الجهاد بین النظريه والتطبيق من خلال ثورة الحسين بن علی علیه السلام

اشارة

الجهاد بین النظريه والتطبيق من خلال ثورة الحسين بن علی علیه السلام

تأليف د.یوسف جعفر سعادة

منشورات : ذات السلوسل

الکویت

ص: 1

اشارة

الجهاد بین النظریه و التطبیق من خلال ثورة الحسین بن علی علیه السلام

ص: 2

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1408 ه - 1987م

الناشر زات السلاسل الطباعة والنشر والتوزيع الکویت

الادارة العامة

مجمع الأوقاف- برج 15

شتة15 - الدور السابع

ص.ب: 12041 - الشامية - الكويت

تلفون: 2466266/2466255

ص: 3

تقديم الأستاذ الدكتور شاکر مصطفى

تقديم الكتاب باقة من الزهر والعطر عند مدخله. ومن التقاليد أن تكون الباقة ملونة مثيرة، وأن ينثر صاحبها أمام القارىء زهرة هنا وعطرا هناك. وأن يقدم فيها قراءته الخاصة للكتاب قبل أن تكون للقارىء بدوره قراءته الأخرى .

إنها محاولة لعرض نفائس الكتاب وأخباره في شيء من الإيجاز المشوق إن لم يكن في شيء كثير أو قليل من المديح ومداعبة الغرور.

علي أن أستأذن القارىء في مخالفة هذا التقليد الذي قد يحمل أحيانا على محمل الرياء والمجاملة، لا رغبة في المخالفة ولكن لأن صديقي صاحب الكتاب اشترط على أن أكون حرا في طرح كلمتي كما أراها. واشترط علي ثانيا ألا أجامل والمجاملة قد تكون حلوة في كل شيء إلا في الحق والعلم . واشترط علي ثالثا أن أكتب النقد و وجهة النظر الأخرى ليكون ثمة منبر للرأي الآخر في الكتاب .

وقبلت المهمة لا لأنه صديق عزيز فحسب، وإنه للصديق العزيز .

ولا لأنه حاول الموضوعية ولقد فعل على قدر طاقته ما استطاع إليها سبيلا .

ص: 4

ولكني قبلتها لأني أولا وأخيرا أحترم حرية الرأي، ولأني أذبح آخر شرايني لكي يقول الأخر رأيه كله ، ولأني لا أرى في قيم الناس أثمن من حرية الرأي .

إنها التعبير عن احترام الإنسان ، وعن إنسانية الإنسان .

وفي ظل حرية الرأي قرأت هذا الكتاب . وفي ظلها أكتب هذه الكلمات . أهي مخالفة للتقاليد؟ لتكن لكن الحرية أثمن وأحق بأن تراعي ...

الجهاد بين النظرية والتطبيق هو عنوان الكتاب ، وقصة الحسين الشهيد هي موضوعه. ولست أعرف في التاريخ كله شهيدا آخر ما يزال دمه المبارك ينزف و ينزف منذ ألف وثلاثمائة وخمسين سنة حتى اليوم، ويثير ما يثيره هذا الدم المبارك من الجدل والأجواء ، لا لشيء إلا لأنه لحمة الخير ورمز الفداء من أجل وحدة المسلمين ، ويجب أن يكون لحمة الخير و زمز الفداء على مر العصور.

ولقد أقبل صاحب هذا الكتاب على موضوعه بنية صافية طيبة وأتمه حتى النهاية بنية صافية طيبة كذلك. أشهد بهذا فقد عرفته عن قرب، منذ أقبل على العمل حتى التمام، ولست أشك فيه ، ولكن النوايا الطيبة على جمالها وضرورتها ومبرراتها، لا تكفي منطلقا وعذرا، فثمة ضرورات أساسية لا بد من توافرها في العمل التاريخي أيضا. أولها وأهمها مناقشة الأسس الكبرى للموضوع وتحديد الخطوط العامة الأولية . وهنا أجدني مفترقا عن صديقي الكريم، فناقدا له في إطار هذه الأسس، ومخالفا له في بعض الأمر...

وقد نظر صاحبي إلى القضية كلها من منظار الدين والدين وحده ، سواء في تقويم الشهيد العظيم أم في تقويم الخليفتين معاوية ويزيد. وهي في كل

ص: 5

الأحوال وجهة نظر لا يمكن إغفالها ولها احترامها الكامل ، ولكن أليس من الضروري أن ندخل في الحسبان الظروف السياسية والظروف الاجتماعية التي جدت في ذلك العصر.

وقد أراد صاحبي أن يقدم في موضوع الجهاد رمزین: واحد للخير وآخر للشر. وصعد في هذا الرمز ما شاء التصعيد وهبط بذاك ما شاء الهبوط ليبرز التناقض الذي أحب إبرازه. وبصرف النظر عن حسن النية في هذا العمل ، وعن سمو الفكرة التي يدعو المؤلف إليها وهي ضرورة الشهادة في سبيل الدفاع عن المبدأ، وعدم التردد أمام الموت في سبيل الحق - بصرف النظر عن نبل هذا الهدف فإنه هنا استخدم التاريخ... والتاريخ قاس لا يرحم. والزيادة فيه أو النقص تظهر بسرعة. لأن الميزان ليس حكرا على المؤلف و إنما هو مشاع للجميع ... ولسان الميزان حاد حاد کشفرة السيف أو أشد!

تمنيت في الواقع لو استطاع صاحبي ألا يقتصر على الجانب المأساوي للشهادة ولكن المصادر التي تملا حواشي الكتاب هي التي قصمت جناحيه وحرمته أن ينفذ إلى غير ذلك . اعتمدها حقائق نهائية ولم يخضعها للنقد والتشذيب . لقد غرق في موضوعه حتى الأذقان ، عاشه . عاناه في دمه وشرايينه لعله يأتي فيه بجديد ولكن سلطان المصادر كان أقوى منه ، وحال بينه و بين رؤية كان يمكن أن تكون أكثر دقة وعمقا . ولا أقول حال بينه و بين الحقيقة المجردة ، ومن ذا الذي يزعم أنه واصل في التاريخ إلى الحقيقة المجردة أو ما يشبه الحقيقة المجردة؟

تمنيت مثلا لو ناقش صاحبي بعض الأفكار التي أوردها على أنها مسلمات ، وفي الكتاب كثير منها، مما يمكن أن يوضع على نار هادئة - لو أمكنت النار الهادئة - من التحقيق والرأي . ومن ذلك مثلا :

ص: 6

1- يمشي الكتاب مع ركب الكتب التاريخية التي ما زالت تروى منذ روايات القرن الهجري الأول أن الدولة الأموية حولت الخلافة إلى ملكية کسروية ، وراثية . ويمكننا القول هنا من منطلق تاريخي محض أن معاوية هو أول من طبق فكرة الوراثة فعلا، ولكنه لم يكن هو صاحب النظرية أصلا.

وكان المجال واسعا أمام صاحبي ليبدي أراءه في هذا المجال، وهو قادر كما أعلم - على ذلك.

ليس يعني ذلك أبدا التسوية بين آل البيت الذين صلى الله عليهم ، و بين آل أمية ، ولكنا نناقش الفكرة . فمن أراد الخوض فيها فعليه أن ينطلق أولا من مبدأ أساسي هو أفضلية آل البيت في الحكم ، فإن فعل وجد أكثر من رأي في هذا الباب و وجد من الأفكار الأخرى ما يناقش فيه الكثيرون.

صحيح أن معاوية سلب الخلافة من آل البيت ومن غيرهم ، ولكن هل هو الذي قال بكسرويتها؟ وهل دامت هذه الكسروية لأكثر من إبن واحد له ، فما بال المسلمين لم يعيدوها إلى ما كانت عليه في العهد الراشدي؟

ذلك أمر لم يتعرض له صاحبنا وكان عليه أن يفعل ذلك .

2- ويتحدث كتاب السير والتواريخ منذ القديم في قصة الحسين سيد الشهداء فإذا بهم - عن عمد سياسي وديني - يصبون جام غضبهم على الدولة الأموية جملة واحدة. ويجعلونها دولة الفسق والفجور والخمر والمنكر والجور والظلم، ولا يجدون فيها ما يذكر فيشكر. أكانت الدولة الأموية كذلك بالفعل؟ وكيف بقيت بعد کربلاء سبعين سنة ؟ وما ذنب عبد الملك بن مروان وعمر بن عبد العزيز وهشام ومروان بن محمد فيما فعل يزيد، وقد قال تعالى : « وَلاَ تَزِرَ وَازِرَةٌ وِزرُ أخرَي» وقال تعالى : « كُلُّ نَفسٍ بِمَا كَسَبتُ رَهِينَة» ؟ وهل يلغي قتل الحسين كل ما قامت به الدولة من فتوح

ص: 7

ودفاع ومن تأسيس للحضارة العربية الإسلامية تسعين سنة؟ وقد تنازل معاوية الثاني عن الخلافة، وكان في الناس جماهير من الصحابة وكان التابعون وكان المسلمون ما يزالون تحت وهج النبوة، فلماذا لم يجمعوا على واحد من آل البيت لو كانوا يريدون؟

ألا يعتقد صاحبي أن الأمر يحتاج إلى مناقشة وتحليل وعرض لآرائه .لا أدر لماذا أغفل الكاتب موقف العباسيين من آل البيت؟

ليس يعني ذلك أيضا التسوية بين الحسين وآل البيت الشهداء من بعده ، ولا المفاضلة بين العباسيين والأمويين ، ولكن ميزان الحق واحد.

وتتحدث كتب التاريخ في قصة الحسين وليس فيها كتاب لا يبكيه أو لا ينحي بالأئمة على الجريمة التي يمثلها قتله . ولكن في القصة جانبا ملأته العصور بالمبالغات و بالقصص الشعبي و بالأحقاد السياسية والأساطير . وقد غشى السورة ما يغشي . وقد آن لهذه القصة بعد طول الأمر أن تعود إلى حجمها الطبيعي في التاريخ، ولكني لم أجد في الكتاب هذه المحاولة ، إن لم أجد بالعكس نوعا من التصعيد والتكريس لها. ألا تستحق وحدة الإسلام والمسلمین مثل هذه المحاولة؟

ليس يعني هذا أيضا وأيضا أني أنكر فظاعة الجريمة و بشاعتها أو أني نقص من شأنها، ولكن قصة انقضت منذ ألف وثلاثمائة وخمسين سنة ، ألا تستحق من المسلم المؤمن أن يفكر في جدوى إثارتها على الدوام والإلحاح في هذه الإثارة؟

خاصة وأن الشهيد خرج من أجل وحدة المسلمين .

فقد كان لثورة الحسين أثار في المجتمع ، ولا زال استشهاده يعيش بینا رمزا للفداء والتضحية ، رمزا للوحدة . وكان هذا هدف الشهيد. إلا أن

ص: 8

كثيرا من الأحداث التي ظهرت في العصر الأموي لم تكن لها علاقة بقضية الشهيد وهل كان الخوارج نتيجة لهذا الحدث؟

و بعد فقد ادخرت إلى النهاية مأثر للكتاب تكفي كي نغفر له الكثير :

أولاها أنه قدم لنا مشعلا من مشاعل المثالية والجهاد والدفاع عن الحق وفداء الذات من أجله . وكم نحتاج إلى هذا المشعل الهادي في زماننا هذا.

الثانية أنه بذل الجهد في التوثيق والجمع فالكتاب متكامل ووراءه قافلة طويلة من الكتب والمراجع قضى المؤلف الليالي الطوال في مراجعتها وأخذ ما يخدم مثاليته منها، وإنه لمثالي من رأسه إلى أخمص قدميه ....

الثالثة إنه حاول أن يكون حر الرأي وأن يقول ما يعتقد، ومن آیات رأيه الحر أنه ترك لي هذه المقدمة أكتب فيها من النقد ما شئت واشترط علي ذلك .

الرابعة إنه اجتهد. واجتهد قدر الطاقة والعلم والجهد، وحسب المرء أن يجتهد فإن له أجرأ إن أخطأ وأجرين إن أصاب . ولست أشك في أن صديقي صاحب الكتاب قد نال على الأقل الأجر إن لم ينل الإثنين . وسوف ينال في كل الأحوال من الكثيرين أفضل الثناء.

د. شاکر مصطفی

ص: 9

مقدمة المؤلف

من الملاحظ أن المؤلفين والكتاب والباحثين الذين تناولوا في كتاباتهم « الحسين بن علي» أنهم اهتموا أكثر في سرد سيرته ، فتناولوا فترة حياته منذ صغره مع جده (صلی الله علیه واله وسلم) وأمه الزهراء (علیه السلام) وتوقفوا قليلا عند شبابه ، ثم انتقلوا سريعا إلى حركته البطولية والفدائية الرائعة، وموقفه الجهادي تجاه الظلم والباطل فأسهبوا في البحث والكتابة عن معركة «الطف» التي دارت بين الحسين من جهة وعبيد الله بن زیاد من جهة أخرى، وأكثروا في الشرح والوصف والتفصيل لتلك المعركة بإبراز صور البطولات والحركات الفدائية الأهل بيت النبي (صلی الله علیه واله وسلم) المصاحبين للحسين (علیه السلام) وأصحابه ، والاهتمام أيضا بتوضيح وتصوير المناظر الحزينة الباكية لتلك المعركة .

وبذا فإن هؤلاء عند تناولهم للأسباب والنتائج التي ترتبت على نهضة الحسين لم تكن في مستوى تناولهم للأحداث الحربية والمواقف العنيفة ، إذ تناولوا أسبابها ونتائجها بإيجاز واختصار، ولم يقوموا بتفسيرها تفسيرا واضحا ووافيا كما لم يبحثوا نتائجها إلا بصورة مبسطة لم تتعد في آثارها السنين القليلة لاستشهاد الإمام (علیه السلام).

ومن جانب آخر، فإننا منذ كنا صغارا وشبانا و إلى وقتنا هذا، نحرص على ارتياد المجالس الحسينية أيام شهر محرم الحرام، ونتردد عليها بخاصة في الأيام العشرة الأولى من الشهر، لنستمع إلى الوعاظ والمقرئين وهم

ص: 10

يذكرون قصة الإمام (علیه السلام) وصراعه ضد الباطل، ووقوفه وثباته للحق، ثم معركته الكبيرة مع الجبابرة ، في محاولة مكثفة منه وجهد مخلص للقضاء على الباطل والظلم ، وكنا نخرج من هذه المجالس بهذه النتائج فقط، فلم نتعرف على خلفيات هذا الصراع وأسبابه الحقيقية ودوافعه الفعلية ، ونتائجه المؤثرة في الدولة الإسلامية والأمة المسلمة، جيلا بعد جيل، حتى وقتنا الحالي .

كما أن هناك في الحقيقة أسبابا أخرى دفعتني إلى تأليف هذا الكتاب . فقد كنت أقرأ مرة في كتاب للأستاذ «عبد العزيز سيد الأهل» وموضوعه : «الإمام زین العابدین» وقد استهوتني فقرة في مقدمته يذكر فيها المؤلف الأسباب التي دفعته لتأليفه ، بأنه يرغب في الحصول على بركة أهل البيت من كتابه هذا حتى لو كتب شيئا يسيرا عنهم. فرغبت أنا أيضا في الحصول على تلك البركة.

كما أن أحد تلاميذي وهو من المختصين في دراسة السينما والإخراج السينمائي طلب مني أن أكتب له موضوعا عن الإمام الحسين بن علي إذ إنه يرغب في تصوير فيلم سينمائي عنه وعن حركته .

ولهذا أصبحت لدي الرغبة والشوق إلى تناول هذا الموضوع وعلى الأخص من جانب الأسباب والنتائج، لأبين أمرين رئيسيين :

أولا : الأسباب الحقيقية والفعلية للصراع والكفاح البطولي للحسين وأهل بيته وصحبه . أي أسباب خروجه من جذورها. فهل كان السبب طلب أهل العراق منه نجدتهم والوقوف معهم ضد واليهم ؟ أو أن رسله الذين بعثهم إلى العراق هم الذين شجعوه للقيام بحركته؟ أم أن تهدید یزید له والضغط عليه ليبايعه، كان العنصر الجوهري في الجهاد في سبيل الله كي يخلص المسلمين من ظلم الحكام والولاة والقواد في الدولة الإسلامية؟

أم أن هناك أسباب أخرى جوهرية وأساسية أبعد في تأثيرها على نفسية

ص: 11

الحسين، وأقواها في تحريك ضميره الديني للتفكير في النهضة المباركة؟

ثانيا : نتائج الثورة الحسينية ، وقد يتصور الكثير منا أن حركة الحسين انتهت بمقتله في كربلاء ، فحزن عليه الناس أياما وشهورا ، ثم سارت الأمور بطبيعتها ، وقلما يعرف شباب اليوم الآثار والنتائج الضخمة التي ترتبت على حركته وكيف أنها استمرت بعد استشهاده لفترة طويلة حتى أسقطت الدولة الكبرى التي قاومته وقتلته .

فالنتائج كثيرة ومتعددة، منها السياسية والاجتماعية، والاقتصادية والدينية ، فالمجتمع الإسلامي لم يهدأ بعد ثورته ، فقامت ثورات وحركات مناهضة للحكم ، من وقت شهادته مباشرة ، وحتى سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية .

وبذا فإن الكتاب سينتهج في أسلوبه مفصلا الموضوعات التالية :

تتناول الفصول الأولى منه الأسباب المختلفة للثورة. وهي تلك الأسباب والدوافع التي تكمن في تربيته الإسلامية البحتة، والتي شربها من منبع القرآن الكريم، وجده الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وأبيه الخليفة (علیه السلام) فما التأثيرات القوية التي كانت للقرآن والسنة المحمدية وتعاليم علي (علیه السلام) في موقفه؟ ومن خلال كل ذلك نتناول نظام الحكم في الإسلام، و على الأخص حكم الدولة الإسلامية و إمام المسلمين ، كما سنوضح الإمام الجائروموقف المسلمين منه ، حيث إن تلك التعاليم وتفسيرها والتي تعلمها الحسين جيدا وهضمها وعرف أسرارها واحدة واحدة، مكنته من معرفة الوسائل الصحيحة لتطبيقها وتنفيذها في الحياة .

ثم نتناول في الفصول التالية يزيد بن معاوية ، وكيفية وصوله إلى الحكم، وكيف تمت بيعته ، وصدى تلك البيعة ، ثم الأحداث التي جرت في عهده القصير وموقفه منها، وكيفية إخماد الحركات المناوئة لحكمه وحكم

ص: 12

أسرته ، موضحين مواقف رجاله الذين استخدمهم في قيادة دولته ، والأسلوب الذي استخدموه في العمل على استقرار الدولة وثباتها وتمكينها من البقاء .

وفي الفصول قبل الأخيرة نتناول المراحل والخطوات التي مرت بها معركة الحسين وتطوراتها وقد قسمت إلى عشر مراحل وخطوة . منها، موقفه من البيعة ليزيد، ومن المعارضين لموقفه ، والمراسلات التي جرت بينه و بين المعارضين لحكم یزید، واختيار الكوفة محلا للصراع، والطريق وأهميته وأثره في دعوته ، وخطبه في جموع المسلمين ، ومواقف أنصاره و رجاله منه ، ثم استخدام القوة و إعلان الحرب في النهاية ، والمرحلة التالية لما بعد استشهاده .

وفي الفصل الأخير، نتناول نتائج ثورته، وهي تفسير للمرحلة التالية لاستشهاده، وقد مرت هذه المرحلة في ثورات وحركات مناهضة للحكم الأموي استمرت من وقت شهادة الحسين وحتى سقوط الدولة الأموية وقد قسمت هذه الثورات إلى ثلاثة أقسام : 1- ثورات أهل البيت، والصحابة والتابعين وأبنائهم، والعلماء، والرجال الصالحين.

2- ثورات أهل البيت الأموي ورجالاتهم.

3- ثورات الخوارج.

والله أسأل أن يكون قد وفقني في إنجاز هذا العمل المتواضع، الذي أقدمه للشباب المسلم المؤمن اليوم، المتمسك بدينه وعقيدته وقيمه وتراثه ، والذي يحاول البحث عن الحق والخير، ليسير في طريقهما دوما، ويتعرف على الباطل لينبذه ، والشر ليقضي عليه . والله ولي التوفيق .

ص: 13

ص: 1

ص: 2

محتويات الكتاب

تقديم الأستاذ الدكتور شاكر مصطفی ...1

تقديم المؤلف ...5

الدوافع الأساسية والعوامل الفعلية لثورة الحسين بن علي ...9

تمهيد ...9

الفصل الأول: تربية الحسين تربية إسلامية مثالية ...23

أولا : موقف القرآن الكريم : ...25

- موقف المسلم المؤمن من العقيدة الإسلامية ...25

- تربية الحسين القرآنية ...39

- خلاصة . ...45

الفصل الثاني :

ثانيا : فكرة الثورة في الإسلام ومدى شرعيتها ...55

- الحكومة الإسلامية ...55

- كيف يمكن عزل الخليفة أو الإمام - ومتي؟ ...64

- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ...69

- موقف الحسين من السنة النبوية ...76

- خلاصة . ...80

ص: 3

الفصل الثالث : ...

ثالثا : تأثره بالمثل والاتجاهات الفكرية لأبيه ...89

1- أراؤه في الحكومة الإسلامية ...92

2 - صفات الإمام في الإسلام وواجباته تجاه الأمة ...94

3- الإمام الجائر ومصيره ...97

4 - موقف المسلم تجاه الإمام الجائر ...99

الفصل الرابع : فكرة تحويل الخلافة ...107

- فكرة البيعة ليزيد. ...109

- صدى فكرة البيعة ...113

- یزید بن معاوية ...121

- رجاله وأنصاره : ...123

1- عبدالله بن زیاد . ...125

2- عمر بن سعد. ...132

3- شمر بن ذي الجوشن ...136

4 - مسلم بن عقبة المري ...138

الفصل الخامس : خروج الحسين وخطوات سيره إلى كربلاء ...141

أولا : موقفه من البيعة ليزيد. ...145

ثانيا : موقفه من المعارضين لموقفه بالخروج على الحاكم الجائر...149

ثالثا : المراسلات التي جرت بينه و بين الأطراف المعارضة لحكم یزید ...157

رابعا : إرساله السفراء إلى الشعوب وزعمائها المعارضين للنظام الحاكم ...159

خامسا : اختيار الكوفة محلا للصراع ...160

سادسا : الطريق وأهميته في الدعوة ...172

ص: 4

سابعا : خطبه التي ألقاها في جموع المسلمين لتوضيح أهدافه وسياسته ...176

ثامنا : رجاله وأنصاره وموقفهم منه ...179

تاسعا : استخدام القوة و إعلان الحرب والتلاحم العسكري ...190

الفصل السادس : نتائج وآثار الثورة :

مرحلة ما بعد الحسين : ...205

أولا : آثار سياسية ...211

ثانيا : آثارها على البيت الأموي ...213

ثالثا : آثار اجتماعية وأخلاقية وتربوية ...215

رابعا : آثارها على المعاصرين لها، وعلى المفكرين والعلماء من بعد ... 217

خامسا : آثار ومعالم أثرية ...226

سادسا : آثار نفسية ...227

سابعا : آثار انتقامية وثأرية ...228

ثامنا : آثار ثورية : ...230

1- الطائفة الأولى : ثورات أهل البيت والصحابة وأبنائهم ...232

1- ثورات المدينة المنورة : ...232

أ- ثورة زينب بنت الإمام علي ...232

ب - ثورة عبدالله بن حنظلة الأنصاري. ...239

2- ثورة عبدالله بن عفيف الأزدي ...246

3- ثورة مكة المكرمة : عبدالله بن الزبير ...247

4 - ثورة التوابين : سليمان بن صرد الخزاعي ...254

5- المختار بن أبي عبيدة الثقفي ...257

6- ثورة عبد الرحمن بن الأشعث ...267

7- ثورة زين بن علي ...276

ص: 5

8- ثورة يحيى بن زید ...281

9 - ثورة عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب ...284

10- ثورة أبو مسلم الخراساني وقيام الدولة العباسية ...285

2 - الطائفة الثانية : ثورات البيت الأموي و رجالاتهم ...290

1- معاوية الثاني ...290

2 - الضحاك بن قيس الفهري ...290

3- النعمان بن بشير ...291

4 - زفر بن الحارث الكلابي ...291

5- عمرو بن سعيدالأشرق ...291

6 - سالم بن زیاد . ...292

7- يزيد بن المهلب بن أبي الصفرة ...293

9-8 الإضطرابات والحروب في عهد نصر بن سيار ...293

10 - عبد الرحمن بن أبي عبيدة بن عقبة ...293

11 - مروان بن محمد ...294

12 - أهل حمص ...295

13 - یزید بن خالد القسري ...295

14 - سليمان بن هشام بن عبد الملك. ...295

15 - محمد بن خالد بن عبدالله القسري ...295

3- الطائفة الثالثة : ثورات الخوارج : ...297

1- مرداس أبو بلال. ...298

2 - نجدة بن عامر الحنفي. ...299

3- نافع بن الأزرق ...299

4 - عبدالله بن الماجوز. ...300

5 - قطري بن الفجارة ...300

ص: 6

6 - عمير بن الحباب السلمي ...300

7 - أبو فديك . ...301

8 - عبدالله بن الجارود. ...301

9- رباح ...302

10 - صالح بن مسرح التميمي ...302

11- شبيب بن يزيد الشيباني . ...302

12 - مطرف بن المغيرة بن شعبة ...303

13 - شریح بن هانیء ...304

14 - شوذب ...304

15 - میسرة السقاء ...305

16 - عكاشة بن أيوب الغزاري ...305

17 - بهلول بن بشر. ...306

18 - أبو حمزة الخارجي ...307

19 - عبدالله بن يحيى (طالب الحق) ...307

20 - الضحاك بن قيس الشيباني ...307

21- شيبان بن سلمة الحزوري ...308

22 - الحارث بن سريج ...308

23 - جديع بن علي الأزدي الكرماني ...310

الفصل السابع :

الخاتمة ...311

المراجع والمصادر ...313

ص: 7

ص: 8

الدوافع الأساسية والعوامل الفعلية الثورة «الحسين بن علي»

تمهيد :

يردد كثير من الكتاب والمؤلفين والمحدثين ، الأقدمين منهم والمعاصرين كما يتكرر على ألسنة الناس بأن خروج الحسين إلى العراق كان سببه الرئيس أو البارز هو طلب أهل العراق و بخاصة أهل الكوفة منه بالإسراع إليهم ليخلصهم من ظلم ولاة الأمويين وعسفهم وجورهم ، في ظل خليفتهم يزيد بن معاوية .

فالتاريخ يذكر أن أهل الكوفة ممثلين بزعمائهم من الأشراف والصحابة والتابعين ، قد بعثوا برسائل كثيرة و برسل عديدين ، في محاولات مكثفة لحث الحسين على الخروج والتوجه إليهم ليكون بينهم كي يقود ثورتهم الشعبية ضد الظلم والظالمين ، فيمسك هو بزمام الحكم بعد التخلص من دولة التسلط، مؤكدين له موقفهم هذا، اعتقادا منهم أنه هو خليفة المسلمين بعد وفاة أخيه الحسن (علیه السلام) کوریث شرعي له بالخلافة والإمامة .

ولكنا نسأل ، هل كان فعلا، طلب أهل الكوفة وعلو صراخهم له بالإسراع لنجدتهم، سببا في خروج الحسين إلى العراق ودافعا إلى ثورته ضد الدولة الأموية؟

وهل كانت رسائلهم إليه دافعا قويا لنهضته الجبارة ضد التسلط

ص: 9

الأموي؟ وهل كان رسله الذين بعثهم إلى الكوفة لاستكشاف الأحوال فيها، عامة من العوامل القوية في القيام بحركته الدينية في الدولة الإسلامية ؟

أم كان تهدید یزید بن معاوية له والضغط عليه بعنف ليبايعه ، عنصرا أساسيا في تفكيره جعله يضحي بحياته وحياة أهل بيته وأصحابه كي يتخلص من يزيد ويقضي عليه حتى يسيطر هو فيحكم المسلمين؟

إننا حينما نقرأ التاريخ ونتمعن في أحداثه، ونتتبع سير الحوادث ، ونطلع على الأحاديث والروايات التي سردها المؤرخون، ونقلها أصحاب الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وغيرهم من التابعين، والمنصفين من المؤمنين ، يتضح لنا أن الأسباب والدوافع الحقيقية التي دعت الحسين وجعلته يثور وينهض بحركته ، ويضحي بنفسه وأهله وأصحابه ، لم تكن هي النقاط التي سردناها في سياق الأسئلة السابقة .

فهو لم يثر لتهدید یزید له بالقتل، لأنه لن يكن من الذين يخشون الموت ، لا على نفسه ولا على أولاده ، حيث إن المؤمن الذي وهب نفسه الله لا يخاف الموت، ويتضح هذا من مبدئه الذي اعتنقه : «هل هو إلا الموت فمرحبا به » شعاره الذي يستهين في سبيله بكل عزیز .

كما يتضح من رده على «الحر بن یزید» حين هدده بالموت : أبالموت تخوفني؟

ولم يقم بحركته بسبب الرسائل التي بعثها أهل الكوفة إليه يشجعونه على زعامة ثورتهم ضد الدولة الأموية ، إذ كان قد قرر ذلك قبل الكوفيين وزعمائهم بمدة طويلة ، وقبل أن يعلموا بتولي يزيد الحكم ، عندما ظهرت فكرة توليته أيام معاوية ، العاهل الأول للدولة الأموية ، فأصبح الحسين المعارض الأول لبيعته، وتجمع الناس حوله مما جعل «مروان بن الحكم» الوالي بالمدينة يحذر معاوية من خطره .

ص: 10

هذا ما كان عليه الحسين من رأي تجاه البيعة منذ أيام معاوية ، وأيضا حينما طلب منه الوالي «الوليد بن عتبة» في المدينة ، البيعة فرفضها بقوله : « ومثلي لا يبايع مثله ».

كما أنه لم ينهض بسبب آراء ومقترحات رسله وسفرائه الذين بعثهم إلى الكوفة ليستكشفوا الأحوال فيها ويخبروه بأمر أهلها، فيما إذا كانوا جادين في ثورتهم .

وتبرز هذه الحقيقة حينما نلاحظ أنه اتجه إلى الكوفة مع أهله وأصحابه دون أن ينتظر أجوبة هؤلاء، أو ينتظر منهم توضيحا لموقف أهل الكوفة منه ، فقد سار إليها وكان يستعلم عن الأحداث فيها . فعرف مثلا بمقتل جماعة من أهله وأصحابه الذين بعثهم إلى هناك وهو في الطريق ، ولم يكن في المدينة .

فالحسين وهو خارج إلى العراق كان مصمما على أمر، وكان هذا الأمر هاما وعظيما ، سيهز الشعوب و يحركها من ناحية، ويحدد البداية لنهاية أمور يرفضها الإسلام وأصوله من ناحية أخرى.

فلننظر إذن إلى الأسباب والعوامل الحقيقية التي دعت الحسين إلى القيام بحركته المباركة ، ونهضته الجليلة ، ضد الدولة الأموية عموما، ويزيد على وجه الخصوص .

يذكر التاريخ أن الصلح الذي تم بين الحسن بن علي (علیه السلام) ومعاوية كان من بنوده ، أن يكون الأمر للحسن بعد معاوية ، فإن حدث شيء للحسن فلأخيه الحسين ، وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد، أو أن يكون شوری بين الناس وأن يصل لكل ذي حق حقه (1).

ولكن معاوية لم يحترم ميثاق الصلح ولا بنود المعاهدة تلك ، فكما هو

ص: 11


1- إبراهيم بيضون: شخصيات شيعية ص 56، محمد جواد مغنيه : من هنا وهناك ، ص 104.

معلوم عمل على موت الحسن (علیه السلام) بالسم، ثم نشط في البحث عن وسيلة يتمكن بها أن يعهد بأمر الحكم من بعده إلى ابنه يزيد.

عندئذ بدأ تحرك الحسين عمليا لإجهاض هذه الفكرة، وحاول في كتاباته إلى معاوية أن يبعده عنها، ولكنه كرجل من سلالة الأنبياء يرث صفاتهم، حيث يكره الغدر والنقض والغش، لم يرد عليه بمناوئته ، حفاظا على عهد أخيه، واحتراما لميثاق صلحه الذي أبرمه مع معاوية ، فلم يبدأ تحركه الفعلي إلا حينما ظهرت فكرة التولية ليزيد، ولم يقم بعمل إيجابي إلا عندما تولى يزيد الحكم وجلس على مقعد الخلافة . فلم يحب الحسین (علیه السلام) أن- يأخذ الرجل بالظنة ولا بالتفكير أو النية ، بل أراد أن يكون تصرفه تجاه الأمر فعلا لا قولا عند حدوثه. فعندما جلس يزيد في الحكم ، بدأت معارضة الحسين (علیه السلام) وحينما أمر يزيد الناس جميعا بالبيعة له ، فبايع من بايع ورفض من رفض، وحينما طلب من الصحابة وأولادهم أن يبايعوه، كان للحسين موقف آخر، إذ حينئذ يكون الأمر قد حدث، فيكون الرد والفعل الواضح، دون لف أو دوران، ودون خشية أو خوف .

رأى الحسين (علیه السلام) كما رأت جماعة الناس، أن يزيدا هذا لا يمتلك ذرة من الصلاحية التي تؤهله لأن يجلس من الأمة المسلمة حيث كان يجلس من قبل : «أبو بكر وعمر وعثمان وعلي»، فلقد كانت خلافة واحد من طرازه أدهی کارثة تنزل بالدولة والأمة، لا سيما وهو يستخلف في عصر لا تفصله عن عصر النبوة والوحي سوى سنوات معدودة، وفي جيل لا يزال يحيا فيه رجال شامخون أبرار من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) : «الحسين بن علي، عبدالله بن عباس، أبي الدرداء، عبدالله بن عمر، عبدالله بن الزبير، عبد الرحمن بن أبي بكر، قیس بن سعد بن عبادة » (1).

ص: 12


1- خالد محمد خالد: أبناء الرسول في كربلاء، ص 32.

فيزيد لم يكن مؤهلا لتولي الخلافة ، أو ليخلف الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) في ذلك المنصب الخطير، وفي رئاسة الدولة الإسلامية، سواء من ناحية ، صفاتنه الخلقية أو خبراته السياسية (1) فقد دب الرعب والفزع والخوف في نفوس أهل المدينة خاصة، وأهل الأمصار الأخرى عامة ، عند سماعهم بتولية يزيد الخلافة برغم أهلها ورغم الناس .

واشترك الناس جميعا في النقمة على يزيد، لأنه متهاون مسترسل، وسيظل متهاونا مسترسلا لا يرجى منه خير ولا يؤمل فيه صلاح.

وفي الحقيقة أن أهل المدينة مساکین، فسيكون لهم شأن وأي شأن ، مع یزید بن معاوية ، كما كان لهم شأن مع أبيه من قبل، ولكن يزيدا سيزيد تلك الشؤون هذه المرة، ليدمجها مع أهل مكة ، المدينة المقدسة الأولى - التي كرمها الله وعظمها، وفضلها على سائر الأمكنة في بقاع الأرض.

وما من شك أن يزيد بن معاوية قدر أن الخلافة لن تصفو له وفي الناس هذا الحسين الإمام، يفرض سلطانه على كل القلوب وكل الضمائر، ويغز و المجتمع الإسلامي بجاذبيته الأسرة، وشخصيته التي يحف بها سنا من نور النبوة وجلال الإيمان ، ومهابة الحق ، و وقار السمة ، ونبل الطباع، واكتمال الرجولة والإنسانية ، فما تستطيع قوة في الأرض أن تصده عن النضال في سبيل الحق ، وما يستطيع أي إنسان أن يغريه بإيثار السلامة والعافية (2).

فالحسين أحس بالمسؤولية تناديه وتطلبه لإيقاف المنكرات عند حدها ولا سيما أن الذي يضع هذه المنكرات ويشجع عليها هو الجالس في مقعد رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) (3) . فكان عليه أن يقوم بواجبه ، وهو الذي نذر حياته كلها

ص: 13


1- علي حسني الخربوطلي: 10 ثورات في الإسلام، ص 70.
2- بنت الشاطیء : سكينة بنت الحسین، ص 43.
3- باقر القرشي : حياة الحسين ، ج 2/ ص 272

للجهاد والمجاهدة مع النفس ومع الباطل أينما كان ، وعلى الخصوص حينما رأى أن المجتمع الإسلامي آنذاك يتطلب القيام بعمل انتحاري فاجع يلهب الروح النضالية في هذا المجتمع، ويتضمن أسمى مراتب التضحية ونكران الذات في سبيل المبدأ، لكي يكون منارا لجميع الثائرين حين تلوح لهم وعورة الطريق ، وتضمحل عندهم احتمالات الفوز، وترجح عندهم أمارات الفشل والخذلان.

فكانت ثورته ضد أرستقراطية البيت الأموي، وضد تحويل الخلافة من الشورى والانتخاب والديمقراطية ، إلى نظام ملكي وراثي يشبه النظام القيصري الروماني. و كانت أيضأ ضد استئثار الأمويين بالخلافة دون سائر الصحابة ، فأصبح قائدا و زعيما لحزب أهل المدينة ، الذي تألف من أبناء كبار الصحابة وأبرزهم - فضلا عن الذين ذكرناهم -: «عبدالله بن جعفر الطيار ، وأبان بن عثمان»- الذين أجمعوا رأيهم على المعارضة لبيعة يزيد بكل قوة (1) .

فكان في إقدام الحسين بن علي (علیه السلام) على بيعة يزيد، انحراف عن أصل من أصول الدين، من حيث إن السياسة الدينية للمسلمين لا ترى في ولاية العهد وراثة الملك إلا بدعة هرقلية دخيلة على الإسلام، ومن حيث اختیار شخص يزيد مع ما عرف من سوء السيرة ليتولى منصب الخلافة أكبر وزر يحل بالنظام السياسي للإسلام.

فلم يكن من رأيه أن يؤخذ الحكم بالقوة والعنف والتهديد والابتزار فالحكم الإسلامي أسلوبه معروف ، ووسيلة الحكم في الوصول إلى منصب الخلافة معروفه أيضا لدى المسلمين. ولذلك كره أن يتعرض للتهدید والقوة ، وإجباره التنازل عن المبادىء الإسلامية في سبيل وصول فرد غیر

ص: 14


1- علي حسني الخربوطلي : المرجع السابق ص 73.

مؤهل إطلاقا أن يكون رئيسا على المسلمين و وصية لتنفيذ الأحكام والمبادىء الإسلامية .

فلم يقبل بالأسلوب الذي تعامل به يزيد، والذي تعاطاه أبوه من قبل مثلما كتب يزيد إلى عامله بالمدينة ، الوليد بن عتبة :

« أما بعد، فخذ حسينا وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمر بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتی یبایعوا » (1).

وهو وإن لم يستعمل هذا الأسلوب من التهديد أو العنف إلا إقرارا منه بضعفه وعدم أحقيته في أن يكون حاكما للمسلمين ، كان يدرك تماما أيضا، أن في بيعة الحسين وأبناء الصحابة ، بيعة العراق و بيعة الحجاز.

فتعتبر نهضة الحسين إذن حفظ للخلافة وصيانة لها، لأن الخلافة الإسلامية ليست مجرد سلطة زمنية على الأمة ، بل هي نيابة عن الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وامتداد ذاتي الحكومته المشرقة . فثار الحسين وخرج وهو يحسب أن الناس ما زالوا يطلبون العدل الاجتماعي، وأنه من الطبيعي أن ترفض الكرامة البشرية أن يفرض عليها حاكم عربيد في مجتمع يعتبر العربدة معصية تستوجب عقاب الله والمجتمع . وطبيعته ترفض ما يحدث ، ترفضه لحد الأزمة، فإن السيف والإرهاب يطالبانه بالبيعة (2).

وهناك من المؤرخين من يذكر أسباب أخرى لحركة الحسين ووقوفه أمام حکم یزید. فيرجع أسبابها إلى الماضي البعيد، إلى الخلاف الذي كان قائما بين العاثلتين الهاشمية والأموية ، فيذكرون بأنه قبل أن يقف الحسين ويزيد، كانت الحوادث قد جمعت لهما أسباب التنافس والخصومة منذ

ص: 15


1- الطبري ج 6 ص 188.
2- بنت الشاطیء : المرجع السابق / ص 18.

أجيال . فقد تنافس «هاشم وأمية» على الزعامة قبل أن يولد علي ومعاوية ، وأسلم أبو سفيان عند فتح مكة ، وكان إسلامه أعسر إسلام عرف بعد فتحها (1) .

ولكنا نرى أن موقف الحسين ضد یزید بسبب خلاف عائلي وعداء تقليدي بين البيتين الهاشمي والأموي، أمر من الصعب تقبله ، كما أنه من الصعب أيضأ ربط الإسلام العسر لأبي سفيان بموقف الحسين (علیه السلام) تجاه یزید.

صحيح إن العداء كان قد استحكم في نفسية «أبي سفيان» وطغى وتكبر في قبوله الإسلام والشهادة لمحمد (صلی الله علیه واله وسلم) بأنه رسول الله ، وصحيح أنه لم يقبل بهذه الدعوة إلا مرغما وخوفا، إلا أن السبب هذا لم يكن متحكما في نفسية الإمام «علي» (علیه السلام) والحسين تجاه معاوية ويزيد. فقد كان العداء من طرف واحد فقط، إذ إن الإمام علي (علیه السلام) لم يقم بثورة ضد معاوية ، ولم يطالبه بشيء هو أحق منه فيه ، فقد كان معاوية واليا مثله مثل أي وآل في الأمصار الإسلامية ، وطلب علي (علیه السلام) من الولاة جميعا تقديم استقالاتهم و التوجه إليه في العاصمة، وكان معاوية أحدهم، واستقال الجميع ما عداه ، رفض حكم الخليفة الشرعي، المنتخب شعبيا ، والمبايع من جميع الأطراف والأمصار.

فالإمام علي، لم يعاديه، ولم يظهر له عداوة شخصية ، ولكن هذه الصفات صدرت من معاوية تجاه الإمام علي (علیه السلام).

وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى موقف الحسين (علیه السلام) فلم تكن حركته قضية شخصية تتعلق بحق له في الخلافة، ولم ترجع إلى عداوة شخصية

ص: 16


1- عباس العقاد : أبو الشهداء الحسين بن علي / ص 20

يضمرها ليزيد، بل على العكس من ذلك تماما، فقد بدأت العداوة والبغضاء والحقد من جانب یزید.

فهو الذي تسلط على الناس بالقوة وحكمهم بالعنف، وتسلم زمام أمور المسلمين بأساليب ملتوية ، سواء من جانب أبيه الذي أخذ البيعة له قسرا، مستخدما في ذلك أسلوب الدسائس والمؤامرات، أو من جانبه هو، الذي بعث إلى أبناء الصحابة وغيرهم يجبرهم على البيعة، ويهددهم بالقتل والتشريد إن امتنعوا عنها.

فالحسين عندما طلب منه في بداية الأمر والي يزيد على المدينة ، أن - يبايع بالخلافة له قسرا و بالإكراه ، رفض هذا الأسلوب، وآثر عدم الاحتكاك في مدينة رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) فتوجه إلى مكة ، عسى أن يبتعد عن سفك الدماء وجلب التوتر والفوضى في هذه المدينة المقدسة . ولكن يزيدا ورجاله لم يقبلوا أن يفلت منهم، فتتبعوه إلى مكة ،ليس لأخذ البيعة منه قسرا، هذه المرة، ولكن لاغتياله بأسلوب رجال العصابات والمنظمات الإرهابية التي نسمع عنها هذه الأيام.

فبعد هذا العدوان السافر، والنية المبينة ، والقصد المتعمد، مع سبق الإصرار على ارتكاب جرائم القتل وسفك الدماء، تتأكد نية العداء الأموي تجاه البيت الهاشمي ويوضح الحسين موقفه من مخاصمة يزيد بقوله : «أنا وهم الخصمان اللذان اختصما في ربهم».

ونحن عندما نتذكر الأسباب التي سقناها من قبل، وما سنذكره من بعد نجد أن هذه العلة بعيدة على الأقل من جانب الحسین .

فلو كانت هناك عداوة متأصلة في نفس الحسين دافعة إلى فعله وعمله ،لكان من الأجدر أن يحارب معاوية من قبل، ويقف أمامه حتى يسقطه من الحكم الذي تولاه بالقوة والإرهاب بمحاربة أبيه وأخيه. ولكنه كما ذكرنا،

ص: 17

سکت عنه عسى أن يحترم تعهداته ، فحينما حدث العكس، وظهرت خيانته ، ونقض الاتفاقية رأى الحسين أن الواجب يحتم عليه أن يقوم بتعليم المسلمين أمورهم الدينية ، حتى لا تتقلص المبادىء الإسلامية والأفكار السامية ، ولا تزول أكثر هذه المبادىء والأحكام قوة وعظمة .

فعندما صمت المسلمون تجاه الباطل الذي أنكره بعضهم بلسانه وأنكره الجميع بقلوبهم ، كان يعني ذلك أن الإسلام قد كف عن إنجاب الرجال ، وأن المسلمين فقدوا أهلية الانتماء لهذا الدين العظيم ، وأن مصير الإسلام والمسلمين أصبح معلقا بالقوة الباطشة «فمن غلب ركب»، ولم يعد للقرآن ولا للحقيقة سلطان (1).

فلم تكن قضية طموح تدفعه إلى المغامرة التي يستوي فيها احتمال الربح والخسران، بل القضية أجل وأسمى وأعظم، حيث إنها، قضية الإسلام ومصيره والمسلمون ومصيرهم.

إن مسألة العقيدة الدينية في نفس الحسين لم تكن مسألة مزاج أو مساومة ، فقد كان رجلا يؤمن أقوى الإيمان بأحكام الإسلام، ويعتقد أشد الاعتقاد بأن تعطيل حدود الدين هو أكبر بلاء يحيق به وبأهله و بالأمة العربية الإسلامية قاطبة في حاضرها ومستقبلها، لأنه مسلم، ولأنه سبط محمد (صلی الله علیه واله وسلم)، فالإسلام عند الحسين هداية نفس وشرف بیت (2).

فإذا كان قد خرج على يزيد، فإنما خرج ليؤكد حق الإسلام في حماية نفسه من الضلال والإفك ، وليكفر في تضحية مجيدة عن خطيئة الصمت التي اقترفها الناس طائعين أو مكرهين ، فمن المسلم به ، وجوب النهوض في وجه

ص: 18


1- خالد محمد خالد: المرجع السابق ص 91
2- العقاد : أبو الشهداء ص 77.

كل باطل، ومناصرة كل حق ، ولإبقاء هيكل الدين، ونشر تعاليمه، وبث أخلاقه .

وتأتي أخيرا، إلى العامل والسبب الذي يردده الكثير ، وهو الكتب والرسائل التي وردته من أهل الكوفة وزعمائهم، يدعونه بالقدوم إليهم ليخلصهم من حكم الجائرين، وينقذهم من الظالمين :

« فإن الناس بانتظارك ، لا رأي لهم في غيرك ، العجل العجل، فقد اخضرت الجنان وأينعت الأثمار» (1).

وكذلك الرسائل التي بعث بها سفراؤه إليه ، كمسلم بن عقیل، الذي أخبره أن يعجل بالقدوم إلى الكوفة حيث أصبح الأنصار مائة ألف مقاتل . فقد تزامن وصول الكتب والرسل ، مع تفكير الحسين واستعداده للخروج من مكة والاتجاه إلى الكوفة لمناصرة أهلها، ولإبعاد الأفكار والمبادىء الجديدة ، التي في إمكانها أن تقضي على المبادىء الإسلامية بشوائبها الحديثة ، وتبعد المسلمين عن أمور دينهم الحقيقية الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على جده الرسول (صلی الله علیه واله وسلم).

أود القول، بأنه إذا كانت لهذه الرسائل والكتب أهمية للحسين ، واعتبارها سببا أو دافعا لاتجاهه إلى العراق ، والكوفة خاصة، فإنها عندي ، ليست إلا وسيلة واحدة من بين عدة وسائل كان ينوي من ورائها تنفيذ ما أمره الله تعالى به، وما كان قدره الله تعالی له ، من قيامه بأعظم التضحيات وأخلدها في تاريخ البشر. وخاصة أن الأحاديث والأقوال التي جاءت على لسان النبي (صلی الله علیه واله وسلم) والإمام (علي) والحسين نفسه ، تؤكد هذا المعنى . إذ كان

ص: 19


1- عبد الكريم القزويني: الوثائق الرسمية لثورة الحسين ص 40/ الطبري ج 4 ص 234/ فؤاد علي رضا: غصن الرسول ص 117.

لا بد من السير إلى الكوفة وليس إلى جهة أخرى، حيث باءت جميع المحاولات التي أبداها معظم الصحابة وأبنائهم، ومعظم العلماء والرجال البارزين في ذلك الوقت، بالفشل في تغيير خط سير الإمام (علیه السلام) نجو الكوفة، أو بقائه في مكة .

ولهذا وددت أن أفصل بالشرح الكامل موقف الحسين هذا من جوانب أخرى فضلا عما ذكرناه سابقا .

فإذا لم تكن قضيته شخصية ، ولم تكن قضية طموح، ولم تكن قضية عداوة وبغضاء تقليدية ، وإذا كانت قضية أكبر من ذلك ، أي قضية الإسلام والمسلمين ومصيرهم وأن الحسين رجل يؤمن بقوة بأحكام الدين، ويعتقد بشدة أنه لا شيء يمكنه تعطیل حدود الدين ، فإذا حصل هذا التحطيل، كان البلاء والخطر والانحلال قد عم الإسلام والمسلمين وحاق بهم جميعا ، فإنه ينبغي علينا أن نحلل موقفه من هذه الجوانب .فنحن نعلم ، أن الحسين (علیه السلام) هو ابن الإمام علي ، وسط محمد (صلی الله علیه واله وسلم) تربى في حجر النبي (صلی الله علیه واله وسلم) وورث مبادىء الدين الإسلامي وأحكامه منه (صلی الله علیه واله وسلم) ومن أبيه وأخيه وأمه الزهراء (علیه السلام) فإذا كان النبي (صلی الله علیه واله وسلم) قد أورثه جرأته وجوده ، وإذا كان على علمه الشجاعة والعلم، فإننا نرغب أن نوضح ما تعلمه الحسين من القرآن الكريم، من مبادىء وأفكار سامية ضد الظلم والطغيان ، وما تعلمه من جده الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) في الموضوع نفسه ، وما أخذه من أبيه في ذلك أيضا.

فالحسين (علیه السلام) قد تأثر في طفولته بحياة جده النبي (صلی الله علیه واله وسلم) المتواضعة و بكل ما تزخر به من قيم سامية ، وكان يرى فيه المسلمون صورة نبيهم الكريم (صلی الله علیه واله وسلم) و يجدون فيه نفحة عطرة من أثره ، وشعاعا بهيا من سناه ، حتى لقد بلغ من إعجابهم به أنه ذاعت فيهم ذائعة تقول: «إنه متعوذ بتعويذتين

ص: 20

حشوهما زغب جناح جبریل». وفي صباه تعلم من أبيه تعاليمه، ومن غيره من الصحابة والأنصار . وهذه التعاليم هي سبيله لفهم الإسلام على أنه دعوة إلى الحق والعدل والحرية .

وعاش الحسين مدافعا عن هذه الأهداف الكبيرة، ومن أجلها أصبح اسمه في التاريخ: «سيد الشهداء».

كما أنه خلال رحلته في الحياة التي لم تستمر طويلا لم يتخل أبدا عن هذه المثل ، رغم كل صنوف الاضطهاد، فلم يقبل مساومة ولا تنازلا عن شعرة من الحق ، فإما الحق کاملا وإما الموت .

لكل هذا رغبت في تبيان وتوضيح ما تعلمه الحسين من القرآن، وما تعلمه من جده الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وما أخذه من أبيه، وذلك للتعرف على الأسباب الفعلية والأساسية أو جذور وأصول وركائز ثورته ونهضته.

وسيجيب هذا البحث عن الأسئلة الآتية :

ما موقف القرآن الكريم من تلك الأحداث؟ وما موقفه من الحاكم الجائر؟

وما موقفه من الثائر ضده؟ هل القرآن يؤيد سلطان الحاكم أيا كان؟ أو يدعو إلى تنحيته متى ما كان ضروريا؟

ما رأي النبي (صلی الله علیه واله وسلم) في تلك الأحداث؟ وما موقفه تجاه الحكومة الإسلامية؟

ما آراء الإمام علي في تلك الأمور؟ وما موقفه تجاه الحاكم الظالم والمغتصب لحقوق المسلمين؟

ومن خلال الإجابة عن الأسئلة السابقة، نكون قد أعطينا صورة

ص: 21

واضحة وصادقة عن موضوع بحثنا، ونكون قد وفينا حقه وأكملنا حلقاته، فنتعرف على الحاكم في الإسلام، ومن هو الإمام العادل في نظر الفقه الإسلامي، وما موقف التشريع الإسلامي من الحاكم الجائر؟ وهي محاولة متواضعة لتفهم أسباب نهضة الحسين بن علي (علیه السلام) - جذريا ، حتى نستطلع فيما كان خروجه واجبا أولا، أو كان جائزا ثانيا ، و ذلك من النواحي الدينية والاجتماعية والأخلاقية .

ص: 22

الفصل الأول:تربية الحسين ع تربية اسلامية مثالية

اشارة

اولا :

موقف القرآن الكريم :

ونتناول في هذا الفصل الجوانب التالية :

- الإسلام والمسلم.

- موقف المسلم المؤمن من العقيدة الإسلامية .

- موقف المسلم المؤمن من إمامه الحاكم .

- من الحاكم الجائر في القرآن ؟ هل يؤيد القرآن سلطان الحاكم أيأ كان ؟ أي يقبل بالأمر الواقع، أم يدعو ويأمر بالتخلص من الحاكم الجائر وتنحيته عند الضرورة؟

- كيف ومتي ينبغي أن يحدث ذلك؟

- موقف الحسين (علیه السلام) في القرآن الكريم .

ص: 23

ص: 24

أولا : موقف القرآن الكريم

موقف المسلم المؤمن من العقيدة الإسلامية :

يصور الإسلام الوحدة الإنسانية ، حين كان الإنسان موزعا بين قبائل وأمم وطبقات بعضها دون بعض ، وقوميات ضيقة. وكان التفاوت بين هذه الطبقات هائلا كالتفاوت بين الإنسان والحيوان، و بین الحر والعبد، و بين العابد والمعبود، لم تكن هناك فكرة عن الوحدة والمساواة إطلاقا ، فأعلن القرأن ذلك الإعلان الثائر : «یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاکُم مِّن ذَکَرٍ وَأُنثَی وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ» (1) فالإسلام هنا قد أعلن كرامة الإنسان وسموه، وشرف الإنسانية وعلو قدرها « وَلَقَد کَرَمنَا بَنِي آدَم» (2). والإسلام هو التسليم الله في كل شيء، والتسليم الحق هو الطاعة ، وأهم أسس الطاعة: مسالمة الناس ومخالفتهم بخلق حسن وصيانتهم : صيانة الحوار، صيانة العرض، صيانة المال .

والإسلام سلام للقلب وتطهيره من الأرجاس، ومن شر الشيطان ، وتنقية للوجدان من كل الشوائب، واستمساك بالهدى والكمال. فهو إذن

ص: 25


1- سورة الحجرات 13.
2- سورة الإسراء : 70.

سلام للروح، سلام للحياة نفسها، سلام للوجود بسلام الناس . كما أن الإسلام رابطة تربط الناس في المجتمع المسلم، وأساس هذه الرابطة وقوامها العقيدة . فالجميع يلتقون من خلال - لا إله إلا الله - التي يؤمنون بها فيعملون بمقتضاها. ومن إيمانهم ل «لا إله إلا الله» تتجمع قلوبهم ويتوحد اتجاهها فتنشأ بينهم رابطة المحبة والمودة التي يأمر بها الإسلام، وأنه لا شيء في الوجود يجمع القلوب أقوى من العقيدة .

فكل رابطة غيرها من جنس أو لون أو لغة أو مصالح مشتركة أو أماني مشتركة أو تاریخ مشترك، إلى آخر تلك الروابط التي يقيم الناس وجودهم وتجمعهم عليها في الجاهلية ، عرضة لأن تتفتت وتتشتت، ولكن رابطة العقيدة في الله هي الأثبت والأقوى والأدوم، لأنها أعمق في القلوب ، ولأنها لا تطلب شيئا في المقابل (1).

ويرى فريق كبير من العلماء، أن مجرد التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، لا يسمى إيمانا ، وإنما يكون الإيمان بثلاثة أركان : اعتقاد الحق ، والإعراب عنه، ومطابقة العمل له. فالعمل سواء أكان ثمرة الإيمان أو رکنا منه ، فالجميع متفقون على وجوبه، وإلا استوى وجوده وعدمه في المصير والأمال.

فالإيمان عقيدة ترسخ في النفس يصحبها اطمئنان إليها، وحرص عليها وإقرار بها، وعمل بمقتضاها. والمؤمن هو صاحب العقيدة القوية ، الذي يثق فيها ويرتاح إليها، ويعرب عنها، ويحرص على تحقيقها في العمل، وتطبيقها في السلوك ثم لا تزيده المحن والفتن إلا تمسكا بها وإصرارا عليها (2) «يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَيَأمُرُونِ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونِ عَنِ المُنكَرِ وَيَسارِعُونِ فِي الخَيرَاتِ» (3) .

ص: 26


1- محمد قطب : دراسات قرآنية ص 428
2- عبد الرحيم فودة : من معاني القرآن ص25.
3- سورة آل عمران: 114.

فالإيمان الذي نعتبره عقيدة ، هو في الحقيقة سلوك واقعي وإلا فلا قيمة لهذا الإيمان . والسلوك العملي التي هي حقيقة الإسلام وثمرته لا تتم بغير تربية عملية يبذل فيها كل الجهد لكي تؤتي ثمارها المرجوة بتوفيق من الله . كذلك كان يفعل الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) معطيا من نفسه القدوة والأسوة حتى ربي الجيل الأول من المؤمنين صحابته ،فتفتحت قلوب البشر للإسلام حين رأوا سلوكه العملي وأخلاقياته العالية ممثلة في تصرفات هؤلاء القوم وأفكارهم ومشاعرهم، والطريق هي الطريق لا تتغير ولا تتبدل . فإذا تخلى المسلمون عن تعاليم دينهم، فقدوا مكان القيادة الذي أهلهم الله لها، بل فقدوا مقومات وجودهم حتى في حدود ذاتهم، فلا سبيل إلى الحياة الكريمة التي وعد الله المسلمين بها إلا التمسك بهذا الدين الكريم ومبادئه العظيمة، يتفهمونه ويطبقونه ويعيشونه.

«إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنفُسِهُم» (1) .

فالإنسان المؤمن مكلف في الأرض بإقرار منهج الله لتكون كلمة الله هي العليا و يكون النظام الرباني هو القائم بين الناس. ولذا كان لا بد من جهاد لإقرار منهج الله . جهاد يحرم الإنسان حتى من المتاع المباح، ويعرضه الأن يفقد ماله أو راحته أو أمنه أو أهله. بل قد يعرضه للتعذيب والتشريد، وقد يعرضه للموت بوسيلة من وسائل القتل. فماذا يعوض المؤمن عن ذلك كله ، ويغريه بتحمل العذاب في الحياة الدنيا بشتى صنوفه؟ إلا ذلك الإيمان الجازم بأن كل حرمان يتعرض له في الأرض - في سبيل مرضاة الله - جزاؤه النعيم الخالد الذي لا ينفذ، وماذا يمنعه من التقاعس - خوفا من عذاب الأرض ؟ إلا الإيمان الجازم بأن عذاب الله عن هذا التقاعس هو العذاب الأشد الذي يجل عن الاحتمال (2) .

ص: 27


1- سورة الرعد: 1.
2- محمد قطب : مرجع سابق ص 138 .

«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَی مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَیَقْتُلُونَ وَیُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَیْهِ حَقًّا فِی التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِیلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَی بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَیْعِکُمُ الَّذِی بَایَعْتُم بِهِ ۚ وَذَلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ» (1).

فكل عمل يقوم به الإنسان ابتغاء مرضاة الله و بدافع الإخلاص وامتثال أمره وطاعته، هو وسيلة إلى التقرب إلى الله والوصول إلى أعلى مراتب اليقين ودرجات الإيمان ، حتى لو كان هذا العمل جهادا وقتالا وحكما وإدارة وتمتعا بطيبات الأرض وتحقيقا لمطالب النفس . وكل عبادة وخدمة دينية - بالعكس من ذلك تعتبر دنيا إذا تجردت من طلب رضا الله سبحانه والخضوع لأوامره ونواهيه وغشيتها غاشية من الغفلة ونسيان الآخرة، ولو كانت صلاة مكتوبة وهجرة وجهادا ، وذکرا و تسبیحا وقتالا في سبيل الله « إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِين » (2) .

فحياة المؤمن لیست مجموعة وحدات متفرقة مضادة، بل هي وحدة تسيطر عليها روح العبادة والاحتساب ، ويقودها الإيمان بالله والإسلام الأوامره ، وهي تشمل الحياة كلها وميادين الكفاح كلها، وأصناف العمل كلها، إذا تحقق الإخلاص، وصحت النية ، وأريد بها وجه الله ، وكانت على النهج الصحيح الذي جاء به الأنبياء (3) .

ويذكر «محمد قطب» في كتابه : «دراسات قرآنية » متناولا موضوع القضاء والقدر ، فيقول (4) :«إن السلوك الإيماني الصحيح هو التسليم لقدر

ص: 28


1- سورة التوبة : 111.
2- سورة الأنعام 163.
3- السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي : السيرة النبوية ص 402.
4- محمد قطب : ص 83 - 98

الله . ولكن هل هو القعود عن العمل والقعود عن تغيير الواقع السيء لأنه قدر من عند الله لا تنبغي مقاومته؟ والجواب ، لا. فالتغيير يسعى إليه بأمر الله ، وهذا الأمر قائم من ذلك الحين ومستمر إلى أن تقوم الساعة ، لم يطرأ عليه تعديل ولا تبدیل . والله لا يطالب الناس بالتغيير أمدا معينا ثم يبطل بعد ذلك الأمر ليجيء بدلا منه التسليم للواقع السيء والقعود عن تغييره ، ولكن الله يقول : «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللَّهُ عَمَلَکُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ » (1) ويقول أيضا : «وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحزِنُوا وَأنتُم الأعلُونِ إِن کُنتُم مُؤمِنين» (2).

ويقول أيضا جل شأنه : «وَتِلكَ الأيَّامِ نَداوُلِهَا بَينَ النَّاسِ» (3).

إنما التسليم لقدر الله ومعناه، فهمه الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وفهمه منه الصحابة ( رضي الله عنه ) فكانت منهم تلك الأمة الفريدة التي وصفها الله بقوله : «كُنتُم خَيرِ أمَّةِ أخرَجتُ لِلنَّاس» (4) والتي صنعت بإيمانها بالله وقدر الله ، ذلك التاريخ الفذ في تاريخ البشرية كله . فهم منه الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) أنه يجاهد ويجاهد ويجاهد. ثم حين لا يؤمن فريق بعد هذا الجهاد كله، فذلك قدر من الله لا حيلة له فيه ولا مسؤولية عليه .

ولكن لا يعني هذا أن يكف عن الجهاد والدعوة إلى الحق، ولكن ليخفف الألم الذي يسببه إعراض المعرضين ، ثم يمضي في طريقه لا يكف لحظة عن الجهاد . فإذا تلقى التعذيب والتشريد، كان قدره أن الله شاء أن يبتليه فيصبر ولا تتحطم روحه تحت الضغط ولا يتخلى عن عقيدته ولا عن التصميم عليها، حتى يغير الله ما بهم بقدر جديد فينصرهم على أعدائهم»

ص: 29


1- التوبة : 105.
2- آل عمران : 139 .
3- آل عمران: 139.
4- آل عمران : 110.

فالمعنى الصحيح للإيمان بقدر الله خيره وشره : هو دفعة هائلة للحركة والجهاد في واقع الأرض، وعندما بدأت الأمة تنحرف عن التصور الصحيح للإسلام وتنحرف عن السلوك الصحيح، فقد وقع ذلك الانحراف في عقيدة القضاء والقدر الذي يحسبه الجهال هو الإسلام.

فرحمة الله تحيط بقلوب المؤمنين المستسلمين الله ، المسلمين قلوبهم له، والمطمئنين في رحابه . وحين يسلم الإنسان نفسه كلها لله ، لا تعود نفسه هي التي تهمه ، إنما يكون دين الله هو الذي يهمه ، وتكون نفسه مستسلمة القدر الله وراضية بما يصيبها في سبيل الله مدركة في ذات الوقتأن هناك حكمة وراء قدر الله سواء عرفها الإنسان لوقتها أم لم يعرفها .

والاستسلام لقدر الله ليس معناه الاستسلام للهزيمة أو للظلم الذي يقع على الإنسان في الأرض من الجبارين . والطغاة، وليس معناه العجز والقعود، أو ما يفهم الناس من اللفظ، السلبية الكاملة تجاه الأحداث، إنما معناه ، الرضى النفسي بما يأتي من عند الله بعدما أدى الإنسان واجبه جهادا وعملا وتوكلا على الله وأخذ بالأسباب ، ثم العودة في ذات الوقت إلى الجهاد والعمل والتوكل على الله ، انتظارا لقدر من الله جديد، ورجاء في قدر من الله جدید. فلا يحطم الظلم روح الإنسان، لأن في حس الإنسان المؤمن أن هذا ابتلاء من الله له، له عليه الثواب الضخم، فلا يقعد عن مجاهدة الظلم ، لأن الله أمره بمجاهدته، ولأنه دائما يطمع في عون الله كلما جاهد في أمر من الأمور. « إِنَّ الَّذِینَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَیْهِمُ الْمَلَائِکَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِی کُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِیَاؤُکُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَفِی الْآخِرَةِ ۖ وَلَکُمْ فِیهَا مَا تَشْتَهِی أَنفُسُکُمْ» (1)

ولكي يتمكن الإنسان المؤمن ، من تطبيق المبادىء والأوامر الإلهية

ص: 30


1- سورة فصلت : 30 - 32.

والدعوة إليها، كان لا بد من الحرية . حيث دعا الإسلام إلى حرية الرأي ، وأعلن إطلاق هذه الحرية دون تقييد بوسيلة هذا الإعلان : «وَلْتَکُن مِّنکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنکَرِ ۚ وَأُولَئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (1) .

أولئك هم أصحاب فلاح، لأنهم حققوا لأنفسهم مستوى ارتفعوا به فوق الشبهات فتزکت نفوسهم ونمت إنسانيتهم ، وليست تزكية النفس ونماء الإنسانية في الإنسان إلا بمقدار ما يستطيعة الإنسان من حرية يمارسها واختيار وإرادة يمكن أن يوجه بها ما يختار ويشاء. فالآية توجب على الإنسان أن يجاهر إلى الخير ويجهر بالنهي عن كل شيء وقررت أن من لم يفعل ذلك فهو ليس من المفلحين. وللإنسان المؤمن الحق، إذا استشعر بالظلم أن يجهر بصوته ولو بسيء القول حتى يلفت إليه النظر وإلى مظلمته، ما دامت قد انصرفت عنه ممن كان يجب عليهم الاستماع إلى شکایات الناس : « لَّا یُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَکَانَ اللَّهُ سَمِیعًا عَلِیمًا» (2) .

«الَّذِینَ إِن مَّکَّنَّاهُمْ فِی الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّکَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنکَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور» (3) .

فهداية القرآن تقود الناس إلى أن يكونوا إنسانيين فيما جعله إنسانا وفيما خلقه حيوانأ . والإنسان لا يصلح أن يكون خليفة الله في الأرض، فخلافته على هذه الأرض مقرونة بالصراع بين الخير والشر، بين الحكمة والهوى، بين العقل والغرائز، و بنجاحه في هذا الصراع بأن يكون في جانب الخير إذا

ص: 31


1- سورة آل عمران : 104.
2- النساء : 148.
3- الحج : 41.

تمكن من القدرة على إدراك تمييز الخير من الشر، وقوة الإدراك على اختيار الخير دون الشر، وحدوث العزم والتصميم على تنفيذ الخير دون الشر. وهذه القدرات والاستطاعات لا تتوفر له إلا إذا توفرت له الحرية، ولن تتوفر له الحرية إلا إذا تحرر وتخلص من رق الغرائز والشهوات. ويكفي إذلالا للإنسان وامتهانا لكرامته أن يكون تابعة باستمرار وطیعا لما لا يتخلص منه ، ولما يقوده حتما إلى الهلاك. فأي كرامة للإنسان إذا فقد حريته؟ وأية حرية للإنسان إذا استجاب کرها لشهواته وغرائزه؟ فأية إنسانية إذا فقد حريته وكرامته؟ ما كان للإيمان بالله إلا أن يكون الإنسان إنسانا و يبقى إنسانا . فحين ينظر الإنسان فيرى الخير والشر يصطرعان ، ويشهد معركة الرذيلة والفضيلة ، والشر عارم والرذيلة متبجحة ، وكثيرا ما ينتصر الشر على الخير ، وتعلو الرذيلة على الفضيلة ، وحينما يستيقظ ضميره يعز عليه ألا تكون للخير كرة وألا يلقى الشر جزاءه. وما من دعوة دينية جاء بها نبي، أو خطة إصلاحية هتف بها مصلح، إلا وهبت لمقاومته الأعاصير والرياح، وحيكت من حولها الفتن السود، وتداعت لمناوأتها قوى البغي والطغيان وقوى الشر.

وتتعدد قوى الشر، منها التقليد الجامد البليد، الذي عرفه بعض الناس وألفوه وحمدوا عليه ، فلم يقبلوا فيه تعديلا ولا تبديلا .

ومنها الوضع الاجتماعي الفاسد، الذي ينتفع به الفاسدون المفسدون ويرون فيه وفي الدفاع عنه دفاعا عن مناصبهم ومصالحهم.

ومنها أيضا الشهوات الطامحة الجامحة التي لا تعرف غير حاجتها ولا تستهدف غير متعتها.

ومنها كذلك، الجهل المعتم المظلم الذي ينحدر به العقل ويتحجر به القلب ويموت فيه الضمير .

كما أن منها، العناد الذي يغذيه الغرور والشعور بالكبر، ويتعهده

ص: 32

الشيطان فينفخ في صاحبه روح الشر ويقوده الهوى إلى البغي والعدوان (1).

هذه الآفات والأمراض تتراكم على نفوس بعض الناس حتى تسد عليهم منافذ الإحساس فلا يبصرون بأعينهم نور الحق ، ولا يسمعون بأذانهم صوته ، ولا يفكرون بعقولهم فيه ، فهم كما يقول سبحانه وتعالى عنهم : «وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِی أَکِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَیْهِ وَفِی آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَیْنِنَا وَبَیْنِکَ حِجَابٌ» (2).

وقوى الشر، يكون جل همها، الفساد في الأرض، أي إتلاف ما فيها من نبات أو حيوان أو إنسان أو كلها، وذلك بإشعال نار الحروب وإثارة الفتن وحياكة الدسائس .

« وَإِذَا قِيلَ لَهُم لاَ تَفسِدُوا فِي الأرضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحنُ مُصلِحُونَ، ألاَّ إِنَّهُم هُمُ المُفسِدُونِ وَلَكِنَّ لاَ يَشعُرُون» (3).

فالذين ينقضون ما أبرمه الله من أوامر، وأحكمه من وصايا، والذين يقطعون صلتهم وصلة الناس بالله ، وصلة الناس بعضهم ببعض، فيمشون بالنمائم لإثارة سموم الخصام، وقطع أواصر الأرحام، ويسعون بين الجماعات بعوامل الفرقة والمنازعات حتى تنحل الروابط ويختل النظام وتضعف الأمة، والذين يفسدون في الأرض بالفتن والدسائس يثيرونها بين الأفراد والجماعات، وبالحروب التي يضمرون نارها بين الأمم والشعوب التهلك الحرث وتفتك بالنسل، وتنشر الهلع والفزع حيث يكون الأمن والسلام، هؤلاء هم الذينخسروا الدنيا والآخرة ، لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل، والفساد بالإصلاح، والعقاب بالثواب .

