تاریخ عصر الغیبه المجلد 4

اشارة

سرشناسه:حکیم، منذر

عنوان و نام پديدآور:تاریخ عصر الغیبه المجلد 4/ منذر الحکیم

مشخصات نشر:قم: المنظمه العالمیه للحوزات و المدارس الاسلامیه، 14ق. = - 13.

شابک:964-5913-08-x ؛ 964-5913-08-x

يادداشت:عربی

يادداشت:فهرستنویسی براساس جلد چهارم: 1420ق. = 1378

يادداشت:پشت جلد به انگلیسی:Islamic history.

يادداشت:ج. 1420 :3ق. = 1378(دوره) :ISBN 964-7271-03-41

يادداشت:(ج. 2) :ISBN 964-7271-07-6

يادداشت:ج. 3 (1420ق. = 1378)؛(دوره) :ISBN 964-7271-03-4؛(ج. )3ISBN 964-7271-02-6

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس

مندرجات:. .-- ج. 4. تاریخ عصر الغیبه

موضوع:اسلام -- تاریخ

موضوع:اسلام -- سرگذشتنامه

موضوع:ائمه اثناعشر -- سرگذشتنامه

شناسه افزوده:سازمان حوزه ها و مدارس علمیه خارج از کشور

رده بندی کنگره:BP14/ح8ت2 1300ی

رده بندی دیویی:297/912

شماره کتابشناسی ملی:م 79-6341

ص: 1

اشارة

ص: 2

تاریخ

عصر الغیبه

منذر الحکیم

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 4

كلمة المنظمة

لقد أرسى الإسلام العظيم أُسس ثورته الثقافية العملاقة على قواعد علميّة تضمّنها القرآن الكريم و طبّقها الرسول العظيم و أهل بيته الميامين، و ذلك من خلال تربية علماء صلحاء يفقهون الشريعة و يعملون بها ولا يألون جُهداً في تبليغها و تعليمها من پرونه مستعدّاً لحمل هذا العبء الرسالي العظيم

و بالرغم من كل الضغوط و أنواع الاضطهاد الذي مارسه الحكام الطغاة و المستعمرون في حق الحوزات العلمية لقلعها أو تحجيمها أو حرفها عن مسيرتها الربّانية الحقّة، استطاعت أن تصمد أمام كل هذه الأعاصير الصفراء متّجهة نحو الرقي والكمال مستجيبة لحاجات العصور على مدى الأجيال، و مجيبة على الأسئلة والشبهات المثارة من قبل الأعداء أو الأصدقاء. كل ذلك لما كانت تمتلكه من مرونة و انفتاح و قدرة فائقة على النمو و الإبداع.

و الخصائص التي تمتاز بها الحوزات العلمية المتطورة تتجلى اليوم في ما يلي:

1. اهتمام الحوزات العلمية بجميع روافد المعرفة و الثقافة الإسلامية، و التحقيق المستمر و العمل العلمي الدؤوب في مختلف فروع المعرفة الإسلامية.

2. الإبداع و التجديد المستمر في أساليب التدريس و تدوين الكتب الدراسية التي تتطلبها حاجات العصر بنحو يحقّق التطوّر العلمي باستمرار و ينّمي قوة الإبداع إلى جانب تعميق المفاهيم و حفظ الأصالة و الارتباط التام بالتراث الإسلامي العريق.

3. الانفتاح على معضلات العصر و قضاياه و التصدي لكل الشبهات المستحدثة و

ص: 5

الإجابة على الأسئلة التي تتولّد باستمرار بنحو يوفّر للحوزات العلمية عنصر مسايرة الزمن أو التقدّم عليه على أسس قرآنية علمية و مبان عقلية قويمة.

ومن هنا تبنّت المنظّمة العالمية للحوزات و المدارس الإسلامية المنهج العلمي المتطوّر في نظامها الدراسي و أساليب التدريس و تدوين الكتب الدراسية في مختلف فروع المعرفة الإسلامية مستفيدة من الجهود العلمية الجبّارة للعلماء و المحققين و المؤلّفين الذين انتدبتهم لتحقيق هذه الأهداف السامية.

و قد روعيت في الكتب التي تبنت المنظمة تأليفها أو تدوينها ما يلي:

1. مراعاة الأهداف المتوخّاة في كل درسٍ من خلال الإلتزام بالمنهج المقرر لكل مادة دراسية.

2. مراعاة المستوى العلمي للطلبة في كل مرحلة من المراحل الدراسية.

3. مراعاة الانسجام فيما بين الكتب الدراسية لكل مرحلة دراسية مع الاجتناب عن ملل الإطناب و خلل التكرار.

4. مراعاة أصول التدوين الدراسي.

إنّ هذا الكتاب تاريخ الإسلام (4) یشكّل مفردة من هذه المنظومة الدراسيّة الّتي قرّرتها المنظمة للمرحلة العامة. ومن هنا نتقدّم بالشّكر لسماحة حجة الإسلام والمسلمين السيّد منذر الحكيم الّذي تصدّى لتأليف هذا الكتاب ولجميع من ساهم في إخراجه سائلين من الباري لهم ولجميع المؤمنين التوفيق.

لجنة التأريخ وحدة تأليف الكتب الدراسية

1420 ه. ق

ص: 6

الفهرست

المهدويّة في التأريخ الإسلامي والإنساني ....13

قضيّة المصلح العالمي قضيّة إنسانية.......13

القضيّة المهدويّة قضيّة إسلاميّة ......16

تمذهب القضيّة المهدوية ........20

الدرس (2)

الإمام المهدي(علیه السّلام) في ظلّ أبيه (علیه السّلام)(1).24

الإمام العسكري(علیه السّلام) والظروف الحرجة ...24

أُمّ الإمام المهدي (علیه السّلام) ....28

میلاد الإمام المهدي (علیه السّلام) والظروف المحيطة به .. 29

الدرس (3)

الإمام المهدي(علیه السّلام) في ظلّ أبيه(علیه السّلام) (2).34

الأخبار الدالة على إخفاء ولادته .....34

علّة إخفاء الولادة .........35

الدرس (4)

الإمام المهدي (علیه السّلام) في ظلّ أبيه(علیه السّلام) (3)..39 دور الإمام العسكري (علیه السّلام)في الإعلان عن الولادة ...39

عرض الإمام العسكري(علیه السّلام) علي ولده على شیعته .44

ص: 7

الدرس (5)

عصر الإمام المهدي (علیه السّلام) ...50

اغتيال الإمام العسكري(علیه السّلام) واضطراب السلطة ......50تجهيز الإمام العسكري (علیه السّلام) وتشبيعه ....51

كبس دار الإمام العسكري (علیه السّلام) .......53

الدرس (6)

الإمام المهدي(علیه السّلام) يتسلم زمام الأمر .........57

عمره حين تسلّمه مهامّ الإمامة.....57

بدء الغيبة الصغرى .......57

الملامح العامة لعصر الغيبة الصغرى .........59

الثورات العلوية ......... ....63

الدرس (7)

الإمام المهدي(علیه السّلام) والتصدّي لمهامّ الإمامة ...67

وفد القمّيين .........67

جعفر بن الإمام الهادي(علیه السّلام) ...69

موقف جعفر من الإمام المهدي(علیه السّلام) ......70

لماذا ادّعي جعفر الإمامة؟ .........71

لماذا فشل تخطيط جعفر؟ ...72

موقف الإمام المهدي(علیه السّلام) من جعفر..... 72

الدرس (8)

تمهیدات الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) والأئمة (علیه السّلام) للغيبة الصغرى ......... 78

علل الغيبة الصغرى ..... ........80

ص: 8

الدرس (9)

الغيبة الصغرى والارتباط بالإمام المهدي (علیه السّلام)........84

السفير الأول .......84

السفير الثاني ......87

السفير الثالث ......89

السفير الرابع ......92

الدرس (10)

السفارة: الخصائص والمضمون .........96

الخصائص العامة والمضمون الاجتماعي للسفارة ......96

المهامّ الأساسية للسفارة .......104

الدرس (11)

السفارات المزوَّرة ......107

ادّعاء السفارة عن الإمام (علیه السّلام) .....107

مناشئ التزوير ......107

التسلسل التأریخي للتزوير ....108

موقف الإمام المهدي (علیه السّلام) من مدّعي السفارة .....110

الدرس (12)

تفاصيل أعمال السفراء (1) .........115

الدرس (13)

تفاصيل أعمال السفراء (2) .........125

حياة الإمام المهدي (علیه السّلام) في الغيبة الصغرى (1)...128

ص: 9

الدرس (14)

الإمام المهدي(علیه السّلام) في الغيبة الصغری (2) ....136

أهم نشاطاته العامّة ........136

الدرس (15)

الإمام المهدي(علیه السّلام) في الغيبة الصغری (3) .........142

الإمام (علیه السّلام) والسلطة العبّاسية ...... .......142

الدرس (16)

من تراث الإمام المهدي(علیه السّلام) في الغيبة الصغری (1) 150

الدرسان (17 و 18)

من تراث الإمام المهدي (علیه السّلام) في الغيبة الصغرى (2)162

الدرس (19)

من تراث الإمام المهدي (علیه السّلام) في الغيبة الصغرى (3)187

الدرس (20)

من تراث الإمام المهدي (علیه السّلام) في الغيبة الصغری (4)197

الدرس (21)

بدء الغيبة الكبرى ......206

الإعلان عن بدء الغيبة الكبرى ........207

علل الغيبة الكبرى....209

الدرس (22)

خصائص الغيبة الكبرى....214

سيرة الإمام المهدي(علیه السّلام) في عصر الغيبة الكبرى ..215

ص: 10

مهامّ الإمام المهدي(علیه السّلام) في الغيبة الكبرى .......220

الدرس (23)

الإنتفاع بالإمام (علیه السّلام) في الغيبة الكبری (1) .... 224

الدرس (24)

الإنتفاع بالإمام (علیه السّلام) في الغيبة الكبری (2) ....231

موطن الإمام في الغيبة الكبرى....234

زواج الإمام وأولاده ........ .....234

الدرس (25)

تكاليف الأمة الإسلاميّة في عصر الغيبة الكبری (1).......238

1- الإيمان بالإمام المهدي(علیه السّلام) المنتظر ....... 238

2 - الانتظار ....240

3- أهمية العمل الإسلامي قبل الظهور ...... ....244

الدرس (26)

تكاليف الأمة الإسلاميّة في عصر الغيبة الكبری (2) ........247

مدلول الانتظار ...247

مراحل الانتظار .... ......247

الدرس (27)

الحكم الإسلامي في عصر الغيبة الكبرى ......256

الكيان الشيعي في عصر الغيبة الكبرى .... ....259

الدرس (28)

