الشعائر الحسينية سنة أم بدعة ؟
طبقا لاسس وقواعد أهل السنة والجماعة
محاضرات الشيخ أحمد الماحوزی
اعداد وتدوین: بشار الداود - راضي حبيب
دار أهل الذكر
ص: 1
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحيم
الشعائر الحسينية سنة أم بدعة ؟
لازال المؤمنون منذ زمان بعيد والى الأن لهم طقوس وممارسات معينة ترتبط بأهل البيت عليهم السلام بصورة عامة ، وبالحسين عليه السلام بصورة خاصة ومؤكدة ، تقام في مناسبات متعددة وأيام مخصوصة إحتفالا بمواليدهم وأفراحهم، أو تأبينا وحزنا عليهم.وللعشرة الأولى من شهر محرم إهتمام خاص وحثيث من قبل محبي الحسين وأهل بيته وأصحابه عليهم السلام، فما أن يدخل أول شهر محرم إلا وتجد في كل مكان يتواجد فيه المحبين، مأتم الحزن والبكاء على الحسين، وتختلف
ص: 3
الممارسات في إظهار هذا الحزن من مكان إلى آخر ومن زمان الأخر ، حسب مقتضيات ذلك المكان والزمان .
والسؤال : هل مايقوم به المؤمنون حزنا على الحسين عليه السلام بصورة خاصة و على أهل البيت عليهم السلام بصورة عامة من ممارسات وطقوسات مختلفة وشعائر متنوعة لها دليلها الشرعي أم أنه يندرج تحت عنوان البدعةوالابتداع في الدين، فهل كل تلك الشعائر من الأمور المستحدثة التي لاتمت الى الاسلام والقرآن بصلة أم أنها لها دليلها الشرعي والقرآني ، وبتعبير ثالث هل هي من السنة أم البدعة ؟
ونحن في مقام الاجابة لابد أولا من معرفة حقيقة البدعة والسنة ، حتى يتسنى لنا بعد ذلك أن نحكم على هذه الممارسات والشعائر أنها بدعة أم سنة.
وهي لغة : الطريقة والسيرة ، فسنة الله أي طريقته وسيرته، ومنه قوله تعالى وسنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبدیلام (1) وقد تقال طريقته لحكمته وطاعته ، وأصلها من قولهم: سنن الشيء بالمسن ، أي امررته عليه حتى يؤثر فيه سنة أي طريقا.
ص: 4
فهي الطريقة المعتادة سواء كانت حسنة أم سيئة ، مرضية ام قبيحة .
وأما معناها الشرعي الفقهي الذي هو محل البحث فهي : قول وفعل وتقرير الرسول صلى الله عليه واله.
فمثال الأول : قوله صلى الله عليه واله : إني مخلف فیکم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي مان تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي فانهما لن یفترقا حتى یردا على الحوض (1).
ومثال الثاني : أكثر أفعال الحج من الطواف والسعي ورمي الجمار ، فبعد أن طاف رسول الله صلى الله عليه واله وسعي ورمي الجمار ، طاف وسعی ورمي المسلمون تبعة لفعل الرسول الاكرم صلى الله عليه و آله.
ومثال الثالث : كأن يأكل الصحابي الجراد بمحضر الرسول الاكرم صلى الله عليه و آله ، فلا يردعه عن أكله ، فيستفاد من عدم الردع والتعليق على هذه الحادثة جواز أكله إذ لو كان محرم لردع الرسول صلى الله عليه واله عنه ولبن حرمته ، وبما انه سکت وأقره فيستفاد منه عدم حرمة أكل الجراد .
ويتفرع على التعريفين : أن السنة بالمعنى اللغوي تنقسم الى
ص: 5
سنة حسنة وسيئة ، وأما بالمعنى الاصطلاحي فهي دائما وأبدا حسنة ومحبوبة ومرغوبة.
فقوله صلى الله عليه واله : « من ئ شئة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة » ، هو تقسيم للسنة بمعناها اللغوي كما لا يخفي فتدبر جيدا حتى لاتغفل.
أما لغة : فقال الفراهيدي : ان البدع هو إحداث شيء لم یکن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة ، وقال الراغب الأصفهاني : هو إنشاء صفة بلا احتذاء واقتداء.
فالابتداع هو إنشاء الشيء لاعلی مثال سابق و اختراعه وابتكاره بعد ان لم يكن ، ومن أسمائه تعالى «البديع» وهو الخالق المخترع لا على مثال سابق «بديع السماوات والأرض» ، وقوله تعالی « ماکنت بدعا من الرسل» أي لست أول رسول ابعث.
فالبدعة لغة : تشمل كل مالم يكن له مماثل وشبيه في الماضي، فالعادات والتقاليد والأطعمة والأشربة والالبسه والابنية وما شابه ذلك إذا لم تكن في السابق واستحدثت فهي من مصادیق وصغريات البدعة لغة.
فالتقدم الحضاري والصناعي والتكنولوجي والفضائي والذري ، ومايصاحب ذلك من احتياجات وممارسات ووظائف
ص: 6
وأعمال من المبتدعات التي لم يكن لها مثيل في السابق .
فما توصل إليه الانسان في هذا العصر من تطور في وسائل النقل والمواصلات من دراجات وسيارات وطائرات وبواخر وصواريخ ومراكب فضائية وما أشبه ذلك ، كل هذه الامور بما أنها لم تكن موجودة في السابق فهي من مصادیق البدعة لغة.
وأما شرعة : فهي نسبة شيء الى الدين وليس منه ، وبتعبير آخر إدخال ماليس من الدين في الدين.
فهي بالمعنى الاصطلاحي الشرعي أخص من اللغوي ، فكل ما هو بدعة بالمعنى اللغوي اذا نسب إلى الدين وهو ليس منه فهو بدعة شرعا واصطلاحا، أما اذا لم ينسب الى الدين ولم يربط به فليس من البدعة شرعا واصطلاحا.
ويتفرع على التعريفين : أن البدعة لغة أعم من البدعة بمعناها الشرعي ، اذ الأمور المستحدثة مطلقا إن نسبت الى الدين والشريعة فهي بدعة لغة وشرعا وهي محرمة دائما وابدأ، وإن لم تنسب إلى الدين والشريعة فانها بدعة لغة، وعليه فلا يخلو حالها من أحد الأحكام الخمسة : الاباحة أو الوجوب او الاستحباب او الحرمة او الكراهة.
ولتوضيح المطلب نذكر عدة من الأمثلة :
الأول : طريقة الاكل والشرب في هذه الايام المعاصرة تختلف عما عليه سابقا من كيفية الجلوس ومن استعمال بعض
ص: 7
الادوات التي لم تكن في السابق تستعمل ، كالاستعانة بالملاعق وما أشبه ذلك ، هذه الطريقة في الأكل والشرب من المخترعات الجديدة ولم يكن لها مثال في السابق ، فإذا لم تنسب الى الشريعة بادعاء أن الشريعة امرت بها فهي ليست بدعة شرعا، فتكون بدعة لغة ، وبما أنها لا تصطدم مع محرم أو مکروه او ترك واجب فان حكمها الأولي هو الاباحة ، كحكم شرب الماء.
الثاني : النظم والقوانين التي وضعها البشر في هذا العصر التنظيم حركة السير والمرور في كل أنحاء العالم ، هي من الأمور المستحدثة قطعة، وحينما وضعت واعتبرت لم تنسب الى الشريعة المقدسة ، وانما وضعت لتنظيم حركة المرور حتی الاتحدث المصادمات والكوارث التي تودي الى الموت والخسارة ، فهي بدعة لغة لاشرعا.
ولكن حكمها - بنظر الشريعة - وجوب الالتزام بها في الجملة ، لان الاخلال بها يؤدي الى ذهاب الارواح و فساد الممتلكات والاخلال بالنظام، فهي مع كونها بدعة بالمعنی اللغوي لكنها واجبة في نظر الشريعة حفظة للاموال والممتلكات والارواح.
الثالث : التبرع بالدم المتحقق في هذه الايام المعاصرة بسبب التقدم الطبي هو من الأمور المستحدثة ، وحيث انه يستحب مساعدة الآخرين ومازرتهم، فيكون مستحبا شرعا
ص: 8
الاندراجة تحت عنوان «انقاذ ومساعدة البشر» وهذا العنوان محبوب و مطلوب لدى الشريعة المقدسة .
