المشروع السياسي للإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف : قراءة في الأبعاد العقائدية والفقهية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية لدعاء الندبة

اشارة

المشروع السياسي للإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف

قراءة في الأبعاد العقائدية والفقهية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية لدعاء الندبة

ويليه

مشروع النجاة والمسؤوليات

تقرير لأبحاث

المرجع الديني الشيخ محمد السند دام ظله

تأليف الشيخ ناجي الخاقاني

دار الحجه البيضاء

ص: 1

اشارة

جمیع حقوق محفوظه الطبعة الأول 1439 ه/ 2018م

ISBN978-614-426-959-6

الرويس - مفرق محلات محفوظ ستورز - بناية رمال - ص.ب: 14/5479

هاتف: 03/287179-01/561211 - تلفاکس: 01/552847

info@daralmahaja.com

almahajja@terra.net.lb

www.daralmahaja.com

ص: 2

المشروع السياسي للإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف

قراءة في الأبعاد العقائدية والفقهية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية لدعاء الندبة

ص: 3

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

ص: 4

المشروع السياسي للإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف

قراءة في الأبعاد العقائدية والفقهية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية لدعاء الندبة

تقرير لأبحاث المرجع الديني الشيخ محمد السند دام ظله

الجزء الأول

اشارة

ص: 5

ص: 6

الإهداء

إلى كل المستضعفين والمظلومين...

وإلى كل من لا يجد له ناصرا غیرالله .

إلى كل الحالمين بفجر جديد ... ليس فيه ظلم أو خوف أو جوع.

وإلى روح والدي ...

وقبل إلى ذلك إلى سيدهم ومنقذهم «الحجة بن الحسن المهدي»أمرواحنا التراب مقدمه الفداء ..

«یَا أَیُّهَا الْعَزِیزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْکَیْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَیْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ یَجْزِی الْمُتَصَدِّقِینَ . »(1)

ص: 7


1- یوسف: 88

ص: 8

دعاء الندبة

الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَصَلَّى اللّهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً . اللّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا جَرى بِهِ قَضاؤُكَ فِي أَوْلِيائِكَ الَّذِينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ وَدِينِكَ، إِذِ اخْتَرْتَ لَهُمْ جَزِيلَ مَا عِنْدَكَ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ الَّذِي لَازَوالَ لَهُ وَلَا اضْمِحْلالَ، بَعْدَ أَنْ شَرَطْتَ عَلَيْهِمُ الزُّهْدَ فِي دَرَجاتِ هذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَزُخْرُفِها وَزِبْرِجِها، فَشَرَطُوا لَكَ ذلِكَ، وَعَلِمْتَ مِنْهُمُ الْوَفاءَ بِهِ، فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّكْرَ الْعَلِيَّ وَالثَّناءَ الْجَلِيَّ، وَأَهْبَطْتَ عَلَيْهِمْ مَلائِكَتَكَ، وَكَرَّمْتَهُمْ بِوَحْيِكَ، وَ رَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِكَ؛وَجَعَلْتَهُمُ الذَّرِيعَةَ إِلَيْكَ، وَالْوَسِيلَةَ إِلَى رِضْوانِكَ، فَبَعْضٌ أَسْكَنْتَهُ جَنَّتَكَ إِلَى أَنْ أَخْرَجْتَهُ مِنْها، وَبَعْضٌ حَمَلْتَهُ فِي فُلْكِكَ، وَنَجَّيْتَهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنَ الْهَلَكَةِ بِرَحْمَتِكَ، وَبَعْضٌ اتَّخَذْتَهُ لِنَفْسِكَ خَلِيلاً، وَسَأَلَكَ لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ فَأَجَبْتَهُ، وَجَعَلْتَ ذلِكَ عَلِيّاً، وَبَعْضٌ كَلَّمْتَهُ مِنْ شَجَرَةٍ تَكْلِيماً، وَجَعَلْتَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ رِدْءاً وَوَزِيراً، وَبَعْضٌ أَوْلَدْتَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَآتَيْتَهُ الْبَيِّناتِ، وَأَيَّدْتَهُ بِرُوحِ

ص: 9

الْقُدُسِ، وَكُلٌّ شَرَعْتَ لَهُ شَرِيعَةً وَنَهَجْتَ لَهُ مِنْهاجاً، وَتَخَيَّرْتَ لَهُ أَوْصِياءَ؛ بَعْدَ مُسْتَحْفِظٍ، مِنْ مُدَّةٍ إِلَى مُدَّةٍ، إِقامَةً لِدِينِكَ، وَحُجَّةً عَلَى عِبادِكَ، وَ لِئَلَّا يَزُولَ الْحَقُّ عَنْ مَقَرِّهِ، وَيَغْلِبَ الْباطِلُ عَلَى أَهْلِهِ وَلَا يَقُولَ أَحَدٌ لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً مُنْذِراً، وَأَقَمْتَ لَنا عَلَماً هادِياً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى، إِلَى أَنِ انْتَهَيْتَ بِالْأَمْرِ إِلى حَبِيبِكَ وَنَجِيبِكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ؛فَكانَ كَمَا انْتَجَبْتَهُ سَيِّدَ مَنْ خَلَقْتَهُ، وَصَفْوَةَ مَنِ اصْطَفَيْتَهُ، وَأَفْضَلَ مَنِ اجْتَبَيْتَهُ، وَأَكْرَمَ مَنِ اعْتَمَدْتَهُ، قَدَّمْتَهُ عَلَى أَنْبِيائِكَ، وَبَعَثْتَهُ إِلَى الثَّقَلَيْنِ مِنْ عِبادِكَ، وَأَوْطَأْتَهُ مَشارِقَكَ وَمَغارِبَكَ، وَسَخَّرْتَ لَهُ الْبُراقَ، وَعَرَجْتَ بِرُوحِهِ إِلَى سَمائِكَ، وَأَوْدَعْتَهُ عِلْمَ مَا كانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى انْقِضاءِ خَلْقِكَ، ثُمَّ نَصَرْتَهُ بِالرُّعْبِ، وَحَفَفْتَهُ بِجَبْرَئِيلَ وَمِيكائِيلَ وَالْمُسَوِّمِينَ مِنْ مَلائِكَتِكَ، وَوَعَدْتَهُ أَنْ تُظْهِرَ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وَذلِكَ بَعْدَ أَنْ بَوَّأْتَهُ مُبَوَّأَ صِدْقٍ مِنْ أَهْلِهِ؛وَجَعَلْتَ لَهُ وَلَهُمْ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، وَقُلْتَ: ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾، ثُمَّ جَعَلْتَ أَجْرَ مُحَمَّدٍ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَوَدَّتَهُمْ فِي كِتابِكَ، فَقُلْتَ: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى، وَقُلْتَ:ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، وَقُلْتَ ما أَسْئَلُكُمْ

ص: 10

عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً؛

فَكانُوا هُمُ السَّبِيلَ إِلَيْكَ، وَالْمَسْلَكَ إِلَى رِضْوانِكَ، فَلَمَّا انْقَضَتْ أَيَّامُهُ أَقامَ وَلِيَّهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طالِبٍ صَلَواتُكَ عَلَيْهِما وَآلِهِما هادِياً، إِذْ كانَ هُوَ الْمُنْذِرَ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ، فَقالَ وَالْمَلَأُ أَمامَهُ: مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ، اللّهُمَّ وَالِ مَنْ والاهُ، وَعادِ مَنْ عاداهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَقالَ: مَنْ كُنْتُ أَنَا نَبِيَّهُ فَعَلِيٌّ أَمِيرُهُ، وَقالَ: أَنَا وَعَلِيٌّ مِنْ شَجَرَةٍ واحِدَةٍ وَسائِرُ النَّاسِ مِنْ شَجَرٍ شَتَّى، وَأَحَلَّهُ مَحَلَّ هَارُونَ مِنْ مُوسى، فَقال لَهُ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هارُونَ مِنْ مُوسى إِلّا أَنَّهُ لَانَبِيَّ بَعْدِي، وَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ سَيِّدَةَ نِساءِ الْعالَمِينَ، وَأَحَلَّ لَهُ مِنْ مَسْجِدِهِ مَا حَلَّ لَهُ وَسَدَّ الْأَبْوابَ إِلّا بابَهُ، ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِلْمَهُ وَحِكْمَتَهُ؛فَقالَ: أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بابُها، فَمَنْ أَرادَ الْمَدِينَةَ وَالْحِكْمَةَ فَلْيَأْتِها مِنْ بابِها، ثُمَّ قالَ: أَنْتَ أَخِي وَوَصِيِّي وَوارِثِي، لَحْمُكَ مِنْ لَحْمِي، وَدَمُكَ مِنْ دَمِي، وَسِلْمُكَ سِلْمِي، وَحَرْبُكَ حَرْبِي، وَالْإِيمانُ مُخالِطٌ لَحْمَكَ وَدَمَكَ كَمَا خالَطَ لَحْمِي وَدَمِي، وَأَنْتَ غَداً عَلَى الْحَوْضِ خَلِيفَتِي، وَأَنْتَ تَقْضِي دَيْنِي، وَتُنْجِزُ عِداتِي، وَشِيعَتُكَ عَلَى مَنابِرَ مِنْ نُورٍ مُبْيَضَّةً وُجُوهُهُمْ حَوْلِي فِي الْجَنَّةِ وَهُمْ جِيرانِي، وَلَوْلا أَنْتَ يَا عَلِيُّ لَمْ يُعْرَفِ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدِي، وَكانَ بَعْدَهُ هُدىً مِنَ الضَّلالِ، وَنُوراً مِنَ الْعَمى، وَحَبْلَ اللّهِ الْمَتِينَ، وَصِراطَهُ الْمُسْتَقِيمَ؛لَايُسْبَقُ بِقَرابَةٍ فِي رَحِمٍ، وَلَا بِسابِقَةٍ فِي

ص: 11

دِينٍ، وَلَا يُلْحَقُ فِي مَنْقَبَةٍ مِنْ مَناقِبِهِ، يَحْذُو حَذْوَ الرَّسُولِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِما وَآلِهِما، وَيُقاتِلُ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَلَا تَأْخُذُهُ فِي اللّهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، قَدْ وَتَرَ فِيهِ صَنادِيدَ الْعَرَبِ، وَقَتَلَ أَبْطالَهُمْ، وَناوَشَ ذُؤْبانَهُمْ، فَأَوْدَعَ قُلُوبَهُمْ أَحْقاداً بَدْرِيَّةً وَخَيْبَرِيَّةً وَحُنَيْنِيَّةً وَغَيْرَهُنَّ، فَأَضَبَّتْ عَلَى عَداوَتِهِ، وَأَكَبَّتْ عَلَى مُنابَذَتِهِ، حَتَّى قَتَلَ النَّاكِثِينَ وَالْقاسِطِينَ وَالْمارِقِينَ، وَلَمَّا قَضى نَحْبَهُ وَقَتَلَهُ أَشْقَى الْآخِرِينَ يَتْبَعُ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ لَمْ يُمْتَثَلْ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فِي الْهادِينَ بَعْدَ الْهادِينَ، وَالْأُمَّةُ مُصِرَّةٌ عَلَى مَقْتِهِ، مُجْتَمِعَةٌ عَلَى قَطِيعَةِ رَحِمِهِ، وَ إِقْصاءِ وُلَْدِهِ، إِلّا الْقَلِيلَ مِمَّنْ وَفَى لِرِعايَةِ الْحَقِّ فِيهِمْ؛فَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَسُبِيَ مَنْ سُبِيَ، وَأُقْصِيَ مَنْ أُقْصِيَ، وَجَرَى الْقَضاءُ لَهُمْ بِمَا يُرْجى لَهُ حُسْنُ الْمَثُوبَةِ، إِذْ كانَتِ الْأَرْضُ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً، وَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فَعَلَى الْأَطائِبِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِما وَآلِهِما فَلْيَبْكِ الْباكُونَ، وَ إِيَّاهُمْ فَلْيَنْدُبِ النَّادِبُونَ، وَ لِمِثْلِهِمْ فَلْتَذْرِفِ الدُّمُوعُ، وَلْيَصْرُخِ الصَّارِخُونَ، وَيَضِجَّ الضَّاجُّونَ، وَيَعِجَّ الْعاجُّونَ، أَيْنَ الْحَسَنُ ؟ أَيْنَ الْحُسَيْنُ ؟ أَيْنَ أَبْناءُ الْحُسَيْنِ ؟ صالِحٌ بَعْدَ صالِحٍ، وَصادِقٌ بَعْدَ صادِقٍ، أَيْنَ السَّبِيلُ بَعْدَ السَّبِيلِ؛ أَيْنَ الْخِيَرَةُ بَعْدَ الْخِيَرَةِ ؟ أَيْنَ الشُّمُوسُ الطَّالِعَةُ ؟ أَيْنَ الْأَقْمارُ الْمُنِيرَةُ ؟ أَيْنَ الْأَنْجُمُ الزَّاهِرَةُ ؟ أَيْنَ

ص: 12

أَعْلامُ الدِّينِ وَقَواعِدُ الْعِلْمِ ؟ أَيْنَ بَقِيَّةُ اللّهِ الَّتِي لَاتَخْلُو مِنَ الْعِتْرَةِ الْهادِيَةِ ؟ أَيْنَ الْمُعَدُّ لِقَطْعِ دابِرِ الظَّلَمَةِ ؟ أَيْنَ الْمُنْتَظَرُ لِإِقامَةِ الْأَمْتِ وَالْعِوَجِ ؟ أَيْنَ الْمُرْتَجى لِإِزالَةِ الْجَوْرِ وَالْعُدْوانِ ؟ أَيْنَ الْمُدَّخَرُ لِتَجْدِيدِ الْفَرائِضِ وَالسُّنَنِ ؟ أَيْنَ الْمُتَخَيَّرُ لِإِعادَةِ الْمِلَّةِ وَالشَّرِيعَةِ ؟ أَيْنَ الْمُؤَمَّلُ لِإِحْياءِ الْكِتابِ وَحُدُودِهِ ؟ أَيْنَ مُحْيِي مَعالِمِ الدِّينِ وَأَهْلِهِ ؟ أَيْنَ قاصِمُ شَوْكَةِ الْمُعْتَدِينَ ؟ أَيْنَ هادِمُ أَبْنِيَةِ الشِّرْكِ وَالنِّفاقِ ؟ أَيْنَ مُبِيدُ أَهْلِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيانِ وَالطُّغْيانِ ؟ أَيْنَ حاصِدُ فُرُوعِ الْغَيِّ وَالشِّقاقِ؛أَيْنَ طامِسُ آثارِ الزَّيْغِ وَالْأَهْواءِ ؟ أَيْنَ قاطِعُ حَبائِلِ الْكِذْبِ وَالافْتِراءِ ؟ أَيْنَ مُبِيدُ الْعُتاةِ وَالْمَرَدَةِ ؟ أَيْنَ مُسْتَأْصِلُ أَهْلِ الْعِنادِ وَالتَّضْلِيلِ وَالْإِلْحادِ ؟ أَيْنَ مُعِزُّ الْأَوْلِياءِ وَمُذِلُّ الْأَعْداءِ ؟ أَيْنَ جامِعُ الْكَلِمَةِ عَلَى التَّقْوى ؟ أَيْنَ بابُ اللّهِ الَّذِي مِنْهُ يُؤْتى ؟ أَيْنَ وَجْهُ اللّهِ الَّذِي إِلَيْهِ يَتَوَجَّهُ الْأَوْلِياءُ ؟ أَيْنَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّماءِ ؟ أَيْنَ صاحِبُ يَوْمِ الْفَتْحِ وَناشِرُ رايَةِ الْهُدى؟ أَيْنَ مُؤَلِّفُ شَمْلِ الصَّلاحِ وَالرِّضا؛أَيْنَ الطَّالِبُ بِذُحُولِ الْأَنْبِياءِ وَأَبْناءِ الْأَنْبِياءِ ؟ أَيْنَ الطَّالِبُ بِدَمِ الْمَقْتُولِ بِكَرْبَلاءَ ؟ أَيْنَ الْمَنْصُورُ عَلَى مَنِ اعْتَدى عَلَيْهِ وَافْتَرى ؟ أَيْنَ الْمُضْطَرُّ الَّذِي يُجابُ إِذا دَعا ؟ أَيْنَ صَدْرُ الْخَلائِقِ ذُو الْبِرِّ وَالتَّقْوى ؟ أَيْنَ ابْنُ النَّبِيِّ الْمُصْطَفى، وَابْنُ عَلِيٍّ الْمُرْتَضى، وَابْنُ خَدِيجَةَ الْغَرَّاءِ، وَابْنُ فاطِمَةَ الْكُبْرَى ؟ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَنَفْسِي لَكَ الْوِقاءُ وَالْحِمى، يَا ابْنَ السَّادَةِ الْمُقَرَّبِينَ،

ص: 13

يَا ابْنَ النُّجَباءِ الْأَكْرَمِينَ، يَا ابْنَ الْهُداةِ الْمَهْدِيِّينَ ، يَا ابْنَ الْخِيَرَةِ الْمُهَذَّبِينَ، يَا ابْنَ الْغَطارِفَةِ الْأَنْجَبِينَ، يَا ابْنَ الْأَطائِبِ الْمُطَهَّرِينَ ، يَا ابْنَ الْخَضارِمَةِ الْمُنْتَجَبِينَ، يَا ابْنَ الْقَماقِمَةِ الْأَكْرَمِينَ ، يَا ابْنَ الْبُدُورِ الْمُنِيرَةِ، يَا ابْنَ السُّرُجِ الْمُضِيئَةِ، يَا ابْنَ الشُّهُبِ الثَّاقِبَةِ، يَا ابْنَ الْأَنْجُمِ الزَّاهِرَةِ؛يَا ابْنَ السُّبُلِ الْواضِحَةِ، يَا ابْنَ الْأَعْلامِ اللَّائِحَةِ، يَا ابْنَ الْعُلُومِ الْكامِلَةِ، يَا ابْنَ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ، يَا ابْنَ الْمَعالِمِ الْمَأْثُورَةِ، يَا ابْنَ الْمُعْجِزاتِ الْمَوْجُودَةِ، يَا ابْنَ الدَّلائِلِ الْمَشْهُودَةِ ، يَا ابْنَ الصِّراطِ الْمُسْتَقِيمِ، يَا ابْنَ النَّبَاَ الْعَظِيمِ، يَا ابْنَ مَنْ هُوَ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَى اللّهِ عَلِيٌّ حَكِيمٌ، يَا ابْنَ الْآياتِ وَالْبَيِّناتِ، يَا ابْنَ الدَّلائِلِ الظَّاهِراتِ، يَا ابْنَ الْبَراهِينِ الْواضِحاتِ الْباهِراتِ، يَا ابْنَ الْحُجَجِ الْبالِغاتِ، يَا ابْنَ النِّعَمِ السَّابِغاتِ، يَا ابْنَ طه وَالْمُحْكَماتِ؛يَا ابْنَ يس وَالذَّارِياتِ، يَا ابْنَ الطُّورِ وَالْعادِياتِ، يَا ابْنَ مَنْ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى دُنُوّاً وَاقْتِراباً مِنَ الْعَلِيِّ الْأَعْلى، لَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ اسْتَقَرَّتْ بِكَ النَّوى ؟ بَلْ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّكَ أَوْ ثَرى ؟ أَبِرَضْوى أَوْ غَيْرِها أَمْ ذِي طُوى ؟ عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَرَى الْخَلْقَ وَلَا تُرى، وَلَا أَسْمَعَ ُ لَكَ حَسِيساً وَلَا نَجْوى، عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ تُحِيطَ بِكَ دُونِيَ الْبَلْوَى وَلَا يَنالَُكَ مِنِّي ضَجِيجٌ وَلَا شَكْوى، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ مُغَيَّبٍ لَمْ يَخْلُ مِنَّا، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ نازِحٍ مَا نَزَحَ عَنَّا، بِنَفْسِي أَنْتَ أُمْنِيَّةُ شائِقٍ يَتَمَنَّى مِنْ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ ذَكَرا فَحَنَّا، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ عَقِيدِ عِزٍّ لَايُسامى؛

ص: 14

بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ أَثِيلِ مَجْدٍ لَايُجارَى ، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ تِلادِ نِعَمٍ لَاتُضاهى، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ نَصِيفِ شَرَفٍ لَايُساوَى، إِلى مَتَى أَحارُ فِيكَ يَا مَوْلايَ وَ إِلَى مَتَى ؟ وَأَيَّ خِطابٍ أَصِفُ فِيكَ وَأَيَّ نَجْوَى ؟ عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أُجَابَ دُونَكَ وَأُناغَى ، عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَبْكِيَكَ وَيَخْذُلَكَ الْوَرَى، عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْكَ دُونَهُمْ مَا جَرَى، هَلْ مِنْ مُعِينٍ فَأُطِيلَ مَعَهُ الْعَوِيلَ وَالْبُكاءَ ؟ هَلْ مِنْ جَزُوعٍ فَأُساعِدَ جَزَعَهُ إِذا خَلا ؟ هَلْ قَذِيَتْ عَيْنٌ فَساعَدَتْها عَيْنِي عَلَى الْقَذَى؛هَلْ إِلَيْكَ يَابْنَ أَحْمَدَ سَبِيلٌ فَتُلْقى ؟ هَلْ يَتَّصِلُ يَوْمُنا مِنْكَ بِعِدَةٍ فَنَحْظى ؟ مَتَى نَرِدُ مَناهِلَكَ الرَّوِيَّةَ فَنَرْوَى ؟ مَتَى نَنْتَقِعُ مِنْ عَذْبِ مائِكَ فَقَدْ طالَ الصَّدى ؟ مَتى نُغادِيكَ وَنُراوِحُكَ فَنُقِرَّ عَيْناً ؟ مَتى تَرانا وَ نَراكَ وَقَدْ نَشَرْتَ لِواءَ النَّصْرِ تُرَى أَتَرَانا نَحُفُّ بِكَ وَأَنْتَ تَؤُمُّ الْمَلَأَ وَقَدْ مَلَأْتَ الْأَرْضَ عَدْلاً، وَأَذَقْتَ أَعْداءَكَ هَواناً وَعِقاباً، وَأَبَرْتَ الْعُتاةَ وَجَحَدَةَ الْحَقِّ، وَقَطَعْتَ دابِرَ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَاجْتَثَثْتَ أُصُولَ الظَّالِمِينَ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ؛اللّهُمَّ أَنْتَ كَشَّافُ الْكَرْبِ [الْكُرَبِ] وَالْبَلْوَى، وَ إِلَيْكَ أَسْتَعْدِي فَعِنْدَكَ الْعَدْوَى، وَأَنْتَ رَبُّ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيا ، فَأَغِثْ يَا غِياثَ الْمُسْتَغِيثِينَ عُبَيْدَكَ الْمُبْتَلى، وَأَرِهِ سَيِّدَهُ يَا شَدِيدَ الْقُوَى، وَأَزِلْ عَنْهُ بِهِ الْأَسَى وَالْجَوَى، وَبَرِّدْ غَلِيلَهُ يَا مَنْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَمَنْ إِلَيْهِ الرُّجْعى وَالْمُنْتَهى . اللّهُمَّ وَنَحْنُ عَبِيدُكَ التَّائِقُونَ إِلى وَلِيِّكَ الْمُذَكِّرِ بِكَ وَبِنَبِيِّكَ،

ص: 15

خَلَقْتَهُ لَنا عِصْمَةً وَمَلاذاً، وَأَقَمْتَهُ لَنا قِواماً وَمَعاذاً، وَجَعَلْتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَّا إِماماً، فَبَلِّغْهُ مِنَّا تَحِيَّةً وَسَلاماً وَزِدْنا بِذلِكَ يَا رَبِّ إِكْراماً؛وَاجْعَلْ مُسْتَقَرَّهُ لَنا مُسْتَقَرّاً وَمُقاماً، وَأَتْمِمْ نِعْمَتَكَ بِتَقْدِيمِكَ إِيَّاهُ أَمامَنا حَتَّى تُورِدَنا جِنَانَكَ وَمُرافَقَةَ الشُّهَداءِ مِنْ خُلَصائِكَ . اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ جَدِّهِ وَ رَسُولِكَ السَّيِّدِ الْأَكْبَرِ وَعَلَى أَبِيهِ السَّيِّدِ الْأَصْغَرِ وَجَدَّتِهِ الصِّدِّيقَةِ الْكُبْرى فاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللّه عَليْهِ وآلِهِ وَعَلَى مَنِ اصْطَفَيْتَ مِنْ آبائِهِ الْبَرَرَةِ وَعَلَيْهِ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَأَدْوَمَ وَأَكْثَرَ وَأَوْفَرَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْفِيائِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ؛وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلاةً لَاغايَةَ لِعَدَدِها، وَلَا نِهايَةَ لِمَدَدِها، وَلَا نَفادَ لِأَمَدِها، اللّهُمَّ وَأَقِمْ بِهِ الْحَقَّ، وَأَدْحِضْ بِهِ الْباطِلَ، وَأَدِلْ بِهِ أَوْلِياءَكَ، وَأَذْلِلْ بِهِ أَعْداءَكَ، وَصِلِ اللّهُمَّ بَيْنَنا وَبَيْنَهُ وُصْلَةً تُؤَدِّي إِلى مُرافَقَةِ سَلَفِهِ، وَاجْعَلْنا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِحُجْزَتِهِمْ، وَيَمْكُثُ فِي ظِلِّهِمْ، وَأَعِنَّا عَلَى تَأْدِيَةِ حُقُوقِهِ إِلَيْهِ، وَالاجْتِهادِ فِي طاعَتِهِ، وَاجْتِنابِ مَعْصِيَتِهِ، وَامْنُنْ عَلَيْنا بِرِضاهُ، وَهَبْ لَنا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَدُعاءَهُ وَخَيْرَهُ مَا نَنالُ بِهِ سَعَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَفَوْزاً عِنْدَكَ، وَاجْعَلْ صَلاتَنا بِهِ مَقبُولَةً، وَذُنُوبَنا بِهِ مَغْفُورَةً، وَدُعاءَنا بِهِ مُسْتَجاباً؛وَاجْعَلْ أَرْزاقَنا بِهِ مَبْسُوطَةً، وَهُمُومَنا بِهِ مَكْفِيَّةً، وَحَوَائِجَنا بِهِ مَقْضِيَّةً، وَأَقْبِلْ إِلَيْنا بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَاقْبَلْ تَقَرُّبَنا إِلَيْكَ، وَانْظُرْ إِلَيْنا نَظْرَةً رَحِيمَةً

ص: 16

نَسْتَكْمِلُ بِهَا الْكَرامَةَ عِنْدَكَ ثُمَّ لَاتَصْرِفْها عَنَّا بِجُودِكَ، وَاسْقِنا مِنْ حَوْضِ جَدِّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِكَأْسِهِ وَبِيَدِهِ رَيّاً رَوِيّاً هَنِيئاً سائِغاً لَاظَمَأَ بَعْدَهُ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .

ص: 17

ص: 18

تمهيد

اشارة

الحمد لله حمدا كثيرا دائما، والصلاة والسلام على سيد الخلق أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين مظهري أدلة التوحيد، والمصطفين ملوكا لحفظ النظام، والمبعوثين لقيام القسط في إبتداء الوجود إلى يوم الدين.

مشروع المهدوية

المنتظر الموعود يكاد يكون القاسم المشترك بين الشعوب والحضارات المختلفة، ولا تكاد تخلو أمة من الأمم من هذه الفكرة، فكل الشعوب تنتظر المنقذ الذي يخلصها من الظلم والاضطهاد، ويحقق لها الحياة الحرة الكريمة حيث العدل والمساواة.

وبسبب الشغف بهذا المشروع استغل الكثير من أصحاب النفوس المريضة عبر التاريخ هذه المسألة، كما حاولوا استغلالها من اجل الوصول إلى السلطة، ومتى ما تمكنوا منها عادوا ليمارسوا أنواع الظلم والبطش والاضطهاد لتلك الشعوب، وصار حكمهم ملكا عضوضا يتوارثه الأبناء عن الإباء.

هذا المشروع هو ضرورة إنسانية، فكل الأمم لازالت تؤمن بوجود

ص: 19

مصلح عالمي سيظهر لكي يوحد البشرية تحت لوائه فيزيل كل الحواجز نحو الأخوة البشرية، ويزيل كل أنواع الظلم والإضطهاد.

وإن كان هذا الأمر لا تختص به أمة دون أخرى لكن يبقى المنتظر الإسلامي (الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف) هو المصداق الحقيقي والوحيد لمفهوم المصلح العالمي، فهو بشارة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو المنتظر الإقامة الأمت والعوج وإصلاح ما أفسده الطغاة، وهو الذي سيملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلم وجورا، فهو الذي قال فيه رسول الله صلی الله علیه و آله :«أبشركم بالمهدي، يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلزال فيملأها قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما»(1).

وعليه فمن نافلة القول إن المؤمن بهذا المشروع الإلهي والمنتظر له عليه أن يتعرف على هذا المشروع، ويسعى لإزالة العقبات عن

طريقه في سبيل تعجيل الظهور المقدس، والتمهيد لإقامة الحكومة الإلهية العادلة، وهذا يتم فيما لو دققنا النظر في المشروع المهدوي من خلال رؤيا «الثقلين»، القرآن الكريم وأهل البيت علیهم السلام والنصوص الواردة عنهما، سواء تلميحا أو تصريحا، وقراءة بنود هذا المشروع قراءة واعية، لا قراءة سطحية ساذجة بعيدة عن الواقع تحولنا إلى منتظرین متفرجين ساکنین.

فمما لا شك فيه أن هناك نوعين من الانتظار:

أحدهما هو الانتظار السلبي، وهو يعني القعود وترك العمل للظروف وحوادث الأيام.

ص: 20


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج51، ص81.

والثاني هو الانتظار الإيجابي الذي يقترن بالعمل والجهد وإعداد العدة والاستعداد لظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف، وهؤلاء المنتظرون هم الذي يعتقدون أن الإمام غاب خفاءا نتيجة عدم توفر الظروف الموضوعية للمشروع المهدوي، وهذا يعني العمل من أجل «استرجاع»الغائب المستور من غيبته وتمهيد الأرض لقيام دولته المباركة، وإنه لشرف عظيم أن يكون المرء فاعلا في تحقيق هذا المشروع الإلهي المقدس.

من المؤكد أنه لا يمكن للأمور أن تستقيم عفوا لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، بشهادة صادق آل محمد عليه الصلاة والسلام في رده على من قال بذلك، قال: «كلا والذي نفسي بيده لو استقامت عفوا الاستقامت لرسول الله صلی اللع علیه و آله حين أدميت رباعيته، وشج في وجهه، کلا والذي نفسي بيده حتی نمسح نحن وأنتم العرق والعلق، ثم مسح جبهته»(1).

وهذه الرواية تكفي لتلخيص المطلوب، وأن المشروع الإلهي لا يتحقق إلا بالعمل الدؤوب والمشترك.

هذا الدور يحتاج إلى وعي في قراءة المشروع المهدوي، والذي وردت علاماته وشروطه وآلياته عن طريق «الثقلين»، سواء في النصوص القرآنية أو الأحاديث الواردة عن النبي وآله عليهم الصلاة والسلام، وكذلك الأدعية والزيارات الخاصة بالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف ، وهذه القراءة الواعية تكون من خلال التعاطي المنظومي المجموعي مع البنود المهدوية، لا فقرة دون أخرى.

ص: 21


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج53، ص 177.

هذا الكتاب

هذا الكتاب هو مجموعة من المحاضرات التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ «محمد السند دام ظله»في مسجد «عمران بن شاهين»في «العتبة العلوية المقدسة»، تحدث فيها عن المشروع المهدوي من خلال بنود دعاء الندبة وبقية الأدعية والزيارات الخاصة بصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، وهي قراءة منظومية مجموعية لبنود المشروع المهدوي بلغة عصرية، وضح فيها سماحته آليات القراءة الصحيحة والواعية والبصيرة لهذا المشروع الإلهي المقدس، لنتحول عندها من الانتظار السلبي إلى الإيجابي، ونكون فاعلين في هذا المشروع، ممهدين لظهوره المبارك، ومشاركين في إقامة دولة العدل الإلهي.

ولأهمية تلك المحاضرات قمنا بتقريرها وصياغتها في هذا الكتاب لتعم فائدتها المؤمنين المنتظرين لسطوع أمل البشرية ومنقذها عجلالله تعالی فرجه شریف.

نسأل الله سبحانه أن نكون قد وفقنا في هذا العمل، وأن يتقبل منا بمنه، ويعفو عنا وعن والدينا بكرمه.

«ربنا اليك أنبنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم».

والحمد لله رب العالمين.

الشيخ ناجي الخاقاني

النجف الأشرف 1439ه

ص: 22

الفصل الأول: سند الدعاء وحقيقته

اشارة

- سند دعاء الندبة

- تنبيهات مهمة

- معنى الندبة

- الأركان الرئيسية في الدعاء

- خلاصة التراث

ص: 23

ص: 24

سند دعاء الندبة

اشارة

هناك من يثير بعض التساؤلات عن سند دعاء الندبة وقد يصل إلى إثارة اللغط والتشكيك بهذا الدعاء الشريف.

والإجابة على هذا التساؤل أو رد التشكيك بسند الدعاء الشريف من خلال عدة وجوه، وإن كان العمدة في الحجية ليس السند فقط، وهذا ما دأب عليه مشهور الفقهاء كالشيخ المفيد والسيد المرتضى وابن زهرة وأكثر القدماء ايضا، كما نقل الشيخ الأنصاري في الرسائل أن الركن الأهم في حجية الخبر هو متن الخبر ونفس الحديث الشريف، والمحقق الحلي كذلك في كتاب معارج الأصول، بل إن الشيخ المفيد وبعض القدماء عدوا من يجعل الطريق هو الركن الأهم من الحشوية، وهذا لا يعني أن الطريق والسند ليس له دور،بل له دور ولكنه شرط جزء في موضوع الحجية، أما الركن الأهم في الحجية فهو المتن.

ويجب الالتفات إلى أن الخبر لا تستتم حجيته إلا بعدة جهات: منها حجية الطريق، وحجية جهة الصدور، وحجية الدلالة، مضافة إلى أن صحة الكتاب تغایر صحة الطريق.

أما سند الدعاء فيمكن معرفة صحته من عدة وجوه:

ص: 25

الوجه الأول

سيرة العلماء والمؤمنين على اعتماده، حيث دأب العلماء الأوائل منذ القرن الرابع تقريبا على تربية الأمة وفي أوقات مهمة وحساسة في الأعياد وأيام الجمع تربية عقائدية وإيمانية وتحويلها إلى شعيرة، وهي الاستمرار في دعاء الندبة، والدعاء به لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف منذ بداية عصر الغيبة الكبرى، وأصبح ظاهرة عبادية منتشرة ومن طقوس ومعالم الإيمان، وسيرة علماء الإمامية فيه تربية المؤمنين على تعهده والاستمرار في التمسك به.

بل إن الشيخ الأنصاري رحمه الله محقق وأستاذ الفقهاء، يستدل على بحث حساس ومعقد في الخيارات في بحث الشروط - وهو بحث مفصلي في كل العقود والإيقاعات في معنى الشرط، وهل أنه يشمل الشرط الابتدائي أو غيره - بمقطع من متن دعاء الندبة: «وشرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية..» ويرسله هكذا إرسال المسلمات.

وهكذا المرحوم الأصفهاني وكذلك السيد الخوئي رحمة الله عليهما، فسيرة علماء الإمامية في الاستدلال بدعاء الندبة شيء مرکوز لديهم، وليس فقط سيرة عملية بل فتوائية أيضا كما في جعل مقطعا منه مستندا لقاعدة الشروط، والتي هي قاعدة خطيرة تجري في كل العقود، وهذا الأمر مفروغ منه منذ القرن الرابع، وهو ظاهرة موجودة وشائعة.

الوجه الثاني :

أنه متواتر لفظا، وهذه حقيقة متحققة وإن يستغرب البعض منها، وهذا الأمر قامت بالدلالة عليه إحدى المؤسسات العلمية الحوزوية،

ص: 26

حيث وجدت بعد التحقيق أن دعاء الندبة موجود بألفاظه وبنوده في جمل والفاظ وحيانية متواترة لفظا، أي أن كل جملة فيه أو جملتين معا يوجد لها نص وحياني، بل إن البعض منها لها وجود وحياني قرآني فهم لم يكتفوا بالاستفاضة المعنوية، أو التواتر المعنوي، أو اللفظية المعنوية، بل اثبتوا التواتر اللفظي في كل بنوده و جمله، وهذه الطريقة هي من خلال الاتيان بألفاظ الدعاء جملة جملة، أو جملتين بمعنى واحد ثم يبحثون في طوائف الروايات الواردة في موارد عديدة فيجدون نفس اللفظ ونفس التركيب والسياق، لكن هذا التواتر يسمى تواتر توليفي وهو تواتر حقيقي، یعني هو مؤلف من مجموعة طوائف من الروايات كل منها تشكل ورودا لهذه اللفظة المعينة، ومن المجموع يصبح عندنا تواتر لفظي حسب هذه الضابطة.

والتواتر له أقسام عديدة منها: التواتر اللفظي، والتواتر المعنوي، والأجمالي، والنظري، والبديهي، وأيضا تواتر وسیع الدائرة ومتوسطه، وتواتر نخبوي،واحکامها تختلف عن بعضها البعض، ويجب الالتفات إلى ذلك.

مثلا: إذا نظرنا إلى اللغة العربية فانها بتمام موادها وخصوصياتها وقواعدها متواترة، ولكن هذا التواتر ليس عند كل من يتكلم اللغة العربية، بل هناك من يتكلم اللغة العربية أبا عن جد لكنه لا يحيط بدقائقها، فهو متواتر فقط عند مجموعة من النخب، وهذا ما يسمونه تواتر ضمن دائرة محدودة، وهو قسم من أقسام التواتر، والبعض غفلة ينفي التواتر في حال عدم وجوده عند دائرة وسيعة، وهذا بسبب عدم الاطلاع على أقسامه، فلو فرضنا أن أحد أصحاب الإمام الصادق أو الكاظم أو الرضا علیهم السلام والان لم يكن

ص: 27

مطلعا على كل الأئمة، فهذا لا ينفي التواتر، لأنه عبارة عن دوائر، وقد لا يكون هذا الشخص مشمولا بدائرة التواتر.

هذه الشبهات والمغالطات تثار لعدم الانتباه إلى أقسام التواتر، ومن هذا الباب قال كبار العلماء بالتواتر النظري، وهو ما يختص بالاطلاع عليه رواد العلماء وكبارهم لأنهم يملكون تتبع علمي صناعي ثاقب، يعلمون من خلاله أن هذا الأمر متواتر في روايات أهل البيت علیهم السلام وهذا ما يسمى بالتواتر النظري، وإن كان عموم العوام أو حتى بعض العلماء لا يعلمون به فلا يصح الاستعجال بأنكار التواتر بمجرد عدم وجود الوسيع منه بعد وجود النخبوي منه.

وهذا الأمر يشبه جغرافيا الكرة الأرضية التي فيها تواتر لدي عموم البشر، بخلاف جغرافية بلد معين فإنها ليست مواترة لكل البشر، بل هي متواترة عند أبناء ذلك البلد أو المجاورين له، وعدم توفر التواتر لعموم البشر، لا ينفي التواتر لدى دائرة أضيق، لما تقدم أنه على أقسام متعددة.

وعليه لا يجب التشكيك في المسائل الحساسة، بحجة عدم التواتر لمن لا يملك القابلية والتخصص في علم الرجال والدراية والحديث وعلوم أخرى تقع في هذا السياق.

وبما أن تراث الدين مهم جدا فيجب الحذر من الحكم عليه بهذه الطريقة، فهو منسوب إلى السماء سواء بنسبة إحتمالية أو جزمية، والنسبة الاحتمالية لها أهمية، نعم ليس هناك تسامح أو إنفلات من هذا الطرف أو ذاك.

وعلى ضوء هذا المنهج فإن دعاء الندبة بندا بندا وردت ألفاظه في

ص: 28

روايات عديدة من مجموعها يصبح لدينا تواترا لفظيا بتلفيق طوائف الروايات، أما أن يكون تواترا من أول الدعاء إلى آخره فالأمر بهذه الطريقة ليس ضروريا.

ولكن يجب الالتفات إلى أن الأدعية مصادر معرفية مهمة لمدرسة أهل البيت علیهم السلام، فهي من الأهمية بمكان وهي ليست أمر هينا، لذا يجب التدقيق فيها طبق موازین علمية دقيقة.

كما أن المؤسسة العلمية التي قامت بتخريج بنود وجمل الدعاء أثبتت أن جملة من البنود الواردة في هذا الدعاء الشريف فيها هي في الأصل بنود قرآنية وهذه نكتة لطيفة، لكي لا يتوهم أحد بأن هذه القوالب (الأدعية) من وضع عالم من العلماء كما للأسف يتلفظ به البعض من دون دراية، فكل إنسان يحدد موقفا علميا من دون مستند، نفيا وإثباتا يحاسب عليه،«وَلَا تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولَئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا »(1).

ولو أشکل وقيل: سلمنا أن بنود الدعاء متواترة وأنها ألفاظ وحيانية، أما النظم والربط بين تلك البنود فهو بشري؟

فجوابه: أن الربط البشري لا يخل بحجية البنود الوحيانية حتى ولو كان هناك تقديم وتأخير في المطالب، فكل كتب الأحاديث الموجودة عندنا تبويبها نظم بشري، ولكن حجية تلك الأحاديث ثابتة، وحتى القرآن الكريم فنحن نعلم أن العهد المكي أسبق من المدني، لكنك تجد في تسلسل السور القرآنية الموجودة بين الدفتین عدم مراعاة لذلك الأمر،

ص: 29


1- سورة الإسراء، الآية 36

وترى سور مدنية قبل المكية، وهذا لا يخل بحجية القرآن الكريم، وهذا الأمر ينطبق أيضا على دعاء الندبة الشريف.

الوجه الثالث:

أحد المباني والمدارس في علم الرجال، تعتقد أن نفس كتب الحديث هي مصدر من مصادر علم الرجال، من خلال علم الطبقات وعلم تجريد الإسناد، يعني الأسانيد الموجودة في كتب الحديث وطبقاتها تعتبر أعظم مصدر متواتر ومتصل لعلم الرجال، وقد مارسه الكثير من العلماء منهم شيخ الشريعة وكذلك الوحيد البهباني والشيخ علي النمازي وغيرهم، ومن خلال علم الأسانيد يعرف الراوي التلميذ وأستاذه ومشربه العلمي وكفائته.

ومن خلال هذا المبنى الرجالي نستطيع معرفة وثاقة سند دعاء الندبة، فأقدم مصدر لهذا الدعاء هو کتاب «المزار»للشيخ أبي عبد الله محمد بن جعفر بن المشهدي(1) وهو يرويه عن محمد بن علي بن أبي قرة(2)، والذي بدوره نقله عن كتاب محمد بن الحسن بن سفيان البزوفري(3).

ص: 30


1- الشيخ أبو عبد الله محمد بن جعفر بن المشهدي «كان فاضلا محدثا صدوقا»وكذلك وثقه الشيخ الطوسي والشيخ حسن بن نما بذات العبارة التي عبر بها الشهيد إذ قال عنه: «الشيخ الإمام السعيد عبد الله محمد بن جعفر المشهدي رحمه الله»(الحر العاملي، مع د بن الحسن: أمل الآمل في علماء جبل عامل، ج2، ص253، ص 252).
2- محمد بن علي بن يعقوب بن اسحاق بن أبي قرة، أبو الفرج، القناني، الكاتب، ثقة. وكذلك قال العلامة في الخلاصة. (رجال النجاشي، ص398).
3- روى عنه الشيخ المفيد والحسين بن عبيد الله وأحمد بن عبدون. ووالده من الثقات، إذ قال فيه الشيخ النجاشي: «الحسين بن علي بن سفيان بن خالد بن سفيان أو عبد الله البزوفري، شيخ ثقة، جليل، من أصحابنا، له كتب»والشيخ المفيد مكثر من الرواية عنه وهو شيخه وأستاذه. (النجاشي، أبو العباس أحمد بن علي: أسماء مصنفي الشيعة رجال النجاشی)، ص69، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، 1416ه، ط 5)

والبزوفري الذي يروي الدعاء هو أحد وجوه الحجية فيه، فهو يروي عن الشيخ حسین بن روح النوبختي السفير الثالث للإمام المهدي عجل الله تعالی شریف مباشرة وأحيانا بالواسطة، يعني بطبيعة الحال هو يروي التوقيعات الشريفة الصادرة من الناحية المقدسة، كما يروي السفراء المحمودين بالواسطة، وكل علماء الإمامية يتعاملون مع ما يصدر من السفراء المحمودين معاملة توقيع صادر من الناحية المقدسة، وهذا التعامل هو نفسه مع دعاء الندبة الذي يرويه البزوفري، أي يتعاملون معه معاملة التوقيع الصادر من الناحية المقدسة وهذا هو ديدن علماء الإمامية.

بقي أمر، وهو أن المجلسي رحمت الله(1)یسند دعاء الندبة إلى الإمام الصادق علیه السلام مع أن أغلب الفقهاء يسندونه إلى الناحية المقدسة، ومنشأ هذا الإسناد هو رواية عن سدير الصيرفي.

وأيضا رواه السيد ابن طاووس في مصباح الزائر، وكذلك رواه في الأقبال، وهذا المصدر مهم جدا، والسيد الخوئي تبعا لمعاصره «آغا بزرك الطهراني»أكد أن السيد ابن طاووس ألم بكم كبير من تراث الحديث

ص: 31


1- هكذا ورد في كتاب (زاد المعاد) للعلامة المجلسي قدس سره: «وأما دعاء الندبةالمشتمل على العقائد الحقة والتأسف على غيبة القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف، فقد نقل بسند معتبر عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام، ويستحب أن يقرأ دعاء الندبة هذا في الأعياد الأربعة، أي: الجمعة، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الغدير»(العلامة المجلسي، محمد باقر : زاد المعاد، ص 488، بیروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 2002م، ط1).

وتراث الرجال وكتب الإمامية إلماما كبيرا يفوق معاصريه فضلا عن جاء من بعده.

الوجه الرابع:

لا شك أن القرآن الكريم كل ما فيه مقدس وعظيم وهو دستور خالد، وكما بين أهل البيت علیهم السلام أن نظم المعلومات والمعادلات العلمية المودعة فيه ليست على درجة واحدة من الأهمية، كما صرح بذلك القرآن الكريم في سورة آل عمران:«هُوَ الَّذِی أَنزَلَ عَلَیْکَ الْکِتَابَ مِنْهُ آیَاتٌ مُّحْکَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِیلِهِ ۗ وَمَا یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ یَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ کُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا یَذَّکَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ»(1)، وكذلك في سورة المائدة: «وَأَنزَلْنَا إِلَیْکَ الْکِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَیْنَ یَدَیْهِ مِنَ الْکِتَابِ وَمُهَیْمِنًا عَلَیْهِ ۖ فَاحْکُم بَیْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَکَ مِنَ الْحَقِّ ۚ»(2). .

فعظمة المحكم لا من حيث الدلالة، وإنما من المعلومة والمعادلة العلمية الموجودة في الآية، فهي معلومة ومعادلة مهيمنة، وهذا النظام موجود فيكل العلوم أيضا، فهناك بعض المعادلات الفوقية المهيمنة والتي تتفرع منها بقية أبواب العلم، وهيمنة القرآن الكريم على بقية الكتب هو من هذا الباب، فعلومه تحيط بما موجود في التوراة والإنجيل وبقية الكتب السماوية من حيث العلو والسعة والإحاطة.

ص: 32


1- سورة آل عمران، الآية 7.
2- سورة المائدة، الآية 48

وهذا الأمر بعينه يجري في تراث أهل البيت علیهم السلام حيث فيه المحكم والمهيمن والأهم والمهم، ومن هذا التراث المهيمن هو دعاء الندبة وتبيان ذلك يتم بعدة تنبيهات:

ص: 33

تنبيهات

أولا: دعاء الندبة كمضمون متسق مع منظومة الدين بشكل بنيوي متناسق، حاله في ذلك حال بقية الأدعية والزيارات المشهورة الواردة عن أهل البيت علیهم السلام .

على ذلك تسالم أعلام الإمامية، ولذلك تسمية الدعاء أو الزيارة بأسم معين لا يوجب أو يوحي إلى الذهن بأن هذا الدعاء أو تلك الزيارة مخصوصة فقط بهذا العنوان، بل إن كل دعاء أو زيارة فيها من الوهج النوري والعناوين الشيء الكثير.

على سبيل المثال دعاء الندبة هو في حقيقته كما ذكر السيد بن طاووس وغيره من أعلام الإمامية أنه زيارة لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی شریف، بالإضافة إلى ذلك فيه ماهيات أخرى مثل الشوق والتودد لأهل البيت علیهم السلام والتواصل معهم، وأيضا فيه التعلم والمعرفة، بالإضافة إلى أمور أخرى موجودة، وهذاأمر يجب الالتفات إليه، بل إنه من الخطأ اعتبار الدعاء أو الزيارة ماهية واحدة، بل هي زیارة ودعاء وتشهد وتجديد للعهد وإلى ما شاء الله من العبادات الأخرى المنطوية تحت عنوان عبادي واحد.

ثانيا: أن العبادات في الشارع المقدس غير محصورة بأبواب معهودة كباب الصلاة أو الصوم أو الحج وغيرها، مع أن كل العبادات هي توقيفية

ص: 34

توقيتية لأن العبادات في حقيقة الأمر متعددة، ففي الصلاة على سبيل المثال التشهد بنفسه عبادة، والخضوع بنفسه عبادة أيضا،والركوع والسجود والدعاء كل مفردة في نفسها عبادة، فالصلاة في حقيقتها مجموعة من العبادات جمعت في هذا العنوان.

وحتى الحالات النفسية للإنسان هي عبادة كالرضا بقضاء الله وقدره، والتوكل عليه وهكذا، فعناوين العبادة أكبر وأكثر من أن تحصی. ثالثا: هناك عبادات قلبية وأخرى بدنية، يعبر عن الأولى بفقه القلوب أو الفقه الأوسط، وعن الثانية بفقه الأبدان أو الفقه الأصغر (فقه الفروع)، أما العقائد فيعبر عنها بالفقه الأكبر.

وهذا التقسيم يجب الالتفات إليه ووضعه في الحسبان، فكما للصوم تروك وواجبات في الأكل والشرب وما شابه، هناك أيضا تروك وواجبات قلبية كما ورد عن أهل بيت العصمة والطهارة، وإلى هذا أشار الإمام الصادق عليه السلام عن النبي صلی الله علیه و آله: «الصوم جنة، فإذا صمت فانو بصومك كف النفس عن الشهوات، وقطع الهمة عن خطرات الشياطين، وانزل نفسك منزلة المرضى، ولا تشتهي طعاما ولا شرابا، وتوقع في كل لحظة شفاءك من مرض الذنوب، وطهر باطنك من كل كدر وغفلة وظلمة يقطعك عن معنى الإخلاص لوجه الله»(1). والأمر كذلك في الطواف فالأبدان تطوف حول الكعبة، أما كعبة القلوب فشيء آخر: «رَّبَّنَا إِنِّی أَسْکَنتُ مِن ذُرِّیَّتِی بِوَادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِندَ بَیْتِکَ

ص: 35


1- مصباح الشريعة للإمام جعفر بن محمد الصادق ، ب63، ص135، مؤسسة الأعلمي ،ط2، 1983.

الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِیُقِیمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ یَشْکُرُونَ (1)، والأفئدة لا تهوى الحجر!، بل تهوى ذرية إبراهيم المصطفاة «محمد وآله الطاهرين عليهم الصلاة والسلام»، فقد جاء عن زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال: «إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرهم» (2).

كذلك قوله تعالى:«وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِی کُنتَ عَلَیْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن یَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن یَنقَلِبُ عَلَی عَقِبَیْهِ ۚ وَإِن کَانَتْ لَکَبِیرَةً إِلَّا عَلَی الَّذِینَ هَدَی اللَّهُ »(3)قبلة القلوب هي ولاية النبي صلی الله عليه و آله، وولاية أهل بیته علیهم السلام من بعده. هذا هو الأهم وإن كانت عبادة الأبدان هي المقدمة، وفيما بعد تاتي العبادة القلبية، ولكن يبقى التكامل الإنساني هو في العبادة القلبية، وقد ورد عن الإمام الجواد علیه السلام: «القصد إلى الله بالقلوب أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال»(4)

ويبقى البون شاسعة بين فقه الابدان وفقه القلوب، فقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: «ما من شيء إلا وله حد ينتهي إليه، إلا الذكر فليس له حد ينتهي إليه، فرض الله عز وجل الفرائض، فمن أداهن فهو حدهن، إلا الذكر فإن الله عز وجل لم يرض منه بالقليل، ولم يجعل له حدآ ينتهي إليه (5)، ثم تلا هذه الآية :«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اذْکُرُوا اللَّهَ ذِکْرًا کَثِیرًا »(6).

ص: 36


1- سورة إبراهيم، الآية 37.
2- الصدوق، من لا يحضره الفقیه، ج 2، ص 334، ح 1553.
3- سورة البقرة، الآية 143.
4- المجلسي، بحار الانوار، ج 75، ص 364
5- الحويزي، تفسیر نور الثقلین، ج 4، ص 285، الحدیث 147.
6- سورة الأحزاب، الآية 41.

وهنا يجب الالتفات إلى وظيفة القلب في دعاء الندبة وضرورة التوجه به إلى صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی شریف بكل أبعاده، فهو أبلغ من الحركة إليه بالبدن، فالدعاء يثير فينا فريضة الشوق والحنين للإمام المهدي علیه السلام.

ص: 37

معنى الندبة

الندبة لغة تأتي بثلاث معاني: مرة بمعنى النداء، وأخرى بمعنی الرثاء، وثالثة بمعنى الاستغاثة، وكل المعاني الثلاثة في الحقيقة من سنن المعصومين تجاه الإمام الثاني عشر عجل الله تعلی فرجه شریف ، بل في الروايات إن الاستغاثة بصاحب العصر والزمان علیه السلام جرت في الأنبياء السابقين علیهم السلام.

تماما كما الحزن والرثاء الذي جرى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على سيد الشهداء قبل ولادته، كذلك الاستغاثة بالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف، وهذا ما تذكره روايات أهل البيت علیهم السلام.

ص: 38

الأركان الرئيسة في الدعاء

اشارة

الإعجاز في دعاء الندبة والذي سنتطرق إليه في النصف الثاني من الدعاء، والنصف الأول سنشير إليه إشارات خفيفة.

النصف الثاني تقريبا يبدأ من: «أين بقية الله التي لا تخلو من العترة الهادية»، وهنا الدعاء يتكون من ثلاثة أركان، وهذه الخريطة في الدعاء مهمة جدا، لأنه عجل الله تعالی شریف يكررها مرتين أو ثلاث مرات، كل ركن فيه مجموعة من الفقرات، وهكذا يعاود مرة أخرى بنفس الطريقة.

هذا الدعاء بنظم عظيم جدا، وهو عصارة علوم ومعارف منظومية جامعة ومذهلة لا يقوى عليها إلا المعصوم.

الركن الأول :

قائمة مجدولة لأهداف وغايات يجب إنجازها في المشروع المهدوي بصيغة اوصاف للإمام المهدي عجل الله تعالی شریف، لكن هي في الحقيقة تبين للمؤمنين في حال إنخراطهم بمشروع إمام زمانهم عليه السلام قائمة مجدولة بالمشاريع

والأهداف التي يجب على الإمام عجل الله تعالی شریف، وعلى أنصاره القيام بها وتحقيقها من قبيل «يملأها قسطا وعدلا»، وهنا نذكرها ببيان إجمالي،

ص: 39

والا هي في تفاصيل الدعاء منظومة كاملة لكل أعمدة المشروع المهدوي المذكورة في القرآن الكريم، وفي بيانات النبي صلی الله علیه و آله، وكذلك بيانات أهل بيت العصمة والطهارة علیهم السلام، وهذا من الفلسفة العظيمة لدعاء الندبة التي ربما لا يعيها جملة من الغافلين، هو شد المؤمن للمسؤولية اللازمة في عصر صاحب العصر والزمان، الآن وليس بعد فوات الأوان.

الركن الثاني:

بيان إرتباط هوية المشروع المهدوي بهوية الدور النبوي والعلوي وبقية الأدوار التي سبقته من آبائه الطاهرين، لذلك يتردد هذا الخطاب في الدعاء: «یابن البدور الزاهرة، يابن العلوم الكاملة..... »

لانه لا يمكن الوعي والتفقه بالمشروع المهدوي بدون الوقوف والتأمل في الربط الماهوي بين مشروعه ومشروع آبائه الطاهرين عليهم الصلاةوالسلام.

هذا الركن الثاني لم يذكر هكذا ترفا، وإنما هو قائمة مجدولة موجودة في دعاء الندبة، وهو بهذا التصميم فضيحة لمن يريد أن يدعي المهدوية أو السفارة من هؤلاء المدعين الذين جندتهم الدوائر الاستعمارية، بل هو رد حتى للغافلين الذين يدعون أنه عجل الله تعالی فرجه شریف يأتي بدين جديد! أي كأنه خالي من الهوية النبوية، والعياذ بالله.

الركن الثالث:

هو عبارة عن الوظائف وآلياتها بالنسبة للمؤمن مع ما تقدم من المشروع المهدوي، «بنفسي أنت من مغيب لم يخلو منا...»، «هل من

ص: 40

جزوع فأساعد جزعه إذا خلا...»،«هل إليك يابن أحمد سبيل فتلقی.....» يعني كيف يستطيع الإنسان تربية نفسه؟

بأن يدخل نفسه دورة تدريبية على المشروع المهدوي إذا أراد أن يكون مواليا صادقا، هذه الدورة لها بنود، إذا حققها الإنسان في نفسه فانه سیدخل تلقائيا، بمعنى أن ما يمارسه يوميا يصب في إنجاز الظهور والمشروع المهدوي.

هذه هي الأركان الثلاثة للمنطق الوحياني في دعاء الندبة، وسنبين لاحقا الربط بين النصف الأول والنصف الثاني الذي هو ربط منظومي وإعجازي مذهل، وزيادة على هذا الإعجاز أن سجع العبارات وقافيتها التي هي في الحقيقة من قبل صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف جملة منها صدرت من القرآن الكريم، وبعضها من النبي الأعظم صلی الله عليه و آله، وبعضها من الأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام.

أسرار، ومعارف، ومعاني متسلسلة ومتناسقة بصورة هرمية في الدعاء، في البدء والوسط ودرجات الوسط ونهايته بنسق معنوي ومراتب معنوية متضمنة للأسرار، هذا بالتأكيد يدل على عظمة النظم الذي هو دليل على قدرة المعصوم .