رؤية الإمام (علیه السّلام) في عصر الغيبة الكبری (1)... 264

ص: 11

الدرس (29)

رؤية الإمام(علیه السّلام) في عصر الغيبة الكبری (2) ....273

نماذج من الرؤية ....... ...273

الدرس (30)

تراث الإمام(علیه السّلام) في عصر الغيبة الكبرى ...286

الدرس (31)

شرائط الظهور وعلاماته (1) .......293

الظروف الموضوعية لانتهاء الغيبة الكبرى.... 293

الفرق بينشرائط الظهور وعلاماته ....293

الدرس (32)

علامات الظهور (2) ....... ......304

الدرس (33)

علامات الظهور (3) ......311

الدرس (34)

الدولة الإسلاميّة في عصر الظهور ......319

ص: 12

الدرس 1:المهدويّة في التأريخ الإسلامي و الإنساني

قضيّة المصلح العالمي إنسانيّة قبل أن تكون إسلاميّة

1. «ليس المهدي تجسيداً لعقيدة إسلاميّة ذات طابع ديني فحسب، بل هوعنوان الطموح اتّجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإبهام فطري، أدرك الناس من خلاله - على الرغم من تنوع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب - أنّ للإنسانية يوماً موعوداً على الأرض، تتحقّق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير وهدفها النهائي، و تجد فيه المسيرة المحدودة (المتّعبة) للإنسان على مرّ التأريخ استقرارها وطمأنينتهاء، بعد عناءٍ طويل. بل لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيبي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينياً بالغيب، بل امتدّ إلى غيرهم أيضاً وانعكس حتّى على أشدّ الإيدي ولوجيات والاتّجاهات العقائدية رفضاً للغيب والغيبيات، کالمادية الجدلية الّتي فسّرت التأريخ على أساس التناقضات، و آمنت بيوم موعود، تصفّى فيه كلّ تلك التناقضات ويسود فيه الوئام والسلام. وهكذا نجد أنّ التجربة النفسية لهذا الشعور الّتي مارستها الإنسانية على مرّ الزمن، من أوسع التجارب النفسية وأكثرها عموماً (انتشاراً)

ص: 13

بين أفراد الإنسان».

دور الدين في طرح قضيّة المصلح العالمي

2. «و حينما يدعم الدين هذا الشعور النفسي العام، و يؤكّد أنّ الأرض في نهاية المطاف ستمتلی، قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، يعطي لهذا الشعور قیمته الموضوعية ويحوّله إلى إيمان حاسم بمستقبل المسيرة الإنسانية، وهذا الإيمان ليس مجرد مصدر للسلوة والعزاء فحسب، بل مصدر عطاء وقوة، فهو مصدر عطاء؛ لأن الإيمان بالمهدي إيمان برفض الظلم والجور حتّى وهو يسود الدنيا كلها، و هو مصدر قوة و دفع لا ينضب؛ لأنه بصیص نور يقاوم اليأس في نفس الإنسان، ويحافظ على الأمل المشتعل في صدره مهما ادلهمّت الخطوب و تعملق الظلم، لأنّ اليوم الموعود، يثبت أنّ بإمكان العدل أن يواجه عالَماً مليئاً بالظلم والجور، فيزعزع ما فيه من أركان الظلم، ويقيم بناءه من جديد، وأنّ الظلم مهما تجبّر وامتدّ في أرجاء العالم، وسيطر على مقدّراته، فهو حالة غير طبيعية، ولابدّ أن ينهزم. وتلك الهزيمة الكبرى المحتومة للظلم و هو في قمّة مجده، تضع الأمل كبيراً أمام كلّ فرد مظلوم، وكلّ أمة مظلومة في القدرة على تغيير الميزان و إعادة البناء».

3. «و إذا كانت فكرة المهدي أقدم من الإسلام و أوسع منه، فإنّ معالمها التفصيلية الّتي حدّدها الإسلام جاءت أكثر إشباعاً لكل الطموحات الّتي انشدت إلى هذه الفكرة منذ فجر التأريخ الديني، وأغنى عطاءً و أقوى إثارةً لأحاسيس المظلومين والمعذَّبين على مرّ التأريخ؛ وذلك لأن الإسلام حوّل الفكرة من غيب إلى واقع، و من مستقبل إلى حاضر، ومن التطلع إلى منقذ تتمخّض عنه الدنيا في المستقبل البعيد المجهول، إلى الإيمان بوجود المنقذ فعلاً، و تطلّعه مع المتطلّبين إلى اليوم الموعود، واكتمال الظروف الّتي تسمح له بممارسة دوره العظيم.

فلم يعدّ المهدي(علیه السّلام) فكرة نتظر ولادتها، ونبوءةً نتطلع إلى مصداقها، بل واقعاً قائماً ننتظر فاعليته، وإنساناً معيناً يعيش بيننا - بلحمه ودمه - نراه و یرانا، و يعيش مع

ص: 14

آمالنا و آلامنا و يشاركنا أحزاننا و أفراحنا، ويشهد كلّ ما تزخر به الساحة على وجه الأرض من عذاب المعذَّبين وبؤس البائسين وظلم الظالمين، ويكتوي بكلّ ذلك من قريب أو بعيد، و ينتظر بلهفة اللحظة الّتي يتاح له فيها أن يمدّ يده إلى كلّ مظلوم وكلّ محروم، وكلّ بائس، ويقطع دابر الظالمين». .

«وقد قدّر لهذا القائد المنتظَر أن لا يعلن عن نفسه، ولا يكشف للآخرين حياته على الرغم من أنّه يعيش معهم؛ انتظاراً للّحظة الموعودة».

آثار الإيمان بالمهدي المنتظر

4. «و من الواضح أنّ الفكرة بهذه المعالم الإسلامية، تقرّب الهوّة الغيبية بين المظلومين - كلّ المظلومين - والمنقذ المنتظر، و تجعل الجسر بينهم وبينه في شعورهم النفسي قصيراً مهما طال الانتظار.

ونحن حينما يراد منّا أن نؤمن بفكرة المهدي بوصفها تعبيراً عن إنسان حي مُحدَّد يعيش فعلاً كما نعيش و يترقب كما نترقب، يراد الإيحاء إلينا بأنّ فكرة الرفض المطلق لكل ظلم و جور الّتي يمثّلها المهديّ، تجسّدت فعلاً في القائد الرافض المنتظر، الّذي سيظهر وليس في عنقه بيعة لظالم كما في الحديث(1)، وأنّ الإيمان به إيمان بهذا الرفض الحي القائم فعلاً و مواكبة له.

وقد ورد في الأحاديث الشريفة الحثّ المتواصل على انتظار الفرج، ومطالبة المؤمنين بالمهدي أن يكونوا بانتظاره. و في ذلك تحقيق لتلك الرابطة الروحية، والصلة الوجدانية بينهم وبين القائد الرافض، وكل ما يرمز إليه من قيمٍ، و هي رابطة وَصِلَةٌ ليس بالإمكان إيجادها ما لم يكن المهديّ قد تجسّد فعلاً في إنسان حيّ معاصر.

وهكذا نلاحظ أنّ هذا التجسيد أعطى الفكرة زخماً جديداً، وجعل منها مصدر عطاء وقوة بدرجة أكبر، إضافة إلى ما يجده أي إنسان رافض من سلوة وعزاء

ص: 15


1- الشيخ الصدوق، إكمال الدين، ج 1، ص 579 - 480.

و تخفيف لما يقاسيه من آلام الظلم والحرمان، حين يحس أنّ إمامه وقائده يشاركه هذه الآلام ويتحسّس بها فعلاً بحكم كونه إنساناً معاصراً، يعيش معه وليس مجرد فكرة مستقبلية».(1)

القضية المهدويّة إسلاميّة قبل أن تكون شيعة

«إنّ كثيراً من قضايانا العقائدية صبغت بطابع مذهبي أو طائفي، بسبب عوامل معيّنة، طرأت عليها، فجعلتها في إطار ذلك المذهب، أو نطاق تلك الطائفة. ممّا أفقدها طابعها العام، بصفتها عقيدة إسلاميّة عامّة.

و راحت تتغلغل في تمذهبها نتيجة دفع كثير من الدراسات والبحوث، غير المقارنة أو غير الموضوعية، الّتي تدور حول القضيّة على اعتبار أنّها من عقائد مذهب معين، أو طائفة معيّنة.

و(قضيّة المهديّ المنتظر)، إحدى تلكم القضايا الّتي حوّلتها العوامل الطارئة، إلى قضيّة خاصّة، فجعلتها في إطار مذهب الشيعة و في نطاق هذه الطائفة من طوائف المسلمين.

«في حين أنّ دراسة هذه القضيّة أو بحثها بشيء من الوعي والموضوعية، ينتهي بنا حتماً إلى أنّها قضيّة إسلاميّة، قبل أن تكون مذهبية، شيعية أو غيرها.

إنّ باحثي موضوع المهدي المنتظر - على إختلاف مذهبهم - يمتدّون بجذور المسألة إلى أحاديث صادرة عن النّبيّ(صلّی الله علیه وآله وسلّم) . ثبتت صحّة صدورها، إمّا لأنّها متواترة أو لأنّها أخبار آحاد توفّرت على شرائط الصحّة.

إنّ الأحاديث في المسألة الواردة عن النّبيّ(صلّی الله علیه وآله وسلّم) ، قد قال بتواترها غير واحد من العلماء....

ص: 16


1- بحث حول المهدي للشهيد السيد محمد باقر الصدر، ص 7. 12.

و هي - في حدود ما وقفت عليه . على طوائف ثلاث:

1. القول بتواترها عند المسلمين.

2. القول بتواترها عند أهل السنة.

3. القول بتواترها عند الشيعة(1).

والقول بالتواتر لدى طائفتي المسلمين - في واقعه - قول بالتواتر عند المسلمين جميعاً.

وقال بصحّة صدورها من لم يصرّح بتواترها من العلماء، أمثال: أبي الأعلى المودودي. قال: «غير أنّ من الصعب على كلّ حال - القول بأن الروايات لا حقيقة لها أصلاً، فاننا إذا صرفنا النظر عمّا أدخل فيها الناس من تلقاء أنفسهم، فانّها تحمل حقيقة أساسية، هي القدر المشترك فيها، وهي: أنَّ النبي - رضی الله عنُهُ- أخبر أنه سيظهر في آخر الزمان زعيم عامل بالسُنّة، يملأ الأرض عدلاً ، و يمحو عن وجهها أسباب الظلم والعدوان، و يُعلي فيها كلمة الإسلام، ويعمّم الرفاه في خلق الله»(2).