الرابع : التفنن في صنع المسكرات التي لم تكن لها وجود في السابق ، وإنشاء الأجهزة والشبكات لبث الدعارة والتحلل في المجتمعات ، وما أشبه ذلك من امور محرمة في الشريعة الاسلامية كلها من البدع المحرمة ، ومن الواضح من يصنع ويبتكر هذه الأمور لايدعي بان الشريعة امرته بذلك ، إذ هي تحكم بحرمتها، فهي بدعة بالمعنى اللغوي لكونها لا مثيل لها في السابق ولكنها محرمة لاصطدامها مع محرم شرعي.
الخامس : الالعاب المسلية - كالاتاري - والأفلام التي الافائدة دنيوية ودينية من مشاهدتها هي من الأمور المبتدعة بالمعنى اللغوي ، وحيث أنها لا تصطدم مع ماهو محرم شرعا وانما تصطدم مع كراهة قضاء الاوقات بلا عمل عقلائی مفید ، فيكون حكمها الكراهة.
إذا عرفت ذلك : فتقسيم الامام الشافعي والغزالي وابن حزم وابن الأثير وغيرهم (1) البدعة الى حسنة وسيئة هو تقسيم للبدعة
ص: 9
بالمعني اللغوي، اذ بمعناها الشرعي لاتكون محمودة ومذمومة بل هي دائما مذمومة وسيئة كما لا يخفی.
وقد نفي الحديث المستفيض الذي رواه الكل «کل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار » انقسام البدعة إلى حسنة وسيئة فكل مانسب للشريعة مما ليس منها فهو بدعة محرمة لانه تقول على الشريعة فتدبر .
قال ابن حجر : المحدثات بفتح الدال ، جمع محدثة ، والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع ، ويسمى في عرف الشرع «بدعة» ، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة ، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة ، فان كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة ، سواء كان محمود او مذمومة (1)
وقال الشاطبي : إن هذا التقسيم (2)أمر مخترع لا يدل عليه دلیل شرعي ، لا من نصوص الشرع ولامن قواعده ، ولو كان هناك مایدل من الشرع على وجوب او ندب او اباحة لما كان ثم بدعة ، ولكان العمل داخلا في عمومالاعمال المأمور بها ، او المخير
ص: 10
فيها (1)
فالخلاصة أن البدعة في المصطلح الفقهي الشرعي تقابل السنة ، والسنة تقابل البدعة فما لم يكن الشيء من السنة فهو بدعة ، ومالم يكن من البدعة فهو من السنة.
لكي تصدق البدعة لابد من تحقق أمرين :
الأول : نسبة الشيء المبتدع الى الشريعة المقدسة .
الثاني : أن لا يكون هناك دليل عليه من اية او رواية او قاعدة او إجماع أو ما شابه ذلك من الأدلة المعتبرة شرعا، اذ مع وجود أحد هذه الامور المذكورة يصدق مايقابل البدعة وهي السنة .
والدليل اللفظي - قرآن وسنة - الدال على الحكم الشرعي على عدة أنماط من أهمها :
أولا : أن يكون العنوان المأخوذ في لسان الدليل خاص لايصدق إلا على مصداق و فرد واحد.من قبيل قوله تعالى و إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما 4 ، فالصفا والمروة عنوانان خاصان لايصدقان الا على مصداق واحد، وهما الجبلان الموجودان بحذاء المسجد الحرام ، وليس لهما
ص: 11
مصداق آخر كما هو واضح ، فلا يكون هناك فرد آخر للسعي إلا بينهما .
ثانيا : أن يكون العنوان المأخوذ في لسان الدليل خاص أيضا لكنه يتحقق بمصادیق كثيرة وليس منحصرا في فرد ومصداق واحد.
كقوله تعالى و خلق الانسان من سلالة من طين ) ، فهذا العنوان المأخوذ في لسان الاية وهو «الانسان» عنوان خاص تحته مصادیق وافراد متعددة ، فزید انسان ، وعمرو انسان ، وخالد انسان ، وعبدالله انسان ، وقاسم انسان ، وعبدالرحمن انسان ، كلها تشترك في حكم واحد وهو الخلق من الطين ، وهذا الحكم تشترك فيه كل المصدایق الموجودة سواء الموجودة قبل نزول الاية او في وقت نزولها او بعد ذلك الى يوم القيامة ، فكلما تحقق الانسان في أي زمان و مکان نحكم عليه أنه خلق من طين، ولا يختص هذا الحكم بالمصداق الذي كان موجودا حين نزول الاية وهذا واضح.
ثالثا : أن يكون العنوان المأخوذ في لسان الدليل عام تندرج تحته عناوین كثيرة ، وتحت هذه العناوين افراد و مصادیق متعددة .
كقوله صلى الله عليه واله : كل مسكر حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام.
ص: 12
فعنوان المسكر تحته عدة عناوين وكذلك عنوان الخمر ، وقد جاء عنه صلى الله عليه واله أنه قال : « الخمر من خمسة ، العصير من الكرم، والنقيع من الزبيب ، و البتع من العسل، والمزر من الشعير ، والنبيذ من التمر » ، وقال أيضا : « أيها الناس إن من العنب خمرة، وإن من الزبيب خمرة ، وإن من التمر خمرة، وإن من الشعير خمرة ، ألا أيها الناس ! أنهاكم عن كل مسكر.
فعنوان المسكر تندرج تحته عناوین كثيرة، بعضها قد تحقق في عصر الرسول صلى الله عليه واله وعهد الصحابة والتابعين وحكموا عليه بالحرمة، وبعضها قد تحقق بعدهم وحكم عليه الفقهاء أيضا بالحرمة ، استنادا لانطباق هذا العنوان العام عليه ، والحكم عليه بذلك ونسبته الى الشريعة ليس من البدعة كما هو أوضح من أن يخفی.
ولتوضيح ذلك بالمثال المنطقي نقول : تارة نحكم على الفرد واخرى نحكم على النوع وثالثة نحكم على الجنس.
ومثال الأول : زید انسان ، فحكمنا على زيد انه انسان وهو عنوان خاص لايصدق إلا على فرد واحد.
ومثال الثاني : الانسان ناطق ، فحكمنا على الانسان بانه ناطق وهو يصدق على افراد كثيرة ، ولايختص بزید وعمر او بمن كان في السابق والان بل يعم كل فرد في كل زمان و مکان ، وعليه يمكن أن نقول بان زید ناطق وعمرو ناطق وخالد ناطق ، ويصح
ص: 13
الحمل.
ومثال الثالث : الحيوان متحرك بالارادة ، فحكمنا على الحيوان بانه متحرك بالارادة ، وهو عنوان عام تندرج تحته عناوین كثيرة ، فيندرج تحته عنوان الانسان و البقر والغنم والاسد والفيل وما أشبه ذلك من انواع الحيوانات ، فيصح أن نحمل «متحرك بالارادة» عليها ، فنقول : الانسان متحرك بالارادة ، والبقر متحرك بالارادة ، وهكذا بقية العناوين المندرجة تحت الحيوان ، وهذه العناوين أيضا تندرج تحتها افراد كثيرة ومتعددة ، فيندرج تحت عنوان الانسان زید وعمرو، وعليه يصح أن نحمل عليه متحرك بالارادة» فنقول زید متحرك بالارادة ، وعمرو متحرك بالارادة ويصح الحمل.
فالحكم إن كان للنوع يشمل جميع الأفراد، ويكون جميع الأفراد لهم ذلك الحكم، وكذلك إذا كان للجنس ، فيشمل جميع الانواع التي تحته وأفرادها.
فالخلاصة : ليس الدليل الشرعي على أي حكم من الأحكام مختص بالنمط الأول فقط بل يعم النمط الثاني والثالث ، فلكي يخرج الحكم عن الابتداع يكفي أن يكون مشمولا ومندرجا تحت عنوان عام شرعي ، فيستثنى من البدعة ماورد في دليلخاص وكذلك ما ورد في دليل عام.
وسر شمولية الشريعة لكل زمان ومكان ولكل المستجدات
ص: 14
تكمن في العناوين العامة التي تشمل جميع مرافق الحياة وجميع مايستجد لبني البشر ، ولو كان الدليل الشرعي هو خصوص النمط الاول لانتهت الأحكام الشرعية بانتهاء موضوعاتها ، ولما كانت شريعة خاتم الانبياء هي الخاتمة والدائمة الي يوم القيامة ، وسيأتي بیان آخر أيضا فترقب.
قال المولى المجلسي : فإنها - أي البدعة - تطلق في الشرع على قول أو فعل أو رأي قرر في الدين ، ولم يرد فيه من الشارع شيء، خصوصا ولا عموما، ومثل هذا لا يكون إلا حراما ، او افتراءا على الله ورسوله(1)
وقد مر كلام ابن حجر والشاطبي وغيرهما أن تحقق البدعة انما يحصل اذا لا أصل في الشريعة يدل عليه ، والعموم والاطلاق من الأدلة اللفظية في الشريعة كما هو محقق في علم الاصول فراجع.
