التائب حبيب الله

اشارة

الكتاب: التائب حبيب الله

المؤلف: من إفادات سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى الشيخ بشير حسين النجفي

بقلم: سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة

الشيخ محمد الجاسم

الطبعة: السادسة/ صيف2011م-- 1432ه-

ال-ع-دد: 5000 نسخة

المطبعة: دار الضياء للطباعة.

الناشر: مؤسسة الأنوار النجفية (للثقافة والتنمية)

رقم الإيداع بدار الكتب والوثائق ببغداد (339) لعام 2012م

موضوع:توبه (اسلام)

موضوع:توبه کاران

موضوع:توبه (اسلام) -- جنبه های قرآنی

ص: 1

اشارة

التائب حبيب الله

ص: 2

التائب حبيب الله

من افاوات

سماحة آیة الله العظمی المرجع الدینی الکبیر

الشیخ بشیر حسین النجفی

دام ظله الوارف

بقلم

سماحة حجة الإسلام والمسلمين

العلامة الشيخ محمد الجاسم

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 5

ص: 6

قَالَ تَعَالَى:

«إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ»

البقرة/222.

«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَ-ئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً»

النساء/ 17.

ص: 7

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحیم

المقدمة

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ليكون للعالمين نذيراً والصلاة والسلام على من أُرسِل رحمةً للعالمين وعلى آله البررة الميامين واللعنة على شانئيهم إلى يوم الدين.

كان من لطف الخالق ورحمته بالعباد أن منحهم نعمة الوجود ليمهد لهم طريق الرقي إلى المراتب السامية والفوز بالقرب الإلهي فبعث الأنبياء والرسل وأنزل الكتب والصحف ليرشدهم بها إلى الأعمال والطرق التي تُقَرِّبُهم إليه وتزلفهم لديه قال الله سبحانه: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»((1)), وهو سبحانه غنيٌّ عن عبادة

ص: 9


1- -- سورة الذاريات/55.

العباد مصون ومرتفع عن أن تلوحه رشحة من أخطاء العباد أو تضره معصية العصاة، فكان من عطفه وحنانه أن أسكنهم في الدنيا وابتلاهم وامتحنهم بأنواع التكاليف لِيُمَحِّصَهم ويجلي نفوسهم ويُطَهِّر قلوبهم وكانت الحكمة البالغة وكان من مقتضاها أن يزلف إليه العباد من خلال المجاهدة والرياضة الروحية والنفسية, يزدلف من خلالها إلى رحاب رحمته ويفوز برضوانه فكانت هناك تكاليف دُعيَ العبدُ فيها إلى الالتزام بعقائد معينة ضمن الإيمان بالله سبحانه وبكتبه وبرسله وبالقادة والأولياء والأئمة المنصوبين من قبله كما شملت التكاليف الأعمال بالجوارح بينّها من خلال الوحي إلى أنبيائه ورسله وأوضحها الأئمة الطاهرون لتلامذتهم والعلماء الراشدين الذين استفادوا بنور هداهم، وكانت هناك تكاليف بتحريم بعض الأشياء لعلم خالق الكائنات بما تحتوي عليه تلك المحرمات من الأضرار والمصائب والحواجز بين العبد وبين مولاه، وكان من مقتضى حكمته أن أطلق يد العبد بعدما أبان له الخير من الشر وأوضح له الطرق المؤدية إليه ونَبَّهَهُ على المحرمات والمفاسد التي تُفسده وتُبعِده من جناب قدسه فأصبح العبد مختاراً فهداه السبيل, ليكون شاكراً باختياره وحسن سلوكه, أو كفوراً بقبح سيرته وسلوكه, ليهلك من هلك عن بينه ويحيى من حيّ عن بينة، فسبحان

ص: 10

المبدع الهادي العطوف الرحيم الذي لا ينضب بحر عطائه ولا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً أنه هو العزيز الوهاب.

لم تشأ ولم ترض رحمته الواسعة دون أن تنظر في انقاذ أولئك الذين تَكْبو بهم أنفسُهم وتزل أقدامهم أو تهبط بهم بطنتهم في مهاوي الرذيلة ومصائد الشيطان بسوء اختيارهم حين ينزلق في ظلمات المعاصي في العقائد أو في الفروع ففتح لهم أيضاً أبواب رحمته ومَهَّدَ لهم الطرق للعودة إلى أحضان عطفه فشرع لهم مناهل التوبة وسفن الاستغفار ليجوزوا بها إلى سواحل جوده وكرمه، فالتوبة بابٌ فتحه الله سبحانه لعباده الذين تَكَدَّرَت نفوسُهم بالضلالة والانحراف عن الطريق واسودت وجوههم بظلمات المعاصي فهتفت بهم الرحمة الإلهية لتبعدهم عن اليأس وتخيفهم من الله وتشجعهم على التفكير بالرجوع إليه تبارك وتعالى ويُزيح عنهم عناء السفر إليه بقوله: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً»((1)), ولم تكتف رحمته بالوعد بالمغفرة بل تجاوزت إلى ما لا يمكن ان يصل إليه عطف أي عاطف ورحمة أي رحيم وحنان أي حنين فأوجب عليهم التوبة والاستغفار

ص: 11


1- -- سورة الزمر/53.

ليقتربوا من ساحة قدسه مع خلق الرغبة فيهم الباعثة على التفكير في التوبة وتجهيزهم بالقدرة ومستلزمات العود إليه ومنحهم القوة وسد الذرائع وأزال الحواجز، فسبحانه سبحانه.

ص: 12

معنى التوبة والداعي إليها

التوبة بحسب مفهومها اللغوي عبارة عن الرجوع إذا كانت من العبد وإذا كانت من الله سبحانه فهي عبارة عن رجوع عطفه تعالى على العبد وشموله برحمته وعنايته وقبوله في سلك الخاضعين لأوامره ونواهيه.

لا شك في أن العبد حينما يرتكب المعاصي يسقط بها في واد سحيق من البعد عن جناب قدسه تعالى وربما يزيده غروراً وابتعاداً إدرار الرزق وسعته، فإذا رأى أموره مستوسقة ولم يحس بالعثرة في شيء من شهواته ورغباته في الدنيا فيستمر في تمرده وابتعاده عن باب المولى ويغفل عن أن ما لديه من نعم من الصحة والمال والأولاد واستقامة الأمور في حياته الدنيوية الدنية طرد له منه تعالى وربما يكون له استدراجاً كما قال الله سبحانه: «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ

ص: 13

حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ»((1))، فإذا أستمر العبد في غَيِّهِ وداوم في ضلالِهِ وبقي في طُرقِهما يكون عُرضةً لأن تخترمه المَنية وهو في تلك الحالة، وإليه يشير قوله سبحانه: «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ - فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»((2)).

اغترار العبد بمباهج الحياة الدنيوية ليس عزيزاً فإن النعم الدنيوية خلابة تستأسر حواس العبد فتزين له مسالك الغي ولكن الله سبحانه يحب عبده فمنحه نعمةَ الوجود ثُمَّ مَنَحهُ الصحةَ والسلامةَ وزوده بالحواس الظاهرية والباطنية ومنحه القوة على اختيار ما يَشاء كل ذلك من دون سَبْق استحقاق منه عليه سبحانه وتعالى، كلُ ذلك دلائل حُبِّهِ تعالى لهذا العبد ولم يتركه في فيافي الدنيا عرضةً لعواصف الشهوات لتلعب به كما تشاء وتدفعه إلى حيث تشاء بل مَنَّ عليه بالعقل الذي يُمَيِّز له بين الخير والشر وبين ما ينفعه وما يضره وبعث الرسل وانزل الكتب بل نَصَبَ في حياته اليومية في جميع منعطفات هذه الحياة علامات، ونَصَبَ له لافتات تنبهه إلى ما ينبغي أن يسلكه، فمثلاً الصحة والسقم، الولادة والموت، فيرى الإنسان قوافل من بني البشر كل يوم تدخل إلى الدنيا وقوافل تغادر

ص: 14


1- -- سورة القلم/44.
2- -- سورة الأنعام/ 44، 45.

هذه الحياة كل ذلك نُصب وعلامات تُذَكِّر العبدَ به تعالى وتُعلِّمَهُ بأنه لا يتمكن من أن يَفلت من قَبضَتِهِ تعالى وهو عائد إليه راجع إلى مبدئه، كُلُّ ذلك لَيَذْكُرَ العبدُ ما نَسيه تحت تأثير مباهج الدنيا الخلابة.

وإذا كان مقتضى حكم العقل السليم لزوم الابتعاد عن كل قبيح ولزوم الوصول إلى كل ما هو حسن ومطلوب فكان اللازم هو الالتزام بجادة الصواب والتمسك بطاعته تعالى كذلك يقتضي العقل السليم لزوم العود إلى ساحة العبودية والانضمام في سلك المطيعين ليخرج من الظلمات إلى النور، ومن هنا كانت التوبة من أبرز الواجبات على العبد.

وربما تُفَسَّرُ التوبة بالندم ولعله تفسير لها بما يدفع العبد إليها فإن العاقل حينما يلتفت إلى نفسه وما هو فيه من الضلالة والغّيّ وخُسران حياته في إطاعة شهواتِهِ وعبادةِ نفسه الأمارة بالسوء - «أفرأيت من اتَخَذَ إلهَهُ هواه»((1)) - نتيجة التذكير والتنبيه من الله سبحانه بالاستمرار وتواصل عطفه عليه لإنقاذه من الظلمات السحيقة -- أذا التفت العاقل إلى هذا - ينشأ منه الندم ويندفع إلى الأسف على ما فَرَّطَ في جَنْب رحمته وأتلف حياته سعياً في ابتعاده عن الله سبحانه، فبدافع تلك

ص: 15


1- -- سورة الجاثية/23.

القوة العاقلة يبحث عما يُعيد إليه ما فقد ويرجعه إلى ما أبتعد عنه فيكون الندم والحسرة والأسف بواعث له على عَودِهِ إلى حنان رحمته، فالمقتضي الأساسي والباعث الحقيقي هو إدراكه للخسارة التي اندفع إليها استجابةً لشهواته فيندفع إلى التفكير في كيفية عوده إلى الباري عز وجل.

ص: 16

شرائط التوبة

اشارة

قد عرفنا أن توبة العبد عبارة عن رجوعه إلى سلك العبودية وعوده إلى أحضانها وانخراطه من جديد في سلك المطيعين له تعالى وهي لا تتحقق إلا بأمور يُعَبَّر عنها بشرائط التوبة، وهي كثيرة نذكر الأهم منها والتي تشكل المحور الأساسي أو العمود الفقري للتوبة.

الشرط الأول:

اشارة

الندم على ما صدر منه من المعاصي وما ارتكبه من الآثام وتقحمت به نفسه الأمارة بالسوء فيه من العثرات.

والندامة عبارة عن أن يعصر قلبه على التحسر والأسى والغم والحزن وتقتحم هذه المعاني عمق قلبه فتستولي عليه فتفقده

ص: 17

الاستقرار والهدوء والطمأنينة فلا يجدها إلا في الرجاء لقبولِهِ تعالى له وسماحِهِ له بأن يقف على بابه في جملة السائلين الآملين عَفوهُ والراجين رحمته والخاضعين لأوامره.

فعن الإمام الصادق(علیه السلام) قال: قال أمير المؤمنين(علیه السلام): إن الندم على الشر يدعو إلى تَرْكِهِ.

وعن أبي جعفر الباقر(علیه السلام) قال: كفى بالندم توبة((1)).

وينبغي أن نعلم أن أهم مناشيء هذا المعنى من الندم أربعة:

المنشأ الأول:

أن يدرك فقدانه لمقامه في قلوب الناس وانعدام مكانته الاجتماعية، فإذا أحس بإعراض الناس عنه وأدرك أنه كاد أو يكاد أنْ ينبذَهُ الناس فيحسّ بالندم، فيرى نفسه تحت ضغط هذه الخسارة ويعتقد نفسه مطحوناً برحى الألسن التي تقرضه أينما أتجه.

ومثل هذا الندم يزيد العبد بُعْدَاً من الله سبحانه لأنه يكشف عن أنه استحوذ عليه حب الدنيا والجاه والمنزلة في قلوب الناس فهو في عمق بؤرة الفساد بخضوعه لعوامل هوى النفس بالرياء

ص: 18


1- -- أصول الكافي ج 2 باب الاعتراف بالذنوب والندم عليها ص 426 ح 1.

الذي هو قسم أو شعبة من شعب الشرك، وعن علي بن أبي طالب(علیه السلام): أنَّ يسيرَ الرياء شرك((1)

بل عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام): كل رياء شرك، أنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس، ومن عمل لله كان ثوابه على الله((2)).

وعنه(علیه السلام): في قول الله(عزوجل): «فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً»((3)) قال: الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه الله وإنما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يسمع به الناس فهذا أشرك بعبادة ربه، ثم قال: ما مِن عَبدٍ أسرَّ خيراً فذهبت الأيام أبداً حتى يُظهر الله له خيراً، وما مِن عَبدٍ يسرُّ شراً فذهبت الأيام أبداً حتى يُظهِر الله له شراً((4)).

وعنه(علیه السلام) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائرهم وتحسن فيه علانيتهم طمعاً في الدنيا لا يريدون به ما عند ربهم يكون دينهم رياءاً لا يخالطهم خوف يعمهم الله بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم((5)).

ص: 19


1- -- نهج البلاغة الخطبة 86.
2- -- أصول الكافي ج 2 باب الرياء ص293 ح 3.
3- -- سورة الكهف/110.
4- -- أصول الكافي ج 2 باب الرياء ص293 – 294 ح 4.
5- -- المصدر السابق ص 296 ح 14.

ويلحق بهذا النحو من الندامة في القبح والبشاعة حَسْرَةُ الإنسان وندامته على ما صدر منه خوفاً على فوت طريقه إلى الرئاسة الدنيوية ولو كان تحت غطاء ديني، فعن أبي الحسن(علیه السلام) أنه ذكر رجلاً فقال: أنه يحب الرئاسة، فقال: ما ذئبان ضاريان في غنم قد تَفَرَّق رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من الرئاسة((1)).

وعن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام): إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون فو الله ما خَفَقَتْ النعالُ خلف رجلٍ إلا هَلَكَ وأهلَكَ((2)).

الظاهر أن المقصود بمن أُشيرَ إليهم في هاتين الروايتين هو من طلب الرئاسة من دون استحقاق على غرار قول أمير المؤمنين (علیه السلام) (أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وانه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى..)((3))، وأما أهلُها فهم لا يحبونها بما هي وإنما يطلبونها كوسيلة لإحقاق الحق وإزهاق الباطل كما يشير إليه مولى المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) بقوله: (فو الذي فَلَقَ الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ومَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلا سَغَبِ مَظْلُومٍ لأَلْقَيْتُ

ص: 20


1- -- المصدر السابق باب طلب الرئاسة ص 297 ح 1.
2- -- المصدر السابق ح 3.
3- -- نهج البلاغة الخطبة 3، و بحار الأنوار ج 29 باب شكاية أمير المؤمنين(علیه السلام) ص497، والاحتجاج ج1 ص 192.

حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا ولأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ...)((1)).

ومن خطبة له(علیه السلام) عند خروجه لقتال أهل البصرة قال عبد الله بن عباس: دخلت على أمير المؤمنين(علیه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟

فقلت: لا قيمة لها.

فقال(علیه

السلام): (والله لهي أحب إليّ من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقاً أو ادفع باطلاً)((2)).

المنشأ الثاني:

أن ينتبه العبد بعدما ينغمر في المعاصي أو يسود محياه بقباحة الآثام ويتسم جبينه بميسم العتاة أنه قد أصبح محط غضبه تعالى ومستحقاً لعقابه وعتابه، فإذا مرَّت عليه آيةٌ من آياتِ العذاب أو استمع إلى كلمةٍ من واعظ ناصح أو مرشد صالح تبرز أمام عينيه شعل نار جهنم فيراها بعين البصيرة ويحس لظاها بإحساسه الباطني ويتعقل لفحاتها على حر وجهه ويستشعر المقامع من

ص: 21


1- -- المصدر السابق.
2- -- نهج البلاغة الخطبة 33.

حديد بأيدي ملائكة أشداء غِلاظ ينترونه ويأتيه الموت من كل مكان وهو في قعرها وليس بميت، فتتولد عنده الندامة والحسرة ويحس بعصرات الحزن على ما فَرَّطَ في جَنبِ الله ويشمله الخوف من سوء العاقبة.

إنَّها ندامةٌ حسنةٌ ولكن رجوعَهُ إلى طاعة الله بدافع هذه الندامة يجعله في عداد العبيد الذين يطيعون المولى مخافة عقوبته أو يتحاشون سوء منقلبهم، وهذه الندامة ممدوحة وإليها يشير قول أمير المؤمنين(علیه السلام) في وصفه للمتقين (فهم والنار كَمَن قد رآها فهم فيها معذبون)((1))، وجاء في ضمن كلامه(علیه السلام) في هذه الخطبة: (وإذا مَرّوا بآيةٍ فيها تخويف أصغوا إليها مسامِع قلوبِهِم وظنوا أنَّ زفيرَ جهنَّم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانُون على أوساطِهِم مُفتَرِشون لِجِباهِهِم واكفِهِم ورُكَبِهِم وأطراف أقدامِهِم يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم)((2)

وإليه يُشير قوله سبحانه: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ»((3))، وغير ذلك من الآيات التي تذكرنا قبح المنقلب للعصاة.

ص: 22


1- -- المصدر السابق الخطبة 191.
2- -- المصدر السابق.
3- -- سورة التحريم/6.

المنشأ الثالث:

أن ينتبه العاصي إلى ما فقده من الثواب واستحق الابتعاد والحرمان من الجنة ونعيمها وحورها وغلمانها وأنهارها وبساتينها ولذائذها ومشتهياتها لأنها تُزْلَف إلى المتقين فقط، فينظر إلى عظمة تلك النعم التي يشير إليها قوله تعالى: «وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً»((1)), وإلى هذا المعنى يشير كلام سيد الأوصياء(علیه السلام) في وصف المتقين: (فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون)((2)

فيدرك بعقله السليم بل يشاهد بالبصيرة التي جعلها الله تعالى حجة باطنة عليه انه قد خسر خُسراناً مبيناً وقد استحق الحرمان من تلك النعم وسعى في استبدال تلك النعم بلذة فانية عابرة أعقبته الحسرة وجعلته في قفص الحزن الشامل، ولا يدري كيف يستعيد استحقاقه لتلك النعم ولا يعلم مدى انتفاعه بالبكاء والحزن، فإن الندامة وان كانت أساس التوبة وقد وعد الله بقبولها وهو لا يخلف الوعد إلا أنه لا يدري ولا يحرز انه قد وُفِّقَ لتلك التوبة وبالمعنى المطلوبة هي منه، فلا يطمئن إليها فلا ترقأ له دمعة ولا تخف عليه وطأة الحسرة، وكم من عبدٍ صالحٍ انزلقت قَدَمُهُ إلى شيءٍ من المعاصي - فدامت

ص: 23


1- -- سورة الإنسان/20.
2- -- نهج البلاغة الخطبة 191.

حسرتُهُ واستمر بكاؤهُ وهو يعلم أنَّ من لم يرتكب المعصية خيرٌ مِمَّن ارتكبها واقتحمها - ثم يبكى ويسعى في طلب العفو ولا يضمن وصوله إليها.

المنشأ الرابع:

وهو أعلى واشرف من جميع المناشيء، وهو أن يتأمل العبد في نفسه وفيما ارتكبه واقتحمه وأنه استحق من المولى الطرد عن بابه وحُرِمَ قُربَهُ ورضاه ومُنِعَ من طَرْقِ بابه ومن الاقتراب إلى جنابه، فيرى بعين البصيرة عبادَ الله المخلصين قد مُنِحوا مراتبَ من قُربِهِ تعالى فيعصره الأسى والحزن ويتألم تحت وطأته ويتململ تململ السليم لأنه يرى نفسه مطروداً من جناب قُدسه منهياً عن محاولة الاقتراب منه قد أفقدته المعصية حلاوةَ المُناجاة معه تعالى وسَحبت من يده وسائل الارتقاء إلى معارج رحمته تعالى، فقد استحق فقدان الرضوان الإلهي الذي هو أحب إلى عباد الله سبحانه من الجنة واقرب إلى قلوبهم من الابتعاد من النار وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: «وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ»((1))، وروي عن المعصوم (سلام الله عليه) أنه قال: الجلوس في المسجد أحب إلي من الجلوس في الجنة

ص: 24


1- -- سورة التوبة/72.

لأن الجلوس في الجنة فيه رضا نفسي والجلوس في المسجد فيه رضا ربي وهو أحب إلي من رضا نفسي.

ينبغي أن يعلم أن أقرب الوسائل وأدنى الطرق الموصلة إلى الله سبحانه هو حُبّك له تعالى، وقد فُسِّرَ الحُبُّ بالميل إلى المحبوب واعتقد انه تفسير باللازم فإن واقِعَهُ عبارة عما يقتضي الميل والاندفاع إلى المحبوب والتقرب من جنابه فهو في الحقيقة عبارة هو التلاؤم والتناسب الخاص بين المحب والمحبوب الذي قد يكون تكوينياً ناشئاً من أفعال أو رياضات معينة وقد يكون منحةً من واهب الوجود ويترتب عليه التجاذب بين المتحابين أو الانجذاب نحو المحبوب والإدراك لكمال المحبوب ثم التأثر به فهو أيضاً متأخر رتبة عن أصل الحب، وقد يكون المحب منجذباً إلى شخص أو جهة ولكن ربما لا يتميز لديه من يوجد بينه وبين ذات المحب منشأ الانجذاب فيتوقف على المعرفة والتشخيص فربما يتخيل أن الحب متوقف على التشخيص والتعيين فبمقتضى التكوين يوجد بين العبد الممكن الوجود وبين واهب الوجود وباقي النعم ما يقتضي الانجذاب إليه ولكنه يجهل منبع تلك الخيرات فربما يعزوها إلى غيره أو يخلق بجهله الأنداد والشركاء لذلك الواهب فيضل، ومن هنا يتبين أن معرفة منبع كل خير وكل شرف تخلص الإنسان من

ص: 25

هذه الاشتباهات، ومن هنا نعرف مدى التشتت والوهم الذي انزلقت فيه الأفهام في مقام تعريف الحب وتحديد مغزاه.

تنبيه

قد تغلب دواعي الغريزة على العقل والنفس السليمة أو تستولي قوة الخيال فيتيه بصاحبه في دهاليز دوافع وقتية وظلمات اللذات الزائلة فيتخيل كل ما يلائم دواعي وبواعث اللذة المحسوسة من منظر حسن وصوت رخيم ومنظر رائق في العين أو تتأثر منه غريزة الجنس والنكاح فيكون منبع هذه الأمور جاذباً فينجذب إليها بعضٌ ويكون ذلك شبيهاً للحب الواقعي ويتبخر ذلك بعدما يُسفِر الليل عن صبحه فينكشف الواقع ويتقشع الظلام فيدرك الإنسان القباحة فيما تخيله جميلاً والمعاندة والمضادة بين نفسه وبين ما كان يعتقده ملائماً ومناسباً له فيدرك أن ما كان يعتقده ماءاً كان سراباً، ولا يمكن التخلص من حبائل الخيال ودوافع الغريزة إلا بالتوفيق والتسديد من الله سبحانه وتعالى، أو يكون الإنسان في المرتبة السامية كسيد الأوصياء(علیه السلام) فيقول: (إليك عني يا دُنيا فحبلك على غاربك قد انسللتُ من مخالبكِ وافلَتُ من حبائِلِكِ واجتنبتُ الذهابَ إلى مداحضِكِ، أين القوم الذين غَرَرْتِهِم بِمداعبكِ، أين الأمم الذين

ص: 26

فتنتِهم بزخارفك، هاهم رهائنُ القبور ومضامين اللحود، والله لو كُنتِ شخصاً مرئياً وقالباً حِسّياً لأقمتُ عَليكِ حدودَ الله في عِبادٍ غَرَرتِهم بالأماني وأُمَمٍ ألقيتِهم في المهاوي وملوكٍ أسلَمتِهم إلى التلف وأورَدتِهم مواردَ البلاء إذ لا وِرد ولا صدر، هيهات، من وطأ دحضك زلق، ومن رَكِبَ لجَجَك غرق، ومَن ازورّ عن حبائلكِ وُفِّقَ، والسالمُ مِنكِ لا يُبالي إن ضاقَ بهِ مَناخه والدنيا عِنده كيوم حان انسلاخُهُ، أعزبي عني فو الله لا أذلُ لَكِ فتستذليني، ولا أسلس لك فتقوديني، وأيم الله يميناً أستثني فيها بمشيئة الله لأروضنّ نفسي رياضةً تَهش مَعها إلى القُرص إذا قدرت عليه مَطعوماً وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نَضَبَ مَعينُها مستفرغةً دموعها، أتمتلئ السائمةُ من رعيها فَتَبْرُكَ وتَشبع الرَّبيضةُ من عُشبها وتربض، ويأكلُ عَليٌّ من زادِهِ فَيَهجَع! قُرّت إذن عَينُهُ إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعية، طوبى لِنفسٍ أدَّتْ إلى رَبِّها فَرْضَها وعَرَكَت بجبنها بؤسها، وهَجَرَت في الليل غَمضها حتى إذا غَلَبَ الكَرَى عليها افتَرَشَتْ أرضَها وتَوسَّدَتْ كَفَّها في مَعشَرٍ أسهَرَ عُيونَهم خوفُ مَعادِهِم، وتَجافَتْ من مَضاجِعِهم جُنُوبُِهُم،

ص: 27

وهَمْهَمَتْ بِذِكْرِ رَبِّهِم شِفاهُهُم وتَقَشَّعَتْ بِطُولِ استِغْفارِهِم ذُنُوبُهم، أولئكَ حِزبُ الله ألا أنَّ حِزبَ الله هُم المُفلِحون)((1)).

وإذا اتضح أن الحب هو التناسب والتلاؤم المؤدي إلى الانجذاب يظهر لك أن جل ما قيل في معناه يرجع إلى ذكر ما يترتب عليه فما نقل عن جمهور المتكلمين من إنَّ المحبة نوعٌ من الإرادة ومعلوم أنه لا تعلّق لها إلا بالحوادث، وما بُنيَ على هذا الكلام من إنَّ مَحبةَ العِباد لربهم محبةُ طاعتِه وابتغاء مرضاتِهِ واجتناب ما يوجب سخطه وعقابه ومحبة الله تعالى لعباده أرادة أكرامهم وان يُثيبَهم أحسن الثواب ويرضى عنهم ويصونهم عن المعاصي((2)) كلُ ذلك مما يترتب على الحب.

وهكذا تفسيره بأنَّه إدراكُ الكمال مِن حيث انه مؤثر، وكلما كان الإدراك أتم والمدرك أشد كمالية مؤثرة كانت المحبة أكمل((3))، فإنه أيضاً ممّا يترتب على المحبة، فإنَّ الإدراكَ المذكور فِعلٌ ينشأ عن مَنشأ وهو الحُب.

ص: 28


1- -- نهج البلاغة/ قطعة من كتاب إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري رقم الكتاب 45.
2- -- رياض السالكين ج2 ص254
3- -- المصدر السابق.

وهكذا التفاسير الأخرى المعروفة مثل المحبة هي أنمحاء القلب عما سوى المحبوب، وهو صريح في أن الحبَّ سابقٌ على الانمحاء، وكذلك قولهم المحِبةُ نارٌ تُحرِقُ ما سوى المُراد المحبوب، وقول آخر المحبة الموافقة في جميع الأحوال، وقول آخر المحبة بَذل المجهود والحبيب يفعل ما يريد، وقول آخر المحبة ميلُكَ إلى الشيء بِكُليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ثم موافقتك له سّراً وجهراً فيما سَرَّكَ أو ساءكَ ثم علمك بتقصيرك في حقِّه، وقول آخر المحبةُ ما لا تنقصه الإساءة ولا يزيده الإحسان ولا ينسيه القرب ولا يسليه البعد، فإنَّ هذه المعاني كلها تَنشأ عن مَنشأ وذلك هو عبارة عن الحب.

ثم أعلم انه قد أفاد بعض الأجلاء ان الحب تابع للمعرفة والإدراك فينقسم بحسب انقسام المُدرَكات والحواس فلكل حاسة إدراك لنوع من المدركات ولكل واحدة منها لذة في بعض المدركات وللطبع بسبب تلك اللذة ميل إليها فكانت محبوبات عند الطبع السليم، فَلَذةُ العين في الإبصار وإدراك المبصرات الجميلة والصور المليحة، ولَذة الأذن في النغمات الطيبة الموزونة، ولَذة الشم في الروائح الطيبة، ولَذة الذوق في الطعوم، ولذة اللمس في اللين والنعومة، ولمّا كانت هذه المُدرَكات بالحواس ملذة كانت محبوبة أي كان للطبع السليم ميل إليها، واستشهد بقولٍ منسوب إلى

ص: 29

النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله): حُبِّبَ إليَّ من دُنياكم ثلاث الطيب والنساء وجُعلت قُرة عيني في الصلاة((1)).

ثم دَخَلَ في توضيح أسباب الميل وذَكَرَ مِنها ميله إلى دوام وجوده ونفوره عن عدمه وهلاكه، ومنها الإحسان وان الإنسان عبد الإحسان وقد جُبِلَت القُلوب على حُب من أحسن إليها، وأيَّدَهُ بما روى عن رسول الله(صلی الله علیه و آله) انه قال: (اللهمَّ لا تجعل لفاجر عليَّ يَداً فيحبه قلبي)((2))، ومنها ميل الإنسان لذات المحبوب لجماله وحسنه، ومنها المناسبة الخفية بين المُحِب والمَحبوب إذ رُبما تتأكد المحبة بين شخصين بمجرد تناسب الأرواح، ونُسِب إلى النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) الأرواحُ جُنودٌ مُجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.

ثم أفاد بان هذه الأسباب كلها مجتمعة بنحو آكد في ذات الباري، فهو الأحق بالحب لأنه هو المحسن الحقيقي وهو الجميل بالجمال الواقعي وهو السبب الأساسي لوجودك، وأطال الكلام في إثبات هذه المعاني.

ولكن ينبغي أن يُعلَم انه (رضوان الله عليه) أرجع أسباب الحب إلى ما يترتب عليه الميل ثم جعل تلك الأسباب مناشيء اللذة المتولدة

ص: 30


1- -- المحجة البيضاء ج 8 ص 8-- 9.
2- -- البحار ج 83 باب التعقيب المُختص بصلاة الفجر ص 186، وأخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث معاذ.

من الإدراك، وإذا تأملت في معنى الحب وجدتَ ان الإدراك واللذة من توابعه وليس من أسبابه.

ثم لا يكاد ينقضي تعجبي من انه كيف يجعل حب الإنسان الحقيقي للخالق وميله إليه تعالى بدافع اللذة بأي معنى فسرت اللذة.

هذا، والذي ينبغي أن يُقال أن الحب هو ما قلناه من انه تلاؤم وتناسب يؤدي إلى الجذب والانجذاب وهذا أمر تكويني يحصل في بعض مراتبه بالقضاء والقدر والبعض الآخر بالكسب بالعبادات والطاعات والرياضات المؤدية إلى ذلك المعنى الذي اشرنا إليه، ولجهلنا بالطرق التي تؤدي بنا إلى ذلك المعنى يجب أن نتلقى الطرق والرياضات من واجب الوجود وهو إحدى الحكم والأسباب التي تقتضي أن تكون العبادات توقيفية، ولعله إليه يشير الحديث القدسي: (من أهان لي وليا فقد أرصد لمحاربتي، وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته، وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن موت

ص: 31

المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته)((1))، وكذلك ما روى: عبدي اطعني تكن مثلي....

هذا ملخص الشرط الأول أعني الندم.

الشرط الثاني:

ترك المعصية في الحال والعزم على أن لا يعود إليها في الاستقبال.

