البكاء علي الحسين عليه السلام وأثره في تكامل النفس والمعرفه

اشارة

سلسلة الشعائر الحسينية (1)

البكاء علي الحسين عليه السلام وأثره في تكامل النفس والمعرفه

بحوث سماحة آيه الله الشيخ محمد السند

بقلم رياض الموسوي

من اصدارات مركز الأمير (عليه السلام) الثقافي النجف الأشرف

ص: 1

اشارة

الكتاب: البكاء علي الحسين عليه السلام وأثره في تكامل النفس والمعرفة

بحوث سماحة آية الله الشيخ محمد السند

بقلم : رياض الموسوي

الطبعة: الأولي / 1434ه - 2013م

العدد: 1000 نسخة

المطبعة: الرائد للطباعة والتصميم - النجف الأشرف

الناشر: مركز الأمير (عليه السلام) الثقافي

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد (418) لسنة 2013م

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 3

ص: 4

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة علي محمد و آله الطاهرين.

بعد النجاج الواضح لكتاب (الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد)، الذي صدرقبل أعوام..

وإتساع رقعة إنتشاره، بحيث طبع عدة مرات في إيران وبيروت والعراق ...

واصلتُ البحث مع إستاذي الجليل آية الله الشيخ محمد السند(حفظه الله) في موضوع الشعائرالحسينية ..ولمدة عدة سنوات إبتداءً من مشهد المقدسة، ثم قم وصولا الي النجف الأشرف .. ولا زلت عاكفاً علي هذا الموضوع الإسلامي المهم .. والذي يعتبر من أركان الدين الحنيف.

لذا إرتأيتُ وبعد إستشارة إستاذي الجليل سماحة الشيخ السند،أن تظهر هذه البحوث

الإسلامية خلال سلسلة وعنوانها بمحتواها .. ( سلسلة الشعائر الحسينية )، والتي سوف نصدرها تباعاً، إن شاء الله تعالي.

ص: 5

عسي أن نوفّق بإبراز وإظهار هذا التحقيق العلمي الإسلامي في موسوعة متكاملة بمعظم أبوابه وفصوله وقواعده وأركانه ...

وبين يدك أيها القارئ الكريم باكورة هذه السلسلة وموضوعها: (البكاء علي الحسين عليه السلام وأثره في تكامل النفس والمعرفة).

والله أسأل: يتقبّل منّا هذا العمل البسيط بالقبول الحسن، وأن يجعلنا ممن يذكر الحسينعليه السلام. ويشيد معالمه وأهدافه وشعائره.

رياض الموسوي

النجف الأشرف 26 / ذي الحجة / 1433 ه

ص: 6

- إن البكاء من الشعائر الحسينية المنصوص عليها بالخصوص كتاباً وسنة ، ونذكر بدايةً معني البكاء في اللغة ثم نمضي في البحث تدريجاً.

البكاء في اللغة:

- البكاء بالمد، كما في تصريح غير واحد من أهل اللغة بالفرق بينه ممدوداً ومقصوراً. ففي الصحاح ومجمع البحرين، البكاء يُمد ويقصّر، فإذا مددتَ أردت الصوت الذي يكون مع البكاء،وإذا قَصرت أردت الدموع وخروجها.

وفي المجمل:قال قوم: إذا دمعت العين فهو مقصور، وإذا كان ثم نشيج وصياح فهو ممدود.

وعن الخليل، إذا قصرت البكاء فهو بمعني الحزن، أي ليس معه صوت، وإذا كان معه نشيج وصياح فهو ممدود.

قال الراغب: بالمد سيلان الدمع علي حزن وعويل. يقال: إذا كان الصوت أغلب . وبالقصر: يقال إذا كان الحزن أغلب.

ص: 7

وبعد هذه المقدمة في بيان معني البكاء في اللغة نذكر نبذة تمهيدية وبعض المصادر في ذلك :

بعض أدلة البكاء من مصادر المسلمين

الأول : البكاء علي الحسين عليه السلام عليه من سنن النبيصلي الله عليه و آله و سلم، فقد أمر صلي الله عليه و آله و سلم بها ، وربي عليها المسلمين .. وقد كفي العلامة الأميني(قدس سره)الباحثين مؤونة التتبع لهذه المصادر(1) ، وكذا قام بذلك العلامة السيد عبدالحسين شرف الدين في رسالته في الشعائرالحسينية .

الحث علي البكاء بصورة عامة:

- منه : قوله صلي الله عليه و آله و سلم :«لكن حمزة لا بواكي له»(2)

- قوله صلي الله عليه و آله و سلم : «فعلي مثل جعفر فلتبك البواكي»(3)

- بكاؤه صلي الله عليه و آله و سلم يوم توفي عمه أبو طالبعليه السلام(4)

ص: 8


1- للمزيد من الإطلاع حول ذلك ، راجع كتاب (الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد ، محاضرات الشيخ محمد السند ، بقلم رياض الموسوي ، دار الغدير ، قم ، ص:417).
2- الاستيعاب ح 1: 374.
3- النص والاجتهاد: 296.
4- السيرة الحلبيةباب أبي طالب وخديجة.

- ومنه : بكاؤه صلي الله عليه و آله و سلم يوم استشهاد حمزة وجعفر وما روي في شدة

بكائه (صلي الله عليه و آله وسلم) علي عمه حمزة حتي أغمي عليه.(1)

- ومنه :بكاؤه(صلي الله عليه و آله وسلم)علي قبر أمه آمنة .(2).

- ومنه : ماروي أن فاطمة عليها السلام كانت تبكي وتصلي عند قبر عمها حمزة كل يوم جمعة.(3)

الثاني : مصادر أهل السنة في بكاء السماء علي الحسين عليه السلام...... فقد ورد في تفسير الطبري ، سورة الدخان في ذيل الآية الكريمة :« فَمَا بَكَت عَلَيهِم السَّمَاءُ وَالأرضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرينَ».(4) ، حيث ذكر بسنده عن السدي قال : ( لما قتل الحسين بن علي رضوان الله عليهما بكت السماء عليه ، وبكاؤها حمرتها )(5).

-كما ذكر ابن كثير في تفسيره ، بسنده عن عبيد المكتب عن إبراهيم ، قال : ( ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلا علي إثنين ، قال :

ص: 9


1- ذخائر العقبي: 180.
2- الدرالمنثورللسيوطي. ج3: 284.
3- وفاء الوفاء للسمهودي ج3: 1361.
4- الدخان: 29.
5- تفسير جامع البيان ، ابن جرير الطبري جزء 25 : 160.

وما تدري بكاء السماء ؟ قلت : لا. قال : تحمر وتصير وردة كالدهان : إن يحيي بن زكريا عليه الصلاة والسلام لما قتل احمرت السماء ، وقطرت دما ، وإن الحسين بن علي رضي الله عنهما لما قتل احمرت السماء ).(1)

- ومارواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (ج 14 :111) - ومارواه ابن أبي حاتم الرازي في تفسيره (ج 10: 3288) .

- وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام : (...يا زرارة أن السماء بكت علي الحسين أربعين صباحا بالدم).(2)

- وأصل مفاد هذه الروايات هو ما مر من قوله تعالي في آية الدخان ، من أن شأن السماء والأرض هو البكاء علي الأولياء ، لا علي المستكبرين والعصاة .

- ولابأس بذكر الآيات الآفاقية التي ظهرت بعد مقتل سيد الشهداء عليه السلام منها :

ص: 10


1- تفسير ابن كثير ج: 4 ص:154.
2- كامل الزيارات / باب 26: حديث 8: 167.

• بكاء السماء حزناً علي الحسين عليه السلام.(1)

• تغير الآفاق وسقوط التراب الأحمر .(2)

• ظهور الكواكب نهاراً(3)

• لم يرفع حجر في ذلك اليوم إلا وتحته دم عبيط يغلي.(4)

• مكثت السماء سبعة أيام بلياليها كأنها علقة (دم).(5)

• بقيت الشمس زمان تطلع محمرة علي الحيطان والجدر بالغداة والعشي . (6)

• حدوث الحمرة في السماء كأنها الدم .(7)

ص: 11


1- كامل الزيارات / باب 26: حديث 8: 167.
2- تهذيب الكمال، 6: 432.
3- مجمع الزوائد، ج 9: 197 - تهذيب الكمال.
4- كامل الزيارات باب 24 ح 2.- كفاية الطالب: 433.
5- مجمع الزوائد، ج 9، 196.
6- مجمع الزوائد، ج 9: 196.
7- مجمع الزوائد، ج9: 197.

• أصبحت الكواكب يضرب بعضها بعضا.(1)

•إصابة العمي من أخبر بمقتل الحسين عليه السلام .

•أمطرت السماء دم عبيطة ثلاثة أيام .(2)

• كانت حيطان دار الإمارة تسيل دما .(3)

• أصبحت حيطان بيت المقدس ملطخة بالدماء .(4)

• صيرورة الورس(5)الذي نهبوه من معسكر الحسين

عليه السلام رماداً .(6)

• ماطبخ من لحوم نياق معسكر الحسين عليه السلام، أصبح ناراً ولم يتمكنوا من أكله(7).

ص: 12


1- مجمع الزوائد، ج 9: 197.
2- تاريخ حلب، 6: 2649.
3- تهذيب الكمال، ج 6: 434.
4- كامل الزيارات، باب 24 ج 2.
5- الوَرس: نبت أصغر يُصنعُ به الثياب.
6- الخصاص الكبري، ج 2: 126، تاريخ حلب، ج 6: 2637، تهذيب الكمال، ج 6: 434.
7- ترجمة الإمام الحسين عليه السلام لأبن عساكر، 364.

• الكسوف للشمس.(1).

• الجبال تقطعت وانتثرت .(2)

• البحار تفجرت.(3)

• بكاء الوحوش عند قبره.(4)

• إنشباك النجوم.(5)

• أمطرت السماء تراب أحمراً.(6)

- وقد ورد : (إن فاطمة عليهاالسلام لتبكيه وتشهق، فتزفر جهنم زفره لولا أن الخزنة يسمعون بكاؤها).(7)

الثالث : ارتباط البكاء مع المودة: فإن أحد أدلة البكاء هي : آيه المودة، لاسيما مع الالتفات إلي إن المودة من أصول الدين و ارتباط

ص: 13


1- مجمع الزوائد: 9: 197 – الصواعق المحرق 86 - كامل الزيارات: باب 8/26.
2- كامل الزيارات: باب8/26.
3- كامل الزيارات: باب8/26.
4- كامل الزيارة باب3/26.
5- كامل الزيارات باب24 ح 2.
6- تهذيب الكمال، 6: 432 - كامل الزيارات : باب 28 / ج 2.
7- كامل الزيارات: باب 26 / ج 9.

ذلك بالقاعدة القرآنية من إرتباط المواساة بالحزن للمصاب كمقتضي من مقتضيات المودة ، أي أن المؤمن يفرح لفرح النبي ويحزن لحزنه..

وهو مفهوم قوله تعالي: « إن تُصِبكَ حَسَنَهٌ تَسُؤهُم وَإن تُصِبكَ مُصِيبَهٌ يَقُولُوا قَد أخَذنَا أمرَنَا مِن قَبلُ وَ يَتَوَلَّوا وَهُم فَرحُونَ».(1)

الرابع : البكاء سنة تشريعية وتكوينية ، أما كون البكاء سنه تشريعية ، فلما مر من الأمر به كتاباً وسنهً مضافاً إلي ما قدمناه في الجزأين السابقين من كتاب الشعائرالحسينية ، وأما كونه سنه تكوينيه فلما أشارت إليه آيه الدخان المتقدمه ، وما ورد في ذيلها من أحاديث عن النبي صلي الله عليه و آله وسلم ، وأهل بيته عليهم السلام في ذلك .

الخامس : وقد ورد أن الأرض تبكي علي المؤمن أربعين يوماً، ففي مصنف ابن أبي شيبه الكوفي بسنده عن وكيع عن سفيان ، عن

ص: 14


1- التوبه: 50.

أبي يحيي القتات ، عن مجاهد ، عن إبن عباس قال : (الأرض تبكي علي المؤمن أربعين صباحاً) .(1)

وإذا كان هذا حال الأرض تجاه المؤمن فكيف حالها مع أئمة المؤمنين عليه السلام.

السادس : إن أحد أدلة رجحان البكاء والحزن علي المصطفين الحجج علي العباد من الأنبياء والرسل والأئمة الأوصياء المنصوبين من قبل الله تعالي، هو قوله تعالي في شأن يعقوب ، وحزنه علي النبي يوسف ، لا بما هو ولد له ، بل لخصيصة نبوة يوسف وإمامته :« وَتَوَلَّي عَنهُم وَقَالَ يَا أسَفَي عَلَي يُوسُفَ وَابيَضَّت عَينَاهُ مِنَ الحُزنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالوا تَاللَّهِ تَفتَأُ تَذكُرُ يُوسُفَ حَتَّي تَكُونَ حَرَضَاً أو تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَا أشكُو بَثِّي وَحُزني إلَي اللهِ وَأعلَمُ مِن اللهِ مَا لا تَعلَمُونَ» (2)

فإن ابيضاض عيني يعقوب من شدة البكاء واستمرار حزنه وكمده حتي قال له أهله : (تالله إنك لفي ضلالك القديم ) ، ولم

ص: 15


1- مصنف ابن أبي شيبة ج8: 198.
2- يوسف: 86-84.

يقطع بكاءه بسبب الخوف من الهلكة ، ولا خوف ذهاب بصره ، وهذا يدل علي عظمة أهمية البكاء علي المصطفين من حجج أنبياء وأئمة ، بقوله : « لَقَد كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَهٌ لِاُولِي الألبَابِ مَاكَانَ حَدِيثاً يُفتَرَي وَلَكِن تَصدِيقَ الَّذِي بَينَ يَدَيهِ وَتَفصِيلَ كُلِّ شَيءٍ وَهُديً وَرَحمَهً لِقَومٍ يُؤمِنُونَ »(1) أي أن قصصهم عليهم السلام عبره ليتخذ منها سنه ، ولتكون قدوة للعالمين .

