، وقد يكون بالأمر والفعل نحو : « فلما تجلّي ربّه للجبل » .(6)
والحاصل : أنّ القسم الأوّل من التّجلّي - أي التجلّي الذاتي - مستحيل في حقّه سبحانه ؛ لأنّه يستلزم انكشاف ذاته تعالي للغير ، بل الصحيح هو تجلّيه تعالي بأمره وفعله كما قاله الطريحي والراغب وغيرهما ، أي بخلقه سبحانه للأشياء والإماتة والإحياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب و . .
أقول : التجلّي عند العرفاء ومن سلك مسلكهم علي قسمين :
الأوّل : التجلّي الوجودي وهو بسط وجوده تعالي علي هياكل الموجودات وظهور ذاته أو صفته في الأشياء ، فذواتها مظهر لذاته ؛ إذ لا حقيقة للوجود إلاّ اللَّه
ص: 379
تعالي ، وأوصافها مظهر لصفاته ، فبعضها مظهر لقدرته وبعضها مظهر لرحمته ، حتي أنّ الشيطان مظهر لقهره ، وبهذا الاعتبار أيضاً يقال : إنّها مظاهر أسمائه(1) ، والإنسان الكامل عندهم هو المظهر الأتمّ ذاتاً وصفةً .
الثاني : التجلّي الشهودي وهو تجلّيه تعالي في قلب العارف ، وهذا النوع مخصوص عندهم بالكمّلين وهو علي أربعة أنواع :
النوع الأوّل : التجلّي الذاتي وهو أن يظهر ذاته المجرّدة - أي الموجود المطلق - علي قلب العارف الكامل الفاني الّذي تجرّد بفنائه في الذات .
النوع الثاني : - الّذي يتلوه في الكمال ودونه - هو التجلّي الصفاتي . . أي الفناء في صفاته ، وهو أن يظهر عليه في حجاب إحدي الصفات الذاتية ، وهو للسالك الّذي بلغ بتجرّده وفنائه إلي حدّ الصفات ، ودون ذلك :
النوع الثالث : التجلّي الأفعالي وهو أن يتجلّي له بفعل من أفعاله كالخالقيّة والرازقيّة مثلاً ، وذلك للسالك الفاني في أفعاله ، وهو الّذي قد تجرّد عن المظاهر كلّها إلي حدّ الفعل ، فلا يري فعلاً إلّا فعله من حسن أو قبيح ومن خير أو شرّ . .
النوع الرابع : التجلّي بالآثار وهو أن يتجلّي اللَّه للسالك في صور الأشياء ولا يكون إلّا بالفناء في المظاهر بحيث لا يري شيئاً إلّا ويري اللَّه مصوّراً به .
ولا يخفي عليك : أنّ هذه الأنواع الأربعة أنواع للكشف أيضاً ، إذ التجلّي عندهم يرادف الكشف ، وكلّها من تجلّي الذات إلّا أنّ الأوّل تجلّي الذات بذاته والثاني بصفاته والثالث بأفعاله والرابع بآثاره .
ص: 380
ثمّ إنّ التجلّي بالآثار هنا غير التجلّي بالآيات الّتي عند أهل البيت عليهم السلام ؛ لأنّ القائلين بالمكاشفة يقولون : إنّه متجلّ بآثاره وفي آثاره ؛ لأنّ آثاره ليست إلّا هو ، والأئمّةعليهم السلام يقولون : إنّه سبحانه غير خلقه وآياته ، وإنّما يتجلّي بخلقهم وصنعهم ، وأين هذا من ذاك ؟ !
هيهات ثمّ هيهات أن يشاهدوا ربّ العالمين(1) ، وإنّما يشاهدون أولياءهم من الشياطين ، وإنّ الشياطين يتراءي علي أعيانهم في الصور وأخري علي قلوبهم .(2)
وفي الختام نقول : إنّ لنا أصلاً في المعارف وهو :
أنّ الآيات المتظافرة والأحاديث المتواترة القطعية - بل ضرورة العقل والفطرة السليمة - دلّت علي تنزّهه سبحانه عن اتّصافه بصفات المحدثات ومشابهة المخلوقات . . وهذا الأمر من المحكمات .
ولو وجد دليل علي خلاف ذلك فهو يعدّ من المتشابهات ، فلابدّ من إرجاعه إلي المحكمات أو طرحه مع عدم إمكان التوجيه .
وبعبارة أخري : إذا كان ظاهر دليل مخالفاً لضروريات العقول والفطرة والأخبار المتواترة يكشف ذلك عن أنّه ليس بمراد ، أو لم يصدر .
نعم ، مع العلم بالصدور لابدّ من التصرّف في معناه ، وعلي هذا نعلم من مجموع ما ذكرناه : أنّ التجلّي هنا ليس من تجلّي العلّة بمعلولها ، ولا من تجلّي الحقيقة الواحدة بأطوارها ؛ بل هو تجلّي الصانع والخالق بمصنوعاته ومخلوقاته كماهو واضح .
ص: 381
الأدلّة العقليّة والنقليّة علي إثبات وحدة الوجود والموجود
وفيه مقصدان :
وهي عمدة ما استدلّ به لذلك أنّه لو لم نقل بذلك - أي أنّ ذات الحقّ وحقيقة الوجود سارٍ إلي مرتبة وجود الأشياء - وقلنا بأنّ للأشياء وجوداً أيضاً ، لزم نقص ذاته تعالي وتحديده بعدم وجود الأشياء ، فكماله واجديّة ذاته لجميع مراتب ثبوت الأشياء ووجودها . فلذا قالوا بأنّ الكثرة منطوية في ذلك الموجود الواحد بالوحدة الشخصيّة ، وهذا الموجود الواحد سارٍ في جميع الأشياء بمعني كونه عين الكثير من غير حلول واتّحاد ؛ لأنّهما فرع الإثنينيّة ، وهي خلف ، فلذا ليس في الدار غيره ديّار ، كما مرّ .(1)
ص: 382
وبعبارة أُخري : إنّه يجب نفي التحديد والنقص من وجوده تعالي ، فهو كلّ الأشياء وإلاّ للزم التحديد والنقص في ذاته تعالي .
وقد أُجيب عنه : بأنّ تمامية هذا الدليل مبنيّة علي وحدة السنخ بين الخالق والمخلوق ، وإلاّ فمع التباين وعدم السنخيّة بينهما لا يستلزم التحديد والنقص في ذاته تعالي إذا نفينا السنخ المغاير له .(1)
وبعبارة أُخري : إنّ تحديده تعالي إنّما يلزم إذا كان لغيره وجود من سنخ هذا الوجود ، وأمّا السنخ المغاير والمباين له فليس وجوده موجباً لتحديد ذاته تعالي .
وإن شئت قلت : إنّ عدم تحديده يقتضي جامعيّة ذاته لجميع ما هو من سنخه
ص: 383
وحقيقته ؛ لا جامعيّة ذاته لغير سنخه أيضاً ، بل مرجع سلبه إلي سلب النقص وإثبات الكمال ، فإنّه سلب التركيب . .(1)
وأمّا ثانياً :(2) بعد أن أثبتنا حدوث جميع ما سوي اللَّه بالمعني الحقيقي ( أي مسبوقيّة العالم بالعدم الفكّيّ المقابل ) وبرهنّا عليه(3) وذكرنا أنّ فاعليّته سبحانه ليست علي نحو الرشح والتنزّل - كما في العلل الموجبة - بل هي بنحو الإبداع والإيجاد لا من شي ء ، فلا معني لكونه تعالي عين غيره من الموجودات والمكوّنات ، فإنّه سبحانه كان موجوداً وكان غيره عدماً صرفاً ، والضرورة قضت بتباين عينيّة الوجود والعدم .
وببيان آخر : لو كان وجوده تعالي عين وجود خلقه أو كان الخلق مرتبة من مراتب وجوده تعالي فلا معني لمسبوقيّته بالعدم الحقيقي كما لا يخفي .
وأمّا ثالثاً : قد مرّ في ما سبق أنّ ذاته تعالي آبية عن التوهّم والتصور والإدراك ، وكل محاولة لفهم ذاته تعالي بلا طائل ، وقد مرّ في الأخبار الكثيرة أنّ التفكر في أنحاء وجود ذاته سبحانه وصفاته وكيفيّتهما ممنوع .
ويكفيك قوله عليه السلام : « تكلّموا في كلّ شي ء ولا تكلّموا في ذات اللَّه » .
وقوله عليه السلام : « من نظر في اللَّه كيف هو هلك » .
وقوله عليه السلام : « من تفكّر في ذات اللَّه ألحد » .
وقوله عليه السلام: « من فكّر في ذات اللَّه تزندق » .
ص: 384
وعن مولانا سيّدالشّهداءعليه السلام : « . . ما تصوّر في الأوهام فهو خلافه ، ليس بربّ من طرح تحت البلاغ . . . احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار . . » .
فالقول بوحدة الوجود والموجود يستلزم الخوض في ذاته تعالي واكتناهه و . .كما مرّ وجه ذلك .
وأمّا رابعاً : إنّ الدليل المذكور معناه : أنّه ليس في الخارج إلاّ وجود واحد وهو عين الأشياء ، ويلزم أن يكون اللَّه تعالي - والعياذ باللَّه ثمّ العياذ باللَّه - عين الحيوانات النجسة وعين . . تعالي اللَّه عما يصفه الظالمون علوّاً كبيراً ! كما عرفت التزامهم بهذه المفاسد ، فلاحظ كلمات ابن العربي وأتباعه .
وبالجملة إنّ فيه إلغاء الربوبيّة والألوهيّة ، وتنزيله سبحانه في مرتبة أخّس الموجودات والمكوّنات .
ومن الضروري أنّ النسبة في ما بينه تعالي وبين خلقه إنّما هي بينونة حقيقيّة ، ولا مشاركة بينهما بوجه من الوجوه ، كما تقدّم .
فالتنزيه هو إظهار كونه تعالي مبايناً لمخلوقاته ، لأجل اتّصاف المخلوق بما لا يليق بساحة قدسه جلّ وعزّ .
نعم ، لو كان المراد من قولهم : ( لزم التحديد )(1) أنّ فيه تميّز الحقّ عن كلّ ما سواه ، لما فيه من الحدّ والعدّ والمقدار والافتقار وقابلية الزيادة والنقيصة و . . لكان هو محض الإيمان المطلوب شرعاً وعقلاً .
وكيف كان ؛ فهذه المقالة مخالفة للفطرة المقدّسة الإلهية الّتي لا تتبدّل ولا تتغيّر بهذه الفرضيّات الوهميّة ، وهذه حجة اللَّه وبرهانه علي كلّ من خالفها .
ص: 385
وعليه كيف يزعم العاقل عدم مغايرة وجود المخلوقات الّذي هو من البديهيّات الأوّليّة مع وجود الخالق الّذي « إذا حاول الفكر المبرّأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته ، وتولّهت القلوب إليه لتجري في كيفيّة صفاته ، وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتنال علم ذاته ، ردعها وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب متخلّصة إليه سبحانه فرجعت إذا جبهت معترفة بأنّه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته ولا تخطر ببال أولي الرّويّات خاطرة من تقدير جلال عزّته » .(1)
لا يخفي أنّ القول بإحاطته تعالي ذاتاً لخلقه ، واتّصافه سبحانه بلانهاية فاسد من أساسها ؛ لأنّ القول بالإحاطة الذاتيّة لخلقه يستلزم الحواية والشمول . .
وتوصيفه سبحانه بغير المتناهي بمعني أنّه محيط بوجوده علي ما سواه خلاف البراهين العقليّة والنقليّة كما مرّ .
مضافاً إلي أنّ التناهي وعدمه - بهذا المعني - بالنسبة إلي ذاته سبحانه من ملكات المقدار والمخلوق ، ولا يتّصف بهما ذاته القدّوس الازليّ ؛ لأنّ الامتداد للشي ء إمّا من حيث وجوده ، وإمّا من حيث ذاته ، وإمّا في عوارض الذات كالطول والعرض والعمق ، وإمّا في صفاته وأحواله ، وهو تعالي خلو عن جميع ذلك ، فلا يفرض له الامتداد بلا نهاية في شي ء منها ، كما لا يفرض له نهاية في شي ء منها(2) .
ص: 386
وبعبارة اُخري : إنّ عدم تناهي الذات - بحيث تحيط وتشمل بوجودها جميع ما سوي اللَّه - والتناهي من شؤون ذي الأجزاء وما كان ذا مقدار وعدد ، ولا ينسب إلي ما هو مباين ومتعال عنه ومنزّه عن الزمان والمكان وعن قابليّة الامتداد الوجوديّ .
وإمكان المزاحمة بين الموجود المخلوق ذي أجزاء ومقدار وعدد والقابل للوجود والعدم والزيادة والنقيصة(1) و . . وبين الموجود المتعالي عن ذلك كلّه
ص: 387
والمبائن عن خلقه ، ممنوع ، إذ ليست النسبة بينه سبحانه وبين خلقه نسبة القرب والبعد والدخول والخروج والنهاية واللانهايه و . . لأنّها من ملكات المقادير والمخلوقات ، وآية المصنوعية والمخلوقية والاحتياج و . . ولا تتّصف بها ذاته المتعالية عن ذلك ، كما هو واضح .
ص: 388
وقد روي الصدوق مسنداً عن ابن أذينة عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال : « . . هو واحد أحديّ الذات ، بائن عن خلقه ، وبذاك وصف نفسه ، وهو بكلّ شي ء محيط بالإشراف والإحاطة والقدرة ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بالإحاطة والعلم لا بالذات ؛ لأنّ الأماكن محدودة تحويها حدود أربعة فإذا كان بالذات لزمه الحواية » .(1)
قال العلامة المجلسيّ رحمه الله في ذيل هذا الحديث : المعني أنّه ليست إحاطته سبحانه بالذات ؛ لأنّ الأماكن محدودة فإذا كانت إحاطته بالذات بأن كانت بالدّخول في الأمكنة لزم كونه محاطاً بالمكان كالمتمكّن ، وإن كانت بالانطباق علي المكان لزم كونه محيطاً بالمتمكّن كالمكان .(2)
أقول : إنّ الإمام عليه السلام فسّر المعيّة بالإحاطة العلميّة لا بالإحاطة الذاتيّة وانبساط الوجود الّذي قال به الفلاسفة .
وروي الصدوق بإسناده عن محمّد بن النعمان ، عن مولانا الصادق عليه السلام أنه قال : سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزوجل : « هو اللَّه في السماوات وفي الأرض »(3) قال : « كذلك هو في كل مكان » ، قلت بذاته ؟ قال : « ويحك ! إنّ الأماكن أقدار ، فإذا قلت : في مكان بذاته لزمك أن تقول : في أقدار وغير ذلك ، ولكن هو بائن من خلقه ، محيط بما خلق علماً وقدرةً وإحاطةً وسلطاناً وملكاً ، وليس علمه بما في الأرض بأقلّ ممّا في السماء ، لا يبعد منه شي ء ، والأشياء له سواء علماً وقدرة وسلطاناً وملكاً وإحاطةً » (4) .
ص: 389
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : « تعالي عمّا ينحله المحدّدون من صفات الأقدار ونهايات الأقطار » (1) .
وعنه عليه السلام : « تعالي الملك الجبّار أن يوصف بمقدار » (2) .
وعنه عليه السلام : « الحمدللَّه اللابس الكبرياء بلاتجسّد ، والمرتدي بالجلال بلا تمثّل . . . والمتعالي عن الخلق بلا تباعد و . . » (3) .
عنه عليه السلام : « إنّ ربي لطيف اللطافة لا يوصف باللطف ، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم ، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر . . » (4) .
عنه عليه السلام : « الّذي لمّا شبّهه العادلون بالخلق المبعّض المحدود في صفاته ذي الأقطار والنواحي المختلفه في طبقاته . . » (5) .
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : « كيف يجري عليه ما هو أجراه ؟ ويعود فيه ما هو أبداه ؟ ويحدث فيه ما هو أحدثه ؟ ! إذاً لتفاوتت ذاته ، ولتجزّأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه » (6)
وعنه عليه السلام : « ليس بذي كبر امتدّت به النهايات فكبّرته تجسيماً ، ولا بذي عِظَم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيداً ، بل كبر شأناً ، وعظم سلطاناً » (7) .
أقول : هذه الأحاديث دالّة علي أنّه سبحانه متعال عن الاعتقاد بالعظمة
ص: 390
الوجوديّة اللامتناهية الّتي تحيط وتشمل المخلوقات بذاته ، نعم هو تعالي له الكبرياء والعظمة والجلال ، لكنّه ليس ذلك من جهة كونه أكبر الأشياء وأعظمها - أي هو أجلّ من أن يتّصف بكبَر لا يأبي عن الصغر لذاته - بل إنّما هو متعال عن الاتّصاف بما يقبل الزيادة والنقيصة والصغر والكبر كما تقدّم ، فهذه الأخبار صريحة في تنزيهه تعالي وتقديسه عمّا نسبته هذه الطائفة إليه من ظهوره سبحانه في صور الموجودات ، واتّصافه بصفات المحدثات - من الامتداد والتناهي والكبر وغيرها من لوازم المصنوعيّة والمخلوقية - وكونه سبحانه عين الأشياء الخارجيّة المركّبة المتجزّية ، ولذا حرّفوا معني التركيب عن معناه الحقيقي إلي معني التركيب من الوجود والعدم ، ثمّ قالوا : إنّه شرّ التراكيب !(1) تعالي اللَّه عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً .
كلّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء وإلاّ لزم التركيب ، وهذا خلف .
قال ملاّصدرا : فصل في أنّ واجب الوجود تمام الأشياء وكلّ الموجودات ، وإليه يرجع الأُمور كلّها .
ثمّ قال : هذا من الغوامض الإلهيّة الّتي يستصعب إدراكه إلاّ علي من آتاه اللَّه من لدنه علماً وحكمة ! ولكنّ البرهان قائم علي أنّ كلّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء الوجوديّة إلاّ مايتعلّق بالنقائص والأعدام ، والواجب تعالي بسيط الحقيقة واحد من جميع الوجوه . . فهو كلّ الوجود ، كما أنّ كلّه الوجود .