الأول : مساعدة الفقراء والمحتاجين من المستحبات المؤكدة في الشريعة الاسلامية ، والآيات والروايات في فضلها وثوابها كثيرة جدا تفوق حد الاحصاء ، وهي عنوان عام ينطبق علی مصادیق كثيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان
ص: 15
والاحوال ، ومن مصادیقها:
1/ البحث لهم عن عمل.
2/ التصدق عليهم وإطعامهم وكسوتهم.
3/ حث الناس على معونتهم ومساعدتهم والاهتمام بهم .
ولا يفرق في مصادیقها بین کونها معهودة في زمن رسول الله صلى الله عليه واله والصحابة والتابعين أم كونها من الأمور المستحدثة اذا اندرجت تحت عنوان «مساعدة الفقراء»..
كما أنه من مصادیق مساعدة الفقراء التصدق عليهم بالأموال المغصوبة، فمن تصدق على الفقير بالمال المغصوب، ينطبق عليه عنوانان: مساعدة الفقراء، والتصرف بالمال المغصوب ، والاول مستحب والثاني حرام ، ففي مثل هذه الحالة لايمكن أن نحكم على المتصدق بالمال المغصوب بالجواز والاستحباب ، اذ يتصادم مع حرمة التصرف في اموال الاخرين بلا اذني منهم، والاستحباب لايزاحم ولاينسخ الحرمة ، نعم الاستحباب ينسخويزاحم الكراهة (1) والاباحة.
وعليه فالشيء المحرم وان انطبق عليه عدة عناوین مستحبة لايمكن أن يخرج من حكم الحرمة الى حكم
ص: 16
الاستحباب والجواز ، بل لايخرج الى حكم الكراهة ، فإن العناوين المستحبة إن اجتمعت مع العنوان المحرم في مصداق ما لاتخفف من درجة الحرمة وشدتها ، فاذا صدق على فعل ما انه اعانة للفقراء واحترام للعلماء وطاعة للوالدين وماشابه ذلك من عناوين حكمها الاستحباب ، وصدق أيضا مع ذلك عنوان محرم ، فالحكم بالحرمة تبعا لهذا العنوان الاخير هو الحاكم والناسخ.
الثاني : التشبه بالكفار من المحرمات الشرعية ، وليس له مصداق معين ، فقد یکون زیة معينة تشبها بالكفار في زمن الرسول والصحابة والتابعين لكنه في هذه الأزمنة لايكون تشبها بهم، فحكمه الاباحة والحلية لعدم اندراجه تحت التشبه بالكفار ، وقد يكون بالعکس.
وأوضح مثال على ذلك ربطة العنق» فان بعض الفقهاء في الزمان السابق لايجوز لبسها لحرمة التشبه بالكفار ، اما حالها اليوم فانها لاتعد من التشبه بالكفار اذ اغلب المسلمين يلبسونها فقد خرجت من تحت عنوان «التشبه بالكفار» ولذ حكم بعض الفقهاء بجوازها لخروجها عن كونها تشبة بالكفار.(1)
ص: 17
الثالث : تشبه النساء بالرجال وبالعكس من المحرمات الشرعية ، وهو يختلف من زمان الى اخر ومن مكان لآخر كما لايخفى ، فقد يكون لباسا عند العرب من التشبه بالنساء ، ولكنه ليس كذلك عند الروم، وقد يكون العكس ، وهكذا باختلاف الزمان والمكان .
فإذا اندرج الفعل من كونه تشبه بالنساء او بالرجال في المحيط الذي يعيش فيه الانسان فهو حرام ، وإن كان في محيط ومجتمع اخر لايعذ انه تشبه بالنساء او الرجال .
الرابع : احترام العلماء من المستحبات الشرعية المؤكدة ، وله مصادیق كثيرة جدا، تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال ، فإذا صدق على الفعل انه احترام للعلم والعلماء فهو مستحب لاندراجه تحت العنوان المستحب لدى الشريعة.ومثله احترام الوالدين وبقية بني البشر ، فقد يكون فعلا معينة يعد عند عرف و مجتمع خاص احترام للعلماء ، بينما يعد عند مجتمع آخر تنقيص للعلماء ، فيكون حكمه عند المجتمع الاول الاستحباب و عند المجتمع الثاني الكراهة او الحرمة ، مع أن العمل واحد لكن الاعتبار اختلف وباختلافه يتغير الحكم.
الأحكام تابعة للعناوين
وخلاصة قد قرر في علم الأصول عند الكل أن الأحكام الشرعية تابعة للعناوين ، فإذا صدق على هذا السائل انه خمر
ص: 18
حرم، وإن لم يصدق عليه انه خمر فلا يترتب حكم الخمر عليه ، فالحكم ينتفي بانتفاء الاسم والعنوان، وإليه أشار الصادق عليه السلام في من سأله عن رجل ابتاع عصيرة فحبسه السلطان حتى صار خمرا فجعله صاحبه خلا ، قال : « إذا تحول عن اسم الخمر فلا بأس به».
فلا يخلو فعل من الأفعال من عنوان واسم خاص، ومنه يتفرع عليه الحكم والعقاب والثواب ، فقد يتحقق ضرب اليتيم خارجا ، فتارة يكون حراما واخرى يكون مكروها وثالثه یکون مباحا ورابعة یکون واجبا وخامسة يكون مستحبا ، تختلف الأحكام باختلاف الحالات والعناوين مع أن الضرب واحد.
فإذا ضرب اليتيم بنية التشفي والانتقام كان حكمه الحرمة ، واذا ضربه للتأديب فحكمه الاستجاب ، واذا ضربه للامر بالمعروف والنهي عن المنکر فحكمه الوجوب وهلم جرا ، يختلف الحكم والثواب والعقاب باختلاف العنوان الذي تعنون به الفعل.
وقد تتوارد عدة عناوين على فعل واحد، وهو ليس بقليل في الفقه ، فلا يخلو باب من الأبواب الفقهية الا ونجد عدة من الموارد هناك فعلا واحدة تتوارد عليه عدة من العناوين والاسماء .
مثال ذلك : حينما يتصدق الانسان على الفقير بامر والده ،
ص: 19
فيصدق على هذا العمل انه طاعة للوالدين وانه مساعدة للفقير وكلاهما مرغوبان لدى الشريعة ، فيثاب ثوابين الأول على طاعته لوالديه والثاني لمساعدته للفقراء والمحتاجين ، اذ ان هذا الفعل وان كان واحدا في الخارج لكنه يندرج تحت عنوانین فيكون عصفورين بحجر واحد كما في المثل.
ومثال آخر: الزنا والعياذ بالله في المسجد ، فيه عنوانان ، الأول : انتهاك حرمة المسجد ، والثاني : الزنا المحرم، فعليه عقابان ، الأول: الانتهاکه حرمة المسجد وهو حرام شرعا، والثاني: لحرمة الزنا.
ومثال ثالث: قد حرر في الفقه ان الحيوانات السبعية کالاسود والذئاب والضباع وما أشبه ذلك من حيوانات مفترسة محرمة الاكل ، وقد دكر أيضا أن الاسماك البحرية كلها حلال إلا مالم يكن علیه فلس (قشر) ، فاذا رأينا بعض الأسماك البحرية لها قشر ولكنها سبعية مفترسة كالقرش مثلا (1)، فيصدق على هذا الحيوان انه سمك له قشر وانه من السباع فيكون حكمه الحرمة الاندراجة تحت عنوان «السبع». .
والامثلة في ذلك كثيرة جدا ، فتارة تتحد العناوين في الحكم ، واخرى تختلف من حيث الحكم.
ص: 20
فمن نذر أن يصلي صلاة الصبح قبل طلوع الشمس ، انعقد نذره فإذا لم يصلها قبل ذلك الظرف فان عليه عقابین ، ترکهللصلاة في وقتها ونكثه للنذر .
والدخول في دار مغصوبة أمر محرم ، وانقاذ النفس المحترمة امر واجب في الشريعة ، فإذا كان التوصل لانقاذ هذه النفس المحترمة يمر عبر الدخول والتصرف في هذه الدار المغصوبة ، يتوارد عنوانان على هذا الفعل وهو انقاذ النفس المحترمة والتصرف في المغصوب ، فيقدم اقواهما ملاكا واهمية ، وللمزيد راجع علم اصول الفقه.