اعلم يا أخي ان ترك الذنب والعزم على عدم العود بل وكذلك الندم لا يتحقق شيءٌ منها إلا بعد معرفة الذنب والذنوب على جملتها تنقسم إل قسمَيْن:

احدهما: الجلي، وهو الذي نعرفه أو يمكن معرفته ضمن الذنوب المنصوص عليها شرعاً والممنوع منها على لسان الصادع بالشرع المقدس، وقد سطرها العلماء وفسرها الفقهاء في الكتب المفصلة والمختصة بها.

القسم الثاني: الخفي، وهو الذي يرتكبه الإنسان لقبح سريرته وسوء سيرته فيعود إلى قبح مآله ومنقلبه وفي معظم الأحيان يبقى

ص: 32


1- -- أصول الكافي ج2 باب من آذى المُسلمين واحتقرهم، ص352 ح8.

غافلاً عنها طول حياته إلا من عصمه الله ونَبَّهَهُ على غفلته وأمسكت به يد رحمته وعطفه فمنعته عن عثرته وحالت دون كبوته.

وهو أنه كثيراً ما يرى العبد نفسه منشغلاً في العبادة ومتعباً نفسه وساحقاً لذاته ومتلفاً لأوقاته وباذلاً لمهجته فيها إلا أنه يأتي بها على انها عبادة في زعمه ولكنها تكون معصية في لبها وواقعها فلا يزداد مهما طال أمده فيها إلا بُعداً عن الله سبحانه وذلك انه إذا أتى بمأمور به واعتقد أو احتمل في حق نفسه انه أتى بما هو مطلوب منه شرعاً أو هو مُلزَم به عقلاً، فإذا حاسبتَ نفسك يا أخي وَجَدْتَ أن جل أعمالك تدخل في هذا المعنى، فتعتقد انك توضأتَ بالوضوء المأمور به أو اغتسلتَ بالغسل المطلوب وقُمتَ في مُصلاك فأتيتَ بالصلاة المطلوبة فإن نفس الاحتمال فضلاً عن الاعتقاد والجهل الذي يعيشه الجهال والتائهون في فيافي العمر والضلالة خوض او انزلاق في مهوى المعاصي وخروج عن حدود العبودية والطاعة إذ تجعلك في عالم الاحتمال فضلاً عن الاعتقاد انك بالمستوى المطلوب، وهذا المعنى لم يعتقده حتى المعصوم (سلام الله عليه)، فجاء في بعض الأدعية المروية عن زين العابدين (علیه السلام): (اللهمَّ إن أحداً لا يبلغ من شكرك غايةً إلاّ حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكراً، ولا يبلغ مبلغاً من طاعتك وإن اجتهد إلاّ كان مقصراً دون استحقاقك بفضلك، فأشكُرُ عبادك عاجزٌ عن شُكركِ، وأعبدُهم مُقَصرٌ عن

ص: 33

طاعتك، لا يجب لأحد أن تغفر له باستحقاقه، ولا أن ترضى عنه باستيجابه، فمن غفرتَ له فبطولك، ومن رضيتَ عنه فبفضلك)((1)).

وإلى هذا المعنى يشير سيد الشهداء (علیه السلام) في دعائه يوم عرفة: (لو حاولتُ واجتهدتُ مدى الأعصار والأحقاب لو عمرتها أن أؤدي شكر واحدةٍ من نعمائك ما استطعتُ ذلك إلا بِمَنِّكَ الموجب عليّ به شكرك أبداً جديداً وثناءاً طارفاً عتيداً، أجل لو حرصتُ أنا والعادّون من أنامك أن نُحصي مدى إنعامك سالفه وآنفه ما حصرناه عدداً ولا أحصيناه أمداً، هيهات أنى ذلك وأنت المُخبِرُ في كتابك الناطق والنبأ الصادق «وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا»((2)) صدق كتابك اللهمَّ وإنباؤك وبَلَّغت أنبياؤك ورسلك ما أنزلت عليهم من وَحيك وشرَعت لهم وبهم من دينك)((3)).

ولو تأملتَ يا أخي في جل عباداتك لوجدتَ خُطور هذا الاحتمال القبيح في مبدئها أو وسطها أو منتهاها وهو مبدأ العجب الذي يُهلِكُ كُلَّ من ابتلى بهِ، وان نظرتَ بعين العقل وحَكَّمتَ ضميرك لَدريتَ أن كُلَّ عباداتِك تصب في قالب هذه المعصية ومن

ص: 34


1- -- الصحيفة السجادية من دعائه عليه السلام إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر.
2- -- سورة النحل آية 18.
3- -- راجع كتب الأدعية ومنها مفاتيح الجنان في أعمال يوم عرفة.

ثم تعرف مدى عَطفه وإحسانه تعالى في إغضائه عنك وحَشْرِك في ضمن المطيعين وتركه لك أن تقف في صفوف عباده الصالحين، ويسمح لعباده أن يسموك بسمات الصالحين كالمصلي والصائم والمتعلم والعالم وهو يعلم ما أنت وفيما فيه أنت.

ثم استمرارك في هذه الاحتمالات فضلاً عن الاعتقادات استمرارٌ في الغيِّ واستدامةٌ في الضلالة، ولهذا يتبرأ المتقون عن مثل هذه الاحتمالات ويطلبون من الله النجدة والعون للتخلص من مهاوي عواقب هذا الاعتقاد كما أشار إليه سيد الأوصياء(علیه السلام): (حتى إذا زكي احدهم خاف مما يقال له فيقول أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم بي مني بنفسي، اللهمَّ لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون)((1)).

واعلم يا أخي أنه قد تقدم أن التوبة لغة هي الرجوع عن الذنوب إلى ستار العيوب وعلام الغيوب ولكن الرجوع يختلف باختلاف المعاصي فما كان من الذنب الذي يعتبر معصية بين العبد وبين ربه مثل ترك الصلاة والصوم والواجبات الخاصة به فالرجوع من هذا القسم يتم بالندم على ما صدر والعزم على عدم تكرار ما كان قد ارتكبه، وهذا القسم ينقسم إلى قسمين:

ص: 35


1- -- نهج البلاغة من ضمن خطبة همام المعروفة في صفات المتقين، رقم 191.

احدهما: أن لا يكون للمعصية تدارك في مقام العمل، يعني لا يجب القضاء فيكفي في الرجوع عن مثله الندم والعزم والاستغفار وهو أن يطلب من الله سبحانه أن يتجاوز عما فعل، وستأتي الإشارة إلى معنى الاستغفار.

القسم الثاني: ما يمكن تداركه فيجب فيه القضاء كالصلاة والصوم والحج، فانه من ترك شيئاً من هذه الواجبات فلا تتحقق التوبة إلا بالندم بالمعنى المتقدم والعزم على الالتزام بجادة الصواب وطريق الطاعة وقضاء ما فاته من الواجبات، هذا ما كان من المعاصي بين العبد وبين ربه، والأمر فيه إذا لم يكن شركاً أهون من القسم القادم فإن العفو فيه أرجى وأقرب، فقد روى في الكافي مرفوعاً إلى أمير المؤمنين (سلام الله عليه): الذنوب ثلاثة فذنب مغفور وذنب غير مغفور وذنب نرجو لصاحبه ونخاف عليه، فقيل يا أمير المؤمنين فبَيِّنها لنا، قال: نعم، أما الذنب المغفور فعبد عاقبه الله على ذنبه في الدنيا فالله تعالى أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرتين.

وأما الذنب الذي لا يغفره فظلم العباد بعضهم لبعض أنَّ الله إذا برز لخلقه اقسم قسماً على نفسه وقال وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كف بكف ولو مسحة بكف ولو نطحة ما بين القرناء

ص: 36

إلى الجمّاء، فيقتص للعباد بعضهم من بعض حتى لا تبقى لأحدٍ على أحدٍ مظلمة، ثم يبعثهم الله للحساب.

وأما الذنب الثالث فذنبٌ ستره الله على خلقه ورزقه التوبة منه فاجمع خائفاً من ذنبه راجياً لربه، فنحن له كما هو لنفسه نرجو له الرحمة ونخاف عليه العذاب((1)).

والقسم الثاني من الذنوب الذي يتعلق بالعباد وحقوهم كترك الزكاة وقتل النفس وغصب الأموال المحرمة وشتم الأعراض وكل تناول من حق الغير، ومن ذلك أيضاً تناول الدِّين من الإغواء والبدعة والترغيب في المعاصي وتهييج أسباب الجُرأة على الله كما قد يفعله بعض الوعاظ فيغلب جانب الرجاء على جانب الخوف فيصير سبباً لضياع حقوق الناس عليه من الهداية والإرشاد إلى طريق النجاة وهو يضلهم، وقد روي أن من كان سبباً لضلال أحد لن يُغْفَرَ له حتى يهدي من أضله.

وهذه المعاصي التي لها علاقة بالعباد فمظالم العباد ولابد أن يطالب بها حتى يتخلص منها، فالتوبة عن مثل هذه الذنوب لا تتحقق إلا بالخروج من تلك الحقوق كما تشير إليه الرواية المتقدمة وروايات أخرى منها ما رواه الكليني (رضوان الله عليه) عن أبي

ص: 37


1- -- أصول الكافي ج2 باب (في أن الذنوب ثلاثة) ص443 ح1.

جعفر الباقر (سلام الله عليهما): قال الظلم ثلاثة، ظلمٌ يغفره الله وظلم لا يغفره الله وظلم لا يدعه الله، فأما الظلمُ الذي لا يغفره فالشرك، وأما الظلم الذي يغفره فظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله، وأما الظلم الذي لا يدعه فالمداينة بين العباد((1)).

وروى الصدوق (رضوان الله عليه) عن الإمام الصادق(علیه السلام) الرواية المذكورة وزاد: ما يأخذ المظلوم من دين الظالم أكثر مِمّا يأخذ الظالم من دنيا المظلوم((2)).

وروى علي بن إبراهيم عن شيخ من نخع قال: قلت لأبي جعفر(علیه السلام) إني لم أزل والياً من زمن الحجاج إلى يومي هذا فهل لي من توبة؟ قال: فسكت، ثم أعاد عليه فقال: لا، حتى تؤدي إلى كل ذي حق حقه((3)).

وروي عن الإمام الصادق(علیه السلام) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): من اقتطع مال مؤمن غصباً بغير حق لم يزل الله معرضاً عنه ماقتاً لأعماله التي يعملها من البر والخير لا يثبتها في حسناته حتى يَردّ المال الذي أخذه إلى صاحبه((4)).

ص: 38


1- -- وسائل الشيعة باب 52 وجوب رد المظالم إلى أهلها ح 1.
2- -- المصدر السابق ح 20.
3- -- المصدر السابق ح 3.
4- -- المصدر السابق ح 6.

تنبيه:

اعلم يا أخي انه ليس في الوجود صاحب حق عليك أحق وأليق وأحرى لأن تسعى في أداء حقه والخروج من عهدة ما مَنَّ به عليك مِن الله سبحانه وتعالى، فإنَّ أول حقوقه هو نعمة الوجود وما منح لك من توابعه من النعم الظاهرة والباطنة، ومِن ابرز ذلك انه سبحانه دعاك إلى الشكر ووعدك بالمزيد ان سلكت طريق الشاكرين قال تعالى: «لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ»((1)), ولو تأملت في نعمه تعالى وأدركت انك لا تستطيع شكر شيء إلا بتأييد وإرشاد وتوفيق منه وبما أعطاك من القدرة لعلمت أن ذلك يكشف لك مزيد استحقاقه للشكر، ومن هنا اعترف الأنبياء والأئمة والصلحاء بالعجز عن كمال الشكر ولذا قيل كل نعمة يمكن شكرها إلا نعمة الله تعالى فإن غاية شكرها الاعتراف بالعجز عنها وذلك أن شكر نعمته مِنَّةٌ فيجب على العبد شكرها ثم عليه الشكر على الشكر وهكذا إلى ما لا ينتهي، وما لا نهاية له فنهايته في بدايته، فينبغي أن يسند العبد من الابتداء إلى العجز ظهرَهُ ويبني على الاعتراف بالتقصير أمره فيكون معرفة التقصير من الشكر شكراً وإلا فأنى يبلغ العباد شكر الرب الجواد وأين يقع الحالي من الأزلي والذي لا يبقى من الذي لا يفنى بل

ص: 39


1- -- سورة إبراهيم/7.

الجزء الذي في حكم ما لا يتجزأ من الشيء الذي لا يتناهى((1))، ومِن هنا نعرف عجزنا عن حق عبادته كما يستحق، ومِن عجزنا عن أداء حقوق الله في الشكر والعبادة والطاعة والانجذاب إلى حرم قدسه وحمى عطفه نعرف عجزنا عن حقوق الأنبياء والأئمة المعصومين(علیهم السلام).

وأما حقوق الناس فقد اشرنا إلى المالية منها، وأما حقوقهم غير المالية فإن كان إضلالاً وجب الإرشاد، وان كان قصاصاً وجب إعلام المستحق له وتمكينه من استيفائه فيقول له أنا الذي قتلتُ أباك فان شئتَ القصاص فاقتص مني وان أحببت العفو فاعفُ عني، وان كان حداً كما في القذف فإن بلغ المقذوف مثلاً وجب التمكين وان لم يبلغه فهل يجب إعلامه به أو لا؟

وجهان، مِن كونه حقَ آدمي فلا يسقط إلا بإسقاطه، ومن كون الإعلام تجديداً للأذى وتنبيهاً على ما يوجب البغضاء، ومثل هذا يجري في الغيبة أيضاً((2)).

وخير للعبد أن يستعين بالخالق القادر المطلق على التخلص من أصحاب الحقوق ولذلك ورد في دعاء الإمام السجاد (سلام الله عليه): (اللهمّ وأيما عبد من عبيدك أدركه مني دركٌ أو مسه من ناحيتي أذى أو لحقه بي أو بسببي ظلمٌ ففتُه بحقه أو سبقتُه بمظلمتِهِ،

ص: 40


1- -- نقل ذلك في رياض السالكين ج3 ص234.
2- -- يظهر من المحقق الطوسي وتلميذه العلامة طاب ثراهما عدم وجوب الإعلام.

فَصَلِ على محمد وآله وأرضه عني من وُجدك، وأوفه حقه من عندك، ثم قني ما يوجب له حكمك، وخلِّصني ممّا يحكم به عدلُك فإنَّ قوتي لا تستقل بنقمتك، وان طاقتي لا تنهض بسخطك، فإنك أن تكافني بالحق تهلكني، وإلا تغمدني برحمتك توبقني)((1)).

إن حقوق المؤمن عبارة عن تلك التي توجبها أخوة الإيمان وهو الذي أشار إليه الإمام أبو عبد الله الصادق(علیه السلام): ما عُبِدَ الله بشيءٍ أفضل من أداء حق المؤمن((2))، وقد عَقَدَ في الكافي ثقة الإسلام الكليني (رضوان اله عليه) باباً عنونه باب حق المؤمن على أخيه المؤمن وأداء حقه، وإليك يا أخي بعض تلك الروايات:

فمنها ما رواه بسنده عن المعلى بن خنيس عن الصادق(علیه السلام) قال: قلتُ له ما حق المسلم على المسلم؟

قال: له سبع حقوق واجبات ما منهنّ حقٌ إلا وهو عليه واجب، إن ضَيَّعَ شيئاً منها خرج من ولاية الله وطاعته ولم يكن لله فيه نصيب.

قلتُ له: جعلت فداك وما هي؟

قال يا معلى إنّي عليك شفيق، أخاف أن تُضَيِّع ولا تَحفظ وتَعْلَم ولا تعمل.

قال قلتُ: لا قوة إلا بالله.

ص: 41


1- -- من أدعية الصحيفة السجادية الدعاء التاسع والثلاثين.
2- -- أصول الكافي ج2 باب حق المؤمن على أخيه وأداء حقه ص170 ح4.

قال: أيسرُ حقٍ منها أن تُحبَ له ما تُحبُ لِنفسك وتكره له ما تكره لنفسك، والحق الثاني أن تجتنب سخطه وتتبع مرضاته وتطيع أمره، والحق الثالث أن تُعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك، والحق الرابع أن تكون عينه ودليله ومرآته، والحق الخامس أن لا تشبع ويجوع ولا تروى ويظمأ ولا تلبس ويعرى، والحق السادس أن

يكون لك خادم وليس لأخيك خادم فواجب عليك أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهد فراشه، والحق السابع أن تَبر قَسَمَهُ وتُجيب دعوتَهُ وتَعود مَريضَهُ وتَشهد جنازتَهُ وإذا عَلِمتَ أن له حاجة تبادره إلى قضائها ولا تُلجئه إلى أن يسألكها ولكن تبادره مبادرةً، فإذا فعلتَ ذلك وَصَلْتَ وِلايتَكَ بِولايتهِ ووِلايتَهُ بِوِلايَتِكَ((1)).

وعن أبي عبد الله(علیه السلام): مِن حق المؤمن على أخيه أن يشبع جوعته ويواري عورته ويفرج عنه كربته ويقضي دينه وإذا مات خلفه في أهله وولده((2)).

وعن الإمام الصادق (سلام الله عليه): من حق المؤمن على المؤمن المودة له في صدره، والمواساة له في ماله، والخلف له في أهله، والنصرة على من ظلمه وان كان نافلةًً في المسلمين وكان غائباً

ص: 42


1- -- المصدر السابق ص 169 ح 2.
2- -- المصدر السابق ح 1.

اخذ له من نصيبه، وإذا مات الزيارة إلى قبره، وان لا يظلمه، وان لا يغشه، وان لا يخونه، وان لا يخذله، وان لا يكذبه، وان لا يقول له أفّ، وإذا قال له أف فليس بينهما ولاية، وإذا قال له أنت عدوي فقد كفر احدهما، وإذا اتهمه إنماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء((1)).

وروى محمد بن عجلان قال كنت عند أبي عبد الله الصادق (سلام الله عليه) فدخل رجل فسلَّم، فسأله كيف من خلفت من أخوانك، قال: فأحسن الثناء وزكى وأطهر، فقال: فكيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم، فقال: قليلة، قال: وكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم، قال: قليلة، قال: فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم، فقال انك لَتَذكر أخلاقاً ما هي في مَن عندنا، قال: فكيف تزعم هؤلاء أنهم شيعة((2)).

وروى الشهيد الثاني (رضوان الله تعالى عليه) في كتابه كشف الريبة في أحكام الغيبة بسند له عن أمير المؤمنين(علیه السلام) انه قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله) للمؤمن على أخيه ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلا بالأداء أو بالعفو، يغفر زلته، ويرحم غربته، ويستر عورته، ويُقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خِلته، ويرعى ذمته،

ص: 43


1- -- المصدر السابق ص 171 ح 7.
2- -- المصدر السابق ص 173 ح 10.

ويعود مرضته، ويشهد ميته، ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويسمت عطسته، ويرشد ضالته، ويرد سلامه، ويطيب كلامه، ويبر انعامه، ويصدق أقسامه، ويواليه ولا يعاديه، وينصره ظالماً ومظلوماً فأما نصرته ظالماً فيرده عن ظلمه وأما نصرته مظلوماً فيعينه على اخذ حقه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه ويكره له من الشر ما يكره لنفسه، ثم قال علي(علیه السلام) سمعتُ رسول الله(صلی الله علیه و آله) يقول إن أحدكم لَيدع مِن حقوق أخيه شيئاً فيُطالبه به يوم القيامة فيُقضي له عليه((1)).

وعن أبي عبد الله الصادق (سلام الله عليه) حدثني أبي عن آبائه عن علي (علیه السلام) عن النبي (صلی الله علیه و آله) انه قال: أدنى الكفر أن يسمع الرجل عن أخيه الكلمة فيحفظها عليه يريد أن يفضحه بها أولئك لا خلاق لهم((2)).

وهذه المعاني بارزة في دعاءٍِ الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) حيث قال: اللهم إني اعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره، ومن معروف أُسدي إليّ فلم اشكره، ومن مُسيء اعتذر إلي فلم اعذره، ومن ذي فاقة سألني فلم أوثره، ومن حق ذي حق لزمني

ص: 44


1- -- كشف الريبة في أحكام الغيبة ص115.
2- -- كشف الريبة في أحكام الغيبة ص130.

لمؤمن فلم أوقره، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم استره، ومن كل أثمٍ عرض لي فلم أحجره((1)).

الشرط الثالث:

أن لا ينسى الإنسان ذنوبه ويتذكرها دائماً ليكون على خوف ووجل من مؤاخذة الله له إن لم تقبل توبته لقصور أو تقصير في أداء معناها فيظل الندم يعصر قلبه فيحثه على الابتعاد عن مخالب الشيطان وحبائل نفسه الإمارة بالسوء، وقد روى الكليني (رضوان الله عليه) عن بعض أصحاب الإمام الصادق(علیه السلام) قال: سمعته يقول إن الرجل ليذنب الذنب فيدخله الله به الجنة.

قلت: يدخله الله بالذنب الجنة؟

قال: نعم، انه يذنب فلا يزال خائفاً ماقتاً لنفسه، فيرحمه الله فيدخله الجنة((2)).

ويستفاد من بعض الروايات إن الله سبحانه لا يترك عبده المؤمن ليغفل عن ذنوبه ومعاصيه ليستمر في الندم على ما صدر منه والرجاء للمغفرة منه، ففي مقام التوبة ينبغي للعبد أن يذكر ذنوبه يقرّ بها ويعترف بتقصيره تجاه

ص: 45


1- -- الدعاء الثالث والثلاثون من الصحيفة السجادية.
2- »1«-- أصول الكافي ج 2 باب الاعتراف بالذنوب والندم عليها ص 426 ح 3.

سيده، وقد روي أن الاعتراف بالذنوب مع الندم مقارناً لطلب العفو والتجاوز يجلب المغفرة من الله ويستجلب رحمته تعالى، فقد روي عن الإمام الباقر (سلام الله عليه) قال: والله لا ينجو من الذنب إلا من اقرَّ به((1)).

وكذلك روي عنه(علیه السلام) لا والله ما أراد الله من الناس إلا خصلتين، أن يقروا له بالنعم فيزيدهم وبالذنوب فيغفرها لهم((2)).

وعن الإمام الصادق(علیه السلام) انه قال: إنَّ الله يحب العبد أن يطلب إليه في الجرم العظيم ويبغض العبد أن يَستَخف بالجرم اليسير((3)).

وروي عن الإمام الصادق (سلام الله عليه) والله ما خرج عبد من ذنب بإصرار وما خرج من ذنب إلا بإقرار((4)).

والذي توغل في المعاصي واستولت ظلمة ذنوبه على نور عقله واسودَّ باطنه وأبعد في اقتحامه للموبقات يغفل عما صدر منه من الموبقات فلا يعرف أولئك الذين أكل أموالهم أو هتك أعراضهم أو أباح دماءهم أو تورط في قتلهم وينسى المؤمنين الذين اغتابهم أو ارتكب الفضائح تجاههم أو المعاصي التي توغّل فيها بينه وبين ربه، فربما تجده موفور النعمة واسع الحال يرعى في نعم الله سبحانه ليلاً ونهاراً غافلاً عن انه استدراج، وإلى مثل

ص: 46


1- -- المصدر السابق ح 1.
2- -- المصدر السابق ح 2.
3- -- المصدر السابق ص 427 ح 6.
4- -- المصدر السابق ص 426 – 427 ح 4.

هؤلاء يشير قوله سبحانه: «فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ»((1))، وإلى مثل هؤلاء يشير قوله سبحانه أيضاً: «سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ»((2)).

وهذا لا يعني انه قد أغلق في وجهه باب التوبة بل يعني ذلك انه لسوء اختياره وقبح سريرته قد صرف وجهه عن رحمة الله تعالى وأسلس نفسه لقيادة الشيطان واستولت عليه شقوته التي اختارها بمحض إرادته إلا أن الله سبحانه لا يقطع رحمته عنه فيوقفه بين حين وآخر على ما يمكن أن يهتدي به ليكون له تعالى الحجة البالغة عليه ولا يكون لعبده حجة عليه.

الشرط الرابع:

أن يبتعد عن تلك الظروف التي كان يعيشها أيام المعصية وكانت تشجعه وتسهل له سبل المعاصي وينفصل عن أولئك الناس الذين كان معهم أيام المعاصي لئلا يذكروه بتلك اللذة الخيالية التي كان يستأنس بها حين ارتكاب المعاصي ولعل إلى هذا المعنى يشير قوله

ص: 47


1- -- سورة الأنعام/44.
2- -- سورة الأنعام/44.

تعالى: «رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَ-ذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا»((1))، نعم أن كانت تلك المجموعة تابت ورجعت إلى أحضان الله تعالى فالبقاء حينئذٍ معهم ربما يساعده على الاستمرار في التوبة والاستغفار فذلك أمر آخر.

الشرط الخامس:

أن يتدارك ما فاته من العبادات أيام الصبوة والمعاصي من صلاة وصوم وغيرهما من العبادات، بل يسعى في تكرار ما قد أداه من تلك العبادات زيادة في الاحتياط لدينه إذ لا يعلم قبول تلك الأعمال، بل العبد العادي غير المعصوم يحتمل أن لا تكون أعماله صحيحة فيعيدها، بل قد فعل هذا المعنى غير واحد من علمائنا الأجلاء، فروي أن العلامة الحلي (أعلى الله درجاته في عليين) أعاد صلواته كلها ثلاث مرات ثم أوصى ولده فخر المحققين (رضوان الله عليه) بإعادة صلواته وصومه زيادةً في الاحتياط، وهكذا كانت وصية سيدنا الأعظم السيد أبو القاسم الخوئي إلى نجله العلامة السيد محمد تقي الخوئي (رضوان الله تعالى عليهما)، بل حتى ولو علم أن صلاته مثلاً كانت صحيحة مع ذلك يكفى في إعادتها جلباً للاحتياط

ص: 48


1- -- سورة النساء/75.

أنها لم تكن كما ينبغي مع التوجه والالتفات وحضور القلب بالنحو المطلوب من العبد ومعلوم انه قد ورد انه لا يقبل من الصلاة إلا ما كان مع الإخلاص والتوجه إلى الله سبحانه.

ثم من هذه المعاصي مما له ارتباط بالعباد قد لا تكون متعلقة بالأموال بل تكون متعلقة بالأنفس والأعراض كأن يكون قد اغتاب أحداً أو طعنه بتهمة أو قَلَّلَ من قدره في مورد من الموارد فلا عذر له ولا يستحق الغفران من الله سبحانه ما لم يستوهب ذلك ممن أساء إليه إذا كان ذلك ممكناً ولو اقتضى ذلك الخضوع والاعتراف بالمعصية أمام ذلك الذي ظُلِمَ بهذه الأعمال فإن الخضوع لحظة أمام بعض عباد الله أهون وأسهل من خزي يوم القيامة فانه ربما يعده بعض الجهال عاراً ولكن قد قال سيد الشهداء (سلام الله عليه):

الموت أولى من ركوب العار

والعار أولى من دخول النار

ولا عار ولا خزي فوق خزي دخول النار، قال الله سبحانه حكاية عن دعاء المؤمنين المخلصين: «رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ»((1)).

ص: 49


1- -- سورة آل عمران/192.

الشرط السادس:

أن يطلب من الله العفو والغفران مع الاعتراف بالتقصير ويستمر في ذلك.

واعلم يا أخي إن الاستغفار عبادة ولا يخلو العبد العادي من وجوبه لعدم خلوه من المعاصي والمزالق وهو وإن وجب الرجاء من الله سبحانه إلا أنه ينبغي أن نعلم إنَّ ما فات العبد من عمره أثناء المعصية لا يمكنه تداركه فان ما يفعله من الاستغفار حال التوبة إنما هو في وقت من العمر غير الذي ارتكب فيه المعاصي، فلو نظر العبد وتأمل في خسارة ذلك الوقت الذي قضاه في البعد والابتعاد من ساحة رحمته تعالى لكفى في أن يبكى طول حياته ولو بكى لما أمكن تدارك ذلك أيضاً.

نعم قد ورد أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وهو أولاً فيمن قُبِلت توبتُه واستجيب استغفارُه وأنى لك العلم بذلك، وثانياً فإن أقصى ما يتحقق للعبد بالتوبة هو محو تلك المعصية وإحباط تلك الجريمة من صحيفة أعماله ولكن الوقت الذي صرفه من عمره في المعصية لم يستفد فيه شيئاً من الخير فقد خسر ذلك الوقت حتماً فلا تُعَوَّض تلك الخسارة.

ثم لا يتم الاستغفار إلا بعد إحراز ست مراحل وقد بينها سيد الأوصياء (سلام الله عليه) حيث قال لقائل بحضرته أستغفر الله

ص: 50

(ثكلتك أمك أتدري ما الإستغفار؟ الاستغفار درجة العلّيين وهو اسم واقع على ستة معانٍ: أولها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تَلقى الله أملس ليس عليك تبعةٌ، الرابع أن تعمِد إلى كل فريضة عليك ضَيَّعتها فتؤديها، والخامس أن تَعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتُذيبه بالأحزان حتى تُلصِق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس أن تُذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول استغفر الله((1)).

وأعلم يا أخي أنّا قّدَّمنا بعض الكلام حول الثلاثة المعاني الأولى الندم على ما مضى والعزم على ترك العود وأداء الحقوق إلى أهلها، وينبغي أن نشير إلى بعض ما يرمي إليه كلامه (سلام الله عليه) في الثلاثة الأخيرة.

قوله(علیه السلام): (أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤديها) الظاهر انه لا يقصد بذلك مجرد عدم الإتيان بالفريضة فإن التضييع كما يتحقق بعدم الإتيان بها أو عدم صحتها من حيث الأجزاء والشرائط، كذلك يصدق إذا خلت الفريضة من روحها وهو الإخلاص والتوجه بأن لا تكون الصلاة تحقق معنى المعراج ولم تحقق القربة المطلوبة للعبد من

ص: 51


1- -- نهج البلاغة/ الحكم والمواعظ/ الفقرة 417.

وراء الفريضة ولا تعمل تلك الفريضة عملها لو كانت بالنحو المطلوب بان لا تكون ناهية عن الفحشاء والمنكر والبغي فهي ضائعة.

وأما قوله(علیه السلام): (أن تعمد إلى اللحم الذي نَبَتَ على السُحت) فيمكن أن يكون إشارة إلى معنيين:

أحدهما: وهو الظاهر في النظر البدوي وهو أن يكون الإنسان قد أكلَ حراماً فنبت لحمه من ذلك الأكل المحرم.

والمعنى الثاني: إن نبات اللحم كما يفتقر إلى الغذاء كالمأكول والمشروب كذلك يفتقر إلى الانتعاش الروحي النفسي، فالطعام مهما كان صالحاً لتغذية البدن فما لم يقترن معه النشاط الروحي لم ينفع ذلك الطعام وقد ثبت بالتجربة وببيان الأطباء أن أكل الطعام في حالة العذاب الروحي والحزن أو الخوف لا ينفع للبدن وذُكِرَت في هذا المعنى قصصٌ نجدها في مظانها، فإذا كان الإنسان مشتغلاً بالمعاصي ومندفعاً إليها كان انتعاش روحه نابعاً من معصية الله تعالى وهو يكون مساعداً بل المؤثر القوي في إفادة ذلك الطعام الذي هو في نفسه حلال نباتُ اللحم، فالسحت إذن هو عبارة عن ذلك النشاط الروحي الذي كان هو الأساس في تأثير الغذاء في إنبات اللحم، وبهذا المعنى الثاني يصح ضرورة إحراز المعاني كلها في حق كل عاصٍ وإن لم يأكل ما حَرَّمَ اللهُ.