أمّا بيان الكبري : فهو أنّ الهويّة البسيطة الإلهيّة لو لم يكن كلّ الأشياء لكانت
ص: 391
ذاته متحصّلة القوام من كون شي ء ولا كون شي ء آخر ، فيتركّب ذاته ولو بحسب اعتبار العقل وتحليله من حيثيّتين مختلفين ، وقد فرض وثبت أنّه بسيط الحقيقه . . هذا خلف . فالمفروض أنّه بسيط إذا كان شيئاً دون شي ء آخر ، كأن يكون ( ألفاً ) دون ( ب ) فحيثيّة كونه ( ألفاً ) ليست بعينها حيثيّة كونه ليس ( ب ) وإلاّ لكان مفهوم ( الف ) ومفهوم ليس ( ب ) شيئاً واحداً ، واللازم باطل ؛ لاستحالة كون الوجود والعدم أمراً واحداً فالملزوم مثله ، فثبت أنّ البسيط كلّ الأشياء .(1)
أقول : للمناقشة في هذا الدليل مجال واسع ، ونحن نذكر بعض ما يرد عليه :
منها : أنّه لا دليل علي امتناع مثل هذا التركيب بل نمنع كون هذا تركيباً ، فإنّ التركيب من الوجود والعدم ليس تركيباً واقعيّاً إذ العدم ليس شيئاً له مطابق في الخارج كما هو لائح ، بل التركيب الذي قام البرهان علي استحالته في حقّه سبحانه هو التركيب من الأجزاء المقداريّة والمعنويّة ( أي المادّة والصورة ) والعقليّة ( أي الجنس والفصل ) .
فما ذكره السبزواريّ - في حاشيته علي المقام - من أنّ شرّ التراكيب هو التركيب من الوجود و العدم . . (2) فهو من الشعريّات ولا يرجع إلي معني معقول .
وبعبارة أخري : أنّا لو سلّمنا حصول التركّب بين الأمر الوجوديّ والأمر العدميّ فهو إذاً حاصل حتي بالنسبة إلي الذات الإلهيّة ؛ وذلك فإنّه جلّ وعلا غير مخلوقاته ، فنحن ننفي عن ذاته سبحانه غيرها كالجسميّة والإنسانيّة والشجريّة و . . فكما يقال : إنّ الإنسان غير الفرس والفرس غير الشجر ، وإنّ هويّة هذه الأشياء قد تركّبت من أمر وجودي وهو ثبوت نفسه له ، وأمر عدمي وهو نفي غيره عنه ،
ص: 392
فكذلك يقال : في الذات الإلهيّة المقدسّة أيضاً .
فهي ليست بجسم ولا روح ولا عقل ولا مادّة ولا إنسان ولا شجر ولا ملك ولا . . فقد تركّبت ذاته من أمر وجودي وآخر عدمي وهذا التركيب لا ضير فيه بالنسبة إلي الذات المقدّسة الإلهية لأنّه اعتباري وليس أمراً حقيقياً .
وبذلك يظهر فساد ما قيل : من أنّه لا سبيل للعدم في ذاته .(1)
مضافاً إلي أنّه ينتقض بسلب الأعدام والنقائص عنه تعالي إذ يلزم تركّبه من حيثيّة إيجابيّة وحيثيّة سلبيّة كما زعمه ، وأمّا ما اعتذر به من رجوع هذا السلب إلي سلب السلب وأنه وجود وكمال وجود فهو غير مفيد إذ الرجوع المذكور لا ينافي تعدد الحيثيّتين المزبورتين لجريان جميع ما ذكره في استدلاله فيه بعينه ، فتأمّل .
ومنها : أنّه يجوز انتزاع المفاهيم الكثيرة من شي ء واحد ، كما صرّح به في الأسفار(2) ، ولذلك تنتزع مفاهيم القدرة والعلم والحياة ونحوها عن الذات الواجبة مع أنّها بسيطة عند الإمامية ويرون صفاته عين ذاته تعالي ، وعليه فلا مانع من انتزاع اللاإنسانيّة واللاجماديّة وغيرهما من الذات الواجبة أصلاً .
وأمّا ما قاله السبزواري من تخصيص هذا الجواز بما إذا لم يكن بين المفاهيم تعاند كالوجود والوحدة والتشخّص والعلم والقدرة ونحوها ، وعدم جريانه فيما إذا كان بينها تعاند كالعليّة والمعلوليّة والمحركيّة والمتحرّكيّة والإيجاب والسلب(3) .
فهو علي تقدير تماميّته أجنبي عن المقام ؛ إذ التنافي بين السلب والإيجاب - كما قيل - إنّما يتحقق إذا تواردا علي مورد واحد بشروط مقرّرة ، وإلاّ فلا منافاة بينهما
ص: 393
كوجود الحركة وعدم السكون أو وجود الاستقبال وعدم الاستدبار وهكذا ، والمقام كذلك فإنّ عدم الأشياء وسلبها عنه لا ينافي وجوده تعالي ، فتدبّر جيّداً .
ومنها : ما أجيب من أنّ الإمكان والفقر والحاجة لا ينفكّ عن الممكن أبداً ، بل الفقر - علي حدّ تعبير المستدلّ - عين الوجود الإمكاني ، فحذف الفقر عنه بطلان نفسه ، وبالجملة : انقلاب الجهات الثلاث قطعي الفساد عقلاً واتفاقاً ، هذا من ناحية ومن ناحية أخري إنّ الإمكان والحاجة نقص يمتنع علي واجب الوجود بلا إشكال وخلاف ، فإذن نقول : لو تمّ بيانه ودليله لما وفي بإثبات مرامه ، إذ الموجودات الممكنة كلّها داخلة في ما استثناه بقوله : إلاّ النقائص والإمكانات . . إلي آخره ، وفي قوله أخيراً : كلّ ذلك يرجع إلي سلب الأعدام ، فسلب الوجودات الإمكانيّة علي حذو سلب ماهيّاتها لا يستلزم التركيب .
ومنها :(1) ما مرّ من أنّه بعد ثبوت السنخين والحقيقتين المختلفتين في دار التحقّق ووضوح البينونة التامّة بين الخالق والمخلوق ، فلو كان الحقّ تعالي تمام الأشياء للزم أن تكون ذاته تعالي مركباً خارجياً من السنخين والحقيقتين ، واللازم باطل جدّاً ، فالملزوم مثله .
ولا يخفي أنّ فساد هذا التركيب أشدّ من فساد التركيب الاعتباري الّذي في قول المستدلّ .
فصحّة هذه الجملة ( بسيط الحقيقة كلّ الأشياء ) تتوقّف علي كون ما في عالم الوجود من الخالق والمخلوق حقيقة واحدة ، وهو ممنوع أشدّ المنع .(2)
ص: 394
وببيان آخر : إنّه استدلّ لمدّعاه - أي وحدة الموجود - بأنّه تعالي لو لم يكن كلّ الأشياء للزم التركيب الإعتباري العقلي ، فقولك : اللَّه موجودٌ وليس بحجر ، كانت ذاته تعالي متحصّلة القوام من كون شي ء ولا كون شي ء آخر ، فيتركّب ذاته من حيثيتين مختلفتين ، وقد فرض أنّه بسيط .
ولكنّه فاسد من جهة أخري وهو أنّ هذا الدليل ينتج تركيبه تعالي خارجاً ، بل عينيّته تعالي للأشياء الخارجية ، فصاحب الأسفار لتنزيهه سبحانه عن التركيب الاعتباري التزم بهذه العقيدة الّتي مخالفة للبديهيّات والمسلّمات الأوّلية .(1)
ولا يخفي أنّ هذا المدّعي ودليله قابل للفهم ، وكونه من الغوامض الإلهيّة الّتي يستصعب إدراكه إلاّ من آتاه اللَّه من لدنه علماً وحكمةً - كما قال - ممنوع .
مع أنّه إذا فرض عدم إدراك من لم يكن له علم لدنيّ إلاّ أنّه يمكن أن يفهم ويدرك بتوضيح صاحب العلم اللّدنيّ وتبيينه - وهو الصدرا علي زعمه - وإلّا فلا وجه لطرحه له والبحث عنه .
مضافاً إلي أنّ اشتراط فهمه وتصديقه بالعلم اللدنيّ وادّعاء كونه من الغوامض و . . كلّ هذا كي لا يجتري ء أحد في تكذيبه وردّه ، وإلاّ فنحن أيضاً نقول في ردّ صاحب الأسفار بأنّ فهم كلامنا والوصول إلي صقع مرادنا من الغوامض التي
ص: 395
لا يمكن الوصول إليه إلاّ لمن كان له علم لدنيّ وحكمة ، فهل لصاحب الأسفار أن يقبل قولنا بمجرّد الإدّعاء ؟
أقول : هذه ثمرة الفلسفة والعرفان والحكمة المتعالية عندهم ؛ حيث يتكلّمون في ذاته سبحانه كأنّهم يحيطون به علماً ! ! وينسبون ما يدّعونه - من التجلّي والظهور في صور الموجودات - بالكشف والمشاهدات والبراهين ، وهي كما تري أوهن من بيت العنكبوت ، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : « أنّ الراسخين في العلم هم الّذين أغناهم اللَّه عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب ، فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فقالوا : آمنّا به كلّ من عند ربّنا ، فمدح اللَّه عزّوجلّ اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمّي تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عنه رسوخاً ، فاقتصر علي ذلك ، ولا تقدّر عظمة اللَّه سبحانه علي قدر عقلك فتكون من الهالكين » .(1)
وقال مولانا الرضاعليه السلام : « من يصف ربّه بالقياس لا يزال الدهر في الالتباس ، مائلاً عن المنهاج ، ظاعناً في الاعوجاج ، ضالاًّ عن السبيل ، قائلاً غير الجميل » .(2)
فلابدّ من الاعتقاد بما نطق به الكتاب الكريم وصرّح به النبيّ العظيم صلي الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام في خطبهم البليغة وأحاديثهم المتواترة ، ولا يغترّ الإنسان بعقله الناقص ولا بحدسه الساذج ولا قياسه الباطل ، فإنّه لا ثمرة في هذا التفكّر والقياس سوي الكفر والضلال والحيرة كما عن أبي جعفرعليه السلام : « لا تكلّموا في اللَّه فإنّ الكلام في اللَّه لا يزداد صاحبه إلاّ تحيّراً » .(3)
ص: 396
وعن مولانا الإمام الكاظم عليه السلام : « ولاتتجاوز في التوحيد ما ذكره اللَّه في كتابه فتهلك » (1) .
وعن أبي الحسن الرضاعليه السلام :« من وصف اللَّه بخلاف ما وصف به نفسه فقد أعظم الفرية علي اللَّه » .(2)
وعنه عليه السلام : « كيف يجري عليه ما هو أجراه » (3) .
قال ملاّصدرا - في شرحه علي أصول الكافي في نفي الجسم والصورة عنه تعالي - : إنّه قد يكون لمعني واحد وماهيّة واحدة أنحاء من الوجود بعضها أقوي وأكمل من بعض ، كماهيّة العلم ، فإنّ علم العالم بغيره عرض وبذاته جوهر ، وعلم الواجب بنفسه وبغيره واجب . . إلي أن قال : إنّ ماهيّة الجسم ومعناه - يعني الجوهر القابل للأبعاد - له أنحاء من الوجود ، بعضها أخسّ وأدني وبعضها أشرف وأعلي ، ومن الجسم ما هو جسم هو أرض فقط أو ماء فقط . . . ومنه ما هو مع كونه من العناصر . . . لكنّه جماد فقط من غير نموّ وحسّ ولا صورة ولا حياة ، ومنه ما هو مع كونه جسماً حافظاً للصورة متغذّياً نامياً مؤكداً حساساً ذو صورة ، ومنه ما هو مع كونه حيواناً ناطقاً مدركاً للمعقولات فيه ماهيّات الأجسام السابقة موجودة بوجود واحد ، إلي أن قال : إنّ المعني المسمّي بالجسم له أنحاء من الموجود متفاوتة في الشرف والخسّة والعلوّ والدنوّ من لدن كونه طبيعيّاً إلي كونه عقليّاً ، فليجز أن يكون
ص: 397
في الوجود جسم إلهي ليس كمثله شي ء وهو السميع البصير المسمّي بالأسماء الإلهيّة المنعوت بالنعوت الربانيّة . علي أنّ الواجب تعالي لا يجوز أن يكون له في ذاته فقد شي ء من الأشياء الوجوديّة ، وليس في ذاته الأحديّة جهة ينافي جهة وجوب الوجود ، وليس فيه سلب إلاّ سلب الأعدام والنقائص ، وأيضاً وجوده علم بجميع الأشياء ، فجميع الأشياء موجودة في هذا الشهود الإلهيّ بوجود علمه الذي هو وجود ذاته ووجود أسمائه الحسني وصفاته العليا بمعانيها الكثيرة الموجودة بوجود واحد قيّومي صمديّ . انتهي .
أقول : ليس هذا منه بعجيب - بعد ما رأيت كلماته في وحدة الوجود - وإن كان سلب الجسميّة عنه تعالي من المسلّمات القطعيّة عند الإماميّة وتدلّ عليه الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة ، فإنّ الجسم - أي الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة كما صرّح به - يستلزم التركّب لا محالة ضرورة أنّ طوله غير عرضه وعرضه غير عمقه فيصير ممكناً .
ولا يجديه ما ذكره من كونه إلهيّاً ليس كمثله شي ء . . إلي آخره(1) .
ص: 398
وأيضاً لا يمكن تعقّل الأبعاد الثلاثة إلاّ متناهية محدودة وإلاّ لم تتحقق الأبعاد المذكورة ، فيلزم تناهي الواجب مع أنّه خارج عن الحدّ والتناهي عقلاً ونقلاً كما تقدّم .
وأمّا ما ذكره من عدم جواز فقد شي ء في ذاته ؛ فالظاهر أنّه أراد به قاعدة أنّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء ، كما مرّ آنفاً توضيحها وتزييفها .
ومنه بان بطلان ما ذكره ثانياً من كون وجوده علماً بجميع الأشياء فإنّ دليل عموم علمه عنده هو هذه القاعدة ، وبالجملة علمه تعالي بالشي ء لا يوجب تحقّقه في ذاته كما قيل .
ونعم ما أفاده السيّد الخوئي رحمه الله - بعد نقله هذا الكلام من صاحب الأسفار - حيث قال : لقد صرّح بأنّ المقسم لهذه الأقسام الأربعة هو الجسم الذي له أبعاد ثلاثة من العمق والطّول والعرض ، وليت شعري أنّ ما فيه هذه الأبعاد وكان عمقه غير طوله وهما غير عرضه كيف لا يشتمل علي مادّة ولا يكون متركّباً حتّي يكون هو الواجب سبحانه ؟ !(1)
والإنصاف أن هذه الفلسفة الموروثة من اليونان لم تعن بحلّ المشاكل الاعتقاديّة ولم تفد لتقرير الأصول الدينيّة ، بل أحدثت مشاكل مهمّة فيها كما يعرف ذلك بالتأمّل في الكتاب والسنّة ، وبملاحظة علم الكلام والكتب الأصوليّة .
ص: 399
أقول : وبعد التعرّض لبعض ما استدلّوا به والردّ عليه لا بأس بذكر جملة من الأدلّة العقليّة الّتي أقيمت أو يمكن أن تقام لردّ وحدة الوجود والموجود :
ولا يخفي اختصاصها بردّ المدّعا وتكون كاشفة عن بطلان دليلهم لوحدة الوجود والموجود .
منها : أنّه لا يتصوّر الوجود الظلّي المنبسط أو الموجيّ والحبابيّ بالنسبة إليه تعالي ؛ لأنّ بسط وجوده تعالي عن نفسه علي هياكل الموجودات غير معقول ؛ لأنّ القبض والبسط والانتفاح والامتداد و . . يتصوّر في الموجودات الجسمانيّة ، وذلك محال في حقّه تعالي « سبحانه وتعالي عما يشركون »(1) و « سبحانه وتعالي عمّا يقولون علوّاً كبيراً » (2) .
مع أنّه يلزم التأثّر والتغيير في ذاته الأقدس بسبب حدوث الوجودات الظلّية الحبابيّة وانعدامها كما تقدّم .
ومنها : أنّه لو كان وجود اللَّه عين وجود خلقه - سواء كان علي وجه الاتّحاد أو وحدة الوجود - للزم انقسام ذات الواجب ، إذ لا شك في تعدّد أفراد الممكنات ، فإمّا أن يكون كلّ واحد من وجوداتها - الّتي هي من الأجزاء الوجوديّة للواجب - إلهاً لزم تعدّد الإلهة ، وإن كان المجموع إلهاً يلزم التركيب فيه كما مرّ .
ومنها : ما أفاده العلاّمة الخوئي رحمه الله وملخّص كلامه :
إنّ الدليل العقليّ علي بطلانه موقوف علي تمهيد مقدمة متضمّنة للفرق بين
ص: 400
الواجب تعالي شأنه والممكن ، والفارق بوجوه :
الأوّل : الافتقار وعدم الافتقار . .
الثاني : أنّه تعالي منزّه عن الحدّ والرسم والمثل والشبه والضد والند ، والتنزّه مقتضي ذاته ، والممكن محدود ممثّل . .
الثالث : أنّ الواجب تعالي وجوده تامّ فوق التمام ، والممكن موصوف بالقصور والنقصان ، والتمام مقتضي ذات الأوّل كما أنّ النقصان لازم وجود الثاني . .
وبعد توضيح المقدّمات الثلاثة قال : إذا عرفت هذه المقدّمة ظهر لك فساد القول بوحدة الوجود ، لأنّه إذا كان الواجب علّة والممكن معلولاً ، والأوّل مستغنياً والثاني مفتقراً ، والأوّل منزّهاً عن الحدّ والتعيّن والثاني محدوداً متعيّناً بالماهية ، والأوّل بسيطاً والثاني مركباً ، والأوّل تامّاً فوق التمام والثاني مكتنفاً بالعدم والنقصان . . حسبما عرفته في المقدّمة الّتي مهّدناها فكيف يعقل ترقّي الثاني إلي مرتبة الأوّل فإنّ ذاتيّ الشّي ء لاينفكّ عنه ، والمعلولية والمحدودية والافتقار والنقصان من لوازم ذات الممكن ، فكيف يتصوّر أن يلغي الممكن إنّيته - علي اصطلاحهم - ويصل إلي مرتبة الواجب ، مع أنّ إنيّته ليس إلّا تعيّنه بماهيّته ، وبعد ارتفاع التعيّن والتحدّد لايبقي ماهيّة ولا وجود ، فلا يكون هناك شي ء أصلاً .
وكذلك إذا كان الواجب تعيّنه بذاته وبكنهه ومنزّهاً عن الحدود لكونه صرف الوجود وكان تامّاً فوق التمام كان مبايناً للممكن غاية البينونة ، كما قال الإمام الرضاعليه السلام في الحديث المرويّ عنه في الكافي : «مباينته إيّاهم مفارقته إنّيّتهم » (1) ، فكيف يتوهّم كونه سارياً في الموجودات .
وهؤلاء الجهلة لمّا سمعوا أنّ الواجب وجود خال من جميع الحدود والقيود ،
ص: 401
وأنّ الوجود مفهوم واحد نقيض العدم ، فتوهّموا أنّ الوجود الخالي من جميع القيود هو الوجود المطلق لا بشرط التعيّن وعدم التعيّن ، فيجتمع مع جميع التعيّنات الإمكانية ويكون عين حقيقة كلّ ممكن .