هؤلاء هم الفاسقون الذين يضلهم الله بالشبهات، ثم لا يكون من

ص: 33


1- عبد الرحيم فوده : المرجع السابق ص 42.
2- سورة فصلت: 5.
3- سورة البقرة : 12.

الضلال إلا الخسران الدائم اللازم في الدنيا والآخرة .

« أولَئِكَ الَّذِينَ اشتُرُوا الضَلاَلَةِ بِالهُدَی فَمَا رَبِحَت تِجَارَتَهُم وَمَا كَانُوا مُهتَدِين» (1).

فهم الذين آثروا النفاق والفساد في الأرض والخداع والجري وراء الأطماع .

« اَلَّذِينَ يَنقِضُونَ عَهدِ اللهِ مِن بَعدِ مِیثَاقِهِ وَيَقطِعُونَ مَا أمرِ اللهِ بِهِ أن يُوصِل وَيَفِسُدونَ فِي الأرضِ أولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُون» (2) .

وهنا حينما يتعدى الإنسان حدوده الطبيعية، وينسى القيم الخلقية كليا ، أو يكفر بها صراحة، ويتغافل عن كل غاية نبيلة، ومقصد شریف، وعن كل واقع وحقيقة غير الحقائق المادية ، وتحقيق مآر به الجسدية وإرواء ظمئه الحيواني وتتكون في جسمه معدة خيالية أو صناعية ، ونفس أمارة بالسوء لا يقر لها قرار ولا يضبطها وازع أو رادع،وحينما تصيب الإنسانية نوبة شديدة من الجنون، يبعث الله لها جماعة من الجراحين أو عصابة من السفاحين تقضي عليها وتقطع دابرها وتستأصل شأفتها (3).

لأن هذا الإنسان هو كما يقول الله سبحانه « إِنَّهُ مَن قَتَلَ نَفساً بِغَيرِ نَفسٍ أو فِسَادٍ فِي الأرضِ فَكَأنَّمَا قَتَلَ النَّاسِ جَمِيعاً » (4).

فالبغي الذي هو العدوان وهو من قوى الشر، هو عدوان الإنسان على نفسه أولا يظلمها، وعلى مجتمعه الأصغر بعد ذلك بالتباعد عنه، وعدم الترابط به، والإحساس بشعور من فيه ، ثم على مجتمعه الكبير بعد ذلك ،

ص: 34


1- سورة البقرة : 16.
2- سورة البقرة : 27.
3- السيد أبي الحسن الندوي : مرجع سابق ص 402.
4- سورة المائدة : 32.

بالبغي على الغير، وتشجيع الغير على البغي ليظلم ويعتدي كل قوي أو قادر على ضعيف غير قادر .

والبغي هو العدوان والظلم والتحكم المقيت ، والظلم فاحشة الفواحش ولعنة اللعنات، ومن أبغض ما حرم الله ونهی عنه. وإن أفظعه وأقساه ما كان عدوانا على الحرمات والحقوق. فهو في هذه الحالة لعنة تطارد الإنسان في دنياه ، وتلتصق به في آخرته، فتسود صفحته وتمحوه سيئاته ، وتقربه من عذاب جهنم وبئس المصير .

ولذا، كان لا بد من الوقوف أمام هذه المفسدات، ومنعها من الانتشار والتحكم في الناس ، فقد وجب قطعها وموتها في سبيل المصلحة العامة للمسلمين. فالأخلاق القرآني لا يقبل بهذه الأمور وهذه التصرفات .

ولهذا كان لا بد من العدل، فالعدل هو لب الشريعة للمجتمع الإسلامي وركيزة أحكامه ، والعدل هو الإحساس الكامل بالأمان، والقوة الدفينة الخفية التي تشعر الإنسان بالطمأنينة على نفسه وماله. ومن أجل هذا أوصى الله تعالى بالعدل وأمر به مرة بعد مرة ، لأنه من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية التي أقرت العدل وجعلته أمرا ربانيا ليعطي أكمل صورة عن المجتمع العادل المثالي :(1) « یَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا کُونُوا قَوَامِینَ للهِ شُهَداءٌ بِالقِسطِ وَلاَ يُجرِمَنَّكُم شَنآنِ قَومٍ عَلَى ألاَّ تَعدِلُوا، اَعدِلُوا هُوَ أقرَبُ لِلتَقوَى، وَاتَّقُوا اللهِ » (2) .

والإنسان مطالب بالعدل على شتى صوره، فمجتمع الأمة التي خلقها الله بعد أن يكون مجتمعا يساق ويدفع من خارج أفراده، وأصبح معبرا عن المجتمع الإنساني الذي تسوده خصائص الطبيعة الإنسانية ، ويطلب أن

ص: 35


1- سنية قراعة : الرسالات الكبري ص 368.
2- سورة المائدة : 8.

يكون العدل في المجتمع بين المؤمنين في الحكم والقول، ويتشدد في طلب ذلك بحيث لا يتأثر بمحسوبية ولا هوى ن« لَقَد أرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابِ وَالمِيزَانِ لِيَقُومِ النَّاسِ بِالقِسطِ» (1) .

ويكون الجهاد والقتال والتعرض للموت في سبيل الله هو الأداة التي لا غناء عنها لإقامة الحق والعدل الرباني في الأرض، فلا بد إذن أن تخلص هذه القضية تماما في نفوس المؤمنين حتى لا يحجزهم حاجز عن القتال في سبيل الله . « لَئِن قَتَلَتُم فِي سَبِيلِ اللهِ أو مَتمِ لِمَغفِرَةِ مِنَ اللهِ وَرَحمَةِ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونِ» (2) .

إن الموتى في سبيل الله لم يموتوا أبدا ولا يموتون أبدا ، أحياء عند ربهم، وأحياء في الأرض كذلك ، « وَلاَ تَحسِبَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أموَاتاً بَل أحيَاءِ عِندَ رَبِّهِم یَرزِقُون» (3).

كل الناس يموتون فتذهب ذكراهم بعد فترة تطول أو تقصر بمجرد أن يذهب الجيل الذي كان يعاصرهم من الناس. فهل يذهب ذكر الشهداء من الأرض؟

هل ذهب ذکر حمزة وعلي والحسين؟ وألوف غيرهم من الشهداء؟

هل ذهب ذكر المواقف التي استشهدوا فيها والبطولات التي سجلوها؟ أم أنها باقية للأجيال ، لكل الأجيال ، تتملاها كأنها هي حاضرة اللحظة؟

کلا. لا يموت الشهداء أبدا . ويذهب الطغاة فيموتون. ويتحولون على الأكثر، إلى أسطر باهتة في كتب التاريخ .

ص: 36


1- سورة الحديد : 25
2- سورة آل عمران : 157.
3- سورة آل عمران : 169

ولكن الشهداء الذين قتلهم أولئك الطغاة لا يذهبون، لأنهم لا يموتون ويظلون ذكرى حية في قلوب الأجيال ، لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، ولأنهم قدموا في سبيل الله عملا باقيا لا يموت .

إن الحياة التي هي معقد كل أمل، ومناط كل رجاء، ومرجع كل ما تطمح إليه الهمم، وتتجه نحوه العزائم، زمامها بين من أوجدها وهو الله سبحانه وتعالی.

والموت وهو عدم الحياة ، ومصير الأحياء، وطيف الخوف الذي يعرض للإنسان في كل آن ، فيخشاه و يتوقاه ، هو كذلك بين القاهر والقادر على كل شيء وهو الله سبحانه .

والأحياء بعد الموت للنشور، وبعث الموتى من القبور، حيث يثاب المحسن ويعاقب المسيء، ويقتص للمظلوم من الظالم، وهو كذلك من عمل الله .

فمعنى ذلك أن يراقب الإنسان ربه في كل حال من أحواله، وعمل من أعماله فيؤمن بوجوده معه أينما كان ويعمل ما ينفعه في دنياه وآخرته، « یَوْمَ لَا یَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَی اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِیمٍ» (1).

وما نود تأكيده، أن الجهالة وصلت بالمسلمين إلى أن :

يطيعوا المتسلطين عليهم الذين لا يحكمون بما أنزل الله زعما بأن الله هو الذي أمرهم بذلك : « وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةٌ قَالُوا وَجدُنَا عَلَيهَا أبَاءُنَا وَاللهِ أمرِنَا بِهَا، قُل إِنَّ اللهَ لاَ يَأمُرُ بِالفَحشَاءِ، أتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعلَمُون» (2) .

فالمسلم أو المؤمن لا يمكن أن يطيع أي حاكم مسلط عليه ، ولكنه

ص: 37


1- سورة الشعراء : 89.
2- سورة الأنعام : 28.

يطيع الحاكم المؤمن أو العادل ، حيث إن الحكام أو أولي الأمر منکم «ليسوا أي أناس يحكمون المسلمين ، أو ينصبون أنفسهم ليكونوا حكاما . إنما هم ضرورة ينبغي أن يكونوا من المسلمين ، من الجماعة المسلمة، أي من المؤمنين ، فالخطاب الذي وجهه الله تعالى هو أصلا للذين آمنوا « يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللهِ وَأطِيعُوا الرَّسُولِ وَأولِي الأمرِ مِنكُم» . فحين يتولى أمر المسلمين بالجبر والغصب قوم غير مؤمنين لا يحكمون بما أنزل الله على الناس فإن الله لا يأمر بطاعتهم على الإطلاق ، بل إن سبحانه يأمر بعدم طاعتهم ومحاولة إنهائهم والتخلص منهم. فيكون على الناس السمع والطاعة فيما يجتهد ولي الأمر المسلم الذي يطبق الشريعة (شريعة الله ) بشرط إلا يخالف نصا ولا قاعدة عامة من قواعد التشريع «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقًا وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوَلئِكَ رَفِيقًا » (1).

والجهاد والقتال في الإسلام إنما يكون في سبيل الله ولا شيء غير سبيل الله ، وهذا هو العنوان الدائم له في القرآن والحديث .

«فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً » (2) .

فالإنسان عليه أن يعيش حياته وهو لا يهاب الموت ولا يخشاه ، بل يجد فيه بغيته وما يتمناه ، وبدلا من أن يعيش كما يعيش الناس خائفا فزعا من الموت نجده ينتظره ويترقبه ، إنه يعرف أن فيه السعادة والهناء، فبالموت يتم اللقاء، وهل يخشى الحبيب لقاء حبيبه (3) .

ص: 38


1- سورة النساء : 69- 70.
2- سورة النساء : 74.
3- محمد قطب : مرجع سابق ص 479.

فإذا امتلأت نفس الإنسان بالإيمان بالله . وعمر قلبه بهذا الإيمان و بقوته التي لها وحدها الرعاية وأخذت نفسها الدفاع عن المؤمنين « إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَينَا نَصرِ المُؤمِنِينَ» فلا يهزها سبب من الأسباب التي يخشاها الآخرون، ولا يضعفها في الإقدام وهم من الأوهام التي تأخذ بنفوس غير المؤمنين . ويصف الله سبحانه نتائج إيمان تلك النفوس ويضع في مقدمتها : عدم الخوف من شيء يواجهها، وعدم الحزن على أمر يفوتها، فهي قوية في استقرارها وفي إقدامها وفي بلوغها إلى أهدافها. وما كانت لهذه النفوس المؤمنة هذه القوة، ولهذه النتائج من الظفر، إلا أنها أخلصت لله في إيمانها ، فلم تر في طريق الحياة ما يخيفها، ولم يقع في تصورها من وهم يزعجها أو يقلقها (1). فليس هناك إيمان بالله على سبيل الحقيقة إلا و يستتبع حتما عدم الخوف وعدم القلق « یَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا یُضِیعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِینَ الَّذِینَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِینَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِیمٌ» (2).

« أَلَا إِنَّ أَوْلِیَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلَا هُمْ یَحْزَنُونَ الَّذِینَ آمَنُوا وَکَانُوا یَتَّقُونَ » (3).

تربية الحسين القرآنية :

وهكذا كان الحسين بن علي (علیه السلام)، الرجل المسلم المؤمن الذي لا يستطيع الشيطان أن يسيطر عليه ولا أعوان الشيطان وأولياؤه : «إِنَّهُ لَیْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَی الَّذِینَ آمَنُوا وَعَلَی رَبِّهِمْ یَتَوَکَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَی الَّذِینَ یَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِینَ هُم بِهِ مُشْرِکُونَ» (4).

ص: 39


1- محمد البهي : الدين والحضارة الإنسانية ص 265
2- سورة آل عمران : 171 - 172.
3- سورة يونس : 62.
4- النحل : 99.

وهو كان ينظر إلى الدنيا بمنظار غير الآخرين الذي يقول عنهم الله عز وجل، بأنه : «زَيِّن لِلنَّاسِ حُبُّ الشَهَواتِ مِنَ النِسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرُ المُقنَطَرِة مِنَ الذَهَبِ وَالفِّضَةِ وَالخِيلَ المَسومَةِ وَالأنعَامِ وَالحَرَثِ . ذَلِكَ مِتَاعُ الدُّنيَا، وَاللهُ عِندَهُ حُسنُ المَآبِ» هذا هو سر ابتعاد من يريد متاع الحياة الدنيا عن الإسلام.

والحسين لا يريد أن يبتعد عن الإسلام، بل يسعى إلى التقرب إليه و بشدة لا نهائية ، فهو يتخوف من انهيار المبادىء الإسلامية ، فيتراجع المسلمون ويتأخرون كما حدث ويحدث الآن، يتقدم غيرنا ونتراجع نحن المسلمين .

فالحسين (علیه السلام) عرف القرآن وقرأه جيدا وفهمه. فهو وإن قرأه ليكتب الله على قراءته له الأجر، طالما كان التوجه فيها إلى الله والرغبة فيها إلى الله ، ولكنه عرف أيضا أن الأجر يتفاوت ولا شك على قدر ما في التلاوة من التدبر الذي أمر الله به، وعلى قدر ما يؤدي التدبر إلى الغاية المطلوبة منه ، فليس التدبر غاية في ذاته ، إنما هو وسيلة لأمر عظیم یراد: «فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِینَ یَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَئِکَ الَّذِینَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَئِکَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِیثِ کِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِیَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِینَ یَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَی ذِکْرِ اللَّهِ ۚ ذَلِکَ هُدَی اللَّهِ یَهْدِی بِهِ مَن یَشَاءُ» (1) .

ذلك هو الأمر العظيم الذي يراد: أن يتحول الاستماع إلى القرآن وتلاوته والتأثر الخاشع به إلى «هدی»، إلى سلوك ملتزم بما أنزل في الكتاب ، أي بعبارة أخرى، يتحول إلى منهج حياة .

ص: 40


1- الزمر : 17 - 23 .

والحسين هو المسلم المؤمن بأركان الإيمان : اعتقاد الحق والإعراب عنه ، ومطابقة العمل له. فهو من أصحاب العقائد القوية التي يثقون فيها، ويرتاحون إليها، ويعربون عنها، ويحرصون على تحقيقها في العمل وتطبيقها في السلوك، ولا تزدهم المحن والفتن إلا تمسكا و إصرارا عليها .

فقد تمسك بالدين الكريم ومبادئه العظيمة تأسيا برسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) وتفهمه وطبقه بعد أن عایشه .

وكأي إنسان مؤمن بالله ، ومكلف بإقرار منهج الله، قام بواجبه تجاه هذا المبدأ السامي الكريم، لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون النظام الرباني هو القائم بين الناس. وهو من المسلمين لقدر الله ، ولكن دون القعود عن العمل والقعود عن تغيير الواقع السيء.ولكن فهمه من الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) بأن يجاهد ويجاهد ويجاهد، دون أن يكف عن الجهاد والدعوة إلى الحق ، دون الخوف من التعذيب أو التشريد. فقدر الله أن يبتليه ، فيصبر ولا يتخلى عن عقيدته ولا عن التصميم عليها، حتى يغير الله ما بهم وينصره على أعدائه .

فإذا كانت عقيدة القضاء والقدر، هي السعي الدائم لتنفيذ أوامر الله ثم التسليم بما يقع بالفعل على أنه قدر من الله ، لأن لا يتم في الكون كله إلا ما أراد الله وقدره ، فإن معناه عنده ، ليس الكف عن المضي في الطريق ، بل معناه أن الصدمات لا تحطم قلوب المؤمنين حين يصطدمون بقدر من عند الله لا يجلب لهم الخير الذي يحبون، إنما يجلب لهم الضرر، وإنما يقومون بصدمتهم بذات العزيمة فيمضون في الطريق في انتظار قدر جديد من عند الله.

ولذا، أقر الجهاد لإقرار منهج الله ، ذلك الجهاد الذي يحرم الإنسان حتى من المتاع المباح، ويعرضه لأن يفقد ماله وراحته وأمنه وأهله .فتعرض

ص: 41

للموت وتحمل العذاب في الحياة الدنيا بشتى صنوفه في سبيل مرضاة الله ، بقوة ذلك الإيمان الراسخ بالله .

وهو قد عرف التصور الصحيح للإيمان بقدر الله خيره وشره ، بأنه دفعة للحركة والجهاد في الأرض، حين بدأت الأمة بالانحراف عن التصور الصحيح للإسلام.

وهو الجهاد الذي قصد به وجه الله ، وأراد به إعلاء كلمته ، ورفع راية الحق، ومطاردة الباطل، وبذل النفس ، في سبيل مرضاة الله ، حيث لم يرد به شيئا من حظوظ الدنيا، ولا ليحظى به منصبا ، أو يظفر بمغنم، أو يظهر شجاعة ، أو ينال شهرة . فهو قد سلم نفسه كلها لله ، فلم تعد نفسه هي التي تهمه ، بل إن ما همه هو دين الله فقط. فاستسلمت نفسه لقدر الله راضية بما يصيبها في سبيله . وهو الذي لم يحطم الظلم روحه، لأنه كإنسان مؤمن ، حس أن هذا ابتلاء من الله له، فلم يقعد عن مجاهدة الظلم، لأن الله أمره بمجاهدته.

وهو الذي كان يريد التقرب إلى الله . وكانت وسيلته في الوصول إلى ذلك ، العمل ابتغاء مرضاة الله ، مخلصا وامتثالا لأمره وطاعته. فأجاب دعوة الله تعالى : «وَلتَكُن مِنكُم أمَّةِ يَدعُونَ إِلَى الخَيرِ ....».

فقد أراد أن يكون من المفلحين، وليس من أصحاب الاتجاه المادي في الحياة ، أي أن يكون من الذين تزکت نفوسهم ونمت إنسانيتهم.

فكان حرا واختار الحرية يمارسها، وإرادة يمكن أن يوجه بها ما يختار ويشاء. فقد كره الذل والاحتقار والمهانة، وتجنب أن يكون تابعة إلا لله.

وإذا كان الإسلام قد أعلن كرامة الإنسان وسموه، وإذا أعلن النبي (صلی الله علیه واله وسلم) أن الإنسان أعز وجود في هذا الكون. وأغلى جوهرة في هذا العالم ،

ص: 42

وأن الله رفع مكانة الإنسان حتى صار خليفته ونائبه ، خلق له العالم، فليس من الحق والعدل أن ينهض ملك أو حاکم يكتسح البلاد ويستعبد العباد ، ويضرب الرقاب ، ويهلك الحرث والنسل، ويأتي على الأخضر واليابس لتحقيق مأرب حقير في نفسه ، فإنه لا بد لهؤلاء الأشرار من رادع يردعهم ، ومن جراحين يستأصل شأفتهم ، ومن جهاد في سبيل الله يقومهم .

فالحسين هو أحد الجراحين الذي بعثه الله ليقضي على الفاسقين ويقطع دابرهم، ويستأصل شأفتهم .

فهو الجراح والرادع والمجاهد، لمن؟

لهؤلاء الذين ينقضون ما أبرمه الله من أوامر .

والذين يقطعون صلتهم وصلة الناس بالله ، وصلة الناس بعضهم ببعض .

والذين يثيرون سموم الخصام، ويسعون بين الجماعات بعوامل الفرقة والمنازعات، والذين يفسدون في الأرض بالفتن، والحروب بين الأمم والشعوب .

والذين ينشرون الهلع والفزع حيث الأمن والسلام.

والذين يكفرون بالقيم الخلقية ، والمهتمين بتحقيق المأرب الجسدية والظمأ الحيواني، وذوي النفوس الأمارة بالسوء.

والذين تصيبهم نوبات الجنون، فيبغون على المجتمع، ويشجعون الغير على البغي.

والذين يحثون على الظلم، ويشجعون الظالمين والمعتدين على الضعفاء .

ص: 43

والذين «كَانُوا لاَ يَتَناهُونَ عَن مُنكَرِ فَعَلُوهُ لِبَئسِ مَا كَانُوا يَفعَلُون » (1) .

فالحسين من المؤمنين الذين وقفوا أمام هذه المفسدات، وتصدى لها لمنعها، لأنه قد وجب قطعها وموتها، في سبيل مصلحة عامة المسلمين وغيرهم من البشر .

فهو يبغي أن ينفذ أمر الله ، بإقامة العدل والدعوة إليه بشدة لأن الإنسان مطالب به على شتى صوره.

فجاهد وقاتل وتعرض للموت في سبيل إقامة هذا الحق والعدل الرباني في الأرض ، دون خوف من الموت ، لأن الموتى في سبيل الله لا يموتون، بل هم أحياء عند ربهم، وأحياء في الأرض كذلك ، حيث لا تذهب ذكراهم مطلقا، فلا يموت الشهداء، ولكن يموت الطغاة.

فالحسين هو ذلك المؤمن الذي لا يستطيع أن يطيع الحاكم الجائر المتسلط على رقاب الناس ، ولكنه يطيع الحاكم المؤمن والعادل .

فهو لا يطيع من يتولى أمر المسلمين بالجبر والغصب ، لأنه ليس من المؤمنين ولا يحكم بما أنزل الله . ولكنه يطيع ولي الأمر الذي يطبق الشريعة ، ولا يخالف نصا ولا قاعدة من قواعد التشريع الإلهي .

وهو في سبيل ذلك لا يهاب الموت ولا يخشاه ، بل يرى فيه السعادة والهناء لأنه يؤمن بأن الموت لقاء الحبيب ، فهل يخشى الحبيب لقاء حبيبه؟ وهل هو إلا الموت فمرحبا به . فقد امتلأت نفسه بالإيمان بالله ، و بمصيره، والثقة بنفسه على أن يدافع عن المؤمنين ، فلم يهزه سبب مما يخشاهالأخرون، ولم يضعفه وهم من الأوهام، بل إنه استبشر بنعمة الله ، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول (صلی الله علیه واله وسلم) .

ص: 44


1- سورة المائدة : 78.

خلاصه

ويمكننا إلقاء مزيد من الضوء على موضوعنا بذكر مزيد من الآيات الكريمة تساعد في توضيحه وتفسيره :

أ- إن الإنسان المؤمن يتبع في حكمه وإدارته وقيادته ما أمره الله به :

1- «اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ» (1) .

2 - « وَ أنِ احْکُمْ بَیْنَهُمْ بِما أنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أهْواءَهُمْ» (2) .

3- « وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ » (3) .

4 - « وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا » (4).

5- « وَمَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِکَ هُمُ الْکَافِرُونَ» (5) .

6- « وَمَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِکَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (6) .

7- « وَمَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِکَ هُمُ الفَاسِقُونَ» (7) .

ص: 45


1- الأعراف : 3.
2- المائدة: 49.
3- الذاريات : 19 - الشوری: 38.
4- آل عمران : 103.
5- المائدة : 44، 45، 47.
6- المائدة : 44، 45، 47.
7- المائدة : 44، 45، 47.

8- « قُلْ إِنْ کُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونی یُحْبِبْکُمُ اللَّهُ وَ یَغْفِرْ لَکُمْ ذُنُوبَکُمْ » (1).

9- «فِي تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةِ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأرضِ وَلاَ فِسَاداً ،وَالعَاقِبَةِ لِلمُتَّقِینَ» (2).

10- « مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ » (3) .

« صدق الله العظيم»

ب - وهو ذلك الإنسان الذي يتوكل على الله ويضع كل همه في إقامة العدالة :

قال تعالى:

1- «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا

» (4).

2- « اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى » (5).

3- « وَ إِذَا قَلَتُم فَاعدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُربَی» (6) .

4 - « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (7) .

5 - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » (8) .

ص: 46


1- آل عمران : 31
2- النساء : 80.
3- الأحزاب : 23 .
4- الطلاق : 3
5- المائدة : 8.
6- الأنعام: 152.
7- النحل: 90.
8- النساء : 59

ج- وهو الذي يتخذ الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) أسوة فيما يعتنق من مباديء ويظهر من الأفعال :

1- « لَّقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن کَانَ یَرْجُو اللَّهَ وَالْیَوْمَ الْآخِرَ وَذَکَرَ اللَّهَ کَثِیرًا » (1).

2 - « وَمَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا » (2) .

3- «وَمَن يَطعُ الرَّسُولُ فَقَد أطَاعُ اللهِ » (3) .

4- « رَبَّنَا آمَّنَا بِمَا أنزَلَتِ وَاتَّبَعنَا الرَّسُولُ فَاکتِبنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ» (4) .

5- « وَمَن یُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَیَخْشَ اللَّهَ وَیَتَّقْهِ فَأُولَئِکَ هُمُ الْفَائِزُونَ » (5) .

د- ويكون مصير هذا الإنسان المؤمن العادل وجزاؤه في الدنيا والآخرة ما يقرره الله سبحانه وتعالى:

قال تعالى :

1- « وَمَن يَعمِلُ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤمِنَ فَلاَ يَخَافُ ظُلمُ وَلاَ هَضماً » (6) .

2- « تِلكَ الجَّنُةُ الَّتِي نُورِثُ مِن عِبَادِنَا مِن كَانَ تَقِياً » (7).

3- « وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَی النَّفْسَ عَنِ الْهَوَی (8) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِیَ الْمَأْوَی» (9) .

ص: 47


1- الأحزاب : 21.
2- الحشر : 7.
3- النساء : 80.
4- آل عمران : 53 .
5- النور : 52.
6- طه : 112.
7- مریم : 63 .
8- النازعات : 40، 41.
9- النازعات : 40، 41.

4- « وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ » (1).

5- « هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » (2).

6- «أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ اَلَّذِینَ آمَنُوا وَ کَاَنُوا یَتَّقُونَ ». (3)

7- « يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ » (4).

ه- هذا من جانب، وأما من جانب آخر، فإن الله سبحانه وتعالى يوضح مصير الإنسان الظالم ، ووجوب مقاومته وكيفية ذلك، والظالمون هم كما يتبين من قوله تعالی :

1- « الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ » (5).

2- « الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ » (6) .

3- « وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُم يَعلَمُونَ» (7) .

ص: 48


1- الزمر: 61.
2- المائدة : 119.
3- يونس : 62.
4- المجادلة : 11.
5- البقرة : 27
6- التوبة : 67.
7- البقرة : آل عمران: 75.

4- « إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ » (1).

5- « یُرِیدُونَ لِیُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ کَرِهَ الْکَافِرُونَ » (2).

6- « مَن قَتَلَ نَفساً بِغَيرِ نَفسِ أو فِسَادُ فِي الأرضِ فَكَأنَّمَا قَتَلَ النَّاسِ جَمِيعاً » (3).

7- « إِنَّ الَّذينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهيناً » (4).

8- « وَالَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَد اِحتَمِلُوا بُهتَاناً وَ إِثماً كَبِيراً » (5).

و- ويبين الحق تعالى مصير هؤلاء في قوله :

1- « إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا » (6).

2 - « فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ في ضَلالٍ مُبينٍ » (7) .

3- « وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعينَ مُقْنِعي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ43» (8) .

ص: 49


1- الشوری : 42.
2- الصف: 8
3- السائدة : 32
4- الأحزاب : 57 .
5-
6- الجن : 23.
7- الزمر: 22.
8- إبراهيم : 42، 43.

4- « وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ » (1).

5- « فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى » (2) .

6- « إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ مَآبًا لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا » (3) .

7- « وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ » (4).

8- « ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا » (5).

9- « يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا » (6).

10 - « وَاللهُ لاَ يُحِبَّ الظَّالَمِينَ» (7) .

11- « وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ » (8) .

12- « وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا » (9) .

ز- وبعد، فهل ينبغي مقاومة الظلم والظالمين؟ وكيف؟ وما مصير المجاهد في سبيل الله ؟ يقول الحق تعالی :

1- « فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِی

ص: 50


1- السجدة : 20
2- النازعات : 37، 38، 39.
3- النبأ : 21، 22، 23 .
4- الشعراء : 227.
5- مریم : 72.
6- الأحزاب : 66.
7- آل عمران : 57.
8- آل عمران: 192.
9- طه: 111.

سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا » (1).

2- « يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ » (2).

3- « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ » (3) .

4- « الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ » (4).

5- « إِنَّ اللَّهَ اشْتَري مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجيلِ وَ الْقُرْآنِ » (5).

6- « يا بُنَىَّ أَقِمِ الصَّلوةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» (6) .

7- « وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ » (7).

8- « أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ » (8) .

ص: 51


1- النساء : 74.
2- آل عمران: 114.
3- الحجرات : 15.
4- الحج : 41.
5- التوبة : 111.
6- لقمان : 17.
7- محمد: 31.
8- آل عمران : 142

9- « وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ » (1).

10 - « وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ » (2) .

11 - « وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ » (3).

12 - « وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ » (4).

13 - « وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ » (5) .

14- « وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أجَرآً عَظِيماً» (6) .

15- « الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ » (7).

ص: 52


1- العنكبوت : 69.
2- محمد: 4.
3- الحدید: 19.
4- الزمر: 69.
5- البقرة : 154.
6- النساء : 95.
7- التوبة : 20.

الفصل الثاني:ثانيا - فكرة الثورة في الإسلام ومدی شرعيتها :

اشارة

ويتناول هذا الفصل الأجزاء التالية :

- المسلم في نظر السنة النبوية .

- موقف النبي (صلی الله علیه واله وسلم) تجاه الحكومة الإسلامية .

- الحكم أو الإمام في نظر الرسول (صلی الله علیه واله وسلم).

- الحاكم الجائر وإجازة الخروج عليه والإطاحة به، وكيفية ذلك .

- موقف الحسين في السنة النبوية .

ص: 53

ص: 54

ثانيا : فكرة الثورة في الإسلام ومدى شرعيتها

الحكومة الإسلامية :

يشعر المسلم في مجتمعه أن حقه منوط بحکم شريعة الله لا بإرادة حاكم ولا قرابة كبيرة فلا يخضع البشر فيه للبشر، إنما يخضعون حاکمین و محکومین الله وشريعته ، وينفذون حاکمین و محکومین حكم الله وشريعته ، فيقف الجميع أمام الله رب العالمين على قدم المساواة الحقيقية في طمأنينة وثقة و يقين . فالحاكم في الإسلام لا يمثل طبقة ولا بيتا ولا طائفة ، إنما هو رجل من المسلمين اختاروه بالشوری و بملء حريتهم لينفذ شريعة الله ، لا شريعته الخاصة ، شريعة الله التي تسوي بين الجميع في الكرامة الإنسانية وحق الحياة. ونصيب الحاكم من هذه الشريعة هو نصيب كل فرد آخر من المسلمين ، لا امتیاز له إلا حق الهيمنة والإشراف وحق السمع والطاعة من المحكومين ، طالما كان ذلك كله في حدود شريعة الله (1).

فالخلافة أو الإمامة تثبت للإنسان بطاعة الله والقيام بحق الأمانة التي كلفه الحق بها. وإذا كان الإنسان يولد عبدا لله - سواء اعترف بهذا أو كابر - فإن الإنسان لا يولد خليفة الله ، إنما يصير خليفة الله إذا أراد الله له ذلك والخلافة عن الله هي شرف الإنسان الحقيقي، وربما فقد الإنسان هذه

ص: 55


1- محمد قطب : الإنسان بين المادية والإسلام ص 132.

الصفة ولم يفقد صفة القوة، والسلطان أو البأس، غير أن القوة التي تبقى له تكون قوة بلا شرف : قوة عمياء لا تلبث أن تحطم نفسها على مذبح عبادة الذات أو عبادة الهوى التي تمتليء بها الحياة (1).

فمن تجبر في الأرض واستكبر على آيات الله والأنبياء ، ونسي نعمة الله عليه ، وجحد كما جحدت الأمم السابقة ، انسحب منه قانون الاستخلاف فأبيد، ونجاه الموت من الحياة وطويت عليه الصفحة ، ولا يظلم الله تعالی أحدا إنما يظلم الناس أنفسهم « وَمَا كَانَ اللهُ لِيُظلِمُهُم وَلَكِنَ كَانُوا أنفُسَهُم يَظلِمُونَ» (2) .

والحكومة الإسلامية تتميز بأنها حكومة دستورية أساس دستورها القرآن، فهي ليست حكومة استبدادية لأنها مقيدة بالقرآن ، والشوری رکن أصيل في بنائها . وتستمد سلطانها من الجماعة، وتتقيد برأيها في تطبيق النصوص الشرعية التي مردها إلى كل مجتهد من المسلمين لا إلى طائفة بعينها من رجال الدين .

وهي أيضا حكومة شعبية يختار الحاكم فيها بمعرفة ممثلي الأمة و يقوم الحكم على العدل والمساواة، وتطلق حرية العقول والأفكار، ولكن لا تترك مقاييس العدالة والمساواة لتضطرب مع أهواء البشر، بل لا بد أن تسير مع الخطوط الرئيسة لفلسفة الإسلام الفكرية والتشريعية (3) .

وسياسة الأمة الإسلامية فيها توازن بين سلطة الحاكم وسلطة الأمة فلا يطغى أحدها على الآخر، الحاكم له السمع والطاعة في المعروف، والأمة لها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لولي الأمر.

ص: 56


1- أحمد بهجت : الله في العقيدة الإسلامية ص 297.
2- سورة العنكبوت : 39.
3- فتحي عثمان : الفكر القانوني الإسلامي ص 119.

ويذكر الفقهاء في تعريف الإمامة أو الخلافة ، إن :

( الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به).

والحراسة تعني : حفظ الدين وتنفيذه ، أي إبقاء حقائقه ومعانيه ونشرها بين الناس كما بلغها رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) وسار عليها الصحابة . وليس من حق الفرد المسلم أن يبدل دين الله ، حيث لا حق له في تضليل الآخرين وإفساد عقيدتهم.

وقال الفقهاء في ذلك : (إن على الإمام حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة) .

وتنفيذه : أي تطبيق أحكامه في سائر معاملات الناس وعلاقاتهم فيما بينهم ومع الدولة .

وسياسة الدنيا به : تعني إدارة شؤون الدولة والرعية على وجه يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة (1) .

فإذا كانت المناصب العامة أمانة في عنق الإمام يجب أن يضعها في أهلها، وأموال الدولة أمانة يجب صرفها في وجوهها، وما للأفراد والجماعات من حقوق مشروعة أمانة يجب تمكينهم منها .

الشروط الواجب توافرها في الخليفة أو الإمام (2):

1- الإسلام : فيشترط أن يكون الخليفة مسلما .

2 - العلم : أن يكون جامعة للعلم بالأحكام الشرعية ، لأنه مكلف بتنفيذها،

ص: 57


1- الماوردي : الأحكام السلطانية ص 3- ابن خلدون في المقدمة من کتاب : عبد الکریم زیدان/ أصل الدعوة : ص 221.
2- أبو الحسن الماوردي : الأحكام السلطانية من كتاب : عفيف طبارة : روح الدین الإسلامي: ص 290.

ولا يمكن التنفيذ مع الجهل بها . والعلم قبل العمل، حيث إن العلم هو الذي يؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام.

3- العدل : أن يكون عدلا في دينه ، لا يعرف عنه فسق ، متقيا لله ورعا، عارفا بأمور السياسة وشؤون الحكم، جريئا على إقامة حدود الله لا تأخذه في الله لومة لائم ، شجاعا ، ذا دراية بمصالح الأمة وسبل تحقيقها مع حرص عليها وتقديمه لها. والعدل هو الحكم بما أنزل الله وإيصال الحكم إلى مستحقه .

« ويذكر القرطبي بصدد ذلك (1) :

« أن يكون الإمام عدلا ، لأنه لا خلاف بين الأمة أنه يجوز أن تعقد الأمة لفاسق .

ويجب أن يكون أفضلهم في العلم لقول الرسول (صلی الله علیه واله وسلم): « أئمتكم

شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون».

وفي القرآن الكريم قال الله تعالى : « إِنَّ اللهَ اصطَفَاهُ عَلَيكُم وَزَادَهُ بَسَطِةِ فِي العِلمِ وَالجِسمِ» فبدأ بالعلم ثم القوة. ويقول: «الماوردي » في شرح إدارة شؤون الدولة والرعية ، بأن أوجه هذه السياسة الإسلامية التي يلتزم بها الحكم الإسلامي : العدل : فعلى الخليفة أن يقوم بما يلزم لتحقيق ، العدل ومنع الظلم، وأول ما يلزمه في هذا الباب : اختيار الموظفين الأكفاء والأمناء ومراقبتهم، فظلم الناس خطأ كظلم الناس عمدا من جهة لحوق الضرر بالمظلوم وكرهه للظالم، وفي الحديث جاء : (من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا، فقد بارز الله تعالی بالمحاربة).

ص: 58


1- ج 1 ص 231 - الأميني: الغدير ج 10 ص 33

4۔ الاجتهاد : واشترطه بعض الفقهاء .

5- أن يكون من قریش : (الأئمة من قريش) . ولكن إذا كان القرشي عار من شروط الخلافة وآخر كان مستوفيا لها وهو غير قرشي، قدم المستوفي لها على القرشي. لأن مقاصد الخلافة لا تتحقق بالقرشي وهو عاطل وعار من شروطها، وإنما تتحقق بالآخر الكفيء القدير، لأن الأصل العام في الولايات : لزوم توافر القدرة والكفاءة (1).

6- سلامة الحواس والأعضاء.

من يملك حق انتخاب الخليفة ؟

إما أن يقوم به أفراد الأمة الذين لهم حق الانتخاب مباشرة ، وإما أن يقوم بذلك أهل الحل والعقد، فيكون هذا انتخابا من الأمة عن طريق ممثليها ، فهو انتخاب غير مباشر.

فالأمة هي التي تملك حق نصب الخليفة قياما منها بهذا الواجب الشرعي الذي خوطب به المسلمون، والأمة صاحبة الحق في اختيار من تراه أهلا لهذا المنصب : (من اتفق المسلمون على إمامته و بیعته ثبتت إمامته ووجبت معونته) (2). فالبيعة هي بيع النفس للخليفة ، ومن ثم كان لزاما أن يتروى المرء كثيرا حتى يبيع نفسه ، فيم يبيع ولمن يبيع ؟

وفي تفسير الإمام الرازي : (إذا وقعت الواقعة اجتمعوا وتشاوروا فأثنى الله عليهم). أي أنهم لا ينفردون برأي، بل ما لم يجتمعوا عليه لا يعزمون عليه (3) .

ص: 59


1- ابن حزم : الملل والنحل ج 4 ص 102.
2- المغني لابن قدامة الحنبلي ج 8 ص 17 - عبد الکریم زیدان : أصل الدعوة / ص 197 .
3- تفسيرالرازي : ج 27 ص 177.

فإذا تقرر أن منصب الخليفة واجب بإجماع فهو من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار أهل الحل والعقد يتعين عليهم نصبه ويجب على الخلق طاعته . وأهل الحل والعقد هم المتبوعون في الأمة ، الحائزون على ثقتها ورضاها، لما عرفوا به من التقوى والعدالة والإخلاص والاستقامة وحسن الرأي، ومعرفة الأمور والحرص على مصالح الأمة ، فهم ذات نفوذ كبير في الشؤون كافة ، وهي كثيرة الشبه بطبقة النواب لأنهم كانوا في موضع الثقة من الطبقات الإسلامية كلها.

فالأساس الذي تقوم عليه الخلافة هو أنها عقد حقيقي بين المنتخب وبين الجمهور، وليس أمعن في الديمقراطية من أن يتعاقد طرف مع طرف آخر على شروط معينة بحيث إذا أخل أحد المتعاقدين بالشروط انحل العقد.

فاختيار الأمة لإمامها شرط لشرعية حكمه، فلا يصير إماما له على الناس حق الطاعة ، إلا إذا بایعه أهل الحل والعقد الذين تختارهم الأمة من أهل العدالة والعلم والرأي، وتتبعهم في أمورها العامة وأهمها: اختیار الخليفة ومبايعته (1) فمجلس الشورى المنتخب من الشعب أقدر على اختيار الإمام، كما حدث في اختيار الخلفاء الراشدين من أخذ البيعة الخاصة من أهل الحل والعقد قبل البيعة العامة .

فالشكل العام للحكم في الإسلام هو الشورى التي تعني الحرية في الرأي وتعني المشاركة العامة في الحكم، وكذلك هي عنوان حكم الشعب لنفسه . والشوری كما وردت في القرآن إنما تدعو طوائف الشعب كله لا فئة منه أو جماعة خاصة لتولي أمر الشورى، فالآيات القرآنية خاطبت أفراد الدولة جميعا : « وَالَّذِینَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَی

ص: 60


1- فتحي عثمان : الفكر القانوني الإسلامي ص 138 - عبدالله العلايلي : الإمام الحسين ص 226.

بَیْنَهُمْ » (1).. وقد اشترط الله تعالى في كتابه أن يكون (أولي الأمر منکم) أي من اختياركم أو ممثلين لكم، ولم يذكر (أولي الأمر عليكم) فنحن نعتقد أن الدين الإسلامي لا يفرض طاعة المستبد على المسلم. فبالشورى يدعم الرأي السديد، ويعدل الرأي المعوج، و يكمل الرأي الناقص ، ويهمل الرأي الفاسد .

الإمامة عند الشيعة ،والشروط الواجبة فيها :

يلتقي الشيعة مع المذاهب الإسلامية كلها في الاتفاق على فكرة الإمامة ، ولكنهم يختلفون عنهم بأن الشيعة يرون أن منصب الإمام منصب إلهي كالنبوة، أي أن الله اصطفا هذا دون غيره ليكون إماما أو خليفة على المسلمين. وقد وردت فكرة الإمامة في حديث عن النبي (صلی الله علیه واله وسلم) : من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية). ومن قوله تعالی :

«يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا » (2) . والإمامة ترادف الخلافة ، فاللفظتان تعبران عن معنى واحد وهو: «الریاسة العامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) (3) .

إن خلافة الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) منصب هام وخطير للغاية لأن صاحبه يجمع بين السلطتين الدينية والزمنية ، فينبغي والحال هذه أن يكون النص عليه بالاسم لا بالوصف ، و بالتصريح لا بالتلویج .

ص: 61


1- سورة الشورى/ 38.
2- سورة الإسراء/ 71.
3- محمد كامل سليمان : الأيديولوجية الشيعية في رثاء الحسين ص 32

فالإمامة هي زعامة في أمور الدنيا والدين ، وهي نيابة عن الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) في حفظ شریعته من الزيادة والنقيصة وإقامة الحدود ودرا الفساد، وهي واجبة بعد النبي (صلی الله علیه واله وسلم) لئلا يضيع أمر دينه .

وقد منعت الشيعة إسناد أمر الإمامة ونصب الإمام إلى الناس كائنا من كان ، وقالوا نزولا على حكم الله وحكم رسوله (صلی الله علیه واله وسلم) أن أمرها مسند إلى الله تعالى وحده ، و يكون نصبه من عنده .

والفرق أن تعيين النبي (صلی الله علیه واله وسلم) بشخصه يكون بالمعجزة، وتعيين الإمام يكون بالنص من الله أو المعصوم. وهي عند السنة من الفروع لا من الأصول فوجوبها كفاية لا عينا إذا قام به البعض سقط وجوبها عن الكل. ولكن الولاية المحمدية عند الشيعة أصل وليست بفرع، لأن الولاء عملية قلبية داخلية ، والفرع موضوعه الأفعال الخارجية ، والفرع يثبت بالظن من خبر الواحد وظواهر الكتاب والسنة. والولاية لا تثبت إلا بالقطع والتعيين كغيرها من الأصول. والولاية المحمدية هي كل حق يثبت لرسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) على المسلمين فهو بذاته ثابت للإمام المعصوم لأنه الممثل الشرعي للرسول (صلی الله علیه واله وسلم) في جميع الشؤون التي تقبل النيابة والتمثيل (1) . فالإمامية ترى بأن نصب الإمام يجب على الله بحكم العقل ، لأن الإمام لطف من الله يقرب الناس من الطاعات ويبعدهم عن المعاصي. فالإسلام دين نزل من السماء بلا إرادة من الإنسان ، بل تلبية للمصلحة العليا، كما أن واضع هذا الدین خلق الإنسان بلا إرادة منه وإنما لمصلحته العليا، فالإسلام ليس نتاج رأي الإنسان بل جاء لتحديد رأي الإنسان ، وجدير بمثل هذا الدين أن تكون قيادته أيضأ معينة من قبل السماء لا منتخبة من عند الناس لأن الله الذي خلق الإنسان وأرسل نظامه لا بد أن يعين قادته الذين ينفذون دينه في خلقه كما

ص: 62


1- محمد جواد مغنية : فلسفات إسلامية ص 158.

يشاء ، لا أن يترك قيادة خلقه لمن يختار ونه أو ترشحه الظروف كيفما كانوا أو شاءت (1) .

ويعتبر في الإمام :

1- أن يكون مسلما ذكرا بالغا .

2 - عالما عاقلا ذا بصيرة ، فيكون أفضل أهل زمانه ، أي أفضل من راعيته في جميع صفات الكمال ، فهو أعلم الجميع وأزهدهم، عالما بدين الله كما نزل على خاتم الأنبياء ، و يكون قوله وفعله وتقريره حجة ودليلا على الحق تماما ككتاب الله وسنة رسوله (صلی الله علیه واله وسلم)، فيكون عالما بجميع أحكام الشريعة، حاملا لعلم رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) وغير عاجز عن حل مشكلة من المشكلات الاجتماعية ، ولا يحتاج إلى الآخرين في شيء من علوم الشريعة مطلقا .

3- أن يكون كريما وشجاعا، بل أكرم وأشجع أهل زمانه، يدبر الأمور بحكمة في السلم والحرب ، وشجاعا يذب عن البلاد، ويحمي حوزة الدين، ويصمد عند الشدائد.

4 - وقد اتفق الشيعة جميعا - ما عدا الإسماعيلية والإمامية ، على عدم وجوب العصمة للإمام، ولكن الإمامية تذكر بأن الأئمة كالأنبياء في وجوب العصمة عن جميع القبائح والفواحش من الصغر إلى الموت عمدا وسهوا ، فعليه أن يكون منزها عن النقائص ومنزها عن كل ما يشين .

5- وتعتقد الإمامية بإمامة اثني عشر فردا من آل الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) ويدل على إمامتهم ما رواه السنة في صحيح البخاري وصحيح مسلم : (لا يزال أمر

ص: 63


1- السيد حسن الشيرازي : كلمة الإسلام ص 45.

الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر خلیفة كلهم من قريش ) (1) .

وقد جمع «علي عبد الرازق» في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» ما قاله علماء المسلمين في تحديد الخليفة وسلطته بقوله :

( للخليفة عند المسلمين حق القيام على دينهم، فيقيم فيهم حدوده وينفذ شرائعه، وله بالأولى حق القيام على شؤون دنیاهم أيضا، وعليهم أن يحبوه بالكرامة لها، لأنه نائب رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) وليس عند المسلمين مقام أشرف من مقام الرسول (صلی الله علیه واله وسلم). فمن سما إلى مقامه فقد بلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق من البشر عليهم أن يحترموه لإضافته إلى الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) ولأنه القائم على دين الله والمهيمن عليه ، والأمين على حفظه . والدین عند المسلمين أعز ما يعرفون في هذا الكون، فمن ولي أمره فقد ولي أعز شيء في الحياة وأشرفه . عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ظاهرا وباطنا، لأن طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيانه ، فنصح الإمام ولزوم طاعته فرض واجب وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلا به، ويثبت إسلام إلا عليه .

وجملة القول، إن الإمام خليفة الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وهو أيضا حمى الله في بلاده ، وظله الممدود على عباده. ومن كان ظل الله في أرضه، وخليفة الرسول، فولايته عامة ومطلقة، كولاية الله تعالى، وولاية رسوله الكريم (صلی الله علیه واله وسلم ). ولا غرو حينئذ أن يكون له حق التصرف في رقاب الناس وأموالهم وأبضاعهم (2) .

هل يجب عزل الخليفة أو الإمام؟متى، وكيف؟

إذا كانت الأمة هي التي تختار الخليفة فلها حق عزله ، لأن من يملك

ص: 64


1- محمد جواد مغنية : مرجع سابق / ص 400.
2- محمد جواد مغنية : المرجع السابق / ص 393.

حق التعيين يملك حق العزل. ويكون المبرر الشرعي لعزله :

في خروجه عن مقتضی وكالته عن الأمة خروجا يبرر عزله .

وفي عجزه عن القيام بمهام الخلافة، وعجزه عن النظر في أمور المسلمين فيختار غيره ليقوم بمصالحهم. وكذلك في جنونه المطبق وعماه ، وفي تفريطه بمبدأ الشورى فهو من أهم مقومات نظام الحكم في الإسلام، به نطق القرآن ، وجاءت السنة وأجمع عليه الفقهاء، وهو حق للأمة وواجب على الخليفة ..

ومن أقوال الفقهاء في هذا الأمر :

- للأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه ، مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين ، كما كان لهم نصبه و إقامته الانتظامها و إعلائها (1).

- ويقول الإمام «ابن حزم»:

« هو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالی وستة رسوله (صلی الله علیه واله وسلم) فإذا زاغ عن شيء منهما منع من ذلك وأقيم عليه الحد والحق ، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه، خلع وولي غيره» (2) .

- ويذكر الشيخ محمد عبده بأن :

« الأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصب الخليفة، والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه ، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه ، وليس في الإسلام سوی سلطة الموعظة الحسنة (الدينية) والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خولها الله

ص: 65


1- ضياء الدين الريس: النظريات السياسية في الإسلام ص 270.
2- الملل والنحل لابن حزم ج 4 ص / 102.

الأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها من هو أدناهم . (1)

وقال أبو بكر الصديق في خطابه يوم بيعته : «أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم».

وقال الطبري : «فلا طاعة واجبة لأحد غير الله والرسول أو لإمام عادل» (2) .

وقال البيضاوي : «أمر الناس بطاعتهم بعدما أمر بالعدل على وجوب طاعتهم ما داموا على الحق » (3).

- وذكر الرازي: «إن طاعة الأمراء إنما تحب إذا كانوا على الحق » (4).

- وقال الزمخشري : بأن « المراد بأولي الأمر منكم أمراء الحق » (5) .

- ويقول عمر بن الخطاب : من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه » .

وهو الذي قال : «الحمد لله الذي جعل في أمة عمر من يقومه بحد السيف» عندما قال له أحدهم : والله لو وجدنا فيك اعوجاجأ لقومناه بحد السيف (6).

وعندما قال له رجل من المسلمين : اتق الله يا عمر، قال له : ألا

ص: 66


1- فتحي عثمان : الفكر القانوني الإسلامي/ ص 144.
2- التفسير الكبير : ج 5 ص 89.
3- تفسير البيضاوي : ص 115.
4- مفاتیح الغيب : ج 3 ص 356.
5- الكشاف : ج 1 ص 375.
6- محمد قطب : الإنسان بين المادية والإسلام ص 132 .

فلتقولولها ولا خير فينا إن لم نسمعها» .

- وجاء في تفسير القرطبي: (وقال ابن عطية : والشوری من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، فمن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب) فلا بقاء لحاكم مستبد في دولة الإسلام (1).

فالمشاورة حق للأمة وواجب على رئيس الدولة ، والتفريط بها إلى حد ترکها موجب للعزل، حتى إن العلماء قالوا : « لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم)».

فالطاعة واجبة لأولي الأمر منكم، وهم أصحاب العلم بالکتاب (کتاب الله ) وما دعا إليه الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وهم الذين تربوا على فهم كتاب الله وما نزل بالحق وطاعة هؤلاء واجبة فيما لا يخرج عن الكتاب وعن دعوة الرسول (صلی الله علیه واله وسلم)، وما جاء به الكتاب ودعا إليه الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) لم يكن إلا هداية بالحق وتمسكا به ودعوة للوحدة وعدم الفرقة وللقوة في جميع صورها ونبذ الضعف في جميع أشكاله : «تلك حدود الله فلا تتعدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون» . فإذا شذ عنها الإمام أو الخليفة ابتغاء مغنم لنفسه أو لأهل بيته أو طبقة من المسلمين دون طبقة ، سقطت طاعته.

فمعارضة الحاكم الإسلامي حين يخرج على شريعة الله واجب محتم على كل مسلم لا يتم إيمانه دون القيام بها، ويتهدده العذاب في الدنيا والآخرة إذا هو نكل عن أدائه . وقد أجمع المسلمون فيما ذكر «ابن عبد البر» أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه (2).

وهكذا فقد قرر علماء المسلمين أن للأمة خلع الخليفة لسبب يوجبه

ص: 67


1- تفسير القرطبي : ج 4 ص 249.
2- تفسير القرطبي ج 4 ص48.

وإن أدى ذلك إلى الفتنة احتمل أدنى المضرتين، لأن السلطة الإسلامية تستمد شرعيتها من أمرين :

ا- إقامتها لشريعة الله ، فإن عدلت عنها أو عدلت بها، عدلنا بالسلطة أو عدلنا عنها، فيجب طاعة الله والرسول وتقديمها على طاعة أولي الأمر. ولا خلاف في جهاد من منع بعض شريعة الله ، وأولی به من منع كل شريعة الله.

2 - رضي الناس عنها، فأولي الأمر لا يكونون منها بغير رضی، والإمامة عقد عند الفقهاء : عقد بين الإمام والرعية ، وأساس العقود الرضي . وتكون ولاية المتغلب ليست أصلا فلا تجوز لأنها خروج على قاعدة التراضي، ولذا حبذ الفقهاء التخلص منها كلما كان ذلك ممكنا، وينتهي التراضي إلى الأمة كلها حين يصير لها أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وأن تعزل حاكمها إن زاغ أو حاد (إنما الطاعة في المعروف فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) (1).

إن المشورة في نظام الحكم في الإسلام ذا أهمية بالغة ، فهي سبيل معرفةالرأي والصواب ، فبعرض الآراء ومقارنتها ومناقشتها يظهر الصواب غالبأ كما أن بالمشاورة استفادة من خبرات الآخرين. وتجار بهم التي اكتسبوها في سنين وجهود وتضحيات. كما أن بها عصمة لولي الأمر من الإقدام على أمور تضر الأمة ولا يشعر هو بضررها ولا سبيل إلى إصلاح الضرر بعد وقوعه ولا يرفعه کونه حسن النية ، وفيها تذكير للأمة بأنها هي صاحبة السلطان، وتذكير لرئيس الدولة بأنه وكيل عنها في مباشرة السلطان ، وفي هذا وذاك عصمة من الطغيان الذي هو من صفات الإنسان «كُلاًّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيُطغِیَ ».

ص: 68


1- متفق عليه : علي محمد جريشة: المشروعية الإسلامية العليا، ص 268.

قال البخاري : وكانت الأئمة بعد النبي (صلی الله علیه واله وسلم) يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها (1).

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

موقف السنة النبوية من الحكم الإسلامي .

ومن الحاكم الجائر؟ وكيف يجب عزله ومتى يتم ذلك؟

ينطوي الجهاد في الإسلام في أعماقه على لون من أعظم ألوان الحب العميق للنوع البشري، فالمسلم يعتبر أن الأرض هي أرض الله التي استخلف الإنسان عليها، والمسلم خليفة في الأرض، وهو مسؤول بوصفه هذا أن يجاهد في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان .

المسلم مسؤول عن الشر الموجود في الأرض، والمفروض أن يقاومه .

والمسلم مسؤول عن إسلام النوع البشري، والأصل المفروض أن يحارب الألم وكل صور الألم، كالطغيان والفساد والخطايا هي معارك جهاد على المسلم أن يرفع سيفه فيها.

فإذا كان الملوك والجبارين الطغاة يمنعون عن الناس ضوء الحقيقة ويمنعون الناس من الاتصال بالله وینتکسون إلى عبادة الطغاة والذهب ، فإن على الإسلام أن يرفع سيفه وقرآنه . فالإنسان المسلم إذا كان لديه القوة لتغيير الحياة رفع سيف الجهاد ، فإن لم يملك القوة عليه أن يدعو الناس جميعا إلى الهداية . هذا الحب الذي انطوت عليه العقيدة الإسلامية ، هو المسؤول عن انتشارها كضوء الشمس في بداية الدعوة (2) .

ص: 69


1- تفسير القرطبي: ج 4 / ص 250.
2- أحمد بهجت : مرجع سابق / ص297.

فالمؤمن راض عن نفسه ، عن وجوده ومكانه في الكون، لأنه يعلم أنه ليس ذرة ضائعة ، ولا كما مهملا ، ولا شيئا تافها ، بل هو قبس من نور الله ، ونفحة من روح الله ، وخليفة في أرض الله . والفرد المسلم بحفاظه للنظام الشرعي يتعبد الله كأنه يراه فيحس قوله تعالى : « وَهُوَ مَعَكُم أينَمَا كُنتُمِ» . والإسلام يقف متفردا بجعل مقاومة الظلم وغيره من صور المنكر في المجتمع الإسلامي واجبا وليس مجرد حق ، فيحقق بذلك كفالة القضاء على كل انحراف يظهر من جانب السلطة. فالسكوت کتمان ، وكتمان الحق حرام، والساكت عن الحق شيطان أخرس، والسكوت إعانة على المعصية . فإسقاط حقوق الحاكم والحاكم نفسه واجب على المسلمين إذا توفرت الشروط کالقدرة ، فكل من قدر على الامتناع وجب عليه وإلا تحقق فيه الإثم وحقت عليه المسؤولية باعتباره شريكا للحاكم في إثمه.

إن الشرعية الإسلامية تتأبي حكم الفرد، وكذلك تأبى حكم الأكثرية الجاهلية الناعقة .

ويحدث الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) عن الأمراء الظالمين : (فمن نابذهم نجا،

ومن اعتزلهم سلم أو كاد يسلم، ومن وقع في دنياهم فهو منهم) (1).

فقد يكون بتر عضو علاجا لا بد منه لإنقاذ الجسم كله، وقد يكون إسقاط الحاكم أو عزله إنقاذا للنظام كله ، لأن بقاءه يهدد النظام نفسه. والفرد مهما كان موقعه ، يضحي به من أجل بقاء نظام يقيم شرع الله في الأرض ويعبد الناس رب العالمين .

قال النبي (صلی الله علیه واله وسلم) : (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ) (2).

ص: 70


1- علي محمد جريشة: المرجع السابق/ ص 268
2- رواه أحمد ومسلم والترمذي.

فأثنى الله عليهم : (رضي الله عنهم ورضوا عنه).

ولكل فرد الحق في أن يبدي رأيه فيما يرى فيه المصلحة أو إزالة مفسدة ( الأمر بالمعروف) ولا يجوز للخليفة أو لغيره من أولياء الأمور الانتقاص من هذا الحق ، كما لا يجوز للأفراد التنازل عنه أو تعطيله ، لأنه حق أوتوه من الشرع ليتمكنوا من أداء ما افترض عليهم من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ذكر الإمام مسلم عن النبي (صلی الله علیه واله وسلم) أنه قال : ( الدين النصيحة . قلنا لمن ؟ قال : لله ولكتابة ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).

فيكون النصح هنا خالصا للخليفة ، والخليفة سلطانه في الحكم مقید بسلطان الإسلام، والخليفة يستهدي بشرع الله ، فلا يعطي ولا يمنع ولا يقدم ولا يحجم إلا ببرهان من شرع الله ، وينفذ القانون الإسلامي بعدل ومساواة وجدية لا تمنعه من إقامة الشرع صداقة أو قرابة ولا أي معنى من المعاني التي لا يعترف بها الشرع في مجال التنفيذ .

فالأمر بالمعروف هو الواجب الذي أمر به الدين أن نضرب على أيدي الظالمين ، وأن نعترض على كل تصرف شائن ، فإن انتصر الحق ، فبها، وإلا فإن الباطل إن بقي بعد ذلك ، بقي مكشوف السوءة مزريا عليه ، فلن يحب أحد بقاءه مرضيا لرب العالمين ، كما ترمي إلى ذلك أوهام المرجفين.

وقد كان الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) يأخذ العهد من أصحابه أن يقولوا بالحق أينما كانوا ، وهو القائل :

( سید الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله).

والله سبحانه وتعالی محرم تحريما قاطعا ، الخروج عن نصوص

ص: 71

الشريعة، ويعتبر العامل بغير الشريعة کافرا وظالما وفاسقا :

« وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ » «وَ مَنْ لَمْ يَحْکُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِکَ هُمُ الظَّالِمُونَ» « وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونُ» (1).

ولا شك أن العزل وسيلة لسياسة تصحيح الوضع ورد الحق إلى نصابه ، فالشريعة هي العدل من مصادرها و بتشريعها و بتنفيذها ، تحرم الظلم وتحاربه، ابتداء من العدوان على حدود الله وانتهاء إلى العدوان على حقوق الأفراد. ومقاومة الظلم ليست مجرد حق ، بل هي واجب وفرض ، ولا بد أن تكون حاكمة «وَ إِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّاسِ أن تَحكِمُوا بِالعَدلِ» فالحكم بين الناس بالعدل هو واحد من الأمانات الكبرى التي ينبغي أن تؤدي إلى أهلها ، وهم هنا الناس جميعا، وذلك لأهميتها البالغة في حياة الأمة المسلمة المكلفة بتطبيق العدل الرباني، ويبرزها لأنها تنير الطريق لكيفية أداء هذه الأمة لأماناتها . فالعدل الذي تأمر به الآية القرآنية لتطبيقه بين الناس ليس شيئا آخر غير شريعة الله ، والحكم بالعدل في حقيقته هو الحكم بما أنزل الله.

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفائي يجب وجوده في الأمة ويجب على المسلم القيام به وتأديته وإن أدى ذلك إلى قتله ، ويؤيد ذلك الحديث الشريف (سید الشهداء حمزة، ورجال قال كلمة حق لسلطان جائر فقتله).

وهذا ليس إلقاء النفس في التهلكة، لأن الاستشهاد في سبيل الله مكرمة لا تهلكة ، فالإسلام من أوله إلى آخره دعوة عامة إلى البسالة والجرأة والتضحية والاستهانة بالموت في سبيل الحق. فليست الحياة هي ما نحيا

ص: 72


1- سورة المائدة .

فيها، ولكن الحياة هي ما بعد الممات، وإن الإنسان إنما يعيش لتحقيق ما كتبه الله، وكل ما في الوجود إنما يتم بإرادة الله ، فلا يقع إلا ما شاء الله .

والمؤمن الذي يغمره الإحساس بالرضا بعد كل قدر من أقدار الله لا يخاف الموت ، ويهون عليه أنه في سبيل الناس قبله من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين ، فلا عليه إذا اقتفى أثرهم وسار في در بهم ، فالموت انتقال من حياة إلى حياة ومن طور إلى طور.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد أو باللسان ضرب من ضروب الجهاد المشروع، لما يترتب عليه من تقوية نفوس المحقين وخذلان المبطلين و إيقاف الظالمين عند حدهم (1). فالظلم ظلمات يوم القيامة وعاقبته وخيمة، والظالم مقطوع الصلة بالله فهو مخذول غير منصور. فعلی المسلم أن يدوم على الاستقامة والثبات على الحق حتى لا تفوت الثمرة، وبها يصل المسلم إلى الغاية ولا ينقطع عن ركب الصالحين . والمجتمع الذي يشيع فيه العدل يحس أفراده بالاطمئنان على حقوقهم، لأن القانون يكون مع المحق وإن كان ضعيفا، لا مع المبطل وإن كان قويا . فإذا شاع الظلم وندر العدل أحس الأفراد بالقلق الدائم على حقوقهم و زال عنهم الاطمئنان والاستقرار،وكان ذلك إيذانا بدمار هذا المجتمع. وإذا شاع الظلم وغارت معاني العدل ، كثر المظلومون الذين لا يرون في هذا المجتمع حماية لهم ولا حفظا لحقوقهم ، وإنما يرون فيه هضم حقوقهم، فيجرهم هذا إلى عدم الاهتمام به و ببقائه ومن ثم يؤدي إلى تعاونهم على هلاکه وفنائه . فالظلم كالنار يحس بوطأتها المظلوم .

لهذا قيل : ( إن الدولة العادلة تبقى وإن كانت كافرة، والدولة الظالمة تفنى وإن كانت مسلمة).

ص: 73


1- عبد الكريم زيدان : مرجع سابق / ص 72.

وللفرد مسؤوليته في إصلاح المجتمع، فهي واجب على الفرد المسلم. (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) (1) .

( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان).

هذه هي مسؤولية الفرد في إزالة الفساد، وعليه أن يكون في حالة استعداد وتهيؤ للإصلاح وإزالة الفساد .

وقد اعتبر الإمام (ابن تيمية) عدم الإنكار القلبي ردة عن الإسلام. فقال : ( والمرتد من أشرك بالله تعالى، أو كان مبغضا للرسول (صلی الله علیه واله وسلم) ولما جاء به ، أو ترك إنكار منکر بقلبه ) (2) .

وفي حديث للرسول (صلی الله علیه واله وسلم) :

(والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا ، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم) (3).

وهذا دليل صريح على تحميل الفرد مسؤولية الإصلاح ورفع الفساد ، وتأكيد على منع الظالم من الظلم ، الذي هو من أعظم الفساد في الأرض .

وقد أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم ، فيعمهم العذاب .

ويفسر ابن كثير الآية الكريمة : « وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصيبَنَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْکُمْ خَاصَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَديدُ الْعِقابِ » ، بأن الله يحذر المؤمنين فتنة ، أي اختبارا ومحنة يعم بها المسيء وغيره ، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من

ص: 74


1- عبد الکریم زیدان : مرجع سابق / ص 124.
2- سنن أبي داود : ج 3 ص 132، ص 133/ الترمذي ج 7 ص 216.
3- سنن أبي داود : ج 3 ص 132، ص 133/ الترمذي ج 7 ص 216.

باشر بالذنب ، بل يعمها (1) . « أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ » (2).

فالله يلفت نظر الخلق إلى أنه يهلك الأمم بالذنوب رغم قوة هذه الأمم .

وعن أبي بكر الصديق ، أنه سمع رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) يقول: « إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» .

فوقوع الفساد في المجتمع والسكوت عليه وعدم تغييره سبب للعقاب الجماعي. وبهذا وجب منازعة الجائر بكل وسيلة ولا يجوز السكوت عنه . فالدماء ترخص في سبيل العدالة والحق. وإلا انسد باب الجهاد. وهو أصل عظيم من أصول الإسلام و رکن قویم من أركان الدین حث عليه القرآن والحديث. والجهاد یسمی جهادا إذا: قصد به وجه الله ، وأريد به إعلاء كلمته ، ورفع راية الحق ، ومطاردة الباطل، وبذل النفس في مرضاة الله . فإذا أريد شيء دون ذلك من حظوظ الدنيا فإنه لا يسمی جهادا على الحقيقة. فمن قاتل ليحظى بمنصب أو يظفر بمغنم أو يظهر شجاعة أو ينال شهرة، أي لأجل الدنيا والحصول على الرئاسة بمنازعة أولي الأمر، فإنه لا نصيب له في الأجر ولا حظ له في الثواب (3).

فإن أردت أن تقيم بالحق وتصدع بالمعروف وأنت لا ناصر لك ولا معين فانظر إلى النبي (صلی الله علیه واله وسلم) وهو ضعيف بمكة يدعو إلى الحق و يعلن به . فأيا كنت، وفي أي شأن كان شأنك ، فلك في حياة الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) هداية

ص: 75


1- عبد الكريم زيدان : المرجع السابق/ ص 127.
2- سورة الأنعام (6).
3- السيد سابق : فقه السنة ج 3 ص 11- 40.

حسنة وقدوة صالحة . تضيء لك بنورها دياجي الحياة ، و ينجلي لك بضوئها ظلام العين ، فتصلح ما اضطرب من أمورك وتقوم بسنته عوجك فالسيرة المحمدية نور للمستنير، وهديها نبراس للمستهدي وإرشادها ملجأ لكل مسترشد. وانظر إليه (صلی الله علیه واله وسلم) حيث يقول عن نفسه : ( مثلي كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه ، فيقتحمن فيها، فأنا آخذكم بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها . فذلك مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار . هلم عن النار . فتغلبوني وتقحمون فيها) (1).

موقف الحسين (علیه السلام) في السنة النبوية :

كان الصحابة مع الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) في حياته يعتبرون قوله وفعله وتقريره حکما شرعيا لا يختلف في ذلك واحد منهم، ولا يجيز أحدهم لنفسه أن يخالف أمر القرآن . وكما وجب عليهم بأمر الله في القرآن اتباع الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وطاعته في حياته وجب عليهم وعلى بعدهم من المسلمين اتباع سنته بعد وفاته لأنهم اتباع لرسول أمر الله باتباعه وطاعته ، فقد كان فعله وقوله وحكمه ناشئا عن مشرع معصوم أمر الله بامتثال أمره ، فلا يختلف الحال بين أن يكون حيا أو بعد وفاته . « إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » (2) .

وقد قرر الله سبحانه بأن مخالفة النبي (صلی الله علیه واله وسلم) کفر « قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ » (3) فلم يبح الله عز وجل للمؤمنين مطلقا أن يخالفوا حكمه وأوامره « وَ ما کانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ

ص: 76


1- أبي الحسن الندوي : السيرة النبوية / ص 399 - (عن أبي هريرة - متفق عليه).
2- سورة النور: 51.
3- سورة آل عمران: 32.

إِذا قَضَي اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَکُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً » (1).

كما أن النبي (صلی الله علیه واله وسلم) قال كما نقل أبو هريرة : (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبی . قالوا يا رسول الله ومن يأبي ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني أبی).

ومن المستحيل أن يكون الحسین (علیه السلام) ممن أبي، فهو سيد شباب أهل الجنة، أي ممن أطاع الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) ، فكيف يمكنه أن يعصي أوامر جده (صلی الله علیه واله وسلم) بل إنه على العكس من ذلك فإنه سيمتثل بقوة و إيمان الإرادة الله و وصايا النبي (صلی الله علیه واله وسلم) ، بإسراعه في الخروج على الحاكم الجائر في زمانه إطاعة الله وللرسول (صلی الله علیه واله وسلم) .

فإذا كانت الخلافة تثبت للإنسان بطاعة الله والقيام بحق الأمانة التي كلفه الحق بها، فإن الحسين (علیه السلام) لم ير في الخليفة شيئا من ذلك ، ولكنه رأى فردا تجبر في الأرض واستكبر على آيات الله ونسي نعمة الله عليه ، ولم ينفذ شريعة الله بل شریعته الخاصة ، فانسحب بذلك منه قانون الاستخلاف.

و إذا كان الشكل العام للحكم في الإسلام هو الشورى، فإنه رأى أن الحاكم جاء بحكم القوة والدسيسة والمؤامرة وإراقة الدم، فلم تقم الأمة التي هي صاحبة الحق في اختيار من تراه أهلا لهذا المنصب ، فكانت حكومة استبدادية لم تستمد سلطانها من الجماعة، ولا استندت في شرعيتها بمشورة أهل الحل والعقد. فإذا كان اختيار الأمة لإمامها شرط لشرعية حكمه، فإنه لم يحدث شيء من هذا القبيل و بذلك فقد أخل الحاكم هنا بالعقد فانحل . فالحسين (علیه السلام) لم يخرج على إمام وإنما خرج على عاد فرض نفسه فرضا أو

ص: 77


1- سورة الأحزاب : 36.