إن متن الدعاء هو برهان على أنه كلام المعصوم، وإلا فهو لم يأتي من الحدس أو الرجم بالغيب، بل هو أرقام ومعادلات لو نظرت إلى كلام النوابغ من علماء الإمامية فإنهم لم يصلوا إلى هذه الدرجة في النظم من البدء حتى الخاتمة.

ص: 41

خلاصة التراث

نكتة ندعيها ونلمسها ببراهين واضحة، وهي أن دعاء الندبة خلاصة خطب النبي صلی الله عليه و آله، والأئمة من بعده علیهم السلام.

فما هو سر هذه الخلاصة؟ ولماذا جعل دعاء الندبة غير زيارة آل ياسين والزيارات الأخرى لصاحب الزمان علیه السلام؟

السر في ذلك أن هوية الإمام المهدي عجل الله تعالی شریف قد عجنت فيه هويات المعصومين عليهم الصلاة والسلام، بل عجنت فيه هوية جميع الأنبياء والرسل، وهذا أمر خطير ومهم، وهو في نفس الوقت عاصم من الأنحراف، وهو میزان للأنتماء المهدوي الصحيح، وليس المزيف.

هذا هو أحد معاني «بقية الله في القران الكريم»، يعني الخلاصة ومجمع لكل الهويات، ووارث آبائه الطاهرين وجميع الأنبياء والمرسلين، وهذا يتصور باعتبار أن ما ظهر من سيد الأنبياء صلی الله عليه و آله، ومن أصحاب الكساء علیهم السلام ليس هو ما في كنه الحقائق من الخير والهداية، بسبب وجود الظالمين الذين وقفوا في طريق هداية البشرية، ولذلك عندنا في الروايات كما ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام أنه في «الرجعة»سيبعث سيد الأنبياء للبشارة والنذارة الكبرى، يعني ما مر من بشارة ونذارة هي صغری، مرحلة تمهيدية والمرحلة العظمی ستاتي في الرجعة.

ص: 42

وهذا يلخص ما قام به أئمة الضلال، وحرمانهم البشرية من وصول تلك الفيوضات والأمور التربوية الألهية العظيمة التي كانت ستظهر على يد «أصحاب الكساء»صلوات الله عليهم أجمعين، ستظهر هذه كلها على يد صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی شریف، بهذا المعنى هو الخلاصة وهو لب اللباب.

يعني ما كان مقررا أن يظهر على يدي أجداده سيظهره الله على يديه، لذلك هو ملحمة عظيمة.

فمن يدعي أو يريد الارتباط بمشروع الإمام المهدي عجل الله تعالی شریف عليه الاستقامة وعدم الانحراف، لأن هوية ومشروع الإمام المهدي تتكدس فيه کل نظم وهويات المعصومين علیهم السلام

وهذا هو سر المحور الثاني أو الركن الثاني في الدعاء «یا بن البدور المنيرة، يا بن الشرج الممضيئة، یا بن الشهب الثاقبة، یا بن الأنجم الزاهرة».

هذه العناوین لیست مدائح فقط، هذه معناها يا أيها المؤمنون.. يا أيها المجاهدون تريدون التعرف على المشروع المهدوي؟ هذه هي هويات المعصومين في هذا المشروع الإلهي، إذا وعيتموها سيكون التوفيق من نصيبكم، وإلا فالفشل والإخفاق.

والدليل على ذلك من خارج الدعاء الشريف ومن داخله، فما هو من الخارج مر بنا أن من وجوه صحة سند دعاء الندبة، هو التحقيق في مصادر جمل وبنود الدعاء، والذي قامت به إحدى المؤسسات الحوزوية، ووجد أن كل بند من جمل دعاء الندبة مروي بروايات كثيرة ومستفيضة مجموعها متواتر أما قرآنية أو روائية، وكل كلمة فيه ليست من تأسيس

ص: 43

دعاء الندبة، وانما هي من تأسیس بیانات وحيانية سابقة، سقت في هذه المنظومة الواحدة.

أما الدليل الثاني، والذي هو من داخل دعاء الندبة وهو التركيز على هويات المعصومين علیهم السلام، کبیان سمت المشروع النبوي بالدقة، وكذلك سمت المشروع العلوي والفاطمي والحسني والحسيني والأئمة من بعدهم علیهم السلام، لذلك في جدول القائمة الثانية أو الركن الثاني بنود تفصيلية الهويات مشاريع الأئمة علیهم السلام، منهج كل إمام معصوم مبين في دعاء الندبة، والشيئ الأعظم أنه يبين التنسيق والأرتباط والموافقة بين سنن المعصومين ونهجهم، وأنه بين نهج الحسن والحسين علیهم السلام على سبيل المثال ليس هناك اختلاف على مستوى المنظومة، بل هناك ترابط واضح.

ص: 44

الفصل الثاني: المدرسة الأخلاقية الوحيانية

اشارة

- النظم الأخلاقية وتعدد المدارس

- المدرسة الأخلاقية الوحيانية

- أدب التعامل مع الله

- الفوارق بين المدارس الأخلاقية

- الأخلاق النفسية لها جذر عقائدي

- الأخلاق طبقات ومراتب

- التعقيد والإبهام في المفاهيم الأخلاقية عند التطبيق

ص: 45

ص: 46

النظم الأخلاقية وتعدد المدارس

النظام الأخلاقي في المجتمعات له مدارس متعددة بين الفلسفة المادية والفلسفة الإلحادية وكذلك الدينية، مشارب كثيرة ومختلفة في هذا الجانب، والاختلاف بينها بنيوي، فبعض المدارس لا تؤمن بالفضيلة والرذيلة الأخلاقية، يعني ليس هناك قبح أو حسن أخلاقي، بل يعتبرون الفضيلة في القوة حتى لو كانت قوة الغدر والمكر، فهم يؤمنون أن كل قوة تساوي الفضيلة وكل ضعف يساوي الرذيلة.

صحيح أن القوة فضيلة والضعف رذيلة، ولكن الاختلاف هو في تفسير نوع القوة والضعف.

وأخرى تعتبر أن نشر الفضيلة والتحذير من مساوئ الرذيلة هو عبارة عن خداع وتضليل لاستغلال الآخرين، وهذا لأنهم لا يؤمنوا في الأصل بالفضائل الأخلاقية.

فرق النظام الأخلاقي في الإسلام - عن المدارس الأخرى كما بينه الثقلين - أنه لا يقتصر فقط على الحياة الدنيا، منهج الفكر والمعرفة وميزانه يختلف بين المنطق الوحياني والمنطق اليوناني وبقية المدارس البشرية المختلفة.

ص: 47

المدرسة الأخلاقية الوحيانية

الوحي يربط التقوى بالفكر وضرورة الأيمان بالغيب، فهو منظومة متكاملة وهنا يختلف عن المدارس المنطقية البشرية، يعني هو معالجة لمجموع قوى الإنسان، وهكذا نظامه الأخلاقي المرتبط أساسا بالعقيدة، ولذلك نرى الكثير من الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة علیهم السلام ذكرت في كتب «الإيمان والكفر»في «الكافي»على سبيل المثال لهذه النكتة بالذات، وهو ارتباط المنظومة الأخلاقية بالعقيدة والرؤية الكونية الشاملة للمعتقد .

فقد ورد عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله: «إنما العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عالة أو شن قائمة، وما خلاه فهو فضل».

وحسب تفسير العلماء أن العقيدة هي الآية المحكمة، والسنة القائمة إشارة إلى الجانب الأخلاقي، وهذه المرحلة تبدأ مباشرة بعد البناء العقائدي للإنسان، وهذا البيان في الحقيقة هو بيان إعجازي بما أن الحسن والقبح ذاتيين،فحسب الرسم الوحياني إذا كانت العقيدة صحيحة فان المنظومة الأخلاقية ستكون صحيحة أيضا، وبفساد العقيدة ستفسد المنظومة الأخلاقية للمجتمع.

ص: 48

فإذا كانت الرؤية الكونية صحيحة فما يبنى عليها من رسم أخلاقي هو حسن وجمیل، وإلا سيكون ما يبنى هو قبح ورذيلة.

هذا الميزان بين الفضائل والرذائل الأخلاقية بينه الوحي، وما توصلت إليه العلوم الإنسانية والاجتماعية في الوقت الراهن هو أن النظام الأخلاقي يتبع الرؤية الكونية الشاملة للإنسان، وبالتالي فإن النمط الأخلاقي هو من تداعيات العقيدة، فالعقيدة هي الأساس للنظام الأخلاقي، والنظم الأخلاقية هي الأساس لقوانين المعيشة.

هذا الترابط كما سبق بينه الوحي، وأيضا توصلت إليه النتائج البشرية:«ثُمَّ کَانَ عَاقِبَةَ الَّذِینَ أَسَاءُوا السُّوأَی أَن کَذَّبُوا بِآیَاتِ اللَّهِ وَکَانُوا بِهَا یَسْتَهْزِئُونَ»(1)، يعني العمل السيء يقود إلى عقيدة باطلة، والعكس صحیح.

ص: 49


1- سورة الروم، الآية 10.

أدب التعامل مع الله

العقائد الحقة هي من شؤون العقل والفكر ومراتب القلب العالية، وأعظم درجات الأخلاق هي في كيفية التعامل الروحي والقلبي والفكري مع الله سبحانه وتعالی.

المنظومة الأخلاقية تبدأ في كيفية التعامل مع الله سبحانه، وأدب الحوار، ونمط الخواطر معه جلت قدرته، حسب بيانات أهل البيت علیهم السلام في آلية التعامل بين العبد وربه.

في دعاء النصف من شعبان هذه العبارة: «يا من لا تخفى عليه خواطر الأوهام وتصرف الخطرات..»تشير إلى الدقة الكبيرة في هذه المدرسةالأخلاقية في أدب التعامل مع الله وشدة المراقبة في التواصل، حتى الخاطرة في وهم الإنسان لها أثر في هذه المنظومة الأخلاقية العظيمة، فكيف بمن شرح بالكفر صدرا!.

الضرورة تفرض أن الخطوة الأولى يجب أن تبدأ من الإنسان، مهما كانت تلك الحركة ضئيلة، حتى لو كانت بمقدار الخاطرة، سواء كانت خاطرة سوء أو خاطرة نور، فإن لها أثرا واضحا فيما بعد:«أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَی نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَیْلٌ لِّلْقَاسِیَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِکْرِ اللَّهِ ۚ أُولَئِکَ

ص: 50

فِی ضَلَالٍ مُّبِینٍ »(1)،«فَمَن یُرِدِ اللَّهُ أَن یَهْدِیَهُ یَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن یُرِدْ أَن یُضِلَّهُ یَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَیِّقًا حَرَجًا کَأَنَّمَا یَصَّعَّدُ فِی السَّمَاءِ »(2).

هذه الآيات توضح لنا خارطة للقلوب، بين من شرح الله صدره للإسلام، ومن جعل صدره ضيقا حرجا، وكل هذه الأصناف هي في الحقيقة تبدء من الإنسان نفسه، وهي إرادة اختيارية منه، أما بخاطر نور أو خاطر سوء، وليس هناك جبر في هذه المدرسة الأخلاقية العظيمة: «قَالَ یَا قَوْمِ أَرَأَیْتُمْ إِن کُنتُ عَلَی بَیِّنَةٍ مِّن رَّبِّی وَآتَانِی رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّیَتْ عَلَیْکُمْ أَنُلْزِمُکُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا کَارِهُونَ»(3)إقبال القلب وإدباره بيد الإنسان ولو بلحاظ المقدمات، فهو مختار بين الحبوالكره، ولذلك من أعظم أبواب الاخلاق هو خلق التعامل مع الله سبحانه وتعالى، وهذا ما غفلت عنه جميع المدارس خلا مدرسة الوحي، والتي أرست بشکل عجیب نظام التعامل مع الله جل جلاله، وكان الرائد في هذا المضمار هو النبي الأكرم صلی الله عليه و آله وآل بيته الكرام علیهم السلام، فهم سبقوا جميع الأنبياء والصالحين في أدب التعامل مع الله سبحانه، وقد أسسوا في ذلك مئات القواعد الأخلاقية، وأكثر هذه القواعد أفتى بها علماء الشيعة في باب «جهاد النفس»کفرائض.

هذا الأدب مع الله سبحانه هو الذي جعلهم عليهم الصلاة والسلام الأقرب إلى الله، والأعلى شأنا من أولي العزم وبقية الأنبياء

والصالحين.

ص: 51


1- سورة الزمر، الآية 22.
2- سورة الأنعام، الآية 125.
3- سورة هود، الآية 28.

الفوارق بين المدارس الأخلاقية.

الأول : الأخلاق النفسانية لها جذر عقائدي :

الحنين واشتعال القلب بالحب والشوق هو أحد فرائض الأيمان، وفعل من أفعال القلب، وركن من أركان النظام الأخلاقي في مدرسة الوحي.

وقد مر أن الأساس في النظام الأخلاقي الإسلامي أولا وبالذات في تعامل العبد مع الله سبحانه وتعالى، والاختلاف هنا عن بقية المدارس الأخلاقية أن أساس كل خلق نفساني مهما نزل له أساس وجذر عقائدي بحسبه.

ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «شاب سير ممه في الذنوب أحب إلى الله عز وجل من شیخ عابد بخيل»(1)، ولأن السخاء ينطوي على توحيد وإيمان بعموم رزق الله سبحانه وقدرته، بينما البخل ينطوي على عبادة صورية بدنية، لكنه في قلبه وفكره ينطوي على الكفر بعطايا الله وقدرته، فمن كان يعصي الله ببدنه فهي مبغوضة عند الله، لكن المعاصي القلبية أشد بغضا عنده جلت قدرته. وهذا لا يعني استخفافا بمعاصي البدن، ولكن كما ورد عن الإمام الجواد علیه السلام: «القصد إلى الله

ص: 52


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج 73، ص307، ح 34.

بالقلوب أبلغ من اتعاب الجوارح بالأعمال»(1)، فحركات القلوب أبلغ من حركات الأعمال إن كانت حسنة أو سيئة. وهذا يعني أن العناية بالقلوب في مدرسة الوحي الأخلاقية أولى بالرعاية من عالم الأبدان، مع أنه لا يعني التفريط بالعبادة البدنية.

الثاني: الأخلاق طبقات ومراتب:

وهناك فرق آخر بين مدرسة الوحي والمدارس الأخلاقية الأخرى، وهي أن الأخلاق طبقات ومراتب، ومدار حسن الطبقات الظاهرية في اخلاق الإنسان ليست في ذاتها، بل قیمتها بما يبطن ورائها، يعني قيمتها وحسنها هو في قيمة الطبقات الباطنية.

فلا يكفي أن يكون ظاهر الإنسان مسالما وأنيقا، وهو في داخله پرید أن يشيد نظاما للظلم والجور والتعسف، فيكون جمال هذه الأخلاق الظاهرية كمن يلبس جلد شاة، وهو يحمل في صدره قلب ذئب مفترس.

شبیه ما نراه من الغرب الآن باسم حقوق الإنسان وكرامته ورعاية اللاجئين، ولكن الحقيقة أنه يهدف من ورائها إلى تهدیم دول والاستيلاء على ثرواتها.

وهنا تكمن عظمة أخلاق الإسلام في هذا الجانب، فقد ورد عن سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله قوله: «إنما الأعمال بالنيات»، بل إنه نفس النية ورائها نية أخرى أخفى، وهكذا: «وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ یَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَی »(2)، فقيمة

ص: 53


1- المجلسي، بحار الانوار، ج 75، ص 364.
2- سورة طه، الآية 7.

كل طبقة خلقية سواء من المحاسن أو القبائح ليست النهاية، بل العمدة بما ورائها.

الثالث: الابهام في المفاهيم الأخلاقية عند التطبيق :

محور آخر في النظام الأخلاقي يستفاد من بيانات الوحي، وهو أن المفاهيم الأخلاقية أعقد وأشد إبهاما من المفاهيم في فروع الأعمال - أعمال البدن -.

بمعنى أن ماهية ومعاني الأفعال القلبية أكثر إبهاما من أفعال البدن، لأنها باطنية خفية، بينما أفعال البدن ظاهرة وجلية.

لذا في دعاء «النصف من شعبان»كما ذكرنا سابقا «يا من لا تخفى عليه خواطر الأوهام وتصرف الخطرات..»لأنها تتصرف من دون أن يلتفت إليها أحد، ولذا هي من أكبر العقبات الكؤودة في النظام الأخلاقي الخفائها وإبهامها ولتشابه المعاني تنظيريا فيها، وهذا الأمتحان الإلهي المستمر پسقط فيه الكثير يوما بعد يوم!

ويمكن للإنسان أن يختبر نفسه في ممارسة يومية، وهو التوجه من أول الصلاة إلى آخرها!، وهذا أمر لا يقدر عليه إلا من سيطر وهيمن على أفعال القلب وخطراته، وهم قلة.

والضعف البشري في هذا الجانب أحد أسبابه هو إبهام المعاني تنظيريا، فترى الخلط عند أكثر الناس تطبيقا بين سوء الظن والحذر، على سبيل المثال، بين التواضع والذل، بين الشجاعة والتهور، بين الجبن والتروي، وهكذا، وهذه مشكلة كبيرة يعاني منها الأكثر في النظام التطبيقي

ص: 54

للأخلاق، وأسبابها عدم البصيرة في المفاهيم لولا تسديد الوحي الإلهي، بالإضافة إلى أن هذه المشكلة تمنع تكامل الإنسان بالصورة المثلى، ولذا من يلتزم بالوصية ينجو، لقوله صلی الله علیه و آله : «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدأ كتاب الله وعترتي أهل بيتي..»(1).

النظام الأخلاقي في الإسلام مترامي الأطراف، ويختلف هيكليا عن المدارس الأخرى، ففيه الحب والحنين فعل من أفعال القلوب فريضة للارتباط بالله سبحانه وتعالى وبالنبي وآله عليهم الصلاة والسلام، وهو حلقة مهمة في هذه المنظومة الكبيرة.

هذا الانشداد والحنين لأهل البيت علیهم السلام، والأنين لما جرى لهم وعليهم هو فريضة مرتبطة بفقه القلوب، والذي هو رکن مهم في النظام الأخلاقي، وهناك الكثير من محاور النظام الأخلاقي يمكن أن تقتبس من بيانات الوحي.

في دعاء الندبة شنن يأمر بها الإمام سلام الله عليه: «فَعَلى الاطائِبِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ صَلّى الله عَلَيْهِما وَآلِهِما فَلْيَبْكِ الباكُونَ وَإِيّاهُمْ فَليَنْدُبِ النّادِبُونَ وَلِمِثْلِهِمْ فَلْتَذْرِفِ الدُّمُوعُ وَلِيَصْرُخِ الصارِخُونَ وَيَضِجَّ الضَّاجُّونَ وَيَعِجَّ العاجُّونَ»(2)

نفس هذه المراتب في تلبية الإحرام موجودة، وهي مستحبة في نفسها، وقد ورد أن جبرائیل علیه السلام أخبر النبي صلی الله علیه و آله في الحج: «مر قومك بالضج والعج»وهذا بالطبع له تأثير روحي كبير في أن يتحول الدعاء عند

ص: 55


1- الألباني، صحيح الجامع، رقم الحديث 2748.
2- مقطع من دعاء الندبة.

الجميع إلى هذه الدرجة من الضجيج، وإلا لم يخبر به جبرائیل علیه السلام، ولم يأمرنا الإمام عجل الله تعالی شریف بذلك إلا لكي تقرع به القلوب القاسية، هذه سنة إلهية عظيمة، وقد ورد عن الأئمة علیهم السلام أنهم عاشوا تلك اللحظات في ندبتهم للإمام المهدي عجل الله تعالی شریف .

ص: 56

الفصل الثالث: خطوط الدعاء العامة وأثرها المعرفي

اشارة

- الاصطفاء وموقعية الأنبياء

- إكمال الحجة وسد الذرائع

- الأعجاز في الخاتمة

- الندبة من سنن المعصومين

ص: 57

ص: 58

الاصطفاء وموقعية الأنبياء

هناك نقطة مشتركة في النصف الأول من الدعاء يبين فيها فلسفة بعثة الرسل والأنبياء علیهم السلام، ثم يبين حقيقة الاصطفاء والذي خاض فيه العلماء من المتكلمين من الفريقين وكذلك الفلاسفة، ولكن بقيت فيه من العقد الشيء الكثير، هل الاصطفاء جبر أو تفویض کسبي؟ أم هو منحة مجانية (هبة) خص الله بها بعض عباده؟

وفاتهم أنهم لو تدبروا المقدمة من هذا الدعاء لعلموا بعضا من حقيقته: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا جَرَى بِهِ قَضَاؤُكَ فِي أَوْلِيَائِكَ الَّذِينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ وَ دِينِكَ إِذِ اخْتَرْتَ لَهُمْ جَزِيلَ مَا عِنْدَكَ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ الَّذِي لا زَوَالَ لَهُ وَ لا اضْمِحْلالَ بَعْدَ أَنْ شَرَطْتَ عَلَيْهِمُ الزُّهْدَ فِي دَرَجَاتِ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَ زُخْرُفِهَا وَ زِبْرِجِهَا فَشَرَطُوا لَكَ ذَلِكَ وَ عَلِمْتَ مِنْهُمُ الْوَفَاءَ بِهِ فَقَبِلْتَهُمْ وَ قَرَّبْتَهُمْ وَ قَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّكْرَ الْعَلِيَّ وَ الثَّنَاءَ الْجَلِيَّ»(1).

فالاصطفاء ليس جبرا، وإنما هو جدارة في مواطن عديدة، والصفة الاصطفائية هي أعلى مراتب الاختيار والقدرة والقوة، بينما الصفة الاكتسابية هي متوسطة في الاختيار.

ص: 59


1- مقطع من دعاء الندبة .

أيضا هناك نقطة مشتركة في الدعاء، وهي إشارة وشرح لموقعية الأنبياء من أولي العزم، وبعدها يركز على موقعية رسول الله صلی الله علیه و آله وهيمنة مقامه على الآخرين، ثم ينتقل إلى أمير المؤمنین علیه السلام ونهجه، ومن ثم بقية الحجج صلوات الله عليهم أجمعين، هذا النصف الأول هو سر وفلسفة النصف الثاني الذي هو على ثلاثة محاور وأحد تلك المحاور هو دمج لهوية المعصومين علیهم السلام بهوية الإمام المهدي عجل الله تعالی شریف، إذن لابد من استعراض الهويات الأنبياء في النصف الأول لكي يلتفت الإنسان إلى صعوبة فهم الهوية المهدوية، فلا تكفيك المعرفة حتى تعرف هوية جميع الأنبياء والأوصياء، لأنه جمع الجمع عجل الله تعالی فرجه شریف

فالمشروع المهدوي مشروع جامع لكل مشاريع أئمة أهل البيت عليهم السلام .

ص: 60

إكمال الحجة وسد الذرائع

«النصف الأول»من دعاء الندبة يشرح فلسفة الاصطفاء، وأن هناك جهة مشتركة في كل طبقات الاصطفاء، من النبوة والإمامة وغيرها من المراتب هي إكمال الحجة وسد طريق على من تذرع بعدم الأنذار: «وَكُلٌّ شَرَعْتَ لَهُ شَرِيعَةً وَنَهَجْتَ لَهُ مِنْهاجاً، وَتَخَيَّرْتَ لَهُ أَوْصِياءَ؛ بَعْدَ مُسْتَحْفِظٍ، مِنْ مُدَّةٍ إِلَى مُدَّةٍ، إِقامَةً لِدِينِكَ، وَحُجَّةً عَلَى عِبادِكَ، وَ لِئَلَّا يَزُولَ الْحَقُّ عَنْ مَقَرِّهِ، وَيَغْلِبَ الْباطِلُ عَلَى أَهْلِهِ وَلَا يَقُولَ أَحَدٌ لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً مُنْذِراً، وَأَقَمْتَ لَنا عَلَماً هادِياً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى»(1)، هذه هي الفلسفة العامة، فالأمم تتبع سبيل الله وصراطه كي تفد إلى لقاء الله بطریق نیر واضح.

أما «النصف الثاني»من الدعاء فإنه يبين مقامات سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله، و مقامات أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والأئمة المعصومين علیهم السلام أجمعين.

وهذا النصف فيه أركان ثلاثة: الأول فيهن يبين غايات مشروع الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف، ويجب أن لا يتوهم أحد أنها خاصة بزمن الظهور، بل هي

ص: 61


1- قطع من دعاء الندبة.

مسؤوليات الإمام المهدي علیه السلام منذ بدء الغيبة الصغرى حتى ظهوره المقدس وما بعده تقع على عاتقه (عجل الله تعالی فرجه) وعليه التدرج في إنجازها، ويجب أن لا يظن المؤمن أن هذه الغايات والمشاريع هي ما بعد الظهور فقط، وإلا سيكون هذا الأمر ترف فكري، وهذه جدلية خطيرة في الفكر الشيعي، من الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل بأن انجاهم بموسی علیه السلام: «وَإِذْ أَنجَیْنَاکُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَسُومُونَکُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۖ یُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَکُمْ وَیَسْتَحْیُونَ نِسَاءَکُمْ ۚ وَفِی ذَلِکُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّکُمْ عَظِیمٌ »(1) مثال ضربه الله سبحانه وتعالى للمهدي عليه السلام حسب روایات أهل البيت علیهم السلام، ما جرى على بني إسرائيل في إنتظار منقذهم يجري على هذه الأمة المنتظرة لمنقذ البشرية صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف «لَقَدْ کَانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِی الْأَلْبَابِ ۗ مَا کَانَ حَدِیثًا یُفْتَرَی وَلَکِن تَصْدِیقَ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ وَتَفْصِیلَ کُلِّ شَیْءٍ وَهُدًی وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ»(2) والعبرة في قصص الماضين من الأنبياء قاعدة أصيلة في القرآن الكريم لا تتوقف عند شخص النبي موسى أو شخص النبي يوسف علیهم السلام، بل الغرض الأصلي هو «محمد وآل محمد عليهم الصلاة والسلام»،«َمْ یَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَی مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَیْنَا آلَ إِبْرَاهِیمَ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَآتَیْنَاهُم مُّلْکًا عَظِیمًا»(3)

أنه نور ساطع، وبحضور القلب يتضح المطلب، وأن المقصود فيما ذكر لا يعني أن نتوقف عند هؤلاء الأنبياء علیهم السلام، نعم نؤمن بهم ونصدق

ص: 62


1- سورة الأعراف، الآية 141.
2- سورة يوسف، الآية 111.
3- سورة النساء، الآية 54.

برسل الله وكتبه، ولكن المقصود شيء أعظم، فالمراد الجدي دائما أعظم من المراد الاستعمالي.

ص: 63

الإعجاز في الخاتمة

يجب التذكير بنكتة مهمة، وهي أن الأئمة المتأخرين صلوات الله عليهم في رواية أدعيتهم والزيارات والمعارف المنقولة عنهم لها خاصية تختلف عن خاصية أبائهم، فهي تكون دائما خلاصة وزيادة لما يروى عن المعصومين الأوائل من أهل بيت العصمة والطهارة علیهم السلام، ومتن دعاء الندبة أحد براهين الأعجاز في هذا الباب.

والسبب الرئيس في اختلاف الخواص هو دور كل إمام، وما يتطلبه التدرج في التربية والتعليم شبيه التعليم المدرسي، فما روي عن رسول الله صلی الله عليه و آله يختلف عما روي عن أصحاب الكساء لاختلاف الدور والمرحلة، ودائما البدايات هي صاحبة الهيمنة كون التأسيس فيها، ولا تحتاج إلى تفاصيل كثيرة كالتي يتطلبها عصر الإمام الصادق علیه السلام مثلا والذي ضخ الكثير من التفاصيل المتعلقة بفروع الأحكام، حتى سمي الإمامية الاثني عشرية بالمذهب الجعفري.

ص: 64

الندبة من سنن المعصومين

الندبة للإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف سنة من سنن المعصومين علیهم السلام، وقد روي في ذلك الكثير.

منها ما رواه الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنین علیه السلام، قال: «أتيت أمير المؤمنين فوجدته متفكرا ينكت في الأرض، فقلت: يا أمير المؤمنين ما لي أراك متفکرا تنكت في الأرض، أرغبة منك فيها؟ قال: لا والله ما رغبت فيها ولا في الدنيا يوما قط، ولكني فكرت في مولود يكون من ظهر الحادي عشر من ولدي، هو المهدي الذي يملأها عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا، يكون له حيرة وغيبة يضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون، فقلت: إن هذا الكائن ؟، قال: نعم كما أنه مخلوق، فإني لك بهذا الأمر يا أصبغ، أولئك خيار هذه الأمة مع خيار أبرار هذه العترة، قلت: وما يكون بعد ذلك؟ قال: الله يفعل ما يشاء، فإن لله إرادات وبداءات وغايات ونهايات»(1).وكذلك ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام، عن سدير الصيرفي، قال: دخلت أنا والمفضل بن عمر، وأبو بصير، وأبان بن تغلب على

ص: 65


1- الشيخ المفيد، الاختصاص، ص209

مولانا أبي عبد الله الصادق علیه السلام فرأيناه جالسا على التراب وعليه مسح خیبري مطوق بلا جيب، مقصر الكمين، وهو يبكي بكاء الواله الئکلی، ذات الكبد الحري، قد نال الحزن من وجنتيه، وشاع التغيير في عارضيه، وأبلى الدموع محجريه وهو يقول: «سيدي غيبتك نفت رقادي، وضيقت علي مهادي، وابتزت مني راحة فؤادي، سيدي غيبتك أوصلت مصابي بفجايع الأبد، وفقد الواحد بعد الواحد يفنى الجمع والعدد، فما أحس بدمعة ترقی من عيني وأنين يفتر من صدري عن دوارج الرزایا وسوالف البلايا إلا مثل بعيني عن غوابر أعظمها وأفظعها، وبواقي أشدها وأنكرها ونوائب مخلوطة بغضبك، ونوازل معجونة بسخطك.

قال سدیر: فاستطارت عقولنا ولها، وتصدعت قلوبنا جزعا من ذلك الخطب الهائل، والحادث الغائل، وظننا أنه سمت لمكروهة قارعة، أو حلت به من الدهر بائقة، فقلنا: لا أبكي الله يا ابن خير الورى عينيك، من أية حادثة تستنزف دمعتك وتستمطر عبرتك ؟ وأية حالة حتمت عليك هذا المأتم ؟.

قال: فزفر الصادق علیه السلام زفرة انتفخ منها جوفه، واشتد عنها خوفه، وقال: ويلكم نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم، وهو الكتاب المشتملعلى علم المنايا والبلايا والرزايا وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، الذي خص الله به محمدا والأئمة من بعده علیهم السلام ، وتأملت منه مولد قائمنا وغيبته وإبطاءه و طول عمره، وبلوى المؤمنين في ذلك الزمان، وتولد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته، وارتداد أكثرهم عن دينهم وخلعهم ربقة الاسلام من أعناقهم التي قال الله تقدس ذكره:«وَکُلَّ

ص: 66

إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِی عُنُقِهِ »(1)-يعني الولاية - فأخذتني الرقة، واستولت على الأحزان....»(2).

أيضا ما رواه دعبل الخزاعي عن الإمام الرضا علیه السلام، قال: أنشدت مولاي الرضا علي بن موسى علیهم السلام قصيدتي التي أولها:

مدارس آیات خلت من تلاوة*** ومنزل وحي مقفر العرصات

فلما انتهيت إلى قولي:

خروج إمام لا محالة خارج*** يقوم على اسم الله والبركات

يميز فينا كل حق وباطل*** ويجزي على النعماء والنقمات

بکی الرضا علیه السلام بكاء شديدا، ثم رفع رأسه إلى فقال لي: «یا خزاعي، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين...».(3)

كذلك بكاء الإمام الجواد علیه السلام على الإمام المهدي عج الله تعالی فرجه شریف ، روی الصقر بن أبي دلف قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا علیهم السلام، يقول: «إن الإمام بعدي ابني علي، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن، أمره أمر أبيه، وقوله قول أبيه، وطاعته طاعة أبيه، ثم سكت، فقلت له: يا ابن رسول الله فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى بكاء شديدا ثم قال: إن من بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر، فقلت له: يا ابن رسول الله لم سمي القائم؟ قال: لأنه يقوم بعد موت ذکره، وارتداد أكثر القائلين بإمامته، فقلت له: ولم سمي المنتظر؟ قال: لأن له

ص: 67


1- سورة الإسراء، الآية 13.
2- الطوسي، الغيبة، ص173.
3- الصدوق، عیون أخبار الرضا، ج1، ص297، ح 35.

غيبة تكثر أيامها ويطول أمدها، فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون ويستهزئ بذكره الجاحدون ويكذب فيها الوقاتون، ويهلك فيها المستعجلون وينجو فيها المسلمون»(1).

أيضا بكاء الإمام الحسن العسكري علیه السلام، قال أبو سهل في رواية طويلة: «...فلما مثل الصبي - أي الإمام المهدي علیه السلام –بين يديه سلم وإذا هو دري اللون، وفي شعر رأسه قطط، مفلج الأسنان، فلما رآة الحسن بکی...»(2).

عندما يقضي معصوم ليلة كاملة أو ليالي وهو يبكي على صاحب الزمان عجل اللخ تعالی فرجه شریف، ويناديه بهذا القول: «سيدي غيبتك نفت رقادي»، فأي جفاء هذا الذي نعيشه نحن مع إمام زماننا أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، في قبال هذا الذي يصدر من آبائه الطاهرين في التعامل معه!.

ص: 68


1- الصدوق، کمال الدین وتمام النعمة، ج2، ص378.
2- الطوسي، الغيبة، ص272؛ والمجلسي، بحار الأنوار، ج52، ص16.

الفصل الرابع: الدعاء ومنهج التعامل مع الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف

اشارة

- دوام الاستشعار بالمهدي عجل الله تعالی فرجه شریف

- المسؤولية مطلقة

-سيد الشهداء حافظ للمشروع المهدوي

- من ينصر من؟

- الأمل وأثره في الصبر والثبات

- وجود الإمام الدائم في الساحة

ص: 69

ص: 70

دوام الاستشعار بالمهدي عجل الله تعالی فرجه شریف

الإمام الصادق علیه السلام - في الرواية - يخاطب الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف ب (سيدي) ويتحدث معه كأنه يقف الآن أمامه.

بهذه الطريقة، وهذا النهج يريد الأئمة سلام الله عليهم أن نرتبط بصاحب الزمان علیه السلام، أن نشعر به ونستشعر وجوده المقدس، فهو لا زال يستنصرنا ويجدد لنا باستمرار نداء جده الحسین علیه السلام: «هل من ناصر ينصرنا».

والمسؤولية الآن كلها ملقاة على المؤمنين، وبكاء أجداده عليه لثقل المسؤولية وكثرة الخاذل له مع قلة الناصر!

وإبليس يحاول باستمرار أن يمنع المؤمن عن مسؤوليته، ويحاول تجنيده بطرق مختلفة حتى لا يرتبط بمشروع الإمام المهدي الأساسي، ودورالمؤمنین رکن مهم في المشروع المهدوي (الركن الثالث) والذي أشار إليه دعاء الندبة.

وهو أيضا ما يشير إليه الإمام الصادق علیه السلام في رواية سدير الصيرفي.

فعلى المؤمن استشعار دولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف ووجوده المبارك بكل كيانه وجوارحه، وبما دأب عليه علمائنا الأبرار شكر الله سعيهم جيلا

ص: 71

بعد جيل، من أجل تربية الأمة على الأرتباط بالإمام علیه السلام من خلال دعاء الندبة وذكر الإمام عجل الله تعالی فرجه شریف على الدوام.

وهذه التربية هي بالأساس نهج الأئمة علیهم السلام مع هذه الأمة، واستمر عليها علماؤنا الأبرار قدس الله أرواحهم، وهذا الاستمرار هو لغرض ترويض النفس وتطويعها للمشروع المهدوي، والخلاص من براثن إبليس وکیده، بحيث يكون المؤمن قادرة باستمرار على الخلاص كلما وقع في شراك الغفلة.

ومن أعظم طرق الاستشعار التي ضربها الله سبحانه لنا مثلا حسب بیانات أهل البيت علیهم السلام في سورة «يوسف»ونهج يعقوب النبي علیه السلام والذي ما فتئ يذكر ولده يوسف علیه السلام طوال مدة غيبته حتى خاف عليه أهله، لأنه ذكر مع استشعار الحزن والتأوه!، وهذا ما أبقى جذوة العشق والأرتباط مستمرة، «قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْکُرُ یُوسُفَ حَتَّی تَکُونَ حَرَضًا أَوْ تَکُونَ مِنَ الْهَالِکِینَ *قَالَ إِنَّمَا أَشْکُو بَثِّی وَحُزْنِی إِلَی اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ »(1).

ولأنه يعلم أن هناك مشروع سيأتي، ويعلم أيضا أن الله سیمکن يوسف علیه السلام في الأرض بقي علیه السلام منتظرا للفرج مستعدا له على الدوام، بل إنه حاول باستمرار أن يعيد أولاده الغافلين إلى طريق الهداية والخلاص «یَا بَنِیَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن یُوسُفَ وَأَخِیهِ وَلَا تَیْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا یَیْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْکَافِرُونَ»(2)، وهذا أول طريق الهداية (تحسسوا) أي (استشعار) وهو بداية الأيمان العملي والفعلي.

ص: 72


1- سورة يوسف، الآيتان 85-86
2- سورة يوسف، الآية 87.

المسؤولية مطلقة

ما ذكر في دعاء الندبة من مسؤوليات الإمام - ليس كما تصوره البعض أنها مسؤوليات مرحلة الظهور، بل الحقيقة أنها مطلقة.

وقد ورد عن الأئمة علیهم السلام بطرق متعددة انهم لو وجدوا أنصارا مخلصين لنهضوا بالأمر(1)، وهذا يعني أن الأئمة علیهم السلام وجدوا أن البيئة المعاصرة لهم ضعيفة، لذا شرعت التقیة لعدم توفر الظرف المناسب، فاحتاج الأمر إلىتجميد مؤقت لبعض المشاريع، لكن هذه البيئة ليست أولوية يجب الحفاظ عليها، بل المطلوب إزالة هذه الموانع، وتحويل الوضع من التقية إلى تغيير المجتمع وتوفير القوة اللازمة للقيام بالأمر، صحيح أن التقية حكم شرعي، وقد ورد عن الأئمة علیهم السلام: «التقية ديني ودين آبائي»ولكن اللازم هو تبدیل موضوعها، بدليل تلك الأحاديث الواردة عن أهل البيت علیهم السلام في تعليل أسباب عدم نهوضهم بالأمر، وهذا

ص: 73


1- ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام أنه قال بعد وفاة رسول الله - وحادثة السقيفة : «لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم».وكذلك ورد عن الإمام الحسن علیه السلام عن سبب الصلح أنه قال: «والله ما سلمت الأمر إليه إلا أني لم أجد أنصارا، ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه».

يدل على أن الأولوية بعينها في قوله تعالى:«وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّکُمْ »(1)

يجب على المؤمن أن يبني قوته في جميع المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لأنه بها ينتصر.

ويجب التنبه إلى أمر مهم، وهو أن كل الفرائض لها توقيت معین الصلاة والصوم والحج والخمس والزكاة، إلا الولاية فهي في كل زمان ومكان، وغيرمقيدة بأي شيء،«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللَّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الْأَمْرِ مِنکُمْ »(2)، كل آيات الولاية لا تقيد بزمان أو مكان، حتى آية إعداد القوة غير مقيدة بسقف معين، وهذا ما أشير إليه في دعاء الندبة: «أين المعد لقطع دابر الظلمة، أين المنتظر لإقامة الأنمي والمموج، أين المترتجي لإزالة البخور والعدواني..»(3).

هذه الواجبات أولية بالنسبة لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، وكذلك الأئمة من قبله، ولكن لظروف التقیة بسبب نقص القوة شرعت التقية وتبقى محاولات إزالة الظرف الخاص قائمة.

ص: 74


1- سورة الأنفال، الآية 60.
2- سورة النساء، الآية 59.
3- مقطع من دعاء الندبة.

سيد الشهداء حافظ للمشروع المهدوي

طبعا الإنسان متى يفقد الأمل سينكسر ويفقد القدرة على المقاومة، ولكن الحقيقة المسلمة أن هناك حافظ لهذا المشروع الإلهي، وهو الدور الذي قام به سید الشهداء علیه السلام، وهذا السبب الذي جعل كل الأنبياء والرسل في ذكر مستمر لسيد الشهداء، فالحسين علیه السلام قطع الطريق على المتربصين بدين النبي المصطفى صلی الله علیه و آله بهذه التضحية العظيمة، لأن ما قام به سيد الشهداء كان هو الضمان لحفظ الدين وقطع الطريق أمام الأمويين وأمثالهم من أعداء الإسلام.

وهنا أيضا تتضح الفلسفة والغاية في شعائر سيد الشهداء في أنها استمرار لقطع الطريق أمام النواصب والقوى العظمى لضرب الدين ومحوه، أو حتى التلاعب به ومسخ صورته الحقيقية، بل هو مانع عن إنزلاق نفس المؤمنين من حيث يشعرون أو لا يشعرون، عن قصور أو تقصير.

الشعائر الحسينية هي حفاظ على هوية الدين، وحقيقة نبض الدين وفلسفته، وتذكير بالمبادئ بشكل دائم ومستمر، لأنها نبض حي للمبادئ والقيم.

ص: 75

من ينصر من؟

الإمام الحسين علیه السلام والإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف، من ينصر من؟.

الحقيقة أن الإمام الحسين علیه السلام ينصر ولده المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف، لأن القضية الحسينية أصبحت معسكر أساسي لتجنيد الأنصار للإمام المهدي علیه السلام، وحتى تكون جنديا في المشروع المهدوي لا بد أن تمر بهذا المعسكر، فهو الذي يؤهلك ويجعلك مدربة لنصرة صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، لذلك هذه الأجيال تلقائيا تجد نفسها مهيئة لأن تكون مهدوية، وهذا هو نصر الإمام الحسين لصاحب العصر والزمان علیهم السلام، وهذا ليس شعرا، بل هي حقائق حضارية وعلمية، وفيها الكثير من الأدلة والبراهين.

أما نصرة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف لجده الحسين علیه السلام فهي نصرة حقيقية، سواء كانت فعلية أم لاحقة.

ص: 76

الأمل وأثره في الصبر والثبات

ما جرى على لوط علیه السلام لما اتي قومه ليراودوا أضيافه:«قَالَ لَوْ أَنَّ لِی بِکُمْ قُوَّةً أَوْ آوِی إِلَی رُکْنٍ شَدِیدٍ »(1)، في روايات أهل البيت أن المقصود من هذا الكلام هو نوع استغاثة بصاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشريف) من قبل النبي «هود»(2)علیهم السلام.

والواقع أن فلسفة التسلية والسلوى والأمل شيء عظيم، لهول المصائب التي تجري على الأنبياء والرسل، بل وعلى أئمة أهل البيت علیهم السلامب، «أين المنتظر لأقامة الأمت والعوج، أين المعد لقطع دابر الظلمة...».

وفي علم النفس أن الأمل هو مصدر قوة الصبر والتحمل والثبات والاستقامة، وانعدام الأمل عند الإنسان هو إنهيار أرادته.

ص: 77


1- سورة هود، الآية 80.
2- عن أبي بصير : قال أبو عبد الله علیه السلام: «ما كان قول لوط علیه السلام لقومه :«قَالَ لَوْ أَنَّ لِی بِکُمْ قُوَّةً أَوْ آوِی إِلَی رُکْنٍ شَدِیدٍ ُ»، إلا تمنيا لقوة القائم علیه السلام، ولا ذكر إلا شدة أصحابه، وإن الرجل منهم ليعطي قوة أربعين رجلا، وإن قلبه لأشد من زبر الحديد، ولو مروا بجبال الحديد لقلعوها، ولا يكفون سيوفهم حتى يرضى الله عز وجل».(الصدوق، کمال الدین وتمام النعمة، ص673) عنه (إثبات الهداة، الحر العاملي، ج3، ص 494... وبحار الانوار، المجلسي، ج52، ص327).

وجود الإمام مع وجود الأمل يولد النشاط والحيوية، وبالصبر تكون المقاومة.

فإن قيل: لماذا يستغيث النبي لوط علیه السلام بصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف مع علمه بالبعد الزمني بينهما؟

والجواب: أن لوط علیه السلام مساهم في ضمن سلسلة بمشروع كبير، وهو يعلم أن نتاج هذا الزرع لن يضيع

فهناك من يحافظ عليه، وهنا تنبثق الحيوية والنشاط والإرادة في المضي إلى النهاية في المساهمة في هذا الزرع الإلهي المبارك.

والاستغاثة بصاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه) فلسفة إلهية سواء أتاك الغوث العاجل أم تأخر عنك، ففيها من الإيجابيات والنتائج العظيمة الشيء الكثير، منها بقاء الإصرار والإرادة عندك بحيث لا يذهب جهدك وعملك سدى، والاستغاثة بصاحب العصر والزمان لها دور في بعث النشاط والأمل.

ص: 78

وجود الإمام الدائم في الساحة

الاعتقاد أن غيبة الإمام الثاني عشر عجل الله تعالی فرجه شریف تبرر الآن كل الأصطفافات السياسية والعسكرية والأمنية وهم كبير. الولاية هي الفريضة الوحيدة في القرآن والتي لم تقید بكل تشعباتها بقید زماني أو مکاني، «ولي لمن والاكم، وعدو لمن عاداكم».

فمن يوالي صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف يستطيع أن يشخص سياساته التدبيرية، أما من لا يشخص فهو من يعتقد بالمفهوم الخاطئ لغيبته علیه السلاموهو بهذا يقول بالجمود والإقصاء، والعياذ بالله.

الحق والاعتقاد الحق أن هناك محميات يحامي عنها عسكريا صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشریف)، كدار الإيمان والمراقد المقدسة لآبائهواجداده وغيرها، حتى الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، ولو بتدبير خفي.

يجب أن يكون هناك ولاء ثقافي وسياسي وعسكري للإمام علیه السلام، ولا يسوغ للمؤمن أن يتهاون بأسرار الإيمان وتذاع حتى تصل إلى الأعداء والخصوم

بل هناك مسؤولية امنية، «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».

ص: 79

منطق رسول الله صلی الله علیه و آله، وكذلك منطق أهل بيته من بعده هو أن الكل مسؤول في الإعداد والاستعداد للمشروع الألهي، إذن هذه المسؤوليات العظيمة لا يعطل منها شيء، نعم لا بد للإنسان المؤمن في مسؤولياته أن يهيئ الأرضية والمقدمات لمشروعه، ليكون البناء على أسس رصينة.

ص: 80

الفصل الخامس: الدعاء وضرورة الارتباط بالمهدي ( عجل الله تعالی فرجه الشریف)

اشارة

- ميزان التواصل مع الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف

- نوع الأرتباط بالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف

- رؤية الإمام علیه السلام دليل على وجوده.

- حجية التشرف برؤية الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف

- الحجية الأكمل والأتم

ص: 81

ص: 82

ميزان التواصل مع الإمام المهدي علیه السلام

العلاقة بين المؤمنين الموالين لأهل البيت صلوات الله عليهم، وبين إمام زمانهم عجل الله تعالی فرجه شریف ، هل هي بطبيعتها مقطوعة أو موصولة؟

هذه الجدلية ليست نزاع بقدر ما هي میزان لطبيعة هذه العلاقة.

أحد طرق الارتباط هو الارتباط القلبي والفكري، وليس فقط الحسي العيني، فهو لا ينحصر بالنوع الثاني، وقد تقل عن الكثير من الأعلام أنه لدى بعض علماء الإمامية الحظوة والارتباط مع صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، وهذا الارتباط ليس بالضرورة أن يكون جغرافيا، كالسلطان الذي يحكم بلدا كبيرا ويوجد لديه الوزراء والقادة الذين لا يراهم أحد من الناس، ولكن مع ذلك هم من يدير تلك المملكة ويسير شؤونها، لأن الجغرافيا لا تحدد دائما طبيعة العلاقة.

والتوقيع الوارد عن صاحب العصر والزمان علیه السلام إلى السفير الرابع علي بنمحمد السمري، والمقطوع بصدوره عند الطائفة، يحدد هذه العلاقة، فقد ورد في التوقيع المبارك: «بسم الله الرحمن الرحيم، یا علي بن محمد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك، ولا توصي إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية (التامة)، فلا ظهور إلا بعد إذن الله (عزوجل)،

ص: 83

وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جورا، وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»(1).

نوع العلاقة موجود بعدة ألسن، سواء في دعاء الندبة أو الزيارات الكثيرة الأخرى الواردة بحقه علیه السلام: «السَّلامُ عَليكَ أيُّها العَلمُ المَنْصُوبُ والعِلمُ المَصُبوبُ، والغوثُ والرَّحمةُ الواسعةُ وَعْداً غَيْرَ مَكْذُوبٍ»(2) فالغوث يعني أن تتمسك به لكي يغيثك، وكذلك دعاء الفرج ودعاء المؤمنين له، وكذلك الكثير من الروايات عن آبائه بالتشديد على ضرورة التمسك به عجل الله تعالی فرجه شریف.

عن يونس بن عبد الرحمن قال: دخلت على الإمام موسی بن جعفر الكاظم علیه السلام: فقلت له: يا ابن رسول الله أنت القائم بالحق؟ قال: «أنا القائم بالحق، ولكن القائم الذي يطهر الأرض من أعداء الله، ويملأها عدلا كما ملئت جورا هو الخامس من ولدي، له غيبة يطول أمدها خوفا على نفسه ، يرتد فيها أقوام ويثبت فيها آخرون، ثم قال علیه السلام : طوبى لشيعتنا المتمسكين بحبنا في غيبة قائمنا، الثابتين على موالاتنا والبراءة من أعدائنا، أولئك منا ونحن منهم، قد رضوا بنا أئمة ورضينا بهم شيعة، فطوبى لهم ثم طوبى لهم، هم والله معنا في درجتنا يوم القيامة»(3).

فالثبات هنا هو ثبات سیاسی وعقائدي وعسكري أمني.

إذن هنا لونين للعلاقة مع صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، وليس بينهما

ص: 84


1- الصدوق، کمال الدین، ج2، ص516. والطوسي، الغيبة، ص 243،242
2- مقطع من زيارة آل یاسین.
3- الصدوق، کمال الدين : ص 361 ب 34 ه

تناقض أو تنافي، بل هما يحددان میزان العلاقة بالإمام المهدي علیه السلام، أحدهما يدعي له صفة رسمية في الارتباط مع صاحب العصر والزمان وهذا أمر باطل، فمن يدعي الارتباط الرسمي بعد السفير الرابع فهو مارق عن الدين، وكاذب، ومنحرف عن الصراط المستقيم، حسب ضرورة وتسالم أعلام الطائفة قدس الله أرواحهم.

هذا النمط من الارتباط الباطل لفترة محدودة، وهو - حسب التوقيع الشريف - إلى زمان خروج السفياني والصيحة التي سيسمعها كل إنسان بلغته، وهي نهاية الغيبة الكبرى وبداية الظهور الأصغر، وهو بحسب بعض الروايات يستمر لستة أشهر، وسيكون له نواب خاصين.

أما النيابة العامة فهي دور الفقهاء ونیابتهم في زمن الغيبة الكبرى، وهي مذكورة في القرآن الكريم، وفي مرويات أهل البيت علیهم السلام.

في نص القرآن الكريم قوله تعالى:«إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِیهَا هُدًی وَنُورٌ ۚ یَحْکُمُ بِهَا النَّبِیُّونَ الَّذِینَ أَسْلَمُوا لِلَّذِینَ هَادُوا وَالرَّبَّانِیُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن کِتَابِ اللَّهِ وَکَانُوا عَلَیْهِ شُهَدَاءَ »(1).فالأحبار هم الفقهاء.

وكذلك الحديث الوارد عن صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم ځجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم»(2).

ص: 85


1- سورة المائدة، الآية 44.
2- الصدوق، کمال الدين وإتمام النعمة، ص 484، ب45؛ والحر العاملي، وسائل الشيعةج27، ص140، 11، ح 33426، من أبواب صفات القاضي.

نوع الارتباط بالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف

من وظائف المؤمن هو شدة الارتباط بالإمام المهدي علیه السلام: «هَلْ مِنْ مُعِينٍ فَأُطِيلَ مَعَهُ الْعَوِيلَ وَالْبُكاءَ هَلْ مِنْ جَزُوعٍ فَأُساعِدَ جَزَعَهُ إِذا خَلا هَلْ قَذِيَتْ عَيْنٌ فَساعَدَتْها عَيْنِي عَلَى الْقَذَى... عزيز علي أن أرى الخلق ولاترى»(1).

بغض النظر عما إذا كان الإنسان صادقا أو كاذبا في إدعائه «عزیز علي أن أرى الخلق ولا تری»فالإمام لا يستطيع أن يكشف هويته، لعدم وجود القوة التي تحميه من بطش الأعداء في الشرق والغرب!، فالاتصال بصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف يا ليس بدرجة الانقطاع التام، لأن هذا جحود وإنكار لأصل إمامةالإمام علیه السلام.

وإذا كان الشخص يعتقد أن صاحب العصر والزمان حي يرزق ويدبر الأمور العامة للبشر، لكن طريق الارتباط به منقطعة تماما، هذا أيضا درجة من درجات جحد إمامته علیه السلام.

والصحيح، لا هو إنقطاع تام، بمعنى الجحود والأنكار له علیه السلام، ولا هو وصال تام، بمعنى السفارة والوساطة الرسمية، فهذا في منهاج مدرسة أهل البيت علیهم السلام هو الآخر باطل.

ص: 86


1- مقطع من دعاء الندبة.

الكليني رحمه الله عقد لهذه المسألة جملة من الأبواب في «أصول الكافي»، وكذلك «الصدوق»في «كمال الدين»، والطوسي في الغيبة، والنعماني تلميذ الكليني أيضا في كتاب الغيبة، وكذلك الشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والسيد بن طاووس، كل هؤلاء الاعلام وغيرهم، عندهم إصرار كبير على تثبيت التشرف بالرؤيا، مع إبطال السفارة والنيابة الخاصة لمن يدعيها في الغيبة الكبرى، وإبطال المشاهدة والوساطة الرسمية في الوقت الذي يصرون فيه على وقوع الرؤيا، يعني اصرار على عدم الانقطاع التام.

وهذا هو مسلك علماء الإمامية، وهي الوسطية في العلاقة مع الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف.

ص: 87

رؤية الإمام علیه السلام دليل على وجوده

ما ورد في كتب الشيعة الإمامية عن فقهاء الطائفة وعلمائها بتشرف البعض برؤية صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف و جعله الفقهاء من الأدلة على وجود الإمام المهدي عليه السلام، وهو لا يناقض نص التوقيع الشريف، لأن التشرف بالرؤية مع عدم إدعاء النيابة الخاصة، لا مشكلة فيه. وقد روى الأعلام من الإمامية في كتبهم، كالميرزا النوري رحمه الله حيث ألف كتابا خاصا فيمن فاز برؤية صاحب العصر والزمان، وهو الأن طبع مع البحار في المجلد الثالث والخمسون. وهذا نوع من أنواع الأرتباط بالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف

ص: 88

حجية التشرف برؤية الإمام (عجل الله فرجه)

الإجماع التشرفي يختلف عن الإجماع اللطفي، والتعبدي، والتسالمي كما يعبر الأصوليون، فالإجماع التشرفي هو أضعف من زاويتين أو أكثر عن بقیه مراتب الإجماع، وهو حجة على من تشرف فقط، وليس على غيره، ولا يعتمد عليه كحجة، ولا حتى كرواية ظنية، وإذا كان الأمر كذلك فما هي ثمرة هذاالتشرف؟.

الحق أن فيه ثمرة هم يعطوها الأهتمام إذا لم تخالف الكتاب والسنة، أو البديهيات المأثورة عن الأئمة المعصومين علیهم السلام، صحيح أن نقل من تشرف إلى من لم يتشرف باللقاء ليس حجة ظنية أو حسية، ومع ذلك يبنون على أنها ليست عديمة الفائدة.

والشيخ الطوسي في المصباح ينقل أدعية ليست منقولة عن النواب الأربعة، بل هي منقولة عن تشرف باللقاء في زمن الغيبة الكبرى، وكذلك الشيخ المفيد في المزار وفي موارد متعددة، مع أن الأعلام يقولون إن الأجماع التشرفي حتى لمن تشرف هو أضعف حجة من الإجماع اللطفي، وكذلك التسالمي والتعبدي، لضابطة وسطية يعتمد عليها علماء الإمامية وهي أن السبب ليس في المعصوم، وإنما في من تلقي عن المعصوم، حتى

ص: 89

لو كان التشرف واقعا وليس فيه خطأ ما، ففهم غير المعصوم وسمعه أيضا لا يتصفان بالعصمة، لأن التلقي من غير المعصوم

ويمكن ملاحظة ذلك في القرآن الكريم، فإنه لا يكفي العصمة من المنبع، بل لا بد من العصمة في المتلقي حتى يكون الملقى وحيا بالحق

«وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ۗ وَمَا أَرْسَلْنَاکَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِیرًا»(1)، فالوحي معصوم من الله، والمتلقي معصوم بالنبي صلی الله عليه و آله، لذا أجمع علماء الإمامية أن المصحف الشريف لا يمكن أن يكون وحيانيا بنقل إجماع الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين من دون المعصوم، لذلك قالوا إجماع الأمة ليس بحجة ومقصودهم هي الحجة الوحيانية، فالحجة الظنية والتواتر الحسي موجود لكن من دون إمام معصوم ينزل عن الحجية الوحيانية.

ص: 90


1- سورة الأسراء، الآية 105.

الحجية الأكمل والأتم

الحجة الوحيانية هي الأكمل والأتم والتي لا يشوبها شك أبدا، في حين أن الحجية الحسية - على سبيل المثال - ممكن فيها الاشتباه، والنص القرآني واضح في ذلك:«وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِیحَ عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَکِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِینَ اخْتَلَفُوا فِیهِ لَفِی شَکٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ یَقِینًا»(1)، وهذا الاشتباه في الحس أثبتت الدراسات وقوعه، والعقل عادة يصحح هذا الاشتباه، وفي قصة عیسی علیه السلام الوحي هو من صحح اشتباه الحين لدى اليهود بزعمهم قتل المسيح علیه السلام.

لا يمكن باليقين الحي الوصول إلى نتيجة وحيانية لا شائبة فيها، وإلا سيكون القرآن الكريم الذي مستنده رواة الصحابة بالتواتر كتابا تاريخيا بشريا والعياذ بالله، ويتم إثبات وحيانية القرآن الكريم بوجود صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف فهو السبب المتصل بين الأرض والسماء.

فتلقي غير المعصوم - على جلالة قدره - کزرارة ومحمد بن مسلم وغيرهم من الأكابر لا يجعل هذا التلقي وحيا، غاية الأمر أن هذا الوحي

ص: 91


1- سورة النساء، الآية 157.