وهذا التوهّم من الفساد بمكان ؛ لأنّ معني خلوّ الواجب من القيود هو خلوّه من التعيّنات الإمكانيّة لا من مطلق التعيّن ولو بذاته ، فتعيّنه سبحانه بوجوب وجوده الّذي هو عين ذاته ، فعلي هذا يكون طرد الحدود والتعيّنات الإمكانيّة محالاً ، وليس معني خلوّه منها كونه مبهماً سارياً في التعيّنات ، مثل سريان الكليّات في مصاديقها الخارجيّة المتعيّنة .
وبعبارة أوضح : إنّ الواجب - مع قطع النظر عن الحدود والتعيّنات - إمّا مبهم أو متعيّن .
أمّا الأوّل : فتحقّقه محال بالضرورة ؛ لأنّ الشي ء ما لم يتشخّص لم يوجد ، ومن هنا قالوا : إنّ الكلّي الطبيعي أمر مبهم لا يمكن تحقّقه في الخارج إلاّ بضمّ التعيّنات وتشخّصات الأفراد .
وأمّا الثاني : فإمّا أن يكون سرايته في المخلوقات مع تعيّنه الّذي هو له فهو محال ، لأنّه جمع بين النقيضين ؛ إذ التعيّن الوجوبي مناف للتعيّن الإمكاني ومناقض له ، أو مع إلقائه لتعيّنه الذاتي وتعيّنه بالتعيّن الإمكاني وهو فرع أن يكون متحرّك غير واجب وممكن يكون في تلك المراتب ويكون واجباً تارة وممكناً اُخري وهو باطل .
والحاصل : أنّ الواجب إمّا مبهم محض وجامع بين جميع الموجودات كما هو شأن الجامعة السارية ، وهو مستلزم لنفي وجود الصانع تعالي عن ذلك علوّاً كبيراً ،
ص: 402
وإمّا أنّه متعيّن بحسب ذاته فيستحيل سريانه في الأمور المتعيّنة بالحدود والقيود .(1)
أقول : وإلي هذا البرهان أشار المحقق الطوسي في شرح الإشارات حيث قال : حقيقة الواجب ليست هي الوجود العام ، بل هي مجرّد وجوده الخاصّ به المخالف لساير الموجودات ؛ لقيامه بالذّات .
وقال أيضاً : الوجود داخل في مفهوم ذات واجب الوجود ؛ لا الوجود المشترك الّذي لا يوجد إلّا في العقل ، بل الوجود الخاصّ الّذي هو المبدء الأوّل لجميع الموجودات ، وإذ ليس له جزء فهو نفس ذاته ، وهو المراد من قولهم : مهيّته هي إنيّته . انتهي .
قال الفارابي - في محكيّ كلامه من كتاب الجمع بين الرأيين - : إنّه لمّا كان الباري جلّ جلاله بإنيّة ذاته مبايناً لجميع ما سواه ، وذلك له بمعني أشرف وأفضل وأعلي بحيث لا يناسبه في إنيّته شي ء ولا يشاكله ولا يشبهه حقيقة ولا مجازاً ، ثمّ مع ذلك لم يكن بدّ من وصفه وإطلاق كلّ لفظة كماليّة من هذه الألفاظ المتواطئة عليه ، فإنّ من الواجب الضروري أن نعلم أنّ مع كلّ لفظة نقولها في شي ء من أوصافه معني بذاته بعيداً من المعني الّذي نتصوّره من تلك اللّفظة ، وذلك كما قلناه بمعني أشرف وأعلي حتّي إذا قلنا : إنّه موجود ، علمنا مع ذلك أنّ وجوده لا كوجود ساير ما دونه ، وإذا قلنا : إنّه حيّ ، علمنا أنّه بمعني أشرف من الحيّ الّذي هو دونه ، وكذلك الأمر في سائرها . انتهي .
قال العلاّمة الخوئي رحمه الله - بعد نقله هذا القول - : وهو كما تري نصّ صريح - مثل الأخبار الآتية الواردة من معادن القدس والطهارة - في أنّ مباينته لغيره بنفس ذاته ، فلا يتّصف بالماهيّة ولا بالوجود بالمعني المتصوّر في الممكن ، بل إذا قلنا : إنّه
ص: 403
موجود ، ووصفناه بالوجود فهو بمعني أعلي ممّا يتصوّره العقل ، وهكذا إذا وصفناه بالعلم والحياة وساير الصفات الثبوتيّة .
وهو معني ما ورد في غير واحد من الأخبار الكثيرة من أنّه سبحانه « شي ء لا كالأشياء » ، فوصفه بأنّه « شي ء » من ضيق المجال والخروج من حدّ التعطيل ، وبأنّه « لا كالأشياء » للتنزيه والتقديس ونفي التشبيه ، والإشارة إلي كونه بايناً من الأشياء وكونها باينة منه بنفس ذاته المقدّسة .
والحاصل : أنّه تعالي ممتاز عمّا سواه بذاته ، والوجود عين ذاته ، والوجود الّذي له عزّوجلّ ليس بالمعني الّذي لها كيف ، والوجود الّذي لغيره أمر بديهيّ يعرفه الكلّ كساير البديهيّات ، والوجود المخصّص به لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن ، وغاية معرفتنا بذاته أنّا لا نعرف ذاته .
بيان ذلك : أنّ كلّ مدرك بإحدي القوي والحواسّ - ظاهريةً كانت أو باطنيّةً - وكلّ ما تدركه المشاعر - صورةً كانت أو معنيً - فهو محدود متمثّل تحدّه الحواسّ ، وتمثّله الأفكار ، وكلّ ما هو كذلك فهو مخلوق مثلنا مصنوع بفكرنا ، وخالق الأشياء منزّه عنه ، فنعرف ذاته بأنّا لا نعرف ذاته إذ غاية ما يحصل لنا من الآثار والأفعال كونه مبدأ لتلك الآثار والأفعال ، صانعاً لها ، ومن ذلك يحصل الجزم بوجوده تعالي .
إذ لو لم يكن موجوداً ثابتاً لكان معدوماً منفياً ؛ إذ لا مخرج منهما ولا واسطة بين النّفي والإثبات والوجود والعدم .
ويلزم من عدمه أن لا يكون في الوجود شي ء أصلاً ، واللازم باطل بالبديهة فكذا الملزوم .
ووجه الملازمة : أنّ الكلّ مفتقر في وجوده إليه ، فما هو معدوم في نفسه كيف
ص: 404
يكون مفيضاً للوجود ، فثبت بذلك أنّه موجود ممتاز بذاته عمّا عداه . انتهي كلامه .(1)
أقول : هذا وجه متين في تقرير التباين الكليّ بين الخالق والمخلوق والردّ علي الوحدة المذكورة ، وإن كان لا يخلو عن بعض المسامحات علي مسلكنا - لا مسلك الخصم - كما لا يخفي .
ثمّ إنّ لهم في المقام توهّمات أُخري تتوقّف تماميّتها علي المشابهة والسنخيّة بين الخالق والمخلوق ، وإلّا فمع فرض التباين وعدم السنخيّة بينهما - كما هو الحقّ - لا تتمّ لما مرّ في الجواب عن الوجه الأوّل و غيره فلاحظ .
فجميع الأخبار والأحاديث الدالة علي تقديسه وتنزيهه عن التشبيه والتمثيل والتشريك والمفيدة لمغايرته لمخلوقاته ومباينته إيّاهم بنفس ذاته الأقدس - وقد تقدّم بعضها في تضاعيف هذا الكتاب - يدلّ علي بطلان تخيّلاتهم وتوهّماتهم المتكفلة لوحدة الوجود .
ومنها : ما روي الصدوق رحمه الله في التوحيد بإسناده عن عبداللَّه بن الفضل الهاشمي ، قال : قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام : لأيّ علة جعل اللَّه تبارك وتعالي الأرواح في الأبدان بعد كونها في ملكوته الأعلي في أرفع محل ؟ فقال عليه السلام : « إنّ اللَّه تبارك وتعالي علم أنّ الأرواح في شرفها وعلوّها متي تركت علي حالها نزع أكثرها إلي دعوي الربوبية دونه عزّوجلّ فجعلها بقدرته في الأبدان الّتي قدّرها لها في ابتداء التقدير نظراً لها ورحمة بها ، وأحوج بعضها إلي بعض ، وعلّق بعضها علي بعض ، ورفع بعضها فوق بعض درجات ، وكفي بعضها ببعض ، وبعث إليهم رُسُله ، واتّخذ عليهم حججه مبشّرين ومنذرين يأمرونهم بتعاطي العبوديّة والتواضع لمعبودهم بالأنواع الّتي تعبّدهم بها ، ونصب لهم عقوبات في العاجل وعقوبات في الآجل ، ومثوبات في
ص: 405
العاجل ومثوبات في الآجل ليرغّبهم بذلك في الخير ، ويزهّدهم في الشّر ، وليذلّهم بطلب المعاش والمكاسب فيعلموا بذلك أنّهم مربوبون وعباد مخلوقون ، ويقبلوا علي عبادته فيستحقّوا بذلك نعيم الأبد وجنّة الخلد ، ويأمنوا من النّزوع إلي ما ليس لهم بحقّ » .
ثمّ قال عليه السلام : « يا ابن الفضل ! إنّ اللَّه تبارك وتعالي أحْسَنُ نظراً لعباده منهم لأنفسهم ، ألا تَري أنّك لا تري فيهم إلّا محبّاً للعلوّ علي غيره حتّي أنّ منهم لَمَن قد نزع إلي دعوي الرّبوبية ، ومنهم من قد نزع إلي دعوي النبوّة بغير حقّها ، ومنهم من قد نزع إلي دعوي الإمامة بغير حقّها ، مع مايرون في أنفسهم من النّقص والعجز والضّعف والمهانة والحاجة والفقر والآلام المتناوبة عليهم والموت الغالب لهم والقاهر لجميعهم » .
« يا ابن الفضل ! إنّ اللَّه تبارك وتعالي لايفعل لعباده إلاّ الأصلح لهم ، ولا يظلم النّاس شيئاً ، ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون » (1) .
ومنها : ما روي الكلينيّ رحمه الله في الكافي بإسناده عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنه قال : « أتي قوم أميرالمؤمنين فقالوا : السّلام عليك يا ربّنا ! فاستتابهم فلم يتوبوا ، فحفر لهم حفيرة وأوقد فيها ناراً ، وحفر حفيرة اُخري إلي جانبها وأفضي ما بينهما ، فلمّا لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة وأوقد في الحفيرة الاُخري حتّي ماتوا » (2) .
وما في رجال الكشي رحمه الله : أتاه ( أي أميرالمؤمنين عليه السلام ) قنبر فقال له : إنّ عشرة نفر بالباب يزعمون أنّك ربّهم ، قال عليه السلام : « أدخلهم » قال : فدخلوا عليه ، فقال عليه السلام لهم : « ما تقولون ؟ » فقالوا : نقول إنّك ربّنا ! وأنت الّذي خلقتنا ! وأنت الّذي ترزقنا !
ص: 406
فقال لهم : « ويلكم ! لا تفعلوا ، إنّما أنا مخلوق مثلكم » فأبوا وأعادوا عليه ، ثمّ ساق الحديث إلي أن قذفهم في النار ، ثمّ قال علي عليه السلام :
« إنّي إذا أبصرت شيئاً منكراً
أوقدت ناري ودعوت قنبراً » (1) . والحاصل : أنّ الإمام عليه السلام بادر لقتلهم من دون تفصيل حيث لم يقل ببطلان هذه الدعوي في صورة انحصار الألوهية فيه وعدم بطلانه في صورة عدم الانحصار ، فإذا لم يمكن استناد الألوهيّة إلي أمير المؤمنين عليه السلام - الّذي بيمنه رزق الوري وبوجوده ثبتت الأرض والسماء - فكيف يمكن القول به في أخسّ الموجودات وأخبثها كالكلب والخنزير و . . ! ! تعالي اللَّه عما يصفه الظالمون علواً كبيراً .
وبالجملة الذات الرّبوبي أجلّ وأقدس من أن يكون مجانساً لأشرف مخلوقاته - كما صرّح به الرّسول الأكرم صلي الله عليه وآله وسلم حين قال : « وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته » - ومن أن يتطوّر بأشرفها وأطهرها فضلاً من أن يتطوّر بأخسّها وأخبثها حتّي الكلاب والخنازير وغير ذلك ممّا لابدّ للقائل بوحدة الوجود والموجود من الالتزام به كما التزموا به !
ومنها : ما ورد في الاحتجاج عن رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم في ردّ النصاري حين أقبل عليهم قائلاً : « أنتم قلتم : إنّ القديم عزّوجلّ اتّحد بالمسيح ابنه ، فما الّذي أردتموه بهذا القول ؟ أردتم أنّ القديم صار محدَثاً لوجود هذا المحدَث الّذي هو عيسي ، أو المحدَث الّذي هو عيسي صار قديماً كوجود القديم الّذي هو اللَّه أو معني قولكم إنّه اتّحد به ، أنّه اختصّه بكرامة لم يكرم بها أحداً سواه ؟ »
« فإن أردتم أنّ القديم صار محدَثاً فقد أبطلتم ؛ لأنّ القديم محال أن ينقلب فيصير محدَثاً » .
ص: 407
« وإن أردتم أنّ المحدَث صار قديماً فقد أحلتم ؛ لأنّ المحدَث أيضاً محال أن يصير قديماً » .
« وإن أردتم أنّه اتّحد به بأنّه اختصّه واصطفاه علي ساير عباده فقد أقررتم بحدوث عيسي وبحدوث المعني الّذي اتّحد به من أجله ؛ لأنّه إذا كان عيسي محدَثاً وكان اللَّه اتّحد به بأن أحدث به معني صار به أكرم الخلق عنده ، فقد صار عيسي وذلك المعني محدثَين ، وهذا خلاف ما بدأتم تقولونه » .(1)
أقول : وبهذا الحديث يظهر فساد مقالة بعض الصوفيّة حيث قال - في تفسير قوله سبحانه : « ما كان لبشر أن يؤتيه اللَّه الكتاب والحكم والنبوّة ثمّ يقول للناس كونوا عباداً لي من دون اللَّه »(2) - : لأنّه ما لم يخرج من أنانيّته ولم يحي بأنانيّة اللَّه لم يؤت الكتاب ، وإذا خرج من أنانيّته لم يكن له نفسيّة حتّي يقول : كونوا عباداً لي من دون اللَّه ، بل إن قال : كونوا عباداً لي ، كان قوله متّحداً مع قوله : كونوا عباداً للَّه ، فإنّه إن قال : أنا ، كان أناه من الحقّ جارياً علي لسانه لا من نفسه كما إليه أشار المولوي :
گفت فرعوني أنا الحق گشت پست
گفت منصوري أنا الحق او برست !
اين أنا هو بود در ستر اي فضول
زاتحاد نور نه از راه حلول
بود أنا الحق از لب منصور نور
بود أنا الحق از لب فرعون زور
آن أنا لي وقت گفتن لعنت است
و اين أنا در وقت گفتن رحمت است
ثمّ قال : وكما أنّه لا يجوز الدعوة إلي نفسه لمن بقي عليه من أنانيته شي ء ، كذلك لا يجوز ذلك إذا كان المدعوّ محجوباً عن مشاهدة الحق تعالي في المظاهر ؛ فإنّ المحجوب إذا دعي إلي المظاهر كان إضلالاً ودعوة إلي عبادة الاسم دون المعني ، ولهذا طرد الصادق عليه السلام أبا الخطّاب بعد ما كان يدعو المريدين ممّن لا يري اللَّه في
ص: 408
المظاهر إلي آلهة الصادق عليه السلام ، وإذا خرج الداعي من أنانيّته وبقي بأنانيّة اللَّه كان الداعي هو اللَّه ؛ لأنّ الدعوة كانت من اللَّه بآلة لسان الداعي ، إلي أن قال :
وبهذا الوجه قيل بالفارسيّة :
اگر كافر ز بت آگاه بودي
چرا در دين خود گمراه بودي
اگر مؤمن بدانستي كه بت چيست
يقين كردي كه دين در بت پرستي است(1)
فنقول له - مضافاً إلي ما مرّ في الجواب عن أمثال هذه المقالات - : ما أردت من خروج الفاني عن أنانيّته وبقائه بأنانيّة اللَّه ؟
هل صار القديم والمحدَث أحدهما عين الآخر ؟ أم المراد ببقائه بأنانية اللَّه الاختصاص التامّ ، وهو الحالة الروحانيّة الحادثة والقرب المعنوي الحادث والكرامة والاصطفاء ؟
فإن أردت الأوّل فهو باطل ، أمّا صيرورة القديم محدَثاً فبطلانه مسلّم لا يحتاج إلي إثبات بل هو من أبده البديهيّات ، وأمّا صيرورة المحدَث قديماً فبطلانه أيضاً من البديهيّات علي تقدير بطلان التعديل بين حقيقة اللَّه وحقيقة مخلوقه ؛ لأنّه من الانقلاب المستحيل ؛ لعدم ما هو بمنزلة المادّة المشتركة المصحّحة للانقلاب .
وأمّا علي تقدير القول بالتعديل - حاشا ربّنا عن ذلك مع الإغماض عمّا في أصله - فهو أيضاً بديهي البطلان ، لأنّ المحدَث باق علي حدوده بالحسّ والوجدان فكيف يدّعي انقلابه بالقديم مع تسليمنا بعدم بقائه علي حدوده ؟
ص: 409
فإن قلت : لم يبق مطلقاً ولو بإنيّة اللَّه فقد ناقضت الكلام ونقضت المرام .
فانظر - يا أخي إلي كلامه وتامّل فيه - كيف اجتري ء أن يأوّل كلام اللَّه الظاهر بل النصّ إلي معني تضحك منه العقول وتشمئزّ منه الطباع وتنفرّ منه الأسماع ، ويحرّف كلام اللَّه الكريم وقرآنه العظيم وما ورد عن خلفاء الرحمن عن مواضعها ؟ ! وكيف يبدّل كلمة الكفر بالإسلام وكلمة الإسلام بالكفر ؟ !
« وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون » .(1)
ص: 410
نري من الضروري - قبل درج الأدلة النقليّة - التنبيه علي أمرين :
الأوّل : ما أشرنا إليه سابقاً وهو أنّ الآيات المتظافرة والأحاديث المتواترة القطعيّة بل ضرورة العقل والفطرة السليمة دلّت علي تنزّهه سبحانه عن اتّصافه بصفات المحدثات ومشابهة المخلوقات ، وهذا من المحكمات ، والمخالف لها يعدّ من المتشابهات ، ولابدّ من توجيه ما يخالف المحكمات ، أو طرحه لو لم يمكن توجيهه .(1)
ص: 411
وبعبارة أُخري : إذا كان ظاهر دليل مخالفاً لضروريّات العقول والفطرة السليمة والأخبار المتواترة ، يكشف ذلك عن أنّه ليس بمراد أو لم يصدر ، نعم مع العلم بالصّدور لابدّ من التصرّف في معناه ، كما هو ظاهر .