فرضه أبوه دون اعتبار لأصول أو قاعدة أو مصلحة عامة إلا المصلحة الخاصة . كما أن الشروط الواجبة في الخليفة من إسلام وعلم واجتهاد وعدل وقدرة وكفاءة ، لم يتوافر منها شيء للحاکم، اللهم إلا الشرط الخاص بأن يكون الإمام من قريش ، على الرغم من أن الفقهاء اشترطوا تقديم المستوفي الشروط الخلافة إذا كان القرشي عار من شروطها على القرشي. حيث إنه لا يجوز أن تعقد الأمة لفاسق ولا خلاف في هذا بين الأمة.

ويعتبر الشيعة من جانب آخر إن الإمام هو المثل الشرعي للرسول (صلی الله علیه واله وسلم) في جميع الشؤون التي تقبل النيابة والتمثيل، كما أنهم يرون في الإمامة زعامة دينية ودنيوية ، واشترطوا في الإمام شروط متعددة ، مثل أن يكون أفضل أهل زمانه وأعلمهم وأزهدهم، وأن يكون منزها عن النقائص ، غير عاجز عن حل أية مشكلة اجتماعية ، فكيف هذه من تلك الحلول التي كان الحاكم يدبرها في شؤونه الإدارية والسياسية مستخدما أساليب القتل والتعذيب والتشريد، وهو الذي كان عليه كحاكم إسلامي أن يلتزم بتحقيق العدل ومنع الظلم وذلك بتدقیقه في اختيار الموظفين الأكفاء الأمناء، ويكفينا إلقاء نظرة سريعة على أعوانه وموظفيه لنعرف أي حاكم كان وأي أعوان كانوا يسيطرون على المسلمين .

ويكون الحاكم هنا على حسب رأي الفقهاء قد أخل بكل الأمور والمسائل الخاصة بالإسلام والمسلمين وفرط بالمبادىء جميعها، فكان على الحسين (علیه السلام) كفرد مؤمن في المجتمع الإسلامي أن ينهض بالجهاد في سبيل الله ومقاومة الانحراف وتنحية الحاكم غير اللائق تماما، وهو ما عبر عنه الدين الحنيف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو حق جاءه من الشرع لا يجوز التنازل عنه ، مثل ما أنه لا يجوز للخليفة أو غيره من أولياء الأمور الانتقاص من هذا الحق . لأنه كما قلنا إن معارضة الحاكم الإسلامي حين يخرج على شريعة الله واجب محتم على كل مسلم لا يتم إيمانه دون القيام

ص: 78

بها و يتهدده العذاب في الدنيا والآخرة إذا هو تقاعس عن أدائه ، فينبغي عليه أن يشعر بمسؤوليته وواجبه في إصلاح حال المجتمع الإسلامي وإزالة مفاسده ، مطيعا في ذلك أوامر الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) خوفا من أن يعمهم عذاب الله جميعا.

فإذا كانت السلطة الإسلامية تستمد شرعيتها من أمرين : إقامتها لشريعة الله ، ورضى الناس عنها ، فقد انعدم هذين الأمرين في عهد الحسين (علیه السلام) فكانت ولاية الحاكم ولاية متغلب وهي لا تجوز لأنها خروج على قاعدة التراضي .والله سبحانه وتعالی اعتبر العامل بغير الشريعة كافرا وظالما وفاسقا، وذلك ما جعل الحسين (علیه السلام) يسرع لمحاربة وخلع الحاكم دون روية أو تردد ، فإذا كان هناك خلاف في جهاد من منع بعض شريعة الله فكيف بمن منع كل شريعة الله . فالسكوت عن الحق كتمان وكتمان الحق حرام، والسكوت مشجع على المعصية ، كما أنه رأى أن بتر عضو يكون علاجا لا بد منه لإنقاذ الجسم كله وإنقاذ النظام كله ، فالعزل هنا وسيلة لسياسة تصحيح الوضع ورد الحق إلى نصابه وتعديل وتقويم الانحراف المؤدي إلى الهاوية ، وهو في عمله هذا لم يكن يلقي نفسه في التهلكة ، بل هو استشهاد في سبيل الله وهو مكرمة لا تهلكة. كما أن الحسین (علیه السلام) کان متخوفا من إشاعة الظلم وكثرة المظلومين الذين لم يجدوا في مجتمعهم حماية لهم ولا حفظا لحقوقهم، مما كان سيؤدي إلى دمار المجتمع وفنائه ، ولهذا رأى وجوب منازعة الجائر بكل وسيلة وعدم جواز السكوت عنه . فالحسين (علیه السلام) أيقظه الجور ودفعه الاعتداء وأنشطه الظلم واستثاره أنين الضعفاء وعويل المثكولين ودموع المفؤودين ، ومن بين العدوان على الحق وتجاهل العدوان ، ينبعث الأحرار ويخرج الأبطال .

ص: 79

خلاصة

وننقل هنا شيئا من أحاديث أقوال سيد البشر توضح موضوعنا وتثريه وبخاصة في مجال الإنسان المؤمن، وموقفه تجاه الظلم، والإمام العادل ، والجائر، وكيفية مقاومته :

أ- أحاديثه (صلی الله علیه واله وسلم) عن الإمام الذي ينبغي أن يتولى أمر المسلمين :

1- عن أبي هريرة عن النبي (صلی الله علیه واله وسلم) قال : « إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ، ويتقى به ، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل ، كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه » (1).

2- عن عوف بن مالك (رضي الله عنه) عن الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) قال : «خیار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم » (2) .

3- « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : أمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله » (3) .

ص: 80


1- الحافظ المنذري : مختصر صحیح مسلم ، الجزء الثاني / كتاب الأمارة ص 88 (1206).
2- نفس المرجع السابق : باب في خيار الأئمة وشرارهم) ص 93.
3- السيد أحمد الهاشمي: مختار الأحاديث النبوية والحكم المحمدية ص 84 (رواه الشيخان).

4 - القضاة ثلاثة : اثنان في النار و واحد في الجنة. رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورحل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار» (1).

5 - عن جرير بن عبدالله ، عن النبي (صلی الله علیه واله وسلم) : « من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده ، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء (2).

6 - « أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل » (3) .

7- « رحم الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها، ورب مبلغ أوعى من سامع (4) .

ب - أحاديثه (صلی الله علیه واله وسلم) في الإمام الجائر :

1- آفة الدين ثلاثة : فقيه فاجر، و إمام جائر، ومجتهد جاهل. (رواه الديلميعن ابن عباس) (5) .

2 - أربعة يبغضهم الله تعالى : البياع المجلاف، والفقير المختال ، والشيخ الزاني والإمام الجائر. (رواه النسائي عن أبي هريرة) (6).

3- ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت، يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة .(7)

ص: 81


1- السيد أحمد الهاشمي : المرجع السابق ص 110.
2- الحافظ المنذري : مختصر صحیح مسلم ج 2 ص 251.
3- الشيخ محمد بن الحسن العاملي : وسائل الشيعة/ ج 4 / ص 825.
4- الترمذي / أبو داود - النسائي / ابن ماجه .
5- السيد أحمد الهاشمي: المرجع السابق ص 3.
6- السيد أحمد الهاشمي: المرجع السابق ص 38.
7- الحافظ المنذري : مختصر صحیح مسلم ج 2، ص 89.

4 - ثلاث لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم :

- رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل، ورجل بایع إماما لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها رضي، وإن لم يعطه منها سخط. ورجل حلف على سلعته (رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة) (1) .

5- ستة أشياء تحبط الأعمال : الاشتغال بعيوب الخلق، وقسوة القلب ، وحب الدنيا، وقلة الحياء، وطول الأمل، وظالم لا ينتهي. (رواه الديلمي عن عدي بن حاتم) (2).

6- روى أحمد: « من دعا بدعوی جاهلية فهو من جنى جهنم ، قالوا : وإن صلى وصام؟ قال وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم (3).

7- و إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة (4).

8- عن ابن عباس : « إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ، ويد الله مع الجماعة ومن شذ فقد شذ في النار» (5).

9- عن أبي ذر : « من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» .

10- من ولي أمر المسلمين شيئا فولی رجلا وهو يجد من هو أصلح للمؤمنين منه ، فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين (6).

ص: 82


1- السيد أحمد الهاشمي : المرجع السابق ص 65.
2- السيد أحمد الهاشمي : ص 84.
3- الحافظ المنذري : مختصر مسلم ص 252.
4- الترمذي - أبو داوود - الإمام أحمد - ابن ماجه .
5- رواه أحمد - ابن سعد: الطبقات ج3 ص 281 .
6- ابن تيمية : السياسة الشرعية / ص 19.

11 - العامل بالظلم والمعين له والراضي به شرکاء (1) .

ج. أحاديثه (صلی الله علیه واله وسلم) في وجوب جهاد الظلم، والصمود أمام الإمام الجائر :

ا- إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما.

2- من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه .

3 - إذا عظمت أمتي الدنيا نزعت منها هيبة الإسلام، وإذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر حرمت بركة الوحي. (رواه الترمذي) (2) .

4- لن يخلو وجه الأرض من قائم الله بحجة .

5 - عن أبن عمر: « على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (3) .

6 - عن تميم الداري ( رضي الله عنه ) أن النبي (صلی الله علیه واله وسلم) قال : الدين النصيحة . قلنا : لمن ؟ قال : الله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم (4) .

7 - ثلاث من كن فيه يستكمل إيمانه : رجل لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يرائي بشيء من عمله ، وإذا عرض عليه أمران، أحدهما للدنيا والأخر للآخرة ، اختار أمر الآخرة على الدنيا (5) . (رواه ابن عساكر عن أبي هريرة).

8 - من أعان ظالما ليدحض بباطله حقا، فقد برئت منه ذمة الله وذمة

ص: 83


1- أبو الحسن النووي : السيرة النبوية / ص 363.
2- السيد أحمد الهاشمي: المرجع السابق / ص 14
3- الحافظ المنذري : مرجع سابق (باب : الدين النصيحة) ج2، ص 92
4- الحافظ المنذري: نفس المرجع السابق (1209)/ 89.
5- السيد أحمد الهاشمي: مرجع سابق / ص 64.

رسوله (1) (رواه الحاكم عن ابن عباس) .

9- عن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) لا ينبغي لأمريء يشهد مقام حق إلا تكلم به ، فإنه لن يقدم أجله ولن يحرمه رزقا هو له (2) . (باب : من محقرات الأعمال 3293) .

10- عن ثوبان قال : قال رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم): « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك. أو حتى يأتي وعد الله وهم كذلك » (3) .

11 - إلا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر (4).

12- عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا أتى النبي (صلی الله علیه واله وسلم) أي الناس أفضل؟ فقال : رجل أو مؤمن - يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه (5) .

13 - من قاتل لتكون كلمة الله أعلى، فهو في سبيل الله (6) .

14 - إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون منهم وتنكرون، فمن کره بریء، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع فقد وقع في الإثم (رواه مسلم).

15 - هل سمعتم أنه سيكون أمراء، من دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس يرد على الحوض .

ص: 84


1- السيد أحمد الهاشمي: مرجع سابق ص 141.
2- لحافظ ابن حجر: المطالب العالية بزوائد المساند الثمانية - ج 4 ص 214.
3- الحافظ المنذري: مرجع سابق/ ص 50.
4- رواه الطبراني عن أبي موسى - من خطبة للرسول (صلی الله علیه واله وسلم) أحمد الهاشمي: مرجع سابق / ص 31.
5- الحافظ المنذري : المرجع السابق/ ص 45.
6- الحافظ المنذري: مرجع سابق / ص 48.

ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم ، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه وسيرد على الحوض (1)، (رواه أحمد والنسائي).

16 - عن علي بن أبي طالب ، قال النبي (صلی الله علیه واله وسلم): « لا طاعة في معصية ، إنما الطاعة في المعروف» (بخاری ومسلم).

17 - أفضل شهداء أمتي رجل قام إلى أمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله على ذلك.

18 - إذا أحب الله عبدا جعل له واعظا من نفسه و زاجرا من قلبه يأمره وينهاه .

19 - عن ابن عباس ، عن النبي (صلی الله علیه واله وسلم) قال : «ألا أخبركم بخير الناس ، رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله . ألا أخبركم بشر الناس، رجل يسأل

بالله ولا يعطى به » (2) .

20 - إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض (3) .

21 - الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة (4).

22 - روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود ، أن الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) قال :

لا يحل دم امرىء مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاثة :

ص: 85


1- جريشة : ص 306.
2- السيد سابق : فقه السنة ج3 ص 37.
3- السيد سابق : المرجع السابق / ص 37.
4- السيد سابق : المرجع السابق / ص 39.

الثيب الزاني ، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة » (1).

23 - إن أول ما بدأ الفساد في بني إسرائيل أن أحدهم كان يلقى صاحبه الذي كان يعيب عليه فعله بالأمس فيجده على حاله من المنكر، فلا يمنعه ذلك أن يكون جليسه وأكيله وشريبه ، فلعنهم الله (2) .

24 - قال الحسن ، قال النبي (صلی الله علیه واله وسلم) : من أمر بالمعروف أو نهی عن المنكر، فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله وخليفة كتابه (3) .

ص: 86


1- السيد سابق : المرجع السابق / ص 424.
2- محمد قطب : دراسات قرآنية / ص 479.
3- تفسير القرطبي / ج 4 / ص 47.

الفصل الثالث: تأثرة بالمثل والاتجاهات الفكرية لأبيه

اشارة

ص: 87

ص: 88

ثالثا: ماأخذه الحسین عليه السلام من تعاليم ومفاهيم وأمور دنيوية وأخروية من ابيه الإمام على عليه السلام

اشارة

كان علي (علیه السلام) أشد الناس إيثارا للحسن والحسين لمكانهما من النبي (صلی الله علیه واله وسلم) وكان أصحابه يصنعون صنيعه في ذلك فيؤثرونهما بالخير (1) .

وقد ورث الحسن والحسين عن جدهما وأبيهما، فصاحة اللسان وقوة الجنان، وحضور البديهة ، والكرم والحلم، والشجاعة والجرأة .

وقد تعلما القرآن والتفسير من علي (علیه السلام) وأهل بيته وكبار الصحابة ، وتلقيا الحديث عنهم ، حتى أن الإمام علي (علیه السلام) كان يقول الشعر وينطق بالحكمة، وكذلك نشأ ولداه (2).

وقد برزت الصفات والخلق التي أخذها الحسين من جده (صلی الله علیه واله وسلم) وأبيه (علیه السلام) في شخصيته فكانت ظاهرة .

فورث قوة الإرادة عن جده الذي وقف صامدا وحده أمام القوى الهائلة التي هبت لتمنعه من قول كلمة الله ، وكذلك هو وقف صامدا وحده أمام الجبابرة والطغاة مجاهدا في سبيل كلمة الحق .

فهو سيد أهل الإباء الذي علم الناس الحمية والموت تحت ظلال السيوف اختيارا على الدنية ، فلم يلو جیده خاضعا لأحد إلا الله .

ص: 89


1- طه حسين : الفتنة الكبرى ج 2، ص 605.
2- محمد رضا: الحسن والحسين ص 17.

ولم يشاهد الناس أشجع ولا أربط جاشا، ولا أقوى جنانا من الحسين (علیه السلام) الذي بقي صامدا يتلقى الطعنات من كل جانب في معركة كربلاء.

يقول (علي بن عيسى بن أبي الفتح الأربلي) «في كشف الغمة» بأن «شجاعة الحسين يضرب بها المثل، وصبره في الحرب أعجز الأواخر والأوائل». ولا عجب، فقد ورثه النبي (صلی الله علیه واله وسلم) تلك الصفة عندما قال : (وأما الحسين فإن له جرأتي وجودي) (1).

فشجاعة الحسين (علیه السلام) صفة لا تستغرب منه لأنها (الشيء من معدنه كما

قيل) هي فضيلة ورثها عن الأباء وأورثها الأبناء بعده .

ويذكر التاريخ أنه شهد الحروب في إفريقيا الشمالية وطبرستان والقسطنطينية ، كما حضر مع أبيه وقائعه جميعا من الجمل إلى صفين ، وحارب معه أيضا الخوارج.

وفي معارك أبيه ضد معاوية ، ظل سيف الحسين يقاتل مؤمنا بعدالة هذا القتال وليس لمجرد أنه يدافع عن خلافة أبيه (2).

وكان إلى جانب عثمان - رغم الخلاف معه - يدافع عنه حين حاصره الثوار وظل يقاتل حتى سقط جريحا (3) .

وليس في بني الإنسان من هو أشجع قلبا ممن أقدم على ما أقدم عليه الحسين (علیه السلام) في كربلاء (4). وصبره على نوائب الدنيا ومحن الأيام أيضا يضرب بها المثل من وقت انتقال جده وأمه إلى الرفيق الأعلى، والأحداث التي جرت لأبيه وأخيه، وما جرى للإسلام بعد ذلك، ثم جرائم کربلاء (5) .

ص: 90


1- ابن أبي الحديد: الشرح ج 16 ص 10.
2- محمد جواد مغنیه : من هنا وهناك ص 104.
3- محمد جواد مغنیه : من هنا وهناك ص 104.
4- العقاد : أبو الشهداء ص 44.
5- باقر القرشي: حياة الحسين ج1 ص 113

فقد كان الحسين (علیه السلام) يسر بالألم والمصاب ما دام لله فيه رضی، فالحكمة والصلاح والخير هو ما يختاره الله وإن كان فيه ذهاب النفس والأهل والمال ، فإن حصل شيء من هذا في سبيل الله ، أو حصلت مجتمعة، لم تضطرب النفس ويتزعزع الإيمان لأنها هي المطلب والهدف(1).

(هل هو إلا الموت فمرحبا به) وعلى هذا عاش ومات أبوه من قبل . وأثبتت التجارب في كل عصر، أنه لا حياة كريمة إلا لمن اتخذ هذا المبدأ شعارا يستهين في سبيله بكل عزیز (2) .

وهكذا انطبعت مثل الإمام علي وسائر اتجاهاته الفكرية في نفس الحسين (علیه السلام ) فكان كأبيه في ثورته على الظلم والباطل ومناهضته للجور والبغي، وتفانيه في سبيل الحق والعدل ، وتبنيه لجميع وسائل الإصلاح والخير.

كان كأبيه في بسالته وصموده وعزة نفسه وإبائه .

وصراحته في القول والسلوك وصلابته في الحق لا حد لها . فقد تبنی الحق لينقذ الأمة الإسلامية من التيارات العنيفة التي خلقت في أجوائها قواعد للباطل وخلايا للظلم وأوكار للطغيان .

فكان كأبيه صارمة في الحق لا يحب الرفق ولا الهوادة ولا التسامح فيما لا ينبغي التسامح فيه ، كما كان صارما على نفسه وعلى غيره . وكان يتحرق شوقا إلى الفرصة التي تتيح له استئناف الجهاد من حيث تركه أبوه (3) . فقد كانت نفس أبيه إلى العزة والكرامة مائلة بجميع مظاهرها ومقوماتها في نفس الحسين (علیه السلام) .

ص: 91


1- محمد جواد مغنية : فلسفات إسلامية ص 474.
2- محمد جواد مغنية : من هنا وهناك ص 104.
3- طه حسين : الفتنة الكبرى ج 2/ ص 621.

وكان كأبيه يعتقد أن المجتمع لن يصلح إلا إذا لقح بعصارة جديدة ، و بترت منه الزوائد ، وأبعدت عنه الطفيليات (1).

وخلال رحلته في الحياة لم يتخل أبدا عن تلك المثل رغم كل صنوف الاضطهاد. وقد ظلت كلمات أبيه تشكل حياته واستشهاده . فالإمام علي (علیه السلام) الذي نشأ منذ طفولته في بيت النبوة، ونهل من نورها حتى فاض ذلك على عقله وروحه، وتألقت به موارده ومناهله ، فأصبحت مواضع كلمات الله حين يذكرها علي (علیه السلام) يتجلى لها حقيقة ظاهرة ، ويرفع بها علم صاعد، ويضيء لها قول صادق .

ونحن هنا في هذا المجال يهمنا أن نذكر من أقوال وأحاديث وخطب الإمام علي (علیه السلام) ما يخص بحثنا. فالإمام علي (علیه السلام) قد تناول في أقواله معظم ما يهم المسلمين وكل ما يخص الفرد دنیا وآخرة حاضرا ومستقبلا، ولكنا نود أن نبرز من أقواله ما ذكره من آراء حول :

الإمامة أو الحكم في الإسلام، فمن يكون الحاكم الإسلامي؟ وكيف يأتي أو يتسلم الحكم؟

وما موقف المسلمين من الحاكم الجائر؟ إذ أن هذا هو ما نقصده ونعنيه مما أخذه عن أبيه في مجالنا خاصة .

1- آراء الإمام علي (علیه السلام) في الحكومة الإسلامية :

من هو الإمام أو الخليفة في الدولة الإسلامية ؟

1- إن أولى الناس بهذه الأمة قديما وحديثا، أقربها من رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) وأعلمها بكتاب الله ، وأفقهها بدين الله، وأولها إسلاما، وأفضلها جهادا ، وأشدها بتحمل أمور الرعية .

ص: 92


1- عبدالله العلايلي : الإمام الحسين / ص325.

2 - من نصب نفسه للناس إماما فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعلیم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه .

3- إنما الأئمة قوام الله على خلقه، وعرفاؤه على عباده ، لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه (1) .

4 - إن أفضل عباد الله إمام عادل هدي وهدى، فأقام سنة معلومة وأمات بدعة متروكة (2) .

5 - فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية . فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل . وإذا غلبت الرعية واليها، وأجحف الوالي برعيته : اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس (3) .

6 - إنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل ، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله ، ولا الحافي فيقطعهم بحفائه ، ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة (4).

7 - الملك بالدين يبقى، والدين بالملك يقوى .

ص: 93


1- الحافظ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي : ينابيع المودة ص 282 ط 2-1966 .
2- ابن الأثير : الكامل ج 3 ص 151.
3- ابن أبي الحديد: نهج البلاغة ج 11.
4- ابن أبي الحديد الشرح ج 8.

8- من ساس رعيته حرم عليه السكر عقلا، لأنه قبيح أن يحتاج الحارس إلى من يحرسه.

9- السلطان الفاضل هو الذي يحرس الفضائل و يجود بها لمن دونه ويرعاها من خاصته وعامته حتى تكثر في أيامه ، ويتحسن بها من لم تكن فيه .

10 - اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم، ثم انظر عما لك فاستعلم اختبارا ولا تولهم محاباة وأثرة (1) .

11 - يقول عن الولاة : أنتم خزان الرعية و وكلاء الأمة وسفراء الأئمة .

12 - إمام عادل خير من قطر وابل.

2- صفات الإمام في الإسلام؟ وكيف يحكم؟ وما واجباته تجاه الأمة ؟

1- ثبات الملك بالعدل .

2- لو سلكتم الحق وأضاء لكم الإسلام لما ظلم منكم مسلم ولا معاهد.

3 - إن فضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية .

4 - سيرة المرء تنبیء عن سريرته .

5 - صلاح الدين في الورع، وفساده في الطمع .

6 - ما خاف امرؤ عدل في حكمه، وأطعم من قوته، وذخر من دنیاه لأخرته .

7- لا تقبلن في استعمال عمالك وأمرائك شفاعة إلا شفاعة الكفاية والأمانة .

ص: 94


1- نوري جعفر : علي ومناوؤه ص 193.

8 - من عمل بالعدل فيمن دونه ، رزق العدل ممن فوقه .

9 - من لم يتوخ بعمله وجه الله ، عاد مادحه من الناس له ذاما .

10 - الدنيا مطية المؤمن عليها يرتحل إلى ربه فأصلحوا مطایاکم تبلغكم إلى ربكم.

11 - العدل أفضل من الشجاعة ، لأن الناس لو استعملوا العدل عموما في جميعهم لاستغنوا عن الشجاعة.

12- لا بد لك من رفيق في قبرك، فاجعله حسن الوجه طيب الريح وهو العمل الصالح .

13 - ما أضيق الطريق على من لم يكن الحق تعالی دلیله ، وما أوحشها على من لم يكن أنيسه ، ومن اعتز بغیر عز الله ذل ، ومن تكثر بغير الله قل .

14 - عدل السلطان خير من خصب الزمان .

15 - لو سلمتم الأمر لأهله سلمتم ، ولو أبصرتم باب الهدی رشدتم .

16 - واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه ، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، فالتمسوا ذلك من عند أهله (1).

17 - فاستقيموا على كتابه وعلى منهاج أمره وعلى الطريقة الصالحة من عبادته ، ثم لا تمرقوا منها ولا تبتدعوا فيها ولا تخالفوا عنها ، فإن أهل المروق منقطع بهم عند الله يوم القيامة .

18 - ألا وإن الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك ، وظلم مغفور لا يطلب . وأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله تعالى، قال سبحانه : « إِنَّ

ص: 95


1- الحافظ سلیمان بن إبراهيم القنذوري الحنفي : المرجع السابق ص 282

الله لا يغفر أن يشرك به». وأما الظلم الذي يغفر، فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات.

وأما الظلم الذي لا يترك ، فظلم العباد بعضهم بعضا .

فإياكم والتلون في دين الله ، فإن الله سبحانه وتعالى لم يعط أحدا بفرقة خيرا ممن مضى ولا ممن بقي (1).

19 - من أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل ومن دخل مدخل السوء اتهم، ومن خلط الأراذل حقر، ومن جالس العلماء وقر، ومن أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا .

20- قيمة كل امرىء ما يحسنه : من عرف نفسه قد عرف ربه ، من عذب لسانه كثر إخوانه، بالبر يستعبد الحر، لا ظفر مع البغي، لا ثناء مع الكبر، لا شرف مع سوء الأدب. لا راحة مع الحسد، لا سيادة مع الانتقام .

21 - من جمع ستة خصال لم يدع للجنة مطلبا ولا عن النار مهربا :

من عرف الله فأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه ، وعرف الحق فاتبعه ، وعرف الباطل فاتقاه ، وعرف الدنيا فرفضها، وعرف الأخرة فطلبها (2) .

22 - المؤمن .

كل سعي أخلص عنده من سعيه ، وكل نفس أصلح عنده من نفسه، عالم بعيبه ، لا يثق بغير ربه.

23 - من سرته الحسنة وساءته السيئة فهو مؤمن .

26 - إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار .

- وأن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد .

ص: 96


1- نفس المرجع
2- نفس المرجع

- وأن قوما عبدوا الله شکرا فتلك عبادة الأحرار (1).

20 - يعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال .

26 - اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدأ ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا .

27 - العدل سائس عام يضع الأمور في مواضعها ، والتقوی نجاة من كل هلكة.

28 - شتان بين عملين: عمل تفنى لذته وتبقى تبعته ، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره .

3- من هو الإمام الجائر؟ وما هو مصيره؟

وكيف يواجهه الإنسان المؤمن، وما يكون موقفه منه؟

1- إن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وأضل، فأمات سنة معلومة وأحيا بدعة متروكة .

2- إن أخوف على هذه الأمة من الرجال، أئمة مضلون وهم رؤساء أهل البدع.

3- إذا كان الراعي ذئبا فالشاة من يحفظها؟

4 - ألأم الناس من سعى بإنسان ضعيف إلى سلطان جائر .

5 - إن أبغض الخلائق إلى الله تعالی رجلان :

رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن افتتن به ، ضال عن هدى من كان قبله ،

ص: 97


1- السيد الخوئي / البيان في تفسير القرآن ص 527.

فضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته ، حمال خطايا غيره ، رهن بخطيئته (1) .

6 - إن أعظم الخيانة ، خيانة الأمة.

7- إن شر وزرائك من قبلك للأشرار وزيرا، ومن شركهم في الأثام، فلا يكونن لك بطانة ، وأنت واجد منهم خير خلف ، والصق بأهل الورع والصدق ، ثم رضهم على ألا يطردوك ، ويبجحوك بباطل لم تفعله ، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من الغرة .

8 - قال (طاووس بن كيسان اليماني) بعد أن طلب منه هشام بن عبد الملك أن يعظه :

« سمعت من أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أنه قال : ( إن في جهنم حیات

كالقلال وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته).

9 - جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة .

10 - زوال الدنيا مشحونة بالرزایا .

11 - ظلم المرء يصرعه .

12 - ظلامة المظلوم لا تضيع .

13 - عاقبة الظالم وخيمة .

14 - ولاية الأحمق سريعة الزوال.

10- من سل سيف البغي قتل به .

16 - من صارع الحق صرعه.

ص: 98


1- ابن أبي الحديد: الشرح ج 1.

17۔ فقر الرؤساء أهون من رئاسة السفلة .

18 - شر الولاة من خافه البريء.

19 - راكب الظلم يكبو به مركبه .

20 - هلك من ادعى وخاب من افترى .

21 - إلا وأنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لا يستقيم به الهدی يجر به الضلال إلى الردى .

22 - فإنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحق فاشتروه، وأخذوهم بالباطل فاقتدوه.

23 - زمان الجائر من السلاطين والولاة أقصر من زمان العادل ، لأن الجائر مفسد، والعادل مصلح، وإفساد الشيء أسرع من إصلاحه .

24 - من طلب عزة بظلم و باطل ، أورثه الله ذلا بإنصاف وحق .

25 - البغي آخر مدة الملوك .

26 - الناس من خوف الذل في ذل .

27 - أعجل العقوبة، عقوبة البغي والغدر واليمين الكاذبة ، ومن إذا تضرع إليه و سئل العفو لم يغفر.

4 - موقف المسلم تجاه الإمام الجائر :

1- الناس ثلاثة : عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.

2- إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهالا ويموتون ضلالا، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا

ص: 99

من الكتاب إذا حرف عن مواضعه، ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر (1).

3- أحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم ، كن للظالم خصما وللمظلوم عونا بئس الزاد إلى المعاد : العدوان على العباد .

4 - فلا تكفوا عن مقالة بحق ، أو مشورة بعدل ، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطىء.

5 - الدين أن تؤثر الحق وإن ضر بك على الباطل وإن نفعك .

6 - العدل صورة واحدة . والجور صور كثيرة. ولهذا سهل ارتکاب الجور وصعب تحري العدل ، وهما يشبهان الإصابة في الرماية والخطأ فيها . وأن الإصابة تحتاج إلى ارتياض وتعهد، والخطأ لا يحتاج إلى شيء من ذلك .

7- والله لأبقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته (2) .

8 - إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله ، فمن نصرهما نصره الله ، ومن خذلهما خذله الله .

9- إنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ، ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر.

10 - احذروا أهل النفاق فإنهم الضالون المضلون، يمشون الخفاء و يدبون الضراء ، لهم بكل طريق صريع ، وإلى كل قلب شفيع ، ولكل شجو

ص: 100


1- محمد العفيفي : القرآن، القول الفصل بين كلام الله وكلام البشر ص 125.
2- العقاد : عبقرية الإمام ص 60.

دموع، يتقارضون الثناء، ويتراقبون الجزاء، وقد أعدوا لكل حق باطلا ولكل قائم مائلا ، ولكل حي قاتلا ، ولكل باب مفتاحا، ولكل ليل مصباحا ، يتوصلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم، وينفقوا به أعلافهم، يقولون فيشبهون، ويصفون فيموهون، قد هونوا الطريق وأضلعوا المضيق ، فهم لمة الشيطان وحمة النيران ( أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون).

11 - إن الله فرض الجهاد وعظمه وجعله نصره وناصره.. والله ما صلحت دنيا ولا دين إلا به .

12 - الجهاد ثلاثة : جهاد بيد وجهاد بلسان وجهاد بقلب .

فأول ما يغلب عليه من الجهاد جهاد اليد، ثم جهاد اللسان، ثم جهاد القلب .

فإذا كان القلب لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا نکس، وجعل أعلاه أسفله ، كما ينكس الجراب فتثر ما فيه .

14 - فمن ترك الجهاد رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء. وسيم الخسف ومنع النصف. .

15 - من أنكر المنكر بيده ولسانه وقلبه ، فذلك المستكمل لخصال الخير .

16 - فإن شغب شاغب استعتب ، فإن أبی قوتل. ألا وأني أقاتل رجلين :

رجل ادعي ما ليس له، وآخر منع الذي عليه (1) .

ص: 101


1- المشاغب : الخارج على القانون والآداب - استعتب : طلب إليه الرجوع إلى الحق والرضوخ له.

17 - الله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله ، وعليكم بالتواصل والتباذل ، وإياكم والتدابر والتقاطع .

18 - فرض الله سبحانه الإيمان تطهيرا من الشرك ، والصلاة تنزيها عن الكبر، والجهاد عز للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعأ للسفهاء.

19 - ألا إن لكل دم ثائرا، ولكل حق طالبا، وأن الثائر في دمائناكالحاكم في حق نفسه وهو الله الذي لا يعجزه من طلب ولا يفوته من هرب .

20 - أيها الناس، إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنة أوقي منه، وما يغدر من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر کیسا ، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة .

21 - إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان : اتباع الهوى وطول الأمل . فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الأخرة (1) .

22 - وخلف فينا راية الحق ، من تقدمها مرق، ومن تخلف عنها زهق ، ومن لزمها لحق .

23 - إن الموت طالب حثيث، لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب ، إن أكرم الموت القتل. والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون على من ميتة على الفراش في غير طاعة الله .

24 - أما أنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع . الباطل أن تقول سمعت، والحق أن تقول رأيت .

25 - الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان .

ص: 102


1- ابن أبي الحديد: الشرح ج 2.

26 - اختر أن تكون مغلوبا وأنت منصف، ولا تختر أن تكون غالبا وأنت ظالم.

27 - موت الصالح راحة لنفسه، وموت الطالح راحة للناس .

28 - من سمع بفاحشة فأبداها كان كمن أتاها .

29 - العجب من يخاف عقوبة السلطان وهي منقطعة، ولا يخاف عقوبة الديان وهي دائمة .

30- فتحر الخير بجهدك ولا تبال بسخط من يرضيه الباطل .

31- من أيقظ فتنة فهو آكلها .

32 - فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله الخاصة أوليائه ، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة ، فمن ترکه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء وأديل الحق منه .

33 - أيها الناس إن الله عهد إلى نبيه (صلی الله علیه واله وسلم) عهدا عهده إلي بألا يقيم الحد من كان الله عليه حد.

34 - ولا يدعونك شرف امریء إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا ، ولا ضعة امريء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.

35 - إن الله يدخل بصدق النية والسريرة الصالحة من يشاء من عباده الجنة .

36 - ولكن من واجب حقوق الله على العباد :

( النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحدود بينهم، والحق بينهم) (1).

ص: 103


1- ابن أبي الحديد: (الشرح، ج11).

37 - کمال الرجل بست خصال : أصغريه وأكبریه وهیبتيه فأما أصغراه فقلبه ولسانه ، إن قاتل قاتل بجنان ، وإن تكلم تکلم ببيان ، وأما أكبراه : فعقله وهمته .

وأما هيبتاه : فماله وجماله .

38 - وايم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه ، ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان کارها . والله إني لأعترف بالحق قبل أن أشهد عليه ، والله ما أبالي - أدخلت على الموت أو خرج الموت إلي .

39 - لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولي عليكم شراركم فتدعون فلا يستجاب لكم.

40- لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا.

41 - فإن كان لا بد من العصبية ، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ، ومحامد الأفعال ، ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب، ويعاسيب القبائل بالأخلاق الرغيبة ، والأحلام العظيمة ، والأخطار الجليلة ، والآثار المحمودة ، فتعصبوا لخلال الحمد، من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام ، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض.

42 - ونجمع كلامه (علیه السلام) في وصيته لابنيه الحسن والحسين (علیه السلام) : (1)

وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك، ولا تأخذك في الله لومة لائم.

لا تظلم كما لا تحب أن ظلم. وأحسن كما تحب أن يحسن إليك .

ص: 104


1- نوري جعفر : علي ومناوؤه، ص 203.

واعلم أنك إنما خلقت للأخرة لا للدنيا . وأنت طريد الموت الذي لا ينجو منه هارب . فكن منه على حذر أن يدركك وأنت على حالة سيئة .

و إياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها وتكالبهم عليها، فإنما أهلها كلاب عاوية، وسباع ضارية ، يهر بعضها على بعض ، ويأكل عزيزها ذليلها، سلکت بهم الدنيا طريق العمى، فتاهوا في حيرتها ونسوا ما وراءها.

لا تتخذ من عدو صديقك صديقا ، فتعادي صديقك ، وا محض أخاك النصيحة حسنة كانت أم قبيحة .

إن أردت قطيعة أخيك ، فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا له ذلك يوما ما .

وما أقبح الخضوع عند الحاجة، والجفاء عند الغني .

الله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله ، وعليكم بالتواصل والتباذل ، وإیاکم والتدابر والتقاطع، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولي عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم .

يا بني أوصيك بتقوى الله عز وجل، وكلمة الحق في الرضا والغضب ، والقصد في الغني والفقر، والعدل في الصديق والعدو، والعمل في النشاط والكسل .

43 - والإمام علي (علیه السلام) كان يرى أن نجاة المسلمين و نجاحهم يكمن في التمسك بأهل بيت النبي (صلی الله علیه واله وسلم) والسير خلفهم والاقتداء بهم ، حيث قال فيهم :

« فانظروا أهل بیت نبيكم، فإن لبدوا فالبدوا، وأن استنصروكم

ص: 105

فانصروهم ، فليفرجن الله الفتنة برجل منا أهل البيت» (1).

وكان قوله هذا تذكيرا ومتمما لقول الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) في أهل بيته :

« في كل خلوف من أمتي عدول من أهل بيتي ، ينفون من هذا الدين تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا إن أئمتكم وفدكم إلى الله عز وجل ، فانظروا بمن توفدون» (2) .

« الأحاديث والأقوال من : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد من أجزا :

20،19،10،9،8،7،2،1،»

ص: 106


1- ابن أبي الحديد: الشرح، ج 7، ص 58.
2- الأميني: الغدير ، ج 3، ص 81.

الفصل الرابع:فكرة تحويل الخلافة

اشارة

وسنتناول في هذا الفصل : الموضوعات التالية : -

-فكرة البيعة ليزيد بن معاوية .

-صدى البيعة .

- یزید بن معاوية .

-رجاله وأنصاره .

ص: 107

ص: 108

فكرة البيعة ليزيد

سياسة الخير في المكروه

مثلما كان لمعاوية أسلوبه الخاص الذي تميز به عن سائر الأفراد في الإدارة والسياسة، فقد كان له أيضا أسلوبه الخاص في أخذ البيعة له من المسلمين ، وقد كان سهلا وسلسأ لا تعقيد فيه ولا مشكلة. فحينما أحضر الناس لبيعته ، كان الرجل يحضر فيقول : (والله يا معاوية إني لأبايعك وإني لكاره لك . فيقول : بايع فإن الله قد جعل في المكروه خير كثيرا ) (1).

إقناع جيد للإنسان أن يفعل ما يكره، لأن الله تعالى قد أمرنا به في كتابه العزيز، فاستغله الحاكم في تنفيذ مأربه .

ومن الواضح أن معاوية قد أحب هذه الآية الكريمة ، أو الجزء الأول منها على الأقل، ونفذها حرفيا في كل ما أتي من أمور واستحدث فيها، حيث كان يكره الناس على فعل أشياء غير محببة إلى نفوسهم وذلك على قاعدة : (إن الله قد جعل في المكروه خيرا كثيرا)، كما جاء في القرآن : « وَعَسىَ أن تَكرِهُوا شَيئاً فَهُوَ خَيرٌ لَكُم » .

وعندما نرجع إلى الوراء قليلا ، نرى أن معاوية قد طبق تعاليم تلك الآية منذ أيام الإسلام الأولى، فقد دخل هو وأبوه في الإسلام کرها، فهل كان ذلك تطبيقا للآية القرآنية أيضا؟ ولكنه كما قيل عنه ، كان يستنتج الأفكار

ص: 109


1- ابن عبد ربه : العقد الفريد ج 4 ص 370.

ويستخرج المعلومات لحل مشاكله بطريقته الخاصة ، فقد كان يسهر ثلث الليل في دراسة أخبار العرب وأيامها وأهم ملوكها و سیاستها لرعاياها وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة ، ثم ينام ثلث الليل فيقوم ويقعد ويحضر الدفاتر التي فيها سير الملوك وأخبارها والحروب والمكائد. فهو إذن لم يستمد سياسته التي اشتهر بها من دهاء وذكاء من نفسه أو بدراسة القرآن وشريعة الله سبحانه وسيرة النبي (صلی الله علیه واله وسلم ) أو الخلفاء الراشدين من قبله ، بل إنه استعان على تدبير أمور رعيته بدراسة أخبار الملوك الأقدمين.

وكان يقرأ في تلك الأخبار أنهم يورثون الملك لأبنائهم ، ولذا قرر أن يقلب نظام الحكم الإسلامي المعتمد على الشورى إلى نظام وراثي ، فما كان بالذي يرضيه أن يتولى الأمر زمنا يطول أو يقصر ثم يتركه ليعود إلى البيت الهاشمي أعداء الأمويين من قديم الزمان ، فما انتزع معاوية الخلافة إلا ليثبتها في بيته ويستخلصها لقومه من بني أمية (1).

ومع أن أمر الخلافة ليس ملكا خاصا للخليفة وإنما هو ملك عام لجماعة المسلمين، إلا أنه عين من بعده ابنه، ذلك الماجن المتخلع المتظاهر بالفجور وغير اللائق ، لهذا المنصب الخطير، والذي لم يكن هو نفسه متوقعه حيث كان واسعا عليه ، فقد اندهش كما يروى عندما أخذ الناس يمدحونه ويقرظونه يوم مبايعته فقال لأبيه : (يا أمير المؤمنين ، والله ما ندري انخدع الناس أم يخدعوننا؟ فقال معاوية : كل من أردت خديعته فتخادع لك حتى تبلغ منه حاجتك فقد خدعته ) (2) .

ومع أنه كان يعلم أن في الأمة أهل الحل والعقد الذين اختاروا خلافة «أبي بكر» ثم وافقوا على الوصية إلى «عمر» وأقروها، وأصفقوا مع أهل

ص: 110


1- بنت الشاطیء : سكينة بنت الحسين ص 31.
2- علي حسني الخربوطلي: 10 ثورات ص 70.

الشورى على خلافة «عثمان» وأطبقوا على البيعة طوعا ورغبة «لعلي»، فكان هؤلاء موجودين بأعيانهم أو بنظرائهم، وهم الذين نقموا على معاوية ذلك العقد المشؤوم، إلا أنه صمم على توريث الملك من بعده (1) .

ويقال إن معاوية في عمله هذا كان يرى أن هناك خوفا على الإسلام والمسلمين من بعده فهل كان في خوفه من أمر الأمة بعده أشفق بالأمة من رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم)؟.

لا أظن هذا ولكنه البدع الجديدة التي استحدثها في المسلمين طالما أنكروها من قبل .

وهكذا استقر في الإسلام لأول مرة هذا الملك الذي قام على البأس - والبطش والخوف، والذي يرثه الأبناء عن الآباء ، وأصبحت الأمة كأنها ملك لصاحب السلطان ينقله إلى من أحب من أبنائه كما ينقل إليه ما يملك من وسائل المال وجامده (2) .

إن فكرة توريث الحكم والبيعة ليزيد كانت نقضأ للعهد الذي أبرمه معاوية مع « الحسن بن علي » (علیه السلام) ولم يكن هذا النقض هو الوحيد الذي أقام عليه بل إنه نقض العهد مرات متكررة ومتعددة وفي مواقف مختلفة فقد نقضه عندما حارب الإمام «علي» في سبيل الاستيلاء على الخلافة لإبعاد البيت الهاشمي عنها، مع أن البيعة للإمام (علیه السلام) كانت قد ثبتت بإجماع المسلمين، ووجبت طاعته ولزمت معاوية بيعته - مع العلم بأن العرب كانت تلتزم بإتمام البيعة ويحتاج في نقضها إلى حروب شديدة فكان نقضه هذا خرابا للنظام الإسلامي من جذوره وتغييره إلى نظام أجنبي غريب على الإسلام والمسلمين. فقد كان أمر الخلافة قائم على البيعة، أي على رضا الرعية ،

ص: 111


1- الأميني: الغدير ج 3 ص 25.
2- طه حسين : الفتنة الكبرى ج 2 ص 654.

وأصبحت عقدا بين الحاكمين والمحكومين يعطي الخلفاء عهدا على أنفسهم أن يسوسوا المسلمين بالحق والعدل وأن يرعوا مصالحهم، وأن يسيروا فيهم سيرة النبي (صلی الله علیه واله وسلم) ما وسعهم ذلك ، ويعطي المسلمون على أنفسهم العهد أن يسمعوا و يطيعوا وأن ينصحوا ويعينوا (1) ، فانقلبت هنا لتصبح انتزاعا باستخدام القوة والبطش وتشريع الحروب الإبادية في سبيلها، وأن تتم البيعة بأية طريقة سواء كانت بالوعيد أو الوعود الخلابة ، فالمهم أن تصبح البيعة على كل حال شرعيا (2) .

كما نقضه حين قتل من أهل الكوفة ، وحين أسرف في أموال المسلمين فكانت بين يديه خزائن المال يشتري بها من يشاء، فمن عصى على المال اشتراه بالدهاء والمكر والملاينة، ووكل الباقين إلى الخوف من هيبة السلطان وجبروت الحكم.

ونقضه كذلك حين ولي الجبابرة على الأمصار، وأسرف هؤلاء في أموال الناس ودمائهم (3). فكان كل ذلك نقضأ للبيعة التي أعطاها للناس، ( وتلك تبريء ذمة الحسين بن علي (علیه السلام) لو أراد الخروج). أو بالأصح مكروها ولكن فيه خيرا كثيرا. فقد كانت عاقبة بدعة و بالا على المسلمين أي و بال . فما أكثر ما استحل الملوك من المحارم، وما أكثر ما سفكوا من الدماء وأهدروا من الحقوق ، وضحوا بمصالح الأمة في سبيل ولاية العهد، وما أكثر ما كاد بعض الأمراء من أبناء الملوك لبعض في سبيل هذا التراث ، الذي لم يبحه لهم كتاب ولا سنة ولا عرف مألوف من صالحي المسلمين .

ص: 112


1- طه حسين : الفتنة الكبرى ج 1 ص 221.
2- عفيف طبارة : روح الدين الإسلامي ص 290.
3- طه حسين مرجع سابق ج 2 ص 624، 655.

«صدى فكرة البيعة ليزيد»

تردد معاوية في أول الأمر من إشاعة البيعة لابنه ، ولم يكن خائفا في الحقيقة من مبدأ التوريث أو ولاية العهد، بل كان تردده وخوفه فيمن سيتولى العهد من بعده أي في الشخص الذي سيلي أمر هذه الأمة من بعده، يرث الحكم ، وهو ابنه «يزيد» .

فالفكرة كانت مختمرة في ذهنه ، وتصميمه عليها قد استقر منذ زمن بعيد فهو لم يقف مواقفه تلك من الخلافة الإسلامية ، وتصديه لخليفة المسلمين علي بن أبي طالب (علیه السلام) وانتزاع الحكم منه، حتى يحكم المسلمين مدة حياته ، بل إنه قام بتلك الأفاعيل في سبيل أن يحكم هو، ويحكم أهل بيته من بعده .

ولكنه نظرا لتردده كان يود أن يستطلع آراء الناس ويستخبر مزاجهم في تلك البدعة الجديدة. وكان أكثر ما يقلقه و يزعجه هو وجود « الحسين بن علي (علیه السلام) فهو ابن الإمام علي (علیه السلام) الخليفة الشرعي للمسلمين الذي انتزع منه الخلافة غدرا ، وهو أخو « الحسن بن علي » (علیه السلام) الذي أبرم معه الصلح، والذي كان أبرز بنوده ألا يورث الحكم بعده بل يجعله شوری بین المسلمين . ولذا سأل جماعة من أهله يستفتيهم في أمر «الحسين» كي يتمكن من تكوين فكرة عامة عن موقفه ، فدعا «مروان بن الحكم» وقال له : أشر

ص: 113

علي في الحسين . فقال : «تخرجه معك إلى الشام فتقطعه عن أهل العراق وتقطعهم عنه. فقال معاوية : أردت والله أن تستريح منه وتبتليني به . فإن صبرت عليه صبرت على ما أكره ، وإن أسأت إليه كنت قد قطعت رحمه» .

كما بعث إلى «سعید بن العاص». وسأله السؤال نفسه ، فقال : «إنك والله ما تخاف الحسين إلا على من بعدك، وإنك لتخلف له قرنا إن صارعه ليصر عنه ، وإن سابقه ليسبقنه . فذر الحسين منبت النخلة ، يشرب من الماء ويصعد في الهواء ولا يبلغ إلى السماء». فأقامه (1).

إلا أنه نظرا لاختمار الفكرة واهتمامه على تنفيذها وإصراره على فعلها وإبرازها، وخاصة أن بعضا من المقربين إليه أيد فكرته وشجع عليها، وحسنها وزينها له، مثل «المغيرة بن شعبة» الذي خاف أن يقصيه معاوية عن منصبه - فرأى أن يثبت نفسه ويمكن لها، بحثه على تعيين ابنه خلفا له، وشجعه على إشاعة الخبر وإشهاره بين الجمهور دون خوف وتردد .

كما أن الضحاك بن قيس الفهري أيد الفكرة والبيعة لابنه وأشار عليه بعدم التهاون فيها فقال له: (ویزید ابن أمير المؤمنين في حسن هدیه وقصد سيرته على ما علمت، وهو من أفضلنا علما وحلما ، وأبعدنا رأيا ، فوله عهدك واجعله لنا علما بعدك ، ومفزعا نلجأ إليه ونسكن في ظله) (2).

ولذا فقد بعث إلى رجاله وأنصاره في الأمصار ليقوموا بالإعلان والدعاية للأمر الجديد. ولكنه لسوء حظه، فقد رفض أنصاره وأقرب المقربين إليه ، فكرته سواء في مبدأ التوريث أو المسمی بولاية العهد، كما رفضها من جانب آخر أبناء كبار الصحابة في الحجاز والتابعين والمجاهدين المسلمين .

ص: 114


1- ابن عبد ربه : المرجع السابق ج 3 ص 22.
2- ابن الأثير : الكامل ج 3 ص 507.

فعندما سأل «مروان بن الحكم» بشأن البيعة ، تكلم بكلام كثير وبخ به معاوية وقال له : (أقم الأمور یابن أبي سفيان ، وأعدل عن تأمیرك الصبيان ، واعلم أن لك في قومك نظراء، وأن لهم على مناوأتك وزراء) (1).

ومما قاله أيضا: « جئتم بها هرقلية تبايعون لأبنائكم ».

وقد رد عليه معاوية بعزله من المدينة فولاها «الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان». كذلك رد عليه «سعید بن العاص»: (أما بعد، فإنك أمرتني أن أدعو الناس لبيعة يزيد بن أمير المؤمنين - وأن أكتب إليك بمن سارع ممن أبطأ ، وإني أخبرك أن الناس عن ذلك بطاء، لا سيما أهل البيت من بني هاشم فإنه لم يجبني منهم أحد و بلغني عنهم ما أكره، وأما الذي جاهر بعداوته وإبائه لهذا الأمر فعبدالله بن الزبير، ولست أقوى عليهم إلا بالخيل والرجال ، أو تقدم بنفسك فترى رأيك في ذلك والسلام) (2).

وبعث «زیاد بن أبيه» إليه ينصحه بالتريث، فقد كان يرى أنه يحسن «بیزید» أن يقلع عن ضروب اللهو والعبث الخاص بالشباب : (ویزید صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد، ولا تعجل فإن دركا في تأخير خير من تعجيل عاقبته الفوت) (3) .

أما «عبد الرحمن بن أبي بكر» فقال عندما عرض عليه مروان بن الحكم الفكرة : (كذبت والله يا مروان وكذب معاوية . ما الخيار اردتما لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية ، كلما مات هرقل قام هرقل) (4) .

وكان أن رشاه معاوية بمائة ألف دينار فلم يقبلها وقال : «لا أبيع ديني»

ص: 115


1- المسعودي : مروج الذهب ج 3 ص 28.
2- الأميني: الغدير ج 10/ ص 239 .
3- الطبري : ج 1 ص 169 - ابن الأثير : ج 3 ص 505.
4- ابن الأثير: ج 3 ص 507.

كما أن سعيد بن عثمان بن عفان كان يرى أنه أحق بالخلافة من «يزيد» لأنه ابن «عثمان» الذي تذرع معاوية للوصول إلى الخلافة باسمه، فقال المعاوية :

(يا أمير المؤمنين ، علام تبایع ليزيد وتتركني فوالله لتعلم أن أبي خير من أبيه ، وأمي خير من أمه ، وإنك إنما نلت ما نلت بأبي) (1).

ولكن معاوية أرضاه بتعيينه واليا على خراسان.

كما أن معاوية شاور «الأحنف بن قيس» في استخلاف یزید، وعندما سأله سكت عنه دون أن يبدي رأيه ، فقال : ما لك لا تقول؟ فقال : «إن صدقناك أسخطناك ، وإن كذبناك أسخطنا الله ، فسخط أمير المؤمنين أهون علينا من سخط الله ، فقال : صدقت» (2) .

وأما عائشة أم المؤمنين فقد كتبت إليه : (أما بعد، فإنه من يعمل بمساخط الله يصر حامده ذاما له، والسلام) (3).

وكذلك «عبدالله بن عمر» الذي امتنع عن البيعة وقال : (هذا أراد أن دیني عندي إذن لرخيص).

وكتب «أبو الدرداء » إليه :

(فإنه من يلتمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله ، وكله الله إلى الناس )(4).

أما «المنذر بن الزبير» فقد كان رده بأن وصف يزيد بقوله : (والله إنه

ص: 116


1- العقاد : عبقرية الإمام علي ص 226.
2- ابن عبد ربه : ج 4 / ص 59.
3- ابن عبد ربه : المرجع السابق ص 82.
4- ابن عبد ربه : ج4 ص 59.

ليشرب الخمر، والله أنه ليسكر حتى يدع الصلاة) (1).

وكما ذكرنا سابقا فإن ابنه «یزید» نفسه لم يستسغ عملية تعيينه خليفة من بعد أبيه ، فعندما أخذ الناس يمدحونه ويقرظونه يوم مبايعته قال لأبيه : (والله ما ندري أنخدع الناس أم يخدعوننا) ؟.

ولكن معاوية ، مع هذا، نجح في أخذ البيعة لابنه بوسائله المعهودة .

فعلى الرغم من أنه سيقلب نظام الحكم في الإسلام، ويستحدث فيه بدعا جديدة ، ومع أن اختيار «یزید» معناه تحويل الخلافة إلى النظام الوراثي تشبها بأباطرة الروم والبيزنطيين، وعلى الرغم من أن هذا النظام عارضه العرب منذ اللحظة الأولى لقيام نظام الخلافة بعد وفاة الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وأن العرب بطبيعتهم لا يميلون إلى هذا النظام الوراثي الذي يتعارض مع النظام القبلي الذي ساروا عليه فيما يختص باختيار شيخ القبيلة .

وعلى الرغم من أن «یزید» لم يكن في نظر المسلمين يصلح لتولي هذا المنصب الديني الأول وما زال الناس في صدر الإسلام، وعلى الرغم مما حاول أن يصرفه عن ما يتصف به من ألوان العبث في الحياة وأن يمهد له الجو ويعده لتولي الخلافة حتى أن بعثه على رأس جيش المسلمين لحرب القسطنطينية كي يظهر أنه ترأس المجاهدين في سبيل نشر الدين الإسلامي .

وعلى الرغم من أنه فشل في إصلاحه، وعلى الرغم من صدى الرفض وعدم القبول تجاه فكرته في التوريث عامة واستخلاف ابنه خاصة، ليس فقط من أبناء الصحابة وغيرهم، بل من أقرب أقربائه وأكابر أنصاره .

على الرغم من كل ذلك، فإن حبه له فقط دفعه في أن يورث الخلافة له.

ص: 117


1- العقاد : عبقرية الإمام/ ص 226.

وقد استخدم لنجاح مسعاه وسائله المعتادة ، من بطش وإجبار، وتوزيع المال والهبات فاستخدم القوة والعنف مع أبناء كبار الصحابة الإرضاخهم في قبول البيعة . أما الباقين فاستخدم معهم أسلوب المساومة ، فهو الذي يعطي المقارب ويداري المباعد، ويلطف به حتى يستوثق له أكثر الناس فيبايعوا. فقد كان اختيار «یزید» لولاية العهد مساومة مكشوفة قبض كل مساهم فيها ثمن رضاه ومعونته جهرة وعلانية من المال أو الولاية أو المصانعة . ولو قبضوا مثل هذا الثمن لبايعوا وليا للعهد شرا من يزيد لما همهم أن يبايعوه ، وإن تعطلت حدود الدين ، وتقوضت معالم الأخلاق» . هذا ما يراه المفكر العربي « عباس العقاد» في مشكلة العصر (1) وهو رأي يفسر الكثير ويشرح الوفرة من المختصرات، وأهم ما يبرزه، نفسية الشعب المسلم وقيادته خاصة في تلك الفترة، حيث تبدو هذه النفسيات جبانة وضعيفة، لأنها تستسلم للشر وتفضله في مقابل حفنات من الدراهم أو مصالح دنيوية زائلة .

ولا نعلم ما أصبحت عليه مواقفهم بعد مدة قصيرة من بيعتهم ، عندما فعل «یزید» ما فعله أثناء حكمه بالأفراد والجماعات الإسلامية والمدن الإسلامية؟

فماذا قالوا عندما أمر بقتل آل الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وتشريدهم؟

وما كان رأيهم وموقفهم حينما قام بهتك حرمة المدينة المنورة؟

وفيما فكروا عندما سفك الدماء في حرم الله ؟

وما كان جوابهم عندما استخدم من الرجال والأعوان من هم أقل ما يقال عنهم بأنهم شرذمة من الوحوش الضارية لا تهدأ نفوسهم إلا بالقتل

ص: 118


1- العقاد : أبو الشهداء/ ص 77.

وسفك الدماء ومشاهدتها وهي تراق؟

تلك النفوس المريضة بحق ، كان من الواجب علاجها في المصحات الخاصة بعلاج مثل هذه الأمراض ولكنه - مع الأسف الشديد - كانت النفوس السليمة الصحيحة هي التي تعالج ، وهي النفوس الحقة التي نادت بالإصلاح وبتطبيق المبادىء السامية والأهداف النبيلة . وكان يتم علاجها بالوسائل الدنيئة التي تعافها النفس البشرية الشريفة، وهي وسائل لا يستخدمها إلا القوم الظالمون والفاسقون والمارقون.

ولهذا بدا توريث الخلافة ليزيد أمرا يعارضه أبناء كبار الصحابة ، ويعارضه المسلمون عامة ، كما أن بيعته أثارت كثيرا من السخط لدى أهل الورع والتقي.

كما كانت توليته إيذانا ببدء فترة الانقسام تعرضت لها جبهة المسلمين والدولة الإسلامية . وكان من الخطورة بحيث أصبحت الدولة الأموية على وشك الانهيار . وذلك أن أبناء الصحابة تحللوا من بيعتهم باعتبار أن هذه البيعة أخذت منهم بالقوة ، فأصبحت بلاد الحجاز موطن و مرکز المعارضين «ليزيد»، لأن بلادهم موطن التقاليد الإسلامية والعربية القديمة .

وانحصر الخلاف بين أهل الحجاز والأمويين في دائرة الحكم، فأهل الحجاز يرون أن تعود الخلافة إلى ما كانت عليه في عهد الخلفاء الراشدين ، وأما الأمويين فرأوا أن يدافعوا عن حق صار لهم ، أعني حقهم الخاص بهم، إذ ليس هذا الحق من حق المسلمين .

وقد تعرضت بلاد الشام نفسها لهزات وحرکات نتيجة هذه التولية، إذ قامت الحرب الأهلية بعد تنازل « معاوية الثاني» بين عرب القيسية واليمنية ، فانقسمت الشام على نفسها، ووقف فريق كبير من أهلها بجانب «عبدالله بن

ص: 119

الزبير» الذي كان قد خرج على الحكم الأموي في الحجاز (1) .

( وسيأتي ذكر تفاصيل تلك الأحداث عند تناولنا نتائج الثورة الحسينية) (2) .

ص: 120


1- محمد جمال الدین سرور/ قيام الدولة العربية الإسلامية ص 99.
2- انظر ص الفصل السادس .

یزید بن معاوية

حکم «یزید» مدة سنوات ثلاث، كانت مثيرة ومشحونة بالأحداث الجسام رغم قصرها. فقد عمل فيها أفاعيل الحاكم ذي العمر الطويل .

وقد استخدم في مجابهة أعدائه أساليب أبيه، ولكنه أضاف إليها شيئا من عنده ، فكانت أشد وأقسى مما كانت عليه أيام سلفه .

وخير ما قيل في سني حكمه، قول (سعید بن المسيب) الذي سمی سني «یزید» بالشؤم، ففي السنة الأولى : قتل الحسين بن علي وأهل بيت رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) وأصحابه وجماعته . وفي السنة الثانية : استبيح حرم رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) وانتهكت حرمة المدينة .

وفي السنة الثالثة : سفك الدماء في حرم الله ، وحرق الكعبة (1) .

وسنتناول تفاصيل هذه الأحداث تباعا عند التحدث عن رجاله وأنصاره وأعمالهم، كما أن لنا عودة لها عندما نتناول ثورة «الحسين (علیه السلام) ونتائجها .

وقد قام «یزید» بتنفيذ تلك الأعمال الشنيعة من أجل المحافظة على الدولة الأموية ، وليحكمها كما أسسها أبوه وأورثها إياه . ويلاحظ أنه يستحيل

ص: 121


1- اليعقوبي / ابن واضح ج 2 ص 237 .

أن يأتي تلك الأفعال نفر فيه ذرة من معرفة بالإسلام، وليس أن يكون مسلما . ولهذا اتهم في تربيته غير الإسلامية . إذ كان شبه اليقين أن تربيته لم تكن إسلامية خالصة ، أو بعبارة أخرى كانت مسيحية خالصة ، فلم يبق ما يستغرب معه أن يكون متجاوزا مستهترا مستخفا بما عليه الجماعة الإسلامية لا يحسب التقاليدها و اعتقاداتها أي حساب ولا يقيم لها و زنا، بل الذي يستغرب أن يكون على غير ذلك (1).

فيقول: (السيد مير على الهندي) : (كان يزيد قاسيا غدارا كأبيه ، كان يقتل ويعذب نشدانا للمتعة واللذة التي يشعر بها وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة لأبشع الرذائل، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك، لقد كانوا من حثالة المجتمع (2) .

كما يدلل الأستاذ «مصطفى السباعي» على انحرافه عن الإسلام بقوله : ( إن أكثر المساجد أنشئت في عصر عبد الملك بن مروان، وقل مثل ذلك في بقية الخلفاء ما عدا يزيد فلقد كان على ما يظهر منحرفا بعض الانحراف عن خلق الشريعة في مسلكه الشخصي) (3) .

وهكذا فقد عانت الأمة في عهده من ضروب البلاء والمحن ما لا يوصف لفظاعته ومرارته .

ص: 122


1- عبدالله العلايلي/ مرجع سابق ص 59 .
2- باقر القرشي/ حياة الإمام الحسين ج 2 ص 181.
3- مصطفى السباعي/ مرجع سابق - ص 305.

رجاله وأنصاره

اشارة

وهم الحكام والولاة والقواد العسكريين الذين تملكوا الناس وحكموا أمة الإسلام باسم الإسلام وباسم الدولة الإسلامية . وقد وقفوا بجانب الباطل يحاربون الحق ، فأبرزوا الباطل وأزهقوا الحق ، وغفلوا عن أمور دينهم ، وانشغلوا في أمور حياتهم، ونسوا أن الدنيا ما هي إلا لعب ولهو وأن الآخرة هي الحياة لو كانوا يعلمون.

وسنتناول في عرضنا هذا نماذج من هؤلاء الرجال الذين لم تكن الأعمالهم تجاه الأفراد والأمة مثيلا من قبل . فقد تميزت أساليب تحكمهم في رقاب الناس ، وكيفية مواجهتهم للمشكلات التي اعترضتهم ووسائل حلها، ، بالرغم من أنهم اختيروا في مواقعهم على أساس أنهم أمناء على الناس وحافظين لحقوقهم وحراسا لحياتهم.

وسنختار من هؤلاء من هو أبرزهم نبوغا، وأعظمهم مهارة وأشجعهم جرأة، وأقواهم عداء وأكثرهم اهتمامأ تنفيذا لما يرسمه الخليفة و يصدره من أوامر وتشدقا في إظهار العداء والبغض والكره، واستعمالا للأدوات والوسائل والطرق في تنفيذ ما يرسمه الخليفة وما يصدره من أوامر. (كل ذلك لكي تأتي نهايات أعماله مرضية ومريحة لنفسه المريضة، وقلبه الأسود حقدا، وعقله الأعمى حسدا ) أمثال : عبيد الله بن زیاد، عمر بن سعد، شمر بن ذي الجوشن ومسلم بن عقبة .

ص: 123

والأول : هو الوالي والقائد العام للمنطقة الإسلامية الأكثر توترا وقلقا .

والثاني : هو قائد كبير من القواد العسكريين الذي يطمع في الوصول إلى المناصب الكبرى في الدولة الإسلامية ، فيقدم أقصى ما عنده من جهد وخدمة لحكومته في سبيل الحصول عليها، فقد اشترك في الجيش الأموي لخدمته وخدمة الدولة الإسلامية .

وأما الثالث : فهو جندي من جنود الإسلام ولكنه لا يتورع عن شيء قط في سبيل الحصول على مصلحته الذاتية حتى لو كان قطع رأس ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم).

وأما الرابع : فهو ذلك الشخص الذي سمي «مسرفا» لسرفه في القتل وإراقة الدماء وذلك لتأديب أهل المدينة المعارضين للحكم الأموي .

ويعطي هؤلاء الرجال صورة واضحة تماما لنفسيات الفئات القيادية العليا في الدولة الإسلامية في تلك الفترة الدامية ، فسنتعرف على أسلوب الحاكم في التعامل مع عماله وفئات الشعب ، وعلى الوالي وأسلوب حكمه في ولايته ، وموقفه من مؤيديه ومعارضيه ، وعلى قائد الكتيبة وهو يقضي على فتنة أو ثورة ضد النظام، فنتبين كيفية تصرف الإسلام تجاه هؤلاء المتمردين وعلى أسلوب الجندي المسلم في تنفيذ ما يصدره أميره وسيده- للوصول إلى هدفه حتى لو كان بالحصول على جوائز مادية ومكافآت دنیوية ، ولكنه في غفلة ونسيان عن الآخرة والدين .

فكان أعوانه شرذمة على غراره ، أصدق ما توصف بأنها شرذمة جلادین يقتلون من أمروا بقتله ويقبضون الأجر فرحین (1).

مثال : (عبدالله بن مازن) الذي جاء «یزیدا» يعزيه ويهنئه بالخلافة قائلا :

ص: 124


1- العقاد : أبو الشهداء / ص 52.

( السلام عليك يا أمير المؤمنین، رزئت خير الآباء وسميت خير الأسماء، ومنحت أفضل الأشياء، فهناك الله بالعطية وأعانك على الرعية ، فقد أصبحت قریش مفجوعة بعد ساستها ، مسرورة بما أحسن الله إليها من الخلافة بك والعقبي من بعده).

ثم أنشد يقول :

الله أعطاك التي لا فوقها *** وقد أراد الملحدون عوقها

عنك، فيأبى الله إلا سوقها *** إليك ، حتى قلدوك طوقها (1)

1- عبيد الله بن زياد :

أشار «سرجون» مولی «یزید» عليه بتولية «ابن زیاد» على الكوفة، وكان «سرجون» هذا وهو رومي ، كاتبأ لمعاوية وصاحب أمره، فأصبح مستشارا ليزيد (2). وكان خبيرا في اختيار رجالات الدولة ، فرأى بخبرته أن « ابن زیاد» أصلح شخص في القمع والإرهاب والقتل والصلب والتعذيب ،فولاة الكوفة والبصرة وبلاد العراق وبلاد الري وجرجان .

كان ابن زیاد خريجا بارزا من مدرسة العنف التي كان أبوه أول مؤسسيها في العراق ، ولعله كان أكثر تطرفا وأشد عنفا من أبيه (3). فعندما استلم زمام ولايته أعلن الأحكام العرفية في كل من البصرة والكوفة واتبع في سیاسته : الشدة والإرهاب والإعدام لمجرد الظن والتهمة. ولكنه من جانب آخر، أحسن الإحسان التام إلى كل مريديه واتباعه ، و بذل الأموال للأشراف من أهل الكوفة (4) .

ص: 125


1- المسعودي : المروج ج 3 / ص 65.
2- العقاد : المرجع السابق / ص 52.
3- إبراهيم بيضون: ص 70 مرجع سابق .
4- علي الخربوطلي : ص 60 مرجع سابق 10 ثورات

ولا نستطيع حصر أعماله الإرهابية لكثرتها، ولكن يمكن إيجازها لتكون أمثالأ لتصرفاته العنيفة ومعاملاته القاسية ومواقفه الدموية :

أ. فقد أرهب أهل الكوفة وخوفهم حتى قالوا : ما لنا والفتنة بين السلاطين ، فمن تولي أمرنا فهو الحاكم علينا. وقد أثر فيهم إرهابه حتى إنهم نقضوا البيعة للحسين (علیه السلام) و بایعوا یزید بن معاوية.

ب . طلب منه يزيد «قتل مسلم بن عقیل» وإرسال رأسه إليه ، على الرغم من أن مسلما رفض أن يقتله غدرا مع إمكانه ، فقال فيه: «إنه يقتل النفس التي حرم الله قتلها على الغصب وسوء الظنة ، وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئا (1).

ج - كما قتل «هاني بن عروة» الذي أجار «مسلما». فكان ذلك ذنبه ويستحق عليه التعذيب فالقتل الشنيع.

د- ولما علم «یزید» بمقتل هؤلاء طلب منه أن يتم صنيعه بقتل الحسين (علیه السلام ) فكتب إليه : (أما بعد، فإنك لم تعد إن كنت كما أحب، عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش ، فقد أغنيت وكفيت وصدقت ظني بك و رأيي فيك . وإنه قد بلغني أن الحسين قد توجه نحو العراق ، فضع المسالح واحترس على الظن ، وخذ على التهمة، غير ألا تقتل إلا من قاتلك. فقد ابتلی به زمانك بين الأزمان، وبلدك بين البلدان ، وابتليت به من بين العمال، وعنده تعتق أو تعود عبدا) (2) .

عندئذ بدأ الاستعداد والتجهيز والتخطيط للقضاء على الحسين وأهل بيته وأصحابه .

ص: 126


1- العقاد : أبو الشهداء / ص 55.
2- الطبري : ج 6 ص 213/ ابن عبد ربه : مرجع سابق ج 4 ص 381 - الخربوطلي/ 10 ثورات / ص 80.

وقد أظهر «ابن زیاد» في تنظيم أموره و تثبیت شؤونه وحشد رجاله ، بأنه كان ينوي مسبقا ويريد بقوة التخلص من الحسين وشیعته قبل أن يعلم أهل الكوفة وغيرهم بشيء من خبره. فقد ربط الطرق التي تؤدي إلى الكوفة برجاله وخيله بغرض ألا يدع الحسين (علیه السلام) يصل إليها دون أن تدهمه رجاله وتقف في وجهه (1). وكان هذا دليلا على رغبته في القتل وسفك الدماء. وكان «یزید» قد توفق في اختيار الرجال في معسكره من يعينه على الحسين (علیه السلام)، فاختار منهم من هو طامع في مال ومستميت في طمعه استماتة من يهدر من الحرمات ولا يبالي بشيء منها في سبيل الحكام (2).