إذا عرفت ذلك نأتي الى محل کلامنا، فهل الشعائر الحسينية واقامة المأتم على الحسين عليه السلام وعلى بقية أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام تندرج تحت البدعة المحرمة أم أنها خارجة عنها، وبتعبير آخر هل هناك عنوان عام يمكن أن يشمل جميع الشعائر الحسينية ويخرجها من حيز الابتداع الى دائرة السنة والشرعية ام لايوجد؟
والجواب نحن من خلال جولة سريعة على الصحاح الستة وبقية المسانيد والمعاجم والسنن والتواريخ وكتب الرجال التي تروي وتنقل سيرة وسنة الرسول الاكرم صلى الله عليه واله ، يمكن أن نستحصل على عنوان عام شرعي من سنة الرسول
ص: 21
الاكرم صلى الله عليه واله تندرج فيه جميع الشعائر الحسينة فتخرجها من دائرة الابتداع الى دائرة السنة والشرعية.
والدليل عليه عدة من النصوص والروايات المستفيضة بل المتواترة التي تحكي ذلك عن الرسول الاكرم صلى الله عليه واله ، نقتصر على جملة منها.
1/ الامام احمد : بسند حسن عن عبدالله بن نجي عن ابيه أنه سار مع علي عليه السلام وكان صاحب مطهرته ، فلما حاذی نینوى وهو منطلق الى صفین فنادى علي عليه السلام : إصبر أبا عبد الله إصبر أبا عبد الله بشط الفرات ، قلت : وماذا ؟ قال : دخلت على النبي صلى الله عليه واله ذات يوم وعيناه تفيضان ، قلت : يانبي الله أغضبك أحد ماشأن عينيك تفيضان ؟ قال : بل قام من عندي جبرئیل قبل ، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات ، قال : فقال : هل لك إلى أن أشمك من تربته ؟ قال : قلت : نعم ، فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا (1)
ص: 22
2/ الامام احمد : بسند صحيح عمار عن ابن عباس قال : رأيت النبي صلى الله عليه واله فيما يرى النائم بنصف النهار وهو قائم أشعث أغبر بيده قاروة من دم، فقلت : بأبي أنت وأمي یارسول الله ماهذا ؟ قال : هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم، فأحصينا ذلك اليوم فوجدوه قتل في ذلك اليوم . (1)
ص: 23
3/ الترمذي : بسنده عن رزین قال : حدثتني سلمی ، قالت : دخلت علىام سلمة وهي تبكي ، فقلت : مايبكيك ؟ قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه واله - تعني في المنام - وعلى رأسه ولحيته التراب ، فقلت : مالك يارسول الله ؟ قال : شهدت قتل الحسين آنفا (1)
4 / ابن سعد: بسنده عن المقبري عن عائشة ، قالت : بينا رسول الله صلى الله عليه واله راقد اذ جاء الحسين يحبو إليه فنحيته عنه ثم قمت لبعض أمري ، فدنا منه فاستيقظ يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟ قال : أن جبريل أراني التربة التي يقتل عليها الحسين، فاشتد غضب الله على من يسفك دمه ، وبسط يده فإذا فيها قبضة من بطحاء ، فقال : ياعائشة والذي نفسي بيده انه اليحزنني ، فمن هذا من أمتي يقتل حسین بعدي (2)
ص: 24
5 / الامام احمد : بسند صحيح عن عائشة أو ام سلمة : ان النبي صلى الله عليه واله قال لاحداهما : لقد دخل على البيت ملك لم يدخل علي قبلها ، فقال لي : أن ابنك هذا حسین مقتول وإن شئت أريتك من تربة الارض التي يقتل بها ، قال : فأخرج تربة حمراء (1)
6/ ابن ابي شيبة : بسند حسن عن صالح بن أربد النخعي قال : قالت أم سلمة : دخل الحسين على النبي صلى الله عليه واله وأنا جالسة علىالباب فتطلعت فرأيت في كف النبي صلى الله عليه واله شيئا يقلبه وهو نائم على بطنه ، فقلت : يارسول الله تطلعت فرأيتك تقلب شيئا في كفك والصبي نائم على بطنك ودموعك تسيل ، فقال : إن جبريل أتاني بالتربة التي يقتل عليها، وأخبرني أن أمتي يقتلونه (2)
7/ الطبراني : وعن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله لنسائه : لاتبكوا هذا الصبي يعني حسينا ، قال وكان يوم أم سلمة فنزل جبرئیل فدخل رسول الله صلى الله عليه واله الداخل ، فقال لام سلمة : لاتدعي احدا أن يدخل علي ،
ص: 25
فجاء الحسين عليه السلام فلما نظر إلى النبي صلى الله عليه واله في البيت اراد أن يدخل فأخذته ام سلمة فاحتضنته وجعلت تناغيه وتسكنه فلما اشتد في البكاء خلت عنه فدخل حتى جلس في حجر النبي صلى الله عليه واله ، فقال جبرئیل للنبي صلى الله عليه واله أن امتك ستقتل ابنك هذا ، فقال النبي صلى الله عله واله يقتلونه وهم مؤمنون بي، قال : نعم، فتناول جبرئیل تربة فقال : بمكان كذا وكذا، فخرج رسول الله قد احتضن حسین کاسف البال مغموما فظنت ام سلمة أنه غضب من دخول الصبي عليه ، فقالت : يانبي الله جعلت لك الفداء أنك قلت لنا لاتبكوا هذا الصبي وأمرتني أن لا أدع احدا يدخل عليك فجاء فخليت عنه ، فلم يرد عليها،فخرج الى اصحابه وهم جلوس فقال : إن أمتي يقتلون هذا، وفي القوم ابو بكر وعمر وكانا أجرأ القوم عليه ، فقالا : يانبي الله وهم مؤمنون ؟ قال : نعم وهذه تربته وأراهم اياها (1)
8/ الحاكم : بسنده عن أبي عمار شداد بن عبدالله عن ام الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه واله فقالت : يارسول الله إني رأيت حلما منكرا الليلة ، قال : وما
ص: 26
هو ؟ قالت : إنه شديد ، قال : وماهو ؟ قالت : رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري ، فقال رسول الله صلى الله عليه واله : رأيت خيرا تلد فاطمة إن شاء الله غلاما فیکون فی حجرك ، فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري كما قال رسول الله صلى الله عليه واله فدخلت يوما الى رسول الله صلى الله عليه واله فوضعته في حجره ثم حانت مني إلتفاته فإذا عينا رسول الله صلى الله عليه واله تهريقان من الدموع ، قلت : يانبي الله بأبي أنت وامي مالك ؟ قال : أتاني جبرائيل عليه الصلاة و السلامفأخبرني أن امتي ستقتل ابني هذا ، فقلت : هذا ؟ فقال : نعم وأتاني بتربة من تربته حمراء (1)
9/ الطبراني والبيهقي : بسندهما عن المطلب بن عبدالله بن حنطب عن ام سلمة قالت : كان النبي صلى الله عليه واله جالسة ذات يوم في بيتي فقال : لا يدخلن على أحد، فانتظرت فدخل الحسین فسمعت نشيج النبي صلى الله عليه واله يبكي ، فاطلعت فاذا الحسين في حجره او الى جنبه يمسح رأسه وهو يبكي ، فقلت : والله ماعلمت به حتى دخل ، فقال النبي صلى الله عليه واله : إن جبرئيل كان معنا في البيت فقال : أتحبه ؟ فقلت : أما من
ص: 27
حب الدنيا فنعم، فقال : إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها کربلاء، فتناول جبريل من ترابها فأراه النبي صلى الله عليه واله ، فلما أحيط بالحسين حين قتل ، قال : ما اسم هذه الأرض ؟ قالوا: أرض کربلا ، قال : صدق رسول الله صلى الله عليه واله أرض کرب و بلاء (1)
10 / الطبراني : بسنده عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن أم سلمة قالت : كان الحسن والحسين عليهما السلام يلعبان بین يدي النبي صلى الله عليه واله في بيتي فنزل جبريل عليه السلام فقال : يا محمد إن امتك تقتل ابنك هذا من بعدك فأومأ بيده الى الحسين ، فبکی رسول الله صلى الله عليه واله وضمه الى صدره ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه واله وديعة عندك هذه التربة ، فشمها رسول الله صلى الله عليه واله وقال : ریح کرب وبلاء ، قالت : وقال : رسول الله صلى الله عليه واله : ياام سلمة اذا تحولت هذه التربة دما فاعلمي أن ابني قد قتل ، قال : فجعلتها أم سلمة في قارورة ، ثم جعلت تنظر إليها كل يوم، وتقول : إن يوما تحولين دما ليوم عظيم (2)
11/ الامام احمد: بسند صحيح عن ثابت عن انس بن مالك :
ص: 28
ان ملك المطر استأذن ربه أن يأتي النبي صلى الله عليه واله ، فأذن له ، فقال لام سلمة : أملكي علينا الباب لايدخل علينا أحد، قال : وجاء الحسين ليدخل فمنعته فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي صلى الله عليه واله وعلى منكبه وعلى عاتقه ، قال : فقال الملك للنبي صلى الله عليه واله : اتحبه ؟ قال : نعم، قال : أما إن امتك ستقتله ، وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه فضرب بيده فجاء بطينة حمراء فأخذتها أم سلمة فصرتها في خمارها، قال : قال : ثابت : بلغنا أنها کربلا (1)
12 / الحاكم : بسند صحيح عن عبدالله بن وهب بن زمعه قال : أخبرتني أم سلمة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه واله اضطجع ذات ليلة للنوم فاستيقظ وهو خائر(2)ثم اضطجع فرقد ثم استيقظ وهو خاثر دون مارأيت به المرة الاولى ثم اضطجع فاستيقظ وفي يده تربة حمراء يقبلها (3)، فقلت : ماهذه التربة يارسول الله ؟ قال : أخبرني جبريل عليه السلام أن
ص: 29
هذا الحسين - يقتل بأرض العراق ، فقلت لجبريل : أرني الارض التي يقتل بها، فهذه تربتها » قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (1)
13 / الطبراني : بسنده عن عبدالله بن عمرو بن العاص : ان معاذ بن جبل أخبره قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه واله متغير اللون ، فقال : أنا محمد أوتيت فواتح الكلام وخواتمه فأطیعوني مادمت بين أظهركم، واذا ذهب بي فعلیکم بكتاب الله احلوا حلاله وحرموا حرامه ... أمسك يامعاذواحص ، قال : فلما بلغت خمسة قال : یزید لايبارك الله في يزيد، ثم ذرفت عيناه ، فقال : تعي الي الحسين ، وأتيت بتربته وأخبرت بقاتله ، والذي نفسي بيده لايقتل بين ظهراني قوم لايمنعوه الا خالف الله بين صورهم وقلوبهم وسلط عليهم شرارهم والبسهم شيعة .. (2)
ص: 30
قلت : والاخبار بقتل الحسين عليه السلام وبكاء الرسول صلى الله عليه واله والصحابة عليه عند مولده وبعده وعند قتله من المتواترات التي لا مجال فيها للشك والتردد ، وما ذكرناه فيه الكفاية .