ص: 52

وأما قوله(علیه السلام): (أن تُذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقتَه حلاوة المعصية) فيمكن أن يُفسَّر الم الطاعة بأمور:

أولاً: بما يبدو في النظر السطحي إن الواجبات تكاليف شرعية وفيها كلفة فيلازمه ألمُ التعب وألمُ مَنْع النفس وحَبْسها عن المباحات التي يجب تركها أثناء تلك الواجبات مثل ما يحرم على المصلي أثناء الصلاة وما يحرم عليه أثناء الصوم وما يمنع عنه في أعمال الحج والعمرة، فيكون الألم من جهتين التعب والمشقة وألم الابتعاد من تلك المباحات التي تتوق إليها النفس البشرية بمقتضى الطبع الناسوتي.

وثانياً: أن يراد بالألم ألم الخزي والندامة التي يحسها كل ذي إحساس سليم حين وقوفه أمام سيده الذي قد تمرد عليه وخرج عن طاعته وتجاسر على جنابه ومعلوم أن هذا الألم روحي وهو أقوى بكثير من الألم الجسدي الذي أشرنا إليه في المعنى الأول، ولذلك نقل عن بعض الحكماء انه قال إنَّ ما يحس به الإنسان من مجالسة

شخص ما ثقيل أشد مما يحسه من رفع الجسم الثقيل على الروح والثاني ثقيل على الجسد، ولعل جل العقلاء يتحملون الآلام الجسدية والأتعاب البدنية برحابة صدر تخلصاً من الألم الروحي والنفسي.

وثالثاً: إن الصلاة وغيرها من العبادات بالقياس إلى المطيعين والمخلصين تسبب لذةً روحيةً عظيمةً وتسبب لهم راحةً ليس وراءها راحة، ولذلك روي أن رسول الله(صلی الله علیه و آله) ربما يكون مع أصحابه

ص: 53

يتحدث فيحلّ وقت الصلاة فيقول لمؤذنه بلال أرحنا يا بلال فكأن راحته(صلی الله علیه و آله) في الصلاة لأن قرة عينه فيها، وأما بالقياس إلى العصاة والناس العاديين أمثالنا فالصلاة وغيرها من العبادات لشدة ما توغلنا في المعاصي وابتعدنا عن جناب قدسه تعالى نتيجة ما احتطبنا على ظهورنا من الخطايا فانطبعت نفوسنا على خلاف ما ينبغي أن تكون عليه أرواحنا وحياتنا، فاعوجَّ ما كان مستقيماً، وتوغلت الأوساخ فيما كان نظيفاً، وتشتت ما كان ملموماً واظلم ما كان مستنيراً، فالصلاة تكون قلعاً لهذه القاذورات وتعديلاً لذلك الاعوجاج وتبييضاً لذلك السواد فهي بمنزلة الدواء المُزيل للمرض والمواد الكيماوية التي تعمل عمل التيزاب في قلع تلك المفاسد التي أوغلت نفوسنا فيها فنحس الألم من فعل تلك العبادة.

ثم الاستغفار له أوقات أهمها اثنان:

احدهما أن يستغفر الإنسان عقيب كل معصية أو حينما يلتفت إلى نفسه وصنيعه، فقد ورد ما معناه إنَّ من كان في صحيفة أعماله الاستغفار مع كل معصية غفر الله له.

الثاني السحر حيث مدح الله سبحانه المستغفرين بالأسحار، ولعل المقصود بذلك صلاة الوتر عقيب صلاة التهجد.

وينبغي أن نعلم أن الاستغفار نوع دعاء فعلى الإنسان المستغفر أن يتحرى الأوقات المفضلة للدعاء كما لا ينبغي أن يغفل احد عن أن

ص: 54

معنى الاستغفار لا يتحقق إلا بأن يلتفت المستغفر إلى نفسه كمذنب مفتقر إلى عطف ربه ويلتفت إلى الذنب أو الذنوب التي احتطبها على ظهره ولو بنحو الإجمال ويكون متوجهاً بإخلاص إلى مولاه الذي أذنب تجاهه وتجاسر على جنابه وتمرَّد عليه مع الاعتقاد الجازم بعطفه ورحمته ووعده بالغفران وأوامره المُلِحّة بطلب المغفرة، وبدون هذه المعاني التي أشرنا إليها لا يتحقق معنى الاستغفار.

ص: 55

ص: 56

التوبة واجبة عقلاً وشرعاً

قد ثبت أن العقل السليم يُدْرك لزوم الطاعة للمولى وضرورة الخضوع له ويعلم قُبحَ التمرّد عليه والخروج عن رسم العبودية ولا سيما إذا كان المولى هو المانح له الوجود وهو الذي سخا بالبقاء له وجاد عليه بالقدرة على التمتع بأنواع النعم التي تفضل بها عليه.

والعود إلى أحضان رحمته وعطفه مِن أبرز الواجبات العقلية خصوصاً إذا علم بأنه قد عهد إليه بأنه إن تاب وعاد إليه وطَرَقَ باب عطفه فانه سوف يغفر له ويتجاوز عن سيئاته ويشمله بعطفه فالاستمرار في التمرد والسعي في الابتعاد والمداومة على الخروج عن طاعته من أقبح القبائح وأبشع الفضائح، هذا وقد حذر عبده عن بطشه وشدة غضبه وانه إذا أنتقم فلا يقر له قرار ولا ملجأ له ولا مهرب له منه إلا إليه وقد منحه المدة ما دام يعقل وينادي بلسان عقله ويدعوه بصوت ضميره مع وضع الدلائل ونصب العلامات

ص: 57

وبث المنبهات أمامه أينما تَوَجَّهَ، فالاستمرار في الغَيِّ ينبغي أن يخجل منه الإنسان.

هذا وقد ورد في الشرع ما يَحثّ العبد على التوبة ويلزمه بها قال الله سبحانه: «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»((1))، وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ»((2))، وقال تعالى: «وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ»((3))، وقال(عزوجل): «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً»((4)).

وقال سبحانه: «وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً»((5)).

ص: 58


1- -- سورة النور/31.
2- -- سورة التحريم/8.
3- -- سورة هود/3.
4- -- سورة نوح/10.
5- -- سورة الفرقان/70.

وقال(عزوجل): «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»((1)).

وقال تعالى: «وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَ-ئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ»((2))، وقال سبحانه وتعالى: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ»((3))، وقال تعالى: «وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً»((4))، وقال سبحانه: «وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن

ص: 59


1- -- سورة غافر/ 7-- 9.
2- -- سورة آل عمران/135-- 136.
3- -- سورة البروج/10.
4- -- سورة النصر/3.

بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»((1))، وقال(عزوجل): «فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ»((2))، وقال(عزوجل): «فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»((3))، وقال سبحانه: «فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ»((4)).

وقد ورد في الروايات ما يدل على لزوم التوبة وحثّ المعصومين عليها، فمنها ما رواه الراوندي في كتاب الدعوات قال النبي(صلی الله علیه و آله): إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر، توبوا إلى الله ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الزاكية قبل أن تشتغلوا، وصِلوا الذي بينكم وبينه بكثرة ذكركم إياه((5)).

وروي في تحف العقول وكذلك في أمالي الصدوق عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: لا شفيع انجح من التوبة((6)).

وروى الشيخ الصدوق في الخصال عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) قال: قال النبي(صلی الله علیه و آله): يلزم الحق لأمتي في أربع،

ص: 60


1- -- سورة الأنعام/54.
2- -- سورة التوبة/3.
3- -- سورة التوبة/ 5.
4- -- سورة التوبة/11.
5- -- البحار ج6 باب التوبة وأنواعها وشرائطها ص19 ح 5.
6- -- المصدر السابق ح 6.

يحبون التائب، ويرحمون الضعيف، ويعينون المحسن، ويستغفرون للمذنب (الذنب)((1)).

وكذلك روي في الخصال عن الصادق (سلام الله عليه): مَن أوتي أربعاً لم يُحرم أربعاً، مَن أُعطي الدعاء لم يُحرم الإجابة، ومَن أُعطي الاستغفار لم يُحرم التوبة ومن أُعطي الشكر لم يحرم الزيادة، ومَن أُعطي الصبر لم يُحرم الأجر((2)).

وروى في الخصال بسنده عن أبي المقداد عن أبي عبد الله الصادق عن أبيه (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أربع من كًنَّ فيه كان في نور الله الأعظم، مَن كانت عِصمةُ أمره شهادة أن لا إله إلا الله واني رسول الله، ومَن إذا أصابته مصيبة قال إنا لله وإنا إليه راجعون، ومن إذا أصاب خيراً قال الحمد لله رب العالمين، ومن إذا أصاب خطيئةً قال استغفر الله وأتوب إليه((3)).

وروي في عيون أخبار الرضا(علیه السلام) عنه(علیه السلام) عن آبائه(علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): التائب من الذنب كمن لا ذنب له((4)).

ص: 61


1- -- المصدر السابق ص 20 ح 10.
2- -- المصدر السابق ح 12.
3- -- المصدر السابق ح 13.
4- -- المصدر السابق ح 16.

وروى الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه) في أماليه عن المفيد (رضوان الله عليه) بسنده عن الشعبي قال سمعت علي بن أبي طالب (سلام الله عليه) يقول: العَجب مِمَّن يقنط ومعه الممحاة، فقيل له: وما الممحاة، قال: الاستغفار((1)).

وروى الشيخ في أماليه أيضاً بإسناده عن الرضا (سلام الله عليه) عن آبائه(علیهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين(علیه السلام): تََعَطَّروا بالاستغفار لا تفضحكم روائحُ الذنوب((2)).

وروى ابن فهد في عدة الداعي عن العالم(علیه السلام) انه قال: والله ما أُعطي مؤمن قط خير الدنيا والآخرة إلا بِحُسن ظنِّه بالله عز وجل ورجائه له وحسن خلقه والكف عن اغتياب المؤمنين، والله تعالى لا يعذب عَبداً بعد التوبة والاستغفار إلا بسوء ظنِّهِ وتقصيره في رجائه لله(عزوجل) وسوء خلقه واغتيابه المؤمنين((3)).

وروى الشيخ الصدوق(رضوان الله عليه) في كتاب ثواب الأعمال بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق (سلام الله عليه) قال: أوصى الله عز وجل إلى داوود النبي (على نبينا وآله

ص: 62


1- -- المصدر السابق ص21-- 22 ح 17.
2- -- المصدر السابق ص22 ح 18.
3- -- المصدر السابق ص 28 ح 29.

وعليه السلام) يا داوود إنَّ عبدي المؤمن إذا أذنب ذنباً ثم رجع وتاب مِن ذلك الذنب واستحيى مني عند ذكره غفرتُ له وأنسيتُه الحفظة وأبدلتُه الحسنة ولا أبالي وأنا أرحم الراحمين((1)).

وروى الصدوق في ثواب الأعمال أيضاً بسنده عن معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبد الله الصادق(علیه السلام) يقول: إذا تاب العبد المؤمن توبة نصوحاً أحبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة، فقلت: وكيف يستر عليه، قال: ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ويوحي إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب فيلقى الله حين يلقاه وليس شيءٌ يشهد عليه بشيءٍ من الذنوب((2)).

وروي في ثواب الأعمال أيضاً بسنده عن المسعودي قال: قال أمير المؤمنين(علیه السلام) من تابَ تابَ الله عليه وأُمِرت جوارحه أن تستر عليه وبقاع الأرض أن تكتم عليه وأُنسيَت الحفظة ما كانت تكتبه عليه((3)).

ص: 63


1- -- المصدر السابق ح 30.
2- -- المصدر السابق ح 31.
3- -- المصدر السابق ح 32.

وروى الراوندي في الخرايج إن أبا جعفر الباقر(علیه السلام) كان في الحج وكان معه ابنه جعفر(علیه السلام) فأتاه رجل فسلم عليه وجلس بين يديه ثم قال إنِّي أُريد أن أسألك.

قال: سَل ابني جعفراً.

قال: فتحوَّل الرجل فجلس إليه ثم قال: أسألك؟

قال: سَل عما بدا لك.

قال: أسألك عن رجل أذنبَ ذَنباً عَظيماً؟

قال: أفطر يوماً من شهر رمضان متعمداً؟

قال: أعظم من ذلك.

قال: زنى في شهر رمضان؟

قال: أعظم من ذلك.

قال: قتل النفس؟

قال: أعظم من ذلك.

قال(علیه السلام) إن كان (المقتول) من شيعة علي مشى إلى بيت الله الحرام وحلف أن لا يعود، وان لم يكن (أي المقتول) من شيعته فلا بأس.

ص: 64

فقال له الرجل: رحمكم الله يا ولد فاطمة - ثلاثاً - هكذا سمعتُه مِن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ثم إنَّ الرجل ذهب فالتفت أبو جعفر فقال: عرفت الرجل؟ قال: لا، قال: ذلك الخضر، إنما أردت أن أعرفكه((1)).

أقول: المقصود من الشيعي كل مؤمن مخلص ملتزم بدين الله ومتزين بتقوى الله ومتعفف عما حرم الله، هكذا فُسِّرَ الشيعي في روايات الأئمة (سلام الله عليهم).

هذه نخبة من روايات كثيرة وردت عن المعصومين (سلام الله عليهم) تُبَيِّن فضل التوبة وما يترتب عليها من غفران الذنوب والتخلص منها، ومعلوم إن التخلص من الذنوب مطلوب بحكم العقل، فما ورد في هذه الروايات وغيرها يعتبر دليلاً ومرشداً إلى ما يُخَلِّصُ الإنسان من الذنوب، مُضافاً إلى انه يكفى في الوجوب شرعاً تلك الآيات التي ذكرناها، على أن الحق - كما أشرنا إليه فيما سبق - أن التوبة واجبة بحكم العقلاء وجميع ما ورد في الشرع يُعتبر إرشاداً إلى ذلك الحكم العقلائي الواضح.

ص: 65


1- -- المصدر السابق ص 30 --31 ح 37.

ص: 66

التوبة واجب فوري

اتفقت كلمة علمائنا الأبرار وفقهائنا الأجلاء على أن وجوب التوبة فوري، بل أفاد الشيخ البهائي (رضوان الله تعالى عليه) أن الذنوب بمنزلة السموم المضرة بالبدن فكما يجب على شارب السم أن يبادر إلى الاستفراغ ليتلافى بدنه المشرف على الهلاك كذلك يجب على صاحب الذنوب المبادرة إلى تركها والتوبة منها تلافياً لذنبه المؤدي إلى هلاك الروح واضمحلالها، ومَن أهمل المبادرة إلى التوبة وسَوَّفها من وقت إلى آخر فهو بين خطرين عظيمين إن يسلم من أحدهما فربما لا يسلم من الآخر:

الأول: أن يعاجله الموت المحتوم فلا ينتبه من غفلته ولا يستيقظ من غفوته إلا وقد حضره الموت وفاته التدارك وأغلقت في وجهه أبواب التلافي كما يشير إليه قوله سبحانه: «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا

ص: 67

يَشْتَهُونَ»((1)), فيحاول أن يتوب فلا يتمكن فربما خنقته الحشرجة أو تطلّب المهلة فلا يجدها، قال الله سبحانه: «من قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ»((2)), ونقل البهائي(رضوان الله عليه) عن بعض المفسرين في تفسير هذه الآية أن المحتضر يقول عند إحساسه بالموت وقد كُشِفَ عنه الغطاء لملك الموت أخرني يوماً اعتذر فيه إلى ربي وأتوب إليه وأتزود صالحاً، فيقول فنيت الأيام، فيقول أخرني ساعة، فيقول فنيت الساعات، فيغلق عنه باب التوبة ويغرغر بروحه إلى النار ويتجرع غصة اليأس وحسرة الندامة على تضييع العمر، وربما أدَّت به الحال إلى اضطراب في أصل إيمانه - نستجير بالله من صدمات هذه الأهوال.

الثاني: أن تتراكم ظلمات الذنوب والمعاصي على قلبه فتصبح حالة الذنوب ريناً ثابتاً ويتطبّع على المعاصي فيفقد صلاحية المحو، فكل معصية يرتكبها الإنسان تسبب له ظلمة في قلبه وغشاوة سوداء على نفسه، وإذا تراكم الرين فيطبع على قلبه من خبثه وإذا تراكمت عليه الظلمات بعضها فوق بعض وطال في غيِّه وغاص في بحارها

ص: 68


1- -- سورة سبا/ 54.
2- -- سورة المنافقون/10.

ففسدت نفسه فصارت لا تقبل الرجوع إلى الله سبحانه ويعبر عن هذا القلب بالقلب المنكوس والقلب الأسود.

والذي يظهر بالتأمل أن المعاصي تسبب اعوجاج القلب على غرار ما إذا جعلت عودة خضراء في قالب اعوج ويبست فيه فتعديلها يكون صعباً جداً، كذلك النفس إذا توغلت في المعاصي وطال مكثها فيها يكون ذلك سبباً اختيارياً للعبد في أن تحس نفسه بالصعوبة الشديدة في تقبل الاعتدال ولعله إلى ذلك يشير قوله تعالى: «خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ»((1)), فقد روى الشيخ الكليني (أعلى الله مقامه) في الكافي عن الإمام الصادق (سلام الله عليه) قال: كان أبي يقول ما من شيءٍ أفسد للقلب من الخطيئة إن القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسلفه.

وروي عن الباقر(علیه السلام): ما مِن عبدٍ إلا وفي قلبه نقطة بيضاء فإذا أذنب خرج من النقطة نقطة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد وان تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً وهو قول الله(عزوجل): «كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»((2)).

ص: 69


1- -- سورة البقرة/7.
2- -- سورة المطففين/14.

معنى قوله(علیه السلام): (لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً) أنه باختياره أوقع نفسه في هذا المأزق ودفعها إلى دهليز ضَيِّق وضَيَّع على نفسه فرص التخلص وقَطَعَ على نفسه طريق الرجعة مثل من يُلقي نفسه من شاهق فيعجز عن منع نفسه من السقوط نرجو الله سبحانه العفو والغفران.

وقد روي إن التسويف في التوبة اغترار((1)).

ويستفاد من عدة آيات مباركة أن التوبة التي تنفع العبد هي التي يعقبها الإصلاح للنفس والعمل، وهذا يعني أن التوبة -- أي بمعنى الندم بمفرده -- لا يكفي، ومعلوم أن التوبة مع إصلاح النفس والعمل إنما يحصل عليهما الإنسان بالمبادرة إلى التوبة إذ بدونها مع التسويف فيها قد يفوته المجال لإصلاح نفسه وأعماله فلا يتمكن من التدارك لما فاته.

فعليه حينما نتأمل في الآيات الشريفة الواردة في التوبة وقبولها نجدها على قسمين:

القسم الأول: ما يدل على أن التوبة على أطلاقها مقبولة إذا توفرت أركانها وشرائطها.

والقسم الثاني: ما يدل على ما أشرنا إليه فإن موضوع العفو والغفران فيه مؤلف من التوبة بالمعنى المتقدم مع الإصلاح في

ص: 70


1- -- انظر البحار ج 6 ص 30، وفي مُستدرك الوسائل ج 12 ص 124.

النفس والأعمال، فلابد من حمل القسم الأول على الثاني وإلا لكان تقييد القبول بالإصلاح في النفس والعمل لغواً.

فمن القسم الأول قوله سبحانه: «ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»((1))، وقوله تعالى: «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ»((2))، وقوله تعالى: «وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ»((3))، وقوله سبحانه: «فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ»((4))، وقوله تعالى: «فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ»((5))، وقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ»((6))، وقوله سبحانه: «وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ»((7))، وقوله جل من قائل: «وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ»((8)) وغيرها.

ومن القسم الثاني قوله سبحانه وتعالى: «فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ»((9))، وقوله(عزوجل): «مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً

ص: 71


1- -- سورة التوبة/ 118.
2- -- سورة هود/112.
3- -- سورة البقرة/279.
4- -- سورة التوبة/2.
5- -- سورة التوبة/74.
6- -- سورة الشورى/25.
7- -- سورة الأحزاب/73.
8- -- سورة هود/90.
9- -- سورة المائدة/139.

بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»((1))، وقوله سبحانه: «إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً»((2))، وقوله سبحانه: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى»((3))، وقوله عز وجل: «إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ»((4))، وقوله(عزوجل): «فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ»((5))، وقوله(عزوجل): «فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً»((6))، قوله سبحانه: «إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ»((7))، وقوله عز من قائل: «إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ»((8))، وقوله سبحانه: «إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»((9))، وقوله(عزوجل): «وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا

ص: 72


1- -- سورة الأنعام/54.
2- -- سورة مريم/60.
3- -- سورة طه/82.
4- -- سورة الفرقان/70.
5- -- سورة القصص/67.
6- -- سورة النساء/16.
7- -- سورة البقرة/160.
8- -- سورة النساء/146.
9- -- سورة آل عمران/89.

وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ»((1))، وقوله(عزوجل): «فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ»((2))، وقوله سبحانه: «فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ»((3))، وقوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ»((4))، وقوله تعالى: «فأغفر للذين تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ»((5)).

بل يستفاد من بعض الآيات انه لا تتحقق التوبة إلا إذا كانت مع المبادرة وإصلاح النفس والعمل فمنها قوله سبحانه: «وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً»((6))، وقوله سبحانه «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ»((7)

وقوله(عزوجل): «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ»((8))، وقوله سبحانه: «فَلَمَّا رَأَوْا

ص: 73


1- -- سورة الأعراف/153.
2- -- سورة التوبة/5.
3- -- سورة التوبة/11.
4- -- سورة النحل/119.
5- -- سورة غافر/7.
6- -- سورة الفرقان/71.
7- -- سورة النساء/17.
8- -- سورة النساء/18.

بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ»((1))، وقوله تعالى: «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ»((2)).

وأما الروايات التي ورد فيها أن الله يقبل التوبة ولو كان قبل الموت بقليل فهي إما تحمل - إن صح السند - على من لم تتح له الفرصة للتوبة ولم يتمكن أو لم ينتبه أو لم تبلغ الهداية إليه إلا ذلك الوقت وحين الحشرجة، وأما تحمل على ما إذا تهيأت له أسباب أخرى لقبول التوبة والمغفرة مثل الشفاعة ممن تقبل شفاعته أو على ظروف خاصة كأن يغفر الله لأحد كرامة لوالديه أو لأنه وُفِقَ لِعَملٍ بالغ الأهمية كالقتل في سبيل الله أو القتل في سبيل الحسين(علیه السلام).

كما ينبغي أن يعلم أن التسويف في التوبة يلازم طول الأمل كما يلازم حب الدنيا والتمسك بها، وهذه قد اعتبرها الشارع جرائم في نفسها.

وقد نُهينا عن طول الأمل واحترز منه الصالحون من عباد الله فعن علي بن أبي طالب(علیه السلام) في الدعاء المروي عنه (هل أتيتُكَ إلاّ مِن حيث الآمال)((3)).

ص: 74


1- -- سورة غافر/84.
2- -- سورة غافر/85.
3- -- فقرة من دعاء الصباح.

وعن الإمام زين العابدين(علیه السلام) في ضمن دعاء له (اللهمَّ صلِّ على محمد وآله واكفنا طول الأمل وقَصِّرْهُ عنّا بصدق العمل حتى لا نؤمِّل استتمام ساعة بعد ساعة، ولا استيفاء يوم بعد يوم، ولا اتصال نفس بنفس، ولا لحوق قدم بقدم، وسَلِّمنا من غروره وآمنا من شروره)((1)).

وإنما استكفى(علیه السلام) بارئه من طول الأمل ورَغِب إليه في المبالغة في تقصيره لما يترتب عليه من المضار الدينية والمفاسد الأخروية، وقد جاء من الآثار والأخبار في التخويف والتحذير منه والتنفير عنه عدد كثير من الروايات، وكفى في ذلك قوله سبحانه: «رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ»((2))، فنَبَّهَ الله سبحانه على أن إيثار اللذائذ والتنعم بالنعم الدنيوية مما يؤدي إليه طول الأمل من أخلاق الكافرين لا من أخلاق عباد الله الصالحين، وإليك بعض الآثار المروية في التحذير من طول الأمل:

فمنها ما في الحديث القدسي (يا موسى لا تطول في الدنيا أملك فيقسو لذلك قلبك وقاسي القلب مني بعيد)((3)).

ص: 75


1- -- من ضمن الدعاء الأربعين من الصحيفة السجادية.
2- -- سورة الحجر/2، 3.
3- -- الجواهر السنية في الأحاديث القدسية ص31.

وفي وصيته(صلی الله علیه و آله) لأبي ذر يا أبا ذر: إياك والتسويف بأملك فانك بيومك ولست بما بعده، فإن يكن لك غد فكن في الغد كما كنت في اليوم، وان لم يكن غد لم تندم على ما فرطت في اليوم.

يا أبا ذر كم من مستقبل يوماً لم يستكمله ومن منتظر غداً لم يبلغه، يا أبا ذر لو نظرت إلى الأجل ومصيره لأبغضت الأمل وغروره.

يا أبا ذر كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعُد نفسَكَ من أصحاب القبور.

يا أبا ذر إذا أصبحت لا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح((1)).

وفي خطبة لأمير المؤمنين(علیه السلام): (إنَّما أخافُ عليكم اثنتين إتباع الهوى وطول الأمل، فأما أتباع الهوى فأنَّهُ يَصدُّ عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة)((2)).

وفي خطبة أخرى له(علیه السلام): (واعلموا أن الأمل يسهي العقل وينسي الذكر فاكذبوا الأمل فإنه غرور وصاحبه مغرور((3)).

ص: 76


1- -- مكارم الأخلاق: 459.
2- -- أصول الكافي ج2 باب إتباع الهوى ص335 ح 3.
3- -- نهج البلاغة خطبة 86.

وروي أن أسامة بن زيد اشترى وليدة إلى شهر فبلغ النبي(صلی الله علیه و آله) فقال: (ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر، إن أسامة لطويل الأمل)((1)).

وفي أثر انه اجتمع عبدان من عباد الله فقال أحدهما للآخر: ما بلغ من قِصَرِ املك؟ أملي إذا أصبحت أن لا أمسي وإذا أمسيت أن لا أصبح، فقال: أنك لطويل الأمل أما أنا فلا أؤمل أن يدخل لي نفسٌ إذا خرج ولا يخرج لي نفسٌ إذا دخل((2)).

وقد أفاد بعضهم في وجه الملازمة بين طول الأمل ونسيان الآخرة ما يلي:

إن توقع الأمور المحبوبة الدنيوية يوجب دوام ملاحظتها، ودوام ملاحظتها مستلزمٌ لدوام إعراض النفس عن ملاحظة أحوال الآخرة وهو مستعقب لانمحاء تصورها في الذهن وذلك معنى النسيان لها وبه يكون الهلاك السرمدي والشقاء الأبدي نعوذ بالله من ذلك((3)).

قال بعضهم وسبب طول الأمل هو حب الدنيا، فإن الإنسان إذا أنس بها وبِلذاتها ثقل عليه مفارقتها وأحب دوامها فلا

ص: 77


1- -- بحار الأنوار ج 70 باب الحرص وطول الأمل ص166 ح27.
2- -- آداب النفس ج2 ص27.
3- -- رياض السالكين ج2 ص147.

يتفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، فان من أحب شيئاً كره الفكر فيما يزيله ويبطله فلا يزال يُمنِّي نفسه البقاء في الدنيا ويُقَدِّر حصول ما يحتاج إليه من أهل ومال وأدوات وأسباب، ويصير فكره مستغرقاً في ذلك فلا يخطر الموت بباله، وإن خطر بخاطره الموت والتوبة والإقبال على الأعمال الأخروية أخَّرَ ذلك من يوم إلى يوم ومن شهر إلى شهر ومن عام إلى عام... وقال إلى أن اكتهل ويزول سن الشباب، فإذا اكتهل قال إلى أن أصير شيخاً، فإذا شاخ قال إلى أن أتم عمارة هذه الدار وأزوج ولدي فلاناً أو أعود من هذا السفر، وهكذا يُسوّف التوبة كلما فرغ من شغل عرض له شغلٌ بل أشغال حتى يختطفه الموت وهو غافل عنه غير مستعد له مستغرق القلب في أمور الدنيا فتطول في الآخرة حسرته وتكثر ندامته وذلك هو الخسران المبين نعوذ بالله منه.

وإن قيل انه ربما يعلم الشخص بإخبار مَن يُخبِر عن الله عز وجل انه يعيش إلى فترة فكيف يصح منه معنى ما تقدم؟

فالجواب إن الإخبار إنما يكون عن عمر لا يتجاوزه الإنسان لكونه أجلاً محتوماً يشير إليه قوله سبحانه: «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا

ص: 78

جَاءَ أَجَلُهَا»((1))، وأما الأجل الغير المحتوم فقد يتقدم وهو الذي يخاف المؤمن من أن يفاجئه إذا علم أجله المحتوم والله ولي التوفيق.

ص: 79


1- -- سورة المنافقون/11.

ص: 80

التوبة واجبة على الكل

لا ينبغي الريب أن كلَّ مَن لم يُعطَ العصمة فهو لا يخلو من عثرات أو هفوات وربما ابتلي بارتكاب بعض الذنوب صغيرها أو كبيرها ولا اقل من اللّ11مم والهم والميل إلى المعصية وان عصمه الله عن التوغل فيها، فكل هذه مُبعِدات عن ساحة رحمة الله سبحانه وموجبات لسخطه تعالى فلا يخلو عبدٌ لم يُتوَّج بالعصمة عن حاجةٍ إلى التوبة والاستغفار، بل نفس الاعتقاد بأنه غير مذنب معصية كبيرة إذ لا اقل من عدم قيامه بحق العبادة المفروضة عليه، فيجب أن يبادر كل أحد إلى الاستغفار، بل مقتضى المعنى الذي أشرنا إليه أن يستمر ويداوم على التوبة والاستغفار أملاً في أن تشمله رحمته تعالى فيغفر له ويسعه عفوه كما وعد عباده المخلصين.

ويضاف إلى ذلك إن كل ممكن لأجْلِ أمكانه متوغلٌ في النقص وهو لازم له باقتضاء ذاته فهو مُفتقرٌ إلى الواجب تعالى جَلَّت عظمته في الخروج من هذا النقص والتدرج إلى الكمال، ومهما ارتفع في

ص: 81

سلوكه إلى مدارج الكمال ومراقي العظمة فهو لا يزال في النقص بمقتضى إمكانه ووضعه وذاته، والخروج من هذا النقص يتطلب من العبد الاستمرار في التمسك بذيل رحمته تعالى وأسباب قدرته، وكلما زاد بقاؤه في النقص كلما زاد إحساسه بالبعد وحرمانه عن المراقي التي لم يصل إليها، بل كلما انتبه والتفت إلى ما هو فيه وقاسه إلى ما لم يصل إليه من مدارج العروج إلى ساحة قدسه وكلما انتبه إلى البعد الشاسع اللا متناهي بين ما هو فيه وبين ما هو مقتضى علو مولاه زاد إحساسه واشتد وَلَعُهُ وشوقُه وترسَّخ اعتقاده بأنه بعيد عن رحمته تعالى فاشتد إحساسه بالحاجة إلى العفو والرحمة.

ومن هنا ينبغي أن ننتبه إلى كثرة استغفار وشدة حزن وقوة اندفاع أولياء الله سبحانه إلى طلب الرحمة وطلب العفو والغفران للنواقص التي كلما خرج من بعضها تنبه إلى انه محتاج لمزيد من العفو والغفران.

وهناك أدلة نقلية تدل على عموم وجوب التوبة وشموله للكل منها قوله سبحانه: «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»((1))، وقوله تعالى: «وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ

ص: 82


1- -- سورة النور: آية 31.

يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً»((1))، وقوله تعالى: «وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ»((2))، وقوله(عزوجل): «وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ»((3)).

هذه الآيات الأربع الأخيرة وإن كان موردها في الأمم السابقة إلا إن المقياس الذي أشير إليه في وجه وجوب التوبة عام شامل لجميع المكلفين، فكلنا بحاجة إلى أن يمتعنا الله متاعاً حسناً وكلنا بحاجة إلى أن يرسل السماء علينا مدرارا وكلنا أنشأنا الله من الأرض واستعمرنا فيها وكلنا في أمسِّ الحاجة إلى عطف الرب ورحمته ووده.