طوائف أحاديثها

إن الأحاديث في المسألة على طوائف، هي:

1. ما لم يصرح فيها بذكر المهديّ(علیه السّلام).

2. ما صرح فيها بذكر المهديّ (علیه السّلام).

وقد حمل العلماء القسم الأوّل من الأحاديث (وهي الّتي لم يصرح فيها بذكر المهديّ (علیه السّلام) لأنّها مطلقة، على القسم الثاني (وهي الّتي صرح فيها بذكر المهديّ (علیه السّلام) لأنها مقيّدة.

ص: 17


1- للوقوف على الأقوال يقرأ: اسماعيل الصدر، محاضرات في تفسير القرآن الكريم، ص 131 و ما بعدها. محمّد أمین زین الدین، مع الدكتور أحمد أمين في حديث المهدي والمهدوية، ص 16 وما بعدها. السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، ج 4، ق 3، سيرة الإمام المنتظر (عليه السلام).
2- البيانات. ص 116.

يقول المودودي: «قد ذكرنا في هذا الباب نوعين من الأحاديث: أحاديث ذكر فيها المهديّ بالصراحة، وأحاديث إنما أخبر فيها بظهور خليفة عادل بدون تصريح بالمهديّ(علیه السّلام) .

ولمّا كانت الأحاديث من النوع الثاني تشابه الأحاديث من النوع الأوّل في موضوعها، فقد ذهب المحدّثون إلى أن المراد بالخليفة العادل فيها هوالمهديّ»(1).

وتنقسم الطائفة الأخيرة إلى طوائف أيضاً، هي:

أ- ما صرح فيها بأن المهديّ (علیه السّلام) من الأُمة.

ب .. . . . . من العرب.

ج-. . . المهديّ من كنانة.

د. . . . . . من قريش.

ه-. . . . من بني هاشم.

و . . . . . . من أولاد عبدالمطلب.

وإلى هنا يحمل المطلق منها على المقيّد، نظراً إلى عدم وجود ما يمنع من ذلك، فتكون النتيجة هي: ما تصرّح به الطائفة الأخيرة (و المهديّ من أولاد عبدالمطلب).

و هي تنقسم إلى طائفتين أيضاً، هما: -

1. ما صرّح فيه بأن المهديّ من أولاد أبي طالب.

2. ما صرّح فيه بأن المهديّ من أولاد العبّاس.

وهنا نظراً لتكافؤ الاحتمالين وهما: احتمال حمل المطلق المتقدّم (وهو ما تضمّن أنّ المهديّ من أولاد عبد المطّلب)، على القسم الأوّل (وهوما تضمّن أنّ المهديّ من أولاد أبي طالب)، واحتمال حمله على القسم الثاني (وهو ما تضمّن أنّ المهديّ من أولاد العبّاس)، لا يكون تقييده بأحدهما إلّا مع ثبوت المرجّح.

ص: 18


1- البيانات، ص 116.

وحيث قد ثبت أنّ الأحاديث الّتي تضمّنت أنّ المهديّ من أولاد العبّاس موضوعة (1) تبقى الأحاديث من القسم الأوّل (وهي الّتي تضمّنت أنّ المهديّ من أولاد أبي طالب) غير معارضَة، فيقيّد بها إطلاق ما قبلها، فيحمل عليها فتكون النتيجة: هي أنّ المهدي من أولاد أبي طالب.

والأحاديث المتضمنة أنّ المهديّ من أولاد أبي طالب تنقسم إلى طوائف أيضاً، هي:

1. المهدي(علیه السّلام) من آل محمّد (صلّی الله علیه وآله وسلّم)

2. من العترة (علیهم السّلام) .

3. من أهل البيت (علیهم السّلام).

4. من ذوي القربی(علیهم السّلام) .

5. من الذرّية.

6. من أولاد علي(علیه السّلام) .

7. من أولاد فاطمة(علیها السّلام)

. والأخيرة في هذا السياق - تُقیّدُ ما قبلها فتحمل عليها.

و هي تنقسم إلى طائفتين هما:

أ- المهدي(علیه السّلام) من أولاد الإمام الحسن(علیه السّلام) . ب - المهدي(علیه السّلام) من أولاد الإمام الحسين(علیه السّلام) .

وهنا نعود فنقول: نظراً لتكافؤ الاحتمالين(2) (احتمال حمل المطلق على القسم الأوّل، واحتمال حمله على القسم الثاني)، لا يمكن حمل المطلق المتقدّم على أحدهما من غير مرجّح.

ولمّا كانت الأحاديث المتضمنة أنّ المهديّ من أولاد الحسن موضوعة، لما يشابه

ص: 19


1- راجع عبدالهادي الفضلي: في انتظار الإمام، ص 36 - 38.
2- لو قلنا بأن أسنادها وتعدادها متكافنان طبعاً.

العوامل السياسية الّتي حملت بني العبّاس على وضع أحاديث (المهديّ من أولاد العبّاس)، يحمل المطلق المتقدم على القسم الثاني، فيقيّد بها ... فتكون النتيجة أنّ المهديّ(علیه السّلام) من أولاد الحسين (علیه السّلام).

ولا أقل من أنّ أحاديث القسم الأوّل لضعفها وقلّتها، لا تقوى على مناهضة أحاديث القسم الثاني لصحّتها وكثرتها.

وتنقسم الطائفة الأخيرة منهما إلى طوائف هي

1. المهديّ من أولاد الإمام الصادق(علیه السّلام).

2. المهديّ من أولاد الإمام الرضا(علیه السّلام).

3. المهديّ من أولاد الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام).

و شأن هذه الطوائف الثلاث الأخيرة، في حمل المطلق منها على المقيّد، شأن ما تقدّمها من طوائف.

وفي النهاية تكون النتيجة الأخيرة هي:

أنّ المهديّ المنتظر(علیه السّلام) ، هو: ابن الإمام الحسن العسكري(علیه السّلام) .

وهذا اللون من المحاولة في الدراسة والبحث لإرجاع المسألة إلى واقعها العام، والخروج بها عن الأطر المذهبية الضيّقة، يتطلّب منّا الرجوع إلى أصول عامّة في بحث الحديث، تُوفّر العالم الأجواء الكافية للدراسة المقارنة والبحث الموضوعي.

تمذهب القضيّة المهدويّة

أن العوامل الّتي ساعدت على تمذهب القضيّة المهدويّة على نوعين:

1. العامل السياسي: و يتمثّل في استغلال العباسيين القضيّة لصالح ملكهم الخاص(1)،

ص: 20


1- راجع : (في انتظار الإمام) لعبدالهادي الفضلي: عوامل الغيبة الصغرى.

كما يتمثّل في استغلال الحسنيين القضيّة أيضاً، بغية التوصل إلى الحكم(1).

2. العامل الطائفي: ويتمثّل في لون من الصراع المذهبي بين الشيعة والسنة، و هو الّذي كان يقوم على أساس غير موضوعي، لأنّه يقوم على الرواسب والنزعات الطائفية، وفي إطار الانفعالات العاطفية، الّتي وسعت فجوة الخلاف بين الطائفتين، فحوّلت كثيراً من المسائل العامة إلى قضايا خاصّة.

الخلاصة

يتضمّن هذا المبحث قضيّة ذات أهميّة خاصّة لكونها قضيّة عقائدية

إسلاميّة أوّلاً، ولأنّ بعض الباحثين والدارسين حاول أن يضيقها بطابع مذهبي لعوامل و أسباب متعددة في طليعتها قلّة الوعي الإسلامي، و عدم الموضوعية في تناولها، لأنّ السنة والشيعة يقولون بتواتر هذه القضيّة عن الرسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ، وإن اختلفوا في تفصيلاتها المتعلقة بالاعتقاد و الإيمان بالإمام المهدي (علیه السّلام)؟

ثمّ إنّ هذه الأحاديث منها ما يتّصف بالإطلاق والأخرى تحمل اسمه من جهة وطائفة من الأحاديث تنسبه إلى العرب أو كنانة أو بني عبدالمطلب أو غير ذلك ثم طائفة أخرى تنسبه إلى بني هاشم أو بني العبّاس أو إلى أولاد أبي طالب ثم طائفة أخرى تقول بأنّه من ولد الحسن (علیه السّلام) أو من ولد الحسين (علیه السّلام) بعد أن تجعله إمّا من أمير المؤمنين (علیه السّلام) أو من ولد فاطمة (علیها السّلام) فهي مع قلّتها موضوعية والأخرى لها أرجحية على سابقاتها لذا يؤخذ بها.

ص: 21


1- يقرأ: السيد اسماعيل الصدر، ص 133.

وإنّ للعوامل السياسية والمذهبية دوراً بارزاً في الوضع لتلك الأحاديث و ارجاع نَسَب الإمام المهدي (علیه السّلام) إلى العبّاس و الحسن أو سواهما.

ص: 22

الأسئلة

1. كيف صبغت مسألة الإمام المهدي (علیه السّلام) بالصبغة المذهبية؟

2. ما هو مصدر القائلين بقضية الإمام المهدي (علیه السّلام) من أصحاب المذاهب الإسلامية؟

3. هل الأحاديث الواردة عن النّبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بشأنه متواترة؟ وما هي الأقوال في ذلك؟

4. ما هو المقصود بالخليفة العادل وعلى مَن تحمل الأحاديث الّتي لم تصرّح باسم الإمام المهدي (علیه السّلام)؟ ..

5. ما هي العوامل الّتي ساهمت في جعل قضيّة الإمام المهدي (علیه السّلام) قضيّة مذهبية؟

ص: 23

الدرس 2: الإمام المهدي (علیه السّلام) في ظلّ أبيه (علیه السّلام) (1)

الإمام الحسن العسكري(علیه السّلام) والظروف الحرجة

إن تتّبع الأحداث ووقائع عصر الإمامين علي بن محمّد الهادي و الحسن بن علي العسكري (علیهما السّلام) يوضح موقف السلطة نحوهما و مدى ما كانا يعانيان من قهر واضطهاد وإبعاد عن القواعد الشعبية من أجل تطويقهما ووضع العراقيل أمام تأثيرهما في هذه القواعد وغيرها من أبناء الأمة الإسلامية، فإنّ المتوكل مع اشتهار بغضه للإمام علي (علیه السّلام) وأبنائه وشیعته كان قد أشخص الإمام الهادي(علیه السّلام) من مدينة الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) إلى سامرّاء و أرسل إليه رسالة يُظهر فيها حبّه وتقديره و تکریمه له (علیه السّلام) وذلك عام (2364ه)(1) حيث أرسل یحیی بن هرثمة لاشخاص الإمام (علیه السّلام)

إليه، وكان بصحبته الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) وهو لم يزل صغيراً وله من العمر عامان(2).