الثاني : قد تقرّر في علم الأُصول أنّ كلّ خبر واحد واجد لشرائط الحجيّة في باب الأحكام لا يمكن أن يكون حجّة في باب المعارف ، فكيف بضعافه ومرسلاته ، بل لابدّ من الرجوع إلي المدارك المعلومة صدوراً ودلالة ، ولا يمكن الأخذ بخبر واحد غير معلوم الصدور أو بخبر متشابه بلا إرجاعه إلي المحكمات .(1)
وهو عمدة ما استدلّ به ، قوله تعالي : « وهو معكم أين ما كنتم »(2) ، كما استدلّ به في الأسفار(3) وغيره .
أقول : ولا دلالة فيها علي ما زعموه بوجه ، بل دلالتها علي بطلان ما زعموه وفساده أظهر ؛ فإنّ المعيّة تقتضي الغيريّة الحقيقيّة لا الغيريّة الاعتباريه ، فالآية
ص: 412
لا تدلّ علي أنّه تعالي عين الأشياء ولا كلّ الأشياء كما لايخفي .
مضافاً إلي أنّ هذا التفسير هو التفسير بالرّأي المنهيّ عنه في الأخبار الكثيرة .
وقد روي الصدوق رحمه الله مسنداً عن ابن أذينة عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قوله عزّوجلّ : « ما يكون من نجوي ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ولا أدني من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أينما كانوا »(1) ، فقال : « هو واحد أحديّ الذات ، بائن عن خلقه ، وبذاك وصف نفسه ، وهو بكلّ شي ء محيط بالإشراف والإحاطة والقدرة ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بالإحاطة والعلم لا بالذات ، لأنّ الأماكن محدودة تحويها حدود أربعة فإذا كان بالذات لزمه الحواية » .(2)
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله في ذيل هذا الحديث : المعني أنّه ليست إحاطته سبحانه بالذات ؛ لأنّ الأماكن محدودة فإذا كانت إحاطته بالذات بأن كانت بالدّخول في الأمكنة لزم كونه محاطاً بالمكان كالمتمكّن ، وإن كانت بالانطباق علي المكان لزم كونه محيطاً بالمتمكّن كالمكان .(3)
أقول : لا يخفي أنّ الإمام عليه السلام قد فسّر المعيّة بالإحاطة العلميّة لا بالإحاطة الذاتيّة وانبساط الوجود الّذي قال به الفلاسفة .
وروي الصدوق رحمه الله بإسناده عن محمّد بن النعمان أنّه قال : سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّوجلّ : « هو اللَّه في السماوات وفي الأرض »(4) قال : « كذلك هو في كل مكان » ، قلت : بذاته ؟ قال : « ويحك ! إنّ الأماكن أقدار ، فإذا قلت في مكان
ص: 413
بذاته لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك ، ولكن هو بائن من خلقه ، محيط بما خلق علماً وقدرةً وإحاطةً وسلطاناً وملكاً ، وليس علمه بما في الأرض بأقلّ ممّا في السماء ، لا يبعد منه شي ء ، والأشياء له سواء علماً وقدرة وسلطاناً وملكاً واحاطةً » (1) .
فهذه الآية وما شابهها من الآيات مثل قوله تعالي :« ما يكون من نجوي ثلاثة إلاّ هو رابعهم »(2) و « نحن أقرب إليه من حبل الوريد »(3) وغيرها تدلّ علي أنّ اللَّه تعالي معهم ، أمّا أن يراد من كونه تعالي معهم هو ما ذكره القائل بوحدة الوجود من أنّه تعالي سار في الموجودات وأنّها علي كثرتها مجالي ومظاهر له و . . فلا دلالة في الآيات المذكورة عليه ، بل هي علي خلاف مطلوبهم أدلّ ، كما مرّ .
عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم أنه قال : « لو أدليتم بحبل علي الأرض السفلي لهبط علي اللَّه » .(4)
أقول : هذا الاستدلال في غاية الوهن والضعف ؛ فإنّه مرسل لم يعلم راويه ولا وثاقته ، والمرسل لا حجيّة فيها في الفروع فضلاً عن الأُصول ، وقد تقرّر في محلّه أنّ كلّ خبر واحد واجد لشرائط الحجيّة في باب الفروع لا يمكن أن يكون حجة في باب
ص: 414
المعارف والأُصول فكيف بضعافه ومرسلاته ؟ ! نعم لا يجوز القول ببطلانه وردّه ؛ بل اللازم السكوت عنه وإيحاله إلي اللَّه وحججه المعصومين عليهم السلام إلاّ إذا كانت علائم الجعل فيه موجودة وواضحة .
وعلي تقدير صحّة سنده وعدم كونه من موضوعات العامّة فلابدّ من توجيهه وتأويله إلي معني صحيح ، كأن يقال : المقصود إحاطته تعالي علماً بجميع العوالم . . لأنّه بعد وضوح المحكمات من الأدلّة عن المتشابهات لابدّ من إرجاعها إلي المحكمات ، كما مرّ .
وأين هذا ممّا زعمه هؤلاء من أنّ الوجود هو اللَّه تعالي وليس في الدار غيره ديّار ؟ ! هيهات هيهات ! ! ولو جاز ذلك لبطلت الشرايع والأديان والأحكام . . وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : « اتّقوا اللَّه أن تمثّلوا بالرّب الّذي لا مثل له ، أو تشبّهوه من خلقه ، أو تلقوا عليه الأوهام ، أو تعملوا فيه الفكر ، أو تضربوا له الأمثال ، أو تنعتوه بنعوت المخلوقين ، فإنّ لمن فعل ذلك ناراً » .(1)
وعن مولانا الرضاعليه السلام : « فكلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه ، وكلّ ما يمكن فيه يمتنع من صانعه ، لا تجري عليه الحركة والسكون ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ؟ ! أو يعود إليه ما هو ابتدأه ؟ ! إذاً لتفاوتت ذاته ، ولتجزّأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه ، ولما كان للباري معني غير المبروء ، ولو حدّ له وراء إذاً حدّ له أمام ، ولو التمس له التمام إذاً لزمه النقصان ، كيف يستحق الأزل من لا يمتنع من الحدث ؟ وكيف ينشئ الأشياء من لا يمتنع من الإنشاء ؟ إذاً لقامت فيه آية المصنوع ، ولتحوّل دليلاً بعد ما كان مدلولاً عليه » (2) .
ص: 415
وعن الإمام الصادق عليه السلام : « إنّه ليس شي ء إلّا يبيد أو يتغيّر أو يدخله التغيّر والزوال من لون إلي لون ومن هيئة إلي هيئة ومن صفة إلي صفة ومن زيادة إلي نقصان ومن نقصان إلي زيادة إلاّ ربّ العالمين ؛ فإنّه لم يزل ولا يزال بحالة واحدة ، هو الأوّل قبل كلّ شي ء ، وهو الآخر علي ما لم يزل ، لا تختلف عليه الصفات والأسماء كما تختلف علي غيره » .(1)
وعن أميرالمؤمنين عليه السلام : « مباين لجميع ما أحدث في الصفات ، ممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات ، خارج بالكبرياء والعظمة من جميع تصرّف الحالات . . . تعالي عن ضرب الأمثال والصفات المخلوقة علوّاً كبيراً » .(2)
وغيرها من الأخبار الدالّة علي تنزيهه تعالي عن صفات المخلوقين .
والعجب العجاب : أنّ العرفاء والفلاسفة اعتمدوا في أُصول دينهم علي الآراء الضعيفة والأدلة الواهية السخيفة و . . ، واستخفّوا بالأخبار المعتبرة الصريحة الواردة في نفي أكاذيبهم ، ويستهزؤون بنقلة الأخبار والآثار ، وأخذوا برمي من تمسّك في الأُصول بالأخبار القطعيّة المعلّلة والموافقة للفطرة السليمة المستقيمة .
ومع ذلك تراهم يعتمدون علي الأخبار المرسلة المجهولة ، بل علي الموضوعة والمجعولة منها لإثبات مطالبهم الفاسدة ، ويصرفون الآيات المحكمات عن ظواهرها إلي تصحيح عبادة الطاغوت ، ويستندون إلي المتشابهات في إثبات مذهب من قال : إنّ اللَّه حكم بكفر النصاري ولعنهم وطردهم من أجل قولهم بحلوله في عيسي فقط !
ص: 416
قوله تعالي : « اللَّه نور السماوات والأرض » .(1)
وفيه : إنّ المراد بها أنّه تعالي هادٍ لأهل السماوات والأرض ، كما ورد تفسيرها بهذا المعني في الأخبار ، مثل : ما رواه الصدوق رحمه الله في التوحيد مسنداً عن العباس بن هلال ، قال : سألت الرضاعليه السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ : « اللَّه نور السماوات والأرض » فقال : « هادٍ لأهل السماء وهادٍ لأهل الأرض » .
وفي رواية البرقي : « هدي من في السماوات وهدي من في الأرض » .(2)
وفي حديث : « هادي من في السماوات ، وهادي من في الأرض » .
وأيضاً في حديث عمران قال : يا سيّدي ! فأيّ شي ء هو ؟ قال عليه السلام : « هو نور بمعني أنّه هادٍ لخلقه من أهل السماء وأهل الأرض » .(3)
وذكر الصدوق رحمه الله في باب أسماء اللَّه تعالي ( النور ) وقال :النور معناه المنير ، ومنه قوله تعالي : « اللَّه نور السماوات والأرض » أي : منير لهم وآمرهم وهاديهم ، فهم يهتدون به في مصالحهم كما يهتدون في النور والضياء ، وهذا توسّع ؛ إذ النور : الضياء ، واللَّه عزّوجلّ متعال عن ذلك علوّاً كبيراً ؛ لانّ الأنوار محدَثة ومُحدِثها قديم لا يشبهه شي ء . . (4)
ص: 417
قوله عليه السلام : « كنت سمعه وبصره ولسانه ورجله . . » .(1)
أقول : لا دلالة فيه أيضاً علي الوحدة المذكورة ، بل المراد به معني آخر أشار إليه العلاّمة المجلسي قدس سره في البحار ، فإنّه رحمه الله بعد ما روي من المحاسن عن عبد الرحمن بن حمّاد ، عن حنّان بن سدير ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال : « قال رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم : قال اللَّه تعالي : ما تحبّب إليّ عبدي بشي ء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه ، وإنّه ليتحبّب إليّ بالنافلة حتّي أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به ولسانه الّذي ينطق به ويده الّتي يبطش بها ورجله الّتي يمشي بها ، إذا دعاني أجبته ، وإذا سألني أعطيته . . » .(2)
قال رحمه الله : هذا الخبر يحتمل وجوهاً :
الأوّل : أنّه لكثرة تخلّقه بأخلاق ربّه ووفور حبّه لجناب قدسه تخلّي عن شهوته وإرادته ، ولا ينظر إلاّ إلي ما يحبّه سبحانه ، ولايبطش إلّا إلي ما يوصله إلي قربه تعالي ، وهكذا .
الثاني : أن يكون المراد أنّه تعالي أحبّ إليه من سمعه وبصره ولسانه ويده ، ويبذل هذه الأعضاء الشريفة فيما يوجب رضاه ، فالمراد بكونه سمعه : أنّه في حبّه وإكرامه بمنزلة سمعه بل أعزّ منه ؛ لانّه يبذل سمعه في رضاه وكذا الباقي .
الثالث : أن يكون المعني : كنت نور سمعه وبصره وقوة يده ورجله ولسانه .
ص: 418
والحاصل أنّه لمّا استعمل نور بصره فيما يرضي ربّه أعطاه - بمقتضي وعده سبحانه : « لئن شكرتم لأزيدنّكم »(1) - نوراً من أنواره به يميّز بين الحقّ والباطل ، وبه يعرف المؤمن والمنافق ، كما قال اللَّه تعالي : « إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين »(2) وقال عليه السلام : « المؤمن ينظر بنور اللَّه » ، وكذا لمّا بذل قوّته في طاعته أعطاه قوّة فوق طاقة البشر ، كما قال مولانا الأطهرعليه السلام : « ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانيّة بل بقوّة ربّانيّة » وهكذا .
الرابع : أنّه لمّا خرج عن سلطان الهوي وآثر علي جميع مراداته وشهواته رضي المولي صار الرّب تبارك وتعالي متصرّفاً في نفسه وبدنه مدبّراً لقلبه وعقله وجوارحه ، فبه يسمع وبه يبصر وبه ينطق وبه يمشي وبه يبطش ، كما ورد في تأويل قوله تعالي : « وما تشاؤن إلاّ أن يشاء اللَّه »(3) ، وهذا معني دقيق لا يفهمه إلاّ العارفون ، وليس المراد به المعني الّذي باح به المبتدعون ؛ فإنّه الكفر الصريح والشرك القبيح .(4)
أقول : شرح العلاّمة المجلسي رحمه الله هذا الحديث في المرآة أيضاً وذكر فيه وجوهاً ستّة وقال : تمسّك بعض الصوفيّة والاتحاديّة والحلوليّة والملاحدة بظواهر تلك العبارات وأعرضوا عن بواطن هذه الاستعارات ، فضلّوا وأضلّوا ، مع أنّ عقل جميع أرباب العقول يحكم باستحالة اتّخاذ شي ء مع أشياء كثيرة متباينة الحقائق مختلفة الآثار(5) .
ص: 419
وأيضاً ما ذكروه من الكفر الصريح لا اختصاص له بالمحبّين والعارفين ، بل يحكمون باتّحاده تعالي بجميع أصناف الموجودات حتّي الكلاب والخنازير والقاذورات ، سبحانه وتعالي عمّا يقولون علوّاً كبيراً .
ص: 420
فهذه الأخبار نافية لمذاهبهم الفاسدة الخبيثة لا مثبتة لها ، ولها عند أهل الإيمان وأصحاب البيان وأرباب اللسان معان واضحة ظاهرة تقبلها الأذهان ، ومبنيّة علي مجازات واستعارات شايعة في الحديث والقرآن ، ومشتملة علي نكات بليغة استحسنها أرباب المعاني ، ولا تنافي عقائد أهل الإيمان ، وهي كثيرة نؤمي هنا إلي بعضها .(1)
الاستدلال(2) بقوله تعالي : « فأينما تولّوا فثمّ وجه اللَّه » .(3)
والجواب عنه : أنّ المستفاد من الأخبار الواردة في تفسيرها أنّها في النّافلة في السفر .(4)
وعلي هذا فالمعني : أينما تولّوا وجوهكم فهناك قبلة اللَّه ، فإنّه تعالي رخّص لعباده أن يولّوا وجوههم أينما شاؤوا ، وهذا في النوافل ، وأمّا قوله سبحانه : « فولّ وجهك شطر المسجد الحرام »(5) ، فهو في الفرائض .(6)
ص: 421
وروي في وسائل الشيعة مسنداً عن زرارة عن أبي جعفرعليه السلام أنّه قال له : « استقبل القبلة بوجهك ، ولا تقلّب بوجهك عن القبلة فتفسد صلوتك ، فإنّ اللَّه عزّوجلّ يقول لنبيّه في الفريضة : « فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره » .(1)
وروي عن مولانا الصادق عليه السلام في قوله تعالي : « أينما تولّوا فثمّ وجه اللَّه »(2) ، قال : « هذا في النوافل خاصّة في حال السفر ، فأمّا الفرائض فلابدّ فيها من استقبال القبلة » .(3)
وعن حمّاد بن عثمان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال : سألته عن الرجل يقرأ السجدة وهو علي ظهر دابته ، قال : « يسجد حيث توجّهت به ، فإنّ رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم كان يصلّي علي ناقته وهو مستقبل المدينة ، يقول اللَّه عزّوجلّ : « أينما تولّوا فثمّ وجه اللَّه إنّ اللَّه واسع عليم » » .(4)
وروي الطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهما السلام - في قوله تعالي : « فأينما تولّوا فثمّ وجه اللَّه » - : « أنّها ليست بمنسوخة ، وأنها مخصوصة بالنوافل في حال السفر » .(5)
ص: 422
قال الفيض : « وللَّه المشرق والمغرب »(1) يعني ناحيتي الأرض . . أي له كلّها ، « فأينما تولّوا فثمّ وجه اللَّه »(2) قيل : أي ذاته ، إذ لا يخلو منه مكان .(3)
وقال في موضع آخر : وربّما يفسّر الوجه بالذات . . وليس ذلك ببعيد .(4)
وفيه : لا تدلّ الآية الكريمة علي أنّ لفظ الوجه هو ذاته سبحانه ، والظاهر من لفظ الوجه في القرآن هو ما يتوجّه به إلي اللَّه ويتقرّب به إليه سبحانه ، أو فقل : وجهه تعالي يراد به دينه أو نبيّه أو وصي نبيّه ، كما روي عن مولانا الرضاعليه السلام : « وجه اللَّه أنبياؤه ورسوله وحججه صلوات اللَّه عليهم » .(5)
وأيضاً عن الهروي عن أبي الحسن الرضاعليه السلام أنّه قال : فقلت يا بن رسول اللَّه ! فما معني الخبر الّذي رووه أنّ ثواب لا إله إلاّ اللَّه النظر إلي وجه اللَّه ؟ فقال : « يا أبا صلت ! من وصف اللَّه بوجه من الوجوه فقد كفر ، ولكن وجه اللَّه أنبيائه ورسله وحججه صلوات اللَّه عليهم ، هم الّذين بهم يتوجّه إلي اللَّه عزّوجلّ كلّ شي ء وإلي دينه ومعرفته ، وقال اللَّه عزوجل : « كلّ من عليها فان ويبقي وجه ربّك »(6) ، وقال عزّوجلّ : « كلّ شي ء هالك إلاّ وجهه »(7) ، فالنظر إلي أنبياء اللَّه ورسله وحججه عليهم السلام في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين يوم القيامة » .(8)
وروي الصدوق رحمه الله مسنداً عن أبي حمزة ، قال : قلت لأبي جعفرعليه السلام : قول اللَّه
ص: 423
عزوجل : « كل شي هالك إلاّ وجهه »(1) ؟ قال : « فيهلك كلّ شي ء ويبقي الوجه ؟ ! إنّ اللَّه عزّوجلّ أعظم من أن يوصف بالوجه ولكن معناه : كلّ شي ء هالك إلاّ دينه والوجه الّذي يؤتي منه » .(2)
وعن الإمام الصادق عليه السلام في قول اللَّه عزوجل : « كلّ شي ء هالك إلاّ وجهه »(3) ، قال : « من أتي اللَّه بما أمر به من طاعة محمّد والأئمّة من بعده صلوات اللَّه عليهم فهو الوجه الّذي لا يهلك » ، ثمّ قرأ : « من يطع الرسول فقد أطاع اللَّه » .(4)
وعنه عليه السلام أيضاً في تفسير هذه الآية : « كلّ شي ء هالك إلاّ من أخذ طريق الحقّ » .(5)
وفي هذا الباب روايات كثيرة(6) فيها دلالة علي أنّ الوجه في هذه الآية الكريمة وكذلك في غيرها من الآيات ليس بمعني ذاته تعالي ، بل فيها تصريح أيضاً علي أنّ الوجه في القرآن الكريم لم يطلق علي الذات بحال .