ومنها: قوله سبحانه: «أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»((4)) فيه إنذار وتحذير عن ترك التوبة والاستغفار وحث على الإلحاح في المسألة وطلب العفو والرحمة.

ومنها قوله تعالى: «أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ»((5))، ولعل ذكر الافتتان في كل عام مرة

ص: 83


1- -- سورة هود: آية 3.
2- -- سورة هود/52.
3- -- سورة هود/90.
4- -- سورة التوبة/126.
5- -- سورة المائدة/74.

أو مرتين بيان اقل ما يختبر الله سبحانه عباده وينبههم ليذكروا الله سبحانه ويتوبوا إليه ومعلوم أن هذه الآية كسابقاتها عامة.

وقوله سبحانه: «فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ»((1))، وقوله(عزوجل): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً»((2)).

هذا وهناك آيات تدل على مدح التائبين وتقريظ المستغفرين ومعلوم أن ذلك يستلزم الترغيب فيها والترهيب عن تركها، منها قوله(عزوجل): «إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»((3))، وقوله سبحانه: «التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ»((4))، وقوله(عزوجل): «إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»((5))، وقوله جل من قائل: «إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ»((6))، وقوله(عزوجل): «وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ»((7)).

ص: 84


1- -- سورة التوبة/74.
2- -- سورة التحريم/8.
3- -- سورة البقرة/160.
4- -- سورة التوبة/112.
5- -- سورة آل عمران/89.
6- -- سورة النساء/146.
7- -- سورة الأعراف/153.

وقوله(عزوجل): «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ»((1))، وقوله تعالى: «إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ»((2))، وقوله تعالى: «أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»((3))، وغيرها من الآيات التي تدل على وجوب التوبة أو على فضلها أو فضل التائبين أو تنص على المنافع والفضائل والفواضل المترتبة على التوبة.

ومن الروايات التي تدل على عموم وشمول وجوب التوبة صحيحة معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) يقول: (إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة، فقلت وكيف يستر عليه؟ قال يُنسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ويوحي إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه ويوحي إلى بقاع الأرض أكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيءٌ يشهد عليه بشيء من الذنوب)((4)) وقد تقدَّمت هذه الرواية.

ص: 85


1- -- سورة النحل/119.
2- -- سورة البقرة/222.
3- -- سورة البقرة/104.
4- -- أصول الكافي ج2 باب التوبة ص 430 ح1.

وعن الشيخ البهائي رضوان الله عليه أنه قال: قد ذكر المفسرون في معنى التوبة النصوح وجوهاً:

منها: إن المراد منها توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى أن يأتوا بمثلها لظهور آثارها الجميلة في صاحبها أو تنصح صاحبها فيقلع عن الذنوب ثم لا يعود إليها أبداً.

ومنها إن النصوح ما كانت خالصة لوجه الله سبحانه مأخوذ من قولهم عسل نصوح إذا كان خالصاً من الشمع وذلك بأن يندم على الذنوب لقبحها أو كونها خلاف رضا الله سبحانه لا لخوف النار مثلاً، ومن هنا حكم الشيخ المحقق الطوسي (طاب ثراه) في التجريد بأن الندم على الذنوب خوفاً من النار ليس توبة((1)).

ومنها: إن النصوح من النصاحة وهي الخياطة لأنها تنصح من الدين ما مزقته الذنوب أو تجمع بين التائب وبين أولياء الله وأحبائه كما تجمع الخياطة بين قطع الثوب.

ومنها: إن النصوح وصف للتائب وإسناده إلى التوبة من قبيل الإسناد المجازي، أي توبة ينصحون بها أنفسهم بان يأتوا بها على أكمل ما ينبغي أن تكون عليه حتى تكون قالعة لآثار الذنوب من القلوب بالكلية وذلك بإذابة النفس بالحسرات ومحو ظلمة السيئات بنور الحسنات.

ص: 86


1- -- وقد تقدمت الإشارة منا إلى هذا المعنى.

ومنها: صحيحة أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد الله الصادق(علیه السلام) عن قول الله(عزوجل): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً»((1))، قال يتوب العبد من الذنب ثم لا يعود فيه((2)).

وروى محمد بن الفضيل قال سألت عنها – أي الآية المذكورة- أبا الحسن(علیه السلام)، فقال يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه، وأحب العباد إلى الله تعالى المفتنون والتوابون((3)).

وروى الكليني بسنده الصحيح عن أبي بصير قال: قلتُ لأبي عبد الله الصادق(علیه السلام) «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً»((4)

قال: هو الذنب الذي لا يعود فيه أبداً.

قلت: وأينا لم يعد؟

فقال: يا أبا محمد أن الله يحب من عباده المفتن التواب((5)).

ومن الروايات التي تدل على شمول وجوب التوبة صحيحة محمد بن مسلم عن احدهما في قول الله«(عزوجل)فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَف»((6))، قال الموعظة التوبة((7)).

ص: 87


1- -- سورة التحريم/8.
2- -- أصول الكافي ج2 باب التوبة ص 432 ح3.
3- -- المصدر السابق.
4- -- سورة التحريم/8.
5- -- أصول الكافي ج2 ص432 ح4.
6- -- سورة البقرة/275.
7- -- أصول الكافي ج2 باب التوبة ص431-- 432 ح2.

وينبغي أن يعلم أن الإصرار على الذنب كأصله من المعاصي التي يجب اجتنابها بل لا يقبل من العبد شيء من طاعاته ما دام بعيداً عن تقوى الله قال سبحانه: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ»((1)).

وروى الكليني بسنده عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) يقول: لا والله لا يقبل الله شيئاً من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه((2)).

ويُستفاد من الروايات أن عدم المبادرة إلى التوبة يعد إصراراً على المعصية، فقد روى الكليني (رضوان الله تعالى عليه) بسنده عن جابر عن أبي جعفر(علیه السلام) في قول الله(عزوجل): «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»((3))، قال الإصرار هو أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يُحَدِّث نفسه بتوبةٍ فذلك الإصرار((4)).

بل تصبح المعصية الصغيرة كبيرة بالإصرار وقد علمنا أن ترك التوبة إصرار، فقد روى الكليني (رضوان الله تعالى عليه) بسنده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) قال: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار((5)).

ص: 88


1- -- سورة المائدة/27.
2- -- أصول الكافي ج2 باب الإصرار على الذنب ص288 ح3.
3- -- سورة آل عمران/135.
4- -- أصول الكافي ج2 باب الإصرار على الذنب ص288 ح2.
5- -- المصدر السابق ح1.

بل واستصغار المعصية مهما كان حجمها فانه يجعل الصغيرة في حكم الكبيرة وعدم الاهتمام بها يغفل الإنسان عن التوبة عنها فيصبح مصّراً عليها فتصبح كبيرة، ولعله إلى هذا المعنى أشار الإمام الصادق (سلام الله عليه) بقوله: (اتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر، قلتُ: وما المحقرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب فيقول طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك((1)).

وإلى هذا يشير قول أبي الحسن موسى بن جعفر (سلام الله عليه): لا تستكثروا كثير الخير ولا تستقلوا قليل الذنوب، فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يكون كثيراً، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف((2)).

وعن رسول الله(صلی الله علیه و آله): إياكم والمحقرات من الذنوب فان لكل شيء طالباً، ألا وان طالبها يكتب ما قَدَّموا وآثارهم وكل شيءٍ أحصيناه في إمام مبين((3)).

وروى الكليني(رضی الله عنه) بسنده عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): مِن علامات الشقاء جمود العين وقسوة القلب وشدة الحرص في طلب الدنيا والإصرار على الذنب((4)).

ص: 89


1- -- المصدر السابق باب استصغار الذنب ص287 ح1.
2- -- نفس المصدر ح 2.
3- -- المصدر السابق ص288 ح 3.
4- -- وسائل الشيعة ج15 باب 48 من أبواب جواد النفس(باب تحريم الإصرار على الذنب ووجوب المبادرة إلى التوبة والاستغفار) ص337 ح 2.

وروى الشيخ الصدوق(رحمة لله) بسنده عن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه(علیهم السلام) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): من أذنب ذنباً وهو ضاحك دخل النار وهو باك((1)).

ومعلوم أن الفرح بالمعصية يرمي بالمذنب بعيداً عن التوبة التي قوامها بالندم كما تقدم.

وروى الكليني(رحمة لله) بسنده عن معاوية بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) يقول: انه والله ما خرج عبد من ذنب بإصرار، وما خرج عبد من ذنب إلا بإقرار((2)).

ص: 90


1- -- المصدر السابق ص338 ح 5.
2- -- وسائل الشيعة ج15 باب 48 من أبواب جواد النفس(باب وجوب اعتراف المذنب لله بالذنب) ص59 ح3.

فائدة في تحليل التوبة والاستغفارأو الاعتراف بالذنب من المعصوم

الذي يمكن أن يُجمل به القول انه بعد فرض قيام البرهان القطعي مادة وصورة عقلاً أو نقلاً على عصمة الأنبياء والأئمة (سلام الله عليهم) والزهراء* وأضرابها يجب صرف ظواهر الكلمات المروية عن تلك الذوات القدسية الظاهرة أو الصريحة في الاعتراف بالذنب أو بما يلازمه عن مسارها الطبيعي كما استقر أفكار أهل الحق والتحقيق في الكلمات الموجودة بالنصوص المعتبرة الظاهرة في التجسيم أو ما يلازمه في ذات الباري جلت عظمته، فيبقى السؤال الذي لا يخص المقام بل يعم تلك النصوص أيضاً عن الدافع أو الحكمة أو الداعي إلى صدور هذه التصريحات والكلمات وذلك لا يخص هذه المعضلة بل يعم مساحة واسعة من النصوص كالعرش والكرسي والقول الظاهر بالكلام المركب من الأصوات، وقد قلنا في بعض

ص: 91

المناسبات إن الألفاظ المتداولة والمستخدمة في مقام التفهيم والتفهم هي التي نفهمها، والمتكلم كائناً من كان مضطر إلى حصر محاولاته للكشف عما يريد إبرازه من المعاني فيها، وهذه الألفاظ إنما تكشف بمدلولاتها اللغوية عما نستوعب من المعاني ونتمكن من إدراكها لأنها وُضِعت - اياً ما يكون الواضع - لأجل التفهيم والتفهم بين أفراد البشر أو ما يعم غيرهم أحياناً كالمخاطبات بين البشر وبين الملائكة أحياناً أو بينهم وبين بعض الحيوانات كما جرى بين نبي الله سليمان (على نبينا وآله وعليه السلام) وبين النملة وبينه وبين الهدهد، وما روي من المخاطبات بين بعض المعصومين وبين بعض الحيوانات، وبما إن المتكلم محصور باللغات المتداولة والتي تنحصر كلماتها في المعاني التي يمكن لنا إدراكها فلا محالة ينحصر سعيه في مقام اختيار الكلمات في تلك اللغات على ما هي عليه من المواد والهيئات التركيبية والمفردة، فتبرز هناك مشكلة تتمثل في كيفية تَمَكّن تلك الذوات المقدسة من التعبير عن تلك المعاني - التي لا تصل إليها نفوسنا ولا تدركها عقولنا ولا نصل بالغوص إلى أغوارها - بهذه الألفاظ المتداولة والتي تنحصر فيها اللغات المتداولة أو التي انقرضت كلها، فحينئذٍ يضطر المتكلم إلى استخدام التعبيرات الكنائية في مقام تفهيم تلك المعاني العالية مع نصب القرائن ووضع العلامات في ثنايا الكلمات لينتبه من أُعطي

ص: 92

فصل الخطاب والعقل الدرّاك إلى ما يَرمِز إليه كل واحد من تلك التعابير مع التحذير الشديد لمن ليس أهلاً لفهمها من الخوض فيها على غرار ما جاء في قوله سبحانه: «آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»((1))، وقوله تعالى: «وَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»((2))، وفي هذا المعنى يصب سؤال سلمان الفارسي لرسول الله(صلی الله علیه و آله) عن قوله سبحانه: «وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا - وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا»((3))، فعليه يجب جعل التعبيرات المروية عن معادن العصمة والطهارة في سياق تلك التعبيرات التي يمنعنا الدليل القطعي العقلي أو النقلي عن الالتزام بمفادها اللغوي وليس ذلك عزيزاً في النصوص المروية والآيات الشريفة.

ومن هذا المنطلق اندفعت الأفكار إلى الخوض في البحث عما يرمز إليه ما روي عن الذوات المقدسة مما يوهم بظاهرهِ أو في الفهم البدوي ما ينافي العصمة، فبرزت هناك أقوال وأفكار نُلخِّص بعضاً منها تقديراً لجهود علمائنا الأبرار شكر الله مساعيهم الجميلة.

ص: 93


1- -- سورة آل عمران/7.
2- -- سورة النحل/43.
3- -- سورة الشمس/1، 2.

وإليك يا أخي العزيز بعض ما أمكن تقديمه على العجالة...

منها: أن يُحمَل على تأديب الناس وتعليمهم كيفية الإقرار والاعتراف بالتقصير والذنوب والاستغفار والتوبة منها.

ولا يخفى كما لا ينبغي الريب في أن ذلك إنما يتمشى في الأدعية التي جرت على ألسنة المعصومين (عليهم السلام) في مقام التعليم كدعاء أمير المؤمنين(علیه السلام) الذي عَلَّمَهُ كميلَ بن زياد (رضوان الله عليه) والدعاء الذي عَلَّمَهُ الإمام علي بن الحسين(علیه السلام) لتلميذه أبي حمزة الثمالي وكبعض الزيارات لغير المعصومين التي عَلَّمها بعض المعصومين مثل ما ورد في زيارة شهداء الطف أصحاب الحسين (عليه وعليهم السلام) (بأبي أنتم وأمي طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم..الخ) فإنَّ التفدية بالوالدين من المعصوم ابن المعصوم لا يتلاءم تجاه غير المعصوم كائناً من كان، فحمل على أنه كان بغية التعليم والتأديب للزائر.

وأيضاً إن هذا تصرفٌ في ظواهر الألفاظ وصريح النصوص قد لا يتحمله بعضها مثل ما روي عن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) انه كان يتوب إلى

ص: 94

الله تعالى سبعين مرة((1))، وفي رواية أخرى عنه (صلی الله علیه و آله): إنه ليغان على قلبي حتى استغفر في اليوم مائة مرة((2)).

وهذا لا يدفعه إلا الاعتماد على التمهيد الذي اشرنا إليه ويؤول بما لا يتنافى مع الدليل القطعي على العصمة مع إحالة الكشف عن الحقيقة إلى من بيده أزمة الهداية والكشف عن خفايا الأمور.

ومنها: حمل هذه التعبيرات على التواضع والاعتراف بالعبودية وان البشر في مظنة التقصير((3))، يعني أن كل ما جاء في أدعية المعصومين إنما جاء هضماً للنفس وأنه معترف بكونه عبداً لا يملك باقتضاء ذاته شيئاً من العصمة والهداية إنما هو من منحة الله تعالى عليه، وباعتباره بشراً فهو في مظنة وقوع التقصير منه فيجعله دائماً في صف المقصرين.

وفيه إن مفهوم التواضع لا يتحقق إلا في ضمن تنازل الإنسان عن مقامه أو حقه في مقام تجاه مقام الآخر كتأخر أحد الزميلين في المشي عن زميله وكجلوس احدهما دون مجلس الآخر وكتخليه عن بعض الألقاب تجاه الألقاب التي يلقب بها زميله المساوي له أو

ص: 95


1- -- أصول الكافي ج2 باب الاستغفار للذنب ص438 ح 4.
2- -- البحار ج 90 باب الاستغفار وفضله وأنواعه ص282 ح 23.
3- -- رياض السالكين ج2 ص472.

مَن هو دونه، فعن الإمام العسكري(علیه السلام): (مِن التواضع السلام على كل من تمر به والجلوس دون شرف المجلس)((1)).

وعن الإمام الصادق (سلام الله عليه): (إن من التواضع أن يجلس الرجل دون شرفه)((2)).

فالتواضع مفهوم نسبي أو معنى إضافي يتحقق بين اثنين لكل منهما مقام بمقتضى استحقاقه فإذا هضم نفسه وأنزلها دون حقه فقد تواضع.

وعلى هذا الأساس يصعب تصوير التواضع بين العبد وبين المعبود وبين العبد وبين المولى الحقيقي نظراً إلى انه لا مقام ولا واقع ولا حقيقة للعبد تجاه المولى حتى يكون التنازل عن بعض تلك المقامات يعد تواضعاً، بل كل ما لديه تفضل من المولى ومنحة بل إشراقة أو إضافة إشراقية فلا يوجد في تلك الحدود إلا النور الذي غمر ماهية العبد فلا يتحرك ولا يُدرك ولا يفعل ولا يمتنع إلا ضمن تلك الإشراقة وبتلك الإضافة فلا يتحقق هناك معنى التواضع.

وأما ما ورد في الروايات المعتبرة وغيرها من لزوم التواضع لله سبحانه مثل صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: سمعتُهُ

ص: 96


1- -- تحف العقول الجملة التاسعة من الحكم المروية عن الإمام العسكري(علیه السلام)، والبحار ج72 باب آداب المجالس.. ص 466 ح12.
2- -- أصول الكافي ج2 باب التواضع ص123 ح 9.

يقول إن في السماء ملكين موكلين بالعباد فمن تواضع لله رفعاه ومن تكبر وضعاه((1)).

وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: أفطر رسول الله(صلی الله علیه و آله) عشية خميس في مسجد قباء فقال: هل من شراب؟ فأتاه أوس بن خولى الأنصاري بعُسّ مخيض بعسل فلما وضعه على فيه نحاه ثم قال شرابان يُكتفى بأحدهما من صاحبه لا أشربه ولا أحرمه ولكن أتواضع لله فإن من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر خفضه الله ومن اقتصد في معيشته رزقه الله ومن بذّر حرمه الله ومن أكثر ذكر الموت أحبه الله((2)

وغيرهما من الروايات، ففيه إن هذه الرواية ترمي إلى زهده (صلى الله عليه وآله) في نعيم الدنيا كما روى الإمام علي بن أبي طالب(علیه السلام) انه(صلی الله علیه و آله) لم يُقدم له طعامان في عرض واحد، فالظاهر المراد منه أن يتواضع الإنسان ويرضى بما دون حقه تجاه الآخرين تقرباً إلى الله فإنه كان من حق الرسول(صلی الله علیه و آله) أن يشرب المخيض بالعسل وقد أباحه الله له كما كان لأوس بن خولى أن يشربه إلا إنه(صلی الله علیه و آله) تنازل عن حقه تقرباً إلى الله، فالتواضع - وهو التنازل عن الحق تجاه الآخرين - إنما يحمد إذا كانت الغاية هي الله سبحانه، وهذا معنى التواضع لله سبحانه.

ص: 97


1- -- أصول الكافي ج 2 باب التواضع ص122، ح 2.
2- -- المصدر السابق ح 3.

وبهذا يُفسَّر ما ورد عن الإمام الباقر(علیه السلام) في سيرة الإمام علي بن أبي طالب(علیه السلام) إنه ما ورد عليه أمران قط كلاهما لله رضى إلا أخذ بأشدهما على بدنه((1)).

وعلى هذا ما روي من المعصومين(علیهم السلام) من الإقرار والاعتراف بالتقصير والذنوب والاستغفار والتوبة لا يمنع حمله على التواضع.

ومن هنا نعرف إن ما صدر من بعضهم من إن للمعصومين(علیهم السلام) تكاليف خاصة غير ما كلفنا به وان استغفارهم أو اعترافهم بالذنوب والتقصير باعتبار تكاليفهم الخاصة لا يخلو من سخافة، فإن اختلاف الناس في التكاليف أمرٌ كاد يكون بديهياً فتكليف المسافر غير الحاضر وتكليف الزوج غير المرأة وتكليف المرجع غير المقلد وتكليف النبي والإمام غير سائر الناس والكل يعتبر مذنباً إن تخلَّف عنه عمداً.

وأما ما قيل من إن حسنات الأبرار سيئات المقربين فذلك لا يدل إلا على اختلاف التكاليف فرُب فعلٍ من ضعيف الشخصية وقليل العلم وحديث العهد بالإيمان لا يُعد معصيةً منه ولكنه إن صدر عن غيره يكون معصية حسب الموازين الشرعية وهذا لا يعني انه إذا

ص: 98


1- -- البحار ج40 ص329 عن مناقب آل أبي طالب وج 40 أيضاً ص339 عن أمالي الشيخ الطوسي (ره).

صدر منه ما هو حسب الموازين الشرعية محرم عليه لا يكون منافياً للعصمة.

ودعوى إن وضع المعصوم نفسه في موضع المُقَصِّر مع علوه بشرفه عن هذه المرتبة الحضيضة يُحقق معنى التواضع لأنه بموجبه قد تنازل عمّا له وتبنى ما ليس له عند الله سبحانه فاسدة.

أولاً: مِن ظاهر صريح بعض الأدعية من الاعتراف بالذنب وحصول التقصير منه كما في الدعاء الثاني عشر من الصحيفة السجادية الميمونة (اللهمَّ يحجبني عن مسألتك خلال ثلاث، وتحدوني عليها خلةٌ واحدة، يحجبني أمرٌ أمرتَ به فأبطأتُ عنه، ونهيٌ نهيتَني عنه فأسرعتُ إليه، ونعمةٌ أنعمتَ بها عليّ فقصرتُ في شكرها) إلى أن يقول (علیه السلام) (فهل ينفعني يا إلهي إقراري عندك بسوء ما اكتسبت، وهل ينجيني منك اعترافي لك بقبيح ما ارتكبت) وهذا كما ترى لا يتلاءم بظاهره بأنه مجرد تواضع.

وثانياً: إن ذلك لا يحقق معنى التواضع إلا إذا ثبت أن للعبد إذا أحسن في العمل واجتنب كل ما يجلب سخط الرب حقاً على الله سبحانه ومقاماً لديه، مع إن الظاهر من كلمات الأئمة(علیهم السلام) المأثورة عنهم(علیهم السلام) أن كل ما يفعله العبد هو باقتضاء العبودية وكل ما يأتي منه سبحانه تفضل، نعم انه يستحيل أن يفعل بالمؤمنين المخلصين غير الإكرام لِما وعد الصالحين به من التفضل انطلاقاً من استحالة صدور

ص: 99

خلف الوعد بالإحسان لقبحه وعدم تلاؤمه مع مقام السيادة المطلقة له تعالى.

وأما ما في ذيل هذا الوجه (وان البشر في مظنة التقصير) فقد تبين انه إنما يمكنه حمل ما روي عنهم(علیهم السلام) على هذا المعنى إذا لم يعرفوا حقيقة ما صدر منهم ونتيجة إعمالهم وما يؤول إليه من مكتسباتهم، وهو يتلاءم مع من فقد العصمة ولم يعرف حقيقة عمله كما يشير إليه بعض ما جاء في الدعاء الذي عَلَّمه الإمام السجاد(علیه السلام) تلميذه أبا حمزة الثمالي وعلمه كيف يعترف بما هو عليه (لعلك عن بابك طردتني وعن خدمتك نحيتني، أو لعلك رأيتني مستخفاً بحقك فأقصيتني، أو لعلك رأيتني معرضاً عنك فقليتني، أو لعلك وجدتني في مقام الكاذبين (الكذابين) فرفضتني، أو لعلك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني، أو لعلك لم تحب أن تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلك بجرمي وجريرتي كافيتني، أو لعلك بقلة حيائي منك جازيتني، فإن عفوت يا رب فطالما عفوت عن المذنبين قبلي لأن كرمك يا رب يجل عن مكافأة المقصرين).

فمثل أبي حمزة الثمالي البعيد عن مقام العصمة وشرف الولاية المطلقة والفناء في مقام العظمة الإلهية يكون في مظنة المقصرين

ص: 100

واقعاً فيبقى بين الخوف والرجاء مخافة أن يكون في زمرة المذنبين المقصرين مع رجاء عفوه ورحمته لئلا يحاسبه بما يليق بشأنه بل يعامله بلطفه وكرمه بما يليق بجنابه تبارك وتعالى، وبهذا يفسر ما جاء في ذيل الدعاء الذي علمه أمير المؤمنين(علیه السلام) تلميذه العابد الزاهد كميل بن زياد(رضوان الله عليه) (يا من اسمه دواء وذكره شفاء وطاعته غنىً، ارحم من رأس ماله الرجاء وسلاحه البكاء، يا سابغ النعم، يا دافع النقم، يا نور المستوحشين في الظلم، يا عالماً لا يُعلَّم، صلِّ على محمد وآل محمد وافعل بي ما أنت أهله...) الخ الدعاء.

ومنها - أي من الوجوه --: إن الاعتراف بالذنوب والاستغفار منها إنما هو على تقدير وقوعها، والمعنى إن صدر مني شيءٌ من هذه الأمور فاغفره لي لما تقرر من انه لا يلزم من صدق الشرطية صدق كل واحد من جزئيها((1)).

وفيه أولاً: انه ينافي صدق القضايا المشروط فيها فعلية الوصف العنواني كما هو مسلك المحققين وينافي صريح ما تقدم من الفقرات في الدعاء الثاني من الصحيفة السجادية.

وثانيا: إن العصمة وان كانت لا تسلب قدرة المعصوم على المعصية - وإلا لما بقي له فضل - إلا أن صدورها منه مستحيل وقوعاً

ص: 101


1- -- رياض السالكين ج2 ص472.

لاستلزامه الجهل - العياذ بالله - في حق من شهد بعصمته تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

وثالثاً: إن حمل القضايا الحملية على الشرطية في مقام الإقرار والاعتراف مع البعد في المغزى والتعبير واللوازم والمستلزمات بينهما بلا مسوغ.

ورابعاً: إن كان الشرط الذي لا يجب صدقه في القضية الشرطية في المقام يعني فقدان المناعة الذاتية في حق المعصوم فذلك لا يثبت إلا الإمكان الذاتي وهو لا ينافي الاستحالة الوقوعية الثابتة بمقتضى العصمة وإن كان من جهة اقتضاء القوة الشهوية فقد برّأ الله سبحانه المعصومين منها لا بمعنى خلوهم عن مقتضى التكوين البشري بل بمقتضى المناعة الناشئة عن العصمة.

ومع هذا كله إن هذا الوجه لا بأس به من حيث أحد التأويلات إن عجزنا عن فهم ما روى عنهم من التعبيرات الصحيحة في الاعتراف بالتقصير وباكتساب ما لا يليق بالعبد فيكون مقتضاه أنهم يطلبون إلى الله الاستمرار في الحماية لأن العصمة لطف منه تعالى واستحالة صدور المعاصي منهم وقوعية بمعنى سلب الإمكان الوقوعي والله العالم.

ومنها - أي من الوجوه --: أنهم يتكلمون على لسان أمتهم ورعيتهم فاعترافهم بالذنوب اعتراف بذنوب أمتهم ورعيتهم واستغفارهم

ص: 102

لأجلهم لأن كل راع مسؤول عن رعيته، وإنما أضافوا الذنوب إلى أنفسهم المقدسة للاتصال والسبب ولا سبب أوكد مما بين الرسول أو الإمام (عليهما الصلاة والسلام) وبين أمته ورعيته، ألا ترى إن رئيس القوم إذا وقع من قومه هفوة أو تقصير قام هو في الاعتذار عنهم ونسب ذلك إلى نفسه وإذا أُريد عتابهم وتوبيخم وُجِّهَ الكلام إليه دون غيره منهم وإن لم يفعل هو ذلك ولا شهده وهذا وجه في الاستعمال معروف((1)).

أقول ويؤيد هذا الوجه ما روي في تفسير قوله سبحانه: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ»((2)) في تفسير البرهان للسيد هاشم الحسيني البحراني(رضی الله عنه) عن علل الشرائع للشيخ الصدوق أنه قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): يا علي أن الله تبارك وتعالى حَمَّلَني ذنوب شيعتك ثم غفرها لي وذلك قوله(عزوجل) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر((3)).

وما رواه علي بن إبراهيم بسنده عن أبي عبد الله الصادق (سلام الله عليه) في قوله(عزوجل): «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ»((4)

ص: 103


1- -- رياض السالكين ج2 ص 472-- 473.
2- -- سورة الفتح/2.
3- -- علل الشرائع ج1 ص 172.
4- -- سورة الفتح/2.

قال: ما كان له ذنبٌ ولا همٌ بذنبٍ ولكن الله حَمَّلَهُ ذنوبَ شيعته ثم غفرها له((1)).

وكذلك ما رواه البحراني(رضی الله عنه) في تفسيره عن الصدوق(رضی الله عنه) في كتابه تأويل الآيات بسنده عن محمد بن سعيد المروزي قال: قلتُ لرجلٍ (الإمام الهادي(علیه السلام)) أأذنبَ رسول الله(صلی الله علیه و آله) قط؟ قال: لا، قلتُ: فقوله عز وجل: «ِليَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ»((2))؟ قال: إن الله سبحانه حَمَّلَ محمداً(صلی الله علیه و آله) ذنوب شيعة علي(علیه السلام) ثم غفر له ما تقدم منها وما تأخر((3)).

وكذلك ما قال شرف الدين النجفي: ويؤيده ما روى مرفوعاً عن أبي الحسن الثالث(علیه السلام) انه سئل عن قول الله(عزوجل): «ليَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ»((4))، فقال(علیه السلام): وأيّ ذنبٍ كان لرسول الله(صلی الله علیه و آله) متقدماً أو متأخراً، وإنَّما حَمَّلَهُ الله ذنوب شيعة علي(علیه السلام) مَن مضى منهم ومَن بقي ثم غفرها له((5)).

ص: 104


1- -- تفسير البرهان ج1 ص 112 عن تفسير القمي ج2 ص 214.
2- -- سورة الفتح/2.
3- -- تفسير البرهان ج9 ص113، تأويل الآيات ح2 ص591.
4- -- سورة الفتح/2.
5- -- تفسير البرهان: ح9 ص113، تأويل الآيات ح ص395.

وقال الطبرسي(رضی الله عنه) روى المفضل بن عمر عن الصادق(علیه السلام) قال: سأله رجلٌ عن هذه الآية فقال: والله ما كان له ذنب ولكن الله سبحانه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة علي (علیه السلام) ما تقدم من ذنبهم وما تأخر((1)).

ولا يبعد أن يكون تحمل الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين(علیهم السلام)، مسؤولية الاستغفار عن شيعتهم عطفاً منهم عليهم ورحمة منهم لهم لما تحمل الشيعة وما زالوا يتحملون في سبيل حبهم لائمتهم(علیهم السلام)، كما يشير إليه الخبر المعتبر الذي رواه ابن وهب، قال: سمعت الإمام الصادق(علیه السلام) يدعو وهو ساجد (اللهمَّ يا من خصنا بالكرامة، ووعدنا الشفاعة، وخصنا بالوصية، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولإخواني وزوار قبر جدي الحسين الذين أنفقوا أموالهم واشخصوا أبدانهم رغبة في بِرِّنا، ورجاءاً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك وإجابة منهم لأمرنا وغيظاً أدخلوه على عدونا أرادوا بذلك رضاك، فكافهم عنا بالرضوان، واكلأهم بالليل والنهار، واخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف واصحبهم، وأكفهم شرَّ كل جبار عنيد وكل ضعيف من خلقك وشديد وشرَّ شياطين الأنس والجن، وأعطهم أفضل ما

ص: 105


1- -- تفسير البرهان: ج9 ص113-- 114، ومجمع البيان ج9 ص168.

أملوه في غربتهم عن أوطانهم وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم، اللهمَّ إن أعدائنا عابوا عليهم خروجهم إلينا فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا خلافاً منهم على من خالفنا، اللهمَّ أرحم تلك الوجوه التي غَيَّرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تقلَّبت على صخرة أبي عبد الله الحسين، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا، اللهمَّ إني استودعك تلك الأنفس والأبدان حتى توفيهم على الحوض يوم العطش الأكبر).