ومن عموم الروايات نستحصل مایلی : جواز بل استحباب الحزن والبكاء على الحسين عليه السلام في يوم مقتله ، وكلما رأى الانسان تربته الطهارة التي شمها الرسول صلى الله عليه واله وفي بعض الرايات قبلها وشمها (1)، بل كلما تذكر الحسین عليه السلام ، وكلما رای مايذكره به ، وكلما حل في كربلا اقتداء بعلي عليه السلام.
ص: 31
فالخلاصة : ان هذا العنوان العام وهو «الحزن على الحسین»
مستفاد من فعل الرسول الاكرم صلى الله عليه واله ، فتارة بکی الرسول الاكرم صلى الله عليه واله ، واخرى تغير لونه لهذه الفاجعة ، وثالثة اغبر وجهه ، ورابعة اغتم، وخامسة فاضت عيناه الطاهرتان بالدموع.
كما يستفاد هذا العنوان من مجموعة من الأمور التي حدثت بعد مقتله عليه افضل الصلاة والسلام وفيها يتجلى غضب الله عز وجل لهذه الحادثة العظيمة ، وهي :
1/ ابو العرب : بسنده عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال : إنما حدثت هذه الحمرة التي في السماء حين قتل الحسين(1)
2/ الطبراني : بسنده عن علي بن مسهر حدثتني جدتي ام حکیم قالت : قتل الحسين بن علي عليه السلام وأنایومئذ جويرية ، فمكثت السماء أياما مثل العلقة (2)
3/ وعنه : بسنده عن عیسی بن الحارث الكندي قال : لما قتل الحسين رضي الله عنه ، مكثنا سبعة أيام إذا صلينا العصر نظرنا
ص: 32
الى الشمس على اطراف الحيطان كأنها الملاحف المعصفرة، ونظرنا الى الكواكب يضرب بعضها بعضا (1)
4 / البيهقي : بسنده عن نضرة الأزدية قالت : لما قتل الحسين بن علي مطرت السماء دما فأصبحت وكل شيء ملان دما (2)
0 / المزي : بسنده عن خلف بن خليفة عن أبيه قال : لما قتل الحسين اسودت السماء وظهرت الكواكب نهارة ، حتى رأيت الجوزاء عند العصر وسقط التراب الاحمر (3)
6/ سبط ابن الجوزي : بسنده عن هلال بن ذكوان قال : لما قتل الحسين مكثنا شهرين أو ثلاثة كأنما لطخت الحيطان بالدم من صلاة الفجر إلى غروب الشمس (4).
ص: 33
7/ ابن ابي جرادة : عنه بسند متصل : لما قتل الحسین مطرنا مطرأ بقي أثره في ثيابنا مثل الدم (1)
8/ المزي : بسنده عن جعفر بن سليمان قال حدثتني خالتي ام سالم قالت: لما قتل الحسين بن علي مطرنا مطر كالدم على البيوت والجدر ، قال : وبلغني أنه كان بخراسان والشام والكوفة (2)
9/ ابن کثیر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسین حدثنا ابو غسان محمد بن عمرو زنيج حدثنا جرير عن يزيد بن ابي زياد قال : لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما احمرت آفاق السماء أربعة أشهر ، قال يزيد: واحمرارها بكائها ،، وهكذا قال السدي وقال عطاء الخراساني : بكائها أن تحمر اطرافها (3)
10 / الذهبي : روي من طريق المدائني عن علي بن مدرك عن جده الاسود بن قيس قال : احمرت آفاق السماء بعد قتل
ص: 34
الحسین ستة أشهر يرى فيها كالدم ، فحدثت بذلك شريكا فقال لي : ماانت من الاسود ؟ فقلت : هو جدي ابو امي ، فقال : أما والله إن كان لصدوق (1)
11 / الطبرانی : بسنده عن جمیل بن زيد قال : لما قتل الحسین احمرت السماء ، قلت : أي شيء يقول ؟ فقال : ان الكاذب منافق إن السماء احمرت حين قتل (2)
12/ وعنه : بسنده عن محمد بن سیرین قال : لم يكن في المساء حمرة حتى قتل الحسين (3)
13/ ابن عساکر : عن داود بن ابي هند عن ابن سیرین قال : لم تبك السماء على أحد بعد یحیی بن زكريا إلا على الحسين بن علي (4)
14 / ابن كثير : قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسین حدثنا عبد السلام بن عاصم حدثنا اسحاق بن اسماعيل حدثن
ص: 35
المستورد بن سابق عن عبيد المكتب عن ابراهيم قال : مابکت السماء منذ كانت الدنيا الا على اثنين ، قلت لعبيد : اليس السماء والارض تبكي على المؤمن ؟ قال : ذالك مقامه حيث يصعد عمله ، قال : وتدري مابكاء السماء ؟ قلت : لا ، قال : تحمر وتصير وردة كالدهان ، إن يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام لما قتل احمرت السماء وقطرت دما، وإن الحسين بن علي رضي الله عنهما لما قتل احمرت السماء (1)
15/ ابن ابي جرادة : بسند متصل عن ابراهيم النخعي : لما قتل الحسین احمرت السماء من أقطارها ، ثم لم تزل حتى تقطرت فقطرت دما (2)
16/ وعنه : بسند متصل عن مسعدة عن جابر عن قرط بن عبدالله قال : مطرت ذات يوم بنصف النهار ، فأصابت ثوبي فاذا دم ، فذهبت بالابل الى الوادي فإذا دم، فلم تشرب ، وإذا هو يوم قتل الحسين رحمة الله عليه (3)
17 / ابن حبان : عن حماد بن سلمة وابن علية عن سليم القاص ابو ابراهيم قال : مطرنا يوم قتل الحسین دما (4).
قال أبو الفرج الجوزي : لما كان الغضبان يحمر وجهه عند
ص: 36
الغضب فيستدل بذلك على غضبه وانه أمارة السخط ، فالحق سبحانه ليس بجسم فأظهر تأثير غضبه على من قتل الحسين عليه السلام بحمرة الافق وذلك دليل على عظم الجناية .