هذا ، ولا يخفي أنّ ما استدلّ به القوم هنا ليس إلاّ استدلالاً بما لم ينزّل اللَّه به من سلطان ، وهو مصداق أتمّ لتفسير القرآن بالرأي المنهيّ عنه في أخبار الأئمّة المعصومين عليهم السلام .(7)
ص: 424
مكذّب للعينيّة لمنافاة الألوهيّة لها .
ويدلّ عليه ما روي الصدوق رحمه الله مسنداً عن هشام بن الحكم ، قال : قال أبو شاكر الديصاني : إنّ في القرآن آية هي قوّة لنا ، قلت : وما هي ؟ فقال : «وهو الّذي في السماء إله وفي الأرض إله » ، فلم أدر بما أُجيبه ، فحججت فخبّرت أبا عبداللَّه عليه السلام فقال : « هذا كلام زنديق خبيث ، إذا رجعت إليه فقل له : ما اسمك بالكوفه ؟ فإنّه يقول : فلان ، فقل : ما اسمك بالبصرة ؟ فإنّه يقول : فلان ، فقل : كذلك اللَّه ربّنا في السماء إله ، وفي الأرض إله ، وفي البحار إله ، وفي كلّ مكان إله » ، قال : فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته فقال : هذه نقلت من الحجاز .(1)
ومحصّل جوابه عليه السلام : أنّه تعالي مسمّي بهذا الاسم في السماء وفي الأرض .
وروي الكشي رحمه الله : قال : ذكر عنده جعفر بن واقد ونفر من أصحاب أبي الخطاب فقيل : إنّه صار إليّ يتردّد ، وقال فيهم : « وهو الّذي في السماء إله وفي الأرض إله »(2) قال : هو الإمام ! فقال أبو عبداللَّه عليه السلام : « لا واللَّه ! لا يأويني وإيّاه سقف بيت أبداً ، هم شرّ من اليهود والنصاري والمجوس والّذين أشركوا ، واللَّه ما صغّر عظمة اللَّه تصغيرهم شي ء قطّ . . . وما أنا إلاّ عبد مملوك لا أقدر علي ضرّ شي ء ولا نفع » .(3)
وروي الكلينيّ قدس سره بإسناده عن سدير ، قال : قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام : إنّ قوماً يزعمون أنّكم آلهة يتلون علينا بذلك قرآناً : « وهو الّذي في السماء إله وفي الأرض
ص: 426
إله »(1) ، فقال : « يا سدير ! سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري براء وبري ء اللَّه منهم ، ما هؤلاء علي ديني ولا . . » .(2)
فتري أنّه عليه السلام لم يفصّل بين الانحصار في الأُلوهيّة وغيره حتّي يصحّ قول القائل بوحدة الوجود : بأنّ الباطل والمنكر هو انحصار الألوهية في شخص أو أشخاص دون ألوهيّة الكلّ . . فإذا لم يمكن استناد الأُلوهية إلي من أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، فكيف يمكن القول به في أخسّ الموجودات وأخبثها وأقذرها ؟ ! فالمراد بالآية : انحصار الأُلوهية في اللَّه سبحانه وتعالي .
ص: 427
ص: 428
ص: 429
ص: 430
ويناسب هنا ذكر جملة من الروايات الدالّة علي وجوب الرجوع إلي الأئمّةعليهم السلام وعدم جواز الاستقلال بالعقل والرأي .
ومنها : ما عن أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام : « لا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر ولا يتغلغل إليه الفكر » .(1)
ومنها : ما عن مولانا الصادق عليه السلام : « أما إنّه شرّ عليكم أن تقولوا بشي ء ما لم تسمعوه منّا » .(2)
ومنها : ما عن عليّ بن الحسين عليهما السلام : « إنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقائيس الفاسدة ، ولا يصاب إلاّ بالتسليم ، فمن سلّم لنا سلم ، ومن اهتدي بنا اهتدي » .(3)
ص: 431
ومنها : ما عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام : « من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ، ومن دان اللَّه بالرأي لم يزل دهره في ارتماس » .(1)
ومنها : عنه عليه السلام : « إنّ المؤمن أخذ دينه عن ربّه ولم يأخذه عن رأيه ، أيّها الناس ! دينكم دينكم ! تمسّكوا به ، لا يزيلكم أحد عنه » .(2)
ومنها : عنه عليه السلام : « يا كميل ! لا تأخذ إلاّ عنّا تكن منّا » .(3)
ومنها : عن النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « لا رأي في الدين ، إنّما الدين من الربّ أمره ونهيه » .(4)
ومنها : عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال : « من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال ، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنّة زالت الجبال ولم يزل » .(5)
ومنها : ما عن أبي جعفرعليه السلام : « من دان اللَّه بغير سماع عن صادق ألزمه اللَّه التيه إلي يوم القيامة » .(6)
ومنها : عنه عليه السلام : « أما لو أنّ رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله
ص: 432
وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ اللَّه فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له علي اللَّه حقّ في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان » .(1)
ومنها : ما عن مولانا الصادق عليه السلام : « واللَّه ما جعل اللَّه لأحد خيرة في اتّباع غيرنا ، وإنّ من وافقنا خالف عدوّنا » .(2)
ومنها : ما عن أبي الحسن الأوّل : « من نظر برأيه هلك ، ومن ترك أهل بيت نبيّه ضلّ ، من ترك كتاب اللَّه وقول نبيّه كفر » .(3)
ومنها : ما عن مولانا الباقرعليه السلام : « كلّ شي ء لم يخرج من هذا البيت فهو باطل » .(4)
ومنها : عنه عليه السلام : « شرّقا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا أهل البيت » .(5)
ومنها : عنه صلي الله عليه وآله وسلم : « من طلب الهدي في غيرهم فقد كذّبني » .(6)
ومنها : ما عن أبي عبد اللَّه عليه السلام : «من دخل في هذا الدّين بالرجال أخرجه منه الرجال كما أدخلوه فيه ، ومن دخل فيه بالكتاب والسنّة زالت الجبال قبل أن يزول » .(7)
ص: 433
ومنها : عنه صلي الله عليه وآله وسلم : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد العلم فليأت الباب » .(1)
ومنها : ما عن مولانا الرضاعليه السلام : « لم يمض صلي الله عليه وآله وسلم حتّي بيّن لأمّته معالم دينهم . . . وما ترك لهم شيئاً يحتاج إليه الأمّة إلاّ بيّنه ، فمن زعم أنّ اللَّه عزّوجلّ لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللَّه ومن ردّ كتاب اللَّه فهو كافر به » (2) .
ومنها : عنه عليه السلام : « شيعتنا المسلّمون لأمرنا الآخذون بقولنا ، المخالفون لأعدائنا فمن لم يكن كذلك فليس منّا » .(3)
ومنها : ما عن الإمام الباقرعليه السلام : « إنّ اللَّه تبارك وتعالي لم يدع شيئاً يحتاج إليه الأمّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله . . » (4)
ومنها : ما عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام : « إنّ اللَّه أنزل في القرآن تبيان كلّ شي ء حتّي واللَّه ما ترك اللَّه شيئاً يحتاج العباد إليه إلاّ بيّنه للنّاس حتّي لا يستطيع عبد يقول : لو كان هذا نزل في القرآن ، إلاّ وقد أنزل اللَّه فيه » .(5)
ومنها : ما عن أبي جعفر الباقرعليه السلام : « ليس عند أحد من النّاس حقّ ولا صواب ولا أحد من الناس يقضي بقضاء حقّ إلاّ ما خرج منّا أهل البيت » (6) .
ومنها : ما عن أميرالمؤمنين عليه السلام : « نحن الشعار والأصحاب والخزنة
ص: 434
والأبواب ولا تؤتي البيوت إلاّ من أبوابها فمن أتاها من غير أبوابها سمّي سارقاً » (1) .
ومنها : عنه عليه السلام : « إنّ المؤمن من قال بقولنا فمن تخلّف عنه قصّر عنّا ، ومن قصّر عنّا لم يلحق بنا ، ومن لم يكن معنا ففي الدّرك الأسفل من النار » .(2)
ومنها : عنه عليه السلام : « تاللَّه لقد عُلِّمتُ تبليغَ الرّسالات وإتمام العدات وتمام الكلمات وعندنا أهل البيت أبواب الحكم وضياء الأمر » (3) .
ومنها : عنه عليه السلام : «أفأمرهم اللَّه بالاختلاف فأطاعوه ؟ ! أم نهاهم عنه فعصوه ؟ ! أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم علي إتمامه ؟ ! أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضي ؟ ! أم أنزل اللَّه ديناً تامّاً فقصّر الرّسول عن تبليغه وأدائه ؟ ! واللَّه سبحانه يقول : «ما فرّطنا في الكتاب من شي ء»(4) ، وفيه تبيان كلّ شي ء » .(5)
قال العلاّمة المجلسي قدس سره : هذا تشنيع علي من يحكم برأيه وعقله من غير رجوع إلي الكتاب والسنّة وإلي أئمّة الهدي عليهم السلام . . .
وأمّا الاختلاف الناشي ء من الجمع بين الأخبار بوجوه مختلفة أو العمل بالأخبار المتعارضة باختلاف المرجّحات الّتي تظهر لكلّ عالم بعد بذل جهدهم وعدم تقصيرهم فليس من ذلك في شي ء .(6)
ص: 435
ومنها : عنه عليه السلام : « أيّها الناس عليكم بالطاعة والمعرفة بمن لا تعتذرون بجهالته ، فإنّ العلم الّذي هبط به آدم وجميع ما فضّلت به النبيّون إلي محمّد خاتم النبيّين في عترة محمّدصلي الله عليه وآله وسلم ، فأين يتاه بكم ؟ بل أين تذهبون ؟ . . . الويل لمن تخلّف ، ثمّ الويل لمن تخلّف . أما بلغكم ما قال فيهم نبيّكم صلي الله عليه وآله وسلم ؟ حيث قال في حجة الوداع : إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ، كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ؟ ألا هذا عذب فرات فاشربوا ، وهذا ملح أُجاج فاجتنبوا » .(1)
أقول : تدبّر يا أخي أ هذا العلم الذي هبط به آدم وفضّل اللَّه به النبيّين وجميعه عند خاتم النبيّين وكلّه عند عترة رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم هو هذه القواعد اليونانيّة الّتي نتيجتها ضد القرآن والروايات التي جائت من عترة محمّدصلي الله عليه وآله وسلم أم جائت القرآن لإبطلال هذه الأباطيل والروايات شرحت بطلانها بأوضح بيان .
ومنها : ما عن أميرالمؤمنين عليه السلام : « فأين تذهبون ؟ ! وأنّي تؤفكون ؟ ! والأعلام قائمة ، والآيات واضحة ، والمنار منصوبة ، فأين يتاه بكم ؟ ! بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم ؟ ! وهم أزمّة الحق ، وأعلام الدين ، وألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ، وردوهم ورود الهيم العطاش » (2) .
ولكنّ الشيطان أغوي أكثر الخلق عن هذا الطريق فتركوا قول اللَّه تعالي والرسول والأئمّةعليهم السلام واعتمدوا علي أوهامهم الواهية ، فكلّ طائفة تدّعي معرفة ربّها بنحو ؟ وقد أخطأ كلّهم ، هلاّ تفكّروا أنّهم لو كانوا يقدرون للوصول إلي حقايق
ص: 436
المعرفة الإلهيّة مستقلاً لما وجدت هذه الفرق الكثيرة من المتكلّمين والفلاسفة وكلّهم يدّعي العقل ، فلاتري في هذا الباب وسائر الأبواب فرقتين متوافقتين ، وما كان ذلك إلاّ لرفضهم التمسّك بحبل اللَّه وتركهم وصيّة سيّد الثّقلين وصرف العمر إلي كتب الفلاسفة و . .
وروي أنّ أناساً من المسلمين أتوا رسول اللَّه بكتف كتب فيها بعض ما يقوله اليهود ، فقال صلي الله عليه وآله وسلم : « كفي بها ضلالة قوم أن يرغبوا عمّا جاء به نبيّهم [إلي ما جاء به نبيّهم] ، فنزلت(1) : «أو لم يكفهم انّا أنزلنا عليك الكتاب يتلي عليهم إنّ في ذلك لرحمة وذكري لقوم يؤمنون» » .(2)
وقد قال اللَّه تعالي في كتابه : «اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء ، قليلاً ما تذكّرون» .(3)
وعن عبد الرحمن بن سمرة أنّه قال : قلت : يا رسول اللَّه ! أرشدني إلي النجاة ، فقال : « يا ابن سمرة ! إذا اختلفت الأهواء وتفرّقت الآراء فعليك بعليّ بن أبي طالب ، فإنّه إمام أمّتي وخليفتي عليهم من بعدي ، وهو الفاروق الّذي يميّز بين الحقّ والباطل ، من سأله أجابه ، ومن استرشده أرشده ، ومن طلب الحقّ من عنده وجده ، ومن التمس الهدي لديه صادفه ، ومن لجأ إليه آمنه ، ومن استمسك به نجاه ، ومن اقتدي به هداه . يا ابن سمرة ! سلم من سلم له ووالاه ، وهلك من ردّ عليه وعاداه » .
«يا ابن سمرة ! إنّ عليّاً منّي ، روحه من روحي وطينته من طينتي ، وهو أخي وأنا أخوه ، وهو زوج ابنتي فاطمة سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين ، وإنّ
ص: 437
منه إمامي أمّتي وسيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين ، تاسعهم قائم أمّتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً » .(1)
وقال مولانا أبو الحسن الرضاعليه السلام : « إنّما اختلف الناس في هذا الباب حتّي تاهوا وتحيّروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمة في وصفهم اللَّه بصفة أنفسهم فازدادوا من الحقّ بعداً ، ولو وصفوا اللَّه عزّ وجلّ بصفاته ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا بالفهم واليقين ولما اختلفوا ، فلمّا طلبوا من ذلك ما تحيّروا فيه ارتبكوا ، واللَّه يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم » .(2)
فليحذر العاقل الكيّس أن يطلب الهداية - إليه سبحانه وإلي دينه الّذي أساسه معرفته تعالي - من غير القرآن وحملة علومه ، وأن يسلك في طريق المعرفة إليه سبحانه غير طريق من جعلهم اللَّه معادن علمه وأركاناً لتوحيده .
كيف والأخبار المتواترة الصحيحة الصريحة تدلّ علي أنّه لابدّ من الرجوع إلي أئمّة الهدي ومصابيح الدّجي في العقائد والمعارف ، والشارع المقدّس كما عليه بيان الأحكام الفرعيّة كذلك يلزمه بيان الأصول الاعتقاديّة أيضاً ، بل هذا الأمر يمتاز بأهميّة خاصّة ؛ لأنّ شرف العلم بشرف معلومه .
فعلي هذا كيف يجوز لنا أخذ المعارف الإلهيّة والأصول الدينيّة من غير حجج اللَّه تعالي ، وقد بيّن اللَّه ورسوله ما تحتاج إليه الأمّة إلي يوم القيامة ، وكيف يحتاج في كمال الدين إلي آراء الرجال وأفكارهم - من العرفاء والفلاسفة - وقد قال تعالي في يوم الغدير : « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي »(3) ؟ !
ص: 438
حاشا وكلاّ أن نقول : بأنّ فهم الأحاديث الدقيقة يتوقّف علي معرفة العلوم الفلسفية الّتي هي مخالفة لأصول مذهب الإماميّة ، كما سنشير إلي بعضها ؛ مع أنّ إرجاع فهم مرادات الأئمّةعليهم السلام إلي تعلّم العلوم اليونانيّة - الّتي ظهرت وانتشرت في زمان الأمويّين والعبّاسيّين لأجل معارضة الأئمّةعليهم السلام وإطفاء أنوارهم صلوات اللَّه عليهم كما في التواريخ(1) - أمر فاسد وغير صحيح ؛ لأنّ حمل ألفاظ الكتاب والسنّة علي المعاني الإصطلاحيّة وتوقّف هداية البشر علي تعلمها - بعد بداهة جهل عامّة الأمّة بتلك الاصطلاحات إلاّ قليلاً منهم - مساوق لخروج كلام اللَّه تعالي وكلام رسوله عن طريق العقلاء وإحالتهم تكميل الأمّة إلي من يعلم الفلسفة اليونانيّة ، وهذا نقض غرض البعثة وهدم آثار النبوّة والرسالة ، وهو ظلم بالبنان والبيان دونه السيف والسنان .
كما أنّ تفسير كلمة الحكمة في الآيات والروايات بالفلسفة جهل محض بالأخبار والآثار ، فلاحظ الكافي وغيره .(2)
ص: 439
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله : لا يخفي علي من راجع كلامهم وتتبّع أصولهم أنّ جلّها لا يطابق ما ورد في شرايع الأنبياء وإنّما يمضغون ببعض أصول الشرايع وضروريّات الملل علي ألسنتهم في كلّ زمان حذراً من القتل والتكفير من مؤمني أهل زمانهم ، فهم يؤمنون بأفواههم وتأبي قلوبهم ، وأكثرهم كافرون .