ولما استكثر ابن وهب هذا لزوار الحسين(علیه السلام) قال له الإمام الصادق(علیه السلام) إن مَن يدعو لزوار الحسين(علیه السلام) في السماء أكثر ممن يدعو لهم في الأرض((1)).

وفيه إن الروايات الواردة في تفسير الآية: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً»((2)) ضعيفة السند مضافاً إلى إن مضمونها تحميل الرسول (صلی الله علیه و آله) فقط ذنوب الشيعة ومعناه عليه أن يستغفر لهم ومضمون الأدعية الاعتراف بصدور ما يقتضي وجوب الاستغفار وكم بين المعنيين من البون.

ص: 106


1- -- كامل الزيارات الباب الأربعون ح 2، وثواب الأعمال ص94-- 96، و الكافي ج4 ص582-- 583.
2- -- سورة الفتح/2.

وأيضاً إن الكلام في اعتراف جميع المعصومين من لدن أبينا آدم(علیه السلام) إلى منتهى سلسلة الإمامة وهو لا ينسجم مع الروايات المومى إليها.

وأيضاً إن الكثير من التعبيرات في الأدعية يأبى أو يبعد هذا التأويل.

وأما صحيحة ابن وهب فهي كالصريحة في إن الإمام(علیه السلام) يستغفر لشيعته ومحبيه، مما يعني نسبة معاصيهم إليهم وتحميلهم المسؤولية.

وأما ما مثل به بأن رئيس القوم إذا وقع من قومه هفوة أو تقصير قام هو في الاعتذار عنهم ونسب ذلك إلى نفسه...الخ، ففيه خلط بين مقامين أحدهما شفاعة رئيس القوم لمن يترأسه وهذا مقام جليل يتبناه ويتولاه كل مخلص لقومه ويكون هذا المقام العالي الشريف لسيد الرسل(صلی الله علیه و آله) يوم القيامة وهو الذي يشير إليه قوله سبحانه: «عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً»((1))، وهي أرجى آية في القرآن، والبحث هو في الاعتراف بالأخطاء وما يقتضي وجوب التوبة والفرق بين المقامين لا ينبغي أن يخفى.

وثانيهما هو أن يعترف الرئيس بتقصيره فيعتذر عن نفسه في احتوائه المواقف السيئة من قومه، وهذا قد يفعله بعض الرؤساء ولن

ص: 107


1- -- سورة الإسراء/ 79.

يكون من معصوم بل يكون منه(صلی الله علیه و آله) عكس ذلك فيقول (صلی الله علیه و آله) كما حكى عنه القرآن الكريم: «وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً»((1)).

مضافاً إلى ذلك كله لا يوجد في شيء من تلك النصوص المتضمنة للاعتراف بما يقتضي وجوب التوبة ما يؤيد هذا المعنى.

نعم لو وجدنا ما يدل عليه لما كان حجر في الالتزام بهذا المعنى في نفسه.

ومنها -أي من الوجوه -: ما ذكره الشيخ علي بن عيسى الاربلي (رحمه الله) في كتابه كشف الغمة فقال: أن الأنبياء والأئمة(علیهم السلام) تكون أوقاتهم مستغرقة بذكر الله تعالى وقلوبهم مشغولة وخواطرهم متعلقة بالملأ الأعلى وهم أبداً في المراقبة كما قال(علیه السلام) (أعبد الله كأنك تراه فإن لم تره فأنه يراك)((2)) فهم أبداً متوجهون إليه مقبلون بكليتهم عليه ومتى انحطوا عن تلك المرتبة العالية والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال في المأكل والمشرب والتفرغ للنكاح وغيره من المباحات عَدّوه واعتقدوه خطيئةً فاستغفروا منه، ألا ترى إن بعض عبيد أبناء الدنيا لو قعد يأكل ويشرب وينكح وهو يعلم إنه بمرأى من سيده ومسمع

ص: 108


1- -- سورة الفرقان/30.
2- -- مكارم الأخلاق ص 459.

لكان ملوماً عند الناس ومقصراً فيما يجب عليه من خدمة سيده ومالكه، فما ظنك بسيد السادات ومالك الأملاك، وإلى هذا أشار(صلی الله علیه و آله) بقوله (إنه ليران على قلبي وأني لأستغفر الله في النهار سبعين مرة)((1))

وقوله (حسنات الأبرار سيئات المقربين)((2))

انتهى كلامه على ما لخصه في رياض السالكين((3)) واستحسنه كثيراً قائلاً وهو أحسن ما تضمحل به الشبهة.

ونُسِب نفس هذا المعنى إلى القاضي ناصر الدين البيضاوي في شرح المصابيح عند شرح قوله(صلی الله علیه و آله) (أنه ليغان على قلبي وأني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة).

أقول: لم أعرف وجه استحسان هذا العبقري الفذ السيد علي خان الحسيني(رضی الله عنه) لهذا الوجه الذي لا أجد فيه ما يقتضي الاستحسان إذ فيه:

أولاً: إن المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم لا يشتغلون بالمباحات إلا إذا اقتضت ضرورة الحياة الدنيوية بمقتضى إمكان وجودهم فيصبح انشغالهم بها من الواجبات المطلوبة منهم بنحو الالتزام، بل قد نقل أن هذا ديدن الصالحين الكُمَّل

ص: 109


1- -- البحار ج 25 ص 204-205.
2- -- المصدر السابق ص 205.
3- -- رياض السالكين ج2 ص 473.

الذين اقتفوا أثر أولئك المعصومين في تهذيب أنفسهم والذين لم يصلوا شأو الأئمة(علیهم السلام)، هذا وقد نُقِل عن بعض فقهائنا الأبرار إنه لم يفعل مُباحاً طيلة أربعين سنة، وربما يكون انشغالهم في المباح لبيان حُكمِه فهم على ذلك ملزمون بالتبليغ وتوضيح الشريعة الغراء.

وأيضاً أن كان انشغاله بتلك المباحات بترخيص منه تعالى كما يشير إليه قوله سبحانه: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»((1)) فلا معنى لاعتدادها معصية وأنه بتأثير الشيطان ونحوه بل الاستفادة بنعم المنعم والتظاهر بالتمتع بها أمامه نوع من الشكر الواجب على العباد عقلاً وشرعاً.

وغريب منه(رضی الله عنه) المثال الذي ضربه لما ذهب إليه من أن بعض عبيد الدنيا لو قعد يأكل ويشرب... إلى قوله لكان ملوماً، إذ فيه إن كان جلوس العبد بسماح من المولى لما كان جلوسه مجلبة للوم العقلاء، وأن كان بدون أذن وترخيص منه وفي وقت لم يرخصه له به ولم يحدده وقت راحته لكان مستحقاً للوم من العقلاء والعقوبة من السيد وأين هذا من مقام الأئمة(علیهم السلام) تجاه رب العالمين.

ص: 110


1- -- سورة الأعراف/32.

وأما ما روي من (أن حسنات الأبرار سيئات المقربين) فلعمري إنه لغريب جداً رَبْطه بالمقام فإن الفقرة إن صحت نسبتها للمعصوم تعني اختلاف التكاليف باختلاف المراتب فإن من ارتقى المراتب العليا في القرب الإلهي لكان ما يصدر منه بحسب مقامه معصيةً وإن لم يُعتبر معصيةً إن صدر ممن هو دونه في المقام والمنزلة.

ثم أنه لا ينبغي الامتراء في اختلاف الأعمال بالمراتب من حيث اقتضاء الحكمة الإلهية بل ربما يكون عمل واحد بعض أجزائه أفضل من البعض كالسجود في الصلاة فأنه أفضل أجزائها وهذا التفاضل موجود في الواجبات والمستحبات على حد سواء بل يوجد ذلك التفاضل في التكاليف الإلهية على الإطلاق وهذا لا يعني أن ترك الأفضل في الوقت والظرف الذي طلب من العبد المفضول انحطاطاً للمكلف إذا أشتغل بالمفضول فليس القيام في الصلاة انحطاطاً للمصلي والاشتغال بعبادة أخرى في ظرفها غير الصلاة انحطاطاً وتن-زلاً من المنزلة العليا بالقياس إلى المكلف، وإنما يكون انحطاط إذا كان العدول من الأفضل إلى المفضول مع تمكنه من الأفضل استجابة لاشتهائه النفسي وباقتضاء طبعه استجابة للراحة النفسية، فإذا علمنا إن المعصومين (سلام الله عليهم) لا يفعلون ولا يقولون بل لا يشتهون إلا ما يريده الله سبحانه في جميع مراحل

ص: 111

حياتهم: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»((1))، «وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ»((2))، وما روي في وصف عمل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) أنه ما عرض عليه أمران كلاهما لله رضىً إلا اختار أشدهما على نفسه((3)

فكيف يُتصور ما جاء في كلام هذا الجليل فليس انشغال المعصومين(علیهم السلام) بالمباحات حينما يقتضي منهم ذلك حاجتهم إليها لاقتضاء حياتهم وأنهم بشرٌ مثلنا، ومعلوم أيضاً أنهم أفضل من الملائكة الذين يقول الله في حقهم: «لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ»((4))، مع تصور ما جاء في كلام هذا الجليل من أنهم ينشغلون في المباحات عن العبادات فما يفعله المعصومون من المباحات بعنوانها الأولي عبادات بعنوانها الثانوي.

ومن الوجوه: ما قيل أن العبد الكامل من عبد الله في جميع مراتب العبودية وحيث كانت العبادة على أقسام منها عبادة المخلصين الراجين، وقسم منها عبادة الخائفين العاصين، كان الإمام المعصوم طالباً لأن يعبد الله بالعبودية الكاملة والسير في جميع مراحلها ففي بعض الأحيان ينزل نفسه منزلة المذنب العاصي ويذكر في دعائه ما

ص: 112


1- -- سورة النجم: الآيتان 3، 4.
2- -- سورة التكوير: آية 29.
3- -- البحار ج 40 ص 329.
4- -- سورة الأنبياء/ 27.

يقوله المرتكب بجميع المعاصي وليس ذلك إلا لما ذكر درك ملاذ العبادة بجميع أقسامها والوصول إلى كمال العبودية من طرقها بأسرها، ويشهد لما ذكرنا بل يدل عليه قول الإمام زين العابدين(علیه السلام) في دعائه في التذلل لله سبحانه

على ما في الصحيفة الكاملة الدعاء الثالث والخمسين قال(علیه السلام) بعد كلام له.... (قد أوقفتُ نفسي موقف الأذلاء المذنبين، موقف الأشقياء المتجرِّئين عليك المستخفين بوعدك...) إلى آخر الدعاء.

وهذا هو المراد في جميع ما ورد في الأدعية من الاعتراف بالذنب والمعصية من هؤلاء المعصومين(علیهم السلام)((1)) انتهى.

أقول: فيه أولاً إن من بلغ المرتبة العليا في مراحل الرقي لا معنى لان يطمع في المرتبة الدنيا قال الله سبحانه: «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ»((2))، مضافاً إلى استهجان ذلك عند العقلاء.

وثانياً: نسبة الذنوب التي لم يرتكبها إلى نفسه ووصمها بما هو عار على العبد مع كونه خلاف الواقع مستهجن من جهتين، من جهة الكذب ومن جهة الوقوف أمام السيد في صف المغضوب عليهم والضالين.

ص: 113


1- -- هامش كشف الغمة ج2 ص 255 ط إيران الحاج السيد هاشم الرسولي.
2- -- سورة البقرة/61.

وثالثاً: الإحساس باللذة في العبادة والتذلل والعبودية مقام الشرفاء ومنزلة من بلغ المقام الذي يقتضي انقلاب التكاليف إلى المرغوبات والمطلوبات انه مقام جليل يطمع فيه أمثالنا إلا أن الذي جاوز هذه المرحلة وأصبح من مقام الواجب الوجود قاب قوسين أو أدنى فسقطت الحجب ومنها حجب العظمة وانمحت الحدود قد أصبح مع ذلك المقام الشريف بالقياس إليه مُستَقبحاً لأنه يتوقف على الإحساس باللذة المستلزم للإحساس بوجوده المحدود وتعقله له أنه في مقام يستلذ بالرؤية والعبادة والامتثال وسادتنا الأطهرون أعلى من هذه المرتبة بكثير فلا يتصور في حقهم التلذذ بالعبادة، بل يستفاد من بعض أدعيتهم ما مغزاه أنه لو طرد - فرض المحال - لما برح من بابه تعالى فليس في مقام امتياز لوجودهم ومستلذاتهم عما هو مطلوبهم فهم لا يطلبون إلا إياه، ولذا نُقِلَ عن بعض الأعلام في دعاء البهاء إن المطلوب للداعي هو المدعو، فعليه لا نستحسن ما جاء في هذا الوجه من أنهم(علیهم السلام) يبحثون عن ملاذ العبادة حتى وصلت بهم الحال أن يستلذوا بعبادة من دونهم في المراحل.

وأما ما في دعاء الإمام زين العابدين(علیه السلام) فالتعبير لا يعني ما فهمه صاحب هذا الوجه بل هو ظاهر في الاعتراف بالذنب والمعصية التي نحن بصدد فهمه.

ص: 114

ما يقتضيه النظر

اشارة

ينبغي أن نعلم انه ليس مثار الشبهة منحصراً فيما جاء في الدعاء المشار إليه بل هناك منابع متعددة للشبهة ومتنوعة كلها تستجلب التأمل والبحث عن وجه الملائمة بينها وبين العصمة وإليك عناوينها:-

منها: الاعتراف من المعصوم بتسلط الشيطان اللعين عليه مع التظلم والاستعانة بالله سبحانه ليخلصه من شر ذلك اللعين وانه تأثر أو يتأثر بأفعال اللعين إبليس.

ومنها: الاعتراف بارتكابه المعاصي بجوارحه وأعضائه كلها كما جاء في الدعاء المنسوب إلى الإمام موسى بن جعفر(علیه السلام) ودعاء سيد الشهداء(علیه السلام) يوم عرفة وغيرهما.

ومنها: تضرعه إلى الله سبحانه في مقام التوبة إليه سبحانه وطلب المغفرة بجد مما يقتضي الاعتراف الحقيقي بصدور المعاصي منه واستجابة الله سبحانه للتوبة بالغفران.

ومنها: خوفه الواضح والجلي وبداعٍ حقيقي من نار جهنم والذي لا ينبعث إلا من الاعتقاد الجازم المقتضى لاستحقاقه لها.

ومنها: ما جاء في غير واحد من الأدعية كدعاء يوم الاثنين الموجود في ملحقات الصحيفة السجادية الذي نقله المحدث الجليل الشيخ عباس القمي(قدس سره) في مفاتيح الجنان من الاعتراف باعتدائه على الآخرين ويتوسل إليه سبحانه ليتولاه ويتولى

ص: 115

الإصلاح بينه وبين من ظلمه ويتولى أيضاً أداء حقوق العباد التي عليه نيابة عنه.

هذه هي المناشيء للشبه التي تعترض أمام الناظر ويتخيلها منافية للعصمة خصوصاً معناها الذي نعتقده في النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين من ذريته(علیهم السلام) من أنهم لم يرتكبوا حتى ترك الأولى.

والذي نعتقد هو أنه لا يكفي جواب واحد عن جميع هذه الشبه إذ حسب تخيلنا إن لكل واحد من هذه الأمور التي أشرنا إليها وجهاً يخصه وتحليلاً يرتبط به ليندفع ما نتوهمه من منافاته مع العصمة، فنقول وبالله الاستعانة:-

المنشأ الأول

ينبغي أن يُعلَم ان إبليس وأعوانه من الجن والأنس يسعون دائماً بمقتضى خبثهم وعداوتهم للخير وأهله حقداً وحسداً على ما مَنَّ الله به على الصالحين من عباده من كرامة التقرب وشرف العبودية مع الإخلاص يسعون في صرف الصالحين المعصومين وغيرهم عن منهجهم، ويتضمن هذا السعي خلق العوائق ويكون ذلك ضمن تسلط الأبالسة على الوسائل الدنيوية والمرافق المادية، وهذا التسلط

ص: 116

وإن كان بإمهال من الله سبحانه يتضمن الكشف عن قبح سريرة الأبالسة وسوء نياتهم مما يجعل ذلك حجة عليهم وتبياناً لغيرهم لما يقتضي شدة العذاب لهم يوم القيامة، كما يتضمن إتاحة الفرصة للصالحين لنيل الكرامة لأنه كلما زاد الجهد زاد الأجر وكلما زادت العوائق اشتد الجهد وكلما كانت البلية أعظم كان فضل العمل أكبر كما جاء إن أفضل الأعمال أحمزها((1)).

ومن هذا المنطلق إبليس وأعوانه يسعون بكل الطرق وبكل وسيلة إلى النيل من أولياء الله سبحانه فيتسلط على مال ولي الله وعلى أولاده إما بالمرض والقتل والتشريد وأما بالإضلال إذا لم يكن معصوماً ليخلق بذلك أذيةً عائقةً حسب وهمه اللعين لتمنع ولي الله سبحانه عن مواصلة السير والسلوك في طاعة الله سبحانه والترقي في مراتب العبودية لترتفع درجته ويعلو مقامه لديه سبحانه كما تسلط على قابيل فأغواه وتمكن من خلاله من قتل هابيل.

وربما يستعين اللعين بأعوانه من الأنس فيسلط عدواً من أعداء الله سبحانه على ماله فيتلفه أو ولد يمرضه أو يغويه فيبكي الولي ويتألم ويحصل الولي من خلال ذلك درجة فيخيب إبليس وأعوانه من الجن والأنس.

ص: 117


1- -- البحار ج 67 ص 190، ومفتاح الفلاح ص 45.

وكذلك يتسلط أعداء الله من الجن والأنس على جسد ولي الله بخلق الأمراض الجسدية لتمنعه بها عن مواصلة العمل في طاعة الله فيصيب الولي مرض يقعده وآلام في جسده تشدد عليه الطريق وتؤدي إلى حدوث عوائق يتألم روح ولي الله لها لأنها تمنعه مما يشتهيه ويرجوه ويأمل من العمل، ولكن الله سبحانه يعطيه أجر ما فقد لأجل نيته الاستمرار على النهج الذي كان عليه قبل الابتلاء بالأمراض، ويصيب المعصوم الضعف في الجسد كما جاء في حديث الكساء من قول النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) أرى في بدني ضعفاً، والمعصوم في مقام المقارعة يصيبه الضعف في البدن كما حدث لسيد الشهداء(علیه السلام)، فإنه لما كثرت الجراحات ضعف عن القتال، كما لا شك في أن المعصوم يمر في مراحل الطفولة والمراهقة ثم إلى الكهولة والشيخوخة والهرم.

وقد اشتبه هذا المعنى - وهو أنه قد يتسلط إبليس أو أعوانه الظلمة على جسد المعصوم - على بعض مِمَّن يُنسب إلى التشيع فتخيل انه لا يمكن أن يُقتَل سيد الشهداء(علیه السلام) فتوهم انه لم يقتل وانه رفع إلى السماء وقد شبه للأعداء فقتلوا شبيهه على نحو ما كان لعيسى ابن مريم (علیه السلام)، وكاد ينتشر هذا الوهم بين السذج من الشيعة فصدر التوقيع من ولي الله الأعظم (عجل الله فرجه الشريف) باللعن على من يعتقد أن سيد الشهداء(علیه السلام) لم يقتل.

ص: 118

والفرق بين الشيعي المخلص الواعي المعتقد بإمكان تسلط الظالم على بدن المعصوم دون عقله وبين غير المخلصين بإمكان تسلط الضعف على عقله اوجب صدور تلك الكلمة الكافرة في حق الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) انه ليهجر.

وكذلك يحاول اللعين بأعوانه من الجن والأنس التسلط على نفسه وفكره وعقله، فهنا يتميز المعصوم عن غيره فالمعصوم قد مُنِحَ المناعة والقوة الروحية والبصيرة في النفس والعقل فيعجز اللعين وأنصاره عن التأثير فيه فلا يتمكن من سلب شيء من مراتب التديّن ومراقي الخلوص منه لان الله تعالى أعدَّ المعصوم للقيام بادوار خاصة فجهزه بما يفتقر إليه في مقام القيام بوظيفته.

نعم يعاني المعصوم من الآلام التي تتسبب من محاولات اللعين إبليس وأعوانه في التأثير على عقله ونفسه فهو يخلق العقبات أمام المعصوم فيتألم في سبيل تجاوزها، ولأجل إمكانه الذاتي واحتياجه إلى التسديد الدائم يستمر في الاستعانة به سبحانه.

ويؤيد ذلك ما ورد في القرآن والروايات فيما يخص نبي الله أيوب(علیه السلام) فقال متضرعاً إلى سبحانه: «إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ»((1))، إذ كان اللعين أفنى أمواله واهلك أولاده وأوقعه في أمراض شديدة وآلام مبرحة.

ص: 119


1- -- سورة ص/41.

وقد نقل السيد هاشم البحراني(رضی الله عنه) في تفسيره الروايات التي تقتضي ما قلناه من تسلط إبليس اللعين على ما منح الله سبحانه له من نعم الدنيا وصرح الأئمة(علیهم السلام) في الروايات التي نقلها السيد المذكور في تفسير الآية مِن أن الله ابتلى نبيه أيوب من غير ذنب نقله عن علل الشرايع وتفسير القمي والكافي وغيرها.

ويرشد إليه ما جاء في هامش مفاتيح الجنان - الباقيات الصالحات- (اللهمَّ إن إبليس عبد من عبيدك يراني من حيث لا أراه وأنت تراه من حيث لا يراك أنت أقوى على أمره كله وهو لا يقوى على شيء من أمرك، اللهمَّ فأنا استعين بك عليه يا رب فإنه لا طاقة لي به ولا حول ولا قوة لي عليه إلا بك يا رب، اللهمَّ إن أرادني فارده وإن كادني فكده، واكفني شره واجعل كيده في نحره برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين).

وأوضح منه أمرُ الله نبيه(صلی الله علیه و آله) الاستعاذة من الشيطان الرجيم((1)).

وأما غير المعصوم فربما تن-زلق قدمه فيتمكن إبليس من إغوائه، وربما ينحرف عن الدين أو عن التقوى أو يحدث منه التهاون والتقصير في التوجه إلى الله سبحانه والشكر على نعمائه فينسى أو يغفل أو يتعمد في ترك الاستعاذة بالله والاستعانة به على اللعين، بل قد تصل به الحالة إلى الاستجابة لدواعي الشهوة والانخداع بوعود الشيطان التي تبرز على صفحة عقله من خلال نفسه الشهوانية

ص: 120


1- -- كما في سورة الأعراف/200، وسورة النحل/98، وسورة فصلت/36 وغيرها.

والإمّارة بالسوء، أعاذنا الله سبحانه من مكائده وأعاننا على التخلص منها ومنحنا قوةً على تحمل الشدائد إنَّه ولي حميد.

وينبغي أن نلتفت إلى نقطتين:

إحداهما:- ما أشرنا إليه مِن إن الشيطان عدوٌ لبني آدم كما قال الله سبحانه: «يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ»((1)).

وقال سبحانه حكاية عن قول موسى بن عمران(علیه السلام): «قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ»((2))، وقال تعالى: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً»((3))، وقال تعالى: «وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ»((4)).

ومن مقتضى طبع العدو انه يكره ما ينفع عدوه ويميل إلى ما يضره وهو مبدأ الحسد ومنطلق هذا المرض، والتعبير عن الشيطان بالمُضل أو توعده بأنه سوف يضل العباد ليس يعني إن الضلال يقع حتماً، بل معناه إنه وأتباعه يسعون في إضلال الناس فينجحون في بعض العباد ولا يتمكنون من بعض آخر ولكن يتمكنون من إيذاء الكل مثل قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا

ص: 121


1- -- سورة طه/117.
2- -- سورة القصص/15.
3- -- سورة فاطر/6.
4- -- سورة الزخرف/62.

تَعْقِلُونَ»((1))، فعليه معنى قول اللعين - الذي حكاه عنه القرآن -«وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً»((2)) والاستثناء في قوله «ولأغوينهم أجمعين، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»((3)) ليس استثناءاً عما يفعله بل استثناء عما يصل إليه اللعين، فسعي اللعين لإضلال الكل بكل ما يتمكن جارٍ في الكل كما يقتضيه قوله سبحانه: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»((4)).

وفي هذا السياق يأتي قوله سبحانه: «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ»((5))، وقوله سبحانه: «فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»((6))، وقوله سبحانه: «وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ

ص: 122


1- -- سورة يس/62.
2- -- سورة النساء/119.
3- -- سورة الحجر/40.
4- -- سورة الحج/52.
5- -- سورة الأعراف/200.
6- -- سورة النحل/98.

هَمَزَاتِ((1))الشَّيَاطِينِ»((2))، وقوله تعالى: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ»((3))، وقوله تعالى: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ»((4))، وفي هذا القالب يصب ما جاء حكاية لقول نبي الله يوسف(علیه السلام) «وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي»((5))، وقوله تعالى: «وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً»((6)).

وبهذا القالب يصب كل ما جاء في أدعية المعصومين(علیهم السلام) مثل ما جاء في دعاء الإمام السجاد(علیه السلام) يوم الأحد (وأعوذ بك يا رب من همزات الشياطين واحترز بسلطانك من جور السلاطين).

ثانيهما: إنَّه ورد في الروايات إن الشيطان يؤذي المعصومين(علیهم السلام) بمحاولاته عرقلة سير عملهم في هداية الناس ويسعى في عرقلة عبادتهم لله سبحانه وتعالى، فهو وإن كان يعجز عن الوصول إلى غايته إلا انه بمحاولاته يتمكن بنفسه أو

ص: 123


1- -- الهمز: الضغط والعصر وهمز الإنسان اغتيابه.
2- -- سورة المؤمنون/97.
3- -- سورة الفلق/1.
4- -- سورة الناس/1.
5- -- سورة يوسف/100.
6- -- سورة الإسراء/53.

بأعوانه من الجن والإنس ولوازم الحياة الدنيوية من إيذاء المعصومين(علیهم السلام)، ففي مناجاة الزاهدين للإمام زين العابدين(علیه السلام) (إلهي أسكنتنا داراً حفرت لنا حفر مكرها، وعلقتنا بأيدي المنايا في حبائل غدرها، فإليك نلتجئ من مكائد خدعها، وبك نعتصم من الاغترار بزخارف زينتها، فإنَّها المهلكة طلابها، المتلفة حلاّلها، المحشوة بالآفات، المشحونة بالنكبات) فهو(علیه السلام) رغم تألمه من تقيده بعالم الناسوت يستعين بالله سبحانه للتغلب على مقتضيات هذا العالم اعترافاً منه بإمكانه الذاتي الملازم للاحتياج إلى واجب الوجود.

ويضاف إليه ما في الروايات، ففي معتبرة هشام بن سالم عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: إن اشد الناس بلاءاً الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الأمثل فالأمثل((1))، وبمضمونها روايات متضافرة.

وروى أبو حمزة الثمالي عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): إن الله اخذ ميثاق المؤمن على بلايا أربع أيسرها عليه مؤمن يقول بقوله يحسده، أو منافق يقفو أثره، أو شيطان يغويه، أو كافر يرى جهاده، فما بقى للمؤمن بعد هذا((2)).

ص: 124


1- -- أصول الكافي ج2 ص252.
2- -- أصول الكافي ج2 ص246.

وروى عبد الله بن سنان عن أبي الله الصادق(علیه السلام) قال: ما مِن مؤمن إلا وقد وكل به أربعة، شيطاناً يغويه يريد أن يضله، وكافراً يقاتله، ومؤمناً يحسده وهو أشدهم عليه، ومنافقاً يتبع عثراته((1)).

وروى في الكافي عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) قال: إن الله عز وجل يبتلى المؤمن بكل بلية ويُميتَه بكل ميتة ولا يبتليه بذهاب عقله، أما ترى أيوب كيف سُلِّط إبليس على ماله وعلى ولده وعلى أهله وعلى كل شيء منه ولم يُسلَّط على عقله تُرِكَ له لِيُوحِد الله به((2)).

ومن ذلك أيضاً معتبرة ابن مسكان عن أبي عبد الله الصادق(علیهم السلام) قال: ما أفلتَ المؤمن من واحدة من ثلاث أحداث ولربما اجتمعت الثلاث عليه، أما بغض مَن يكون معه في الدار يغلق عليه بابه يؤذيه، أو جار يؤذيه، أو مَن في طريقه على حوائجه يؤذيه، ولو إن مؤمناً على قلة جبل لبعث الله((3)) عز وجل شيطاناً يؤذيه ويجعل الله له من إيمانه انساً لا يستوحش معه إلى احد((4)).

ص: 125


1- -- البحار ج 65 ص 222 ح 12.
2- -- أصول الكافي ج2 باب شدة ابتلاء المؤمن ص 256 ح22.
3- -- يعني انه يفتح المجال للشيطان ليصل إلى المؤمن يقصد إيذاءه.
4- -- أصول الكافي ج 2 ص249-- 250

وقد روي أن جبرائيل(علیه السلام) عَوَّذَ بالمعوذتين رسول الله(صلی الله علیه و آله) حين وعك((1)).

وروي أن أم النبي (صلى الله عليه وآله وعليها) عَوَّذَت النبي(صلی الله علیه و آله) بأمر الهاتف الغيبي حين الولادة (أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، وكل خلق مارد يأخذ بالمراصد في طرق الموارد من قائم وقاعد)((2)).

وتعويذ رسول الله(صلی الله علیه و آله) للحسنين (صلوات الله عليهما) بقوله (أعيذكما بكلمات الله التامات من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لامّة)((3)).

فتحصل إن عدو الصالحين إبليسَ وأعوانه يسعون في إغواء الكل وربما ين-زلق إلى مخالبه البعض، والذي مُنِحَ قوةً تُفيده الحماية لا يقدر عليه ولكنه يؤذيه كما تسلط شياطين الأنس والجن على عباد الله الصالحين فَقُتِّلوا تقتيلاً وشُرِّدوا تَشريداً ومُزِّقوا تَمزيقاً، فشكوى المعصومين إلى الله سبحانه من الشيطان من جهة ما يلاقون منه ومن أعوانه من الأذى ومحاولتهم لعرقلة مسيرتهم فليس في هذا ما ينافي العصمة.

ص: 126


1- -- مستدرك سفينة البحار ج7 ص476.
2- -- بحار الأنوار ج15 ص271.
3- -- بحار الأنوار ج43 ص 282 وج 62 ص277، وج 63 ص18.

تنبيه

أفاد العلماء (رضوان الله عليهم) لتسليط الشيطان والكفار على المؤمن وجوهاً مِن الحكمة:

منها: إنَّه كفارةٌ لذنوبه.

ومنها: إنَّه لاختبار صبره وإدراجه في الصابرين.

ومنها: لتزهيده في الدنيا لئلا يُفتَتَن بها ويطمئن إليها فَيَشُقُ عليه الخروج منها.

وهذه الوجوه تتلاءم مع غير المعصومين.

ومنها: توسله إلى الحق سبحانه في الضراء وسلوكه مسلك الدعاء لدفع ما يصيبه من البلايا وترتفع بذلك درجته.

ومنها: وحشته من المخلوقين وأنسه برب العالمين كما جاء في وصف علي بن أبي طالب(علیه السلام) على لسان ضرار بن ضمرة الليثي (يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، كان غزير العبرة طويل الفكرة، يُقَلِّبُ كفيِّهِ ويخاطب نفسه ويناجي ربه)((1)).

وهذه الوجوه في مرآة العقول للمجلسي(رضی الله عنه) الجزء الثاني ص222.

والوجهان الأخيران يعمان المعصوم وغيره.

ص: 127


1- -- بحار الأنوار ج 42 ص 282 ص 61 ص 277.