السابع : ما ورد في زيارة الناحيه المقدسه : (فلاندبنك صباحاً ومساءاً ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً).(2)

و تقريب مفاده، أن البكاء علي مصاب الحسين عليه السلام يتأكد استمراره ولو أدي إلي خروج الدم من العين بسبب الاستمراروالشدة، وتعبير المعصوم عليه السلام يجل عن الخيال ، ويرتفع عن التصويرالشاعري ، بل هو بيان حقيقه و تثبيت مفهوم واقعي ، وهذا عين مفاد مامر في بكاء النبي يعقوب عليه السلام في سوره يوسف

الثامن : ما ورد من أن البكاء نفسه خشوع، لذا نري أن القرآن الكريم يمتدحه، بينما يذم الضحك والفرح.

ص: 16


1- يوسف:111.
2- المزار المشهدي : 501، بحار الانوار ج 98 : 238.

فلا يخفي من أن مقتضي قوله تعالي : « إنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَومِ مُوسَي فَبَغي عَلَيهِم وَآتَينَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصبَهِ أولِي القُوَةِ إذ قَالَ لَهُ قَومُهُ لَا تَفرَح إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الفَرحِينَ»(1)

إن البكاء مقابل الفرح ، فالأول إنكسار النفس عن الطغيان والتجبر والتكبر ، والثاني تبختر النفس وخيلاؤها بالنزعة الذاتية،وهذه فلسفة عظيمة تربوية في كمال النفس نتيجة البكاء ، معاكسة لرذيلة الفرح والبطر .

ص: 17


1- القصص: 76.

- ردّ ونكير السجاد عليه السلام علي الكف عن البكاء

فقد روي ابن قولويه في كامل الزيارات ، بسنده عن إسماعيل بن منصور، عن بعض أصحابنا: قال: أشرف مولي لعلي بن الحسين عليه السلام وهو في سقيفة له ساجد يبكي، فقال له: يا مولاي يا علي بن الحسين، أما آن لحزنك أن ينقضي، فرفع رأسه إليه، وقال: ويلك،أو ثكلتك أمك..

والله لقد شكي يعقوب إلي ربه في أقل مما رأيت، حتي قال:« يا أسفي علي يوسف»، إنه فقد إبناً واحداً، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبحون حولي ».(1)

ص: 18


1- كامل الزيارات : باب 35/ ح 2.

حقيقة البكاء علي الحسين عليه السلام شكوي إلي الله،وليست شكوي من الله.

البكاء علي الحسين عليه السلام ، خطاب مع الله.

- حبث روي في طريق آخر لابن قولويه، وهو صحيح إلي أبي داود المسترق، عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: بكي علي بن الحسين عليه السلام علي أبيه الحسين بن علي عشرين أو أربعين. وما وُضع بين يديه طعام إلّا وبكي علي الحسين عليه السلام حتي قال له موليً له، جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين. قال عليه السلام :«قَالَ إِنَّمَا أشكُو بَثِّي وَحُزنِي إلَي اللهِ وَأعلَمُ مِن اللهِ مَا لا تَعلَمونَ .»

إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا وخنقتني العبرة.(1)

- « وأعلم من الله ما لا تعلمون.. » أي أعلم أن البكاء مفتاح للفرج، ومدعاةللتيسير، وأداة لرفع الكرب والغمة.. ومجلبة لإزالة

ص: 19


1- كامل الزيارات : باب 35/ ح 1.- ورواه الصدوق في الأمالي ص: 140 . والخصال(272).

الضيق والمحنة، لذا جعل القرآن هذين شعارين وعنوانين للبكاء،عندما اعترض أولاد يعقوب علي أبيهم كثرة البكاء، فأجابهم علي استنكارهم، « إنما أشكو بثي وحزني إلي الله...».

ويدل تأكيد هذين العنوانين بإن هوية البكاء علي مظلومية الحجج عليهم السلام ماقاله يعقوب أيضا بعد أن ارتد بصيرا وجاءته البشري بلقاء يوسف « فَلَمَّا أن جَاءَ البَشِيرُ ألقَاهُ عَلَي وَجهِهِ فَارتَدَّ بَصِيراً قَالَ ألَم أقُل لَكُم إنِّي أعلَمُ مِن اللهِ مَا لا تَعلَمُونَ قَالُوا يَا أبَانَا استَغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ». أي أن البكاء شكوي الي الله لطلب الفرج ، وهذا هو.. قد جاء الفرج ؛فالشاكي إلي الله ببكائه يطلب منه العدوي ، والله يعلم بتوكله عليه تعالي من دون يأس من روح الله سبحانه .

ص: 20

الصرخة والصيحة والعويل والشهقة أنواع في شعيرة البكاء

- وقد ورد في ذلك عدّة من الروايات في الزيارات وغيرها:

1- ما رواه ابن قولويه (1)، من زيارة طويلة في الحسين عليه السلام ، وفيها: «... أتقرب إلي ربّي بوفودي إليك وبكائي عليك وعويلي(2)؛ وحسرتي وأسفي وبكائي... جئتك مستشفعاً بك إلي الله، اللهمّ إني استشفع إليك بولد حبيبك وبالملائكة الذين يضجون عليه ويبكون ويصرخون لا يفترون ولا يسأمون، وهم من خشيتك مشفقون. ومن عذابك حذرون ولا تغيّرهم الأيام، في نواحي الحير يشهقون، وسيدهم يري ما يصنعون، وما فيه يتقلّبون، قد انهملت منهم العيون فلا ترقأ، لم تجف ولم تسكن، واشتد بهم الحزن بحُرقة لا تطفأ ».

ص: 21


1- كامل الزيارات باب 79، ح 23.
2- العويل: رفع الصوت بالبكاء.

2 - وفي صحيحة معاوية بن عمار التي هي قطعية الصدور : أنه دخل علي أبي عبد الله عليه السلام فوجده يدعو لزوار الحسينعليه السلام.في دعاء طويل . الي ان قالعليه السلام: (فارحم تلك الوجوه التي قد غيرتها الشمس،وإرحم تلك الخدود التي تقلبت علي حفرة أبي عبد الله عليه السلام.... وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا ، وارحم الصرخة التي كانت لنا ).(1)

ص: 22


1- الكافي ج 4 : 583. كامل الزيارات باب : 40 /ح 2.

البكاء علي الحسين عليه السلام ، مناجاة مع الله (الفلسفة الكبري للبكاء)

. روي ابن قولويه في كامل الزيارات في الصحيح عن أبي داود المسترق عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:

بكي علي بن الحسين علي أبيه حسين بن علي عليه السلام عشرين سنة أو أربعين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلا بكي علي الحسين حتي قال له مولي له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين. قال: إنما أشكو بثي وحزني إلي الله وأعلم من الله ما لا تعلمون». إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة لذلك.(1)

- وروي ابن قولويه أيضاً في الصحيح عن إسماعيل بن منصورعن بعض أصحابنا، قال: أشرف موليً لعلي بن الحسين(عليه السلام)، وهو في سقيفة له ساجديبكي فقال له: يا مولاي، يا علي بن الحسين، أما آن لحزنك أن ينقضي، فرفع رأسه إليه وقال: ويلك - أو ثكلتك أمك - والله لقد شكي يعقوب إلي ربه في أقل ممّا رأيت حتي قال: يا أسفي

ص: 23


1- كامل الزيارات: باب 35/ 1. الصدوق في أماليه وخصاله.

علي يوسف، إنه فقد ابناً واحداً، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبّحون حولي.»(1)

- والذي يلفت النظر في هاتين الواقعتين للإمام علي بن الحسين عليه السلام جملة من الأمور والزوايا:

- الأولي: تبيّن فلسفة البكاء علي الحسين عليه السلام عند اهل البيتعليه السلام ، إذ كما هو ثابت في روايات الفريقين أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم بكي علي ابنه الحسين عليه السلام منذ ولادته، بل قبلها وبعدها، وأتخذ البكاء عليه عملاً وسيرة دأب صلي الله عليه و آله و سلمعليها. وكذلك ما روي عن فاطمه عليهاالسلام وأمير المؤمنين عليه السلام، وبقية أئمه أهل البيت

عليهم السلام.

وروي ابن قولويه والصدوق مستفيضاً قول أمير المؤمنين عليه السلام وبقية أهل البيت عليهم السلام عن الحسين عليه السلام: «يا عبرة كل مؤمن». أو قول الحسين عليه السلام: «أنا قتيل العبرة.(2)

ص: 24


1- كامل الزيارات: باب 35/ ح 2.
2- كامل الزيارات: الصدوق في الأمالي: مجالس 28. كامل الزيارات: باب 36.

فإن زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام ، قد قضي طيلة عمره باكياً علي أبيه الحسينعليه السلام(ما يقارب أثنا عشر ألف يوم طوال 34سنة قمرية)(1)(34 × 350)..

وكذلك بقية أئمة أهل البيت كما روي ذلك كثيراً عن الصادق عليه السلام والرضا عليه السلام، وصاحب العصر والزمان (عجل الله تعالي فرجه الشريف).فالبكاء علي الحسين ظاهرة منتشرة عند النبي صلي الله عليه و آله و سلم وأهل بيته عليهم السلام ، وواضحة في طقوس أعمالهم سلام الله عليهم.ومن البديهي أن المعصوم لا يشغل وقته إلّا بما يصبّ في التكامل، والسير في القرب الإلهي، وإلّا فالمعصومون لاسيما سيدالأنبياء وأهل بيته عليهم السلام ، منّزهون أن يشغلوا أعمالهم وأوقاتهم في الأمور العادية، بل ولا الراجحةاليسيرة. فمن ثمَّ لا بدّ من كون البكاء علي خصوص الحسين عليه السلام هو ذو بُعد وغاية غير ما يحسبه ويتخيله الكثير من الناس .

ص: 25


1- ناتج الضرب: 34 × 350 = 11900 يوماً.

وإلّا فإن المعصومين دائبون في ذكر الله والانشغال بالصلاة بكم كبير والصيام والدعاء والمناجاة والابتهال وبقية أبواب العبادات؛ من السياحة والقنوت والخشوع وغيرها..

الثانية: أن بكاء السجادعليه السلام علي الحسين عليه السلام ، كان في حال السجود، وسواء افترضناه سجود للصلاة، أم سجود مستقل، فهو عبادة لله، فكيف يبكي السجادعليه السلام علي الحسين عليه السلام، ويذكر ما جري علي الحسين عليه السلام ، وهو في حالة ذكر الله ومناجاة مع الله سبحانه، لاسيما وأن السجود هو من أعظم حالات العبادة والقربة إلي الله سبحانه،كما ورد أن أقرب ما يكون العبد إلي الله وهو ساجد. كما في قوله تعالي: «وَاسجُد وَاقتَرب».

لاسيما أن مولي الإمام زين العابدين عليه السلام ، ذكر الرواية التي بهذا المضمون رغم كون الإمام ساجداً . قد فهم من حالة الإمام أن بكاءه هو علي أبيه الحسين عليه السلام ، ممّا يدلّ علي أن بكاءه علي الحسين عليه السلام كان عادهً له حتي في حالات العبادة لله.

ص: 26

الثالثة: قوله عليه السلام، أن عنوان البكاء علي الحسين عليه السلام ، وشعاره هو عنوان و شعار بكاء يعقوب علي ابنه يوسف. وهو كما في قوله تعالي: «إنَّمَا أشكُو بَثِّي وَ حُزني إلَي اللهِ وَ أعلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعلَمُونَ»..

وهذا القول من يعقوب إنما قاله بعدما اعترض عليه ذويه، وولده حيث ذهبت عيناه من الحزن والبكاء علي يوسف كما يشيرإليه قوله تعالي:« وَ قَالَ يَا أسَفَي عَلَي يُوسُفَ وَابيَضَّت عَينَاهُ مِنَ

الحُزنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُوا تَالله تَفتَأُ تَذكُرُ يُوسُفَ حَتَّي تَكُونَ حَرَضاً أو تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ».

فيكون هذا العنوان والشعار جواباً علي الاعتراض الموجه علي يعقوب ببكائه علي يوسف. وعتابهم عليه، وتذمّر المعترضين من طول هذا البكاء، فيكون مفاد هذا الجواب، أن بكاء يعقوب علي مصاب فَقد يوسف ليس موجهاً لهؤلاء المعترضين، وليس هو وسيلة للشكاية لهم، وإنما البكاء شكاية إلي الله، وطلب الفرج منه واستنزال الغوث منه تعالي، إذ أن حقيقة البكاء هو شكاية و استغاثة من السبب والمنشأ الذي حصل البكاء منه، وهو موّجه لمن يخاطب به البكاء كنداء ودعاء وطلب وإستعداء، كما في بكاء الطفل يوجهه لامه وأبيه فانه استدعاء من الطفل لكي يجلب توجه أبويه له للعطف عليه

ص: 27

وتلبية حاجته، وكلما زاد في بكائه لهما زاد إلحاحه لهما، وهو إلحاح في الدعاء الذي هو من أعظم حالات الدعاء، فالبكاء لهما حالة إنعطاف وإستنزال للرحمة والغوث.

لأن حقيقة البكاء كما توضحه الآية بنصها أنه شكاية واستغاثة ونداء، واستعداء.. ولهذه الحقيقة من البكاء يشير قولهعليه السلام. في دعاءالندبة الذي هو (ندبة وبكاء علي مصائب أهل البيتعليه السلام وابتلاء الإمام المهدي (عجل الله تعالي فرجه الشريف) بالغيبة): « اللهم أنت كشاف الكرب والبلوي وإليك استعدي فعندك العدوي، وأنت رب الآخرة والأولي، فاغث يا غياث المستغيثين عبيدك المبتلي».