الذي ألقاه الإمام الصادق عليه السلام بسبب المتلقي غير المعصوم تلون وهبط من المستوى الوحياني إلى المستوى الحسي الظني.

هذا المستوى الحسي والظني يعتمد على محكمات القرآن الكريم، والمتواترات الوحيانية من سنة النبي والعترة الطاهرة عليهم الصلاة والسلام، تلك المحكمات ليس بتلقي الأفراد بل هناك حافظ لوحيانيتها وهو إمام العصر في كل زمان.

لذلك نحن نقول أن تلقي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه سلام عن رسول الله صلی الله عليه و آله يختلف عن تلقي جميع الصحابة، لأن تلقي الصحابة حسي ظني، أما تلقي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام هو تلقي وحياني معصوم من معصوم،«لِنَجْعَلَهَا لَکُمْ تَذْکِرَةً وَتَعِیَهَا أُذُنٌ وَاعِیَةٌ »(1)، فالصحابة يشتبهون في النقل عن رسول الله صلی الله عليه و آله بعمد أو غيره، ولهذا بقي الاجتهاد مفتوحا عند الإمامية، لأن تلقي العلماء الفقهاء عن المعصوم ليس معصوما، وهو قابل للتخطئة.

والتشرف بلقاء صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف ليس بحجة ولكنه إرشاد لشيء غفل عنه الإنسان، والحجية تبقى لمحكمات الكتاب والسنة.

ص: 92


1- سورة الحاقة، الآية 12.

الفصل السادس: أثرالبكاء في تقريب المسافات

اشارة

- البكاء إحساس بالمسؤولية

- أثر البكاء في الشحن الروحي

- دعاء الندبة مدرسة تربوية

- الممارسة اليومية للحب والمودة

- دوام الذكر يولد المحبة

- الدمعة آية المحبة

ص: 93

ص: 94

البكاء إحساس بالمسؤولية

فلسفة دعاء الندبة استثارة حس المسؤولية لدى المحبين، «هَلْ مِنْ مُعِينٍ فَأُطِيلَ مَعَهُ الْعَوِيلَ وَالْبُكاءَ ؟ هَلْ مِنْ جَزُوعٍ فَأُساعِدَ جَزَعَهُ إِذا خَلا ؟ هَلْ قَذِيَتْ عَيْنٌ فَساعَدَتْها عَيْنِي عَلَى الْقَذَى؛هَلْ إِلَيْكَ يَابْنَ أَحْمَدَ سَبِيلٌ فَتُلْقى ؟ هَلْ يَتَّصِلُ يَوْمُنا مِنْكَ بِعِدَةٍ فَنَحْظى ؟ مَتَى نَرِدُ مَناهِلَكَ الرَّوِيَّةَ فَنَرْوَى ؟ مَتَى نَنْتَقِعُ مِنْ عَذْبِ مائِكَ فَقَدْ طالَ الصَّدى ؟ مَتى نُغادِيكَ وَنُراوِحُكَ فَنُقِرَّ عَيْناً ؟ مَتى تَرانا وَ نَراكَ وَقَدْ نَشَرْتَ لِواءَ النَّصْرِ تُرَى أَتَرَانا نَحُفُّ بِكَ وَأَنْتَ تَؤُمُّ الْمَلَأَ وَقَدْ مَلَأْتَ الْأَرْضَ عَدْلاً، وَأَذَقْتَ أَعْداءَكَ هَواناً وَعِقاباً، وَأَبَرْتَ الْعُتاةَ وَجَحَدَةَ الْحَقِّ، وَقَطَعْتَ دابِرَ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَاجْتَثَثْتَ أُصُولَ الظَّالِمِينَ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»(1).

هذه الرغبة والشوق هي غاية من غايات دعاء الندبة، لأن شدة المحبة والحنين هي التي تخلق المسؤولية «سيدي غيبتك نفت رقادي، وضيقت علي مهادي، وابتزت مني راحة فؤادي»الإحساس بالمسؤولية هو الذي يسلب المؤمن راحته!، الإحساس الكبير بالمسؤولية يصدم حب الذات والأنا، وهنا تكمن الفلسفة العظيمة لدعاء الندبة.

ص: 95


1- مقطع من دعاء الندبة .

وهذا لا يشير فقط إلى تقصير الموالين بل حتى المخالفين، وإلا كيف يفسر موقف أهل المدينة بعد وفاة رسول صلی الله علیه و آله ، عندما مارست الزهراء سلام الله عليها دورها في البكاء والحنين.

أتى القوم إلى أمير المؤمنین علیه السلام وعبروا عن إنزعاجهم من كثرة بكاء الصديقة الطاهرة، وطلبوا منه أن يخيرها بين البكاء ليلا أو نهارا، مع أنه لم تمض أيام كثيرة على وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله.

هذا المنطق هو الذي يريده الطرف الآخر، لا يريد للشوق والحنين الرسول الله صلی الله علیه و آله أن يكون حسا للمسؤولية، «من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات»!!إنشداد المسلمين لرسول صلی الله عليه و آله في يوم رحيله يعتبرها عبادة لرسول الله مع أنها عين الإيمان.

هنا موقف الزهراء عليها السلام ، عندما رأت الفتور فيما بعد وفي الأيام الأولى من وفاة الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله من قبل المسلمين عز عليها ذلك، ولم تقبل لنفسها أن تتخلى عن دورها ومسؤوليتها وهي الحجة على الأمة، لأن ما تراه هو نوع من قلة الاهتمام بأبيها وهو سيد الخلق وتهوين لشأنه، وهذامن أكبر الكبائر.

وأسباب هذا التقصير الكبير واضح، وهو أن الحنين والمحبة والانشداد لرسول صلی الله علیه و آله لم يكن متوفرا عند من أخطأ بحقه بعد وفاته.

وأولئك يشابهون من يتحسس الان من مجالس سيد الشهداء وبكاء المؤمنين على ما جرى عليه وعلى أهل بيته عليهم الصلاة والسلام.

إن الفتور من قبل المؤمنين في هذا الجانب هو عقوق وإدبار عن أهل البيت علیهم السلام، وعن الوظيفة الإلهية المقررة.

ص: 96

زيادة الارتباط والحنين وشدة الشوق والمحبة في قلب المؤمن هي من الغايات المحورية في الزيارات والأدعية وخصوصا دعاء الندبة، لأنه بالنتيجة هذه الأمور هي التي ستثير في نفس المؤمن حس المسؤولية تجاه مشروع أهل البيت علیهم السلام .

ص: 97

أثر البكاء في الشحن الروحي

سنة البكاء على سيد الشهداء علیه السلام كانت قبل ولادته منذ بعث الأنبياء السابقين، وكذلك البكاء على صاحب العصر والزمان، والبلاء الذي يعيشه عجل الله تعالی فرجه شریف ومحنة غيبته الطويلة.

أمير المؤمنین علیه السلام، عندما شاهده أحد أصحابه وهو يتنفس الصعداء مهموما مغموما، فسأله عن سبب هذا الغم، فقال: همي وغمي لذكر غيبة ولدي المهدي وطول محنته.

وكذلك الأئمة عليهم السلام من بعد أمير المؤمنين علیه السلام، كانوا يعيشون الآم وهموم المهدي علیه السلام وهو لم يولد بعد.

فاجعة كربلاء ومصائبها الفظيعة بسفك الدماء الزاكية لسيد الشهداء وآل بيته وأصحابه وسبي عياله، ومصيبة صاحب الزمان في عظيم محنته بطول الغيبة، لا زالتا ماثلتين قائمتين، وهذا يعني أن المشروع الإلهي إلى الآن لم يتم، والسبب وقوف الظالمين في وجه هذا المشروع، والحيلولة دون تحقيق أهدافه.

لذا هذا البكاء على سيد الشهداء في مصيبته وعلى صاحب الزمان في محنة غيبته، لأن باطن هذا البكاء حب وولع بهما صلوات الله عليهما

ص: 98

وبمشروعهما، وبالتالي بالمشروع الألهي، فهو نوع من الخزن وشحن للطاقة الروحية الفاعلة لأنجاز هذا المشروع، والمكابدة في تحمل عظم المسؤولية لكي لا يتراجع المؤمن في وسط الطريق، لأنه ليس في تقدير الله الحكيم العبث في محن آل البيت علیهم السلام، بل هو رسالة وحيانية من الله سبحانه وتعالى أن مشروعهم عظيم، ويحتاج إلى مخزون إعدادي وروحي يستمر لقرون طويلة.

ص: 99

دعاء الندبة مدرسة تربوية

بهذا اللحاظ دعاء الندبة مدرسة تربوية وفلسفة عظيمة لصناعة الوله والحنين لأهل البيت علیهم السلام، سواء بصيغة البكاء عليهم أو بصيغ أخرى الغرض الإحساس بالمسؤولية.

وحقيقة المشروع الألهي الذي هو بجهد المعصومين علیهم السلام والأنبياء السابقين يتجسد الأن بصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، والمخاطرة به الآن هي مخاطرة بكل الجهود السابقة، بل هو تفريط بكل مصائب ومحن آل البيت علیهم السلام من خلال التفريط بغاية وجدوائية تلك المحن والمصائب.

ولهذا الألم وزفرة الحزن التي يبثها الإمام جعفر بن محمد الصادق علیهم السلام «سیدي غيبتك أوصلت مصابي بفجايع الأبد وفقد الواحد بعد الواحد يفنى الجمع والعدد...»كأن محنة الإمام المهدي علیه السلام و مصيبته في طول غيبته هي اختزال لكل المصائب والمحن التي مرت على المعصومین علیهم السلام.

لذلك ليس المطلوب قراءة دعاء الندبة فقط، بل المطلب الحقيقي هو الذروة في هذه القراءة، وهي اللوعة والألم ووجع القلب لهذه المصائب والمحن وإقامة حقيقة هذه العناوين، وهذه تحتاج إلى الصدق في العلاقة القلبية والروحية والفكرية لكي تحدث الأثر المطلوب.

ص: 100

عدم تحقيق المؤمن لهذه العناوين في نفسه يعني عدم الشعور بالمسؤولية، وعدم الشعور بالمسؤولية يعني عدم وجود تعلق فکري وقلبي وروحي بالمشروع المهدوي، وهذا بالضرورة ناتج عن عدم الفهم لمشروع الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف، وكل هذه الأمور تحتاج إلى معالجة فكرية معرفية كي نصل إلى هذه الدرجة من التعلق والوله، وبنود دعاء الندبة كما هي روحية قلبية، هي أيضا بنود فکرية معرفية، عدم التدبر فيها لا يصل الإنسان إلى مرحلة الشحن الروحي والطاقة اللازمة للمقاومة.

ص: 101

الممارسة اليومية للحب والمودة

يجب على الإنسان أن يمارس يوميا سنة التعلق بأهل البيت علیهم السلام لأنها ضرورة لتربية النفس، وهي باب مهم من أبواب العبادات. العبادة البدنية مقدسة، وهي تبقى معنا، ليس فقط إلى الموت بل وما بعده في البرزخ، ولكن ثمرتها اليومية أن توجد للإنسان رياضة روحية قطبها الحنين والمودة للنبي وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام.

الله سبحانه وتعالى أوجب اجر الرسالة على الأمة بالمودة في القربی:«قُل لَّا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی»(1)يعني في قبال كل هذه التضحيات العظيمة، وآثارها التي لا يمكن حصرها في العقيدة والتشريع والشعائر العبادية هي المودة للنبي وآله صلی الله علیه و آله

فحصر المحبة والمودة في القربی، یعني أن لب العبادة بكل تفاصيلهاوتفرعاتها مؤداها حب محمد وآل محمد.

ص: 102


1- سورة الشورى، الآية 23.

التقرب الروحي والفكري

هذه الندبة التي أقامها كل المعصومين سلام الله عليهم بطريقة وأخرى لذكر صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، كما ورد في الروايات بكاء عليه وحزنا المحنته في غيبته الطويلة.

بعض مرضى النفوس يعترض على هذه الندبة!، والجواب الدامغ يأتيه من القرآن الكريم ببيان سنة بكاء أقامها يعقوب النبي على ولده يوسف عليهم السلام .

البكاء على حجج الله سنة عبادية عظيمة، لم يذكرها القرآن الكريم إلا لكي نتعبد نحن أيضا بهذه السنة:«لَقَدْ کَانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِی الْأَلْبَابِ ۗ مَا کَانَ حَدِیثًا یُفْتَرَی وَلَکِن تَصْدِیقَ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ وَتَفْصِیلَ کُلِّ شَیْءٍ وَهُدًی وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ»(1).

فإذن البكاء على أصفياء الله وحججه شئة تعين على الأنشداد والحنين إليهم، لأن باطن البكاء هو وجد وإنجذاب للمحبوب.

في المناجاة الشعبانية عندما يناجي الإمام علیه السلام ربه بهذه الكلمات: «إلهي هب لي قلبا يدنيه من شوقه»هو بيان لدور الشوق کفعل قلبي من تقرب العبد لربه، فإذا إنعدم الشوق إبتعد القلب عن الله.

ص: 103


1- سورة يوسف، الآية 111.

بعض العناوين في دعاء الندبة تشير إلى فعل القلب هذا: « فَأَغِثْ يَا غِياثَ الْمُسْتَغِيثِينَ عُبَيْدَكَ الْمُبْتَلى، وَأَرِهِ سَيِّدَهُ يَا شَدِيدَ الْقُوَى، وَأَزِلْ عَنْهُ بِهِ الْأَسَى وَالْجَوَى، وَبَرِّدْ غَلِيلَهُ يَا مَنْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى..»الشوق واشتعال القلب به- الوارد في دعاء الندبة، وفي غيره من الأدعية والمناجاة - تدعونا إلى ضرورة التعامل مع تراث أهل البيت علیهم السلام بدقة وترؤي كبيرين، لأنه يحتوي على نواميس ومعادلات النجوی، فأنت أيها المؤمن تريد القرب وتشكو البعد؟ يجب أن تكون وسيلتك الشوق وهذا الشوق يحتاج إلى قلب واله ومتيم.

كان بعض الناس يعيش في زمن رسول الله صلی الله عليه و آله، لكن لم يكن في قلوبهم الشوق له، وهذا يعني بعدهم عنه، لأن قرب الأبدان لا يعني شيئا مع بعد القلوب.

والفكر أيضا يقرب الإنسان «إلهي هب لي قلبا يدنيه منك شوقه، ونظرا يقربه منك حقه»، الفكر إذا كان نافذ البصيرة أيضا يتقرب به الإنسان لربه، لأن قوة الفكر لها تأثيرها الخاص.

فإذا لم يكن شوق القلب مفتاحا للوصول إلى المحبوب، يمكن للفكر أن يكون طريقا آخر للوصول.

لكن يبقى الطريقين هما المطلوبين للوصول، لأنه لا يكفي الشوق مع عدم البصيرة!، أو قريب فكريا لكنه قاسي القلب ليس فيه شوق للمحبوب!، حتى لا يصبح هذا الإنسان عجيبا في تناقضاته، لأن المعادلة من طرفين وليست من طرف واحد، «إلهي هب لي قلبا يدنيه بينك شوقه ونظرا يقربه منك حقه».

ص: 104

هذه هي نقاط الاتصال بالساحة الإلهية، وبالتالى بساحة المعصومين علیهم السلام، فكل إنسان قريب شوقا من صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، ولكنه فكريا بعيد عنه فهذا محجوب، لأنه لا بصيرة له، ولو كان قريبا فكريا لكنه لا يشتاق لصاحب الزمان فهذه القساوة حتما ستجعله بعيدا عن الإمام علیه السلام.

هذه المعادلة مع الساحة الإلهية هي بعينها مع أولياء الله وحججه - فکر نافذ وبصير، مع قلب متيم وشوق کبیر - هكذا يكون القرب.

ص: 105

دوام الذكريوجد المحبة

هذا الحب يطهر قلب الإنسان من أوساخ الغفلة، ويعيده إلى ربه، ورد في المناجاة الشعبانية: «إِلَهِي لَمْ يكنْ لِي حَوْلٌ فَأَنْتَقِلَ بِهِ عَنْ مَعْصِيتِك إِلا فِي وَقْتٍ أَيقَظْتَنِي لِمَحَبَّتِك، وَكمَا أَرَدْتَ أَنْ أَكونَ كنْتُ، فَشَكرْتُك بِإِدْخَالِي فِي كرَمِك، وَلِتَطْهِيرِ قَلْبِي مِنْ أَوْسَاخِ الْغَفْلَةِ عَنْك»، فكلما تزداد أوساخ الغفلة على قلب الإنسان يزداد البعد عن الله سبحانه وتعالى حتى ينجس القلب، ولن يعود الإنسان إلا أن يشتغل القلب بالحب من جديد، وهذا بدوره لا يتم إلا بالذكر.

حب رسول الله وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام هو الأساس الذي ينطلق منه الإنسان في التكامل والقرب الإلهي، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: «وَرَفَعْنَا لَکَ ذِکْرَکَ »(1)، وهذا الرفع لأنه مقرون بذكر الله سبحانه وتعالى، وإدمان هذا الذكر هو الذي يفجر في قلب الإنسان الحب والشوق إلى المحبوب.

أبناء النبي يعقوب علیه السلام لم يستوعبوا شدة حنين وشوق أبيهم ليوسف علیه السلام:«قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْکُرُ یُوسُفَ حَتَّی تَکُونَ حَرَضًا أَوْ

ص: 106


1- سورة الشرح، الآية 4.

تَکُونَ مِنَ الْهَالِکِینَ»(1)، والمعصومون أيضا يتفاوتون في حبهم وحنينهم بحسب درجة عصمتهم، فأمير المؤمنين علیه السلام في حداده على رسول الله صلی الله عليه و آله على فاطمة الزهراء علیهما السلام لم يخضب شيبته المقدسة بقية عمره الشريف، ولم يلبس جديدا، وهذا يدل على شدة الشوق والحنين الرسول الله وللصديقة الطاهرة صلى الله عليهما وآلهما، وهذا مما اختص به سلام الله عليه.

ص: 107


1- سورة يوسف، الآية 85.

الدمعة آية المحبة

اذن هذه العبادة القلبية حتى المعصومين يتفاوتون فيما بينهم، أما القاسية قلوبهم فهم محرومون من هذه النعمة الكبيرة والكمال العظيم، لأنهم لم يستوعبوا تلك العبادة، ولم يفهموا أو يستشعروا لذة هذا الشوق والحنين، وأحد مظاهر قلب العاشق هو الرقة، وتلك الدمعة هي آية من آیات ذلك الحب، وعلامة لين القلب ورقته، والقرآن الكريم أشار إلى ذلك:«وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَی الرَّسُولِ تَرَی أَعْیُنَهُمْ تَفِیضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ یَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاکْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِینَ»(1)،«وَلَا عَلَی الَّذِینَ إِذَا مَا أَتَوْکَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُکُمْ عَلَیْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْیُنُهُمْ تَفِیضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا یَجِدُوا مَا یُنفِقُونَ»(2).

والله سبحانه وتعالى يحب لين القلب، لأنه أقرب ما يكون العبد لربه عندما يلين قلبه، وقد ورد أن موسی علیه السلام قد سأل ربه فقال: يا رب أين أجدك؟ قال: «عند المنكسرة قلوبهم».

اما الجفاة الغلاظ فهم قساة، ويتباهون بقساوتهم

ص: 108


1- سورة المائدة، الآية 83.
2- سورة التوبة، الآية 92.

الفصل السابع: محورية المودة في لزوم الطاعة

اشارة

- لغة الشوق والحنين

- أثر الحب في التعلق بصاحب الزمان علیه السلام

- القصد بالقلوب أبلغ

- الحب والحنين خروج من الظلم

- من طرق بابا أوشك أن يفتح

ص: 109

ص: 110

لغة الشوق والحنين

هذه الفريضة من فرائض أعمال القلب، وهي إحدى الغايات في دعاء الندبة، وهي الحنين والشوق وغليانه في القلب، «فَأَغِثْ يَا غِياثَ الْمُسْتَغِيثِينَ عُبَيْدَكَ الْمُبْتَلى، وَأَرِهِ سَيِّدَهُ يَا شَدِيدَ الْقُوَى، وَأَزِلْ عَنْهُ بِهِ الْأَسَى وَالْجَوَى، وَبَرِّدْ غَلِيلَهُ يَا مَنْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى....»(1).

يعني من الفرائض العظيمة هو أن يشتعل القلب شوقا إلى صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، أما إذا كان القلب باردا فهو في قصور وتقصير، وإذا كان الأمر كذلك، ما هو السبيل إلى زيادة هذا الشوق حتى يصل مرحلة الاشتعال في القلب؟

من أهم الأمور التي توجد الشوق والحنين العالي هو البكاء، متى ما وصل المؤمن إلى هذا الأدب وإلى هذه الدرجة من العلاقة فإنه سيشتعل قلبه.

فلسفة البكاء وثماره العظيمة هو اشتعال الحب والشوق للمحبوب، صحيح أن البكاء ناشئ من الحب إبتداء وليس العكس، ولكن إدمان البكاء هو ترسيخ وتجذير لهذا الحب، بدليل الفوائد العظيمة للبكاء على سید الشهداءوآثاره الماثلة أمامنا.

ص: 111


1- مقطع من دعاء الندبة .

من الأسرار العظيمة في دعاء الندبة هي تحبيب لغة البكاء، «فَعَلَى الْأَطائِبِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِما وَآلِهِما فَلْيَبْكِ الْباكُونَ، وَ إِيَّاهُمْ فَلْيَنْدُبِ النَّادِبُونَ، وَ لِمِثْلِهِمْ فَلْتَذْرِفِ الدُّمُوعُ، وَلْيَصْرُخِ الصَّارِخُونَ، وَيَضِجَّ الضَّاجُّونَ، وَيَعِجَّ الْعاجُّونَ»(1).

لغة الحب ولغة البكاء لغة واحدة، وإنصافا بعد تحليل علمي سيتضح أن البكاء هو منشأ الحب والعشق والهيام.

المودة هي فريضة قلبية قبل أن تكون بدنية وهي فريضة عظيمة، ودعاءالندبة يستعرض لنا اليات أداء هذه الفريضة حتى لا نقصر أو نفرط فيها، لأن فلسفة الحب للأصفياء من آل محمد صلی الله عليه و آله هو تکامل مستمر، وكلما اشتد الحب زاد الكمال أكثر، وهذا يدل على أن حقيقة البكاء وفلسفته شيء عظيم.

ص: 112


1- مقطع من دعاء الندبة.

أثر الحب والتعلق بأهل البيت

من يشكل على شدة التعلق بأهل البيت علیهم السلام، وبالخصوص بصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، وأن الأفراط يؤدي إلى الغلو قد اخطأ الطريق، فيذهب بالنتيجة إلى التفريط، وبالتالي الجفاء لآل البيت علیهم السلام، في حين أن القرآن الكريم يصدح بأية المودة:«قُل لَّا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی »(1)، وقد روي أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي صلی الله علیه و آله فقال: يا رسول ما استطيع فراقك، وإني لأدخل منزلي فأذكرك فأترك ضيعتي، وأقبل حتى أنظر إليك حبا لك، فذكرت إذا كان يوم القيامة وأدخلت الجنة، فرفعت في أعلى عليين، فكيف لي بك يا نبي الله؟ فنزل قوله تعالى: «وَمَن یُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِکَ مَعَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَیْهِم مِّنَ النَّبِیِّینَ وَالصِّدِّیقِینَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِینَ ۚ وَحَسُنَ أُولَئِکَ رَفِیقًا»(2)، فدعى النبي صلی الله علیه و آله الرجل فقرأها عليه وبشره بذلك (3).

فهل هذا الرجل هو مبتدع أو مغالي؟ وهل اتهمه رسول الله صلی الله علیه و آله بذلك؟ أم أن الله سبحانه وتعالى أنزل وحية يبشر هذا المتيم بحب

ص: 113


1- سورة الشورى، الآية 23.
2- سورة النساء، الآية 69.
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج 71، ص14.

النبي صلی الله علیه و آله، وهو خائف وجل إذا رفع النبي صلی الله علیه و آله يوم القيامة إلى أعلى عليين كيف يراه بعد ذلك؟.

«واجعل قلبي بحبك متيما»هذه المعاني الروحية العظيمة في دعاء «کمیل»، والتي تتصاعد بالعبد في درجة الحب والشوق إلى مرحلة المتيم هي أعلى درجات العشق والهيام، وهو معنى «القصد إلى الله بالقلوب أبلغ من القصد بالأبدان».فأين نحن من هذا الحب والعشق لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف؟ من نتائج الحب هو الطاعة للمحبوب، وهو أحد المقامات العظيمة لفلسفة الحب والعشق.

دعاء الندبة يسعى في هذا المضمار، وهو زيادة العشق والمحبة الصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، وهذا يعني أن التململ والتلكؤ في الطاعة بسبب ضعف المحبة،:«قُلْ إِن کُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْکُمُ اللَّهُ »(1) يعني علامة صدق المحبة الأتباع.

إذن المحبة ليست تصع أو تكلف، بل هي بناء قويم لكمال الطاعة وهي الدين، وهذا يدل على عظمة بيان أهل البيت علیهم السلام في أن حركة القلب إلى الله أعظم من حركة الأبدان، لأن الحب الذي هو حركة قلبيا يجعلك مطيعا للمحبوب ولا تحدث نفسك بالمخالفة أبدا، خصوصا إذا اشتد الحبوارتفعت درجته.

ص: 114


1- سورة آل عمران، الآية 31.

القصد بالقلوب أبلغ

العبادة القلبية التي يشير إليها دعاء الندبة هي في الحقيقة بند و محور في كل الأدعية والزيارات، وهي تنبيه على أن العبادة القلبية هي أعظم من العبادة البدنية كما ورد عن أهل البيت علیهم السلام، وهذه الإشارة لا تعني التفريط بالعبادة البدنية، بل تبقى هي مقدمة، وفيما بعد تأتي العبادة القلبية.

والغاية من العبادة القلبية هي الوصول إلى هذا المقام: «وإجعل قلبي بحبك متيما»يعني أن يصل إلى درجة من العشق والوله، وهي أعلى ما يمكن أن يصل إليه المؤمن.

هذه الحالة إن لم يوجدها المؤمن في روحه وقلبه سيبقى في صحراء قاحلة لا روح فيها ولا معنى، فالدعاء ليس فقط لقضاء الحوائج سواء كانت دنيوية أو أخروية، بل الغاية الأعظم أن يكون العبد متيما بعشق الله : «وهبني صبرت على حر نارك.. فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك..» هذا الشوق واشتعال القلب بحب الله متى وجد في أنفسنا أوجد طاقة من العبادة والأيمان والكمال بدرجة أعظم مما يمكن تصوره.

والإمام الحسين علیه السلام في كربلاء أشار إلى هذه المسألة في إحدى

ص: 115

خطبه بأصحابه: «...وما أولهني إلى أسلافي اشتیاق يعقوب إلى يوسف..»(1)فالوله هي الغاية التي يبلغها الإنسان في عشقه للمعشوق، وأيإيمان أعظم من هذا؟ فقلب غير واله ناقص الأيمان والكمال!

لذلك ترى أهل البيت عليهم الصلاة والسلام يتعاملون مع الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف بهذا النوع من العشق في ندبتهم له.

فأمير المؤمنین علیه السلام، ورد عنه انه كلما ضاقت نفسه بالهموم ذکر ولده المهدي، والإمام الصادق علیه السلام كان كثير البكاء والنحيب في ذكره له، وكانت ندبته له تقطع القلب لشدة الوجد الذي يظهره، ونفس الأمر ورد عن الرضا علیه السلام.

التعلق بالحجة بن الحسن علیه السلام يجب أن يكون بهذه الشاكلة، وعلينا أن نتعلم من أئمة أهل البيت علیهم السلام كيفية التعامل مع المهدي علیه السلام، والتعلق به وندبته وذكره بما يستحق من العشق والوله به، وهذا لن يكون بدون التوجه القلبي من خلال الدعاء والزيارة، وليست مجرد قراءة فارغة جوفاء لا تبتعد عن لقلقة اللسان.

فالندبة سنة نبوية دأب عليها أهل البيت علیهم السلام، والندب هو تلهف وشوق لهذا المنقذ المصلح.

ص: 116


1- السيد بن طاووس، اللهوف في قتلي الطفوف، ص126.

الحب والحنين خروج من الظلم

دعاء الندبة لا يختص فقط بطلب الحاجة، بل هو متضمن لماهيات عبادية عديدة، فهو نجوى وملاطفة في الدعاء، وهو تحبب وتعاطف وحنين، كل هذه أفعال عبادية مكانها القلب والروح.

وفي الرواية أن حنين المؤمن لرسول الله صلی الله علیه و آله يخرجه من دائرة الظلم لنفسه، فقد روي أن رسول الله صلی الله علیه و آله كان يخطب بالمدينة إلى جذع نخلة في صحن مسجدها، فقال له بعض أصحابه: یا رسول الله إن الناس قد كثروا، وإنهم يحبون النظر إليك إذا خطبت، فلو أذنت في أن نعمل لك منبرا، له مراق ترقاها فيراك الناس إذا خطبت، فأذن في ذلك.

فلما كان يوم الجمعة مر بالجذع فتجاوزه إلى المنبر فصعده، فلما استوی عليه حن إليه ذلك الجذع حنين الثكلى، وأن أنين الحبلی، فارتفع بكاء الناس وحنينهم وأنينهم، وارتفع حنين الجذع وأنينه في حنين الناس وأنينهم ارتفاعا بينا.

فلما رأى رسول الله صلی الله علیه و آله ذلك نزل عن المنبر وأتى الجذع فاحتضنه ومسح عليه بيده وقال: اسکن، فما تجاوزك رسول الله تهاونا بك، ولا استخفافا بحرمتك، ولكن ليتم لعباد الله مصلحتهم، ولك جلالك وفضلك إذ كنت مستند محمد رسول الله، فهدأ حنينه وأنينه، وعاد رسول صلی الله علیه و آله

ص: 117

إلى منبره، ثم قال: معاشر المسلمين هذا الجذع يحن إلى رسول رب العالمين، ويحزن لبعده عنه، وفي عباد الله - الظالمين أنفسهم - من لا يبالي قرب من رسول الله أو بعد، ولولا أني ما احتضنت هذا الجذع، ومسحت يدي عليه ما هدأ حنينه (وأنينه) إلى يوم القيامة، وإن من عباد الله وإمائه لمن يحن إلى محمد رسول الله وإلى علي ولي الله كحنين هذا الجذع، وحسب المؤمن أن يكون قلبه على موالاة محمد وعلي وآلهما الطيبين (الطاهرين) منطويا...»(1).

وبيان سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله واضح في هذه الرواية وأن من لا يحن الرسول الله صلی الله علیه و آله ظالم لنفسه!، وكذلك الحنين لأمير المؤمنين والأئمة من بعده علیهم السلام، فحق الإنسان على نفسه أن يوجد في قلبه الحنين لسيد الأنبياء وآله الطاهرين، وهذه العبادة القلبية العظيمة هي ركن مهم وأصل في العبادة لله سبحانه وتعالى، وهي من الفرائض المسلمة والمتواترة عند الفريقين، وإلا سيكون محروما من فيوضات الرحمة الإلهية.

ص: 118


1- المجلسي، بحار الانوار، ج17، ص329.

من طرق بابا أوشك أن يفتح

لو قيل: إننا لا نستطيع الوصول إلى هذه الدرجة من اشتعال القلب بالعشق والحنين أو إلى الدرجة التي عبر عنها الإمام الحسين علیه السلام إنه «يشتاق إلى أسلافه اشتیاق يعقوب إلى يوسف»، أو هذا الحنين والأنين الذي تحدث عنه رسول الله صلی الله علیه و آله، فكيف يمكن أن يقال إن هذا الحب فريضة، وهو بهذه الدرجة من الصعوبة؟

وقد ورد في حديث الفضيل بن يسار، وهو أحد أصحاب الإمام الصادق علیه السلام، أنه سأل الإمام: «هل الحب من الإيمان؟»، فقال له علیه السلام: «وهل الإيمان إلا الحب؟!».

بل إن الله سبحانه وتعالى جعل اجر الرسالة هو حب محمد وآل محمد عليهم الصلاة والسلام: «ُل لَّا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی »(1).

وكيف يصل المؤمن إلى هذا المقام بأن يكون قلبه متيما بحب صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، وهو يقرأ دعاء الندبة: «هَلْ مِنْ مُعِينٍ فَأُطِيلَ مَعَهُ الْعَوِيلَ وَالْبُكاءَ ؟ هَلْ مِنْ جَزُوعٍ فَأُساعِدَ جَزَعَهُ إِذا خَلا ؟ هَلْ قَذِيَتْ عَيْنٌ فَساعَدَتْها عَيْنِي عَلَى الْقَذَى».

ص: 119


1- سورة الشورى، الآية 23.

أو: «فَعَلَى الْأَطائِبِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِما وَآلِهِما فَلْيَبْكِ الْباكُونَ، وَ إِيَّاهُمْ فَلْيَنْدُبِ النَّادِبُونَ، وَ لِمِثْلِهِمْ فَلْتَذْرِفِ الدُّمُوعُ، وَلْيَصْرُخِ الصَّارِخُونَ، وَيَضِجَّ الضَّاجُّونَ، وَيَعِجَّ الْعاجُّونَ»(1)، وفي الحقيقة أنه عند البعض مجرد لقلقة لسان لا تترك أثرا يذكر من العشق والهيام؟!

سر البكاء نجوى ووصال روحي، وهو بوابة لما هو أعظم من الحب والحنين، فهل هذا المقام هو فعلا خارج عن قدرتنا؟.

يجب أن نعرف أولا: أن هناك الكثير من الواجبات المفروضة لا تتحقق في الإنسان بين ليلة وضحاها،«یَا أَیُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّکَ کَادِحٌ إِلَی رَبِّکَ کَدْحًا فَمُلَاقِیهِ»(2)، بل هي تحتاج إلى جهد ومثابرة، حتى يصل الإنسان إلى درجة تحقيق ذلك الواجب وتلك الفريضة في نفسه، مثلا الاجتهاد في مسائل الدين صحيح أنه كفائي، لكن من يريد أن يصل إلى مقام الفقاهة والاجتهاد عليه أن يبذل جهدا حتى يصل إلى هذا المقام.

وأمثلة أخرى من واقع الحياة أيضا تحتاج إلى جهد لمن يريد أن يتخصص بأي مجال من المجالات العلمية، فهي لا تأتي بسهولة بل الدراسة لسنوات حتى يصل إلى ما يريد.

هكذا المسألة هنا، فمن طرق بابا أوشك أن يفتح.

ومن يريد أن يصل إلى مقام العشق والوله عليه أن يتذكر قوله تعالى:«وَأَن لَّیْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَی»(3)، إذن التكليف ليس بالضرورة أن يكون

ص: 120


1- مقطع من دعاء الندبة.
2- سورة الانشقاق، الآية 6.
3- سورة النجم، الآية 39.

دفعة واحدة، بل المطلوب هو التدرج والحساب مع النفس والمراقبة لها كل يوم حتى يصل إلى الإنسان إلى مبتغاه، صحيح أننا مطالبون أن نصل بقلوبنا إلى درجة اشتياق يعقوب ليوسف:«لَقَدْ کَانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِی الْأَلْبَابِ ۗ مَا کَانَ حَدِیثًا یُفْتَرَی وَلَکِن تَصْدِیقَ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ وَتَفْصِیلَ کُلِّ شَیْءٍ وَهُدًی وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ»(1)، ولكن هي ليست فريضة دفعية لأن الله سبحانه لا يكلف نفسا إلا وسعها.

يبقى على الإنسان أن يهيئ المقدمات الضرورية ويبادر إليها لتحصیل تلك الفريضة المقدسة، لأنه بدون تلك المقدمات سيحاسب على التفريط، وعلى الظلم الذي ألحقه بنفسه،«وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَکِن کَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِیلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِینَ»(2).

ص: 121


1- سورة يوسف، الآية 111.
2- سورة التوبة، الآية 46.

ص: 122

الفصل الثامن: الدعاء والقراءة الصحيحة للمشروع المهدوي

اشارة

- كيف نقرأ علامات الظهور

- منهج الافراط

- منهج التفريط

- القراءة الصحيحة

- من أراد استعد

- أنت سيد الموقف

- العلامة الأكبر

- ضريبة العجز والتقصير

ص: 123

ص: 124

كيف نقرأ علامات الظهور؟

هناك جدلية كبيرة مرتبطة بالعقيدة المهدوية والمعرفة بالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف، وهذه الجدلية تتحول في المجتمع إلى مشكلة يعالجها دعاء الندبة بشكل واضح وصريح.

هذه الجدلية قمت المجتمع إلى فريقين بين الافراط والتفريط في قراءة علامات الظهور، وهي بنفسها من المحاور المرتبطة بالإمام المهدي علیه السلام، وفيها تركت الامة الجادة الوسطى التي خطها لنا تراث أهل البيت علیهم السلام.

ومما لا شك فيه أننا إذا استقمنا على الجادة نكون قد أدينا المسؤولية العظيمة تجاه إمام زماننا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف.

ص: 125

منهج الإفراط

هناك اتجاه يفرط في علائم الظهور بأن يرهن الأمور بالعلامات ويبالغ بالتوقيت، فيتحول الأمر إلى نظم زمني وحلقات زمنية متتابعة إلى أن تصل إلى نهايتها، وهذا التفسير باطل، «كذب الوقاتون»فليست حقيقة علامات الظهور عبارة عن تسلسل زمني، (قد يكون لسان بعض الروايات أدى إلى إغراء أصحاب هذا الاتجاه) ولكن المراد من مغزی علائم الظهور شيء آخر.

ص: 126

منهج التفريط

والبعض ذهب إلى التفريط بتلك العلامات، ولم يعبأ بها أصلا، وهذا الاتجاه أيضا خاطئ، لأنه يعتبر أنه من اللازم على المؤمنين والجماعات الناشطة منهم بالخصوص أن لا تعير اهتماما لها، وهذا الاتجاه التفريطي أكثر عجبا من الاتجاه الإفراطي، فالروايات المتواترة والمستفيضة تواترها إجمالا عند الفريقين وليس فقط عند الإمامية، فهل صدرت هذه الروايات جزافا من الشارع المقدس؟!

ص: 127

أين تكمن الخطورة؟

هناك مشكلة ثقافية كبيرة في مفهوم قراءة علائم الظهور، وهو التعامل مع هذه الروايات كأخبار المنجمين الذين يخبرون ببعض الأحداث المستقبلية، وهذه النظرة للأسف ابتليت بها الكثير من الكتابات حول علامات الظهور.

وظيفة الوحي الإلهي وفلسفته وغايته ليس التنجيم، حتى النبؤات الموجودة في القرآن الكريم يمكن ملاحظتها على أنها إعجاز إلهي في التنبؤ كي يثبت هذا المراد، وهو أن الأمر لله وليس للبشر.

يعني «إِن تَنصُرُوا اللَّهَ یَنصُرْکُمْ وَیُثَبِّتْ أَقْدَامَکُمْ »(1)، لا أن وظيفتنا تفسير الانتظار على البقاء متفرجين كأننا لسنا طرفا في هذا المشروع!، هكذا يكون الأمر إذا فسرت علامات الظهور بهذه الطريقة أما توقيت وتسلسل زمني للأحداث ينتج قراءة خاطئة لعلائم الظهور أو التعامل مع الروايات کتنجيم، وهذا بالنتيجة يصل بنا إلى أنه ليس هناك مسؤوليات، ولا وظائف للمؤمنين

ص: 128


1- سورة محمد، الآية 7.

القراءة الصحيحة

فلسفة الظهور وعلاماته مرتبطة بالصميم بالمسؤولية الملقاة على عاتقنا، وهي لأجل تحديد المسؤولية تجاه الأفراد والأجيال، لا من باب توقيت التسلسل الزمني، بل هي مرتبطة بأفعال وأحداث نحن نصنعها أو يصنعها الخصم، هذه قراءة أخرى لعلامات الظهور، وهي الجادة الوسطى.

الخطاب القرآني والذي يؤصل لقاعدة عامة:«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ یَنصُرْکُمْ وَیُثَبِّتْ أَقْدَامَکُمْ »(1)،«وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ»(2)، هذه الخطابات القرآنية تؤكد أن النصر صحيح هو من عند الله، ولكنه ليس على نحو الجبر، بل هو أمر بين أمرين.

إن تنصروا الله ...»، لن يأتي على نحو العفوية، لأن سنة الله هي قاعدة لا تتخلف كل تغيير وإنتقال سياسي أو حضاري،«إِنَّ اللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ »(3)، كل شيء مرهون بتلك القاعدة القرآنية .

«البداء»أصل اعتقادي عظيم في مدرسة أهل البيت علیهم السلام، فعن

ص: 129


1- سورة محمد، الآية 7.
2- سورة الأنفال، الآية 10.
3- سورة الرعد، الآية 11.

أحدهما علیهم السلام : «ما عبد الله بمثل البداء»(1)، وعن الصادق علیه السلام:«ما بعث الله نبيا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر له بالبداء»(2)، فلسفة البداء ليس كما يعتقد اليهود،«وَقَالَتِ الْیَهُودُ یَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَیْدِیهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ یَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ یُنفِقُ کَیْفَ یَشَاءُ »(3)، بل المنطق القرآني هو هكذا: «کُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّکَ ۚ وَمَا کَانَ عَطَاءُ رَبِّکَ مَحْظُورًا»(4)

يعني الله سبحانه وتعالى يعمل بالأسباب والمسببات، لا أننا مؤمنين، ولنا كرامة على الله سبحانه وتعالى فينزل علينا النصر بدون أن نعد له العدة!، کلا أبدا: «لَّا یَسْتَوِی الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ غَیْرُ أُولِی الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِینَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَی الْقَاعِدِینَ دَرَجَةً »(5).

فكيف يساوي الله سبحانه في المدد التكويني بين من يجتهد في تطوير مشروعه باستمرار، ويعمل الاحتياطات اللازمة لحفظه والدفع به نحو الأنتصار، وبين من يجلس متفرجا لا يمارس دورا في المشروع الذي يؤمن به؟!.

فمن يريد التغيير والتعجيل بالظهور المقدس لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف عليه أن يعمل ويجد ويجتهد في سبيل ذلك المشروع الألهي لأنه ليس بين الله وبين أحد من قرابة! من يريد الانتصار عليه توفير المقدمات المطلوبة لذلك.

ص: 130


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج 4، ص 132.
2- الصدوق، التوحید، ص 334.
3- سورة المائدة، الآية 64.
4- سورة الإسراء، الآية 20.
5- سورة النساء، الآية 95.

إذن علامات الظهور لیست برنامج سلسلة زمنية، بل هي توصيات وتحذيرات ليرتبط كل فرد منا بمسؤوليته الشرعية والأخلاقية في تحقيق المشروع المهدوی.

ص: 131

الأهم هو العشق

القرآن الكريم عندما يتحدث عن يوسف علیه السلام ويشير إلى التعلق والوله به من قبل أبيه النبي يعقوب علیه السلام،«قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْکُرُ یُوسُفَ حَتَّی تَکُونَ حَرَضًا أَوْ تَکُونَ مِنَ الْهَالِکِینَ* قَالَ إِنَّمَا أَشْکُو بَثِّی وَحُزْنِی إِلَی اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ »(1).

وما يتحدث عنه دعاء الندبة محوره الأصلي هو صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، وهذه الآداب التي جرت من نبي من أنبياء الله وهو يعقوب تجاه یوسف علیه السلام، هذه سنة للمؤمنين بما فيها من آداب، من الحري بنا أن نقيمها مع المهدي من آل محمد صلى الله عليهم أجمعين.

الله سبحانه وتعالی کنی عن أهل البيت علیهم السلام في القرآن الكريم،لكي نستدل عليهم بما هو في غيرهم، وهم أيضا أعظم من ذلك شأنا .

ص: 132


1- سورة يوسف، الآيتان 85-86

من أراد استعد!

من أراد شيئا لا بد أن يعد له العدة، لأن الحدث لا يمكن أن يكون ابن ساعته، فنهج رسول الله وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام الإعداد والاستعداد لكل شيء خصوصا الأحداث المهمة والمفصلية في رسالة السماء،«وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَکِن کَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِیلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِینَ»(1).

فمن يبحث عن الأعذار في هكذا نشاط مخطئ، لأن المطلوب من المؤمن أن يكون شعلة من النشاط والحيوية والتكامل المستمر لكي يكون مستعدا باستمرار، لأن مسؤولية تحصيل الأغراض المذكورة في دعاء الندبة والتي لها بداية وليس لها نهاية يجب فيها التشمير عن ساعدي الجد التحصيلها، ومن لطيف التعابير في الدعاء أن الصلاة أحد معانيها تأييد بالنصرة، يعني نطلب من الله سبحانه وتعالى أن يؤيده بالنصر: «وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلاةً لَاغايَةَ لِعَدَدِها، وَلَا نِهايَةَ لِمَدَدِها، وَلَا نَفادَ لِأَمَدِها»(2).

ص: 133


1- سورة التوبة، الآية 46.
2- مقطع من دعاء الندبة .

أنت سيد الموقف

هناك بعض الروايات يسأل فيها الراوي عن العلامات المحتومة، مثل السفياني واليماني وغيرها من العلامات هل يبدو لله فيها؟ قال الإمام عليه السلام نعم(1)، محتوم ومع ذلك قد يبدو لله فيه، فنحن لسنا مجبرون عليها، بل هي رهينة موقفنا وقوتنا واستعدادنا وتحملنا للمسؤولية، وهنا تبدو حقيقة علائم الظهور وعظمتها في التحذير والاستعداد.

وهذه المسألة كر مثيلها في القرآن الكريم في قصة قوم النبي «یونس علیه السلام»، وكيف أن العذاب شارف عليهم، ثم رفعه الله سبحانه وتعالی.

إذن هذه العلامات ليس فيها جبر، بل أنت سيد الموقف في مسؤوليتك، لأنه دائما هناك بدائل وخيارات.

ص: 134


1- عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري قال : كنا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليهم السلام) فجری ذكر السفياني وما جاء في الرواية من أن أمره من المحتوم فقلت لأبي جعفر: هل يبدو الله في المحتوم؟ قال: نعم. فقلنا له :فنخاف ان يبدو الله في القائم. فقال: أن القائم من الميعاد والله لا يخلف الميعاد.(النعماني، الغيبة، ص314-315)

العلامة الكبرى للظهور الشريف

أمر مهم جدا يذكر في الأدعية والزيارات الخاصة بالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف، وهو هذا المقطع من دعاء العهد: «اللّهُمَّ إِنْ حالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ الْمَوْتُ الَّذِي جَعَلْتَهُ عَلَى عِبادِكَ حَتْماً مَقْضِيّاً فَأَخْرِجْنِي مِنْ قَبْرِي مُؤْتَزِراً كَفَنِي، شاهِراً سَيْفِي، مُجَرِّداً قَناتِي، مُلَبِّياً دَعْوَةَ الدَّاعِي فِي الْحاضِرِ وَالْبادِي »(1).

وقد روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق علیه السلام أنه قال: «من دعا إلى الله أربعين صباحا بهذا العهد كان من أنصار قائمنا، فإن مات قبله أخرجه الله تعالى من قبره وأعطاه بكل كلمة ألف حسنة ومحا عنه ألف سيئة».

حتى الأموات مخاطبون بالمسؤولية فضلا عن الأحياء، وهذا يدل على عظمة المسؤولية الملقاة على عاتقنا، والتي لا يعفى منها حتى الأموات.

أمير المؤمنين علیه السلام لم يعطي لعلامات الظهور مثل السفياني أو اليماني أو الحسني أو غيرها مثل ما أعطى لهذه العلامة من التركيز، وهي رجعة المؤمنين إلى الحياة الدنيا لنصرة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف، وهي تعني الكثير في بيان حجم المسؤولية الملقاة على عاتق المؤمنين حتى اشتهرت

ص: 135


1- مقطع من دعاء العهد.

بين أطفال الكوفة فضلا عن رجالها ونسائها «العجب كل العجب بین جمادی ورجب».

وهذا يعني أن اكبر علامة للظهور هي قيام المؤمنين بمسؤوليتهم في هذا المشروع، الأحياء أولا ثم الأموات، يحييهم الله، فإذا قام المؤمنون بمسؤوليتهم يقع الظهور المقدس.

أكبر علامة للظهور إذا نظرنا للموضوع من جهة أخرى، هي قدرة المؤمنين على تشكيل قوة تستطيع توفير الحماية لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف.

كل الأئمة السابقين أجابوا على تساؤل بعض الناس في سبب عدم القيام! هو انهم لو وجدوا أنصارا لقاموا بالأمر، يعني المسؤولية كلها بالنهاية ترجع إلى ساحة المؤمنين الموالين للأئمة علیهم السلام، فهذا الأمر وتلك الغاية مطلوبة في كل زمان، ولكنه لم تتوفر الظروف المناسبة لبقية الأئمة علیهم السلام والتقصير دائما بسببنا.

ص: 136

ضريبة العجز والتقصير

العجز والقصور والإخفاق لا يريده الشارع، بل يريد من المؤمنين أن يعدوا العدة، أي تقصير من قبلنا في المسؤولية فهذا يعني عدم ظهور صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، فمتى ما وفرنا القوة من الناحية الاقتصادية والعسكرية والأمنية ولم يحصل الظهور، فهذا يعني عدم كفاية القوة المتوفرة لدينا، وعلينا السعي لتقويتها والزيادة فيها، وهذه الفقرة في دعاء الندبة تشير إلى ذلك: «إِلى مَتَى أَحارُ فِيكَ يَا مَوْلايَ وَ إِلَى مَتَى وَأَيَّ خِطابٍ أَصِفُ فِيكَ وَأَيَّ نَجْوَى عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أُجَابَ دُونَكَ وَأُناغَى ، عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَبْكِيَكَ وَيَخْذُلَكَ الْوَرَى»(1)، هي لمن يقرأ دعاء الندبة ولديه إصرار في محاولات تغيير الأوضاع للمولي وإنهاء حالة اللا أمان، والأنقطاع الظاهري عنه عجل الله تعالی فرجه شریف۔

فهو يستنكر هذه الأجواء على نفسه وعلى الآخرين، ويعاتب الجميع على سبب الاستمرار في هذا الحال: «إلى متى أحار فيك يامولاي....) وهو منهج استراتيجي عظيم في تحمل المسؤولية تجاه أهل البيت علیهم السلام :

عزيز علي أن أبكيك ويخذلك الورى..»یعني سبب عدم الظهور هو خذلان الناس، لا أنه لم تتوفر العلامات الأخرى كالصيحة والسفياني وما شابه ! .

ص: 137


1- مقطع من دعاء الندبة .

بث الحسرة ولوم النفس والمجتمع على خذلان صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، هي تربية للنفس من أجل عدم الاتكاء على أعذار أخرى، بل إن السبب الرئيسي هو هذا (خذلان الورى).

إذن نصرة صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف هي ناموس الظهور والفرج، وهي التمهيد لرجعة المؤمنين للقيام بالمسؤولية.

وهذه المحاور هي لرسم استراتيجية العلاقة مع مشروع صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، «عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ تُحِيطَ بِكَ دُونِيَ الْبَلْوَى وَلَا يَنالَكَ مِنِّي ضَجِيجٌ وَلَا شَكْوى»(1).

بلوى عدم الأمن والأمان هي التي تحيط بصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، لأنه يحمل المشروع الإلهي المنقذ للبشرية، وهو مطارد من قبل الظالمين.

ص: 138


1- مقطع من دعاء الندبة .

الفصل التاسع: مسؤوليات ومهام المؤمن قبل الظهور

اشارة

- مسألة قديمة بلغة عصرية

- دور المؤمنين في التمهيد للظهور المقدس

- يملأها قسطا وعدلا تحملنا المسؤولية

- تحمل المسؤولية والتدرج في التمهيد

- التمهيد الروحي أجل وأعظم

- مسؤوليتنا في إقامة الحكومة قبل الظهور

ص: 139

ص: 140

مسألة قديمة بلغة عصرية

التزمت مدرسة الإمامية في «الحسن والقبح»انهما عقليان ذاتیان، وتبعهم في ذلك المعتزلة في قبال الأشاعرة الذين يقولون انهما شرعيان، وهذه المسألة تلقي بظلالها في تشخيص منهاج الحق في الغيبة الكبرى وفي مشروع الظهور.

والآن على طاولة الحوار البشري يطرح للنقاش التساؤل التالي: هل الصحيح أو الحسن هو ما توافق عليه البشر في المواثيق الدولية وتصالحوا عليه فيما بينهم ؟ أم أنها واقعية تكوينية أصاب البشر ام اخطأ فيها ؟

في كل «البيئات»الحسن والكمال تكويني ذاتي، ونفس هذا الموضوع القديم يثار الآن بلغة عصرية، والبصير من يبصر الموازنات بين الأبحاث والإثارات العصرية المتداولة الآن، لأنه يجب موازاة هذه البحوث مع البحوث الأصلية والأصيلة في مبدأ الدين، وهذا أمر ليس بسهل.

إن الحسن ذاتي يعني أن صفة المعصوم علیه السلام تأخذه في الله لومة الائم، فالمعصوم لا يدور في مقام القبح والحسن على لوم البشر، ولا تعنيه ادانة منظمات الأمم المتحدة، أو مؤسسات الإغاثة أو محكمة الاهاي، لأنه يرى أن خالق هذا الكون وخالق النظام الاجتماعي،

والحضاري للبشر يرى هذا الطريق نحو الكمال.

ص: 141

أصلا غيبة صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، وأنه ليس في عنقه بيعة لأحد، أي ليسفي عنقه بيعة لأي عرف أو ميثاق دولي، لأنه في عنقه بيعة لدين الله ولهذه المبادئ.

القانون الآن هو تكريس للطبقية في المجتمعات، فثروات العالم الآن بيد اشخاص لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، وفي كل دول العالم أكثر أموال الأرض دولة بين الأغنياء، فلا الأمم المتحدة استطاعت إيجاد العدالة وإلغاء هذا التفاوت الطبقي، ولا الشيوعية قضت عليه، ولا الاشتراكية، ولا نظام السوق، ولا البورصة، ولا مؤسسات حقوق الإنسان كلهم صفقة واحدة على أن تكون دولة بين الأغنياء منهم، هذه مواثيق البشر ومنظمة الأمم المتحدة والتي أدت إلى ذلك التفاوت وتلك النتائج، فكيف يكون هذا المصلح الإلهي في عنقه بيعة لهذه التوافقات وهذه المواثيق.

جيل بشري ينقرض ويأتي جيل آخر، وينقرض الجيل الثاني بأعرافه ومواثيقه وعاداته، وتأتي عادات وأعراف أخرى، وهو سلام الله عليه لا يتأثر بكل تلك الأجيال، ولا بعقولهم القاصرة، ولا بتشخيصاتهم الخاطئة وتوافقاتهم الباطلة، فأي روح هذه؟ وقد روي عن الإمام الكاظم علیه السلام انه قال «علامة قوة العقل الصبر على الوحدة»(1).

وهذا ما يشير إليه دعاء الندبة، حيث أن هذه الشخصية الفذة صابرة

ص: 142


1- من وصيته غلیه السلام لهشام بن الحكم : يا هشام !.. الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله تبارك وتعالی اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند ربه، وكان الله آنسه في الوحشة وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة، ومعه في غير عشيرة. (الحرانی، تحف العقول، ص 153).

على وحدة الطريق، أتى البشر إليها أم أبطأوا «لَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ اسْتَقَرَّتْ بِكَ النَّوى ؟ بَلْ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّكَ أَوْ ثَرى ؟ أَبِرَضْوى أَوْ غَيْرِها أَمْ ذِي طُوى ؟ عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَرَى الْخَلْقَ وَلَا تُرى، وَلَا أَسْمَعَ ُ لَكَ حَسِيساً وَلَا نَجْوى، عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ تُحِيطَ بِكَ دُونِيَ الْبَلْوَى وَلَا يَنالَكَ مِنِّي ضَجِيجٌ وَلَا شَكْوى، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ مُغَيَّبٍ لَمْ يَخْلُ مِنَّا، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ نازِحٍ مَا نَزَحَ عَنَّا»

لم يأويه أحد لأنه لم يهادن، والإيواء هنا علاقة وارتباط، وفي بعض المرويات يعبر عنه عجل الله تعالی فرجه شریف: «بالشريد الطريد والوحيد الذي لا يناغی»(1).

فالصبر على الوحدة لا تجعله يحسن ما حسنته الأجيال، ولا يكترث للقول أن الحسن والعرف الصالح ما تصالح عليه البشر، لذلك وأجيال من البشر تذهب وهذا الرجل لا يتأثر، لأنه لا يأنس إلا بطريق الحق ويستوحش طريق الباطل، هذا نفس البيان «الحسن ما حسنه تكوينا العقل الكل، لا الحسن ما حسنه البشر»، وهو نفسه «لا تأخذه لومة لائم»ولكنه بعبارة مختلفة، ومعناه انه ثابت على الدين الحقيقي الذي لا يصاب بالعقول ولا بتوافقات البشر ويمضي قدما.

لذا يجب علينا نحن المؤمنون أن نتشبع بحقيقة الدين الواقعية، ولا نتزلزل عنها بسبب ضغوطات البشر واستهزائهم، وبسبب التوافقات

ص: 143


1- جاء عن الأصبغ بن نباتة انه قال سمعت أمير المؤمنين علیه السلام يقول: «صاحب هذا الأمر الشريدالطريد الفريد الوحيد»(الصدوق، کمال الدین وتمام النعمة، ج1، ص303، ب26، ح13). وعن عيسى الخشاب قال: قلت للحسين بن علي علیه السلام : أنت صاحب هذا الأمر؟ قال: لا ولكن صاحب الأمر الطريد الشريد الموتور بأبيه المكنى بعمه يضع سيفه على عاتقه ثمانية أشهر».(الصدوق، کمال الدین وتمام النعمة، ج 1، ص 318، ب30، ح 5).

المضادة من الآخرين، لا بد من الثبات على أنه ليس الحسن ما حسنه الناس ولا القبح ما قبحه الناس، بل الحسن ذاتي بغض النظر عمن أصابه أو أخطأه.

وإذا كان الحال كذلك، فلا بد أن نبين أن هذه البنود التي بها سعادة البشر، الفارق بينها وبين المواثيق الحالية عند الناس، أن هذه المواثيق تكرس الفساد وسفك الدماء والظلم والجور في الأرض.

ص: 144

دور المؤمنين في التمهيد للظهور المقدس

هذا المحور ضمن سياق انه علیه السلام لم يخرج وليس في عنقه بيعة لأحد أو التزام أو تعهد على أي میثاق سوى المواثيق الإلهية، وهو أحد معاني غيبته، وهو أيضا أحد صعوبات الغيبة والظهور، لأن توثيق الجانب الغيبي دائما يحتاج إلى مؤونة الشهادة.