ولعمري ! من قال بأنّ الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد ، وكلّ حادث مسبوق بمادّة ، وما ثبت قدمه امتنع عدمه ، وبأنّ العقول والأفلاك وهيولي العناصر قديمة ، وأنّ الأنواع المتوالدة كلّها قديمة ، وأنّه لا يجوز إعادة المعدوم ، وأنّ الأفلاك متطابقة ولا تكون العنصريّات فوق الأفلاك وأمثال ذلك ، كيف يؤمن بما أتت به الشرايع ونطقت به الآيات وتواترت به الروايات من اختيار الواجب وأنّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وحدوث العالم ، وحدوث آدم ، وحشر الجسمانيّ ، وكون الجنّة في السماء مشتملة علي الحور والقصور والأبنية والمساكن والأشجار والأنهار ، وأنّ السماوات تنشقّ وتطوي ، والكواكب تنتثر وتتساقط بل تفني ، وأنّ الملائكة أجسام ملئت منهم السماوات ينزلون ويعرجون ، وأنّ النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم قد عرج إلي السماء ، وكذا عيسي وإدريس عليهما السلام ، وكذا كثير من معجزات الأنبياء والأوصياءعليهم السلام من شقّ القمر وإحياء الأموات وردّ الشمس وطلوعها من مغربها وكسوف الشمس في غير زمانه وخسوف القمر في غير أوانه وأمثال ذلك ؟
ومن أنصف ورجع إلي كلامهم علم أنّهم لا يعاملون أصحاب الشرايع إلاّ كمعاملة المستهزي ء بهم ، أو من جعل الأنبياءعليهم السلام كأرباب الحيل والمعمّيات الّذين
ص: 440
لا يأتون بشي ء يفهمه الناس ، بل يلبسون عليهم في مدّة بعثتهم ، أعاذنا اللَّه وسائر المؤمنين عن تسويلاتهم وشبههم .(1)
وقال في موضع آخر : فافتحوا العين وارفعوا العناد من البين ، وانظروا بأبصار مكحولة بالانصاف ، مشفيّة من رمد التعصّب والاعتساف فتكونوا في أصول الدين من أصحاب اليقين وتدخلوا في حزب الأنبياء والأوصياء والصدّيقين ، ولا تعتمدوا علي أصولكم ولا تتكلّموا علي عقولكم لا سيّما في المقاصد الدينيّة والمطالب الإلهيّة ، فإنّ بديهة العقل كثيراً ما تشتبه ببديهة الوهم والمألوفات الطبيعة بالأمور اليقينيّة ، والمنطق لا يفي بتصحيح موادّ الأقيسة ، و زن أفكارك بميزان الشرع المبين ومقياس الدين المتين وما تحقّق صدوره عن الأئمّة الراسخين - صلوات اللَّه عليهم أجمعين - لئلاّ تكون من الهالكين .(2)
وقال أيضاً : فإنّ أوّل الكفر والإلحاد التصرف في النواميس الشرعيّة بالعقول الضعيفة والأهواء الردية ، أعاذنا اللَّه وسائر المؤمنين منها ومن أمثالها .(3)
أقول : لا يخفي أنّ ما ذكره العلاّمة المجلسي قدس سره وغيره من الأعلام في ذمّ الفلاسفة والعرفاء والطعن عليهم ليس ذلك من جهة العصبيّة والعناد ، بل لأجل التوالي الفاسدة غير الصالحة للإهمال والإغماض ؛ ولأنّ في كتمان الحقّ ضرر عظيم وفساد كبير مع ما فيه من إغراء العوام بالجهل وشيوع الفتنة والفساد بظهور الكفر والإلحاد ، مضافاً إلي أنّه مخالف لنصوص السنة والكتاب .
فما صنعه قدس سره امتثال لأوامر الأئمّة الأطياب عليهم السلام كما روي الكلينيّ رحمه الله في الكافي
ص: 441
بسند صحيح عن ابي عبداللَّه عليه السلام قال : « قال رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم : إذا رأيتم أهل الرّيب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة ، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ، ويحذرهم الناس ولا يتعلّموا من بدعهم ، يكتب اللَّه لكم بذلك الحسنات ، ويرفع لكم به الدرجات في الأخرة » .(1)
وروي الشيخ الثقة الجليل عمر بن عبد العزيز الكشي رحمه الله بسند صحيح عن علي بن مهزيار قال : سمعت أبا جعفر الثاني عليه السلام يقول - وقد ذكر عنده ابوالخطاب - : « لعن اللَّه أبا الخطاب ولعن أصحابه ولعن الشاكّين في لعنه ولعن من وقف في ذلك وشك فيه . . » إلي أن قال : « قال رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم من تأثّم أن يلعن من لعنه اللَّه فعليه لعنة اللَّه » .(2)
أقول : وناهيك بهذا الحديث الشريف - الصحيح سنداً والصريح دلالةً و ما اشتمل عليه من التأكيد والمبالغة - حجة علي من توقّف في ذلك .
وعن أبي الحسن علي بن موسي الرضاعليهما السلام : قال : « من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك ونحن منه براء في الدنيا والآخرة . . . فمن أحبّهم فقد أبغضنا ومن أبغضهم فقد أحبّنا ، ومن والاهم فقد عادانا ومن عاداهم فقد والانا ، ومن وصلهم فقد قطعنا ومن قطعهم فقد وصلنا ، ومن جفاهم فقد برّنا ومن برّهم فقد جفانا ، ومن أكرمهم فقد أهاننا ومن أهانهم فقد أكرمنا ، ومن قبلهم فقد ردّنا ومن ردّهم فقد قبلنا ، ومن أحسن إليهم فقد أساء إلينا ومن أساء إليهم فقد أحسن إلينا ، ومن صدّقهم فقد كذّبنا ومن كذّبهم فقد صدّقنا ، ومن أعطاهم فقد حرمنا ومن حرمهم
ص: 442
فقد أعطانا ، يابن خالد من كان من شيعتنا فلا يتّخذنّ منهم وليّاً ولا نصيراً » .(1)
وعن الجعفري قال سمعت أباالحسن عليه السلام يقول : « مالي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب ؟ » فقال : إنّه خالي ، فقال : « إنّه يقول في اللَّه قولاً عظيماً ، يصف اللَّه ولا يوصف ، فإما جلست معه وتركتنا ، وإمّا جلست معنا وتركته ؟ » فقلت : هو يقول ما شاء ، أيّ شي ء عليّ منه إذا لم أقل ما يقول ؟ فقال ابوالحسن عليه السلام « أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعاً ، أما علمت بالذي كان من أصحاب موسي عليه السلام وكان أبوه من أصحاب فرعون فلمّا لحقت خيل فرعون موسي تخلّف عنه ليعظ أباه فيلحقه بموسي فمضي أبوه وهو يراغمه حتّي بلغا طرفاً من البحر فغرقا جميعاً فأتي موسي عليه السلام الخبر فقال : هو في رحمة اللَّه ولكنّ النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمّن قارب المذنب دفاع » .(2)
فمن « باض وفرّخ في صدورهم الشيطان ودبّ ودرج في حجورهم ، فنظر بأعينهم ونطق بألسنتهم »(3) و « اقتبس جهائل من جهّال وأضاليل من ضلاّل »(4) لا يمتنع أن يدخل في الدين ما لم يعلم من الدين بل ما ليس من الدين .
فيا للَّه قد أصبحنا في زمن تري أنّ القائل بالحقّ فيه قليل وناصره ذليل واللسان عن الصدق كليل ، وخذل فيه العلم وتنكّرت معالمه وتقمّصه الجهّال وتشبّهوا بأرباب الفضل والكمال ، ويرفع قدر الجاهلين عند الشيوخ والشبّان ،
ص: 443
وكان العلم والكفر عندهم سيّان ، فإنّ هذه فتنة عظيمة لآخر الزمان ، العالم فيه مُلجم والجاهل مكرّم ، يا حسرة علي العباد من انتشار الكفر والإلحاد .
في حفظ الدين عن علماء السوء :
عن مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام : « وآخر قد تسمّي عالماً وليس به ، فاقتبس جهائل من جهّال وأضاليل من ضلاّل و نصب للنّاس أشراكاً من حبائل غرور وقول زور ، قد حمل الكتاب علي آرائه وعطف الحقّ علي أهوائه ، يؤمن الناس من العظائم ، ويهوّن كبير الجرائم ، يقول : أقف عند الشبهات ، وفيها وقع ، ويقول : أعتزل البدع ، وبينها اضطجع ، فالصورة صورة إنسان ، والقلب قلب حيوان ، لا يعرف باب الهدي فيتّبعه ، ولا باب العمي فيصدّ عنه وذلك ميّت الأحياء » .(1)
وعن مولانا العسكريّ عليه السلام : « . . علماؤهم شرار خلق اللَّه علي وجه الأرض ، لأنّهم يميلون إلي الفلسفة والتصوّف ، وأيم اللَّه إنّهم من أهل العدول والتحرّف ! يبالغون في حبّ مخالفينا ويضلّون شيعتنا وموالينا . . . ألا إنّهم قطّاع طريق المؤمنين ، والدّعاة إلي نحلة الملحدين ، فمن أدركهم فليحذرهم وليصن دينه وإيمانه » .(2)
وعنه صلي الله عليه وآله وسلم : « ألا إنّ شرّ الشرّ شرار العلماء وإنّ خير الخير خيار العلماء » .(3)
وليعلم أنّ اللَّه تعالي لا يعذّرك يوم القيامة في متابعة أيّ شخص حتّي تعلم أنّه عالم بعلوم أهل البيت عليهم السلام ويخبر عن كلامهم ، ولا يأوّله للدنيا ، كما روي عن
ص: 444
مولانا الرضاعليه السلام قال علي بن الحسين عليه السلام : « إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته(1) وهديه(2) ، وتماوت في منطقه(3) ، وتخاضع في حركاته ، فرويداً لا يغرّنّكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيّته ومهانته وجبن قلبه فنصب الدين فخّاً لها(4) ، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإنّ تمكّن من حرام اقتحمه .
وإذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام فرويداً لا يغرّنّكم فإنّ شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو(5) عن المال الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه علي شوهاء قبيحة فيأتي منها محرّماً .
فإذا وجدتموه يعفّ عن ذلك فرويداً لا يغرّكم حتي تنظروا ما عقده عقله ، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ، ثمّ لا يرجع إلي عقل متين ، فيكون ما يفسده بجهله أكثر ممّا يصلحه بعقله .
فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغرّكم حتي تنظروا أ مع هواه يكون علي عقله ؟ أو يكون مع عقله علي هواه ؟ وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها فإنّ في الناس من خسر الدنيا والآخرة يترك الدنيا للدنيا ، ويري أنّ لذّة الرّئاسة الباطلة أفضل من لذّة الأموال والنعم المباحة المحلّلة ، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة ، حتي إِذا قيل له : اتّق اللّه أَخذتْه العزَّة بالإِثم فحسبه جهنَّم ولَبئس المهاد . فهو يخبط خبط عشواء يقوده أوّل باطل إلي أبعد غايات الخسارة ، ويمدّه ربّه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه . فهو يحلّ ما حرّم الله ، ويحرّم ما أحلّ الله ، لا يبالي
ص: 445
بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتّقي من أجلها ، فأولئك الّذين غضب اللّه عليهم ولعنهم وأَعدّ لهم عذاباً مهيناً .
ولكنّ الرجل كلّ الرجل نعم الرجل هو الّذي جعل هواه تبعاً لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضي الله ، يري الذلّ مع الحقّ أقرب إلي عزّ الأبد من العزّ في الباطل ، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلي دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد ، وإنّ كثير ما يلحقه من سرائها إن اتّبع هواه يؤديه إلي عذاب لا انقطاع له ولا يزول ، فذلكم الرجل نعم الرجل ، فبه فتمسّكوا ، وبسنته فاقتدوا ، وإلي ربّكم به فتوسّلوا ، فإنه لا تردّ له دعوة ، ولا تخيب له طلبة » .(1)
إقول : لا يخفي ما فيه من التعريض لمشايخ العرفاء والصوفيّة والتصريح بذمّهم .
وعن مولانا الصادق عليه السلام : « الخشية ميراث العلم ، والعلم شعاع المعرفة وقلب الايمان ، ومن حرم الخشية لا يكون عالماً وإن شقّ في متشابهات العلم ، قال اللَّه عزوجّل ( إنما يخشي اللَّه من عباده العلماء »(2) وآفة العلماء ثمانية أشياء : الطمع والبخل والرياء والعصبية وحبّ المدح والخوض فيما لم يصلوا إلي حقيقته والتكلّف في تزيين الكلام بزاوئد الألفاظ وقلة الحياء من اللَّه والافتخار وترك العمل بما علموا » .(3)
وعن ابي عبداللَّه عليه السلام : « . . ومن العلماء من يطلب أحاديث اليهود والنصاري ليغزر(4) به علمه ويكثر به حديثه فذاك في الدرك الخامس من النار . . » .(5)
ص: 446
وعن ابي محمد العسكري عليه السلام في وصف علماء السوء : « هم أضرّ علي ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد عليه اللعنة علي الحسين بن علي عليهما السلام واصحابه . . . يدخلون الشك والشبهة علي ضعفاء شيعتنا فيضلّونهم ويمنعونهم عن قصد الحق المصيب . . » .(1)
وعن امير المؤمنين عليه السلام : عنه صلي الله عليه وآله وسلم في وصف علماء السوء في آخر الزمان : « فقهاء ذلك الزمان شرّ فقهاء تحت ظلّ السماء ، منهم خرجت الفتنة واليهم تعود » .(2)
وعن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : « لو أنّ حملة العلم حملوه بحقّه لأحبّهم اللَّه وملائكته وأهل طاعته من خلقه ، ولكنّهم حملوه لطلب الدنيا فمقتهم اللَّه وهانوا علي الناس . . » .(3)
وفي مواعظ المسيح عليه السلام « وما أكثر المتكلّمين وليس كلّ كلامهم يصدق ! فاحتفظوا من العلماء الكذبة الذين عليهم ثياب الصوف ، منكّسو رؤوسهم إلي الأرض ، يزوّرون به الخطايا ، يطرفون من تحت حواجبهم كما ترمق الذئاب ، وقولهم يخالف فعلهم ، وهل يجتني من العوسج العنب ؟ ومن الحنظل التين ؟ وكذلك لا يؤثّر قول العالم الكاذب إلاّ زوراً ، وليس كلّ من يقول يصدق . . » .(4)
وغيرها من الأخبار الدالّة علي الاحتراز عن علماء السوء ، فلاحظ .(5)
ص: 447
نذكر في هذه الفائدة - تأييداً لما ذكرناه - كلمات جمع من الفقهاء العظام ليظهر لك بشاعة هذه العقيدة الفاسدة وقبحها عندهم وما حكموا به علي قائلها ، وإتماماً للحجة .
قال - تحت عنوان البحث الخامس في أنّه تعالي لا يتّحد بغيره - : الضرورة قاضية ببطلان الاتّحاد ، فإنّه لا يعقل صيرورة الشيئين شيئاً واحداً ، وخالف في ذلك جماعة من الصوفيّة من الجمهور فحكموا بأنّه تعالي يتّحد بأبدان العارفين حتّي تمادي بعضهم وقال : إنّه تعالي نفس الوجود ، وكلّ موجود فهو اللَّه تعالي ، وهذا عين الكفر والإلحاد . الحمدللَّه الّذي فضّلنا باتّباع أهل البيت عليهم السلام دون الأهواء المضلّة .(1)
قال - ما ترجمته - : لابدّ أن يعتقد المؤمن في كلّ حال أنّ القول بالحلول والاتّحاد ووحدة الوجود كفر ، وأيضاً لابدّ أن يعلم الشيعة أنّ الوجه الّذي يقول به الحلوليّة والاتحاديّة والوحدتيّة في أُلوهيّتهم وأُلوهيّة مشايخهم وسائر الموجودات يقوله النصاري بعينه في أُلوهية عيسي عليه السلام وغلات الشيعة في أُلوهيّة أمير المؤمنين عليه السلام وبعض آخر من الأئمّةعليهم السلام .
ص: 448
ومع هذا إنّ جماعة من غلات العامّة يعدّون الحلاّج الكافر وأشباهه - الذين يقولون بأنّه تعالي كلّ الأشياء - من أكابر أولياء اللَّه .(1)
وقال في موضع آخر - ما ترجمته - : وهم قالوا بوحدة الوجود ، واعتقادهم : أنّ كلّ إنسان بل كلّ شي ء هو اللَّه تعالي شأنه كما أُشير إليه ، وهم أشدّ كفراً وأعظم خزياً من نمرود وشدّاد وفرعون لاعتقادهم بإلهيّة جميع الأشياء الغير الطاهرة فضلاً عن غيرها ، فلو سمّيت تلك الفرقة ب : الكثرتية كان أبلغ ، لمبالغتهم في كثرة الإله بحيث لا يبقي شي ء ممّا سوي اللَّه تعالي إلّا ويقولون : إنّه اللَّه ، وزعموا أنّ الجميع واحد .
وقد ذكر محيي الدين في كتبه من ذلك كثيراً لاسيّما في الفصوص ، فقال في الفصّ اللقماني منه : إنّ الاختلاف بيننا وبين الأشاعرة في العبارة .
وقال في الفصّ الموسوي : إنّ فرعون عين الحقّ . . إلي آخر ما ذكره .(2)
قال - ما ترجمته - : اعتقد جمع من الصوفيّة من أهل السنّة ومن متكلّميهم بل أكثرهم بالحلول في الأشياء . واعتقدت النصاري الحلول في عيسي عليه السلام فقط ، واعتقد الصوفيّة الحلوليّة أنّه سبحانه يحلّ في جميع الأشياء ، وقد لعن اللَّه تعالي النصاري لهذا السبب في مواضع متعددة من القرآن وذكرهم بالكفر لنسبتهم هذه إلي اللَّه تعالي .
وفرّ بعض الصوفيّة من أبناء العامّة من الحلول لكنّهم وقعوا في أمر أقبح منه وأشنع وهو الاتّحاد .
ص: 449
ويقولون : إنّ اللَّه تعالي متّحد مع كلّ شي ء بل هو كلّ شي ء ولا وجود لغيره وهو الّذي يظهر بصور مختلفة ، فتارة علي صورة زيد وأُخري علي صورة عمرو وثالثة علي صورة الكلب والهرّة وأُخري علي صورة القذارات والأوساخ [ نعوذ باللَّه ]كالبحر فإنّه يتلاطم وتظهر منه صور مختلفة ، لكن في الحقيقة لا وجود لغير البحر كما قيل في الفارسيّة :
كه جهان موج هاي اين درياست
موج دريا يكي است غير كجاست
ويرون الماهيّات الممكنة أُموراً اعتباريّة عرضت علي ذات واجب الوجود ، وقد صرّحوا في جميع كتبهم وأشعارهم بهذه الخزعبلات والكفريات ، وهذا هو اعتقاد بعض كفّار وملحدي الهند بعينه .
وكتاب ( جوك ) المؤلّف لعقائدهم الفاسدة مشحون بهذه الخزعبلات ، فلذا بعض من له مشرب التصوّف في عصرنا يحترم هذا الكتاب غاية الاحترام ويجعله أكثر اعتباراً من كتب الشيعة ، وعدّوه من كتب عقائد الشيعة ، ولابدّ لكل شخص أن يكون عنده نسخة منه !