وهذه الحقيقة للبكاء، نشهدها ونجدها عياناً في ارتكاز الفطرة.فإن الطفل عندما يبكي، يوجه بكاءه لأمه وأبيه طلباً لرفع حاجته واستغاثهً بهما ونداءً لهما؛ واستنزالاً للعون منهما. فالبكاء استدعاء وسؤال لرفع الكرب والبلاء، وطلب للغوث والعون. فإذا كانت هذه حقيقة البكاء، فيبين النبي يعقوب(عليه السلام)، أن البكاء إنما يوجهه إلي غياث المستغيثين، و كاشف الكرب والبلوي وإلي قاضي الحاجات وكافي الملمات فهو شكوي إلي الله وليس شكوي من الله، وكم فرق وبون بينهما. بأن يكون شكوي من الله فهو سخط علي قضاء الله

ص: 28

و قدره، فيوجه الباكي بكاءه وشكايته إلي المخلوقين فيشكو الله للمخلوقين . بخلاف ما إذا كان شكوي إلي الله سبحانه، فهو استغاثة بالله ونجوي مع الله، ودعاء إلي الحضرة الربوبية، فكلما استمر واشتدالبكاء، فهو اشتداد للدعاء بانكسار، وهي من الحالات الفضلي للدعاء وإستجابته، وزيادة في المناجاة واشتداد لعبادة الله سبحانه، وإلحاح للطلب من الله، فيكون البكاء مخّ العبادة. فهو مخّ السجود،فكيف يُعترض علي الدعاء الموّجه إلي الحضرة الربوبية، وكيف يطالب الباكي بهذا العنوان أن يقطع بكاءه أو أن يفتر في بكائه؛ وكيف يُتبّرم من هذا البكاء، الذي هو دعاء ومناجاة مع الله، ونداء واستغاثة من قاضي الحاجات، بل إذا استمر واشتد هذا البكاء، يكون دليلا علي شدة الإيمان واليقين برجاء الله سبحانه، وقدرته تعالي علي كشف أحلك العقد وأشدّها، وأعظم الكُرب وأبلاها، ومن ثمّ قال النبي يعقوب عليه السلام ، أن العنوان الثاني للبكاء هو: «و أعلم من الله مالاتعلمون»، يعني معرفته بالله و برجاء الله وقدرة الله سبحانه، وعظمته الغالبة علي كل شيء قادرة علي رفع اليأس، ورفع شديد البلاء وعظائم الكرب، وقاسي المحن. فالبكاء أمل ورجاء وثقة بالله العلي العظيم..

ص: 29

وإلي ذلك تشير الآيات في سورة يوسف مرة أخري : « وَلَمَّا فَصَلَتِ العِيرُ قَالَ أبُوهُم إنِّي لَأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَولاَ أن تُفَنّدُونِ (94)قَالُوا تَاللهِ إنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القَدِيمِ (95) فَلَمَّا أن جَاء البَشِيرُ

ألقَاهُ عَلَي وَجهِهِ فَارتَدَّ بَصِيراً قَالَ ألَم أقُل لّكُم إنّي أعلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أبَانَا استَغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ».فكرر يعقوب عليهم وذكرهم بفلسفة وغاية البكاء ، وأن بكاءه لم يكن عديم الغاية وكان ضلالاً، بل هو هدي وفلاح ونجاح حيث ذكر القرآن الكريم علي لسان يعقوب : ( ألم أقل لكم اني اعلم من الله مالا تعلمون ) . أي أن البكاء وبث الشكوي والهم والحزن إلي الله تعالي ،لا إلي غيره هو دعاء وسؤال وطلب حاجة من الله تعالي . فمن يبكي ويتوجه ببكائه إلي الساحة الإلهية، يدل علي قوة تو كله علي الله تعالي ، وقوة معرفته بعظمة قدرة الله علي كل شئ ، ولاييأس من روح الله ، فإدمان البكاء هو إلحاح في الدعاء والطلب ؛ومن ثم، اعتذروا عن تسفيههم بكاء يعقوب وعن تضليلهم لحزنه الطويل وعن إستهجانهم إدمان ذكره ليوسف ، وعرفوا أن مأتم يعقوب علي مصاب يوسف أمر حق وهدي وفلاح ونجاح ومن

ص: 30

أسباب توفيق القدر ؛ فطلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم ذنبهم وخطيئتهم .

الرابعة: صيرورة البكاء علي الحسين عليه السلام ، منشأ ذكر الله عندالمعصومين، وبكاء وحزن قربي إليه تعالي. وليس ذلك للمعصومين فقط، بل لجميع الأنبياء السابقين فهذا البكاء قَلب حياةالسجاد عليه السلام إلي رياضة، وذِكر الله تعالي، حيث يتوجه وكذلك صنع بجدّه النبي صلي الله عليه و آله و سلم، حيث قلب العديد من أوقاته الشريفة إلي بكاء ولون خاص من ذكر الله تعالي، حيث يتوجه صلي الله عليه و آله و سلم بإنكسار بذلك البكاء بمثابة شكاية يتوجه بها إلي الله، والبكاء حزن، والحزن محبوبٌ عنده تعالي، حيث قال تعالي في الحديث القدسي: «.. أنا عند المنكسرة قلوبهم».(1)

وكذلك صنع هذا البكاء بفاطمة عليها السلام، فإنه أورثها الحزن والأسي في حياتها، بل وفي عالم البرزخ، حيث وردت الروايات المستفيضة في كامل الزيارات وغيرها من المصادر الدالة علي أن الزائرللحسين عليه السلام من المؤمنين والمؤمنات يُسعد فاطمة.. علي بكائها علي

ص: 31


1- كامل الزيارات: (بحار الأنوار ح157/73 ) عن نوادر الراوندي.

مصابه عليه السلام، فعن الصادق: «ما في الأرض مؤمنة إلّا وجب عليها أن تُسعد فاطمة، في زيارة الحسين عليه السلام.(1)وان بكاءهم عند قبره الشريف يُسعدها أيضاً.

و كذلك أبكي عليه السلام والده أمير المؤمنين في مواطن عديدة، وأبكي أخاه الحسن عليه

السلام ، وكلّ أئمة أهل البيت عليهم السلام ، و كذلك صَنع بابنه الحجّة (عجل الله تعالي فرجه الشريف) حيث قال:«ولأندبنّك صباحاً ومساءً؛ ولأبكينّ عليك بدلَ الدموع دماً».

الخامسة: ومن هنا يظهر معني وفلسفة فضيلة وكمال دوام ذكرمصابه ليلاً ونهاراًً بنحو رتيب ودائم.. حيث أن البكاء عليه هو توّجه إلي الله بنحو دائم، ومناجاة للساحة الإلهية.. فكيف لا يدوم رجحانه وفضيلته..

ص: 32


1- مستدرك الوسائل: ج 10، ص259

السادسة: قوله عليه السلام : «والله لقد شكي يعقوب إلي ربّه في أقلّ ممّا رأيت، حتي قال: يا أسفي علي يوسف؛ إنّه فقد ابناً واحداً، وأنا رأيتُ أبي وجماعة أهل بيتي يذبحون حولي».

والمعروف، أن يعقوب بكي علي يوسف عشرين عاماً(1)،وابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم. هذا مع علم يعقوب بأن ابنه علي قيد الحياة بسبب الوحي الذي أوحي إلي يوسف في رؤياه، بأنه ينال المُلك، مع أن المصاب الذي حصل ليعقوب جرّاء فراق يوسف دون مصاب سيد الشهداءعليه السلام، كما أن شأن يوسف هو دون شأن الحسين عليه السلام، فكيف بضميمة من كان مع الحسين عليه السلام من أهل بيته. وفي تفسير القمي صحيحة هشام بن سالم وقد رواها الصدوق(2)،أنه قد سئل أبو عبد الله، ما بلغ من حزن يعقوب علي يوسف، قال: «حزن سبعين ثكلي بأولادها »(3).

ص: 33


1- بحار الانوار ج 12 : 244
2- رواها الصدوق، بسند صحيح كما في قصص الأنبياء للراوندي.. بحار الأنوار ج 12/ 291.
3- تفسير القمي / ذيل الآية.

وكلّ هذا الحزن هو دون ما يستحقه مصاب سيد الشهداء عليه السلام ، فهوعليه السلام يشير إلي أن مصاب سيد الشهداء وما احتواه من فوادح تستحق من المعصوم أن يطوي عمره جزعاً وبكاءً بشدة، فكيف بغيرالمعصوم تجاه سيد الشهداء ، وذلك بسبب ما يستحقه مقام سيدالشهداء، وبالتالي فعدم التجاوب وعدم التأثر مع عظم الظلامة والمظلومية وما يستحقه هذا المصاب، يُعتبر تقصيراً في أداء ذلك الاستحقاق، بل لا يقف الأمر علي حدود التقصير، بل يتجاوزه إلي درجة الجفاء، والجفاء يؤدي إلي الخذلان، ودرجة الاصطفاف مع الراضين بما جري عليه من الظلم، وذلك لأن كلّ منكر يستدعي تقبيحاً بدرجة شدة المنكر، فإذا قلّ التقبيح والتبّرم والنفرة منه دون درجته المستحقة من الشدة، كان النقصان رضا و تمايل إلي المنكربالنسبة في الجملة.

فكل منكر يستدعي بحسب قباحته درجة من النفرة والتبرم والكراهية بحسب ما لذلك من قباحة . وعلي العكس ، المعروف يستدعي إنجذابة ورغبة وتمايط بدرجة بحسب ما لذلك المعروف من حسن ومحاسن . فالتفريط بأحد الجانبين تخادع عن الحق والحقيقة، بل هو إصطفاف مع الباطل والبطلان، ومن هنا نفهم إستنكار الإمام

ص: 34

السجادعليه السلام علي إعتراض و تعجب ذلك الشخص من مقدار بكاء وحزن زين العابدين عليه السلام وتبرمه من الظلم الذي جري علي سيدالشهداء عليه السلام ، بل في بعض الروايات، أن جزع وبكاء فاطمة الزهراء عليها السلام علي سيد الشهداء عليه السلام ، أشد بمراتب من جزع زين العابدين عليه السلام.حتي أن الإمام السجاد عليه السلام . إشتد بكاؤه وجزعه من جزع الزهراء عليها السلام وبكائها، ووجدها علي سيد الأنبياء . فقط كان من الحجم والمقدار والشدة لم يتحمله، ولم يطقه أهل المدينة ، فمانعوها عليهاالسلام من ذلك ، وألجأوها لإقامة بيت للأحزان خارج المدينة وهذا تعليم تربوي معرفي كبير من الزهراء عليهاالسلام للبشرية بأن فقد محمد صلي الله عليه و آله وسلم : هو أعظم المصائب علي كل إنسان، ولا يصاب الإنسان بخسارة فادحة ومصاب عظيم بمثل تلك الخسارة بمصاب فقد نبي الله الخاتم صلي الله عليه و آله وسلم ؛ فكان بكاء الزهراء عليهاالسلام وجزعها العظيم ، بحجم وبمقدارمايستدعي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلممن تناسب وإنجذاب إليه وشوق ودرجة عالية من الرغبة نحوه . وهو قدر معرفة الزهراء عليهاالسلام بعظم مقام وسمو منزلة ورفيع كمال النبي الأكرم صلي الله عليه و آله وسلم.

ص: 35

وهذا عكس ما رفعه أبو بكر من شعار، (أنه من كان يعبد محمدا فإن محمداً قد مات).(1)

فان هذه المقالة هي فاتحة أعمال أبي بكر ، وتعكس مدي الجهالة والنكران لحقيقة وعظمة مقام ومكانة ومنزلة النبي الأكرم صلي الله عليه و آله و سلم، التي إستعظمها القران الكريم في عدة آيات شريفة .

لذلك نجد أن أمير المؤمنين عليه السلام عاش ثلاثين عاما والي آخرعمره حالة عزاء وحداد وأسي وحزن علي فقد رسول الله صلي الله عليه و آله وسلم ، ولم يصبغ لحيته قط، حزناً علي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وكان لا يتناول أكلة لم يأكلها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم مواساهً له صلي الله عليه و آله وسلم ؛ وغير ذلك من مظاهر التأثر والتصدع والحداد في حياة أمير المؤمنين عليه السلام التي تبين حجم الاستحقاق الذي يقتضيه ويستدعيه مقدارالمعرفة والعلم بمقام ومنزلة رسول الله صلي الله عليه و آله وسلم

ص: 36


1- البخاري ج 2: 70.

ومن ذلك يتحصل وجه ماورد في شأن سيد الشهداء عليه السلام انه :صاحب المصيبة الراتبة) . بحسب ما للبشرية من أجيال وأمم متتابعة وكذلك وجه ماورد بأنه عليه السلام(صريع الدمعة الساكبة ).

فقد روي ابن قولويه باستفاضة وعقد بابا أورد فيه روايات عديدة فيها : ( إن الحسين عليه السلام قتيل العبرة ). (1)

أي أنه سلام الله عليه لايذكره مؤمن ولا مؤمنة من الأولين والآخرين قط إلّا واستعبر ويكي ، وفي أي لحظة من الليل والنهار.

ومنه يظهر : أن التفريط والإهمال والتقليل في إقامة المآتم ومجالس الحزن عليه عليه السلام والتقليل من ذكره أو عدم الإهتمام بزيارته، إنما يكون ناتجاً عن تفريط وتقصير وجفاء، وإلي ذلك تشيرطوائف من الروايات المستفيضة .

وقد ورد في روايات عديدة أن التفريط والتقصير في إقامة مختلف الشعائر الحسينية إنما يوجب ضعف الدين ونقص الإيمان .(1)

ص: 37


1- كامل الزيارات باب 36: ح1.

العاطفة والبكاء وتكامل النفس والمعرفة

1- ما سرّ هذا القلق والتحسّس الشديد عند الأنظمة والحكام والدول من هزّات العاطفة بسبب المظلومية.