وأكبر مسؤولية تقع على عاتق المؤمنين به والعارفين له هو تعريف البشرية على مشروعه عجل الله تعالی فرجه شریف، وتوضيح الشعارات المهدوية للعقل البشري.

محاربة قوى الظلام ومافيات المال في العالم للمشروع المهدوي واضحة تماما وهناك وثائق لممارسات مشبوهة والتي تريد أن تعطي طابعا معينا عن المشروع المهدوي وانه غير واضح المبادئ والشعائر والأهداف، هذه الحرب المعلنة من خلال دعمها للفرق الضالة الذين يرفعون باسم الإمام المهدي علیه السلام شعارات مناقضة لمبادئ المشروع المهدوي ولمبادئ ضرورة الدين.

لذا من الأمور ذات المسؤولية العظيمة في تعبيد الطريق لرفع ستارالخفاء عن هذا المشروع العظيم المتجسد فيه هو صلوات الله عليه، دورا ونشاطا ومسؤولية، هو نشر هذه المبادئ الناصعة، وتعريف هذه المبادئ التعرف الأمة ما هو العرف الصالح، فالعرف أشد تغليظا في الالتزام من

ص: 145

الرأي في الانتخابات، لأن الانتخابات سنوات قليلة وتنتهي، والعرف اشد من البيعة وأغلظ وأحكم لأنه عقد اجتماعي وهو من أعظم الالتزامات، وهذا العهد لا يحتاج حتى إلى التلفظ وليس هو فكرة تفصيلية حتى تأتي به نفسه، بل العقل الباطن يتداوله ويتبناه ويجري عليه ارتكازا.

فالعرف إذا كما يقولون قانون متطور ومفعل أعم من تفعيل القانون في الوزارات، ويعتبر الغرف حكومة فاعلة أكثر من الحكومات الفعلية الموجودة، فإذا قمنا ببناء أعراف مبنية على ثقافة المشروع المهدوي بدون تحريف في المعاني نكون قد بنينا حكومة الظهور، سيما أن بناء الحكومة على مراحل.

ص: 146

كلمة «يملأها قسطا وعدلا»تحملنا المسؤولية

من الواضح أن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف لا يمضي ولا يشرعن أي نظام أو عرف بشري إلا بمقدار ما فيه من شرع الله وسنة رسوله صلی الله علیه و آله.

وقد فرض عليه عجل الله تعالی فرجه الشریف أن لا يهادن ولا يسالم حتى اقامته الدولة الإلهية في العلن، وان لا يعمل بالذرائع ولا بالعنوان الثانوي.

كثير من روايات الفريقين أكدت على أنه يخرج بعد أن ملئت ظلما وجورا ليملأها قسطا وعدلا. وحسب هذا البيان الوحياني الموجود في روايات الفريقين يظهر أن الفارق بين الأعراف والمواثيق البشرية وما سینجزه ويبنيه صاحب الدولة الإلهية عجل الله تعالی فرجه الشریف بينهما فارق أكبر مما يتصور، فلا تصح بينهما مقارنة.

هذا التأكيد على هذه الخاصية تحملنا نحن المسؤولية في الغيبةالكبرى، وهي أن نكون حذرين - ونحن نسعى لدولة الأمل المنشود للبشرية - أن نذوب في أعراف ليس بالضرورة أن تكون سلبية، فقط بل قد تكون مغلفة بعناوین حسنة، بل الحذر الأكبر ان تكون هناك اعراف حسنة فنقتنع بها ونقف عند ذلك الحد، ونعتقد اننا وصلنا إلى نهاية المسير وكل ما عداه سيكون خاطئا.

ص: 147

مثلا لدينا في باب «التوحيد»في الصفات، عندما تصف الله سبحانه وتعالى بصفات حسنة مؤقتة وحيانية فضلا عن غير الوحيانية، وكما هو معروف في بحث التوحيد التسمية والأسماء توقيفية، فتسمية الله بالأسماء يعني توصيفه، ومع ذلك لا يظن أحدا أنه قادر على إحصاء أسماء الله جل شأنه.

يعني هناك وظيفة معرفية، وهي أن لا يتوهم الإنسان أنه يحيط بكل أسماء الله، وقد ورد بلسان الوحي أن الله عز وجل اسم مستأثر غيب في ذاته لم يظهره لأحد، وهذا الاسم هو مهيمن على كل الأسماء.

ومن الصفات العظيمة لأهل البيت علیهم السلام - رغم أنهم يثنون على الله بثناء لم يثن به ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ويعجز الكل في الوصول إلى قول ما قالوا إلا أن يقتبس منهم - رغم ذلك هم أنفسهم يقولون: «سبحانك ما عبدناك حق عبادتك»ويظهرون عجزهم.

وفي توحيد الله حتى الكمال الذي نصف الله سبحانه به فإنه لا يجوزلنا معرفيا أن نحته بهذا الكمال الذي وصفناه به.

فإذا استوعبنا هذا المثل يكون الفارق هكذا بين أعراف صاحب العصر والزمان في دولته مع الأعراف البشرية حتى لو افترضنا أنها صالحة.

فإذا وقفنا عند حدود تلك الأعراف الصالحة - مع فرض أنها صالحة - لن تصل البشرية إلى سعادتها الحقيقية إلا بالظهور المقدس الصاحب الزمان أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.

ص: 148

تحمل المسؤولية والتدرج في التمهيد

يجب التعرف على المنهج المجموعي الذي ترسمه الأدعية والزيارات الخاصة لصاحب العصر والزمان السيرته ومشروعه وهذا لا يتعلق به فقط، بل هو منهج يجب على المؤمنين اقامته حتى في زمن الغيبةالكبری.

هناك معادلات قانونية أو معرفية في دعاء الندبة وبقية الأدعية والزيارات، وهذه القواعد المذكورة هي تعليم تربوي في الفقه العقائدي والسياسي والاجتماعي والأخلاقي، وهي قواعد عامة يراد منها الإنجاز ولكن بشكل تدريجي.

وهناك الكثير من المحققين من أعلام الإمامية يفسرون الظهور بانه تدرج البشرية في الالتزام بمقومات دولة الظهور حينئذ ينبثق نور الظهور، لا أن دولة الظهور هي شروع من الصفر.

طبعا ما بعد الظهور ستتحقق إنجازات عظيمة، ولكن دولة الظهور هو كون البشرية ترتقي في تكاملها وتستعد إلى أن تأتي ساعة الظهور.

ملاحم المستقبل التي ينبئ عنها سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله، ومن بعده أمير المؤمنين والأئمة علیهم السلام هي من باب تعیین وظيفة ومسؤولية المؤمنين

ص: 149

زمن الغيبة، شبيه القائد العسكري الذي يبث العيون لرصد العدو لتأتيه أخبارهم ليرسم من خلالها خارطة عمل واستعداد وقائي.

هكذا هي الملاحم، فليس المسار في الغيبة الكبرى ان نكون على ملعب فيه متسابقين ولسنا معنيين به، بل الظهور عبارة عن مسؤوليات ملقاة على عاتق جميع المؤمنين صغيرهم وكبيرهم ليسهموا في بناء الدولة المهدوية والتمهيد لها، فلكل مؤمن دوره واسهاماته في دولة الظهور .(1)

وهذا الدور لا يسقط عن أي فرد، وهذه المسؤولية لا تتوقف وهي لا تعتمد على أحد أفراد بل هي مسؤولية جماعية(2)وطبيعة حديث الرسول صلی الله علیه و آله واضحة: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».

ومن أعظم المدارس في التاريخ في تحمل المسؤولية وفي حضارة النهضة والإصلاح سطرها «مسلم بن عقيل»تحت راية سيدالشهداء علیه السلام، العظمة في مدرسة بن عقيل القيمية والأخلاقية أن الكل تخاذل وهو بقي حيويا ونشطا وفقا كأنه وهو وحده جيش ليس عنده تردد أو تهاون، وهذه هي الروح الحيوية والمثابرة في القيام بالمسؤولية مع المعاناة

ص: 150


1- عن بشير النبال : قلت لأبي جعفر علیه السلام إنهم يقولون : إن المهدي لو قام لاستقامت له الأمور عفوا، ولا يهرق محجمة دم، فقال «كلا والذي نفسي بيده لو استقامت لأحد عفوا لاستقامت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حين أدميت رباعيته، وشج في وجهه، کلا والذي نفسي بيده حتی نمسح نحن وأنتم العرق والعلق، ثم مسح جبهته»(الشيخ النعماني، الغيبة، ص294).
2- ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه توجه إلى أصحابه بعد حجة الوداع في الجحفة فقال لهم : «إنه قد نبأني اللطيف الخبير أني میت وأنكم میتون، وكأني قد دعيت فأجبت وأني مسؤول عما ارسلت به إليكم، وعما خلفت فيكم من كتاب الله وحجته وأنكم مسؤولون، فما أنتم قائلون لربكم؟ (الشيخ الصدوق، الخصال، ص167).

والجراح، وهو في المعتقل لم يفقد التخطيط والتدبير، وهذا يدل على روح المسؤولية ويقظتها ونشاطها في مسلم بن عقیل

إذا طبيعة علائم الظهور المنطقية والعقلية أنها درجات نقترب فيها للإعداد للظهور، فالسماء ليست عاجزة، لكن إرادة الله اقتضت ان لا يجبر البشر ولا يفوض، بل هو أمر بين أمرين، وعلى كل فرد أن يقوم بدوره في التمهيد للظهور.

ص: 151

التمهيدالروحي أجل وأعظم

كل هذا الازدهار المادي لدى البشر لا يقارن بما سيكشفه الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، فيكون الانجاز العلمي والروحي في دولة الظهور يملأها قسط وعدلا أعلى، كما وكيفا، عن العدل الذي يقام في بعده المادي بكثير.

وهذا يدل على حجم مسؤولية المؤمن في زمن الغيبة والتدريج في بناء تلك الدولة، وأحد الأمور العظيمة في بنائها هو العلم والتفقه في اسرار الدين وموازينه، لا الجهل بها والصد عنها. وطبعا هذا بموازین حقيقة الغيبة والظهور.

فهل الغيبة هي خفاء بدن الإمام أم نوره؟ يعني الذين كانوا في عهد رسول الله صلی الله علیه و آله كانوا يرون بدنه ونوره! وهل الغيبة هي لأهل زماننا فقط ؟ الحقيقة أن المعصومين علیهم السلام كانوا في غيبة عن أهل البشر لأنهم يشاهدون ابدانهم الشريفة فقط.

لذلك كل المعصومين كانوا في ظهور بدني، وحقائقهم النورية ومناصبهم الروحية التي جعلها الله لهم غير معروفة عند أهل زمانهم، لذلك كان رسول الله صلی الله عليه و آله يتأوه على اخوانه الذين سيؤمنون به من بعده (1)،

ص: 152


1- قال رسول الله صلی الله عليه و آله ذات يوم : «يا ليتني قد لقيت إخواني !.. فقال له أبو بكر وعمر: أو لسنا إخوانك آمنا بك وهاجرنا معك ؟.. قال : قد آمنتم وهاجرتم، ويا ليتني قد لقيت إخواني، فأعادا القول، فقال رسول الله صلی الله عليه و آله أنتم أصحابي ولكن إخواني الذين يأتون من بعدكم، يؤمنون بي ويحبوني وينصروني ويصدقوني، وما رأوني، فيا ليتني قد لقيت إخواني»(مجالس المفيد، ص132).

فالذين معه هم أصحابه، لأنهم لم يتآخوا مع الروح والنور، وهذا يدل على آن نوره كان غائبا عن أهل زمانه لقصور فيهم.

ولهذا الكثير من الأعلام يقولون إن التشرف الروحي والنوري مع صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف بالمعرفة أعظم من تشرف البدن، وفي عالم العقل والنور ليس هناك حجب إذا تلطف الإنسان وتنور کحجب البدن والجغرافيا.

إذن بنیان دولة الظهور النوري والعلمي وبنائها في هداية الروح والمعنى،أعظم من البنيان المادي، فاين هذا من ذاك ؟! ولهذا تقع علينا مسؤولية عظيمة وهي نشر النور في عقول البشر وفي أرواحهم.

تعريف المشروع المهدوي تفتح القلوب عليه، وهو أعظم فتح يمكن أن يسهل أمام هذا المشروع العظيم فتح البلدان جميعا.

ولهذا عندما يقول الإمام الصادق علیه السلام: «کونوا دعاة لنا بغير السنتكم»(1)، لأنه إذا تلألأنا في التقوى والنور سنكون قادرين على نشر ذلك النور، إذا تطهرنا وتعلمنا أكثر صرنا نماذج وبؤر لنشر النور بين البشر بطريقة أعظم من اللسان المادي.

ص: 153


1- ورد عن الإمام الصادق علیه السلام احاديث كثيرة في هذا المضمون منها: «كونوا دُعاةً لِلنّاسِ بِغَيرِ ألسِنَتِكُم ، لِيَرَوا مِنكُمُ الوَرَعَ وَالاِجتِهادَ وَالصَّلاةَ وَالخَيرَ ، فَإِنَّ ذلِكَ داعِيَةٌ»(الكليني، الكافي، ج 2، ص 78).

وأهل البيت علیهم السلام دائما قواعدهم وبياناتهم ونظمهم على هذا المستوى العالي مثل «وَمَنْ أَحْیَاهَا فَکَأَنَّمَا أَحْیَا النَّاسَ جَمِیعًا »(1) فتقوى المتقي تأثيرها أعظم في الآخرين.(1)

ص: 154


1- سورة المائدة، الآية 32.

مسؤوليتنا في إقامة الحكومة قبل الظهور

بات واضحا في العلوم السياسية والإنسانية والاجتماعية أن السلطة اقسام وأنواع وليست سلطة واحدة، أحداها هي سلطة العرف وبناء الأعراف الصالحة.

سيما وأن البشرية الان تهتف بهذا الشعار، ونحن الآن نعيش حضارة ثورة المعلومات، والعرف الصالح كي يقام فهو بأمس الحاجة إلى هذه الثورة المعلوماتية، وإلى الآن قوى الظلام من الدول العظمى بطريقة وأخرى يحاربون الشيعة في ذلك لأن العلم له دور عظيم.والإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، وهو يعيش في حالة الغيبة، ومع ذلك فهو ليس من قبيل منظمات دول السرية الذين يستعملون المنهج المافيوي لأجبار الناس لما يريدون، هذا الشخص الذي اصطفاه الله طيلة اثنی عشر قرن هو ذو نفس طويل، فهو يلاحظ البشرية كطفل يربيه شيئا فشيئا على نهج جده رسول الله صلی الله علیه و آله.

هذا الأسلوب يتعامل مع البشرية بلغة إنسانية وينمي فيهم النزعة الإنسانية للتكامل.

اذن طول الغيبة هو تدرج في البناء إلى أن تحين ساعة الظهور، وربما

ص: 155

جملة من الناس يظنون أن هذه الاناة عند صاحب العصر والزمان تفوت الفرص، أو تتأخر عن تلبية الضرورات، ولكن الحقيقة أنه لا يريد العلاج المؤقت، فعلاج الطوارئ ليس علاجا جذريا، هو يريد ان يبني أساسا طبيعيا وهذا يحتاج طول نفس، كيف أن الله سبحانه وتعالى لا يستفزه عصيان العصاة ولا تغريه طاعة المطيعين، لأن هناك مشروع کامل وخارطة واضحة، وهكذا مشروع يأخذ طبيعته وإدارة المشروع اولا وبالذات بناء «الأعراف».

ص: 156

الفصل العاشر: النظام الأمني في المشروع المهدوي

اشارة

- نظام أمني صارم وسرية تامة

- التقیة دين ونظام

- السرية سبب من أسباب القوة

- الغيبة إحتفاظ بعنصر المبادرة

- المسؤولية بين الكتمان والنشر

ص: 157

ص: 158

نظام أمني صارم وسرية تامة

عنصر الخفاء والسرية في المشروع المهدوي هو المحور الأهم في هذا المشروع، وان كان الغيبة والظهور لها معاني عديدة، لكن أهم وأبرز ما في الغيبة مقابل الظهور والظهور في مقابل الغيبة هو عنصر الخفاء.

إذن السرية أو النظام الأمني في نهضة صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف هو رکن مهم ورئيسي

بهذا اللحاظ فإن هذه النهضة ليست مستقبلية فقط كما يتوهم ذلك الكثير، بل إن نهضته ودولته وإمامته ومسيرته انطلقت منذ استشهاد أبيه الحسن العسكري علیه السلام، غاية الأمر أن هذه النهضة والمسيره لأصلاح العالم هي ذات طابع خفي، والنظام الأمني فيها هو الأساس.

يعني نوع من ترقية وتنمية الجانب الأمني بشكل لا تهاون فيه ولا تراخي، من اليوم الأول فعل هذا النظام بشكل لم يشهده أي نظام امني آخر إلا عند سيد الأنبياء والأئمة من بعده صلوات الله عليهم، واستخدموا معه هذا الطابع السري والأمني حتى وهو جنين في بطن أمه الطاهرة السيدة نرجس علیها السلام.

هذا النظام هو شئة عند كل الأئمة علیهم السلام، لكن مع صاحب العصر والزمان أكبر وأوضح في كل الجهات.

ص: 159

في سورة «الكهف»والتي هي كهف الأسرار بالنسبة للمشروع الإلهي، دبير لقاء النبي موسى للخضر علیهما السلام وهو لقاء عجيب في دروسه وعبره، الخضر علیه السلام هو رجل السرية وهو رمز لها في المشروع الإلهي، ويتضح أن هذا الدور الخطير هو لشدة محافظته على السرية بشكل صارم ودقيق، فقد أعطى النبي موسی علیه السلام شفرتين أمنيتين لكي يعرف ذلك الرجل السري في الدولة الإلهية ويلتقي فيه.

«وَإِذْ قَالَ مُوسَی لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّی أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَیْنِ أَوْ أَمْضِیَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَیْنِهِمَا نَسِیَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِیلَهُ فِی الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِینَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا* قَالَ أَرَأَیْتَ إِذْ أَوَیْنَا إِلَی الصَّخْرَةِ فَإِنِّی نَسِیتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِیهُ إِلَّا الشَّیْطَانُ أَنْ أَذْکُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِیلَهُ فِی الْبَحْرِ عَجَبًا*قَالَ ذَلِکَ مَا کُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَی آثَارِهِمَا قَصَصًا * قَالَ ذَلِکَ مَا کُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَی آثَارِهِمَا قَصَصًا (1).

والنبي موسى علیه السلام هو أيضا كان في حالة غيبة حسب النصوص القرآنية، مع ذلك طبقة الخفاء التي يمارسها الخضر أعلى وأشد من الخفاء الذي يمارسه النبي موسى علیه السلام.

وهو كان يعيش في قصر فرعون، ولو كان بني إسرائيل يعلمون أن موسی علیه السلام هو المخلص، وأنه من ولد بني إسرائيل فإن الخبر سیفشی ويصل إلى فرعون وسيكون معرضا لخطر الموت، فولاية موسی علیه السلام كانت في خفاء، وكذلك ترعرعه في بيت فرعون، وحسب روايات أهل البيت علیهم السلام أن ام موسی والقابلة التي أولدتها توفيتا فخفي أمره حتى على

ص: 160


1- سورة الكهف، الآيات 60-65.

بني إسرائيل ولا أحد يعرف انه منهم، وترعرع في أحضان الطاغية فرعون، فكل شيء كان في سرية وخفاء وهو مصطفى ويعلم بدوره، لكنه كان في خفاء منذ ولادته إلى أن بلغ أشده، ثم دخل المدينة كما في سورة «القصص»ووجد رجلين يقتتلان، وعندما تدخل لنصرة الإسرائيلي الذي هو من شیعته إنكشف بعض أمره، لذلك زاد من درجة الخفاء بأن ذهب إلى أرض «مدين».

هذه المشاهد في القرآن ليست للسرد التاريخي، بل يريد سبحانه وتعالى أن يبين فيها دور الأنبياء والأوصياء ورجال الدولة الإلهية، كيف هو وضعهم في النظام الأمني والتعامل السري.

خفاء مستمر بل ويزيد في درجته إلى أن أتت ساعة الظهور للنبي موسی علیه السلام «اذْهَبْ إِلَی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَی»(1).

ص: 161


1- سورة طه، الآية 24.

التقية دين ونظام

يقول الإمام الصادق علیه السلام: «التقية ديني و دين آبائي»(1).وليست التقیة آية أو آيتين في القران الكريم بل هي نظام أمني، والنظام الأمني مشحون في كل صور القرآن، وقد روي عن الإمام الرضا علیه السلام في نقل كلام النبي موسی علیه السلام في تفسير هذه الآية:«قَالَ رَبِّ إِنِّی ظَلَمْتُ نَفْسِی فَاغْفِرْ لِی فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ»(2) قال علیه السلام: «یعني استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني»بل أكثر من هذا أعطاه برنامج امني لكي يستره بأن أرسله إلى أرض «مدين»، وهذا يسمى في الحرب الأمنية تصعيد درجة الخفاء لكي لا تخترق من قبل الطرف المقابل.

هذا النظام القرآني في السنن الإلهية يجب ان نتعرف عليه، وهو كما يعترف به الآن في علوم الدولة العصرية والعلوم الاستراتيجية من أعظم واعقد واصعب علوم بناء الدولة.

والإمامة الإلهية اعقد واصعب بكثير، ولا يمكن فهمها ومعرفتها بسهولة من خلال قراءة كتاب أو كتابين، وبملاحظة الجانب الأمني فيها،

ص: 162


1- الكليني، الكافي، ج2، ص174، ح 12، باب التقية.
2- سورة القصص، الآية 16.

لذلك فإن الإمام الصادق علیه السلام وبلغة هادئة وخفية يشير إلى خطورة معرفة علوم الأمن والنظام الأمني، وهذا من عجائب البيان عند أئمة أهل البيت علیهم السلام عندما يعبرون هكذا: «التقية ديني ودين آبائي»لأن اصل قیام الدين باستعمال الخفاء، والخفاء هو لأجل تقوية النشاط.

وفي دول العالم الآن قوة الأسلحة المالية والاقتصادية والعسكرية والعلمية يستخدم فيها السرية، لأن العدو سوف يستهدف هذا المنجز ويحاول تدميره واختراقه، وأعظم شيء في حفظ القوة وتناميها هو اخفائها سواء كانت مکانية أو زمانية.

يجب الاطلاع على هذه العلوم لكي نستطيع قراءة «فضائل أهل البيت علیهم السلام»في الآيات والروايات، ونعلم ماهي كفاءتهم العظيمة والعملاقة في هذا المضمار والتي هي عرشية وفوق البشر.

يقول الإمام الصادق علیه السلام: «التقية حصن حصين»(1)، هذه التربية العالية والعظيمة أين نحن منها؟ أين نحن من نن الأئمة علیهم السلام؟

يسأل الإمام الصادق علیه السلام: قبيل الظهور ترتفع التقية؟ فيقول: «بل

ص: 163


1- وصفت التقية في جملة من أحاديث أهل البيت علیهم السلام بأنها ترس المؤمن، وحرزه، وجنته، وإنها حصنه الحصين ونحو هذه العبارات الكاشفة عن أهمية التقية. فقد روی عبدالله بن أبي يعفور، عن أبي عبدالله علیه السلام قال: «التقية ترس المؤمن، والتقية حرز المؤمن»، وعنه علیه السلام قال: «كان أبي علیه السلام يقول: وأي شيء أقر لعيني من التقية؟ إن التقية لجنة المؤمن»، وكذلك ورد عنه علیه السلام أنه قال للمفضل: «إذا عملت بالتقية لم يقدروا في ذلك على حيلة، وهو الحصن الحصين وصار بينك وبين أعداء الله سدا لا يستطيعون له نقبا»(أصول الكافي، ج 2، ص221، ح23، باب التقية)، (أصول الكافي، ج2، ص 220، ح 14، باب التقية)، (الوسائل، ج16، ص213، ح 21389، باب 24، من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

تشتد»(1)، فالتقية لا تعني الجمود لأنك من المفروض تخفي القوة والضعف كذلك، وتشتد التقية ليس بمعنى انك لا تزاول نور الهداية، بل هذا الجانب مستمر أيضا على اكبر مساحة ممكنة.

هناك قسمان للوظيفة الدينية، قسم في نشر نور الهداية بين الناس بالتي هي أحسن، وبدون استفزاز واثارة العداوة مع الطرف الآخر بالسباب والشتائم «اادْعُ إِلَی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّکَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِیلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ »(2).

أما على صعيد التطبيق يعني القوة التي تملكها فهذه يجب فيها الحفاظ على الجانب السري دائما.

وقد يقال أن فلسفة الردع هي إظهار للقوة وكشف لها؟ وهذا صحيح، ولكن في الردع يتم الكشف عن بعض القوة، لا كلها، وهذه تسمى سياسة توازن الردع، وهذا فصل من فصول علم الأمن حسب ما موجود في الثقافة الحديثة، فلا يمكن كشف كل القوة لأنك سوف تكون مستهدف حينها من قبل عدوك، بل بمقدار ما تحتاجه ويوفر لك الغرض.

فقوة القوة في الخفاء، وإلا لن تحافظ عليها، فلماذا نترك هذه المسؤوليات التي نحن مكلفون بها، فهذه المسؤوليات هي تطبيق للحديث الوارد عن أهل بيت العصمة والطهارة: «التقية ديني ودين آبائي».

ص: 164


1- ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا علیه السلام انه قال : لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقية له، إن أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية. فقيل له : يا ابن رسول الله إلى متى؟ قال : إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم خروج قائمنا أهل البيت، فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا...) (الصدوق، کمال الدین وتمام النعمة، ص371).
2- سورة النحل، الآية 125.

السرية سبب من أسباب القوة

بحسب قرائن الروايات هناك جملة معاني للغيبة وللظهور أيضا وأحد معاني الغيبة المركزية والمهمة تعني فيما تعنية سنة الخفاء والسرية أو النظام الأمني، وهذه مسؤولية عظيمة جدا، والعقل يدرك أن المحافظة على الخفاء والسرية في جانب أسباب القوة مشمولة بعموم قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّکُمْ »(1)ودائما من أعظم اليات القوة قديما وحديثا إذا كان خصمك مكشوفا وانت مخفي عنه.

بحسب المنطق التكويني والعقلي أن الخفاء هو بنفسه من أسباب القوة، ولأننا مأمورون بإعداد القوة، لا لأجل العدوان بل لردع العدوان، وهذا الخفاء يعبر عنه الأن في المصطلحات الحديثة بالقوة الناعمة.

هذه القوة قليلة الكلفة مع تأثيرها الكبير، فقط تحتاج إلى النباهة والفطنة والاستعداد ودوام الحذر، وتشملها نفس الفريضة المذكورة في الآية الكريمة والمرتبطة بالولاية ونظام الولاية «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم».

ص: 165


1- سورة الأنفال، الآية 60.

نفس مداولة العلوم الأمنية بين المؤمنين وتربية بعضهم بعضا على الحس الأمني في كل الجوانب أمر مهم، فالوعي ضروري، وعملية تحريك اليقظة في العقل الأيماني فريضة عظيمة.

نبذ السذاجة والغفلة عن العقلية المؤمنة مساهمة عظيمة في الأمن الثقافي، فإذا أعطيت شابا من أبنائنا وعيا لتوقظه وتحميه من السذاجة، والاستغفال، والاستدراج، والتحايل الفكري الذي يحاك ضده، فهذا من أسباب القوة.

علينا أن نستلهم العبر مما جرى في صفين وكيف أن فئة عظيمة من الجيش تستغفل ويسلب منها نصر مؤزر وكبير كان بين أيديهم! يخفقون في تحقيقه لأنهم في ساعة النصر اشتغفلوا برفع المصاحف، وتفتت قوی الجيش بخدعة لأنهم لا يملكون وعيا أمنيا، فوقعوا فريسة سهلة للخداع والتضليل.

«الحرب خدعة»دائما أمير المؤمنين علیه السلام يكررها على مسامع أصحابه لغرض تربيتهم، وهذه ليست في الحرب الساخنة فقط، فالحرب الآن في العقل البشري ليست فقط حرب عسكرية ساخنة، بل هي حرب اقتصادية وتجارية وحرب ثقافية والحرب الأمنية أشد فتكا.

ص: 166

الغيبة إحتفاظ بعنصر المبادرة

غيبة صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف مشروع امني عملاق وسنة مهدوية عظيمة، فطابع مسيرته الان خلال أكثر من عشرة قرون هي الغيبة، وعمله کله نشاط لكن في خفاء، ولذلك يجب أن نثري هذه البنود تتبعا في الشريعة، ومنها «الحرب خدعة»، وهذا مرتبط بالخفاء لأنه مع تنبه العدو لا تكون الخدعة.

ومعرفة مضمون «الحرب خدعة»مهم جدا، لأنه من العلوم الاستراتيجية للحرب، وهو أقوى فقرة تستخدم في الحرب ليحتفظ دائما بعنصر المبادرة، والتخطيط بالخفاء من دون أن يشعر بك العدو.

آلة الانتصار في الحرب الأمنية بين الأنظمة أن لا يستشعر عدوك بأنك عدو له، وأن لا يستشعر خصمك بأنك خصم له، بل يجب عليك أن تشعره بالثقة، وهنا تكون قد حققت الانتصار واخترقت الطرف الآخر، لأنه لن يكون في يقظة واستعداد، بل يكون في حالة سبات لأن استشعار العداوة يقظة.

سر عظيم أن صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف يهادن، لأنهم ذئاب فلا يمكن الثقة والاطمئنان بهم، نعم ننبذ ثقافة الكراهية مع الشعوب لأنها محرومة ومستضعفة، أما الأنظمة العاتية وحكامها الطغاة فلا يمكن معهم المهادنة.

ص: 167

أئمة الجور الذين هم قادة الفتن والظلم والجور في المجتمعات البشرية يرفعون راية محاربة الإرهاب في العالم لاستغفال الآخرين، وهم يديرون الإرهاب ويقودونه بأنفسهم.

الخفاء يحمل الكثير من الأسرار، والحرب خدعة كأنما أي سلاح في الأرض لا فائدة فيه لأن عمدة الأمر في الحرب هو الخدعة.

بطولة وشجاعة أمير المؤمنین علیه السلام غير الآليات الموجودة، والتخطيط هو عنصر الخفاء، والتدبير الذي يمارسه، وفي صفين مرتين معاوية بن أبي سفيان يكون تحت سيف أمير المؤمنین علیه السلامبواسطة التدبير والتخطيط الحربي.

والإمام الحسن أيضا صلوات الله عليه خطط أن يأتي بمعاوية بدون أن يبرم صفقة الهدنة معه، فاستدرج معاوية وجيشه إلى الكوفة وعندها تعطلت كل العيون والجواسيس الذين كانوا يعملون لمعاوية في الكوفة التداخل الجيشان في الأزقة والشوارع ولما يبرم معه أي صفقة، وهذه عظمة التخطيط عند الإمام الحسن علیه السلام، حتى إن معاوية أراد أن يفتك بعمرو بن العاص لأنه اعتقد أن هناك مؤامرة وتواطؤ بينه وبين الإمام الحسن علیه السلام، لأنه رأى نفسه في قبضة الإمام الحسن عليه السلام ومن ثم أملی الإمام عليه السلام شروطه على معاوية، وأول شرط فيها أن الحسین علیه السلام لا يبايع، وهذا يعني أن الخط الساخن في المواجهة يبقى مفتوحا، وقد وافق معاوية مرغما على ذلك.

كل خداع ومغريات ورشاوى معاوية ومؤامراته باءت بالفشل مع التدبير الخفي للإمام الحسن عليم، الذي لم يعلم به لا معاوية ولا عمرو بن

ص: 168

العاص ولا عبد الله بن عباس ولا عبيد الله بن عباس ولا أحد من الجيشين، فقط الإمام الحسن والحسين عليهم السلام ، وهنا دقة التدبير والمناورة عند الأئمة سلام الله عليهم. والكثير ممن اطلع إلى بنود صلح الإمام الحسن علیه السلام لم ينتبه إلى دقة البنود، لعدم وجود العلوم الأمنية، فلم يقرأ البنود قراءة صحيحة.

هذه مسألة مفصلية في صلح الإمام الحسن عليه السلام، وكيف أنه استدرج معاوية وجيشه في وسط الكوفة وفي قبضته، ولما يبرم معه أي شيء، فالمفاوضات ليس فيها التزام بعد وهذا هو معنى «الحرب خدعة»، كما تفكر في التصنيع العسكري والحربي فكر في التدبير العسكري والأمني الخفي.

كل بطولات أمير المؤمنين عليه السلام أكبر عامل فيها هو عنصر الخفاء والمكر العسكري والأمني، فهو علیه السلام كان طالبا للشهادة، لكنه لا يعطي العدو فرصة الاقتراب منه، ومن خصائص أمير المؤمنين علیه السلام التي ذكرها رسول الله صلی الله عليه و آله: «أنه لا يهزم في حرب قط»، وأيضا ذكرها الإمام الحسن علیه السلام بعد استشهاد أبيه علیه السلام لأنه عنده تدبير أمني لا يجعل للعدو فرصة أن ينتصر عليه، إذن الشهادة عند أمير المؤمنین علیه السلام ليس كما نفهمها نحن، فهي ليست عي في التدبير الأمني والعسكري، أو الغفلة عن مخططات العدو فهذه ليست هي الشهادة.

التخطيط الأمني عند أئمة أهل البيت علیهم السلام تجهيز الجيوش بأسلحة قوية، و كل أنواع القوة يجب ان يتسلح بها بيت الإيمان، لكن يبقى السلاح الأكبر هو سلاح الأمن، أي أن ترصد عدوك ولا يرصدك.

ص: 169

ولكن نحن نحمل مفهوما خاطئا مفاده أنك تستتر عن عدوك فقط، وهذه ليست تقية، لأن معنى الاستتار عن العدو هو انکشاف عدوك لك، وإلا كيف يستتر الإنسان عن عدوه قبل تشخيصه وتحديد موقعه، ومعرفة جغرافية وإحداثيات العدو في كل المجالات.

إذن قوام التقية هي کشف الطرف الآخر، وأن لا يكون مستترا عنك، وإلا لا تتحقق التقنپية، وهذا قوام مهم في الفقه السياسي والعقائدي والعسكري وهو رکن مهم في باب التقية، وصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف هو الغائب صحيح، لكن الآخرين بالنسبة إليه ليسوا غيبا، بل هم في مشهد

إذن قوام التقية وجهين متعاكسين، من جهة أنت في ستر وحصن، ومن جهة الطرف الآخر مکشوف لك، وأني لك أن تستتر والطرف الآخر غير مكشوف لك؟!.

كيف نعرف التقية بهذا المعنى، والإمام الصادق علیه السلام يعرفها بانها حصن حصين، فكيف نكون حصنا بتعريفنا الخاطئ لها، والإمام الصادق علیه السلام يقول: «العالم بزمانه، لا تهجم عليه اللوابس»(1)، هذا قوام التقية فكيف نستتر من الذئاب؟ بمنهج النعامة تضع رأسها في التراب وتظن أن هذا يحميها من عدوها! هذا هو إطمئنان الحمقى.

أول ركن في التقية هو أن ترصد العدو وتراقبه ليل نهار بلا توقف أو سكون، وهذا حذر وليس عدوان، يجب أن نحافظ على مفاهيمنا من أن تنقلب رأسا على عقب، كم نادى المؤمنين «أَيْنَ صاحِبُ يَوْمِ الْفَتْحِ وَناشِرُ

ص: 170


1- الحسن بن علي الحراني، تحف العقول عن آل الرسول، ص356

رايَةِ الْهُدى،أَيْنَ مُؤَلِّفُ شَمْلِ الصَّلاحِ وَالرِّضا ...»(1) لكن هل خدع صلوات الله عليه وآله ؟ كلا أبدا، لا يبرز!! لأنه لا يخدع من قبل الجميع صديقا كان أو عدوة، بل هو يعدالعدة ويدبر.

ص: 171


1- مقطع من دعاء الندبة

المسؤولية بين الكتمان.... والنشر

من معاني غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف أنها ممتزجة بين طابعين، طابع السرية والخفاء، وطابع المسؤولية العامة.

وهناك إشارات قرآنية تبين الحقيقة المهدوية ونهجه وسيرته عجل الله تعالی فرجه شریف، وقد نبه القرآن الكريم إلى ذلك، وهي قاعدة معرفية قرآنية وروائية.

وقد ورد ما يشير إلى ذلك المعنى عن أهل بيت العصمة والطهارة صلى الله عليهم(1)، وكل هذه الإشارات يدعمها محكم التنزيل: «لَقَدْ کَانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِی الْأَلْبَابِ ۗ مَا کَانَ حَدِیثًا یُفْتَرَی وَلَکِن تَصْدِیقَ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ وَتَفْصِیلَ کُلِّ شَیْءٍ وَهُدًی وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ»(2)، «لَّقَدْ کَانَ فِی یُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آیَاتٌ لِّلسَّائِلِینَ»(3)والآيات هي علامات (4) وهذا ليس فقط من التأويل، بل هو نص واضح في صریح القرآن.

ص: 172


1- روي عن الصادق علیه السلام: «إن سنن الأنبياء وما وقع عليهم من الغيبات جارية في القائم منا أهل البيت حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة......»(الصدوق، إكمال الدين واتمام النعمة، ص345، باب 33، ح 31).
2- سورة يوسف، الآية 111.
3- سورة يوسف، الآية 7.
4- روي عن الباقر علیه السلام: «إن فيه أربع سنن من أربع أنبياء: من موسی خائف يترقب ومن يوسف السجن ومن عیسی يقال: مات ولم يمت و من محمد السيف».(الصدوق، إكمال الدين وإتمام النعمة، ص153، باب 6، ح16 / وص327، باب 32، ح6).

فما جرى في بني إسرائيل حتى في التفاصيل وكذلك في جانب الشر واهل الشر عبرة، لأن الكلام ليس في فرعون، بل هو في منهج الفرعونية الذي قد تبتلي به الأمة، وفعلا ابتليت هذه الأمة بمنهج الجبت والطاغوت، ومن لايلتفت إلى هذا المنهج فهو غافل أو متغافل عن النظام العام في القرآن الكريم(1).

مثلا في قصة موسی علیه السلام كانوا موعودين به وينتظروه كما ينتظر المهدي علیه السلام:«قَالُوا أُوذِینَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِیَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَی رَبُّکُمْ أَن یُهْلِکَ عَدُوَّکُمْ وَیَسْتَخْلِفَکُمْ فِی الْأَرْضِ فَیَنظُرَ کَیْفَ تَعْمَلُونَ»(2)فكأن بني إسرائيل ينتظرون الموعود وهو النبي موسی (3) علیه السلام، وهذا مما يؤكد أن عقيدة الموعود المنتظر المصلح سنة إلهية في الأمم وليست بدعا من سنن الله(4)«سُنَّةَ اللَّهِ فِی الَّذِینَ

ص: 173


1- ورد عن رسول الله أنه خاطب أصحابه فقال: «لتتبعن سنن من كان من قبلكم شبر بشبر وذراع بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) ( صحیح البخاري، ج6، ص2669، کتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب قول النبي صلی الله علیه و آله لتتبعن سنن من كان قبلكم).
2- سورة الأعراف، الآية 129.
3- روي عن الصادق علیه السلام یکم أنه قال: «سنة من موسی خفاء مولده وغيبته عن قومه ثماني وعشرين سنة». (الصدوق، إكمال الدين وإتمام النعمة، ص 152، ب6، ح14).
4- قال الصدوق في إكمال الدين: أول الغيبات غيبة إدريس النبي صلی الله علیه و آله المشهورة حتى آل الأمر بشيعته إلى أن تعذر عليهم القوت وقتل الجبار من قتل منهم وأفقر وأخاف باقيهم ثم ظهر علیه السلام فوعد شیعته بالفرج وبقيام القائم من ولده وهو نوح علیه السلام ثم رفع إدريس إليه فلم تزل الشيعة يتوقعون قيام نوح علیه السلام قرنا بعد قرن وخلفا عن سلف صابرين من الطواغيت على العذاب المهين حتى ظهرت نبوة نوح ثم ذكر حديثا عن الباقر علیه السلام يتضمن غيبة إدريس عشرين سنة مختفيا في غار لما خاف من جبار زمانه و ملك من الملائكة يأتيه بطعامه وشرابه ثم ذكر ظهور نبوة نوح علیه السلام ثم روی بسنده عن الصادق علیه السلام: [أنه لما حضرت نوحا علیه السلام الوفاة دعا الشيعة فقال لهم: اعلموا أنه ستكون من بعدي غيبة يظهر فيها الطواغيت وأن الله عز وجل يفرج عنكم بالقائم من ولدي اسمه هود فلم يزالوا يترقبون هودا علیه السلام وينتظرون ظهوره حتى طال عليهم الأمد وقست قلوب أكثرهم فأظهر الله تعالى ذكره نبيه هودا علیه السلام عند اليأس وتناهى البلاء وأهلك الأعداء بالريح العقيم ثم وقعت الغيبة بعد ذلك إلى أن ظهر صالح علیه السلام. (إكمال الدين واتمام النعمة، ص 135 و 136، باب في ذكر ظهور نوح - 8- ح4).

الله تبديلا »(1).

وعليه فتفجير الموقف قبل آوانه بالمواجهة الساخنة ليست من البرنامج الإلهي بل هي من عمل الشيطان - طبعا الدفاع بلا ريب حق مشروع وحتى الدفاع الوقائي - لكن أن يكون المؤمن هو الذي يؤم الموقف، أو أن يخدع ويجر إلى تفجير الموقف فهذا خطأ كبير .

فلسفة القوة في منطق أهل البيت علیهم السلام هي الردع وليس الجبروت والتسلط والعدوان على الآخرين، فالقوة لا تعني العدوان وخلق أزمة مع الطرف الآخر، واللين لا يعني الضعف، بل هو لين في قوة وحزم.

اذن من قضايا الخفاء في الغيبة أن المؤمن بقدر ما يستطيع لا يبني في العلن، بل جل عمله ينبغي أن يكون مخفيا في هذا الجانب.

ولهذا ما جرى من موسی علیه السلام مع القبطي الذي استغاثه عليه أحد شیعته«وَدَخَلَ الْمَدِینَةَ عَلَی حِینِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِیهَا رَجُلَیْنِ یَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِیعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِی مِن شِیعَتِهِ عَلَی الَّذِی مِنْ عَدُوِّهِ فَوَکَزَهُ مُوسَی

ص: 174


1- سورة الأحزاب، الآية 62.

فَقَضَی عَلَیْهِ ۖ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِینٌ *قَالَ رَبِّ إِنِّی ظَلَمْتُ نَفْسِی فَاغْفِرْ لِی فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ»(1).

مع أن موسی علیه السلام نبي ومن أولي العزم لكنه في ذلك الوقت كان عليه تدبير أمره في السر وليس في العلن، ولهذا فسرت «ظلمت نفسي» الدخوله في منطقة العدو، وهو مطالب بكتمان نشاطه، لأن كشف أوراقه يؤدي إلى ضعفه:«قَالَ رَبِّ إِنِّی ظَلَمْتُ نَفْسِی فَاغْفِرْ لِی»(2)، واغفر لي يعني استرني.

ولأهمية أمر الكتمان ترى الألم الذي يعتصر قلب الإمام السجاد علیه السلام على فقدان شيعته هذه الخصلة بالذات: «وددت والله أني افتديت خصلتين في الشيعة لنا ببعض لحم ساعدي، النزق وقلة الكتمان»(3).

هذا الأمر أيضا مرتبط بالمشروع المهدوي عند الغيبة، وإذا كان عنوان المرحلة الغيبة، فهي لا تعني إلا الخفاء، ولا تعني الجمود أو عدم المبالاة، بل تعني الخفاء والسرية، ومعنى السرية هو أن تكون في قمة النشاط، فماذا سر وماذا تخفي؟ لا بد أن يكون هناك شيء تخفيه وهذا هو معنى الغيبة والخفاء، فإذن الخفاء هو عنصر قوة لبناء المجتمع الصالح والقوي(4)، ومن أكبر المحرمات کشف الستار، ولكن ينبغي الإشارة أن هذا الأمر ليس في العقائد المعلنة.

ص: 175


1- سورة القصص، الآيتان 15 -16.
2- سورة القصص، الآية 16.
3- الكليني، الكافي، ج 2، ص 222.
4- روي عن الإمام الباقر علیه السلام أنه قال : «ولا بد له في غيبته من عزلة، ولا بد في عزلته من قوة»(الغيبة للطوسي، ص102).

وهذا هو الأسلوب والنهج القرآني في جانب النور والهداية«ادْعُ إِلَی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ» (1)«إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَیِّنَاتِ وَالْهُدَی مِن بَعْدِ مَا بَیَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِی الْکِتَابِ ۙ أُولَئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَیَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (2).

اذن المسؤولية عامة على أهل الأيمان في الكتمان والسرية فيما يتعلق بجانب التنظيم وصناعة القوة.

ص: 176


1- سورة النحل، الآية 125.
2- سورة البقرة، الآية 159.

الفصل الحادي عشر: المفاهيم وضرورة حفظها -

اشارة

1.خطورة النكث بعد الأيمان

2. جدلية العدل والتزام العرف

3. ضرورة عدم الخلط بين الموازين

4. الأعتزال الأيجابي سنة من سنن الأنبياء

5.بين الثابت والمتغير

ص: 177

ص: 178

خطورة النكث بعد الأيمان

أحد مصاديق النكث الواضحة هذا الالتباس والانهزام الفكري سواء كان على صعيد القضاء، أو الفقه السياسي، أو الاسري.

والحرب الفكرية على النظام الأسري في منهج القرآن والعترة من قبل الغرب على قدم وساق، التسفيه والتشنيع حتى على التشريعات

القرآنية ومرويات المعصوم تحت أسماء ومسميات مختلفة.

ولخطورة النكث فإن النبي صلی الله عليه و آله أوصى أمير المؤمنين علیه السلام بقتالهم من بعده، وكذلك قتال القاسطين والمارقين (1)، ولكن الناكثين أخطر لأنهم بداية رفع الالتزام ولو بلباس دیني.

والثبات على منهج الدین بوعي وبصيرة وبلغة عصرية من أهم الوظائف ف(العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(2)، وأعظم هذه الوظائف هو الثبات على إمامة صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف لأنه صاحب هذا المشروع، فإذا انهزم المؤمن فقد تخلى عن المشروع، وبأي مشروع بعده

ص: 179


1- روى الحاكم بإسناده عن عتاب بن ثعلبة: «حدثني أبو أيوب الأنصاري في خلافة عمر بن خطاب قال: أمر رسول الله صلی الله علیه و آله علي بن أبي طالب عليه السلام بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. (المستدرك على الصحیحین، ج3، ص139).
2- نص حديث للإمام الصادق علیه السلام(الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 27).

يؤمن الإنسان! هؤلاء الذي يقولون «ارجع يا ابن فاطمة فلا حاجة لنا بك»(1)ليس فقط هم يقولون ذلك، بل نحن أيضا - لا سامح الله - إن تراجعنا عن مشروع الدين وعن مشروع أئمة البيت علیهم السلام.

فما كان على صعيد البصيرة حتى نكث العهود مع الدين والإيمان له درجات أيضا، وهذا التعديد الموجود في دعاء الندبة يعني ان صاحب الزمان علیه السلام ليس عنده مهادنة، ولا تقرير للفساد من أي كان وفي أي دائرة مهما قربت، وسيكون حاله كحال جده أمير المؤمنين علیه السلام«يَحْذُو حَذْوَ الرَّسُولِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِما وَآلِهِما، وَيُقاتِلُ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَلَا تَأْخُذُهُ فِي اللّهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، قَدْ وَتَرَ فِيهِ صَنادِيدَ الْعَرَبِ، وَقَتَلَ أَبْطالَهُمْ، وَناوَشَ ذُؤْبانَهُمْ، فَأَوْدَعَ قُلُوبَهُمْ أَحْقاداً بَدْرِيَّةً وَخَيْبَرِيَّةً وَحُنَيْنِيَّةً وَغَيْرَهُنَّ، فَأَضَبَّتْ عَلَى عَداوَتِهِ، وَأَكَبَّتْ عَلَى مُنابَذَتِهِ، حَتَّى قَتَلَ النَّاكِثِينَ وَالْقاسِطِينَ وَالْمارِقِينَ»(2).

فنحن على الأقل يجب أن نكون واعين ولو على مستوى التنظير، فإن لم نكن نملك الأسلحة المادية فلنملك الأسلحة العلمية والإعلامية، فالنكث له درجات كثيرة، ويجب الوعي لها.

والانحراف الآخر - وهذا أيضا سنة تتكرر في كل زمان - هو منج القاسطين والمارقين. والقاسطين يعني أنهم وصلوا إلى نهاية المطاف، وهناك بيان السيد الأنبياء مروي عند الفريقين وهو بالترتیب: ناکثین، قاسطین، مارقين، وكأن الترتيب رتبي من قبيل السبب والمسبب وتداعياته، يعني الناكثين يفرزون قاسطين، والقاسطين يفرزون مارقين.

ص: 180


1- محمد بن جرير الطبري الإمامي الصغير، دلائل الإمام، ص239
2- مقطع من دعاء الندبة.

أخطر شيء في البداية الوعي والبصيرة، كما عبر الاصوليون ان الموافقة الالتزامية أعظم واسبق وأخطر من الموافقة العملية، بل لو عملت بالواجب وأنت لا ترى أنه واجب، فهذا أخطر وأضل وأكثر فسقا.

الموافقة الالتزامية أن تلتزم أن هذا حق على صعيد الوعي والإذعان، إذن العقيدة أعظم من العمل مع أهميته.

الملل والنحل قامت على الرؤية الايدلوجية ولم تقم على السلوك البدني، فالرؤية والمعرفة هي الأخطر والأعظم ثوابا لأرتباط مصير البشرية بها.

والقاسطون هم ناكثون وزیادة، فإذا ابتليت الأمة بالنكث تلقائيا تصل ذروة الانحراف في الناكثين إلى القاسطين، يعني السقيفة تلقائيا تولد الاموية.

في الآية الكريمة:«وَإِذْ قُلْنَا لَکَ إِنَّ رَبَّکَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ۚ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْیَا الَّتِی أَرَیْنَاکَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِی الْقُرْآنِ ۚ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا یَزِیدُهُمْ إِلَّا طُغْیَانًا کَبِیرًا »(1) فالآية تتحدث عن مستقبل رؤية وحيانية، فتنة للناس وهي السقيفة، والشجرة الملعونة تطور النكث ليذهب إلى القاسطين، وتداعياتها كأنها تكوينية سبب ومسبب، تمادى النكث فوصل ذروته إلى القاسطين، والقاسطون يرفعون شعار العدل لكنهم لا يلتزمون ببنوده وفصوله، وفي البداية خلعوا ربقة العهد والبيعة والالتزام.

ولذلك المطلوب من المؤمن في زمن الغيبة الكبرى تجديد البيعة

ص: 181


1- سورة الإسراء، الآية 60.

كل يوم ليجدد التزامه بهذا المشروع بحذافيره، يعني لا يقبل التراجع لنفسه فكريا أو قلبيا بل أن يبصر ويعي كل هذه البنود.

وهذا الشعار أيضأ درجات، فيه الجلي، وفيه الخفي، وفيه الأخفى وهكذا، فنكث العهد ونبذ الالتزام إذا تمادى الإنسان فيه تصل به الأمور إلى التمادي في رؤية الحسن قبحا وبالعكس!، يعني صلافة في الإعلان جهارا، وعدم العظة ورعونة في الالتزام بالقبيح والباطل مع الإصرار على صحة معتقده الباطل، والنهج الاموي لا يخفى منذ بدايته حتى زواله قباحة صريحة بدون حياء.

ولذلك وردت الأحاديث الكثيرة في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله: «لتأمرن المعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم»(1).

وأيضا ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام لما قدم العراق ونزل الحيرة دخل عليه أبو حنيفة وسأله عن مسائل، وكان مما سأله أن قال له: جعلت فداك ما الأمر بالمعروف؟ فقال علیه السلام: «المعروف يا أبا حنيفة المعروف في أهل السماء المعروف في أهل الأرض، ذاك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام»قال: جعلت فداك فما المنكر؟ قال: «اللذان ظلماه حقه وابتزاه أمره وحملا الناس على كتفه؟ قال: ألا ما هو أن ترى الرجل على معاصي الله فتنهاه عنها؟ فقال أبو عبد الله علیه السلام: ليس ذلك أمرا بالمعروف ولا نهيا عنالمنكر إنما ذاك خير قدمه.(2).

ص: 182


1- الطبراني، المعجم الأوسط: ج2، ص99.
2- تأويل الآيات: ج 2، ص853، ح8؛ والبحار: ج10، ص208، ح 10.

إقامة للعدل أو التزام العرف؟

ذكرت لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، صفات عديدة من خلال الأدعية والزيارات منها انه مجدد لسنة النبي صلی الله علیه و آله، ومحيي لما عطل من أحكام كتابه،«أَيْنَ الْمُدَّخَرُ لِتَجْدِيدِ الْفَرائِضِ وَالسُّنَنِ ؟ أَيْنَ الْمُتَخَيَّرُ لِإِعادَةِ الْمِلَّةِ وَالشَّرِيعَةِ ؟ أَيْنَ الْمُؤَمَّلُ لِإِحْياءِ الْكِتابِ وَحُدُودِهِ ؟ أَيْنَ مُحْيِي مَعالِمِ الدِّينِ وَأَهْلِهِ ؟»(1).

كل هذه بلا شك ذكرت كبنود، لكن الأشهر في تلك البنود هي العدل والقسط، كأنها ميزة له علیه السلام دون جميع الأنبياء والأوصياء، ربما النبي سليمان تولى ملكا إلهيا، أو ذو القرنين، أو يوسف النبي في منطقة جغرافية معينة، وحتى سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله في الجزيرة العربية، أو أميرالمؤمنین علیه السلام في منطقة جغرافية أكبر، أما خصوص صاحب العصر والزمان فإنه يملأها قسطا وعدلا، خاصة له دون غيره.

وهنا سؤال يطرح نفسه وهو: إذا خرج وليس في عنقه بيعة لأي نظام سياسي أو اجتماعي فكيف يتلائم هذا مع أمر الله عز وجل لسيد الأنبياء:«خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِینَ»(2)؟

ص: 183


1- مقطع من دعاء الندبة.
2- سورة الأعراف، الآية 199.

فهذه فريضة قرآنية أمر بها سبحانه وتعالى، وسنة نبوية قام بها النبي صلی الله علیه و آله، فكيف يتخطاها صاحب العصر والزمان؟

كيف نجمع بين عدم اعترافه باي عرف أو نظام فاسد، وهو خارج نطاق تأثير أي دائرة عليه حتى من قبل مواليه، مع مضمون الاية الكريمة «خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين»؟

هذه قاعدة قرآنية ونبوية عظيمة لكن يجب تحديد موطنها لكي تتضح الصورة.

هناك اشكال من قبل المدرسة الإمامية على مذاهب الجمهور، ومن باب المثال لو اخذنا قاعدة «المصالح المرسلة وسد الذرائع» فالأشكال بالدقة هو أن تلك المذاهب طبقت هاتان القاعدتان في مورد خاطئ.

ففي تحريم المتعتين - متعة الحج ومتعة النساء على سبيل المثال أن من حرمهما استند على «سد الذرائع والمصالح المرسلة»وهذا الاستناد خاطئ، والذين أتوا من بعده لم يميزوا الموطن الصحيح لسد الذرائع والمصالح المرسلة مع هذا التحريم

هذا التحريم باطل لأن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة، فسد الذرائع والمصالح المرسلة في مقام التدبير السياسي وباب التزاحم له حکم سیاسي، ولكنه ليس حكم تشريعي ثابت.

بعبارة موجزة ذكر الأصوليون أن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة هذا على صعيد التطبيق التشريعي.

أما على صعيد التطبيق الجزئي المقطعي الزماني فيمكن للإنسان أن

ص: 184

يمنع نفسه عن ارتكاب الحلال، ولكنه ليس تحريم كلي ثابت بل هو في موارد المهم والأهم، وفيها يجب على الإنسان أن يراعي الأهم، فإذا فرط بالاهم لأجل المهم أرتكب حراما، فالأهم يمنعه من إتيان المهم هنا، ولكنه ليس منع تشريعي ثابت، بل هو منع مؤقت جزئي تدبيري في عالم سياسة المجتمع، أو الأسرة، أو في عالم تدبير الفرد لنفسه. سد الذرائع بهذا اللحاظ صحيح، ومصالح مرسلة بهذا اللحاظ أيضأ صحيح، أما أن تجعل ضوابط قاعدة سد الذرائع وقاعدة المصالح المرسلة قواعد للتشريع الثابت کمن قال: «متعتان على عهد رسول الله وانا احرمهما واعاقب عليهما»(1)، فان كان المراد بذلك هو التحريم التشريعي فهذه نبؤة جديدة!، أما إذا كان المراد المنع المقطعي فهذا لا يعني الحرمة التشريعية، فلماذا أتباعه يبنون على المحرمة التشريعية؟ هنا الخلط بين المصالح المرسلة وسد الذرائع وجعلها قاعدة تشريعية طامة كبرى.

اذن القواعد التشريعية يجب ان نعرف مواطنها، وان لم نعي مواطنها اختلط الحابل بالنابل، ولا يكفي مشروعية الشيء لتطبيقها، بل يجب الوعي حتى لا يعمل الميزان في غير محله وموطنه، وإلا لا يكون ميزانا،«وَأَقِیمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِیزَانَ »(2) فالوزن قانون صحيح

ص: 185


1- عن أبي نضرة عن جابر رضي الله عنه قال في حديث: تمتعنا مع رسول الله صلی الله علیه و آله ومع أبي بكر رضي الله عنه، فلما ولي عمر خطب الناس فقال: إن رسول الله صلی الله علیه و آله هذا الرسول، وإن هذا القرآن هذا القرآن، وإنهما كانتا متعتان على عهد رسول الله عنه وأنا أنهی عنهما وأعاقب عليهما، إحداهما متعة النساء، ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل إلا غيبته بالحجارة، والأخرى متعة الحج، افصلوا حجكم من عمرتكم، فإنه أتم لحجكم وأت مالعمرتكم. (البيهقي، السنن الکبری، ج7، ص206).
2- سورة الرحمن، الآية 9.

لكنه عادل، والقانون شرعيته بالعدل والعكس غير صحيح، لأن العدل هو الأصل فيجب مطابقة القانون للعدل.

ونحن الآن نعيش في عصر وصل فيه الدجل إلى درجة لم تشهدها البشرية في أي جيل من أجيالها، وقد بلغ قوته من الناحية الفكرية والإعلامية في زمن يضيع فيه الميزان بالعدل حتى على اللبيب كما في الروايات.