وهذه الخطوة من الخليفة العباسي تظهر مخاوف السلطة من دور الإمام (علیه السّلام) وأن إشخاصه إلى البلاط وقربه من السلطة يجعله دوماً تحت مراقبة عيونها ويسهّل عليها

ص: 24


1- المسعودي، مروج الذهب، ج 4، ص 84.
2- الطبرسي. الفضل بن الحسین، ج 2، ص 131.

التعرف على تحرّکه و اتصالاته والداخلين عليه من مواليه و مؤيديه ممّا ییسّر للسلطة متابعة ذلك، واتخاذ الاجراءات الكفيلة بالحدّ من تأثيره ثمّ متابعة شيعته ومطارتهم وإلقائهم في السجون فضلاً عن وسائل السلطة الاُخرى في قهرهم واضطهادهم.

وكانت سامرّاء عاصمة الدولة العبّاسية مسرحاً لتلك الأحداث والوقائع ولنشاط الإمامين الهادي والعسكري (علیهما السّلام)، وما يلاحظ على نشاطهما(علیهما السّلام) تجاه السلطةالعباسية من قرب من الخليفة وحضور مجالسه لم يمنعهما ذلك من ممارسة دورهما في رعاية تلك القواعد المؤمنة بقيادتهما الروحية والفكرية وتربيتها، فکانا(علیهما السّلام) يتكفّلان الإصلاح والحفاظ على الشريعة ما استطاعا إلى ذلك من سبيل، بيد أنّ ذلك النشاط في الغالب كان يتّصف بالحذر، كما كان محاطاً بالكتمان و الرمزية قولاً وعملاً إلّا ما يطرحه الإمام (علیه السّلام) أمام خلّص أصحابه ومواليه و من هو على درجة عالية من الارتباط بالإمام(علیه السّلام) .

وكان للإمامين (علیهما السّلام) جمع من الوكلاء المنتشرين في الأمصار الإسلاميّة، وكان للوكیل دور هام في إيصال ما يصدر عن الإمام(علیه السّلام) إلى قواعده و ما تريده القواعد من الإمام (علیه السّلام). وكان الوكلاء يجمعون الحقوق الشرعية من خمس و زكاة ترد إليهم من شيعة الإمام(علیه السّلام) ومواليه المنتشرين في المناطق المختلفة من الوطن الإسلامي آنذاك فكانوا يوصلون هذه الأموال إلى الإمام (علیه السّلام) ومعها الأسئلة والاستفتاءات حول المسائل الدينية والدنيوية، وكان

الإمام (علیه السّلام) يقوم بدوره في تقسيمها وتوزيعها والإجابة على ما يرد إليه من أسئلتهم واستفساراتهم عن طريق وكلائه وخواصّه لتصل إلى قواعده الشعبية للعمل وفقاً لها(1).

وأما موقف السلطة فكان يتمثّل في الخليفة نفسه وقوّاده و وزرائه وخاصّته وأهل بيته من العباسيين الذين كانوا يتوجّسون خيفةً باستمرار من وجود الإمام (علیه السّلام)

ص: 25


1- يراجع ابن شهرآشوب، المناقب، ج 3، ص 505.

وما يصدر عنه من قول و فعل أو من أحد أصحابه، فمن يُعرف بولائه واتّصاله بالإمام(علیه السّلام) فالسجن والأغلال هما النهاية الطبيعية له، ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحد بل كان يتعدّاه إلى إلقاء القبض على الإمام (علیه السّلام) وإيداعه السجن و فرض مراقبة مشدّدة عليه في سجنه فضلاً عن اختيار أسوأ السجّانين خُلقاً وسلوكاً و ممّن يعرف بعدائه ونصبه للإمام (علیه السّلام) لتبلغ السلطة بذلك غايتها في عزل الإمام (علیه السّلام) عن قواعده وإبعاده عنها فكانت السلطة تعمل جاهدة لعزل القواعد الشعبية للإمام (علیه السّلام) عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فكان الفرد منهم يعاني الخوف والفقر والمرض من دون أن يجد ناصراً أو معيناً له(1).

ويتّضح لنا من الظروف المحيطة بالإمامين (علیهما السّلام) الهادي والعسكري (علیهما السّلام) وموقفهما إزاءها ونشاطهما الخاص تجاه قواعدهما الشعبية أن كلّاً منهما (علیهما السّلام)لم يكن مكرّساً مواقفه و تحرّکه ونشاطه للاستيلاء على السلطة وإنّما كان غاية ما يسعى له الإمام (علیه السّلام) هو رعاية مصالح أصحابه وإدارة شؤونهم. وبالرغم من وضوح عدم التصدّي لاستلام السلطة فإنّ السلطة - بمختلف مستوياتها . كانت ثار بذلك النشاط مع ما يضاف إليه من وهمها الخاطيء باحتمال مطالبة الإمام (علیه السّلام) بحقّه المشروع المستلب من قبل السلطة غير الشرعية.

من هنا كانت السلطة تبذل الجهود الجبارة ضدّ أي تحرّك من الإمام(علیه السّلام) وأيّ نشاط له(2)، وبالرغم من ذلك كلّه وبالرغم من سياسة المراقبة والتقريب إلى البلاط فقد استطاع الإمامان عليه أن يخفيا نشاطهما واتصالهما بقواعدهما الشعبية، وبذلك أمِنا قسطاً كبيراً من الاضطهاد الّذي كان يمكن أن يصيبهما و أصحابهما من السلطة، كما

ص: 26


1- محمّد الصدر، الغيبة الصغرى، ص 239.
2- يُراجع المناقب، ج 3 وإثبات الوصية للمسعودي حول مواقف السلطة وتحركها ضدّ الإمام (علیه السّلام) وقواعده الشعبية.

حقّقا كثيراً من المصالح الّتي كان يستحيل تحقيقها لولا أُسلوبهما(علیهما السّلام) في تجاوز عيون السلطان و أساليبه في المواجهة للحدّ من نشاط و تحرّك الإمام(علیه السّلام) واتصاله بموالیه و شیعته.

ولا تعني إجراءات السلطة وتعسفها تجاه الإمام (علیه السّلام) أنّها كانت تجهل أحقّيته و منزلته العالية، فالسلطة بمختلف طبقاتها و موظفيها وأهل الأمر النافذ فيها، وعلى تفاوتهم في التعصب أو حسن التفكير، كانوا يعرفون في قرارة أنفسهم حقّ الإمام (علیه السّلام) و علوّ منزلته ويعتبرونه خير خلق الله في عصره؛ وذلك لما عُرف به من العبادة والعلم والزهد في الدنيا والأخلاق الحميدة و النسب الشريف، فهو سليل الرسول الأعظم (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ، ولا يختلف في ذلك الموالون عن غيرهم، ولا الخلفاء عمّن سواهم، فنری الخليفة المعتمد العباسي إبّان إحساسه بالضعف يأتي إلى الإمام العسكري (علیه السّلام) بنفسه، فيجيبه الإمام إلى طلبه ويدعو له، وكانت خلافته عشرين سنة بفضل دعاء الإمام (علیه السّلام).

ونلاحظ أنّ المعتمد العباسي - الّذي عاصر بداية أيام الإمام المهدي (علیه السّلام) هو الّذي تصدّى للفحص عن تركة الإمام وورثته و مراقبة الحوامل من نسائه، وإنّ ذلك لدليل على معرفته للحق وخشيته على عرشه وسلطته؛ لعلمه أنّ المهدي(علیه السّلام) هو الإمام القائم بالحق المقيم للعدل، والمزيل لعروش الظالمين والطغاة، وقد روى المسلمون بمختلف فِرَقهم ومذاهبهم ذلك عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) .

إنّ الاعتقاد بوجود المهدي (علیه السّلام) و ظهوره من القضايا الّتي كانت قد انتشرت بین المسلمين؛ وذلك للتبليغ المستمر بها منذ زمان النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) إلى زمان الإمام العسكري(علیه السّلام) ، ففي الوقت الّذي كان يبلّغ فيه الإمامان الهادي والعسكري (علیهما السّلام) عن غيبة الإمام المهدي(علیه السّلام) ، كان يكتب البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه في صحاحهم أخباره الّتي كانوا يروونها عن الرسول

ص: 27

الأعظم (صلّی الله علیه وآله وسلّم) جيلاً بعد جيل(1).

وقد مارس الإمامان العسکریان (علیهما السّلام) التمهيد المباشر لغيبة الإمام المهدي (علیه السّلام) وذلك لكي يعتاد أصحابه فكراً وسلوكاً عليها، وكان ذلك التمهيد باتّخاذ نظام الوكلاء أوّلاً و تخطيطهم للاحتجاب عن الناس ثانياً.

وسوف يتحقّق كلا الأمرين في الغيبة الصغرى للإمام المهديّ(علیه السّلام) فالإمام الهادي (علیه السّلام) لايعلن بصراحة عن إمامة ولده الحسن العسكري (علیه السّلام) إلّا قبيل وفاته، وأنّ إجراءاته حول غيبة الإمام المهدي (علیه السّلام) لم تكن أوسع ممّا اتّخذه الإمام العسكري (علیه السّلام) الّذي تكفّل بالقسط الأكبر فيما يتعلّق بالتمهيد للغيبة فهو والده مع قرب وقوع الغيبة. و نخلص إلى ما أوجزناه عن ظروف الإمامين (علیهما السّلام) - العامة والخاصّة - الّتي سبقت ولادة الإمام (علیه السّلام) و تزامنت مع ولادته، وهي عموماً تفصح عن سبب إخفاء ولادته وشخصه عن عموم الناس من قبل الإمام العسكري(علیه السّلام) .

أمّ الإمام المهدي (علیه السّلام)

لقد ذكرت الروايات المختلفة بأن اُمّ الإمام المهدي(علیه السّلام) روميّة الأصل وكانت من سبايا الروم و جُلِبت عند الفتح الإسلامي حيث كانت مع جيش الروم الّذي كان قد تحرك لغزو بلاد المسلمين آنذاك وبعد أن هُزم هذا الجيش وانتصر الجيش الإسلامي أخذت أمّ الإمام (علیه السّلام) سبية مع سائر السبايا، ثم اشتراها الإمام الهادي(علیه السّلام) .

ويرجع نسبها من حيث الأب إلى ملك الروم قیصر ووالدها هو (يشوع) كما أنّ أمها تنتهي بنسبها إلى شمعون وصيّ السيد المسيح(علیه السّلام) .