ففي أثناء معركة كربلاء، رأى «عمر بن سعد» أن يطلب من «ابن زیاد» أن يسمح للحسين (علیه السلام) وأصحابه بالرجوع إلى مكة ، ولكن «ابن زیاد» رفض طلبه ، و بعث إليه ليعرض على الحسين وأصحابه البيعة ليزيد فقال في كتابه : (ما بعثتك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتمنيه السلامة والبقاء، ولا التعتذر عنه، وتكون له عندي شفيعأ، انظر فإن نزل حسين وأصحابه المغرورين به على حكمي، فابعث بهم إلى سلمأ، وإن امتنعوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فإنهم لذلك مستحقون) (3).

كما طلب منه أيضأ وأمره أن يمنع الماء عنهم . وقد أصبح (النزول على حكمه) أمرا هاما تقيد رجاله به فلم يقبلوا بدله .

فعندما برز الحسين (علیه السلام) في القوم وقال لهم : (يا قوم على ما تقاتلونني ، على سنة غيرتها أم على شريعة بدلتها، بماذا تستحلون دمي وانتهاك حرمتي؟)؟

ص: 127


1- عمر أبو النصر: آل محمد في كربلاء ص 74.
2- العقاد : مرجع سابق / ص 52.
3- العقاد : المرجع السابق ص 70/ موسوعة العتبات . قسم کربلاء/ ص 53.

قالوا : (أنزل على حكم الأمير ابن زیاد ما ترى إلا ما تحب) (1).

وكذلك أثناء القتال ، قال لهم الحسین (علیه السلام) :

(ويلكم يا أعداء الله ، أعلى قتل مثلي تجتمعون؟ أليس أنا ابن بنت نبيكم؟ أليس جدي شفيعكم يوم القيامة؟ أليس هذه عمامة رسول الله أنا لابسها؟ أليس هذه راية رسول الله أنا حاملها؟ أليس هذا سيف أبي أمير المؤمنين قد قاتل به المشركين مع المجاهدين) ؟ قالوا : «اللهم نعم، ولكن أنزل على حكم ابن زیاد لا ترى إلا ما تحب».

فقال : (والله لا أعطيكم إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد، إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ).

وكان الجيش الذي «بعثه» ابن زیاد «الحرب الحسین (علیه السلام) معدا ومجهزا من قبل لمجابهة ثورة الديلم يتكون من أربعة آلاف فارس».

ولم يشبع من القتل والتعذيب بما فعله من مجزرة رهيبة بالحسين وأصحابه بل أخذ يلعب برأس الحسين (علیه السلام) في مجلسه بقصر الإمارة ، ويضرب ثنيتيه بالقضيب حتى نهره (زيد بن أرقم) وهو صاحب رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) (إرفع هذا القضيب عن هاتين الثنيتين فوالذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) على هاتين الشفتين يقبلهما) فرد عليه ابن زیاد :

(أبكى الله عينيك ، فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك) فخرج وهو يقول: (إنكم يا معشر العرب لعبيد بعد اليوم ،

ص: 128


1- الطبري ج 6 ص 243/ الحافظ سليمان القندوزي : ينابيع المودة/ ص 346.

قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة يقتل خياركم ويستعبد شراركم) (1).

كما أن (أنس بن مالك) أنكر عليه ضرب الرأس : (أما أنه كان أشبههم برسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) (2) .

ه . وقد نشط «ابن زیاد» كأبيه من قبل في مطاردة الشيعة والموالين لأهل البيت وأنزل عليهم من ضروب التعذيب والقتل والصلب ما شاءت له نفسه .

- فقطع يدي (ميثم التمار ) و رجليه وصلبه على جذع نخلة في الكوفة وذلك لأجل تشیعه ، وألجمه بلجام ليمتنع عن التحدث بفضائل أهل البيت، ولما لم يمتنع قطع لسانه فقلته. وكان ذلك قبل قدوم الحسين (علیه السلام) للعراق بعشرة أيام (3).

- وأودع «المختار بن أبي عبيدة الثقفي» السجن خوفا من ثورته على الحكم الأموي .

- وقتل جيشه، جميع التوابين بزعامة «سلیمان بن صرد الخزاعي» في معركة «عين الوردة» (4) .

- كما قتل رسول الحسين (علیه السلام) إلى شيعة البصرة ، حينما حمل كتبه إليهم لما طال عليه الانتظار . وقد أطلع أمر هذه الرسائل إليه : (المنذر بن الجارود) أبو زوجته.

و - ولم يسلم الخوارج من شدته ، فقد أراد «ابن زیاد» بعد موت

ص: 129


1- عمر أبو النصر: المرجع السابق ص 93
2- باقر القرشي: ج1 ص 37.
3- محمد حسين الزين : الشيعة في التاريخ ص 167.
4- المسعودي : المروج ج 3 ص 97.

«یزید» ومعاوية الثاني أن يتودد إلى أهل العراق فلم يفلح، لأن البصرة كانت قد أصبحت مسرحا للعصبية القبلية ، فانتهز الخوارج فرصة هذا الاضطراب ، فبدأوا يعيثون في البصرة فسادا (1).

ز- وأعظم ما تفنن فيه ، هو سب الإمام علي (علیه السلام) على المنابر، فقد بنی أربعة مساجد في البصرة تقوم على بغض «علي بن أبي طالب» والوقيعة فيه ، وهي :

مسجد بني عدي، ومسجد بني مجاشع ، ومسجد على فرضة البصرة ، و مسجد في الأزد (2).

مع العلم بأن «عليا (علیه السلام) كان قد أنعم على «زياد» أبيه وأحسن إليه ، ولكنه كافأه بما عمله من أعماله القبيحة بشيعته ومحبيه والإسراف في لعنه ، ثم جاء ابنه فختم تلك الأعمال السيئة بما ختم .

ولكن لكل داء دواء، ولكل ظلم نهاية . فقد استطاع «المختار» بمساعدة إبراهيم الأشتر أن يقضي عليه في الكوفة ويدخل قصر الإمارة بعد معركة «الخازر» بناحية الموصل، حيث قتل ابن زیاد وجمع من أنصاره وقواده أمثال : (حصین بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وابن حوشب ذي ظليم، وعبدالله بن أياس السلمي، وأبو أشرس وغالب الباهلي) وذلك یوم عاشوراء من عام 67 ه (3).

یا للعدل الإلهي، يقتل «ابن زیاد» يوم عاشوراء كما قتل الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء. ويبعث برأسه إلى «علي بن الحسين (علیه السلام)»، كما بعث برأس الحسین (علیه السلام) إلى «ابن زیاد» .

ص: 130


1- علي حسن الخربوطلي: مرجع سابق ص60.
2- ابن أبي الحديد: الشرح ج 4 ص 94.
3- المسعودي : المروج ج 3 ص 97.

وكان الإمام «زین العابدین» قد دعا ربه - حينما كان في مجلس ابن زیاد - بعد معركة كربلاء، وحين كان يأكل ورأس الحسين أمامه ، قائلا :

(یا رب لا تمتني حتى تريني رأس ابن زیاد وأنا أتغذی) (1) .

وقد استجاب الله تعالى لدعائه ، فحينما فتحت أبوابه للطعام، ودخل الناس فقعدوا ، وبينما هم يأكلون وإذا بمناد ينادي بأعلى صوته : (يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ، ومهبط الملائكة ، ومنزل الوحي، أنا رسول المختار الثقفي إليكم ومعي رأس عبيد الله بن زیاد). فكان حقا أثرا من آثار العدل الإلهي.

وقد أخرج «الترمذي» في صحيحه: (إن حبة دقيقة دخلت في فم عبيد الله بن زياد، عندما ألقي رأسه في القصر، ثم خرجت من منخره مرات متعددة» (2) .

وقال «عمر بن الحباب السلمي» يذم جيش ابن زیاد»:

وما كان جيش يجمع الخمر والزنا *** محلا إذا لاقى العدو لينصرا (3)

وجاء في الحديث :

إن «عبيد الله بن زياد» عاد «معقل بن يسار» في مرضه الذي مات فيه ، فقال له معقل : «إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) يقول :

ما من عبد استرعاه الله رعيته فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة» (4) .

ص: 131


1- عبد الفتاح عبد المقصود: الإمام علي - ج 5 ص 223.
2- ابن الأثير: الكامل ج 4 ص 265.
3- ابن الأثير: الكامل ج 4 ص 266.
4- اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان - ص 27.

2- عمر بن سعد :

أثناء حرب صفين ، والمحكمة في «دومة الجندل » أتی ذکر «عبدالله بن عمر» - «وسعد بن أبي وقاص» على لسان الرجال . حيث أرادوا اختیار أحدهما خليفة بعد «علي (علیه السلام)» ولكن «سعد بن أبي وقاص» كان معتزلا ومؤمنا بأنها أسلم له في دينه ، وإن لم تكن أجدى عليه في دنياه . فهو قد تخلف عن بيعة «علي» وانسلخ عن مجتمعه إلى الصحراء يرعى الغنم .

لكن ابنه «عمر» لم يرضه هذا الخمول من أبيه . فالفتى طموح شغوف بتسنم غوارب الشهرة ، وإن لم تكن هذه الشهرة من غرس يديه ، وكانت ظلا لأب يستطيع لو شاء، أن يتبدى لقومه في هيئة عملاق.

وهو مولع بذيوع الاسم، واستطارة الذكر. وليس يضيره أن يأتيه هذا الذيوع وهذه الاستطارة ، بأية وسيلة ، ومن أي طريق . وسوف يتلمس إلى مبتغاه : كل سبيل حتى ليهطع إليه حين تحق عليه شقوته ، غير متأثم ، ولا ثقيل الضمير، وهو يسبح في بركة من دماء «الحسين» الشهيد.

وعندما أخبر أباه : (أحضر دومة الجندل فإنك صاحبها غدا)، فيرفض «سعد» فيشتعل ويلح: «يا أبت احضر، فإنك أحق الناس بالخلافة».

فيرد عليه : « مهلا يا عمر، إني سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) يقول: (يكون من بعدي فتنة ، خير الناس فيها الخفي التقي، یا بني ، إني لو كنت غامسا يدي في هذا الأمر لغمستها مع علي)» (1).

ولكن الفتى لا يقتنع بهذه الفكرة التي تسيطر على أبيه . ولا يريد أن يستسلم لها. فهو الابن الظامیء للشهرة : التي تأتيه سراعا فيمسك بها ويحضنها ، ولا يفرط فيها، ويستغلها أحسن الاستغلال، فهي ستشهره بطلا

ص: 132


1- عبد الفتاح عبد المقصود: الإمام علي - ج 5 ص 223.

شجاعا في الوغي، وستوصله إلى أرقى المناصب وأعلاها، وأفضل المراكز وأحسنها .

تلك الشهرة والفرصة ، هي قيادة جيش «ابن زیاد» الأموي في الكوفة ، المأمور بالقضاء على أهل بيت النبي (صلی الله علیه واله وسلم) وقتلهم رجالا، وسبيهم نساء وأطفالا، والتمثيل بالجثث المطروحة عراء.

فعمر بن سعد بالاشتراك مع «عبدالله بن شعبة الحضرمي» هو الذي كتب إلى یزید بن معاوية بأن «مسلم بن عقيل» يحكم الناس في الكوفة، وأخبراه بقدوم « الحسين» (علیه السلام) ليخلف المسلمين . وطلبا إليه أن يرسل إليهم رجلا قويا غير «النعمان بن بشير» واليا الذي- أصبح من جماعة «مسلم» وبايع الحسين (علیه السلام). وطلبا منه في النهاية حرب الحسین (علیه السلام) وآله.

فإذا كان ذاك موقفه من أبيه أيام خلافة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)»، حيث كانت البداية ، بداية طلب الشهرة وحب الظهور، ورغبة القيادة والزعامة ، فهذا موقفه الثاني الآن الذي سيمكنه من التوصل إلى بغيته ومناه في الحكم والرئاسة، أي حب الدنيا ورغد العيش، دون حساب إلى أية قيم ومثل أخلاقية، فالرئاسة والقيادة أولا، ثم لا شيء بعد ذلك . فليحصل ما يحصل، فهو عليه أن يعمل ما ينبغي عمله، ويقتل ما يقتل ، ليس له في حياته حسبان إلا الظفر بهدفه .

فلننظر قليلا إلى مواقفه تجاه حركة «الحسین» (علیه السلام) :

قبل يوم العاشر من المحرم، بعث «الحسین» (علیه السلام) إلى «ابن سعد» يطلب الاجتماع به. فاجتمعا ليلا. وبعدها كتب «ابن سعد» إلى «ابن زیاد»: (أمابعد أيها الأمير . فإن الله قد أطفأ الثائرة ، وجمع الكلمة ، وأصلح أمر الأمة. هذا «حسین» قد أعطاني عهدا على أن يرجع إلى المكان الذي أتي منه ، أو أن تسيره إلى أي ثغر من الثغور، أو أن يأتي إلى يزيد فيرى رأيه

ص: 133

فيما بينه و بينه ، فيكون رجلا من المسلمين ، له مالهم وعليه ما عليهم. وفي ذلك رضا الله وللأمة فيه صلاح) (1).

ولكن «ابن زیاد» كما نعلم، رفض هذا بعد إبداء رأي «شمر بن ذي الجوشن»وهدد «عمر بن سعد» بأنه سيعزله إن لم ينفذ أمر الحاكم والخليفة . فما كان من «عمر» الذي تخوف من إبعاده عن القيادة ثم الولاية، إلا أن يسرع ببدء القتال ، وأمر به الرجال ويضرب لهم المثل الأعلى ليكون قدوة لهم من جهة ليخبروا «ابن زیاد» الوالي بأنه نفذ أمره جيدا وعلى أحسن وجه ، من جهة أخرى، فرمى أول سهم في المعركة ليفتتح مهرجان القتال .

ويوضح أسلوبه بأنه لم يكن صادقا فيما أخبر به الوالي، بأن «الحسين» لا يطلب الحرب والقتال . فلو كان جادا في قوله ، وذا نية صحيحة في رأيه ، لما رضي بالحرب ، وتنازل عن القيادة لغيره إذا كان صادقا حقا في مبادرته السلمية ، وكارها لقتال أهل بيت النبي (صلی الله علیه واله وسلم).

ولكنه لم يكن إلا مناورة شخصية خاصة منه أراد الاستفادة منها لتقوية مرکزه عند الوالي ، فقد كان ينشد من وراء ذلك أن يظهر للناس أنه القائد الفذ الذي في قدرته أن يفرض السلام كما يستطيع أن يبدأ القتال .

ويتضح موقفه السلبي هذا، وخوفه على نفسه ومنصبه عندما برز «العباس بن علي» فطلب من «عمر بن سعد» الماء إلى «الحسين» وأهله ، وذكر له أن «الحسين» يقول: (دعوني أذهب إلى بلاد الهند والروم وأخلي لكم الحجاز والعراق).

ولكنه كان على رأي أميره وسيده بأن ينزل «الحسين» (علیه السلام) على حكم يزيد، أو يذوق الموت غصة .

ص: 134


1- عمر أبو النصر: آل محمد في كربلاء، ص 82.

كما أن «الحر الرياحي» طلب من «ابن سعد» تجنب قتال «الحسین وأهله» وتعجب من هذا الأمر ودار حوار بينهما نذكره في جزء آخر من هذا الفصل، حيث انفصل بعد هذا الحوار عن الجيش الأموي والتحق «بالحسين» وجماعته .

ولكن ذهبت كل هذه المحاولات أدراج الرياح، ولم تر أذنا صاغية . فقد طبع الله على قلوبهم وجعلهم صما بكما عميا لا يعقلون.

ثم أن ابن سعد «أكمل عمله جيدا، وأحكم خطته، بأن أحرق الخيام الخاصة بأهل «الحسين (علیه السلام) وداس على الجثث بحوافر الخيل، وأمر فنهبوا ما كان على الرجال والنساء من ملابس وأشياء أخرى.

وقد كان ما سلبه القوم من الحسین وجماعته ضمن مطالب «علي بن الحسين» من يزيد، حيث طلب منه :

1- أن يسلمه رأس الحسين (علیه السلام).

2- وأن يرد ما سلبه القوم منهم، أو قتله إذا شاء .

3- وأن يرجع أهل البيت (علیه السلام) إلى المدينة .

فما سلبه القوم، كان من مطالب «زین العابدین» (علیه السلام).

وفي النهاية ، كان «ابن سعد» هو الذي ساق نساء الحسين (علیه السلام) وقاد السبايا بعد مقتله بأمر من ابن زیاد على طريق جثث القتلى التي لم تزل مطروحة بالعراء (1). بعد أن دفن قتلاه.

وقال فيه النبي (صلی الله علیه واله وسلم) : (يكون مع قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الأرض البقرة بلسانها).

ص: 135


1- العقاد : أبو الشهداء ص 55/ أحمد شلبي : موسوعة التاريخ الإسلامي ص 167.

وكان أبوه «سعد» ناقما عليه لما سمعه من رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) فيه . كما أن (هارون الرشید) لعنه وحكم عليه بالإلحاد والمروق من الدين (1).

3 - شمر بن ذي الجوشن :

هو ذلك الإنسان الذي لا يعرف عملا في حياته سوى الحصول على ما يتمناه بأية وسيلة، إذا كان يعلم ما يريد، وإذا كان يعلم وسيلة، فهو الشخص الذي به لوثة في عقله فلا يعلم حقأ أو عدلا ، ولا يعي باطلا أو ظلما.

فقد كان يصطنع المذهب الخارجي ليجعله حجة يحارب بها عليا وأبناؤه ولكنه لم يتخذه حجة ليحارب بها معاوية وأبناؤه ، فكأنه يتخذ الدين حجة للحقد ثم ينسي الدين والحقد في حضرة المال (2) .

وكان يظن أن جميع الناس على شاكلته في لوثته وتخبط عقله ، وفي ارتباك عقيدته ، وخلو ذهنه من مبدأ أو هدف سام. ففي أثناء معركة كربلاء، نادي على جماعة من أهله وصاح: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان ، أبناء علي (علیه السلام) فقالوا : ما تريد؟ قال : أنتم يا بني أختي آمنون . فقالوا : لعنك الله ولعن أمانك لئن كنت خالنا. أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له.

لكنه على الرغم من لوثته كان يبحث في الحصول على منصب أو مكانة أو مال ، وقد اجتهد في ذلك ما أمكنه. فحينما طلب «عمر بن سعد» من «ابن زیاد» الأمان - للحسين (علیه السلام) ولما استحسن «ابن زیاد» هذا الأمر، وثب «شمر» الذي كان حاضرة المجلس وقال : (والله لئن رحل الحسين ولم يضع يده في يدك ليكونن أولي منك بالقوة ، وأنت أولى بالضعف والعجز، فلا

ص: 136


1- باقر القرشي ج 3 ص 106 - مختصر البلدان لابن الفقيه / ص 271.
2- العقاد : عبقرية الإمام ص 204.

تعطيه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن فلينزل «حسين» على حكمك هو وأصحابه ، فإن عاقبت فأنت أولى بالعقوبة ، وإن عفوت كان ذلك ) (1) .

وقد أثر قوله هذا في «ابن زیاد» الذي بعثه إلى «ابن سعد» يأمره بالقتال «فإن أبي فأنت الأمير عليه وعلى الناس ، واضرب عنقه وابعث إلي برأسه» .

فقد كان ذلك هو عمله الفعلي والحقيقي، وليس البحث في المراوغة والمهادنة.

ثم وصاه بأن يخبر «ابن سعد»: (فإن قتل الحسين فأوطیء الخيل صدره وظهره فإنه عاق شاق قاطع ظلوم. فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أنت أبيت فاعتزل جندنا وخل بين شمر وبين العسكر) (2) .

وفي الحرب عندما شاهد «شمر» قدرة الحسين (علیه السلام) وأصحابه القتالية ، وصمودهم القوي أمام الجمع الحاشد من الجيش الأموي، رأى أن يغير من الخطة العسكرية حتى ينهي المعركة سريعا لصالح دولته فأشار على «ابن سعد» بقوله :

(أيها الأمير، إن هذا الرجل - يعني الحسين - يفنينا كلنا بمبارزته . فقال : كيف نصنع؟ قال : فليحملوا عليه حملة واحدة ، فرقة يضربونه بالسيوف والرماح، وفرقة بالنبل والسهام) (3) ففعلوا حتى أضعفه الجرح الكثير وأصابه سهم «خولي». ولكن لم يتجرأ أحد منهم أن يبادر إلى قتله خوفا ومهابة منه، فأخذ «شمر» يذم ويسب من لا يتعجل قتل الحسين وقال : (والله

ص: 137


1- عمر أبو النصر: آل محمد في كربلاء ص 82.
2- ابن الأثير: ج 4 ص 55.
3- الحافظ سلیمان بن إبراهيم القندوزي ص 348 من كتابه المسمى بمقتل أبي مخنف الذي ذكر فيه شهادة الحسين.

ما كان أحد غيري أحق مني بقتل الحسین) (1). فقام وهجم عليه فجثم على صدره لقتله ، فقال له الحسين :

«من أنت يا هذا وما تريد مني ، فقد زدتني کربا علی کربي . فقال شمر : ألم تعرفني؟ قال الحسين : لا أعرفك بخير . فقال شمر : ولكني أنا أعرفك ، أنت الحسين بن علي المرتضی ابن فاطمة الزهراء، وأني أريد رأسك وأخذه إلى يزيد وابن زیاد طمعا في الجائزة » (2) .

نعم كان الطمع في الجائزة حقا هدفا من أهدافه ، ودافعا قويا لنيله حتى لو كان قطع رأس الحسين (علیه السلام).

4 - مسلم بن عقبة المري:

كان المجتمع الحجازي هو المجتمع الأقوى في معارضة «یزید» وكان موقفه أعنف من غيره من المجتمعات الإسلامية تجاهه؛ حيث تكمن فيه المدينتان المقدستان عند المسلمين ؛ مكة والمدينة .

ففي الأولى بيت الله وحرمه! وفي الثانية بيت النبي (صلی الله علیه واله وسلم) وحرمه . وقد خرجت منهما أقوى الثورات وأعنفها تكافح الحكم الأموي وخاصة حكم یزید بن معاوية . فلم يقبل حزب المدينة بحكمه ورفضه ابتداء وإن قبل بيعته کرها. ولذا أسرع «یزید» بالتخلص منها عندما خرجت رأسها قبل أن تبدأ فكان من مبدئه التخلص من العناصر الإصلاحية التي تغلفها الناحية الدينية وذلك بضرب أية حركة إصلاحية تبرز فيهما ! لأنه متى ما تخلص من الإصلاح والقائمين عليه والمنادين به ؛ تقلصت بعده العصبية الروحية وانحلت ، وانفسخت الروابط الدينية ، وبقيت بعد ذلك العصبية الجاهلية ؛ وبرزت

ص: 138


1- الحافظ سلیمان بن إبراهيم القندوزي ص 348 من كتابه المسمى بمقتل أبي مخنف الذي ذكر فيه شهادة الحسين.
2- محمد رضا: الحسن والحسين ص 110.

الروابط الدنيوية ؛ فتسهل المعاملة معها حينئذ؛ كما أنه من ناحية أخرى رأي أن البيت الأموي سيظل في خطر ما دام الأنصار وسيظل مهددا بالبيت العلوي ما بقيت المدينة . فلما تخلص «یزید» من الحسين وصحبه، تأهب للقضاء على من بقي من زعماء الإصلاح في مكة والمدينة كعبدالله بن الزبير الثائر في مكة ، وزينب بنت علي بن أبي طالب ؛ وعبدالله بن حنظلة الثائرين في المدينة ؛ الذين عملوا على طرد الأمويين من الجزيرة العربية وإبعادهم خارجها (1).

وكان رجله إلى المدينة : «مسلم بن عقبة» بعثه «یزید» إليها في جيش كبير ليؤدب أهلها المعارضين لحكمه؛ ووصاه أن يعظهم لعلهم يرجعوا عن غيهم ويفوقوا إلى رشدهم وإلا فليقاتلهم : (دع القوم ثلاثا ؛ فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم ؛ فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا ، فكل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند؛ فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس) (2) . واختيار «یزید» لمسلم هذا كان عن وصية من أبيه ؛ فيذكر «أبو اليقطان» أنه لما حضرت معاوية الوفاة دعا «یزید» وقال له (إن لك من أهل المدينة يوما ؛ فإذا فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإنه رجل قد عرفنا نصيحته) (3).

وعندما أنهى «مسلم» عمله وبالذي صنعه في أهل الحرة كتب إلى «یزید» بذلك؛ فوقع في أسفل كتابه (فلا تأس على القوم الفاسقين) يقصد بهم أهل المدينة (4).

وعندما بعث إليه برؤوس أهلها وألقيت بين يديه ؛ جعل يتمثل «ابن الزبقري» يوم أحد :

ص: 139


1- عبدالله العلايلي: الإمام الحسين ص 26.
2- ابن الأثير: ج 4 ص 45.
3- ابن عبد ربه : العقد الفريدج 4 ص 387.
4- ابن عبد ربه : العقد الفريدج 4 ص 207.

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** خرج الخزرج من وقع الأسل

لأهلوا واستهلوا فرحا *** ولقالوا ليزيد لا فشل (1)

وأما قائده إلى مكة فكان «الحصين بن نمير السكوني» الذي بعثه إلى «عبدالله بن الزبير» وقد ضرب الكعبة بأسلحة نارية أحرقتها. وكان ذلك في آخر حياة يزيد؛ فمات دون أن يجني ثمار عمله فلم يستطع التخلص من «ابن الزبير» الذي قضى بقية حياته يقاتل جيوش الأمويين .

إن أثر الاضطهاد والعنف الذي استخدم مع أهل مكة والمدينة ؛ وأثر سياسة بني أمية التي عزلت أبناء الأشراف في الحجاز عن مهام الملك وشؤون السياسة ؛ وحبستهم هناك في فراغ ؛ كانت هذه السياسة مفسدة للشباب ؛ إذ أخذ الأمويون يغدقون عليهم المال في سخاء وترف؛ ظهر و بان في الفساد والانحلال في مجتمع الحجاز؛ وبذلك قضوا عليهم أن ينفقوا أيامهم في اللهو والعبث؛ ويبلوا حياتهم في العبث والمجون ، فدفعوا بعملهم هذا بتشجيع حياة المجون في تلك العاصمتين الدينيتين للإسلام . وتصدوا به إلى القضاء على ما لهما من نفوذ دیني كبير وسيطرة روحية نافذة . وقد كان ذلك خاضعا لسياسة مقصودة؛ فاستأجروا طوائف من الشعراء والمغنين والمخنثين لأجل أن يمسحوا عاصمتي الدين بمسحة لا تليق بهما ولا تجعلهما صالحتين للزعامة الدينية ؛ وليخلصوا من سيطرتهما؛ وقد ظهر أيام «یزید» الغناء بمكة والمدينة واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب (2).

وسنتناول أحداث تلك الفترة عند التحدث عن نتائج ثورة الحسين (3).

ص: 140


1- ابن عبد ربه : العقد الفريدج 4 ص 390.
2- بنت الشاطیء : سكينة بنت الحسين ص 163 - عبدالله العلايلي : الإمام الحسين ص 26.
3- انظر الصفحات من (الفصل السادس).

الفصل الخامس:خروج الحسين عليه السلام ونهضته وخطوات سيره إلى كربلاء

اشارة

ص: 141

ص: 142

رأى الحسين أن يقوم بواجبه الديني الذي فرضه الله سبحانه وتعالى على الإنسان المؤمن بالجهاد في سبيله، وبما فرضه (النبي - صلي الله عليه واله وسلم) على المسلمين بالجهاد في سبيل الله ، وبما تلقنه هو من مبادىء وأهداف سامية من جده (صلی الله علیه واله وسلم) وأبيه (علیه السلام) حتى يحفظ للإسلام نقاوته وصفاء مبادئه الجليلة ، ويبعد الانحراف عنه خوفا من تمکنه ، كي يسلك المسلم الطريقة المستقيم الذي أوضحه الله للخلق ليسير فيه توجها إليه سبحانه .

والحسين (علیه السلام) في سبيل تنفيذ مبدئه السماوي لم يعمل على مناداة المسلمين للتجمع حوله وحرب الإمام الجائر، أعني لم يكن عمله ارتجالا - بل إن معركته في إبراز الحق وإثباته مرت في مراحل متعددة وخطوات مرسومة، واتخذت صورا مختلفة ، كما استخدم أدوات ووسائل عدة في إعلانه الحرب على «يزيد» فلم يقتصر على استخدامه سلاح السيف والقوة والميدان الحربي . فمما يلاحظ أن القاريء لمسألة الحسين (علیه السلام) من أول وهلة يتخيل أن الحسين (علیه السلام) اتصل سريعا بأهل الكوفة وراسلهم وراسلوه ، ثم تجهز لمعركة غير متكافئة ، راح ضحيتها أنبل وأشرف البشر. هذا ما يراه الإنسان الذي لاينظر إلى الأحداث بعين فاحصة ، بل يمر عليها سراعا دونما تحليل وتعليل لها.

فما حدث كان غير ذلك تماما، لأن معركة الحسين (علیه السلام) - في تحليلها ،

ص: 143

مرت بمراحل وخطوات عدة قبل أن تصل إلى نهايتها المأساوية ، ونحن يمكننا تقسيمها إلى الأقسام التالية ، ومنها ما حدثت أثناء حياته ، مثل ما جرت منها بعد استشهاده، فهي لم تنته في وقتها فقط، بل استمرت بعد شهادته ممن اعتنق مبادئه وأفكاره وتقمصها بعد أن ثبتت الأسباب والنتائج في عقول الناس فعرفوا ما كان يهدف إليه الحسین (علیه السلام) من نهضته وحركته الجبارة .

والمراحل التي مرت بها الحركة وتطوراتها، يمكن تقسيمها كما يلي :

1- موقفه من البيعة ليزيد.

2- موقفه من المعارضين لموقفه بالخروج على الحاكم الجائر .

3- المراسلات التي جرت بينه و بين الأطراف المعارضة لحكم یزید .

4- إرساله السفراء إلى الشعوب و زعمائها المعارضين للنظام الحاكم وإلى شعوب أخرى يوضح لها موقفه من النظام وموقف النظام منه ، وسياسة الدولة تجاه الشعوب الإسلامية .

5- اختبار الكوفة محلا للصراع بين الحق والباطل .

6- الطريق وأهميته بالنسبة لدعوة الحسين (علیه السلام).

7- خطبه التي ألقاها في جموع المسلمين، المؤيدين له والمعارضين، في مناسبات مختلفة، يوضح فيها أهدافه وسياسته ، وسياسة الأمويين، وذلك على أمل أن تؤثر فيهم وعسى أن يرجعوا عن موقفهم اللاواعي .

8- رجاله وأنصاره وموقفهم منه .

9- استخدام القوة وإعلان الحرب على الباطل والتلاحم العسكري .

10- المرحلة الأخيرة، وهي مرحلة ما بعد استشهاده ، أي النتائج التي ترتبت على شهادته وقتله مع أهله وجماعته .

ص: 144

أولا - موقفه من البيعة ليزيد :

لم يكن موقفه المعارض من بيعته حين طلبها منه والي المدينة، هو الأول من نوعه بل لقد عارضها منذ أول ظهورها وبروزها، أي منذ أن فكر فيها معاوية من قبل عندما قرر أن يورث الخلافة في أبنائه. فقد أصبح الحسين المعارض الأول لبيعته ، وتجمع الناس حوله ، مما جعل «مروان بن الحكم» الوالي بالمدينة يكتب في ذلك إلى معاوية :

(أما بعد، فقد كثر اختلاف الناس إلى حسين، والله إني لأرى لكم منه يوما عصيبا).

عند ذلك أدرك معاوية الخطر، فهدد الحسين بقوله: (فإنك متی تكدني أكدك)، وأظهر له مخاوفه من موقفه المعارض له، وأخبره بالأزمة التي ستصادفه بعد موته في كتاب له قاصدا ثنيه وإبعاده عن مبادئه، (والله أتخوف أن تبلی بمن لا ينظرك فواق ناقة)، فهو يهدده بمن سيخلفه من بعده ، الذي لن يؤمن بمكانة الحسين ومنزلته من الرسول (صلی الله علیه واله وسلم).

ولكن الحسين أوضح موقفه لمعاوية ببيان أسلوبه الخاص في معالجة المواقف الحرجة التي تصادفه ، ومعالجته لمواقف الثوار المصلحين المبتغين وجه الله ، فبعث إليه مهددا يبرز أعماله اللاإنسانية، والتي كان آخرها تولية العهد لابنه ، وقد طلب أيضا في رسالته المشهورة إلى معاوية تجنب التفكير في مسألة توريث الخلافة ، مذكرا إياه بالمعاهدات التي أبرمها مع أخيه الحسن (علیه السلام) :

(کفعلك بهؤلاء الذين قتلتهم ومثلت بهم بعد الصلح والأيمان والعهد والميثاق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قتلوا إلا لذكرهم فضلنا، وتعظيمهم حقنا، بما به شرفت وعرفت، مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم من قبل أن يفعلوا، أو ماتوا قبل أن يدركوا . أبشر يا معاوية بقصاص، فليس الله تبارك

ص: 145

وتعالی بناس أخذك بالظنة وقتلك أولياءه بالتهمة، ونفيك إياهم من دار الهجرة إلى الغربة والوحشة ، وأخذك الناس ببيعة ابنك غلام من الغلمان يشرب الشراب ، ويلعب بالكعاب ، لا أعلمك إلا قد خسرت نفسك، وشريت دينك ، وغششت رعيتك ، وأخزيت أمانتك ، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت التقي الورع الحليم) (1).

وكما هو معلوم، أن معاوية تمكن من أخذ البيعة لابنه من أبناء الصحابة بالإكراه والقسر، واستخدام العنف والقوة في تنفيذ فكرته. ولذا عندما مات أحلوا أنفسهم من البيعة. ولذلك أيضا عندما استلم «یزید» الحكم لم يتخوف من معارضة له سوى أبناء كبار الصحابة في الحجاز، فكتب إلى عامله على المدينة (الوليد بن عتبة) : (أما بعد، فخذ حسينا وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتی یبایعوا) (2) .

وتردد «الوليد» في هذا الأمر فأراد أن يأخذ رأي «مروان بن الحكم» فيه ، فقال «مروان»:

(فإني أرى أن تبعث الساعة إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة والدخول في الطاعة فإن فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم، وإن أبوا قدمتهم فضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية . فإن علموا بموته وثب كل امریء منهم في جانب وأظهر الخلاف والمنابذة ودعا إلى نفسه. أما ابن عمر فلا أراه يرى القتال، ولكن عليك بالحسين وابن الزبير، فابعث إليهما فإن بایعا وإلا فاضرب أعناقهما) (3). « وكان موقفه هذا من الحسين ردا على

ص: 146


1- الأميني: الغدير ج 10 ص 160 - أبو منصور الطبرسي : الاحتجاج ج 2 ص 20 - عبد الحميد جودة السحار : حياة الحسين ص 76.
2- عمر أبو النصر: مرجع سابق ص 60- الطبري ج 1 ص 188.
3- محمد رضا مرجع سابق ص 70.

موقف الحسين منه بعد موقعة الجمل عندما طلب من أبيه العفو له» ولكن «الوليد» لم يكن من رأيه موقف «مروان» المتشدد ظاهرا، وطالب الحكم باطنا، فكما قيل كان يفكر ويدبر ليوم غير هذا اليوم، فهو لا يود أن يحكم أيا من أبناء الصحابة، ولا حتى أي فرد من بيت أمية السفياني، فهو يفكر ويدبر للمروانيين .

ولذا، أجابه الوليد: (أتشير علي بقتل الحسين ، والله إن الذي يحاسب بدم الحسين يوم القيامة لخفيف الميزان عندالله ، لا والله لا يراني قاتل الحسين بن علي ولو أعطاني يزيد الدنيا بحذافيرها) (1). وبعث إلى الحسين يأخذ رأيه في أمر البيعة ، فكان رده :

(أيها الأمير ، إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة . بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسق فاجر شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة ، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله ، ومثلي لا يعطي بيعته سرا، فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا معهم فكان الأمر واحدة. ولا أراك تجتزیء بها مني سرا دون أن تظهرها على رءوس الناس علانية) (2).

وقد أحس الحسين بأن المسألة ليست مسألة أخذ رأي و مشاورة، ولا هي قضية ديمقراطية أو شورى في اختيار الحاكم، بل إن المسألة والقضية ، أنه لا بد له من البيعة رضي أم أبي. فإن رضي بالأمر، من الجائز أن يشم رأسه الهواء، وإن أبي فلا بد أن يقتل في سبيل الحق عندما لا يستسلم للباطل مثلما ذكر ذلك كثيرا لأصحابه .

وقد تأكد لديه هذا الواقع المر، فاضطره إلى الخروج من مدينة جده

ص: 147


1- علي حسني الخربوطلي : عشر ثورات في الإسلام ص 80.
2- إبراهيم بيضون: ص 56 - محمد مهدي شمس الدين : ثورة الحسين ص 134- الطبري ج 6 ص 189.

(صلی الله علیه واله وسلم) بعد أن ودعه إلى مكة المكرمة حيث بيت الله الحرام عسى أن يأمن شر يزيد وأنصاره .

وعند خروجه لم تبق جارية ولا مولى ولا فتاة ألا وتعلق به و بنسائه وأولاده . لم يبق أحد. فالكل يرغب في أن يبقى معهم في مدينة جده (صلی الله علیه واله وسلم) ليكون لهم حاميا ضد الطغاة والجبابرة ، فلا يدري أحد ما سيحدث لهم بعد خروجه . فتوجه إلى مكة وهو يقرأ : (فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ) (1) .

ولكن هل من نجاة؟ وهل من عيش في جدار من جدران الأرض المباركة؟ وهل من استقرار فيها؟ وهل من مفر من مطاردة عصابة الحاكم وجلاديه؟

هذا هو السؤال : أن تكون أو لا تكون؟ ومن الطبيعي أن الأفضل ألا تكون.

ولذا، لم يتمكن الحسين من الاستقرار في بيت الله الحرام، فقد تتبعه الرجال الإرهابيون السريون من قبل الحكومة ونشطوا في مطاردته لاغتياله . وقد أوضح « ابن عباس» مسألة مطاردة يزيد للحسين (علیه السلام) واغتياله بالحرم الشريف في كتاب إليه : (فلست بناس إطرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) إلى حرم الله ، ودسك إليه الرجال تغتاله فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة) (2) .

وهو هنا يتهم «یزید» بأن جيوشه أرغمته، ليس على الخروج من المدينة إلى مكة ، بل على الخروج من مكة إلى العراق حتى يسهل قتله. فحينما أحس الحسين (علیه السلام) أن سيوفهم قربت منه، لم يجد إلا الإعلان عن

ص: 148


1- إبراهيم بيضون: ص 70.
2- المسعودي : المروج ج 3 ص 54.

خطته والابتداء بها، وإعلان رحلته الطويلة إلى الله وفي سبيله .

وهي المرحلة الثانية لمراحل معركته البطولية ضد الطغاة، عندما يحاول جمع من أبناء الصحابة وغيرهم من سادات قریش صرف نظره عن الخروج من مكة إلى العراق ، وإبعاده عن إعلان ثورته للعالم والبشرية جمعاء .

ثانيا - موقف الحسين (علیه السلام) من المعارضين لموقفه، من البيعة، ومن الخروج على الحاكم الجائر:

حاول بعض أبناء الصحابة ومنيرهم من أن يهدىء من ثائرة الحسين (علیه السلام) وأن يثنيه عن عزمه، ظنا منهم أن إعلانه الثورة على الحاكم دون ما سبب يوجبه ، وذلك لاختلاط الفهم عندهم بالوضع السائد آنذاك ، ولعدم علمهم بنيته وخططه تجاه الإسلام والمسلمين، فابتغوا التأثير على نفسيته بمهادنة «يزيد»، ولكن رده عليهم كان صريحا وجريئا، وقوة ثابتا واحدا لا تردد فيه ولا تغيير .

فحينما نصحه «عبدالله بن عمر» بالصلح مع يزيد وعدم الخروج إلى العراق بقوله : (أبا عبدالله ، رحمك الله ، اتق الله الذي إليه معادك، فقد عرفت من عداوة أهل هذا البيت - أي الأموي - لكم، وقد ولي الناس هذا الرجل يزيد، ولست آمن من أن يميل الناس إليه لمكان هذه الصفراء والبيضاء فيقتلونك، ويهلك فيك بشر کثیر، فإني قد سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) يقول : حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه ولن ينصروه، ليخذلهم الله يوم القيامة ، واصبر فلعل الله أن يحكم بينك و بين القوم الظالمين ) (1).

قال له الحسين :

ص: 149


1- باقر القرشي: حياة الحسين ج 2 ص 317.

(أنا أبايع يزيد وأدخل في صلحه ، وقد قال النبي (صلی الله علیه واله وسلم) فيه وفي أبيه ما قال ؟ یا عبدالله ، أنا عندك على خطأ من أمري؟ فإن كنت على خطأ فردني فأنا أخضع وأسمع وأطيع). قال «ابن عمر» : (اللهم لا، ولم يكن الله تعالی يجعل ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) على خطأ، وليس مثلك من طهارته وصفوته من رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) على مثل یزید بن معاوية - ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف، وترى من هذه الأمة ما لا تحب . فارجع معنا إلى المدينة ، وإن لم تحب أن تبايع ، فلا تبايع أبدا واقعد في منزلك).

فرد عليه الحسين :

(هيهات يا ابن عمر، أن القوم لا يتركونني وإن أصابوني، وإن لم يصيبوني، فلا يزالون حتى أبايع وأنا كاره أو يقتلوني . يا أبا عبد الرحمن ، أما علمت أن من هوان الدنيا على الله أن رأس «یحیی بن زکریا» أهدي إلى بغي من بغايا إسرائيل. اتق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعن نصرتي) (1).

كما حاول أخوه : «محمد بن الحنفية» أن يغير من موقفه وتفكيره في الخروج إلى مكة ، فقال له:

(تنح يا أخي ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وابعث برسلك إلى الناس ، فإن بایعوك حمدت الله على ذلك ، وإن اجتمعوا على غيرك ، لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ، ولا تذهب مروءتك).

فرد عليه :

(جزاك الله يا أخي خيرا، فقد نصحت وأشفقت، وأنا عازم على

ص: 150


1- باقر القرشي: المرجع السابق ج 2 ص 320- محمد مهدي شمس الدين : المرجع السابق ص 156.

الخروج إلى مكة أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي. فإني أنزل مكة ، فإن اسقترت بي الديار أقمت بها، وإلا فألحق بالرمال التي وراء الجبال (1).

يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى ، لما بایعت یزید بن معاوية وأني لم أخرج أشرأ ولا بطرأ ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت بطلب الإصلاح في أمة جدي (صلی الله علیه واله وسلم) أريد أن أمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي ، فمن قبلي بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي، أصبر حتى يقضي الله بيني و بين القوم وهو خير الحاکمین).

ثم وصاء قائلا :

(وأما أنت فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عينا لا تخف عني شيئا من أمورهم) .

ولما ألح عليه ابن الحنفية في طلبه ، قال له :

(أتاني رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) بعد ما فارقتك وقال لي : يا حسين أخرج فإن الله شاء أن يراك قتيلا) (2) .

وقد التقى «عبدالله بن مطيع » بالحسين (علیه السلام) وهو في الطريق إلى مكة ،

فسأله : «جعلت فداك أين تريد؟ قال : أما الآن فمكة ، وأما بعد ذلك فإني أستخير الله » .

فقال «عبدالله » : (خار الله لك وجعلنا الله فداءك. فإذا أتيت مكة فإياك أن تأتي الكوفة ، فإنها بلدة مشؤومة ، بها قتل أبوك وخذل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه. الزم الحرم فأنت سيد العرب. لا يعدل بك أهل

ص: 151


1- هاشم معروف الحسيني : سيرة الأئمة الاثني عشر - القسم الثاني ص 57 - شمس الدین : ص 70 - الطبراي ج 6 / ص 190.
2- باقر القرشي: ج 3 ص 32.

الحجاز أحدا ، ويتداعى إليك الناس من كل جانب ، لا تفارق الحرم یا أبا عبدالله ، فداك عمي وخالي ، والله لئن هلكت لنسترقن بعدك، فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك ، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا ، والله إنها لحرمة الإسلام تنتهك ، وحرمة قريش وحرمة العرب . فلا تفعل ولا تأت الكوفة ، ولا تعرض نفسك لبني أمية) (1).

ولكن الحسين أبي إلا أن يمضي. وخاصة أن أنصاره في العراق أرسلوا إليه الرسائل والرسل كي يتوجه إليهم ليقود ثورتهم ضد یزید و ولاته . فكان أن عزم وتوكل على الله .

وعندما سمع الناس بأمره وقراره، ثاروا وتسارعوا إليه وتدافعوا حوله ، لا ليثنوه عن عزمه فحسب ، بل ليبعدوا عنه مجرد التفكير في السير إلى الكوفة وترك الحرم الشريف (2) ، لأنه سيد العرب فعليه بإلزام الحرم، ولأن الكوفة بلدة مشؤومة كما قال ابن المطيع».

فأسرع إليه «عبدالله بن العباس» الذي تمنى ألا يخرج إلى العراق وقال له : ( یابن عمي، قد بلغني أنك تريد العراق، وأنهم أهل غدر، وإنما يدعونك للحرب فلا تعجل، وإن أبيت إلا محاربة هذا الجبار، وكرهت المقام بمكة، فاشخص إلى اليمن، فإنها في عزلة، وفيها حصونا وشعابا، ولك فيها أنصار وإخوان، فأقم بها وبث دعائك، واكتب إلى أهل الكوفة وأنصارك بالعراق فيخرجوا أميرهم، فإن قووا على ذلك ونفوه عنها ولم يكن بها أحد يعاديك أتيتهم، وما أنا لغدرهم بآمن، وإن لم يفعلوا أقمت بمكانك إلى أن يأتي الله بأمره) (3).

ص: 152


1- ابن الأثير: ج 4 ص 41- هاشم معروف : المرجع السابق ص 57.
2- إبراهيم بيضون: ص 70/ الطبري ج 1 ص 196.
3- المسعودي :المروج ج 3 ص 54.

وقد أجابه الحسين (علیه السلام) بأن رسوله وسفيره «مسلم بن عقيل» إلى العراق ، قد كتب إليه بإجماع أهل الكوفة على بيعته ونصرته.

عندئذ طلب منه «ابن عباس» عدم اصطحاب أهل بيته وإخراج النساء والأولاد معه قائلا : (فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان بن عفان ونساؤه وولده ينظرون إليه) فرد الإمام (علیه السلام): (قد شاء الله أن يراهن سبایا)، وأضاف:

(لأن أقتل في أي مكان من الأرض أحب إلي من أن أقتل هنا فيستباح البلد الحرام بسببي). ويفسر المؤرخون قول الحسين (علیه السلام) في اصطحاب أهله، بأنه كان يرمي إلى أن يشهد الناس ما يقترفه أعداؤه ما لا يبرره دين ولا وازع من إنسانية (1) .

وكذلك حاول «عبدالله بن عمر» منعه من الذهاب إلى الكوفة ، فقد خرج براحلته يسرع الخطى يطلبه في الطريق : أين تريد يا ابن رسول الله ؟ قال : العراق . فقال : ارجع إلى حرم جدك . فأبی عليه. ولما أصر قال له : يا أبا عبدالله أكشف لي عن الموضع الذي كان رسول الله يقبلك منه. فكشف له الحسين عن سرته فقبلها «ابن عمر» ثلاثا و بکی وهو معتنقه وقال :أستودعك الله يا أبا عبدالله من قتيل (2).

كما جرب «عبدالله بن جعفر» و«عمرو بن سعید بن العاص الأشدق» والي مكة في إقناعه بعدم توجهه إلى العراق ، فقال لهما: (إني رأيت رؤيا، رأيت فيها رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) وأمرت فيها بأمر أنا ماض له، على كان أولي).

فقال : ما تلك الرؤيا؟ قال : ما حدثت بها أحدا وما أنا محدث بها أحدا

ص: 153


1- باقر القرشي : ج 2 ص 297.
2- هاشم معروف : المرجع السابق ص 68 - علي حسني الخربوطلي : عشر ثورات في الإسلام ص 80.

حتى ألقى ربي (1). وقد أعطاه الوالي الأمان حتى يرجع، فقال: «خير الأمان ، أمان الله».

وحاولت السيدة «أم سلمة» أيضا منعه فقالت: (يا بني لا تحزني بخروجك إلى العراق ، فإني سمعت جدك رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) يقول: يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلاء وعندي تربتك في قارورة دفعها إلى النبي (صلی الله علیه واله وسلم) ).

فأجابها الإمام (علیه السلام): (يا أماه وأنا أعلم أني مقتول مذبوح ظلما وعدوانا) (2) .

كما رد على «ابن الزبير» حينما نصحه : «والله لئن أقتل خارجا منها بشبر أحب إلي من أن أقتل فيها. وأيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا بهم حاجتهم ، والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت (3).

ومن الذين جربوا نصحه في محاولة لإثنائه عن عزمه : (أبو بكر بن الحارث بن هشام) وهو من سادات قريش وأحد الفقهاء السبعة ويقال له، راهب قريش. نصح الإمام بقوله: (كان أبوك أقدم سابقة وأحسن في الإسلام أثرا، وأشد بأسا، والناس له أرجي، ومنه أسمع وعليه أجمع. فسار إلى معاوية والناس مجتمعون عليه إلا أهل الشام وهو أعز منه، فخذلوه وتثاقلوا عنه حرصا على الدنيا وضنا بها، فجرعوه الغيظ وخالفوه ، حتى صار إلى ما صار إليه من كرامة الله ورضوانه. ثم صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا . وقد شهدت ذلك كله ورأيته . ثم أنت تريد أن تسير إلى الذين عدوا

ص: 154


1- ابن الأثير: ج 4 ص 41 - الطبري ج 6 ص 219.
2- باقر القرشي: ج 3 ص 32.
3- ابن الأثير: ج 4 ص 38.

على أبيك وأخيك تقاتل بهم أهل الشام والعراق، ومن هو أعد منك وأقوى، والناس منه أخوف، وله أرجی، فلو بلغهم مسيرك إليه لاستطمعوا الناس بالأموال وهم عبيد الدنيا ، فيقاتلك من وعدك أن ينصرك ، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره) (1).

فقال الحسين : «جزاك خيرا يا بن عم، فقد أجهدك رأيك، ومهما يقض الله يكن». ولما يئس منه قال : عند الله نحتسب أبا عبدالله .

فالحسين قد عزم على أمر، وإذا عزمت فتوكل على الله، وليس هو الذي يخشى الموت والقتل، وهو القائل : (موت في عز خير من حياة في ذل).

وطلب منه كذلك «جابر بن عبدالله الأنصاري» عدم الخروج، فأبی الإمام (علیه السلام )، وكتب إليه «المسور بن مخرمة بن نوفل القرشي الزهري» الذي كان من أهل الفضل والدين : (إياك أن تغتر بكتب أهل العراق، ويقول لك ابن الزبير الحق بهم فإنهم ناصروك ، إياك أن تبرح الحرم) (2).

وعندما نزل «بطن العقبة» وهو في الطريق إلى الكوفة، أراد أحد الأعراب أن يثنيه عن سيره ، فبين له الأحوال هناك ، فقال الحسين : «إنه لا يخفى على ما ذكرت، ولكن الله عزوجل لا يغلب على أمره) (3) ، فارتحل منها.

كما عرض «الطرماح بن عدي الطائي» عليه أن يسير معه إلى جبالهم «اجا» وقال له: (فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم) .

ص: 155


1- المسعودي : الروح ج 3 / ص 56.
2- باقر القرشي : ج 3 ص 24.
3- ابن الأثير: ج 4 / ص 43.

واستأذن الحسين بأن عليه القدوم على أهله يوصل مؤنتهم، على أن يعود ليحارب معه قائلا : (فوالله لأكونن من أنصارك) رد عليه الحسين : جزاك الله وقومك خيرا، إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر على الانصراف ولا ندري على ما تتصرف بنا و بهم الأمور في عاقبة (1) . ولكنه عندما رجع للوقوف معه ، سمع بمقتله فعاد إلى بلاده (2) .

وطلب منه «الفرزدق» أيضا الرجوع وهو في طريقه إلى الكوفة ، فقد وصف له أهلها بأن «قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية ، والقضاء ينزل من السماء . والله يفعل ما يشاء» فقال الحسين : (صدقت الله الأمر والله يفعل ما يشاء، وكل يوم هو في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد من كان الحق نيته والتقوى سريرته. قل لن يصيبنا إلاما كتب الله لنا) (3) .

فالحسين (علیه السلام) هو المؤمن بقضاء الله وقدره، والمؤمن بالحق ولا شيء غير الحق . فلم يطلب غيره ، ولو كان يريد سواه، لاستغل فرصته التي أتته وهو في الطريق ، وشن هجوما كاسحا على الكتيبة التي أرسلها «ابن زیاد» وعلى رأسها الحر بن یزید الرياحي عندما أشار عليه أصحابه بذلك، وكان في إمكانه القضاء عليها. ولكنه لم يخرج لمثل تلك الأمور، ولم تكن من أهدافه ، يأبى الله له ذلك ورسوله والمؤمنون.

وكتبت إليه «عمرة بنت عبد الرحمن» تعظم عليه ما يريد أن يصنع وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة وتخبره إن لم يفعل إنما يساق إلى مصرعه فتقول:

ص: 156


1- الطبري ج 6 ص 231 .
2- ابن الأثير: ج 4 ص 50.
3- إبراهيم بيضون: ص 70 - الطبري ج 6 ص 218.

أشهد لسمعت عائشة ( رضي الله عنه ) تقول أنها سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) يقول: يقتل الحسين بأرض بابل .

فلما قرأ كتابها قال : فلا بد لي إذن من مصرعي. ومضي (1).

ثالثا - المراسلات التي جرت بينه وبين الأطراف المعارضة لحكم يزيد :

اتصل أهل العراق بالحسين (علیه السلام) بعد وفاة أخيه الحسن بن علي (علیه السلام) وكتبوا إليه يسألونه الثورة على معاوية ، وأنهم على أتم الاستعداد والتجهيز للوقوف معه ، ولكن الحسين طلب منهم التريث وضبط النفس ، فقال في إحدى رسائله إليهم: (أما أخي فأرجو أن يكون الله قد وفقه وسدده فيما يأتي، وأما أنا فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واکمنوا في البيوت ، واحترسوا من الظنة ما دام معاوية حيا).

فالحسين كما نعلم حفيد الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وتربية بيت النبوة، في حفظ العهود والمواثيق ، فلم يقم بعمل ينقض صلح أخيه فيحتذي عدوه .

وأما حينما تتبدل الأحوال وتتغير الأمور، فيتبدل موقفه ويتغير رأيه ، وخاصة عندما تبدلت الأحوال في أواخر عهد معاوية وأول أيام يزيد، فأرسل إليه أهل الكوفة يحثونه على القدوم والتوجه إليهم بأقصى جهده حتى يقود ثورتهم على الوالي الأموي في مدينتهم. فكتب إليهم يوضح لهم تفهمه لقضيتهم وتأييده لموقفهم :

(فقد فهمت كل الذي اقتصصتم، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي «مسلم بن عقیل» وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم ، فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأي ملئکم وذوي الحجي منكم على مثل

ص: 157


1- موسى محمد علي : سيد الشهداء ص 131.

ما قدمت به رسلكم، أقدم إليكم وشيكا إن شاء الله . فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والقائم بالقسط والدائن بدین الحق) (1).

وحينما ألحوا عليه بالسير إليهم قال في رده عليهم :

(أنه مجيبهم إلى ما يريدون إن لزموا العهد وتذرعوا بالصبر على مكافحة أعدائهم).

ولم يقتصر اتصال الحسين بأهل الكوفة فحسب بل لقد أرسل الرسل والوفود إلى أهل البصرة أيضا يطلب منهم الانضمام إلى أهل الكوفة والوقوف مجتمعين في وجه الظلم والطغيان ، فكتب إليهم :

(فإني أدعوكم إلى إحياء معالم الحق وإماتة البدع، فإن تجيبوا تهتدوا سبل الرشاد) (2) .

وفي الحقيقة إن ما كتبه أهل الكوفة والبصرة من رسائل إلى الحسين لم تكن كلها صادقة أو ذات نية صافية ، بل إن معظمها كان زيفا وغشا. فقد استغل «یزید» ورجاله فرصة هذه المراسلات والاتصالات، وحرر بعضا منها بقلم صنائعه من المنافقين والانتهازيين والوصوليين تشجيعا له للخروج من الحجاز ليتمكن من صيده في كمين فيسهل اقتناصه مع أهله.

وكانت هذه جزء من مكيدة «یزید» وخطته التي دبرها والتي اشتملت على جزئين احتوى الأول منها إرسال جنود متسترين يتتبعون الإمام في المدينة ومكة للتخلص منه أو دفعه للخروج منها إلى العراق واقتضى الجزء الثاني منها إرسال الكتب تشجعه على الخروج من الحرم الشريف فيرصد له

ص: 158


1- ابن الأثير: ج 4 ص 21 - الطبري ج 6 ص 198 .
2- علي الخربوطلي : عشر ثورات في الإسلام ص 73.

من يحاربه ويقضي عليه قبل أن يغيثه أحد أو يستعين بأحد. وقد كشف الإمام بنفسه لأصحابه مكيدة أهل الكوفة في رسائلهم إليه بقوله :

(ما كتب إلي من كتب إلا مكيدة لي وتقربا لابن معاوية) (1) .

فكانت معظم الكتب بإيعاز من «یزید» حتی يقدم الإمام فيقتلوه .

رابعا : سفراء الإمام إلى الشعوب وزعمائها المعارضين للنظام :

وإلى جانب المراسلات والكتب التي دارت بين الإمام (علیه السلام) ومؤيديه في العراق ، كان قد بعث سفراء إلى هذه الشعوب ليستعلم أحوالها عن كثب ، والكشف عن مدى حبها لآل البيت، وما إذا كانوا جادين في الوقوف معه . أي إنه رغب في التعرف على نواياهم الصحيحة والحقيقية عن قرب ، والتثبت من أن هؤلاء الناس أو معظمهم يؤيدون فكرته، ويرغبون ببعته.

وكان من سفرائه إلى العراق :

1- مسلم بن عقیل : الذي نجح في مسعاه أول الأمر، وجمع الأنصار، فكتب إلى الحسين (علیه السلام) بالقدوم إلى الكوفة حيث أصبح الأنصار مائة ألف مقاتل.

ولكن مسلما وإن نجح في تكوين جماعة مؤيدة للحسين (علیه السلام) أول الأمر، إلا أنهم في النهاية انصرفوا عنه وتركوه وحيدا في الميدان، حيث تمكن «عبيد الله بن زياد» الوالي الأموي في الكوفة من القضاء عليه.

وسنتناول موقفه في العراق وأحواله ونهايته، في مكان آخر من هذا البحث (2).

ص: 159


1- الطبري ج 6 ص 230 .
2- انظر ص 160.

2- عبدالله بن بقطر: وهو أخو الإمام (علیه السلام) من الرضاعة. أوفده الحسين (1) إلى «مسلم بن عقیل » ليستجلي الأمر، ولكن «ابن زیاد» أمسك به وقتله أيضا .

3- قيس بن مسهر الصيداوي : بعثه الإمام (علیه السلام) عندما كان في طريقه إلى الكوفة ، وبلغ أرض العراق، فكتب إلى أهلها كتابا مع «قیس» يعرفهم قدومه .

ولكنه أمسك به أيضا وبعث إلى «ابن زیاد» الذي رماه من أعلى قصر الإمارة فاستشهد. وكان «ابن زیاد» قد أمره أن يصعد القصر فيسب الكذاب ابن الكذاب الحسين (علیه السلام) . فصعد «قیس» فقال : ( إن هذا الحسين بن علي ، خير خلق الله ، ابن فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم)، أنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر فأجيبوه ، ثم لعن ابن زیاد وأباه، واستغفر لعلي). ولذا أمر به فرمي من أعلى القصر فتقطع فمات .

كما أرسل أيضا مندوبا آخر عنه إلى البصرة وحمله صورة عن البرنامج السياسي للثورة ، فبعث إلى زعمائها أمثال : (الأحنف بن قيس، المنذر بن الجارود، مسعود بن عمرو، قيس بن الهيثم) وذلك بهدف توسيع رقعة الثورة، وفتح أكثر من جبهة ضد الأمويين .

خامسا : اختيار الكوفة مسرحا لأعماله وذيوع أفكاره وبمبادئه : لماذا الكوفة كمركز انطلاق الثورة؟

الكوفة في التاريخ:

تقع الكوفة على الضفة الغربية من الفرات وعلى بعد ثلاثة أميال من مملكة الحيرة ، والحيرة مدينة قديمة تقع إلى جنوب الكوفة القريبة من النجف

ص: 160


1- ابن الأثير: ج 4 ص 41.

الحالية . وهي الآن في الجنوب الشرقي من مشهد الإمام علي (علیه السلام).

والحيرة تعني في اللغة السريانية المعسكر، مما يدل على أنها كانت معسكرا ينزل به الجند. وما لبثت قليلا حتى صارت مدينة تكثر بها المنازل والقصور والحدائق والأنهار، واشتهرت بصحة هوائها لقربها من هواء البرية . ولذا فإن وجودها على طرف العراق في الجنوب - إذ ليس بعدها غير البادية- ما رغب فيها البدو للاستقرار والإقامة بها. وكذلك كانت تأتيها جماعات من مدن العراق والجزيرة، مما أدى إلى أن يصبح سكانها خليطأ من أمم شتی ، ولكن أكثرهم كان من العرب .

وقد قسم «هشام بن الكلبي» العرب فيها إلى ثلاث طبقات :

1- تنوخ: من بقايا العرب أو عرب البحرين .

2 - العباد : وهم سكان الحيرة نفسها، يزرعون الأرض ، ويحترفون الحرف والصناعات، ويعرفون القراءة والكتابة ، ويدينون بالمسيحية .

3 - الأحلاف : وهم من قبائل متفرقة لحقوا بأهل الحيرة و نزلوا فيها وحالفوا تنوخا (1) .

وقد صارت الحيرة عاصمة العرب اللخميين واتسع سلطانهم اتساعا كبيرا. ويبدأ تاریخ ملوكهم في القرن الثالث الميلادي 268 م، وأولهم «عمرو بن عدي» وآخرهم: النعمان الثالث» 580 - 602 م الذي سقطت دولة الحيرة في عهده .

وكان عدد ملوكهم «22» ملكا تولوا الملك سنة 364 كلهم من نسل «عمرو بن عدي» من آل نصر أو لخم.

ص: 161


1- جرجي زيدان : العرب قبل الإسلام / ص 263.

وشهرة آخر ملوكهم «النعمان» مستفيضة في أخبار الجاهلية وفي شعر الشعراء الوافدين على بلاطه منهم : «النابغة الذبياني». فقد اشتهرت مجالس الملوك المناذرة بأنها كانت مرجعا للمستنجدين وميدان للشعراء والمادحين .

وقد تبعت دولتهم امبراطورية الساسان ، فحين تجمعت قبائل عربية وكونت حلفا على عادة العرب القديمة ونزلت غرب الفرات واتخذت الحيرة حاضرة لها، فإنها كانت ترغب في الدخول تحت حماية إحدى الدول الكبرى، مما دفع الدولة الساسانية إلى تأسيس إمارة الحيرة في سنة 240 م لتصبح سدا أمام هجمات الروم (1).

وبعد فتح المسلمين للعراق، أمر الخليفة عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) عام 17 ه سعد بن أبي وقاص ، بإنشاء مدينة جديدة ، فاختار الكوفة التي كان بينها و بين مملكة الحيرة نحو فرسخ ، إذ كانت المدن الإسلامية تنشأ عادة في مواضع على قرب من مدن سابقة، كما هو الحال بالنسبة للبصرة والفسطاط. وكان لبنائها بالقرب من مدن وممالك قائمة أثر بالغ في انتشار ثقافات خاصة بتلك المدن والممالك.

وهكذا جاورت الكوفة مملكة الحيرة مقر حكم المناذرة اللخميين، ومملكة الفرس الساسانيين، ولم يكد يمضي عشرون عاما على بنائها حتی عظم شأنها وصارت من أهم مراكز العالم الإسلامي وأعظمها في العلم والسياسة والحرب ، وغدت قصبة العراق الأعلى (2) .

ومن أهم القبائل التي سكنت الكوفة : كندة ، بجيله ، همدان ، ثقيف ، مذحج، تميم، أسد، بكر، الأزد، وطي. فقد أقامت بها جالية تنسب إلى

ص: 162


1- علي حسني الخربوطلي : تاريخ الحضارة الإسلامية / ص 410.
2- حسن إبراهيم حسن : تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي ص 530.

قبائل عربية مختلفة ذات لهجات متعددة ، وآلاف من الصناع والموالي الذين تكلموا الفارسية ، مما دعت الضرورة إلى تقويم اللسان العربي (1).

ومعظم العرب الذين هاجروا إليها وقت إنشائها هم من عرب الجنوب وخاصة «عبد القيس» الذين هم أكثر قبائل العرب حضارة ومدنية ، كما اشترك نصاری بني تغلب في تخطيط الكوفة وأقام عدد كبير منهم فيها (2).

وكان أول الوافدين إليها بعد العرب ، الفرس الذين كانوا سكان الحيرة الحقيقيين، كما أن بعد تمصيرها سكن السريان في الديارات القائمة في أطراف الحيرة والنجف، وكان السريان قد انتشروا فيها من قبل وأنشأوا مدارس لهم قبل الإسلام درسوا فيها الآداب اليونانية .

كما وفد إليها يهود ونصاری نجران اليمن، ومعظمهم كانوا صيارفة . واليهود كانوا قد سكنوا الحيرة من قبل و بقوا فيها حتى الفتح الإسلامي.

ومما هو معروف أن النبي (صلی الله علیه واله وسلم) قد أرسل إلى ملوك الحيرة يدعوهم إلى الإسلام فيمن أرسل إليهم من الملوك والأمراء (3).

وأول ولاة الكوفة ، سعد بن أبي وقاص الذي تولى قيادة فتح العراق ، ثم عمار بن بكر، فأبو موسى الأشعري، حتى عام 36 ه حين نزلها الإمام علي (علیه السلام) وأقام بها إلى أن قتل بها. فقد اتخذها الإمام حاضرة لخلافته، وذلك لوجود شیعته بها، وخصوبة أرضها، وكثرة خيراتها ووقوعها في مكان متوسط سهل الاتصال بأجزاء الدولة الإسلامية ، ولمركزها العسكري والاستراتيجي لقربها من الحدود التي تفصل بين العراق والشام (4).

ص: 163


1- جعفر الخليلي : المدخل إلى موسوعة العتبات المقدسة : حسين أمين : الكوفة ص 78
2- علي الخربوطلي: المرجع السابق : ص 410.
3- أحمد عادل كمال : الطريق إلى المدائن ص 248.
4- حسن إبراهيم حسن : مرجع سابق / ص 530.

وهكذا أصبحت مركزا للخلافة الإسلامية بعد المدينة المنورة .

واعتبرت الكوفة من أهم مراكز الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، امتازت بعراقتها في الثقافة العربية ، حيث وضعت فيها علوم العقائد والفقه ، ونشأت مدرسة النحويين واللغويين ، وساهمت في الحفاظ على التراث العربي من آداب وشعر ولغة ، مثلما كانت میدانا واسعا لنمو الحركات الفكرية في الإسلام (1). و زاد عدد سكانها حتى بلغ بعد إنشائها بقليل أكثر من مائة وخمسين ألف نسمة. ولم يكن في القرن الأول الهجري مدينة تستطيع منافستها هي والبصرة، حيث إن احتكاك العرب بالشعب الفارسي الموهوب ، والشعوب الأخرى ، قد أثار مشاعر العرب ، كما أن التطور السريع الذي أصاب المدينة وتمثلها للمؤثرات الفارسية وغيرها، أدى إلى قيام حركة ثقافية حية فغدا أهلها أوفر المسلمين نشاطا ذهنيا. وكذلك أدى مركزها الجغرافي والثقافي وتوسطها بين المدينة والشام، إلى إيقاظ الشعور بالشخصية بين أهلها واستمساكها بالاستقلال (2) .

وتعتبر هي والبصرة ومصر والشام من الولايات الخطيرة ، إذ هي موطن القوة الإسلامية ، فيها الجند المقيمون، ومصدر ثراء المسلمين، وفيها الحضارة المستقرة المترفة ، وفيها الأرض الخصبة ، التي تغل من الثمرات ، وتؤتي الخراج، وفيها المعاهدون الذين يؤدون الجزية ، ثم هي وجوه الفتح ومصادره ، إليها تجلب الغنائم التي يفتحها الفاتحون في كل عام، ومنها ترسل الأخماس إلى المدينة ، فإذا كان العرب مادة الإسلام ومصدر قوته العسكرية ، فقد كانت هذه الولايات مادة الإسلام ومصدر قوته المالية (3).

ص: 164


1- جعفر الخليلي : مرجع سابق : ص 78/ أبو زيد شلبي : تاريخ الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي : ص 239.
2- علي الخربوطلي: مرجع سابق : ص 410
3- طه حسين : المجموعة الكاملة لمؤلفاته: الخلفاء الراشدون: المجلد الرابع ص239 .

وقد حرص العرب بعد الفتوحات على إنشاء الأسواق في الأمصار المفتوحة، فزاد بذلك العمران، واتسعت المدن، وأصبحت الأسواق بجانب أغراضها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، مكانا لمفاخرات الشعراء ومجالس الخطباء ، وقد حدث ذلك للكوفة .

فمن أشهر محلاتها «الكناسة» الواقعة غرب مسجد الكوفة، وقد أصبحت مركزا مهما فيها ، تركزت فيها التجارة من بيع وشراء الحيوانات ، وكان فيها أيضا سوق لبيع وشراء العبيد .

وإذا كانت المساجد في الإسلام مرکزا للثقافات الإسلامية ، يجتمع فيها العلماء وتدرس علوم الحديث والتفسير والفقه والأدب وغيرها، ويجلس فيها القضاة لعقد الجلسات وإصدار الأحكام، وتذاع منها مراسيم ونشرات الولاة والأمراء، فإن مساجد العراق أكثر مساجد الأمصار اهتماما بالثقافة وغيرها. حيث دارت فيها المحاورات الأدبية والمناقشات التي كانت تدور حول العصبية القبلية والسياسية ، حتى إن العراق عرفت في الإسلام بأنها میدان للفتن والحروب والتناحر المذهبي .

وقد كان معظم المطالب الشعبية من الدولة تبدأ من المساجد، وما أكثر مابدأت وخرجت الثورات في العهد الأموي من مساجد الكوفة ، مثل حركة «حجر بن عدي» «و مسلم بن عقیل » وعبدالله بن عفيف الأزدي» وغيرهم.

والآن بعد هذا العرض ، أعتقد أنه يمكننا معرفة الأسباب التي دفعت الحسين (علیه السلام) إلى اختيار الكوفة مسرحا لأعماله، ومركزا لانطلاق ثورته .

لم يكن الحسين (علیه السلام) ينوي من حركته أن يهرب من نظام الحكم أو يتوارى عن الأنظار في الجبال الوعرة أو الوديان النائية خوفا من مراقبة رجال «یزید» و بطشهم ، فلم يكن الهروب والاختباء هدفه ، بل الجهاد والثورة ، فقد أرادها مدوية يسمعها القريب والبعيد، لتوقظ النائم ، وتصحي الغافل،

ص: 165

ويدركها العاقل، وتنير المفكر، وتعلم الجاهل وتوجه العامل، بألا يرضوا ويقبلوا بما هو كائن ، و يتنبهوا لما هم فيه من أحوال وأهوال. وحتى تأتي هذه المحصلة ، كان لا بد من أرضية صالحة تستطيع أن تنتشر فيها مبادئه وحركته فيسمعها الناس بكافة طوائفهم وعقائدهم وقبائلهم وعشائرهم وجنسياتهم، ولم تكن أرضية يمكنها أن تؤدي غرضه خير من الكوفة ، التي امتزجت بعناصر متعددة من السكان فكان فيها الفرس والترك والعرب ، والأنباط والسريان ، والقبائل العربية ، وتنوعت فيها أيضا الأديان ، فكان فيها المسلمون ، والخوارج، والنصارى واليهود ، والحزب الأموي .