الشائع الآن في ثقافة المجتمع أن القانون هو الأصل، وما يطابق القانون هو العدل وما يخالفه فهو جور وظلم!، جعل الأصل القانون ومصالح البشر وتوافقاتهم هذه مشكلة، بعنوان انتخاب الأكثر یکاد طبق هذا المفهوم الخاطئ على العقل القانوني والسياسي والمجتمعي.

لكن في منطق أهل البيت علیهم السلام العدل هو الأصل وما طابق العدل هو القانون، يعني النظم والقانون بتوسط العدل، كما تقول الصديقة الطاهرة علي النار «وجعل إمامتنا نظاما للملة»، فالعدل نظام وهم سلام الله عليه مجسدة العدل حسب نص القرآن الكريم.

وهذا هو منطق أهل البيت علیهم السلام أن الحسن والقبح ذاتيين عقليين، فإن توافق عرف البشر وتراضي على هذا الحسن والقبح الذاتي فهو صحيح،وليس الموازين والمواثيق البشرية بما هي.

مع أن الله سبحانه وتعالى يأمرنا بالوفاء بالعهود «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ کَانَ مَسْئُولًا»(1)، ويوصينا بمراعاة العرف«خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِینَ »(2)، أيضا يأمرنا بجعل العدل هو الأساس في

ص: 186


1- سورة الإسراء، الآية 34.
2- سورة الأعراف، الآية 199.

القانون ونظم الأمور«وَأَقِیمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِیزَانَ »(1)فالميزان قانون يجعل بالعدل.

والعهد من مصادر التشريع عند القانون الوضعي وهو من منابعها المهمة، والعرف نوع من العقد الاجتماعي، وعند السيد «الخوئي» تنظير وافق فيه أحد المحققين السابقين له وهو المحقق «النهاوندي»في كتابه «تشریح الأصول»على أن دلالة اللفظ على المعنى في اللغة هي بالوضع وأن العرف هو تعهد، وفي هذا الكتاب يذكر هذا المحقق نظرية السيد الخوئي نفسها في الوضع، والوضع مخرج من مخرجات التوافقات الاجتماعية يتصالح فيه فئة من البشر على الحوار بأصوات معينة، لذلك يبني هذان العلمان (المحقق النهاوندي والسيد الخوئي) على أن اللغة كبيئة اجتماعية ميثاق والتزام وعقد.

كثير من الأعلام أشكل على السيد الخوئي ولكن هذه النظرية صحيحة - وإنكان كلامنا في معنى الميثاق الاجتماعي وليس في اللغة أو الوضع - فهذه المفردة مثال مهم بني عليه هذان العلمان على أن نظام التوافقات الاجتماعية ولو بنحو تعيني لا تعييني يعني بنحو ارتکازي استرسالي، فأنت تدخل في مجتمع وتتعرف على لغتهم تلقائيا تدخل في العهد الاجتماعي، لا أن العقد يحتاج إلى إيجاب و قبول خاص.

وهذا المبنى نظرية في المواثيق الاجتماعية وهو شرح دقيق لمعنی العرف، هذا التعريف يظهر ويبين أن التوافقات بالارتكاز البسيط، فعندما تنخرط في بيئة اجتماعية معينة فأنت قد التزمت بالتعهد سواء التفت

ص: 187


1- سورة الرحمن، الآية 9.

تفصيليا ام لا، هذا المبنى في تعريف الالتزام الاجتماعي هي أحد الأمور التي ذكرها السيد الخوئي والمحقق النهاوندي في الوضع، وهو لا ينحصر في اللغة والوضع، بل هذا البحث عام في كل الأعراف، فإذا رضيت أن تستوطن بيئة اجتماعية معينة فهذا يعني أن تلتزم وتتعهد.

لذلك نفهم لماذا لا يتعایش «صاحب العصر والزمان»في أي مجتمع مدني، لأنه لا يدخل ضمن مواثيقهم، ولا يتعهد بعهودهم، وهو غائب وينأى عن التعايش مع الأعراف المختلفة، ليس عنده بيعة لأحد - والبيعة يعني تعهد و التزام - وهو لا ينسجم مع هذه التوافقات المجتمعية المدنية إلا بمقدار ما طابقت دين الله وسنن رسوله، إما أن يتعايش أو يتوافق أو يتعاهد فهذا لا يكون أبدا، لأن هذه البيئات قد حرمها الله عز وجل عليه منذ ولادته، وولادته خفية لهذا السبب.

وعلى هذا الارتكاز، فعندما يعيش الإنسان في مجتمع مدني فيقوم بالغدر والتفجير والتفخيخ والاغتيالات فهو بذلك قد نكث العهد، فإذا عاش الإنسان في بيئة ونظام آمن ومدني فهذا تعهد منه في هذا النظام المدني، إذا تعهد به ثم غدر ونکث به فهو غادر فاجر، وكل غادر وفاجر فإلى النار كما يقول أمير المؤمنين علیه السلام، وهو سلام الله عليه في الثلث الأخير من عهده لمالك الأشتر يوصيه بالمواثيق الاجتماعية وعدم نکث العهد إذا التزم به(1)

ص: 188


1- وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شئ الناس أشد عليه اجتماعا مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود. وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين، لما استوبلوا من عواقب الغدر ! فلا تغدرن بذمتك،ولا تخیسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي. وقد جعل الله عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته،وحريما يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره. فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه. (من عهد أمير المؤمنین علیه السلام لمالك الاشتر ارض لما ولاه مصر).

لكن هذا لا يعني أن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف يعيش في عالم آخر، بل هو نفسه بيئة صالحة في هذا العالم ويسعى لتوسعتها وتغيير الأعراف الفاسدة بأتجاه هذا العرف الصالح، لأنه ليس في معزل جغرافي، بل هو في معزل اجتماعي عن الأعراف الفاسدة، «بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ مُغَيَّبٍ لَمْ يَخْلُ مِنَّا، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ نازِحٍ مَا نَزَحَ عَنَّا»(1)

الجدار الأخلاقي هو الذي يعزل صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه شریف عن كل المجتمعات طيلة أكثر من عشرة قرون، الأعراف الفاسدة هو لا يتنازل لها ولا يتزايل عن صراطه المستقيم، ولا يستثمرها بمعنى أن ينصاع لها ثم يأخذ مخرجاتها، بل من البداية هو يعيش في بيئة اجتماعية ليس فيها لوث أو شائبة «لم تدنسك الجاهلية بانجاسها ولم تلبسك من ملهمات ثيابها»، ثيابها الاجتماعية والسياسية والمالية والتجارية، وهذا مفهوم آخر للغيبة، ومنه نعرف معنى الظهور والغيبة، هو نازح ونائي عن هذه التوافقات الاجتماعيةونزوحه ليس جغرافيا، بل نازح عن السلوك الاجتماعي الخاطئ، ومن الأعراف الفاسدة إلى عرف صالح.

ص: 189


1- مقطع من دعاء الندبة.

ضرورة عدم الخلط بين الموازين

الخلط يقع إذا أخطأنا التمييز بين الموازين في الأبواب، فتارة تجعل المصالح المرسلة وسد الذرائع قاعدة لأصل حلية الشيء وحرمته، وهاتان قاعدتان باطلتان في أصل التشريع كما أسهب علماء الإمامية طوال قرون في توضيح هذا المطلب، وتارة هاتان القاعدتان تجعلان میزان لتدبير جزئي زمني مقطعي، وهذا أمر آخر.

وبعبارة أخرى - كمثال - بعض القواعد الفقهية أو القانونية بعضها قواعد للقوانين الدستورية، وهناك القوانين البرلمانية والمجالس النيابية وهي أيضا قواعد قانونية أو فقه قانوني لكنها تختلف سنخا عن قواعد القانون الدستورية، وهكذا تتنزل القوانين إلى وزارية وبلدية وما شابه ذلك، يعني أنماط من القواعد القانونية وهي ليست على درجة واحدة وسنخ واحد، فجعل قاعدة معينة في القانون البلدي قاعدة في الفقه الدستوري حينئذ ستحدث مشكلة في علم الفقه الدستوري لعدم وجود الصلة، فالقواعد القانونية البلدية عبارة عن موازين تدبيرية في البيئة الخاصة لتلك المحافظة أو المنطقة، وليس لها ربط في الحكومة الاتحادية مثلا، وهذا مبحث مهم جدا وأكد عليه علماء الإمامية كثيرا، لأنه ستعم الفوضى في التقنين مع ملاحظة ذلك على صعيد البلاد الواحدة والرقعة

ص: 190

الواحدة، فكيف إذا كان على صعيد البلدان البشرية، لأنه يجب مراعاة الخصوصيات التي لابد ان تحفظ في كل شعب أو بيئة.

وهذا ما كان عليه أئمة أهل البيت سلام الله عليهم، أما في التفاصيل النازلة فهذا سر طول غيبته عجل الله تعالی فرجه شریف، فهو غائب ومعتزل عن أصل المشروع الفاسد، ولكنه يمارس الهداية برفق وتدریج لتغيير البشر وهدايتهم، نفس الغيبة هي رفق تدريجي في كيفية التغيير من دون أن يسلم أو يهادن لأي عرف فاسد، ونفس الذوبان بأي عرف من الأعراف هو تعهد لتلك الأعراف الفاسدة.

وهنا أمر يجب الالتفات إليه وهو أن صفات المعصومين ليس المراد منها الصفات الفردية، فعندما نصف أمير المؤمنين علیه السلام بالشجاعة، فليس المقصود الشجاعة بالعضلات، فهذا بعد يسير منها، بل دوما مراد منها الشجاعة على افق اكبر، وكذلك عندما نقول «كاظم الغيظ»فهذا الرجل الذي كان هو يد الرسول ووزيره وصاحب المنزلة العظيمة عنده، ثم يسلب سلطانه ومع ذلك هو لا يفقد تدبيره، ولا يفقد التخطيط المنهجي لمرحلة بناء جديدة وصعبة، وهذه البشرية التي انكفأت عنه بعد خمس وعشرون عاما تعود إليه ندما، هذا هو معنى كظم الغيظ عند علي علیه السلام، لا يستفزه المعادي، بل تدبيره هو هو، ولن يستحوذ عليه الارباك.

نفس كظم الغيظ هذا عند موسی بن جعفر سلام الله عليه، بعض الناس يكظم غيظه (الفردي) لكنه روحيا منهار، وفكريا لا يدبر أمره، بل أصابه الاعياء، وهذا ليس كظما للغيظ.

كظم الغيظ عند أمير المؤمنین علیه السلام له معنى آخر، يعني نوع من امتصاص الضربة والعلاج، وهذا معنی مختلف.

ص: 191

شراسة هارون العباسي في قتله موسی بن جعفر علیه السلام بهذه الشدة أراد أن يستفز الإمام ليتخذ الأسلوب الساخن، وبالتالي يعرض القاعدة الشعبية لموالي أهل البيت للخطر، ومع ذلك صلوات الله عليه امتص الضربة من دون أن يعطي للعدو ما أراده من إبادة هذه المسيرة في وجودها الشعبي

من يتخيل أن القاعدة الشعبية للإمام قد تقاعست عن نصرته فهذا ليس بصحيح، لأن ما جرى هو من تدبير الإمام الكاظم علیه السلام بنفسه ولم يعطي للعدو ما يريده، والذي كان يريد المواجهة بأي طريق كان لأبادة المؤمنين، إذن كظم الغيظ عند موسی بن جعفر علیه السلام أيضا له معنى آخر.

هنا أيضا في وصف صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف «ذو الحلم الذي لا يصبو»، يعني لا تأخذه صباوة المستعجلين والمؤقتين والمتسرعین، ذو الحلم يعني الطمأنينة والسكينة في التخطيط القيادي والحضاري.

ص: 192

الاعتزال الإيجابي سنة من سنن الأنبياء

أيضا من معاني الغيبة هو نأيه عن الالتزام والذوبان في مواثيق اجتماعية فاسدة، بل حتى لو كانت موازین اجتماعية صائبة وكان ولي هذه المواثيق إنسان غير عادل هو أيضا يكون برئ منها.

فغيبته بمعنی براءته وعدم التزامه بأي مواثيق ليست على الموازين، أما من ناحية المتصدي أو من ناحية نفس الميثاق، هو غائب بهذا المعنى فهو برئ وبعيد ومنقطع لا يستسلم ولا يسلم لها، نظير ما ورد في النبي إبراهيم علیها السلام «وَأَعْتَزِلُکُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّی عَسَی أَلَّا أَکُونَ بِدُعَاءِ رَبِّی شَقِیًّا»(1)سنة من النبي إبراهيم نجدها في الإمام الثاني عشر.

فالغيبة بمعنی اعتزال البيئات الفاسدة ولكن ليس اعتزالا سلبيا، بل هو اعتزالا إيجابي، أي إنه في وسط الأحداث، وهو فيهم ولكنه ليس منهم.

وكذلك سنة النبي عیسی علیه السلام:«وَمُطَهِّرُکَ مِنَ الَّذِینَ کَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِینَ اتَّبَعُوکَ فَوْقَ الَّذِینَ کَفَرُوا إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ»(2) يعني البيئة التي فيها جور وظلم بيئة نجسة في منطق القرآن.

ص: 193


1- سورة مريم، الآية 48.
2- سورة آل عمران، الآية 55.

هذا الأنفلات هو نجاسة لأنه فيه طغيان وفرعونية، ويدخل فيه طغيان الغرائز والأنانية، وهذه كلها أرجاس في منطق القرآن.

فإذن أحد معاني الغيبة الاعتزال الإيجابي عن التسليم للبيئات الفاسدة وهو طهارة، ويقابلها الظهور الذي هو عبارة عن انتشار البيئة الطاهرة - من بنود المشروع المهدوي - ونشرها وتكريسها بين الناس، وهذا معنی اجتماعي للغيبة وللظهور أيضا فيمنطق الحضارات.

ص: 194

الفصل الثاني عشر: الوعي والبصيرة في مشروع التمهيد

اشارة

1. التعرف على بنود المشروع .

2. الوعي بالمشروع المهدوي 3

3. ضرورة المعرفة والترويج للمشروع المهدوي

4. الوعي والبصيرة في مواجهة الحرب الأعلامية

5.حرب المعلومات المضللة

6. الدولة المهيمنة بالعلم والبصيرة

ص: 195

ص: 196

التعرف على بنود المشروع

للتعرف على منظومة البنود المهدوية الواردة في الأدعية والزيارات الخاصة به، يعني أن لا يتوقف المؤمنون عند أفق سياسي محدود و معین، أو عند عرف من الأعراف المعينة.

وللتعرف على هذه البنود ينبغي التأكيد على عدة خطوات:

الخطوة الأولى، قراءة هذه البنود لنستنبط منها باستنباط اجتهادي، فهي خير مصدر للفقه السياسي في الغيبة الكبری.

وأي باحث يريد أن يكتب في الفقه السياسي أو الفقه القضائي فلا يبتعد كثيرا ويخص بحثه فقط بالمواد الموجودة على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله، أو عهد أصحاب الكساء علیهم السلام، ولا ريب أن بنيتهم أساسية، لكن لا بد من العودة لمصادر من البنود الواردة في اللون الوحياني بعنوان مهدوي من خلال الأدعية والزيارات المرتبطة به صلوات الله عليه، لأن مشروع السماء تبلور وامتد في الياته ونظامه ومعادلاته بهذا القالب.

اذن قراءة هذه البنود وبالدرجة الأولى معرفتها ودوام التعرف عليها و استنباطها سواء في البحوث العقائدية أو في البحوث الأخلاقية السياسية والاجتماعية والإدارية.

ص: 197

عهد أمير المؤمنين المالك الأشتر ضروري بلا شك، وكذلك نهج البلاغة، ولكن لابد أيضا من التعرف على البنود التي يرسمها لنا إمام زماننا عجل الله تعالی فرجه شریف التداخل تلك البنود مع بعضها البعض.

والخطوة الثانية التعرف على غريب الألفاظ في تلك البنود، مثل القرآن.

والخطوة الثالثة معرفة معانيها.

والخطوة الرابعة كيفية قراءتها على ضوء الفقه وعلم الكلام المركوزين لدينا في الأبواب والبحوث، وكذلك قراءتها على ضوء الأفق والأخلاق السياسية الحضارية في بعديها العام والفردي، وفي المحصلة معرفة هذه البنود لها خطوات ونحن مأمورون وملزمون بها. توجد روایات مستفيضة في باب التعارض بين الخبرين ذكرها صاحب الوسائل، وكذلك علماء الأصول في كيفية الأخذ بين الخبرين المتعارضين،وهناك روايات كثيرة تؤكد على ضرورة العمل بالأحدث، وأحد الاعلام يجعل بين المرجحات الروايات الاحدث.

افترض في عهد الإمام الصادق علیه السلام وفي كل سنة الإمام عنده توصيات إلى أتباعه المؤمنين في أبواب الدين المختلفة، فإذا علم المكلف بروایات صادرة عن الإمام الصادق علیه السلام قبل خمس سنين،وروایات صادرة عنه في هذا العام، فإذا كان فيها تعارض يعمل بالرواية اللأحدث، لأن الإمام علیه السلام هو الذي يشخص الوظيفة في المرحلة.

وهذا الأمر أيضا ينطبق لو كان التعارض بين روايتين صدرتا عن إمامين من الأئمة علیهم السلام فأننا أيضا نأخذ بالرواية الأحدث.

ص: 198

الآن نحن نعيش في عصر الإمامة والدولة الإلهية الخفية للإمام الثاني عشر عجل الله تعالی فرجه شریف، ولا ريب فيها توصيات وبنود معينة غير التوصيات السابقة التي صدرت عن أهل البيت علیهم السلام .

هم نور واحد ومصدر واحد لا شك في ذلك، لكن بحسب قواعد تشريعات التطبيق الأحدث له دور، سواء نظرنا له نظرة تشريعية أو نظرة تطبيقية.

فما صدر من بنود وتوصيات حول الإمام أو منه عجل الله تعالی فرجه شریف يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار بحسب النظام والمنظومة في اخذ أحكام الدين.

ص: 199

الوعي بالمشروع المهدوي

والخطوة الأولى لكي نصل إلى جعل هذه المبادئ اعرافا اجتماعية هي التعليم، لأن الجهل حاجز كبير في طريق التمهيد، فالتوعية والتثقيف والتعليم هو الخطوة الأولى.

ومن ثم توضیح للبنود بصورة أكبر.

والحوارية المستمرة مع العقل البشري إلى أن تصل البشرية إلى درجة الطموح والطمع والانشداد إلى هذا المشروع ببنوده الواعية غير المحرفة والمتكاملة والمنظومة، لتبدأ المجتمعات البشرية والنخب البشرية تهتف بهذا الأمر.

يعني يصبح لها أنس فيما بينها مع حكومة الظهور، وتكون البيئة صالحة لساعة الظهور، لذا كلما ابتعدت البشرية عن العلم الصحيح والسليم بالمشروع المهدوي كلما ابتعدت عن الظهور أكثر.

الوعي والإحاطة أولا بالمشروع المهدوي، هذه المسؤولية مهمة جدا، ثم بعد ذلك تعريف الآخرين به، ثم إقامة الأندية العلمية للمقارنة بين المشروع المهدوي الرباني الصحيح وبين الذي ترسمه المخابرات العالمية لتشويه الإسلام، فالاسلام لن يعرف بقلم النهج السقيفي أو الأموي أو العباسي أبدا، بل يعرف بمنهج أئمة أهل البيت علیهم السلام.

ص: 200

ضرورة المعرفة والترويج للمشروع المهدوي

الغايات الكبرى في مشروع الإمام المهدي هي بمثابة قواعد الوظائف في الغيبة الكبرى على الصعيد العقائدي، والفكري، والسياسي، وهذه المنظومة من البنود تم التأكيد عليها كثيرا في دعاء الندبة وفي أكثر الزيارات التي يزار بها الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف.

هذه المسائل ليست قضايا عابرة، بل هي أمر مهم، والتأكيد عليه کمجموعة ومنظومة له مغزی، ولا شك أن من وظائف الوسط العلمي الحوزوي في الدرجة الأولى الوعي بالمشروع المهدوي، ومن ثم نشر هذا الوعي، من أجل أن لا تختلط هذه الغايات والكمالات بأعراف البشر الفاسدة، بل البصيرة بهذا الفاصل أمر في غاية الأهمية، وإلا والعياذ بالله الاعتقاد بمهدوية الثاني عشر لن تتحقق لنا وسيكون الإيمان والمعرفة به مجرد لقلقة لسان لا واقع لها، ولن نكون على هذا الصراط بدون البصيرة بهذه المنظومة.

فمن يريد أن يعرف إمام زمانه علیه السلام عليه معرفة هذه البنود الواردة فيه،وزيادة هذه المعرفة معناها الزيادة في الموالاة والنصرة والتمسك به عجل الله تعالی فرجه شریف، فكأنما في خصوصية الإمام الثاني عشر دون بقية أهل البيت علیهم السلام ان له شؤون خاصة في الغيبة الكبرى والظهور، فإذا لم ينشد المؤمن معرفة وانقيادا وتمسكا بهذه البنود فلن يتعرف على إمام زمانه.

ص: 201

ومن ثم تقع على عاتقنا مسؤولية كبيرة وهي فريضة الترويج لهذه البنود وإطلاق عملية تربوية وتعليمية وارشادية هادية لتنمية العقل البشري بما فيها من معرفة، وفي كثير من أسرار الروايات إذا ما أنجزت هذه المهمة فإنها ستساعد في الظهور.

ربما نستخف بهذه المسؤولية أو نستهين بها ولكن هذه المرحلة هي من أهم مراحل الإعداد للظهور، ومن أعظم مراحل الإعداد العظيم لنصرة صاحب العصر والزمان علیه السلام، ولتوفير أرضية الظهور يجب نشر هذه البنود، وهذا ليس في الروايات فحسب بل جملة من التقارير المنشورة عن الغرب تقول لو قدر لهذه الشعارات أن تنتشر ويهتف بها الناس لسلب ولاء هذه الشعوب عن أنظمتها، وهذا هو الانتصار الكبير للظهور المقدس، أن تهتف به الشعوب وتكون شعاراتها ومطلبها الجماهيري شخصه عجل الله تعالی فرجه شریف.

فالتمهيد لا يحتاج إلى دماء وحروب ساخنة، بل يحتاج إلى نشر هذه البنود، وهذا ما لم نقم به طيلة عشرة قرون.

حتى الباحثين الغربيين الذين لا يقولون بإمامة المهدي علیه السلام يقولون أن هناك سر خفي في صمود أتباعه، فلولا وجود داعم أمني سري فان هذه الجماعة ستنقرض بسبب سياسات القتل والتنكيل المفروضة ضدها من قبل الحكومات الأموية والعباسية والعثمانية والاستعمارية فيما بعد، ويأتون بأمثلة لجماعات وملل انقرضت نتيجة سياسة معينة مورست ضدها، بينما هذه الجماعة تنتشر وتتوسع وتتمدد وتتعملق، ومن غير المعقول أن يكون هذا الأمر صدفة.

إذن المغزى العظيم من هذه البنود المنشورة في الدعاء والزيارات

ص: 202

الأخرى بعد أن نقوم بالواجب الأول وهو معرفتها والتبصر بها، ثم نهدي الآخرين إلى نورها ونشرها بين بني البشر وتجذيرها فكريا.

ص: 203

الوعي والبصيرة في مواجهة الحرب الإعلامية

وعلى ضوء المنهج المهدوي يجب التنبه إلى الأعراف الموجودة وان المسؤولية الملقاة على الجميع سيما أهل العلم أن لا يلتبس عليهم أولا الصائب من الفاسد من الأعراف البشرية تحت وطأة الضغط الإعلامي والشبهات والأفكار المختلفة، وقد ورد عن أهل بيت العصمة والطهارة أن الأشد من المنكر هو رؤية المنكر معروفا والمعروف منكرا، وهذا بلاء عظیم (1).

فدور الوعي العلمي والبصيرة بلحاظ بيئات البشر من المسؤوليات العظيمة الملقاة بالخصوص على كاهل الحوزة العلمية التابعة لأهل البيت علیهم السلام(2) ، والوعي العلمي يجب أن لا يكون فيه مداهنة، صحيح أن

ص: 204


1- روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر»فقيل له: ويكون ذلك یا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله: «نعم».فقال: «كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر، ونهيتم عن المعروف»فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ فقال: «نعم وشر من ذلك كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا؟». (المجلسي،بحار الأنوار، ج52، ص181، ب 25، ح 1).
2- عن الإمام الصادق علیه السلام: «إنما شیعتنا أصحاب الأربعة الأعين: عينان في الرأس، وعينان في القلب، ألا والخلائق كلهم كذلك، إلا أن الله ع وجل فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم»(الكليني، فروع الكافي، ج8،ص215).

المداراة ثلثي العقل، وضرورة المعاشرة بالحسنى مع الآخرين، لكن الوعي العلمي والبصيرة لا يرتبطان بالمداراة والمعاملة بالحسنی، فهذا الخلط إذا حصل فهو طامة كبری.

يجب أن يكون المؤمن وهو تحت وطأة الحرب الإعلامية النفسية والناعمة التي قد لا يشعر بها قويا وصلبا، وأن لا ينحني ويتراجع تحت ضغط اللوم بسبب طبيعة الضعف البشري لديه، وعليه التأسي بال البيت علیهم السلام في ذلك فهم لا تأخذهم في الله لومة لائم(1).

فالحرب النفسية والإعلامية أعظم تأثيرا في فكر الإنسان ووعيه من أي حرب أخرى، وفي المطارحات الفكرية هناك منهج خطير من قبل العدو وهو تعمية الحقيقة وطمسها، فينبغي على المؤمن أن يسير إلى الحقيقة برؤية هادئة بعيدا عن الاستفزاز والتشنج، لأنه عند الغضب يفقد الإنسان بصيرة العقل، إلا إذا كان الغضب مسخر للعقل.

الأئمة الماضين سلام الله عليهم فدوا بأنفسهم وأرواحهم الطاهرة وذهبوا إلى حد السيوف دون أن يهادنوا في الوعي، لأن الوعي إذا غاب غابت البصيرة تماما، وفي بداية دعاء الندبة هذه الإشارة الواضحة «وَكُلٌّ شَرَعْتَ لَهُ شَرِيعَةً وَنَهَجْتَ لَهُ مِنْهاجاً، وَتَخَيَّرْتَ لَهُ أَوْصِياءَ؛ بَعْدَ مُسْتَحْفِظٍ، مِنْ مُدَّةٍ إِلَى مُدَّةٍ، إِقامَةً لِدِينِكَ، وَحُجَّةً عَلَى عِبادِكَ، وَ لِئَلَّا يَزُولَ

ص: 205


1- من خطبة لأمير المؤمنین علیه السلام يصف فيها علاقته برسول الله صلی الله علیه و آله: «.... وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم سيماهم سيماءالصديقين، وكلامهم كلام الأبرار. عمار الليل ومنار النهار. متمسكون بحبل القرآن. يحيون سنن الله وسنن رسوله. لا يستكبرون ولا يعلون، ولا يغلون ولا يفسدون. قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل».(نهج البلاغة، ج 2، ص 157).

الْحَقُّ عَنْ مَقَرِّهِ، وَيَغْلِبَ الْباطِلُ عَلَى أَهْلِهِ وَلَا يَقُولَ أَحَدٌ لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً مُنْذِراً، وَأَقَمْتَ لَنا عَلَماً هادِياً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى»(1).

هذه الإشارة في دعاء الندبة هي أمر ضروري ومصيري، لأن المطلوب أن لا يكون هناك عمي في البصيرة فهو اخطر من عمى الأبصار، وهي زاوية مهمة جدا فلا يجب أن يكون هناك لبس في بطلان الباطل أو إحقاق الحق على أقل التقادیر، نعم قد تكون هناك ضرورة للمواربة أو عدم ابراز الحق بدرجة معينة، ولكن لابد من إبقاء قدر ما لأجل اظهار مسار الحق ومنهاجه.

والمسؤولية في الدرجة الأولى تقع على أهل العلم حتى لا تلتبس الأعراف الفاسدة أو التي اختلط صلاحها بفساد على العقل والوعي البشري فيتم التعامل معها على انها مثلي أو انها وصلت القمة في الصلاح.

ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الغاية التي ذكرت في دعاء الندبة الانفة الذكر، وأن إقامة الدين من خلال إقامة الحجة على العباد لتنير له الطريق وترشده نحو الصلاح حتى لا تغلب العقول على بصيرتها، وهذا هو معنی لئلا يغلب الباطل على أهله.

و في أصل التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد وجملة من ثوابت الدين الأخرى هذا المقدار لا يمكن التسامح به فهو مسؤولية كبيرة وفيه فلسفة الاختبار والامتحان. سنة الله سبحانه وتعالى في البشر ليس إجبارهم ولكن لم يفوض إليهم مطلقا بل هو أمر بين أمرين، وفي بداية دعاء الندبة تحدد الوظيفة الاجمالية من خلال البنود التفصيلية والتي يستعرضها الدعاء:

ص: 206


1- مقطع من دعاء الندبة .

«اللّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا جَرى بِهِ قَضاؤُكَ فِي أَوْلِيائِكَ الَّذِينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ وَدِينِكَ.... إلى أن يقول:وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّكْرَ الْعَلِيَّ وَالثَّناءَ الْجَلِيَّ، وَأَهْبَطْتَ عَلَيْهِمْ مَلائِكَتَكَ، وَكَرَّمْتَهُمْ بِوَحْيِكَ، وَ رَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِكَ؛وَجَعَلْتَهُمُ الذَّرِيعَةَ إِلَيْكَ، وَالْوَسِيلَةَ إِلَى رِضْوانِكَ، فَبَعْضٌ أَسْكَنْتَهُ جَنَّتَكَ إِلَى أَنْ أَخْرَجْتَهُ مِنْها، وَبَعْضٌ حَمَلْتَهُ فِي فُلْكِكَ، وَنَجَّيْتَهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنَ الْهَلَكَةِ بِرَحْمَتِكَ...»(1)

وقد ورد عن أمير المؤمنین علیه السلام في وصية لكميل بن زياد النخعي (ره): «... كذلك يموت العلم بموت حامليه»ثم قال: «اللهم بلي لا تخلوا الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهر مشهور، وإما خائف مغمور لئلا تبطل حجج الله وبيناته»(2)، لذلك في الروايات عن الفريقين، وبالذات في تفاسير الإمامية في الاجماع اللطفي انه لا يمكن أن يكون في المحجة الظاهرة إمام كل البشر ليس هناك جماعة ليست هي على الحق وإلا أطبق الباطل على أهله. (3)

ص: 207


1- مقطع من دعاء الندبة.
2- الشيخ محمد باقر المحمودي - نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ج8، ص16.
3- في خطبة طويلة الأمير المؤمنین علیه السلام بالكوفة قال فيها «اللهم لابد لك من حجج في أرضك حجة بعد حجة على خلقك، يهدونهم إلى دينك، ويعلمونهم علمك لكيلا يتفرق أتباع أوليائك، ظاهر غير مطاع، أو مكتتم خائف يترقب، إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم في دولة الباطل فلن يغيب عنهم مبثوث علمهم، وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة، وهم بها عاملون، يأنسون بما يستوحش منه المكذبون، ويأباه المسرفون، بالله كلام يكال بلا ثمن لو كان من يسمعه بعقله فيعرفه ويؤمن به ويتبعه، وينهج نهجه فيفلح به؟ ثم يقول: فمن هذا؟ ولهذا يأرز العلم إذ لم يوجد حملة يحفظونه ويؤدونه کما يسمعونه من العالم: ثم قال بعد كلام طويل في هذه الخطبة: اللهم وإنی لاعلم أن العلم لا يأرز كله، ولا ينقطع مواده فإنك لا تخلى أرضك من حجة على خلقك إما ظاهر يطاع أو خائف مغمور ليس بمطاع لكيلا تبطل حجتك ويضل أولياؤك بعد إذ هديتهم - ثم تمام الخطبة»(الكليني، الكافي، ج 1، کتاب الحجة، ب88، ص335).

ضرورة التوضيح أن أطروحة ومشروع القرآن وأهل البيت مستمرة في هداية البشرية فهي ليست تشريعات تاريخية اكل الدهر عليها وشرب، فإذا تسرب هذا الاعتقاد إلى النفوس فهو نكث!، فمن يشهد بالشهادات الثلاث أما أن يثبت عليها، أو ينكث عهده، لأن الشهادات الثلاث معناها الوهية الباري سبحانه وخالقيته وحاکميته، لأننا لا نقول بالتجربة البشرية، بل بما هو أكفأ وأوعی.

ص: 208

حرب المعلومات المضللة

أحد أساليب الحروب الأمنية هي المعلومات المضللة، بأن يقوم كل طرف بضخ معلومات للطرف الآخر وهو يظن أنها معلومات حقيقية،

لكنها في حقيقة الأمر معلومات مضللة.

هذه أحد آليات تلك الحروب، وكل الدول تعترف في حربها مع بعضها البعض أنها تقع فريسة المعلومات المضللة، أما صاحب الزمان فإنه لا يخدع، ومنذ ألف سنة لم يستطع أحد أن يفعل ذلك.

من الأشياء المهمة في الأمن وعلومه الاقتصادية والتجارية أو العسكرية هو تمييز المعلومات المضللة عن الحقيقية، وهذا من أصعب الأمور وبه يتم الخداع.

في حين ألف سنة لم يستطع أحد أن يسجل اختراقا أمنيا واحدا على صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، مع أن أدعياء المهدوية والسفارة كثر والعباسية أيضا كثر - العباسية هم الموالون الذين يصلون إلى السلطة وأول ما يفعلوه بعدالوصول هو الانقضاض على أهل البيت علیهم السلام- حتى هؤلاء لم يستطيعوا أن يغيروا صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه.

وهذا يعني أن لديه قوة عملاقة، مع تطور العلوم والخداع الأمني،

ص: 209

والملاحقات الأمنية أيضا تطورت، ومع ذلك ما استطاعوا أن يخترقوا حتى الأجهزة المعلنة لمدرسة أئمة أهل البيت علیهم السلام وهي الحوزة العلمية.

قتلوا مئات المراجع والمجتهدين والخطباء، وآلاف الطلبة من العلوم الدينية، ومع ذلك «جهاز الاعتبار»في الحوزة العلمية لم يستطيعوا أن يتسلقوا إليه.

أتباع أهل البيت علیهم السلام قلعة منيعة بالقيم، والقيم أعظم حصن حتى في المستوى الظاهر، لذلك الحرب الثقافية الآن على هذه القلاع الظاهرة غير الخفية لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، وهي الحوزات العلمية، يحاولون الآن من الداخل هدم الحوزات العلمية، ولن يستطيعوا لذلك.

مع أنه لا أحد يدعي أن العلماء معصومون، لكن أن يأتي من يعتبر العلماء كفرة! أو أنهم أعداء الدين! فهذا لعمري أمر عجيب(1). النقد ضمن الاجتهاد والتقليد لا بأس، أما نقدهم لغرض التكفير ؟! هذه أصابع أجنبية واضحة لأعداء مدرسة أهل البيت وأعداء صاحب العصر والزمان.

لم يغالي أحد من الإمامية بأن العلماء معصومون ليس فيهم زلل، فالزلل شيء وتكفيرهم واستعداء الآخرين ضدهم شيء آخر، خلط الأوراق بهذه الطريقة من أجل ماذا؟ لكي يهدموا هذا الصرح العظيم؟!! وأتى لهم ذلك.

ص: 210


1- ورد عن الإمام الرضا علیه السلام أنه قال «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك ابليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضفعاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها اولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل»(الطبرسي، الاحتجاج، ج 2، ص260).

الدولة المهيمنة بالعلم والبصيرة

إحدى الغايات والبرامج الرئيسية في مشروع الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف أنه لا يقتصر على تأسيس الدولة فقط، بل حسب التأكيد النبوي المتواتر عند الفريقين رأس أهداف المشروع المهدوي أمر عظيم، فهو يريد دولة مهيمنة على كل النظام العالمي ورادعة لكل أنظمة البغي والجور، فلا تسمح هذه الدولة لأحد بالبغي أو الجور، فهي تشل الجور وتعطل الظلم، فيقام العدل، وهذا كله بقوة الردع بسبب حضور الحاضر ووجود الناصر.

الأمر المهم الذي سلط عليه الضوء من قبل سيد الأنبياء في خصوصية نهضة ودولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف أنه يملك من القوة إلى درجة أنه لا يبني دولة تحمي نفسها فحسب، بل دولة توجب ردع كل القوى عن أي جور أو ظلم.

الأساس في دولة الظهور أن تكون الدولة المهيمنة، وهذا هومعنی «يملأ الأرض قسطا وعدلا»، وهذا مؤشر واضح أن الأنظمة العالمية التي تأتي قبل دولة الظهور تزداد ظلما وجورا، بل الآن ترى النظام العالمي المهيمن على الكرة الأرضية يزداد جورا وبغيا، والإحصائيات تشير إلى فظاعة البغي والجور والعدوان والظلم والفسق والفجور وكل شيء سيء، أرقام مرعبة تكشف هول الكارثة الاجتماعية والسياسية السائدة.

ص: 211

بملاحظة السقوط الأخلاقي وسفك الدماء والعنف المستشري الآن تدرك أن الوضع أشد من الجاهلية الأولى.

وقد ذكر في جملة من ملاحم الروايات ازدياد الخداع والمكر والحيلة إلى درجة تجعل العاقل حیرانا كما تشير الروايات إلى ذلك، يعني في هذا الزمان المؤمن يحتاج إلى تدبير وحذر أكثر بأضعاف من السابق.

ولكن في نفس الوقت - من البنود التي ركز عليها في دولة الظهور - انه يزداد العلم والبصيرة بأضعاف عما سبق.

بسبب ازدياد المكر والخديعة من الضروري ترقية الوعي والعلم والمعرفة إلى درجات اعلى وارقی.

هناك روايات مذكورة عن أهل البيت علیهم السلام، وهذه الروايات هي إشارة للأيات، فخط الظلام لن يقف عند خداع ما قبل الظهور، بل الخداع والمكر والكيد مرشح للأزدياد أكثر فأكثر حتى ما بعد الظهور وفي دولة الظهور، وما بعد دولة الظهور من بعد الرجعة، إلا أنه يقابله إزدياد عظیم في درجة الوعي والبصيرة.

فنحن في وعد منافسة جديدة بين قوى الجهل والظلام وقوى الحق والنور، وهناك تعبير متكرر وارد عن أهل البيت صلوات الله عليهم أنه هل في الرجعة كفر؟ قال أمير المؤمنین علیه السلام: «نعم والله، لكفرة في الرجعة أشد من كفرات قبلها»(1).

ولهذا المطلب أمثلة حسب بيانات القرآن والعترة، فأبليس کنموذج

ص: 212


1- المجلسي، بحار الانوار، ج52، ص42.

بلغ من الرقي المعنوي أعلى من بلعم بن باعورا، وكذلك اعلى من السامري الذي كان نموذج آخر لا يختلف عن بلعم بن باعورا وكان من الخواص ولكنه انحرف عن الطريق، إضافة إلى نماذج أخرى موجودة في الوحي.

إبليس بلغ ما بعد الدنيا والبرزخ والرجعة، وبلغ من الملكوت شيء عظيم، ومع ذلك انتكس وانزلق، حتى في الروايات أنه كان يصلي في صفوف الكروبين في أطراف الملكوت، فطريق التنافس بين خط النور وخط الظلام مفتوح ومرشح لما هو أشد وأعظم - وهذا من المفروض أن لا يخيفنا، بل العكس يثير العزيمة والهمة أكثر.

والمحصلة أنه في دولة الظهور كرت هذه الخاصية لصاحب الزمان علیه السلام أنه سيزيد من حجم النور والبصيرة والعلم، مما يدل على أن الصراع ليس فقط ماديا وبدنيا بل هو أيضا صراع روحي وعقلي وفكري، وأن دولة الظهور كما ترتقي في الأمور المادية لا بد أن تحقق التقدم أيضا في الأمور المعنوية الروحية والعلمية، ووردت نماذج تشير إلى أن كثير من ألاعيب الشياطين والجن ستكشف في دولة الظهور ببرکات ذلك العلم وتلك البصيرة.

يعني هذا النظام الموجود في قوى الظلام الذي يشير إليه القرآن الكريم: «یَا بَنِی آدَمَ لَا یَفْتِنَنَّکُمُ الشَّیْطَانُ کَمَا أَخْرَجَ أَبَوَیْکُم مِّنَ الْجَنَّةِ یَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِیُرِیَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ یَرَاکُمْ هُوَ وَقَبِیلُهُ مِنْ حَیْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّیَاطِینَ أَوْلِیَاءَ لِلَّذِینَ لَا یُؤْمِنُونَ»(1)هذا النظام نسبيا سيتحطم.

ص: 213


1- سورة الأعراف، الآية 27.

فعندما يقال أنه يملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا، فهذا يعني على كل الأصعدة المادية والعلمية والروحية.

إذن التمهيد لبناء دولة الظهور أو المساهمة في ذلك التمهيد يجب أن يشمل كل الجوانب، وهذا يعني أن فراسة المؤمن وفطنته لابد أن تزداد أكثر فأكثر، فإذا قنع بالموجود فسوف يكون قد تأخر عن ركب الصراع بين الخير والشر.

ص: 214

الفصل الثالث عشر: العدالة مطلب عالمي

اشارة

- قراءة جديدة لمنظومة العدل

- أين تكمن سعادة البشر

- القادر على بسط العدل

- الأصلح لقيادة العالم

- معنى «يملأها قسطا وعدلا»

ص: 215

ص: 216

قراءة جديدة لمنظومة العدل

منظومة الدين لا تعتدل ولا تتزن إلا بنحو مضموني مجموعي، هذه طبيعته، وهذا هو أحد تعاريف العدل والعدالة.

الكثير من تنظيرات البشر لمعنى العدالة لا تقر مبدأ التساوي - ربما عرف قديما بمعنى التساوي - أما حديثا بعد ان وصل البشر بنموه العلمي ونقاشاته الفكرية إلى درجة متطورة توصل إلى معنى آخر للعدالة وهو «التوازن»-أحد التعاريف الجديدة للعدل - فهو محور واحد لكن بهياكل مختلفة.

ولا زال هناك جدل علمي في تعريف العدالة، في الشيوعية - مثلا - وجدوا في تعريفهم للعدالة سلبيات فرفعوا اليد عنها إلى الاشتراكية، ثم رأوا سلبيات أخرى في تعريف الاشتراكية للعدالة فانتقلوا إلى السوق الحرة، ثم سلبيات أخرى فانتقلوا إلى البورصة، ثم رأوا سلبيات أخرى فانتقلوا إلى التجارة العالمية، والبشرية إلى الآن في لغط كبير في تحديد النظام العام للعدالة.

واحد الشواهد على ذلك نظام الانتخابات في العالم، فهو غير متفق عليه حتى بين الدول التي تعمل به، فلو أردت دراسة نظام السلطة في تلك الدول تجده مختلف وان كانت هناك بعض المشتركات، وهذا يعني ان

ص: 217

البشر إلى الآن غير متفقين على تنظير کلي لآليات تحقيق العدل والعدالة ولا آليات الوصول إلى السلطة.

الغرب الآن يعتمد على مراكز المعلومات والإحصاء والدراسات والاستطلاعات، هذه المراكز هي التي ترسم نظام وسياسة الدولة، وهي التي ترسم ملفات البرلمان والنظام القضائي.

يعني السلطات الثلاث القضائية والتشريعية والتنفيذية تحت سلطة مراكز الدراسات، فيلزمهم في أي خطوة أن تكون مقتنة وليست فقط في الدستور والمحكمةالدستورية، بل إن الذي يعطي الخارطة هي مراکز الدراسات، فليس من حق حفنة من الرجال سواء كانوا قضاة أو برلمانيين أو وزراء أن يمتلكوا أمر الأمة.

هم وصلوا إلى آليات أخرى غير الانتخابات وهو العلم الجمعي، والرقيب الأكبر ليس البرلمان ولا مؤسسات الدولة الأخرى، بل مراکز الدراسات هي الرقيب - وإن كانت نسبية - يعني العلم والعقل الجمعيين.

فالعدالة عند البشر والمشاركة وصلت الآن إلى هذا المستوى، لأن التوازن يأخذ دائما طابعا جمعيا.

هذا المعنى المنظومي للعدل والعدالة سيوضح لنا كيف أن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف سيملأها قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا.

ص: 218

أين تكمن سعادة البشر

الرؤية إلى سعادة البشر الان في النظام العالمي العادل والموحد، لأن الفطرة البشرية تدعو إلى النظام الموحد الذي يساوي بين بني البشر ويتعامل مع الجميع بالسوية دون تميز عنصري أو عرقي.

فالبشرية الآن ترى أن النظام الموحد أمر مهم وضروري، ولكن أي أطروحة تكون قادرة على إدارة العالم؟

هناك اعتراضات واضحة على نظام العدالة الذي دار به الأمم المتحدة من قبل الدول الكبرى، بل يمكن أن تكون التسمية الصحيحة لها

«منظمة عصابات الأمم!»ويكفي النظر إلى الشعوب المحرومة وكيف يتم اضطهادها باسم الشرعية الدولية.. والحال هذه فان الدين الذي تدعيه الأمم المتحدة ليس موفقا لحكم البشر، لأن الجميع الان يعترف بأن النظام الموجود في مؤسسات الأمم المتحدة غير عادل، فهي عصابات استخبارية للدول العظمى لكي تشرعن ظلم الأغنياء، حروب تقام من اجل النفط والغاز،باد بها شعوب تحت ذرائع مختلفة، ومنظمة الأمم المتحدة تشرعن ذلك الظلم، وعليه فمن الخطأ أن ينظر إلى الأمم المتحدة انها مدنية، بل هي دينية داین بها بني البشر، فبعض الأديان تجبر الآخرين على اعتناقها، وهنا إجبار على المواثيق الدولية الظالمة فإن رفض أحد ما

ص: 219

هذا الظلم يتهم بمعاداة الشرعية الدولية والإرهاب، وما إلى ذلك من التهم الجاهزة.

هذه اللغة العالمية للنظام العادل هي في فقرات دعاء الندبة وقوانينها، «نَ جامِعُ الْكَلِمَةِ عَلَى التَّقْوى ؟ أَيْنَ بابُ اللّهِ الَّذِي مِنْهُ يُؤْتى ؟ أَيْنَ وَجْهُ اللّهِ الَّذِي إِلَيْهِ يَتَوَجَّهُ الْأَوْلِياءُ ؟ أَيْنَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّماءِ ؟ أَيْنَ صاحِبُ يَوْمِ الْفَتْحِ وَناشِرُ رايَةِ الْهُدى؟ أَيْنَ مُؤَلِّفُ شَمْلِ الصَّلاحِ وَالرِّضا»(1)

والفرق واضح بين مشروع الدولة الإلهية وبين مشروع الأمم المتحدة! أصلا لا يمكن المقارنة بين من يملأها قسطا وعدلا وبين من يملأها ظلما وجورا.

«السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مِيثَاقَ اللَّهِ الَّذِي أَخَذَهُ وَ وَكَّدَهُ السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وَعْدَ اللَّهِ الَّذِي ضَمِنَهُ السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْعَلَمُ الْمَنْصُوبُ وَ الْعِلْمُ الْمَصْبُوبُ وَ الْغَوْثُ وَ الرَّحْمَةُ الْوَاسِعَةُ وَعْدا غَيْرَ مَكْذُوبٍ»(2)

البشرية الآن بقناعتها وفطرتها لديها میل نحو وحدة النظام العالمي، والوحي القرآني دعاها إلى ذلك: «قُلْ یَا أَهْلَ الْکِتَابِ تَعَالَوْا إِلَی کَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَیْنَنَا وَبَیْنَکُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئًا وَلَا یَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ»(3)والكلمة السواء يعني النظام الذي يشمل عدله الجميع.

ص: 220


1- مقطع من دعاء الندبة.
2- مقطع من زيارة آل یاسین.
3- سورة آل عمران، الآية 64.

يجب علينا أن نعيد النظر في الكثير من المفردات لكي تكتمل وتتضح لنا الصورة في المسير إلى منقذ البشرية علیه السلام.

ص: 221

القادر على بسط العدل

القرآن الكريم يبين أن العدل المنظومي العالمي في كل العوالم الكونية - وليس الأرض فقط . لا يمكن أن يقوم به إلا أهل البيت حصرا.

في قوله تعالى:«مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَی فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبَی وَالْیَتَامَی وَالْمَسَاکِینِ وَابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لَا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ مِنکُمْ ۚ وَمَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِیدُ الْعِقَابِ »(1)وحسب التفاسير فإن في الأرض هي ثروات الأرض كلها، وهذه الثروات الولي والمدبر لها هو الله سبحانه وتعالى، ورسوله الكريم صلی الله علیه و آله، وذوي القربی - يعني الأئمة من بعده -، أما اليتامى والمساكين وابن السبيل فقد ذكروا في الآية بدون لام ليشير إلى أنهم مصرف لهذه الأموال، وليست لهم ولاية .

لن يكون هناك من يقدر على إيجاد العدل المنشود في المعمورة وبين بني البشر سواء كان من السقيفة، أو من الأنظمة الرأسمالية أو الاشتراكية أو أي نظام آخر خلا أهل بيت العصمة والطهارة علیهم السلام فهم القادرون على ذلك، وإحدى وظائف صاحب العصر والزمان أنه ناصر

ص: 222


1- سورة الحشر، الآية 7.

من لا يجد ناصرة إلا الله، فأي شعب أو مكون مغلوب على أمره فهو ناصره، والدولة العالمية لا يقيمها إلا سيد الأنبياء وآل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.

فهنا الفيء هو فيء الأرض كلها، يعني عالمية الإدارة، يعني أعراف البشر ونظرياتهم ومدارسهم لن تستطيع أن تقترب من هذا الأمل المنشود وهو إقامة العدل في الأرض، لأن الأعراف والمواثيق والنظم البشرية - سواء من خلال الأمم المتحدة أو المواثيق الدولية التي هي خارج اطار الأمم المتحدة - لا تستطيع أن تصل ولو إلى نصف العدل المنشود، وهي أبعد ما تكون عن هدف البشرية.

وحسب النص الوحياني فإنه عجل الله تعالی فرجه شریف: هو من سيملأها قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا، وهذا لا يعني أن وظيفة المؤمنين في زمن الغيبة كما يروج أصحاب الأفكار المنحرفة التقاعس وعدم السعي للتمهيد وأنه التعجيل الفرج أن نترك الفساد ينتشر فهذا فكر شيطاني وانحراف عن جادة الصواب.

بالعكس هذا المنطق يزيدنا مسؤولية بأن لا نهادن ولا نستسلم لأي عرف بشري، فرغم تنامي اماكنيات البشر وتنامي عقولهم إلا أنه لا يزيدهم عن العدل والقسط إلا بعدة، وقد بينها أهل البيت علیهم السلام إن الذي يسير من دون إمام هدى لا تزيده كثرة السير إلا بعدا(1).

ص: 223


1- عن طلحة بن زيد قال سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : «العامل على غير بصيرة کالشائر على غير الطريق، لا يزيده سرعه السير إلا بعدة (الكليني، الكافي، ج1، ص 43، الحديث : 1 من باب من عمل بغير علم).

إذا لم نجعل رباني سفينة البشرية صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف فإن سيرها في بحور الفتن والظلمات لا يزيدها عن مقصدها إلا بعدا، بدلیل أن الحروب الأن تزداد ضراوة وفتكا لأسباب واهية وضحاياها بالملايين.

ص: 224

الأصلح لقيادة العالم

في منطق مدرسة أئمة أهل البيت علیهم السلام أن الرئيس الحاكم للنظام العالمي ولكل شعوب الأرض ممتنع أن يكون الفقيه أو المرجع أو النائب الخاص.

المؤهل لرئاسة النظام العالمي الذي يعبر عنه الشيعة الإمامية الاثني عشرية هو من بيده الجهاد الابتدائي.

وهو لم يشرع إلا لسيد الأنبياءصلی الله علیه و آله ووزرائه من بعده، وهم الأئمة المعصومون سلام الله عليهم أجمعين.

رئاسة النظام العالمي لا يصلح لها عصمة عامة مثل التي كانت عند إبراهيم الخليل علیه السلام فرئاسة النظام العالمي يحتاج إلى دائرة أعظم من دائرة أولي العزم، لأن إدارة العالم يحتاج إلى علم فوق علم الأنبياء وأولي العزم.

وإذا نظرنا إلى قصة النبي موسى والخضر علیها السلام وما سطره القرآن حولهما، وكيف أن موسى لم يصبر على ما لم يعلم، سنعرف عندها آل یاسین ماذا يعنون؟ قصص هي نور تبين للإنسان شأن الدولة الهاشمية، وكلما ازدادت الصلاحيات عظمت العصمة، فالعصمة وثاقة لكن التوثيق بالعصمة مختلف.

ص: 225

والتوثيق لتلك العقبة الكؤود، وهي كيف تثبت للناس ان هذا الرجل كفوء لإدارة العالم وأنه القادر على حل كل مشاكل الشعوب إن لم يكن يمتلك علما إحاطيا.

هنا يأتي دور أتباع أهل البيت علیهم السلام وضرورة الفات نظر البشرية إلى فضائل أهل البيت لكي يعرف الناس كفاءتهم لإدارة العالم.

هنا يجب الالتفات إلى فضائل أهل البيت علیهم السلام التي يركز عليها القرآن الكريم، لكي نبشر الناس أن الرجل الكفوء لإدارة العالم هو الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف.

وهذه ليست عواطف ترنمت بها طائفة معينة، بل هي مبادئ ينادي بها القرآن الكريم آناء الليل واطراف النهار، فالناس إذا لم يثقوا بكفاءة القائد، فلن يكون هناك ظهور، لأنه سبحانه وتعالى أبي أن يكون في أمره إكراه، بل هو أمر بين أمرين، إذا لم يقتنع البشر ولم يفهموا كفاءة هذا القائد، ولم يعرفوا مشروعه ولا بنود ذلك المشروع، كيف يتبعوه ؟

يجب ترجمة هذه النصوص التي وردت فيها فضائل أهل البيت علیهم السلام إلى لغات العالم المختلفة ليعلم الناس انها حق وليست غنوصية قديمة.

وتركيز القرآن على الفضائل، لا لأجل دغدغة العواطف، بل هو نور النا لنزداد وعيا وبصيرة، ومجرد ملاحظة كلمة (فضلنا) كم مرة وردت في القرآن ولماذا يؤكد ويجذر القرآن الكريم منطق الفضائل في من اصطفاهم الله ؟: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَی آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِیمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَی الْعَالَمِینَ*ذُرِّیَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ »(1)،«وَرَبُّکَ أَعْلَمُ بِمَن فِی السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

ص: 226


1- سورة آل عمران، الآيتان 33-34.

وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِیِّینَ عَلَی بَعْضٍ ۖ وَآتَیْنَا دَاوُودَ زَبُورًا»(1)،«أَمْ یَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَی مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَیْنَا آلَ إِبْرَاهِیمَ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَآتَیْنَاهُم مُّلْکًا عَظِیمًا»(2).

هذه الترانيم القرآنية نور للبشرية وفرج لهم من الويلات والحروب المدمرة، وهي صراط النجاة وسعادة البشر.

ص: 227


1- سورة الإسراء، الآية 55.
2- سورة النساء، الآية 54.

معنى «يملاها قسطا وعدلا»

ورد عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله«لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من ولدي يملؤها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما»(1)، فما معنى يملأها قسطا وعدلا؟

النذكر هذا الأمر أولا وهو لنفس المعنى فقد ورد عندنا في مستفیض الروايات ستكون بعد دولة صاحب العصر والزمان عهد «دابة الأرض»، دابة الأرض بنص القرآن الكريم«وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَیْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُکَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ کَانُوا بِآیَاتِنَا لَا یُوقِنُونَ»(2) فهي مرحلة من المراحل بعد دولة الإمام المهدي،وبنصوص روايات الفريقين، وهي متواترة عند الطرفين(3).

وخصائص هذا العهد من دابة الأرض في روايات الفريقين - والذي

ص: 228


1- كمال الدين ص 317 باب 30، ح 4.
2- سورة النمل، الآية 82.
3- عن العامة رواها ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده المتصل عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سلیمان.....» (تفسیر ابن أبي حاتم، سورة النمل، مجلد11، ص203/ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1351، کتاب الفتن، باب دابة الأرض / سنن الترمذي، ج5، ص21، ح3240.... وآخرون).

هو من أبواب الرجعة - أن حكومته أعظم نورا وهداية من دولة الظهور، مع إنه في دولة الظهور يملأها قسطا وعدلا. وفي هذه الحال ما معنی يملأها قسطا وعدلا؟

معنى «الملا»بقرينة جملة من السياقات القرآنية - في موارد عديدة - المراد به إذا أصبحت دولة عظمى تهيمن على دول وشعوب أخرى.

فإذا صار النظام العالمي بيد دولة، فتلك الهيمنة في الأرض هو ملئ لها، فإن كان الزمام بيد الخير فهو ملئ للخير، وإن كان بيد دولة الشر فهو ملي للشر، فمعنى الملئ بالدقة هو عبارة عن الهيمنة، وليس ما يتبادر إلى الذهن شبيه ملئ الكأس بالماء.

«يملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملأت ظلما وجورا»هذا هو المقصود لا ان الخير غير موجود، فكيف يكون ذلك والله سبحانه وتعالى في محكم القرآن أخبرنا بأنه ستبقى في الأرض قواعد نور إلى يوم القيامة:«فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ»(1).

إذن من الثوابت أن هذا النور سيبقى إلى يوم القيامة، مراقد أهل البيت علیهم السلام نور في الأرض، ومع ذلك تملأ الأرض ظلما بهذا المعنى، لأن الهيمنة هي لأولئك الظالمون.

دولة الظهور التي سينشئها المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف من نصيبها أن تكون دولة عظمی، وهي صاحبة القول الفصل في الأرض، وليس هناك دولة تضاهيها قوة وهيمنة.

ص: 229


1- سورة النور، الآية 36.

إذن من الخصائص المهمة في الدولة المهدوية أنها دولة عظمی، مع ملاحظة أمر مهم في تلك المسألة، وهي أن النبي صلی الله علیه و آله لم يبتدأ بحرب أبدا، وهكذا أمير المؤمنین علیه السلام من بعده «أكره أن أبدأهم بحرب»فهم يحاورون إلى الف سنة ولا يبدأون بحرب! هذا هو منطق آل البيت سلام الله عليهم، بخلاف منطق الذين يتأرجحون بين التكفير والحكم بالردة، وحروب الردة، وما إلى ذلك:«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَتَبَیَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَی إِلَیْکُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ کَثِیرَةٌ ۚ کَذَلِکَ کُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَیْکُمْ فَتَبَیَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ کَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِیرًا»(1)وهذا هو الفرق بين المنهجين.

نعم هو يصطدم مع المعتدي لكنه لا يبدأ بقتال، يعني دولة ردع، وهنا تكمن فلسفة القوة في القرآن الكريم وفي منطق أهل البيت.