2- سرّ ارتباط البكاء بالمظلومية هو أنه رافد في العقيدة والسلوك شيّده الباري سبحانه في أهل البيت عليهم السلام، ليشدّ البشرية لهم تربوياً وعقيدياً، وهو مظهر عظيم لعبودية الله سبحانه من قِبل أهل البيت عليهم السلام الله. وتواضعهم وانكسارذواتهم أمام عظمة الباري سبحانه.(1)

3- قد يُعترض بأن الكآبة والغمّ الدائبين والغالبين والحزن المستمر ، كل ذلك يميت النشاط ويبثّ اليأس والشؤم وفقدالأمل و يُبعد الإنسان عن السعادة، بخلاف الفرح والابتهاج والسرور، فإنه باعث علي نشاط المجتمع والمنافسة، والرقي

ص: 38


1- كامل الزيارات باب 78.

فيقع الكلام في تمحيص أقسام الفرح والبهجة، والمحمود منها من المذموم والنافع من الضار، وكذلك الحال في أقسام الحزن و تناسبها مع قوي الإنسان الغريزية والإدراكية وحالة التوازن؛ والاعتدال في ذلك.

4- إنّ في النفس الإنسانية جانباً من القوي العمّالة والتي قد يعبّر عنها بظاهرة الوجدان العاطفي في النفس، وهو جانب لا يقتصر علي الإدراك المحض الجاف؛ بل فيه جانب من الإثارة والفتور والنشاط والخمود، وهذا الجانب في النفس منه تنبعث الإرادة والعزم والتصميم علي الأفعال، فهو بمثابة الوقود لقيادة النفس.

ومن ثمَّ راعي القرآن الكريم والسنة الشريفة الاهتمام بهذا الجانب في النفس كثيراً، بخلاف المنطق الأرسطي وفلاسفة المشّاء فإنهم لاحظوا جانب القوة الإدراكية فقط، وأهملوا الجانب العملي،وهذا النظام المنطقي لا يؤمّن عصمة فكر الإنسان، فضلاً عن استقامة رأيه،وذلك لما هو مقرر في الأبحاث

العقلية والمعرفية، من أن الجانب العملي في النفس مؤثر في الجانب الإدراكي فيها هذا مع أن

ص: 39

الإدراك الذي تناوله المنطق الأرسطي هو الإدراك الفكري فقط دون الإدراك القلبي، والعياني.

والحاصل أن الإنسان لا يتحرّر ولا يكون مختاراً بصرف الإدراك الفكري، والمعرفي عبر المفاهيم، بل بضميمة المحبة و تأثيرالكراهة كما يشير إليه قوله تعالي: « حَبَّبَ إلَيكُمُ الإيمَانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبكُم وَكَرَّهَ إلَيكُمُ الكُفرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصيَانَ أُؤلَئِكَ هُم الرَّاشِدُونَ»(1)،فالتحبَّب والتزيين والاستحباب والاستكراه (الكراهة) باب واسع من أبواب تربية النفس وزرع الفضائل، والتوقية من الرذائل، وكذلك العكس، ومن هنا يظهر أن العاطفة هي المدد لبقاء الإنسان علي طريق الصواب والحق. ومن ثم جاء التأكيد علي الإيمان بعنوان الحبّ، في قوله تعالي:« وَ إن كُنتُم تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللهُ وَ يَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».(2)

وكذلك في الإيمان بأهل البيت عليهم السلام في آية المودة، ومن ثمَّ وردت تكاليف عديدة ومهمة وحساسة في الخطاب والتشريع

ص: 40


1- حجرات:7.
2- آل عمران:31.

القرآني تجاه المحبة والكراهة، وكل ذلك يرسم مدي أهمية مجالس العزاء والرثاء والشعائر الحسينية من جهة تأديتها إلي بناء وإقامة أمر عظيم ألا وهو مودة أهل البيت عليهم السلام ، وهو عين الإيمان،فزرع المحبة في القلوب جوهرة نفيسة هي من الغايات الكبري في الدين. وهذا البيان العلمي مستفاداً أيضا من قول الصادق عليه السلام: «وهل الدين إلّا الحبّ.» (1)

ويظهر من ذلك أيضاً وجه الحاجة لاستمرار تلك المجالس والمحافل والشعائر بشكل رتيب طوال العام، لأنه يجدد توليد و بعث المحبة. ووقاية من فتورها وزوالها بات واضحاً في منهج التعليم

التربوي، وأن الإنسان لا يتلقي المعلومة بجفاف، ولا يهضمها مجردة بمفردها، بل إن الجانب النفسي له تأثير بليغ في تلقي المعلومة، ووضوحها وبيانها للذهن، فالجانب النفساني شديد التأثير في قدرة إدراك الإنسان، وقناعته بالمعلومة التي يتلقاها، وكم للمحبة التأثيرالبالغ في التلقّي والفهم للفكرة، وعكس ذلك بالنسبة إلي الكراهة.

ص: 41


1- مستدرك الوسائل ح 12: 219.

ومن هنا يتبيّن مدي تأثير العاطفة في التوعية الفكرية، بمفاهيم الدين، وأنه مع الجفاف العاطفي، والتصحر النفسي والفتور الروحي، يصعب حصول الوعي العلمي بالدين ومفاهيمه.

فكم هي الضرورة هامة لدور العاطفة في حصول التنوير العقلي ورقي المستوي العلمي، وهذا بالضبط ما يقوم به البكاء والتفاعل العاطفي الذي يصاحبه من دور خطير في الوعي العلمي بمفاهيم الدين، والإيمان بها والقناعة بأحقيتها..

ومن ثمّ التعهّد والالتزام بها، والتفاعل العملي بمضامينها.

وهذه الغاية النهائية للإيمان والالتزام الديني..

وبخلاف ذلك فإن الجفاف الروحي والجمود النفسي يسدّان ويحجبان الطريق عن التلقي الذهني والإدراك العقلي..

ص: 42

البكاء والعاطفة وخطورة تأثيرها

ولتوضيح ماسبق بنحو البسط نقول : أنّ كثيراً ما يطرح هذا السؤال، هو لماذا هذا التركيز علي العاطفة الجياشة في الشعائرالحسينية وإن كان البحث الفكري يشغل مساحة غير هينة و كبيرة في خطاب الشعائر إلا أن جانب العاطفة يحتل سهماً كبيراً وزخماً هائلاً بل نجد ذلك في التوصيات الشرعية الراسمة لروح تلك الشعائروقوالبها وأطرها، كالنص الوارد (إن الحسين عليه السلام قتيل العبرة لا يذكره مؤمن إلا بكي)(1)، و(إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع ما خلا البكاء والجزع علي الحسين بن علي عليه السلام، فإنه فيه مأجور)(2)،و(إن السماء والأرض لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين عليه السلام رحمة لنا

وما بكي لنا من الملائكة أكثر وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا)(3)و(من أنشد في الحسين عليه السلام شعراً فبكي وأبكي كتبت له الجنة)(4)

ص: 43


1- كامل الزيارات ص 214 ب 35
2- المصدر ص 202 ب 32
3- المصدر ص 204 ب 32
4- المصدر ص208ب 33

و (فما من عبد شرب الماء فذكر الحسين عليه السلام... إلا كتب الله له مائة ألف حسنة وحط عنه مائة ألف سيئة ورفع له مائة ألف درجة و كأنما اعتق مائة ألف نسمة وحشره الله تعالي يوم القيامة ثلج الفؤاد)(1) و(إذا أردت الحسين فزره وأنت حزين مكروب شعثاً أغبر جائعاً عطشاناً)(2)وفي دعاء الصادق،عليه السلام« وارحم تلك الخدود التي تقلبت علي حفرة أبي عبد الله عليه السلام، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا)(3)، وغيرها مما يجده المتبع في الآثارالواردة بنحو مستفيض و متواتر.

فما هو موقع الأهمية الذي يشكله دور العاطفة والإحساس المُرهف والميول النفسية في هداية الإنسان وتكامله واستقامته.

إن الاستقراء في أبعاد مساحة الأحكام الشرعية وقواعدها،يوصلنا إلي وفرة من الأحكام والتكاليف الإلهية المتعلقة بميول و انعطافات النفس مثل قوله تعالي: « قُل لَّا أسألُكُم عَلَيهِ أجراً إلَّا

ص: 44


1- المصدر ص 212ب 34
2- الوسائل 14/528
3- الوسائل14/ 412

المَوَدَّهَ فِي القُربَي»(1) و في المقابل « لَا تَجِدُ قَوماً يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَن حَادَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ»(2)و«لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُم أولِيَاء تُلقُونَ إلَيهِم بِالمَوَدَّةِ... تُسِرُّونَ إلَيهِم بِالمَودَّةِ وَأنَاأعلَمُ بِمَا أخفَيتُم وَمَا أعلَنتُم» (3)و « الَّذِينَ يَستَحِبُّونَ الحَيَاةَ الدُّنيَا عَلَي الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيل اللهِ وَيَبغُونَهَا عِوَجاً أُؤلَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ»(4)

و« ذَلِكَ بِأنَّهُم كَرهُوا مَا أنزَلَ اللهُ فَأحبَطَ أَعمَالَهُم » (5) «ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أسخَطَ اللهَ وَكَرهُوا رِضوَانَهُ فَأحبَطَ أعمَالَهُم»(6). و«وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إلَيكُمُ الإيمَانَ وَ زَينَّهُ فِي قُلُوبكُم وَ كَرَّهَ إلَيكُمُ الكُفرَ والفَُسُوقَ وَالعِصيَانَ أؤلِيِكَ هُمُ الرَّاشِدوُنَ»(7)و «وَمَا مَنَعَهُم أن

ص: 45


1- الشوري / 23.
2- المجادلة / 22
3- الممتحنة/1.
4- إبراهيم /3
5- محمد/9
6- محمد/ 28
7- الحجرات/7.

تُقبَلَ مِنهُم نَفَقَاتُهُم إلاَّ أنَّهُم كَفَرُوا بِاللهِ وَ بِرَسُولِهِ وَلَا يَأتُونَ الصَّلاَةَ إلاَّ وَ هُم كُسَالَي وَلَا يُنفِقُونَ إلاَّ وَ هُم كَارِهُونَ»(1)

فالمودة والحبّ واستحباب الأشياء للنفس والتحبيب لها، والكراهة والاستكراه هي من الأفعال النفسانية التي تعلق بها الأمروالطلب الشرعي ليقوم بها الإنسان بلحاظ موارد و موضوعات كماتعلّق بها النهي والزجر الشرعي كي يقلع عن فعلها في موارد أخري،مما يدّل علي كون المودة والحب والتحبيب واستحباب الأمور،والعكس وهو الكراهة والاستكراه هي أفعال اختيارية وتقع تحت إرادة الإنسان ولو بتوسط مقدمات وعبر معدات سابقة يتمكن الإنسان من القيام بها، فهي تقع تحت الاختيار بوسيلة إعدادات مسبقة، وها هنا نلاحظ أنه كما يدعو القرآن إلي التدبر والتفكيروالتعقل وإتباع اليقين والبنات والنهي عن إتباع الظن والوقوع في الريبة والترديد، كذلك نجده يأمر بالحب والمودة والتحبيب أوالكراهة والتكريه في بعض الأشياء والنهي عنها في بعض مواردأخري.

ص: 46


1- البراءة (التوبة/ 54

فالقرآن الذي يدعو إلي البصيرة والتبصر والبحث والتعلم يدعو ويوظّف الميول والانعطافات النفسية والأفعال القلبية كذلك، والعلّة في ذلك أن الإنسان لا تتألف مكونات ذاته ونفسه من قوة تفكير وإدراك فحسب، بل تتشكل من مجموعة قوي إدراكية أخري ومجموعة ومنظومة قوة عملية أخري، وليس الذي يقود الإنسان بعض قواه الإدراكية فحسب، بل هناك مؤشرات من قوي عملية وإدراكية متنوعة هي الأخري أيضا تساهم في قيادة الإنسان وجذبه والميل به إلي مسارات واتجاهات. فمن ثم يخطأ من ينتهج طريق التعليم وحده من دون نهج للتربية، و كما أن التعلم والثقافة لا تقتصرعلي الناشئة بل هي ضرورة مستمرة للإنسان طيلة حياته، كذلك التربية هي حاجة ملحة للإنسان علي امتداد عمره وإن اختلفت أساليب التعليم في النشأ عنها في الكهول، وبحسب اختلاف الأسنان،كذلك في أشكال وأنماط التربية لكل مرحلة من عمر وسني الإنسان، إلا أن تقارن التربية بالتعليم والتهذيب بالتعقل والتزكية بالتفكر أمر لا بد منه،« هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنهُم يَتلُو

ص: 47

عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ»، (1)وإن من مناهج وطرائق التزكية والتهذيب والتربية هي المحبة والتحبيب والمودة والكراهة والقيام باستحباب الشيء وهو صنع محبته للنفس، واستكراهه وهو صنع كراهته في النفس. فكم من إنسان وكم من مورد يدرك فيه الدليل والبينات ولكنه لا يتبعه لعدم وجود المحبة أو لوجود الكراهة و كم من مقام يتيقن الإنسان فيه بالخطأ والبطلان ومع ذلك يفعله ويتمسك به المودته أو لعدم كراهته، كما يشير إلي ذلك قوله تعالي: «لَقَدجِئنَاكُم بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أكثَرَكُم لِلحَقِّ كَارِهُونَ»(2)و «قَالَ يَا قَومِ أرَأيتُم إن كُنتُ عَلَي بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِيَ وَ آتَانِي رَحمَةً مِّن عِندِهِ فَعُمِّيَت عَلَيكُم أنُلزِمُكُمُوهَا وَأنتُم لَهَا كَارِهُونَ»(3)، أي أن الحب والكره مؤثران في إتباع الإنسان للحقيقة والحقائق ولليقين والدلائل كما ورد أن الإنسان قد يتعامي أو يتصامم بسبب ذلك ومن هنا ندرك خطورة العاطفة والمشاعر والإحساسات علي مصير إرادة الإنسان

ص: 48


1- الجمعة /2
2- الزخرف/ 78
3- هود / 28

وإن الجانب الفكري الإدراكي والتعليمي ليس هو المؤشر الوحيدالمؤثر علي الإنسان وإرادته وتوجهه واختياره، بل إن المحبة والكراهة وصورة جمال الشيء أو قباحته في مشاعر النفس أمر مؤثركبير في الانجذاب النفساني أو النفرة من الشيء، ومن ثم أكد القرآن علي مقولة التزيين والتجميل للشيء القبيح حيث يغري الإنسان إليه رغم سوءه، كما في قوله تعالي: «فَلَولا إذ جَاءهُم بَأسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَت قُلُوبُهُم و زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ»(1)

فذكر تعالي أن سبب عدم انقيادهم للحق هو قساوة قلوبهم وتزيين العمل السيئ في نفوسهم وقساوة القلب والتزيين أمران مرتبطان بالجانب العاطفي والمشاعر في النفس وقد أكد علي هذين الأمرين في آيات عديدة كسبب للغواية والانحراف واللجاج والجحود والتمرد والطغيان والتكبر والاستعلاء عن الحق إلي الباطل وهذا يرسم مدي خطورة الجانب العاطفي في الروح والنفس الإنسانية، ويبين أن أهميته يوازي أهمية الجانب الفكري والإدراكي وأنه الوجه الآخر لحقيقة الإنسان والجناح الآخر الذي به حركة

ص: 49


1- الأنعام/43

وحراك النفس في مسيرها وكل هذا يرسم لنا جانب من أهمية وفلسفة الجانب العاطفي وأهميته وزخمه في الشعائر الحسينية، حيث يظهر أن من غاياتها تحصيل حالة الرقة القلبية والعطوفة والرأفة، وهي من أعظم الصفات الإيمانية وحالات العبودية لله تعالي، وأنبل الصفات الإنسانية إحياءاً وبعثاً لإنسانية الإنسان.