فالكوفة كانت على مدى عمرها ملتقى الشعوب من جميع الأجناس ، ومثابة التجارة بين الهند وفارس واليمن والعراق والشام، فكانت العاصمة الثقافية التي ترعرعت فيها مدارس الكتابة واللغة والقراءات والأنساب والأفانين الشعرية والروايات .

وكان طابع أهلها التمرد والتبرم من الولاة والطعن فيهم، فهم لا يطيقون الهدوء والاستقرار وعدم الطاعة للنظام. حتى إن معاوية أدرك ذلك فحذر ابنه «یزید» منهم ووصاه بمداراتهم : (وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن يشهر عليك مائة ألف سيف).

فالكوفة كانت تمثل مركز المعارضة للأمويين، وخاصة إن فيها شيعة آل البيت أتباع الإمام علي (علیه السلام) ومحبي أهل البيت، فالشيعة لم ترض عن صفات «یزید»الشخصية ، حين كان معظمهم يتصفون بالزهد والتقوى، بينما اشتهر «یزید» بالانصراف إلى اللهو والترف. ورأت الشيعة أن كفاحهم ليزيد هو جهاد ديني، وأن موقفهم منه هو نفس موقف الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) من الكفار حينما قام بالدعوة إلى الإسلام. فدعوة أهل الكوفة «للحسين» - بمناصرتهم

ص: 166

ضد الحاكم المستبد أو الغير الشرعي، كان لزاما عليه نظرا لاقتناعه بقضيته ، أن يسارع إلى تلك الجبهة التي أعدت نفسها لمناصرته والمقاومة معه، فحينما وصل رسول الكوفة من قبل «سلیمان بن صرد الخزاعي» وغيرهم يطلبون منه الخروج إليهم ، رأي - «الحسين» فيهم أنصاره الذين يبحث عنهم (1).

فالحسين كان يريد أن يبرز حرکته للعالم الإسلامي كله وللمسلمين وغيرهم، ولذا كان عليه اختيار الموطن لحركته ، في مكان يكثر به الناس من جميع العناصر والقوميات والأديان ، ونقطة اتصال بين الشعوب والدول، وأن يكون على الأخص موطنا صالحا ومعارضا لبني أمية .

فلكي ينجح الحسين (علیه السلام) في حركته ونهضته، عليه أولا أن يجمع الأنصار، ثم انتشار وذيوع حركته عالميا يسمعها الأقصى والأدني ، كان عليه أن يجمع الأنصار ليحارب دولة رسخت قوائمها لمعاوية ويزيد من بعده على أسس من المال الوفير والسلطان الخطير والجيوش المنظمة المطيعة. كما كان عليه أن يختار الأرض التي ستشهد ثورته ومصرعه فيسمع الناس أخباره لتنتشر في بقاع الأرض ، ويروي التاريخ - كما سنذكر نحن منها أيضا - عددا من الثورات تنطلق من هذه الأرض - الكوفة - ضد ولاة وحكام بني أمية لسنين عدة حتى تسقط دولتهم.

وقد يرى البعض أن الكوفة هي التي خذلت أباه عليا (علیه السلام) وأخاه الحسن (علیه السلام) من قبل، ولكنها بالرغم من ذلك فإنها تبقى الأرض الصالحة لإعلان معارضته ، وهي أشبه بالخوارج، فبالرغم من أنهم خرجوا على الإمام علي (علیه السلام) إلا أنه منع أصحابه من محاربتهم وقتلهم بعده ، وذلك لأنهم سيصبحون القوة الكبرى والمعارضة المكثفة للحكم الأموي بل وفي إسقاطه وإنهائه .

ص: 167


1- بنت الشاطی : سكينة بنت الحسين ص 18.

ونحن عندما ننظر إلى الكوفة كمسرح للثورة وإلى الرسائل المتبادلة بين أهلها و بين الحسين (علیه السلام)، وإلى المبعوثين من قبله إليها، وإلى كل حركاته وأفعاله، نجد أنها كانت سلسلة متصلة الحلقات مرتبطة ببعضها ارتباطا قويا ومتينا، لا يقدم شيء على شيء ولا يتأخر أمر عن أمر.

فنجد أنه كان ينوي من ورائها إظهار أعمال الأمويين وإبراز ردود أفعالهم تجاه الأمة الإسلامية وأن حكمهم ما هو إلا حكم الجبابرة، وأن أساليبهم بعيدة عن الإسلام كل البعد، وأن جل همهم الحكم والتسلط والسيطرة على المسلمين عامة ، والانتقام من بني هاشم وأصحاب الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وأتقياء المسلمين وصلحائهم خاصة ، وهم الذين تعرضوا لبني أمية في مواقف عدة .

فالرسائل والسفراء والكوفة ما هي إلا وسائل لمرحلة من المراحل المتعددة التي نظمها الحسين وخطط لها ونشط في تنفيذها حتى يصل إلى بلوغ أهدافه ، كما أنها إحدى وسائله في الاحتجاج على أعدائه، فيكشف بها القناع عن وجوههم ليتعرف الناس على حقيقتهم الزائفة، ولهذا فسر اصطحاب «الحسين» لأهل بيته من النساء والأطفال في رحلته الدينية ، كي يظهر للأشهاد مدى قسوتهم وبعدهم عن الإنسانية حين لا يتورعون للوصول إلى أهدافهم بأي وسيلة حتى ولو كانت خبيثة ، فضلا عن أن الحسین خشي أن يخرج وحيدا أن ينكل عامل «یزید» بأهله وهو يعلم حقد بني أمية الموروث لبني هاشم (1).

فلم يكن إذن خروج «الحسين» من الحجاز إلى العراق اعتباطا. فالأرض التي هو سائر إليها في الأرض الموعودة للمعركة المصيرية الفاصلة الدوام الحق ودوام الباطل. وهو سيضرب المثل للقيم الإنسانية الإسلامية

ص: 168


1- ابن واضح: اليعقوبي ج 2 ص 221.

الحقيقية في هذا الصراع العظيم بين الخير والشر بل إنه سيعمل على أن ينجح الخير على الشر إن عاجلا أو آجلا، فهو إذ يبدأ في دق المسمار في النعش فإنه حتما سيزول الظلم والجور في يوم ليس بالبعيد ولكنه بالقريب والعاجل أيضا .

وهناك من الأدلة ما يثبت أن استشهاده سيكون في تلك الأرض ولا أية أرض أخرى، حيث أخبر عنها الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) والإمام علي (علیه السلام) من قبل، وكذلك «الحسین» نفسه ، وهم يؤكدون في أقوالهم حدوث هذه المرحلة في اختيار الحسين لأرض العراق مسرحا لنهضته وللأحداث الدامية التي ستهز البلاد والشعوب بعد أن توقظهم من غفلتهم وسباتهم .

وهذه بعض الأحاديث والأقوال التي تنبأت بالكارثة التي ستصيب الحسين وآله في أرض کربلاء بالعراق : .

1- لما ولد الحسين «علیه السلام» وضعه النبي (صلی الله علیه واله وسلم) في حجره و بکی، فقالت «أسماء بنت عمیس » فداك أبي وأمي يا رسول الله ممن بكاؤك ؟ قال : أبكي لما يصيبه بعدي ، وستقتله الفئة الباغية لا أنالهم الله شفاعتي (1).

2- روى الإمام «أحمد» عن عمار بن عمار، عن ابن عباس ، فقال :

رأيت رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) في المنام نصف النهار أشعث أغبر، معه قارورة فيها دم، فقلت بأبي وأمي يا رسول الله ما هذا؟ قال : هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ ذلك اليوم .

قال عمار: فأحصينا ذلك اليوم فوجدناه قد قتل في ذلك اليوم (2) .

ص: 169


1- عباس العقاد : أبو الشهداء ص
2- مصطفى سعيد الخن: أعلام المسلمين (15) ص 184

وقد روى (ابن أبي الدنيا) بسنده إلى: «على بن زيد بن جدعان» نفس الحلم (1).

3- ويقول «أحمد بن حنبل» في مسنده :

(إن النبي (صلی الله علیه واله وسلم) بکی على الحسين حينما أخبره جبرائيل بأنه يقتل) (2) .

4 - من حديث «أم سلمة» زوج النبي (صلی الله علیه واله وسلم) قالت: إن جبرائيل قال له : (أما إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها). فبسط جناحه فأراه منها، فبكى النبي (صلی الله علیه واله وسلم) (3).

5 - وعن «أم سلمة» قالت : قال رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) : (يقتل الحسين على رأس ستين من مهاجري) (4).

6 - وروى «الطبراني» في الكبير «عن أم سلمة» أنها قالت : (اضطجع رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) ذات يوم فاستيقظ وهو خائر النفس وفي يده تربة حمراء يقلبها، فقلت : ما هذه التربة يا رسول الله ؟ قال : أخبرني جبرائيل أن هذا يقتل بأرض العراق - للحسين - فقلت لجبرائیل : أرني تربة الأرض التي يقتل بها، فهذه تربتها).

وروی كذلك (أبو نعيم عن أنس) ما يقرب من مضمونها أيضا (5).

7 - وروى «أبو يعلى» في مسنده ، قال : (دخلت على النبي (صلی الله علیه واله وسلم) ذات يوم وعيناه تفيضان ، قلت : يا نبي الله أأغضبك أحد، ما شأن عينيك

ص: 170


1- ابن كثير : البداية والنهاية ج 8 /ص200.
2- الجزء الأول : ص 85.
3- ابن عبد ربه : العقد الفرید ج 4 / ص 383.
4- ابن عساکر : تاريخ دمشق ص 185.
5- الإمام الخوئي : البيان في تفسير القرآن ص 524.

تفيضان ؟ قال : بلى، قام من عندي جبرائيل قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات ) (1).

8 - وعن عائشة ( رضي الله عنه ) قالت: بینا رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) راقد إذ جاء الحسين يحبو إليه ، فنحيته عنه ثم قمت لبعض أمري، فدنا منه فاستيقظ الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟ قال : إن جبرائيل أراني التربة التي يقتل عليها الحسين ، فاشتد غضب الله على من سفك دمه. قالت : و بسط النبي (صلی الله علیه واله وسلم) يده فإذا فيها قبضة من بطحاء ، فقال : يا عائشة : والذي نفسي بيده إنه ليحزنني فمن هذا من أمتي الذي يقتل حسين من بعدي (2) ؟.

9- وأخرج «ابن سعد والطبراني» عن أم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنه ) رفعته ، (أخبرني جبرائيل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف ، وجاءني بهذه التربة وأخبرني أن فيها مضجعه) (3).

10 - وقال «ابن عباس» : أوحى الله تعالى إلى محمد (صلی الله علیه واله وسلم) إني قتلت بیحیی بن زکریا سبعين ألفا وإني قاتل بابن بنتك سبعين ألفا (4).

11 - وأخرج «أبو داود والحكم» عن «أم الفضل» زوجة العباس ، كانت مرضعة الحسين بلبن قثم ، رفعته : (أتاني جبرائيل وأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا، وأتاني من تربه حمراء) (5).

12 - سمع «أنس بن الحارث» أن النبي (صلی الله علیه واله وسلم) قال : (إن ابني هذا

ص: 171


1- الإمام الخوئي البيان في تفسير القرآن ص 524
2- الحافظ الكبير ابن عساکر : تاریخ دمشق ص 180.
3- الحافظ سلیمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي : ينابيع المودة ص 319.
4- ابن عبد ربه : المرجع السابق ج 2 ص 219 - محمد حسين المظفر: تاريخ الشيعة ص 40.
5- الحافظ القندوزي الحنفي: المرجع السابق / ص 319.

- يعني الحسين - يقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره). فخرج «أنس» إلى كربلاء وقتل مع الحسين (علیه السلام) (1).

13 - وأما الإمام «علي» أبيه : فيذكر حينما كان في الطريق إلى الشام، تلفت - الآذان صوته الهامس الحزين : ها هنا، ها هنا، فتأخذ الناس من حديثه رجفة و يسألون: وما ذلك يا أمير المؤمنين ؟ فيتمهل بهم حتى إذا دارت عينه فرأت الحسين توقف نظرها على محياه في رنوة حانية، وهتف يجيب : ثقل لآل محمد ينزل ها هنا، فويل لهم منكم وويل لكم منهم، ويل الهم منكم تقتلونهم، وويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم إلى النار. وكانت تلك البقعة كربلاء الشقية (2) .

14 - وجاء أيضا أنه بعد غزو صفين ، نزل «علي» بكربلاء وصلی، فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمها ثم قال : (وأها لك يا تربة ، ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب) (3).

10 . كما أكد «الحسين » بنفسه موته حين أفصح عنه في حواره مع «ابن عباس» عندما أصر على أن يبقى في مكة فقال : (لأن أقتل في أي مكان من الأرض أحب إلي من أن أقتل هنا فيستباح البلد الحرام بسببي) (4) .

سادسا - الطريق، كأداة من أدوات الدعوة إلى نهضته والانضمام معه في مهمته :

اعتبر الطريق الذي سار فيه الحسین (علیه السلام) من المدينة إلى مكة ومنها إلى الكوفة بالعراق ، وسيلة هامة من وسائله في الدعوة إلى قضيته والتعريف

ص: 172


1- محمد حسين المظفر: المرجع السابق ص 40.
2- عبد الفتاح عبد المقصود: الإمام علي ج 4 ص 131 .
3- ابن أبي الحديد: ج 3 ص 169.
4- ابن الأثير: الكامل : ج 4 ص 38.

بأهدافه ، وطلب الجهاد في سبيل الله ، بنشر مبادىء الدين الحنيف، مبينا ما عليه وضع المسلمين من الأخطار والانحرافات والتيارات الخاطئة المحيطة بهم، ومن تغيراتها التي يمكنها أن تفسد وتطمس معالم الإسلام الحقيقية ، وأن تبرز قشورها.

ففي هذا الطريق تقابل مع أشخاص وأناس كثيرين، ذوي عناصر مختلفة، وذوي ثقافات وعقليات متباينة ، حاورهم الإمام (علیه السلام) في المسألة الكبرى التي شغلت بال المسلمين. ومن هؤلاء من حاول منعه من تكملة مسيره ، والنصيحة له بالرجوع إلى حرم الله في بيت الله ، ومنهم من انضم إليه حينما عرض عليهم مسألته وطلب الانضمام والوقوف بجانبه . واستفاد كذلك من بعضهم في الاستفسار عما يدور في العراق من أمور، أو الاستفسار عن مبعوثيه ومراسليه إلى هناك ، وكان منهم من يحذره الاستمرار في خطته وينصحه بالعودة من حيث أتی، حيث إن الأحوال والأمور لا تشجع على ذلك، كما قال «الفرزدق»، الشاعر.

ونحن عندما نتمعن هذا الطريق ، وأحداثه من أوله إلى آخره ، ندرك خطورته وأهميته . فهو ليس طریق عادي ، كما أنه لا يسير فيه نفر عادي ،فهو ليس طريقا تعبره قافلة تجارية من مدينة إلى أخرى تشتري البضائع وتبيعها على هذا وذاك. فالطريق كله ملغم تسير فيه قوة تستلهم إرادتها من قوة الله وعظمته ، صحيح أنهم نفر قليل، ولكنهم كثير في الإيمان. وإذا كان يبدو للرائي قليل ، فعند التجربة والاختبار تظهر كثرته وكثافته وعظمته .

وتبدأ مهمة الطريق من أوله، حينما خرج الحسين (علیه السلام) من مكة ، واعترضه رسل «عمرو بن سعيد بن العاص» الوالي وعليهم «یحیی بن سعد» الذي أمره بعدم الانصراف والرجوع ، فأبى عليه ومضى . وعندما أغلظوا عليه الكلام قال : (لي عملي ولكم عملكم ، أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما

ص: 173

تعملون) (1). فهو لم يخرج رغبة في الحكم والتسلط. بل لإصلاح الانحراف في حكومة جده (صلی الله علیه واله وسلم) كما كرر ذلك مرارا، وهو لذلك ثابت على مبدئه لا يحيد عنه، ولا تستطيع قوة في الأرض أن تصده وتمنعه من تحقيقه و بلوغه .

كما أن في هذا الطريق انضم إليه «زهير بن القين» وأصبح من أخلص رجاله ومناصريه ، فوقف بجانبه يدافع عنه حتى استشهاده .

والتقى فيه أيضا «الطرماح بن عدي» الذي عرض عليه مساعدته بكل أهل قبيلته على أن يصل أهله أولا ثم يعود مع رجاله ، ولكنه لم يتمكن من تنفيذ وعده لأن إمداداته وصلت متأخرة. كما تقابل في هذا الطريق أيضا مع «عبيد الله بن الحر الجعفي» الذي دعاه الحسين للخروج معه، فاعتذر، فحذره الحسين قائلا : (ألا تنصرنا، فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا، فوالله لا يسمع داعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا هلك) فرد عليه : (أما هذا فلا يكون أبدا إن شاء الله ) (2). والتقى فيه «بالحر الرياحي» الذي جعجع به في المكان الذي كان فيه حتى لا يفارقه كما أمره بذلك أميرة «ابن زیاد» ، ولكنه أصبح بعد فترة وجيزة من أخلص أنصاره وأعظم قواده، وأكبر محاربيه والمدافعين عنه حتى استشهد دونه .

وفي الطريق استعلم عن الأحوال والأحداث التي كانت تجري في الكوفة ، وعما حدث لمبعوثيه ورسله إليها ومصيرهم ، ومدى نجاحهم في مهمتهم، مثلما أخبره «عبدالله بن سليم، والمذري بن المشمل» الرجلان الأسديان، بمقتل «مسلم وهانیء» وحاولا إثناءه عن الدخول إلى الكوفة ، ولكن الحسين رد عليهما بأنه (لا خير في العيش بعد هؤلاء) (3) .

ص: 174


1- الطبري ج 6 ص 218.
2- موسی محمد علي : سيد الشهداء / ص 145.
3- الطبري : ج 6 / ص 225.

كما أنه في الطريق أعلن عن مصيرهم ونهايتهم، فقد حدث أن خفق «الحسين برأسه مرة أو مرتين أو ثلاثة وكان يقول في كل مرة : (إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين). فسأله ابنه «علي بن الحسين» في ذلك ، فقال : يا بني إني خفقت فعن لي فارس على فرس فقال : النوم يسيرون والمنايا تسري إليهم. فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا (1).

هذا هو الطريق الطويل الذي يمكننا أن نوجز أهميته فيما يلي :

أ - فقد أعلن فيه الحسین (علیه السلام) معارضته للحكم الأموي وأظهرها لولاتهم وقوادهم.

ب - عرض فيه نفسه على القبائل وزعمائها داعيأ لهم للخروج معه .

ج - وشرح فيه الموقف الخطير الذي ابتلي به المسلمون وقضيتهم الأولى .

د - ونشر فيه أهدافه وأسس قضيته .

ه - واستطاع أن يجمع فيه الأنصار .

و - كما تمكن من تحييد البعض الآخر.

ز - واستعلم عن الأخبار والأحوال في الأمصار وخاصة مركز المعارضة .

ح - واستخبر عن مصير مبعوثيه ورسله وما توصلوا إليه من نتائج في المهمة الموكولة إليهم من قبله .

ط - وأعلن أخيرا عن المأساة التي تنتظره وأهل بيته .

هذا ما حدث في الطريق الطويل وهو مصطحب لأبنائه وأهل بيته

ص: 175


1- الطبري : ج 6 ص 231.

وأصحابه ، فقد سمع وعرف ووعى كل من يسكن فيه، ويسير فيه ، بحركة «الحسين» وأهدافها ومصيرها كذلك.

سابعا - الخطب التي ألقاها في جميع الناس من مؤيدين ومعارضين له في مواقف متفرقة ومناسبات متعددة، يوضح فيها أهدافه وسياسة الأمويين :

وذلك على أمل أن تؤثر فيهم عسى أن يتراجعوا عن موقفهم اللاواعي :

من خطبة له في الجيش الذي قاده «الحر بن یزید الرياحي» بأمر «ابن زیاد» ليوقف سير الحسين (علیه السلام) إلى الكوفة .

(أيها الناس ، أن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكون رضا الله ، ونحن أهل بيت محمد (صلی الله علیه واله وسلم) أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان فإن أبيتم إلا الجهل بحقنا، والكراهة لنا، وكان رأيكم غير ما أتتني به كتبكم، وقدمت به على رسلكم، انصرفت إلى المكان الذي أتيت منه. أيها الناس، لم آتكم حتى أتتني كتبكم و رسلكم، أن أقدم علينا فليس لنا إمام، لعل الله يجمعنا بك على الهدی والحق . فإن كنتم لقدومي کارهين انصرفت عنكم) (1).

وقد خاطب جماعة من أعدائه في محاولة منه لإرجاعهم عن غيهم، وانصرافهم عنه وعن أذية أهله وأصحابه وظلمهم، فتوجه إلى الجماعة التي کاتبته قائلا :

تبا لكم أيتها الجماعة ، أفحين استصرختمونا والهين متحيرين فأجبناكم مستعدين موجفين ، سللتم علينا سيفا لنا في رقابكم، وأججتم نارا جناها عدونا وعدوكم، فأصبحتم ألبا على أوليائكم ، ويدا عليهم لأعدائك بغیر عدل

ص: 176


1- عمر أبو النصر آل محمد في كربلاء/ ص 75.

أفشوه فيكم، ولا أمل لكم فيهم إلا الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش طمعتم، من غير حدث أسرعتم إلينا كطيرة الذباب ، وتداعيتم کتداعي الفراش، فقبحا لكم.

إنما أنتم من طواغيت هذه الأمة ، ونبذة الكتاب ، وشذاذ الأحزاب ، ونفثة الشيطان، وعصبة الأثام العهار بالنسب ، وقتلة أولاد الأنبياء ، ومبيدي عترة الأوصياء و ملحقي العار بالنسب، ومؤذي المؤمنين ، صراخ أئمة المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين .

وأنتم ابن حرب وأشياعه تعتمدون، وإيانا تخذلون، أجل، الغدر فيكم معروف، وقد شجت عليه عروقكم، وتوارثته أصولكم وفروعكم ، وثبتت عليه قلوبكم، وعشبت صدوركم فكنتم أخبث شيء سنخا للناصب ، وآكلة للغاصب، ألا لعنة الله على الناكثين الذين ينكثون الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليه كفيلا. ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين : بين السلة والذلة . وهيهات منا الذلة ، نفوس أبية ، وأنوف حمية ، ما تأخذ الدنية ، أبي الله ورسوله لنا ذلك. ولا تأثر مصارع اللئام على مصارع الكرام.

ألا وإني قد أعذرت وأنذرت، وإني زاحف إليكم على قلة العتاد وخذلة الأصحاب (1).

ولكنهم أجابوه يطلبون منه النزول على حكم «ابن زياد»، فرد عليهم :

(والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد. والله لا تلبثون في دياركم بعد قتلى إلا كريث ما يركب الفرس حتى تدور بكم الرحى عهدا عهده إلى أبي عن جدي ، فأجمعوا أمركم وشرکاءكم ثم كيدون،

ص: 177


1- عبد الكريم القزويني: الوثائق مرجع سابق ص 156.

فلا تنتظرون. إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقیم ) (1).

كما خطب فيهم ، في محاولة لإفاقتهم من الغفلة والتخدير :

( أما بعد، فانسبوني وانظروا من أنا؟ ثم راجعوا أنفسكم فعاتبوها. وانظروا هل يصلح ويحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي)؟

ألست ابن بنت نبيكم وابن ابن عمه؟ وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله؟

أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أولیس جعفر الشهيد الطيار في الجنة عمي؟

أولم يبلغكم قول مستفيض أن رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) قال لي ولأخي : (هذان سيدا شباب أهل الجنة)؟ فإن صدقتموني فيما أقول، وهو الحق ، والله ما تعمدت كذبا منذ علمت أن الله يمقت أهله. وإن كذبتموني، فإن فيكم من إذا سألتموه عن ذلك أخبركم. أما في هذا حاجز يحجزكم عن سفك دمي) (2)؟.

وهكذا لم يترك الحسين (علیه السلام) لأعدائه مجالأ حتى طرقه . ولم يترك حجة إلا أقامها عليهم. وذلك لله وللتاريخ، وليعلم البشر أي أناس كانوا، وأية جماعة كانت تلك ، القاسية قلوبهم، المتحجرة أدمغتهم، الفاقدة آدميتهم والعمياء عقليتهم، والتي لم تعرف في حياتها سوى الظلم والكيد والبغي وحب سفك الدم، والتهافت على اقتراف - الشر، كالوحوش الضارية - معاذ الله أن نتهم الوحوش بتلك الصفات ، فهي بعيدة كل البعد عنها، مثلما رأيتها

ص: 178


1- شمس الدين : مرجع سابق ص 154/ الطبري ج 6 ص 243.
2- عمر أبو النصر: آل محمد في كربلاء : ص 81/ الطبري ج 1 ص 243.

في الحدائق المفتوحة في بعض البلدان (سفاري).

وكان آخر عرض تقدم به الحسین (علیه السلام) إلى الأعداء، ليعطيهم فرصة أخيرة كي يتجنبوا ذنب سفك دم آل البيت ، ما رواه (عقبة بن سمعان) الذي صحب الحسین (علیه السلام) من المدينة إلى مكة ومنها إلى العراق ، ولم يفارقه حتى قتل ، من أن الحسین (علیه السلام) قال أثناء المعركة ، مؤكدا أنه لم يتكلم في أي شيء عن موقفه إلا:

(دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه ، أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس)، فلم يفعلوا (1).

فما كان منه إلا أن دعى عليهم :

( اللهم سلط عليهم من لا يرحمهم، ولا يدع أحدا منهم إلا قتله بقتله ، وضربه بضربه ، لينتقم الله لي ولأهل بيتي وأوليائي وأشياعي منهم. فإنهم دعونا لینصرونا فخذلونا، وخرجوا علينا يقاتلوننا. وأنت ربنا عليك توكلنا، فاحكم بيننا وبين قوم ظلمونا وغرونا).

ثامنا - موقف رجاله وأنصاره منه :

إنهم رجال وقفوا مع الحسين وأيدوه في كل خطواته ، في معارضته ، في حربه، وأسلوبه ، كما شاركوه استشهاده .

رجال وقفوا مع الحق لدحر الباطل، وتثبيت أركان الحق وإقامة العدل وإزهاق الظلم .

وقفوا معه لإبعاد الطغاة والجبابرة ، والقضاء على السلطة المستبدة .

رجال شاركوا الحسين في الكشف عن هؤلاء الطغاة والجبارین ،

ص: 179


1- شمس الدين : مرجع سابق ص 154 - الطبري ج 1 ص 235 .

وإبراز صورهم أمام الناس، ومواقفهم تجاه الأمة ، ليعرفهم الجميع بعد أن انكشفت صورهم وأعمالهم عيانا جهارا . فظهرت المعارضة القوية والشديدة، وتأججت نارها يوما بعد يوم، كلما خمدت نار إحداها تلتها أخرى، وقدمت ضحية وراء ضحية ، حتى كانت نهاية دولة الظلم وسلطان الجبارین .

ونحن حينما نعرض لهؤلاء الرجال، لا نعرض سيرة أو ترجمة، بل نماذج لمواقف هؤلاء الشهداء الأبطال ، تجاه إمامهم، وتجاه أعدائهم. لكي نعرف أي نوع من الرجال كانوا، وكيف ساعدوا إمامهم في موقفه الصلب القوي الذي لم يلن فترة ولا لحظة، وأي رجال كانوا في مواقفهم أمام أعدائهم، فلم يتقهقروا أو يتراجعوا أو يضعفوا أمام كل الضغوط وأمام الإرهاب والتعذيب والقتل، في سبيل العقيدة والمبدأ النبيل، ولم يحيدوا عن ذلك حتى النهاية ، ليصبحوا شهداء وقدوة صالحة لمن بعدهم من الأجيال ، وأسوة حسنة لمن معهم وبعدهم .

1- مسلم بن عقیل :

هو ابن عم الحسين (علیه السلام) وسفيره إلى الكوفة ليأخذ البيعة له من أهلها . وقد نزل دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي) عند وصوله إليها.

وكان الوالي في الكوفة من قبل «یزید بن معاوية » : (النعمان بن بشير) الذي لم يتعرض «لمسلم» بسوء، وقبل بمسلكه، فهو لم يجبر أحدا على طاعة يزيد.

وبذا أصبح «مسلم» حاكما للناس، يصلي فيهم، ويخطب على المنابر، ويثبت الناس على بيعة الحسين (علیه السلام) وأصبح كذلك قاضيا بينهم (1) .

ص: 180


1- عبد الحسين إبراهيم: سفينة النجاة ص30 - الطبري ج 6 / ص 202

وقد بلغ عدد الذين بايعوه (80 ألف) مقاتل من الرجال. وقد عيب أنصار «یزید» موقف النعمان بن بشير ووصفوه بأنه موقف الضعفاء تجاه «مسلم» والشيعة فقال :

(أن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله ) (1) .

فأسرع یزید بتغير الوالي (ابن بشیر) بوال آخر، شرس ، عنيف ، لا يعرف قلبه الرحمة ولا الشفقة ، بل يمتلىء حقدا وغيظا ، ويميل بكل ود وحب إلى الدم وإراقته . وهو الطاغي «عبد الله بن زياد» الذي تولى البصرة والكوفة وبلاد العراق وبلاد الري وجرجان.

وطلب منه يزيد، أن يقتل «مسلم» ويرسل إليه رأسه .

فبدأ الوالي الجديد عمله بتنفيذ أوامر سیده بإرسال الرجال في البحث عن «مسلم» وخوف الناس ، حتی ترکه الكثيرون، فبقي وحيدا لا ناصر له، فعندما صلي مرة، لم يكن وراءه يصلي أحد، عندئذ طلب الإجارة، ولكن الجميع فر منه، إلى أن أجاره (هاني بن عروة) من «بني مذحج».

وفي أول الأمر لم يتمكن «محمد بن الأشعث» كبير القواد في ولاية ابن زیاد من القبض عليه، وذلك لقوته وشجاعته في الدفاع عن نفسه ومواجهته لجنوده ، حتى إن «ابن زیاد» ندد به لضعفه ، فرد عليه «ابن الأشعث» : (إنما بعثتني إلى أسد ضرغام وسيف حسام في كف بطل همام من آل خير الأنام) (2).

وقد تمكن (محمد بن الأشعث) من محاصرته والقبض عليه، بعد أن

ص: 181


1- الطبري ج 6 / ص 199 .
2- باقر القرشي: مرجع سابق ج 2/ ص 395.

أعطاه الأمان ، فأرسله إلى قصر الإمارة حيث قتل.

ومما قاله «ابن زیاد» لمسلم قبل قتله : (قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد من الناس في الإسلام).

فرد عليه مسلم : (أما أنك أحق من أحدث في الإسلام ما ليس فيه . أما أنك لم تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السيرة ، ولؤم الغيلة لمن هو أحق به منك) (1).

«ومسلم » هو أول قتيل صلبت جثته من بني هاشم ، وأول رأس حمل من رؤوسهم إلى دمشق (2). وقد ذكر «مسلم» قصده من حركته ومن مجيئه إلى الكوفة ، بقوله :

(فأتيناهم لنأمر بالمعروف و ننهی عن المنكر، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنة ، إنكم أول من خرج على إمام هدى، وشق عصا المسلمين ، وأخذ الأمر غصبا، ونازع أهله بالظلم والعدوان ) (3).

وبالرغم من أن «ابن زیاد» قتل «مسلما» غدرا بعد أن أمنه ، فقد كان بمقدور مسلم أن يقتله غدرا قبل ذلك وبمنتهى السهولة ، ولكنه رفض تنفيذ تلك الفكرة بقوله : (إنا أهل بيت نكره الغدر).

وقال في «عبيدالله بن زياد» : (إنه يقتل النفس التي حرم الله قتلها على الغصب وسوء الظنة ، وهو يلعب ويلهو كأن لم يصنع شيئا).

وقد صدق «مسلم» في قوله هذا، وشرح نفسيته بوضوح، فهو سيقوم بتلك الأعمال التعسفية والجرائم المتكررة لما لا يحصى من أخبار البشر وأصلحهم .

ص: 182


1- أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين ص 107 - ابن الأثير : الكامل ج4 ص 35.
2- المسعودي : مروج الذهب ج 3 ص 9- علي الخربوطلي : 10 ثورات / ص 60.
3- القرشي: مرجع سابق ج2/ ص 406.

وقد ذكرنا جزءا منها في فصل سابق (1) .

وقد شارك «مسلم» الإمام علي (علیه السلام) والحسن والحسين (علیه السلام) وغيرهم رأيهم في وصف أهل الكوفة وغدرهم، فيما ذكره للحسين (علیه السلام) في إحدى رسائله :

(فلا يغرك أهل الكوفة ، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل وكذبوك وخذلوك ، وليس لكذوب رأي).

وقد وضح ذلك أيضا في قوله عند مقتله :

(اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا، فدعونا لینصرونا فأسلمونا العدونا يريق دماءنا).

وهكذا سال الدم الزكي فوقع «مسلم بن عقیل » شهيدا من أجل الفكرة السامية . وسيذهب أيضا (هاني بن عروة) شهيدا من أجل الحفاظ على الوفاء بالعهد.

وكان ذلك بداية الأعمال التعسفية التي لم تشهد الكوفة لها مثيلا في التاريخ (2).

وقد خرج معه: المختار بن أبي عبيده الثقفي، وعبدالله بن الحارث بن نوفل ولكن «ابن زیاد» قبض عليهما وحبسهما (3).

وعندما بعث «ابن زیاد» رأس «مسلم وهاني» إلى «یزید بن معاوية»، كتب إليه سريعا يشكره ويأمره أن يكمل ما بدأه، فيقتل الحسين بن علي أيضا : (وقد بلغني أن الحسين قد توجه نحو العراق ، فضع المراصد والمسالح، واحترس على الظن ، وخذ على التهمة غير ألا تقتل إلا من قاتلك

ص: 183


1- الفصل الرابع .
2- المسعودي : المروج ج 3 ص 9 - موسوعة العتبات المقدسة (قسم کربلاء) ص 49.
3- الطبري ج 6 ص 215.

واكتب إلي في كل ما يحدث من الخبر) (1).

ولما علم الحسين (علیه السلام) بعد ذلك بمقتل «مسلم» وهاني «وعبدالله بن بقطر» أعلم الناس بذلك وقال :

(قد خذلتنا شيعتنا، فمن أحب منكم أن ينصرف فلينصرف فليس عليه منا ذمام). فتفرقوا يمينا وشمالا ، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ، ونفر يسير ممن انضموا إليه . فهؤلاء ظنوا أن الأمور قد استقامت للحسين في العراق .

ولذا، رأى الحسين أن يبين لهم ذلك ، حتى لا يصحبه إلا من أراد مؤاساته والموت معه .

2- هانی بن عروة :

كان رجلا مقداما ثابت الجنان : أجار «مسلما» حيث فر منه الجميع .

وقد جرؤ على أن ينصح «ابن زیاد» بمغادرة العراق ، فقال :

(تشخص إلى أهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم، فإنه قد جاء حق من هو أحق من حقك وحق صاحبك).

على أن «ابن زیاد» كافأه على نصيحته بقتله في قصره ، وقد ناهز ال 99 عاما من العمر (2).

وكان «ابن زیاد» قد طلب منه تسلیم مسلم إليه ، فقال :

(لا آتيك بضيفي تقتله أبدا . والله لو كنت واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه) (3) .

ص: 184


1- ابن الأثير : الكامل ج 4 ص 36/ الطبري ج 6 ص 215.
2- عبد الحسين إبراهيم : مرجع سابق ص 30- الطبري ج 6 ص 214 - المسعودي: المرجع السابق ص 89 - الخربوطلي - المرجع السابق / ص 60
3- ابن الأثير : الكامل ج 4 ص 28.

وقد كان ما ذكر.

وقال عند موته : (اللهم اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي، فإني إنما تعصبت لابن بنت نبيك محمد) (1).

ولكي يظهر الوالي الفرح والسرور، سحل جثتيهما في الشوارع .

3- زهير بن القين البجلي :

حينما كان الحسين (علیه السلام) في طريقه إلى الكوفة ، مر ب«زرود» ، فنظر إلى فسطاط مضروب ، فسأل عنه فقيل له:

إنه لزهير بن القين : وكان عثمانيا .

فاستدعاه الحسين ، فشق عليه ذلك ، ثم أجابه ، فلما عاد منه أشرق وجهه ونقل ثقله إلى الحسين، وضرب فسطاطه إلى لزق فسطاط الحسين ، ثم توجه إلى أصحابه قائلا :

«غزونا بلنجر ففتح علينا وأصبنا غنائم ففرحنا. وكان معنا سلمان الفارسي فقال لنا: إذا أدركتم سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من الغنائم.

فأما أنا فأستودعكم الله (2) .

(من أحب أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد) . ثم طلق زوجته وقال لها : « الحقي بأهلك فإني لا أحب أن يصيبك بسببي إلا خير» (3).

وقد لزم هذا الإنسان المخلص لدينه ، الحسين، حتی قتل معه في

ص: 185


1- باقر القرشي: المرجع السابق ج2/ ص 410.
2- ابن الأثير : ج 4 ص 42.
3- فؤاد علي رضا : غصن الرسول ص 143 - الطبري ج 6 ص 225.

المعركة الكبرى. ومن مواقفه مع الإمام (علیه السلام):

إنه عندما قابل الحسين ، جيش «الحر بن یزید» قال زهير :

(إني والله لأري بعد الذي ترونه لأشد مما ترون، إن قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا، فلعمري، ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به).

فقال الحسين : (ما كنت لأبدأهم بقتال).

ثم خطب الإمام (علیه السلام) في صحبه :

(قد نزل من الأمر ما ترون، وأن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عیش کالمرعى الوبيل ، ألا ترون أن الحق لا يعمل به ، والباطل لا يتناهي عنه، ليرغب المؤمن في لقاء به محقا، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برما).

فرد «زهير»:

(قد سمعنا هداك الله مقالتك يا بن رسول الله ، ولو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنا فيها مخلدين ، لأثرنا النهوض معك على الإقامة فيها) (1) .

ومن خطبه في جيش العدو:

(ونحن على دين واحد حتى الآن ما لم يقع بيننا و بینکم السيف ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنا نحن أمة وأنتم أمة. إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد (صلی الله علیه واله وسلم) لينظر ما نحن وأنتم عاملون. إنا ندعوكم إلى نصره ،وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبدالله بن زیاد .

فإنكم لا تدركون منهما إلا سوءا، يسملان أعينكم ويقطعان أرجلكم وأيديكم. ويمثلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم

ص: 186


1- عبد الحسين إبراهيم : مرجع سابق / ص 57.

(أمثالكم) وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهاني بن عروة وأشباهه).

فما كان من الطرف الآخر إلا أن سبه وأثنى على ابن زیاد ، فقال زهير :

(يا عباد الله إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية ، فإن کنتم لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، خلوا بين الرجل وبين ابن عمه يزيد، فلعمري إن يزيد ليرضي من طاعتكم بدون قتل الحسین).

فرماه عندئذ «شمر» وخوفوه بالموت ، فقال : (والله للموت معه أحب إلي من الخلد معكم) (1).

ومن كلامه مع الأعداء يشرح موقفه وصموده مع الحسين رغم أنه كان عثمانيا :

(أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم - أي من أهل البيت - «أما والله ما كتبت إلى الحسين ولا أرسلت إليه رسولا قط ولا وعدته نصرتي قط، ولكن الطريق جمعني وإياه ، فلما رأيته ذكرت ابن رسول الله ومكانه منه وعرفت ما تقدمون من عذركم ونكثكم، وسبيلكم إلى الدنيا، فرأيت أن أنصره وأكون في حزبه وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظا لما ضيعتم من حق الله وحق رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم)» (2) .

4 - الحر بن یزید الرياحي :

كان من قواد جيش «ابن زیاد» بعثه للتصدي للحسين (علیه السلام) وقطع

ص: 187


1- ابن الأثير : ج 4 ص 63 - الطبري ج 6 / ص 244.
2- باقر القرشي: مرجع سابق ج 2 ص 163 - البلاذري : أنساب الأشراف ج 1 ق 1 - الطبري : ج 6 ص 237 .

الطريق عليه . فأحاط الحسين وصحبه ، عندما كان سائرا نحو الكوفة . فسأله الحسين : من أنتم، لنا أم علينا؟

فقال له الحر: إنا قد أمرنا إذا لقيناك ألا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على ابن زیاد . فقال الحسين : «أيها الناس ، أن تتقوا الله وتعرفوا الحق الأهله يكون رضا الله ... » (1) وعندما بادر الحسين (علیه السلام) إلى الانصراف نحو الحجاز، منعه «الحر» من ذلك ، وهدده بالموت إن لم يمتثل لأمره ، ويسير معه نحو الكوفة . فرد عليه الحسين قائلا :

(أبالموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمه :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى *** إذا ما نوى خيرة وجاهد مسلما) (2)

وبعد تطورات الأحداث السريعة، وعندما كان اليوم العاشر من المحرم، لم يفكر «الحر» أو يتصور أن «ابن زیاد» سيحارب الحسين وجماعته ، فما تصوره أن ما يجري هو مناوشة الحسين وتخويفه فقط. ولكن عندما زحف «عمر بن سعد» قائد الجيش الأموي نحو الحسين ، أوقفه «الحر» قائلا :

(أصلحك الله ، أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال له : أي والله قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي .

فقال الحر: أفمالكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضا؟

قال ابن سعد:

(والله لو كان الأمر إلي لفعلت، ولكن أميرك قد أبى ذلك).

ص: 188


1- راجع خطبة ص 176.
2- محمد رضا : مرجع سابق ص 110 - الطبري ج 6 ص 228.

فأخذ «الحر» يفكر سريعا، وبعد فترة قال لرجل من قومه : «إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، ولا أختار مع الجنة شيئا ولو قطعت وحرقت» (1) .

ثم كان منه أن لحق بالحسين وحارب معه ، ودعا أهل الكوفة إلى التفكير مثله ، والرجوع إلى صوابهم، والوقوف مع الحق ، فالتفت إلى الجيش قائلا :

(يا أهل الكوفة ، دعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتوه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه. أمسكتم بنفسه وأحطتم به ومنعتموه من التوجه في بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته ، فأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعا، ولا يدفع عنها ضرا. وخلاتموه ونساؤه وأصبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهودي والمجوسي والنصراني ، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه . وها هو وأهله قد صرعهم العطش . بئسما خلفتم محمدا في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظما إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه) (2).

ومما جعل «الحر» يذكر الماء والعطش في كلامه ، أنه عندما قابل الحسين (علیه السلام) لأول مرة، كان العطش قد أضر جيشه، فحينما رأى الحسين ذلك قال لفتيانه :

«اسقوا القوم وأر وهم من الماء ، وارشفوا الخيل ترشیفا» ، وفضلا عن ذلك كان الحسين يروي القوم بیده (3) .

ص: 189


1- موسوعة العتبات المقدسة - قسم کربلاء ص 61.
2- محمد رضا: المرجع السابق ص 110 - موسوعة العتبات المقدسة - قسم كربلاء ص 61 الطبري ج 6 / ص 245.
3- عبد الكريم القزويني : مرجع سابق ص 38.

وهذا مما أثر في نفسية الحر، ومن تغيير موقفه بعد ذلك، والخروج من معسكر «ابن سعد» إلى جانب الحسین (علیه السلام) ثم محاربة القوم واستشهاده .

ولأن «الحر» كان أحد رجال «ابن زیاد» ، فقد كان عارفا لنفسيتهم الدنيئة ، ونيتهم الإجرامية ، وحبهم للشر، وبغضهم للخير. فكان خطابه تلخيصا لحالتهم ونواياهم، فأوضح موقف أهل الكوفة ابتداء من طلبهم في رسائلهم إلى الحسين، ليتزعمهم في ثورتهم، حتى نكثهم لوعودهم، إلى الوقوف العدائي الجاحد ضده .

تاسعا - استخدام القوة والتلاحم العسكري :

نقدم فيه صورا للأبطال من رجال الحسين وأنصاره وموقف أهل بيته منه:

قدمنا عرضا سريعا لبعض من هؤلاء الرجال الذين التفوا حول الحسين (علیه السلام) وكانوا أعظم أنصاره وأقوى مؤيديه في أهدافه ومبادئه ، دافعوا عنها منذ أول اتصالهم بالحسين (علیه السلام) إلى أن قدموا أنفسهم ضحية وفداء في سبيلها فاستشهدوا دونه بإصرار قوي على أن يفدوه بأرواحهم الطاهرة .

هؤلاء الرجال وقفوا مع الحسين وصمموا على البقاء معه حتى النهاية ، بعد أن تركه غيرهم ، فثبتوا في مواقفهم الصلبة ، حتى حينما طلب منهم الحسين بعد استشهاد بعض من رجاله وسفرائه وأهل بيته الانصراف عنه : (قد خذلتنا شيعتنا فمن أحب أن ينصرف فلينصرف ليس عليه منا ذمام) فتفرق عنه الناس ، ولكن بقي في أصحابه هؤلاء الذين جاءوا معه من مكة والمدينة ، وثبتوا معه في كل مواقفه حتى النهاية . وعندما حاصرهم العدو من كل جانب كي لا يفرون - ظنا منهم أن ذلك من سلوكهم وشيمتهم - خطب الحسين في أهله قائلا:

(القوم لا يريدون غيري أحدا، وإني لأظن يومنا مع هؤلاء الأعداء

ص: 190

غدا ، وإني قد أذنت لکم فانطلقوا في حل ليس عليكم مني ذمام. هذا الليل قد غشیکم فتفرقوا في سواده و انجوا بأنفسكم) فما كان منهم إلا أن هتفوا:

(لم نفعل هذا لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبدأ، والله لا تفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء ، نفديك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قتلنا كنا وفينا وقضينا ما علينا) (1).

كان هؤلاء هم أصحاب الحسين وأهله، تسابقوا في الدفاع عنه والموت دونه .

كانوا تشكيلة غريبة من البشر ومزج عجيب من عناصره» .

كان فيهم الشباب والشیاب والكهل، مثلما كان فيهم الرضيع .

کان فيهم الشاب الصغير اليافع ، وذو العمر متوسطه .

كان فيهم مع الرجال ، النساء اللواتي أردن الحرب والشهادة في سبيل الله والدفاع عن ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) وما أكثر محاولاتهن للفتك بواحد من أعداء الله .

وحتى قبل الحرب ، كان منهن من ساعد في معركته، حينما فتحت (مارية بنت سعد) من عبد القيس منزلها ليكون مجتمعا للتشاور في أمر البيعة للحسين (علیه السلام) وخرج منهم «يزيد بن نبيط» مع ابنیه وانضموا إلى الحسين حتى قتلوا في كربلاء (2) .

كان فيهم السيد والنبيل، والعبد والمولی.

وكان فيهم العربي والعجمي. والقريب والغريب .

ص: 191


1- الطبري ج 6 / ص 239 - عمر أبو النصر: آل محمد في كربلاء ص 75.
2- ابن الأثير: الكامل ج 4 ص 28.

كان فيهم الصحابي والتابعي والمحب لأهل البيت . وكان فيهم الأنصاري -والمهاجري.

كان فيهم الفقيه والعالم والقاريء، وكان فيهم من آل الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) من يشبهه في خلقه وأخلاقه .

كان فيهم من كان أحد أسرته في جيش العدو، وهو جندي في جيش الحسين (علیه السلام).

وكان فيهم من كان أصلا في جيش «ابن سعد» وتحول إلى جيش الحسین .

وكان فيهم من لم يكن له عطف على الحسين أو على موقفه ، فتحول بكل جوارحه إلى جانبه حتى الشهادة .

وكانوا ينتمون إلى قبائل وعشائر مختلفة ، فهذا من أسد وذاك من غفار أو همدان أو قريش أو مراد أو غيرها.

وكان قد اشترك في هذه التشكيلة العجيبة الحيوان أيضا، فقد كان حصان «الحسين» أوفي من البشر فلم يستطع أحد أن يمسكه فدافع عن نفسه وأذى كثيرا من الأعداء ، ثم أنه أخذ يقبل بدن الإمام المبارك الكريم ويمرغ ناصيته بالدم الطاهر ويصهل صهيلا عاليا (1) .

هؤلاء هم أصحاب الحسين وأهله الذين أحصرهم فكانوا ثمانین ، عرفوا بعد شهادتهم بعدد رؤوسهم التي اجتزت ورفعت على السهام والحراب.

كان الواحد منهم في المعركة يقتل عددا من أفراد العدو، ويبارزه أكثر من مبارز واحد.

ص: 192


1- الحافظ سلیمان بن إبراهيم القندوزي : مرجع سابق ص 348.

ولم يقتل أحدهم بمواجهة فردية ، بل يقتل عندما يحوطه أكثر من مهاجم.

كانوا يتسابقون في البروز للعدو، فكثيرا ما طلب أحدهم أن يبرز قبل الأخر.

فهؤلاء هم الأنصار، حينما وضع الحسین (علیه السلام) آل البيت في مقدمة الصفوف، هجموا إلى الصف الأول قائلين : (معاذ الله أن تموتوا ونحن أحياء نشهد مصارعكم).

كان جنود العدو يتعاركون ويتسابقون للحصول على رأس أحدهم للاشتراك في نيل الجائزة من الحكام. ولشجاعتهم وقوتهم، منع «ابن سعد» أفراده من مبارزتهم ، فلم يكن لهم طاقة بها أو الصمود أمامهم وأمرهم بالدخول في الحرب رأسا إذ هو أفضل.

ولم يكن دور هؤلاء الرجال في هذا اليوم هو الحرب والمبارزة فحسب، بل النصيحة والإرشاد والتوجيه أيضا، فقد عجز هؤلاء الأصحاب وهم يعظون الطرف الآخر ويذكرونهم الله حتى يرتدعوا عن قتال أهل البيت ، فلم يسمعوا لكلامهم ولم يفهموا لخطابهم فقد استحوذ الشيطان على قلوبهم وأعمى بصيرتهم فأنساهم ذكر الله تعالى، وانتهى أمرهم إلى الحرب والقتال.

وقد عرف العدو قوتهم و بأسهم فأطبق عليهم الحصار، ففي أثناء الليل ، كان الحسين وأهله وأصحابه يصلون فيما كانت خيول حرس عدوهم تدور من ورائهم تحرسهم حتى لا يفرون، وكأنما كانوا يريدون قتلهم كلهم والقضاء عليهم جميعا .

وخير ما يوضح موقفهم وما صدر عنهم، شهادة أحد الأعداء الذين اشتركوا في هذا اليوم، فقد قيل لرجل شهد يوم الطف «مع عمر بن سعد» :

ص: 193

(ويحك أقتلتم ذرية محمد رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم)؟ فقال : إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا . ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية ، تحطم الفرسان يمينا وشمالا وتلقي أنفسها على الموت ، لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال ، ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنية أو الاستيلاء على الملك ، فلو كففنا عنها رويدا لأتت على نفوس المعسكر بحذافيرها. فما كنا فاعلين لا أم لك؟) (1). فشهد شاهد من أهله . كانوا قلة في العدد ، وكثرة في الشجاعة والإقدام والفداء .

كانوا جيشا بكامله له ميمنته ومیسرته وحامل لوائه .

وكالجيوش الجرارة، أثناء حروبها كان منهم القتيل والجريح والأسير.

فمنهم من قتل، ومنهم من أصبح أسيرا، ومنهم من لم يقتل فأصبح إماما ، حفظ ذرية محمد (صلی الله علیه واله وسلم) ونسله من الانتهاء ، فزادت الذرية وكثرت وانتشروا في بقاع الأرض يوزعون نورهم هنا وهناك .

هؤلاء أصحاب الحسين وأهله الذي قال فيهم الحسين : (فإني لا أعلم أصحاب أولى ولا خيرا من أصحابه ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عني جميعا خيرا) (2) .

وبعد، فإني أحب الآن أن نلقي نظرة سريعة على مواقف هؤلاء الرجال أثناء الوغى، فأقدم صورة متواضعة لها ولتصرفهم وبعض أعمالهم في ذلك اليوم التاريخي الخالد، ولا يستطيع القلم بكل إمكاناته أن يسطر حقيقتهم وحقيقة مواقفهم، وأطلب من الله التوفيق في ذلك. وقد تعارف الناس أن

ص: 194


1- ابن أبي الحديد: الشرح ج3 ص 263.
2- موسی محمد علي : مرجع سابق ص 155.

يذكروا مقتل الحسين (علیه السلام) وأصحابه قبل انتهاء أي محاضرة عنه أو التحدث عن ذلك اليوم، ونحن كذلك نتبع ذلك الأسلوب .

1- بریر بن خضير الهمداني :

خاطب القوم في أمر أهل الحسين وعياله ليجعلهم حجة عليهم وعلى الظالمين : (يا قوم إن ثقل محمد (صلی الله علیه واله وسلم) قد أصبح بين أظهركم، وهؤلاء ذريته وعترته وبناته وحرمه، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم) (1).

كما شجع أصحابه أثناء المعركة بقوله: (لكنني مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم) (2).

2- أنس بن الحارث الكاهلي :

وهو صحابي جليل، وشيخ كبير السن، شهد مع النبي (صلی الله علیه واله وسلم) بدرا

وحنينا، التحق بالإمام حتى استشهد معه .

3- نافع بن هلال الجملي (أو البجلي):

اختص برمي السهام، وقد أسر، ولكن «شمرا» قتله بضرب عنقه . وقال قبل موته : (الحمد لله الذي جعل منایانا على يدي شرار خلقه) (3) .

4 - عابس بن أبي شبيب الشاکری :

وهو من أسرة عريقة في الشرف والنبل والإخلاص والحق والشجاعة .

طلب المبارزة فلم يتجرأ أحد لمبارزته خوفا منه فقالوا: «هذا أسد

ص: 195


1- باقر القرشي: ج 3 ص 191.
2- ابن الأثير : ج 4 ص 60.
3- ابن الأثير: ج 4 ص 72 - باقر القرشي: ج3 ص 226.

الأسود لا يخرجن إليه أحد منكم». فطلب «ابن سعد» بإلقاء الحجارة عليه وشدوا عليه من كل جانب فصرعوه واجتزوا رأسه وكل واحد يدعي قتله لينال الجائزة.

وكان معه «شوذب» مولی شاکر، الذي قاتل حتى قتل .

5- ومن الموالي الذين اشتركوا وقاتلوا حتى قتلوا :

سليمان : مولى الحسين (علیه السلام) .

و منجح : مولى الحسين أيضأ .

وحوى: مولى أبي ذر الغفاري (1).

وجون : مولى أبي الغفاري أيضا. وكان أسودا، فدعا له الإمام (علیه السلام) :

(اللهم بيض وجهه وطيب ريحه ، واحشره مع محمد وعرف بينه و بين آل محمد) (2) .

6- عمرو بن جنادة الأنصاري :

كان عمره إحدى عشرة سنة ، فهو أصغر جندي في المعركة، وقد أمرته أمه بالحرب.

7- مسلم بن عوسجة الأسدي:

وصی «حبیب بن مظاهر» قبل موته :

(أوصيك بهذا رحمك الله - وأومأ نحو الحسين - أن تموت دونه (3).

ص: 196


1- الطبري : ج 6 ص 240.
2- باقر القرشي: ج3 ص 229.
3- ابن الأثير : ج 4 ص 68.

وقد شهد له ولشجاعته وإسلامه : «شبث بن ربعي» من رجال عمر بن سعد بقوله :

(أتفرحون بقتل مثل مسلم ، فلقد رأيته يوم سلق أذربيجان ، قتل ستة من المشركين قبل أن تنام خيول المسلمين . أفيقتل مثله وتفرحون؟).

وقد تعارك «الحصين بن نمير» ورجل من بني تميم على رأس «حبیب بن مظاهر» فيقول له: «أنا شريكك في قتله».

وقد تمكن «القاسم بن حبيب» من أن يأخذ بثأره أيام «مصعب بن الزبير» فقتل قاتل أبيه .

8- «أم وهب».

زوجة : عبدالله بن عمير الكلبي :

أقبلت نحو زوجها عند المبارزة تشجعه بقولها: (فداك أمي وأبي قاتل دون الطيبين ذرية محمد) .

وقد امتنعت عن الرجوع بعد أن طلب منها الحسين ذلك وقال لها: «جزيتم من أهل بيت خير». وقالت لزوجها: لن أدعك دون أن أموت معك .

وقد قتلها «شمر» بضربة على رأسها بعمود .

وقد جاء «عبدالله بن عمير» إلى الحسين عندما عرف بأمره ، وهو على مبدأ : (أن قتال الجيش الأموي جهاد في سبيل الله كجهاد المشركين : فوالله لقد كنت على جهاد أهل الشرك - حريصا) (1) .

ص: 197


1- الطبري: ج6 ص 245 - ابن الأثير: ج 4 ص 65.

9- عبدالله وعبد الرحمن، ابنا عزره الغفاریان .

10 - سيف بن الحارث بن سریع، مالك بن عبد بن سريع، الجابریان .

وهما أبناء عم وأخوان لأم (1).

11 - سعد بن الحارث وأخوه أبو الحتوف الأنصاريان .

وكانا مع «ابن سعد» فقاتلا مع الحسين (علیه السلام).

12 - أبو الشعثاء الكندي، وهو:

یزید بن أبي زياد بن المهاصر: كان في جيش «ابن سعد» فلما رأی موقفهم من الحسین (علیه السلام) عدل إليه وقاتل بين يديه ، وكان أول من قتل.

وقد رمی بمائة سهم ، وكلما رمي قال له الحسين : (اللهم سدد رميته واجعل ثوابه الجنة) (2) .

13 - أبو ثمامة الصائدي :

قتل ابن عم له كان عدوه في جيش «ابن سعد» .

14 - سويد بن المطاع :

كان قد صرع فوقع بين القتلى وسمع الناس يصرخون: قتل الحسين ، فوجد خفة فوثب ومعه سكين حيث كان سيفه قد أخذ، فقاتلهم بسكينة سامة ثم قتلبید نفرین . وكان آخر من قتل من أصحاب الحسين (علیه السلام) (3) .

15- زهير بن القين :

كان على رأس الميمنة في جيش الحسين (علیه السلام). وكان «حبیب بن مظاهر» في الميسرة .

ص: 198


1- الطبري: ج 6 ص 248
2- ابن الأثير : ج 4 ص (73)
3- ابن الأثير : المرجع السابق ص 79.

16 - عقبة بن سمعان :

أسر فخلي سبيله . وكذلك خلي سبيل : المرقع بن تمامة الأسدي ، بعد أن جرح فأمنه قومه.

17 - قتل من أهل بيته 18 نفسا أو اثنان وعشرون رجلا من ولد أبي طالب (1) .

منهم : العباس بن علي بن أبي طالب :

الذي أعطاه الحسین (علیه السلام) رايته .

وقد بعثه الحسین (علیه السلام) لجلب الماء إلى معسكره حين حال «ابن زیاد » الماء عنهم على ألا يذوقوا قطرة منه ، وقد حارب العباس في سبيل الحصول على هذا الماء.

كما طلب منه الحسین (علیه السلام) أن يستفسر عن قدوم القوم عليهم بخيلهم فقال له : يا عباس اركب بنفسك أنت يا أخي حتى تلقاهم فتسألهم مالكم وما بدا لكم وعما جاء بكم؟ فأتاهم «العباس» في عشرين فارس وسألهم عما يريدون ؟ فقالوا:

جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو منازلتكم. فأخبر الحسين بطلبهم ثم أقبل يركض إليهم قائلا: «یا هؤلاء إن أبا عبدالله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتى ينظر في هذا الأمر، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله ، فإما رضيناه فأتيناه بالأمر الذي تسألونه وتسومونه ، أو كرهناه فرددناه » (2) .

وكان الحسين (علیه السلام) یريد في هذه الليلة أن يصلي لربه ويدعوه ويستغفره . ولهذا طلب تأجيل الحرب يوم التاسع من المحرم «إلى يوم

ص: 199


1- أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين ص 95.
2- موسی محمد علي: مرجع سابق ص 155.

العاشر منه ، فقال للعباس : «إرجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عنا العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره . فهو يعلم - أي ابن سعد - أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار (1).

وكان من أهل بيته من الذين حاربوا معه غلام صغير دافع عنه قبل موته ، عندما رأى الأعداء يحيطون بعمه و يهمون بقتله فقال : يا بن الخبيثة أتقتل عمي؟ فضربه أحدهم (2) .

كما كان منهم الرضيع (عبدالله) الذي كان قد أتم شهره السادس من عمره .

وأول قتيل من بني آل طالب كان : علي الأكبر بن الحسين بن علي . وآخرهم كان الحسين بن علي نفسه .

فقد زحفت الخيول نحو خيام الحسين (علیه السلام) منذ صبيحة اليوم العاشر من شهر محرم ، ولما سألت «زينب» أخيها عن هذه الخيول وهذه الرجال، لنا أم علينا؟ قال : لا يا أختاه هذه كلها تريد رأس أخيك الحسين في هذا اليوم» .

وقد أصبح الحسين وحيدا في الميدان بعد أن استشهد من كان معه من أهله وأصحابه ، فأطلق بصره إلى السماء وهو يناجي اللله قائلا: (اللهم أمسك عنهم قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض، اللهم فإن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، فإنهم دعونا لینصرونا، فعدوا علينا وقتلونا) (3) .

ص: 200


1- الطبري: ج6 ص 238 .
2- الطبري ج 6 ص 259.
3- عمر أبو النصر: ص 91.

وحمل الناس عليه عن يمينه وشماله ، فحمل على الذين عن يمينه فتفرقوا ، ثم حمل على الذين عن يساره فتفرقوا فما رؤي مکثور قط قتل ولده وأهل بيته وأصحابه ، أربط جأشأ منه ولا أمضى جنانا ، ولا أجرا مقدما منه ، إذ كانت الرجالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزي إذا شد فيها الذئب (1).

وقد توارز عليه من غرته الدنيا وباع حظه بالأرذل الأدنى، وشری بآخرته بالثمن الأوكس وتردي في هواه (2) .

لم يقو أحد على قتله، فما انتهى إليه رجل إلا انصرف کراهية أن يتولى قتله . حتى سقط السبط على الأرض بعد أن حارب کجیش لوحده فجثم «الشمر» على صدره ليقتله وليأخذ رأسه إلى «یزید» طمعا في الجائزة.

ولنا أن نسأل ، هل كان الطمع في الجائزة حقا السبب والدافع إلى قتل الحسين وآله؟

يبدو لي أن ذلك صحيحا، فكما نعلم أن أعداؤه قتلوه أشنع قتلة ومثلوا به وبأهله جميعا إرضاء للحاكم والوالي، وتسابقوا إليه ابتغاء المكافأة (3) .

لقد تجرأوا وتعدوا على أهل بيت الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وقتلوهم. ولم يكن ذلك غريبا أن يقع الظلم على الأبرياء الأطهار في هذه الدنيا، فقديما قتل الأنبياء والصالحون والصديقون والأولياء ، والله سبحانه هو الذي سيحاسب الظالمين في الآخرة ، وفي الدنيا أيضا، على ما جنت أيديهم (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) فلو لم يكن هناك دار أخرى للحساب ، لساد الظلم والطغيان ، وفاز الظالم القوي .

ص: 201


1- ابن الأثير : ج 4 ص 77.
2- مفاتیح الجنان : ص 468.
3- محمد رضی : مرجع سابق ص 110.

وكما يبدو أنهم لم يشبعوا من الدم وسفكه ، فلم يشف غل صدورهم، فأمر بأن تطأ الخيول صدر الحسين وظهره ، ثم سلب ما كان على الحسين (علیه السلام).كما أنهم تركوه مسجي في العراء، وانشغل القوم في سلب ونهب حلله وإبله وأثقاله ومتاعه ، وسلبوا نساءه ، وتطاولوا عليهن ، حتى إن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيؤخذ منها (1).

أخذوا سراويله وقطيفته ونعليه وسيفه وقميصه، ولم يتركوا شيئا إلا أخذوه .

هل انتهوا؟ لا فقد كان لا بد من إكمال الجريمة . رفع رأس الحسين (علیه السلام) الشريف على خشبة وطيف به أحياء الكوفة على مرأى من السبايا الثواكل، وسيقت العقائل الهاشميات إلى قصر الإمارة في موكب تعس لم تشهد الدنيا مثيلا له من قبل ولا بعد، وعرض الموكب على أهل دمشق قبل أن يساق إلى حضرة «يزيد» (لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن به وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا) (2).

قتلوا خير الناس ، كما قال «سنان بن أنس النخعي» قاتله :

قتلت خير الناس أما وأبا *** وخيرهم إذ هم ينسبون نسبا (3)

قتلوه وهو يقول: أقتل مظلوما وأذبح عطشانا وأموت غريبا (4) .

وقد حدث ما قدر الله تعالى وما أخبر عنه الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) من قبل . فقد قتل أهل بيت الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وجماعته من أصحاب الحسين بعد أن ضربوا

ص: 202


1- ابن الأثير : ج 4 ص 78 - الطبري ج 6 / ص 260.
2- بنت الشاطیء : سكينة بنت الحسين ص 66.
3- ابن الأثير : ج 4 ص 79.
4- الحافظ سلیمان بن إبراهيم القندوزي : مرجع سابق ص 348.

المثل الأعظم في التضحية والفداء والجهاد في سبيل الله ، وبعد أن قدموا صورة لمعركة غريبة من نوعها، غير متكافئة وغير عادلة ، وغير شريفة ، حيث نفر قليل أمام جيش عرمرم، بعد أن أسروا في الطريق وطوقوا من العدو ذي العدة والعدد .

ولكنهم أظهروا للتاريخ بالرغم من كل ذلك أنهم كانوا جيشا عظيما خاف منه الجريء والشجاع، وتفرق عنه أثبتهم جنانا وأربطهم جاشا .

ص: 203

ص: 204

الفصل السادس:نتایج وآثارالثورة

مرحلة ما بعدالحسين

يتناول هذا الفصل الجوانب التالية :

- النتائج المتعددة الثورة الحسين وقتله. وقد قسمت إلى تسعة آثار : سياسية ، اجتماعية وأخلاقية تربوية ونفسية، وأثرية وانتقامية وثأرية، وثورية .

وهذه الأخيرة قسمت إلى ثلاث طوائف .

- ثورات أهل البيت والصحابة .

-ثورات البيت الأموي .

-ثورات الخوارج .

ص: 205

ص: 206

إن نتائج و آثار معركة كربلاء، والتي ترتبت على قتل الحسين وأهل البيت (علیه السلام) لم تكن هينة أو وقتية . بل إن هذه الآثار والنتائج كانت خطيرة وعظيمة للغاية وهي أخطر مما تصورها القائمون بجريمتها ومنفذوها.

فقد تصور «یزید» وأعوانه، أنهم بموت الحسين وأهل بيته (علیه السلام) سيتخلصون من مشاكلهم، وتستقيم لهم أمورهم، فيحكمون الناس كما يشتهون، فيستعبدونهم، ويتمرغون هم في الخيرات ، ويحيون حياتهم طولا وعرضا في الدنيا، دون أن يفكروا في الانتقام الإلهي، أو الخوف من عذاب الله في الآخرة ، التي ربما لا يعترفون بوجودها أو حدوثها.

ولكن الأحداث التي عقبت شهادة الحسين وأهله ، كانت أكبر بكثير من تصوراتهم وتخيلاتهم، وأخطر مما كان يتخيله قتلتهم والمحرضون لها والمشتركون في تنفيذها، وذلك بسبب تفكيرهم القصير ، وعقولهم الناقصة ، فهم لا يرون إلا القريب ، فأعينهم و بصيرتهم لا تتعدى في قوتها حواجبهم ،فلم يتمكنوا من النظر إلى المستقبل قریبا كان أو بعيدا، كما أنهم لم يتمكنوا من التنبؤ لما سيحدث نتيجة أعمالهم الإرهابية ، ودليل ذلك :

إنهم قاموا بجريمتهم النكراء الشنيعة على أمل الانتهاء من مشكلة حادة تعوق تأسيس ملكهم، وتهدد سلطانهم، وبالتالي فإنه بإعمال القوة والبطش

ص: 207

والقتل والتمثيل بالجثث، سيتمكنون من التخلص من إحدى المشاكل الكبرى التي تهدد سلطانهم، فيرتاحون بعد أن يثبتوا أركان دولتهم لتستمر سنين وقرون عدة طويلة تتوارثها أجيالهم ، جيلا بعد جيل أموي .

فقد تمسك الأمويون بحكمهم وسلطانهم بكل الوسائل والأدوات والأجهزة التي عرفوها والتي اخترعوها وحتى عندما قام أهل بيت النبي (صلی الله علیه واله وسلم) ليعلنوا للناس فساد أمرهم، وينتقدوا أعمالهم، لم يترددوا في القضاء عليهم بنفس الأسلوب الذي أحبوه وشبوا عليه ، فاستخدموا هذه المرة أبشع الأساليب وأشنعها، وأقساها وأكثرها دناءة وخسة ، لم يعرفها السابقون من طغاة الحكام وظلامهم المتجبرين، فقتلوا الرجال وسبوا النساء، واعتدوا على الأطفال، وحملوا الرؤوس على أسنة الرماح، يهتفون بالانتصار على أعدائهم، وكأنهم في حرب ضد الأجانب الكفار، أو في فتح لإحدى البلدان الغريبة عن دار الإسلام استفاد المسلمون منها بنشر الإسلام ودين محمد (صلی الله علیه واله وسلم) جد هؤلاء الضحايا الأطهار الأبرار . ويقيم «یزید» الأفراح في دمشق قبل أن يصل رأس الحسين الشريف وأهل بيته وذلك استقبالا لهم، ويجلس مترنحا فيقول شعرا : (فلقد قضيت من الرسول دیوني).

وهم في نشوة من هذا الانتصار العظيم ، في قتل هؤلاء الأبرياء الكرام، ارتاحت أنفسهم بعد أن تخلصوا من أكبر المشكلات التي اعترضت سلطانهم وملكهم، إذ ثبت الآن واستمكن، هذا الملك ، فلا خوف بعد اليوم، حيث العيش الوفير ، والحياة الهنيئة والملك المستديم .

ولكن هيهات ، ما كل ما يتمنى المرء يدركه .

إنهم لم يقدروا الموقف، ولم يقدروا العاقبة ، ولم يقدروا الناس حق قدرها، ثم لم يقدروا الله حق قدره ولم يعرفوه . لم يعرفوا أن الله سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد وأن جريمتهم هذه ستكون بداية النهاية لدولتهم. بداية

ص: 208

النهاية لأسمائهم في التاريخ. بداية لتشويه سمعتهم في الأرض وفي السماء. بداية لتقرير مصيرهم عند الأفراد والأمم. بداية للكشف عن صورهم الحقيقية أمام الشعوب والدول وتعريتهم.

فمنذ ذلك اليوم عرف الإنسان الفرد. والأمم والناس والدول والشعوب المختلفة ، من هم الأمويون؟ وما هي طبيعتهم ونفسيتهم؟ وكيف هي مستويات أخلاقهم ، وما هي غاياتهم وأهدافهم في المجتمع الإسلامي؟ وما هي وسائلهم وأدواتهم في الوصول إلى تلك الأهداف والغايات؟

ومن هم أعوانهم ورجالهم في قيادة أمة الإسلام؟

عرف الناس أفرادا وجماعات ، لماذا، وكيف؟ وبماذا؟ ولمن؟ يقومون بتلك الأعمال القبيحة ؟ فالحسین (علیه السلام) حين قدم نفسه فدية ضخمة تتوهج بالدم، لأنه هو الوحيد الذي يملك أن يتقدم كفدية ، لتهز الضمير الميت في قلب الأمة . فهو أشرف وأذکی رجل في عصره يقدم نفسه ليوغل فيه أعداء القيم العليا ما شاء لهم انحدارهم، كآخر ما يستطيع أن يصل إليه بشر، فتكون الصرخة التي توقظ ضميرا خربوه بكل الوسائل. وكانت شهادته أعظم انتصار للثورة، لأنها تغلغلت في الضمير العربي، وأحيت الضمائر التي خنقها الإرهاب ، لتسقط بعد ذلك، لا لتبقى. وقد سقطت فعليا بعد ستين عاما فقط.