وهناك وجه آخر وهو إن نفوس أفراد البشر في أول الفطرة ناقصة بالقوة ومع ذلك بعضها خيرة نورانية شريفة بالقوة مائلة على الأمور القدسية عظيمة الرغبة إلى الآخرة، وبعضها خسيسة الجواهر ظلمانية شريرة بالقوة مائلة على الجسمانيات عظيمة في إيثار الشهوة والغضب، فلو لم يكن الإغواء ولا طاعة النفس والهوى لكان ذلك منافياً للحكمة لبقائهم على طبقة واحدة من نفوس سليمة ساذجة فلا تتمشى عمارة الدنيا بعدم النفوس الجاسية((1)) الغلاظ العمالة في الأرض لأغراض دنية عاجلة، ألا ترى ما روي من قوله تعالى في الحديث القدسي (إني جعلت معصية آدم سبباً لعمارة العالم)((2)

وما روي في الخبر: (لولا أنكم تُذنِبون لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون)((3)).

وهذا الوجه الأخير اختاره صدر المتألهين(رضی الله عنه) في تفسير القرآن الجزء السادس ص92- ص95 ولخصه في رياض السالكين السيد علي خان الحسيني(رضی الله عنه) في الجزء الثالث ص185، ولكن هذا الوجه يخص غير المعصومين مع انه فيه ما فيه.

ص: 128


1- -- جسا الشيء يجسو إذا يبس وصلب، المصباح المنير خ 140.
2- -- تفسير ملا صدرا ج 6 ص 94.
3- -- المصدر السابق.

والأقرب - والله العالم - إن المعصوم بما له من الموهوب والمكتسب وثباته مع شدة حنق عدو الله عليهم وعلى إيذائهم رفعة لهم ومصدر هداية للمهتدين وحجة على الضالين.

وتوضيحه إن وجود المعصومين وعناصرهم وكل ما يصدر منهم وكل الصفات التي تحل فيهم هبةٌ مِن الله سبحانه أو يكتسبونها بمقتضى استمرارهم في الرقي في سلم التقرب الإلهي كل ذلك تشريف لهم ومصدر هداية وإرشاد وإنارة للطريق إلى الله سبحانه للمخلوقين، ومعلوم أيضاً إن عداوة الشيطان الرجيم لبني آدم تبعثه إلى شدة غيظه وحنقه على الصالحين مِن أولاد آدم(علیه السلام) ويستجلب خيله ورجله وجميع طاقاته وأعوانه لإيذاء قادة الصالحين باعتبارهم مصدر الإشعاع للعالم في ظلمات الدنيا الدنية إلى الآخرة، ولِعِلْمِ اللعين بأنه لولا هؤلاء المقربون لَضَلَّت البشرية عن جادة الصواب وأصبحت كلها حصب جهنم، ولذلك يستجمع قواه في إيذاء هؤلاء وعرقلة جهودهم، فإذا رأى الناس ثبات أولياء الله سبحانه على جادة الصواب وعدم انصياعهم لدواعي الهوى ومشتهيات النفس وعدم انخداعهم بغرور الشيطان ومضلاته وعدم تعلقهم بالدنيا وعدم افتتانهم بزهرتها وزبرجها كان ذلك لسائر عباد الله من بني آدم أدعى إلى التمسك بطريق الله سبحانه وأقوى حجة عليهم وأوضح مسلك لهم فيصبح كل معصوم بل كل حركة وسكون ولحظة عيون منه

ص: 129

علامات يهتدي بها الضالون ونصب للهداية، فابتلاء هؤلاء خير لهم ليستمروا في التقرب والرقي إلى المعارج العالية في مدارج العبودية التي لا نهاية لأمدها أو عددها ويستنير بهداهم البشر حال حياتهم الظاهرية وبتذكر سلوكهم بعد رحيلهم عن الدنيا، بل دُعيَ الناسُ إلى الوقوف على أضرحتهم ليتذكروا ضمن ألفاظ الزيارات المروية ليستمدوا منها النور كما جاء في بعض الزيارات: (اشهد انك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها، واشهد انك من دعائم الدين وأركان المؤمنين)((1)).

وكذلك ما جاء في زيارة أمير المؤمنين(علیه السلام) مِن ذكر صلابته في التمسك بالحق: (عَبَدتَ الله مخلصاً، وجاهدت في الله صابراً، وجُدت بنفسك محتسباً، وعَمِلت بكتابه، واتبعتَ سُنةَ نبيه، وأقمتَ الصلاةَ، وآتيتَ الزكاة، وأمرتَ بالمعروف ونهيتَ عن المنكر ما استطعتَ مُبتغياً ما عند الله راغباً فيما وعد الله، لا تحفل بالنوائب، ولا تحجم عن محارب..) وغيرها من الفقرات في الزيارة الغديرية.

والملخص إن مسعى الشيطان في إيذاء أولياء الله المعصومين أشد وابتلاؤهم به أقوى وأمَرُّ وصبرهم على طريق الله سبحانه أعظم،

ص: 130


1- -- مقطع من زيارة الإمام الحسين(علیه السلام) (زيارة وارث).

وهذا مصدر للخير لهم ومشعل هداية لمن يهتدي وحجة على من يُقَصِّر في الاستفادة بنور هداهم.

المنشأ الثاني

اعترافه (علیه السلام) بارتكابه للمعاصي بجوارحه وأعضائه كلها.

التأمل في معنى المعصية ومصاديقها يكشف إنها تنحل إلى عنصرين أساسيين:-

احدهما: الخروج من طاعة المولى خروجاً مطلقاً أو خروجاً بمعنى أنه - أي المرتكب لها - لا يحصل في مقام التقرب الإلهي على ما يرنو إليه ويطمع فيه.

ثانيهما: ان المعصية تعرقل مسيرة العبد في مدارج التقرب الإلهي ومعارج سلم الرقي إلى مبدأ المبادئ، فإن من يبتلى بشيء من ذلك أي من العوائق يحسُّ بالعناء والمشقة أشد من العذاب الجسدي الذي قد يستحقه الإنسان لأجل خروجه عن طاعة الله سبحانه، فإن العذاب الروحي أشد وطءاً وأصعب تحملاً من العذاب الجسدي، ومن هنا كان قول النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) في مقام المقارنة بين ما لاقى من أعدائه وبين ما لاقاه الأنبياء السابقون: (ما أوذي نبيٌ بمثل ما أوذيت

ص: 131

به)((1))مع انه من المعلوم إن هناك أنبياء قد نُشِروا بالمناشير وقُتِّلوا تَقتيلاً وما ذلك إلا لأن المصاب الذي تحمله النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) كان ثِقْل وطأته على روحه المقدسة وأما المصائب التي تحملها الأنبياء السابقون كلها أو جلها فكانت جسدية، وإلى هذا المعنى يُشير قول أمير المؤمنين (سلام الله عليه) في الدعاء الذي عَلَّمَه تلميذه كميل بن زياد (هبني صبرت على حر نارك فكيف أصبر على فراقك)، فالمعاناة التي يتحسسها العبد من عرقلة مسيرته من هذا العنصر أشد.

إن أرواح المعصومين (سلام الله عليهم) ونفوسهم الطاهرة حيث إنها متميزة عن نفوس سائر العباد من جهة ارتقائها التكويني وعلو شأنها وأنها خلقت من نور العظمة كان نزولها إلى الدنيا وارتباطها بأجسامهم العنصرية باقتضاء الحكمة الإلهية لتكون أنوار الهدى وشموساً يهتدي بها الأمم في ظلمة المادة والماديات، وإلى هذا يرمز ما روي عن الإمام الصادق(علیه السلام): (والله لولا إنَّ الله فرضَ ولايتنا ومودتنا وقرابتنا ما أدخلناكم بيوتنا ولا أوقفناكم على أبوابنا)((2))، كلُ ذلك كان موجباً لبعدهم عن الوطن الأصلي فيما فوق الملأ الأعلى ونزولهم عن حظيرة القدس، لأن نفوسهم كانت متعلقة بالعرش

ص: 132


1- -- البحار ج 39 ص 55، وكشف الغمة ج 2 ص 537.
2- -- بصائر الدرجات ص 300 ح 5 و 7 و 10، والبحار ج2 باب إنهم: مواد العلم وأصوله ص 173 ح 5.

الإلهي محظوظة في تلك الحظيرة عائشة في جواره المعنوي ومرتقية على الدوام بالعبادة والتسبيح والتقديس للمبدأ الأعلى فنزولهم ارتبط بالوعد بعودهم إلى نفس المقام السامي مع زيادة المحظوظية لأجل ما يتحملونه في سبيل هداية البشر، فارتبطت تلك النفوس بالأجساد العنصرية فكان هذا الارتباط وما يلحقه مِمّا لابدَّ منه للعيش في هذه الدنيا من إحساس بمقتضيات الطبيعة من الحاجة إلى الأكل والشرب والنوم والألم والجوع والعطش والوقاع، فهذا الارتباط وما يتبعه من تقيّدهم بالجوارح والأعضاء كل ذلك عوائق وموانع وحواجز عن عودة تلك النفوس إلى موطنهم الأصلي، وإلى هذا أشار أمير المؤمنين(علیه السلام) بقوله في خطبته في وصف المتقين: (ولولا الأجل الذي قُدِّرَ لهم ما استقرت أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى اللقاء)((1)).

فكل ما هو من لوازم هذا الجسد من الجوارح والأعضاء وحركاتها وسكناتها رغم كونها في إطار الشريعة الغراء تعتبر حواجز وموانع، فكل ما يصدر من الجوارح باعتباره من لوازم العوائق بل هي العوائق رغم كونها موجبة لعلو الدرجات وسمو المقامات لاستلزامها التألم الروحي بتأخرهم لأجلها عن سرعة العود

ص: 133


1- -- نهج البلاغة الخطبة رقم (188) في صفات المتقين.

لأنها ناشئة من الارتباط بالعالم السفلي الدنيوي، كلها يُعبَّر عنها بالمعاصي رغم أنها مسبوكة في قوالب الشريعة الإلهية لاقتضائها أعظم وأهم عنصر في كيان ما يُسمى بالمعصية فَيُطلَق عليها المعصية.

وبهذا الملاك كانت الأفعال التي هي رغم كونها في حدود التقيِّد بالشريعة أطلق عليها لفظ الذنوب فإن الذنب (في الأصل الأخذ بذنب الشيء، يقال ذنبته أصبت ذنبه، ويُستعمل في كل فعل يستوخم عقباه اعتباراً بذنب الشيء، ولهذا يسمى الذنب تبعة اعتباراً لما يحصل من عاقبته)((1))، فكان كل ما يصدر من المعصومين ممّا عَدّوه من الذنوب إنما هو باعتبار ما قلناه لأنه يقتضي الإحساس بالبُعد وأن هذه الأمور تؤخرهم عن مقصدهم وهو العود إلى موطنهم الأصلي، ولأجل ذلك يقول سيد الشهداء(علیه السلام) في دعاء عرفة (إلهي أمرتَ بالرجوع إلى الآثار فأرجعني إليكَ بكسوة الأنوار وهداية الاستبصار، حتى ارجع إليك منها كما دخلت إليك منها مصون السِّر عن النظر إليها ومرفوع الهمة عن الاعتماد عليها أنك على كل شيء قدير، إلهي هذا ذلي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك، منك أطلب الوصول إليك، وبك استدل عليك، فأهدني

ص: 134


1- -- المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني مادة (ذ. ن. ب).

بنورك إليك، واقمني بصدق العبودية بين يديك)، وجاء في فقرة أخرى منه (إلهي إن القضاء والقدر يمنيني، وإن الهوى بوثاقة الشهوة أسرني، فكن أنتَ النصيرَ لي حتى تنصرني وتبصرني).

وهكذا إطلاق الإثم على كل ما يعوق مسيرة المعصوم إلى موطنه الأصلي، والإثم هو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب، قال الشاعر:

جمالية تغتلي بالروادف

إذا كذب الآثمات الهجيرا((1))

وبهذا اللحاظ أطلق العصيان، فهو وإن كان مدلوله المطابقي الخروج عن الطاعة ولكن كما قلنا إن المعصية تحتوي على عنصرين: احدهما ما يمنع من الوصول إلى الغاية العليا أو يحول دون سرعة الوصول وهذا ما عرفتَه آنفاً.

والآخر ينحل إلى معنيين:

احدهما: الخروج عن الطاعة والتمرد على المولى دائماً أو مؤقتاً وهذا الذي يُنافي العصمة.

وثانيهما: ما يقتضي عدم الحصول على ما يرنو إليه في مقام التقرب الإلهي وهو المعبَّر عنه في كلماتهم بترك الأولى، وهذا هو

ص: 135


1- -- المفردات للراغب الأصفهاني مادة (أ. ث. م)

الذي نسب صدوره إلى بعض الأنبياء السابقين(علیهم السلام) على مِثل ما قيل فيما صدر عن داوود(علیه السلام) لما تسوّر الملكان المحراب عليه، أو فيما فُسِّر به ما صدر عن أبينا آدم(علیه السلام)، وبه عُلِّلَ دعاء بعض الأنبياء على أقوامهم إذ الأولى في حق النبي الصبر على غرار صبر الرسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين(علیهم السلام)((1)).

المنشأ الثالث

اشارة

وفيه نقاط:

الأولى توبة المعصومين(علیهم السلام)

والذي نفهمه في هذا الشأن إن التوبة هي الرجوع كما تقدم، وابتلاء المعصومين(علیهم السلام) بالدنيا وأهلها من جهةٍ وارتباط نفوسهم وأرواحهم الطاهرة بالأجساد العنصرية من جهةٍ أخرى يُحسِّسَهم بالابتعاد عن مقرهم وموطنهم الأصلي حظيرة القدس ضمن الملأ الأعلى، فيتضرعون إلى الله سبحانه ليعينهم على سرعة التخلص من

ص: 136


1- -- وأما شيخنا الأستاذ المفدى (دام فيضه) فقد بين في المباحث المتعلقة بالآيات التي استدل بها على عدم العصمة انه لم يصدر من آدم وغيره من الأنبياء ما يعبر عنه بترك الأولى والذي يرشد إلى ذلك الحصول على الدرجات عقب صدور ما يعبر عنه بترك الأولى.

هذه الارتباطات ومقتضياتها ولوازمها المسببة لهم الآلام النفسانية المبرحة لشدة اشتياقهم إلى ما وعدهم الله سبحانه به من العود إلى أماكنهم مع زيادة التفضل ورفع الدرجات.

النقطة الثانية طلب المغفرة بجد

ينبغي أن نعلم إن الغفر هو الستر، وهو يتحقق بغض النظر عن النقص والعيب كما يتحقق بإزالته، واعتُبِر الذنب نقصاً لأجل انه يوجب الانحطاط لمرتكبه، فكل ما يعتبره الإنسان أو يعتبر في حقه نقصاً فهو ذنب، فطلب الغفران يُعتبر مطلباً عقلانياً مفروضاً بمقتضى الحكمة من كل مهذب النفس.

والمعصومون(علیهم السلام) يعتبرون ارتباطاتهم بالدنيا ولوازمها وارتباطهم بالجسد العنصري وما يستلزم ذلك الارتباط من لزوم الحاجة إلى ما يقتضيه هذا الجسد من المباحات، يعتبرون كل ذلك نقصاً عكس ما يتخيله من غشي بصره بمباهج الدنيا الخلابة وهو كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقممها.

وأما أهل الله وآله المصطفون الأبرار فيعتبرون سكناهم في هذه الدنيا بما فيها وعليها ومنها مصدر إحساس بالنقص يتألمون منها ويطلبون الراحة في الخلوات مع الله سبحانه والمناجاة معه، فقد روي

ص: 137

انه(صلی الله علیه و آله) ربما يقول لمؤذنه بلال (أرحنا يا بلال)، أو قول سيد الأوصياء(علیه السلام) حين استشهاد عمار(رضوان الله عليه):

ألا أيها الموت الذي ليس تاركي

ارحنى فقد أوديت كل خليلي

أراك بصيراً بالذين أحبهم

كأنك تنحو نحوهم بدليل

ويكشف عن شدة تألمه من الدنيا وما فيها قوله(علیه السلام): (إليكِ عني يا دنيا، فحبلُكِ على غاربكِ، قد انسللتُ مِن مخالبكِ، وأفلتُ من حبائلكِ، واجتنبتُ الذهاب إلى مداحضك، أين القوم الذين غَرَرْتِهم بمداعبك، أين الأمم الذين فتنتِهم بزخارفكِ، هاهم رهائن القبور ومضامين اللحود، واللهِ لو كُنتِ شخصاً مرئياً وقالباً حسِّياً لأقمتُ عليكِ حدودَ الله في عبادٍ غَررتِهم بالأماني وأممٍ ألقيتِهم في المهاوي وملوكٍ أسلمتِهم إلى التلف ومواردَ البلاء إذ لا ورد ولا صدر...) إلى أن يقول(علیه السلام): (اغربي عني فو الله لا أذلُ لك فتستذليني، ولا أسلس لك فتقودني، وأيم الله يميناً أستثني فيها بمشيئة الله لأروضن نفسي رياضة تَهِشُ معها إلى القرص..)((1))

إلى آخر كلامه(علیه السلام).

ص: 138


1- -- نهج البلاغة، مقطع من كتابه(علیه السلام) إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف، رقم الكتاب45.

وتألُّم المعصومين من الدنيا وتوبتهم عبارة عن الرغبة الملحة والشوق الشديد الأكيد في الرجوع إلى موطنهم الأصلي والتخلص السريع من العوائق، ولعله إليه يُشير ما روي عن الإمام الصادق(علیه السلام) في مصباح الشريعة المنسوب إلى الإمام الصادق(علیه السلام) حيث قال: التوبة حبلُ الله ومدد عنايته، ولابد للعبد من مداومة التوبة على كل حال، وكل فرقة من العباد لهم توبة، فتوبة الأنبياء من اضطراب السِّر، وتوبة الأولياء من تلوين الخطرات، وتوبة الأصفياء من التنفيس((1)).

والظاهر إن المقصود من اضطراب السر اضطراب الروح الذي يتململ ويضطرب حنيناً إلى حظيرة القدس ناشئاً من ضغط وثقل تعلق الروح بعالم الكون والفساد واضطرارهم إلى المباحات كما تقدمت الإشارة إليه.

والظاهر إن المقصود من التنفيس إن الأصفياء لارتباط أرواحهم بالأجساد يحسون الحاجة إلى راحة الجسد التي هي من مقتضياته.

والمقصود من تلوين الخطرات هي الأمور التي يفتقر إليها أجساد الأولياء ويلازم تلك الأجساد خطور ما يفتقر إليه الجسد من المأكل والمشرب والوقاية من الحر والبرد والتألم بما يؤلم والتحسس بالراحة يتبع راحة الجسد.

ص: 139


1- -- مصباح الشريعة الباب الرابع والأربعون (في التوبة).

وتألّم غيرهم على الدنيا لتعلق قلوبهم بها فيقع في المهاوي والمهالك وإن شملته الرحمة واحتضنه التوفيق فيؤوب إلى الطاعة مستعيناً بالله على التخلص من مخالب أعماله التي احتطبها على ظهره لتعلقه بالدنيا وانزلاقه إلى ملذاتها، ولعله إليه يشير القول المنسوب إلى الإمام الصادق(علیه السلام): وتوبة العامة من الذنوب((1)).

واعلم إن بين الأنبياء والأولياء والأصفياء من جهة وبين العوام من جهة أخرى طائفة يعبر عنها بالخواص وتوبتهم من الاشتغال بغير الله، بمعنى اشتغالهم ببعض المباحات بقصد التلذذ المباح بها.

النقطة الثالثة

استجابة الله تعالى لطلب التائب يختلف حسب اختلاف حالاته ومقامه، فالمذنب التائب توبة الله عليه أما بستر عيبه إلى أن يحين وقت المؤاخذة والمعاقبة أو بمحوه، وأما توبته تعالى وغفره لأوليائه المعصومين فبإفاضاته عليهم بعوالي المقامات وبفتح الطرق إلى المعالي ليزيح بذلك الإحساس بالألم لديهم(علیهم السلام) بابتلائهم بالدنيا وأهلها وسكناهم مع مَن يستلذ بها ويسكن قلبه إليها وتطمع نفسه في الاستزادة منها.

ص: 140


1- -- المصدر السابق.

المنشأ الرابع

ينبغي أن نعلم أن ارتباط أرواح المعصومين على اختلاف مراتبهم بأجسادهم الناسوتية ولوازمها بما إنها تبعدهم عن عالم التجرد قسراً وهم مع ذلك مأمورون بحماية أجسادهم عما لا يجوز تعريضها له وملزمون بتهيئة مستلزماتها وهي بمقتضى قناعتهم ارتباط بما لا يليق بمقام ذواتهم لأنه يعيقهم عن العبادة في عالم التجرد الذي يعتبر أرقى وأرفع درجة في مراقي التعبد يصيبهم الخوف من نار جهنم من جهة عدم تمكنهم من تلك الحالة التي يحصلون عليها في طرف تجردهم تحت ظلال عرش الرحمة وعدم تمكنهم من تلك العبادة لارتباطهم بالدنيا كما أشرنا إليه، فهذا المعنى يخيفهم من نار جهنم ولذلك تجد في أدعية المعصومين(علیهم السلام) الاعتراف بالتقصير في العبادة والتوبة منها.

وبالجملة إن ابتعادهم القسري عن عالم التجرد الذي كانوا فيه محلقين بسمو مرتبة العبادة لأجل تقيدهم بعالم الناسوت ومتطلباته حتى أُمروا بطلب العافية في الأجساد ومنحه الرزق بأقسامه التي يفتقر إليها الجسد يوجب لهم التقيد بمرتبة دنيا من العبادة والتمتع بالعشق الإلهي بالقياس إلى ما كانوا عليه ويصيرون إليه بعد انفصال أرواحهم من الجسد من عالم التجرد الذي كانوا فيه كل ذلك يخلق لديهم الإحساس بالقصور بل بالتقصير في أداء حق العبادة والقيام

ص: 141

بحق ما يقتضيه الحب والعشق للمعبود، ومن هذا الإحساس بالتقصير يتولد لديهم الخوف من العقوبة ولذلك روي عن الإمام زين العابدين(علیه السلام) انه كان يعتبر عدم أدائه حق العبادة معصية مخيفة له.

والذي يشهد بأنهم(علیهم السلام) لا يرضون لأنفسهم بعبادتهم حالة تقيد أرواحهم بالأجساد لأنها دون ما يريدون ويتمنون قول الإمام زين العابدين (سلام الله عليه): (إلهي لولا الواجب من قبول أمرك لنَزَّهتُكَ عن ذكري إياكَ، على أن ذكري لكَ بقدري لا بقدركَ، وما عسى أن تبلغ مقداري حتى أُجعَل مَحلاً لتقديسك...)((1)) إلى آخر كلامه(علیه السلام).

إن قلتَ إن كان ارتباط المعصومين بالأجساد الناسوتية قسرياً وكان التقيّد بمستلزمات السكنى في هذا العالم عالم الكون والفساد مرتبطاً بالإرادة التكوينية الإلهية وهم يفعلون مبلغ مقدورهم ضمن ما يطيقون من العبادة فمن أين يأتي الإحساس بالتقصير؟

نقول حينما ينظر المعصوم إلى الفارق والبعد الشاسع بين ما كان عليه من العبادة حال تجرده وبين ما هو عليه من العبادة حال تقيده بهذا العالم ومستلزماته فهذا الفارق يجعله يتحسر على ما لا يفعله، وحينما يرى نزاهة الله تعالى عن كل قبيح وانه سبحانه لم يربطه بهذا

ص: 142


1- -- قطعة من مناجاة الذاكرين، انظر كتب الأدعية ومنها مفاتيح الجنان.

العالم ليبعده بل ليمهد له سبيل الفوز إلى مراتب علياً فوق ما كان عليه قبل الارتباط ويرى أن الله سبحانه لم يسلب منه القدرة على العبادة بأعلى المراتب يتولد لديه الإحساس بأن عدم الوصول إلى تلك المرتبة من العبادة يرجع إليه لا إلى الله سبحانه، ولأن نفس الاعتذار من العبد أمام المولى من عدم الوصول إلى المرتبة العليا من الطاعة يُعد اعترافاً بالتقصير.

المنشأ الخامس

وهو الاعتراف بالمعصية ضمن التجاوز والاعتداء على الآخرين من عباد الله وذلك مثل ما جاء في دعاء يوم الاثنين (اللهمَّ إني أستغفرك لكل نذرٍ نذرتُهُ، وكل وعدٍ وعدتُهُ، وكل عهدٍ عاهدتُهُ ثم لم أفِ به، وأسألُكَ في مظالم عبادك عندي فأيما عبدٍ من عبيدكَ أو أمةٍ من إمائِكَ كانت له قِبلي مظلمةٌ ظلمتُها إياه في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو في أهله وولده أو غيبة اغتبته بها أو تحامل عليه بميل أو هوى أو أنفة أو حمية أو رياء أو عصبية غائباً كان أو شاهداً حياً كان أو ميتاً وقَصُرَت يدي عن ردها إليه والتحلّل مِنه، فأسألُكَ يا من يملكُ الحاجات وهي مستجيبة لمشيئتك ومسرعة إلى إرادتك أن تصلي على محمد وآل محمد وان ترضيه عني بما شئت...) إلى آخر الدعاء.

ص: 143

لا يخفى إن لفظة العبد ليس يخص الإنسان والجن والملائكة بل يعم جميع الحيوانات كما في قوله سبحانه: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ»((1))، بل جميع الكائنات بما فيها النبات والجماد يشمله عنوان العباد كما في قوله عز مِن قائل: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»((2))، وقد تقرر نسبة التسبيح إلى ما في السموات والأرض بل إلى نفس السموات والأرض قال(عزوجل): «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»((3))، ولعل قوله سبحانه: «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ»((4)) أوضح دلالة على المقصود لتضمنها المؤاخذة، ويدل عليه ما جاء في معتبرة معاوية بن عمار أنه أُتيَ أبو عبد الله(علیه السلام) فقيل له: إن سبعاً من سباع الطير على الكعبة ليس يمرُّ به شيءٌ من حمام الحرم إلا ضربَهُ، فقال: فانصبوا له واقتلوه فإنَّه قد ألحد((5)).

ص: 144


1- -- سورة الأنعام/38
2- -- سورة الإسراء/44.
3- -- سورة فصلت/11.
4- -- سورة التكوير/5.
5- -- الكافي ج 4 باب الإلحاد بمكة.. ص 227 ح 1.

وكذلك ما روى عبد الله بن ميمون عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام) قال: قال يعقوب لأبنه يوسف(علیه السلام): (يا بني لا تزنِ فإن الطير لو زنى لتناثر ريشه)((1))، وإخضاع الله سبحانه الطيور وغيرها طاعة لنبيه سليمان(علیه السلام) شاهدٌ على ذلك أيضاً قال الله سبحانه: «وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ وَالطَّيْرِ»((2))، وقال تبارك وتعالى: «وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ»((3))، وما روي عن الإمام زين العابدين(علیه السلام) أنه ربما رَفع درته ليعاقب ناقته على تقصيرها في المشي ثم يمتنع قائلاً (آه لولا القصاص)((4)) مِمّا يعني أنه يجب على الإنسان أن يستعد للمحاسبة على تعدِّيهِ على أيِّ موجود في العالم وكل تصرف في شيءٍ من الكائنات خارج عن الإطار المسموح به شرعاً يُعتبَر تعدّياً وظُلماً، ولعل إليه يشير ما روي في منع التبول في الماء الراكد معلَّلاً بأن له أهلاً يتأذون، فالتعبير المروي عن الإمام (سلام الله عليه) في الفقرة التي تقدمت

ص: 145


1- -- من لا يحضره الفقيه ج4 باب ما جاء في الزنا ص13 ح4، وكذلك في الكافي ج5 باب الزاني ص542 ح8، والمحاسن للبرقي (كتاب عقاب الأعمال) ح 92.
2- -- سورة النمل/17.
3- -- سورة ص: آية 19.
4- -- البحار ج 46 باب مكارم أخلاق الإمام السجاد(علیه السلام).. ص 76 ح69 وص91 ح 78، ومستدرك الوسائل ج 18 باب نوادر ما يتعلق بأبواب القصاص ص 289 ح5.

الإشارة إليها تعم كل ما أشرنا إليه (ربنا اكنفنا برحمتك واجعل حياتنا كما تقتضيه حكمتك).

ومما جاء في هذا المعنى في الأدعية قول الإمام السجاد(علیه السلام) في الدعاء الموسوم بمكارم الأخلاق: (اللهمَّ اجعل ما يلقي الشيطان في روعي من التمني والتظني والحسد ذكراً لعظمتك، وتفكراً في قدرتك، وتدبيراً على عدوك، وما أجري على لساني من لفظة فحش أو هجر أو شتم عرض أو شهادة باطل أو اغتياب مؤمن غائب أو سب حاضر وما أشبه ذلك نُطقاً بالحمد لك).

فنقول: إن القضايا المتعارفة التي لا يُقيَّد المحكوم عليه فيها بالوجود الذهني محققاً أو مقدراً ولا بالوجود الخارجي كذلك فهي الحقيقية بقول مطلق، وهي حين التحليل تساوق الشرطية بمعنى أنه لا يلاحظ فيها ولا ينظر إلى نحو تحقق الموضوع بل يكون الحكم فيها إن كل ما اتصف بالوصف العنواني على تقدير وجوده في الخارج أو في الذهن فهو متصف بالمحمول على ذلك التقدير، وعلى هذا تجري هذه القضايا التي جاءت في الكلمات المروية في أدعية المعصومين(علیهم السلام) فقوله(علیه السلام): (أيما عبد...) يعني لو تحقق الموضوع بهذا الوصف العنواني لكان المطلوب من الله سبحانه ما ذكر في فقرات الدعاء، ومعلوم أن القضايا الحقيقية لا تقتضي تحقق الموضوع واتصافه بالوصف العنواني بالفعل في أي ظرف من خارج

ص: 146

أو ذهن، وبهذا يُفسَّر ما جاء في فقرات من دعاء أمير المؤمنين(علیه السلام) الذي علمه تلميذه كميل بن زياد(رضی الله عنه) مثل قوله: (اللهمَّ أغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهمَّ أغفر لي الذنوب التي تُغير النعم، اللهمَّ أغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهمَّ أغفر لي الذنوب التي تُنزِل البلاء، اللهمَّ أغفر لي الذنوب التي تقطع الرجاء)، على أن هذا الدعاء خارج عن محل البحث لأنه جاء في مقام التعليم كدعاء أبي حمزة الثمالي الذي تعلمه من الإمام السجاد(علیه السلام).

ص: 147

ص: 148

الموانع والحواجب عن التوبة

أعلم يا أخي إن هناك موانع عديدة وحواجب كثيرة تحول دون مبادرة العبد إلى التوبة وتدفعه إلى التخبط في حياته فيندفع العبد إلى المعصية ويستمر في الغي والولوج في ظلامات الدنيا الدنية ثم يستمر حتى تفاجئه المنية فيتحسر ويكون مصداق قوله سبحانه: «ربِّ لولا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ - وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»((1))، وقد يتمادى المجرم في غيِّه وعدوانه على نفسه وعلى خالقه ومولاه ويدوم في تمرده على سيده ويموت موت فجأة فيكون من الخاسرين.

وهناك من أظنه أسوأ حالاً من هذين وهو الذي يتذكر التوبة ووجوبها وينتبه إلى طغيانه وغَيِّهِ ويلتفت إلى ما يجب أن يفعله في

ص: 149


1- -- سورة المنافقون/10, 11.

تحقيق نجاته ولكن يُسوّف التوبة، فإن من ذكرّ ثم سوَّف أقبح ممن استمر في غَيِّهِ ولم ينتبه إلى نفسه مع أن ذلك يكون مسبوقاً بالتذكرة بنحو من الأنحاء لئلا يكون لأحد حجة على الله بل يكون له تعالى على الجميع الحجة البالغة.

ونحن نشير في الذيل إلى بعض تلك الموانع والحواجب لعلنا جميعاً نلتفت إلى أنفسنا ونحاول التخلص من تلك الموانع ونسعى في التحرر من ظلمة تلك الحواجب، ومعلوم انه لم يكن لأحد ذلك ولن يكون لأحد إلا مع شمول رحمة الله سبحانه له ولعلنا نتذكر أو نخشى.