ص: 50

فلسفة عظمة ثواب للبكاء في الشعائر الحسينية:

فانه قد اعترض علي شعيرة البكاء بعدة انماط من الاشكالات:

النمط الأول :

وهذا يتألف من نقاط:

أ- استكثار الأجر المذكور في الروايات علي البكاء وإقامة المآتم واستبعاد صحتها، مثل ما ورد من الأجر الوافر لدمعة تسكب أو لإغروراق العين بالدمع، فيُستبعد هذا الأجر العظيم علي هذا العمل الضئيل، وأن هذا من وضع القصّاص والوّعاظ، وأن عملهم هذا مطرّد في أبواب أخري كما في الزهد في الدنيا، وثواب الابتلاءات فكيف يكون ثواب من خرج من عينيه دمع مثل جناح البعوضة، غفر الله ذنوبه ولو كانت مثل زبَد البحر.

ب - وبعضٌ أوّل هذا الأجر في الروايات : أنه لظروف خاصة حرجة حيث يصدق فيه عنوان الجهاد في سبيل الله، ولا يصدق ذلك في الظروف العادية.

ص: 51

وبعض آخر حيث اعترف بتواتر الروايات في ثواب البكاء وعدم تطرق يد الجرح والتضعيف إليها، أولها بأنها صدرت حينما كان ذكر الحسين عليه السلام والبكاء عليه وزيارته ورثاؤه وإنشاد الشعر، إنكارة للمنكر ومجاهدة في ذات الله ومحاربة مع ظلم بني أمية، وهدمة لأساسهم واستنكارة لسيرتهم ولذلك كان بنو أمية يحاربون ذكر الحسين علية ويمنعون زيارته ورثاءه والبكاء عليه، ويعاقبون من يقوم بذلك، بالقتل وهدم الدار والطرد والتشريد؛ فلم يكن البكاء والرثاء والزيارة للحسين عليه السلام حسرة وعزاءً وتسليةً فقط بل محاربةً الأعداء الدين، وجهاد في سبيل الله، وأما في هذا الزمان حيث لامحاربة بين أهل البيت وأعدائهم كحالنا اليوم، فلا يصدق عنوان الجهاد عليه، بل إن ذاكر الحسين عليه السلام في زماننا يُمتدَح ويُثني عليه ويُعطي الأجرةُ ويشرّف ويكرّم.

ج .وقال بعضُ من أنكرها: لأن العَمل بمقتضاها يؤدي إلي تعطيل الفرائض والأحكام، وترك الصلاة والصيام كما يُري من الفسّاق والفجّار، يتكّلون فيما يرتكبون في فعل الفواحش والمعاصي علي ولائهم ومحبتهم وعلي ثواب البكاء، مع عدم ارتداعهم عن غيّهم وتعسّفهم.

ص: 52

أجوبة الإشكالات السابقة:

أ- يلاحظ عليه:

أولاً : الجهل بحقيقة الجزاء الأخروي، إذ هذا الاعتراض يرد علي جميع الأجر والثواب والجزاء المقرّر علي الأعمال في دارالدنيا، فأي مساواة أو معادلة بين جزاء أبدي خالد عظيم تقابل مع أعمال زمنية مؤقتة محدودة، والجواب عنه قد بينه الإمام الصادق في السؤال: لم خُلّد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار(1)حينما سأله الراوي: لم خلد أهل الجنة فيها وإنما كانت أعمارهم قصيرة وآثارهم يسيرة؟ ولم خُلّد أهل النار وهم كذلك؟ فقال عليه السلام : لأن أهل الجنة يرون أن يطيعوه أبداً، وأهل النار يرون أن يعصوه أبداً فلذلك صاروا مخلدين .

ثانيا: إن هذا الاعتراض واستكثار الثواب؛ هو مبني علي الجهل بحقيقة البكاء، حيث أن حقيقة البكاء تنطوي وتتوقف علي وجود المحبة بين الباكي وسيد الشهداء عليه السلام ؛ فأهمية البكاء نابعة من أهمية

ص: 53


1- مناقب آل أبي طالب ج388:3

المودة للحسين وأهل البيت عليهم السلام ، ولا يخفي أن مودتهم هي الولاية لهم بعد ولاية الله ورسوله، فهي الركن الثالث في الدين، ولذلك جُعلت مودتهم تعادل عوض وأجر مجموع الرسالة والدين برمّتها.فأعظم الله مودة أهل البيت في آية المودة علي مجموع عامة الصلاة والصيام والحج والزكاة وأبواب البّر كلّها، حيث جُعلت المودة هي أجر يعادل جميع الدين . وهذا الاعتراض يستبعد استعظام ما عظمّه القرآن للجهل بحقائق الدين والوصايا العظيمة للقرآن الكريم، وقدبينت آيات كثيرة أن ولاية أهل البيت عليهم السلام هي المرتبة الثالثة في الدين بعد ولاية الله وولاية الرسول كقوله تعالي: « يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الأَمرِ مِنكُم»، (1)،وقوله تعالي: « إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَ هُم رَاكِعُونَ»(2)

ص: 54


1- النساء / 59
2- المائدة /50.

ب: ويلاحظ عليه:

أولاًّ: أنه جهل بحقيقة البكاء التي تقدمت، والظاهر أن هذا الجهل ناشئ أيضا من افتقار إلي الشعور الفطري وغياب المشاعرالإنسانية، كما أنه ناشئ أيضا من عدم الإيمان واليقين بعظم شأن سيد

الشهداء عند الله وفي الدين .... وبالتالي ناشئ من قلة العلاقة القلبية والروحية مع سيد الشهداء وأهل البيت عليهم السلام .

وإلّا كيف يحصر البكاء ويفسّره في غاية واحدة، وهي التي مرّ ذكرها في الاعتراض.

ثانياً: كيف افترض ارتفاع وزوال معاداة أهل البيت عليهم السلام في هذا الزمن وها نحن نعيش مع قطاع كبير من الأنظمة في بلاد المسلمين مؤسسة علي النصب والعداء لأهل البيت عليهم السلام، هي تحارب شعائرهم، وكل ما ينتسب إليهم.فأين انتفاء الموضوع الذي يزعمه المعترض للبكاء.

وإن أراد أن البكاء والمآتم يعظّم و يُحترم في أوساط أتباع أهل البيت عليهم السلام ، فهذا لا يختص بهذا العصر، بل هو موجود حتي في زمن الأئمة عليهم السلام والزمان الذي صدرت به هذه الروايات المتواترة.

ص: 55

فهذه التفرقة بين الأزمان، مجرد هلوسة وانعدام بصيرة.

ثالثاً: أن هذا المعترض قد افترض أن استنكار المنكروالاعتراض عليه، خاص بالآثارالسياسيةالمؤقتة مع أن فلسفة إنكارالمنكر في الدين وبغضه وحبّ المعروف والأمر به في الدرجةالأولي هو ذو مغزي عقائدي قبل أن يكون سياسية ومن ثمّ تواتر عندالفريقين عن النبي صلي الله عليه و آله وسلم : أن من أحب عمل قوم أشرك في عملهم - أي ولو كان أولئك القوم من أعصار سابقة متقادمة في الزمن الأول ..

وليست هذه القاعدة النبوية مخصوصة بالتعاصر بين عمل قوم ومن يقوم بالمحبة. كما ورد عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم(المرء يحشر مع من أحب حتي لو أحبّ أحدكم حجراً حُشر معه)(1)

ثم إنّ الغاية السياسية أيضاً من إنكار المنكر وبغضه والتبري منه، ليست سياسية مؤقتة، بل هي سياسية مستمرة، فإن أحد الغايات العظيمة والفلسفات الكبيرة الناتجة من ذلك هي الحيلولة عن تجدّد وقوع ذلك المنكر، وهذه الغاية حكم فطري عقلي عند عامة البشر.ألا تري كيف أن الدول الغربية يتشددون في عصرنا الراهن ادانة

ص: 56


1- الإثني عشرية : 154

ونكيرا من الإشادة بهتلر ، والفكر الهتلري والتيارات النازية، والأحزاب ذات الفكر العنصري المتطرف، نظير الفاشية، وفكرموسوليني الإيطالي، مع أن أصحاب هذا الفكر قد بادت شخوصهم و بليت عظامهم، إلا أن الغرب لا زال مقيما متشددة في استنكاروتقبيح أفعالهم وأشخاصهم وفكرهم لئلا تتفجر حروب عالميةجديدة بين البشر نتيجة أفكارهم المدمرة الهدامة .

كذلك الحال نشهده في موقف الشعب الصيني والكوري الجنوبي من جملة قيادات الجيش الياباني، في الحرب العالمية الثانية ؛بل إن إصرار اليابان بهذه السنين علي تمجيد وإحياء ذكر أولئك

القادة، خلق أزمة بينها وبين الصين وكوريا، وهي أزمة شديدة، وذلك تخوفا من تجدد حروب بين تلك الشعوب تنشب من أفكارأولئك القادة وهذا يبين الفلسفة العظيمة لإنكار المنكر لأصحاب

الشر والسوء وإن تقادموا في غابر التاريخ لئلا تتأثر الأجيال اللاحقة بسوء فعالهم وأفكارهم، ولا يخفي أن هذه الفلسفة للتبري وإنكارظلم الظالمين لا زالت قائمة بالبكاء علي سيد الشهداء ضد الفكرالأموي ومنهج يزيد والأمويين.

ص: 57

وأما جواب الإشكال (ج) ففيه:

أولاً: أن دعوي هذا القائل، بأن مقتضي مفاد عظمة ثواب البكاء ترك الصلاة والصوم وبقية الفرائض، فينقض عليه بأن هذا المفاد من عظمة الثوابوغفران الذنوب مقرّر عند المسلمين في جملة من الأعمال العبادية وأعمال البرّ، فالحج - مثلاً - يمحو ما سبق من الذنوب، بل إن جميع الحسنات لها هذه القابلية كما في قوله تعالي: «إنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنََ السَّيِّئَاتِ »(1)، وهذه خاصية التوبة أيضاً كما في قوله تعالي: « ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعدِ ذَلِكَ وَأصلَحُوا إنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ»(2)، وقوله تعالي: « قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أسرَفُوا عَلَي أنفُسِهِم لَا تَقنَطُوا مِن رَّحمَهِ اللهِ إنَّ اللهَ يَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ» (3)

وغيرها من الآيات العظيمة الواردة، في رجاء التوبة، فهل يدعي أنها تغري وتدعو إلي الجرأة علي المعاصي، وتدفع إلي

ص: 58


1- هود / 114
2- النحل / 119
3- الزمر / 53

الفاحشة والتواكل لعمل المعصية، حاشا و كلّا أن يكون مفادها ما ادّعي هذا القائل، وذلك لوجود خطابات قرآنية، ومن سنة النبي وأهل البيت عليهم السلام تحذرعن مثل هذه الأوهام حول خطابات الثواب ورجاء المغفرة، فإن هناك قسم ثان من الخطابات الدينية تتضمن الوعيد والتهديد والإنذار والتخويف.

نظير قوله تعالي: « ثُمَّ كَانَ عَاقِبةَ الَّذِينَ أسَاؤُوا السُّوأي أن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَستَهزؤُنَ ».(1)

حيث تفيد الآية الكريمة أن من الأعمال السيئة ما يجرّ العاصي إلي الكفر بالعقائد الحقة فيسلب عنه توفيق التوبة، و توفيق الأعمال العبادية المكفّرة للذنوب، والأعمال الصالحة الماحية للسيئات.

وقوله تعالي: « بَلَي مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأحَاطَت بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأولَئِكَ أصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ».(2)

فتفيد الآية أن من السيئات ما تحول بين العاصي وبين النجاة،أي تكون من المرديات والمهلكات والموبقات.