والحسين عندما خرج وهو يتمثل بقول جده النبي (صلی الله علیه واله وسلم) : (من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ، ناكثا لعهد الله ، مخالفا لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله الإثم والعدوان ، فلم يغير ما عليه بعمل ولا قول، كان حقا على الله أن يدخله مدخله) كان قد رأى أن :

(هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا

ص: 209

الفساد، وعطلوا - الحدود، واستأثروا بالغي ، وأحلوا حرام الله، وحرموا جلاله) (1).

فإنه كان يرى أنه أحق من غيره في قيادة الأسوة (وأنا أحق من غيري، وقد أتتني كتبكم ورسائلكم ببيعتكم. وإنكم لا تسلمونني ولا تخذلونني. وأنا الحسين بن علي ابن فاطمة بنت النبي (صلی الله علیه واله وسلم)، نفسي مع أنفسكم، وأهلي من أهلكم ، فلكم في أسوة ، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي، وخلعتم بيعتي، فلعمري ما هي لكم بنكير، والمغرور من اغتر بكم. فحظكم أخطأتم ، ونقیبكم ضيعتم ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، وسيغنيني الله عنكم) (2).

وإنما كان يرغب من وراء تلك التضحية الكريمة أن يكون أسوة لغيره من بعده ، أن يكون طريقا يفتح به قلوب المؤمنين وضمائرهم لتناضل وتكافح في سبيل المبادىء - السابقة التي ذكرها عن الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) . كانت نفسه الأبية تغلي مثل الرجل في أشد احتدامة ، فلم يصغ إلى أمير ، ولم يسمع من مشفق، ولم يتراخي أمام سلطان أو قوة غاشمة، وأبی أن یرضی للمؤمنين بالدنية والخسف، فأعلن الإنكار، ولم يعط أذن إلى من نصحه بالبقاء دون الخروج، لأن عدم خروجه، وإن تكن فيه سلامته ، ففيه حتف المسلمين قاطبة، واستهان بكل شيء ما عدا مبدأه (3).

فقد أبت نفسه إلا أن تكون القدوة الحسنة والمثل الأعلى لكل مصلح ولكل ثائر على الظلم والظالمين ، ولكل أبي کريم يؤثر الموت تحت ظلال السيوف على الحياة بين أطمار الذلة وفي ظل الجبابرة . ولا يزال وسيبقى رمزا للبطولات والتضحيات ، وحديثا طيبا كريما للأجيال تستمد منه معانيه وأبعاده الخيرة، أقدس المثل وأكثرها عطاء في تاريخ البشرية الطويل (4).

ص: 210


1- من خطبة الإمام الحسين (علیه السلام) في جيش «الحر».
2- من خطبة الإمام الحسين (علیه السلام) في جيش «الحر».
3- عبد الحميد جودة السحار : حياة الحسين ص 105.
4- العقاد : أبو الشهداء ص 82.

كان يرغب من وراء عمله الإنساني، أن يبعث روح الثورة في المجتمع الإسلامي الذي بدأ فعلا بالثورة، حيث بدأت الجماهير ترقب زعيما إذا ظهرا يقودها، كانوا وراءه وهم على أتم الاستعداد للثورة والتضحية والفداء.

لقد كانت ضربة كربلاء، ومن بعدها ضربة المدينة وضرب البيت الحرام، أقوى ضربات بني أمية لتمكين سلطانهم وتثبيت ملكهم، وتغليب ملكهم على المنكرين والمنازعين، فلم ينتصر عليهم المنكرون والمنازعون بشيء، كما انتصروا عليهم بضربات أيديهم، ولم يذهبوا بها ضار بين حقبة حتى ذهبوا بها مضر و بين إلى آخر الزمان .

فلننظر إلى مسرح الحياة بعد مصرع الحسين وآله (علیه السلام)، هل نعم آل أمية في حكمهم وتسلطهم؟ أم أنهم انشغلوا بالقضاء على هذا والتخلص من ذاك، سواء كان ثائرا أو معارضا، أو مطالبا، للحق ، أو مجاهدا في سبيل الله.

ننظر إلى أحوال هذه الدولة التي عندما انقضت وانتهت، عرف ما قصده الإمام الحسن (علیه السلام) وعلم تفسير قوله لما قيل له : تركت الخلافة المعاوية؟

فقال : ليلة القدر خير من ألف شهر .

فلم يستمر حكمهم وملكهم إلا نيفا وثمانين سنة، وهي ألف شهر .

سنذكر ما يمكننا من ذكره من نتائج و آثار معركة الطف في كربلاء يوم قتل آل الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) هناك يوم العاشر من المحرم الموافق ليوم الجمعة أو السبت 61 ه، المساوي ليوم 10 أكتوبر من عام 680 م.

أولا - آثار سياسية :

أ- كان قتل «الحسين » سلاحا ذو حدين وضعته الدولة الأموية في

ص: 211

أيدي أعدائها، وكان لهذا السلاح أثره العاجل في تمزق ملك «یزید بن معاوية» وانحلال الدولة الأموية في عهد «معاوية الثاني» «ومروان بن الحكم» الذي أنهى الدولة الأموية السفيانية وأنشأ الدولة المروانية .

ب - كان موقف الأمويين من «الحسين» وهو امتناعهم لكل «حل سلمي» جعلهم بمثابة الثائرين على الإسلام نفسه ، وقد جعل «الحسین» هذا الموقف لصالحه ، فبينما قال لهم : (أخبروني ، أتطلبوني القتيل منكم قتلته ؟ أو مال استهلكته ؟ أو بقصاص من جراحه؟ ويلكم أتقتلوني على سنة بدلتها أم على شريعة غيرتها) لم يكن في مقدورهم الإجابة على أسئلته وموقفه، بل كانوا يتخبطون في الردود ، فمرة يقولون: انزل على حكم ابن زیاد ومرة يجيبون: بأننا نقتلك بغضا لأبيك (1).

فموقفهم إزاء «الحسين» كان لمجرد الانتقام والثأر . وإذا كان كذلك فما ذنب أهله وأصحابه ؟

إذن لم يكن لهم أي دافع أو سبب مقنع لارتكابهم المجازر وسفك الدماء في ساحة کربلاء.

ولذا فعندما أنكروا أنهم راسلوا «الحسين» للمجيء والقدوم إليهم، رد عليهمالإمام: (إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض) (2) .

وكاد «الحسين» أن ينجح في فكرته وفي تحول أنظار الجيش الأموي إلى مبادئه والتفكير في موقف أنصار الأمويين، وذلك بخروج بعضهم من هذا الجيش والالتحاق بالحسين (علیه السلام)، ولكن «ابن سعد» تدارك الموقف

ص: 212


1- شمس الدين : مرجع سابق ص 154.
2- الحافظ سلیمان بن إبراهيم القنذوري الحنفي: مرجع سابق ص346 (من كتاب عن أبي مخنف الذي ذكر فيه شهادة الحسين وأهله).

سریعا ، فرمى أول سهم يفتتح به القتال والحرب خوفا من انهيار جيشه وتفككه وانحلاله فخسارته.

ج۔ بعثت حركة الحسين (علیه السلام) روح الثورة في المجتمع الإسلامي، فبدأ الشعب يثور و بدأت الجماهير ترقب زعيما يقودها وهي مستعدة للثورة والتمرد على الأمويين في كل حين كلما وجد القائد. وقد أصبح الأخذ بثأر «الحسين » شغل أهل العراق الشاغل، فاعتبروا أنفسهم مسؤولين أمام الله والمسلمين عن دماء الحسين وآله المسفوكة في كربلاء العراق ، وأصبحت صيحة (يالثارات الحسین) من أهم العوامل التي قوضت بنيان الدولة الأموية. فقد تأمل «یزید» والأمويون أنه بالانتهاء من مشكلة الحسين (علیه السلام) ستنتهي جميع مشاكلهم و يستتب الأمر لهم ، ولكن ذلك أدى إلى العكس تماما لمعتقداتهم، فلم تؤثر حركة الحسين (علیه السلام) في إرباك الدولة الأموية وقيام الثورات والتمردات المتعددة فحسب، بل إنها أنهت دولتهم في وقت مبكر وفي فترة قصيرة ، كان يأمل الأمويون أن تدوم وتستمر قرونا طويلة .

ثانيا - آثارها على البيت الأموي :

أ- زلزل « معاوية الثاني» أركان الدولة الأموية وسلب جده وأباه حقهما في الخلافة ، وعدد أخطاءهم بصورة كفت المعارضين للدولة الأموية مؤونة مهاجمتها، فقد خطب في الناس بعد بضعة أشهر من الحكم: (أيها الناس، إن جدي معاوية نازع الأمر أهله ، ومن هو أحق به منه ، لقرابته من رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) وهو علي بن أبي طالب ، وركب بكم ما تعلمون، حتى أتته منيته فصار في قبره رهينا بذنوبه وأسيرا بخطاياه ، ثم تقلد الأمر أبي فكان غير أهل لذلك و ركب هواه وأخلفه الأمر وقصر به وصار في قبره رهينا بذنوبه وأسيرا بجرمه . وبعد أن بکی قطع همسات الناس قائلا:

أيها الناس، إن من أعظم الأمور علينا علماء بسوء مصرعه و بؤس

ص: 213

منقلبه ، وقد قتل عترة رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) وأباح الحرم، وضرب الكعبة ، وما أنا بالمتقلد ولا بالمحتمل تبعاتكم فشأنكم وأمركم. والله لئن كانت الدنيا خيرا فلقد نلنا منها حظا، ولكن كانت شرا لكفى ذرية أبي سفيان ما أصابوا . ألا فليصل بالناس «حسان بن مالك» وشاوروا في خلافتكم رحمكم الله).

وعرضوا عليه أن يولي الخلافة أخيه «خالد» فرفض وقال :

(والله ما ذقت حلاوة خلافتكم فلا أتقلد وزرها) (1).

وقد استنکر بنو أمية تصرف « معاوية الثاني» هذا، فلم يدر بخلدهم أن يظهر واحد منهم يناوئهم بهذه الكيف. ويعارضهم بهذا الأسلوب ، فما كان منهم إلا أن وضعوا و زر تصرفه وأخلاقه على مؤدبه «عمر المقصوص» أي جعلوه «كبش فداء» فقالوا له :

(أنت علمته هذا ولقنته إياه وصددته عن الخلافة و زینت له حب علي وأولاده ، وحملته على ما وسمنا به من الظلم، وحسنت له البدع حتى نطق بما نطق وقال ما قال). ولم يقبلوا منه اعتذاره والدفاع عن نفسه حينما قال : (والله ما فعلته، ولكنه مجبول و مطبوع على حب علي) فأخذوه ودفنوه حيا حتى مات (2).

ب - وكان لهذا الموقف أثره في تمزيق البيت الأموي نفسه ، حيث بدأ الصراع على السلطة فاستولى الفرع المرواني على الحكم وأبعد الفرع السفياني ، كما أدى إلى انشقاق الدولة نفسها وسقطت معظم الولايات في أيدي أعدائها والمناوئين للحكم الأموي، ولم يبق للبيت الأموي إلا الشام، التي لم تسلم أيضا من الحروب والتمرد والفوضى والتمزيق فاشتعلت فيها

ص: 214


1- ممدوح حقي : الفرزدق ص 5 خالد محمد خالد : أبناء الرسول في كربلاء ص36.
2- الدميري : حياة الحيوان الكبرى - باب الهمزة ص 113.

الحروب الأهلية تغذيها روح العصبية الجاهلية التي أسسها نظام الحكم الأموي وقواعده .

ج - تحطم منذ ذلك اليوم الإطار الديني الذي أحاط به الحكام الأمويون حكمهم الفاسد، فلم تعد لهذا الحكم حرمة دينية عند جماهير المسلمين . فقد كانت الرؤوس والسبايا وأحاديث الجنود العائدين دلائل حية بليغة الأداء تعمل على تقويض كل ركيزة دينية للحكم الأموي في نفوس المسلمين . فلولا قيام الحسين (علیه السلام) بتلك التضحية الكريمة لكان الدين كله أمويا يسعى بملوك أمية وهو ذاك الإفساد في الأرض (1).

وكان الأمويون قد أدخلوا في أذهان الناس بأن بني أمية هم أئمة الإسلام ورسخ ذلك في عقائد الناس منذ طفولتهم، فاعتقد الناس حقيقة أن هؤلاء أئمة الدين، وأن مخالفيهم على ضلال ، فلما قتل الحسين ، بتلك الكيفية وسبيت عياله ، تنبه الناس أن لو كان هؤلاء أئمة حق ، ما فعلوا ذلك، لأنفعلهم لا يطابق دینا ولا مذهبا ولا عدلا ، كما لا يطابق جور الجائرين (2) .

ثالثا - آثار اجتماعية وأخلاقية وتربوية :

أ- قدم الحسين وآله في ثورتهم الأخلاق السامية وهي الأخلاق الإسلامية الرفيعة بكل صفائها ونقائها، ولم يقدموها بألسنتهم وإنما كتبوها بدمائهم وحياتهم. فهذا اللون من الأخلاق وهذا النموذج من السلوك يعتبر خطرا على كل حاكم يجافي روح الإسلام في حكمه .

وإذا كانت ضمائر الزعماء قليلا ما تتأثر بهذه المثل المضيئة ، فإن الأمة سريعا ما تتأثر بها. وهو ما كان يقصده الحسين (علیه السلام) في أن يشق الطريق

ص: 215


1- باقر القرشي: ج 3 ص 443.
2- عبدالله العلايلي: مرجع سابق ج 3 ص 443.

للأمة المستعبدة لتناضل عن إنسانيتها. فابتدأت من جديد تتغير الأخلاق القبلية إلى أخلاق جديدة إسلامية دعا إليها الإسلام منذ أن صاح بها النبي (صلی الله علیه واله وسلم) وصرح بها، وأراد الحكم الأموي أن يسترجعها ويثيرها ويثبتها في قلوب المسلمين من جديد، فحرك الحسين (علیه السلام) الأخلاق مرة أخرى وهزها ليظهرها على السطح لتبرز وتشع . فاندثرت الروح القبلية والعصبية الجاهلية التي حرمها الله ورسوله (صلی الله علیه واله وسلم) فلم تصبح الحياة الدنيا و إنما الحياة للمبادىء ، والأخلاق وللآخرة ، فهي خير وأبقى .

ب - كلما ذكر الحسين (علیه السلام) ذکرت به معاني الفضيلة والحق، وإذا ذکر خصومه ، ذکر بهم معنى اللؤم البغيض والإنسانية الشريرة. فقد علمنا الحسين كيف نحافظ على ذاتیتنا، وكيف نتناهي في الدفاع عن كرامتنا، وكيف نعمل في سبيل القضية المقدسة، وكيف يجب على الزعيم العامل أن يكون إرادة ماضية لا يلين ، وعلمنا كيف نعتنق المبادىء وكيف نحرسها، وكيف نقدس العقيدة وندافع عنها، وكيف نموت ونحيا كراما بها، ورسم طريق الخلود والأدب القومي من طريقها (1). فقضيته كانت قضية الصراع بين الخير والشر، بين النور والظلمة، بين الحرية والاستبداد، بين العدالة والمحسوبية . لقد جعل الحسين من نفسه قنبلة هائلة تفجرت لتهدم معالم ذلك الملك العضوض الذي طالما أمعن في امتصاص دم الشعب وخنق الحرية بأبشع الأساليب الميكافيلية الرعناء ، فوهب نفسه للسيوف ذيادا عن حياض الرسالة المحمدية ومنافحة عن دين الحق ، بشعاره :

إن كان دين محمد لم يستقم *** إلا بقتلي، يا سيوف خذيني (2) .

ج - كانت قضيته أثمن درس عن الإيمان والوفاء والتضحية في سبيل

ص: 216


1- عبدالله العلايلي : الإمام الحسين ص 349.
2- محمد كامل سليمان : الأيدلوجية الشيعية في رثاء الحسين ص 90.

الله ، فهي ترفع الحسين وأهل بيته وأصحابه على جميع شهداء الحق والعدل في العالم. وحسبك من تقويم الأخلاق في تلك النفوس أن ما من أحد قتل ، في كربلاء إلا كان في وسعه أن يتجنب القتل بكلمة أو بخطوة، ولكنهم جميعا آثروا الموت عطاشا جياعا مناضلين ، على أن يقولوا تلك الكلمة أو يخطوا تلك الخطوة، لأنهم آثروا جمال الأخلاق على متاع الحياة .

رابعا - آثارها على المعاصرين لها، وعلى المفكرين والعلماء والأدباء من بعد :

ا- فجع المسلمون المعاصرون بقتل حفيد الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وأصبح استشهاده قضية لا يوجد في الإسلام أعظم فحشا لها، وقد حدث ذلك للمسلمين ولم تنقض خمسون سنة على انتقال النبي (صلی الله علیه واله وسلم) من هذه الدنيا إلى حظيرة الخلود.

فتلك أقبح الجرائم التي ارتكبت تحت راية الإسلام لا يمكن أن يقدم عليها أي بشر يوصف بالآدمية حتى مهما تجرد من آدميته، أو مهما زادت درجات حقده وخسته. وما زالت قصة استشهاد سبط رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) عالقة في الأذهان لفظاعتها، فهي وصمة عار في جبين التاريخ الإسلامي.

وقد حزن الهاشميون على سيد الشهداء ، أشد ما يكون عليه الحزن واللوعة ، فاستمروا في النياحة عليه ثلاث سنين، وكان (مسور بن مخرمة ، وأبو هريرة ، والمشيخة من أصحاب الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) يأتون متسترين فيستمعون ندبتهم فيبكون بكاءا مرا) (1).

ومن أقوال الإمام زين العابدين في ذلك :

« قد أصبحت العرب تفتخر على العجم بأن محمدا منهم، وأصبحت

ص: 217


1- باقر القرشي : مرجع سابق ، ج 3 ص 428.

قريش تفتخر على العجم بأن محمدا منهم، وأصبحت قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمدا منهم ، ونحن أهل بيته أصبحنا مقتولین مظلومين ، قد حلت بنا الرزایا ، نساق سبايا، ونجلب هدايا ، كأن حسبنا من أسقط الحسب، ومنتسبنا من أرذل النسب ، كأن لم نكن على هام المجد رقينا» (1).

وكتب «عبدالله بن عباس» إلى يزيد:

«وسألت أن أحبب الناس إليك وأبغضهم وأخذلهم لابن الزبير، فلا ولا سرور ولا كرامة . كيف وقد قتلت حسينا وفتيان عبد المطلب مصابيح الهدى ونجوم الإعلام، غادرتهم خيولك بأمرك في صعيد واحد مرملین بالدماء مسلوبين بالعراء، مقتولين بالظماء ، لا مكفنين ولا موسدین، تسفی عليهم الرياح، وينشی بهم عرج البطاح، حتى أتاح الله بقوم لم يشركوا في دمائهم كفنوهم وأجنوهم ، و بي والله و بهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست، فما أنسى من الأشياء ، فلست بناس إطرادك حسينا من حرم رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) إلى حرم الله ، وتسييرك الخيول إليه ، فما زلت بذلك حتی أشخصته إلى العراق، فنزلت به خيلك عداوة منك لله ولرسوله ولأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (2).

وكان الإمام الشافعي يبكي أشد البكاء وهو يتلو أبيات شعرية :

تزلزلت الدنيا لآل محمد *** وكادت لها حمم الجبال تذوب .

كما أن «الحسن البصري» صاح: « واذلاه لأمة قتل ابن دعيها - ابن مرجانة - ابن نبيها . والله لينتقمن له جده وأبوه من ابن مرجانة (3).

ص: 218


1- عبد الحميد جودة السحار : مرجع سابق، ص 196، الطبري، ج 13 ص 89.
2- ابن الأثير : الكامل ج 4 ص 128/ اليعقوبي - ج 2 ص 235 .
3- باقر القرشي : مرجع سابق ص 428.

وكذلك أظهر «وائلة بن الأسقع » الصحابي الجليل استياءه وغضبه لقتل الإمام (علیه السلام).

كما أن «أم سلمة» أم المؤمنين توفت کمدا وحزنا على الحسين .

وقال «أبو برزة الأسلمي» من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) ليزيد بن

معاوية ورأس الحسين أمامه :

(أما أنك یا یزید تجيء يوم القيامة وابن زیاد شفيعك ، ويجيء هذا يوم القيامة ومحمد (صلی الله علیه واله وسلم) شفيعه) (1).

وقد تأثر بالفاجعة وغضب لها، قيصر الروم، فكتب إلى يزيد:

(قتلتم نبيا أو ابن نبي).

وكان رسول قیصر عند يزيد عندما أتي برأس الحسين ، فقال متعجبا : (إن عندنا في بعض الجزائر كنيسة فيها حافر حمار عیسی (علیه السلام) ونحن نحج إليه كل عام من الأقطار وننذر له النذور ونعظمه كما تعظمون كعبتكم ، فأشهد أنكم على باطل (2).

وممن شهد على تلك الجريمة، أحد أعداء الحسين (علیه السلام) وهو: شبث بن ربعي، الذي أكره على قتال الحسين ، فقال :

(لا يعطي الله أهل هذا المصر خيرا أبدا ولا يسددهم الرشد، ألا تعجبون أنا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه، آل أبو سفيان خمس سنين ، ثم عدونا على ابنه وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن

ص: 219


1- الطبري: مرجع سابق ص 267 - ج 6.
2- الحافظ سلیمان بن إبراهيم القندوزي : ص 325 - البيهقي : المحاسن والمساوىء ج1 ص 46.

سمية الزانية ، ضلال يا لك من ضلال (1) .

كما أن «یزید بن معاوية» نفسه أدرك أن رد فعل عمله أصبح عكسيا ، فندم على فعلته - ولكن حيث لا ينفع الندم - فقال يحدث عن ابن زیاد يحمله المسؤولية : (لعن الله ابن مرجانة ، فإنه أخرجه واضطره ، ثم قتله فبغضني بقتله إلى المسلمين ، وزرع في قلوبهم العداوة بما استعظموه من قتلي حسينا، فأبغضني ، البر والفاجر (2).

كما أن رد الفعل لمقتل الحسين (علیه السلام) لدى أهل السنة كان عنيفا ، إذ فشلت تماما كل محاولة للتوفيق في الحكم بتصویب حركة الحسين ، وموالاة أعدائه من الخلفاء مع ميل أهل السنة عادة إلى الحلول الوسطى، ولكن ذلك انهار عند مقتل الحسين ، فانتهوا إلى اعتبار الخلافة الدينية منتهية بتنازل الحسن بن علي وفقا للحديث : (الخلافة من بعدي ثلاثون عاما ثم تصير ملكا عضوضا) (3) .

وقد نقل صالح بن أحمد بن حنبل ( رضي الله عنه ) قال : قلت لأبي : يا أبت أتلعن یزید؟ قال يا بني كيف لا نلعن من لعنه الله تعالى في ثلاث آيات من كتابه العزيز . قال تعالى : « وَالَّذِينَ يَقطِعُونَ مَا أمرِ اللهِ بِهِ أن يُوصِلَ وَيَفسِدُونَ فِي الأرضِ أولَئِكَ لَهُمُ اللَّعنَةِ وَلَهُم سُوءِ الدَّارِ» وأي قطيعة أفظع من قطيعته (صلی الله علیه واله وسلم) في ابن بنته الزهراء؟ وقال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يُؤَذُونَ اللهِ وَ رَسُولِهِ لَعَنَهُمُ اللهِ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَأعَدَّ لَهُم عَذَاباً مَهِينَاً» وأي أذية له (صلی الله علیه واله وسلم) فوق قتل ابن بنته الزهراء؟ وقال تعالى : ( فَهَل عَسِيتُم أن تُولِيتُم أن تَفسِدُوا فِي

ص: 220


1- ابن الأثير : ج 4 ص 68.
2- بنت الشاطيء: تراجم سيدات بيت النبوة - بكلية كربلاء ص 790/ ابن الأثير ج 4 ص 87.
3- توفيق أبو علم : الحسين بن علي ص 209 (من کلام : أحمدمحمود صبحي في كتابه : نظرية الإمامة)

الأَرضِ وَتَقطِعُوا أَرحَامَكُم أولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأصمَهُم وَأعمِى أبصَارَهُم» وهل بعد قتل الحسين إفساد في الأرض أو قطعية للأرحام (1)؟ .

وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده ، عن الربيع بن منذر عن أبيه قال : كان الحسين يقول: (من دمعت عيناه فينا قطرة، أتاه الله عز وجل الجنة) (2).

وأخرج «ابن عبد البر» في الاستيعاب ، «وابن حجر» في الإصابة :

عن عمر بن عبد العزيز، أنه قال : (لو كنت من قتلة الحسين وغفر الله لي وأدخلني الجنة لما دخلتها حياء من رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم)) (3).

وقال : «ابن سعد اليافعي» : وأما حكم من قتل الحسين أو أمر بقتله ممن استحل ذلك فهو كافر، وإن لم يستحل ففاسق (4).

ويقول فيها العلامة ابن طباطبا المعروف بالطقطقي :

(هذه قضية لا أحب بسط القول فيها استعظاما واستفظاعا لها، فإنها قضية لم يجر في الإسلام أعظم فحشا منها، ولعمري أن قتل الإمام أمير المؤمنين هو الطامة الكبرى، ولكن هذه القضية جرى فيها من القتل الشنيع والسبي أو التمثيل ما تقشعر له الجلود. واكتفيت أيضا عن بسط القول فيها بشهرتها فإنها شر الطامات. فلعن الله كل من باشرها وأمر بها ورضي بشيء منها،ولا يقبل الله منه عرفا ولا عدلا ، وجعله الله من الأخسرين أعمالا ، والذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) (5)

ص: 221


1- توفيق أبو علم : المرجع السابق ص 208/ محمد رضا : مرجع سابق ص 149.
2- موسی محمد علي : مرجع سابق ص 213 - ص 214.
3- موسی محمد علي : مرجع سابق ص 213 - ص 214.
4- موسى محمد علي : مرجع سابق ص 213 - ص 214.
5- الفخري في الآداب السلطانية ص 84- إسماعيل أحمد إسماعيل : المسجد النبوي الشريف ص 55.

وقال الإمام الحافظ بن كثير : كل مسلم ينبغي له أن يحزنه قتل الحسين رضي الله عنه ، فإنه من سادات المسلمين، وعلماء الصحابة ، وابن بنت رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) التي هي أفضل بناته ، وقد كان عابدا شجاعا سخيا (1).

وجاء في الكامل لابن الأثير الجزري : ما فخر الآلاف الكثيرة التي تجتمع على اثنين وسبعين رجلا قد نزلوا على غير ماء؟ إنما يعتبر النصر شرفا وفخرا إذا كانت العدة متكافئة ، والعدد قريبا ، فحق ابن زیاد ومن كان على شاكلته ، أن يندبوا على أنفسهم بالخيبة والخسران، وأن يطأطئوا رؤوسهم ذلأ وعارا، حينما وقف هؤلاء النسوة الأشراف على رأسهن السيدة زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) وهي بهذه الحالة . لعن الله الفسق والفساق ، لقد سودوا صحائف التاريخ، وسجلوا على أنفسهم الجرائم الكبرى التي لا تغفر ولا تنسى مدى الدهر، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله (2) .

ومما ذكره المفكرون والكتاب في العصور التالية ، نقتطف الأجزاء التالية من آرائهم وأفكارهم في تلك الملحمة الرائعة :

«إن الروايات الإسلامية التي هي باستثناءات نادرة ، معادية باتساق للأسرة الأموية يعتبرون الحسين شهيدا، ويزيد قاتله، والمسألة بالنسبة للمسلمين تقرره علاقة الأمويين بالإسلام، فلا يمكنهم وقد خرقوا قوانينه وسخروا من مثله العليا، أن يكونوا غير طغاة، وما داموا طغاة فلا يحق لهم قتل المؤمنين الذين يشقون عصا الطاعة في وجه سلطتهم الغاصبة، وعند التمحيص نجد أن ما يسمى بحكم التاريخ هو حكم الدين، وقضاء الإسلام

ص: 222


1- موسی محمد علي : المرجع السابق ص 214.
2- موسی محمد علي : المرجع السابق ص 214.

الإلهي. وعلى هذا الأساس فإن الأمويين قد أدينوا بحق » (1). « وليس في تاریخ «یزید» عمل واحد صحيح أو مدعى ولا كلمة واحدة صحيحة أو مدعاة ، تقيمه بحيث أراده المأجورين من العذر الممهد والمدح المعقول، أو تخوله مكان الترجيح في الموازنة بينه و بين الحسين . كل أخطائه ثابتة علية - ومنها بل كلها- أخطؤه في حق نفسه ودولته ورعاياه، وليس له فضل واحد ثابت ، ولا كلمة واحدة مأثورة تنقض ما وصفه به ناقدوه وعائبوه » (2) .

ومن الصعب أن نجد في تاريخ البشرية كله يوما كذلك اليوم الفريد والمجيد، وأبطالأ كأولئك الأبطال الشاهقين والباهرين، إذ لم يكن الأمر في ذلك اليوم، أمر شهداء برزوا لمناياهم في استبسال وغبطة، ولا أمر جيش خرج لجيش مثله فأبلى وأحسن البلاء، وإنما الأمر الذي شغل الدنيا في يوم کربلاء، هو أنه اليوم الذي تجلت فيه قداسة الحق ، وشرف التضحية على نحو متميز وفريد.

إنه يوم لم يعرف المسلمون بعد حقه عليهم ، ولا واجبهم تجاهه، وإن الأقدار لم تدع رؤوس أبناء الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) تحمل على أسنة رماح قاتليهم بل لتكون مشاعل على طريق الأبد، للمسلمين خاصة ، وللبشرية الراشدة كافة ، يتعلمون في ضوئها الباهر: أن الحق وحده هو المقدس، وأن التضحية وحدها هي الشرف، وأن الولاء المطلق للحق والتضحية العادلة في سبيله ، هما وحدهما اللذان يجعلان للإنسان وللحياة قيمة و معنی» (3).

«إن مأساة الحسين المروعة بالرغم من تقادم عهدها وتباين موطنها لا

ص: 223


1- صفاء خلوصي : (موسوعة العتبات المقدسة - قسم كربلاء - الجزء الأول) رأي المستشرق «رينولد نيکلشن» في كتاب (تاريخ الأدب العربي) ص187
2- عباس العقاد : أبو الشهداء ص 276.
3- خالد محمد خالد: أبناء الرسول في كربلاء - المقدمة، ص 8.

بد أن تثير العطف والحنان في نفس أقل القراء إحساسأ وأقساهم قلبا . فقد هزت مذبحة كربلاء العالم الإسلامي هزا عنيفا ، وخلقت في فارس شعورا ساعد أحفاد العباس فيما بعد على استغلاله لمصلحتهم الشخصية وتقويض دعائم الدولة الأموية » (1).

« فقد سالت دماء الحسين زكية لتزلزل ملك بني أمية وتقويض أركانه ، إذ كان الحسين ميتا أخطر منه حيا» (2).

« وقد منح يوم كربلاء الشيعة شعارا في المعارك يتلخص في الثأر من أجل الحسين، وقد برهنت الأيام فيما بعد على أنه أحد العوامل التي قوضت أسس الدولة الأموية » (3) .

« فكانت محنة أي محنة للطالبيين عامة وأبناء فاطمة خاصة ، ثم كانت محنة أي محنة للإسلام نفسه ، خولف فيها عما هو معروف من الأمر بالرفق والنصح وحقن الدماء إلا بحقها، وانتهك أحق الحرمات بالرعاية ،وهي حرمة رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) التي كانت تفرض على المسلمين أن يتحرجوا أشد التحرج، ويتأثموا أعظم التأثم قبل أن يمسوا أحدا من أهل بيته » (4).

« لم تنقض في ذلك خمسون سنة على انتقال النبي (صلی الله علیه واله وسلم) من هذه الدنيا إلى حظيرة الخلود ، محمد (صلی الله علیه واله وسلم) الذي بر بدينهم ودنياهم، فلم ينقل من الدنيا حتى نقلهم من الظلمة إلى النور، ومن حياة التيه في الصحراء إلى حياة عامرة يسودون أمم العالمين».

ثم هذه خمسون سنة لم تنقض بعد، وإذا هم في موكب جهير يجوب

ص: 224


1- السيد أمير علي : من كتابه : مختصر تاريخ العرب - موسوعة العتبات - کربلاء) ص 253.
2- عبد الحميد جودة السحار : مرجع سابق ص180.
3- فيليب حتي: من كتابه : تاريخ العرب . (موسوعة العتبات ص 194 قسم کربلاء).
4- طه حسين : المجموعة الكاملة - المجلد الرابع - الفتنة الكبری ص 672.

الصحراء إلى مدينة بعد مدينة ، سباياه بنات محمد (صلی الله علیه واله وسلم)، حواسر على المطايا، وأعلامه رؤوس أبنائه على الحراب، وهم داخلون به دخول الظافرين» (1).

« فأي فاجعة أفظع من مقتل الحسين وقد مضى شهيدا مظلوما کریما صابرا مكثورا. وأي عدو أحط نفسا وأعظم جهلا وأغلظ کبدا من أخصامه إذ ارتكبوا هذه الجناية وهم يرفون جليل قدره طلبا للحظوة عند أميرهم ، وطمعا في المال ، فباعوا آخرتهم بدنياهم .

وكما أن حياة الحسين منار المهتدين، فمصرعه عظة المعتبرين وقدوة المسلمين. وتأمل عناية الله بالبيت النبوي الكريم ، يقتل أبناء الحسين ولا يترك منهم إلا صبي مريض أشفى على الهلاك فيبارك الله في أولاده فيكثر عددهم.

فالحسين هو الذي عبد للأمم طريق الخروج على ولاة الفسق والجور، ودعا إلى جهاد الظلم من استطاع إليه سبيلا» (2).

« هذه عاصمة أمية - الشام - التي اتخذت يوم قتل الحسين عيدا واستقبلت الرؤوس والسبي بالدفوف والطبول، و بقيت أياما وعليها منشورة معالم الزينة والفرح، أصبحت والمأتم تقام فيها نادبة الحسين باكية عليه ، الاعنة من اجترح منه ذلك الذنب العظيم . وهذا اسم الحسين مكتوب على مسجدها الأعظم، وقد وضع ثوب السواد شعار الحزن على موضع صلب الرأس من ذلك المسجد. وأين قبر معاوية ويزيد من عاصمتهم الشام، وأين الزائر لهما من أشياعهم ومن سائر الناس ؟ » (3) .

ص: 225


1- العقاد : المجموعة الكاملة لمؤلفاته - المجلد الثاني - العبقريات الإسلامية - أبو الشهداء / ص 257.
2- من مقدمة كتاب : غض الرسول الحسين بن علي للأستاذ .د. محمد فتح الله بدران ص 7.
3- محمد حسين المظفر: الشيعة في التاريخ ص 34.

« فمدفنه مزار يطيف به المسلمون متفقين ومختلفين ، ومن حقه أن يطيف به كل إنسان ، لأنه عنوان قائم لأقدس ما يشرف به هذا الحي الآدمي بين سائر الأحياء، فما أظلت قبة السماء مكانا لشهيد قط هو أشرف من تلك القباب ، بما حوته من معنى الشهادة وذكرى الشهداء» (1).

« فالحسين ليس ملكا لجيل دون جيل، إنه ثروة الأمة في كل زمان ومكان ، ومن حق الأجيال أن تتعرف عليه وتقتدي به، لأن كل الأجيال مطالبة بالعمل من أجل الجنة التي يكون الحسين سيدا لشبابها جميعا» (2).

« والحسين رثاؤه عبادة ، واستماع رثائه عبادة، والجلوس في مجلسه عبادة ، والهم والحزن له عبادة، وتمني الشهادة بين يديه عبادة ، والسلام عليه عبادة» (3) .

وذلك كله ما دفع السير «برسي سایکس» إلى أن يقول في كتابه «تاریخ إيران» :

«إن الإمام الحسين وعصبته القليلة المؤمنة عزم على الكفاح حتى الموت وقاتلوا ببطولة وببسالة ظلت تتحدى إعجابنا و إكبارنا عبر القرون حتى يومنا» (4) .

خامسا - آثار ومعالم أثرية :

أصبح الحسين وأهل بيته (علیه السلام) مزارا للمسلمين من وقت شهادتهم إلى يومنا هذا و إلى ما شاء الله حين ينهي الحياة على الأرض. وأصبح رأس الحسين الذي استحوذ عليه القتلة ليحصلوا على الجوائز الثمينة من وراء

ص: 226


1- العقاد : أبو الشهداء / ص 257.
2- هادي المدرسي : الشهيد والثورة ص 250
3- توفيق أبو علم : مرجع سابق ص 186.
4- موسوعة العتبات : کربلاء ص 256.

اقتنائه ، له مزارات عدة ، بعد أن سيطر نفر من الحكام على الرأس الشريف وأراد أن يكون بجانبه في أرضه فيدفن فيها تبركا وإعظاما . فالأماكن التي ذكرت على أنها موطن رأس «الحسين» في ستة مدن : «المدينة - كربلاء - دمشق - عسقلان - الرقة - القاهرة»، وهي تدخل في بلاد الحجاز والعراق والشام و بیت المقدس والديار المصرية ، تكاد تشتمل على مداخل العالم الإسلامي كله من وراء تلك الأقطار، فإن لم تكن هي الأماكن التي دفن فيها رأس «الحسين» (علیه السلام) فهي الأماكن التي تحيا بها ذكراه لا مراء» (1).

فلو أعطيت کر بلاء حقها من التنويه والتخليد لحق لها أن تصبح مزارا لكل آدمي يعرف لبني نوعه نصيبا من القداسة وحقا من الفضيلة، لأننا لا نذكر بقعة من بقاع الأرض يقترن بها اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمی وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم کربلاء بعد مصرع الحسين فيها، فما أظلت قبة السماء مكانا لشهيد قط هو أشرف من تلك القباب بما حوته من معنى الشهادة وذكرى الشهداء (2).

سادسا - آثار نفسية :

استطاع الحسين أن يجعل الذين خانوا أباه وغدروا بأخيه في حزن مقيم وعبرة لا تسكن، وندب لا يذهب مهما طالت السنون وانقضت القرون. فقد حصل الشعور بالإثم وأثر ذلك في النفوس، وأصبح التفكير في التكفير عن الإثم والذنب الذي ارتكبوه .

وأثار مشاعر الحقد والكراهية في النفس للذين دفعوه إلى ارتكاب الجريمة . فأصبح الطريق ممهدا للأمة المستعبدة للنضال عن إنسانيتها كما أرادها الحسين . وتغيرت النفوس، فالذين كانوا خاملين في الحرب من

ص: 227


1- عباس العقاد : أبو الشهداء / ص111.
2- عباس العقاد : عبقرية الإمام / ص 237 .

قبل، تسلحوا الآن وبدأوا معركة كبيرة ضد الحكم الأموي بعد أن زال الخوف والتردد من قلوبهم . فأصبحت نفوسهم مهيئة تماما وشجاعة وجريئة للقيام بأي عمل بطولي في سبيل الدين والإسلام، ورفع راية الإسلام عالية خفاقة وتحرير إرادة الأمة العربية الإسلامية ، فانقلب بذلك مفاهيم الخوف والخنوع السائدة إلى مبادىء الثورة والنضال، وهي من نتائج أعظم الثورات التحررية في الأرض . فالأحداث - التي ستتابع سريعا، ستؤثر في النفوس أيما تأثير ، وسترك آثارا مريرة في النفوس . فحصار الكعبة وانتهاك حرمة المدينة، بعد سفك دماء أهل البيت ، وسياسة الجبر والقهر والاستبداد ، واضطهاد المعارضة، والابتعاد عن سيرة السلف الصالح، وحب الترف واللهو وكثرة مظاهره ، وكثرة المذاهب وتصارعها، وظهور أقوال كثيرة غير مألوفة من قبل، والاعتماد على العصبية في الحكم ، لم تكن هذه الأمور واضحة لأحد ولا في حسبان أحد، ولا لها اهتمام أو تأثير في فرد إلا بعد أن وقفوا جميعا أمام الحسين (علیه السلام) في كربلاء وسفكوا دماءه، ففطنوا عندئذ وتفهموا الأمور على حقيقتها، بعد أن تعلموا الدرس الذي كان على المسلم أن يتعلمه بالوسائل الصحيحة السليمة، وكانت تلك الوسيلة هي التضحية البطولية الرائعة لأهل البيت .

سابعا - آثار انتقامية وثأرية :

أهلك الله سبحانه وتعالى كل من شهد مقتل الحسین (علیه السلام) أو رفع رمحا في حربه ، أو ضرب بسيف في قتاله. فبعد ست سنوات حاق الجزاء بكل رجل أصاب الحسين في كربلاء ، وكان مصرعه هو الداء القاتل الذي سكن جثمان دولة بني أمية حتى قضى عليها .

وقد كتب الله السلامة «لزین العابدین» من الموت ورجع إلى المدينة فتزوج من «فاطمة» بنت الحسن (علیه السلام) فيكتب للسلالة الطاهرة أن تبقى في

ص: 228

النبعة الكريمة - الملتفة ولا يفنی بیت «الحسن» المسموم ولا «الحسین» الشهيد. ونعمت يد الله (1).

فكل من اشترك في حربه أو قتله أصابته مصيبة ، منهم من مات بأسلوب أو بأخر وبأقبح أنواع الموت أو ابتلي بالعطش فكان يشرب ولا يرتوي ، وعن «الزهري» : (أنه لم يبق من قتلته إلا من عوقب في الدنيا إما بقتل أو عمى أو اسوداد وجهه أو زوال الملك في مدة يسيرة) (2).

فمن منع عن الحسين الماء دعى عليه فأصابته دعوته مثل : «عبدالله بن أبي الحصين الأزدي» حين قال للحسين : والله لا تذوق من هذا الماء قطرة حتى تموت عطشا، فقال الحسين : اللهم اقتله عطشا ولا تغفر له أبدا . ويحلف «حمید بن مسلم» أنه رآه بعد ذلك يشرب فلا يرتوي ويقيء ثم يشرب حتى مات (3) .

وكذلك «عبدالله بن حوزه» قال للحسين : أبشر بالنار . فقال الإمام : رب حزه إلى النار . فاضطرب به فرسه في جدول فأخذ يضرب برأسه كل حجر وكل شجرة حتى مات.

وقد رأی « مروان بن وائل » هذا المنظر فقال : لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئا لا أقاتلهم أبدا (4) .

والذي سلب قميص الحسين واشترك في وطیء الخيل على جسده الشريف فبرض بعد ذلك وهو «إسحاق بن حيوة الحضرمي» (5).

ص: 229


1- عبد العزيز الأهل : زین العابدین ص 35.
2- الحافظ القندوزي : ص 323.
3- الطبري: ج 6 ص 234 .
4- الطبري: ج 6 ص 246.
5- الطبري: ج6 ص 261.

وعندما قال «الحجاج بن يوسف يوما : من كان له بلاء فليقم ، فقام «سنان بن أنس» وقال : أنا قاتل الحسين . فقال : بلاء حسن. ورجع إلى منزله فاعتقل لسانه وذهب عقله فكان يأكل ويحدث مكانه (1).

ثامنا - آثار ثورية :

اشارة

لم يعرف التاريخ هزيمة كان لها من الأثر لصالح المهزومين كما كان الدم الحسين . فانهزم الحسين في كربلاء وأصيب هو وذووه من بعده ، ولكنه ترك الدعوة التي قام بها ملك العباسيين والفاطميين، وتعلل بها أناس من الأيوبيين والعثمانيين ، واستظل بها الملوك والأمراء بين العرب والفرس والهنود والروم، ومثل للناس في حلة من النور تخشع لها الأبصار .

و باء بالفخر الذي لا فخر مثله في تواریخ بني الإنسان ، غير مستثنی منهم عربي ولا أعجمي، ولا قديم ولا حديث.

فقد أثار مقتله ثورة ابن الزبير وخروج المختار، وانقضى الأمر إلى ثورات أخرى حتى زالت الدولة الأموية ، بعد أن صارت ثارات الحسين هي الصرخة المدوية لتدك العروش وتزيل الدول. فأصبحت هذه «الثارات نداء كل دولة تفتح لها طريقا إلى الأسماع والقلوب .

وتلك جريرة يوم واحد هو يوم كربلاء، فإذا بالدولة العريضة تذهب في عمر رجل واحد مديد الأيام، وإذا بالغالب في يوم كربلاء، أخسر من المغلوب إذا وضعت الأعمار المنزوعة في الكفتين (2).

والثورات التي اعتمدت ثورة الحسين (علیه السلام) طريقا لها وتأثرا بها لا تعد ولا تحصى - ولكثرتها فإننا سنتناول الأهم منها فالمهم، ويمكن تقسيمها إلى ثلاث طوائف:

ص: 230


1- الطبري : ج 13 / ص 20.
2- عباس العقاد : أبو الشهداء / ص 131 .

في الطائفة الأولى نتناول الثورات الكبرى التي قادها أهل البيت وأبناء الصحابة أو التابعين أو العلماء الأجلاء. وقد تمكن بعضها من تأسیس دولة خلافة أو ولايات خاصة على حساب الدولة الأموية .

وفي الطائفة الثانية نتناول الثورات التي خرجت من البيت الأموي نفسه والذي قادها زعماء ومناصرو الأسرة الأموية.

ثم نتناول في الطائفة الثالثة ، الثورات الخاصة بالخوارج .

ص: 231

أولا - الطائفة الأولى: ثورات أهل البيت والصحابة وأبنائهم

1- ثورات المدينة المنورة :
أ- زینب بنت الإمام علي (علیه السلام) - علي بن الحسین (علیه السلام) :

بالرغم من أن المدينة المنورة اهتزت من قبل وفجعت في عهد «معاوية» الذي خوف أهلها ليركنوا إلى الهدوء والمسالمة ، فقد اضطربت في عهد خلفه «یزید» وثار عليه أهلها وعلى ولاته ورجالاته .

ومرت ثورة أهل المدينة في هذه الفترة على مرحلتين : كانت الأولى سلمية ، وأخذت الثانية طابع القوة والعنف.

وكان زعيم وقائد الثورة الأولى : زینب أخت الحسين (علیه السلام) وعلي بن الحسين فعندما رجع الإمام زين العابدين مع نساء وأطفال آل الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) إلى المدينة بعد مذبحة كربلاء، لم يبق ساکنا وكأن شيئا لم يكن ، بل استطاع مع السيدة زينب عمته ، من شحن النفوس بالحقد على الظالمين، والكراهية ليزيد ودولته ، وتهيئتها للثورة عندما يحين وقتها.

ولم تقم «زینب» بثورتها بعد مذبحة كربلاء. بل ابتدأتها مع أخيها الحسين(علیه السلام) فكانت إلى جانبه ، وإلى جانب المريض تمرضه والمحتضر تواسيه ، والشهيد تبكيه. فقد رؤيت إلى جانب أخيها الحسين (علیه السلام) منذ بدأ القتال حتى انتهى .

ص: 232

وتمكنت في فترة قصيرة أن توصل أهداف ومبادیء نهضة الحسين (علیه السلام) إلى الحكام والولاة والأفراد الذين حاربوه ، ومن لم يحار به ، كما وصل صداها بعيدا إلى الأمم في الأمصار الإسلامية ، «فزینب» التي اشتركت مع أخيها الحسين (علیه السلام) ومع آل الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) في حرب كربلاء، أكملت هذه الحرب في قصور الأمراء والحكام وفي الشوارع، ثم أشعلتها في المدينة حتى ثارت وثار أهلها، حتى أنها عمت مدن العراق والشام ومصر بالتالي ، إلا أن حركتها السلمية في المدينة أدت إلى الثورة الدامية واستخدام العنف في مجابهة رجال الحكم الأموي .

فاستطاعت في فترة قصيرة أن تشعل في نفوس الشيعة خاصة والمسلمين عامة حزنا مستعرا لم يخمد لهيبه حتى اليوم، وأن ترهق الذين أسلموا آل البيت بوخز الحسرة والندم، وتجعل التكفير عن خطيئتهم میراثا رهيبا مقدسا يتوارثونه جيلا بعد جيل (1).

كانت مواقفها جريئة وشجاعة لم تكن لامرأة من قبل ولا من بعد، فقد جابهت أمراء بني أمية ، وصمدت أمام حكامهم، ونددت بأهل الكوفة ، وأثارت أهل الشام، بل تمكنت من أن تدخل الألم والخوف في قلوب آل أمية ، فأحزنت أفئدتهم، وأدمعت عيونهم، وأربكت تفكيرهم ، حتى أخرجها «یزید» من الشام وأرسلها إلى المدينة المنورة ، فاستمرت في موقفها الشجاع الذي خوف آل أمية من الانهيار، فأخرجوها من مدينة جدها (صلی الله علیه واله وسلم) إلى مصر .

خطبت أهل الكوفة بعد المذبحة حين رأتهم يبكون ويتحسرون :

(أتبكون وتنتحبون؟ أي والله فابكوا كثيرا وأضحكوا قليلا. كل ذلك بانتهاككم حرمة ابن خاتم الأنبياء وسيد شباب أهل الجنة ، فلا سكنت العبرة ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم مثل الذي نقضت غزلها من بعد قوة إنكاثا ،

ص: 233


1- بنت الشاطیء تراجم سيدات بيت النبوة ص 646.

تتخذون أيمانكم دخلا بينكم، ألا ساء ما تزرون. أو تعجبون لو أمطرت دما؟ ألا ساء ما سولت لكم أنفسكم، إن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون) (1).

وقد بقي صدى صوتها يدوي في آذان أهل الكوفة ويملأ الفضاء من حولهم ، مذكرا إياهم بخطيئتهم الشعناء. وظل هذا الصدى باقيا لم يتبدد مع الأحداث التي أعقبت المذبحة وثارت لقتلاها، وقد رددت حوائط الكوفة صدى صوتها.

وفي مجلس «ابن زیاد» عندما تكلم الطاغية بكلام قبيح يوبخها والها، ردت عليه دون خوف أو تردد : (الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه (صلی الله علیه واله وسلم) وطهرنا من الرجس تطهيرا. إنما يفضح الفاسق و يكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله) (2) .

كان حملها ثقيلا، وواجباتها كبيرة، وإرثها كثيرا . كانت تحارب قتلة أخيها في جبهات متعددة ، فهناك الأمير الأموي، والحاكم الأموي، وأهل الكوفة ، وأهل الشام، وأهل المدينة الذين حرضتهم للانتقام.

كانت تبرز المأساة للناس، أفرادا وجماعات، وتوضح أخطاء الحكم وجرائمه، هنا وهناك، في المدن وفي الشوارع، وفي الطرق ذات المسافات الطويلة ، عند ترحالها من مكان إلى آخر. فبعد أن أظهرت موقف الأمير الأموي وأهل الكوفة ، كان لها موقفها المعروف عند «یزید» الحاكم. حين أراد أحد بطانته الاستيلاء على إحدى کریمات بيت النبوة، فردت على يزيد:

(کلا والله ما جعل الله ذلك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا)،

ص: 234


1- باقر القرشي: مرجع سابق ج 3 ص 335 - بنت الشاطیء : المرجع السابق ص 765.
2- بنت الشاطیء : المرجع السابق ص 765.

فيغضب «یزد» لقولها : (إياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك). فتجيب عليه بكل قوة :

(بدين الله و بدین أبي وأخي وجدي ، اهتديت يا يزيد أنت وأبوك وجدك) (1).

هذا موقف في مجال . ونرى موقفا آخر في مجال آخر، حين فرح «یزید» بالرؤوس ، قالت : (صدق الله یا یزید: « ثُمَّ كَانَت عَاقِبَةُ الَّذِينَ أسَاؤُا السُّوءِ إِن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَستَهزِؤُن»، إن الله أن أمهلك فهو قوله : «وَلاَ يَحسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّمَا نُملِيَ لَهُم خَيرٌ لأنَفُسَهُم، إِنَّمَا نُملِي لَهُم لِيَزدَادُوا إِثماً وَلَهُم عَذَابٌ مَهِينِ» ، إن العدل يابن الطلقاء تخديرك بناتك وإمائك ، وسوقك بنات رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) کالأساری قد هتکت ستورهن وأصلحت أصواتهن ، مكتئبات تجري بهن الأباعر، وتحدو بهن الأعادي من بلد إلى بلد، لا يراقبن ولا يؤوين ، يتشوفهن القريب والبعيد، ليس معهن قريب من رجالهن ؟ والله ما فریت إلا في جلدك ، ولا حززت إلا في لحمك، وسترد على رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) برغمك، ولتجدن عترته ولحمته من حوله في حظيرة القدس يوم يجمع الله شملهم من الشعث، «وَلاَ تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قَتَلوُا فِي سَبِيلِ اللهِ أموَاتاً بَل أحيَاءِ عِندَ رَبِّهِم يَرزِقُونِ» . فکد کيدك ، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرخص عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد ، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين) (2).

فلم تكد تخرج من عند «یزید» حتى أحس أن سروره بمقتل الحسين (علیه السلام)

ص: 235


1- بنت الشاطيء مرجع سابق ص 772.
2- بنت الشاطيء مرجع سابق - باقر القرشي: ج 3 ص 380.

قد شابه کدر خفي ظل يزداد حتى استحال إلى ندم، كدر صفو الأعوام الثلاثة الأخيرة من حياته .

وفي الشام أيضا كان لها موقف في مجال ، حين أقامت مع بنات رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) المأتم أياما ، فبكت النساء الهاشميات ، وبكت معهن نساء بني أمية ،فلم تبق من آل معاوية امرأة إلا استقبلتهم تبكي وتنوح على الحسين (علیه السلام). وأقيمت المناحة ثلاثة أيام وصالا على روح الشهداء (1).

وبعد الشام، وفي الطريق إلى المدينة ، حينما مروا على كربلاء، ناحت النوائح ثلاثة أيام لم تهدأ لهن لوعة ولم ترفا لهن دمعة .

كان هذا أسلوبها في ثورتها السلمية ، فقد تركز نشاطها في تردید المأساة والنوح والبكاء المتواصل الذي ألهب النفوس، وهيأها للثورة التي كانت تنتظر ساعة الصفر للانفجار . فتعتبر حركتها السلمية مع ابن أخيها، تحركا سياسيا مغلفا بلون الحزن المثير لعواطف الجماهير وغضبها ونقمتها على يزيد وحكومته . لقد تمكنت «زینب» (علیه السلام) أن تفسد على « ابن زیاد» و بني أمية ، لذة النصر، وسكبت قطرات من السم الزعاف في كؤوس الظافرين .

فحينما عادت إلى المدينة أرض جدها الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) لم تبق مخدرة إلا برزت من خدرها نائحة معولة ، وما رأت مدينة الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) أفجع مشهدا ، ولا رأت مثل ذلك اليوم أكثر باکيا و باكية ، فأقامت المدينة أياما بلياليها تشهد المأتم الرهيب ، وتصغي إلى النواح الفاجع، وتتلقى في ثراها الطاهر دموع البواكي، وكان يبكيهن الأعداء والأصدقاء (2).

والتفت القلوب حولها، وكانت شديدة التأثير على الناس بشخصيتها

ص: 236


1- الطبري : تاريخ الأمم والملوك ج 6 ص 265.
2- بنت الشاطیء : المرجع السابق ص 782.

وبطولتها، فأحاط الناس بها، واتخذوا دارها مركزا ومزارا لتجمعاتهم (1). كانت تقص على المؤمنين ما لقي سبط الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) من جيش يزيد، وتصف لهم المجزرة الشنيعة التي ذبح فيها الإمام الحسين (علیه السلام) وشیعته . فخيم على المدينة جو من القلق ينذر بتفجير الموقف بين حين وآخر. فقد كان وجود «زینب» (علیه السلام) فيها كافيا لأن يلهب الحزن على الشهداء، ويؤلب الناس على الطغاة ، حتى كاد الأمر يفسد على بني أمية . حيث لم تخف هذه الحركة على رجالهم، فقد عرف سرها والي المدينة «عمرو بن سعيد» وخاف نتائجها، فكتب إلى «یزید» يكشف له الحركة، وفيما سينجم عن مواقف «زینب» (علیه السلام) من أخطار تحيط به و بعرشه : (إن وجودها بين أهل المدينة يهيج الخواطر، وإنها فصيحة لبيبة عاقلة ، وقد عزمت هي ومن معها على القيام للأخذ بثأر أخيها الحسين) (2).

فما كان من «یزید» إلا أن أمره بأن يضع حدا لنشاطها ويفرق بينها وبين الناس . فطلب الوالي من السيدة زينب (علیه السلام)أن تخرج من المدينة فتقیم حيث تشاء .

فقالت في غضب: (قد علم والله ما صار إلينا، قتل خيرنا وسيق الباقون كما تساق الأنعام، وحملنا على الأقتاب ، فوالله لا خرجنا وإن أريقت دماؤنا). كان هذا ردها على أحد رجالات بني أمية ، فتحدته مع قوة سلطانه، وأرادتها حربا إن كان منها بد. ولكن نساء «هاشم» أقنعنها بالخروج، حيث لا مأمن من عدوانهم وغدرهم، ولو كن نساء . فخرجت إلى مصر هذه المرة دون عودة .

وقد كان معروفا عن مصر أنها شديدة الولاء لعلي بن أبي طالب (علیه السلام)،

ص: 237


1- أحمد شلبي : موسوعة التاريخ الإسلامي - 2 الدولة الأموية ص 170.
2- بنت الشاطیء : المرجع السابق ص 784.

ومن أجل حب المصريين لآل البيت، وإحساس السيدة زينب (علیها السلام) بذلك، كان من الطبيعي أن تختار مصر محلا لإقامتها. وأما علي بن الحسين (علیه السلام) فلم يغادر الحجاز ليقوم بواجبه هناك ما وسعته الحيلة (1).

وقد خف والي مصر (مسلمة بن مخلد الأنصاري) للقائها واستقبلها معه جموع الناس من العلماء والأعيان، وأجهشوا بالبكاء. وخصص لها منزل أقامت به في القاهرة، وأقيم لها بعد ذلك الضريح العظيم بالحي الذي عرف باسمها، فبقي قبرها مزارا مباركا يفد إليه المسلمون حتى يومنا هذا من كل فج عميق (2).

هذه «زینب» أخت الحسين (علیه السلام) التي جعلت من مصرعه مأساة خالدة لا نعرف ما هو أبعد منها أثرا في تطور العقيدة عند الشيعة . فكانت هي التي صيرت من ليلة العاشر من المحرم مأتما سنويا للأحزان والآلام، يحج فيه أحفاد التوابين إلى المشهد المقدس في كربلاء حيث يعيدون تمثيل المأساة ، ويفرضون على أنفسهم أقسى أنواع العقاب الجسدي تكفيرا عن خطيئة الأجداد . وما أحسب أن التاريخ قد عرف حزنا كهذا طال مداه حتى استغرق بضعة عشر قرنا دون أن يفتر. فمراثي شهداء کربلاء هي الأناشيد التي يترنم بها العراقيون في عيد حزنهم يوم عاشوراء كل عام.

فهي بطلة استطاعت أن تثأر لأخيها الشهيد العظيم، وأن تسلط معاول الهدم على دولة بني أمية ، وأن تغير مجرى التاريخ. فزينب هي باعثة ذلك ومثيرته ، لا أقول هذا من عندي تزيدا ، وإنما هو قول التاريخ (3).

فقد اندلعت الثورات ، واحدة بعد الأخرى، سنوات بعد سنوات ،

ص: 238


1- أحمد شلبي : مرجع سابق ص 170 .
2- أحمد شلبي : المرجع السابق / ص 170 - بنت الشاطیء : ص 790.
3- بنت الشاطیء : ص 799.

وقامت دول وتأسست ممالك باسم الحسين (علیه السلام) بعد مقتله .

فعندما ظهرت السيدة زينب «عليها السلام» على مسرح المأساة قبيل إسدال الستار لتقذف بلغتها أهل الكوفة والطغاة من بني أمية ، فمن ثم لم يسدل الستار أبدا، وما أحسبه يسدل حتى تتبدل الأرض ومن عليها.

ب - ثورة عبدالله بن حنظلة الغسيل الأنصاري . وهو الصحابي العظيم المنعوت بالراهب :

وقد جاءت ثورته نتيجة مباشرة لحركة السيدة زينب (علیها السلام) السلمية ، وتأثرا سريعا بها، بعدما ظن رجال الحكم الأموي أنه بعد نفيها من المدينة ، أن الأحوال ستهدأ والأمور ستسير كما ينبغي . على أن الوقت لم يكن في صالح«یزید» وحكومته، فالأحوال والأجواء المضطربة لم تكن تشجع الناس على الهدوء وقبول الأمر الواقع أو الرضا بالحكم الإرهابي المتسلط، فقد أتت الحركة السلمية ثمارها، وغرست نتائجها في النفوس، ودخلت مبادئها في القلوب ، وبرزت عوامل جديدة كانت الشرارة التي فجرت الموقف رأسا دون انتظار، فقد دنت ساعة الصفر الحتمية ، واشتعل الفتيل بسرعة غير متوقعة ، وسيكون «یزید» نفسه هو هذا الفتيل الذي سيشعله نفر زاره في مركز حكمه. فهو المسزول عن إشعال الشرارة .

فبعد رجوع الوفد - وفد أهل المدينة برئاسة عبدالله بن حنظلة - من الشام، عيب على يزيد وأخلاقه، وقالوا : (إنا قدمنا من عند رجل ليس له دین ، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسامر الحراب ، والفتيان ، وإنا نشهدكم إنا قد خلعناه) (1) . فتابعه الناس .

ص: 239


1- الطبري : ج 7 ص 4 - عبد العزيز سيد الأهل : مرجع سابق ص 27 - ابن الأثير : مرجع سابق/ ج 4 ص 103.

وأكد (المنذر بن الزبير ) هذا الموقف بقوله: (والله إنه ليشرب الخمر، والله إنه ليسكر حتى يدع الصلاة) وعابه بمثل ما عابه ، به أصحابه وأشد (1).والناس ليسوا مذنبين ، فقد شملهم جور «یزید» وعماله ، وعمهم ظلمه ، وما ظهر عن فسقه ، من قتله ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) وأنصاره، وما أظهره من شرب الخمر، وسيره سيرة فرعون، بل إن فرعون كان أعدل منه في رعيته ، وأنصف منه لخاصته وعامته ، كما يرى صاحب المروج (2).

فلم ير وا بدا بعدما سمعوه من زعمائهم : عبدالله بن حنظلة وعبدالله بن مطيع العدوي حينما رجعوا من الشام، إلا أن يغضبوا على هذا الوضع ، وينقموا عليه بالثورة . فابتدأوا بخلع عامل «یزید» : (عثمان بن محمد بن أبي سفيان) وإخراجه من المدينة ، ثم طردوا «مروان بن الحكم» وسائر بني أمية ومواليهم وكانوا نحوا من ألف رجل نزلوا دار «مروان» حيث حاصرهم بها أهل المدينة .

وعندما استغاث الأمويون «بیزید» أخرجهم أهل المدينة منها ورموهم بالحجارة. فكتب «یزید» إلى أهل المدينة مهددا ومتوعدا : (وأيم الله لئن وضعتكم تحت قدمي لأطأنكم وطأة أقل بها عددكم وأترككم بها أحاديث تنسخ منها أخباركم كأخبار عاد وثمود) (3).

ولكن بدا له أنه لا ينفع معهم تهديد أو وعيد، فأرسل إليهم أحد رجالاته الأشداء، وأعظم أعوانه للقضاء على هذه الفتنة التي ستزيد خطورتها إن لم يخمد نارها سريعا. وكان القائد هذه المرة : ( مسلم بن عقبة المري) أو كما أطلق عليه بعدئذ : ( مسرف، ومجرم بن عقبة) وذلك لسوء ما

ص: 240


1- ابن الأثير : الكامل ج 4 / ص 103.
2- المسعودي : مروج الذهب ج 3 / ص 67.
3- أحمد بن عبدالله القلقشندي : مآثر الأنافة في معالم الخلافة ج3 ص 238 .

فعل (1). وقد وصاه «یزید» قائلا: (أدع القوم ثلاثا، فإن أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم فانهبها ثلاثا، فكل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند) (2).

وفي الحقيقة ، أن «مسلما» قد أخلص في تنفيذ ما وصاه به «یزید» بل أكثر من عنده ، فقد أمهل أهل المدينة ثلاثة أيام يختارون فيها: البيعة أو الاستسلام. ولكنهم عرضوا اختيارا ثالثا هو الحرب . فاستعدوا لها بحفر خندق كما فعل الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) يوما حينما عاش في هذه المدينة الطيبة التي غير اسمها القائد (مسرف) وسماها «نتنة» بعد أن سماها الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) «طيبة» (3).

واصطدم الجيش الأموي - الذي بلغ عدده خمسة آلاف جندي اختيروا من أهل فلسطين والأردن ودمشق وحمص وقنسرین - بأهل المدينة في موقعة الحرة (4). قمع فيها جيش الشام أهل المدينة، وأتي كثيرا من الفظائع والمذابح والكبائر، مما أجمع المؤرخون على استنكاره. فحينما غلب «مسرف» أعمل في أهل المدينة القتل بلا رحمة ولا شفقة ، ثم أباح للجند أن يعتدوا على أهلها ثلاثة أيام كما شاءوا، يقتلون أهلها ويسلبون أموالهم و يعتدون على نسائهم. وبلغ من ضراوته بالشر وهو شيخ فان مریض ، أنه أباح المدينة في حرم النبي (صلی الله علیه واله وسلم) واستعرض أهلها بالسيف جزرا كما يجزر القصاب الغنم حتی ساخت الأقدام في الدم، وقتل أبناء المهاجرين والأنصار وذرية أهل بدر، فقتل ثمانين من أصحاب الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وسبعمائة من قریش والأنصار، وعشرة آلاف من سائر الناس والموالي الذين كانوا أشد

ص: 241


1- المسعودي: المروج ج 3 / ص 17 - عبد العزيز الأهل ص 64.
2- ابن الأثير : ج 4 ص 112 - الطبري ج 7 ص 7.
3- المسعودي : المروج ج 3 ص 69.
4- موضع شمال شرقي المدينة المنورة. الطبري ج 7 ص 12.

الناس دفاعا عن المدينة وأكثر تعرضا للسهام، ونهب الأموال سبيت الذرية ، واستبيحت المحارم (1).

ولم ينتبه الأمر بعد، فقد أخذ البيعة «لیزید بن معاوية» على كل من استبقاه من الصحابة والتابعين على أنه فن - خالص العبودية - لأمير المؤمنين ، وأرغم كبار أهل المدينة على مبايعته في قباء، وطلب من الناس أن يبايعوا على أنهم عبيد ليزيد، إن شاء باع وأعتق ، فكان الرجل من قریش يؤتى به فيقال له : بايع على إنك عبد، فإذا قال لا، ضربت عنقه (2).

وقد حاول زعيم الثورة (عبدالله بن حنظلة) أن يرد الغزاة عن غيهم وجرمهم فخطب فيهم : (يا قوم اتقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على «یزید» حتى خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء، إن رجلا ينكح الأمهات والبنات والأخوات ، ويشرب الخمر ويترك الصلاة والصيام، واللله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت في الله بلاء حسنا) (3).

ولكن كيف يمكن أن يرتدع مثل هؤلاء خوفا من إنسان ما داموا يفعلون فعلهم دون خوف من الله وخشية منه.

وقد برز أثناء هذه الأحداث والفوضى والدمار والقتل وإسالة الدماء ، دور (علي بن الحسین زین العابدین)، فقد استجار به «مروان بن الحكم» وألجأ إليه حريمه وأهله ، فألجأهم «زین العابدین» عندما أبي «عبدالله بن عمر» أن يلجئهم ، فلم يقبل بأن يحفظ عنده حرم وعيال «مروان» عندما طلب

ص: 242


1- المسعودي : ج 3 ص 17 - عبد العزيز الأهل ص 64 - اليعقوبي : لابن واضح ج 2. ص 237 - العقاد : أبو الشهداء ص 53 - معجم البلدان ج 3 / ص 262.
2- الطبري : ج 3 ص 379.
3- هاشم معروف: سيرة الأئمة الاثني عشر - القسم الثاني ص 140 - ابن سعد، الطبقات ابن الأثير / ج 4 ص 111/ الطبري ج 7 / ص 4.

منه ذلك. ولكن «زین العابدین» أبی أن يرد عدوه حين احتمى به ، فحماهم وأرسلهم إلى (ينبع) في أمن ودعة . كما إن نساء المدينة لجأن حين الموقعة إلى داره ، وقد بلغن أربعمائة امرأة . فجعل «الإمام» يؤمنهن من الخوف، ويحفظهن من الذعر، ويميل عليهن بالطعام والثياب ، حتى انتهت الموقعة وهدأت الناس ، فذهبت كل امرأة إلى بيت أهلها (1).

وقد قاتل مع «ابن حنظلة» :

الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وعبدالله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب .

و زبیر بن عبد الرحمن بن عوف ، الذين قتلوا في المعركة .

والصحابي ابن الصحابي ، محمد بن أبي الجهم، الذي قتل حينما شهد على «یزید» بشرب الخمر. كما اشترك فيها :

أبو سعيد الخدري ، الذي خاف حتى دخل في كهف جبل .

وعمرو بن عثمان بن عفان ، الذي خلي سبيله ، بعد أن نتف لحيته واستهزأ به أمام أهل الشام .

ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، الذي انهزم بعد المعركة .

وجابر، وسهل بن سعيد، اللذان نجيا من المذبحة .

وقتل من بني هاشم خمسة ، اثنان منهم من آل أبي طالب (2).

أما «مجرم بن عقبة» فإنه مات وهو في طريقه إلى مكة لحرب «ابن الزبير»، وقال قبل موته : (اللهم إني لم أعمل قط بعد شهادة لا إله إلا الله

ص: 243


1- الطبري : ج 4 ص 372 - أعيان الشيعة : ج 4 ص 461 - عبد العزيز الأهل ص 64.
2- المسعودي : المروج ج 3 ص 70 - ابن الأثير : ج 4 ص 115 - الطبري ج 7/ ص 12.

وأن محمدا رسول الله ، عملا أحب إلي من قتلي أهل المدينة ، ولا أرجی عندي في الآخرة) (1).

وهكذا انتهت الثورة العنيفة للمدينة المنورة ، مدينة الرسول الكريم (صلی الله علیه واله وسلم) التي لم يبال «یزید» ولا أبوه من قبل، بقول رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) عنها :

(من أخاف المدينة أخاف الله عز وجل، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ) (2).

وفي قول: (اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل) (3).

ولا بقوله (صلی الله علیه واله وسلم) :

لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع ، كما ينماع الملح في الماء) (4).

وفي قول :

(لا يريد أحد أهل المدينة بسؤ إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء) (5).

وفي قول آخر: (أيما جبار أراد المدينة بسؤ أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء) (6).

ص: 244


1- ابن الأثير: ج 4 / ص 123.
2- عبد الحسین شرف الدين : النص والاجتهاد ص 32 - ابن عبد ربه : العقد الفريد ج ص.
3- رواه الطبراني : أحمد الهاشمي: مختار الأحاديث النبوية ص 137 - الأميني: الغدير ج 11 / ص 35.
4- صحیح بخاری: ج3 ص 181.
5- صحيح مسلم : ج 4 / ص 113 - الأمينية الغدير ج 11/ ص 35.
6- الأميني: الغدير ج 11 / ص 35.

وفي قول أبي هريرة : (من أراد أهلها بسؤ، أذابه الله كما يذوب الملح في الماء) (1).

ولا بقوله (صلی الله علیه واله وسلم) :

(من أباح حرمي فقد حل عليه غضبي) (2) .

وفي حديث آخر له (صلی الله علیه واله وسلم):

(إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة) (3).