قال الطبراني : بسنده عن أبي قبيل قال : لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنه انکسف الشمس كسفة حتى بدت الكواكب نصف النهار حتى ظننا أنها هي (1)
قال الگنجي الشافعي: قرأت على الحافظ يوسف بن خليل بحلب أخبرنا عبدالله بن کارة اخبرنا محمد بن عبدالباقي أخبرنا ابو محمد الجواهري اخبرنا عمر بن حيوية اخبرنا احمد معروف اخبرنا الحارث بن ابي اسامة اخبرنا محمد بن سعد أخبرنا محمد بن عمر حدثني عمر بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه قال : ارسل عبدالملك إلى ابن رأس الجالوت فقال : هل كان في قتل الحسين عليه السلام علامة ؟ قال : ما كشف يومئذ حجر إلا وجد تحته دم عبيط (2).
ص: 37
الطبراني : بسنده عن ابن جريح عن ابن شهاب قال : مارفع بالشام حجر يوم قتل الحسين بن علي الا عن دم.
وروی بسنده عن الزهري قال : قال لي عبدالملك بن مروان : أي واحد انت إن أخبرتني أي علامة كانت يوم قتل الحسين بن علي ، قال : قلت : لم ترفع حصاة ببيت المقدس الا وجد تحتها دم عبيط ، فقال لي عبدالملك : إني وإياك في هذا الحديث لقرينان (1)
وقال السيوطي : اخرج البيهقي عن أم حبان قالت : يوم قتل الحسين أظلمت علينا ثلاثا ولم يمس منا أحد من زعفرانهم شيئا فجعله على وجهه إلا احترق ، ولم يقلب حجر ببیت المقدس إلا وجد تحته دم عبيط (2)
ص: 38
وقال الحافظ المزي : حدثنا أحمد بن محمد بن یحیی بن سعید حدثنا زيد بن الحباب حدثني ابو یحیی مهدي بن میمون قال : سمعت مروان مولی هند بن المهلب ، قال حدثني بواب عبيد الله بن زياد أنه لما جيء برأس الحسين فوضع بين يديه رأيت حيطان دار الامارة تسایل دما (1)
هذا: مضافة إلى جواز الحزن على موتى المؤمنين ، بل رجحانه واستحبابه ، والشاهد عليه ماتواتر عن الرسول الاكرم صلى الله عليه واله من الحزن والبكاء على جماعة من أصحابه حين استشهادهم ووفاتهم.
فعن ابن مسعود قال : مارأينا رسول الله صلى الله عليه واله باكية أشد من بكائه على حمزة ، وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته وانتحب - أي شهق - حتى بلغ به الغشي يقول : ياعم رسول الله ياحمزة ياأسد الله وأسد رسوله ياحمزة يافاعل الخيرات ياحمزة يا كاشف الكربات ياحمزة ياذاب عن وجه رسول الله .
وكان كلما بكت صفية يبكي وإذا نشجت ینشج ، وحينما
ص: 39
رجع من أحد بکت نساء الانصار على من قتل من رجالهن ، فقال بأبي وأمي متأثرا بالموقف ولكن حمزة لابواكي له ، ثم نام فانتبه وهن يبكين حمزة فهن الى اليوم - كما في الحديث - اذا بكين يندبن حمزة (1)
وكذلك حينما استشهد جعفر الطيار جاء النبي صلى الله عليه واله الى امراته أسماء بنت عمیس رضي الله عنها وعزاها بجعفر ، ودخلت فاطمة عليها السلام وهي تبكي وتقول : واعماه ، فقال النبي صلى الله عليه واله : على مثل جعفر فلتبك البواکی، وروي عن جابر أن الرسول صلى الله عليه واله لما رأى جبهة حمزة بكئ ولما رأى مامثل به شهق (2)
ص: 40
وبما أن الحسين عليه السلام هو وأخوه سيدا شباب أهل الجنة فالحزن والبكاء عليهما لابد ان يتلاءم مع هذه المرتبة التي تفوق كل المراتب.
كما أنه يكفي في رجحان البكاء والحزن العميق على العظماء من أهل بيت النبي صلى الله عليه واله واستحبابه قوله تعالى حكاية عن حال يعقوب و وتولى عنهم وقال يأسفي على يوسف وابيضت عيناه (1)من الحزن فهو كظيم ، فلقد ذهبت عيناه عليه السلام حزنا على يوسف ، فليس كل ضرر ينتج من الحزن والبكاء على الانبياء وأولاد الأنبياء محرم في الشريعة ، وإلا كان يعقوب - وهو من أعاظم الانبياء وساداتهم - قد ألقىنفسه في التهلكة والعصيان ، مع أن القرآن الكريم قد أقر فعله واستصوبه ، وأجاب أخوة يوسف حينما قالوا له وتالله تفتؤا تذکر یوسف حتى تكون حرضة او تكون من الهالكين ، على لسان يعقوب وإنما أشكو بثي وحزني الى الله وأعلم من الله مالا تعلمون .
فالخلاصة: أن الحزن على الحسين مهما كان مصداقه ليس من البدعة وانما هو من الستة لكونه مستندة لفعل الرسول صلى الله عليه واله وفعله سنة ، وتحقق هذا الفعل من الرسول الاكرم ليس
ص: 41
فقط في مناسبة او مناسبتن ، بل في مناسبات كثيرة ومتعددة ولعل مالم يصل إلينا اكثر مما وصل.
اذا عرفت ذلك : نأتي الى جميع الممارسات والشعائر التي يقوم بها المؤمنون وتقع مصداقا للحزن على الحسين ، ونقيمها بعيدا عن هذا العنوانوانطابقه عليها ونذكر حكمها الأولي - من إباحة او استحباب او كراهة أو حرمة او وجوب - ثم بعد ذلك ننظر إليها بما هي مصداق من مصادیق الحزن على الحسين عليه السلام.
فمن أهم تلك الممارسات والطقوس مايلي :
فإن البكاء بما هو هو بعيدا عن كونه بكاءا على الحسين ، لا محذور فيه ، بل كما تقدم منا يستحب البكاء اذا كان الميت مؤمن و خادما للاسلام، كما مر ذكره في بكاء الرسول على حمزة و جعفر .
ففي البكاء على الحسين عليه السلام يجتمع عنوانان : عنوان البكاء على المؤمن ، وعنوان البكاء عليه عليه السلام، والأول دليله الادلة العامة في استحباب البكاء على موتی المؤمنين ، والثاني دليله الادلة الخاصة الواردة في بكاء الرسول
ص: 42
صلى الله علیه و آله على الحسين واصحاب الحسين.
وعليه : فالباكي على الحسين له ثوابان ، ثواب البكاء على المؤمنين لكون الحسین علیه السلام سید المؤمنين ، وثواب الحزن على الحسين عليه السلام المتحقق بالبكاء.
. لاریب في جواز رثاء موتى المؤمنين بذكر محاسنهم الباعث على تحريك الحزن وتهيج اللوعة ، وقد رثى الصحابة بعضهم بعضا وأقر الرسول الاكرم صلى الله عليه واله ما قاموا به من رثاء متضمنة لمدح الميت وذكر محاسنه ، وأشعار الرثاء الصادرة عن الصحابة كثيرة جدا ويكفيك ماذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد (1)وابن عبد البر في الاستيعاب وابن الأثير في أسد الغابة وابن حجر في الإصابة (2)
وحينما توفي رسول الله صلى الله عليه واله رثاه جمع من الصحابة ، وعلى رأسهم سيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام بقولها :
ماذا على من شم تربة أحمد
أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت على مصائب لو أنها
صبت على الايام صرن لياليا
ص: 43
فالرثاء بما هو هو لاإشكال في جوازه، حتى لو كان المرثي کافرة، فلقد أكثرت المرأة الصالحة الخنساء رثاء أخويها صخرة ومعاوية - وهما کافران وأبدعت في مدائح صخر وأهاجت عليه لواعج الاحزان ، فلم نجد من الصحابة والتابعين والعلماء والمحدثين من أنكر عليها ذلك ، ونسبها الى التقصير والعاطفة ، بل عادة ما كانوا يتمثلون بأبيات رثائها حين فقدهم الحبيب وصديق.
فإذا كان الرثاء مباحأ وكان رثاء للحسين عليه السلام فيقع مصداقا لعنوان «الحزن عليه» وهو عنوان له استحبابه الشرعي ، فيكون رثاء الحسين من المستحبات الشرعية.