وكانت سيّدة زكيّة من سيّدات نساء المسلمين في تقواها وورعها وإيمانها وطهارة نفسها، ويكفيها فخراً أنّها كانت وعاءً للإمام الحجّة بن الحسن(علیه السّلام) الّذي سوف يصلح

ص: 28


1- محمّد الصدر، الغيبة الصغرى، ص 240 - 241.

الله به الدنيا ويملأها عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً و جوراً.

وقد نقل الرواة أسماء كثيرة لهذه السيدة الزكية الكريمة، وان إشتهرت ب(نرجس)(1) وكانت تدعى ب (صیقل) و (سوسن) و(مليكة) و(ريحانة)... و غيرها(2).

میلاد الإمام المهدي (علیه السّلام) والظروف المحيطة به

وُلِد الإمام المهدي (علیه السّلام) عند الفجر في النصف من شعبان.

أما سنة ولادته فالمشهور أنّها سنة 255ه(3). والموافق (869م) ورد في بعض المصادر انّها كانت سنة256 (4)256، وفي حالة و تفرع تنافي في الروايات ينبغي الأخذ بالمشهور(5). أي أنّ ولادته (علیه السّلام) هي سنة (255 ه).

وبذا تكون ولادته(علیه السّلام) بعد وفاة جدّه الإمام الهادي(علیه السّلام) بحوالي عام واحد، و بعد تولّي المهدي العباسي سدّة الحكم بأقلّ من شهر حيث استخلف المهتدي لليلة بقيت من رجب و ولادة الإمام المهدي(علیه السّلام) في النصف من شعبان، وبقي المهتدي في الحكم سنة واحدة حتّى نحاء الأتراك وبايعوا المعتمد سنة 256ه

وبقي المعتمدة(6) في الحكم ثلاثاً وعشرين سنة حتّى عام 279ه وقد عاصر الإمام المهدي(علیه السّلام) خمس سنوات من حياة أبيه حيث كان استشهاد الإمام العسكري (علیه السّلام) سنة 260ه

ص: 29


1- الصدوق، محمد بن علي، کمال الدین، ج 2، ص 424 وما بعدها.
2- الطوسي، محمد بن الحسن، الغيبة، ص 124 - 128 و مناقب ابن شهر آشوب، ج 3، ص 534.
3- الكليني، محمّد بن يعقوب، الكافي، ج 1، ص 514 وكمال الدين للشيخ الصدوق، ج 2، (میلاد الإمام المهدي (علیه السّلام))
4- الشيخ الصدوق، کمال الدین، ج 2، ص 430.
5- محمّد الصدر، الغيبة الصغرى، ص 261.
6- الطبري، محمّد بن جریر، تاریخ الأمم والملوك، أحداث (255 - 279)ه .

أمّا بالنسبة لنشاط الإمام (علیه السّلام) خلال هذه الفترة فقد انصبّ في باتّجاهين بارزين من خلال تتبّع أحداث التأريخ لتلك الحقبة من حياته الشريفة:

الاتّجاه الأوّل: الحذر التامّ تجاه تحرّكات السلطة العبّاسية.

الاتّجاه الثاني: التعرّف على خواصّ أبيه(علیه السّلام) مع التكتّم وإخفاء ولادته عن الجميع سوی خواصّ الإمام العسكري(علیه السّلام) .

ويتعزّز لدينا ذلك من خلال الروايات الّتي تحدّثت عن كيفية ولادته(علیه السّلام) :

ففي أحد الأيام زارت السيدة حكيمة عمة الإمام العسكري(علیه السّلام) بيت الإمام (علیه السّلام) وصادفت زيارتها الليلة الّتي ولد فيها الإمام المهدي(علیه السّلام) وطلب الإمام العسكري من عمّته أن تبقى بعد أن أخبرها بأنه سيولد في هذه الليلة المولود الكريم على الله عزّوجلّ و عليهم، وحجّته في أرضه، فتسأله العمّة و مَنْ أمّه؟ فيقول لها الإمام (علیه السّلام) : نرجس! فتنفي العمّة أن يكون بنرجس أثر للحمل، فيؤكّد لها الإمام ذلك قائلاً، هو ما أقول لك، فتفحصها العمّة جيداً فلا تجد أثر الحمل، فتعود فتخبره تارة أخرى.

فيتبسّم الإمام العسكري(علیه السّلام) ويعطيها الحجّة الوافية والمبرّر الإلهي الصحيح في ذلك قائلاً:

إذا كان وقت الفجر يظهر لك الحبل... لأن مثلها كمَثَلِ أُمّ موسی (علیه السّلام) حيث لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها أحد إلى وقت الولادة؛ لأنّ فرعون كان يشقّ بطون الحوامل في طلب موسی (علیه السّلام) وهذا نظیر موسی (علیه السّلام)(1).

كما أنّ المعتمد العباسي كان قد أرسل قوابل لفحص نساء الإمام (علیه السّلام) ولم يتعرّفن عليها.

إنّ تحديد الإمام العسكري (علیه السّلام) وقت ولادة الإمام المهدي (علیه السّلام) بالفجر، لعمّته ربّما يستشفّ منه زيادة الحذر والخفاء حيث أنّ مثل هذا الوقت تكون القوابل وعيون

ص: 30


1- الشيخ الطوسي، الغيبة، ص 120.

السلطان وجلاوزته غاطّة فيه في نوم عميق، فضلاً عن قلّة النشاط والحركة في مثل هذا الوقت، وبعد أن سمعت السيدة حكيمة تأكيد الإمام (علیه السّلام) عادت إلى السيدة نرجس فأخبرتها بما قال أبومحمّد(علیه السّلام) وسألتها عن حالها، فأجابت نرجس: یامولاتي ما أري بي شيئاً من هذا، ثمّ إنّ نرجس نامت وقامت حكيمة بصلاة الليل وجلست للدعاء عقیبها، وهي في كلّ ذلك ترقب حالة نرجس فلا ترى عليها إلا النوم الهادئ، لا تقلب جنباً عن جنب حتّى إذا كان الفجر، و ثبت نرجس من نومها فزعةً فضمَّتها حكيمة إلى صدرها، وقالت لها: هل تحسّين بشيء؟

قالت: نعم يا عمّة، وهنا يأمر الإمام العسكري (علیه السّلام) عمّته أن تقرأ سورة الدخان والّتي تبدأ بقوله تعالى:

[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : «حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ،فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ].

وفي قراءة هذه الآيات المباركات يتّضح لنا ما كان يهدف إليه الإمام العسكري (علیه السّلام) من بيان المناسبة ومقتضى الحال وهي ولادة المصلح والمنقذ المنتظر(علیه السّلام) الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً كما ورد في أحاديث كثيرة عن رسول الله(صلّی الله علیه وآله وسلّم) نقلها أصحاب الصحاح والسنن فضلاً عمّا رواه محدّثوا الإمامية. وحينما حان وقت الميلاد الميمون، حدث أمرٌ بين السيدتين بحيث لم تطّلغ عمّةُ الإمام (علیه السّلام) علی نرجس رحالها.

وقد عبّرت عن ذلك بعض الروايات بالفترة .. وهي نوع من الغفلة أو النعاس... أصابتهما معاً وصوّرت السيدة حكيمة هذه الحالة في رواية أُخرى بقولها: حتّى غُيّبت عنّي نرجس فلم أرها كأنّه ضرب بيني وبينها حجاب، و تنتبه السيدة حكيمة فتجد الإمام المهدي(علیه السّلام) ساجداً لله على الأرض وهو يردّد الآية المباركة: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً

ص: 31

وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ »(1).

ولابدّ من الإشارة إلى أن أكثر الروايات(2) تشير إلى أنّ ولادة الإمام (علیه السّلام) تمّت ولم يكن في وقتها غير السيدة حكيمة قريبة من اُم الإمام (علیه السّلام) وأنّ الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) كان منشغلاً بالصلاة والدعاء وهو ينتظر المولود الكريم، بَيْدَ أنّ هناك رواية تصرّح باستقدام قابلة - كانت تسكن بجوار منزل الإمام العسكري(علیه السّلام) - بشكل محاط بالكتمان للقيام بشأن اُمّ الإمام (علیه السّلام) حال ولادتها. وليس في هذا ما ينافي الروايات القائلة بإخفاء ولادته (3).

الخلاصة

تمّ الحديث عن موقف السلطة من الامامين الهادي والعسكري (علیهما السّلام) وكذا الموقف من الجماعة الصالحة، والقواعد

الشعبية الموالية للإمام(علیه السّلام) ، وكيف أنّ المتوكّل أشخص الإمام الهادي (علیه السّلام) إلى سامرّاء، وقد بلغت وسائل اضطهاد الدولة للإمام العسكري إلى درجة إلقاء القبض عليه وسجنه مع العلم أنّ الخليفة وسائر طبقات السلطة العباسيّة لم تكن تجهل منزلته العالية، وأنّ نشاط الإمامين كان متوجّهاً إلى رعاية مواليهم ومن يؤمن بقيادتهم الروحية والفكرية و تربيته هؤلاء ما استطاعا إلى ذلك من سبيل.

و كان للإمامين (علیهما السّلام) وكلاء ورعين في شتّى المناطق لإيصال ما يرد إليهم من موالي الإمام من حقوق شرعية ومسائل و استفتاءات فضلاً عن قضايا تتعلّق بشؤونهم الحياتية.

ص: 32


1- القصص /.. 5.
2- يراجع كمال الدين للشيخ الصدوق باب میلاد الإمام المهدي و غيبة الطوسي، ص 121.
3- راجع محمد الصدر، الغيبة الصغرى، ص 268.

كانت ولادة الإمام (علیه السّلام) في النصف من شعبان سنة 255ه أي بعد استشهاد الإمام الهادي (علیه السّلام) بسنة واحدة وكان ذلك بدرجة عالية في الكتمان و عدم وضوح علامات الحمل على اُم الإمام (علیه السّلام) واستغراب السيدة حكيمة عمة الإمام العسكري (علیه السّلام) من حالتها وقد حضرت ولادتها وقدّمت الوليد المبارك إلى أبيه (علیه السّلام) وأجرى له مراسيم الولادة.