ص: 59


1- الروم / 10.
2- البقرة / 81

« أم حَسِبَ الَّذِينَ يَعمَلُونَ السَّيِئَاتِ أن يَسبِقُونَا سَاء مَا يَحكُمُونَ»(1)

- وظاهر وواضح لغة التهديد في الآية الكريمة.

-«أم حَسِبَ الَّذِينَ اجتَرَحُوا السَّيِئَاتِ أن نَّجعَلَهُم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحيَاهُم وَمَمَاتُهُم سَاء مَا يَحكُمُونَ »(2)

وغيرها من الخطابات القرآنية، ومن السنة المطهرة التي فيها بالغ التهديد والوعيد إلي درجة لو اقتصر الناظر إلي خطابات الوعيد والإنذار، لحصل لديه قنوط من رحمة الله، ولكن النظرةالمجموعية الخطاب الثواب والمغفرة مع الخطاب الثاني، يوازن المسلم والمؤمن في مسير متعادل تربوي بين الخوف والرجاء وهذا التوازن هو الذي يوجب تكامل وتربية الإنسان، كما ورد أن المؤمن هو من تساوي الخوف والرجاء في قلبه (3)، فلا يشتد فيه الخوف بزيادة علي مقدار

ص: 60


1- العنكبوت /4.
2- الجاثية / 81 .
3- وسائل الشيعة. ج216:15.

الرجاء، كما لا يشتد فيه الرجاء زيادة علي مقدار الخوف، بل كل ما اشتد خوفه اشتد رجاؤه بقدره، وكلما اشتد رجاؤه بدرجات، اشتدخوفه بقدر ذلك أيضاً، وهذه حالة توازن تربوي بالغ الأهمية، ومن

ثمّ ورد أن: ((الفقيه كل الفقيه من لم يؤيس الناس من روح الله ولايؤمنهم مكر الله ولا يقنطهم من رحمة الله ولا يدع القرآن رغبة عنه إلي ما سواه، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادةليس فيها تفقه، ولا في علم ليس فيه تفهم))(1)، والمراد أن الفقيه الذي يفهم الدين بأنه هو ما اشتمل عليه من القسمين من الخطاب وأن لا يرجّح كفّة الخطاب الأول علي الثاني، ولا كفة الخطاب الثاني علي الأول، بل يوازن بين الخطابين، ومن ذلك يُعلم ضرورة الخطاب الأول، وهو خطاب الثواب والمغفرة والرجاء، بقدر ضرورة الخطاب

الثاني وهو خطاب الوعيد والإنذار والتهديد والعقاب، ولو اقتُصرعلي الخطاب الثاني لأدّي إلي الكفر، لأنه يوجب القنوط من رحمة الله واليأس، وهو كفر بالله سبحانه كما في قوله تعالي:« ولا تَي-ئَسُوا مِن رَوحِ اللهِ إنَّهُ لاَ يَيأسُ مِن رَّوحِ اللهِ إلاَّ القَومُ الكَافِرُونَ»(2)

ص: 61


1- أعلام الدين في صفات المؤمنين: 100.
2- يوسف/ 87.

فالإيمان لا يقوم صرحه إلّا بهاتين الدعامتين والركنين، الرجاء والخوف. وهدم أحد الركنين هدم للإيمان، فاتضح أن هذا القائل ليست له نظرة سديدة حول حقيقة الإيمان، وأن مقتضي قوله، يوجب الإيمان ببعض الكتاب دون البعض الآخر، قال تعالي: «أفَتُؤمِنُونَ بِبَعضِ الكِتَابِ وَ تَكفُرُونَ بِبَعضٍ»(1) ، وهذا لا يستقيم بحال.

وإلّا لو اقتصرنا علي الخطاب الثاني أيضاً دون الأول، لزم من ذلك كثير من المحاذير الماحقة للدين، فلا يعتدل صراط الدين القويم إلّا بالتوازن بين الخطابين والجمع بينهما بالانضمام كما ورد:

(أن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن)(2)، أي بين الخوف والرجاء، واتضح أن هذا القائل ينظر بعين واحدة لا بعينين، ومال إلي بُعد واحد من أبعاد الدين وغفل عن البعد الآخر مع أن الحكمة الإلهية في الخطاب الديني لإصلاح العباد إلي يوم المعاد، هو علي الجمع بين الخطابين من دون الإنكار والجحد بأحدهما.

ص: 62


1- البقرة / 85.
2- امالي السيد المرتضي ج2 :2.

أما ثانياً:

فدعوي القائل بأن الذي يدفع ويغري من يرتكب المعصية وبعض الكبائر هو الوَعد بالثواب، فهذه دعوي غير مطابقة للحقيقة ولا تمت للواقع بصلة، فإن أغلب المقتضيات والدواعي إلي ارتكاب

المعاصي ليس إلّا الشهوات والغرائز، وتزيين الشيطان بالسوء والفحشاء، وهذا طابع عام في أفراد البشر كما هو مفاد قوله تعالي:« وَ نَفسٍ وَ مَا سَوَّاها * فَألهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقوَاهَا »(1)ومع هذاالوصف لحال الإنسان فارتباطه بسُبل النجاة عاملٌ إيجابي عظيم يفتح له باباً للرجوع إلي طريق الصواب، بخلاف ما لو قُطعت كلّ خيوط الارتباط بأبواب الصلاح والفلاح فإن ذلك يوجب التردّي في هوة سحيقة يصعب أمل النجاة منها؛ وهذا مضمون ما ورد« في الأثر اتق الله بعض التقي وإن قل واجعل بينك وبين الله ستراً وإن رق»

(2)

كما هو الحال لو كان المرتكب للكبائر والفواحش غير تارك للصلاة أو للصيام أو للحج أو لفعل خير من الخيرات أو للزوم

ص: 63


1- الشمس / 857
2- وسائل الشيعة ج 11: 191.

المساجد، فإن هذا الارتباط والصلة بهذه النافذة من أبواب الخير،لايسوغ قطعه علي العصاة وأصحاب الكبائر.

إذ أنه حلقة من سلسلة النجاة، وطريق من طرق الهدي، وكيف توصد هذه الأبواب، بل يكون الحال حينئذٍ من قبيل قوله تعالي:« خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحَاً وَآخَرَ سَيِّئَا عَسَي اللهُ أن يَتُوبَ عَلَيهِم إنَّ اللهَ

غَفُورٌ رَّحِيمٌ »(1)

فصلاح العمل كالصلاة والصوم أو أي برّ من أبواب الخير لا ينكر فضله لأجل ارتكاب الفاعل المعاصي من جهة أخري، وإن كان ارتكاب المعاصي يؤثر سلباً في قبول العمل الصالح، لكنه لايتغاير عمّا هو عليه من حقيقة، كما هو مفاد الآية المحكمة« فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّهِ خَيراً يَرَهُ * وَ مَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّهٍ شَرّاً يَرَهُ ».

- وقوله تعالي: « وَ إن كَانَ مِثقَالَ حَبَّةٍ مِّن خَردَلٍ أتَينَا بِهَا وَكَفَي بِنَا حَاسِبينَ »(2)

ص: 64


1- توبه:102.
2- انبياء:47.

- وقوله تعالي: « يَا بُنَيَّ إنَّهَا إن تَكُ مِثقَالَ حَبَّةٍ مِّن خَردَلٍ فَتَكُن فِي صَخرَةٍ أو فِي السَّمَاوَاتِ أو فِي الأرض يَأتِ بِهَا اللهُ إنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ».(1)

وغيرها من الآيات الذاكرة مثقال حبة، أو مثقال ذرة، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، الدالة علي عظمة عدل الله سبحانه.

فكيف يستقبح من أهل المعاصي الأعمال الصالحة منهم، ويستنكر عليهم المشاركة والإسهام في أعمال البر... بل هذا الاعتراض عليهم هو عين الإغراء لهم بالتوغل في المعاصي والانقطاع عن التشبث بأبواب الرجوع إلي الصلاح والتوبةوالاستغفار.

والثواب المرجو علي فعل الصلاة أو أبواب البرّ أو علي الشعائرالحسينية هي في الحقيقة محفزة وموطّدة لبقاء تمسك العصاة بخيط من خيوط التوبة والإنابة وبصيص أمل من المغفرة الألهية، وليس الوعد بالثواب يكون سبباً لإيقاعهم في المعاصي.

ص: 65


1- لقمان / 16

إعتراضات اخري علي البكاء:

النمط الثاني :

ما ورد في مقدمة كتاب لمقتل الحسين عليه السلام ، انه لولا امتثال أمرالسنّة والكتاب في لبس شعار الجزع والمصاب لأجل ما طُمس من أعلام الهداية وأسّس من أركان الغواية، وتأسّفاً علي ما فاتنا من تلك السعادة تلّهفاً علي أمثال تلك الشهادة، وإلّا كنّا قد لبسنا لتلك النعمةالكبري (وهي سمو الحسين عليه السلام وأصحابه إلي مقام لقاء الله ببذل أرواحهم وأجسادهم، وتسابقهم لنيل الشهادة). أثواب المسَرّة والبشري، وحيث أن في الجزع رضا السلطان المعاد، وغرضاً لأبرارالعباد، فها نحن قد لبسنا سربال الجزع وأنسنا بإرسال الدموع، وقلنا للعيون جودي بتواتر البكاء، وللقلوب جدّي، جدّ ثواكل النساء، فإن ودائع الرسول صلي الله عليه و آله و سلم الرؤوف أبيحت يوم الطفوف، ورسوم وصيته بحرمه وأبنائِه طمست بأيدي أمته وأعدائه..

فلم لا تواسون النبي صلي الله عليه و آله و سلم بالبكاء..

ص: 66

- وفي كتابٍ آخر ورد: (أقول ولعلّ قائلاً يقول: هلّا كان الحزن الذي كان يعملون من أول عشر المحرم قبل وقوع القتل... ووقت السرور مسرورين).

- ويرد عليه:

أولاً : أن سمو سيد الشهداء عليه السلام إلي الرفيق الأعلي قد حصل السيد الأنبياء وسيد الأوصياء وسيدة النساء والسيد شباب أهل الجنة، مع أن تفجّع أهل البيت عليهم السلام علي وفاة النبي أمرٌ بالغ الذروة، وشدة حزن الزهراء عليها السلام علي أبيها لم يتحمّله أهل المدينة لعظمته، وحزن أمير المؤمنين عليه السلام علي شهادة الصديقة هو الآخر وكذا حزن الحسنين كان بالغاً. و كلمات أمير المؤمنين عليه السلام ، تدلّ علي شدة وبقاء حزنه إلي آخر حياته، علي فقدان رسول الله صلي الله عليه و آله وسلم والزهراء عليها السلام(جواب أمير المؤمنين لمن سأله عن سبب عدم خضابه).

وفعلُ أصحاب الكساء هو أكمل السنن وأرفعها، كيف يغفلون عن الفرح لو كان حقاً لا باطلاً . وكذلك حال سيد الأنبياء صلي الله عليه وآله و سلم عند استشهاد عمّه حمزة بل قد أغمي عليه صلي الله عليه و آله و سلم من البكاء كما مر . وندب بإقامة المآتم عليه، حيث قالصلي الله عليه و آله و سلم : « إن عمّي حمزة لا بواكي له»؛ وكذلك موقف الرسول صلي الله عليه و آله و سلم في وفاة أبي طالب وخديجة(عليها السلام). حتي

ص: 67

سمّي صلي الله عليه و آله و سلم ذلك العام بعام الحزن.. وكذلك بكاء أميرالمؤمنين عليه السلام وحزنه علي أبيه أبي طالب وعلي أمه فاطمة بنت أسد، وعلي استشهاد أخيه جعفر الطيار.

وكذلك بكاء سيد الأنبياءصلي الله عليه و آله و سلم عند موت ابنه إبراهيم وقوله : ( إن القلب ليحزن والعين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي الربّ)(1)

- وقد اعترض عليه صلي الله عليه و آله و سلم بعضهم، فأجاب صلي الله عليه و آله و سلم : البكاء من الرحمة..؟(2)

وكذلك حزن كل إمام علي شهادة والده من الأئمة، وفي دعاءالنبي إبراهيم أن يرزقه الله بنتاً كي تندبه بعد وفاته.(3)

. وقد ورد في رجال الكشي: إن الباقرعليه السلام أوصي ابنه الصادق بمال ينفقه ، علي نوادب يقمن المأتم عليه في مني يندبنه ثمان حجج..(4)

ص: 68


1- وسائل الشيعة : أبواب الدفن
2- السيرة الحلبية ج295:3.
3- وسائل الشيعة: أبواب مقدمات النكاح وأبواب أحكام الأولاد
4- التحفة السنية 375.

- فكل هذه السيرة وغيرها، لا تجد موضعاً من الموارد فيها إقامة فرح.. ولو أن إقامة الفرح كان حقاً لعُمل به ولو في بعض الموارد.

ثانياً : وقد ثبت في مصادر الفريقين كما مر؛ أن السماوات بكت دماً ، والجنة ومن فيها؛ وجهنم ومَن فيها حتي أن أهل النار لم يشغلهم ما هم فيه من العذاب عن البكاء علي سيد الشهداء عليه السلام لشدة الحرقة والحزن والأسي، مع أن مقتضي لقاء أهل الآخرة بمقدم سيد الشهداءعليه السلام عليهم حسب زعم هذا القائل هو أنهم يفرحون ويُسرّون، مع أن لقياهم وإن كان مسرّة وفرحٌ به، إلّا أنه لم يشغلهم عن موجب الحزن مما يدلّل علي أن جانب الحزن أشد خطورة ورعايةً من جانب الفرح، وأنه لا يسوغ إهمال عظمته وأهميته؛ بل قد ورد أن الملائكة ضجّت إلي الله عند مقتل الحسين عليه السلام (الرواية).(1)

ثالثاً : إن الفرح لا محالة سيكون تضامناً مع بني أمية والظالمين،كما ورد في زيارة عاشوراء، ويوم عاشوراء يوم فرحت به آل أمية وآل زياد و آل مروان بقتلهم الحسين عليه السلام...)، فيكون فعل المؤمنين

ص: 69


1- الكافي ج 1 :465.