وزعم بعض الشيعة البسطاء أنّ هؤلاء أهل الحقّ وأحسن من في العالم ، فيقرؤون كلامهم ويكفرون ، وبزعمهم أنّ كلّ صوفيّ علي مذهب الحقّ ولا يقول إلّا من اللَّه تعالي ، ولا يعلمون أنّ الكفر والباطل قد ملئا العالم ، وأنّ أهل الحقّ منكوبون ومخذولون دائماً ، فكان غالبيّة كلّ صنف تابعين للباطل وكانوا من فِرَق أهل السنّة ، ودخل بعضهم في سلك التصوّف والبعض الآخر في سلك العلماء ، وإنّ كتب أكثر العلماء المتداولة اليوم كتب كفر وضلال إلاّ القليل منهم بقوا علي الحقّ وهم المتمسّكون بأهل البيت عليهم السلام .(1)
ص: 450
وقال رحمه الله في رسالة الاعتقادات :
إنّهم ( أي الصوفيّة ) لعنهم اللَّه لا يقنعون بتلك البدع ، بل يحرّفون أُصول الدين ويقولون بوحدة الوجود ، والمعني المشهور في هذا الزمان المسموع من مشايخهم كفر باللَّه العظيم .(1)
وقال رحمه الله في مرآة العقول :
وزاد المتأخّرون عن زمانه صلي الله عليه وآله وسلم علي البدعة في المأكل والمشرب كثيراً من العقائد الباطلة كاتّحاد الوجود وسقوط العبادات والجبر وغيرها ، وأثبتوا لمشايخهم من الكرامات ما كاد يربو علي المعجزات ، وقبايح أقوالهم وأفعالهم وعقايدهم أظهر من أن يخفي علي عاقل ، أعاذ اللَّه المؤمنين من فتنتهم وشرّهم ، فإنّهم أعدي الفرق للإيمان وأهله .(2)
حكي عن كتاب عمدة المقال في كفر أهل الضلال أنّه قال فيه : والصوفيّة جوّزوا اتّحاده تعالي وحلوله في أبدان العارفين حتّي تمادي بعضهم وقال : إنّه سبحانه نفس الوجود ؛ وكلّ موجود فهو اللَّه تعالي ، والذين يميلون إلي طريقتهم الباطلة يتعصّبون لهم ويسمّونهم الأولياء ، ولعمري إنّهم رؤوس الكفرة الفجرة ، وعظماء الزنادقة والملاحدة ، وكان من رؤوس هذه الطائفة الضالّة المضلّة الحسين بن منصور الحلاّج وأبو يزيد البسطامي .(3)
ص: 451
كتب علي قول ابن العربي في أوّل الفتوحات : سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها - ما لفظه - :
إنّ اللَّه لا يستحيي من الحقّ ، أيّها الشيخ ! لو سمعت من أحد أنّه يقول : فضلة الشيخ عين وجود الشيخ لا تسامحه البتّة ؛ بل تغضب عليه ، فكيف يسوغ لك أن تنسب هذا الهذيان إلي الملك الدّيان ؟ ! تب إلي اللَّه توبة نصوحاً لتنجو من هذه الورطة الوعرة الّتي يستنكف منها الدهريّون والطبيعيّون واليونانيّون ، والسلام علي من اتّبع الهدي .(1)
قال في شوارق الإلهام : قد اشتهر من مشايخ الصوفيّة القول بوحدة الوجود ، وأنّ الوجودات بل الموجوات ليست بمتكثّرة في الحقيقة بل هنا موجود واحد قد تعدّدت شؤونه وتكثّرت أطواره ، ولمّا كان ذلك بحسب الظاهر وبالمعني المتبادر مخالفاً لما يحكم به بديهة العقل من تكثّر الموجودات بالحقيقة لا بمجرّد الاعتبار تصدّي كثير من المحقّقين لتوجيه مذهبهم - ثمّ نقل بعض كلماتهم في توجيه مذهبهم إلي أن قال - : ولكن عندي فيه أنظار كثيرة يجب أن أُشير إلي بعضها . .(2)
ص: 452
قال : القول بأنّ المبدأ هو الوجود بلاشرط و( أمره ) هو الوجود بشرط لا أو بالعكس ، والمعلول هو الوجود بشرط شي ء ، وكذا القول بأنّ المبدأ هو الوجود الشخصي المتشخّص بذاته الواقع في أعلي درجات التشكيك المشتمل علي جميع المراتب السافلة ، وبالجملة فالقول بكون المعلول عين العلّة بالذات وغيره بالاعتبارات السلبيّة وكذا القول بالجزئيّة سواء كانت من طرف العلّة أو المعلول ، والقول بالأصليّة والفرعيّة ، والقول بالسنخيّة أو الترشّح أو العروض سواء كان الأخير من جهة العلّة أو المعلول ، والقول بالكمون والبروز وما يضاهي ذلك ، علي حدّ الشرك والكفر . وكلّ ذلك تولّد معنوي وتناسل حقيقي وموجب لتهوّد القائل به ومستلزم لتنصّر الذاهب إليه حيث قالت اليهود : « عزيز ابن اللَّه »(1) والنصاري : « المسيح ابن اللَّه » .(2)
قال : إنّ بطلان هذا الاعتقاد ( أي وحدة الوجود و . . ) من ضروريّات مذهب الشيعة الإماميّة لم يذهب إليه أحد منهم ، بل صرّحوا بإنكاره وأجمعوا علي فساده وشنّعوا علي من قال به ، فكلّ من قال به خرج عن مذهب الشيعة ، فلا تصح دعوي التشيّع من القائل به ، وهو كاف لنا في هذا المقام كما لا يخفي علي ذوي الأفهام .(3)
ص: 453
قال : الكفر أقسام : الأوّل : مايستحلّ به المال وتسبي به النساء والأطفال ، وهو كفر الإنكار والجحود والعناد والشكّ .
القسم الثاني : ما يحكم فيه بجواز القتل ونجاسة السؤر وحرمة الذبايح والنكاح من أهل الإسلام دون السبي والأسر وإباحة المال ، وهو كفر من دخل في الإسلام وخرج منه بارتداد عن الإسلام ، ويزيد الفطري منه في الرجال بإجراء أحكام الموتي ، أو كفر نعمة من غير شبهة ، أو هتك حرمة ، أو سبّ لأحد المعصومين عليهم السلام ، أو بغض لهم عليهم السلام ، أو بادّعاء قدم العالم بحسب الذات ، أو وحدة الوجود أو الموجود علي الحقيقة منهما ، أو الحلول ، أو الاتّحاد ، أو التشبيه ، أو الجسميّة . (1)
وقال رحمه الله أيضاً :
الكافر قسمان : أوّلهما : الكافر بالذات وهو كافر باللَّه تعالي أو نبيّه . . .
القسم الثاني : ما يترتّب عليه الكفر بطريق الاستلزام ، كإنكار بعض الضروريّات الإسلاميّة والمتواترات عن سيّد البريّة كالقول بالجبر والتفويض والإرجاء والوعيد وقدم العالم وقدم المجرّدات والتجسيم والتشبيه بالحقيقة والحلول والاتّحاد ووحدة الوجود أو الموجود أو الاتّحاد . . (2)
قال - بعد ذكر كلام القائل بوحدة الموجود والتمثيل بالبحر وموجه - : لا شكّ في أنّ هذا الاعتقاد كفر وإلحاد وزندقة ومخالف لضروريّ الدين .(3)
ص: 454
وقال في موضع آخر : لا يخفي أنّ كفرهم أظهر وأعظم من كفر إبليس عند أرباب البصيرة ؛ لأنّهم ينكرون المغايرة والمباينة بين الخالق والمخلوق ، وبطلان هذا القول من الضروريّات والبديهيّات عند جميع المذاهب والملل .(1)
قال في العروة الوثقي : القائلون بوحدة الوجود من الصوفيّة إذا التزموا بأحكام الإسلام فالأقوي عدم نجاستهم إلاّ مع العلم بالتزامهم بلوازم مذاهبهم من المفاسد .(2)
أقول : وقد تبعه في هذه الفتوي جمع كثير من الفقهاء والأعلام في حواشيهم علي العروة الوثقي وأمضوا ما ذكره السيدرحمه الله وقبلوه ولم يعلّقوا عليه ،
منهم : السيد علي البهبهاني قدس سره .(3)
ومنهم : السيد محمد هادي الميلاني رحمه الله .(4)
ومنهم : الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاءرحمه الله .(5)
ومنهم : السيد إبراهيم الحسيني الاصطهباناتي الشهير بميرزا آقا الشيرازي قدس سره .(6)
ومنهم : السيد محمود الحسيني الشاهرودي قدس سره .(7)
ص: 455
ومنهم : السيد محسن الطباطبائي الحكيم قدس سره .(1)
ومنهم : الشيخ عبداللَّه الغروي المامقاني قدس سره .(2)
ومنهم : السيد محمد الحجّة الكوه كمري قدس سره .(3)
ومنهم : الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي قدس سره .(4)
ومنهم : السيّد أبوالقاسم الخوئي رحمه الله .(5)
ومنهم : السيّد أبوالحسن الموسوي الإصبهاني قدس سره .(6)
ومنهم : السيّد الحاج آقا حسين الطباطبائي القمّي قدس سره .(7)
ومنهم : الحاج السيّد يونس الأردبيلي الموسوي رحمه الله .(8)
ومنهم : الشيخ علي بن المرحوم صاحب الجواهررحمه الله .(9)
ومنهم: الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي قدس سره .(10)
وغيرهم من المحشّين علي العروة الوثقي من الأعلام المعاصرين منهم : السيّد أحمد الخوانساري والسيّد محمد الرضا الگلپايگاني والسيّد شهاب الدين المرعشي
ص: 456
النجفي والسيّد أبو الحسن الرفيعي رحمهم الله ، و . .
وقد علّق بعضهم علي ما ذكره السيّد صاحب العروةقدس سره ، منهم : السيّد ميرزا عبداللَّه الهادي الحسيني الشيرازي قدس سره حيث زاد علي ما ذكره الماتن رحمه الله - بقوله : القائلون بوحدة الوجود - : إن لم يكونوا قائلين بالوحدة الشخصيّة ، وإلاّ فالأقوي نجاستهم .(1)
ومنهم : السيّد محمّد الفيروز آبادي اليزدي قدس سره ، وقد زاد علي ما ذكره الماتن رحمه الله - بقوله : والقائلون بوحدة الوجود - بالمعني الذي ليس هو بكفر .(2)
قال في المستمسك : وأمّا القائلون بوحدة الوجود من الصوفيّة فقد ذكرهم جماعة منهم السبزواري في تعليقته علي الأسفار ، قال : والقائلون بالتوحيد إمّا أن
يقول : بكثرة الوجود والموجود جميعاً مع التكلّم بكلمة التوحيد لساناً واعتقاداً بها إجمالاً ، وأكثر الناس في هذا المقام .
وإمّا أن يقول : بوحدة الوجود والموجود جميعاً ، وهو مذهب بعض الصوفيّة .
وإمّا يقول : بوحدة الوجود وكثرة الموجود ، وهو المنسوب إلي أذواق المتألّهين وعكسه باطل .
وإمّا أن يقول : بوحدة الوجود والموجود في عين كثرتهما ، وهو مذهب المصنف والعرفاء الشامخين .
ص: 457
والأوّل : توحيد عامي ، والثالث : توحيد خاصّي ، والثاني : توحيد خاصّ الخاصّ ، والرابع : توحيد أخصّ الخواصّ .
أقول : حسن الظنّ بهؤلاء القائلين بالتوحيد الخاصّ والحمل علي الصحّة المأمور به شرعاً يوجبان حمل هذه الأقوال علي خلاف ظواهرها ، وإلاّ فكيف يصحّ علي هذه الأقوال وجود الخالق والمخلوق والآمر والمأمور والراحم والمرحوم ؟ ! وما توفيقي إلاّ باللَّه ، عليه توكّلت وإليه أُنيب .(1)
قال : إنّ وحدة الوجود يطلق علي أنحاء ، وقد ذكر الحاجي السبزواري أنّها تطلق علي أربعة أوجه ، وجعل بعضها توحيد العوام ، وبعضها توحيد الخواصّ ، وبعضها توحيد خاصّ الخاصّ ، وبعضها توحيد أخصّ الخواصّ .
فياليت شعري إذا كان الأمر كما يزعمون فمن العابد ومن المعبود ومن الخالق ومن المخلوق ومن الآمر ومن المأمور ومن الناهي ومن المنتهي ومن الراحم ومن المرحوم ومن المثاب ومن المعاقب ومن المعذِّب ومن المعذَّب ومن الواجب ومن الممكن ؟ إلي غير ذلك من الكفريّات الّتي أنكرها الشرايع برمّتهم ، وخلاف ضرورة كلّ الشرايع .
مع أنّهم ( أي الصوفيّة ) طرّاً قائلين بوحدة الوجود ، ومعناه أنّ في الخارج ليس إلاّ وجود واحد وهو عين الأشياء ، ويلزم أن يكون المبدأ عزّ اسمه عين الحيوانات النجسة وعين القاذورات وهكذا ، تعالي اللَّه عمّا يصف الظالمون ، « ألا لعنة اللَّه علي الظالمين »(2) إلي غير ذلك من لوازم المسئلة ، فخذلهم اللَّه فأنّي
ص: 458
يؤفكون ، ف « ما قدروا اللَّه حق قدره »(1) ، ف « سيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون » .(2)
ولذا قال الشيخ [ الأنصاري ] قدس سره في طهارته في أمثال المقام بعين العبارة : إنّ السيرة المستمرّة من الأصحاب قدس سرهم في تكفير الحكماء المنكرين لبعض الضروريّات ولو لا يرجع إلي إنكار النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، فلا ريب في كفر القائل ونجاسته ولو إذا التزموا بأحكام الإسلام ؛ إذ ثبوت الكفر في أُصول الدين من العقائد الخبيثة الملعونة والاعتقاد بها والالتزام بها والإذعان لا يفيد الالتزام بأحكام الإسلام لو أراد بها في الفروع ، ولو أراد بها في الأُصول فهما ضدّان أو متناقضان ؛ كيف يمكن الالتزام ، وهل الخلف إلاّ ذلك ؟
فالأقوي أنّ القائل بها خارج عن ربقة الإسلام ورجس ونجس ، وقول الماتن ( أي صاحب العروة ) - من ذهابه إلي عدم نجاستهم - فرض فرضه لا وجود له في الخارج ، فكأنّه قدس سره أراد التستّر مع وضوح المسئلة ، ولذا قال : إلاّ مع العلم بالتزامهم بلوازم مذاهبهم الفاسدة .(3)
حيث قال - بعد ذكر كلام صاحب العروة بقوله : لا إشكال في نجاسة الغلاة . . الذي سلف - ما ترجمته - : ولا وجه لهذا التقييد ، والأقوي أنّ الحكم بالنجاسة والكفر بإطلاقه ثابت ، كما حكم به مطلقاً جمع من أعاظم الفقهاء .(4)
ص: 459
حيث قال : القائل بوحدة الوجود إن أراد . . . من وحدة الوجود ما يقابل الأوّل ، وهو أن يقول بوحدة الوجود والموجود حقيقة ، وأنّه ليس هناك في الحقيقة إلّا موجود واحد ولكن له تطوّرات متكثّرة واعتبارات مختلفة ، لأنّه في الخالق خالق وفي المخلوق مخلوق ، كما أنّه في السّماء سماء وفي الأرض أرض وهكذا ، وهذا هو الّذي يقال له : توحيد خاصّ الخاصّ . . . وحكي عن بعضهم أنّه قال : ليس في جبّتي سوي اللَّه . . . فإنّ العاقل كيف يصدر منه هذا الكلام ، وكيف يلتزم بوحدة الخالق ومخلوقه ويدّعي اختلافهما بحسب الاعتبار ؟ ! كيف كان ، فلا إشكال في أنّ الالتزام بذلك كفر صريح وزندقة ظاهرة ؛ لأنّه إنكار للواجب والنبيّ صلي الله عليه وآله وسلم حيث لا امتياز للخالق عن المخلوق حينئذ إلاّ بالاعتبار ، وكذا النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم وأبو جهل مثلاً متّحدان في الحقيقة علي هذا الأساس وإنّما يختلفان بحسب الاعتبار !(1)
قال في مهذّب الأحكام : أمّا القائلون بوحدة الوجود . . . منها : الوحدة في عين الكثرة أو وحدة الوجود وكثرة الموجود ، ولا ريب في أنّ اللَّه تبارك وتعالي منزّه عن هذه التصوّرات . . .
ومنها : الوحدة الواقعيّة الشخصيّة بأن يكون اللَّه تبارك وتعالي عين الكلّ والكلّ عينه تعالي ، ولا ريب في أنّه إنكار للضروري .(2)
ص: 460
قال في هداية الأُمّة إلي معارف الأئمّة بعد إبطال مقالة وحدة الوجود :
وبعد ذا التّفصيل في إبطالها
ليس مجال الرّيب في ضلالها
واتّضح الحقّ لمن تقبّله
من يضلل اللَّه فلا هادي له
فاشهد بكفر القول إن لم تشهد
بكفر بعض من تراه الأوحدي
فقل بأنّ القول كفر ورِدي
وشُبه الحقّ علي مَن اهتدي
والحقّ عن تعصّب لا تدعا
فإنّه أحقّ أن يُتّبعا
لا تكتم العلم ولا الشهادة
في حجة ولو علي جرادة
وقال رحمه الله في شرحه :
وبعد ذا التفصيل في إبطالها أي إبطال مقالة وحدة الوجود ، ليس مجال الرّيب في ضلالها ، ولعمري ! إنّ ظهور كفرها أظهر من كفر إبليس ، واتّضح الحقّ لمن تقبّله ولم ينكل عنه ، ولكن من يضلل اللَّه فلا هادي له ، فاشهد بكفر القول خاصّة إن لم تشهد بكفر بعض من تراه الأوحدي ، تعلّلاً بأنّ كفر القول لا يستلزم كفر القائل .
وهذه وصيّة منّي لمن ظهر لديه الحقّ بأن لا يستنكف عن الحكم بكفر هذه المقالة ؛ فإنّ كثيراً ممّن عرف الحقّ وعرف كفرها يتزلزل في الحكم بكفرها صريحاً ، وذلك لأنّهم يرون كثيراً ممّن يذعنون بتشيّعهم - وهم الأوحديّون في العلوم والفنون - قد ابتلوا بهذه الفتنة ، ويعظم عليهم تكفير هؤلاء ، فيستنكفون عن الحكم الصريح مخافة أن ينقض عليهم بأمثالهم ، أو يشملهم فكانوا قد استخفّوا بإجلالهم ، وفيهم من يتأبّي عن الشهادة تعصّباً وذلك أخزي ، فيفرّق بين الشيعة وغير الشيعة « تلك إذاً قسمة ضيزي » .(1)
ص: 461
وقد تكلّفت للأوّلين سبيلاً للتخلّص عن هذه الوسوسة فقلت : ف ( إن لم تشهد بكفر القائل ) فقلتُ : ( فقل : بأنّ القول في نفسه كفر وردي ) ولكن شبّه الحقّ علي من اهتدي ، فإنّ الحدود تدرء بالشّبهات .
ومع ذلك لي فيه نظر(1) ، فإنّ شبهة الكفر ليس كسائر الشّبهات ممّا يعذر صاحبها .