وهما من المستحبات المؤكدة في الشريعة المقدسة ، سواء كان ذلك من أجل الحسين أو أي شخص آخر ، فإن الله سبحانه وتعالى يحب إطعام الطعام والتصدق على المحتاجين ، حتى أن عبدالله بن جذعان والذي مات كافرا أخف أهل النار عذابا، لانه كما قال الرسول الاكرم صلى الله عليه واله يحب إطعام الطعام وإفشاء السلام.
فاطعام الطعام من أجل الحسين ، والتصدق على المحتاجين بدلا عن الحسین مما لاخلاف أصلا في رجحانه واستحبابه ، ولذا كما في بعض الروايات الصحيحة كان الرسول
ص: 44
الاكرم صلى الله عليه واله يشتري الشاة ثم يذبحها ويقطع أعضاءها ويبعثها صدقة لخديجة عليها السلام (1)
وعن عائشة قالت : أن رجلا اتي النبي صلى الله عليه واله فقال : يارسول الله إن أمي افتلتت نفسها ولم توص أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ فقال صلى الله عليه واله : نعم (2)
فإنه وإن قيل بكراهة الثياب السوداء إلا أن ذلك مختص بلباس المصلي لامطلقا ، نعم ذهب جماعة من الفقهاء بكراهيته مطلقا ، فعلى القول بإباحته في غير الصلاة فإن تعنون بعنوان أنه حزنا على الحسين عليه السلام خرج من حكم الاباحة الى حكم الاستحباب.
وعلى القول بكون لبس السواد مطلقا مكروه سواء في حالة الصلاة ام غيرها ، فإذا لبس الانسان السواد حزنا على الحسين ، يكون عندنا عنوانان :كراهة لبس السواد ، واستحباب الحزن على الحسين ، وهاذان العنوانان اجتمعا علی مصداق واحد وهي الثياب السوداء التي لبسها المعزي ، فيحصل هنا تزاحم بين ملاك الكراهة وملاك الاستحباب ، فيقدم أقواهما ملاكا
ص: 45
ومنفعة ومصلحة ، ولاريب أن الحزن على الحسين كاسح و مقدم على ملاك الكراهة من لبس الثياب السوداء.
نعم على القول بكون لبس السواد من المحرمات - ولا قائل به - فإن ملاك الاستحباب لايزاحم ملاك الحرمة ، بل ملاك الحرمة متقدم رتبة عليه ، فلا يمكن الحكم بالاستحباب ، ولذا كما تقدم بيانه لايمكن أن نتوصل الى مساعدة الفقراء والمحتاجين بالتصدق عليهم بالاموال المغصوبة ، وإن تصدقنا بها فلا ثواب بل هناك عقاب للتصرف في أموال الاخرين بلا اذن منهم.
وهو من الشعائر الرائجة المنتشرة في أكثر البلدان الاسلامية ولدي مقيمي العزاء على السبط الشهيد، فهو من أبرز مصادیق الحزن على الحسين عليه السلام، واللطم على الصدر أو على أي عضو من البدن إذا لم يؤدي الى الضرر المحرم لاأحد يقول بحرمته ، فهو بمثابة التصفيق في مناسبات الفرح والنجاح ، فحكمه الاولي هو الاباحة ، وليس هناك دليل شرعي يدل على حرمته ، نعم قد يكون مكروهة أو مستحبة ، اذا إنطبقت و صدقت عليه عناوين أخرى عامة حكمها الكراهة او الاستحباب.
وحيث أن لطم المؤمن صدره بعنوان الحزن على الحسين
ص: 46
- وهذا العنوان كما تقدم إثباته راجح ومستحب شرعة - فیکون اللطم على الصدور حزنا على الحسين راجحا شرعا، ولا محذور من حرمة او كراهة فيه ، فاللطم على الصدور بهذا الدافع مصداق من مصادیق الحزن على الحسين عليه السلام فهو من السنة لا من البدعة ، فهذا الفعل لا يختلف عن البكاء او الشهيق ، وقد تقدم في الروايات بكاء الرسول صلى الله عليه والهوشهيقه على عمه حمزة ، ورؤية أم سلمه له شاحب اللون منکسف البال أشعث أغبر يوم قتل الحسين عليه السلام.
وغيرها من مصادیق متعددة ومتكثرة تختلف باختلاف الزمان والمكان والامكانيات والأحوال والتقلبات ، ولكي نعطي ضابطة کلية في المقام لشرعية كل مصداق من مصادیق الحزن على الحسين - علاوة على ما تقدم - نقول:
يشترط على نحو الوجوب في المصداق المتعنون بعنوان الحزن على الحسين مایلی :
1/ أن لا يكون بما هو هو محرم شرعا.
2/ أن لا يكون بما هو هو مكروه كراهة مشددة وغليظة .
3/ أن لايعرض عليه عنوان آخر محرم او مكروه كراهة شديدة ، كعروض الضرر المحرم عليه.
ص: 47
فإذا كان الفعل الذي وقع مصداقا من مصادیق الحزن على الحسين ينشأ منه الضرر المحرم، فهذا العنوان یکون ناسخا ولاغية للاستحباب المرتجي من الحزن على الحسين بهذا المصداق.
وبين الأعلام خلاف في تحديد دائرة الضرر المحرم ضيقة وسعة ، ولبيان ذلك بشكل مقتضب و مختصر نقول :
لايخلو الضرر والايذاء من أن يكون دائمية أو مؤقت، والاول تارة يتحقق بقتل النفس ، وأخرى بقطع عضو من أعضاء البدن كاليد والرجل مثلا، وثالثة بتعطيل قوة من قوى النفس عبر اتلاف بعض أعضائها ، كتعطيل القوة الباصرة باتلاف العين والقوة السامعة باتلاف السمع وما أشبه ذلك ، والظاهر أنه لا خلاف بين الفقهاء في حرمة الضرر المتولد من هذه الامور الثلاثة المذكورة: قتل النفس ، وقطع الاعضاء المهمة في البدن ، وتعطيل الحواس الخمس وهي : النظر والسمع والشم واللمس والتذوق ، إذا كان ذلك بشكل دائمي.
أما اذا كان الضرر والاتلاف والايذاء مؤقت ، فوقع الخلاف بین الاعلام، والمذهب المنصور بينهم هو عدم الحرمة
ص: 48
مطلقا (1)، لعدم الدليل عليه ، بل الدليل قائم على جوازه في مواضع كثيرة من الفقه ، كجواز الختان بالنسبة للجواري ، وثقب الأذان والانوف ، والوشم، والحجامة ، والاقدام على الضرر اليسير الجلب المنفعة الجسيمة والكبيرة (2)
مضافا إلى جواز بل استحباب تورم الاقدام من كثرة القيام للصلاة ، وتحمل الجوع ثلاثة ایام اقتداء بأهل البيت عليهم السلام ، وعدم المحذور بل استحباب كثر السجود المفضي إلى حصول الثفنات في الجباه ، وايذاء النفس بالحج ماشية إلى بیت الله الحرام وما شابه ذلك.
ص: 49
وإحتمال الضرر من بعض المصاديق التي تقع عنوانا للحزن على الحسين عليه السلام، لا يستلزم تحریمها، إذ ان الاعلام افتوا بجواز الالعاب الرياضية الكثيرة التي لا تخلو من الضرر في الجملة ، فلابد أن يكون الضرر عقلائية حتى يحكم بحرمة مقدمته والمنع من الاقدام على ذلك المصداق والعمل الذي ينشأ منه الضرر المعتد غالبا ، إذ الضرر اليسير والنادر في حكم العدم عند العرف والعقلاء.
نعم البحث عن مصادیق واعمال مشروعة وخالية عن الضرر وجعلها مصداقا للشعائر الحسينية هو الذي ينبغي على المؤمنين الذهاب وراء تحقيقة وستأتي الاشارة اليه.
أما الاستهزاء ببعض الممارسات الحسينية فليس منشأ الوجوب ترکها، اذ العمل الخاص الذي يقوم به المؤمنون ويندرج تحت عنوان الشعائر الحسينية تارة يراد منه تعمیق القضية والمصيبة لدى نفوس من يؤمن بالحسين وبمدرسته ، واخرى لجلب وكسب و تعريف الناس والعالم قضية الحسين عليه السلام.
فإن كان المقصود منه هو الممارسة الخاصة وطلب الثواب ، فإن الاستهزاء لايغير هذا العنوان الى عنوان محرم، فإن
ص: 50
العالم بأكمله يستهزأ من المسلمين بطوافهم حول البيت وسعيهم بين الصفا والمروة، ورميهم للجمار وماشابه ذلك من عبادات وممارسات وقعت محلا للاستهزاء من قبل غیر المسلمين ، فليس الاستهزاء عنوان مغير ومزاحم للعناوين الشرعية في العبادات الخاصة والممارسات الفردية.