بإقامة الفرح والسرور شماتةً بأهل البيت عليهم السلام وتأييداً لأعداهم ومناوئيهم.

ولا زالت سنة العداء والنصب لأهل البيت عليهم السلام قائمة، بحيث يسمون يوم عاشوراء ب(عيد الظفر)...

رابعاً : أن ما أفاده من البُعد الأخروي في واقعة الطف، وهو بُعدجمالي من إسم الجميل ونحوه من الأسماء الجمالية، لا يزيل البعدالآخر من مظهر الاسم الأخر الإلهي (العدل) الذي تجلّي به في عالم

الدنيا، وهو يقتضي الانعطاف ورقة القلب، وسيل الدمعة، وانكسارالقلب، لاسيما عند قوله تعالي في الحديث القدسي: (أنا عندالمنكسرة قلوبهم) فمقام الجمع أكمل في قاعدة الأسماء الإلهية وتجلياتها من الاقتصار علي اسم إلهي واحد، لاسيما وأن الاسم الجلالي كالمنتقم والعدل والحاكم قد غلب تأثيره علي الاسم الجمالي الخاص (الرحمن) بالرحمة الخاصة حتي في ملكوت السماوات والأرضين كما تشير إليه الروايات مما تقدم ذكره من بكاء أهل السماوات والأرضين والجنة والنار،. وإن كان هذا الاسم الجلالي هو منطوي تحت اسم جمالي بالمعني العام الرحمن والرحيم بالرحمة العامة التي وسعت كل شئ ، وهذا الخطأ وهو عدم ملاحظة

ص: 70

مجموع ومقام الجمع في الأسماء الإلهية هو الذي يقع فيه الصوفيةوجملة من العرفاء كثيراً في جملة من أبواب المعرفة، حيث يلحظون مقتضي بعض الأسماء الإلهية، ويغفلون عن مقتضي اسم إلهي آخر،أو بعض الأسماء الأخري، ولا عجب في ذلك فإن مقام الجمع للأسماء فضلاض عن مقام جمع الجمع صعب المنال، ولا يستقيم عليه إلا بما أوصاه الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في وصيته للمفضّل بن عمر من أنه لا يُحفظ الظاهر إلّا بالباطن كما لا يُحفظ الباطن إلّا بالظاهر.. .

ومن استقام علي ثوابت الشريعة وتمسّك بمحكمات الدين من الثقلين قد استمسك بالعروة الوثقي ونجا عن الإفراط والتفريط.

وقد روي ابن قولويه في كامل الزيارات(1)روايات مستفيضة منها : أنه لم يُرفع عن وجه الأرض حجر إلّا وُجد تحته دم عبيط.

وبكاء الجن والطير عليه عليه السلام، حتي ذرفت دموع الوحش ..

ص: 71


1- مصادر عن البكاء: باب 24، 25، 26/ كامل الزيارات، 27، 28.

وبكاء السماوات السبع والأرضين السبع وما فيهن وما بينهنّ،ومن ينقلب عليهن، والجنة والنار ومن فيهما، وما خلق ربّنا، وما يُري وما لا يُري.(1)

وما من عين أحبّ إلي الله ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه، وما من باك يبكيه إلا وقدوصل فاطمة عليها السلام ، وأسعدها عليه،ووصل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وأدّي حقنا، وما من عبد يُحشر إلّا وعيناه باكية، إلّا الباكين علي جدي الحسين فإنه يُحشر وعينه قريرة، والبشارة

تلقاه، والسرور بيّن علي وجهه، والخلق في الفزع وهم آمنون،والخلق يُعرضون، وهم حُدّاث

الحسين عليه السلام تحت العرش،وفي ظل العرش، لا يخافون سوء الحساب، يُقال لهم أدخلوا الجنة، فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه. (2)

و هناك أربعة آلاف ملك نزلوا لنصرة الحسين، ففاتهم نصرته فهم عند قبره شعث غبر.

ص: 72


1- كامل الزيارات : باب 26/ ح 4، ح7 معتبرة الفضلاء.
2- كامل الزيارات : باب 26/ ح - باب 27.

الصادق عليه السلام: «أحمّرت السماء مثل العلقة حين قتل الحسين عليه السلام

سنه».(1)

وقد وردت روايات متعددة تتضمن الثواب العظيم للبكاء علي الحسين عليه السلام .(2)

- عن زرارة عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام : « ما من باكٍ يبكيه إلّا وقد وصَل فاطمة(عليها السلام) وأسعدها عليه، و وصَل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وأدّي حقنا، وما من عبديُحشر إلّا وعيناه باكية إلّا الباكين علي جدي الحسين عليه السلام، فإنه يُحشر وعيُنه قريرة، والبشارة تلقاه، والسرور بيُنٌ علي وجهه، والخلق في الفزع وهم آمنون. والخلق يُعرضون وهم حدّاث الحسينعليه السلام ؛ تحت العرش وفي ظل العرش، لا يخافون الحساب...

ص: 73


1- كامل الزيارات باب 28/ ح9 ح7 ح 27 - باب 26: 9 أحاديث . 27: 20 حديث . 28: 27 حديث
2- كما ورد في باب :32 في صحيح محمد بن مسلم

فيقولون الحمد لله الذي كفانا الفزع الأكبر، وأهوال القيامة،ونجّانا ممّا كنا نخاف».(1)

- وعن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله عليه السلام - قال: سألته في طريق المدينة، ونحن نريد مكة، فقلت: يا بن رسول الله ما لي أراك كئيباً (حزيناً) منكسراً؟ فقال: لو تسمع ما أسمع، لشغلك عن مسألتي، فقلت: وما الذي تسمع؟ قال: ابتهال الملائكة إلي الله عزّ و جلّ علي قتلة أمير

المؤمنين، وقتلة الحسين عليه السلام ونوح الجن وبكاء الملائكة الذين حوله وشدة جزعهم، فمن يتهنأ مع هذا بطعام أو شراب أو نوم».(2)

- بل وردت روايات تدل علي استحباب الاستمرار ودوام البكاء علي سيدالشهداء عليه السلام.

(3)

- وعن الصادق عليه السلام : إن الأرض والسماء لتبكي منذ قُتل أميرالمؤمنين عليه السلام رحمهً لنا - وما رقأت دموع الملائكة منذ قُتلنا».(4)

ص: 74


1- كامل الزيارات : باب 26/ ح8.
2- كامل الزيارات : باب 28/ ح 23.
3- كامل الزيارات : باب 31،30.
4- كامل الزيارات : باب 32/ ح7.

- وعن الصادق عليه السلام : « قطرة من دموع الباكي علي الحسينعليه السلامتطفئ حرّ نار جهنم».

- وعن الصادق عليه السلام : « و إن الموجع قلبه ليفرح يوم يرانا عند موته فرحهً لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتي يرد علينا الحوض».(1)

- وورد عن الإمام الصادق عليه السلام : وما من عينٍ بكت لنا إلّا نعمت بالنظر إلي الكوثر، وسقيت منه من أحبنا وإن الشارب منه ليُعطي من اللذة والطعم والشهوة له أكثر مما يعطاه من هو دونه في حبنا ».(2)

- و منها:

ما رواه في كامل الزيارات، في مصحح أبي هارون المكفوف:« من ذكر الحسين عنده، فخرج من عينيه من الدموع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه علي الله، ولم يرض له بدون الجنة».(3)

ص: 75


1- كامل الزيارات : باب 32/ ح 7.
2- كامل الزيارات : باب32/ 7.
3- كامل الزيارات :باب 33/ 1.ورواه في ثواب الأعمال: ص109.

- وقد روي في كامل الزيارات قولهم عليهم السلام بطرق مستفيضة، أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين عليه السلام دمعهً حتي تسيل علي خدّه، بوّأه الله بها غرفاً في الجنة يسكنها أحقاباً».

وفي بعضها: «حرم الله وجهه علي النار».

وفي بعضها: «غفر له ذنوبه ولو كانت كزبد البحرم.(1)

ص: 76


1- كامل الزيارات : باب 32.

الموقف الصوفي العرفاني المعترض علي البكاء والعزاء:

قال جلال الدين الرومي (مولوي، مثنوي) في الكتاب السادس من مثنويات: أن شاعراً دخل مدينة حلب يوم عاشوراء وتفاجئ بطقوس أهلها في مثل هذا اليوم وهي إقامة العزاء والمآتم علي سيدالشهداء، وحيث كان الشاعر لا يعرف صاحب العزاء، أخذ يسأل الناس عنه، علّه يشارك بشعره في رثائه، فقالوا له: اليوم ذكري استشهاد الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، فقال: لكنه مات قبل قرون، أمّا العزاء والمآتم فأقيموه علي أنفسكم فهو ليس بحاجة له،لأنه أسعد إنسان في مثل هذا اليوم، وأنشد يقول:

أبكوا علي غفلتكم لأ ن***الجهل أبشع مراتب الموت

الروح تشمخ إن تخلت عن***الجسد فلم نبكي ويعرونا السواد

إن هذا لسليل المصطفي***بعروجه غنوا وكونوا فرحين

فهو قد نال بذلك سعادة أبدية***وتخلّي عن قيود الدنيا الغرور(1)

فينبغي لنا أن نبتهج ونفرح لكل من يهجر هذه الدنيا

ص: 77


1- الأبيات مترجمة من الفارسية

جواب الشبهة والاعتراض :

أن في الدعوة إلي الفرح إغضاء وإهمال وإغفال عن قُبح المنكر الذي ارتكبه الظالمون في حق الحسين عليه السلام، وتبيض لظلامهم وتغطية لقباحة ظلمهم، وبالتالي رضيً وذوبان في سوء فعلهم،لأن مَن رضي عمل قوم أُشرك معهم.

وأين البراءة من الظالمين وأهل الباطل.. فالبكاء ينطوي علي فلسفة عظيمة هي التبري من فعل الظالمين، وقد ورد أن أوثق عُري الإيمان: الحب في الله والبُغض في الله. و كما في قوله تعالي:«لَا تَجِدُ قَوماً يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِر يُوَادُّونَ مَن حَادَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ »(1)،

والفرح رضا بما فعل أهل الباطل في التعدّي علي حرمات الله ورسوله، بينما البكاء والحزن والأسي عبارة عن نفرة وبراءة وسخط علي تلك الأفعال السيئة الشنيعة.

فمن الواضح أن هذه الدعوي وهذا المنهج هي دعوي لذوبان وخلط الحق بالباطل، والفضيلة بالرذيلة، لكي لا يتميز، ولا يكون فرقان في البين.

ص: 78


1- المجادلة / 22.

وهذا نهج اختطّه الصوفية والعرفاء لأنفسهم، لتبنّيهم التولّي من دون التبري.

والرضا من دون سخط، والتحسين من دون تقبيح، والجنة من دون نار، والثواب من دون عقوبة،

وأسماء الجمال من دون أسماءالجلال. فهو إيمان ببعض الكتاب و كفرٌ ببعض آخر. ومن ثمّ خالفت

سير تهم سيرة النبي وأهل البيت عليهم السلام في جملة من الموارد، ومنها هذا المورد، مما قد استفاضت روايات الفريقين في بكاء النبي صلي الله عليه و آله و سلم وأمير المؤمنين وفاطمة وأهل البيت عليهم السلام علي مصاب الحسين عليه السلام ولعن قاتليه وكذلك ما ورد مستفيضاً في ثواب البكاء علي الحسين عليه السلام ..لذا لا تري لفلسفة اللعن تجاوب لدي الصوفية والعرفاء مع أنها سنة إلهية في القرآن، وسنة نبوية في الحديث والسيرة، وسنة الأئمةالميامين، لا تري لهذه السنة أثراً في أدبيات الصوفية والعرفاء..

مع أن التحلية لا تتمّ إلّا بالتخلية، واكتساب الفضائل لا يتم إلّا بنبذ الرذائل، وإقامة التوحيد لا يتم إلّا بنفي الشريك.

ومن ألوان وطابع هذا النهج هو ما يؤدي إليه من الانعزال عن المسؤولية الاجتماعية وعن التصدي للإصلاح الاجتماعي والتغييرومواجهة الفساد، والاقتصار في التركيز فقط علي البعد الروحي

ص: 79

الفردي من دون اكتراث بجانب الحياة الاجتماعية والظواهرالمنتشرة فيها، فهي تقود إلي نحو من العزلة المذمومة، وحبس الدين عن مسار الحياة الاجتماعية والسياسية والإبتعاد عن المسؤوليات

الإجتماعية والسياسية .

ص: 80

إعتراض السلفية علي البكاء:

قال السلفية: أن بكاء الشيعة هو بسبب تأنيب ضميرهم مما ارتكبوه أنفسهم من قتل الحسين عليه السلام، شعوراً بالخطيئة، وترويحاً للضمير من الذنب.

وفيه: أولاً: أن المعترض، يعترف بأن مسؤولية قتل سيدالشهداء عليه السلام التي ارتكبت في سنة 61هج يتحمل وزرها الأتباع والأبناء والأجيال اللاحقة، ولو تطاولت قروناً مديدة إذا كانوا راضين بأفعال أولئك.

وهذا يفتح معني آخر وهو لزوم التبريّ من قتلة سيد الشهداء، ومما ارتكبوه من ظلم في حق أهل البيت عليهم السلام، فلماذا لا نري هؤلاءالمعترضين لا يقومون بالحداد وشعائر الحزن علي سيد الشهداء؟،ولماذا لا يستنكرون كل عام هذا القتل والظلم، بل نراهم يستنكرون مواساة الحسين عليه السلام في ذلك الحزن الذي هو مواساة لسيد الأنبياء وسيد الأوصياء وسيدة النساء.