وأمّا المتعصّبون فقد أنذرتهم بقولي : ( والحقّ عن تعصّب لا تدعا ) ، (فإنّه أحقّ أن يتّبعا ) بأن يراعي حقّه ، يعني أنّ الحقّ أولي بالرّعاية في إظهاره وإعلانه ممّن يدخل في أهل الحقّ ، فيستر عليه بإسراره وكتمانه ، فإنّ في كتمان الحقّ ضرر عظيم وفساد كبير ، وإظهاره أيضاً وان كان يلازم الضّرر إلّا أنّه أهون ؛ لأنّ ضرره شخصي وضرر الكتمان نوعيّ لما فيه من إغراء العوام بالجهل وشيوع الفتنة(2) ، ومع ذلك مخالف لنصّ القرآن كما أشرت إليه بقولي : ( لا تكتم العلم ولا الشهادة ) ، ( في حجّة ولو علي جرادة ) أي ولو كان العلم والشهادة في أمر جرادة ، قال اللَّه تعالي :
« إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدي من بعد ما بيّناه للنّاس في الكتاب أولئك يلعنهم اللَّه ويلعنهم اللاعنون » .(3)
وقال « لا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون » .(4)
ص: 462
وقال : « وأقيموا الشّهادة للَّه » .(1)
وقال : « ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه » .(2)
وقال : « ومن أظلم ممّن كتم شهادة عنده من اللَّه وما اللَّه بغافل عمّا تعملون » .(3)
وقال(4) : « يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للَّه ولو علي أنفسكم أو الوالدين والأقربين » .(5)
قال في تعليقاته علي إحقاق الحقّ : عندي أنّ مصيبة الصوفيّة علي الإسلام من أعظم المصائب تهدّمت بها أركانه وانثلمت بنيانه ، وظهر لي - بعد الفحص الأكيد والتجوّل في مضامير كلماتهم والوقوف علي ما في خبايا مطالبهم والعثور علي مخبيّاتهم بعد الاجتماع برؤساء فرقهم - أنّ الداء سري إلي الدين من رهبة النصاري فتلقّاه جمع من العامّة كالحسن البصري والشبلي ومعروف وطاووس والزهري وجنيد ونحوهم ، ثمّ سري منهم إلي الشيعة حتّي رقي شأنهم وعلت راياتهم بحيث ما أبقوا حجراً علي حجر من أساس الدين ، أوّلوا نصوص الكتاب والسنّة ، وخالفوا الأحكام الفطريّة العقليّة ، والتزموا بوحدة الوجود بل الموجود وأخذ الوجهة في العبادة ، والمداومة علي الأوراد المشحونة بالكفر والأباطيل الّتي لفّقتها رؤسائهم ،
ص: 463
والتزامهم بما يسمّونه ب : الذكر الخفيّ القلبي شارعاً من يمين القلب ، خاتماً بيساره ، معبّراً عنه بالسفر من الحقّ إلي الخلق تارة ، والتنزّل من القوس الصعودي إلي النزولي أُخري ، وبالعكس ، معبّراً عنه ب : السفر من الخلق إلي الحقّ ، والعروج من القوس النزولي إلي الصعودي أُخري ، فيا للَّه من هذه الطامات .(1)
أقول : كلّ من قال بحدوث جميع ما سوي اللَّه تعالي ومسبوقيّته بالعدم الحقيقي ، بمعني أنّ أزمنة وجوده في جانب الأزل متناهية وفي وجوده ابتداء ، وبعبارة أُخري : كلّ من قال بإيجاد الأشياء - أي جميع ما سوي اللَّه تعالي - بعد أن لم تكن بعديّة حقيقيّة كما هو مضمون الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة ، فهو يقول ببطلان وحدة الوجود ؛ إذ لو كانت الأشياء عين الحقّ أو صدر منه و ترشّح من ذاته تعالي فلا معني لمسبوقيّتها بالعدم كما لا يخفي .
وقد جمعت شطراً من كلمات الأعلام في هذا المضمار في كتابنا ( وجود العالم بعد العدم ) - فلاحظ إن شئت(2) - حتّي يظهر لك بطلان هذه العقيدة - أي وحدة الوجود - وأنّ علماءنا الماضين تبرّؤوا من هذه الأباطيل الّتي كثرت واشتهرت في هذه الأزمنة الّتي ارتفعت راياتهم ونمي اسمهم وسمي ذكرهم إلي أن آل الأمر بحيث لا يعرف الإسلام والإيمان إلاّ بالفلسفة والعرفان ، هيهات هيهات ،« إن هم إلاّ يخرصون » .(3)
فإن كان هذا الّذي ذكره هؤلاء - أي ابن العربي والصدرا والمولوي وأتباعهم
ص: 464
- هو العرفان ، فيا قوم ! إنّي لست من العارفين ، « إنّي وجّهت وجهي للّذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين » .(1)
عصمنا اللَّه وإيّاكم من تسويلات نسجة العرفان وحيكة الفلسفة والتصوّف ، وجعلنا وإيّاكم ممّن أناخ المطيّة بأبواب أهل بيت العصمة وذرّيّة رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم ، ولم يعرف سواهم ، آمين آمين .
والحمدللَّه محقّق الحقّ بكلماته ، والصلاة والسّلام علي خاتم أنبيائه وأفضل أصفيائه محمّد ، وعلي سيّد أوليائه الصدّيق الأكبر أمير المؤمنين عليّ بن أبيطالب وصيّه وخليفته وأخيه وابن عمّه ومستودع سرّه ووارث علمه ، وعلي الصديقة الكبري حجّة اللَّه العليا علي من في الأرض والسماء ، وعلي الأئمّة المعصومين الطيّبين الطاهرين ، الّذين أذهب اللَّه عنهم الأرجاس ، وطهّرهم من الأدناس ، وجعل مودّتهم أجراً له في الناس ، لا سيّما إمام العصر والزمان ، وخليفة الرحمن ، وشريك القرآن ، المهدي القائم - صلوات اللَّه وسلامه عليه - من آل محمّدصلي الله عليه وآله وسلم ، ولعنة اللَّه علي أعدائهم الفجرة الأشقياء ، ومن ظلمهم من الكفرة الأدعياء ، ومن أنكر إمامتهم أبد الآبدين ودهر الداهرين .
وكتب بيمناه الجانية فقير عفو ربّه الغني السيّد قاسم بن السيّد إبراهيم علي أحمدي المازندراني حشرهما اللَّه في زمرة المعتصمين بأذيال عترة النبي صلي الله عليه وآله وسلم في الثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1420 من هجرة سيّد الكونين صلي الله عليه وآله وسلم في مدينة قم المقدّسة عشّ آل محمّدصلي الله عليه وآله وسلم ، وما توفيقي إلاّ باللَّه عليه توكّلت وإليه أنيب وهو حسبنا ونعم الوكيل والحمد للَّه ربّ العالمين أوّلاً وآخراً .
ص: 465
ص: 466
المدخل 7
الفصل الأوّل
أصالة الوجود أو الماهيّة ؟ 13 - 39
المتبادر من الكتاب والسنة ومقتضي الوجدان والفطرة 17
كلام بعض المنكرين لأصالة الوجود ( في الهامش ) 18
بعض الأقوال في أصالة الوجود وأصالة الماهية ؟ 22 - 26
بعض أدلّة القائلين بأصالة الوجود وردّها ( في الهامش ) 28
وقفة مع أصالة الوجود 31
الفصل الثاني
اشتراك الوجود معني أو لفظاً ؟ 41 - 56
كلام بعض القائلين بالاشتراك اللفظي وإقامة الدليل عليه 44
المختار في مسئلة الاشتراك 48
بعض الأحاديث وما علّق عليه العلاّمة المجلسيّ رحمه الله 51
ص: 467
الفصل الثالث
هل الوجود حقيقة واحدة مشكّكة ؟
57 - 252
الأدلّة الفهلويّين علي وحدة حقيقية الوجود 62
الدليل الأوّل علي وحدة حقيقة الوجود 62
الإيراد عليه بوجوه ، الوجه الأوّل 63
الوجه الثّاني 64
الوجه الثالث 66
الوجه الرابع 68
فائدة 69
الدليل الثاني علي وحدة الوجود 72
في ردّ هذا الدليل وبيان أنّ الخالقيّة والمخلوقيّة ليس من باب العليّة والمعلوليّة 73
تنبيهان : الأوّل : في قاعدة الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد وإبطالها 77
الثاني : في إنكار الفلاسفة اختياره تعالي وإبطال قولهم 79
الدليل الثالث لوحدة الوجود ، والجواب عنه 85
الدليل الرابع لوحدة الوجود ، وجوابه 87
الدليل الخامس لوحدة الوجود ، وجوابه 88
الأدلّة النقليّة علي وحدة الوجود والجواب عنها 90
وحدة الخالق والمخلوق عند الفلاسفة . 92
بعض عباراتهم في وحدة الوجود . 96
كلمات جمع من الأعلام في ابن العربي وذمّه ( في الهامش ) 104
موقف الأئمّة المعصومين عليهم السلام من هذه النظريّة 108
مفاسد القول بوحدة الوجود 123
الأوّل : لزوم عدم اتّصاف الوجود بالإمكان والوجوب 123
ص: 468
الثاني : لزوم أن لا يكون الواجب واجباً بذاته 124
الثالث : لزوم كونه تعالي محدوداً 125
الرابع : لزوم اشتراكه تعالي لما سواه في حقيقية الذات 125
فذلكة في أنّ القول بأنّه سبحانه حقيقة الوجود هو إخبار عن ذاته 126
نصّ كلمات بعض العرفاء والفلاسفة في التنزيه والتشبيه 134
كلمات جمع من الأعلام في ذمّ الحلاّج ( في الهامش ) 138
فائدة : في أنّه تعالي منزّه عن السنخيّة والحدّ والشبه 140
الخامس : لزوم تعيين الذات وتعريف الكنه 146
السادس : لزوم عدم امكان تحقّقه تعالي وإثباته 147
السابع : لزوم السنخيّة بل العينيّة بنيه تعالي وبين خلقه 148
جواز التمسّك بالأدلة النقليّة في المسائل الاعتقاديّة 150
تنبيه في استدلال القائلين بالسنخيّة بينه تعالي وبين خلقه وإبطاله 162
إنكار الفلاسفة والعرفاء البينونة وعدم السنخيّة بين الخالق والمخلوق والجواب عنه 165
الثامن : لزوم انكار مخلوقيّة ما سوي اللَّه 173
الإرادة والمشيّة ونقل بعض الأخبار وكلمات الأصحاب 174
التاسع : لزوم اتّصافه سبحانه بصفات المخلوقين 179
العاشر : لزوم قدم العالم 181
الحادي عشر : لزوم الخوض في ذات اللَّه تعالي واكتناهه 183
تنبيه في أنّه لا يعلم كنهه تعالي أحد من الخلائق 194
الثاني عشر : لزوم سلب ألالفاظ عن معانيها الواقعية 196
الثالث عشر : لزوم نفي خالقيّة اللَّه تعالي 199
الرابع عشر : لزوم انحلال الوجود الواحد البسيط إلي وجودات متعددة 200
الخامس عشر : لزوم سراية كمالاته تعالي في الموجودات 201
السادس عشر : لزوم إنكار الخالقيّة والمخلوقيّة بل العليّة والمعلوليّة 202
ص: 469
السابع عشر : لزوم إنكار الثواب والعقاب 204
الثامن عشر : لزوم نسبة اللهو واللعب إليه تعالي 205
التاسع عشر : لزوم القول بالجبر ( وإبطال التوحيد الأفعالي في الهامش ) 205 - 206
تنبيه في أنّ العلم والقدرة والإرادة عند الفلاسفة واحد 209
العشرون : لزوم كون الأشياء الخسيسة مظاهره تعالي 210
التنبيه علي نكته مهّمة 212
ذكر بعض تناقضات الفلاسفة 214
دفع وهم وهو : هل تكون أكثر علماً من هؤلاء المعتقدين بالفلسفة والعرفان 219
تنبيه في أنّ طالب الفلسفة والعرفان في خطر عظيم 223
تمايز لسان الوحي عن مدرسة الفلسفة والعرفان 226
الأوّل : إنّ مكتب الوحي يثبت وجوده تعالي بلا تشبيه مع خلقه 226
الثّاني : إنّ مكتب الوحي يمنع من التفكّر في ذاته تعالي 227
إدّعاء أنه سبحانه حقيقة الوجود مأخوذ من العامّة ( في الهامش ) 228
الثالث : مكتب الوحي يقول : إنّ اللَّه خلو من خلقه 228
الرابع : فاعليّته تعالي للأشياء هي بالإرادة لا بالتجلّي 230
الخامس : علمه تعالي من صفات ذاته والإرادة من صفات الفعل 231
السادس : العالم حادث بالذات والزمان وكائن بعد أن لم يكن 233
السابع : إنّ العبد مختار حقيقة وليس مجبوراً في فعله 234
الثامن : إنّ مكتب الوحي يقول بالبداء وإمكان التغيّر في العالم 235
التاسع : إنّ المعاد جسماني عنصري لا روحاني 235
العاشر : إنّ الجنّة والنار مخلوقتان بالفعل وليستا قائمتين بالنفس 238
الحادي عشر : إنّ الكفار والمعاندين مخلّدون في النار 239
الثاني عشر : إنه تعالي ليس حقيقة الوجود 241
الثالث عشر : إنّ اللَّه تعالي قادر علي كلّ شي ء 242
ص: 470
الرابع عشر : ليست فاعليّته سبحانه علي نحو الفيضان والترشّح 243
الخامس عشر : امتناع الموجود المخلوق المجرّد القديم 244
السادس عشر : لايصحّ أن يقال إنّه تعالي علّة العلل وصرف الوجود وحقيقة الوجود ؟ 246
السابع عشر : ليس علمه تعالي للأشياء حضورياً 247
الثامن عشر : إنّهم يقولون : هذا النظام الإمكاني مطابق للنظام الرباني غيرقابل للتغيير ! 248
التاسع عشر : الملائكة أجسام لطيفة نورانيّة 250
الفصل الرابع
في وحدة الوجود والموجود
253 - 427
المقدمة في بيان عدم الفرق بين القول بوحدة الوجود والقول بوحدةالوجود والموجود 256 أقوال الفلاسفة و العرفاء في حقيقة الوجود 258
الإشكال في هذه الأقوال ( في الهامش ) 261
نقل كلماتهم في وحدة الوجود والموجود تفصيلاً 263
في إبطال هذه الكلمات 271
المقصود من العرفان هو المرادف للتصوّف ( بالهامش ) 273
الإشكال علي ملاّ صدرا في تفريقه بين قول الشّامخين وقول جهلة الصوفيّة 275
من عقائد عرفاء اليونان قبل الإسلام 277
من عقائد عرفاء الهند 277
من عقائد الفرس القديم والزردشت 278
ورود الفلسفة من اليونان في زمن الأمويّين والعباسيّين ، وإعراض الأصحاب عنهم 282
من عقائد عرفاء العامّة وغيرهم ، ونقدها 288
صاحب الأسفار يدّعي أنّ العرفاء القائلين بوحدة الوجود هم الرّاسخون في العلم 301
كيف يسمّي القائل بالمقالة المشتركة فيها كلّ المذاهب عارفاً إسلاميّاً ( في الهامش ) 303
ليس مراد القائل بوحدة الوجود غاية التوجّه والالتفات إلي اللَّه تعالي و . . 309
ص: 471
في معاني الفناء في اللَّه والحقّ في ذلك ( في الهامش ) 309
فتح باب التّأويل في كلماتهم أوّل مراتب الإلحاد 310
الباب الاوّل : في المكاشفة 312
حقيقة المكاشفة 312
انحصار الدّليل في المكاشفة 314
انقسام المكاشفة إلي الحقّ والباطل 317
الجواب الإجمالي عن المكاشفة 318
فائدة مهمّة : سرّ وصولهم إلي الأمور الغريبة والمكاشفات العجيبة 325
المدار في الكرامات علي صحّة الاعتقاد والعمل 338
تبصرة في أنّ العبادة والبكاء لا تكون دليلاً علي حقيّة صاحبه 340
في إبطال الاستدلال بالكشف لوحدة الوجود والموجود 343
في إبطال الكشف بما يستفاد من الآيات والأخبار 351
ترائي الشيطان في صور مختلفة لأولياء الضّلال من القرآن والأخبار 351 - 353
فائدة : كلام ملاّ صدرا في تقديم اتّباع الأولياء علي اتّباع العلماء ، وردّه 363
في الكشف بالرؤياء والمنام 365
الكلام في التجلّي وأنواعه والحقّ فيه 376
الباب الثاني : وفيه مقصدان : 382
المقصد الأوّل : في ما تشبّثوا به من الأدلّة العقليّة 382
الوجه الأوّل وهي عمدة ما استدلّ به لوحدة الوجود والموجود 382
والجواب عنه 383
تنبيه في أن القول بإحاطته تعالي ذاتاً لخلقه واتّصافه بغير المتناهي فاسد 386
في أنّه سبحانه منزّه عن الزّيادة والنقيصة ، وأنّه لامجرّد سوي اللَّه تعالي ( في الهامش ) 387
الوجه الثاني ممّا استدلّ به لوحدة الوجود والموجود 391
والجواب عنه 392
ص: 472
تكملة : كلام ملاّ صدرا بوجود جسم إلهيّ ، وردّه 397
بعض الأدلّة في الردّ علي وحدة الوجود والموجود 400
المقصد الثاني : في ما تشبّثوا به من الأدلّة النقليّة لوحدة الوجود والموجود 411
في التنبيه علي أمرين ضروريّين 411
الوجه الأوّل من الأدلّة النقليّة والجواب عنه 412
الوجه الثاني والجواب عنه 414
الوجه الثالث والجواب عنه 417
الوجه الرابع والجواب عنه 418
الوجه الخامس والجواب عنه 421
الوجه السادس والجواب عنه 425
الخاتمة
في ذكر بعض الفوائد المهمّة
429 - 465
الفائدة الأولي : وجوب الرجوع إلي الائمةعليهم السلام في الأصول والفروع 431
الفائدة الثانية : إنّ جُلّ أصول الفلاسفة لا يطابق شرايع الأنبياءعليهم السلام 440
الفائدة الثالثة : في حفظ الدين عن علماء السّوء 444
الفائدة الرابعة : في نقل كلمات جمع من الأعلام في ردّ وحدة الوجود . 448
العلاّمة الحلّيّ رحمه الله 448
المحقّق الأردبيليّ رحمه الله 448
العلاّمة المجلسيّ رحمه الله 449
الشيخ حسن بن الشيخ عليّ بن عبد العالي العامليّ الكركيّ رحمه الله 451
الشيخ علاء الدولة السمنانيّ 452
الشيخ عبد الرزّاق اللاهيجيّ 452
القاضي سعيد 453
الشيخ الحرّ العامليّ رحمه الله 453
ص: 473
العلاّمة الشّيخ جعفر كاشف الغطاءرحمه الله 454
العلاّمة البهبهانيّ رحمه الله 454
السيّد محمّد كاظم اليزديّ رحمه الله وجمع من المحشّين علي العروة الوثقي 455
السيّد محسن الحكيم رحمه الله 457
الشيخ عبد النبيّ العراقيّ رحمه الله 458
الشّيخ مجتبي قزوينيّ رحمه الله 459
السيّد الخوئيّ رحمه الله 460
السيّد عبد الأعلي السبزواريّ رحمه الله 460
الشيخ محمّد جواد الخراسانيّ رحمه الله 461
السيّد النجفيّ المرعشيّ رحمه الله 463
الفهرس 467
ص: 474