ومن تلك الأسباب والموانع:-

ضعف الإيمان بالله سبحانه ورسوله(صلی الله علیه و آله) وباليوم الآخر.

وهذا الضعف قد ينشأ من الاستمرار على أكل الحرام ومِن حُبِّ الدنيا بحيث قد تصل الحال بالإنسان - نستجير بالله - على أن يفرغ واقعه عن الإيمان بالكامل وهو وإن كان يَرى نفسه من ضمن المسلمين أو المؤمنين لكن ليس للإيمان حتى الرائحة من وجودٍ في قلبه وتجده يستهزئ بالشعائر الدينية ويستهين برجالات الدين ويشكك في المعاجز والكرامات ولو كانت مروية بسند معتبر ويَعتبر كثيراً من الشعائر الدينية خرافات أو إنها ذهب وقتها أو إن هذه المشاعر تسبب التفرقة بين المسلمين، وقد تصل به

ص: 150

الحال إلى التشكيك في عصمة المعصومين(علیهم السلام)، نعم يُصرِّح بأن الأنبياء والأئمة(علیهم السلام) معصومون ومع ذلك يعتبرهم كسائر البشر في مقام الحديث عنهم، فمثلاً يدعو إلى تخفيف التعازي والمجالس الحسينية ويدعو إلى ترك البكاء وترك اللطم بحجة انه قد طال الزمن ولا يعلم أن هذه الأمور تشكل أساس بقاء الدين واستمرار الإسلام، ويستهين بالزيارات المخصوصة وغيرها بحجة إن الإمام في الجنة لا يستفيد بزيارتي، فمثل هذا الشخص لا يميل إلى الاستغفار لأنه في واقعه خالٍ عن الإيمان بالقيامة وإن كان يصلح انه قد تعوَّد عليها أو يخاف سقوط عنوانه وشخصيته في المجتمع، وهذا الصنف مِن المنافقين - في الواقع - لا يؤمن بالدعاء ولكن ربما يدعو ولا يفكر في الاستغفار والتوبة، وإلى مثل هؤلاء أشار قوله سبحانه: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ»((1))، وإلى حالتهم أشار قوله سبحانه: «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ»((2)).

ص: 151


1- -- سورة المنافقون/5 , 6.
2- -- سورة المنافقون/3.

وأعلم يا أخي ان أمثال هؤلاء تجدهم في جميع المجتمعات الإسلامية حتى في ضمن الطائفة المُحِقة، وربما في زيِّ رجال الدين.

ومنها: تراكم الرّين على القلب.

إذا توغل المكلف في المعاصي وأكل الحرام والمشتبهات ونبت على ذلك لحمه واشتد عظمه فتضمحل الجهات النورانية في نفسه بسيئات أعماله وقد استمر على ذلك رغم التحذيرات والإنذارات الإلهية والتذكير منه سبحانه في جميع منعطفات حياته ورغم التنبيه المستمر منه سبحانه وهو يتمادى في غَيِّهِ فَيسوَّد قلبُه ويضعف منه روحُ الإيمان وإليه أشار قوله سبحانه: «كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ»((1))، وقوله سبحانه: «وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً»((2)).

وهؤلاء لا يفقدون أشباههم الذين يوافقونهم على سلوكهم فيتعاونون على الإثم والعدوان والتمادي في الغَيّ «وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ»((3))، وهؤلاء لا ينتفعون بنصيحة ناصح وإنذار منذر كما في قوله سبحانه: «وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ

ص: 152


1- -- سورة المطففين 14.
2- -- سورة الأعراف/164.
3- -- سورة الأعراف/202.

أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ»((1))، وأمثال هؤلاء قد يتظاهر بالاستغفار أو التوبة مماشاةً مع التائبين الحقيقيين ولكن التوبة لا تنبعث من عمق إرادتهم، وإلى أمثال هؤلاء أشار أمير المؤمنين(علیه السلام) ضمن بيان مراحل التوبة بقوله(علیه السلام): أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتُذيبه بالأحزان حتى تُلصِق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد((2))

وقد تقدم تمام كلامه(علیه السلام)((3)).

وهذه الطائفة أهون من الأولى ويؤمل في حقها الانتباه والالتفات إلى ما هم فيه وإن كان احتمال تأثرهم بالمواعظ وقوارع المنذرات ضعيفاً، فقد روى في بعض المقاتل إن سيد الشهداء(علیه السلام) حين أراد أن يعظ الأشقياء فأخذ بعضهم يصيح ويرفع صوته لِيَحول دون استماع كلامه قال: (وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد فمن أطاعني كان من المرشدين ومن عصاني كان من المهلكين وكلكم عاصٍ لأمري غير مستمع قولي فقد ملئت بطونكم من الحرام وطبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون، ألا تسمعون)((4))

وكان عاقبة أمرهم إلى ما نعلمه جميعاً، ولذلك ورد التحذير الشديد من أكل المشتبهات فضلاً عن

ص: 153


1- -- سورة هود/34.
2- -- نهج البلاغة/ الحكم والمواعظ/ الفقرة 417.
3- -- تقدَّم في الشرط السادس من شروط التوبة.
4- -- والبحار ج 45 ص 8.

أكل الحرام، ومعلوم أيضاً إن المعاشرة مع المذنبين والمستهزئين بدين الله وأحكام شريعته أيضاً يسبب مثل هذه الحالة، ولذلك مُنِعنا عن مخالطة المذنبين والمعايشة معهم وأمرنا بالابتعاد عن مجالس اللهو ومجالس البطالين الذين لا يهتمون بالدين فان المعاشرة مع هؤلاء تؤدي إلى مثل هذه الحالة.

ومنها: قساوة القلب.

إذا استمر الإنسان في عدم المبالاة وعدم الاهتمام بالشريعة رغم أدائه للواجبات واستمر في ارتكاب الصغائر مع عدم تورعه عن الكبائر إذا أُتِيحت له الفرصة فيقسو قلبه فلا تلين لاستماع المواعظ نفسه ولا يخضع لتأثير النصح وان كان يخضع لاستماعها إلاّ إن قساوة القلب تحول دون اللجوء إلى التوبة ولا تذرف عينه دمعةً واحدةً في خوف الله، انه يبكى على ما يفوته من الدنيا ويصرخ على فقدان أهله وأصدقائه وأولاده لا تظهر أية دمعة في زوايا عينيه مخافة من الله تعالى.

وهذه الطائفة تُشير إليها بعض الآيات مثل قوله سبحانه: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً»((1))، وقال سبحانه: «وَلَ-كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ

ص: 154


1- -- سورة البقرة/74.

يَعْمَلُونَ»((1))، وقوله تعالى: «فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ»((2))، وقوله(عزوجل): «فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً»((3))، وحَذَّر الله سبحانه عن قساوة القلب قال تعالى: «فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ»((4)).

وهذه الطائفة أهون من السابقتين إذا كان الشخص من الذين آمنوا بالله ورسوله، فإذا اقتضت الحكمة الإلهية فشملته الرحمة فينتبه إلى ما هو فيه ويلجأ إلى من يرشده وينبهه ويبادر إلى إصلاح نفسه فيحدث انقلاب من حالة إلى أخرى على غرار ما حدث للحر بن يزيد الرياحي(رضی الله عنه)، ولذلك التائب الذي كان يسرق الأكفان في زمن النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) وغير ذلك من شواهد ونظائر كثيرة.

ومنها: الاغترار بالإمهال.

ربما يظن الإنسان إن الله سبحانه قد مَنَّ عليه في الدنيا فيتمادى في الذنوب والغَيِّ ويجعله الشيطان يعتقد بان الله سبحانه سوف يتجاوز عنه ويغفر له كل ما يفعل من دون حاجة إلى التوبة واتخاذ ما يمكن أن يكون وسيلة لتكفير ذنوبه ولا يدري إن النعم الدنيوية

ص: 155


1- -- سورة الأنعام/43.
2- -- سورة الحديد/16.
3- -- سورة الحديد/13.
4- -- سورة الزمر/22.

والإمهال استدراج له، وإلى أمثال هؤلاء يشير قوله سبحانه: «فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً»((1)) والعياذ بالله، ويغفل هؤلاء عن أن غفران الذنوب وشمول رحمته سبحانه في كثير من الآيات مشروط بالتوبة قال تعالى: «فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً»((2))، وكقوله سبحانه: «فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ»((3))، وقوله سبحانه: «كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُوْلَ-ئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ»((4))، والظاهر إن المراد بالكفر الخروج من الطاعة وليس المقصود كفر العقيدة فإنه لا يجتمع مع الشهادة بان النبوة -- نبوة رسول الله(صلی الله علیه و آله) -- حقٌ، وكقوله

ص: 156


1- -- سورة الأنعام: آية 44.
2- -- سورة مريم: الآيتان 59 , 60.
3- -- سورة القصص/67.
4- -- سورة آل عمران/85-- 89.

سبحانه: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ»((1)).

وروي ما معناه لا تكن ممن يرجو رحمة الله بلا عمل.

ومنها: الاغترار بالثواب الموعود على بعض المستحبات.

هناك مستحبات ورد في الروايات الوعد عليها بالأجر الجزيل والوعد بالجنة كزيارة سيد الشهداء(علیه السلام) وصلاة الليل وغير ذلك من المستحبات فيتخيل المغرور بان الإتيان بهذه المستحبات كلها أو جلها أو بعضها يغنيه عن التوبة، فربما يكف عن المعاصي ويكتفي بالمستحبات المومى إليها معتقداً استغناءه بها عن التوبة عما فعل، أو قد تغلبه شقوته فيستمر في المعاصي ويغفل عن أن الله سبحانه إنما يمنح الأجر الموعود على المستحبات وغيرها إذا قُبِلَت وان الله سبحانه لا يتقبلها إلا من المتقين قال الله سبحانه: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ»((2))، ولا تقوى مع ترك أهم الواجبات الإلهية وهو التوبة. ومنها: استحقار الذنوب أو استصغارها واستقلالها.

ربما يقع العبد فريسةً سهلةً في يد الشيطان الرجيم فتجره النفس الأمارة بالسوء إلى مهلكة تكون محرقة له في الآخرة وربما في الدنيا

ص: 157


1- -- سورة النحل/119.
2- -- سورة المائدة/27.

أيضاً وهو انه يرى ذنبه ليس بشيءٍ في مقابل ذنوب الآخرين، أو ليس بشيءٍ تجاه رحمة الله، أو انه لم يذنب إلا هذا الذنب وغيره قد أوغل في الذنوب، أو يستصغر ذنبه ويغفل عن عظمة من أساء إليه وخرج من طاعته وتمرد عليه وهو المولى جَلَّت عظمتُه، فقد روى زيد الشحام قال: قال أبو عبد الله الصادق(علیه السلام): اتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تُغفر، قلتُ: وما المحقرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب فيقول طوبى لي لو لم يكن غير ذلك((1)).

وروى سماعة بن مهران قال: سمعتُ أبا الحسن(علیه السلام) يقول: لا تستكثروا كثيرَ الخير ولا تستقلوا قليلَ الذنوب، فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يكون كثيراً، وخافوا الله في السِّر حتى تعطوا من أنفسكم النصف((2)).

وروى الكليني(رضی الله عنه) بسنده عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) قال: إن رسول الله(صلی الله علیه و آله) نزل بأرض قرعاء فقال لأصحابه: ائتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب، قال: فليأتِ كل إنسان بما قدر عليه فجاؤا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله): هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرات من الذنوب فإنَّ لكل شيءٍ طالباً، ألا وإن طالبها يكتب ما قَدَّموا وآثارهم وكل شيءٍ أحصيناه في إمام مبين((3)).

ص: 158


1- -- أصول الكافي ج 2 باب استصغار الذنب ص 287 ح 1.
2- -- المصدر السابق ص 287-- 288 ح 2.
3- -- المصدر السابق ص 288 ح 3.

ومنها: انخداع الإنسان بأن معصيته مغفورة.

ربما يغتر الإنسان لسفاهته وقلة فهمه فيتخيل أو يعتقد بان ما يفعله من المعاصي هي من صغائر الذنوب وهي مغفورة بدون حاجة إلى التوبة لأن الله سبحانه يقول: «إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً»((1)) ويغفل أو يتغافل عن أمرين:

احدهما: إن الإصرار على المعصية وان كانت صغيرة يجعلها كبيرة، فقد روى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) انه قال: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار((2)).

وعن أبي بصير قال سمعتُ أبا عبد الله(علیه السلام) يقول: لا والله لا يقبل الله شيئاً من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه((3)).

ثانيهما: إنَّ الله سبحانه وعد بالتجاوز عن الصغائر مع الاجتناب عن الكبائر إلا انه قَيَّدها بعدم الإصرار، فقد روى جابر عن أبي جعفر(علیه السلام) في قول الله(عزوجل): «وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وهم يعلمون»((4))، قال: الإصرار هو أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار((5)).

ص: 159


1- -- سورة النساء/31.
2- -- أصول الكافي ج 2 باب الإصرار على الذنب ص 288 ح 1.
3- -- المصدر السابق ح 3.
4- -- سورة آل عمران/135.
5- -- أصول الكافي ج 2 باب الإصرار على الذنب ص 288 ح 2.

ومنها: القنوط من رحمة الله واليأس من روحه.

قال الله سبحانه: «لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً»((1))، طبعاً مع التوبة وسائر ما يحتاج إليه لكسب المغفرة، وقال تعالى: «وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ»((2))، وقال تعالى: «وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ»((3))، وقال تعالى: «وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ»((4))، وقال تعالى: «وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئوساً»((5)).

وقد روي في كتاب عيون أخبار الرضا(علیه السلام) أن عبد الله البزاز النيشابوري قال: كان بيني وبين حميد بن قحطبة تجارة وبعد أن رجعت من سفرة استدعاني، فذهبتُ لرؤيته بلباس السفر دخلتُ عليه وكان الوقت ظهراً من شهر رمضان المبارك أحضر له طشتاً وإبريقاً فغسل يديه وأمرني بذلك فغسلت يديّ ونسيت أنه شهر رمضان وبعد أن أحضروا الطعام تذكرت أنه شهر رمضان فجلست بعيداً، فقال حميد: لماذا لا تأكل؟ قلتُ: أيها الأمير انه الشهر

ص: 160


1- -- سورة الزمر/53.
2- -- سورة الحجر/56.
3- -- سورة الروم/36.
4- -- سورة فصلت/49.
5- -- سورة الإسراء/83.

المبارك ولستُ مريضاً ولا عذر آخر لي لأفطر ويمكن أن يكون للأمير عذر، فبكى وقال: أنا أيضاً لا عذر لي ولستُ مريضاً، ثم سال الدمع على وجنتيه وبعد أن انتهى من الطعام سألتُه عن سبب بكائه، فقال: عندما كان هارون الرشيد عليه اللعنة في طوس أرسل خلفي ذات ليلة وعندما دخلتُ عليه رأيتُ بقربِهِ شمعةً مضاءةً وسيفاً أخضر اللون بدون غلافه، وعندما رآني سألني كيف هي طاعتك لأمير المؤمنين، قلتُ: بالروح والمال، فسمح لي بالانصراف، ولم تَمرّ فترةٌ حتى أحضرني مرة ثانية وكرر نفس السؤال، فقلتُ: بالروح والمال والأهل والأولاد، فسمح لي بالانصراف وحَدَثَ الشيء نفسه في المرة الثالثة، فقلتُ: بالروح والمال والأهل والأولاد والدين، فضحك فقال: خُذ هذا السيف وبمجرد أن يرشدك الخادم إلى شخص اقتله، فأخذتُ السيف وسرتُ خلف الخادم، فأخذني إلى منزل بابه مقفل وبعد فتحه دخلنا فرأيتُ في الوسط حفرة وكان في البيت أربع حجرات وكل واحدة منها مقفلة، ففتح باب إحداها فرأيت عشرين شخصاً بين عجوز وشاب مكبلين بالسلاسل وكانوا كلهم من أبناء علي والزهراء (عليهما السلام)، قال الخادم: يجب أن تقتلهم جميعاً وكان يحضرهم الواحد تلو الآخر وكنتُ اقطع رقابهم وأرمي برؤوسهم في الحفرة حتى قُتِلوا جميعاً، ثم فتح باب الحجرة

ص: 161

الثانية وكان فيها كالأولى فقتلتُهم جميعاً ورميت رؤوسهم في الحفرة، ففتح الباب الثالث وكان فيها مثل سابقتيها فقتلتُهم جميعاً وبقي عجوز واحد فقال لي: ماذا لديك من عذر يوم القيامة عندما يحضرونك أمام جدي رسول الله(صلی الله علیه و آله) ويسألونك عن قتل ستين فرداً من أبنائه من دون ذنب؟! فارتعدت فرائصي فنظر الخادم إليّ نظرة غاضبة فَخِفتُ وقَتلتُ ذلك العجوز أيضاً ورميتُ رأسه في تلك الحفرة، فما فائدة الصلاة والصيام لِمَن قَتلَ ستين فرداً من أولاد الرسول(صلی الله علیه و آله) وأنا على يقين من إني مخلدٌ في جهنم، ولهذا فإني لا أصوم شهر رمضان((1)).

ويروى أنه بعد مجيء الإمام علي بن موسى الرضا(صلی الله علیه و آله) إلى خراسان روى عبد الله النيشابوري قصة ذلك الملعون ويأسه من ربه للإمام(علیه السلام)، فقال(علیه السلام): الويلُ له، إن اليأس الذي كان لدى حميد من الرحمة الإلهية اكبر ذنب من قتل الستين علوياً((2)).

ص: 162


1- -- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) ج 1 ص 108، والبحار ج 48 ص 176.
2- -- كتاب الذنوب الكبيرة للسيد عبد الحسين دستغيب هامش ص73.

الفوائد المترتبة على التوبة

قد تقدم إن التوبة مطلوبة من الكل وكما تقدم إنها تختلف من شخصٍ إلى آخر فهناك توبة المعصومين وغيرهم، فلابد أن تكون الثمرات والفوائد المرجوة والغايات المقصودة من توبة كل صنفٍ من أصناف التائبين يختلف عما يرجى ويقصد ويترتب على توبة صنف آخر.

أما توبة المعصومين(علیهم السلام) فبما إنها عبارة عن الرجوع إلى الله سبحانه بُغية التخلص من الدنيا ومستلزماتها من السكنى فيها التي رغم اقتضائها رفع الدرجات لهم لابتلائهم بها ومقارعتهم ومصارعتهم أهل الدنيا ومتطلباتها إنها عوائق عن التحاقهم بالملأ الأعلى والعودة إلى حظيرة القدس التي هي الغاية العليا والغرض الأسمى لهم ولذلك يرفضون الدنيا وان لم يكن الاستفادة بها على حساب مراتبهم العليا في الآخرة فقد طَلَّقها سيد الأوصياء(علیه السلام) ثلاثاً كما تقدمت الإشارة إلى الكلام الذي رُوي عن ضرار بن

ص: 163

ضمرة، وقد عُرِضت الدنيا على النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) والبقاء فيها ما دامت باقية من دون أن ينقص من حظه في الآخرة شيءٌ واختار الآخرة استناداً إلى قوله سبحانه: «وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى»((1))، وإلى مرتبة المعصومين التائبين أشار قوله سبحانه: «إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ»((2))، فإن بذل النفس هو أقصى غاية الجود من الكريم وأعلى درجات الاستسلام لطاعة الله.

وهؤلاء الذين أشارت الآية إليهم قد باعوا أنفسهم وأموالهم وهو تَنَزُّلٌ مِن الأعلى إلى الأنزل، وإنما ذُكِر الأمران لأن العبادة بدنية ومالية ولا ثالث لهما، ويروى أن الله سبحانه تاجر المؤمنين فأعلى

ص: 164


1- -- سورة الضحى/4 , 5.
2- -- سورة التوبة/111, 112.

لهم الثمن فجعل لهم الجنة، وروى الطبرسي(رضی الله عنه) أنه كان الإمام الصادق(علیه السلام) يقول: أيا مَن ليست له همة، إنه ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها، وأنشد الأصمعي للصادق(علیه السلام):

أثامن بالنفس النفيسة ربها

فليس لها في الخلق كلهم ثمنْ

بها نشتري الجنات إن أنا بعتها

بشيءٍ سواها إن ذلكم غبنْ

إذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها

فقد ذهب الدنيا وقد ذهب الثمنْ((1))

ومعلوم أن الصفات المذكورة في الآيتين مجتمعة لا توجد إلا في المعصومين(علیهم السلام) كما التزم بذلك في مجمع البيان على مبادئ الإمامية (رضوان الله عليهم)، ويؤكد ذلك ما روى من أن هذه المبايعة المشار إليها كانت من أمير المؤمنين(علیه السلام) وأخيه جعفر وعمه الحمزة (سلام الله عليهما) كما ورد في زيارة أمير المؤمنين(علیه السلام) يوم الغدير، وروى العياشي والقمي إنها نزلت في الأئمة(علیهم السلام) لأنه وصفهم بصفة لا تجوز في غيرهم((2)).

ص: 165


1- -- مجمع البيان ج 5 ص 130.
2- -- تفسير القمي ج 1 ص 306، و تفسير الصافي ج 1 ص734.

ومما يترتب على توبة المعصومين(علیهم السلام) رفع الدرجات، فتوبة أبينا آدم (على نبينا وآله وعليه السلام) كان مما ترتب عليها ما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: «إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ»((1))، وقوله تعالى: «ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى»((2))، وفي حق نبي الله يونس(علیه السلام) فقد ورد: «لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ»((3)).

وورد في حق نبي الله داوود(علیه السلام): «وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ»((4)).

وهكذا تجد كل نبيٍ ما ذُكِرَتْ له توبةٌ إلا وعقبه الله سبحانه ببيان مَنح فضيلة أو درجة أو نعمة له.

ودرجات المعصومين لا تقاس بالمقاييس الدنيوية لأنها لا ترتبط بها ولذلك لا تعرف إلا من الله تعالى أو منهم(علیهم السلام)، وخير ما يترتب على توبتهم هو التخلص من اضطراب السِّر.

ص: 166


1- -- سورة آل عمران/33.
2- -- سورة طه/122.
3- -- سورة القلم: الآيتان 49 , 50.
4- -- سورة ص/24-- 26.

وأما توبة أولياء الله فخير ما يترتب عليها هو التخلص من تلوين الخطرات الناشئ من ارتباط أرواحهم بالأجساد الناسوتية وسكناهم بين أهل الدنيا.

وتوبة الأصفياء تخلصهم من الانزعاج الناشئ عن التنفيس اللازم لارتباطهم بالأجساد التي يحتاج إلى التغذية والراحة فيمدهم الله سبحانه بقوة يواصلون بها العمل في التقرب إلى الله تبارك وتعالى فيستمرون في سبيله ويسارعون في مراتب الدنو من جناب قدسه تعالى، ولعل إلى هذا يُشير ما عن الإمام موسى بن جعفر(علیه السلام) وهو في السجن (اللهم إنك تعلم إني كنتُ أسألكَ أن تفرّغني لِعبادتِكَ وقد فعلتَ فلك الحمد)((1)).

وأما توبة الخاصة فيسعفهم الله سبحانه فيخلص عملهم له تعالى وتفرغ قلوبهم من غيره تعالى.

ويترتب على توبة العالم بالمعصية تبرئته من الذنوب التي احتطبها على ظهره، وإليه تشير آيات متعددة منها قوله سبحانه:

«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَ-ئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً»((2))، فإن الذي

ص: 167


1- -- الإرشاد ج 2 ص 240، والبحار ج 48 ص 107.
2- -- سورة النساء/17.

يجهل المعصية لا ذنب عليه، وقوله تعالى: «فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ»((1))، وقوله تعالى: «وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً»((2))، وقوله تعالى: «وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً»((3)).

ومما يترتب على توبة عامة الناس فضلاً عن غفران الذنوب التي تابوا عنها التوسعة في الرزق والولد وزيادة الخيرات، وقد روي ذلك عن المعصومين(علیهم السلام) ((4)) ويشير إليه قوله سبحانه: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارا»((5)), وقوله سبحانه في قصة هود: «وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ»((6))، فمما يروى انه قال رجلٌ لأبي عبد الله الصادق(علیه السلام): جُعلتُ فداك لَم أُرزق ولداً، فقال له: إذا رجعتَ إلى بلادك وأردتَ أن تأتي أهلك فإقرأ إذا أردت ذلك «وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً

ص: 168


1- -- سورة المائدة/38.
2- -- سورة الفرقان/71.
3- -- سورة هود/3.
4- -- مكارم الأخلاق باب في طلب الولد الرواية الثالثة والرابعة.
5- -- سورة نوح/10-- 12.
6- -- سورة هود/52.

فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ»((1)) إلى ثلاث آيات فإنَّك ستُرزق ولداً إن شاء الله((2)).

ومما يترتب على التوبة أنها تجلب حب الله لعبده التائب وذلك لأن المحب محسن في تهذيب نفسه وأخلاقه وعمله «وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»((3))، كما لا ريب إن التائب صابر يكف نفسه ويحبسها في طاعة الله ويشذب هفواته التي نبتت من الانجراف وراء الدنيا «وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ»((4))، ولا ريب في أن التوبة تدرج صاحبها في زمرة المتقين: «إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ»((5))، كما لا ينبغي الامتراء في أن التوبة تُطَهِّر نفس الإنسان من جميع أنواع الرجس وتزيل عن صفحة نفسه ما لحق بها من ويلات الذنوب فهو متطهر فتجعله في صنف متميز أشار إليه قوله سبحانه: «رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ»((6)).

ويجب أن نعلم أن التوبة تخرج الإنسان من صنف الظالمين لنفوسهم إلى المصلحين المقسطين فيكون في زمرة من أشار إليه

ص: 169


1- -- سورة الأنبياء/87 -- 88.
2- -- الكافي ج 6، باب الدعاء في طلب الولد ص 10 ح 10.
3- -- سورة آل عمران/134.
4- -- سورة آل عمران/146.
5- -- سورة التوبة/4.
6- -- سورة التوبة/108.

قوله سبحانه: «وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»((1))، والتوبة جهاد مع النفس وهو أفضل أنواعه، فالتائب مجاهد فيشمله قوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ»((2))، ولا شك في أن التائب تابع لأوامر الله سبحانه ونبيه (صلی الله علیه و آله) فهو محبوب له تعالى لقوله: «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»((3)).

ثم أعلم يا أخي إن اشرف مراتب التوبة هي التي تنبعث من حب الإنسان لله سبحانه وكأنه في هفواته قد ابتعد عن ساحة المحبين له تعالى، وبتوبته ورجوعه إليه تعلّق به وبحبه وأزاح ما أحدثه مِن الحواجز بينه وبين محبوبه الحقيقي، فكلما زاد حبه له تعالى زاد قربه منه وارتفعت مرتبة توبته ليصبح مصداقاً لقوله سبحانه: «وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ»((4)).

وبعودة العبد إلى زمرة الصالحين يبتعد العبد عن ما يثير غضب الله سبحانه وانتقاصه له لأن الذي لم يطمع في حبه سبحانه قد أحيط قلبه بحب من سواه الذي ينشأ من حب الدنيا وحب أهلها

ص: 170


1- -- سورة الحجرات/9.
2- -- سورة الصف/4.
3- -- سورة آل عمران/31.
4- -- سورة البقرة/165.

وطلابها والساعين في سبيلها والذي هو رأس كل خطيئة ومنبع كل بلية كما يشير إليه قوله سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ»((1))، وقد أنتقد الله سبحانه محبي الدنيا بأبلغ طريقة قائلاً: «وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً»((2)).

ص: 171


1- -- سورة التوبة/23--24.
2- -- سورة الفجر/19--20.

ص: 172

خاتمة فيها أمور الأول في الذنوب:

اعلم ان قوله سبحانه: «إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ»((1))، وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ»((2))، وقوله تعالى: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ»((3)) يقتضي أن الذنوب على قسمين منها كبائر ومنها غيرها والتي عبر عنها قوله تعالى سبحانه بالسيئة، ولا يخفى إن لفظ السيئة ربما يطلق في الروايات والآيات على مطلق المعصية كبيرة كانت أو غيرها ولكنه في الآية الأولى جاءت في مقابل الكبيرة فلا بأس بان نترجمها بالصغيرة، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى: «لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً

ص: 173


1- -- سورة النساء/31.
2- -- سورة الشورى/37.
3- -- سورة النجم/32.

وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا»((1)) إشارة إلى تقسيم المعصية إلى صغيرة وكبيرة، وان كان لبعض الأعلام إشكال في تقسيم المعصية إليهما نظراً إلى إن من عصيته كبير وكلما قد أذنبت ذنباً تجاهه فهو يُعَد كبيرة.

ولا يمكن معرفة الكبيرة وتمييزها عن الصغيرة إلا من قبل الشرع المقدس، ومن المناسب جداً أن نذكر هنا ما اعتبره الشرع الشريف من الكبائر ثم نذكر بعض ما يمكن أن تكون من الكبائر أيضاً ويغفل عنها العبد كثيراً بل ربما لا يعتبرها معصية أصلاً.

وللكبائر علامات منصوصة في الروايات فعن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) في قول الله(عزوجل): «إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً»((2))، قال الكبائر هي التي اوجب الله عز وجل عليها النار((3)).

ثم اعلم أن الروايات التي وردت في عَدِّ المعاصي الكبيرة مختلفةٌ من حيث العدد، ولعل الاختلاف فيها لأجل الاكتفاء في بعض الروايات بأبرز المعاصي الكبيرة وأشنعها إذ بين الكبائر

ص: 174


1- -- سورة الكهف/49.
2- -- سورة النساء/31.
3- -- أصول الكافي ج 2 باب الكبائر ص276 ح 1.

مراتب، ونحن نشير إلى الكبائر المنصوصة مع غض النظر عن المراتب بينها.

منها: قتل النفس الحرام وعقوق الوالدين واكل الربا والتعرب بعد الهجرة((1))

وقذف المحصنات((2))

وأكل مال اليتيم ظلماً والفرار من الزحف((3)) واليأس من روح الله والأمن من مكر الله((4)) والشرك بالله سبحانه، والزنا حتى ورد عن الإمام الصادق(علیه السلام) أنه قال: من زنا خرج من الإيمان(5)،وشرب الخمر والسرقة والكفر بالله وترك الواجبات كالصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتولي لأهل البيت والتبري من أعدائهم، والسحر تعلّمه وتعليمه وعمله إلا ما كان لأجل دفع ضرره

ص: 175


1- -- المقصود به أن يخرج الإنسان من البلاد الإسلامية والأماكن التي يمكنه فيها معرفة الأحكام والالتزام بالدين ويذهب إلى حيث لا يتمكن من ذلك فبعدما أصبح للمسلمين أماكن يأوون إليها ويتمكنون من إظهار شعائر الإسلام فالخروج من هذه الأماكن تعرب بعد الهجرة.
2- -- أي رمي العفيفة غير المشهورة بالزنا به وهذا الحكم يشمل قذف الرجال أيضاً.
3- -- الفرار من العدو بعد الالتقاء مع ملاحظة الشرائط المذكورة في باب الجهاد في الكتب الفقهية.
4- -- وهو أن يأمن الإنسان من الاستدراج ويغتر بالإمهال.
5- -- أصول الكافي ج 2 باب الكبائر ص 278ح 5.

عن المظلوم، واليمين الغموس الفاجرة وسميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، والغلول والمقصود به الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة، وشهادة الزور وكتمان الشهادة، ونقض العهد، وقطيعة الرحم، والتكبر، والحسد، والرياء، والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والكذب، وخلف الوعد الذي يجب الوفاء به، والخيانة فعن يزيد الصائغ قال: قلتُ لأبي عبد الله الصادق(علیه السلام): رجل على هذا الأمر إن حدَّثَ كذب، وإن وعد أخلف، وإن أؤتمن خان، ما منزلته؟

قال: هي أدنى المنازل من الكفر وليس بكافر((1)).