ثانياً: من البيّن تاريخياً أن الكوفة لم تكن مذهبها آنذاك هو مذهب التشيع كمذهب طاغي علي أهلها؛ بل كان شيعة أهل البيت

ص: 81

أقلية في الكوفة، وقد كُتب في ذلك وحُرر الكثير من الرسائل المعتمدة علي المصادر التاريخية القديمة.

ثالثاً : أن المعترض، لا يوجد في قاموسه فكرة المواساة لسيدالأنبياءصلي الله عليه و آله و سلم وأهل بيته عليهم السلام في هذا المصاب الجلل ويستبطن اعتراضه التنكّر للحزن علي سيد شباب أهل الجنة مما يكشف عنه رفضه لفضل سيد الشهداءعليه السلام في الدين وعند الله عزّوجلّ .

ولا عَجب في ذلك بعد إعراضه عن قوله تعالي:«قُل لَّا أسألُكُم عَلَيهِ أجراً إلَّا المَوَدَّةَ فِي القُربَي».

ص: 82

ركنية الحزن والأسي في ماهية الشعائرالحسينية

قد يرد إعتراض أن شعائر عاشوراء هي شعائر حزن ومصيبة، مضادة لمشاعر التفاؤل والفرح والاستبشار، بل هي متضمنة للأسي واللوعة والحداد، ووجدان مضطرب وتأنيب الضمير، ومشاعرعاصفة، تُنقل من جيل إلي جيل، لاسيما وأن شعائر عاشوراء هي في مستهلّ السنة الهجرية، بينما يستهلّ البشر في بداية سنتهم بمشاعرالفرح والأمل، نجد أن الشعائر الحسينية تبث الحزن والهمّ والكآبة والإياس.

والسبب في كون الشعائر العاشورية، تأنيب الضمير الشيعة ويمارسونها كتكفير للذنب بجلد الذات والنفس، كعقوبة يكفرّون بها ذنوبهم وخطاياهم..

وتقصيرهم حيث خذلوا الحسين عليه السلام وقاموا بقتله أو الإعانة عليه.. لأن الكوفة حاضرة التشيّع الأولي.. هي التي قتلت الحسين عليه السلام... وهناك إحساس جماعي بالندم، لعدم نصرتهعليه السلام في خضمّ تذكّر أحداث المأساة.. في أعماق اللاوعي الشعبي، وشعور

ص: 83

مرير بالهزيمة الحضارية التي تعيشها الأمة.. فتتفاقم المعاناة والتخلّف

والتمزق..

جواب الإعتراض:

1- انه مبني علي الغفلة والجهل بحقيقة البكاء، ودواعي البكاء

ومناشئة وإيجابياته.

2- تخيّل أن داعي وهدف العزاء ناشئ من تأنيب الضمير، وأن العزاء واللطم والتطبير، أسلوب من إقامة العقوبة علي النفس وجلد الذات، بينما الحقيقة غير ذلك فإن البكاء ناشئ من فرط المودة لقرب النبي صلي الله عليه و آله وسلم والمعرفة الإيمانية بفضائلهم ومقاماتهم عندالله سبحانه وفي الدين، وناشئ من شدة الإستياء لقبح ظلم الظالمين لهم، وهتك حرمة الله تعالي وحرمة الرسول فيهم.

3 - منهج أهل البيت أصدق وأحق منهج بالطابع السلمي،واحترام كرامة الإنسان.

ص: 84

امتزاج الحزن علي أهل البيت عليهم السلام بالإبتهاج بهم:

إن الكثير يحسب أن مراسم العزاء والحزن علي أهل البيت عليهم السلام متمحضة بالهمّ والغمّ واللوعة والأسي والتفجّع.. بينما واقع الحال أنا نشاهد امتزاج هذه الحالات بحالات الشوق والابتهاج والارتياح والانبساط النفساني، وذلك حيث يتم استعراض مناقب أهل البيت عليهم السلام

وفضائلهم وما أولاهم الله سبحانه من كرامات في الدين والدنيا والآخرة.. فإن استعراض ذلك، وهو باب واسع لا ينتهي إلي حدّ، يتم في مراسم عاشوراء وفي أيام الوفيات، وأيام إقامة العزاء... وهذا

ملحوظ بكثرة، فإن مجالس ذكر أهل البيت عليهم السلام لا تخلو من ذلك قط، ومؤشر علي أن حقيقة الجو النفساني التي تربية الشعائر الحسينية وأهل البيت، يتزاوج فيه الحزن علي مظلوميتهم والفرح لإيتاء الله لهم جميع الكرامات والمقامات السامية ..

فيكون الحزن علي مصابهم.. والبهجة بكرامات الله لهم... فليس كآبة محضة بل ممتزجة مع عظم الأمل و كبير الرجاء، وشدة الثقة بزلفي الباري تعالي لهم عليهم السلام .

ص: 85

وكذلك تقترن اللوعة مع الانبساط.. والدمعة مع تهدّل الوجه، وهذا ممّا يعطي جانباً تربوياً عظيماً متوازناً في تربية النفس الإنسانية..فإنّ الحزن والأسي قطيعة وتبري عن الانحراف الذي سار به

الظالمون من أعداء آل البيت عليهم السلام، وما ارتكبوه من جنايات في حقهم عليهم السلام .. بينما الفرح انجذاب للفضيلة والكمال، وللمعالي والمكرمات .. وهذا ما نجده في ما ظهر علي سيد الشهداء عليه السلام ، يوم عاشوراء.. فإن أرباب المقاتل قد نقلوا عنه كلا الحالتين.. فنُقل شدة

بكائه وتفجعه علي ابنه علي الأكبر وأخيه أبي الفضل العباس وذويه وأصحابه، كما نُقل أيضاً أن وجهه يزداد تهللاً وإشراقاً كلما قربت شهادته.. في قول الراوي: «.. ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشأ ولا أمضي جناناً ولا أجرأ مقدماً منه والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله وإن كانت الرجال لتشد عليه فيشد عليها بسيفه.(1)

ص: 86


1- لواعج الأشجان ص 184.

وكذا قوله عليه السلام: «خطّ الموت علي ولد آدم... مخطّ القلادة علي جيد الفتاة».(1)

فتري أن كلامهعليه السلام، قد اشتمل علي كلا الأمرين:

علي ذكر المصاب الجلل والظلامة العظمي، وكذلك علي قمة الأمل والفرح والسعادة من لقاء أسلافه العترة الطاهرة..

وهذا التوازن عامل تربوي عظيم، فيه كم أخري بديعة، فإنه يحافظ علي النفس من الغرور والاغترار بالأمل، وذلك بإذاقة النفس مرارة المعاناة.. نظير الجمع بين صفتي الخوف والرجاء المؤثرة في

تكامل النفس بتأثير بليغ كما في قوله تعالي: « وَ يَدعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً».... وهذا نجده جلياً في خطاب العقيلة عليها السلام في مجلس ابن زياد:«... ما رأيت إلّا جميلا هؤلاء قوم كتب عليهم القتل فبرزوا إلي مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج و تخاصم ».(2)

وكذلك خطابها في مجلس يزيد فإنّها في حين نعت الحسين عليه السلام ، إلّا أنها أيضاً ذكرت الأمل وعلو الإيمان بالفرج، حيث

ص: 87


1- مثير الأحزان ص29.
2- مثير الأحزان ص 71.

قالت: والي الله المشتكي وعليه المعول، فكد كيد واسع سعيك وناصب جهدك فو الله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا .(1)230ومن ذلك نخرج بقاعدة تربوية روحية معرفية اعتقادية وخلقيةأن المؤمن لا بد له في ترويض روحه، وصقل عقيدته من اقتران وانضمام كلا الجانبين لديه.. أي استعراض البلاء مع استعراض الجزاء الإلهي الوافر، الذي يسمح للنفس بالقوة علي الصبر والشدائد، ويزيد من تحملّها ونشاطها وحيويتها.. مع تأديب النفس بالمرارة كي لا تطغي وكذلك الحال، علي المستوي المعرفي الاعتقادي، فإن قضاء الله وقدره كما اشتمل علي البلاء، فقد اشتمل علي جزاء النعيم والفوزالعظيم..

كما هو الحال في رغيد العيش في طريق الحرام والباطل، هو ذو عاقبة أليمة، ومرارة عظيمة.. وبذلك تتزّن رؤية الإنسان وبصيرته تجاه حقائق الأمور..

ثم علي ضوء ما تقدم يظهر وجه مزج أتباع أهل البيت عليهم السلام لذكر مصائبهم عليهم السلام حتي في أيام مواليدهم وأفراحهم..

ص: 88


1- لواعج الاشجان ص

أقوال الأئمة في ذلك :

فقد وُصف الامام الحسين عليه السلام في عدة من الزيارات والروايات بأنّه صاحب المصيبة الراتبة..

ويستفاد من هذا الحديث والزيارة الشريفة، أن ذكر مصيبة سيدالشهداء بالعزاء وإقامة مجالس النوح والرثاء وغيرها من آليات الشعيرة، يكون فعله في التشريع مداوم، دائب ودوري في كل يوم وفي كل ساعة، ولا يقتصرالدليل علي ذلك بهذا الحديث والزيارةالشريفة، بل إن الحثّ المتواتر في الروايات علي زيارته في كل وقت، وفي كل يوم، من بعيد ومن قريب هو الآخر دال علي ذلك أيضاً، لأن زيارته عليه السلام متضمنة لرثائه وذكر مصابه والبكاء عليه. وهذا المنحي والديمومة في الأوقات هو الآخر يستفاد من متواتر الحث علي زيارة النبي صلي الله عليه و آله و سلم، والوصي عليه السلام ، والصديقة عليها السلام ، وباقي الأئمة عليهم السلام.حيث تضمنّت زياراتهم، استعراض ما جري عليهم من المصائب والمحن، وهو بمثابة مجلس رثاء وتشيد عزاء.(1)

ص: 89


1- رؤيا السيد باقر الموسوي الهندي للإمام الحجة المهدي (عجل الله تعالي فرجه الشريف) ليلة عيد الغدير كئيباً حزيناً فحينما سأله السيد عن سبب ذلك مع أن المناسبة هي للفرح والسرور، أنشئ الإمام (عجل الله تعالي فرجه الشريف) هذا البيت: لا تراني اتخذت لا وعلاها***بعد بيت الأحزان بين سرور مأساة الزهراء :27

ولا يتنافي ذلك مع القاعدة المستفيضة عنهم عليهم السلام في وصف الشيعة: «أنّهم يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا»(1)287، فإن المطلوب ليس التوقيت بالزمن فقط، بأن يكون فرح الشيعة في أوقات فرحهم، وحزنهم في أوقات حزن العترة عليهم السلام ، كما ورَد عن موسي بن جعفرعليه السلام، يظهر عليه الحزن بدخول أول محرم،ويشتدّ معه كلما قرب من يوم العاشر.

قال الرضا عليه السلام : كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يري ضاحكاً، و كانت الكآبة تغلب عليه، حتي يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين عليه السلام(2)

ص: 90


1- الخصال :
2- أمالي الشيخ الصدوق:191.

- وكما ورد عن الصادق عليه السلام : «أفي غفلة أنت، أما علمت أن الحسين عليه السلام(1) أصيب في مثل هذا اليوم ، وقد ورد النهي عن صيامه.. لأن الصيام يُعدّ مظهراً من مظاهر الفرح والبهجة.

فإن توقيت فترات زمنية للحزن وهي التي وقعت فيها حوادث المصاب لا ريب فيه، وكذلك توقيت الفرح بأزمان وقعت فيها مسرات لهم لا ريب فيها أيضا..

ولكن مفاد القاعدة الشريفة أعم من ذلك حيث يُراد من فرحهم هو أسباب الفرح، كبركة مواليد المعصومين إذا ذكروا ولو في غير أيام الميلاد.. أو بما لهم من مشاهد شرّفها الله بهم، مثل

حادثة الغدير، والمباهلة وحديث الكساء، و ميلاد المهدي (عجل الله تعالي فرجه الشريف)، إلي غير ذلك من مناسبات الإبتهاج وذكريات الفرح، فإنها كلها يُستبشربها، ويُبتهج بها، في أي وقت ذُكرت، وكذلك الحزن إنما يكون الأسباب حزنهم، يتحقق في أي وقت ذكر.. كما روي عن الامام السجاد عليه السلام من شدة بكائه وحزنه كلّما ذكر أباه الحسين عليه السلام استعبر

ص: 91


1- وسائل الشيعة ج 11 ص 459 .

وبكي... وكذلك الامام الصادق عليه السلام ، كان إذا ذكر جده الحسين عليه السلام،يبكي ويترك الأكل في ذلك اليوم.(1)

ص: 92


1- الخصال للشيخ الصدوق ص:273

المحتويات

1-المقدمة ... 5

2-البكاء في اللغة ... 7

3-بعض أدلة البكاء من مصادر المسلمين ... 8

4-رد الإمام السجاد (عليه السلام) علي من إعترض عليه بكثرةالبكاء...18

5-البكاء علي الحسين (عليه السلام) خطاب مع الله تعالي ... 19

6-الصرخة والصيحة والشهقة أنواع في شعير البكاء...21

7-الفلسفة الكبري للبكاء... 23

8-العاطفة والبكاء تكامل النفس والمعرفة... 38

9-العاطفة والبكاء وخطورة تأثيرها ...43

10-فلسفة عظمة ثواب البكاء في الشعائرالحسينية ...58

11- أجوبة الإشكالات ... 53

12-إعتراضات أخري علي البكاء مع أجوبتها ...66

13-الموقف الصوفي والعرفاني المعترض علي البكاء والعزاء...77

14-جواب الشبهة الأعتراض ...78

15- أعتراض السلفية علي البكاء... 80

16- ركنية الحزن والأسي في ماهية الشعائرالحسينية...83

17-جواب الإعتراض...84

18- إمتزاج الحزن علي أهل البيت (عليه السلام) بالابتهاج بهم...85

ص: 93

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.