القوة في هذه الفلسفة ليست للعدوان والإكراه، بل هي فقط لردع من يعتدي وليست لردع المسالم، وهذا المنطق لا يستطيع تطبيقه إلا أهل البيت علیهم السلام، فالمسالم أيا كان فإنه لا يعامل بالقوة أبدا.

أما هداية البشرية فهي على نفس الوتيرة المحمدية الأصيلة«ادْعُ إِلَی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّکَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِیلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ»(2)هذا هو منطق القرآن وعدله أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين.

ص: 230


1- سورة النساء، الآية 94.
2- سورة النحل، الآية 125.

الفصل الرابع عشر: بناء الأعراف الصالحة

اشارة

- لا إقرار للأنظمة السياسية والأعراف المنحرفة

- السعي نحو الأعراف الصالحة

- بين القاعدة العقلية والقاعدة العرفية

- دور الأعراف المهدوية في تمييز الكمال الحقيقي

- نشر الأعراف المهدويةالصالحة

ص: 231

ص: 232

لا إقرار للأنظمة السياسية والأعراف المنحرفة

من الأبعاد التي نلمسها في دعاء الندبة وفي بقية الأدعية والزيارات الخاصة بصاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، وهي مستمرة باستمرار غيبته وخفائه أنه صلوات الله عليه لا يعترف بأي نظام من الأنظمة السياسية، ويخرج وليس في عنقه بيعة لأحد قط (1).

وعدم البيعة ليس فقط للأنظمة السياسية، بل حتى لمكون من المكونات، أو لغرف من الأعراف(2).

فلو قيل عن المواثيق الدولية، هل يخرج وهو مقر لها؟ نقول بمقدار انطباق تلك المواثيق على سنة رسول الله صلی الله علیه و آله، أما إذا لم تنطبق فهو حتما لن يقرها، كذلك الأعراف والقيم المجتمعية والاجتماعية التي تصالحت عليها المجتمعات.

وربما فئات من المؤمنين تواجه صاحب العصر والزمان صلی الله علیه و آله بالقول:

ص: 233


1- عن ابن أبي عمير عن جميل بن صالح عن أبي عبد الله علیه السلام قال : يخرج القائم وليس في عنقه بيعة لحد. (المجلسي، بحار الأنوار، ج 52، ص95).
2- عن ابن أبي عمير عن سعيد بن غزوان، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله علیه السلام قال : صاحب هذا الأمر تعمی ولادته على (هذا) الخلق لئلا يكون لاحد في عنقه بيعة إذا خرج. (المصدر نفسه).

إرجع يا بن رسول الله لا حاجة لنا بك (1)! لأنهم ألفوا أعرافا بشرية وبنوا عليها، والإمام لا يقر بها.

ص: 234


1- عن الإمام الباقر علیه السلام أنه قال في وصفه لحال الإمام عجل الله تعالی فرجه شریف حالما يصل إلى الكوفة: يسير إلى الكوفة فيخرج منها ستة عشر ألفا من البترية شاكين في السلاح، قراء القرآن، فقهاء في الدين، قد قرحوا جباههم، وسمروا ساماتهم، وعمهم النفاق، وكلهم يقولون: يا بن فاطمة ارجع لا حاجة لنا فيك، فيضع السيف فيهم على ظهر النجف عشية الاثنين من العصر إلى العشاء، فيقتلهم أسرع من جزر جزور، فلا يفوت منهم رجل، ولا يصاب من أصحابه أحد. (أبي جعفر محمد بن جريرالطبري، دلائل الإمامة، ص239).

السعي نحوالأعراف الصالحة

حسب منطق دعاء الندبة وغيره من الأدعية والزيارات أن هذه الأعراف البشرية الصحيح منها ناقص فضلا عن السقيم، فلا يظن أحدا أن الكمال البشري هو العقلنة الاجتماعية التي وصل إليها العقل الآن، وهناك الكثير من الكتابات في هذا السياق وهذا ليس بصحيح، لأن الغرف المنشود الذي يريد أن يرسمه عجل الله تعالی فرجه شریف عرف أرقى وأعظم من هذا الموجود.

هو يريد أن يرسم العرف الإلهي، ويجب أن لا نفكر أن هذا الذي وصل إليه العقل البشري هو قمة المسير، كذلك يجب أن لا ندعي أو نعتقد أن البنود الموجودة في دعاء الندبة أو في الروايات أو الأدعية والزيارات المرتبطة به عجل الله تعالی فرجه شریف نستطيع أن نجد كل فلسفتها الان، لأن«دين الله لا يصاب بالعقول»(1).

ص: 235


1- عن عبدالله بن الفضل الهاشمي قال : سمعت الصادق جعفر بن محمد علیهم السلام يقول : إن لصاحب هذا الأمر غيبة لابد منها يرتاب فيها كل مبطل، فقلت له : ولم جعلت فداك ؟ قال : الأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم، قلت : فما وجه الحكمة في غيبته ؟ فقال : وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره، إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره كما لا ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر علیه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، لموسی علیه السلام إلا وقت افتراقهما يا ابن الفضل إن هذا الأمر أمر من أمر الله، وسر من سر الله، وغيب من غيب الله ومتی علمنا أنه عز وجل حكيم، صدقنا بأن أفعاله كلها حكمة، وإن كان وجهها غير منکشف النا. (المجلسي، بحار الانوار، ج52، ص 92).

فلو كان العرف البشري صالحا للحياة فما هو الداعي للظهور، و منطق «إرجع يا ابن فاطمة لا حاجة لنا بك»، هو خطاب فئة من المؤمنین!، وكأن عقلنا البشري كفيل بأن يرسم سعادة البشرية؟!

وهذا نفس ما قيل أمام رسول الله صلی الله علیه و آله«حسبنا کتاب الله»!عندما قال «أتوني بدواة لأكتب لكم كتاب لن تضلوا بعدي أبدا»(1).

وهذا المنطق برهان واضح بأننا في حاجة لمن يرسم لنا العرف الإلهي، لأنه حتى العدالة التي ينظرها الفقيه لنفسه في الحقيقة هي عدالة ظاهرية لأنه لا يحيط بكل الاحکام، لا في الشبهة الحكمية، ولا في الشبهة الموضوعية.

بدليل قصة موسى والخضر علیهم السلام التي وردت في القرآن الكريم، مع أن موسی علیه السلام نبي ومن أولي العزم إلا أنه يجهل أمورا كان الخضر علیه السلام يعلم بها، وهذا ليس معناه عدم حجية النبي موسى علیه السلام، بل إن الحجج الاصطفائية الإلهية أنواع ودرجات، وهذا الذي أراد القرآن الكريم أن يخبرنا به، فالذي قام به الخضر كما يبين أئمة أهل البيت علیهم السلام في الشبهة

ص: 236


1- حدثنا يحيى بن سليمان قال حدثني ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال لما اشتد بالنبي صلى الله عليه (وآله) وسلم وجعه قال ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده قال عمر إن النبي صلى الله عليه () وسلم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا وكثر اللغط قال قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع فخرج ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بین رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه (البخاري، کتاب العلم، باب كتابة العلم، ح114).

الموضوعية، يعني في التطبيق قام بأمور مصيرية لم تكن باحاطة العلم اللدني للنبي موسى علیه السلام.

وما قام به الخضر ليس أمرا عاديا، فلولا قتل الغلام لحرمت البشرية من سبعين نبيا كما ورد في الروايات (1)، والواضح أن هذا أمر مصيري وليس هامشي.

فإذا كان النبي موسى وهو مسدد هكذا - وبلا شك أن الأنبياء منزهون عن الخطأ لكنهم على مراتب - فكيف بالفقهاء أو الرواة أو الساسة المؤمنين؟

إذن لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها، يعني القطب اللولبي الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة بتسديد من الله هو الإمام المعصوم.

فالعدل والعدالة بشكل مطلق في الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية حتى في اكبر الكبائر في الملاكات يحيط بها الإمام المعصوم(2)، أما البقية فيقومون بالمسؤولية بحسب وسعهم وقدرتهم، شكر الله سعيهم.

ص: 237


1- عن الحسن بن سعيد اللخمي، قال: ولد لرجل من أصحابنا جارية، فدخل على أبي عبد الله علیه السلام، فراه متسخطا. فقال له أبو عبد الله علیه السلام: «أرأيت لو أن الله تبارك وتعالى أوحى إليك أن أختار لك أو تختار لنفسك؟ ما کنت تقول»؟ قال: كنت أقول يا رب تختار لي. . قال: «إن الله قد اختار لك، -قال - ثم قال إن الغلام الذي قتله العالم الذي كان مع موسی علیه السلام وهو قول اللو عزوجل:«فَأَرَدْنَا أَن یُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَیْرًا مِّنْهُ زَکَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا»[الكهف: 81 ] أبدلهما الله به جاريه ولدت بعين بيا».(الكليني، الكافي، ج6، ص 6).
2- عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «يا أبا عبيدة، إذا قام قائم آل محمد علیه السلام، حكم بحكم داؤد وسليمان علیها السلام، لا يسأل بينة»(الكليني، الكافي: ج1، ص397).

وهذا يدل على أن دولة الظهور هي القمة في العدالة، صحيح أن الآخرين قد يقيموا نوعا من العدالة لكن بيننا وبين القمة مسار طویل تنظيرا وتطبيقا، كما هو الآن مسير أتباع أهل البيت علیهم السلام طوال هذه الغيبة الكبرى، كل جيل يأتي ويخطو خطوات إلى الإمام أكثر،ويعبد الطريق أكثر فأكثر.

فإذا علمنا أن العرف المهدوي (العرف المجتمعي في الدولة المهدوية المنشودة) هو العرف الخالص، فهذا لا يعني ان نكفر الآن بكل شيء موجود.

ص: 238

بين القاعدة العقلية والعرفية

علمانية خفية قد تتسرب عدواها لنا تحت شعار الحسن والقبح فهل الحسن والقبح هما الذاتيان الثابتان ؟ أو هما بحسب المواثيق الدولية والعرف البشري؟ صحيح أن العرف له دور:«خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِینَ»(1)، لكن أي عرف هو المقصود؟ في قبال أن الدين ثابت، وفي قبال:«وَیَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِی کَانَتْ عَلَیْهِمْ»(2).

في مدرسة أهل البيت علیهم السلام الحسن والقبح ذاتیان تکوینیان، نعم في مقام التطبيق لا يمكن للإنسان أن يكون حديا مثل الخوارج أو الغلاة.

خذ العفو وأمر بالعرف والمجتمع لم يتعود بعد على النظام الإسلامي! والحال هذه، لا يمكن تطبيقه بكل مناهجه، لذلك نحتاج إلى التدرج، وحتى في أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب اولا معرفة الثوابت قبل الشروع بهذه الفريضة، وأيضا يجب علينا دراسة العرف البشري ومعرفة الصالح منه والطالح؟ والصالح من هو المتوسط في صلاحه ومن هو الأعلى؟ كل هذا يتم بمعرفة القمة في العرف الصالح والمتكامل... «أَيْنَ الْحَسَنُ أَيْنَ الْحُسَيْنُ أَيْنَ أَبْناءُ الْحُسَيْنِ صالِحٌ بَعْدَ

ص: 239


1- سورة الأعراف، الآية 199.
2- سورة الأعراف، الآية 157.

صالِحٍ، وَصادِقٌ بَعْدَ صادِقٍ، أَيْنَ السَّبِيلُ بَعْدَ السَّبِيلِ؛ أَيْنَ الْخِيَرَةُ بَعْدَ الْخِيَرَةِ »(1)

اعرفهم أولا..... هذا هو المشروع المهدوي.

طالت الغيبة لأنه في صدد تربية البشر بنفس طويل، يدير ويدبر الأمرعجل الله تعالی فرجه شریف بقوة السر والخفاء بشكل هادئ وتربوي، لذا يجب أن لا تختلط عندنا المفاهيم في التنظير.

علينا الركوب في سفينة الإمام المهدي علیه السلام وإلا سوف نغرق، ورکوب هذه السفينة بأن نعرف مشروعه عجل الله تعالی فرجه شریف ونميز الذئب من الشاة، والخداع من الحقيقة.

إذا لم نتعرف على هذه البنود بلا شك سنغرق، لأن الهجوم على مستوى محاولة تبدیل قناعاتنا في الدين، فهل قلاعنا حصينة ؟ لا شك أنها بالعلم تكون كذلك.

والعلم هو السباحة في انوار المعرفة بسفينة العقل، والحكمة والتدبر في معاني مشروعه علیه السلام، فدعاء الندبة والأدعية والزيارات الأخرى الخاصة به ليس فقط ذکر لساني، بل هي ذكر عقلي، وهو أعظم من الذكراللساني

ص: 240


1- مقطع من دعاء الندبة .

دور الأعراف المهدوية في تمييز الكمال الحقيقي

البشر قد يصلون إلى تكامل وسطي لكنهم يبتلون دائما بأمراض بيئية سياسية، أو اجتماعية، وقد يبتلون باعراف فاسدة، أو متكاملة بتكامل وسطي ويظنون انها القمة في التكامل، وهنا يجب الحذر لأنه من المهم أن يكون تطلع البشرية على الدوام مسيرة دائبة وهمة للوصول إلى أعراف المجتمع المهدوي والدولة المهدوية، علينا أن لا نقنع بالقليل ولا ننخدع بالمغشوش من أعراف البشر.

كل جيل بسبب السياسات والصراعات والمدارس الفكرية المختلفة يتمخض عنه عرف سياسي أو اجتماعي جديد.

أعراف ورؤى مختلفة في توالد مستمر، ولهذا عندما تشتد الظروف علينا التمسك بالحديث الشريف «کونوا حلسا من أحلاس بيوتكم»(1) وهذا الحديث يعني بيوت أهل البيت، وليس معناه الجمود، فهو في أحد معانيه انيأخذ النهج المهدوي ولا يغادره يمينا أو يسارا، ولا ينعق مع كل ناعق، نعم يخالط البشر ويكتسب الإيجابيات منهم، لكن لا يقف عندها، بل يجب الاستقامة في التطلع، وحتى يكون المؤمن مستقیما في هذا

ص: 241


1- ورد هذا الحديث عن الإمام الصادق علیه السلام، ذكره النعماني في الغيبة ص115.

المجال يجب عليه التعرف على بنود المجتمع المهدوي والحضارة المهدوية، لكي يكون قادرة على التمييز بين الكمال المهدوي التام والكمال الناقص الذي وصل إليه البشر.

فإذن الاستقامة على مسير الكمال في المشروع المهدوي هو بتفعيل البنود القرآنية والسنة النبوية وسيرة أئمة أهل البيت علیهم السلام، وإلا أي مشروع مهدوي لا نرى فيه رائحة المشروع الحسيني فهذا ليس مشروعا مهدويا، وأي منظومة في التنظير المهدوي ليس فيها رائحة اللون العلوي والفاطمي نعلم أن هذا ليس مشروعا مهدويا.

لأن المشروع المهدوي هو كل مشاريع ابائه وأجداده المعصومين وزيادة - والزيادة بمعني هي بلورة وتجلية أكثر مما كان. فمن دون معرفة هذه المنظومة لا يمكن الاستقامة، لا سيما إذا تصالح البشر على بنود وأعراف سياسية أو اجتماعية تلقائيا، يرسمون لأنفسهم عقلية معينة ذات لون خاص بحسب قوام زمانهم، وعلى ضوء ذلك يجعلون الميزان هذا العقل العصري الذي وصلوا إليه ويحتمونه على بنود الدين، أو يقرأون الدين من خلاله ويكون معيارة لهم، وهنا تكمن الخطورة، ففي حين أن أول المخاطبين في الدين هو العقل، لكن لدينا جدلية أخرى وهي أن الدين لا يصاب بالعقول.

فبين أن الدين لا يصاب بالعقول وبين أنه يقرأ بالعقول، علينا أن لا ننزلق في مهاوي أحد طرفي هذه الجدلية، وهذا يقتضي المزيد من معرفة التطلعات الموجودة في الدين من خلال الخطاب المهدوي واختلافه عن ما هو موجود لدى البشر.

ص: 242

نشر الأعراف المهدوية الصالحة

العرف الصالح شيء مهم لكي يستبدل به هذه الأعراف الليبرالية والاشتراكية والتي إلى الان لم تلبي العدالة للبشر، لأن الياتها مفقودة أو غير معروفة.

فالثروة الآن على مستوى العالم بيد أفراد يعدون بعدد أصابع اليد، ولم تأتي الاشتراكية إلا بمزيد من الرأسمالية المقنعة والمخادعة! والقرآن الكري مرافض لهذا النهج: «کَیْ لَا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ مِنکُمْ »(1).

نفس هذه المنظمات الإنسانية هي عبارة عن شبكة عصابات، ومنظمات حقوق الإنسان عبارة عن وعاظ للسلاطين الذي يبررون للظلمة سفك الدماء، وغاية ما يصدر من تلك المنظمات (الإنسانية) هو «التعبير عن القلق»وهذا تبرير لتلك الجرائم وإمتصاص لهول البشاعة التي تمثلها.

هذا المشروع المهدوي هو المنقذ بدون أن تتدخل به المخابرات الاستعمارية وتحترفه عن جادته، إذا استطعنا أن ننشر - وهذه مسؤولية عظيمة تقع علينا - هذه المبادئ بكل وضوح وتكامل منظومي.

كثير من الفرق والأفراد الضالون الذين ينتسبون زورا للإمام

ص: 243


1- سورة الحشر، الآية 7.

المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف ينشرون فصلا من فصول المشروع المهدوي بغية تحريف المشروع، وأحد الأمور المهمة في المنظومة المهدوية أنها منظومة مجموعية، وإن نشرت بندا دون آخر ففي ذلك ميل وحيف دون السير الموزون في المشروع الإلهي، لأن البشرية الان متعطشة إلى مشروع الخلاص من هذا الجور والظلم في كل الأصعدة والبيئات«وَمَا لَکُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْیَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنکَ وَلِیًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنکَ نَصِیرًا »(1)، هذه الأنظمة الاجتماعية الفاسدة(القرية) لا بد من هلاكها:«وَإِن مِّن قَرْیَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِکُوهَا قَبْلَ یَوْمِ الْقِیَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِیدًا ۚ کَانَ ذَلِکَ فِی الْکِتَابِ مَسْطُورًا »(2).

إذن الغرف أمر مهم جدا، وهو من أعظم أبواب الإعداد للظهور، وتهيئة مجتمع الظهور هو في نشر الثقافة المهدوية - ليس فقط في التوعية بها - بل لا بد أن يصل الأمر إلى حد عرفنة هذه المبادئ.

ص: 244


1- سورة النساء، الآية 75.
2- الإسراء، الآية 58.

الفصل الخامس عشر: قيادة النظام العالمي

اشارة

الشعارات المهدوية مشروع ومسؤولية

نقل الغيب وتعريفه لأهل الشهادة

المهمة الصعبة

ميزان المواطنة في الدولة المهدوية

قيادة النظام العالمي

ص: 245

ص: 246

الشعارات المهدوية مشروع ومسؤولية

مجموعة هذا البنود الموجودة في دعاء الندبة وغيره من الأدعية هي مشروع ومسؤولية وبنود نتفهمها ونتعلمها، نتعرف عليها ونعرف الآخرين بها، لأنها ماء حياة وطوق نجاة وضرورة، فترجمة دعاء الندبة باللغة الإسبانية مثلا حتى تعرف تلك الشعوب المحرومة أي شعارات ينبغي أن يطمحوا إليها، فهذه البنود ليس للحرية والتحرر فقط بل هي تكفي حتى لنجاة الجنين.

المصباح العيني لنور القرآن الكريم لیس ترجمة المصحف الشريف فقط، بل ترجمة دعاء الندبة وبقية الأدعية أيضا لكي يرى هذا المستبصر النظام الحرية والعدالة قانون نظري وهو القرآن المترجم، ونظرية عمليةمتجسدة وهو مشروع الإمام المهدي علیه السلام.

مسؤولية نشر الشعارات المهدوية وترويض العقل البشري الاستيعابها، ونقصد هنا بالمشروع المهدوي هو ما تضمنه دعاء الندبة «أَيْنَ الْحَسَنُ أَيْنَ الْحُسَيْنُ ؟ أَيْنَ أَبْناءُ الْحُسَيْنِ ؟ صالِحٌ بَعْدَ صالِحٍ، وَصادِقٌ بَعْدَ صادِقٍ»(1)، فحقيقة المشروع المهدوي هو مشروع جميع الأئمة علیهم السلام مع الخصوصيات المهدوية.

ص: 247


1- مقطع من دعاء الندبة.

نقل الغيب وتعريفه لأهل الشهادة

زاوية أخرى في منظومة المشروع المهدوي وهي مهمة جدا وإن كانت لا تخلو من الصعوبة، وتكبد فيها الأنبياء معاناة شديدة، هذه المشكلة والعقبة الكبيرة علاجها هو نشر البنود والشعارات المهدوية في أصقاع العالم.

المشكلة التي واجهها جميع الأنبياء والمرسلين وأوصيائهم مع أقوامهم هي تعريف عالم الغيب لمن يعيش في عالم الشهادة، وكل المشكلة تكمن هنا.

تعریف عالم القيامة والنار والبرزخ والصراط والحساب والميزان والنشر والبعث وأمور أخرى كلها في عالم الغيب، وغير مرئية بالحواس في عالم الشهادة، هي الأزمة الحقيقية التي يعيشها الأنبياء في دعواتهم والرسل والأوصياء مع أممهم، والإنسان بطبعه يأنس بالمحسوسات أكثر من أنسه بالمعقولات.

هذه الملفات الموجودة في عالم الغيب تقدم إلى من يعيش في عالم الشهادة لكي يؤمن بها، وهذا هو الإيمان.

هذا التوثيق أمر صعب إلى درجة أن القرآن الكريم ذكر معاناة سید

ص: 248

الأنبياء صلی الله علیه و آله في مواجهة هذه الصعوبات، وكيف أن قریش والعرب اعتبرت دعوى سيد الأنبياء وتغييره لرؤى وقناعات وما شابه ذلك ضرب من الجنون واتهموه باتهامات عبر عنها الإمام الصادق علیه السلام أنهم قذفوا سيد الأنبياء بطعون وسباب وشتائم تنوء بها الجبال، وهذه الاتهامات هي استهزاء بالطرف الآخر(1).

جملة من المنافقين في تحركاتهم إلى يوم الغدير، بل إلى آخر يوم في حياته الشريفة كانوا يصفون سيد الأنبياء بهذه الأمور والعياذ بالله، وهذه التعابير هي قتل معنوي لشخصية سيد الأنبياء.

قالوا عنه کاهن تتنزل عليه الشياطين والجن، أو أنه يتعاطی من كتب اليهود والنصارى وغيرها، وقد وثق القرآن الكريم الكثير من تلك الاتهامات:«َقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا »(2)، «ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ »(3)،«وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَیْطَانٍ رَّجِیمٍ »(4)،«وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِیلًا مَّا تُؤْمِنُونَ»(5)، «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ یَقُولُونَ إِنَّمَا یُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِی یُلْحِدُونَ إِلَیْهِ أَعْجَمِیٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِیٌّ

ص: 249


1- ورد في الزيارة الخاصة بالنبي صلی الله علیه و آله من البعد: «.... صل عليه كما وفي بعهدك وبلغ رسالاتك وقاتل أهل الجحود في على توحيدك، وقطع رحم الكفر في إعزاز دينك، ولبس ثوب البلوى في مجاهدة أعدائك، وأوجبت له بكل اذى مسه أو كيد أحس به من الفئة التي حاولت قتله فضيلة تفوق الفضائل ويملك بها الجزيل من نوالك،وقد أسر الحسرة وأخفى الزفرة وتجرع الغصة.....» (القمي، مفاتیح الجنان، ص 362، زيارة النبي من البعد).
2- سورة الفرقان، الآية 8.
3- سورة الدخان، الآية 14.
4- سورة التكوير، الآية 25.
5- سورة الحاقة، الآية 41.

مُّبِینٌ»(1)كل هذه الاتهامات من أجل زلزلة الأعتبار بشخصية سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله، بسبب هذه الملفات الغيبية التي يستعرضها، وهذه المهمة تحتاج إلى مخزون كبير جدا من الاعتبار!.

لأن هذه الأمور الغيبية ضخمة وكبيرة جدا تسع الدنيا وما فيها، فمن هذا الذي يأتي لكي يوثق هذه المعتقدات؟.

هذه العقبة الكؤود والصعبة مرت بجميع الأنبياء والأوصياء في توثيق الغيب لأهل الشهادة، ولأن الغيب عظيم ومهول فهذا الشخص نفسه يحتاج إلى مخزون وثائقي بشكل كبير، سيما النبي الأكرم صلی الله علیه و آله لأنه أعظم نبي أتی بکشف المغيبات.

ولذلك حاولوا بكل الطرق قتل سيد الأنبياء من ناحية التصفية الجسدية والاغتيال المعنوي، وكان أمير المؤمنین سلام الله عليه منذ ترعرعه إلى أن استشهد رسول الله هو الحارس الخاص لبدن النبي ولشخصيته الأعتبارية كذلك.

أما محاولات اغتيال النبي معنويا، فقد كانت اشرس من ذلك بكثير في «مكة المكرمة»من قبل قریش، وحتى في المدينة المنورة» من قبل الوسط الداخلي، وعلى طول حياة النبي هذه المحاولات لم تنتهي.

وهذا المخزون للشخصية المعنوية للنبي صلی الله علیه و آله من اجل توثيق الرسالة ورد في التفسير عن أهل البيت علیهم السلام في قوله تعالى:«إِنَّا فَتَحْنَا لَکَ فَتْحًا مُّبِینًا *لِّیَغْفِرَ لَکَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِکَ وَمَا تَأَخَّرَ وَیُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَیْکَ وَیَهْدِیَکَ صِرَاطًا

ص: 250


1- سورة النحل، الآية 103.

مُّسْتَقِیمًا*وَیَنصُرَکَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِیزًا »(1)إنه لما أتى النبي صلی الله علیه و آله بهذا الكم من الغيب استنكرت قريش الأمر، وكذلك بقية العرب، لذلك حاولوا ان يغتالوا النبي ويقتلوا تلك المعارف التي يعتبرونها کهانة وجن، هذا الإغتيال من خلال تلك البصمة الملوثة التي الصقوها بشخصية النبي صلی الله علیه و آله.

ولما وقع صلح «الحديبية»ذهبت كل محاولاتهم لإغتيال شخصية النبي صلی الله علیه و آله المعنوية أدراج الرياح، هذا هو بمثابة ذنب لأنه حطم أصنامهم وكبرياءهم وغرورهم، وأقروا مرغمين بما جاء به من الغيب.

وهذه المسألة الصعبة بنقل وتوثيق الغيب لأصحاب الشهادة عبر عنها القرآن الكريم بالفتح المبين، وهو أن تتكرس وتتجذر وثاقة النبي حتى عندالمشركين والكفار، إذن توثيق الغيب أمر ليس بالسهل.

ص: 251


1- سورة الفتح، الآيات 1-3.

المهمة الصعبة

اشارة

نفس المشكلة السابقة تجري مع الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف، فهو منذ ولد إلى الأن في خفاء، وهذه السرية والغيب وتوارد الأسئلة الطبيعية، من هو ؟ وأين؟ وإلى متى، وحتى متى؟ نفس الخفاء هو علامة استفهام، فإذا أصبح خفاء في خفاء كيف يكون البرهان ؟ هذه محنة كبيرة للمؤمنين.

وفي جانب آخر هو بقية الله التي أودع الله فيه كل المشروعية والشرعية والحجية، بالإضافة إلى انه صاحب القيادة وصلة الغيب بالبشر.

فمن جانب هو غيب وخفاء، ومن جانب آخر كل الشرعية والاعتبار عنده، وإذا أضفنا إليها وعود كل الأنبياء والرسل:«تِلْکَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِینَ لَا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ »(1)«وَنُرِیدُ أَن نَّمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِینَ »(2)«وَلَقَدْ کَتَبْنَا فِی الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّکْرِ أَنَّ الْأَرْضَ یَرِثُهَا عِبَادِیَ الصَّالِحُونَ»(3)وهذا الوعد كل الأنبياء وعدوا به اممهم، وقد استهزئوا بهم وسفهوا أحلامهم، هذا الوعد الذي هو غيبي ويحتاج إلى توثيق ووثاقة،

ص: 252


1- سورة القصص، الآية 83.
2- سورة القصص، الآية 5.
3- سورة الأنبياء، الآية 105.

کله ځزن في شخصية وإنجاز صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، وهذا زيادة في المحنة.

هذه المحنة البشرية تجاه هذا الموعود الأكبر أمر مزلزل، كأنما جميع التشکیکات والإنكارات التي جرت على سلسلة الأنبياء والأوصياء تختزل في شخصية صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، ومن جانب آخر هو وارثهم ولديه كل صفاتهم الاعتبارية.

فإذا كان الأمر كذلك، فما هي طلائع وبراهين توثيق صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه شریف؟في بيانات أهل البيت علیهم السلام ذکروا عاملان وسببان لزحزحة هذه العقبة الكؤود، وکلا هذين العاملين تقع مسؤوليتهما علينا نحن المؤمنين به، وكلما حصل تقصير من قبلنا حسب ما يستنبط الإنسان من دلائل الروايات فالتأخير في الظهور يكون منا:

العامل الأول

هناك تفسير آخر للظهور من خلال الروايات، وهو جلاء وثاقة صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف المؤتمنة على كل الدين الإلهي الواحد الذي بعث به جميع الأنبياء والرسل، والوعد بسعادة البشر وإنجاز أعظم حياة تنعم بها البشرية على يديه الكريمتين مرتبط بجلاء وثاقة الإمام عجل الله تعالی فرجه شریف۔

الآخرون يتخوفون من المبادئ والمفاهيم التي سينشرها صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، ولكننا لم نقم لحد الآن في نشر تلك المبادئ والتبشير بها وتهيئة الأرضية للظهور المبارك.

الغرب مثلا يتخوفون من انتشار الثقافة المهدوية أكثر مما يتخوفون

ص: 253

من انتشار أي شيء آخر في دولهم وكياناتهم، حتى النسيج البشري الإسلامي في دولهم لا يرعبهم بقدر رعبهم من انتشار الثقافة المهدوية.

نحن الذي يجب علينا تبليغ هذه البنود المهدوية لكل البشر بطريقة سلمية هادئة وبدون صدام مع الآخرين، فالمسؤولية الأولى للظهور ظهور الانس البشري بالمشروع المهدوي، وإذا أنسته النفوس إقتربت ساعة الظهور.

العامل الثاني:

ذكره أهل البيت علیهم السلام أيضا وأكدوا عليه لتجاوز هذه العقبة وتقريب ساعة الظهور، هو نشر هذا العامل حتى على غير اتباعهم لأنه سيقرب ساعة الظهور والنصر الإلهي وبأسلوب هادئ ومتزن وهو: ترویج علائم الظهور بقراءة تختلف عن قراءة المنجمين والمتنبئين.

وهذه القراءة هي قراءة مسؤولية، فأهل البيت علیهم السلام عندما يوضحون النا الأحداث، علينا أن نتخذ مواقف معالجة ذات مسؤولية مساهمة في قلع تلك العقبات، لا التسليم والانبطاح لتلك العقبات.

فإذا تحدثوا عن السفياني مثلا فمعناه انك تبادر وتحاول منع أسباب و عوامل تنشئة السفياني، فعلائم الظهور هي إحداثيات عسكرية لقائد الجيش لكي يتخذ الاجراء المناسب معها، لا لأجل الاستسلام، بل يحاول دفع هذه الأخطار المحدقة ويزيد من وتيرة الحذر والاستعداد و تحمل المسؤولية، وهنا نريد أن نتبنى مسؤولية أخرى، لا أن نكون متفرجين فقط، فهذه ليست القراءة الصحيحة لعلائم الظهور.

فالمسؤولية في الغيبة الكبرى من أجل توثيثق العلاقة بصاحب

ص: 254

الزمان، وجعل الجانب الغيبي فيه جانب شهادة، هو نشر علائم الظهور کتحدي واستعلام بتوصية نفس أهل البيت علیهم السلام، حتى بين المذاهب الأخرى، وحتى بين الملل والنحل الأخرى.

وعندما تقع العلامات ستبرهن لهم دلائل کونية إلهية على هذا المشروع العظيم لصاحب العصر والزمان، لأنهم سيكونون مهيئين لقراءة العلائم الأخرى للظهور، وهذا أمر مهم على المؤمن أن يقوم بنشره وترويجه بين البشر لكي لا يلتبس الأمر على العموم «لِّیَهْلِکَ مَنْ هَلَکَ عَن بَیِّنَةٍ وَیَحْیَی مَنْ حَیَّ عَن بَیِّنَةٍ »(1).

ونشر علامات الظهور بهذه القراءة العلمية ليس نشر للتكهنات، بل هو تجدي إعجازي للبشر لكي يستعلموا منه طريق الحق والهدى من طريق الغي والضلالة.

ص: 255


1- سورة الأنفال، الآية 42.

ميزان المواطنة في الدولة المهدوية

في منطق أهل البيت علیهم السلام المدار على الحرمة للنفس والعرض والمال، ليس على الطائفة أو المذهب أو العرق، بل هي قائمة على أساس «سلم لمن سالمکم وحرب لمن حاربکم»سواء انتحل الإسلام أو لم ينتحل، فأهل الذمة إن كانوا مسالمين تتسالم معهم، وهذا يشمل الآخرين أيضا كغير الكتابي والمعاهد المسالم وغيرهم: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَتَبَیَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَی إِلَیْکُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا »(1)هذا هو منطق أهل البيت علیهم السلام.

لذا يجب الالتفات أن مشروع الإمام المهدي عج الله فرجه الشريف ليسالضامن للأمان في ظهوره أن تنتحل صفة معينة، بل الضمان في أنك سلم معه ام لا؟.

وهو لا يحارب لأجل شخصه المقدس، بل لأنه عين العدل وعين الميزان «أَيْنَ الْمُعَدُّ لِقَطْعِ دابِرِ الظَّلَمَةِ ؟ أَيْنَ الْمُنْتَظَرُ لِإِقامَةِ الْأَمْتِ وَالْعِوَجِ ؟ أَيْنَ الْمُرْتَجى لِإِزالَةِ الْجَوْرِ وَالْعُدْوانِ ؟ أَيْنَ الْمُدَّخَرُ لِتَجْدِيدِ الْفَرائِضِ

ص: 256


1- سورة النساء، الآية 94.

وَالسُّنَنِ ؟ أَيْنَ الْمُتَخَيَّرُ لِإِعادَةِ الْمِلَّةِ وَالشَّرِيعَةِ ؟ أَيْنَ الْمُؤَمَّلُ لِإِحْياءِ الْكِتابِ وَحُدُودِهِ ؟ أَيْنَ مُحْيِي مَعالِمِ الدِّينِ وَأَهْلِهِ ؟».

إذا هذا معلم مهم من معالم دعاء الندبة، ومشروع المهدي الاستراتيجي قائم على العدل: «...وَقَدْ مَلَأْتَ الْأَرْضَ عَدْلاً، وَأَذَقْتَ أَعْداءَكَ هَواناً وَعِقاباً، وَأَبَرْتَ الْعُتاةَ وَجَحَدَةَ الْحَقِّ، وَقَطَعْتَ دابِرَ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَاجْتَثَثْتَ أُصُولَ الظَّالِمِينَ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .(1)

ومن ينظر للعدل ليس له ميول قومية أو عنصرية، فمشروع الإمام المهدي علیه السلام وميزانه في المواجهة والحروب ليس قائمة على الملة والنحلة، بل هو قائم على السلم والعدوان «سلم لمن سالمکم وحرب لمن حاربکم»(2).

ص: 257


1- مقطع من دعاء الندبه
2- مقطع من أحد زیارات الأئمة علیهم السلام.

قيادة النظام العالمي

من المهم التنبه إلى أن بنود دعاء الندبة والزيارات المروية في صاحب العصر والزمان عجل تعالی فرجه شریف الله ، تمثل قواعد في الفقه السياسي، وفي بناء استراتيجية العمل في الغيبة الكبرى إلى زمان الظهور.

وليست هذه البنود مجرد ترانيم روحية أو خواطر فكرية، بل هي قواعد منهجية، وهي ليست على صعيد البعد الفردي فقط، بل هي على صعيد المسار الاجتماعي والسياسي، وهذه القواعد بالتالي تمثل مشروع الإمام المهدي عجل تعالی فرجه شریف الله .

الطابع العام لهذا المنهج أنه يرفض السنن الخاطئة للبشرية ويرفض الأعراف الفاسدة: «..أَيْنَ قاصِمُ شَوْكَةِ الْمُعْتَدِينَ أَيْنَ هادِمُ أَبْنِيَةِ الشِّرْكِ وَالنِّفاقِ ؟ أَيْنَ مُبِيدُ أَهْلِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيانِ وَالطُّغْيانِ أَيْنَ حاصِدُ فُرُوعِ الْغَيِّ وَالشِّقاقِ؛أَيْنَ طامِسُ آثارِ الزَّيْغِ وَالْأَهْواءِ أَيْنَ قاطِعُ حَبائِلِ الْكِذْبِ وَالافْتِراءِ أَيْنَ مُبِيدُ الْعُتاةِ وَالْمَرَدَةِ أَيْنَ مُسْتَأْصِلُ أَهْلِ الْعِنادِ وَالتَّضْلِيلِ وَالْإِلْحادِ »(1)

كل كلمة من هذه العناوين هي معادلة تتعرض إلى كيان من الكيانات

ص: 258


1- مقطع من دعاء الندبة .

توجب افساد البشر، والطابع المهم ليس محاربة عنصر معين أو قومية بل إن هذه العناوين هي لمن يكون معاديا للفطرة الإنسانية.

يحاول أهل الشرق والغرب الآن أن يجروا مفهوما معينا وهو أن هذا الذي تواثق وتوافق عليه البشر هو الفطرة الإنسانية، فإذا تصادم بند من بنود القرآن الكريم مع هذه التوافقات البشرية وضعوا عليه علامة استفهام!.

مثلا ما هي رؤية القرآن الكريم في القتال، وفي النظام السياسي،وفي غيرها من المفاهيم؟

مدرسة السقيفة إلى الآن تفرز صورة غير حقيقية للمنظومة الإسلامية، فمن یری تعامل «داعش»مع ما يسمونه «السبايا»يعتقد أن هذه التصرفات الوحشية تمثل نظام الرقية في الإسلام.

الأصول التي يتبناها «داعش»ليس فيها مخالفة لنهج أبطال السقيفة، فمن تلك المدرسة أتی فکر داعش ونهجهم السلفي.

القرآن الكريم له رؤية أخرى حول المفاهيم التي أتى بها تختلف جذرية عما يمارسه هؤلاء وينشرونه، وهذه الرؤية لها من يطبقها ويشرف على تطبيقها.

في مدرسة أهل البيت علیهم السلام في بحث الجهاد الابتدائي رئاسة النظام العالمي البشري ليس من صلاحية المراجع والفقهاء، وليس من صلاحية حتى الولي الفقيه.

الجهاد الابتدائي يعني فيما يعنيه في اللغة العصرية رئاسة النظام العالمي البشري، وقد أجمع علماء الإمامية - إلا من شذ - وهو خلاف

ص: 259

متواتر الروايات أن الجهاد الابتدائي ليس من صلاحية حتى مالك الأشتر أو سلمان الفارسي.

بل هو ليس من صلاحية النبي إبراهيم الخليل علیه السلام، ولا موسی ولا عیسی علیها السلام ، وهذا فيه أدلة قرآنية وروائية عن أئمة أهل البيت علیهم السلام أنه لم يشرع حتى عند النبي إبراهيم علیه السلام، مع أن الجهاد الدفاعي شرع عند الأنبياء علیهم السلام، أما الجهاد الابتدائي فهو خاص عند سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله، والأئمة علیهم السلام فقط.

إدارة العلاقة بين الشعوب والمجتمعات على مستوى المعمورة نظام ينوء ثقله على الأنبياء والأوصياء والأولياء والعلماء، فقط قطب رحی الإمكان يقر ويوازن العدل بين البشر، فهل السقيفة قادرة على فعل ذلك؟! وهذا نظام داعش و طالبان والقاعدة ومنهجهم الواضح هو إدانة للصحابة في السقيفة.

الذي يمتلك رؤية كاملة عن كيفية الاستقرار البشري وتحقيق العدالة هو الإمام المعصوم علیه السلام تنظيرا وتطبيقا(1).

فإذا لم نحقق النظر وندرس البنود المهدوية بدقة وعناية تامة، حتى الحوزات الإيمانية سوف يفوت عن قدرتها تنظيرات إجمالية لكيفية رسم نظام تعايشي بين البشر، لا نستطيع أن نتلمسه إلا من خلال بنود منهج صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف.

هذا النظام الموجود في المشروع المهدوي نظام راشد إلى الآن لا

ص: 260


1- يقول الإمام الصادق علیه السلام «بلية الناس عظيمة : إن دعوناهم لم يجيبونا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا»(أمالي الصدوق، ص363).

يستطيع أحد أن ينظم مثله لأنه معجزة، فهو يرسم لنا نظاما أرقی مما هو موجود لدى المواثيق الدولية، لأن تلك المواثيق فيها تكريس للقومية والاحتراب العنصري.

المواثيق الدولية لا تدين بعض الأطراف، ولا تدين التمايز الطبقي الموجود الآن، ولكن الوضع يختلف مع النظام الموجود عند صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف، وكما ذكر في الأدعية الخاصة به «واجعله اللهم مفزعا المظلوم عبادك، وناصرا لمن لا يجد له ناصرا غيرك»(1).

إذن رئاسة البشرية وإيجاد التوازن بين الأمم والشعوب ليس بمقدور الإنسان العادي بل لا بد أن يكون إنسانا يوحى إليه، ولديه مدد، وإن لم يكن نبيا، وإلا لا يمكن أن يحدث هذا التوازن ستنتشر مرة أخرى التفرقة والتمييز بين بني البشر.

وملحمة القرآن الكريم عجيبة فهو لا يرى الأنبياء ولا كتبهم مهيمنة على البشرية، بل الهيمنة فقط لدولة سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله (2).

ص: 261


1- مقطع من دعاء العهد.
2- فَکَیْفَ إِذَا جِئْنَا مِن کُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِیدٍ وَجِئْنَا بِکَ عَلَی هَؤُلَاءِ شَهِیدًا [النساء: 41].

ص: 262

مشروع النجاة والمسؤوليات تقرير لأبحاث المرجع الديني الشيخ محمد السند دام ظله

الجزء الثانی

اشارة

تالیف: الشیخ ناجی الخاقانی

ص: 263

ص: 264

الإهداء

إلى سفينة النجاة

ومنقذ الأمة من الانحطاط تحت نير الأدعياء

إلى من قدم القرابين على مذبح الاباء ...

خيرة أهل بيت .. وخيرة أصحاب

لينقذ امة جده صلی الله علیه و آله ويصلح أمرها

إليك .. أيها المصلح والمنقذ العظيم

يا سيدي يا أبا عبد الله الحسين أهدي هذا الكتاب ....

فتقبله مني بكرمك....

ص: 265

ص: 266

تمهيد

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علی سید المرسلين المبعوث رحمة للعالمين أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين باب حطة وسفن النجاة وعلى من والاهم بإحسان إلى قيام يوم الدين.

الخلاص من الظلم والتحرر من نير العبودية هو مطلب إنساني قبل أن يكون مطلبا دينيا، وقد سعت البشرية إلى ذلك الأمر منذ أن وجد هذا الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان على وجه الأرض، فبين من يريد التجبر واستعباد الآخر، وبين من يرغب في التحرر والانعتاق، بعثت الأنبياء إلى الأمم حولت هذا الأمر إلى باب من أبواب الجهاد حاول من خلاله الرسل على مر العصور جر الناس إلى العبودية الخالصة لله سبحانه وتعالى من خلال تحريرهم من كل أشكال العبودية لغير الله وحده، وبذلوا في ذلك السبيل كل غال ونفيس فكان الأنبياء هم الرعاة والمنفذون للمشروع الإلهي في نجاة البشرية من خلال هداية الناس إلى دورهم ومسؤوليتهم في هذا المشروع.

تحول مشروع الخلاص إلى مفهوم ديني على يد الأنبياء أعطى شعورة لدى الناس بقيمة هذا العنوان وحوله إلى إيمان بمستقبل الإنسانية وأن هذا الإيمان ليس عزاء وتسلية فحسب بل هو مصدر للعطاء والقوة

ص: 267

وعدم اليأس، وهو بصیص نور لعالم مليء بالظلم والجور يجعل الأمل مشتعلا في الصدور مهما ادلهمت الخطوب.

والقرآن الكريم في حديثه عن السنن الإلهية في المجتمعات البشرية عرض شروط المشروع الإلهي للنجاة والعوامل التي تتكفل بإيصال المجتمعات إلى النعمة الإلهية في نيل الفرج والنجاة من الظلم من خلال ذكر ما جرى على بني إسرائيل على يد فرعون و خلاصهم من ظلمه بجهد النبي موسی علیه السلام منجي بني إسرائيل بأمر الله سبحانه وتعالى من خلال صناعته لأمته وتوجيه لهم نحو مسؤوليتهم في المشروع الإلهي ليمن الله عليهم بالنجاة والخلاص من الذل والعبودية.

في قصة بني إسرائيل وصراعهم ضد فرعون إشارات واضحة لكل المجتمعات البشرية بضرورة تهيئة المقدمات اللازمة لفعل التغيير نحو الأفضل، وتأكيد على أنه في حال عدم تحقيق الشروط للنجاة فلن يتحقق لهم أبدا الفرج الإلهي لأن الله سبحانه وتعالى جعل الخطوة الأولى نحو التغيير من نفس المجتمع :«إِنَّ اللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ »(1)، صحيح أن النصر من عند الله سبحانه ولكن حقانية المسير لا تعني أن يأتي النصر على نحو الهبة وبدون أي مبادرة.

وعلى هذا الأساس سعى الأنبياء علیهم السلام إلى توعية الأمة نحو مسؤولياتهم والتأكيد على ضرورة القيام بها لنصرة المشروع الإلهي في التغيير.

ولأن هذه الأمة المؤمنة تحذو حذو من سبقها من الأمم فهي معنية ايضا بالقيام بمسؤولياتها حتى يمين الله عليها بفرج صاحب الزمان عجل

ص: 268


1- سورة الرعد: الآية 11.

الله فرجه الشريف، فيجب علينا لكي نقوم بمسؤولياتنا أن نستنطق الآيات القرآنية التي تحدثت عن قصص الأمم السابقة في هذا السبيل واستلهام العبر مما جرى في الغابرين

وهذا الكتاب هو مجموعة من المحاضرات ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد السند دام ظله الشريف في مسجد عمران بن شاهين في النجفال أشرف، وهي محاولة لاستنطاق آية قرآنية تحدثت عن المشروع المنجي لمعرفة المسؤوليات المفروضة على المؤمنين للمشاركة في إقامة هذا المشروع والتعجيل بتحقيقه، ولأهمية هذا الموضوع قمنا بتقرير تلك المحاضرات وتقديمها في هذا الكتاب لتعم الفائدة للمؤمنين التواقين لمعرفة دورهم وحدود مسؤولياتهم في المشروع الإلهي المنجي وسطوع شمس أمل البشرية عجل الله فرجه الشریف ليمن الله علينا بالظهور المبارك وتحقيق النجاة لهذه الأمة المظلومة.

نسأل الله سبحانه أن نكون قد وفقنا في هذا العمل، وأن يتقبل منا بمنه، ويعفو عنا وعن والدينا بكرمه.

ربنا إليك أنبنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم. والحمد لله رب العالمين.

الشيخ ناجي الخاقاني

النجف الأشرف- 1439ه

ص: 269

ص: 270

الفصل الأول: مقدمات الانهيار الحضاري وعوامل التغيير

اشارة

ص: 271

ص: 272

مراحل الانحدار والتغيير في المجتمعات

وردت الإشارة في القرآن الكريم أن بني إسرائيل وصلوا إلى مرحلة الاضطهاد وسوم العذاب على يد فرعون بصورة تدريجية، فهم دخلوا مصر معززين مكرمين مع النبي يعقوب بتوسط نبي الله يوسف علیها السلام، وكانت لهم مكانة خاصة لأنهم سكنوا أفضل المناطق في وادي النيل ولكنهم فيما بعد تمردوا على وصايا نبي الله يوسف علیه السلام كما تشير بعض الروايات، فانتقلوا من تمرد إلى آخر حتى وصل بهم الانحدار بسبب أفعالهم أن تسلط عليهم آل فرعون.

لذا كان عليهم أن يرتفعوا مرة أخرى وبصورة تدريجية حتى ينعموا بالفرج الإلهي وظهور النبي موسى علیه السلام لينقذهم من ظلم آل فرعون، ولن يفرج الله سبحانه وتعالى عنهم حتى يأخذوا بأسباب المبادرة بالتغيير نحو الأفضل، ولذلك كلما أبطأوا في التغيير أبطأ الله عليهم بالفرج، وكلما سارعوا سارع الله سبحانه وتعالى لهم لأن الفرج كما الانحدار يكون على مراحل.

وقبيل بعثة النبي موسى علیه السلام حدثت بعض إرهاصات التباطؤ فكان أن غيب الله عنهم النبي موسى علیه السلام في مدين ثمان حجج وذلك:«إِنَّ

ص: 273

اللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ »(1)وهذا من أسس عملية التغيير الاجتماعي، وعليه يجب على المؤمنين أن لا يقنعوا بمرحلة معينة بل عليهم الاستمرار والمواصلة.

والفرج الإلهي تحقق لبني إسرائيل بعد انتظار طويل لمنقذهم نبي الله موسى علیه السلام كما نحن الآن ننتظر الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، لذا دراسة هذه الآية المباركة بسبب التقارب بين المشروعين الاعتبارات السنن الإلهية في البشرية حتما ستعطي لنا الكثير من الإشارات فيما يخص الظهور المهدوي، خصوصا إذا تابعنا كل الآيات القرآنية المتصلة بهذا البحث منظوميا وليس موضوعيا فقط.

ص: 274


1- سورة الرعد، الآية 11.

أعوان الظلمة سبب الطغيان

في هذه الآية الكريمة: «وَإِذْ نَجَّیْنَاکُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَسُومُونَکُمْ سُوءَ الْعَذَابِ یُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَکُمْ وَیَسْتَحْیُونَ نِسَاءَکُمْ ۚ وَفِی ذَلِکُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّکُمْ عَظِیمٌ»(1)

هذه الإشارات القرآنية ركز عليها آل البيت علیهم السلام كثيرا وشددوا على أن الظالم لولا أنه يجد من يعينه على ظلمه ما استطاع أن يظلم أحدا، فلولا أعوان الظلمة ما سلب حق آل البيت علیهم السلام في أداء دورهم في نجاة البشرية.

والتشديد أيضا في القرآن الكريم في خطابه ضد الظالمين هو لخطورة ذلك الظلم وتأثيره السيء على المجتمعات البشرية فتجد قوله تعالى:«وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا یَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا یُؤَخِّرُهُمْ لِیَوْمٍ تَشْخَصُ فِیهِ الْأَبْصَارُ»(2).

وقوله تعالى:«إِنَّهُ لَا یُفْلِحُ الظَّالِمُونَ»(3).

وقوله تعالى:«فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَکُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ۗ إِنَّهُ لَا یُفْلِحُ الظَّالِمُونَ »(4).

ص: 275


1- سورة البقرة، الآية 49.
2- سورة إبراهيم، الآية 42.
3- سورة الأنعام، الآية 21.
4- سورة الأنعام، الآية 135.

وقوله تعالى: «وَمَن تَکُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ۖ إِنَّهُ لَا یُفْلِحُ الظَّالِمُونَ»(1).

وقوله تعالى:«ِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ یَکُنِ اللَّهُ لِیَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِیَهْدِیَهُمْ طَرِیقًا*إِلَّا طَرِیقَ جَهَنَّمَ خَالِدِینَ فِیهَا أَبَدًا ۚ وَکَانَ ذَلِکَ عَلَی اللَّهِ یَسِیرًا»(2).

ويحذر أيضا من الركون إلى الظلمة، لأن التعاون معهم والميل إليهم والرضا بهم يؤدي إلى تقوية شأنهم، وبالتالي زيادة مساحة الظلم والجور في المجتمع وتغييب العدل والعدالة لذلك توعد الله عز وجل من أعان ظالما على ظلمه بالنار:«وَلَا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّکُمُ النَّارُ وَمَا لَکُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِیَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ »(3).

وأكد على ذلك رسول الله صلی الله علیه و آله: «من أعان ظالما على ظلمه جاء يوم القيامة وعلى جبهته مكتوب: آیس من رحمة الله»(4)، وقوله صلی الله علیه و آله: «من مشى مع ظالم فقد أجرم»(5)يقول تعالى: «إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِینَ مُنتَقِمُونَ»(6).

ولو أن الظلمة لم يجدوا من يعينهم ويساعدهم على ظلمهم ما استطاعوا أن يظلموا أحدا، لكنهم يجدون الكثير من الأعوان والأنصار ممن يساعدهم على ممارسة الظلم ونشره في كل مكان لذلك هم يعدون من أعوان الظلمة وستصيبهم النار كما تصيب الظلمة أنفسهم.

ص: 276


1- سورة القصص، 37
2- سورة النساء، 168-169
3- سورة هود، 113
4- الریشهری،میزان الحکمه،ج4،ص1779،ح11470
5- المجلسي، بحار الأنوار، ج 72، ص377، ح 31
6- سورة السجدة، 22

هذه المحاسبة هي تشخيص للداء والعلاج في هذا المشروع الإلهي المنجي للبشرية، وهذا النظام الموجود في التشخيص هو نفس المسؤولية الفردية والاجتماعية في هذا المشروع، وإشارة إلى عدم إمكانية التهاون مع هذه المفردة لخطورتها العظيمة في إهلاك الحرث والنسل: «وَإِذَا تَوَلَّی سَعَی فِی الْأَرْضِ لِیُفْسِدَ فِیهَا وَیُهْلِکَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا یُحِبُّ الْفَسَادَ»(1).

وقوله تعالى:«فَهَلْ عَسَیْتُمْ إِن تَوَلَّیْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَکُمْ»(2).

ص: 277


1- سورة البقرة، 205
2- سورة محمد، 22

واقع التصادم بين نهجين مختلفين

في سياق هذه الآية المباركة بيان للصراع بين مجتمعين ومسارین مختلفين، بين المجتمع المؤمن الموحد في قبال غير الموحد.

والقرآن الكريم عنون هذه التصادم بالحرب الدينية ولكنها في الحقيقة لا تعود إلى تعصب أفراد كما قد يصورها الطرح الغربي في توصيفه للحروب الدينية وأنها ناشئة من العصبية والشعارات كما يحكم عليها ضمير الإنسانية وعقله!.

الحقيقة أن الغرب منطق المواجهة عندهم ديني أيضا وإن كان بشعارات مختلفة، وقد عرف عنهم الكيل بمكيالين فمن جانبهم هي في سياق حرية التعبير وإن أساؤوا إلى مقدسات الآخرين، أما إذا وجهت لهم سهام النقد من قبل الشعوب المضطهدة عبروا عنها بالحرب الدينية، أو الحرب ضد الشرعية وما إلى ذلك من هذه الشعارات.

فهم يرفعون شعارات ليدينوا بها الآخرين وفي حقيقة الأمر لا يلتزمون بها إذا عادت الأمور ضدهم، ويمارسون ضد الآخر في حربهم الإعلامية كل ما يشير إلى واقع الحرب الدينية، وقد أصبح معروفا عنهم وبصورة واضحة حرب الرسوم المسيئة ضد النبي الأعظم صلی الله علیه و آله.

ص: 278

عموما القرآن الكريم قد لا يشير إلى أن هذه المواجهة دينية ولكنه أشار إلى العنصرية فيها: «وَإِذْ نَجَّیْنَاکُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَسُومُونَکُمْ سُوءَ الْعَذَابِ یُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَکُمْ وَیَسْتَحْیُونَ نِسَاءَکُمْ ۚ وَفِی ذَلِکُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّکُمْ عَظِیمٌ »(1).

يعني أن هناك نظام سياسي و اجتماعي قائم على أساس الظلم بموازین تجعل من البشر طبقات يظلم بعضها بعضا، لذا يصح أن كل نظام سیاسي لا يقوم على أساس منظومة العدل الإلهي نظام فرعوني بحسب المنطق القرآني، فهو وإن كان يتحدث عن فرعون مصر بالخصوص لكنه يقصد عموم مفهوم النظم الفرعونية القائمة على أساس الظلم والاضطهاد.

والأمر بعينه يجري على اليهود فالقرآن الكريم لا يتحدث عنهم بما هم یهود وإنما بما يمثلون من النهج الحق في ذلك الزمان الرافض للظلم والباحث عن الخلاص والنجاة من بطش فرعون.

فهو حديث عن نهجين احدهما يمثل إرادة السماء وباحث عن إقامة العدل الإلهي، وآخر يمارس الظلم والبطش بمیزان عنصري قبيح.

ص: 279


1- سورة البقرة: الآية 49.

المعصوم محور نظام العدل الإلهي

في هذا الصراع بيان واضح أنه لا يمكن أن يكون محورا النظام العدل الإلهي إلا المعصوم فالمجتمع لا يترك هكذا بدون تسديد، والحديث الشريف الوارد عن رسول الله صلی الله علیه و آله: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهزوا

للعرض الأكبر»(1)هذه المحاسبة والموازنة هي قطعا بميزان المعصوم، فالنهج الذي يمثله يختلف عن منهج الطاغوت وهو معصوم في تمثيله وتطبيقه، فإذا أصبح المحور هو المعصوم أمكن الجمع بين مختلف زوايا المشروع لأنه هو القادر على تشخيص التوازنات ورعاية المصلحة.

أمير المؤمنين علیه السلام أشار إلى ذلك في إحدى خطبه حول میزان الحق: «...والحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولکنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه وجعل جزاءهم عليه مضاعفة

ص: 280


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج67، ص73.

الثواب تفضلا منه وتوسعا بما هو من المزيد أهله..»(1)، فإن الكثير من الناس يدعي أنه لو حکم لعدل وعند التطبيق لا تجد أثرا لقوله.

وعليه يجب أن يكون من بيده القضاء والأداة معصوما ليكون ميزانا بالحق، ولا يكفي أن يكون موجودا وهو مبعد عن إدارة الأمور كما جرى في طول تاريخ المسلمين مع أهل البيت علیهم السلام.

فالجهاد على سبيل المثال في مدرسة أهل البيت علیهم السلام ليس أكثر من أسلمة العقيدة، وأن حاول الغرب كعادته أن يوحي للآخرين أن الجهاد عند المسلمين هو الإكراه على العقيدة، مستغلين الممارسات الخاطئة للبعض ممن يدعي الإسلام من التكفيرين.