وفي حديث آخر عن إبراهيم التيمي عن أبيه ، قال :

خطبنا علي ابن أبي طالب ، فقال : قال النبي (صلی الله علیه واله وسلم) : (4)

المدينة حرم ما بين «عير إلى ثور» (5)، فمن أحدث فيها حدثا أو آوی محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا.

وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم).

كما أن النبي (صلی الله علیه واله وسلم) كتب في المدينة عندما استقر فيها كتابا بين

المهاجرين والأنصار، وقرر فيه حرمة البيت .

«أي أنه يحرم فيها ما يحرم بمكة » (6).

ص: 245


1- مختصر صحیح مسلم: ج1/ ص 205.
2- الأميني: الغدير ج 11 / ص 35.
3- مختصر صحیح مسلم: ج1/ ص 203.
4- مختصر صحیح مسلم: ج1/ ص 203.
5- وهما جبلان على طرفي المدينة ، عير في جنوبها وثور خلف أحد من شمالها .
6- محمد جمال الدین سرور : قيام الدولة العربية الإسلامية ص 79 - ابن هشام، السيرة ج 2/ ص 119.

وقال (صلی الله علیه واله وسلم) في الأنصار :

- حديث أنس ( رضي الله عنه ) عن النبي (صلی الله علیه واله وسلم) قال : آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار، فمن أحبهم، أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغض الله (1).

- حديث زيد بن أرقم : عن أنس بن مالك ، قال : حزنت على من أصيب بالحرة فكتب إلى زيد بن أرقم وبلغه شدة حزني يذكر أنه سمع رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم ) يقول:

اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار (2) .

- وروى الشيخان «عن البراء بن عازب» عن النبي (صلی الله علیه واله وسلم) أنه قال في الأنصار :

(لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق ، فمن أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله ) (3).

2- ثورة - عبدالله بن عفيف الأزدي :

كان من شيعة علي (علیه السلام) وأنصاره، شهد معه الجمل وصفين ، وفقد عينيه فيهما فذهبت إحدى عينيه يوم الجمل والأخرى بصفين فأصبح ضريرا (4).

ص: 246


1- اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان – الجزء الأول - باب (الدليل على أن حب الأنصار من الإيمان) ص 14.
2- اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان - کتاب (فضائل الصحابة) - باب من فضائل الأنصار (رضي).
3- أحمد الهاشمي : مختار الأحاديث النبوية ص 194.
4- عبد الحميد جودة السحار : مرجع سابق : ص 187 - باقر القرشي: مرجع سابق ج 3 ص 348 - البلاذري : أنساب الأشراف ج 1 ص 1.

لم يستطع أن يتحمل إهانات المجرمين ومهاتراتهم في حق الفاضلين ، فعندما صعد «عبيدالله بن زياد» المنبر في المسجد - بعد أن أدى دوره الخبيث في التخلص من الحسين وآله (علیهم السلام) - فأظهر سروره بقتلهم وأنزل السباب والشتائم على سبط الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) وآله (علیه السلام) وقال : (الحمد الله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنین یزید وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته) (1).

فما كان من «ابن عفيف» الضرير إلا أن ثار على قبح كلامه ووثب إليه صائحا :

(یابن مرجانه ، إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه ، أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين) (2).

غضب «ابن زیاد» وأمر رجاله بالقبض عليه ، فحاربهم وهو يضرب يمينا ويسارا ، كما أن معركة جرت بين الأزد وأهل اليمن وكثر القتلى بينهم . وقبض على «ابن عفيف» فضرب «ابن زیاد» عنقه وصلبه في السبخة (3).

وتعتبر ثورته أول حركة تمرد في الكوفة بعد مجزرة كربلاء.

3- ثورة مكة المكرمة :عبدالله بن الزبير :

كان معاوية قد وصی یزیدا ابنه فيما ينبغي عليه فعله إزاء معارضيه من بعده (وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك مراوغة الثعلب ، فإن أمكنته فرصة وثب ، فذاك ابن الزبير، فإن فعلها بك فظفرت به فقطعه إربا

ص: 247


1- الطبري: ج 6 ص 263 - عبد الحميد جودة: المرجع السابق / ص 187.
2- الطبري: ج6 ص 264 - باقر القرشي : ج 3/ المرجع السابق / ص 348.
3-

إربا ) (1). و ذلك لأن معاوية كان قد ذكر من قبل لعبدالله بن الزبير، یزیدا ابنه حين طلب منه البيعة له ، فقال ابن الزبير: (أنا أناديك ولا أناجيك، إن أخاك من صدقك ، فانظر قبل أن تقدم، وتفكر قبل أن تندم، فإن النظر قبل التقدم ، والتفكر قبل التندم) فضحك معاوية وقال : (تعلمت یا بن بنت أبي بكر الشجاعة عند الكبر ) (2) . وابن الزبير كان واحدا من حزب أهل المدينة - وهم من أبناء كبار الصحابة الذين أجمعوا رأيهم على معارضة بيعة يزيد بن معاوية بكل قوة . وهو لم يتمكن من إظهار زعامته أو إعلان ثورته طالما كان «الحسين بن علي» حيا يعيش بين أهل الحجاز والمسلمين في الأمصار . فصبر حتى خرج الحسین متوجها إلى الكوفة تاركا أرض الحجاز لابن الزبير ، فخليت له - الساحة، (فعظم شأنه عند ذلك في الحجاز، فاشتهر أمره و بعد صيته ، ومع هذا كله ليس هو معظما عند الناس مثل الحسين ، بل إنما الناس ميلهم إلى الحسين لأنه السيد الكبير وابن بنت رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) فليس على وجه الأرض يومئذ أحد يساميه ولا يساويه) (3). إذ إن ابن الزبير نفسه كان ممن يفدون على الحسين ويجلسون إليه ، فقد كان تباعده عنه مما يغضب المسلمين ، ولكن مع ذلك فإنه كان يتمنى الخلاص من الحسين الذي اعتبر منافسه الأول على الخلافة، حيث ما دام الحسين موجودا على الأرض، لن يجرؤ ابن الزبير على الخروج أو الثورة، أو التحدث باسم المسلمين .

ويوضح البياسي ذلك بقوله : (إن الحسين كان أثقل خلق الله على ابن الزبير، وقد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه ما دام حسين بالبلد) (4).

ص: 248


1- ابن الأثير : ج 4 ص 3.
2- ابن أبي الحديد الشرح : ج 2 ص 123.
3- ابن كثير: البداية والنهاية ج 8 ص 150 - الخربوطلي: 10 ثورات في الإسلام ص 70.
4- علي الخربوطلي: المرجع السابق : ص 70 - الإعلام بالحروب الواقعة في صدر الإسلام - مخطوط بدار الكتب ج 2 ص 8.

وكان الحسين نفسه يدرك ما يدور في خلده، حيث قال عنه : (إن هذا ليس شيء في الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أن الناس لا يعدلونه بي، فود أني خرجت حتى يخلو له). وقد كان ما تمناه «ابن الزبير» حين خرج الحسين من الحجاز مصطحبا أهله وأصحابه ، وجاء الخبر بعد حين باستشهادهم جميعا في كربلاء . حينئذ تحرك «ابن الزبير» مستخدما أول الأمر سلاح الأخذ بثار الحسين بداية لثورته، فقال بعد مقتله موضحا موقفه من الأمويين عامة ومعرضا بیزید خاصة : (أفبعد الحسین نطمئن إلى هؤلاء القوم ونصدق قولهم ونقبل لهم عهدا؟ لا، ولا نراهم لذلك أهلا، أما والله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه ، كثيرا في النهار صيامه ، أحق بما هم فيه منهم، وأولی به في الدين والفضل . أما والله ما كان يبدل بالقرآن الغناء، ولا بالبكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شرب الخمر، ولا بالمجالس في حلق الذكر بكلاب الصيد) (1).

ولكنه أخفق في استمالة الشيعة على الخصوص، كما أخفق في استمالة المسلمين على العموم، باستخدام سلاح الأخذ بثار الحسين . فلم تؤمن الشيعة بصدق مقالته ، وأدركوا أنه يناضل الدولة الأموية من أجل تحقيق أغراضه السياسية ، وحماية خلافته التي أقامها في الحجاز، وعلى الأخص حينما لم يهتم بالثأر للحسين (علیه السلام) عندما ترك ولاته - بعد امتداد نفوذه في العراق - قتلة الحسين (علیه السلام) يمرحون في الكوفة والبصرة ويسرحون. ولكن أهل الحجاز وقفوا معه بعدئذ وذلك ، لأن معاوية كان قد تعمد إضعاف الحجاز سياسيا واقتصاديا ، فلم يبذل لهم في العطاء، مما اضطرهم إلى بيع ممتلكاتهم التي اشتراها منهم بأبخس الأثمان. فلما ظهر «ابن الزبير» رأي

ص: 249


1- الطبري: ج 6 ص 273 - ابن الأثير ج 4 ص 55 - الخربوطلي: المرجع السابق : ص 70.

فيه أهل الحجاز أنه يخلصهم من هذه السياسة الأموية الظالمة (1) ، فمال أكثر الناس إليه وقالوا : هو رجل كامل السن ، وقد نصر أمير المؤمنين عثمان ، وهو ابن حواري رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) وأمه بنت أبي بكر بن أبي قحافة ، وله فضل في نفسه ليس لغيره (2) .

وهكذا قضى «ابن الزبير» بقية حياته يقاتل الأمويين ، فقاتل جيوش «یزید» «ومروان بن الحكم» وعبد الملك بن مروان، وحاصرته الجيوش الأموية مرتين في مكة (3) ، حيث بعث إليه حكام بني أمية الجيوش الجرارة وقوادهم الكبار ورجالاتهم الطبعيين من صنائعهم، للقضاء عليه في مستقره في الكعبة المشرفة في البلد الحرام.

ولكن قواد بني أمية لم يردهم عن هدفهم وبغيتهم حرمة بيت الله ولا الخوف من عذاب الله ، فضربوا الكعبة بالأسلحة الثقيلة، واستخدموا أنواعا من الأسلحة النارية في حرق الكعبة المكرمة ، (4) إذا أحرقوها بالمنجنیق ، حيث تركها «ابن الزبير» ليراها الناس محترقة كي يحرضهم على أهل الشام (5)، الذين كانوا يسخرون من «ابن الزبير» ويصيحون به في الحرب : يابن ذات النطاقين (6).

وكان القائد الأموي الذي حاصر «ابن الزبير» هو «الحصين بن نمير

ص: 250


1- الخربوطلي: المرجع السابق / ص 88.
2- جمال الدین سرور: مرجع سابق / ص 109 - البلاذري : أنساب الاشراف ج 4 ق 2/ ص 65.
3- الخربوطلي: المرجع السابق / ص 88.
4- ابن واضح: تاريخ اليعقوبي / ج 2 ص 237 - الشهرستاني: الملل والنمل ج 2 ص 247.
5- ابن الأثير : ج 4 ص 123.
6- ابن الأثير : ج 4 ص 358.

السكوني» في أواخر عهد «یزید» الذي قتله «المختار» بعد ذلك في معركة عين الوردة (1).

وتمكن بعد ذلك «الحجاج بن يوسف الثقافي» من قتل «ابن الزبير» وأمر بصلب جثته ليرهب أهل الحجاز، وحمل رأسه إلى «عبد الملك بن مروان» ثم سلمت إلى أمه. وقد ذكر مسلم في صحيحه أن ابن الزبير ألقي في مقابر اليهود (2).

وإذا كان الجيش الأموي قد هاجم بكل قواه المدينة المقدسة لأجل تحقيق أطماع دنيوية ، فإنه من جانب آخر اشتركت أطراف عدة وجهات متفرقة في الدفاع عن البيت العتيق ، حين استنكرت هذه الحروب وهذا الدمار الذي لحق بأقدس مقدسات المسلمين ، ومن هذه الجهات التي اشتركت مع ابن الزبير في الدفاع عن الحرم الشريف:

1- جند أهل المدينة الذين نجوا من قبضة الأمويين .

2 - (نجدة بن عامر الحنفي) الثائر في اليمامة على الحكم الأموي .

3- جماعة من خوارج العراق وعلى الأخص فرقة الأزارقة بزعامة : «نافع بن الأزرق» وقد عانوا كثيرا من شدة «عبيد الله بن زیاد» (3).

4 - المختار بن أبي عبيدة الثقفي، الذي كان في طليعة المدافعين عن الكعبة ، والذي استمر مع ابن الزبير في محاولة منه أن يتفق معه في تكوين جبهة واحدة تجاه عدوهم المشترك، إلا أن ابن الزبير لم يقبل به ففارقه إلى الكوفة (4) .

ص: 251


1- الخربوطلي: مرجع سابق / ص 120.
2- ابن الأثير : ج 4 / ص 358.
3- علي الخربوطلي: مرجع سابق ص 88 - البلاذري : أنساب الأشراف ج 4 ص 51.
4- ابن أبي الحديد: الشرح: ج 20/ ص 103.

5 - نجاشي الحبشة، حيث غضب هذا الحاكم المسيحي لإقدام الأمويين على حصار الأماكن المقدسة في مكة ، فبعث فرقة من جنده للدفاع عنها .

6 - كما أن من المشجعين له في موقفه ، أمه : أسماء بنت أبي بكر، التي كان لها رأيها في الأمويين : (يابني إن كنت على حق وإليه تدعو، فلا تمكن عبيد بني أمية منك يتلاعبون بك) .

وهكذا، فقد دافع عن الكعبة أطراف مختلفة من أمصار إسلامية وغير إسلامية و على اختلاف مبادئهم ، ولكن هدفا واحدا جمعهم وهو: الذود عن الكعبة . ولكن ابن الزبير يسقط في النهاية .

ومكة هذه قد جعلها الله بلدا آمنا يأمن من حل بها وإن كان كافرا، ولأهلها وطیرها و وحشها و نباتها حرمات عند الله .

وهي التي حقنت دم آل بني سفيان ومن على شاكلته حينما كانوا كفارا وملحدین .

وكان رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) يرعاها كل الرعاية يوم الفتح وغيره ، فما عامل أهلها هو وجيشه الفاتح إلا بكل جميل ، وكان يقول: (إن هذا بلد حرم الله يوم خلق السموات والأرض، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعض شوکه ، ولا ينفر صیده ، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلي خلاها) (1).

فمكة قد شرفها الله تعالى ، كلها مشهد کریم ، كفاها شرفا ما خصها الله به من مثابة «مجمع الناس» ببيته العظيم، وما سبق لها من دعوة الخليل

ص: 252


1- الأميني : الغدیر، ج 11 ص 33 - صحيح البخاري، ج 3 ص 168۔ صحیح مسلم : ج 4 ص 109 - الأزرقي : أخبار مكة، ج 2 ص 126.

إبراهيم (علیه السلام) فإنها حرم الله وأمنه ، وكفاها أنها منشأ النبي (صلی الله علیه واله وسلم) الذي آثره الله بالتشريف والتكريم، وابتعثه بالآيات والذكر الحكيم، فهي مبدأ نزول الوحي والتنزيل، وأول مهبط الروح الأمين «جبریل» وكانت مثابة أنبياء الله ورسله الأكرمين.

و هی أیضا مسقط رأس جماعة من الصحابة القرشيين المهاجرين الذين جعلهم الله مصابيح الدين ونجوما للمهتدين (1).

ولكن بالرغم من كل هذا، ومعرفة المحكومين والحاكمين لهذه الأمور، فقد كان الخطأ فيمن تولي أمر المسلمين حيث لم يكن يصلح لتولي أمرهم ، ولا حتى يكون من المحكومين . وصدق رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) إذ قال :

(من تولي من أمر المسلمين شيئا فاستعمل عليهم رجلا وهو يعلم أن فيهم من هو أولی بذلك ، وأعلم بكتاب الله وسنة رسوله، فقد خان الله ورسوله وجميع المؤمنين ) (2).

وينقل «جابر بن عبدالله» في حديثه ، يقول : سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) (3) يقول : (لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح).

وقد أجمع العلماء على أن مكة المكرمة والمدينة المنورة أفضل بقاع الأرض - و يليها بیت المقدس ، وقيل عن أهل مكة أنهم أهل الله عز وجل .

وقالت عائشة ( رضي الله عنه ) عنها: (لولا الهجرة لسكنت مكة ، إني لم أر السماء بمكان قط أقرب إلى الأرض منها بمكة، ولم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمئن بمكة ، ولم أر القمر بمكان أحسن منه بمكة (4).

ص: 253


1- موسوعة العتبات المقدسة (قسم مكة) ص 115 : صفاء خلوصي : مكة في رحلة ابن جبير .
2- الأميني: الغدیر، ج 11/ ص 33
3- الحافظ المنذري : مختصر صحیح مسلم، ج 1 ص 201.
4- أبو الوليد الأزرقي: أخبار مكة ، ج 2/ ص 153،134.

وكان عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) يقول: (لخطيئة أصيبها بمكة أعز علي من سبعين خطيئة أصيبها بركبة ) (1).

ولكنه بالرغم من ذلك، فإن النتيجة كانت الاعتداء الوحشي على حرم الله والبلد المقدس، وإراقة الدماء في جوف الكعبة، حيث قتل مع ابن الزبير ، كما يروي المؤرخون (240) رجلا، وإن منهم لمن سال دمه في جوف الكعبة (2).

4- ثورة التوابین - بزعامة :سليمان بن صرد الخزاعي :

بعد موت «یزید بن معاوية» ثار أهل الكوفة ، وخرج المسجونون من السجون والتفوا حول «سليمان الخزاعي» الذي أصبح زعيما للتوابين (3).

وقد كان له شرف في قومه. ولما قبض رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) تحول فنزل الكوفة ، وشهد مع علي (علیه السلام) الجمل وصفين (4) .

وكان في الذين كتبوا إلى الحسين (علیه السلام) أن يقدم إلى الكوفة ، غير أنه لم يقاتل معه خوفا من «ابن زیاد». فقد بعث برسول من طرفه إلى الحسين (علیه السلام) يطلب منه الخروج إلى العراق ليحكمهم بقوله: (فإن الناس بانتظارك، لا رأي لهم في غيرك ، العجل العجل ، فقد اخضرت الجنان وأينعت الثمار، والسلام) (5).

ص: 254


1- ركبة : أي نجد.
2- ابن أبي الحديد: الشرح : ج 20، ص 107 - الطبري، ج 17 ص 202 - الأزرقي أخبار مكة ج 2 ص 196.
3- الطبري : ج 7، ص 48.
4- سبط ابن الجوزي.
5- الطبري : ج 4، ص 234 .

لم يكن «سليمان» أو أحد رفاقه ساعيا وراء مطلب خاص أو مکسب شخصي، وإنما كانوا طلاب قضية عامة . فقد كانت رغبتهم في الانتقام والتكفير، وثورتهم تعتبر ثورة انتحارية كان من أهم أهدافها :

أ- الانتقام للحسين (علیه السلام) رأس الحركة الشيعية ورائدها في تحقيق أمانيها السياسية.

ويوضح ذلك كتاب أميرهم إلى عامل المدائن : «سعد بن حذيفة بن اليمان» :

(إن أولياء الله من إخوانكم وشيعة آل نبيكم، نظروا لأنفسهم فيما ابتلوا به من أمر ابن بنت نبيهم الذي دعي فأجاب ، ودعا فلم يجب، وأراد الرجعة فحبس، وسأل الأمان فمنع وترك الناس فلم يتركوه، وعدوا عليه فقتلوه ثم سلبوه وجردوه ظلما وعدوانا وغرة بالله وجه) (1).

كما أن رغبتهم في الانتقام والتكفير تتضح عندما توجهوا إلى قبر الحسين (علیه السلام) قبل أن يحاربوا الجيش الأموي، وتلوا الآية الكريمة :

« فَتُوبُوا إِلىَ رَبُّكُم فَاقتُلُوا أنفُسَكُم، ذَلِكَ خَيرٌ لَكُم عِندَ بَارِئُكُم ».

ب - إزاحة الأمويين من السلطة في الكوفة ، والقضاء على عصاباتهم ورجالاتهم، وتحويلها إلى قاعدة للحكم الإسلامي الذي ينبغي أن يسود مختلف أقاليم الدولة .

فجماعة التوابين لم يطلبوا السلطة للتحكم، ولكن لتغيير نظام الحكم في العراق إلى حكم إسلامي، وإبعاد رجال الأمويين الذين يتحكمون في الشعب بالقهر والشدة والإرهاب . وتفسر خطبة «سلیمان بن صرد» في جماعته ذلك الهدف :

ص: 255


1- إبراهيم بيضون : مرجع سابق / ص 70 - الطبري : ج 17 ص 50.

( أيها الناس من خرج یرید بخروجه وجه الله والآخرة ، فذلك منا ونحن منه ، فرحمة الله عليه حيا وميتا، ومن كان إنما يريد الدنيا فوالله ما نأتي فيئا نأخذه ، وغنيمة نغنمها ما خلا رضوان الله . وما معنا من ذهب ولا فضة ولا متاع . فمن كان ينوي غير هذا فلا يصحبنا) (1).

وبعد أن نظموا أنفسهم ، توجهوا إلى محاربة الجيش الأموي، فسار وا إلى «عين الوردة» بعد أن تمكنوا من القضاء على الوالي الأموي في الكوفة وتغييره عام 65 ه.

وقد كان «سليمان» في سيره من الكوفة إلى «عين الوردة» قد تأسی بسيرة الحسين (علیه السلام) في رفضه عدم محاربته العدو. فالكثير من أهل الكوفة أشاروا عليه بالتريث والاستعداد الأكثر للحرب، وأشار عليه أيضا والي «عبدالله بن الزبير» في الكوفة ، وكذلك «زفر بن الحارث» أمير قرقيسيا بألا يسير وينتظر عنده لملاقاة العدو، ولكنه في كل الأحوال كان يقول: «على الله توكلنا وعليه فليتوكل المتوكلون» (2) .

وقد دعاهم أهل الشام إلى الجماعة على : حكم «مروان بن الحكم» .

فدعا أصحاب «سليمان» أهل الشام إلى :

أ - خلع «مروان» وتسليم «عبيد الله بن زیاد» ليقتلوه .

ب - وأنهم سيخرجون أصحاب «ابن الزبير» من العراق .

ج - وأن يرد الأمر إلى أهل بيت النبي (صلی الله علیه واله وسلم) (3) .

وبما أن شروط الطرفين كانت متناقضة ومضادة ، فإنه كان لا بد أن

ص: 256


1- ابن الأثير : ج 4، ص 176.
2- الطبري: ج 7، ص 73.
3- ابن الأثير: ج 4، ص 182.

تتلاحم الصفوف ويقتلوا. وقد كانت الغلبة في بداية المعارك لجيش التوابين، إلا أنهم قتلوا جميعا بعد ذلك، ولم ينج منهم إلا القليل .

وكان عمر «سلیمان بن صرد» یوم قتل ثلاثة وتسعون عاما .

وقد كانت لحركتهم نتائج إيجابية ، فقد سجلت بعض الإيجابيات على صعيد حركة النضال الشيعي ، حيث انعكست تأثيراتها بصورة خاصة على المجتمع الكوفي. فعبأت جماهيره بالثورة، وعمقت في نفوسهم الكراهية والحقد ضد النظام الأموي، الأمر الذي جعل من الكوفة فيما بعد مسرحا للتحرك الدائم للحزب الشيعي وغيره ، وثوراته المتلاحقة المناهضة للنظام .

كما أنها أثرت في استمرار التعبير عن الندامة والشعور بالإثم تجاه الموقف السلبي من الحسين (علیه السلام) وممارسته عبر نشاطات وتحركات مختلفة (1) . فقد أفادوا الزبيريين وغيرهم من مناهضي النظام الأموي، الذي وضح ضعفه ، وتخلخلت صفوف جيشه، فاستغل «المختار» ذلك الوضع أيضا واستقل بالكوفة أميرا عليها، محاربا الأمويين.

5 - المختار بن أبي عبيدة الثقفي :

كان المختار من الناس الذين يحبون العدل ، ويكرهون الظلم، ويرغبون في إقامة الحكم الإسلامي المعتمد على ما جاء في القرآن الكريم وما أقره الرسول العظيم (صلی الله علیه واله وسلم).

وهو من ذلك الصنف من الإنسان الذي لا يخاف الطغاة والجبابرة ولاأسلحتهم وقوتهم وعدتهم ، لأنه كان واثقا من نفسه، معتقدا في إيمانه ، أنه طالما كان مطلبه الحق ، وموقفه العدل ، فإن النجاح سيتحقق بإذن الله فيما يرغب ويهدف إليه .

ص: 257


1- إبراهيم بيضون: مرجع سابق، ص 70.

فهو ذلك الإنسان المؤمن الذي تكلمنا عنه سابقا، والذي يعتنق بقوة المبادىء الإسلامية ، وعلى الأخص الجهاد في سبيل الله ، ورفع الصوت عالية أمام الحاكم الجائر، فإن لم يرتدع ، ولم يسمع نداء الله وكلام الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) رأي من الواجب عليه أن يقوم هذا الحاكم بالسيف والإطاحة به ، قبل أن تؤثر آدابه وسلوكه المشين في الجماعة المؤمنة ، فتنحرف عن أهداف ومبادىء الإسلام النبيلة ، وقبل أن تبتعد عنها وتنسى أن لها دینا کریما، وعقيدة عظمى، يجب اعتناقها، والحفاظ عليها، والسير بمقتضاها، وتطبيق مبادئها وترجمتها سلوكيا، أي فعلا لا قولا.

فالمختار هو ذلك الإنسان الذي اختاره الله سبحانه وتعالى، ليعطي الأمويين بخاصة، والحكام الجائرين بعامة ، درسا كبيرا لن ينسوه ، وهو، أن دولة الظلم لا تدوم، وأن الظلم والجور والفساد ، صفات ليست من أخلاق المسلم وشيمته، وليست من طبائعه ، ولم يأمر بها الدين الإسلامي، بل کرهها، ودعى إلى نبذها والبعد عنها والقضاء عليها قضاء تاما ، كي لا تنبت وتنتشر في مجتمع نبيل أسسه القرآن الكريم والسنة النبوية . وهو ذلك الإنسان الذي جاء ليكون يد العدالة ، فيقتص من القتلة الذين تخيلوا ألا قصاص في الحياة ، مثل ما اعتقدوا أنه لا عقاب في الآخرة. ولكن الله سريع العقاب ، فبعث هذا الإنسان بعد سنوات قليلة ليثأر للحسين وآله (علیه السلام) وصحبه في كربلاء.

كما أنه في السنوات القليلة التي حكم فيها العراق ، حاول جل جهده ، أن يبعد عن المجتمع الإسلامي في العراق ، العادات والأمور السيئة التي أسستها أدوات الحكم الأموي، ويقضي عليها، مبينا خلال ذلك أن تلك الأمور ليست من الإسلام في شيء بل هي عادات غريبة على المجتمع الإسلامي، لأنها ذات أصل جاهلي، تعارف عليها العرب قبل الإسلام، وتعاطوها قبل مجيء النبي الكريم محمد (صلی الله علیه واله وسلم).

ص: 258

وفي كلمة مختصرة نقول إن المختار عمل في العراق بالمبدأ الذي نادی به القرآن مرارا، وكررته آياته، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والتاريخ يذكر أن «ابن زیاد» تخوف من المختار قبل مجيء الحسين (علیه السلام) إلى الكوفة ، فأودعه السجن خوفا من أن يثور على الحكم الأموي . فيذكر «الطبري» أن المختار وعبدالله بن الحارث بن نوفل، قد خرجا مع «مسلم بن عقيل»، فقبض عليهما «عبيد الله بن زياد» وحبسهما (1) . كما أنه أراد أن يدافع عن الحسین (علیه السلام) مع جماعة صغيرة يوم كربلاء، ولكن الوالي الأموي قبض عليه أيضا وسجنه، بعد أن كان قد خرج من السجن بشفاعة «عبدالله بن عمر» زوج أخته . فلم يتمكن من الاشتراك في هذه المعركة الشريفة ، لينال رضا الله ورضا الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) و رضا آل بيته . ولكنه سيؤدي مهمة أخرى ينهي بها المعركة التي دارت بين الحق والباطل، والتي لم تنته بقتل «الحسين» وجماعته ، كما تصوره الحكام والولاة، فيكملها المختار في فترة قصيرة .

ولقد انحاز إليه في ثورته ( إبراهيم بن الأشتر وعامر الشعبي وأبوه ، وكذلك ممن بقوا على الحياة من جماعة التوابين، وبايعوه على العمل (بكتاب الله وسنة رسوله (صلی الله علیه واله وسلم) والطلب بدماء أهل البيت، وجهاد المحلين، والدفع عن الضعفاء ، وقتال من قاتلنا وسلم من سالمنا) (2).

وقد تمكن بمعاونة أصحابه ومؤيديه أن ينفذ ما اتفق عليه في شروط البيعة :

1- فقد حارب الحكم الأموي وأنهاه بالقضاء على واليه وبطانته،

ص: 259


1- الطبري : ج 7، ص58.
2- ابن الأثير : ج 4، ص 214.

وذلك في المعركة التي دارت على ضفاف نهر الخازر (أحد روافد دجلة من أعلاه) وقتل «عبيد الله بن زياد» والحصين بن نمير السكوني وغيرهما .

وكان «إبراهيم الأشتر» يحمس قومه للقتال في هذه المعركة بقوله: « إنه قتل الحسين وأهل بيته، فوالله ما عمل فرعون بنجباء بني إسرائيل ما عمل ابن مرجانة بأهل بیت رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم)» (1). ثم دخل قصر الإمارة و بویع، فطلب الثأر للحسين بقوله: (ما من ديننا أن نترك قتلة الحسين أحياء ، فإني لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم). فكان أن قتل الذين قتلوا الحسين (علیه السلام) وآله والذين اشتركوا في قتله وتعذيبهم والتنكيل بهم (2) وكان قوله في الثأر للحسين (علیه السلام) : (فوربك لأقتلن بقتله عدة من قتل على دم يحيى بن زکریا) (3). فأصبحت هذه نهاية الحرب، ولكنها ليست النهاية أو الخاتمة، ولكنها بداية النهاية ، حيث أهلك الله سبحانه وتعالى كل من شهد مقتل الحسين (علیه السلام) أو رفع رمحا في حربه، أو ضرب بسيف في قتاله. وكان جملة من قتل من قتلة الحسين 248 شخصأ .

لقد حارب الأشراف الذين ثاروا عليه في 66 ه بعد أن أمنهم على أرواحهم وممتلكاتهم، واحتفظ للعرب أول الأمر بالمراكز الرئيسية ، وولی كثيرا من رجالات العرب وقتئذر ولایات عدة. ولكن هؤلاء الأشراف العرب لم تعجبهم سياسة المختار العادلة وقتئذ في عدم التفرقة بين الناس ، ولأنه لم يكن يميل إلى أي نوع من العصبية ، القبلية أو الجنسية ، فقاموا بالثورة عليه ، ولكنه استطاع القضاء عليهم في وقعة «السبيع» (جبانة السبيع) وهي معركة الأشراف حيث قتل فيها «شمر بن ذي الجوشن» ورميت جثته للكلاب . وقتل عمر بن سعد وابنه وقال المختار فيهما: «هذا بحسين وهذا بعلي بن الحسین

ص: 260


1- الطبري: ج 7، ص 143.
2- علي الخربوطلي : المختار بن أبي عبيدة الفقي ص 41 - ابن الأثير ج 4 ص 264.
3- ابن الأثير: ج 4، ص 170.

ولا سواء. والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قریش ما وفوا بأنملة من أناملة» (1) وبعث برأسيهما إلى «ابن الحنفية» وكتب إليه: « فإن الله بعثني نقمة على أعدائكم فهم بين قتيل وأسير وطريد وشريد) (2).

هذا هو موقفه من آل البيت الكرام الذين استشهدوا، فأخذ بثأرهم، ولكنه أيضا يقف صامدا أمام من يجترىء على إهانة فرد من أهل البيت وهو حي.

فقد رأى أن ينال رضا الشيعة الذين يمثلون الغالبية العظمى من أهل العراق ،وذلك بطريقتين : الأولى أن يثأر لقتلة الحسين، وهو ما قام به ونفذه بكل دقة و إيمان. والثانية أن يعيد الأمر إلى آل البيت، فالثأر للحسين وإعادة الأمر إلى آل البيت ، هما الركن الأول في سياسته .

ولذا، اتصل «بمحمد بن الحنفية» حتى تأتي أفعاله شرعية ومرضية من جانب الشيعة وغيرهم، ومما قال فيه «ابن الحنفية » تأييدا له: (وأما ما ذكرتم ممن دعاكم إلى طلب بدمائنا فوالله لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه ) (3). وعندما أراد «ابن الزبير» الثائر في مكة على الحكم الأموي، أن يحرق «ابن الحنفية» وأصحابه لأنهم لم يبايعوه ، أنجدهم المختار وخلصهم من ذلك، ولكن «ابن الحنفية» رفض قتالهم في الحرم وقال : (إني لا أستحل القتال في الحرم) فكف أصحابه وحذرهم الفتنة (4).

2- ولما كانت بيعته تنص على العمل بكتاب الله وسنة رسوله (صلی الله علیه واله وسلم) وجهاد المحلين، والدفع عن الضعفاء ، فقد كان عليه أن يعتني بهذه الأمور ويهتم

ص: 261


1- ابن الأثير : ج 4، ص 239 .
2- الطبري : ج 7، ص 127.
3- ابن الأثير : ج4 ، ص 214.
4- الطبري : ج 7، ص 136.

فعندما صفا له الجو في العراق ، كان هناك الكثير من الأمور والأعمال التي لا بد من إعادة النظر فيها لتعديلها أو تغييرها . فقد كان هناك نظام الحكم نفسه ، وهناك الشعب الإسلامي بعناصره وطوائفه المتعددة، واختلاف وتعدد مشکلاتها، وهناك المال وأسلوب توزيعه و وجوه إنفاقه ، وهناك المناوئون له في الداخل والخارج.

إن المشكلات الداخلية التي واجهت المختار لم تكن هينة، بل صعبة وقوية ، في كثرتها وفي تعددها، وفي انتشارها، وتأصلها وتمكينها في الناس، حيث إن الأمويين و ولاتهم قد اخترعوا واستحدثوا أمورا وأشياء لا تمت إلى المجتمع الإسلامي بصلة مطلقا ، بل كانت غريبة على هذا المجتمع ، استظهرها الحكم من القرون الغابرة ومن المجتمعات القديمة التي كانت تحيي على مبادىء وثنية أراد الإسلام أن يقبرها.

كان على المختار أن يتجه بكل طاقاته وإمكاناته نحو هذه الأمور جميعا، حتى يعيدها إلى الطريق السليم بعد تصحيحها، ليثبتها مبادىء إسلامية حقيقية تصمد أمام انحرافها مرة أخرى.

فقد وجه اهتمامه منذ استولى على الكوفة إلى إشاعة العدل والطمأنينة في نفوس أهلها، فأشاع العدل بين الناس، والمساواة بين العرب والفرس ، ومثلما قرب إليه الأشراف ، وأبدى لهم رغبة في مجالسته والنصح له كما كانوا يفعلون من قبل مع غيره من الولاة، فإنه وجه اهتمامه أيضا إلى الموالي الذين كانوا يؤلفون نصف سكان الكوفة و يشتغلون بالحرف اليدوية والمهن والتجارة، واستمالهم، حيث لم تكن لهم أية حقوق قبل هذا الوقت، على الرغم من أن موارد الثروة في أيديهم .

وإذا نظرنا إلى الناحية المالية ، نرى أنه كان کریما - فقد فرق المختار

ص: 262

جميع الأموال التي وجدها في بيت مال الكوفة على رجاله والمعوزين. وقد كان عطاء أهل العراق خلال الحكم الأموي أقل دائما من عطاء أهل الشام، ولكن المختار رفع عطاءهم إلى أن أصبح يفوق عطاء أهل الشام. كما أنه أمر بإعفاء كل من أسلم عن دفع الجزية . (إلا أن «الحجاج» سينقص عطاءهم مائة درهم بعد ذلك، وسيبقي الجزية على من أسلم) إلى أن يعيد (عمر بن عبد العزيز) سيرة المختار .

وهكذا، فإنه إذا كان أهل العراق يميلون إلى تحقيق نوع من الاستقلال الذاتي عن الدولة الإسلامية ، فقد حقق المختار رغبتهم.

ونظرا لعدله وسيرته الحسنة، فقد انضم إليه عدد كبير من الزعماء والجماعات حيث انضم إليه كما علمنا «الزعيم» (إبراهيم الأشتر) وعدد كبير من التوابين الذين أصبحوا من أشد أنصاره إخلاصا وأعظم جنده استبسالا في الحروب . وكان من أصحابه أيضا : ( هبيرة بن مریم) مولى الحسين بن علي (علیه السلام) وهو من ثقات المحدثين - وقتل بالخارز (1).

كما أنه تمكن من شراء الولاة الأمويين والزبيريين ليتنازلوا عن الحكم ، مثل : «عبدالله بن مطيع» الذي منحه مائة ألف درهم ليتنازل عن الحكم، ففعل. وكذلك : (عمر بن عبد الرحمن بن الحرث) الوالي التالي لابن الزبير، الذي منحه سبعين ألفا فركن إلى الهدوء في البصرة .

ويؤكد المؤرخون بعد تحليلهم لسياسته، أنه لو أن الأمويين ساروا سيرة المختار، لما انهارت دولتهم.

وكان للمختار مناوئون في الخارج، كما كان له مناوئوه في الداخل . وقد كان هذا العداء بين زعماء المسلمين هو إحدى نتائج مساويء

ص: 263


1- ابن الأثير : ج 4، ص 278 .

الحكم الأموي. لأن الإنسان المسلم كان يرى أن الحكم الأموي غير شرعي، وأنه حكم ظالم يجب الإطاحة به والقيام في وجهه .

ومن الذين اعتنقوا هذا الرأي والمبدأ : «عبدالله بن الزبير» في الحجاز، الذي أمر بالجهاد ضد الأمويين في محاولة منه لإسقاط حكمهم .

وقد تمكن «ابن الزبير» نتيجة لضعف الدولة الأموية ، بعد أن استولی «المختار» على الكوفة وقتل ولاتها الجبابرة ، أن يستقل بالحجاز، وأن يتجه ببصره إلى الأمصار الأخرى التي سقطت من يد الأمويين وخرجت من نطاق نفوذهم ، فبعث بولاته وأنصاره إلى تلك الجهات ليسيطر عليها، وأن يدعى له بالخلافة كوارث للحكم الأموي.

وعلى الرغم من أن «المختار» كان قد وقف إلى جانب « ابن الزبير» في الدفاع عن الكعبة التي حاصرها الجيش الأموي، فقد أظهر له العداوة حينما انتزع الكوفة من أيدي «عبدالله بن الزبير»، الذي اتجه بكل قوته نحو الكوفة ليضمها إلى دولته. وعلى الرغم من أنه مال إلى مهادنته وعدم الاصطدام به فإن «ابن الزبير» كان طامعا في الحكم من جهة ، وعلى كره لمبادئه من جهة أخرى. فبعث أخاه «مصعب» الذي حاصر «المختار» أربعة أشهر، تحمل فيها العطش والجوع، وتخلى رجاله عنه. ولكنه أبى الاستسلام، ونزل إلى طرقات الكوفة يحارب حتى قتل . «فالمختار» كان مستعدا لبذل روحه ودمائه في سبيل فكرة يعتنقها.

وهكذا قتل المختار عام 67 ه (إبريل 687 م) وأمر «مصعب» بقطع كف المختار وسمرها إلى جانب المسجد. وقتل أيضا جميع من استسلم من رجاله وكانوا بين ستة وثمانية آلاف رجل (1) ، من بينهم إحدى زوجات

ص: 264


1- علي حسني الخربوطلي : المختار بن أبي عبيدة الثقفي ص 309 - ابن الأثير: ج4، ص 266.

المختار وهي «عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصارية (1) .

ومن الواضح في هذا المجال، أن «مصعبا» كان قد تأثر بالجو الأموي في التحكم والسيطرة وأساليبها، وفي (مجابهته) لأعدائه ، وذلك في إسرافه في القتل، فقد كان في تعامله ، كما لقب هو نفسه، بالجزار، حيث صح وصفه وتسميته.

هذا هو أحد الرجال القلائل في التاريخ، من الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. من الرجال الذين لا يخافون في الله لومة لائم . فأنكر المنكر بلسانه ويده . وقام ينادي بالمبادىء الكريمة أمام الحاكم الجائر دون خوف أو وجل أو تردد، رفع السيف ليقيم الحق ويحيي العدل ، ويسقط الباطل ويميته .

فما إن سمع نداء الحق حتى سارع إلى تلبيته والوقوف معه والالتصاق بأهله . ففتح بيته لمبعوث الحسين (علیه السلام) إلى الكوفة : (مسلم بن عقیل) ودعا الشيعة إلى البيعة له . وأراد الانخراط في الجيش الإلهي الذي ترأسه أهل البيت الكرام، ولكن الطغاة حالوا بينه و بين أداء الواجب الذي أمر به الله تعالی.

وعلى الرغم من عدم توافق أهوائه مع «ابن الزبير»، إلا أنه دافع عن الكعبة المكرمة . وبيت الله الحرام، عندما داهمه الظالمون بكل قباحة وجرأة على الله، كما أنه وقف مع ابن الحنفية وقفة لا يستطيعها إلا الجريء والشجاع والقوي النادر فأبعد عنه الخطر وأزاله وهدد مناوئيه وأعدائه. ولكنه مع الأسف نرى أن من يعنيه ألا يظهر الحق ، وألا يبرز العدل ، وألا ينتشر مبدأ إسلامي بين الناس، وألا تظهر صورة القادة الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في المجتمع الإسلامي، حتى تتواری آیات الله عن أنظار الناس

ص: 265


1- ابن الأثير: ج 4، ص 266.

وأفئدتهم، وحتى لا تتكرر صور الدفاع عن هذه الآيات الشريفة أو تذکیرها للأمة والأفراد، وحتى لا يجرؤ أحد أن يقوم ليقوم الانحراف و يعيد سيرته الصحيحة ، وحتى لا يجعل الناس يفرقون بين الزين والشين، وحتى تسير الأمور كما يشتهي الحاكم - أي حاكم -.

حتى لا يحدث هذا وغيره من الأمور الطيبة والأعمال الخيرة ، والأفعال الحسنة التي دعى إليها الخالق عز وجل ، ذهب بعض الدعاة إلى تخریب سمعة «المختار» والتشهير به، فنشرت عن طريق إدارة الإعلام وأبواق الدعايات ، كلاما مسفوفا وأحداثا مزورة للتقليل من أخلاقه وأعماله، فنسبت إليه ما هو بعيد عنها، وبريء منها، ولا تمت إليه بصلة ، ولا تقرب إليه بصفة مطلقا .

على الرغم من أن معظم المؤرخين يتفقون في أن يلبسوه الصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة، فلم يذكر عنه ، أنه غدر بعدو له، أو أنه أسرف في سفك دماء خصومه .

وأنه كان تقيا حريصا على أداء شعائر دينه. فكان كما قالت عنه زوجتاه : (صائما نهاره، قائما ليله).

وضربوا له المثل في ابتعاده عن العصبية القبلية منها أو الجنسية وعدم الميل إلى أي نوع منها، بأنه في الحرب ، كان يحارب الأمويين : « بشجاعة العرب وعداوة العجم».

وشبه من قبل بعض المؤرخين بالرئيس الأمريكي في عصرنا الحالي ، (إبراهام لنكولن) أو شبهوا هذا به، فإذا كان «لنكولن» محررا للعبيد في أمريكا، فهو صورة مكررة للمختار، الذي عمل دائما على تحرير الموالي والرقيق في الدولة الإسلامية .

ولكن كما قلنا، قذفه خصومه الألداء في دينه وحديثه ونهضته. مع أنه

ص: 266

في طليعة من رجالات الدين والهدى ، والإخلاص ، وأن كل ما بز وه من قذائف وطامات لا قبول لها من مستوى الحقيقة والصدق.

فقد ترحم عليه الأئمة الهداة سادتنا: السجاد والباقر والصادق (علیه السلام) . و بالغ في الثناء عليه الإمام الباقر (علیه السلام). ولم يزل مشكورا عند أهل البيت الطاهر، هو وأعماله (1).

وكذلك أكبره ونزهه العلماء الأعلام الأجلاء.

فعندما قتل هو وأصحابه ، جزع لهذه الجريمة النكراء: «عبدالله بن عمر» الذي حينما سلم «مصعب» عليه وقال له: «أنا ابن أخيك»، قال «عبدالله» : (نعم أنت قاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة ، عش ما استطعت . فقال مصعب : إنهم كانوا كفرة . فقال «ابن عمر»: والله لو قتلت عدتهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا) (2). كما أن «اليعقوبي» وصف تلك المأساة بأنها: (أحد الغدرات المذكورة المشهورة في الإسلام) (3). وذكر «المسعودي» أن كل هؤلاء السبعة آلاف طالبوا دم الحسين (علیه السلام) وقتلة أعدائه ، فقتلهم مصعب (4).

6- ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث:

وهي من أحداث عصر «عبد الملك بن مروان» الحاكم، «والحجاج بن يوسف الثقفي» الوالي. يقول «المدائني» كما جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد «وولي عبد الملك بن مروان، فاشتد على الشيعة ، وولي عليهم الحجاج بن يوسف، فتقرب الناس ببغض علي وموالاة

ص: 267


1- الأميني: الغدير ج 2، ص 343.
2- علي حسني الخربوطلي: المرجع السابق / ص 309 - الطبري ج 7، ص 157 - ابن الأثير: ج 4، ص 278.
3- المسعودي : مرجع سابق ج 3، ص 99.
4- المسعودي : مرجع سابق ج 3، ص 99.

أعدائه وموالاة من يدعي قوم من الناس أنهم أيضا أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من الغض من علي وعيبه والطعن فيه والشنان له» (1).

هذا مع العلم بأن «عبد الملك» كان متخوفا من التعرض لآل البيت ، فقد كتب إلى الحجاج أن (جنبني دماء أهل البيت ، فإني رأيت بني حرب سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين) (2) أو في قول آخر: (جنبني دماء آل طالب ، فإني رأيت الملك استوحش من آل حرب حين سفكوا دماءهم) (3).

وبناء على ذلك، فإن ، «الحجاج» تجنبها خوفا من زوال الملك عنهم، لا خوفا من الله عز وجل. ولكن الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أسسها الحكم الأموي، ودعمها أعوانه، وسار عليها رجاله ، لم تساعد في الاستقرار، أو قبول المسلمين لها. فأمراض هذا العصر مثل سابقتها ، تدفع كل فرد مسلم غيور أن يبحث عن دواء - لعلاجها. وكانت علة هذه الفترة ، الحجاج بن يوسف، والمحاول لعلاجها القائد «عبد الرحمن بن الأشعث». «وعبد الرحمن» هو أحد رجالات العرب ، يرجع نسبه إلى ملوك كندة ، وكانت قبيلة كندة في صدر الإسلام تعارض الأمويين ، كما أن جده كان من كبار أصحاب الإمام «علي بن أبي طالب» (علیه السلام).

في عام 79 ه كان «الحجاج» قد ساق نخبة من رجال الشعب وخيرة فرسانه شیوخا وشبانا إلى مجزرة رهيبة في محاولة لغزو (رتبيل) أمير «کابل» في عقر داره ،لإخضاعه وإرغامه على دفع الأتاوة التي كان قد قطعها عن الدولة الأموية (4). واختار القائد «عبد الرحمن» لقيادة هذه القوة الكبيرة .

ص: 268


1- محمد حسين المظفر: تاريخ الشيعة ، ص 48.
2- ابن عبد ربه : العقد الفرید، ج 4، ص 385.
3- المسعودي: المروج، ج 3، ص (170).
4- حسن الأمين : مجلة العرفان، ص 28.

ولم يكن اختياره له حبا فيه لمقدرته وكفاءته ، أو تقديرا له لجهوده وإخلاصه في دينه، وإنما كان حبا في التخلص منه ، ورغبة في الكيد له والانتهاء منه . فقد كان «الحجاج» يبغض «ابن الأشعث» بغضا شديدا ، وكان يقول : (ما رأيته قط إلا أردت قتله) (1). ويذكر «الطبري» بأن «الحجاج» ليس في العراق أبغض إليه من عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث» (2). وكذلك «عبد الرحمن» كان يبادله الشعور نفسه ، فيقول عنه: «والله لأحاولن أن أزيل الحجاج عن سلطانه » (3).

فمن الواضح أن اختيار الحجاج له كان لضرب عصفورين بحجر واحد كما يقول المثل، إخضاع «رتبيل» القوي الذي لا يواجهه إلا قوي، والتخلص من « ابن الأشعث» في تلك الأماكن الموحشة .

ولكن «ابن الأشعث» كان يعلم الغاية من هذه الحملة، وكل الحملات، فدبر فينفسه أمرا ينجيه من الوقوع فيما وقعت فيه الحملات السابقة من إبادة ، حيث كان من المستحيل غزوا أراضي الترك الجبلية الوعرة، ومن الصعب التوغل فيها، صعوبة أرهقت حملات عدة سابقة انتهت جميعها بالإبادة والدمار.

فلما دخل «عبد الرحمن» أرض «رتبیل» وقف عند نقطة معينة لم يتجاوزها، حتى أتاه أمر «الحجاج» بالمسير قدما، فقد كان رأيه على غير رأي «عبد الرحمن»، فأمره بالمسير ثم هدم وقتل وسبي تلك الشعوب بأية طريقة دون تفكير أو إعمال العقل .

ولكن «عبد الرحمن» القائد الإنساني الذي اعتنق المبادىء الإسلامية

ص: 269


1- ابن الأثير : ج 4، ص 455.
2- الطبري : ج 8، ص 4.
3- ابن الأثير: ج 4، ص 445.

السمحة، كانت له نظرة ديمقراطية في تقرير الأمور المصيرية ، فأجمع الجيش وأخبرهم بهذا الأمر - ليستشيرهم في الحرب أو السلام. فقال لهم :

(قد كتبت إلى أميركم الحجاج فجاءني منه كتاب يعجزني ويضعفني ، ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك إخوانكم فيها بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم، وأبي إذا أبيتم ) (1).

فثار إليه الناس وقالوا : (لا بل نأبى على عدو الله ولا نسمع له ولا نطيع) (2).

كان هذا رأي الأربعين ألف من أهل الكوفة والبصرة ، أي رأي الشعب في حكامه يومذاك .

فلم تكن المشكلة فيما إذا كانوا يرغبون في حرب الترك أو عقد السلام معهم ، ولا الخوف من العدو وقوته، ولا الخشية من التوغل في أراض وعرة ، ولا طاعة أمير أو عصيانه ، بل المشكلة في الواقع كانت في نوعية الحكام والأمراء الذين يتحكمون في مصير الشعوب الإسلامية . فهذه الشعوب المغلوبة على أمرها، تقاسي الظلم والطغيان ، فمتى أتيحت لهم الفرصة، وحينما وجد القائد الكفيء المستعد لبذل التضحية معهم في الثورة على الظلم، فإنهم سرعان ما ينضمون تحت قيادته و يأتمرون بأمره ، دون تردد أو خوف، طمعا في التخلص من أحكام الجور ومظاهر الفساد والعبث التي تنتشر بين أحيائهم .

ولذلك نرى أن المبادىء التي بايع بها هذا الجيش أميره ، تركزت في

ص: 270


1- حسن الأمين : العرفان، ص 28.
2- الطبري : ج 8، ص 8- 10.

أن : (نبايع على كتاب الله وسنة نبيه ، وخلع أئمة الضلال، وجهاد المحلين) (1).

فباسم الله وسنة كتابه ونبيه (صلی الله علیه واله وسلم) سيجاهدون أئمة الضلال. وبذلك أيدت الثورة : جميع الفرق السياسية والدينية بالعراق على اختلاف مبادئها ومذاهبها . فيذكر «الطبري»، أنه بايع «ابن الأشعث»، أهل الكوفة والبصرة والثغور والمسالح والقراء - أهل الدين من العلماء بالقرآن - من أهل المصريين، وبلغ عددهم مائة ألف مقاتل ومثلهم من مواليهم (2). كما أن أشراف العرب خرجوا بالعراق وانضموا إلى مواليهم، رغم العداء التقليدي بينهم . وانظم إليه أيضا، الشيعة والخوارج والعباد والمسيحيون، الأساورة والزط، فضلا عن أنه عندما علم الشعب الإسلامي بأمر هذه الثورة، هب للاشتراك فيها بجميع طوائفه وعقائده ومذاهبه، فأصبح «ابن الأشعث» عندئذ الأمير على المشرق كله ، فثارت البصرة، أولا ثم تلتها الكوفة .

فكانت أضخم ثورة شعبية تحررية لحرب الحجاج وخلع عبد الملك بن مروان، حيث ترأسها نخبة من العلماء والفقهاء والشعراء، وهم المثقفون المتحررون ذو و الرسالات الهادفة المناضلة. وقد اشتهر من بينهم : «عامر الشعبي» الذي خطبهم بقوله : (يا أهل الإسلام، قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، فوالله ما أعلم قوما على بسيط الأرض أعلم بظلم، ولا أجور منهم في الحكم) (3).

«وسعيد بن جبير»: التابعي الثقة ، الذي حمسهم للقتال قائلا :

(قاتلوهم على آثامهم وجورهم في الحكم وتجبرهم في الدين

ص: 271


1- حسن الأمين : مرجع سابق ص 28.
2- الطبري : ج 8، ص 10.
3- ابن الأثير : ج 4، ص 469 - الطبري، ج 8، ص 21.

واستذلالهم للضعفاء وإماتتهم الصلاة) (1).

وكان من بينهم أيضا : (أبو البختري الطائي ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى - الفقيه ، کمیل بن زياد، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص).

ونحن عندما نلاحظ أقوال هؤلاء العلماء، نجد أنها توضیح و تفسير الأسباب الثورة، وإبراز للدوافع القوية لها. فقد ثار «عبد الرحمن» في وجه الديكتاتورية والإرهاب والتفرقة العنصرية، هذه السياسة التي حمل لواءها الحاكم الأموي: «الحجاج بن يوسف» .

ولكي نتفهم أقوال هؤلاء العلماء ، يمكننا أن نوجز الأسباب والدوافع لتلك الحركة الثورية .

لم يتبع حكام بني أمية تعاليم الإسلام الرشيدة في المساواة بين المسلمين، فميزوا بين العرب وغيرهم، وترفعوا واعتبروا أنفسهم فوق سائر العناصر غير العربية ، فأوجدوا الطبقية في العراق ، طبقات موسرة ، وأخرى معدمة ، كما أنهم فرضوا الجزية على من أسلم - وهو ما كان المختار قد أبعدها من قبل - ولكن الحجاج أعادها مرة أخرى، مما كان سببا في نقمة أهل الذمة على سياستهم وإسراعهم في الانضمام إلى ثورة عبد الرحمن (2).

وما أكره الناس في معيشتهم، سمعة الحجاج وشهرته بالقسوة والإرهاب والميل إلى سفك الدماء. فمما هو معروف عنه ، أنه قد توجه في يومه الأول إلى مسجد البصرة مع ألفي جندي من أهل الشام حيث قتلوا سبعين ألفا حتى سالت الدماء إلى طرقها (3). وكان أسلوبه في التخلص من العناصر المشبوهة يتركز في تجنيد أهالي العراق بالقوة وإرسالهم إلى

ص: 272


1- حسن الأمين : المرجع السابق ص 28 - الطبري ج 8، ص 21.
2- علي الخربوطلي : 10 ثورات في الإسلام ص 140.
3- ابن قتيبة : الإمامة والسياسة ج 2 ص 31.

الجهات الشرقية من الدولة باسم الدين ونشر الإسلام.

ولكنها في الحقيقة كانت لإبعاد العناصر الثائرة والمتمردة على سلطانهم من جهة ، وإشغالهم عن مفاسد النظام والسياسة الداخلية من جهة أخرى.

فلم تفت هذه الفكرة على القائد «عبد الرحمن». مع العلم بأن سببا واحدا من تلك الأسباب وغيرها، كان كافيا لإعمال الغليان في النفوس، فظهرت روح السخط والثورة على الحكم الأموي والحجاج بصفة خاصة ، مما أدى إلى وقوع الصدام بين الجانبين، إذ كان أمرا حتميا .

وعندما ننتقل إلى الميدان العسكري، نجد أن الحرب في الكوفة استمرت لعدة شهور عام 82 ه دون نتيجة حاسمة. فقد انتصر «عبد الرحمن» في أول المعركة عام 81 ه، وتمكن من إجلاء «الحجاج» عن البصرة ، مما أجبر «عبد الملك» على عزله وتعيين أخيه (محمد بن مروان) واليا بدلا منه. كما أجرى مفاوضات مع أهل العراق عسى أن يقبلوا بمطالبه ، إلا أنهم رفضوا عروض «عبد الملك» مما اضطر إلى تثبيت الحجاج، وأن يعطيه الإجازة ويخوله بأن يفعل ما يشاء بالثوار.

فكانت معركة «دير الجماجم» التي استمرت مائة وثلاثة أيام حتى عام 83 ه، هزم فيها «ابن الأشعث» وفر إلى البصرة ثم إلى «رتبيل» (1).

وأرسل «الحجاج» إلى «رتبيل» يفوضه بشأن تسليم «ابن الأشعث» فأغراه بالمال فقبل تسليمه على شروط منها: ألا يغزوه الحجاج عشر سنين ، وعلى أن يؤدي إليه بعد ذلك في كل سنة (900 ألف درهم).

ولكن قائد الثورة ذو النفس العزيزة ، لم يقبل الهزيمة فألقى بنفسه من

ص: 273


1- الطبري : ج 8، ص 39

بناء شاهق فمات، ويوضح هذا الموقف ضعف الحجاج من ناحية ، ونيته السيئة من ناحية أخرى، فبعد أن كان الحجاج يود القضاء على «رتبيل» والاشتراط عليه وأخذ الأموال منه، انعكست الأية فاشترط «رتبيل» عليه . ولكن بعد أن خسر المؤمنون رجلا مجاهدا وأحد الجنود المسلمين العظام، وكان هو الأمر المطلوب ).

ولم يستشهد «ابن الأشعث» لوحده في هذه المعارك، بل قتل معه الألوف، كان من بينهم «کمیل بن زياد النخعي» «وقنبر» مولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) الذي دافع يوما عن بيت «عثمان بن عفان» حين حاصره الثوار في المدينة ، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، وقد قتلهم «الحجاج» الذي ضرب عنق «سعید بن جبير» كذلك، ولما قتل التبس عقله (1). ونجا كل من «عامر الشعبی» ومطرف بن عبدالله الشخير» من المذابح، لاعتقادهما في التقية - التورية -.

وبعد المعركة ، كتب «عبد الملك بن مروان» إلى «الحجاج» في الأسري أن يعرضهم على السيف، «فمن أقر منهم بالكفر بخروجه علينا فخل سبيله ، ومن زعم أنه مؤمن فاضرب عنقه». ففعل ولكن بأسلوبه ووسائله المتميزة.

فكان يسأل الرجل، على دين من أنت؟ فيقول: «على دين إبراهيم حنيفا وماكان من المشركين» فيأمر بضرب عنقه . ويجيب آخر على سؤاله ، بأنه على دين أبيه الشيخ يوسف، فيقول الحجاج : أما والله لقد كان صواما قواما ، فيخلي سبيله (2).

ص: 274


1- ابن عبد ربه : العقد الفرید ج 5، ص 53 - 54 - القلقشندي : مرجع سابق : ج 1، ص 137.
2- ابن عبد ربه : العقد الفريد ج 5، ص 53 - 54.

ليس هذا كل حصاده من الضحايا، فقد قتل «الحجاج» بعد هزيمة يوم «الزاوية» وهي معركة سبقت «دير الجماجم» أحد عشر ألفا خدعهم بالأمان . وأحصي من قتله صبرا - حبسا مائة وعشرون ألفا. وكان في حبسه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة، حيث كان يحبس النساء والرجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستر يستر الناس من الشمس في الصيف، ولامن المطر والبرد في الشتاء (1).

وقال «الأصمعي»: «عرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها (33) ثلاثة وثلاثون ألفا من لم يجب على واحد منهم قتل ولا صلب » (2).

كما اعترف الحجاج في بعض أيامه بمائة ألف قتيل قتلهم على ذنب واحد (3).

وكل ما قام به وأداه كان ليرضي نفسه المريضة ويشبعها أولا ثم لينال رضا رؤساءه ثانيا، وخاصة إذا علمنا أنه كان يحصل على الكثير من المراكز والمناصب العليا بعد إقدامه على قتل ثائر أو إخماد فتنة أو إلقاء قبض على مجاهد، مثل ما حدث عندما قتل «ابن الزبير» في مكة وأخذ البيعة لعبد الملك ، أسند إليه هذا مقاليد ولاية الحجاز بالإضافة إلى اليمن واليمامة (4)، وهو ما يؤكد نظرية الحوافز والتشجيع أو المكافآت في علم النفس التربوي.

ص: 275


1- ابن عبد ربه : نفس المرجع السابق : ص 54 - ابن الأثير : ج 4 ص 469 - المسعودي : المروج ، ج 3 ص 166.
2- ابن عبد ربه ، ج 4، ص 46 (وينقل أبو داوود المصحفي عن النضير بن شميل، أنه سمع هشاما يقول : أحصوا من قتل الحجاج صبرا فوجدوهم مائة ألف وعشرون).
3- ابن الأثير: ج 4 ص 587.
4- جمال الدين سرور: الحياة السياسية في الدولة العربية ص 120.
7- ثورة زيد بن علي بن الحسين (علیه السلام):

هو أبو الحسين، زید بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (علیه السلام) (1). وكان قيامه في عهد « هشام بن عبد الملك بن مروان» الحاكم الأموي، ويوسف بن عمر الثقفي الوالي (2).

ومما يؤخذ على «هشام» إمعانه في الانتقام من العلويين والتنكيل بهم كلما أمكنته الفرصة، ناهيك بما فعله «یزید» «و یحیی» ابني «علي بن الحسين»، هذا إلى ما عرف عنه من الغلظة وخشونة الطبع وقسوة القلب (3).

كان «زید» عين إخوته بعد «أبي جعفر الباقر (علیه السلام) وأفضلهم، عابدا ورعا فقيها سخيا شجاعا جريئا، سعى إلى الإصلاح، فظهر بالسيف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويطلب بثارات الحسین (علیه السلام) ويدعو إلى الرضا من آل محمد .

وقد اتفق علماء الإسلام على جلالة «زيد» وورعه وفضله ، فقد اكتنفته الفضائل من شتی جوانبه : علم متدفق ، وورع موصوف، و بسالة معلومة ، وشدة في البأس، وشمم يخضع له كل جامع ، وإباء يكشح عنه أي ضيم، كل ذلك موصول بشرف نبوي. ومجد علوي، وسؤدد فاطمي، وروح حسيني .

فأعد نفسه للخلافة ، واستجمع كل الشروط التي يراها لازمة لحمل هذا العبء من عدالة وعلم وشجاعة، ولم يبق إلا أن يطالب بها، فانتظر الفرصة السانحة لذلك (4). ويبين أسباب خروجه بقوله :

ص: 276


1- الطبري : ج 8، ص 263.
2- ابن الأثير : ج 5، ص 229.
3- حسن إبراهيم : تاريخ الإسلام السياسي والديني، ج 1، ص 415.
4- أحمد شلبي : موضوعة التاريخ الإسلامي ج 2، ص 181 - علي الخربوطلي : 10 ثورات ،ص 160 - الموسوي الكاظمي: زيد بن علي : ص 40.

(وإنما خرجت على بني أمية لأنهم قاتلوا جدي الحسين، وأغاروا على المدينة يوم الحرة ، ثم رموا بيت الله بحجر المنجنيق والنار ) (1).

لقد خرج «زید» طالبا للحق ، وناصرا للكتاب والسنة، وليوقد مصباح الإسلام بعد أن أطفأه الأمويون (إني أعطي الله عهدا إن دخلت يد في طاعة هؤلاء ما عشت) (2).

وخرج «زید» بعد إحراجات شديدة من «هشام بن عبد الملك» وقد رأى أن كرامته قد دئيت بالصغار في آخر لقاء بينه و بين هشام، الذي قلل من شأنه واستصغر جرأته حين نصحه ذات يوم قائلا: اتق الله . فقال هشام مستنكرا : ومثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوى الله ؟ فقال زيد: إنه لا يكبر أحد فوق أن يوصى بتقوى الله ، ولا يصغر دون أن يوصي بتقوى الله (3).

وعندما عرف «هشام» عن أمره قال له : بلغني أنك تربص نفسك للخلافة وتطمع فيها وأنت ابن أمة «فرد عليه زید» (مهلا يا هشام، فلو أن الله علم في أولاد السراري - تقصيرا عن بلوغ غاية ، ما أعطى «إسماعیل بن إبراهيم» (علیه السلام) ما أعطى) (4). واعتزم «زيد» الخروج بعد أن دعاه العراقيون و بايعوه على (العمل بكتاب الله وسنة نبيه (صلی الله علیه واله وسلم) وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين ، وقسم الفيء بين أهله بالسواء ،

ص: 277


1- علي الخربوطلي : 10 ثورات ص 160 - الموسوي الكاظمي ص 40 - حسن إبراهيم ج 1، ص 416.
2- ابن الأثير : ج 5، ص 229 - محمد أبو زهرة : الإمام الصادق (علیه السلام) ص 138.
3- على الخربوطلي : 10 ثورات ص 160 - الموسوي الكاظمي ص 40 - محمد أبو زهرة : ص 49.
4- الموسوي الكاظمي: ص 43 - ابن قتيبة : المجلد الأول من عيون الأخبار ص 212 ط مصر.

ورد الظالمين، والدفاع عن آل البيت ضد أعدائهم الذين اغتصبوا حقوقهم) (1).

لكل ذلك خرج «زید» وخرج معه بعض أهل بيته وقلة من أصحابه ، فانتشرت دعوته في ( المدائن و واسط والموصل وخراسان والري وجرجان والجزيرة)، كما بایعه خمسة عشر ألفا من أهل الكوفة ، إلا أنه عندما أذن لهم بالخروج تقاعد عنه الكثيرون، فخرج معه مائتان وعشرون رجلا. فقد وجدها «حسينية» قد تخاذل عنه العراقيون، كما تخاذلوا من قبل عن جده الحسين (علیه السلام)، فاقتتلوا مع أهل الشام ، وهزم «زید» وأصيب في جبهته ثم مات (2).

لقد حارب «زید» مع قلة ناصريه أهل الشام حربا كبيرة، وقتل في معاركه كثيرا منهم، وجرح منهم جرحی کثيرة ، كما أنه انتصر في أول الأمر على الوالي الأموي بالكوفة ، ولكن سهما أصابه فقتله (3).

ويذكر (أبو الفرج الأصفهاني)، «إن أصحاب «زید» خمسمائة ، وأهل الشام اثني عشر ألفا. على أن من بايعوه كانوا اثني عشر ألفا ولكنهم غدروا» (4).

وقد سأل «زید» نصر بن خزيمة» بعد أن انصرف عنه رفاقه وناصروه : أتخاف أهل الكوفة أن يكونوا فعلوها حسينية ؟ فقال : جعلني الله فداك . أما

ص: 278


1- الطبري: ج 5، ص 492 - محمد أبو زهرة ص 138.
2- أبو الفرج الأصفهاني : مقاتل الطالبيين ص 139 - أبو زهرة ص 138- ابن الأثير : ج 5،ص 246.
3- الطبري: ج 8، ص 272.
4- أبو الفرج الأصفهاني، ص 139.

أنا فوالله لأضر بن بسيفي هذا معك حتى أموت. وقد صدق الرجل فصلب معه (1).

ومما روي عن انصراف مؤيديه عنه ، (أنه لما علم أهل الكوفة بحركة زید، اجتمع إليه فريق من رؤسائهم وسألوه عن رأيه في أبي بكر وعمر، فقال زید: رحمهما الله وغفر لهما . ما سمعت أحدا من أهل بيتي يتبرأ منهما، ولا يقول فيهما إلا خيرا. فقالوا: تطالب إذا بدم أهل هذا البيت إلا أن وثبا على سلطانكم فنزعاه من أيديكم؟ فقال : إن أشد ما أقول فيما ذكرتم، إنا كنا أحق بسلطان رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) من الناس أجمعين، وأن القوم استأثروا علينا ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا ، قد ولوا فعدلوا في الناس، وعملوا بالكتاب والسنة). فانصرف عنه بعضهم ونكثوا بيعته (2).

إن الموقف الذي نحن بصدده - أعني موقف أهل الكوفة من انصرافهم عن مناصرة قائدهم المجاهد ونكث بيعته - لم يكن حسينيا في الحقيقة كما ذكر «زید بن علي»، بل كان علوي الأصل، فقد فعلوها من قبل مع الإمام علي (علیه السلام) ثم ابنه الحسن (علیه السلام) فالحسين (علیه السلام) وأرجح في اعتقادي ، أنهم كانوا يحبون آل البيت ويتشیعون لهم حقا، ولكن إسميا أي ظاهريا، فهم مستعدون للجعجعة، وإشهار السيوف عاليا، وتنظيم المظاهرات الصاخبة ، والتنديد بعدوهم وتهديده بأصواتهم العالية ، وحينما تطلب منهم البيعة، يبايعون إمامهم على أجمل الأهداف وأعظم الأماني وأسمى المقاصد، کالعمل على كتاب الله وسنة نبيه (صلی الله علیه واله وسلم) وجهاد الظالمين والدفاع عن آل البيت ورد حقوقهم من مغتصبيهم، إلا أنه عندما يحين التنفيذ والجد في الشروع الفعلي للعمل المقصود ، يأتون بأعذار هي أقبح من ذنوبهم، ويجادلون في

ص: 279


1- أبو الفرج الأصفهاني : مقاتل الطالبيين / ص 139 .
2- الطبري ج 5، ص 498 - ابن الأثير : ج 5، ص 243.

آراء جانبية وأفكار هامشية يخترعونها ويبتدعونها على أنها حق، مع أنها خارجة عن صلب الموقف الخطير الذي هم فيه ، فينكثون العهد، وتكون النتيجة حينئذ الخيانة والغدر، فيهرب من يستطيع الهرب ، ويتسلل من يمكنه التسلل، وينكث مع هو طبعه الغدر، فتحل الكارثة بالقائد وناصريه القلة .

وقد أمر الوالي «يوسف بن عمر» أن يصلب «زید» بعد إخراجه من القبر بالكناسة ، بعد أن قطع رأسه و بعث به إلى «هشام بن عبد الملك» الذي نصبه على باب دمشق ثم أرسل إلى المدينة في سنة 122 ه (1) حتى مات «هشام» فأمر «الوليد بن عبد الملك» بإحراقه بعد سنين أربعة.

ويقال أن رأسه الشريف بمصر. وكان عمره عندئذ (42) سنة (2).

ولم يصلب «زید» لوحده، بل كان معه أصحابه : نصر بن خزيمة العبسي، ومعاوية بن إسحاق الأنصاري، وزياد النهدي» (3).

وكان لمقتله أثر في قلب كل مؤمن ، وترك ندوبا في قلوب المحبين لآل البيت (علیه السلام). وكان أيده وشجعه على موقفه ، الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) الذي حينما أخبره جماعة عنه قال : «بايعوه فهو والله أفضلنا وسيدنا» (4).

وكان الإمام الصادق (علیه السلام) يجل موقفه ، وقد بکاه وفرق الأموال في أسر المقتولين معه، ولام أشد اللوم الذين دعوه إلى الخروج وخذلوه ، والذين وعدوه بالنصر ثم تركوه ، وقال فيه :

(رحمه الله ، أما أنه كان مؤمنا وعارفا، عالما وصدوقا، ولم يدعكم

ص: 280


1- ابن الأثير : جه، ص 246 - أبو الفرج الأصفهاني، ص 130 - القلقشندي : ج1، ص 152 - الطبري : ج 8، ص 272.
2- الموسوي الكاظمي: ص 43 - ابن الأثير : ج 5، ص 246.
3- الطبري : ج 8 ص 272 - أبو الفرج : ص 143 - ابن الأثير : جه، ص 246 .
4- ابن الأثير : ج 5، ص 246.