ومنها: التفحش والبذاءة واللعن للمؤمن والقيادة والدياثة والغيبة((2)) والنميمة، والزيادة والنقيصة في كتاب الله وسنة نبيه(صلی الله علیه و آله)، وطلب الرياسة من غير أهلية، والإساءة إلى مقدسات الإسلام، وإختتال الدنيا بالدين أي يطلب الدنيا بعمل الآخرة، والتعصب((3)

ص: 176


1- -- المصدر السابق، باب في أصول الكفر وأركانه ص 290 ح 5.
2- -- وقد روي إن الغيبة اشد من الزنا وهي أن تقول في أخيك المؤمن وتكشف ما ستره الله عليه.
3- -- وفُسِّرت العصبية التي يؤثم عليها صاحبها بان يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين وليس من العصبية ان يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم.

والعنصرية فقد ورد في الخبر عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام): من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه((1))،وفي آخر عنه(علیه السلام): من تعصب عصبه الله بعصابة من النار((2)).

ومن جملة المعاصي الكبيرة العجب((3)) ففي الرواية: من دخله العجب هلك((4))، واعلم أن العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبه ويحسب انه يحسن صنعاً.

ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمنّ على الله(عزوجل).

ومنها أن يستعظم العمل الصالح منه ويستكبره ويدل به.

ومنها أن يرى نفسه خارجاً عن حد التقصير.

ومن جملة المعاصي الكبيرة البغي، فعن أمير المؤمنين(علیه السلام) أنه قال: أيها الناس إن البغي يقود أصحابه إلى النار((5)).

ومنها: الظلم، واعلم ان الظلم ثلاثة، ظلم يغفره الله، وظلم لا يغفره الله، وظلم لا يدعه الله، فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك، وأما

ص: 177


1- -- أصول الكافي ج 2 باب العصبية ص307 ح 1.
2- -- المصدر السابق ص 308 ح 4.
3- -- العجب: هو الزهو.
4- -- أصول الكافي باب العجب ص 313 ح 2.
5- -- المصدر السابق، باب البغي ص327 ح 4..

الظلم الذي يغفره الله فظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله((1))، وأما الظلم الذي لا يدعه الله فالمداينة بين العباد((2))وقد تقدم ذلك.

ومن المعاصي الكبيرة المكر والخديعة والغدر((3)).

ومن المعاصي أن يكون الإنسان ذا لسانين، فقد روي: من لقى المسلمين بوجهين ولسانين جاء يوم القيامة وله لسانان من النار((4)).

ومنها: إيذاء المسلمين واحتقارهم فقد روى عن الإمام الصادق(علیه السلام): قال الله(عزوجل): ليأذن بحربٍ مني مَن آذى عبدي المؤمن، وليأمن غضبي من أكرم عبدي المؤمن((5)).

ومنها: إهانة المؤمن فعن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام): إن الله تبارك وتعالى يقول: من أهان لي ولياً فقد أرصد لمحاربتي وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي((6)).

ص: 178


1- -- ومعلوم ان المغفرة مشروطة بشرائط منها التوبة.
2- -- أصول الكافي ج 2 باب الظلم ص330-- 331 ح 1.
3- -- والمقصود: ارتكاب هذه الأمور مع المؤمن أو المسلم المسالم.
4- -- أصول الكافي ج 2 باب ذي اللسانين ص343 ح 1.
5- -- المصدر السابق، باب من آذى المسلمين واحتقرهم ص 350 ح 1.
6- -- المصدر السابق ص351 ح 5.

ومنها: الانتفاء من النسب فعن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) كفر بالله من تبرأ من نسب وان دقّ((1)).

ومنها: طلب عوارت المؤمنين وعثراتهم، فعن أبي جعفر وأبي عبد الله(علیهم السلام) قالا: وأقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يواخي الرجل على الدين فيحصي عليه عثراته وزلاته ليعنفه بها يوماً ما((2)

وعن رسول الله(صلی الله علیه و آله) قال: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذموا

المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فانه من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته ومن تتبع الله تعالى عورته يفضحه ولو في بيته((3)).

ومن جملة المعاصي تعيير المؤمن فعن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) قال: مَن عَيَّر مؤمناً بذنبٍ لم يمت حتى يركبه((4)).

ومنها: إذاعة الفاحشة فعن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): من أذاع فاحشةً كان كمبتدئها، ومَن عَيَّر مؤمناً بشيء لم يمت حتى يركبه((5)).

الظاهر المقصود بإذاعة الفاحشة إذا عرف مِن مؤمن معصية يذكرها لعامة الناس.

ص: 179


1- -- المصدر السابق، باب الانتفاء ص 350 ح 1
2- -- المصدر السابق، باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم ص354 ح1.
3- -- نفس المصدر السابق، ص355 ح 2.
4- -- المصدر السابق، باب التعييِّر ص 356 ح 3.
5- -- المصدر السابق، ح 2.

ومنها: الرواية على المؤمن وهي أن ينقل عنه كلاماً يدل على سخافة رأيه وضعف عقله وسفاهة طبعه، ومعلوم أن مورد المشورة خارج عن الحكم - فعن أبي عبد الله (سلام الله عليه): مَن روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروءته ليسقط في أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان((1)).

ومنها: الشماتة بالمؤمن وهي الفرح ببلية الغير فعن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) أنه قال: لا تُبدِ الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويُصيّرها الله بك، وقال(علیه السلام): مَن شمت بمصيبة نزلت بأخيه لم يخرج من الدنيا حتى يُفتَتَن((2)).

ومنها: سباب المؤمن والسب هو الشتم والكلام القبيح ولا يكون فيه قذف فإذا قلتَ لأحد يا كلب مثلاً أو يا بخيل أو يا حقير فقد شتمتَه، فعن أبي جعفر(علیه السلام) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، واكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه((3))،وعن أبي الحسن موسى(علیه السلام) في رجلين يتسابان قال(علیه السلام) البادي منهما أظلم ووزره ووزر صاحبه إليه ما لم يعتذر إلى المظلوم((4)).

ص: 180


1- -- المصدر السابق، باب الرواية على المؤمن ص358 ح 1.
2- -- المصدر السابق، باب الشماتة ص359 ح 1.
3- -- أصول الكافي ج 2 باب السباب ص360 ح 2.
4- -- المصدر السابق، ح 4.

ومنها: التهمة وهي أن تشك في أخيك أو تعتقد فيه ما لم يثبت انه فيه من سوء، فعن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) انه قال: إذا اتهم المؤمن أخاه إنماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء((1))

أي يذوب، وعنه(علیه السلام): مَن اتهم أخاه في دينه فلا حرمة بينهما((2)).

ومنها: إساءة الظن، فعن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) قال: قال أمير المؤمنين(علیه السلام): ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظننّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً((3)). وقد نهى الله سبحانه عن أتباع الظن قال سبحانه: «إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ»((4))، وقال تعالى: «إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ»((5))

ينبغي أن يعلم أن استصغار المعصية وعدم الاهتمام بها واحتقارها يجعلها في حكم الكبيرة وقد تقدم فيما سبق انه قال أبو عبد الله الصادق(علیه السلام): اتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تُغفَر، قال الراوي: وما المحقرات؟ قال: الرجلُ يذنب الذنب فيقول طوبى لي لو لم يكن لي

ص: 181


1- -- المصدر السابق، باب التهمة وسوء الظن ص 361 ح 1.
2- -- المصدر السابق، ح 2.
3- -- المصدر السابق، ص 362 ح 3.
4- -- الأنعام آية 116.
5- -- الأنعام آية 148.

غير ذلك((1))، وفي رواية أخرى معتبرة عن أبي الحسن(علیه السلام) قال:... ولا تستقلوا قليل الذنوب فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يكون كثيراً((2)).

والإصرار على السيئة يجعلها في حكم الكبيرة فعن أبي عبد الله(علیه السلام): لا صغيرة مع الإصرار((3))، وفَسَّر الإمام الباقر (علیه السلام) الإصرار بقوله: أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يُحَدَّثُ نفسه بتوبةٍ فذلك الإصرار((4)

وعن الإمام الصادق(علیه السلام) قال: لا والله لا يقبل الله شيئاً من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه((5)).

المعاصي المغفول عنها:

منها: أن يعتقد الإنسان بأنه قائم بما يجب عليه ويعتقد نفسه بريئة ولا تستحق أية مؤاخذة وهذا الاعتقاد من الموبقات وان كان تجاه عمل معين مهما كان صغيراً أو كبيراً إذ ليس هناك من احد يتمكن من أداء حق العبادة أو حق الالتزام بالطاعة، ومن هنا نعرف ان المصائب التي تنزل على الإنسان فإنها نتيجة معاصي العباد كما سنعرض إليه إن شاء الله، ومن

ص: 182


1- -- أصول الكافي باب استصغار الذنب ص 287 ح 1
2- -- المصدر السابق، ح 2.
3- -- المصدر السابق، باب الإصرار على الذنب ص 288 ح 1.
4- -- المصدر السابق، ح 2.
5- -- المصدر السابق، ح 3.

اعتقاده البراءة لنفسه يتخيل إن معاصي غيره هي التي سببت له تلك المصائب وهذا من لوازم اعتقاد براءة نفسه وقد قال الله سبحانه: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ»((1)).

وإياك أن تظن إن هذا يعني إن الأنبياء والرسل والأئمة(علیهم السلام) أيضاً متلوثون - والعياذ بالله - بالمعاصي تمسكاً بعموم الآيتين السالفتين، وذلك لإنَّ كل حركة وسكون من أي أحد له ارتباط وثيق بالكون كله كما تشير إليه الأدعية مثل (اللهم أغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهمَّ اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهمَّ اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء...)((2)) ونزول العذاب على الأمم السابقة بسيئات أعمالهم شاهد على ذلك، وترتب بعض المصائب على الأولاد كولادته أبكم أو اخرس أو أعمى أو أبرص نتيجة فعل والده، أو خروج الطفل ميالاً إلى الفجور نتيجة تصرفات أبويه، والآيات صريحة والروايات واضحة الدلالة على هذا المعنى، فإذا كثرت المعاصي فالله تعالى يفني العصاة نتيجة معاصيهم وأما الصالحون فيرفع درجاتهم أو

ص: 183


1- -- سورة فاطر/45.
2- -- مقطع من دعاء كميل (رضوان الله عليه).

يكون حالهم حال المعصومين فيُرفَعون من الأرض انتقاماً من العصاة لأن فقدان المعصوم حرمان الناس من بركات وجوده الاختيارية والتكوينية، وإلى الثاني يُشير قوله سبحانه: «وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ»((1))، وإلى الأول يشير قوله سبحانه: «وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»((2)).

ومن الأمور التي هي من المعاصي ويغفل عنها كثيراً هو أنه بارتكابه معصية ما يكون قد ارتكب معصية أخرى وهو غافل عنها وذلك انه إذا ارتكب أحدٌ الزنا أو اللواط فإنه يتسبب من ذلك بوقوع المصائب التي تعم الصالحين بل جميع الموجودات كنتيجة تكوينة حتمية، ومعلوم أن فاعل السبب هو فاعل المسبب، فيكون هذا الزاني أو اللائط - والعياذ بالله - فاعلاً للمصائب التي تنزل على الناس فيكون قد ظلم الناس وهو يتخيل انه لم يرتكب معصية فيما بينه وبين الله سبحانه، قال الله سبحانه: «وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً»((3))، وأبشع هذه المعاصي المُسبَبَة من معاصٍ أخرى ما ينزل بالأنبياء والأئمة(علیهم السلام) من أنواع المصائب نتيجة ارتكاب الناس المعاصي وضلالتهم ليس فقط القتل والمحاربة وأنواع الأذى التي يتعرض لها

ص: 184


1- -- سورة الأنفال: آية 33.
2- -- سورة الأنفال: آية 33.
3- -- سورة الأنفال/25.

المعصومون فإنها معاصٍ صدرت مباشرة من الناس بل نعني أنواع المرض ونحوه من البلايا التي يبتلى بها المعصومون نتيجة فساد العالم وتكدر الفضاء لحصول المعاصي من قبل العصاة فانه إذا ظهر الغبار في غرفة أو نحوه فإن أول ما يظهر آثار الوسخ والغبار على أنظف الأشياء وأطهرها، ومِن هنا يظهر بفساد العالم واختلاله سبب ما يُصيب المعصومين قال الله سبحانه: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ»((1))، وقال سبحانه في حق بعض المجرمين: «الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ - فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ»((2))، وليس المقصود بالفساد خصوص المعاصي بل ما يشمل اختلال نظام العالم نتيجة ارتكاب المعاصي، وإليه يشير قوله سبحانه: «لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ»((3)).

بل حتى أعمال البشر هي التي تكون سبباً ليصبح ذلك البشر مرتعاً للشيطان قال سبحانه: «إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ»((4))، ومعظم الآيات التي تذكر نزول العذاب على الأمم السابقة تدل على انه كان نتيجة أعمالهم مثل قوله تعالى: «فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ

ص: 185


1- -- سورة الروم/41.
2- -- سورة الفجر/11--12.
3- -- سورة البقرة/205.
4- -- سورة آل عمران/155.

الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»((1))، وغيرها من الآيات، فارتباط حركات الإنسان وسكناته بنظام الكون لا ينبغي أن يغفل عنه الإنسان وهذه الغفلة تجعله غافلاً وساهياً عما يتسبب بفعله من الجرائم والمهالك للآخرين.

وربما يظن الإنسان إن ما ارتكبه في جنب ما ارتكبه الآخرون لا يُعَد شيئاً موجباً لنزول ما نزل على الناس، ولكن ليعلم ان نفس هذا الاعتقاد يُعد في نفسه معصية لاستهانته بنفس ما ارتكبه، وأيضاً إن معصيته مهما كانت صغيرة قد أكملت وأتمت العلة التي اقتضت نزول العذاب فهو شريك في كل معصية صغيرة أو كبيرة فيما يحصل في العالم من المفاسد التكوينية وغيرها وحتى تَسَلّط بعض الظلمة على أزمّة الأمور ينتج من ارتكاب المعاصي، ومِمّا يشهد لذلك دعاء الإمام سيد الشهداء(علیه السلام) حين رماه أبو الحتوف الجعفي لعنه الله بسهم في جبهته وسالت الدماء على وجهه الشريف فقال: (اللهمَّ انك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة، اللهمَّ أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تَذر على وجه الأرض منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً) وصاح بصوت عالٍ (يا امة السوء بِئسما خلفتم

ص: 186


1- -- سورة فصلت/17.

محمداً(صلی الله علیه و آله) في عِترته، أما إنكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله بل يهون ذلك عليكم عند قتلكم إياي، وأيم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون) فقال الحصين وبماذا ينتقم لك منا يا بن فاطمة؟ قال: (يُلقي بأسكم بينكم، ويسفك دماءكم، ثم يصب عليكم العذاب صباً)((1)).

ودعاؤه(علیه السلام) عند توديعه لولده علي الأكبر (اللهمَّ فامنعهم بركات الأرض وفَرِّقهم تفريقاً ومزقهم تمزيقاً واجعلهم طرائق قدداً ولا تُرض الولاة عنهم أبداً)((2)).

وإخباره(علیه السلام) بما يحدث إن هم قتلوه (أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عَهدٌ عهده إليَّ أبي عن جدي رسول الله(صلی الله علیه و آله))((3)).

ودعاؤه (علیه السلام) عقيب ما تقدم (اللهمَّ احبس عنهم قطر السما، وابعث عليهم سنين كسني يوسف، وسِلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً

ص: 187


1- -- مقتل المقرم ص339، ومقتل العوالم ص 98، ونفس المهموم ص189، ومقتل الخوازمي ج 2ص 34.
2- -- مقتل المقرم ص 312، ومقتل الخوارزمي ج 3 ص 30.
3- -- مقتل المقرم ص283، وتاريخ ابن عساكرج 4 ص 434، ومقتل الخوارزمي ج2 ص7، واللهوف في قتلى الطفوف ص 54 ط صيدا.

مصبرة، فأنهم كذّبونا وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير)((1)).

وحدوث ما اخبر به سلام الله عليه دليل على ما قلناه.

وفي الآيات التي اشرنا إليها نحو قوله تعالى: «فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»((2))، غنى وكفاية.

ومن جملة هذه الأمور التي يُغفل عنها أن يُعاتِب العبد مولاه حينما يستبطئ الإجابة لدعائه ولا سيما إذا انضم إلى ذلك الاعتقاد بأنه لا قصور ولا تقصير له في دعائه فيظن أو يحتمل - العياذ بالله - التقصير أو القصور في جانب المُجيب ولعله من أقبح المعاصي إذ عمله هذا يستلزم الاعتقاد إما بعدم وفاء الله بوعده بأنه يُجيب دعوة الداعي وأما الظلم أو الجهل - العياذ بالله - في حقه سبحانه وفوق هذا وذاك قُبح اعتقاده بأنه لا قصور فيه ولا تقصير.

ومنها: أن يعتقد إن أعماله التي يعتقدها صالحة وصحيحة تستوجب له على الله الكرامة ورفع الدرجات فيحسب نفسه في

ص: 188


1- -- اللهوف في قتلى الطفوف ص56، ومقتل الخوارزمي ج 2 ص 7.
2- -- سورة العنكبوت/40.

صف الصالحين، بل ربما إذا دمعت عينه أثناء الدعاء والعبادة يعتقد نفسه في صف أولياء الله سبحانه، ومعلوم ان كل ذلك غرور وجهل بل كاشف عن قبح سريرة الإنسان.

ومنها: أن يعتقد إن له مِنَّةً على الله وفضلاً على الناس لقيامه ببعض الأعمال كصلاة الليل وزيارة سيد الشهداء(علیه السلام) وغيره من المعصومين(علیهم السلام) ويجهل أن ما فعله إنما كان من نِعم الله تعالى عليه مِن جهة التشريعات الإلهية إذ الإسلام وما فيه من الأحكام مِن مِنن الله سبحانه علينا، قال الله سبحانه: «لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً»((1))، ثم مِنَّته سبحانه عليه بأن هداه للإسلام ومذهب الحق، ثم توفيقه للقيام بهذه العبادة، ثم تمكينه منها وقطع وشائج الشياطين من الأنس والجن عنه، كل ذلك لم يُنبهه إلى ما فعل الله سبحانه به ولم يحاسب نفسه على عدم الاستفادة بهذه النعم استفادة سليمة ولم يأت بالعبادة التي وُفِّقَ لها على نحو ما يريد الله سبحانه من الإخلاص والنية والتوجه فيدل بذلك على الله جهلاً جاهلاً مغروراً سفيهاً، كم هو كريم فلا يحرمه من الوقوف بين يديه وهو بهذه السفاهات.

وأبرز ما يكشف عن ارتباط الأعمال الصادرة من المكلفين ولو كان صدوره في حالة وجود عذر كالنسيان والغفلة بالكون اشتراط

ص: 189


1- -- سورة آل عمران/164.

كثير من العبادات بوقت معين أو في ظرف تكويني معين فالصوم في شهر رمضان والحج في أيام معينة من السنة وفي مكان معين بل اتجاه معين في الصلاة وفي وقت معين فصلاة الصبح في وقت معين بركعتين والظهر والعصر بأربع ركعات أو بركعتين قصراً في أوقات معينة وأماكن معينة والمغرب ثلاث ركعات في وقت معين، كل ذلك يكشف عن أن المطلوبات الشرعية والمركبات الاعتبارية من قبل الشارع المقدس لها ارتباط وثيق بعالم الكون والفساد.

وكذلك المحرمات بعضها مختص بزمان معين أو مكان معين كمحرمات الحرم ومحرمات الإحرام والاعتكاف والمحرمات في المساجد وغيرها، وكذلك النكاح محرم بامرأة ومحلل مع امرأة أخرى، مباح في حالة معينة محرم في حالة أخرى، فهذه الارتباطات أما لأجل إن كسب المنافع المحددة والخيرات المعينة لا يتم إلا بتلك الشروط وتلك القيود أو إن هناك شروراً في عالم الكون والفساد لا تندفع إلا بأعمال معينة على نحو معين في وقت ومكان معين، ولعله لأجل ذلك ما قيل من أن الأحكام الشرعية لأجل كسب المصالح ودفع المفاسد بامتثالها هي في متعلقات الأحكام، فالأمر بصلاة الآيات حالة الخسوف والكسوف وغيرهما من الآيات والأحداث الكونية لدفع الشرور المتوقعة من تلك الآيات كحجب

ص: 190

ضوء الشمس لفترة معينة بالقمر عن الأرض كلها أو بعضها أو حجب نور القمر عن الأرض كل ذلك يكشف عما قلناه.

ومن هنا نعرف مدى ما يحيط بالنعم الإلهية نتيجة انحراف الناس عن هذه الواجبات وارتكاب المحرمات وكذلك نتيجة عدم إتياننا بالعبادات بالنحو المطلوب، فإن الدواء الذي يصفه الطبيب إذا لم يستخدم بالنحو المطلوب فكثيراً ما ينقلب النافع ضاراً والمصلح مفسداً والشافي ممرضاً، فلا نستغرب مِمّا روي (رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه)((1))

يعني يصير سبباً لابتعاده عن رحمة الله، وجملة وافرة من هذه الأعمال لها آثار ولوازم حسنة أو قبيحة وإن صدر من الإنسان في حالة العذر الشرعي كالغفلة والنسيان والنوم.

ومن هنا نعرف مدى قبح وشناعة الجرائم التي يرتكبها العبد من حيث يدري أو لا يدري في مسيرته ضمن سلك العبودية وأقبح شيء أن يدله الخالق برحمته وكرمه وعطفه وحنانه على الأعمال التي تحميه من شرور الكون ومفاسد سلوكه وسلوك غيره، فبدلاً من أن يشكر مولاه على إرشاده إلى هذه الأعمال وإلزامه بها ليحميه يعتبرها العبد - لوقاحته وجهله وتمرده - أوزاراً ومتاعب وقيوداً، وحينما يقوم بشيء من ذلك مع عدم إتيانه بها كما ينبغي يعتبره أنه قد أوصله إلى المراتب العالية وانه تعالى ملزم

ص: 191


1- -- البحار ج 89 ص 184 ح 19.

بقبوله وملزم بإثابته عليه ويصيبه الفخر والغرور فيبعده عن ساحة رحمته أكثر مما كان يتخيل انه قد اقترب منه، فعلى العبد أن يشكر على الواجبات والمستحبات ويشكر على تشريع المحرمات فانه ضمن نظام إسلامي عام اعتبر مِنَّةً منه سبحانه على العباد: «لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ»((1))، وقوله سبحانه: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً»((2))، قوله سبحانه: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»((3)).

ومنها تعرف سِّر ما روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) (أما يخاف الذي يُحوِّل وجهه في الصلاة أن يحول وجهَهَ وجه حمار)((4))، وقوله سبحانه: «فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ»((5))، ذمهم على الغفلة عنها مع كونهم من المصلين لا لأنهم سهوا عنها وتركوها بل لأنهم يصلون مع غفلة عَمّا هم فيه.

ص: 192


1- -- سورة آل عمران/164.
2- -- سورة المائدة/3.
3- -- سورة الحجرات/17.
4- -- البحار ج 81 ص 211 و 259.
5- -- سورة الماعون/4--5.

النصائح والفوائد

منها: يجب على الإنسان أن يعرف قدر نفسه فلا يصيبه الغرور إذا وُفِّقَ لعملٍ ما من الأعمال الصالحة وتمكن من أداء واجب أو التزام لمستحب فإن الغرور يحبط العمل.

ومنها: يجب أن يلتفت المكلف إلى نفسه فلا يتخيل انه إن وُفِّقَ لعمل صالح أصبح لمجرد ذلك العمل في عِداد عباد الله الصالحين فإن العمل إذا لم يُرافقه الإحساس بالتقصير والاعتراف بأن ما أتى به كان الفضل الأكبر بل كل الفضل فيه لله سبحانه فهذا العمل يصبح في حكم اللاغي.

ومنها: العمل الذي يقوم به العبد يجب الإخلاص فيه كما يجب أن يعتقد إن تكليف الله سبحانه له بالواجبات والمستحبات تكريم منه تعالى له ليتمكن من خلالها من ترويض نفسه وإصلاحها وتطهيرها فان الجنة لا يدخلها من لم تطهر نفسه ولم تزكَ من الصفات الخبيثة، والله سبحانه أمرنا بما أمر من العبادات تطهيراً

ص: 193

لأنفسنا وتزكيةً لها ولإعمالنا، فإن وُفِّقتَ لعملٍ فاشكر الله سبحانه عليه وإياك أن تتخيل -- فضلاً عن أن تعتقد-- انك أديتَ بما قمتَ به من الأعمال العبادية حقاً من حقوقه سبحانه بل اشكر الله سبحانه على انه وَفَّقكَ لذلك، كما ينبغي أن تعلم ان كل عمل عبادي إذا لم يكن مع التوجه إلى الله سبحانه يصبح قشراً خالياً عن اللباب، فالعبد في القيام بين يدي الله سبحانه إذا لم تندمج نفسه بحالة الوقوف بين يدي جبار السماوات والأرض لم يكن ذلك الوقوف كما ينبغي.

ومنها: واعلم ان العبادة تلعب الدور المهم في إحراز مقام العبودية الحقيقية له تعالى كما تؤدي دوراً أساسياً في الإخلاص

والتعبّد، فمن يصلي أو يعبد طمعاً في الجنة ولأجل الجزيل من الثواب الموعود به لعباد الله الصالحين فهو في الواقع مندفع إلى نفسه وتحقيق مشتهياتها فقط وليس متعبداً حقيقة لأنه إنما يصلي ويصوم ويحج ويزور المعصومين(علیه السلام) بُغية تحقيق غاياته التي تشتهيها نفسه من فوائد الدنيا والآخرة فإذا انحصرت غاية العبادة في تحقيق مشتهياته فهو إنما يعبد نفسه لأنه لو تمكن من الحصول على مشتهيات نفسه في الدنيا والآخرة بدون التعبد لله سبحانه لما تجشم العبادة، وكذلك من يتعبّد الله خوفاً من عقوبته وفراراً من ناره وعذابه في الدنيا أو في الآخرة فإنه يحب نفسه ويهواها فلا يريد لها ألماً أو عذاباً ولا يرضى لها تلفاً أو سحقاً في طبقات العذاب الإلهي ودركات جهنم، وهو

ص: 194

ايضاً في الواقع يَعبد نفسه ويطيع هواه - العياذ بالله - ولا يبعد أن ينطبق عليه قوله سبحانه: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ»((1)).

والعبادة الخالصة هي عبادة الأحرار الذين تحرروا من عبودية أنفسهم واخلصوا توحيده تعالى فعبدوا الله لأنه أهلٌ للعبادة والقسمان السابقان عبادة من يعيش في رِق وعبودية نفسه، أجارنا الله والجميع من تلك العبودية.

وقد نستغرب مِمّن يزور سيد الشهداء(علیه السلام) أو غيره من الأئمة والمعصومين(علیهم السلام) ويرى لنفسه حقاً على المزور، مسكين هذا الزائر وهو لا يعلم أن للمزور حقاً عليه إذْ سمح له بالمثول بين يديه، فعلى الزائر أن يشكر الله أولاً على انه شَرَّفَه بزيارة احد المعصومين(علیهم السلام)، ويشكر المعصوم(علیه السلام) انه سمح له بالدخول إلى حَرمه الشريف ثانياً، ومنها يجب أن نعرف إن من يترك العبادة فهو عاصٍ بلا ريب وكذلك من يرتكب شيئاً مِن المحرمات أو يخرج عن سلك العبودية الصحيحة فانه مذنب ليس في حق الله فقط بل هو مسيء تجاه المعصومين(علیهم السلام)، بل واتجاه الكائنات كلها لأن المعاصي كلها تؤثر سلبياً على ما يحيطنا من الكائنات، ولذلك ورد في بعض الأدعية ما يقتضي أن هناك ذنوباً تمنع قطر

ص: 195


1- -- سورة الجاثية/23.

السماء وذنوباً أخرى تظلم الفضاء وأخرى تسبب الأمراض والأوبئة وأخرى تكدر الأجواء بالكدر المعنوي الذي يسبب انحراف الناس عن جادة الصواب، ومعلوم إن البلية إذا نزلت عَمَت وشملت للصالح والطالح، فالذي يذنب أو يترك شيئاً من الواجبات فإنه يسبب هذه البلايا كلها وبذلك يُسيء إلى جميع الكائنات، ففي رقبته حقوق الله وحقوق العباد بل حقوق الكائنات كلها، لذلك ينبغي للمذنب إذا وفَّقهُ الله سبحانه للالتفات إلى نفسه عليه أن يتوب إلى الله وعليه أن يطلب من الله سبحانه أن يؤدي ما ثبت في ذمته من حقوق المخلوقين من جهة إساءته إلى الكائنات.

ومن هنا نعرف إن الكوارث التي نعيشها سواء كانت طبيعية كالزلازل والفيضانات والقحط وكذلك المصائب التي نعيشها من جهة إستيثار الظالمين بالفيء وتمكنهم من رقاب المسلمين، كل ذلك مسببٌ عن ذنوب المذنبين، فالله سبحانه خلق هذه النعم لعباده وهو غير مفتقر إلى شيء منها والعبيد بأنفسهم وبذنوبهم وانحرافاتهم تسببوا في نزول هذه الكوارث، قال الله سبحانه: «بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِي-ئَتُهُ فَأُوْلَ-ئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»((1)

ص: 196


1- -- سورة البقرة/81.

وقال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ»((1))، وقال: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ»((2)).

ولا يغتر احدٌ منا فيتخيَّل أن المعصومين(علیهم السلام) أيضاً ابتلوا بالمصائب ولم يكن لهم ذنب إذ نعلم كما اشرنا فيما سبق إن ذنوب المذنبين تسبب هذه المصائب والبلايا إذا نزلت عَمّت، فالمذنبون أساءوا إلى أنفسهم وإلى الآخرين وإلى المعصومين(علیهم السلام) الذين تحمَّلوا البلايا التي تسببت نتيجة عصيان المذنبين.

هذا، والحمد لله رب العالمين..

ص: 197


1- -- سورة الروم/41.
2- -- سورة فاطر/45.

ص: 198

محتويات الكتاب

المقدمة. 9

معنى التوبة والداعي إليها 13

شرائط التوبة. 17

الشرط الأول. 17

المنشأ الأول. 18

المنشأ الثاني. 21

المنشأ الثالث.. 23

المنشأ الرابع. 24

الشرط الثاني. 32

الشرط الثالث.. 45

الشرط الرابع. 47

الشرط الخامس... 48

الشرط السادس.. 50

ص: 199

التوبة واجبة عقلاً وشرعاً 57

التوبة واجب فوري.. 67

التوبة واجبة على الكل. 81

ف--ائ--دة 91

في تحليل التوبة والاستغفار. 91

أو الاعتراف بالذنب من المعصوم. 91

تحليل التوبة والإستغفار. 91

ما يقتضيه النظر. 115

المنشأ الأول. 116

المنشأ الثاني. 131

المنشأ الثالث.. 136

النقطة الثانية طلب المغفرة بجد. 137

المنشأ الخامس... 143

الموانع والحواجب عن التوبة. 149

الفوائد المترتبة على التوبة. 163

خاتمة فيها أمور. 173

الأول في الذنوب.. 173

ص: 200

المعاصي المغفول عنها 182

النصائح والفوائد. 193

محتويات الكتاب.. 199

ص: 201

رقم الإيداع بدار الكتب والوثائق ببغداد (339) لعام 2012م

تحت رعاية مكتب سماحة آية الله العظمى المرجع الديني الكبير الشيخ بشير حسين النجفي

جمهورية العراق - النجف الأشرف

http://www.anwar-n.com info@anwar-n.com

http://www.alnajfay.com info@alnajfay.com

هاتف: 33348 -- 033/ نقال: 07801004758

ص.ب:732 مكتب بريد النجف

ص: 202

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.