وهذا يؤكد بلا ادنى شك على أهمية وضرورة محورية المعصوم في نظام العدل الإلهي فهو المجسد حقيقة لقوله تعالى:«لَا إِکْرَاهَ فِی الدِّینِ ۖ قَد تَّبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ»(2)، ولأن الجهاد في حقيقته ليس أكثر من أسلمة العقيدة:«وَمَا لَکُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْیَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنکَ وَلِیًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنکَ نَصِیرًا »(3)، فهو إظهار للعدل بين بني البشر والخروج من دائرة الظلم وهو يختلف كليا عن الإكراه في العقيدة.

فهذه الآية التي تتحدث عن المشروع الإلهي المنجي لم يعنون الظلم کشعار وإنما كنظام اجتماعي جائر يملك منهجا قائمة على الاضطهاد

ص: 281


1- ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 11، ص89
2- سورة البقرة، الآية 256.
3- سورة النساء، الآية 75.

والتمييز العنصري، وإلا فإن اليهود لو دانوا بدین فرعون لصاروا ينتمون المشروع الظالمين ولن يتعرضوا بعدها لظلم آل فرعون، ولصدق قول من يدعي أن الحرب ليست دينية لأنه - الدين - مشروع فردي، وهذا ليس بصحيح لأنه ليس من المعقول أن يكون هدف الإسلام في باب الجهاد وأبواب أخرى البعد الفردي للإنسان وإن كانت المصلحة الفردية تتحقق بالتبع.

ص: 282

حضور المعصوم نظم لأطياف البشر

في سياق البحث عن المسؤوليات في المشروع الإلهي المنجي من خلال النظر إلى هذه الآية المباركة أن مجموع أطياف المؤمنين يشكلون كلا حسب مساره وقدراته جزءا من المشروع، ولا يمكن الاقتصار على لون واحد من هذه الأطياف المؤمنة والمختلفة.

فلا يمكن اعتبار أي طيف من أطياف الأمة خطرا على المشروع الإلهي أو انه دخيل عليه وإن لم يكن له مدبر، لأن أي دور لا يمكن الاستهانة به ما دام له نسبة معتبرة في الموازين، وهذا لا يعني نفي السلبيات والأخطاء عنه لأن كل فئة هي منطوية على بعض الإخفاقات والسلبيات بغض النظر عن مقدار السلب والإيجاب فيها، ولكن تبقى أي نسبة في أي طيف هي جزء من المشروع ولها جزء من الإنجاز لا يمكن التفريط به، وهذا ليس فقط على صعيد المؤمنين بل هو على عموم المسلمين.

إدارة هذه القواعد يحتاج إلى ناظم يلملم هذه الحلقات ويمنع التفريط بأي مقدار كان من هذه الجهود، وهذا الناظم أشارت له الزهراء سلام الله عليها في خطبتها بعد رحيل رسول الله صلی الله علیه و آله : «وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا من الفرقة». .

إذن هناك بعدان مهمان في هذه المسألة:

ص: 283

الأول: عدم التفريط بجهد أي فئة من فئات هذا المجتمع.

والثاني: ضرورة وجود الرابط الذي يوصل جميع هذه الحلقات مع بعضها البعض ولديه أهمية مركزية في هذا المشروع الإلهي المنجي والمعصوم الحي الحاضر هو الرابط وهو مركز التدبير وهو المنجي في هذا المشروع الإلهي.

وقد روي عن الامام الصادق علیه السلام أنه قال: (إن أمير المؤمنین علیه السلام - على منبر الكوفة - قال: إن من ورائكم فتنة مظلمة عمياء منکسفة لا ينجو منها إلا النومة، قيل يا أمير المؤمنين وما النومة؟ قال: الذي يعرف الناس ولا يعرفونه. واعلموا أن الأرض لا تخلو من حجة الله عز وجل ولكن الله سيعمي خلقه عنها بظلمهم وجورهم وإسرافهم على أنفسهم، ولو خلت الأرض ساعة واحدة من حجة الله لساخت بأهلها، ولكن الحجة يعرف الناس ولا يعرفونه، كما كان يوسف يعرف الناس وهم له منکرون، ثم تلا:«یَا حَسْرَةً عَلَی الْعِبَادِ ۚ مَا یَأْتِیهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا کَانُوا بِهِ یَسْتَهْزِئُونَ»(1))(2).

فالإمام المعصوم الحجة هو الرابط الأساس في هذا المشروع، وهو الذي يحفظ الله سبحانه وتعالى به الأرض أما بقية حلقات المشروع من طبقات المجتمع فهي منتمية لهذا المشروع، وعدم التفريط بحلقة من الحلقات يعني أن كل ما موجود عند المؤمنين والمسلمين ليس هو النهاية، فهم لا يملكون كل تفاصيل المشروع بل لديهم بعض الأجزاء.

ص: 284


1- سورة يس، الآية 30.
2- النعماني، الغيبة، ص 141، ب1، ح 2.

حفظ التوازن في المشاريع الإلهية

هذه الآية الكريمة بين خارطة المسؤوليات لمشروع المنجي من آل البيت صلوات الله عليهم کسنة إلهية دائمة.

وهي بمثابة المفاد المحكم الذي يعطف عليه سائر أبواب الأدلة التي يمكن أن يترائ منها التضارب فيما بينها، فيتحتم بناء خارطة كاملة لا يمكن أن تكون لها نهاية مقدرة لأن المجتمع غير المعصوم في حالة اکتشاف مستمر لهذا المشروع.

ويمكن أيضا من خلال هذه الآية المحكمة معرفة أن التوازن المجموعي عند المؤمنین مهم للغاية، وأن الأداء الوظيفي من قبلهم يمكن أن يتم سد الحاجة به وإقامة المشروع، وقد جرب هذا الأمر في أكثر من بيئة وعلى أكثر من صعيد.

إضافة إلى أن التوازن المجموعي يقود إلى عدم التفريط بأي فرد من أفراد المجتمع باعتبار أن كلا له دور وموقع في المشروع المهدوي.

لكن هكذا مشاريع كبيرة تنفتح في مساحتها على الدائرة الأوسع تحتاج إلى عملية توازن صعبة جدا، مثلا في قوله تعالى:«الَّذِینَ أُخْرِجُوا مِن دِیَارِهِم بِغَیْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن یَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ

ص: 285

لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِیَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ یُذْکَرُفِیهَا اسْمُ اللَّهِ کَثِیرًا ۗ وَلَیَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن یَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ»(1)، عملية التوازن هي من تحفظ الكثير من المشاريع الدينية والمصالح الاجتماعية المختلفة، ففي سبيل المشروع المنجي وتقريب اجل الظهور يجب عدم التفريط بأي مجموعة ولو كان على مستوى التوازنات، وهذه العملية صعبة بين صفوف المؤمنين انفسهم فالعجز واضح فينا في رسم هذه السياسة، ولكن نستطيع أن نتمثل البعض منها في موارد عديدة مثل السور المكية وحتى في بعض السور المدنية، ففي السور المكية الله سبحانه وتعالى يأمر النبي صلی الله علیه و آله أن يمهل الكافرين:«فَمَهِّلِ الْکَافِرِینَ أَمْهِلْهُمْ رُوَیْدًا »(2).

وهذه المهلة ليس لأن الكافر له حرمة عند الله بل القضاء والتقدير الإلهي أن يستثمر في صالح المشروع الإلهي، لأن المنظومة البشرية ليست على وتيرة واحدة، والقواعد الفقهية الراسمة لهذا التوازن قطعا لا تؤخذ من آية أو آيتين في القرآن الكريم لأنه مع آية إمهال للكافرين تجد آية أخرى تصرح بأمر آخر:«یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ جَاهِدِ الْکُفَّارَ وَالْمُنَافِقِینَ وَاغْلُظْ عَلَیْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِیرُ»(3).

وهذا الأمر أيضا موجود على مستوى سيرة الأئمة علیهم السلام فأمير المؤمنین علی قاتل الخوارج ثم أوصى بعدم قتالهم من بعده: «لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه»(4).

ص: 286


1- سورة الحج، الآية 40.
2- سورة الطارق، الآية 17.
3- سورة التحريم، الآية 9.
4- الصدوق، علل الشرایع، ص0218

فإذا تبدل الموضوع اختلفت زاوية الرؤية في المبحث الواحد، والتوازن من الأمثلة المعقدة والصعبة جدا، لأن غير المسلمين ليسوا بمقياس واحد ومحاور الاستقطاب تختلف بالإضافة إلى اختلاف التوازنات، والمشروع الإلهي ذو مراحل و درجات وجهات متعددة مع ملاحظة اختلاف الظروف واستمرارية المشروع في البناء والتمهيد.

ص: 287

ص: 288

الفصل الثاني: عملية التغيير الاجتماعي.. الآليات والنتائج

اشارة

ص: 289

ص: 290

حقيقة النجاة في المشروع الإلهي

الآية الكريمة في ذكرها لسنة الله تعالى في بني إسرائيل بتحقيق المشروع المنجي:«وَإِذْ نَجَّیْنَاکُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَسُومُونَکُمْ سُوءَ الْعَذَابِ یُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَکُمْ وَیَسْتَحْیُونَ نِسَاءَکُمْ ۚ وَفِی ذَلِکُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّکُمْ عَظِیمٌ »(1)، هناك آية أخرى تتحدث أيضا عن نجاتهم:«وَإِذْ فَرَقْنَا بِکُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَیْنَاکُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ»(2)، فهل هذا تكرار في الحديث عن نجاتهم؟ أم انه إشارة إلى حدثين مختلفين؟

هو حديث عن وضعين مختلفين لأن أصل المشروع المنجي لم يتم عندما تم عبور البحر، فالنجاة من فرعون بعبور البحر هي نجاة لأنفسهم من القتل.

أما النجاة الحقيقية والتي هي هدف وأصل المشروع المنجي فهي تتم عندما يرتبط بنو إسرائيل عقائديا وولائيا بالمنجي وينقادون له، هذا الارتباط الولائي هو نجاة من الذوبان في الأنظمة الفرعونية الجائرة.

المؤمن عندما يرتبط بالمنجي في كل توجهاته وتطلعاته وكذلك في

ص: 291


1- سورة البقرة، الآية 49.
2- سورة البقرة، الآية 50.

برنامجه العملي يكون قد نجى من السقوط في حلقات النظام الفرعوني، والفرقة الناجية هي من ترتبط منهجيا وسلوكيا بالمنجي وتنتظر الفرج فتصبح في أعظم وأعلى درجات العبادة.

فلسفة انتظار الفرج هي في برمجة المؤمن لولائه وانتمائه وجعل المنجي هو المحور في مواقفه، عندها ستتكسر كل معاول الظلم عند صبر الانتظار لتنعم بحقيقة النجاة.

أما النصر السياسي والعسكري ومتي يعلن فهذا يأتي بمرتبة بعد النجاة:«وَإِذْ فَرَقْنَا بِکُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَیْنَاکُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ»(1).

نفس الانتماء والارتباط بالمنجي يحول المؤمن من طاقة مستهلكة مجندة في مشروع الشر إلى طاقة إيجابية وحلقة من حلقات. المشروع المنجي

وقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام ما يشير إلى أهمية الانتظار بعد الارتباط العقائدي بالمنجي، فقد روى السندي عن جده، أنه قال: قلت الأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول فيمن مات على هذا الأمر، منتظرا له؟ قال: «هو بمنزلة من كان مع القائم في فسطاطه »، ثم سکت هنيهة، تم قال: هو کمن كان مع رسول الله صلی الله علیه و آله»(2).

وعن علاء بن سيابة، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «من مات منکم على هذا الأمر منتظرا له كان من كان في فسطاط القائم علیه السلام»(3).

ص: 292


1- سورة البقرة، الآية 50.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج52، ص125.
3- المجلسي، بحار الأنوار ، ج 52، ص125.

من الواضح أن الانتظار هو مدرسة تصنع الأبطال المتميزين، والمنتظر يتروض في تلك المدرسة ويتربى فيها تربية كاملة تجعله يتحمل أعلى مراتب المسؤولية، وهذه التربية تمكنه من أن يتحلى بكل صفات المؤمن الصادق الذي لا تأخذه في الله لومة لائم

والارتباط هو الالتزام بالضوابط وفق نهج المنجي الإلهي في كل صغيرة وكبيرة.

وقد ورد عن الإمام علي بن الحسين علیه السلام في حديث طويل أنه قال: تمتد الغيبه بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله صلی الله علیه و آله، والأئمه بعده . يا أبا خالد، إن أهل زمان غيبته القائلون بإمامته المنتظرون لظهوره أفضل أهل کل زمان، لأن الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبه عندهم منزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك زمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله صلی الله علیه و آله بالسيف، أولئك المخلصون حقا، وشیعتنا صدقا، والدعاة إلى دين الله سرا وجهرا (1).

هذا هو الارتباط الذي يعتبره القرآن الكريم نجاة وخروج من دائرة الظلم والجور، وانتماء إلى نهج العدل الإلهي من خلال الارتباط بخليفة الله المصطفى من عنده جلت قدرته.

والإمام الصادق علیه السلام بين عظمة هذا الارتباط والانتظار بوصف عجيب يظهر فيه قيمة هذه العبادة العظيمة، فقد روى عمار الساباطى أنه قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام: العباده مع الإمام من المستتر في السر في

ص: 293


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج52، ص122.

دولة الباطل أفضل أم العباه في ظهور الحق ودوليه مع الإمام الظاهر منکم؟

فقال: «يا عمار، الصدقه في السر والله أفضل من الصدقة في العلانية،وكذلك عبادتكم في السر مع إمامکم المستتر في دولة الباطل أفضل - لخوفكم من عدوكم في دولة الباطل و حال الهدنة - ممن يعبد الله في ظهور الحق مع الإمام الظاهر في دولة الحق، وليس العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة مع الأمن في دولة الحق .

اعلموا أن من صلی منکم صلاة فريضة وحدانا مسير بها من عدوه في وقتها فأتممها كتب الله عز وجل له بها خمسا وعشرين صلاة فريضة وحدانية، ومن صلی منکم صلاة نافلة في وقتها فأتمها كتب الله عز وجل له بها عشر صلوات نوافل، ومن عمل منکم حسنه كتب الله له بها عشرين حسنة، ويضاعف الله تعالی حسنات المؤمن منکم إذا أحسن أعماله، ودان الله بالتقیة على دينه وعلى إمامه. وعلى نفسه، وأمسك من لسانه أضعافا مضاعفة كثيرة، إن الله عزوجل کریم».

قال: فقلت: جعلت فداك قد رغبتني في العمل، وحثثتني عليه،ولكني أحب أن أعلم كيف صرنا نحن اليوم أفضل أعمالا من أصحاب الإمام من الظاهر في دولة الحق، ونحن على دين واحد، وهو دين الله عزوجل؟!، فقال: «إنكم سبقتموهم إلى الدخولي في دين الله وإلى الصلاة والصوم والحج وإلى كل فقه وير، إلى عبادة الله سرا من عدوكم مع الإمام المستتر، مطیعون له، صابرون معه، منتظرون لدولة الحق، خائفون على إمامكم وعلى أنفسکم من الملوك، تنظرون إلى حق

ص: 294

إمامكم وحقكم في أيدي الظلمة قد منعوکم ذلك، واضطروکم إلى جذب الدنيا وطلب المعاش مع الصبر على دینکم وعبادتکم وطاعة ربکم والخوف من عدوکم، قبذلك ضاعف الله أعمالكم، فهنيئا لكم هنيئا». قال: فقلت: جعلت فداك، فما نتمنى إذا أن نكون من أصحاب القائم عجل الله تعالی فرجه شریف في ظهور الحق ونحن اليوم في إمامك وطاعتك أفضل أعمالا من أعمال أصحاب دولة الحق؟!

فقال: «سبحان الله أما تحبون أن يظهر الله عزوجل الحق والعدل في البلاد، ویحسن حال عامة الناس، ويجمع الله الكلمة، ويؤلف بين القلوب المختلفة، ولا يعصى الله في أرضه، ويقام حدود الله في خلقه، ویرد الحق إلى أهله، فيظهروه حتى لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحد من الخلق ؟!

أما والله يا عمار، لا يموت منکم ميت على الحال التي أنتم عليها إلا كان أفضل عند الله عزوجل من كثير ممن شهد بدرا وأحدا فأبشروا(1).

وهذا يدل على أن المسؤولية الحقيقية هي قبل الظهور، وان الارتباط بالمنجي قبل الظهور وانتظاره هي النجاة، وان البناء في السر لدولة القسط والعدل هو الدور الأعظم من البناء في عصر الظهور.

وما بينه القرآن الكريم من خلال تلك الآيتين هو أن النجاة الحقيقية حصلت بارتباطهم بالمنجي وهو النبي موسی علیه السلام وهذا الأمر حدث قبل أن يعبر بنو إسرائيل البحر، وعندما ارتبطوا بالمنجي تحصلوا ثمار هذا الارتباط.

ص: 295


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج52، ص127

299

شروط النجاة في المشروع الإلهي

في قوله تعالى:«وَإِذْ نَجَّیْنَاکُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَسُومُونَکُمْ سُوءَ الْعَذَابِ یُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَکُمْ وَیَسْتَحْیُونَ نِسَاءَکُمْ ۚ وَفِی ذَلِکُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّکُمْ عَظِیمٌ»(1) إشارة إلى أن السنة الإلهية في التغيير الاجتماعي والسياسي وإصلاح المجتمع هي فعل الله سبحانه وتعالی. والبشرية اليوم تعيش كل هذه الابتلاءات وتشير الأرقام إلى هول الجرائم المنظمة ضد الإنسانية من سفك للدماء وهتك للأعراض وغيرها من الجرائم، هذه الأرقام تخرج من منظمات تابعة للأمم المتحدة مع أنه يشرف على تلك المنظمات نفس أولئك الذئاب والمافيات ولكن مع ذلك تظهر الكثير من إحصائيات الجرائم ضد البشرية.

هذه النجاة للبشرية - نجيناكم - كفعل من أفعال الله وضع لها الباري جلت قدرته قوانین و معادلات في كتابه الكريم منذ أكثر من 1400 عام ولكن البشرية لم تقم بشروط هذه القوانين ولو فعلت لحقق الله الوعد:«وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا یُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لَا یَعْلَمُونَ »(2).

وعليه يكون التأخير في حصول الفرج هو بسبب أفعال الناس

ص: 296


1- سورة البقرة، الآية 49.
2- سورة الروم، الآية 6.

أنفسهم، فقد ورد عن الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف في رسالته الثانية إلى الشيخ المفيد (رض) ما نصه: «ولو أن أشیاعنا - وفقهم الله الطاعته - على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا . فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم . والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل..»(1).فتقصير المؤمنين وإخفاقهم في آداء مسؤولياتهم سبب رئيس في تأخير الفرج.

والقرآن الكريم ذكر قصة هارون في قوم موسى علیها السلام:«قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِی وَکَادُوا یَقْتُلُونَنِی فَلَا تُشْمِتْ بِیَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِی مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ»(2).

فأغلب هذه الإخفاقات أسبابها الرئيسية أما أن الأمة كان ينقصها الحس والعقلية الأمنية، أو أنهم لم ينصروا إمامهم، وقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام من کلام طویل لسائل سأله: «..أما لو كملت العدة الموصوفة ثلاثمائة وبضعة عشر كان الذي تريدون، ولكن شيعتنا من لا يعدو صوته سمعه، ولا شحناؤه بدنه..»(3)

وعليه فإن النجاة والتي هي فعل الله على يد اوليائه لن تتم إلا بالتزام الناس بشروطها التي وضعها سبحانه وتعالى:«إِنَّ اللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ

ص: 297


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج53، ص177
2- سورة الأعراف، الآية 150.
3- النعماني، الغيبة، ص203، باب ما يلحق الشيعة من التمحيص والتفرق والتشتت عند الغيبة حتى لا يبقى على حقيقة الأمر إلا الأقل الذي وصفه الأئمة علیهم السلام .

حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ»(1)، يعني لا بد لهم أن يستعدوا لتكون لهم القابلية وإلا بطلت حكمة الامتحان الإلهي في تكامل البشر وتطورهم.

وهذا يعني أن أسباب النجاة وظهور المنجي للبشرية يعود على البشرية نفسها، وهذا منطق أصيل في القرآن الكريم في الآية السالفة وفي آيات أخرى:«وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَی الطَّرِیقَةِ لَأَسْقَیْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا»(2).

على ضوء هذه الأصالة القرآنية لهذا المفهوم يجب دراسة استراتيجية المشروع الإلهي المهدوي من السقيفة حتى اليوم، والمنظومة الإلهية من الإمام صلوات الله عليه ومن المؤمنين تقع على عاتقهم مسؤولية معالجة هذا الإخفاق، يعني أن يتم التدرج في تربية الأمة لكي تصل إلى مرحلة الاستعداد والقابلية لتنفيذ وعد الله سبحانه، فالمشروع لم يقف أصلا بل انه قد خطط له لكي ينجز، فنجاة البشرية هي غاية وهدف كل ما في الأمر أن يراعي المؤمن المقدمات والمراحل التدريجية والطبيعية.

إذن استراتيجية المشروع الإلهي هي السير خطوة بعد خطوة، ولو كانت هناك أنظمة قوية ذات منعة قادرة على توفير الحماية الأمنية للإمام عجل الله فرجه الشريف وتمنع عنه فانه بلا شك سيبدأ مسيرته في العلن، لكن إلى الآن لم تتوفر هذه الأرضية المناسبة .

هذا الطفل البشري يجب عليه أن يبلغ ويكون قادرا لأنه هو من سيمارس عملية التغيير لكي تكون هناك قوة ومنعة، فلا يظن أحد أنه لا مشروع في البين!، بل الخطى حثيثة والسعي نحو المسؤولية بحركة دؤوبة،

ص: 298


1- سورة الرعد، الآية 11.
2- سورة الجن، الآية 16.

لكنها بحاجة إلى عملية إصلاح ذاتي من قبل الفرد والجماعة لينعكس بالتالي أثره على معسكر الإيمان برمته.

وأعداء المشروع الإلهي يستهدفون أيضا في حربهم ضد المشروع المهدوي الجوانب غير المرئية عند المؤمنين ومحاولة سلبهم الاستقامة على المستوى الشخصي، فيتحولون من الإخلاص والطاعة للمشروع الإلهي إلى عصاة يندمجون في مشاريع الإلحاد والفساد المالي والإداري وكل العناوين الأخرى الفاسدة حتى يخرج من دائرة المسؤولية الإيمانية.

إضافة إلى زرع الفتن بين المؤمنين وإشغالهم بصراعات جانبية الإنهاك الأمة وإبعادها عن أداء دورها في المشروع الإلهي.

ص: 299

تذكير بالنعم في سبيل المشروع

الآيات القرآنية في تذكير بني إسرائيل بأنواع النعم الإلهية عليهم وحثهم على وجوب شكرها بالضرورة سيتم التعرف على هذه النعم روحيا وقلبيا وبالتالي تعظيم الباري سبحانه وتعالى والتسليم له.

والله سبحانه وتعالى في خطابه لبني إسرائيل توصيات لتترك أثرا روحيا ومعرفيا عليهم لأنه يخاطب قلوبهم وعقولهم من خلال تذكيرهم بتلك العم قال تعالى:«یَا بَنِی إِسْرَائِیلَ اذْکُرُوا نِعْمَتِیَ الَّتِی أَنْعَمْتُ عَلَیْکُمْ وَأَنِّی فَضَّلْتُکُمْ عَلَی الْعَالَمِینَ»(1)، ونفس هذه الآية ذكرت مرة أخرى في سورة البقرة الآية 122.

وقوله تعالى:«وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِینَ کَانُوا یُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِی بَارَکْنَا فِیهَا ۖ وَتَمَّتْ کَلِمَتُ رَبِّکَ الْحُسْنَی عَلَی بَنِی إِسْرَائِیلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا کَانَ یَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا کَانُوا یَعْرِشُونَ »(2).

وقوله تعالى:«یَا بَنِی إِسْرَائِیلَ قَدْ أَنجَیْنَاکُم مِّنْ عَدُوِّکُمْ وَوَاعَدْنَاکُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَیْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَیْکُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَی»(3).

ص: 300


1- سورة البقرة، الآية 47.
2- سورة الأعراف، 137.
3- سورة طه، الآية 80.

وقوله تعالى:«وَلَقَدْ نَجَّیْنَا بَنِی إِسْرَائِیلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِینِ»(1)، وغيرها الكثير من الآيات التي تتحدث عن النعم الإلهية ومعرفة تلك النعم تستوجب الشكر الذي يستتبع الخضوع والطاعة.

وقد علم الله سبحانه وتعالی موسی قبل ذلك كيف يكون شكر النعم الإلهية في بعدها الاجتماعي والأخلاقي السياسي:«قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَیَّ فَلَنْ أَکُونَ ظَهِیرًا لِّلْمُجْرِمِینَ»(2)، وعليه فهذه التعم الإلهية على بني إسرائيل يجب أن يكون ورائها التزام وطاعة، وهذه الطاعة تعني تحمل المسؤولية والالتزام بدور ما في المشروع الإلهي المنجي.

ص: 301


1- سورة الدخان، الآية 30.
2- سورة القصص،الآية 17.

التذكر ودوره في المعرفة والتغيير

تذكير الله سبحانه وتعالى لبني إسرائيل بنعمه عليهم مع بيان أهمية شكر المنعم:«وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّکُمْ لَئِن شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ ۖ وَلَئِن کَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِی لَشَدِیدٌ»(1)يعني حتى نعمة الله سبحانه وتعالى في نجاة بني إسرائيل إن شكرت فهي قابلة للزيادة من قبل المولی ولكن هذا الشكر يحتاج إلى معرفة.

أعظم أنواع الشكر هو نفس معرفة النعمة في قبال أعظم أنواع الكفر هو كفر النعمة، فالمعرفة تسليم وإقرار والكفر جحود

وإنكار.

ولأنه ليس هناك جبر فالإنسان يمكن له أن يستحب العمی على الهدى، ويمكن له أن يحبذ الكفر والفسوق والعصيان! مع أن الله سبحانه وتعالى ذكر في محكم كتابه الكريم:«وَلَکِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَیْکُمُ الْإِیمَانَ وَزَیَّنَهُ فِی قُلُوبِکُمْ وَکَرَّهَ إِلَیْکُمُ الْکُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْیَانَ ۚ أُولَئِکَ هُمُ الرَّاشِدُونَ »(2)ولأنه ليس هناك إلزام في الحب والبغض يسلك بعض الناس لعدم رشدهم طريق الغي والكفر وجحد النعم: «قَالَ

ص: 302


1- سورة إبراهيم، الآية 7.
2- سورة الحجرات، الآية 7.

یَا قَوْمِ أَرَأَیْتُمْ إِن کُنتُ عَلَی بَیِّنَةٍ مِّن رَّبِّی وَآتَانِی رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّیَتْ عَلَیْکُمْ أَنُلْزِمُکُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا کَارِهُونَ»(1)

قد يعتقد البعض أن المحبة والكره لیست اختيارية بل هي في جبلة الإنسان وهذا من مصائد الشيطان، نعم هذا الأمر له آليات وأسباب يمكن للإنسان أن يستهين بها فلا تتولد عنده محبة الخير والإيمان، على سبيل المثال كثرة تذكر العم وتکرارها في ذهن الإنسان إلى أن يأنس بها ويبدأ التفاعل القلبي والروحي معها فتنفتح له الأبواب.

لذا ورد في الأثر استحباب زيارة المراقد المقدسة للأئمة الطاهرين عليهم الصلاة والسلام بكثرة، وتكرار هذه الزيارات مع التفکر، وتذكر دورهم في الهداية وفضلهم على البشرية، وتجديد العهد بهم لتوطيد العلاقة معهم والحفاظ على محبتهم بزيادة التواصل الروحي والمحبة القلبية.

فالذكر وتكراره باستمرار هو مدرسة ومنهج عظيم في الرياضة الروحية، وتربية الروح على التذكر القلبي بالخصوص توجب الالتفات إلى التعم الإلهية العظيمة.

وقد ورد عن أمير المؤمنین علیه السلام: «الناس أعداء ما جهلوا»(2)إشارة إلى هذا المعنى أن الجهل بالشيء يوجب الجفاء والابتعاد عنه وكرهه فيما بعد.

فالله سبحانه وتعالى أكد كثيرا على التذكر في محكم كتابه الكريم

ص: 303


1- سورة هود، الآية 28.
2- الشيخ المفيد، الاختصاص، ص245

لدوره الكبير في المعرفة وبالتالي الشكر والقرب ليستحق فيما بعد نصر الله الذي يعني الاقتراب كثيرا من إتمام المشروع الإلهي المنجي.

فقلب الإنسان الذي هو موطن التذكر لديه طاقة مستمرة من العمل لأنه لا يكل ولا يمل في ممارسة عملية التذكر في الخير والشر على حد سواء، ولذا مهمة الإنسان هو استثماره في جانب الخير، وهذا هو الهدف الإلهي في تذكير بني إسرائيل بأنواع النعم الإلهية، وحتى عملية التغيير تحتاج كمقدمة أن يقر المؤمن بالحق ويذعن له وهذا الإقرار يتطلب بالدرجة الأولى معرفة الحق لكي يقر به ويستسلم له.

ص: 304

البداء وأثره في المشروع الإلهي المنجي

وعد المناجاة مع موسى علیه السلام ملحمة عظيمة وهي درس عملي لبني إسرائيل لكي لا يدب اليأس والقنوط إلى قلوبهم:« وَوَاعَدْنَا مُوسَی ثَلَاثِینَ لَیْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِیقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِینَ لَیْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَی لِأَخِیهِ هَارُونَ اخْلُفْنِی فِی قَوْمِی وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِیلَ الْمُفْسِدِینَ»(1)، فاللقاء كان مقررة له أن يكون ثلاثين ليلة، الله سبحانه وتعالى أتمها بعشر أخر فأصبحت أربعين ليلة وهذا يعني أن باب البداء الإلهي يبقى مفتوحا.

هذا المفهوم يرتبط مصيريا بالمشروع المنجي الإلهي، يعني أيها العبد المؤمن حتى لو قدرت المقادير بشيء ما تبقى أنت صاحب المسؤولية ما دمت ملحاحا في الدعاء والتضرع.

المشكلة في بني إسرائيل هنا بالذات أنهم لا يعتقدون بالبداء:«وَقَالَتِ الْیَهُودُ یَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَیْدِیهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ یَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ یُنفِقُ کَیْفَ یَشَاءُ »(2)، أي إن الله سبحانه وتعالى قد فرغ من خلقه فلا تأثير لشيء بعدها!.

هذه المفاهيم الخاطئة التي اجتاحت بني إسرائيل كانت سببا مباشرا

ص: 305


1- سورة الأعراف، الآية 142.
2- سورة المائدة، الآية 64.

في بلائهم ومحنتهم، فقد تركوا أعظم الأسلحة التي تمكنهم من منازلة فرعون وكل طواغيت الأرض وهو الدعاء، وقد دعاهم الله سبحانه وتعالى إلى التوبة لكنهم أصروا:«وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْیَةَ فَکُلُوا مِنْهَا حَیْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَکُمْ خَطَایَاکُمْ ۚ وَسَنَزِیدُ الْمُحْسِنِینَ*فَبَدَّلَ الَّذِینَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَیْرَ الَّذِی قِیلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا کَانُوا یَفْسُقُونَ »(1).

أثر الدعاء مهم في عودة العبد إلى ربه أولا، ثم يكون بعدها في جنة من ظلم الطغاة، لكن بني إسرائيل بإصرارهم وتكبرهم أصبحوا منالا سهلا الفرعون وأعوانه، مع أن الدعاء هو قوة للعبد في عبوديته وخضوعه لله سبحانه وتعالى:«وَقَالَ رَبُّکُمُ ادْعُونِی أَسْتَجِبْ لَکُمْ ۚ إِنَّ الَّذِینَ یَسْتَکْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِی سَیَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِینَ »(2).

وحذرهم سبحانه وتعالى من الهوان، كما في قوله تعالى:«قُلْ مَا یَعْبَأُ بِکُمْ رَبِّی لَوْلَا دُعَاؤُکُمْ »(3).

ووبخهم على فوت الفرص:«ادْعُوا رَبَّکُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْیَةً»(4).

وأرشدهم قبل فوات الأوان:«فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَکِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ»(5).

هذه هي المشكلة الكبيرة في بني إسرائيل التكبر عن العبادة والخضوع

ص: 306


1- سورة البقرة، الآيتان 58-59.
2- سورة غافر، الآية 60.
3- سورة الفرقان، الآية 77.
4- سورة الأعراف، الآية 55.
5- سورة الأنعام، الآية 43.

الله سبحانه وتعالى بالدعاء، وقد وردت الآيات الكثيرة الدالة على أهميته في حياتهم وفي نجاح المشروع الإلهي المنجي.

لذلك أخذ الدعاء في مدرسة أهل البيت علیهم السلام بعدا واسعا باعتبار أن الدعاء مخ العبادة، بل إن العبادة هي الدعاء لقوله تعالى:« وَقَالَ رَبُّکُمُ ادْعُونِی أَسْتَجِبْ لَکُمْ ۚ إِنَّ الَّذِینَ یَسْتَکْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِی سَیَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِینَ »(1)، وأهمية الدعاء عند أهل البيت علیهم السلام أنهم جعلوه من القدر وبرتبة أعلى من غيره من التقديرات، فإن الأمر المقدر وقد أبرم إبراما لا يرده إلا الدعاء!.

فقد روي عن النبي صلی الله علیه و آله أنه قال لأصحابه: «ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال صلی الله علیه و آله : تدعون ربكم بالليل والنهار فإن سلاح المؤمن الدعاء»(2) وورد عن أبي جعفر علیه السلام أنه قال لزرارة: «ألا أدلك على شيء لم يستثن فيه رسول صلی الله علیه و آله؟ قلت: بلى، قال: الدعاء يرد القضاء وقد أبرم إبراما - وضم أصابعه »(3)

وعن الإمام أبي الحسن موسی بن جعفر علیهم السلام قال: «عليكم بالدعاء فإن الدعاء والطلب إلى الله عز وجل یرد البلاء، وقد قدر وقضى، فلم يبق إلا إمضاؤه فإذا دعي الله وسئل، صرف البلاء صرفا»(4).

ص: 307


1- سورة غافر، الآية 60.
2- الكليني، الكافي، ج 2، ص 468.
3- الكليني، الكافي، ج2، ص470.
4- المصدر نفسه.

وصف الله سبحانه وتعالى للذين لا يتوجهون إليه من خلال الدعاء بالاستكبار وهذا يعني أن الدعاء هو لسان الفقر، فمتى ما أدرك الإنسان فقره لله سبحانه وتعالى فقد نفى (الأنا) والتي لا تنتفي عند الإنسان إلا بأدراك الفقر لله سبحانه وتعالى، لأن كل إنسان توجد فيه الروح الفرعونية ومتى ما وجد الأجواء المناسبة قال (أنا ربكم الأعلى)، فالتضرع والدعاء هو إعلان الإنسان لفقره أمام الله جلت قدرته.

هذا المفهوم بأكمله هو في صميم المشروع الإلهي المنجي، وهو مکمل للأليات المهيئة لتقريب تحقيق الهدف في هذا المشروع الإلهي.

إذن بتمديد الوعد الإلهي من ثلاثين يوما إلى تمام الأربعين فهذا يعني أن القدر الإلهي قابل للبداء. بل إن البداء في السنن الإلهية له دور مهم وحيوي في مشاريع الإصلاح، لأنه يعطي للإنسان الحيوية والنشاط المستمر ومنع الخمول أو التوقف، فيبقيه دائما بين الخوف والرجاء فلا الأمل هنا يجعله يتقاعس ولا الخوف يصيبه باليأس والإحباط.

وهذه الفلسفة العظيمة للبداء تصب في صالح المشروع الإلهي المنجي من خلال حركة المؤمنين المستمرة والدائبة للوصول إلى تحقيق هذا المشروع على أرض الواقع.

ص: 308

صبر المؤمن في سبيل أهدافه نجاة له

في هذه الآية المباركة تأكيد على أن نجاة الإنسان بيده، وإن كان الفعل فعل الله سبحانه وتعالى ولكن سمة الله في خلقه:«إِنَّ اللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ»(1)، يعني يجب أن تكون الخطوة الأولى من المؤمن في المساهمة بمشروع المنجي الإلهي، فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه النجاة هي الأصل والغلبة السياسية والأمنية فرع لهذه الأولى وتالية لها.

العمدة والأساس الآن في المسؤولية هو أن تتسع رقعة المشروع الإلهي جغرافيا مع استمرار التعايش مع الآخر، ولكن يجب بقاء الإصرار على هذا النهج رغم الألم والمعاناة، فآهات بني إسرائيل لم تنتهي لكن حيرتهم انتهت بالنجاة الحقيقية من خلال الارتباط بالمشروع الإلهي المنجي وتمسكهم بنهج النبي موسی علیه السلام.

لذلك أراد فرعون قتل موسی علیه السلام لأنه رأى الصبر الذي أظهره وقاد إليه بني إسرائيل قد بدأت آثاره تظهر من خلال اتساع رقعة الموالين المؤمنين فأراد فرعون حينها التخلص منه، وهذا الأمر أيضا جرى مع

ص: 309


1- سورة الرعد، الآية 11.

النبي الأعظم صلی الله علیه و آله فبعد ثلاث عشر سنة من الدعوة إلى الله في مكة وصبر النبي بدأت آثاره بالظهور على الساحة باتساع دائرة المؤمنين قررت قریش التخلص من النبي صلی الله علیه و آله بالتصفية الجسدية واضطر حينها إلى الهجرة من مكة.

وما يجري اليوم على أتباع آل البيت علیهم السلام هو النهج الظالم نفسه، حرب معلنة ضدهم لأن صبرهم بدأت تظهر نتائجه برعاية المولى عجل الله فرجه الشریف.

ومن أشد صنوف هذه الحرب المعلنة ضد الإسلام ومشروعه الإلهي المنجي ومنع تمدده هو خلق النماذج المشوهة في الساحة الإسلامية من أجل ضرب المشروع إعلاميا ونفسيا؟.

لذلك فإن المطلوب من المرتبطين بهذا المشروع الإلهي من المؤمنين تقديم الصورة الحقيقية للمشروع الإلهي من خلال التعايش السلمي، وإظهار الوجه الجميل والجذاب لخنق كل الأصوات النشاز من أصحاب الشعارات الجوفاء، لتتنفس رئة البشرية روح هذا المنجي العظيم وتخليصها من آلام وآهات هذا البلاء الذي تعيشه، ولن يصل هذا الصوت إلى مسامع المتعطشين للخلاص من الظلم إلا بالصبر والهدوء والسكينة، وعدم الانجرار إلى ما يريده العدو بالتصادم والحروب.

ص: 310

الفصل الثالث: مقومات المشروع الإلهي في عملية التغيير

اشارة

ص: 311

ص: 312

المشروع الإلهي وحفظ المسؤولية

تعدد الجبهات في المواجهة بين الكفر والإيمان يستدعي تعدد المسؤوليات عند المؤمنين، أهمها أن نجعل نصب أعيننا هم المشروع الإلهي المنجي فيكون خارطة لكل فرد منا أو جماعة، نستبدل هم الأنانية والأسرة والعشيرة والحزب لنعيش هما أقدس وهو هم المشروع الإلهي المنجي.

ورد عن أبي عبد الله علیه السلام أنه دخل عليه بعض أصحابه، فقال له جعلت فداك إني والله أحبك وأحب من يحبك، يا سيدي ما أكثر شيعتكم، فقال له اذكرهم، فقال كثير، فقال تحصيهم؟!، فقال هم أكثر من ذلك، فقال أبو عبد الله علیه السلام: «أما لو كملت العدة الموصوفة ثلاثمائة وبضعة عشر كان الذي تريدون، ولكن شيعتنا من لا يعدو صوته سمعه، ولا شحناؤه بدنه، ولا يمدح بنا معلنا، ولا يخاصم بنا قاليا، ولا يجالس لنا عائبا، ولا يحدث لنا ثالبا، ولا يحب لنا مبغضا، ولا يبغض لنا محبا، فقلت فكيف أصنع بهذه الشيعة المختلفة الذين يقولون إنهم يتشیعون؟ فقال: فيهم التمييز وفيهم التمحيص وفيهم التبديل يأتي عليهم سنون تفنيهم، وسيف يقتلهم، واختلاف يبددهم، إنما شیعتنا من لا يهر هرير الكلب ولا يطمع طمع الغراب ولا يسأل

ص: 313

الناس بكفه وإن مات جوعا، قلت جعلت فداك فأين أطلب هؤلاء الموصوفين بهذه الصفة؟ ....»(1)

أيضا من الأمور المهمة والخطيرة في استراتيجية المشروع المنجي هو حفظ الأماكن المقدسة تمهيدا لإكمال الوعد الإلهي، والقرآن الكريم ذكر لنا قصة قوم موسى لما رفضوا الدخول إلى الأرض المقدسة خوفا من العمالقة فعاقبهم الله سبحانه وتعالى لتقاعسهم وتخاذلهم:«یَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِی کَتَبَ اللَّهُ لَکُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَی أَدْبَارِکُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِینَ*قَالُوا یَا مُوسَی إِنَّ فِیهَا قَوْمًا جَبَّارِینَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّی یَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن یَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ»(2).

عدم حفظ الأماكن المقدسة من قبل الأمة يعني أن هذه الأمة ضعيفة وغير قادرة على حفظ مسؤوليتها ودورها في حفظ المشروع الإلهي، لذلك كان العقاب لبني إسرائيل أن ضربهم الله سبحانه وتعالى بالتيه الأربعين عاما فقدوا خلالها نبي الله موسى وخليفته هارون علیها السلام:«قَالُوا یَا مُوسَی إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِیهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّکَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ*قَالَ رَبِّ إِنِّی لَا أَمْلِکُ إِلَّا نَفْسِی وَأَخِی ۖ فَافْرُقْ بَیْنَنَا وَبَیْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِینَ*قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَیْهِمْ ۛ أَرْبَعِینَ سَنَةً ۛ یَتِیهُونَ فِی الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَی الْقَوْمِ الْفَاسِقِینَ »(3).

عدم قيام الأمة بمسؤولياتها في حفظ المقدسات سيجلب عليها

ص: 314


1- النعماني، الغيبة، ص203، باب ما يلحق الشيعة من التمحيص والتفرق والتشتت عند الغيبة حتى لا يبقى على حقيقة الأمر إلا الأقل الذي وصفه الأئمة علیهم السلام .
2- سورة المائدة، الآيتان 21-22.
3- سورة المائدة، الآیات 26-24.

الدمار، وستدفع لسنوات طويلة ثمنا باهظا، وهذا بالفعل ما حل ببني إسرائيل بعد عصيانهم نبي الله موسى علیه السلام، والأمر ينطبق على أمم أخرى لم تدافع عن مقدساتها فابتليت بالذل والهوان ومصادرة لقرارها ووجودها طيلة عقود من الزمن، كما حدث في هدم قبور أئمة البقيع علیهم السلام ولم تتحرك الأمة حينها فكان أن أعيدت عليهم الكرة مرة أخرى وسلب من أيديهم بیت المقدس وبقية المقدسات.

ص: 315

الفاعلية الصادقة مع المشروع المنجي

المطلوب من الأمة أن تكون عالية الهمة في تفاعلها مع المشروع المنجي، والقرآن الكريم أيضا يذكر لنا قصة أخرى لبني إسرائيل وهي قصة طالوت ووصول بني إسرائيل إلى مرحلة الندم على خذلانهم لنبيهم ومن ثم إبتلائهم بذل التيه وهوانه:

«أَلَمْ تَرَ إِلَی الْمَلَإِ مِن بَنِی إِسْرَائِیلَ مِن بَعْدِ مُوسَی إِذْ قَالُوا لِنَبِیٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِکًا نُّقَاتِلْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَیْتُمْ إِن کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِیَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا کُتِبَ عَلَیْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِیلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِیمٌ بِالظَّالِمِینَ*وَقَالَ لَهُمْ نَبِیُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَکُمْ طَالُوتَ مَلِکًا ۚ قَالُوا أَنَّی یَکُونُ لَهُ الْمُلْکُ عَلَیْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْکِ مِنْهُ وَلَمْ یُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَیْکُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِی الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ یُؤْتِی مُلْکَهُ مَن یَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِیمٌ»(1).

هذه الرغبة الجامحة لبني إسرائيل في القتال بعد أن فقدوا كل شيء تقریبا بسبب ضعفهم وخوائهم، ولأن اكثرهم لا يملك الهمة الكافية

ص: 316


1- سورة البقرة، الآيتان 246-247.

للدفاع عن المشروع الإلهي المنجي فلم يقم أغلبهم بدوره المطلوب في المسؤولية لأنهم لم ينتصروا على أنفسهم، ولم يصلحوا ذاتهم ليكونوا أنصارا للمشروع الإلهي.

وقد اختبرهم طالوت قبل الحرب وكعادتهم فشل أكثرهم في هذا الاختبار أيضا وهم الذين طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله !:«فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِیکُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَیْسَ مِنِّی وَمَن لَّمْ یَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّی إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِیَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِیلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِینَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْیَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ کَم مِّن فِئَةٍ قَلِیلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً کَثِیرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِینَ»(1).

من الذي صبر في تلك المهمة؟ الفئة القليلة التي انتصرت على نفسها مسبقا فكانت عونا فيما بعد في المشروع الإلهي المنجي، داود علیه السلام لم يكن نبيا في ذلك الوقت، وهو حتى لا يملك سلاحا ولا جوادا يمتطيه وكان مزهودا فيه لا يعرفه الكثير ! لكن همته تزيل الجبال وهنا تكمن فاعلية المؤمن في نصرته للمشروع الإلهي، صمد هو والثلة القليلة من المؤمنين ورمی جالوت بحجر في تلك المعركة فقتله، وكتب الله الفتح على يديه بعد عشرات السنين من الخوف والذل والهوان الذي عاشه بنو إسرائيل:«فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْکَ وَالْحِکْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا یَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَکِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَی الْعَالَمِینَ »(2).

ص: 317


1- سورة البقرة، الآية 249.
2- سورة البقرة، الآية 251.

بهذه الهمة الكبيرة والتوكل المطلق على الله سبحانه وتعالی استطاع النبي داود علیه السلام أن يقدم دفعا معنويا كبيرا لأمته، صحيح أن النصر من عند الله:«وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِیزِ الْحَکِیمِ»(1)، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد من المؤمنين إرادة صادقة مدبرة وناصحة لكي يمن على المؤمنين بنصره «أشهد أنك بالغت في النصيحة، وأعطيت غاية المجهود..»يعني أن يصدق في نصيحته للمشروع الإلهي لا أن يتحين الأعذار.

ص: 318


1- سورة آل عمران، الآية 126.

الاطمئنان والثقة في أداء المسؤولية

هناك نموذج عظيم في التاريخ لرجل بقي وحيدا بعد حرب نفسية مخادعة سحبت قاعدته من تحت يده، فكان بسبب بصيرته أن أصبح نموذجا يحتذى وعبرة ماثلة للأجيال.

صحيح أنه بقي يحارب وحيدا لكنه كان يملك نفسا مطمئنة واثقة بصيرة وكأن قاعدته لم تخذله، بقي يقاتل بنشاط وحيوية وما تغلبوا عليه إلا بخديعة أخرى في ساحة المعركة.

مسلم بن عقيل هذه النفس المسؤولة والتي لم يدب فيها الهوان ولم يصل إليها الخضوع والاستسلام، وتمسك بمسؤوليته في أداء الدور في المشروع الإلهي المنجي.

مع انه قد ورد أن أمير المؤمنين علیه السلام بشره بالشهادة وبسرعة قدومه عليهم، ولكنه مع ذلك لم يستسلم ولم يتنازل عن دوره مع علمه بالقضاء المبرم، وهذا يعني أن هناك معنى وتفسيرا للشهادة عند مسلم بن عقیل يختلف عما هو مألوف عند غيره، وهو الذي ورث تلك المفاهيم السامية من عمه أميرالمؤمنین علیه السلام مع علمه بشهادته لم يتنازل عن دوره ولم يفرط بطاقته.

حفاظ مسلم بن عقيل على نفسه من الاضطراب، أو أن يصيب

ص: 319

الضعف أعماق روحه هو صورة من صور العزيمة الباطنية الصلبة والتي يجب توفرها عند أصحاب المشاريع الكبيرة، أو الذين يرغبون في أن يكون لهم دور في التمهيد للمشروع الإلهي المنجي

هذه المسؤولية قوامها الأول الثبات النفسي في المحن والشدائد، أراد القرآن الكريم أن يركزها ويجذرها في نفوس المؤمنين:«وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ*إِن یَمْسَسْکُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْکَ الْأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیْنَ النَّاسِ وَلِیَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَیَتَّخِذَ مِنکُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا یُحِبُّ الظَّالِمِینَ»(1).

مما لا ريب فيه أن الوهن والحزن أمراض نفسية تؤدي إلى الفشل في أداء المسؤولية، ولذلك يسعى الباري سبحانه وتعالى إلى صناعة رجال المشروع الإلهي المنجي نفسيا وروحيا ليكونوا مؤمنين.

بل أكثر من هذا تشير الآية الأخرى أن من ينجح في هذا المضمار سيكون شاهدا وشهيدا عند الله«وَلِیَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَیَتَّخِذَ مِنکُمْ شُهَدَاءَ»(2).

ص: 320


1- سورة آل عمران، الآيتان 139-140.
2- سورة آل عمران، الآية 140.

ضرورة التنامي المستمر في تحمل المسؤولية

المؤمن عليه أن يعي مسؤوليته وأن يؤمن بأنه لم يبلغ الغاية بعد وإن كان مؤمنا تقيا، وهذا الوعي ليس منهج أخلاقي فردي فقط بل هو رؤية واسعة لا يتم التفريط فيها بأي جهد على مستوى الدائرة الإنسانية الواسعة، أو الدائرة الإسلامية الوسيطة، ولا يأخذه الغرور والعجب بنفسه لأن هذه كلها أمراض تعيق الإنسان عن التكامل في أداء المسؤولية وتطوير الأداء.

بعض الناس مع استمرار الحركة عنده في أداء المسؤولية لكن عجلة التطور متوقفة لديه، فهو لا يتنامي في حركته مع أن المطلوب في المشروع الإلهي هو دوام التطور في المسير، وليس المسير فقط.

يقول الإمام الصادق علیه السلام: «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة»(1).

غرور الإنسان وعجبه بنفسه واعتقاده بأنه قد أدي وظيفته يوقف بلا شك معدل التنامي في تحمله للمسؤولية ووعيه لها، وبالتالي لن يكون مساهمة فعالا في هذا المشروع الإلهي المنجي.

ص: 321


1- الصدوق، الأمالي، ص766.

بعض أصحاب الأئمة في وعيهم ونفوذ بصيرتهم أصبحوا في مصاف العظماء عبر التاريخ في أداء مسؤولياتهم، فكانوا على درجة عالية من الرقي في الإسهام بأدوار خطيرة كلا حسب قدراته التي وجدت فيه.

صحيح أنهم كانوا خير عون ولكن الأعظم أنهم قدموا ما يميز بعضهم عن بعض، وكل هذه الأمور تدل على أن الأدوار حسب المميزات الخاصة والإمكانيات الشخصية هي التي تلعب دورا حاسما في مجال الإبداع في القيام بالمسؤولية وتحمل الدور في المشروع الإلهي المنجي.

فيجب على المؤمن في طريق تكامله وتهذيبه لنفسه من وضع المثال الصحيح أمامه في كل مفصل من مفاصل الحياة ويبقى المثال الأكمل والأتم هو المعصوم علیه السلام.

باب التكامل مفتوح وفيه من السعة والتعدد ما يغني المؤمن في حركته ووعيه وبصيرته، وهذا ليس بالضرورة لأجل بناء الفرد فقط بل

الأجل المساهمة في بناء المشروع الإلهي.

أما الحقيقة فتبقی درجات كلما وصل الإنسان إلى مرتبة منها بقي في مطاويها درجات لم يصل إليها بعد، ولذا فما يمليه العقل أن لا يغتر الإنسان بما وصل إليه، والمنهج المعرفي في رسم خريطة المسؤولية في المشروع المنجي يدعم فكرة عدم إنكار المراتب أو الحقائق التي لم يصل إليها الإنسان بعد، لأن المفاهيم مراتب ودرجات:«بَلْ کَذَّبُوا بِمَا لَمْ یُحِیطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا یَأْتِهِمْ تَأْوِیلُهُ ۚ کَذَلِکَ کَذَّبَ الَّذِینَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَانظُرْ کَیْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِینَ»(1).

ص: 322


1- سورة يونس، الآية 39.

فإذا أراد الإنسان أن يفهم الحقيقة، ويعي خريطة المسؤولية فليس عليه الاكتفاء بفهمه السابق، بل عليه أن يستمر في نموه المعرفي وينطلق منه في تحصيل أعلى درجات الوعي والبصيرة في المشروع الإلهي

المنجي

ص: 323

ضرورة اتساع القاعدة الناصرة

المنجي الإلهي كما هو في بني إسرائيل هو أيضا في هذه الأمة،وشرائط ظهور المنجي والمسؤولية وتحمل القيام بها ترسم خارطة طريق للظهور، لذا في هذه الآية وغيرها تأكيد على المسؤولية الفردية والجماعية وأن الحساب يشمل أي فرد في المجتمع مهما كان دوره ووضعه الاجتماعي والقرآن الكريم يشير إلى هذا الأمر بوضوح:«وَإِذْ نَجَّیْنَاکُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَسُومُونَکُمْ سُوءَ الْعَذَابِ یُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَکُمْ وَیَسْتَحْیُونَ نِسَاءَکُمْ ۚ وَفِی ذَلِکُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّکُمْ عَظِیمٌ»(1)حيث جعل النجاة من آل فرعون وليس من فرعون، لأن فرعون وحده لا يصنع شيئا فالوضع هو حرب مع نظام وليس مع فرد

وهنا يتضح أنه باتساع دائرة القاعدة الناصرة للمنجي، والمهيئة الاستقباله والدفاع عن مشروعه، تبدأ عملية الانهزام في القاعدة الفرعونية متى ما تحملت الأمة المسؤولية، فالتعبير ب (يسومونكم سوء العذاب..) كأن ظلم أل فرعون لبني إسرائيل أصبح علامة لازمة لهم، وهذا كله بسبب عدم قيامهم بالمسؤولية والتي هي نة الله في البشرية للنجاة من الظلم والاضطهاد.

ص: 324


1- سورة البقرة، الآية 49.

ما جرى في بني إسرائيل نفسه يجري الآن في هذه الأمة بسبب عدم النهوض بالمسؤولية لتمتد مساحة المظلومية من السقيفة إلى الغيبة، والنصوص توضح لنا سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه عند تقاعس الأمة عن قيامها بمسؤولياتها سيأتي من يسومها سوء العذاب، وبقدر ما تتسع دائرة القائمين بالمسؤولية والجادين في السعي لإنجاح المشروع الإلهي المنجي يقترب موعد الظهور، وهذا مما لا بد منه لأن سنة الله في خلقه هي:«إِنَّ اللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ »(1).

إذن القراءة الصحيحة للمشروع من خلال هذه الآية والآيات الأخرى أن الظلم والاضطهاد هو وضع وهيئة لا يريدها الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، ولكن في نفس الوقت على المؤمنين أن يقوموا بواجباتهم ويتحملوا أعباء ما تخاذلت عنه الأمة، وهذا الرعيل الرائد يجب أن تتوفر فيه الكفاءة بدرجة معينة لينهضوا بالمسؤولية ويكتب الخلاص للأمة على أيديهم.

ص: 325


1- سورة الرعد، الآية 11.

ص: 326

الفصل الرابع: المشروع المنجي وضوابط العمل بين التقیة والعلن

اشارة

ص: 327

ص: 328

ضوابط العمل في نصرة المشروع الإلهي

قد يشكل البعض على الحراك السياسي في زمن الغيبة ببعض الأحاديث الواردة عن أهل البيت علیهم السلام بلزوم عدم التحرك أو القيام بنشاط سياسي أو عسكري.

فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام أنه قال: «ما خرج ولا يخرج ما أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلما أو ينعش حقا إلا اصطلمته البلية وكان قيامه زيادة في مکروهنا وشیعتنا»(1)، وهناك بعض الروايات الأخرى الدالة على المعنى نفسه، وهو النهي عن النشاط العلني على الأقل في بعده السياسي والعسكري.

منها ما ورد في رواية سدير عن أبي عبد الله علیه السلام أنه قال: «إلزم بيتك، وكن حلسا من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك»(2).

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل» (3).

ص: 329


1- السيد محمد باقر الداماد، شرح الصحيفة السجادية، ص69.
2- العاملي، وسائل الشيعة، ج 36، ب 3 من أبواب جهاد العدو، ح3.
3- الكليني، الكافي، ج 8، ص 295

وعن جابر الجعفي، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «الزم الأرض ولا تحرك يدا ولا رجلا حتى تری علامات أذكرها لك وما أراك تدرك..»الحديث(1).

وأيضا يمكن الوقوف على بعض الروايات الأخرى کوجوب التقية وما شابه، فكيف تنسجم هذه الأحاديث مع الأصل القرآني في المشروع الإلهي المنجي، وكيف يتم التوفيق بينهما؟.

المراد الجدي والأصلي من هذه الروايات هي عدة معاني وزوايا، وحقيقة مراد هذه الروايات هي تأیید ما مر بنا:«إِنَّ اللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ »(2)، وهذه الأحاديث الواردة لا تعارض ما ورد في قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّکُمْ»(3)لأن الآية المباركة ليست مقيدة بزمان ولا بمكان، وبالنظر لسنة الله في خلقه في عملية التغيير الحضاري تشمل الأمة آية النجاة لأن هذا الفعل الإلهي يأتي ضمن سنن.

ولأنه كما تكونوا يولى عليكم، وكذلك للحديث الوارد عنهم صلوات الله وسلامه عليهم: «لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»(4)، وكذلك تصريح الأئمة بأنهم لم ينهضوا بالأمر لعدم وجود الناصر! هذا يعني أن الوضع هو وضع تقية بسبب تقصير البيئة المحيطة بهم سلام الله عليهم في

ص: 330


1- الطوسی، الغيبة، ص 441-442
2- سورة الرعد، الآية 11.
3- سورة الأنفال، الآية 60.
4- الكليني، الكافي، ج5، ص56، ح 3.

القيام بمسؤولياتهم لا أن هذا هو الوضع الذي يريده الأئمة سلام الله عليهم.