الأسئلة

1. لماذا أُشخص الإمام الهادي (علیه السّلام) من المدينة إلى سامرّاء؟

2. ما كانت فائدة وجود الإمام(علیه السّلام) قريباً من بلاط الخليفة للخليفة وأعوانه؟

3. ما كان موقف السلطة من القواعد الشعبية الموالية للإمام

(علیه السّلام) ؟

4. ما هو النشاط الّذي ركّز عليه الإمامان (علیهما السّلام)؟

5. ما هو دور وكلاء الإمامين الهادي والعسكري (علیهما السّلام) ؟

6. هل كان نشاط الإمامين (علیهما السّلام) مكرّساً لاستلام السلطة؟ ولماذا؟

7. كان دور السيدة حكيمة عمّة الإمام العسكري(علیه السّلام)؟

8. متى كانت ولادة الإمام المهدي (علیه السّلام)، ولماذا اُحيطت بالكتمان من قبل الإمام (علیه السّلام) ؟

9. هل ظهرت بوادر الحمل والولادة على السيدة نرجس؟ ولماذا؟

ص: 33

الدرس 3: الإمام المهدي (علیه السّلام) في ظلّ أبيه (علیه السّلام) (2)

الأخبار الدالّة على إخفاء ولادة الإمام (علیه السّلام)

لقد وردت أخبار كثيرة تشير إلى غيبة الإمام المهدي (علیه السّلام) ، وقد تناقلها المسلمون جيلاً بعد جيل، وفيها الإشارة إلى ما يسود المجتمع البشري من الجور والظلم والاضطهاد. وهناك أحاديث أخرى تضمّنت الإخبار عن خفاء مولده(علیه السّلام) .

إنّ واقع الحال الّذي سبقت الإشارة إليه - و هو ظروف ولادة الإمام (علیه السّلام) تعزّز ذلك، مع إمكان الاستفادة من الروايات الّتي وردت عن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، والّتي تشير إلى غيبة الإمام (علیه السّلام) وحيرة الاُمّة وما يجري على أهل بيته (علیهم السّلام) كمؤشّرات على خفاء ولادته(علیه السّلام) ، ومن هذه الروايات والأخبار:

1. ما جاء عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنّه قال: إنّ القائم منّا إذا قام لم يكن لأحد في عنقه بيعة، فلذلك تخفى ولادته و يغيب شخصه(1).

2. ما عن الإمام علي بن الحسین سید العابدين (علیه السّلام) أنّه قال: القائم منّا تخفی ولادته على الناس حتى يقولوا: لم يولد بعدُ(2).

ص: 34


1- الشيخ الصدوق، کمال الدین، ج 1، ص 303.
2- كمال الدين، ج 1، ص 323.

3.وما عبدالله بن عطاء حيث قال: قلت لأبي جعفر - أي محمّد الباقر(علیه السّلام) - إنّ شيعتك بالعراق كثيرون فوالله ما في أهل بيتك مثلك فكيف لاتخرج؟

فقال ياعبد الله بن عطاء قد أمكنت الحشو من أذنيك والله ما أنا بصاحبكم، قلت: فمن صاحبنا؟ قال: انظروا من تخفى على الناس ولادته فهو صاحبكم(1).

4. وعن أيوب بن نوح قال: قلت للرضا (علیه السّلام) : إنا لنرجو أن تكون صاحب هذا الأمر وأن يردّه الله عزّوجلّ إليك من غير سبق فقد بويع لك و ضربت الدراهم باسمك فقال: ما منّا أحد اختلفت إليه الكتب وسئل عن المسائل وأشارت إليه الأصابع وحملت إليه الأموال، إلا أغتيل أو مات على فراشه حتى يبعث الله عزّوجلّ لهذا الأمر رجلاً خفيَّ المولد والمنشأ غير خفيِّ في نسبه(2).

إلى غيرها من الأحاديث المروية عن بقية الأئمة (علیهم السّلام)(3) والّتي صرّحت بأن للإمام المهدي (علیه السّلام) سُنّة من موسی و یوسف و عيسی (علیهم السّلام) - وهي الغيبة وخفاء الولادة، -وقد صرّح القرآن حول عيسى: «إ كَمَثَلِ آدَمَ ، قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ». وتفيد الآية المباركة الّتي ذكرت المماثلة أنّ الحمل وما يرافقه من حالات لم تكن تعرض لأمّ المسيح (علیه السّلام) فهي كذلك بالنسبة لأمّ الإمام المهدي(علیه السّلام) .

علّة إخفاء ولادته (علیه السّلام)

إن قضيّة الإمام المهدي (علیه السّلام) بكلّ أبعادها ومظاهرها قضيّة تتعلّق بإرادة الله سبحانه وحكمته فهو أعلم حيث يجعل رسالته، و هي من القضايا العامّة الّتي اهتمّت الديانات بها، وبشّر الأنبياء بظهور المصلح المنتظر الّذي يزيل الظلم و يقيم دولة الحقّ، فهي ليست قضيّة إسلاميّة خاصّة ولا هي من معتقدات الشيعة الإمامية فحسب، فالتوراة تضمّنت البشارة به وكذا الأناجيل الأربعة، بيد أنّ وضوح الرؤية حول هذه

ص: 35


1- كمال الدين، ج 1، ص 325.
2- كمال الدين: ج 2، ص 370.
3- يُراجع كمال الدين، ج 1، ج 2 حول أحاديث الأئمة (علیهم السّلام) بهذا الخصوص.

العقيدة تجلّت بكلّ أبعادها - فيما عدا التوقيت بظهور الإمام (علیه السّلام) -بما تناقله المسلمون على امتداد التأريخ الإسلامي منذ البعثة حتّى يومنا هذا.

أمّا بخصوص العلّة في إخفاء ولادته فقد أُثر عن النبي(صلّی الله علیه وآله وسلّم) والأئمة المعصومين (علیهم السّلام) ما يوضّح السبب والعلّة في إخفاء ولادته(علیه السّلام):

1. عن أبي بصير، عن أبي عبدالله أي الإمام الصادق (علیه السّلام) قال: «صاحب هذا الأمر تعمى ولادته على هذا الخلق لئلّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج»(1).

2. وعن الإمام علي بن موسی الرضا (علیه السّلام) أنه قال: «كانّي بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدي - أي الإمام الحسن العسكري(علیه السّلام) - كالنعم يطلبون المرعى فلا يجدونه. قلت له: ولِمَ ذاك يا ابن رسول الله؟ قال: لأنّ إمامهم يُغيّب عنهم، فقلت: ولِمَ؟ قال: لئلّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا قام بالسيف»(2).

3. عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال: «إنّ للقائم غيبة يطول أمدها، فقلت له: يابن رسول الله ولِمَ ذلك؟ قال: لأن الله أبى إلا أن تجري فيه سنن الأنبياء علي في غيباتهم، وأنّه لابدّ له یاسدیر من استيفاء مدد غيباتهم، قال الله تعالى: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ » (3) أي سنن من كان قبلكم»(4). .

4. وعن زرارة قال: سمعت أباجعفر - أي الإمام الباقر(علیه السّلام) يقول إنّ للقائم غيبة قبل أن يقوم، قال: قلت: ولِمَ؟ قال: يخاف وأومأ بيده إلى بطنه - قال زرارة: يعني القتل(5).

5. عن أمیرالمؤمنین (علیه السّلام)قال: إنّ القائم منّا إذا قام لم يكن لأحد في عنقه بيعة ، فلذلك تخفى ولادته و يغيب شخصه.

6. عن سدير بن حکیم، عن أبيه عن أبي سعيد عقیصا قال: لما صالح الحسن

ص: 36


1- کمال الدین، ج 1، ص 479، 480.
2- كمال الدین، ج 2، ص 480.
3- الانشقاق /19.
4- كمال الدین، ج 2، ص 481.
5- كمال الدین ج 2، ص 481.

ابن علي(علیه السّلام) معاوية ابن أبي سفيان دخل عليه الناس، فلامه بعضهم على بيعته، فقال: ويحكم ما تدرون ما عملت، والله الّذي عملت خيرٌ لشيعتي ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت. ألا تعلمون أنّني إمامكم مفترض الطاعة عليكم، وأحد سَيّدَيْ شباب أهل الجنة بنصِّ من رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) عليَّ؟ قالوا: بلى، قال: أما علمتم أنّ الخضر(علیه السّلام) لمّا خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسی بن عمران إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك؟ وكان ذلك عند الله تعالى ذكره حكمةً و صواباً.

أما علمتم أنّه ما منّاً أحد إلّا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلّا القائم الّذي يصلّي روح الله عیسی بن مریم (علیه السّلام) خلفه، فإنّ الله عزّوجلّ يخفي ولادته و يغيّب شخصه لئلّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج. ذلك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيّدة الإماء يطيل الله عمره في غيبته ثمّ يظهرهُ بقدرته في صورة شابّ دون أربعين سنة ذلك ليعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير(1).

7. وعن أبي عبدالله - الصادق (علیه السّلام) قال: للقائم غيبة قبل قيامه، قلت: ولِمَ؟ قال: يخاف على نفسه الذبح(2).

إنّ هذه الأحاديث الشريفة كلّها تفيد أنّ علّة إخفاء الولادة وأنّ سبب الغيبة ترجع إلى أمرين:

الأوّل: أن لا تكون في عنقه بيعة لطاغية زمانه.

الثاني: الخوف من القتل.

وإنّ الحديث السابق عن الإمام الحسن المجتبى(علیه السّلام) والّذي ضرب فيه المثل لما قام به الخضر(علیه السّلام) واستنكار نبي الله موسى(علیه السّلام) لذلك نظراً لعدم وضوح حكمة الله له، يُستفاد منه أنّ للإخفاء علّة معلومة عند الله وإن كانت خافية على الناس، وإن

ص: 37


1- کمال الدین، ج 1، ص316.
2- كمال الدین، ج 2، ص 481.

-سألوا ولم يعرفوها فعليهم التسليم لحكم الله وحكمته.

الخلاصة

كما وردت الأخبار عن الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) والأئمة (علیهم السّلام) عن غيبة الإمام المهدي(علیه السّلام) ، جاءت نصوص أخرى تخبر بخفاء ولادته عن الأُمّة، لتوضح مسيرة حياة الإمام (علیه السّلام) وموقف القواعد الشعبية الموالية والأُمّة من حيث الإيمان به حتى إذا جاء وقت الولادة والغيبة لاتشك الأمة ولا ترتاب في وجوده (علیه السّلام) نظرة للإعداد اللازم لذلك.

وقد أوضحت أحاديث أخری العلّة والسبب في خفاء ولادته ويمكن

حصر ما ورد فيها في علّتين:

الأُولى: حتى لا تكون بيعة في عنق الإمام (علیه السّلام) لطاغية زمانه.

الثانية: مخافة القتل على نفسه فيما لو انكشف أمره للناس.