إلى نفسه وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد، أما أنه لو ظفر لوفي، ولو ملك لعرف كيف يضعها، فإنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه) (1).

وكان الإمام «أبو حنيفة» من مؤيديه لموقفه أيضا، فقد قال فيه :

(من يأتي زيدة في هذا الشأن من فقهاء الناس).

وقد حدث (علي بن الحسين) فقال : سمعت «محمد بن جعفر بن محمد» في دار الإمارة يقول:

(رحم الله أبا حنيفة ، لقد تحققت مودته لنا في نصرته زيد بن علي) (2).

كما ذكر «أبي الجارود» أنه «قدمت المدينة فجعلت كلما سألت عن زید بن علي ، قيل لي، ذلك حليف القرآن» (3).

وقد وصفه عدوه «هشام بن عبد الملك» بأنه : حلو اللسان شدیدالبيان (4).

كما أنه قد رويت عدة أحادیث و روایات عن النبي (صلی الله علیه واله وسلم) وآل البيت ، تؤكد مكانته وتبرز منزلته وأهليته ، وتنبیء عن مصيره المحتوم.

8- ثورة - «یحیی بن زید بن علي»

في عهد «الوليد بن يزيد» الحاكم، «ونصر بن سیار» الوالي .

«ويحيى هو أحد أبناء «زید بن علي بن الحسين» الذين نذروا أنفسهم

ص: 281


1- أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين ص 130 - أبو زهرة - ص 49.
2- أبو الفرج الأصفهاني : مقاتل الطالبيين ص 146.
3- أبو الفرج الأصفهاني : مقاتل الطالبيين ص 130.
4- علي الخربوطلي : 10 ثورات - ص 160.

لله بالجهاد في سبيله تأسيا بجهاد الحسين بن علي (علیه السلام) وثورته الكبرى، فتابعت ثوراتهم وخروجهم على الظالمين والمعطلين لحدود الله أيام الأمويين والعباسيين. فكان «الحسين بن علي» معهم في قلوبهم مبدأ وإيمانا وأصالة وأهدافا في سبيل أن تسقط دولة الظلم والبغي.

وقد كان نهوض «یحیی» أيام ضعف الدولة الأموية واحتضارها، حين كان يحكم الدولة الإسلامية «الوليد بن یزید بن عبد الملك» الخليفة بعد «هشام» بن عبد الملك (1)، والذي عرف عنه إفراطه في الشراب وطلب اللذات حتى نهره هشام بقوله : ويحك يا وليد، والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا؟ ما تدع شيئا من المنكر إلا أتيته غير منحاش . فكان «هشام» يعيب «الوليد» ويتنقصه ويقصر به، وقطع عنه ما كان يجري عليه . فابتعد عنه «الوليد» إلى الأردن مع خاصه حتى مات «هشام»، وعندما تولی، استولی على كل ما كان لهشام بعد موته وضيق على أهله وأصحابه (2).

وقد انتهت حياته بالقتل ، حيث قتل بسبب مجونه وفسقه وشربه الخمر واللهو واللذة والركوب إلى الصيد ومنادمة الفساق وتماديه في كل ذلك عام 126 ه، ودفع برأسه إلى أخيه «سليمان بن يزيد» الذي قال فيه : (بعدا له ، أشهد أنه كان شروبا للخمر ماجنا فاسقا. ولقد أرادني في نفسي الفاسق). وقد كان «سليمان» ممن سعى في أمره (3).

كما أن «الوليد» يشتهر في التاريخ بأنه خاطب القرآن الكريم بعد أن ألقاه ورماه بالسهام :

ص: 282


1- محمد حسين الزين : مرجع سابق ص 196.
2- ابن الأثير: ج 5، ص 264 .
3- ابن الأثير : ج 5، ص 288.

فقل یا رب مزقني الوليد (1).

في هذا العصر، وفي هذا الجو المتأثم خرج «یحیی بن زید» وهو شاب صغير بلغ من العمر الثامنة عشر، ولكنه رجل مكتمل بعمله ، خرج بعد مقتل أبيه حتى نزل بالمدائن ثم اتجه إلى الري، فإلی نیشابور من خراسان ، حيث قبض عليه واليها «نصر بن سیار»، الذي أخلى سبيله بعد أن نصحه وأمره بتقوى الله ، وحذره الفتنة . فقال له يحيى: (وهل في أمة محمد (صلی الله علیه واله وسلم) فتنة أعظم مما أنتم فيه ، من سفك الدماء وأخذ ما لستم له بأهل)؟ (2). فرحل ونزل الجوزجان (كورة من كور بلخ بخراسان) حيث لحقه قوم من أهلها بلغوا خمسمائة (500) رجل، لم يثبت معه في الحرب منهم إلا سبعون فارسا، قاتل بهم عشرة آلاف، فاقتتلوا ثلاثة أيام حتى قتل جميع أصحابه ، و بقي وحده فقتله «عمرو بن زرارة القسري أمير أبراشهر» واستباح عسكره وأصاب منه دواب كثيرة. وكان ذلك عام 125 ه (3).

وبعث برأسه إلى «الوليد بن يزيد» الذي بعثه إلى أمه بالمدينة .

وقد أبدى «الوليد» ارتياحا تاما لمقتل «یحیی» و بعث إلى والي الكوفة «يوسف بن عمر الثقفي» : (إذا أتاك كتابي هذا، فانظر عجل العراق - يعني زید بن علي - فأنزله من جذعه وأحرقه بالنار ثم انسفه بالیم نسفا) (4).

وأما «یحیی» فصلب على باب مدينة الجوزجان إلى أن ظهر «أبو مسلم الخرساني» فأنزله ودفنه بعد أن صلى عليه . وثار له «مسلم» فقتل كل من

ص: 283


1- محمد حسين الزين : ص 196 - ابن الأثير : ج 5، ص 288 .
2- الموسوي الكاظمي: ص - أبو الفرج الأصبهاني: مقاتل الطالبيين : ص 156.
3- أبو الفرج الأصفهاني : ص 156 (وذكر أنه بمساعدة 120 مائة وعشرون رجلا فقط تمكن من أن يهزم جيش عمرو بن زرارة)./ أحمد شلبي: مرجع سابق ص 182.
4- الطبري : ج 8، ص 301 - ابن الأثير : ج 5، ص 272 .

خرج لقتاله بعد أن عرفهم من الديوان فنظر إلى كل من كان في بعثه فقتله إلا من أعجزه (1).

وقد خرج من أبناء «زید» (عيسى ومحمد) أثناء الدولة العباسية ، وهي الفترة التي لا تدخل في نطاق بحثنا .

9- ثورة «عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب» :

وقد خرج أيام الحاكم الأموي : إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك ، وحينما كان عبدالله بن عمر بن عبد العزيز، واليا على الكوفة .

وقد قام إليه نفر من أهل الكوفة منهم: منصور بن جمهور، وإسماعيل بن عبدالله القسري ، أخو خالد، يطالبونه بالدعوة إلى نفسه، (ادع إلى نفسك فبنو هاشم أولى بالأمر من بني مروان)، فدعا إلى نفسه، لا إلى الرضا من آل محمد. وقد كانت دعوته سرية في بادىء الأمر، ثم بايعه جم من الأهالي، فجهر بدعوته ، فدارت الحرب بينه و بين «عبدالله بن عمر» عام 127 ه في الحيرة. وقد فر أكثر أصحابه من القتال ، فاضطر أن يأخذ الأمان مع رفاقه على أن يرحلوا حيث شاءوا .

وارتحل عام 128 ه إلى «اصطخر» بإقليم فارس، و بسط سلطانه على أرجاء واسعة في شرق الدولة الإسلامية ، و زاد أتباعه. كما خرج إليه عبيد أهل الكوفة ، وأتته جماعات عديدة من بني أمية وبني العباس الذين لم يأمنوا على أنفسهم في أوطانهم . فقصده من بني هاشم : السفاح وأبو جعفر المنصور، وعبدالله وعیسی بن علي بن عبدالله بن عباس ، وكذلك قصده

ص: 284


1- أبو الفرج الأصفهاني : ص 156.

وجوه من قريش من بني أمية وغيرهم مثل : سليمان بن هشام بن عبد الملك ،وعمرو بن سهل بن عبد العزيز بن مروان.

وقد رحب بهم، ومن أراد منهم عملا أعطاه ، ومن أراد صلة وصله (1).

وانضم إليه أيضا الخوارج الفارين من «محمد بن مروان» الخليفة الأموي الجديد عام 129 ه الذي عين واليأ آخر على الكوفة هو (یزید بن عمر بن هبيرة).

وقد جدا في محاربة «عبدالله بن معاوية» وتمكنا من هزيمته في 130 ها، نظرا لعدم إجابة أصحابه له قتال «محمد بن مروان»، فقصد خراسان للانضمام إلى حركة «أبي مسلم الخراساني» الذي تركزت دعوته » في الرضا من آل محمد) إلا أن «أبو مسلم» أمر بالقبض عليه وقتله ، فقتل .

وتعتبر ثورته آخر ثورة شيعية على الأمويين و ولاتهم، وعلى الوضع الذي كان يجبر الإنسان المسلم ويضطره ويدفعه إلى أن يحاربه جهادا في سبيل الله .

10 - ثورة أبي مسلم الخراساني وقيام الدولة العباسية :

بالرغم من الكوارث التي نزلت بآل البيت منذ مصرع الحسين (علیه السلام) وما عمدت إليه الدولة الأموية من تصفية الحركات العلوية والقضاء على زعمائها بكل وسيلة مستطاعة حتى تخمد أنفاسهم، ولا تقوم لهم قائمة بعد ذلك، إلا أنه جاء الوقت لزوالها وفنائها على يد آل بيت الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) ولا غيرهم. فعندما ظهر فضل البيت العباسي وعرفه الناس ، احترموه لقرابته القريبة من

ص: 285


1- مقاتل الطالبيين: ص ص 166: 167 - ابن الأثير، ج 5 ص ص 324، 371 - أبو الفرج الأصفهاني:

بيت علي (علیه السلام) ومن رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) فلم يكن الناس في حاجة إلى أن يفرقوا بين آل البيت، فقد نظر الجميع إليهم جملة على أنهم كل متضامن لا ينازع أحد منه أحد، وإن كانوا بيوتا مختلفة، لكل بيت دوره و وجاهته ، كما كان من الطبيعي أن ينظر آل البيت بعين الرضا لكل تنظيم يدعو إلى آل محمد

(صلی الله علیه واله وسلم).

ولم تكن دولة بني العباس مجرد انتقال الخلافة من الأمويين إليهم ، ولم يكن حلولهم محل الأمويين مجرد تغيير الأسرة الحاكمة ، بل إنها كانت ثورة في تاريخ الإسلام، ثورة دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية بالإضافة إلى أنها كانت ثورة انتقامية أي إنها انتقام نهائي من الأمويين أجراه العباسيون.

وقد نجح العباسيون بفضل شعاراتهم التي بثها دعاتهم ، والتي تركزت في الدعوة إلى الإصلاح، وهي الدعوة إلى الكتاب والسنة ، وهي صيحة الأجيال على اختلاف مذاهبهم وأجناسهم . فقد كانت هناك أحداثا تركت في النفوس آثارا مريرة ، من سفك دماء أهل البيت، وحصار الكعبة وضربها، وانتهاك حرمة المدينة يوم الحرة، وسياسة الجبر والقهر والاستبداد، واضطهاد المعارضة، والابتعاد عن سيرة السلف الصالح، وحب اللهو والترف وكثرة مظاهره . وكثرة المذاهب وتصارعها، وظهور أقوال كثيرة غير مألوفة من قبل، والاعتماد على العصبية في الحكم. فلم يكن غريبا بعد كل هذا أن ينضوي تحت لواء «أبي مسلم» وتبایعه جهات كثيرة ومتعددة ، فقد جاءته الوفود من مدن خراسان كلها ومن القرى الصغيرة، ومن أهل الثغور من کرمان وكابل وخوارزم وجرجان والديلم وأهل ما وراء النهر وأهل طخارستان ، بل إن العرب آمنت به فدخلت قبائل عربية مثل خزاعة وطيء وبكر وتغلب وتميم (1) .

ص: 286


1- الطبري : ج 9، ص 88.

فالذين اشتركوا في الثورة العباسية ، جميع العناصر الساخطة على الأمويين والأرستقراطية العربية ، وهم بنو هاشم من علويين وعباسيين، وجمهرة المسلمين الذين كانوا يعتبرون الأمويين مغتصبين للخلافة، وطبقات الموالي.

ومن المصادفات الغريبة أن ينتفع «أبو مسلم» من أمور أسسها الأمويين وشجعوا عليها . فقد انتفع من العصبية القبلية التي سادت تلك الجهات وتأججت نارها. فقد انحاز بجانبه في حربه الفاصلة بخراسان ضد الوالي «نصر بن سیار» ولد «الكرماني» الذي غدر به نصر وقتله غدرا ، فتحالف أصحاب الكرماني مع «أبي مسلم» وتمكنوا من الاستيلاء على «مرو» حيث هرب «نصر» تاركا أهله. والقبائل اليمنية هي التي ساندته في موقفه ومكنته من هذا الانتصار الكبير .

وفي الكوفة ، عندما تمكن «قحطبة بن شبيب الطائي» أحد زعماء الدعوة لأبي مسلم وقائده الحربي، من الانتصار على جيش «ابن هبيرة» الوالي الأموي في العراق، فرح أهل الكوفة لما وصلهم الخبر وثاروا على واليهم ورفعوا الألوية السوداء بزعامة محمد بن خالد بن عبدالله القسري» وهو ابن الوالي السابق في العراق ، انتقاما لأبيه الذي عزله «هشام».

وبعد استيلاء «أبي مسلم» على خراسان ومعظم الأمصار الإسلامية ، جرت معركة «الزاب» الفاصلة بين الأمويين والعباسيين عام 131 ه التي حسمت الموقف لصالح بني العباس ، لم يترددوا لحظة في أخذ ثأر بني عمهم الحسين وآله (علیه السلام) وأتباعهم وأشياعهم ومن كان على موقفهم، فهم لم يخرجوا على بني أمية لينزعوا الخلافة منهم فحسب، بل إنهم قتلوهم شر قتله ، حتى إنه لم ينج منهم إلا رضيع أو هارب ، بل لم ينج الأموات منهم . فقدأخرج (أبو العباس السفاح : عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن

ص: 287

عباس) بني أمية من القبور وحرقهم وذراهم في الهواء، فنبش قبر معاوية ويزيد وعبد الملك وهشام بن عبد الملك، وضربهم وصلبهم فحرقهم. ولما أحضر إليه برأس «مروان» قال :

(الحمد لله الذي لم يبق ثأرنا قبلك وقبل رهطك . الحمد لله الذي أظفرنا بك وأظهرنا عليك . ما أبالي متى طرقني الموت، وقد قتلت بالحسين (علیه السلام) ألفا من بني أمية وأحرقت شلو هشام بابن عمي «زید بن علي» كما أحرقوا شلوه . أما مروان فقتلناه بأخي إبراهيم . وقتلنا سائر بني أمية بحسين (علیه السلام) ومن قتل معه وبعده من بني عمنا أبي طالب) (1).

وعندما استولی (عبدالله بن علي بن عبدالله بن عباس) علی عسکر «مروان بن محمد» قتل من أصحابه خلقا عظيما، ثم قتله مع خواصه وبطانته كلها . واستصفى أموالهم وكذلك فعل ولاته. حينما كان «بنهر أبي فطرس» بالأردن، أخذ يصلبهم منكسين ويسقيهم النورة والصبر والرماد والخل ويقطع الأيدي والأرجل، وقتل تسعين من بني أمية وأكل الطعام على جثتهم قبل أن يموتوا حتى كان يسمع أنينهم . فقد أمر بضربهم بالعمد حتى ألقوا على الأرض وكان ذلك وقت حضور الطعام فأمر أن تبسط عليهم الأنطاع ويمد عليهم الخوان، وأكل الناس وهم يسمعون أنينهم حتى ماتوا جوعا.

وكذلك فعل أخوه «داود بن علي» بالحجاز مثله، فكان يمثل بهم، يسمل العيون، ويبقر البطون، ويجدع الأنوف، ويصطلم الآذان.

كما أن «سلیمان بن علي» بالبصرة كان يضرب الأعناق ، وقتل منهم جماعة وألقاهم في الطريق فأكلتهم الكلاب (2).

ص: 288


1- أحمد القلقشندي : ج 1، ص 167 - ابن أبي الحديد: الشرح: ج 7، ص 121 - الطبري: ج 9، ص 120.
2- ابن أبي الحديد: الشرح ج 7، ص 156 - القلقشندي : ج 1، ص 167 - ابن الأثير : ج 5، ص 430.

وعندما قتل «مروان» ببوصير في مصر، قال الحسن بن قحطبة : أخرجوا إلي إحدى بنات مروان ، فأخرجوها إليه وهي ترتعد، قال : لا بأس عليك ، قالت : وأي بأس أعظم من إخراجك إياي حاسرة ولم أر رجلا قبلك قط. فأجلسها ووضع رأس مروان في حجرها، فصرخت واضطربت . فقيل له : ما أردت بهذا ؟ فقال : فعلت بهم فعلتهم ب «زید بن علي» لما قتلوه جعلوا رأسه في حجر «زینب بنت علي بن الحسین (علیه السلام)» (1).

وقد رضي من نجا من الأمويين ومن أولاد «مروان» أن يعيشوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا ، فتنقلوا هم ومواليهم في البلاد مستترين، وهربوا إلى الأراضي النائية وساروا فيها متخفين . فبعد مقتل «مروان» هرب ابناه «عبدالله وعبيد الله» إلى الحبشة ، حيث قاتلهم الأحباش فقتل عبدالله ونجا عبدالله عام 132 ه (2)، وقد غشی «عبدالله بن مروان» بلاد النوبة وسأله ملكها عن سبب زوال عزهم وملكهم ، فقال كلاما لم يعجب الملك الذي رد عليه :

(ما الأمر كما ذكرت. ولكنكم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم، وركبتم ما عنه نهیتم، وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم الله العز، وألبسكم الذل. وإن له سبحانه فيكم لنقمة لم تبلغ غايتها بعد، وأنا خائف أن يحل بكم العذاب وأنتم بأرضي فينالني معكم، والضيافة ثلاث، فاطلبوا ما احتجتم إليه وارتحلوا عن أرضي) (3).

ص: 289


1- ابن أبي الحديد: نفس المرجع السابق ، ص 153.
2- ابن الأثير: ج 5، ص 427.
3- ابن أبي الحديدة الشرح ج7، ص 163.

ثانيا - الطائفة الثانية:ثورات البيت الأموي ورجالاتهم :

اشارة

ارتبك البيت الأموي نفسه بعد مصرع (الحسين - عليه السلام) وموت یزید، فقامت عدة تمردات وثورات هنا وهناك، وطمع في الحكم ولاتهم وقادتهم وأنصارهم فتنازعوا فيما بينهم في تقسيم التركة وانشغلوا عن مصالح الأمة بمصالحهم الخاصة .

وفيما يلي نقدم موجزا لتلك الحركات التي عمت الأقطار الإسلامية من أقصاها إلى أدناها، وحتى الشام نفسها وهي مركز الحكم والعصبية الأموية لم تسلم منها.

1- معاوية الثاني :

زهد في الحكم وتنازل عن الخلافة وقال في أهله :

(يا ليت ما كان لي معاوية أبا ولا الخبيث یزید) (1).

2- الضحاك بن قيس الفهري :

خرج في دمشق وبايعه أهل الشام في محاولة للاستقلال عن دولة بني أمية ، وكان في طاعة «ابن الزبير» ويدعو سرا إلى نفسه. وبدأت الحرب بين

ص: 290


1- أحمد بن عبدالله القلقشندي : مرجع سابق : ج 1، ص 122 (انظر ص 213).

الأطراف کلامي، ثم الضرب في المسجد فالقتال. وكان يحارب «ابن قیس» في هذه الفترة «مروان بن الحكم» فتقابلا في وقعة «مرج راهط» سنة 65 ها وقاتلا قتالا شديدا، وقتل يومئذ من أهل الشام مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قط من القبائل كلها، وقتل ثمانون من أشراف الشام (1).

3- النعمان بن بشير :

كان واليا على «حمص» يخطب لابن الزبير «ومواليا للضحاك بن قيس» ولما قتل الضحاك ، هرب من حمص فتبعه «خالد بن عدي الكلابي» وقتله وبعث برأسه إلى «مروان بن الحكم» (2).

4 - زفر بن الحارث الكلابي :

أمير قرقيسيا، وقف إلى جانب التوابين وأحسن إليهم ، وهو الذي نصح «سليمان بن صرد» زعيم التوابين بالخروج إلى «عين الوردة» لحرب أهل الشام سنة 65 ه. خرج على عبد الملك بن مروان وحاربه حتى أعطاه الأمان فاستقر الأمر بينهما. وكان «زفر» قد بايع ابن الزبير وبقي على بيعته سنة 71 ه.

5- عمرو بن سعيد بن أبي العاص الأشدق:

خرج على «عبد الملك بن مروان» سنة 69 ه. واستولى على دمشق وغلب عليها وعلى خزائنها. حار به «عبد الملك» ثم سالمه بعد أن أمنه، ولكنه غدر به فقتله في مجلسه الذي دعاه إليه لمجالسته .

وكان «عبد الملك» قد كتب له: (إنك لتطمع نفسك بالخلافة ولست لها بأهل) فرد عليه عمرو: (استدراج النعم إياك أفادك البغي، ورائحة الغدر

ص: 291


1- ابن الأثير : ج 4، ص 150 - الطبري ج 7، ص 36.
2- المسعودي : المروج، ج 30- ص 88.

أورثتك الغفلة) (1). وبعد قتله رمی «عبد الملك» رأسه إلى أصحابه خارج القصر، فثار أخوه «يحيى بن سعيد» مع جماعته ، عندئذ قام «عبد العزيز بن مروان» بإلقاء الأموال عليهم، فلما رأى الناس الأموال والرأس، انتهبوا الأموال وتفرقوا، إلا أن «عبد الملك» أمر بتلك الأموال فأخذت وردت إليه. «وعمر بن سعيد» يلتقي مع «عبد الملك بن مروان» في النسب إلى بني أمية ، وأم «عمرو» تكون عمة عبد الملك. وقد هم عبد الملك بقتل يحيى أخيه ، فنهاه «عبد العزيز بن مروان» بقوله :

(أتراك قاتلا بني أمية في يوم واحد)؟، فحبس أبناء عمرو كلهم.

ومما ذكره «ابن الزبير» في غدر عبد الملك وقتله عمرو: (أن ابن الزرقاء قتل لطيم الشيطان).

وقال «ابن الحنفية» فيه : (يرفع له يوم القيامة لواء على قدر غدرته) (2).

6- «سلم بن زياد»:

دعا إلى البيعة لنفسه في خراسان عام 65 ه، واستمرت بيعته شهرين ثم نكثوها، فدخلها، «عبدالله بن خازم» وحارب فيها «المهلب بن أبي صفرة» الذي كان «سلم» قد استخلفه عليها ، وقد تصدي : «أوس بن ثعلبة » زعيم «بكر بن وائل » لمحاربة «عبدالله بن خازم» لمدة تزيد على العام انتصر فيه «ابن خازم» ومات «ثعلبة» إثر جراحه، وقتل يومئذ من «بكر» ثمانية آلاف. وقد استقل «عبدالله بن خازم» بعد ذلك لولايته في خراسان (3). وخرج أيام المختار على الحكم الأموي. قتل في مرو على يد جماعة عبد الملك بن مروان في سنة 72 ه بعد أن مناهم إن هم قتلوا «ابن خازم» . (1) (2) (3)

ص: 292


1- المسعودي : المروج ج 3، ص 102 - ابن عبد ربه : العقد الفريد ج 4، ص 409.
2- ابن الأثير : ج 4، ص 297 - الطبري : ج 7، ص 176.
3- الطبري: ج 7، ص 43، 45، 197
7- یزید بن المهلب بن أبي الصفرة :

خرج على : «یزید بن عبد الملك» في البصرة. وهو أحد رجالات بني أمية ، بعث بعماله إلى الأهواز و کرمان وفارس وخراسان. وكان يقول في قتاله أهل الشام : (إن جهاد أهل الشام أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم).

وقد ساعده إخوته في حروبه. كما حارب معه ابنا « إبراهيم بن الأشتر» وهما : النعمان بن إبراهيم، ومالك بن إبراهيم . حيث إن عبد الملك كان قد قتل أباهم «إبراهيم» بجمع الحطب عليه وحرقه بالنار. وكان يصرخ في أعوانه مشجعا لهم في الحروب بقوله :

(ويحكم أتصدقون بني أمية يعملون بالكتاب والسنة وقد ضيعوا ذلك منذ كانوا؟ إنهم يخادعونكم ليمكروا بكم فلا يسبقوكم إليه. إني لقيت بني مروان فما لقيت منهم أمكر ولا أبعد غدرا).

وقتل «یزید بن المهلب» في سنة 102 ه- ولكن الحروب استمرت بعد مقتله بين الجانبين من قبل إخوته حتى قتلوا عن آخرهم وكذلك أبناؤه . وبعثت برؤوسهم إلى «یزید بن عبد الملك» الذي قتل الأسرى منهم حتی الغلام الصغير . ويذكر المؤرخون أن آل المهلب كانوا قوما کراما (1).

8- وفي عام 106 ه- جرت حروب طاحنة بين «مضر واليمانية» فيأرض بلخ بخراسان (2).

9- واضطربت دولة بني أمية في نسة 126 ه- واستعر هياج الفتنة . فبعد قتل «الوليد بن یزید بن عبد الملك» وحكم : «یزید بن الوليد الناقص»، اضطربت البلاد، واشتعلت الفتن والثورات في عمان وحمص وفلسطين .

ص: 293


1- ابن الأثير : ج 5، ص 71 - القلقشندي : ج 1، ص 148 - الطبري: ج 8، ص 159.
2- ابن الأثير : ج 5، ص 127 - الطبري ج 8، ص 184.

فقد قاتل «منصور بن جمهور» الوالي: «يوسف بن عمر» وأبعده عن العراق . واستولی «نصر بن سیار» على خراسان .

وقامت الحرب بين أهل اليمامة وعاملهم الذي طردوه . وكثر القتل بين القبائل للثأر فيما كان بينهم في الماضي.

وتولي «عبدالله بن عمر بن عبد العزيز العراق بدلا من منصور بن جمهور» حيث شب القتال بين أهل الشام والعراق هناك .

ودب الخلاف بين «نصر بن صیار» «والكرماني» في خراسان ، ودارت الحرب بين النزارية واليمانية (1) ومات «نصر» في جو الهزيمة القاتم ذاق فيه الفشل مرة بعد مرة دون أن يكسب معركة من المعارك وذاق مرارة الهرب والترمل والشكل، فقد وقعت امرأته في يد أعدائه ، وقتل ابناه ، وذلك أثناء حروبه مع «أبي مسلم الخراساني» (2).

10 - عبد الرحمن بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع :

استولى على إفريقية بعد حروب طاحنة ، حتى نهاية الدولة الأموية ، فقام يخطب للعباسيين ، وكانت مدة إمارته هناك عشر سنين (3).

11 - مروان بن محمد:

أظهر الخلاف مع «یزید بن الوليد» وانصرف إلى الجزيرة طالبا بدم «الوليد بن يزيد» ثم بايعه.

ولكنه خالف «إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك» الخليفة في الشام الذي خلعه «مروان» وحاربه ، في معارك عين الجر، وقد كان «مروان » أميرا

ص: 294


1- ابن الأثير : ج 5، ص 288 .
2- الطبري: ج 9، ص 88.
3- ابن الأثير : ج 5، ص 311.

في الحيرة في سنة 127 ه، وهرب «إبراهيم» واختفى فدخل «مروان» دمشق وتمت له البيعة (1).

12 -اهل حمص

انتفاضة أهل حمص على «مروان بن محمد» الذي قاتلهم وصلب خمسمائة من القتلى حول المدينة سنة 127 ه- (2) .

13- یزید بن خالد القسري :

قام أهل الغوطة بزعامته بحصار دمشق سنة 127 ه. واستطاع «مروان» من قتله ، واستباح عسکره وأحرق القرى اليمانية .

فخرج أهل فلسطين والأردن، على مروان، وقتلوا عامله، ولكن «مروان» تمكن من هزيمتهم وقتلهم واستباحة عسكرهم (3).

14 - سليمان بن هشام بن عبد الملك .

كان في السجن بعمان، وكان يلعن «الوليد» ويعيبه بالكفر. ثم خرج على «مروان» في سنة 127 ه. واجتمع له سبعين ألفا من أهل الشام، فاشتد بينهم القتال في «قنسرین» وانهزم «سليمان» فقامت خيل مروان تقتل وتأسر وتستبيح العسكر. وكان عدد القتلى ثلاثون ألفا.

وتجددت الحروب في حمص، وجرى القتل أيضا، فهرب «سليمان» إلى تدمر ثم سار إلى العراق (4).

15 - محمد بن خالد بن عبدالله القسري :

خرج بالكوفة ليلة عاشوراء مسودا، ودخل الكوفة وأصبح من أنصار

ص: 295


1- ابن الأثير : ج 5، ص 321.
2- الطبري : ج 9، ص 23
3- ابن الأثير : ج 5، 338 - الطبري: ج 9 ص 63.
4-

العباسيين فأصبح أميرا عليها من قبلهم عام 132 ه.

وكانت الدول والمدن الإسلامية قد بدأت قبل هذا العام تدخل تباعا تحت حكم أبي مسلم الخراساني) (1).

ص: 296


1- ابن الأثير : ج 5، ص 404 - الطبري ج 9، ص 120.

ثالثا - الطائفة الثالثة :ثورات الخوارج :

اشارة

بالرغم من أن الخوارج خانوا الإمام (علي) في معركة صفين ، بعد أن كانوا فئة جيدة في صفوفه ، وعنصرا محاربا شديدا في جيشه، و بالرغم من أنهم تسببوا في وقف الحرب والمعركة الفاصلة ضد معاوية ، و بالرغم من أنهم قبلوا التحكيم المزور بعد أن رفضه الإمام (علیه السلام) وأوضح لهم تزويره وخدعته فأجبروه على القبول، وبالرغم أيضا من أنهم رفضوا بعد ذلك التحكيم كلية وموقف «علي» ونددوا به لقبوله التحكيم، و بالرغم كذلك ، من أنهم فرضوا على الإمام شخصا ينوب عنهم في مؤتمر التحكيم لم يكن علي(علیه السلام) راضيا عنه وغير مرغوب لديه ، وبالرغم من أنهم حاربوا عليا (علیه السلام) بعد ذلك وحار بهم وقضى على الآلاف منهم في معارك متواصلة، وبالرغم من أنهم أنهوا حياة الإمام (علیه السلام) بقتله ، فبالرغم من كل ذلك نجد أن الإمام (علیه السلام) يقول عنهم وهو على فراش الموت :

(لا تقتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحق فأخطأه ، كمن طلب الباطل فأصابه). حيث إن عليا (علیه السلام) حار بهم لأنهم تمردوا على حكم يتجاوب مع مصالح الشعب العليا انسياقا مع أفكار خاطئة ، ولكن هذا لن يغير موقفهم من الحكم الأموي الذي كانوا يرونه حكما بغير حق . فأصبح الخوارج شوكة في جنب الحكم الأموي، وأثرت ثوراتهم المتكررة في

ص: 297

ضعف الدولة الأموية وإنهاكها اقتصاديا وسياسيا ثم انحلالها فسقوطها في النهاية ، فحينما كان عهد «مروان بن محمد» آخر خلفائهم، كان قد أتعب الجيش في قتالهم، حتى إذا تلاقت الجيوش الأموية بجيوش أبي مسلم الخراساني دارت الدائرة على «مروان» فغابت شمس الدولة الأموية.

ونحن سنتتبع أعمالهم وثوراتهم منذ عصر «یزید بن معاوية» وبعده ، ولا يعني ذلك أنهم ابتدأوا عملياتهم في هذا الوقت بل إنهم قاموا ونهضوا منذ أيام معاوية ، إلا أن حرکاتهم اشتدت منذ «یزید» إلى نهاية الدولة الأموية .

ومن أشهر الشخصيات التي خرجت من الخوارج وجاهدت الأمويين :

1- مرداس أبو بلال :

كان قد شهد صفين مع الإمام علي (علیه السلام) وأنكر التحكيم، وشهد النهروان ولكنه نجا. قبض عليه «ابن زیاد» وحبسه ، ولكنه خرج من حبسه فعزم على الخروج وقال لأصحابه : «والله ما يسعنا المقام مع هؤلاء الظالمين تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل مفارقين للفصل، والله إن الصبر على هذا لعظیم».

وفي أثناء طريقه لقيه : «عبدالله بن رباح الأنصاري» وهو صديقه فسأله أين يريد» ؟ فقال : «أريد ن أهرب بديني ودين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة». وعندما وصل «الأهواز» قابل بعضهم يحمل مالا إلى «ابن زیاد» فحط ذلك المال وأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه وترك ما بقي وقال : (قولوا لصاحبكم أننا أخذنا أعطياتنا) فقال له أصحابه : لماذا تترك الباقي؟ قال : إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة فلا تقاتلوهم ما داموا على الصلاة.

وقد تمكن جيش «مرداس» البالغ أربعين نفرا من هزيمة جيش «ابن

ص: 298

زياد» البالغ ألفين من المحاربين ، والقضاء عليه . وقد احتدم القتال في يوم الجمعة فأصبح وقت الصلاة فطلب منهم «مرداس» الموادعة للصلاة فوادعوهم. ولكن لما دخلوا في الصلاة شدوا عليهم فقتلوهم عن آخرهم وهم بين راكع وساجد وقائم وقاعد في الصلاة (1). وكان خروجه في 59 ه- وقتل في سنة 61 ه-.

2- نجدة بن عامر الحنفي :

خرج باليمامة والبحرين، حين قتل الحسين (علیه السلام) في سنة 62 ه.

هزم جيش «مصعب بن الزبير» القادم من البصرة ، فاستولى على عمان والقطيف وقاتل بني تميم في كاظمة . ثم أخذ صنعاء وحضرموت وجبی صدقات أهلها وسيطر على نجران . وقد حج في سنة 69 ه- فصالح «ابن الزبير» الذي ساعده «نجده» في حصار الأمويين للكعبة .

وقد بايعه بالطائف: «عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي» الذي هدده الحجاج : يا ذا الوجهين بايعت نجدة ؟ فقال : أي والله وذو عشرة أوجه، أعطيت نجدة الرضا ودفعته عن بلدي وقومي . وكان «عبد الملك بن مروان» قد كتب إلى «نجده» يدعوه إلى طاعته ، على أن يوليه اليمامة ، ويهدر له ما أصاب من الأموال والدماء .

قتله أحد زعماء الخوارج هو: «أبو فديك» (2).

3- نافع بن الأزرق :

وهو زعيم الخوارج الأزارقة ، استغل الفوضى في البصرة من جراء الحروب والفتن بين القبائل العربية . قتل في سنة 65 ه في البصرة .

ص: 299


1- ابن الأثير : ج 4، ص 201 - ابن عبد ربه : ج1، ص 218 / الطبري : ج6، ص 271 .
2- ابن الأثير: ج 4، ص 205.
4- عبدالله بن الماحوز :

أصبح أميرا للأزارقة بعد «نافع». قاتله المهلب بن أبي صفرة في البصرة والأهواز مع جماعة الخوارج قتالا شديدا فهزموا في سنة 66 ه، وقتل في الأهواز (1).

5 - قطري بن الفجاوة المازني :

أصبحت له الرئاسة على الأزارقة. قاتل «المهلب» أشد قتال في الأهواز لمدة ثمانية أشهر «واشترك معه في حروبه» «أبو فديك». وقتل «قطري» في سنة 77 ه، وأخذ رأسه إلى عبد الملك بن مروان . وقد خلع بعض الأزارقة «قطريا» و بایعوا : «عبد ربه الكبير» الذي قضى عليه المهلب بن أبي صفرة (سنة 77 ه) (2).

6- عمير بن الحباب بن جعدة السلمي :

خرج في سنة 70 ه.

وكان في جيش «عبیدالله بن زياد» في حرب المختار الثقفي، وتمكن من التأثير على «ابن زیاد» على أن يوجه سير الجيش إلى نهر الخازر لحرب «الأشتر» ، ولكنه خرج منه إلى «الأشتر» الذي تمكن من هزيمة الجيش الأموي وقتل «عبيدالله بن زياد» .

ثم اجتمع مع «زفر بن الحارث الكلابي» في قرقیسیا محاربين «عبد الملك بن مروان» فترة طويلة، فقد كان «عمير» على رأس قيس، وحارب تغلب حربا وقتالا شديدا، وهي حروب القبائل العربية على الأسلوب التقليدي الجاهلي، «الأيام» ومنها:

ص: 300


1- ابن الأثير : ج 4، ص 287 / الطبري : ج 7، ص 86، ص 194.
2- ابن الأثير: ج 4، ص 340.

( يوم الثرثار الأول والثاني ، ويوم الفدين، ويوم السكير ويوم البليخ، والحشاك ، وفي هذا اليوم الأخير غلبت تغلب وهزمت قيس فقتل عمير وبعث برأسه إلى عبد الملك بدمشق فأعطى الوفد وكساهم) (1).

7- أبو فديك :

غلب على البحرين، وقتل نجدة بن عامر الحنفي، بعث عبد الملك بن مروان جيشه من البصرة والكوفة لقتاله في البحرين سنة 73 ه- فقتله، بعد قتال عنيف (2).

8- عبدالله بن الجارود :

أراد «الحجاج بن يوسف» أن ينقص من عطاء أهل البصرة عما كان مقررا لهم من قبل «ابن الزبير» فلم يقبل «ابن الجارود» وثار محتجا على سياسة الحجاج . وكان خروجه في البصرة في سنة 75 أو 76 ه ولم يكن مع الحجاج إلا خاصته وأهل بيته ، وانضم الجميع إلى «ابن الجارود» الذي تمكن مع رجاله من نهب معسكر الحجاج . وقد قتل «ابن الجارود» بعد معركة عنيفة ، ونصب الحجاج رأسه ورأس عشرة من أصحابه في محاولة لتخويف الخوارج. وقتل معه أيضا: «عبدالله بن أنس بن مالك الأنصاري». فما كان من الحجاج إلا أن أخذ بشتم «أنس بن مالك» فشکاه هذا إلى «عبد الملك» الذي بعث إلى الحجاج يشتمه ، فاعتذر إليه (3).

وقد حدثت ثورة «ابن الجارود» قبل ثورة (عبد الرحمن بن الأشعث) الذي ظهر بعد أن أخفق «ابن الجارود» في قيادة ثورة أهل العراق .

ص: 301


1- ابن الأثير : ج 4، ص 309-317.
2- الطبري : ج 7، ص 195 - ابن الأثير : ج 4، ص 340.
3- لطبري : ج 7، ص 214 - ابن عبد ربه : ج1، ص 58 - ابن الأثير: ج 4، ص 382.
9- رباح: ويلقب «شير زنجي» أي أسد الزنج .

فهو زعيم الزنج، خرج في البصرة عام 76 ه، قاتلهم الحجاج فقتله .

10- «صالح بن مسرح التميمي»:

وهو أحد بني امرؤ القيس ، خرج في سنة 76 ه.

كان رجلا ناسكا وصاحب عبادة ، يقرأ القرآن على أصحابه ويعلم الفقه في أرض الموصل والجزيرة . فدعاهم إلى الخروج و إنكار الظلم وجهاد المخالفين لهم، فأجابته جماعة الخوارج الصفرية .

وقد بايعه :

11- «شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني الحروري»:

من بني شيبان .

سوید بن سليم الهندي ، من بني شيبان .

قال «شبيب» في اجتماعهم: (أخرج بنا رحمك الله ، فوالله ما تزداد السنة إلا دروسا ولا يزداد المجرمون إلا طغيانا) . وكان خروجهم في سنة 76 ه بالعراق أيام «عبد الملك بن مروان» حاربوا «الحجاج» فقتل «صالح» وهرب «شبيب» إلى حصن، وبويع من أصحابه رئيسا. فهاجم جیش الحجاج وهزمه ، ثم سار إلى أرض الموصل نحو أذربيجان حتى أتی النهروان ، وهو يجول ويعبث ، فأرعب أهل المدائن وعبث بها وهرب جندها، ثم سار نحو الكوفة بعد أن هزم وقتل جمعا كبيرا من جيش الحجاج، واقتحم المسجد الأعظم وقتل بعضا من حرسه. ثم دارت معركة كبرى في الكوفة قتل فيها كثيرا من أمراء وقادة الجيش الأموي.

وقد سار في أثره : «عبد الرحمن بن الأشعث» عبر خانقين وجلولاء

ص: 302

وسامراء فالموصل، فأتعب الجيش الذي لقي منه كل بلاء. وهزمت الجيوش كلها أمامه عام 77 ه.

وكان أصحابه يبايعونه بعد قتل أي أمير من أمراء تلك الجيوش. وقد كتب الحجاج إلى «عبد الملك» يستمده ويعرفه عجز أهل الكوفة عن قتال «شبيبا» فبعث جيشا كبيرا من أهل الشام لملاقاته . ولكن «شبيبا» قتل منهم وأوقع بهم من الضرب والطعن ما لم يروا مثله عند جسر الأهواز، حتى سقط عن فرسه وغاص في الماء فقال: (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) ولما انغمس في الماء قال : (ذلك تقدير العزيز العليم) فغرق. واستخرجوه بالشباك واجتز رأسه وبعث إلى الحجاج الذي قتل أمه وامرأته في سنة 78 ه.

كان من أهداف «شبيب» الذي تحرك من أجلها : (ندعو إلى كتاب الله وسنة رسوله (صلی الله علیه واله وسلم) وأن الذي نقمنا من قومنا الاستئثار بالفيء وتعطيل الحدود والتسلط بالجبرية) (1).

12- «مطرف بن المغيرة بن شعبة»

وهو من الذين تابعوا شبيبا ، فلما عرف مبدأه قال :

«ما دعوتم إلا إلى حق، وما نقمتم إلا جورا ظاهرا، أنا لكم متابع فتابعوني على ما أدعوكم إليه ليجتمع أمري وأمركم».

وقد ذكر «مطرف» لنصائحه ظلم «الحجاج وعبد الملك» وأنه يؤثر مناهضتهم :

«وإني أشهد الله أني قد خلعت عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف، فمن أحب منکم صحبتي وكان على مثل رأيي فليتابعني، ولست

ص: 303


1- ابن الأثير: ج 4، ص 388، 393 - الطبري : ج 7، ص 220 - اليعقوبي : ج 3، ص 20.

أحب أن يتبعني من ليست له نية في جهاد أهل الجور. أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإلى قتال الظلمة».

فكان من أهم أهدافه : الشوری بین المسلمين في الحكم، وخلع عبد الملك والحجاج. وخرج من المدائن في سنة 77 ه إلى الجبال وسار إلى همدان وقم ، ثم جرى قتال شديد بين الطرفين انتهى إلى قتله وحمل رأسه إلى الحجاج (1).

13 - شریح بن هانيء:

كان من أصحاب الإمام علي (علیه السلام) خرج بالكوفة سنة 79 ه ضد الوالي : عبیدالله بن أبي بكرة وكان «شریح» ينادي في الحرب : (يا أهل الإسلام تعاونوا على عدوكم).

قتل «شريح» بعد اقتتال شديد (2).

14 - شوذب : واسمه : بسطام من بني يشكر:

خرج في عام 100 ه في عهد الخليفة : عمر بن عبد العزيز، الذي ناظره فذكر له بسطام ظلم أهله وجورهم، ولما رأی «بسطام» من عدله وأنه أخذ من أهله ما بأيديهم. وسمى ذلك مظالم ، ترکه وهدأ .

ولكنه نشط بعد موت «عمر بن عبد العزيز» وقاتل أهل الكوفة وقتل كثيرا منهم وهزم الجيش الأموي، ثم قتل بعد تلك المعارك العنيفة عام 101 ه- (3).

ص: 304


1- ابن الأثير : ج 4، ص 434 - الطبري : ج 7، ص 260 - 262.
2- ابن الأثير : ج 4، ص 451.
3- ابن الأثير : ج 5، ص 45 -الطبري ج 8، ص 143.
15 - میسرة السقاء :

وهو من الخوارج الصفرية، خرج في المغرب الأقصى في سنة 117 ه.

فاستولى على طنجة وبويع بالخلافة من قبل جماعته البربر وخوطب بأمير المؤمنين .

حارب والي «هشام بن عبد الملك» وقاتله قتالا لم يسمع بمثله ، وقتل العرب جميعا، حماة العرب وفرسانها في «غزوة الأشراف» فانتفضت البلاد وخرج أمر الناس وبلغ أهل الأندلس الخبر فثاروا بأميرهم الوالي الأموي وعزلوه وولوا أحدهم. وبلغ الخبر «هشام» فقال :

(لأغضين للعرب غضبة وأسير جيشا يكون أولهم عندهم آخرهم عندي) (1).

ولكن البربر تمكنوا من قتلهم فرجعوا إلى القيروان، فضعف بعد ذلك أمر العرب فظهر:

16- عكاشة بن أيوب الفزاري :

بمدينة «قابس» على رأس الخوارج الصفرية ونزلوا القيروان . واجتمع الفريقان بمكان يعرف بالأصنام. وكان البربر في ثلاثمائة ألف مقاتل انهزموا هذه المرة وقتل زعيمهم «عكاشة». وكانت عدة القتلى كما قيل (180) ألف. وقيل في هذه المغازي:

(ما غزوة إلى الآن أشد بعد غزوة بدر من غزوة العرب بالأصنام).

ص: 305


1- ابن الأثير: ج 5، ص 191.
17- بهلول بن بشر، الملقب - کثارة :

وهو من شيبان في الموصل. خرج على الوالي الأموي: «خالد بن عبدالله القسري» الذي اتهم بأنه كان يهدم المساجد و يبني البيع والكنائس ويولي المجوس على المسلمين. وينكح أهل الذمة المسلمات. فقد كان الإسلام ذليلا في عهده والحكم فيه إلى أهل الذمة ، حيث كانت أمه نصرانية رومية ولم تسلم . وبنى لها «خالد» بيعة فذمه الناس والشعراء . وقد أمر بهدم منار المساجد وكان يقول: «لعن الله دینهم إن كان شرا من دینکم».

وكان يقول أيضا: «أن خليفة الرجل في أهله أفضل من رسوله في حاجته» يعني أن الخليفة «هشام» أفضل من الرسول (صلی الله علیه واله وسلم) - نبرأ إلى الله من هذه المقالة -.

وقال فيه الفرزدق :

فكيف يؤم الناس من كانت أمه *** تدين بأن الله ليس بواحد .

بني بيعة في النصارى لأمه *** ويهدم من كفر منار المساجد

ولذا، رأی «بهلول» الخلاص منه فقال: «لعلنا نقتله فيريح الله منه».

وقعت الحرب في الكوفة وهزم «خالد» وأهل الشام. ثم جرت معارك دون الموصل فقتل «بهلول» وكثيرا من أصحابه في سنة 119 ه.

ثم عزل «خالد» من العراق وتولاه «یوسف بن عمر» الذي عذب «خالدا» بأمر «الوليد بن يزيد» حتى قتله سنة 126 ه- (1).

ص: 306


1- ابن الأثير : ج 5، ص 209، ص 224 - 279.
18 - أبو حمزة الخارجي :

واسمه : المختار بن عوف الأزدي السلمي البصري :

وهو من الخوارج الأباضية ، وخرج في سنة 128 ه يدعو الناس في مكة للخروج على « مروان بن محمد و آل مروان» .وقد بايعه بالخلافة :

19 - عبدالله بن يحيى :

المعروف «بطالب الحق». فخرج إلى حضرموت، ودارت معركة «قديد» بين أهل المدينة وبين أبي حمزة فقتل كثير من قريش.

وخطب «أبو حمزة» في أهل المدينة مبينا أهدافه من خروجه :

(يا أهل المدينة ، الناس منا ونحن منهم إلا مشركا عابد وثن، أو مشرك أهل الكتاب ، أو إماما جائرا.

لم نخرج أشرا ولا بطرا ولا عبثا، ولا لدولة ملك ، ولا لثأر قديم ، وإنما رأينا أن : مصابيح الحق عطلت، وأن القضاء على قائل الحق أمر عادي ، ويقتل العادل . فنحن ضد طاعة الشيطان وحكم بني مروان).

وقد أحسن السيرة مع أهل المدينة في سنة 129 ه، فساروا إلى «مروان - بالشام فاقتتلوا وقتل أبو حمزة (1). ثم حاربوا «طالب الحق» فقتل كذلك .

20 - الضحاك بن قيس الشيباني :

خرج بالكوفة مع الخوارج في سنة 127 ه، وبايعه كل من : عبدالله بن عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن هشام بن عبد الملك ،

ص: 307


1- ابن الأثير: ج 5، ص ص 351 - 389

ومنصور بن جمهور، فاستولى على الموصل ولكن «مروان بن محمد» قتله بعد حروب طاحنة بينهما في سنة 128 ، أو سنة 129 ه (1).

21 - شيبان بن سلمة الجروري الخارجي: (شيبان بن عبد العزيز اليشكري:

خرج بالموصل في سنة 129، وجرت حروب طويلة متواصلة بينه و بين «مروان بن محمد» وقتله «أبو مسلم الخراساني» بعد ذلك (2).

22 - «الحارث بن سريج»:

اشتهر الحارث في الحروب التي جرت بين المسلمين والأتراك في بلاد ما وراء النهر، وهو من «تميم»، وكان مع الجيش الأموي يحارب في صفوفه الأتراك، ولكنه غير خطته في عهد الوالي (الجنيد بن عبد الرحمن) وتمكن من تحريض الموالي و وعدهم بالعمل على إسقاط الجزية عنهم وإشراكهم في الأعطيات الخاصة بالمحاربين والمقاتلين المسلمين في سنة 111 ه.

وقد اشترك معه في ثورته على الحكومة الأموية ، الكثير من العرب ، من تميم والأزد والدهاقين وأهل القرى فتمكن من السيطرة على: بلخ والجوزجان، والطالقان، ومرو الروذ، ثم تقدم إلى «مرو» حاضرة خراسان ، فاندلعت الحروب بينه و بين «عاصم بن عبدالله» الوالي الجديد لخراسان ، ولكن «الحارث» انهزم في هذه المعارك.

وعندما تولى أسد بن عبدالله القسري ولاية خراسان في سنة 117 ه حاربه «الحارث» الذي انصرف إلى «طخارستان» وانضم إلى «خاقان» صاحب الترك. ولكن «أسد» سيطر على الموقف بعد قتل «الخاقان»

ص: 308


1- ابن الأثير: ص 334 - الطبري : ج 9، ص 62.
2- ابن الأثير : ج 5، ص 353.

والانتصار عليه . ويعين «نصر بن سیار» واليا على خراسان بعد موت «أسد» فخرج إلى ما وراء النهر محاربا الترك الذي حالفهم «الحارث» وقد خرج «الحارث» إلى «فاراب» وظل بها إلى عام 126 ه.

وفي هذا الوقت كانت الثورات قد اشتدت على الدولة الأموية ، وقوي ساعد «الحارث» وامتدت ثورته وكثر مناصريه ، فبعث إليه «نصر» وفدا يعرض عليه المصالحة ، كما بعث إليه الخليفة الأموي «یزید بن الوليد» أمانا : (فأقبل آمنا أنت ومن معك فإنكم إخواننا وأعواننا، وقد كتبت إلى «عبدالله بن عمر بن عبد العزيز» برد ما كان اصطفى من أموالكم وذراریكم).

فأقبل «الحارث» عندئذ إلى «مروم في سنة 127 ه و أنزله «نصر» قصرا ورد إليه أمواله. وعرض عليه ولاية إحدى الولايات، ومنحه مائة ألف دینار، فلم يقبل وأرسل إليه قائلا: (إني لست من هذه الدنيا ولا من هذه اللذات، ولا من تزويج عقائل العرب في شيء، وإنما أسأل كتاب الله عز وجل والعمل بالسنة واستعمال أهل الخير والفضل ، فإن فعلت ساعدتك على عدوك).

فبالرغم من هذه المنح والعطايا، فقد خالف «الحارث» نصرا ، وانضم إليه ناس كثيرون، وبعث إلى «نصر» يطلب منه عزل بعض عماله، فحقق له رغبته ، كما وافق على تولية عاملين على ثغري «سمرقند وطخارستان» اختارهما الحارث بنفسه .

ويحاول «نصر» مرة أخرى استمالته فيعرض عليه ولاية ما وراء النهر، ولكنه رفض لأنه لم يكن يطمئن إليه (1)

ص: 309


1- جمال الدین سرور: الحياة السياسية في الدولة العربية الإسلامية / ص 160- ابن الأثير:ج 5، ص 183 - الطبري: ج 8، ص 220.
23 - جديع بن علي الأزدي المعنى، المعروف بالكرماني :

وقد كان على رأس الأزد، وقبض عليه «نصر بن سیار» ولكنه هرب في سنة 126 ه وسار إلى «مرو» حيث اجتمع معه جيش من الأزد.

وكان يقول في خروجه مخاطبا نصر بن سیار : (إنما خرجت من هذه البلدة منذ ثلاث عشرة سنة إنكارا للجور وأنت تريدني عليه).

وقد تحالف «الكرماني» مع «الحارث بن سريج» وساعده في الاستيلاء على «مرو» والغلبة عليها وإخراج الوالي «نصر» منها. ولكن الخلاف دب بينهما وتطور إلى انفصال «الحارث» عنه ثم إلى اشتباك الفريقين في قتال انتهی بهزيمة «الحارث» وأصحابه في سنة 128 ه- ثم قتله .

وكان هذا الوقت هو زمن أحداث الثورة العباسية وبداية ظهورها، فانحاز «أبو مسلم الخراساني» إلى «الكرماني»، ولكن «نصرا» تمكن من قتل الكرماني وصلبه . كما أن «أبا مسلم» استطاع السيطرة على خراسان ودخول «مرو» العاصمة، والقضاء على قوة «نصر بن سیار» الذي هرب إلى «نیسابور» فمات في سنة 131 ه- (1).

وقد بايعت القبائل العربية والجند «أبا مسلم» علی (کتاب الله وسنة رسوله (صلی الله علیه واله وسلم) والطاعة للرضا من أهل البيت، وعليكم بذلك عهد الله ومیثاقه).

ص: 310


1- جمال الدین سرور: المرجع السابق / ص 160 - ابن الأثير: جه، ص 311، ص 321، ص 345.

الخاتمة

وهكذا انتهت الدولة التي أراد لها مؤسسها أن تبقى طويلة المدد . انتهت لأسباب وعوامل كثيرة ، أهمها ثورة الإمام الحسين (علیه السلام) التي كانت في الحقيقة الدافع الأول والسبب الأساسي لتلك النهاية .

فما دامت طبيعة نظام الأمة قد تغيرت ، فقد استتبع ذلك أن تغيرت كل التفاصيل تبعا لذلك.

فالخليفة لم يعد في حقيقة الأمر والواقع خليفة رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) بل أصبح ملكا.

والأمة لم تعد جماعة متعاونة مع هيئة الحكم لرفع شأنها وتوسيع نطاقها عن طريق الفتوح ونشر الإسلام، بل أصبحت رعية لا رأي لها. والمقاتلون لم يعودوا مجاهدين في سبيل الله ، بل أصبحوا جنودا للدولة مأجورين فيها لتحقيق أهدافها وخدمة رجالها.

والأموال لم تعد تقتصر على ما يرضاه الشرع، بل أصبحت جبايات مفروضة من الخليفة ورجال دولته تستخدم لصالحهم.

والجنود أصبحوا مأجورين من بيت مال الخليفة، لا من بيت مال المسلمين .

إن مراعاة المصلحة العامة أمر ضروري وجوهري. فالذين لا يعرفون هذه الحقيقة أو يتجاهلونها، هم واهمون، لأن تغليب روح العشيرة ومصالحها الجزئية على روح الأمة ومصالحها الحيوية العامة يؤدي إلى تدمير الأمة ككل (1).

ص: 311


1- عبد الجبار منسى العبيدي : «قراءة جديدة في أسباب سقوط الدولة الأموية» (عالم الفكر المجلد ۔ 15) / ص 291.

ص: 312

المراجع والمصادر

1- الأزرقي : أبو الوليد محمد بن عبدالله بن أحمد:

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار (مكة المكرمة - مطابع دار الثقافة - ط (1983،4)

2 - الأمين : عبد الحسين أحمد النجفي.

الغدير. (طهران - مطبعة الحيدري - ط 2 سنة 1372 ه)

3- إبراهيم بيضون :

شخصيات شيعية : سليمان بن صرد الخزاعي . (بيروت - دار التراث الإسلامي سنة 1974

4 - ابن أبي الحديد: عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد بن الحسين المدائني:

شرح نهج البلاغة . (القاهرة - دار إحياء الكتب العربية سنة 1959).

5 - ابن الأثير: عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني :

الكامل في التاريخ. (بيروت - دار صادر سنة 1979).

6 - ابن تيمية : شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم :

السياسية الشرعية . (القاهرة - دار الكتاب العربي سنة 1951)

ص: 313

7- ابن حجر: الحافظ أحمد بن علي العسقلاني :

المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية . (الكويت - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - التراث الإسلامي - ح 4، ط 1، سنة 1972)

8- ابن حزم : أبو محمد علي بن أحمد:

الفصل في الملل والأهواء والنحل. (القاهرة - المطبعة الأدبية سنة 1317ه).

9 - ابن حنبل : الإمام أحمد:

المسند. (بیروت - دار صادر للنشر بدون تاریخ).

10 - ابن سعد: أبو عبدالله محمد بن سعد بن منيع القرش الهاشمي :

الطبقات الكبرى. (بيروت - دار بيروت سنة 1957)

11- ابن الطقطقي : محمد بن علي:

الفخري في الأداب السلطانية والدول الإسلامية. (القاهرة - مكتبة المعارف سنة 1938).

12- ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبدالله بن محمد:

الاستيعاب في معرفة الأصحاب. (القاهرة - مكتبة نهضة مصر - بدون تاریخ).

13 - ابن عبد ربه الأندلسي: أبو عمر أحمد بن محمد:

العقد الفريد. (القاهرة - لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1965).

14 - ابن عساکر : أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبدالله بن الحسين :

تاریخ دمشق . (بيروت - مؤسسة المحمودي للنشر ط 1، سنة 1978).

15 - ابن الفقيه : أبو بكر أحمد بن محمد الهمذاني:

مختصر کتاب البلدان (طبعة ليدن سنة 1302ه).

ص: 314

16 - ابن قتيبة الدنيوري: أبو محمد عبدالله بن مسلم :

الإمامة والسياسة. (بيروت - مؤسسة الوفاء - ط 3، سنة 1981).

17 - ابن قدامة : أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد:

المغني والشرح الكبير (المدينة المنورة - المكتبة السلفية - بدون تاريخ).

18 - ابن کثیر : الحافظ عماد الدين أبي الوفاء :

البداية والنهاية . (بيروت - مكتبة المعارف - ط 3، سنة 1979).

19 - ابن ماجة : أبو عبدالله محمد بن يزيد:

السنن . (القاهرة - دار إحياء الكتب العربية سنة 1952).

20 - ابن هشام: أبو محمد عبد الملك :

سيرة النبي (صلی الله علیه واله وسلم)، (القاهرة - «کتاب التحرير» - دار التحرير للنشر سنة 1383 م).

21 - ابن واضح: أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب الكاتب :

تاريخ اليعقوبي، (النجف - المكتبة الحيدرية سنة 1964).

22 - أبو داود : الإمام الحافظ سليمان بن الأشعث الجستاني الأزدي :

السنن ، (القاهرة - دار إحياء السنة النبوية)

23 - أبو زيد شلبي:

تاريخ الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، (القاهرة - مكتبة وهبة - ط2 ، سنة 1964).

24 - أبو الفرج الأصفهاني : علي بن الحسين الأموي:

مقاتل الطالبيين ، (بيروت - دار المعرفة - بدون تاریخ).

20 - أحمد بهجت:

الله في العقيدة الإسلامية ، (القاهرة - المختار الإسلامي للطباعة

ص: 315

والنشر - بدون تاریخ).

26 - أحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي - 2 - الدولة الأموية ، (القاهرة - النهضة المصرية - ط 6، 1982).

27 - أحمد عادل كمال :

الطريق إلى المدائن ، (بیروت - دار النفائس - ط 3، سنة 1977).

28 - إسماعيل أحمد إسماعيل :

المسجد النبوي الشريف ومزارات أهل البيت، (القاهرة - دار الشعب سنة 1974).

29 - باقر القرش:

حياة الحسين ، (العراق - النجف الأشرف).

30 - البلاذري : أحمد بن يحيى:

أنساب الأشراف، (القاهرة - دار المعارف سنة 1960).

31- البيضاوي : عبدالله بن عمر:

أنوار التنزيل وأسرار التأويل، (جدة سنة 1305 ه) .

32 - البيهقي : إبراهيم بن محمد:

المحاسن والمساوىء، (القاهرة - نهضة مصر سنة 1961) .

33 - الترمذي : أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة :

السنن ، (حمص - مطابع الفجر الحديثة سنة 1967).

34- جعفر الخليلي:

موسوعة العتبات المقدسة ، (بغداد - دار التعارف 1966).

30- جرجي زيدان :

العرب قبل الإسلام، (بیروت ۔ دار مكتبة الحياة سنة 1966).

ص: 316

36- حسن إبراهيم حسن :

تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، (القاهرة - النهضة المصرية - ح 1 - ط 9، سنة 1979).

37 - حسن الأمين :

«ثورة الأحرار على الحجاج» ، مجلة العرفان ، (بيروت - م 58 ، العدد الأول - مایو سنة 1970).

38 - الحموي: ياقوت الرومي البغدادي :

معجم البلدان، (بیروت ۔ سنة 1955).

39 - خالد محمد خالد:

أبناء الرسول في كربلاء، (القاهرة - دار ثابت للنشر والتوزيع . ط 3، سنة 1981).

40 - الخوئي : أبو القاسم الموسوي الإمام:

البيان في تفسير القرآن، (بیروت - مؤسسة الأعلمي - ط 3، سنة 1974).

41 - الدميري : كمال الدين محمد بن موسی :

حياة الحيوان الكبری - کتاب التحریر ، (القاهرة - دار التحرير للطبع والنشر سنة 1990).

92 - الرازي : فخر الدين محمد بن عمر:

- مفاتيح الغيب، (القاهرة - سنة 1307 ه).

- التفسير الكبير، (القاهرة - الطبعة الأزهرية - بدون تاریخ).

43 - الزمخشري : أبو القاسم جار الله محمود بن عمر:

الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، (القاهرة - مكتبة الحلبي سنة 1966).

ص: 317

44 - سبط ابن الجوزي: شمس الدين أبو المظفر يوسف بن غزا أوغلي:

تذکرة الخواص، (النجف - المطبعة العلمية سنة 1369 ه).

45 - سلمان هادي آل طعمة:

«ومضات من تاریخ کربلاء»، منابع الثقافة الإسلامية 77، (العراق - النجف الأشرف - مطبعة الآداب - السنة الثامنة سنة 1387 ه).

46 - سنية قراعة :

الرسالات الكبرى، (القاهرة - مكتب الصحافة الدولي سنة 1966).

47 - السيد أحمد الهاشمي:

مختار الأحاديث النبوية والحكم المحمدية ، (بیروت - مؤسسة عبد الحفيظ البساط - بدون تاریخ).

48 - السيد سابق :

فقه السنة، (بیروت - دار الفكر سنة 1977).

49 - الشهرستاني : أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد:

الملل والخلل، (بیروت - دار المعرفة سنة 1982).

50 - الطبرسي : أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب:

الاحتجاج . ( النجف الأشرف - مطابع النعمان سنة 1966).

51 - الطبري: أبو جعفر محمد بن جریر:

تاريخ الأمم والملوك ، (بيروت - دار القلم - بدون تاریخ).

- التفسير الكبير، جامع البيان في تفسير القرآن، (بیروت - دار المعرفة سنة 1972).

02 - طه حسين :

الفتنة الكبرى ، (المجلدات الكاملة- بيروت - دار الكتاب اللبناني سنة 1973).

ص: 318

53 - العاملي : محمد بن الحسن الحر:

وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، (بيروت - دار إحياء التراث العربي سنة 1983).

54 - عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطیء):

تراجم سيدات بيت النبوة ، (بیروت - دار الكتاب العربي سنة 1982) ط 3.

55 - الشيخ عباس القمي:

مفاتیح الجنان ، تعريب: السيد محمد رضا النوري النجفي ، (بیروت - دار إحياء التراث العربي - بدون تاریخ).

56 - عباس محمود العقاد :

عبقرية الإمام علي (إقرأ)، (القاهرة - دار المعارف . ط 2، سنة 1964).

57 - عباس محمود العقاد:

أبو الشهداء الحسين بن علي، (بیروت - المكتبة العصرية - بدون تاریخ).

58 - عبد الجبار منسى العبيدي :

«قراءة جديدة في أسباب سقوط الدولة الأموية» ، عالم الفكر، (الكويت - وزارة الإسلام - المجلد 15 العدد 3، أكتوبر سنة 1984).

59 - عبد الحسين إبراهيم الحسيني:

سفينة النجاة ، (بیروت - مطبعة الأنصاف ط 6، سنة 1963).

60 - عبد الحسین شرف الدین الموسوي:

النص والاجتهاد، (بیروت - مؤسسة الأعلمي - ط 4، سنة 1966).

ص: 319

61 - عبد الحميد جودة السحار:

حياة الحسين ، (القاهرة - مكتبة مصر - بدون تاریخ) .

62- عبد الرحيم فودة :

من معاني القرآن ، (القاهرة - الدار القومية للنشر - بدون تاریخ).

63 - عبد العزيز سيد الأمل :

زین العابدین ، علي بن الحسين، (القاهرة - المكتبة العلمية - ط 2، سنة 1961).

64 - عبد الفتاح عبد المقصود:

الإمام علي بن أبي طالب، (القاهرة - مكتبة مصر - ط 2، بدون تاریخ).

65 - کریم زیدان:

أصول الدعوة ، (بغداد - مكتبة المنار الإسلامية - ط 3، سنة 1976).

66 - عبد الكريم الحسيني القزويني :

الوثائق الرسمية لثورة الحسين - القسم الأول، (النجف الأشرف - مطبعة النعمان سنة 1971).

67 - عبدالله العلايلي :

الإمام الحسين، (بيروت - دار مكتبة التربية سنة 1972).

68 - عفيف عبد الفتاح طبارة :

روح الدين الإسلامي ، (بیروت مطبعة الجهاد - ط 5، بدون تاریخ).

69 - علي حسني الخربوطلي :

تاريخ الحضارة الإسلامية، (القاهرة - الأنجلو المصرية - بدون تاریخ).

ص: 320

70- علي حسني الخربوطلي :

المختار بن أبي عبيدة الثقفي، (القاهرة - المؤسسة العامة المصرية للتأليف والترجمة والنشر).

71 - علي حسني الخربوطلي :

عشر ثورات في الإسلام، (بیروت - دار الأداب ط 2 ، سنة 1978).

72 - علي محمد جريشة :

المشروعية الإسلامية العليا، (القاهرة - مكتبة وهبة - 1976).

73 - عمر أبو النصر:

آل محمد في كربلاء، (القاهرة - دار إحياء الكتب العربية سنة 1947).

74 - فتحي عثمان :

الفكر القانوني الإسلامي بين أصول الشريعة وتراث الفقه ، (القاهرة - مكتبة وهبة - بدون تاریخ).

75 - فؤاد علي رضا:

غصن الرسول - الحسين بن علي، (بيروت - مكتبة المعارف سنة 1973).

76 - القرطبي: أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري:

الجامع لأحكام القرآن ، (القاهرة - دار الكاتب العربي - سنة 1967).

77 - القلقشندي : أحمد بن عبدالله :

مآثر الإنافة في معالم الخلافة ، (الكويت - وزارة الإرشاد والأنباء سنة 1964).

78 - القندوزي : الحافظ سلیمان بن إبراهيم :

ينابيع المودة - (بيروت - مؤسسة الأعلمي - بدون تاریخ).

ص: 321

79 - الماوردي : أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري :

الأحكام السلطانية ، (بیروت - دار الكتب العلمية سنة 1978).

80 - محسن الأمين:

أعيان الشيعة ، (بيروت - مطبعة الأنصاف سنة 1951).

81 - محمد أبو زهرة :

الإمام الصادق ، (القاهرة - دار الفكر العربي - بدون تاریخ).

82 - محمد البهي:

الدين والحضارات الإنسانية - كتاب الهلال، (القاهرة - دار الهلال - العدد 157، أبريل 1964).

83 - محمد جواد مغنية :

من هنا وهناك، (بیروت - مؤسسة الأعلمي سنة 1968) .

84 - محمد جواد مغنية :

فلسفات إسلامية ، (بیروت - دار التعارف سنة 1978).

85 - محمد جمال الدین سور:

قيام الدولة العربية الإسلامية ، (القاهرة - دار الفكر العربي- ط 3، سنة 1959).

86 - محمد جمال الدین سرور:

الحياة السياسية في الدولة العربية الإسلامية خلال القرنين الأول والثاني بعد الهجرة ، القاهرة - دار الفكر العربي سنة 1960) .

87 - محمد حسين الزين:

الشيعة في التاريخ، (بیروت دار الأثار ط 2 ، سنة 1979).

88 - محمد حسين المظفر:

تاريخ الشيعة ، (بیروت دار الزهراء ط 2 ، سنة 1979).

ص: 322

89 - محمد رضا :

الحسن والحسين ، (بيروت - دار الكتب العلمية سنة 1975).

90 - محمد ضیاء الدین الريس:

النظريات السياسية في الإسلام، (القاهرة - دار التراث سنة 1979).

91- محمد العفيفي :

القرآن، القول الفصل بين كلام الله وكلام البشر، (الكويت ذات السلاسل (1977).

92 - محمد فؤاد عبد الباقي . جمعة. راجعه : عبد الستار أبو غدة:

اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ، (الكويت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - التراث الإسلامي سنة 1977).

93 - محمد قطب :

دراسات قرآنية ، (بیروت - دار الشروق - بدون تاریخ) .

94 - محمد قطب :

الإنسان بين المادية والإسلام، (بیروت - دار الشروق - ط 5، 1978).

95 - محمد كامل سليمان :

الأيديولوجية الشيعية في رثاء الحسين، (بیروت - دار الكتاب اللبناني سنة 1981).

96- محمد مهدي شمس الدين :

ثورة الحسين ، (بيروت - دار الأندلس - بدون تاریخ) .

97 - محمد مهدي الموسوي الكاظمي:

زید بن علي ، (بغداد - مطبعة المعارف سنة 1924).

ص: 323

98 - المسعودي : أبو الحسن علي بن الحسين بن علي :

مروج الذهب، (بیروت - دار الأندلس ط4، سنة 1981).

99 - مصطفى السباعي :

السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، (القاهرة - الدار القومية للطباعة والنشر سنة 1966).

100 - مصطفی سعید الحسن :

عبدالله بن عباس - أعلام المسلمين (15)، (بیروت - دار القلم سنة 1978).

101 - ممدوح حقي:

الفرزدق - نوابغ الفكر العربي (12)، (القاهرة - دار المعارف سنة 1963).

102 - المنذري : الحافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي بن عبدالله بن سلامة :

مختصر صحیح مسلم. التراث الإسلامي (3)، (الكويت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية . ط 3، سنة 1979).

103- موسى محمد علي:

سيد الشهداء الإمام الحسين ، (القاهرة - دار التراث العربي - ط 2 ، سنة 1982).

104 - الندوي: أبو الحسن علي الحسني :

السيرة النبوية ، ( جدة - دار الشروق سنة 1977).

105 - نوري جعفر :

علي ومناوئوه ، ( بيروت - مؤسسة الوفاء سنة 1982) .

106 - هاشم معروف الحسني:

سيرة الأئمة الاثني عشر، (بیروت - دار القلم ط 2 ، سنة 1978).

ص: 324

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.