اللهم إلا اذا استلزم ذلك توهين للمذهب واستخفافا بكافة المؤمنين ، فان ذلك يقتضي ترك هذه الشعيرة وان كانت مباحة او مستحبة.
وإن كان المقصود منه هو کسب تأييد الأطراف الأخرى ، فإذا وقع محلا للاستهزاء ، فينبغي رفع اليد عنه ، لالحرمته ، وإنما لعدم ترتب الأثر المرتجي منه ، اذ الهدف في هذه الشعيرة والممارسة الخاصة هو کسب الطرف الاخر ، فإذا وقع محلا للاستهزاء فلا يمكن أن يكون طريقة للكسب فترکه من باب عدم ترتب الاثر والهدف المتوخى منه.
وأما العسر والحرج فانه كذلك لايرفع الجواز والاستحباب ، وإنما يرفع اللإلزام، فیکون مورد هذه القاعدة في الواجبات والمحرمات ، فإذ نشأ الضرر من الوضوء الواجب فإن هذه القاعدة ترفع وجوبه، لا أصل مشروعيته ، فاذا كان الوضوء عسرية وينشأ منه الحرج ، وتوضا الانسان وتحمل ذلك الحرج لايحكم ببطلان
ص: 51
وضوئه ، بخلاف ما اذا استلزم من الوضوء الضرر ، فان الفتوى قائمة على بطلان الوضوء الضرري، وجواز الوضوء العسري .
وإذا استلزم عدم حلق اللحية مثلا عسرا وحرجا على المكلف فإن قاعدة «العسر والحرج» ترفع الحرمة وتجوز حلق اللحية ، فمورد هذه القاعدة الأحكام الالزامية من وجوب وحرمة ، لا الاحکام غير الالزامية ، فإن في بعض الصلوات والصيام والاعمال المستحبة مشقة عظيمة لايتحملها إلا ذو حظ عظيم ، فلا تجري هذه القاعدة في الأمور المستحبة ، وبما أن الشعائر الحسينة من الأمور المستحبة فالاستدلال بهذه القاعدة لاثبات عدم شرعية بعض الممارسات الحسينية غفلة واضحة لدى المتمرس والمتأمل.
تنبيه : مما لاريب فيه أن الأنظار والافهام تختلف في تشخيص المصادیق من حيث استلزامها للعسر والحرج والضرر ، فقد يكون مصداق ما - بنظر بعض المؤمنین - مستلزم للضرر أو هتك للمذهب وتضعيف واستخفاف بالمؤمنين ، وبنظر آخرین لايقتضى ذلك ، وقد يكون مصداق آخر بنظر البعض لافائدة دنيوية وأخروية منه ، وبنظر آخرين فيه الفائدتين معا .
وعليه: فإذا اختلفت الأنظار في تشخيص وتقييم الممارسات والطقوس التي تقع مصداقا للحزن على الحسين بین کونها
ص: 52
ضررية او لا ، او كونها مستلزمة لهتك المذهب او لا ، أو كونها مما الافائدة مطلقة منها او فيها فائدة ، وأدى ذلك إلى التشاجر والتباغضوالتدابر ، فإن الحكمة تقتضي الاقلاع عن هذا المصداق الذي وقع محل خلاف في تشخيصه وادى الى التفرقة بين المؤمنين ، اذ ملاك الوحدة والمصلحة الحاصلة منها تفوق كل المصالح.
نعم: أذا أصر بعض المؤمنين على هذه الممارسة التي وقعت محلا للخلاف والشجار ، وكان منشأ هذا الاصرار هو الحب الحسيني لاشي آخر ، فإن الحكمة تقضي لمن یری بانها ضررية او تستوجب هنكا للمذهب عدم تعميق الخلاف والتفرقة بين المؤمنين .
اذ الاختلاف في تشخيص الموضوعات و المصادیق لا يخلو منه باب من الأبواب الفقهية ، و تشخیص کل مکلف هو الذي ينبغي أن يتبع ، لاتشخيص الاخرين اذا كان مخالفة التشخيصه ، عصمنا الله وإياكم من الزلل والخطل ، وجمعنا تحت راية الحق والايمان ووحد الله بين قلوبنا وانفسنا.
كما يحبذ أن يكون العمل المتخذ مصداقا للحزن على الحسين عليه السلام - بعد إباحته بما هو هو وعدم كراهيته المشددة - تضمنه مایلی :
و
ص: 53
أن يكون مما له ثمرة دنيوية ودينية ، كإلقاء المحاضرات الدينية واطعام الطعام والتبرع بالدم للمحتاجين ، وإسقاط الديون والتصافي بين أفراد المجتمع ، بحيث تكون العشرة الأولى من المحرم موسما للتسامح والتساعد بين المؤمنين والشفقة والرحمة على المساكين والفقراء ، وموسما لتلقي وتفهم العقيدة والفكر الاسلامی ، وترك النزاعات والشقاقات الجانبية ، وبث الوحدة وروح الاخوة ، كل ذلك باسم الحسين ومن أجل الحسين وفي سبيل الحسين ، ولا ريب أن هذا مايريده الحسین علیه السلام.
ويتفرع على ذلك : ترك كل مصداق لافائدة منه غير كونه من الشعائر الحسينية ، والبحث عن مصادیق تتلاءم مع مقتضيات الزمان والمكان والتحولات الاجتماعية والثقافية والفكرية .
مع مراعاة أن بعض الشعائر الحسينية لاسبيل للعقل فيها، بل العاطفة هي الحاكمة ، ولذا نجد بعض المؤمنین عاطفته الابراز حزنه على الحسين لاتتجلي إلا في مصداق خاص دون غيره ، بحيث انه لو منع من ذلك المصداق الخاص لما استطاع ان يبرز حزنه على الحسين ، ولذا لايحق لنا أن نمنع الاخرين من تلك الأعمال والطقوس التي يبرزون بها حزنهم على الحسين عليه السلام تبعا لعواطفهم ، والتي لافائدة منها غير كونها مصداقا للحزن على الحسين اذا لم يصاحبها حرام شرعا.
ص: 54
فلكل طريقته الخاصة ، فبعض يعجبه ابراز حزنه على الحسين عن طريقالبكاء ، وبعض عن طريق اللطم ، وبعض عن طريق المجالس المتعارفة ، وبعض عن طريق لبس السواد ، والمنشأ في ذلك أن للعاطفة دور كبير جدا في الارتباط بالحسين عليه السلام وقضيته .
فإذا وقع بصر المؤمن على بعض الممارسات الحسينية التي منشأها العاطفة والتي في نظره لافائدة دنيوية ودينية منها غير كونها من مصادیق الحزن على الحسين ، لايحق له أن يعترض على ممارسيها بعدم الشرعية والجزم بحرمتها ومن ثم محاربتهم وخصامهم أو إجبارهم على تركها ، نعم غاية مايحق ويستحب له أن يبين لهم ماهو أكثر جدوائية وفائدة من هذه الممارسات والطقوس.
جعلنا الله وإياكم من خدمة الحسين دنيا واخرة ، والصلاة والسلام على محمد و آله الطاهرين واللعنة على أعدائهم الى قيام يوم الدين، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب .
بشار الداود
راضي حبيب
تم في شهر شوال لسنة 1420
الكويت
ص: 55
الشعائر الحسينية سنة أم بدعة
تعريف السنة لغة .......4
تعريف السنة شرعا .....5
تعريف البدعة لغة ........6
تعريف البدعة شرعا .....7
البدعة في تقسيم البدعة .... 9
حدود السنة والبدعة .......... 11
تطبيقات وأمثله ......... 15
الحزن على الحسين من السنة ....... 22
روایات بكاء الرسول (ص) وحزنه على الحسين .... 22
بكاء السماء واحمرارها حزنا على الحسين ... 32
كسوف الشمس لقتل الحسین ...... 37
الدم العبيط والحسين ... 37
الأدلة العامة على استحباب الحزن على الحسين ...... 39
تقييم الشعائر ........ 42
ص: 56
* البكاء على الحسين ....42
*رثاء الحسين ...... 43
* التصدق عن الحسين .......... 44
*لبس السواد ....... 45
*اللطم على الصدور .......... 46
الشرائط الواجبة للشعائر .... 47
الضرر والشعائر ......... 48
حكم إحتمال الضرر ...... 50
الاستهزاء والشعائر ...... 50
العسر والحرج والشعائر .... 51
الشرائط المستحبة للشعائر ... 53
السلام على الحسين
وعلى علي بن الحسين
وعلى أولاد الحسين
وعلى أصحاب الحسين
(ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )
ص: 57