الأسئلة

1. هل يمكن الاستدلال على تحقّق الإخبار بخفاء الولادة من روايات الأخبار عن الغيبة العامة؟

2. اذكر حديثاً عن خفاء ولادته(علیه السّلام) ؟

3. لماذا لم ينهض الإمام الباقر (علیه السّلام) بالسيف مع كثرة مواليه في عصره؟

4. اذكر علّة خفاء ولادة الإمام المهدي (علیه السّلام)؟

ص: 38

الدرس 4:الإمام المهدي(علیه السّلام) في ظلّ أبيه (علیه السّلام) (3)

دور الإمام العسكري(علیه السّلام) في الإعلان عن الولادة

على الرغم ممّا اُحيط به الميلاد المبارك من كتمان وسريّة وخفاء نجد أنّ الإمام العسكري (علیه السّلام) لايكتم ذلك عن خاصّته من ثقاته، فهو يأمر أباعمر عثمان بن سعيد، وهو من أخصّ أصحابه لديه بأن يعقّ عن المولود الجديد عدداً من الشياه و أن يشتري عشرة آلاف رطل من الخبز و عشرة آلاف رطاً لحماً ويوزّعه على الفقراء . كما أرسل الإمام العسكري(علیه السّلام) شاة مذبوحة إلى محمّد بن إبراهيم الكوفي، و هي عقيقة عن المولود الجديد(1).

ويتباشر أصحاب الإمام العسكري بميلاد الإمام المهدي (علیهما السّلام) ويأتون الإمام مهنّئين بالمولود ويتواصون فيما بينهم بكتمان الأمر، ويسأل أحدهم عن اسمه(علیه السّلام) ، فيقال له سُمِّي: ب «محمّد» وكنّي: «بأبي جعفر». و من خلال الظروف والملابسات الّتي كانت تحيط بالإمام العسكري(علیه السّلام) والجماعة الصالحة يتّضح عِظَم المهمة الّتي يقوم بها الإمام (علیه السّلام) تجاه ولده المبارك، و تتمثّل هذه المهمة في أمرين:

ص: 39


1- کمال الدین، ج 2، ص 432 وما بعدها.

1. التعريف بولادة الإمام (علیه السّلام) ليثبت ذلك للتأريخ والأمّة الإسلاميّة فضلاً عن الجماعة الصالحة الّتي تنتظر مولده (علیه السّلام) وتأمل إقامة دولة الحقّ على يديه لإيمانها بقيادته الروحية والفكرية وفقاً للنصوص الواردة عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) حيث قال: «یکون بعدي اثناعشر خلیفة»

إذن فليس من الممكن أن يبلغ الحذر والتوني إلى حدّ إخفائه الكامل بحيث يؤدّي إلى ضياع اسمه وإنكار وجوده، مع كونه الإمام (علیه السّلام)الثاني عشر لمواليه والمسلمين والقائد المؤمّل والمذخور لإقامة دولة الحقّ.

فلابدّ إذن من إقامة الحجّة والدليل على وجوده على المستوى الخاص بمواليه وعلى مستوى المسلمين عامّة بحيث يصبح هناك تواتر في الأخبار على ولادته ورؤيته، ليدحض مزاعم مَن يقول بعدم ولادته و عدم وجوده.

2. حماية الإمام المهدي (علیه السّلام) من السلطة وطغاة العباسيين ومطاردتهم له، كما اتّضح ذلك من الظروف الخاصة والعامة الّتي أحاطت بالإمامين (علیهما السّلام)، مع ما كانت تعرفه السلطة ويعرفه الخليفة من أحقّية الإمام (علیه السّلام) وأنّه من أهل البيت وأنّه مزيل عروش الظالمين، غير أنّ حبّ السلطة والجاه والمصالح والمنافع الّتي تحرّك الخليفة وأعوانه والاُسرة الحاكمة، كانت تمنع من إرجاع الحقّ إلى أهله. ومن هنا كانت السلطة تشعر بهاجس الخوف من ولادة المهدي(علیه السّلام) ، ووجود الشخص الّذي وردت الأخبار حوله عن الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) وشاعت بین المسلمين كافّة بانه(علیه السّلام) هو الّذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً.

فظهوره (علیه السّلام) يعني الحكم على نظامهم بالانقراض المحتمّ، ونضح انحرافاتهم وبُعدهم عن الرسالة الإسلاميّة.

والخليفة والسلطة بطبقاتها، وان لم يتمكّنوا من تحديد تاريخ ميلاد الإمام المهدي (علیه السّلام) لِما اُحيط به من سريّة من قبل الإمام العسكري(علیه السّلام) إلا أنّهم كانوا يعلمون إجمالاً أن زمانه(علیه السّلام) قد أطلّ عليهم وأنّه على وشكّ الولادة لما عرفوا من أنّ الإمام

ص: 40

العسكري (علیه السّلام) يكون الإمام الحادي عشر في سلسلة خلفاء الأمة الإسلاميّة الّتي وعد الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بأنّهم عدد نقباء بني إسرائيل.. فيكون ولده الإمام المهدي (علیه السّلام) هو خاتم هذه السلسلة المباركة من الأئمّة (علیهم السّلام).

وممّا يرشدنا إلى جهل السلطة بوجوده و میلاده(علیه السّلام) وترقّبها لميلاده، هو ما قامت به السلطة من مراقبتها لنساء الإمام العسكري(علیه السّلام) والبحث من تظهر عليها علامات الحمل، مع أنّ الإمام (علیه السّلام) كان مولوداً قبل خمس سنوات، وقد عرضه الإمام العسكري على خواصّه ومواليه.

وإذا كان نشاط الإمامين العسكريين (علیهما السّلام) مقتصراً على حفظ مصالح قواعدهم الشعبية والسياسية من الجهاز الحاكم، فقد كان ذلك مثيراً للسلطة إذ كان لها مواقف مختلفة ضدّ الإمامين (علیهما السّلام)، فكيف بنشاط إمام المنتظر (علیه السّلام) لإقامة الحقّ والعدل، و محو الجور والظلم لتنعم الإنسانية في ظلاله الوارفة بكرامة الإسلام وعدله، ولهذا كانت السلطة تترقّب و تبحث من أجل التعرّف على أخبار المولود الموعود. ومن هنا يتّضح مبلغ حراجة موقف الإمام العسكري(علیه السّلام) ودقّته في مثل تلك الظروف والّتي هي في غاية التعقيد خصوصاً إذا عرفنا أنّ الإمام العسكري كان يعيش في مجتمع، قد سلّطت عليه الأضواء فيه وأنّه تحت إقامة جبريّة و مراقبة دائمة فهو المثال الّذي يقتدى به لتقواه وورعه وعلمه، فضلاً عن القاعدة الواسعة من الأُمّة الإسلاميّة آنذاك والّتي كانت تقول بإمامته و ترجع إليه في حلّ مشاكلها، فضلاً عن أنّ السلطة كانت تلجأ إليه بين الحين والآخر عندما تقع في مأزق أو واقعة يَعيی فيها السلطان و تؤرّقه المشكلة ويُشلّ فيها تفكير فقهاء السلطة ووعّاظها فلاتجد السلطة من بدٍّ في الالتجاء إلى الإمام العسكري للتخلّص من المأزق الّذي وقعت فيه، كما في قصّة الراهب الّذي استسقى للمسلمين ومعه الخليفة وكاد أن يرتدّ أكثر الناس، وكان الإمام في السجن، فأخرجه المعتمد وقال له، أدرك دین جدّك،

ص: 41

فخرج الإمام (علیه السّلام) وكشف حيلة الراهب(1).

كما أنّ الإمام(علیه السّلام) في نظر السلطة كان يمثِّل القطب الأهمّ في الجبهة المعارضة و هو امتداد لخطّ آبائه (علیه السّلام) ، والسلطة على معرفة تامّة بهم وبمواقفهم تجاهها، ولهذا كان تقريبها للإمام (علیه السّلام) في البلاط ودمجه في دائرتها لتحديد أثره ونشاطه.

ولمّا كانت الأُمّة على علم و اطّلاع بالمهمّة والدور الّذي يقوم به الإمام المهدي المنتظر(علیه السّلام) فمن الطبيعي أن تتوجّه الأنظار صوب میلاده ووجوده(علیه السّلام) .

وبغضّ النظر عن كون المنتظرين يؤمنون أو لا يؤمنون بقيادة أهل البيت (علیهم السّلام) فقد كان من تخطيط الإمام العسكري(علیه السّلام) عدم الإعلان عن ولادة ولده، وإن كان معتاداً أن يعلن عن الولادة وتقام الولائم شكراً لله سبحانه على نعمه، إذ كانت الأمور تجري في بیت الإمام (علیه السّلام) بصورة طبيعية، ولم يكن هناك أيّ نشاط يثير الانتباه حتّى أنّ خادم الإمام(علیه السّلام) لم ينتبه إلى شيء(2)، ولم يعرف شيئاً، ولما لم يكن انتباه و شكّ في ولادته (علیه السّلام) فمن الطبيعي أن لا يحصل بحث وسؤال و تتّبع لوجود الإمام(علیه السّلام) أو ولادته.

وكان يساعد الإمام العسكري(علیه السّلام) على إخفاء ولادة الإمام المهدي(علیه السّلام)- ومساعدة کبری - تطبيقه لسياسة الاحتجاب على نفسه، وانقطاعه عن أصحابه ومواليه إلّا بواسطة المراسلات، حيث استطاع(علیه السّلام) بذلك تحقيق نتيجتين أساسيّتين:

1. تعويد قواعده الشعبية على فكرة الاحتجاب والقيادة غير المباشرة.

2. إحاطة تحرّکه بالكتمان والسريّة التامّة، واستقطاب المهام الّتي كانت تحتاج تدخّله و رأيه(علیه السّلام) بشكل منفرد و بعيد عن الانتباه، وتسليط الأضواء بعيدةً عن رقابة الدولة وعيونها لأنّه سوف لا يطّلع على تحرکه بهذا الخصوص إلّا من له صلة بهذا التحرّك.

ص: 42


1- ابن حجر الهيثمي، الصواعق المحرقة، ص 313. 314.
2- کمال الدین، ج 2، ص 434.

كما كان للظروف غير الطبيعية الّتي تمرّ بها الدولة آنذاك دور مساعد في عملية إخفاء الولادة حيث كانت الدولة توجه أنظارها إلى صاحب الزنج الّذي انتفض في جنوب العراق والأهواز في نفس عام میلاد الإمام الحجّة (علیه السّلام) - 255 ه.- والمتتبّع للتاريخ العامّ يعرف ما أوجده صاحب الزنج من فزع و قلق في أذهان الناس عامّة والجهاز الحاكم خاصّة(1).