وأمير المؤمنین علیه السلام ذكر في أحد خطبه: «أما والذي قلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على کظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقي حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بکأس أولها، ولألفيتم دنیاکم هذه أزهد عندي من عفطة عنز!»وهذا يدل على أن الأمر هو السعي نحو تحقيق المشروع الإلهي المنجي، ولو تتبعنا الأحاديث الواردة عن أهل البيت علیهم السلام في الطرف المقابل لهذا المفهوم الذي توحيه بعض الأحاديث الواردة عنهم لوجدنا الكثير مما يحث على العمل والسعي نحو إصلاح الذات والمجتمع وصناعته من أجل تقريبه للخلاص والنجاة.

ص: 331

دفع التضارب في فهم الروايات

اشارة

هذا الخلاف منشأه اختلاف الفهم لمضمون كلا المجموعتين من الروايات، ولحل هذا التدافع ينبغي الإشارة إلى عدة أمور:

الأمر الأول : الإعلان يضعف المشروع

إن البرنامج السياسي والعسكري المعلن هو أضعف البرامج - والبرنامج السياسي يختلف عن المشروع السياسي - فمتى ما رفعت السرية عن مشروعك فقد أفشلته وحطمته، لأن طبيعة المشاريع الأمنية والعسكرية وحتى السياسية لا يظهر منها إلا بمقدار ما يوجب الإشارة وفي بعض الأحيان تحتاج إلى خفاء تام.

وهنا مكمن الإشارة في الحديث الوارد عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام: «ما خرج ولا يخرج منا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلما أو ينعش حقا إلا اصطلمته البلية وكان قيامه زيادة في مكروهناوشيعتنا»(1)، لأنك عندما تعلن برنامج معارض لحاكم جبار عسوف يتحين الفرص، فهذا الإعلان من أكثر الأسباب شيوعا لفشل الثورات عبر التاريخ.

بهذا المعنى فهم الأحاديث الواردة في هذا السياق وليس بمعنی

ص: 332


1- السيد محمد باقر الداماد، شرح الصحيفة السجادية، ص69.

منع العمل الاجتماعي والسياسي، بل إن وثائق التاريخ أظهرت لنا كيف أن الأئمة علیهم السلام كانوا يمارسون تدبيرا خفيا لنشر الإسلام الصحيح بطرق هادئة جدا، وكانوا يرشدون بقية أبنائهم إلى طرق ذكية في هذه الممارسة خصوصا في أفريقيا والمغرب العربي في ذلك الوقت حتى ظهرت آثارهم جلية واضحة بعد سنين طويلة، وحتى في شرق آسيا مارسوا هذا الدور ودخل الإسلام إلى كثير من تلك الدول بهذه الطريقة الهادئة.

والخلاصة من مجموع الطائفتين من الروايات هو التنبيه لضرورة عدم الاستعجال من قبل المصلحين، بل الأمر يحتاج إلى تنظيم دقیق وبرمجة للطاقات، وإن كان السير بطيئا ولكنه هو الأفضل والأصح في هكذا مشاريع، لأن كشف المشروع قبل استحکام الأمر يعني توجه أنظار الظالمين إليه وبالتالي إنهاءه بضربة موجعة تعيده إلى الخلف لسنوات.

الأمر الثاني: المحور هو الله وليس الأنا

الأنانية والذاتية وجعل النفس هي المحور سبب الفشل للكثير من العاملين في تلك المشاريع وإن كانوا متدينين، في حين أن محور المعصوم الذي يدور حوله هو الله سبحانه وتعالى:«ُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتَابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَیْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَلِکَ هُوَ الْفَضْلُ الْکَبِیرُ»(1)، وهذا ليس فقط جانب أخلاقي للعاملين في المشروع الإلهي المنجي، بل هو تخطيط استراتيجي وهو من الأسباب المباشرة لقوة المؤمن وبالتالي قوة الجماعة الفاعلة والمؤمنة.

كثير من المصلحين العاملين في سبيل الله وخدمة مجتمعهم يتناسون

ص: 333


1- سورة فاطر، الآية 32.

فيما بعد محورية المشروع، وينسون أنه ينسب إلى أهل البيت علیهم السلام وأن المنجي ينتظر سعيهم، ولكن حب النفس والأنا لدي هذا العامل تصبح فيما بعد هي المحور ويتحول إلى طاغوت متكبر.

انقلاب وتبدل المشاريع الدينية إلى مشاريع شخصية مشكلة كبيرة وهو خلاف التخطيط الاستراتيجي الناجح والسليم، وهذا ما يشير ويرمز إليه الأئمة سلام الله عليهم في تلك الأحاديث الآنفة الذكر، وليس هو تجميد للمشروع الإلهي أو نهي عنه، وإنما هو نهي عن الإخفاق والفشل في المشروع بنسيان محورية الله سبحانه وتعالى فيه وجعل الأنا هي المحور.

الأمر الثالث: معنى التقنية في فلسفة التشريع

الجمع بين مجموع الآيات والروايات في الجانبين يتضح من خلال تبیان برنامج التقية ومعرفة تعدد المعاني فيها، فالتقية مرة تأتي بمعنی المداراة وهذا وضع حكم أولي:«وَلَا تَسْتَوِی الْحَسَنَةُ وَلَا السَّیِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِی بَیْنَکَ وَبَیْنَهُ عَدَاوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ »(1)، وقوله تعالى: «قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَیْرٌ مِّن صَدَقَةٍ یَتْبَعُهَا أَذًی ۗ وَاللَّهُ غَنِیٌّ حَلِیمٌ »(2)، وقد ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنه قال: «مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش»(3)، وعنه صلی الله علیه و آله: «مداراة الناس صدقة»(4)، وأيضا ورد عنه صلی الله علیه و آله أنه قال: «رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس في غير ترك حق»(5).

ص: 334


1- سورة فصلت، الآية 34.
2- سورة البقرة، الآية 263.
3- المجلسي، روضة المتقين، ص112.
4- الفتال النيسابوری، روضة الواعظین، ص380.
5- ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول، ص42.

وعن الإمام العسكري علیه السلام في تفسيره، في قوله تعالى:«وقولوا تماس با»(1)قال الصادق علیه السلام: «قولوا للناس كلهم حسنا مؤمنهم ومخالفهم أما المؤمنون فيبسط لهم وجهه، وأما المخالفون فيكلمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الإيمان»(2).

أيضا من معاني التقية هو الخفاء والسرية وهو أيضا حكم أولي.

كذلك من معاني التقیة المشهورة هو الإتيان بالعمل ناقصا أو مقلوبا سواء كان هذا العمل عبادي أو سياسي، مثل الوضوء بشكل غير صحيح وإن كان هذا العمل ناقصا لكنه يجزي من باب الاضطرار، فالعمل السياسي في ظل أنظمة الجور عمل ناقص بالاضطرار لكنه مجزي.

والمشكلة في فهم التقیة بالمعنى المشهور والمعروف، وكلامنا ليس في التقیة بمعنى الحكم الأولي فهذا المعنی راد له الاستمرار دائما، إنما الكلام هو في الحكم الثانوي وهي التقیة الناقصة بأن تأتي بالعمل ناقصا أو ممسوخا للاضطرار.

الشارع في بعض الأحكام لا يتعرض إلى وجود الموضوع أو نفيه فإن وجد الموضوع وجد الحكم، وإن لم يوجد فلا وجود للحكم.

وبعضها يوجد الحكم لكنه يسعى لنفي موضوعه ولا يريد له أن يوجد، مثل الحدود وفلسفة تشريعها للزاني والزانية والتهديد بالجلد والرجم من أجل منع الزنا مسبقا.

وبعضها هو يسعى لإيجاد موضوعها وإبقائه أيضا، مثل استحباب

ص: 335


1- سورة البقرة، الآية 83.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج68، ص309.

الصدقة وكثير من المندوبات الشارع هو الذي يحث الناس على إيجاد موضوعها وإن أوجده استحب فيه دفع الصدقة مثلا، إذن الأحكام الفقهية مختلفة باختلاف موضوعها وهذا مقرر في علم الفقه.

وفي علم الأصول التقية أن تأتي بالحكم ناقصا أو ممسوخا فهو حکم ثانوي، يعني لا لأجل إبقاء موضوعها بل الصحيح هو محاولة إزالة الموضوع وإلغائه، لكن الخطأ الكبير الذي وقع فيه البعض وشاع بين المؤمنين لقرون عديدة هو الاجتزاء بالعمل الناقص غير التام الاضطراري، مع أن الشارع ليس مع إيجاد موضوعها فضلا عن أن يكون لأجل بقائه لأنه من باب الاضطرار، بل الحقيقة أن أدلة التقیة في هذا الباب لأجل نفي موضوعها وإن وجد فاسعى أيها المؤمن لأن يرتفع ذلك الموضوع.

والكلام لم يكن على صعيد الوظيفة الفردية، أو على صعيد الوظيفة الاجتماعية الكفائية لأن التقية عبارة عن الإتيان بالملاك ناقصا سواء على صعيد العبادة والوظيفة الفردية، أو على صعيد الوظائف السياسية، والإسلام بلا شك له وظائف كلها في الأصل على يد المعصوم، لكن حيلولة البشر عن قيام المعصوم بهذه الوظائف هي حالة استثنائية أو هي حالة ثانوية - مرضية - وليست أولية.

إذن أصبح واضحا ضرورة السعي نحو تبديل هذا الوضع الفاسد لا إبقائه.

في زيارة الغدير الصحيحة السند والمروية عن الإمام الهادي علیه السلام يصف جده أمير المؤمنین علیه السلام في هذه الزيارة أنه لم يمارس التقية للاضطرار: «وأشهد أنك ما اتقيت ضارعا، ولا أمسكت عن حقک جازعا،

ص: 336

ولا أحجمت عن مجاهدة غاصبيک ناکلا، ولا أظهرت الرضا بخلاف ما یرضی الله مداهنا، ولا هنت إما أصابك في سبيل الله، ولا ضعفت ولا استكنت عن طلب حقك مراقبا، معاذ الله أن تكون كذلك بل إذ ظلمت احتسبت ربك، ووضت إليه أمرك، وذکرتهم ما اذكروا ووعظتهم فما اتعظوا، وخوفتهم الله فما تخوفوا»(1).

فالإمام الهادي علیه السلام ينه جده أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام عن ممارسة التقية كبقية المكلفين مضطرا، لأن الاضطرار هو عدم قدرة المكلف بسبب العجز، ولكن هذه ليست حالة أولية فيجب ان تبدل، وأمير المؤمنين علیه السلام لم يمارسها لعجز فيه بل هو لعجز في الأمة: «معاذ الله أن تكون كذلك بل إذ ظلمت احتسبت ربك، وفوضت إليه أمرك، وذکرتهم فما ادكروا ووعظتهم فما اتعظوا، وخوفهم الله ما تخوفوا »هذا المقطع يبين أن ضوابط تشريع التقية ليست لتكريس وترسيخ الضعف والوهن، ولا هي دعم القوة العدو أو تجذيرها.

فالتقية ليست استكانة أو مداهنة لأن هذا الأمر لا يرضى عنه الأئمة علیهم السلام لأنفسهم أو لشيعتهم، ومن الخطأ هنا أن نقول أن أميرالمؤمنین علیه السلام كان جليس البيت بعد أحداث السقيفة لربع قرن بل كان مستمرا في نشاطه وحيويته.

إذن ليس من المعقول أن تشرع التقية لتنقلنا من ضعف إلى ضعف! والحكم الثانوي لم يشرع من أجل أن يبقى، بل الحكم الأولي هو الذي شرع للبقاء.

ص: 337


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج97، ص361.
الأمر الرابع، اختلاف التوجيه باختلاف القابلية

لابد من إشارة معينة كمثال قبل بيان هذا الوجه وهي ان هناك روايات تنهى المؤمنين عن الجدال في علم الكلام، وروايات أخرى تحثهم على الخوض فيه وانه نصرة للحق. فأي الطريقين هو الأحق أن يتبع؟

ما ورد في النهي عن الخوض في الكلام رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: سمعته يقول: «لا يخاصم إلا رجل ليس له ورع أو رجل شاك»(1)، وأيضا قوله علیه السلام: «يهلك أصحاب الكلام، وينجو المسلمون، إن المسلمين هم النجباء»(2).

ويبدو أن النهي کان موجها لطائفة خاصة حرصا عليهم، وخشية انحرافهم، وهذا لا يعني حرمة علم الكلام.

فقد روي عن الصادق علیه السلام«أنه نهى رجلا عن الكلام وأمر آخر به، فقال له بعض أصحابه: جعلت فداك، نهيت فلانا عن الكلام وأمرت هذا به؟ فقال:هذا أبصر بالحجج، وأرفق منه»(3).

وأيضا عن يونس بن يعقوب قال، قلت لأبي عبد الله علیه السلام: «جعل فداك؛ إني سمعتك تنهی عن الكلام وتقول: ويل لأصحاب الكلام يقولون هذا ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا تعقله، فقال أبو عبد الله عام: إنما قلت: فويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون»(4)

ص: 338


1- الصدوق، التوحید، ص458، ح 23
2- المصدر نفسه، ح22
3- المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، ص71.
4- الكليني، الكافي، ج 1، ص 171.

وفي رواية أخرى ..ثم دعا حمران بن أعين ومحمد بن الطيار، وهشام بن سالم، وقيس الماصر، فتكلموا بحضرته، وتكلم هشام بعدهم. فأثنى عليه ومدحه وقال له: مثلك من يكلم الناس»(1).

وهذه الروايات لا تعني ان غير القادر يبقى على وضعه، بل عليه أن يبني نفسه وينمي قدراته لكي يقوم بما يمليه عليه الواجب من نصرة الحق والدفاع عن نهجه القويم.

ومن مجموع الطائفتين من الروايات في علم الكلام يستفاد منه الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وليس إغلاق باب الخوض في علم الكلام.

وفي القرآن الكريم أيضا ورد هذا الأمر ففي قوله تعالى: «وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَی الرَّسُولِ وَإِلَی أُولِی الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِینَ یَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَیْکُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّیْطَانَ إِلَّا قَلِیلًا»(2)، بينما تجد في آية أخرى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَیِّنَاتِ وَالْهُدَی مِن بَعْدِ مَا بَیَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِی الْکِتَابِ ۙ أُولَئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَیَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ »(3) ، فمن جهة لزوم البيان ومن جهة أخرى حرمة إذاعة الأسرار، وهنا أيضا لا يوجد أي تضارب وهناك عدة وجوه للجمع بينهما وكلها ليست على نحو البدل

الأمر نفسه في مفهوم التقية إذ إن طائفة الروايات الواردة في التقية

ص: 339


1- المفيد ، تصحيح اعتقادات الإمامية، ص70.
2- سورة النساء، الآية 83.
3- سورة البقرة، الآية 159.

هي بسبب تقصير المؤمنين وعدم قيامهم بالمسؤولية المطلوبة تجاه المشروع الإلهي المنجي، وبقاء أدلة هذه الروايات هو بسبب التقصير لا أن وضع تلك الروايات هو الأمر الطبيعي لهذه المسألة.

والجمع بين الروايات هو بقاء الطائفة الثانية على وضعها الطبيعي في أهمية القيام بالمسؤولية ونصرة المنهج الحق، وفي الوقت نفسه محاولة تغییر موضوع الطائفة الأولى من الروايات.

ولو قرأنا التاريخ لرأينا في مسيرة أهل البيت علیهم السلام طوال هذه القرون بلا استثناء قيامهم بمسؤولياتهم في تحقيق المشروع المنجي، والدليل هو الانتشار الحاصل لكثير من تلك المفاهيم السياسية من عصر السقيفة إلى يومنا هذا، من خلال انتشار شعاع الإسلام المحمدي الأصيل على مساحة واسعة بعد أن كان على مستوى أشخاص بعد رحيل النبي المصطفی صلی الله علیه و آله.

ص: 340

ضوابط التقية

التخاذل تحت عنوان التقية لا يعطي مبررا لأحد لأن التقية لها ضوابط معينة، فقد ورد عن أمير المؤمنین علیه السلام أنه قال في حديث: «... فأما السب فسبوني، فإنه لي زكاة، ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تبرؤا (تتبروا) مني، فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة»(1).

فالتقية لن تصل بالمؤمن إلى درجة المسخ في الهوية كما حدث في كثير من البلدان ممن أخفى حقيقة الإيمان عن أولاده وأحفاده وهو لا زال حيا، فهذا ليس له تبرير إلا الحرص الشديد على الدنيا، والتقية لا تسوغ كل هذه المساحة في التنكر فهي للتغطية على العنوان الخارجي وليس إزالة للحقيقة من الأعماق.

«ِنَّ الَّذِینَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِکَةُ ظَالِمِی أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِیمَ کُنتُمْ ۖ قَالُوا کُنَّا مُسْتَضْعَفِینَ فِی الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَکُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِیهَاۚ فَأُولَئِکَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِیرًا»(2).

المسؤولية التي تلقى على الإنسان سواء في تشخيص الداء، أو

ص: 341


1- نهج البلاغه، خطبة 57/ العاملي، وسائل الشيعة، ج 11، ص 478/ المجلسي، بحار الأنوار، ج 75، ص421.
2- سورة النساء، الآية 97.

العلاج ضمن المشروع الإلهي المنجي لا يوجد فرق في البين في إدانة الخضوع ومسخ الهوية ولو أن كل المجتمع ارتكب هذا الخطأ، فإنه لن يكون هناك أي مبرر أو مسوغ للإنسان لارتكاب نفس الخطأ، فإرادة الإنسان بيده ولم يجعلها سبحانه وتعالى بيد غيره، ولا يحق للإنسان أن يستصغر دوره بل هو خطأ أكبر بالإضافة إلى خطيئة الضعف والخضوع والاستكانة.

سنة الله تعالى في بني إسرائيل: «وَإِذْ نَجَّیْنَاکُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَسُومُونَکُمْ سُوءَ الْعَذَابِ یُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَکُمْ وَیَسْتَحْیُونَ نِسَاءَکُمْ ۚ وَفِی ذَلِکُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّکُمْ عَظِیمٌ »(1).

في هذه الآية وآيات أخرى والتي تشير إلى الموضوع نفسه حول الظهور وبیان وظيفة المؤمنين في هذا المشروع حري بنا جميعا دراسة هذا المحور المحكم والتأمل فيه جيدا.

والأحاديث الواردة في باب التقية عن أهل بيت العصمة والطهارة علیهم السلام لا يفهم منها أنها للخضوع والاستكانة أو التسويغ لهما، ويظهر الأمر واضحا جليا في زيارة الإمام الهادي لجده أمير المؤمنین علیهم السلام في الغدير: «وأشهد أن ما اتقيت ضارعا، ولا أمسكت عن حقك جازعا، ولا أحجمت عن مجاهده غاصبيك ناکلا...»، ممارسة التقية على مستوى الفرد أو الجماعة اجتماعيا وسياسيا لا لتكريس الضعف والخضوع والتنصل عن المسؤوليات التي أرادها الله منا، وهو مما لم يأمر به الأئمة سلام الله عليهم.

ص: 342


1- سورة البقرة، الآية 49.

وقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: «المؤمن علوي... والمؤمن مجاهد لأنه يجاهد أعداء الله تعالى في دولة الباطل بالتقية وفي دولة الحق بالسيف»(1)

ص: 343


1- العاملي، وسائل الشيعة، ج16، ص209.

ص: 344

الفصل الخامس: عملية التغيير الاجتماعي بين الجبر والتفويض

اشارة

ص: 345

ص: 346

سنة الله في التغيير

تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم ليشكروه ومن ثم الخضوع والطاعة للمنعم، مع التحذير من مغبة عدم الأتعاظ بهذه الذكرى لضرورة أن الطاعة المستتبعة لشكر المنعم هي إنجاح المشروع الإلهي المنجي وتحقيقه على أرض الواقع.

قال تعالى:«یَا بَنِی إِسْرَائِیلَ اذْکُرُوا نِعْمَتِیَ الَّتِی أَنْعَمْتُ عَلَیْکُمْ وَأَنِّی فَضَّلْتُکُمْ عَلَی الْعَالَمِینَ* وَاتَّقُوا یَوْمًا لَّا تَجْزِی نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَیْئًا وَلَا یُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا یُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ یُنصَرُونَ»(1).

وهذا المحور محطة مهمة للمؤمن وله تداعيات كبيرة في الجانب العملي لوضع الأمة وعليه من المهم جدا رؤية هذه المعارف القرآنية بعين البصيرة لقياس حجم الخسائر المستتبعة لجحود النعم وعدم شكر المنعم.

هذا البلاء العظيم الذي مر على بني إسرائيل على كل المستويات السياسيةوالاجتماعية من قبل آل فرعون وهم مع كفرهم وكونهم على باطل بقي زمام الأمور بأيديهم، وبني إسرائيل على دين إبراهيم علیه السلام قبل بعثة موسی علیه السلام تبعا ليعقوب النبي علیه السلام:«أَمْ کُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَر

ص: 347


1- سورة البقرة، الآيتان 47-48.

یَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِیهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِی قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَکَ وَإِلَهَ آبَائِکَ إِبْرَاهِیمَ وَإِسْمَاعِیلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (1)مع ذلك استمر البلاء عليهم وقد يكون مفاد ظاهر الآية أنه إمتحان لصبر بن إسرائيل.

ولكن مفاد الآية الواضح والصريح أن الله سبحانه وتعالى ينسب التغيير الاجتماعي والسياسي إليه جلت قدرته وانه تبع لأرادته: «وَإِذْ نَجَّیْنَاکُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَسُومُونَکُمْ سُوءَ الْعَذَابِ یُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَکُمْ وَیَسْتَحْیُونَ نِسَاءَکُمْ ۚ وَفِی ذَلِکُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّکُمْ عَظِیمٌ»(2)مع أن النجاة لبني إسرائيل هو في إتباعهم لموسی علیه السلام ولكن الله سبحانه وتعالى لم يسند هذه النجاة الغيره، وهذا ليس من الجبر في شيء ولكنه بيان لصيغة تكوينية في القضاء والقدر في سبيل التغيير الاجتماعي والسياسي

فالجبر والاختيار ليس في بعده الفردي فقط بل هو يشمل الفعل الاجتماعي والسياسي للأمة، وليس هناك تفويض لأن الله سبحانه وتعالى لا شريك له في التغيير لأن السنن واضحة:«إِنَّ اللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ »(3). هذا التغيير الذي هو من فعل الله وإرادته له شرائط والتفويض فيه ليس عرضا لأن فعل الله مشروط بفعل العبد المكلف بالمسؤولية في الطرف الآخر، فالإنسان بمقدار ما لديه من إرادة واختيار يهيء الأرضية المناسبة لتشمله فيما بعد نعمة التغيير الإلهي.

ص: 348


1- سورة البقرة، الآية 133.
2- سورة البقرة، الآية 49.
3- سورة الرعد، الآية 11.

هذه السنة الإلهية في التغيير هي في ضرورة ارتقاء الإنسان في تكامله المعرفي والأخلاقي ولا يبقى حبيس الكسل والفشل، وهي من أعظم السنن الإلهية التي تحفز الإنسان على التكامل واستخراج قدراته الذاتية في الاستعداد وترك التواكل.

وعليه يجب ان تكون النظرة القرآنية هي السائدة عند المؤمنين في قراءة علامات الظهور لأتمام المشروع الإلهي المنجي، والمؤمن له دور بهذه الحركية والفاعلية في أداء المسؤولية والوظيفة الشرعية لأن علامات الظهور هي بيان لهذا المعنى للمسؤولية وموقع المؤمن فيها ودوره المهم والفاعل في التغيير وكيفية الاستعداد لهذا المشروع الإلهي.

إذن القراءة أما تكون بنظرة جبرية وهي مرفوضة من أساس في تراث أهل البيت علیهم السلام، أو أنها تفويض للبشر وهذه أيضأ مرفوضة، ويبقى الصحيح في مسار أهل البيت علیهم السلام هي المسؤولية التي لا شائبة فيها للجبر أو التفويض.

ص: 349

الإصلاح والتغيير يبدأ من الفرد

الصحيح أن الله سبحانه وتعالى هو الفاعل الحقيقي في نجاة بني إسرائيل، وهو جلت قدرته يسند الفعل إليه وحده لا شريك له، إلا أن هذا الفعل الإلهي مشروط بأمر وهو:«إِنَّ اللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ »(1)هذا البيان في شرط التغيير ورد أيضا عن أهل البيت علیهم السلام في هذا الباب.

روي عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: «كما تكونوا يولى عليكم»(2)، يعني كل إنسان يكون نفسه ويغير ما به تلقائيا يؤثر على الوضع العام للمجتمع، وهنا يتضح أثر: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(3).

أحد أبواب التغيير الإصلاحي في المجتمع أن يبدأ الإنسان من نفسه فيصلحها لاتحاد المسؤولية العامة مع المسؤولية الفردية الخاصة لتأثيرها الواضح فيها، وهذه معادلة مهمة في علم الاجتماع يبرزها القرآن الكريم والمأثور عن أهل البيت علیهم السلام.

ص: 350


1- سورة الرعد، الآية 11.
2- المتقي الهندي، کنز العمال، ج6، ص36، ح 14968.
3- مسلم النيسابوري، صحيح مسلم، ج3، ص 1459.

وفي حديث آخر ورد أيضا عن رسول الله صلی الله علیه و آله، قال: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعوا خیارکم فلا يستجاب لهم»(1).

إذن أحد الأمور المهمة في التغيير الاجتماعي هو ساحة الشخص المكلف لأنه لا يمكن التفكيك بين المسؤولية الفردية والمسؤولية الاجتماعية، لذلك ترى حالة الربط القرآني والنبوي بين الفرد والمجتمع، وهذه النصوص المقدسة هي لبيان الآلية في حفاظ المؤمن على مسؤوليته الفردية:«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَکُمْ وَأَهْلِیکُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَیْهَا مَلَائِکَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا یَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَیَفْعَلُونَ مَا یُؤْمَرُونَ»(2)فإصلاح الأسرة - الخلية الأم والأساس للمجتمع - هو إصلاح المجتمع بصلاح الأفراد.

الآية التي تتحدث عن المشروع الإلهي في نجاة بني إسرائيل فيها إشارات إلى نفس المشروع المهدوي بتفاصيله المختلفة، فيكون نفس الفعل الإلهي الخالص في نجاة هذه الأمة على يد صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف هو أيضا مشروط بقيام المؤمنين بمسؤولياتهم لأن هذا الأصل القرآني لا يمكن أن يتخلف أبدا:«إِنَّ اللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ »(3)فلا يمكن لقاعدة من القواعد الفقهية تصطدم بأصل عقائدي يستخرج منها حکم معين، بل يجب أن يكون هناك ضوابط المنظومة فيها موازين حاكمة وإلا ستكون أشبه بالمسيحية المنحرفة.

ص: 351


1- محمد الريشهري، میزان الحكمة، ج5، ص1945، ح 12728
2- سورة التحريم، الآية 6.
3- سورة الرعد، الآية 11.

هذا التوازن يخلق بالطبقات العليا في القواعد الفقهية التي وإن كانت مقررة ولكن ضوابط أصول الاعتقاد يحفظ لها توازن التطبيق.

وقد ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا علیه السلام لما أتاه بعض شیعته من قم فحبسهم أياما عنه، ولما أذن لهم بعد اللتيا والتي أخبرهم عن سبب حبسهم عنه قائلا لهم: «..تتقون حيث لا ينبغي التقية ولا تتقون حيث ينبغي التقية..»(1).

فالتقية في المشروع الإلهي تارة على صعيد فردي وأخرى على صعيد اجتماعي، فإذا لم تطبق في موردها الصحيح فمعنى ذلك أنه لا يتوفر النشاط الديني لأن هناك توازن في الطبقات الفوقية الأم يجب الالتفات إليها ومراعاتها.

ص: 352


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج 68، ص 158، ح 18.

سنة الله في التغيير بين الجبر والتفويض

الآيات القرآنية التي تحدثت عن السنن الإلهية في التغيير الحضاري والاجتماعي والسياسي هي خطاب لعموم البشر:«سُنَّةَ اللَّهِ فِی الَّذِینَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِیلًا»(1)،«سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِی قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِیلًا»(2).

فالعتاب أو التذكير بالنعم ليس فقط لبني إسرائيل وإن كان فيهم، ولا يدعي احد انه غير مشمول بهذا التذكير أو التوبيخ بل إن الجميع مشمول بمورد هذا الخطاب الإلهي لأن الحديث عن سنن إلهية لا تتخلف أبدا.

فالتغيير من السيء إلى الحسن بظهور الفرج هو بيد الله سبحانه وتعالى ولكنه ليس بمعنى الجبر، وهي أيضا تبين أنه ليس هناك نقص في فاعلية الله عز وجل لتكون فاعلية المخلوق في عرض فعل الله وإرادته.

فنفي الجبر هنا هو نفي للتفويض أيضا لأنه بالدقة كل جبري مبتلی بالتفويض والعكس صحيح فمن أراد النجاة عليه أن ينجو من كليهما. والجبر أو التفويض على مراتب فيه الجلي الواضح وفيه المراتب

ص: 353


1- سورة الأحزاب، الآية 62.
2- سورة الفتح، الآية 23.

الخفية التي تستعصي حتى على المؤمنين إلا على الکمل والمقربين، فالمؤمن قوي في بعض المراتب مستضعف في غيرها بلحاظ هذا المسألة.

اذن هذه الآية فيها سنة عظيمة من سنن الله سبحانه وتعالى:«وَإِذْ نَجَّیْنَاکُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَسُومُونَکُمْ سُوءَ الْعَذَابِ یُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَکُمْ وَیَسْتَحْیُونَ نِسَاءَکُمْ ۚ وَفِی ذَلِکُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّکُمْ عَظِیمٌ »(1)وهي ملحمة عظيمة لكل الشعوب والأمم في التغيير السياسي والاجتماعي وشمولها بالفرج الإلهي، وان هذا الفرج هو فعل الله ولكن ليس فيه جبر لأن هذا التغيير متوقف على مبادرة بني البشر في تغيير ما بأنفسهم.

فإذا كانت هذه السنة - عملية التغيير - أصيلة عقائديا في القرآن الكريم،فأي تفسير فقهي أو أخلاقي يصطدم بهذا الأساس فهو لا محالة فيه شائبة من الجبر أو التفويض وإن لم تكن جلية.

كذلك في ظهور صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف إذا حملنا دورنا في المسؤولية، أو علامات الظهور بعض الجبر أو التفويض فهذا تفسير خاطئ للمسؤولية الخاصة بنا بادعاء أن التغيير ليس بأيدينا ولا سبيل إلى ذلك!، في حين أن القرآن الكريم قد أكد أن حقيقة التغيير صحيح هو من فعل الله وحده ولكن شرطه البدء بتغيير ما بأنفسنا، وعليه فالواجب أن لا تنكسر إرادة المؤمنين لأنه من يعتقد أن النصر والفرج بيد الله سبحانه فهذا يعني أن اليأس لن يجد طريقا إلى قلبه، ولذا ورد عن أهل البيت علیهم السلام أن أعظم العبادة هو انتظار الفرج (2).

ص: 354


1- سورة البقرة، الآية 49.
2- قال النبي صلی الله علیه و آله: «انتظار الفرج بالصبر عبادة»، وقال صلی الله علیه و آله: «أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج..»(المجلسي، بحار الأنوار، ج 52، ص165، ح 65؛ ابن شهر آشوب، المناقب، ج4، ص425)

وهذا الأمر يسلب المبررات من أيدي المنهزمين والمرعوبين من عدوهم وإن كان عدوهم دولة عظمى!! لأن إرادة الله جلت قدرته أعظم وأكبر.

قد يبرر البعض لنفسه بأنه واقعي ويتعامل مع المعطيات المطروحة، أي أنه لا يتغير ولا يغير ولا يسعى لتغيير هذا الواقع، وهذا بسبب فقدان الأملواليأس الذي دب فيه، وعدم اليقين بقدرة الله سبحانه وتعالى!، و من يعتقد ان الله غير قادر فهو يقول بما قالت به اليهود:«وَقَالَتِ الْیَهُودُ یَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَیْدِیهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ یَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ»(1).

في حين ترى في تراث أهل البيت علیهم السلام أمر آخر مختلف عن هذه المفاهيم المنحرفة والمهزومة وهو الإيمان بالبداء ، فعن صادق آل محمد علیه السلام أنه قال: «ما عظم الله عز وجل بمثل البداء»(2)فإحدى حقائق معنى البداء هي نفي الجبر والتفويض معا، والبداء أيضا درجات و مراتب والإيمان به إيمان بقدرة الله سبحانه وتعالی.

لذا فالانتظار للمصلح الإلهي المنجي والمعد ليوم الفرج أمل عظیم رغم تكالب قوى الشر، فالمؤمن القوي لا ييأس ولا يصيب الآخرين باليأس.

ص: 355


1- سورة المائدة، الآية 64.
2- الصدوق، التوحید، ص333.

الموازنة بين اللاجبرواللاتفویض في عملية التغيير الاجتماعي

التغيير الاجتماعي في الأمم فعل الله وهو سنة دائمة:«وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِیلًا»(1)وهذه السنة الدائمة لا يجب قراءتها بنحو خاطئ في جانبي الجبر أو التفويض، بمعنى عدم الاعتقاد أن التغيير كفعل فوض فيه الإنسان بنحو مستقل لأن هذا الفهم خاطئ ومجانب للصواب، بل الصحيح أنه مرتبط بأمر بين أمرين، وهذا من الأصول الأصيلة في المنهج القرآني.

وقد يتخيل البعض أنها عناية خاصة لبني إسرائيل وهذا ليس بصحيح بل إنها تشمل حتى البوذي والهندوسي ففي كل مكان فيه تغییر نحو الأصلح فهو فعل الله ولكن ليس بنحو الجبر.

لذا لا يمكن قبول تفسیر واقعة الطف مثلا بنحو جبري أو حتى تفويضي عند المتحمسين الذين يرغبون بالإصلاح فيحيون هذا الجانب ظنا منهم أن هذا باعث للشعور بالمسؤولية لأن هذا وهم كبير فالمسؤولية تبعث من خلال الاختيار وهو موجود في الأمر بين أمرين، بل إن الشعور والإحساس بالمسؤولية يخمد في جانبي الجبر والتفويض.

ص: 356


1- سورة الأحزاب، الآية 62، وسورة الفتح، الآية 23.

ثم إن الإنسان قد ينفي التفويض في درجاته العالية لكن في درجاته الخفية يعتقد به دون الشعور بذلك، وهذا في الجبر أيضا موجود فهو ينفي الجبر في درجات وينسى أو يغفل عن درجات أخرى وهذا يحدث حتى عند كبار المحققين الذين يقعون في فخاخ الجبر أو التفويض.

إذن تصور عملية الموازنة في اللاجبر واللاتفويض في التغيير الاجتماعي والحضاري والسياسي كفعل من الأفعال الإلهية فقهيا أو عقائديا في درجاته العميقة أمر ليس بالسهل.

مثلا قد يفسر البعض واقعة الطف بتفسير جبري خفي دون أن يشعر بذلك، أو قد يكون تفسيره للواقعة بتفويض خفي أيضا، لذا ترى الشيخ الدربندي رحمه الله في كتابه أسرار الشهادة يعتمد على الجانب الغيبي كثيرا حتى اعتبره البعض أنه يفسر لجبرية واقعة الطف .

لكن إذا نظرنا إلى النصوص القرآنية فيما يتعلق بواقعة بدر أو أحد أو الخندق وغيرها من الوقائع فهي لا تركز فقط على الحس المادي في المعركة، بل تستحضر الصور الغيبية الإلهية وتتحدث عن نزول الملائكة وعن نوايا المسلمين وكيف تأثرت تحت الضغط، وعن دور الشيطان في تثبيط البعض، وهذه كلها جوانب غيبية لا يمكن معها أن يتهم القرآن الكريم برواية أساطير بل هو لإخبار الناس أن هناك جوانب غيبية مشروطة وليست هي في باب الجبر أو التفويض.

فبعض الدرجات من نفي الجبر أو التفويض لا يدركها الكثير من الناس وعليه فلا يمكن تفسير الوقائع الخطيرة في بعدها المادي فقط، لأن هناك أسباب غير مرئية بل هناك أسباب مادية أخرى غير معلومة لدى

ص: 357

البعض، وهذا ليس في واقعة الطف فقط بل في صفين والنهروان والجمل وغيرها من الوقائع والأحداث، ففي كل حدث لا جبر ولا تفویض بل هو أمر بين أمرين

حتى استخلاف أمير المؤمنین علیه السلام لم يكن جبريا بدلیل حدیث یوم الدار يوم نزل قوله تعالى:«وَأَنذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ»(1)حيث جمع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عشيرته ثم أنذرهم فقال: يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من الله عز وجل، والبشير بما لم يجئ به أحدكم، جئتكم بالدنيا والآخرة فأسلموا وأطيعوا تهتدوا، ومن يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي ويقضي ديني . فسكت القوم، فأعاد ذلك ثلاثا، كل ذلك يسكت القوم ويقول علي علیه السلام أنا فقال: أنت . فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب علیه السلام: أطع ابنك فقد أمر عليك. (2)

فكل علاقة بين الباري والمخلوقات تحكمها هذه القاعدة، حتى الاصطفاء وهو وإن لم يكن كالصفات والمقامات الاكتسابية ولكن مع هذا هو أمر بين أمرين.

وعليه فظهور صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف لا يمكن تفسيره بمنهج الجبر أو التفويض لأنه باطل بكلا الطرفين ولا يمكن تعقله على ضوء منهج السنن الإلهية في البشرية لأنه لا يستقم إلا بأمر بين أمرين

ص: 358


1- سورة الشعراء، الآية 214.
2- السيد ابن طاووس، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ص20.

فالمشكلة ليس في الجبر أو التفويض الواضحين الجليين، بل في التفكير في بيان المنظومة الفقهية والعقائدية للمسؤولية تجاه مشروع صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف وأن لا تتضمن الجبر أو التفويض في أي مرتبة من مراتبه، وهذه مهمة صعبة تحتاج إلى تظافر الجهود بالإضافة إلى خفي ألطافه عجل الله فرجه الشريف في التأييد والتوفيق لهذه المهمة الكبيرة.

وهي ليست سهلة المنال لأن الإنسان في سلوكياته اليومية ينظم نفسه على أساس قناعات جبرية أو تفويضية في سلوكه الأخلاقي والعملي من حيث لا يشعر، على سبيل المثال في استسلامه والتبرير بعدم قدرته على تغيير الواقع وانه مجبور على السير في هذا الطريق أو ذاك، في حين ترى في تراث أهل بيت العصمة والطهارة علیهم السلام أن الإنسان له دخل حتى في تحديد طريقة ووقت موته!.

ص: 359

الجبر أو التفويض والمشروع المهدوي في التغيير

وردت الكثير من الروايات في كتب الفريقين عن رسول الله صلی الله علیه و آله وعن أهل بيته الكرام عليهم الصلاة السلام بضرورة الاعتبار ببني إسرائيل والتأكيد على أن هذه الأمة ستسلك مسلك من سبقها حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل(1).

سنة التغيير من خلال النص القرآني أراد الله سبحانه وتعالى أن يبين أن هناك دورا لبني إسرائيل فيه وانه سبحانه وتعالى استجاب لموسى علیه السلام ولو بعد اللتيا والتي، فدور المجتمع هنا محفوظ وهو ما ينفي بشكل قاطع الجبر أو التفويض في هذه النجاة التي شملت بني إسرائيل.

وهذا البيان القرآني من الواضح أنه سيجري في المشروع المهدوي وأن هناك سنن إلهية للظهور، وعليه من الاشتباه في الاعتقاد أو في طريقة التعاطي مع المشروع المهدوي المنجي بطابع الجبر أو التفويض وإن كان هذا الأمر يصدر حتى من بعض المتخصصين.

ص: 360


1- قال النبي صلی الله علیه و آله: «يكون في هذه الأمة كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و(حذو) القذة بالقذة»، وعن سلمان الفارسي قال، سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله يقول: «لتركبن أمتی سنة بني إسرائيل حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل شبرا بشبر وذراعا بذراع وباعا بباع».المجلسي، بحار الأنوار، ج36، ص284.

فالجبر أو التفويض له درجات و مراتب، والأصل الاعتقادي تلقائيا له إنعكاسات وضلال للقوالب الفقهية التي من الممكن أن ترسم حالة جبرية خفية في التغيير الاجتماعي، كمن يفسر التقیة بنمط ينسجم مع الجبر وليس مع الاختيار والمسؤولية.

من الضوابط القرآنية المهمة في هذا الباب قوله تعالى:«وَمَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا »(1)، وكذلك ما ورد عن النبي صلی الله علیه و آله قوله: (ما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار أو فدعوه.. )(2)يعني ما وافق أصول الكتاب يبين لنا القراءة الصحيحة للوظيفة الفقهية السياسية الاجتماعية والحضارية

فالمشروع المهدوي هو مشروع عقائدي وحضاري واجتماعي، وهو منفتح على كل الأصعدة، ومشروع بهذا الحجم إن كنا صادقين في دعوانا فيجب أن يكون الإعداد واضحا، مع أننا لا نرى إلا الضعف والهوان والاستكانة، فأين هو الإعداد؟

هذا لأننا ننفي الجبر من جهة فنقع في التفويض من الجهة الأخرى، أو العكس، فعندما نردد في زيارة الإمام عجل الله فرجه الشریف «ونصرتي لكم معدة»وفي نفس الوقت نقرأ علامات الظهور بطريقة أشبه بمنهج الجبرية فهذا أقرب إلى الانتظار السلبي، ونتظر تحقق العلامات دون أن يكون لنا دورا في تحقيقها أو نساهم في تقريب الظهور وتحقيق المشروع الإلهي المنجي.

ص: 361


1- سورة الحشر، الآية 7.
2- الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص55، کتاب فضل العلم - باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب.

والقراءة الصحيحة أن علامات الظهور هي قواعد بيانات متوفرة لاتخاذ الإجراءات العملية الكفيلة بتحقيق هذا المشروع، من خلال بذل الجهد والقيام بالمسؤوليات حتى الوصول إلى درجة استحقاق الفعل الإلهي الخالص في التغيير السياسي والاجتماعي والحضاري.

هذه القراءة ليس معناها أننا مجبرين، ولذلك في روايات أهل البيت علیهم السلام تأكيد بأن السفياني من المحتوم ولكن البداء فيه ممكن، وهذا يعني أنه ليس هناك جبر.

هكذا تكون قواعد البيانات الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة علیهم السلام، استعد بالقدر الذي يحقق لك النصر على عدوك، أليس الشعار والعقيدة هو «ونصرتي لكم معدة!»إذن يجب قراءة المشروع الإلهي بنمط بعيد عن الجبر أو التفويض.

فالتقية لا تعني أن نكون متفرجين لا نحرك ساكنا سرا أو علنا حتى يأتي من يسومنا سوء العذاب، كونوا حلسا من أحلاس بيوتكم ليس هذا البيت المبني من الطين أو الآجر، بل هو بيت الإيمان والفكر والعقيدة:

«فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ»(1)يعني الابتعاد عن السذاجة الفكرية وعدم الاستسلام للتيارات والمناهج المنحرفة والتمسك فقط بمنهج أهل البيت علیهم السلام.

ص: 362


1- سورة النور، الآية 36.

التغيير الاجتماعي ينضبط بقاعدة لا جبرولا تفويض

|ضابطة الترابط بين المسائل الفقهية والأصول العقائدية هي القاعدة العقائدية لاجبر ولا تفويض وانما امر بين أمرين، لأنه يجب ان تنضبط الأمور في هذه القاعدة الفقهية بهذه القواعد الاعتقادية الأساس:«ِنَّا هَدَیْنَاهُ السَّبِیلَ إِمَّا شَاکِرًا وَإِمَّا کَفُورًا»(1)، وقوله تعالى: «وَهَدَیْنَاهُ النَّجْدَیْنِ»(2)، وقوله تعالی: «وَمَن شَکَرَ فَإِنَّمَا یَشْکُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن کَفَرَ فَإِنَّ رَبِّی غَنِیٌّ کَرِیمٌ »(3)، وقوله تعالى: «وَمَن یَشْکُرْ فَإِنَّمَا یَشْکُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن کَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِیٌّ حَمِیدٌ»(4).

والإمام الحسين علیه السلام عند نهضته المباركة في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية: «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلی الله علیه و آله أريد أن آمر بالمعروف وأنهی عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاکمین»(5).

ص: 363


1- سورة الإنسان، الآية 3.
2- سورة البلد، الآية 10.
3- سورة النمل، الآية 40.
4- سورة لقمان، الآية 12.
5- المجلسي، بحار الأنوار، ج 44، ص329، ح 2.

هذا الإصلاح الذي ينشده سید الشهداء علیه السلام هو تغيير اجتماعي ونفس هذا التغيير ينضبط بقاعدة لا جبر ولا تفویض، لأن التعايش مع الفساد هو طبيعة غير أولية ولهذا تجد حديث الإمام الصادق علیه السلام يقول: «التقية ديني ودين آبائي»(1) فتكون التقية أيضا وضعا غير أولي ومع ذلك يعبر عنها الإمام علیه السلام بأنها دينه ودين آبائه وما ذلك إلا أن أصلها هو القرآن الكريم.

فالأحكام الأولية هي الأصل من أهداف الشارع في تشريعاته، وإنما شرع الأحكام الثانوية نتيجة الضرورات المؤقتة وليست الدائمة ولذا من الخطأ الالتزام أو جعل الحكم الثانوي كأنه حكم أولي، لأن الحكم الثانوي هو حالة طارئة يتم التعاطي معها لأجل دفع أسبابها الموجبة ومن ثم إزالتها عن الساحة وغير هذا التعامل هو فهم خاطئ للتقية.

إذن مبحث التقية كنظام فقهي لا يمكن قراءته بعمق واتزان إلا تحت مظلة الأصول الاعتقادية ومنها قاعدة لا جبر ولا تفويض إنما أمر بين أمرين.

فهناك فرق مهم بين الحكم الأولي والثانوي في روابط الفقه، ففي الحكم الأولي لا يكلف الإنسان بإزالة الموضوع هو تلقائيا له أمد عندما تنتقل إلى حكم أولي آخر فيتبدل الحكم بتبدل الموضوع.

أما في الحكم الثانوي فالأمر مختلف لأنك مطالب بتبديل الموضوع، فالشارع سوغ الحكم الثانوي لفترة محددة حتى يقوم المكلف نفسه بإزالة وتبديل الموضوع لا أنه رخص بإبقائه.

هذا المبحث المهم وقع فيه الكثير من الخلط لأن التقية لها معان عديدة أحدها الحكم الثانوي في التقية وهو العمل بغير الصورة الصحيحة.

ص: 364


1- الكليني، الكافي، ج2، ص174، حدیث 12 باب التقية.

إحدى آليات التقیة أن «العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(1)، فالسذاجة خطر كبير على الإنسان وخصوصا في زمان الغيبة ضرورة أن يكون هناك ح أمني عند المؤمن، فهذه المسؤوليات بينها أهل البيت علیهم السلام حتى لا تقرأ علامات الظهور بطريقة سلبية لأنها في هذه الحالة تكون أقرب إلى الجبر وليس إلى أمر بين أمرين.

ومنه نلاحظ أن الشارع لا يرغب بالإبقاء على الحكم الثانوي لأنه شرعه فقط لإعطاء المجتمع فسحة من الوقت لإزالة موضوعه دون تضييق.

فلو تولی مؤمن المسؤولية في نظام جائر على سبيل المثال فهذا لا يعني السعي لإبقاء هذا النظام الجائر بل إن المسألة هي لأجل دفع الضرر عن المؤمنين، فالوضع الطبيعي هو استبدال هذا النظام الجائر بنظام عادي وهو ما أعطى المؤمن إذن الدخول في الأنظمة الجائرة.

مشروع التغيير عند أهل البيت علیهم السلام بملاحظة الواقع بعد استشهاد رسول الله صلی الله علیه و آله إلى يومنا هذا والانتكاسة التي ابتليت بها هذه الأمة هو حالة طارئة - ثانوية - وهذه الأزمة يجب أن تعالج بالتدريج، لذا عندما يرد الحديث عن الإمام الصادق علیه السلام: «التقية ديني ودين آبائي»(2)فهذا یعنی ممارسة العمل بالعنوان الثانوي حتى يتم التغيير التدريجي، لأن أحد معانيها أن يكون المؤمن صاحب عقلية أمنية هادئة والعمل بحكمة وصبر طويل، وهذا يختلف تماما عن تفسيرها بمعنى الجمود وعدم الحركة.

ص: 365


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص 269.
2- الكليني، الكافي، ج2،ص174، حدیث 12 باب التقية.

المصادر

1. القرآن الكريم.

2. نهج البلاغة - الشريف الرضي

3. الاحتجاج - . احمد بن علي الطبرسي

4. الاختصاص - الشيخ المفيد.

5. أصول الكافي - الشيخ الكليني.

6. أمالي الصدوق - محمد بن بابويه القمي - الصدوق -

7. بحار الأنوار - الشيخ محمد باقر المجلسي

8. تأويل الآيات - السيد شرف الدين الاسترآبادي

9. تحف العقول عن آل الرسول - الحسن بن علي بن شعبة الحراني

10. تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد.

11. تفسير ابن أبي حاتم - عبد الرحمن بن محمد الرازي.

12. تنبيه الخواطر ونزهة النواظر - ورام المالكي

13. التوحيد - الشيخ الصدوق.

14. الخصال - محمد بن بابويه القمي (الصدوق).

10. دلائل الإمامة - أبي جعفر محمد بن جرير الطبري.

ص: 366

16. روضة المتقين - الشيخ المجلسي.

17. روضة الواعظين - الفتال النيسابوري.

18. سنن ابن ماجة - محمد بن یزید بن ماجه.

19. سنن الترمذي - محمد بن عيسى الترمذي.

20. السنن الكبرى - أحمد بن الحسين البيهقي.

21. شرح الصحيفة السجادية - السيد الداماد. 22. شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد المعتزلي

23. صحيح البخاري - محمد بن إسماعيل البخاري

26. صحيح مسلم - مسلم النيسابوري.

20. علل الشرائع - الشيخ الصدوق.

29. الغيبة - محمد بن إبراهيم بن جعفر النعماني.

27. الغيبة - أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي.

28. فروع الكافي - الشيخ محمد بن يعقوب الكليني.

29. الكافي - الشيخ محمد بن يعقوب الكليني.

30. کمال الدین وتمام النعمة - محمد بن بابويه القمي - الصدوق -.

31. کنز العمال - المتقي الهندي.

32. المجالس - الشيخ المفيد.

33. المستدرك على الصحيحين - الحاكم النيسابوري.

34. المعجم الوسيط - الطبراني.

30. مفاتیح الجنان - الشيخ عباس القمي.

36. المناقب - ابن شهر آشوب.

ص: 367

37. میزان الحكمة - الشيخ محمد الريشهري.

38. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة - الشيخ محمد باقر المحمودي.

39. هداية الأمة إلى أحكام الأئمة - الحر العاملي.

40. وسائل الشيعة - الحر العاملي.

ص: 368

فهرس المشروع السياسي للإمام المهدي ( عجل الله تعالی فرجه الشریف)

الإهداء...7

دعاء الندبة...9

تمهید...19

مشروع المهدوية...19

هذا الكتاب...22

الفصل الأول: سند الدعاء وحقيقته...23

سند دعاء الندبة...25

الوجه الأول...26

الوجه الثاني...26

الوجه الثالث...30

الوجه الرابع ...32

تنبيهات...34

معنى الندبة...38

الأركان الرئيسة في الدعاء...39

الركن الأول...39

الركن الثاني...40

ص: 369

الركن الثالث...40

خلاصة التراث...42

الفصل الثاني: المدرسة الأخلاقية الوحيانية...45

النظم الأخلاقية وتعدد المدارس...47

المدرسة الأخلاقية الوحيانية...48

أدب التعامل مع الله...50

الفوارق بين المدارس الأخلاقية...52

الأول: الأخلاق النفسانية لها جذر عقائدي...52

الثاني: الأخلاق طبقات و مراتب...53

الثالث: الابهام في المفاهيم الأخلاقية عند التطبيق...54

الفصل الثالث: خطوط الدعاء العامة وأثرها المعرفي...57

الاصطفاء وموقعية الأنبياء...59

إكمال الحجة وسد الذرائع ...61

الإعجاز في الخاتمة...64

الندبة من سنن المعصومين...65

الفصل الرابع: الدعاء ومنهج التعامل مع الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف...69

دوام الاستشعار بالمهدي عجل الله تعالی فرجه شریف...71

المسؤولية مطلقة...73 سيد الشهداء حافظ للمشروع المهدوي...75

من ينصر من؟...76

الأمل وأثره في الصبر والثبات...77 وجود الإمام الدائم في الساحة...79

ص: 370

الفصل الخامس: الدعاء وضرورة الارتباط بالمهدي (عج)...81

میزان التواصل مع الإمام المهدي علیه السلام...83نوع الارتباط بالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف...86

رؤية الإمام علیه السلام دليل على وجوده...88حجية التشرف برؤية الإمام (عجل الله فرجه)...89

الحجية الأكمل والأتم...91

الفصل السادس: أثر البكاء في تقريب المسافات...93

البكاء إحساس بالمسؤولية...95أثر البكاء في الشحن الروحي...98

دعاء الندبة مدرسة تربوية...100

الممارسة اليومية للحب والمودة...102

التقرب الروحي والفكري...103

دوام الذكر يوجد المحبة...106

الدمعة آيةالمحبة108

الفصل السابع: محورية المودة في لزوم الطاعة...109

لغة الشوق والحنين...111 أثر الحب والتعلق بأهل البيت...113

القصد بالقلوب أبلغ...115

الحب والحنين خروج من الظلم...117

من طرق بابا أوشك أن يفتح...119

الفصل الثامن: الدعاء والقراءة الصحيحة للمشروع المهدوي ...123

كيف نقرأ علامات الظهور؟...125

ص: 371

منهج الإفراط...126

منهج التفريط...127

أين تكمن الخطورة؟...128

القراءة الصحيحة...129

الأهم هو العشق...132

من أراد استعد!...133

أنت سيد الموقف...134

العلامة الكبرى للظهور الشريف...135

ضريبة العجز والتقصير...137

الفصل التاسع: مسؤوليات ومهام المؤمن قبل الظهور...139

مسألة قديمة بلغة عصرية...141 دور المؤمنين في التمهيد للظهور المقدس...145

كلمة«يملأها قسطا وعدلا»تحملنا المسؤولية...147

تحمل المسؤوليةوالتدرج في التمهيد...149

التمهيد الروحي أجل وأعظم ...152

مسؤوليتنا في إقامة الحكومة قبل الظهور...155

الفصل العاشر: النظام الأمني في المشروع المهدوي...157

نظام أمني صارم وسرية تامة...159

التقية دين ونظام...162السرية سبب من أسباب القوة...165

الغيبة إحتفاظ بعنصر المبادرة...167

المسؤولية بين الكتمان... والنشر...172

الفصل الحادي عشر: المفاهيم وضرورة حفظها...177

ص: 372

خطورة النكث بعد الأيمان...179

إقامة للعدل أو التزام العرف؟...183

ضرورة عدم الخلط بين الموازين...190

الاعتزال الإيجابي سنة من سنن الأنبياء...193

الفصل الثاني عشر: الوعي والبصيرة في مشروع التمهيد...195

التعرف على بنود المشروع...197

الوعي بالمشروع المهدوي...200

ضرورة المعرفة والترويج للمشروع المهدوي...201

الوعي والبصيرة في مواجهة الحرب الإعلامية...204

حرب المعلومات المضللة...209

الدولة المهيمنة بالعلم والبصيرة...211

الفصل الثالث عشر: العدالة مطلبعالمي...215

قراءة جديدة لمنظومة العدل...217

أين تكمن سعادة البشر...219

القادر على بسط العدل...222

الأصلح لقيادة العالم...225

معنى «يملأها قسطا وعدلا»...228

الفصل الرابع عشر: بناء الأعراف الصالحة...231

لا إقرار للأنظمة السياسية والأعراف المنحرفة...233

السعي نحو الأعراف الصالحة...235

بين القاعدة العقلية والعرفية...239

دور الأعراف المهدوية في تمييز الكمال الحقيقي...241

ص: 373

نشر الأعراف المهدوية الصالحة...243

الفصل الخامس عشر: قيادة النظام العالمي...243

الشعارات المهدوية مشروع ومسؤولية...247

نقل الغيب وتعريفه لأهل الشهادة...248

المهمة الصعبة...252

العامل الأول...253

العامل الثاني...254

میزان المواطنة في الدولة المهدوية...256

قيادة النظام العالمي...258

ص: 374

فهرس مشروع النجاة والمسؤوليات

الإهداء...265

تمهید...267

الفصل الأول: مقدمات الانهيار الحضاري وعوامل التغيير...271

مراحل الانحدار والتغيير في المجتمعات...273

أعوان الظلمة سبب الطغيان...275

واقع التصادم بين نهجين مختلفين...278

المعصوم محور نظام العدل الإلهي...280

حضور المعصوم نظم لأطياف البشر...283

حفظ التوازن في المشاريع الإلهية...285

الفصل الثاني: عملية التغيير الاجتماعي .. الآليات والنتائج...289

حقيقة النجاة في المشروع الإلهي...291

شروط النجاة في المشروع الإلهي...296

تذكير بالنعم في سبيل المشروع...300

التذكر ودوره في المعرفة والتغيير...302

البداءوأثره في المشروع الإلهي المنجي...305

صبر المؤمن في سبيل أهدافه نجاة له...309

ص: 375

الفصل الثالث: مقومات المشروع الإلهي في عملية التغيير ...311

المشروع الإلهي وحفظ المسؤولية...313الفاعلية الصادقة مع المشروع المنجي...316

الاطمئنان والثقة في أداءالمسؤولية...319

ضرورة التنامي المستمر في تحمل المسؤولية...321

ضرورةاتساع القاعدة الناصرة...324

الفصل الرابع: المشروع المنجي وضوابط العمل بين التقية والعلن ...327

ضوابط العمل في نصرة المشروع الإلهي...329

دفع التضارب في فهم الروايات...332

الأمر الأول: الإعلان يضعف المشروع...332

الأمر الثاني: المحور هو الله وليس الأنا...333

الأمر الثالث: معنى التقیة في فلسفة التشريع...334

الأمر الرابع: اختلاف التوجيه باختلاف القابلية...338

ضوابط التقية...341

الفصل الخامس: عملية التغيير الاجتماعي بين الجبر والتفويض...345

سنة الله في التغيير...347

الإصلاح والتغيير يبدأ من الفرد...350

سنة الله في التغيير بين الجبر والتفويض...353

الموازنة بين اللاجبر واللاتفويض في عملية التغيير الاجتماعي...356 الجبر أو التفويض والمشروع المهدوي في التغيير...360

التغيير الاجتماعي ينضبط بقاعدة لا جبر ولا تفويض...363

المصادر...366

ص: 376

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.