وحتّى عام 258ه الّذي أوكل فيه المعتمد قتال صاحب الزنج و سواه إلى أخيه أبي أحمد الموفق لم يكن قد ثار حول ولادة الإمام المهدي(علیه السّلام) أيّ إحساس والتفات أو شكّ من قبل المجتمع والدولة نتيجة لتلك الظروف، وقد استطاع الإمام العسكري(علیه السّلام) أن يضمن حماية ولده المهدي (علیه السّلام) من الجهاز الحاكم ومن عيونه، و بذلك قام بالوظيفة الثانية خير قيام.

أما بالنسبة للوظيفة الأُولى للإمام العسكري (علیه السّلام)، وهي إثبات وجود المهديّ (علیه السّلام) للتأريخ والأمة الإسلاميّة عامّة والمواليه خاصّة. وفي مثل تلك الظروف الّتي عاشها الإمام العسكري (علیه السّلام) كان لابدّ أن يختصّ التبليغ بوجوده و رؤيته بالأشخاص الذين يعلم بصلابة إرادتهم وقوّة إيمانهم بقيادة الأئمة(علیه السّلام) - فضلاً عن إطمئنان الإمام (علیه السّلام) إلى صلابتهم وقوّة إرادتهم في الصمود تجاه إغراء واضطهاد السلطة الحاكمة، وكان بهذه الطريقة قد تمكّن من كتمان ولادته (علیه السّلام)وحَجبها عن غير مواليه بل حتى عن جمهور الموالين ممّن لا يحرز فيه الحفاظ على سرّيّة الولادة وكتمانها، عندما يتعرّض إلى الاضطهاد والمطاردة من قبل السلطة.

وكان الإمام العسكري (علیه السّلام) عندما يخبر أو يطلِع أحداً على المولود المبارك يُلزمه بأن يكتم خبره ولا يذكر اسمه(2).

ص: 43


1- یُراجع تاريخ الطبري، ج 7، أحداث عام 255 ه. وما بعدها.
2- الغيبة للشيخ الطوسي، ص 215 وما بعدها.

عرض الإمام العسكري(علیه السّلام) لولده على شيعته

اتّضح من خلال الإجراءات التي اتخذها الإمام العسكري(علیه السّلام) ، أنّ السلطة لم تكن قد التفتت إلى ولادة المهدي (علیه السّلام) أو أحسّت بشيء يدلّ على ذلك، وكانت السلطة تترقّب ولادته و تبحث عنه غير أنّ محاولاتها باءت بالفشل.

وكان الإمام العسكري (علیه السّلام) يكتفي عند عرض ولده على خاصّته بقوله لهم: «هذا إمامكم» يعني أنّه الإمام بعده، ويقتصر في التصريح باسمه على الأقل، كما أنّه (علیه السّلام) لم ينة عن تسميته(1).

فالإمام (علیه السّلام) حيث كان يُريد أن يثبت وجود ولده المهدي (علیه السّلام)، كان يختار من يطمئنّ إليه وخاصّة أولئك الذين يربطون بينه وبين قواعده الشعبية وينقلون المراسلات و التوقيعات منه وإليه، فإنّهم خير مَنْ يستطيع أن يبلّغ خبر الولادة إلى القواعد الشعبية، فإنّ هذه القواعد تعرف سلفاً وثاقة هؤلاء الأشخاص وايمانهم وإخلاصهم واعتماد الإمام (علیه السّلام) عليهم. حيث لا يتيسّر للقواعد الشعبية أن تری الإمام(علیه السّلام) في الحالات الطبيعية، فكيف في تلك الظروف المعقّدة و هي كانت تحصل على ما تحتاجه عن طريق أولئك الذين هم حلقة الوصل بين الإمام (علیه السّلام) وقواعده، فمثلما كان يحصل لهم اليقين بما ينقلونه لهم عن الإمام (علیه السّلام) فكذلك سوف يحصل لهم اليقين والإطمئنان بخبر الولادة ووجود الإمام المهدي(علیه السّلام) من نفس الطريق. كما أنّ ذلك هو طریق کافّة الناس في حصول اليقين والاطمئنان في مثل تلك الأحوال في مجال نقل الحوادث والأخبار.

ونحن الذين نعيش عصر الغيبة الكبرى قد وصلنا من طرق الخاصّة والعامة تواتر خبر ولادته ووجوده، فكيف من عاش في ذلك الزمن الّذي كانت كلّ القرائن تدلّ عليه، وكلّ الأيدي تشير إليه؟! وكان همَّ أبيه و وكلاته و أصحابه، هو التأكيد على

ص: 44


1- الغيبة للشيخ الطوسي، ص 280 - 281.

وجوده و التبليغ عنه إلى كلّ من يصلح أن يتحمل مسؤولية ذلك.

وكان أوسع إعلان قام به الإمام العسكري(علیه السّلام) بين أصحابه عن ولادة ابنه وإمامته من بعده و وجوب طاعته عليهم، قبل وفاة الإمام (علیه السّلام) بأيّام، وقد كان مجلسه غاصّاً بأربعين من أصحابه وخاصّته، منهم: محمّد بن عثمان العمري، ومعاوية بن حکیم، و محمّد بن أيّوب بن نوح وسواهم فعرض عليهم ولده(علیه السّلام) وقال: هذا إمامكم من بعدي و خليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرّقوا من بعدي فتهلكوا في دياركم، ثمّ أضاف . مشيراً إلى غيبته(علیه السّلام) قائلاً: أما إنّكم لا ترونه بعد يومكم هذا(1).

كما أنّ الإمام (علیه السّلام) قد عرض ولده في اليوم الثالث من ولادته وأشار أيضاً إلى غيبته و ظهوره(علیه السّلام) ... فهو القائم الّذي تمدّ إليه الأعناق بالانتظار. فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً، خرج فمها قسطاً وعدلاً.

فهكذا كان الإعلان الرسمي الكبير حول مولده(علیه السّلام) بعد الميلاد وقبل وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام) لكي يكون هو الأساس لإقامة الحجّة تجاه القواعد الشعبية الموالية، كما أنّ الإمام (علیه السّلام) كان يعرضه خلال هذه المدّة على أشخاص يزورونه بمفردهم، منهم: عمرو الأهوازي حيث أراه الإمام ولده المهدي (علیه السّلام) وقال له: هذا صاحبكم(2).

ومن رأى الإمام المهدي (علیه السّلام) رجل من فارس كان قد قصد الإمام العسكري (علیه السّلام) ليتشرّف بخدمته، فأذن له الإمام بذلك فكان مع الخدم يشتري لهم الحوائج من السوق، و بقي على هذه الحال حتّى أصبح خاصّاً وارتفعت الكلفة بينه وبين الإمام (علیه السّلام) .. فكان يدخل الدار دون استئذان إذا لم يكن فيها إلّا الرجال، وبينما هو داخل عليه في يوم من الأيّام إذ سمع حركة في البيت فناداه الإمام(علیه السّلام) : مكانك لا تبرح. قال: فلم أجسر أن أخرج ولا أدخل. فخرجت عليّ جارية معها شيء مغطّى ثمّ أمره

ص: 45


1- کمال الدین، ج 2، ص 435.
2- الشيخ المفيد، الارشاد، ص 330.

الإمام (علیه السّلام) - العسكري - بالدخول فدخل الغرفة، وأمر الجارية أن ترفع الغطاء فكشفت عن غلام أبيض حسن الوجه، قدّره الراوي بسنتين، وقال الإمام (علیه السّلام) : هذا صاحبكم، ثمّ أمر الجارية به فحملته، فلم يره بعد ذلك حتى توفّي الإمام العسكري (علیه السّلام).

فمع كون هذا الرجل ملازماً لدار الإمام (علیه السّلام) وقربه منه، نجد أنّه لم يعلم بولادة الإمام (علیه السّلام) ولم يشعر بأي أمر غير طبيعي في الدار، واكتفى الإمام بعرضه علیه مرّة واحدة كما هو الشأن مع جملة أصحابه وخاصّته. وبالتأمّل في الرواية نجد أنّ المولود المبارك قد عرض على رجال آخرين كانوا في الدار وليس على هذا الرجل فحسب(1).

وممّن عُرِض عليه الإمام المهدي (علیه السّلام) ونظر إليه: هو أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، وهو من خاصّة الإمام (علیه السّلام)، وكان أحمد هذا قد قصد زيارة الإمام العسكري(علیه السّلام) ، يُريد أن يسأله عن الخلف من بعده، ومَن يتولّى الإمامة بعد وفاته ويضطلع بشؤون الأُمّة، فيدخل عليه فيقول له الإمام (علیه السّلام) مبتدءاً : يا أحمد بن إسحاق إنّ الله تبارك و تعالى لم يُخل الأرض منذ خلق آدم(علیه السّلام) ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجّة الله على خلقه به يدفع البلاء عن أهل الأرض و به ينزل الغيث وبه يخرج بركات الأرض. ثمّ يسأل الإمام العسكري(علیه السّلام) عن الإمام بعده فينهض الإمام(علیه السّلام) مسرعاً ويدخل إحدى الغرف، ثمّ يخرج وعلى عاتقه غلام كأنّ وجهه القمر ليلة البدر، من أبناء ثلاث سنين ثمّ يقول: يا أحمد بن إسحاق لولا كرامتك على الله عزّوجلّ و علی حججه ما عرضت عليك ابني هذا، إنّه سميّ رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، و کنیّه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يا أحمد بن إسحاق، مَثَله في هذه الأُمّة مثل الخضر(علیه السّلام) ومَثَله مَثَل ذي القرنين، والله ليغيبنَّ غيبة لا ينجو فيها من الهلكة إلّا من ثبّته الله عزّوجلّ على القول بإمامته و وفّقه الله للدعاء بتعجیل فرجه.

ص: 46


1- كمال الدين، الباب 47، الحديث4.

قال أحمد بن إسحاق: فقلت: يا مولاي فهل من علامة يطمئنّ بها قلبي؛ فنطق الغلام (علیه السّلام) بلسان عربيّ فصيح: أنا بقية الله في أرضه والمنتقم من أعدائه، ولا تطلب أثرا بعد عين يا أحمد بن إسحاق.

قال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسروراً. وعُدت إليه في الغد، فقلت له: ياابن رسول الله، لقد عظم سروري بما مننت عليّ فما السنّة الجارية عن الخضر وذي القرنين؟ قال: طول الغيبة يا أحمد. قلت: يا ابن رسول الله وإنّ غيبته لتطول؟ قال: إي وربي، حتّى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به إلّا من أخذ الله عزّوجلّ عهده بولايتنا وكتب في قلبه الإيمان و ابرّه بروح منه، يا أحمد بن إسحاق هذا أمر من أمر الله و سرّ من سرّ الله، و غيب عن غيب الله فخذ ما آتيتك و اكتمه وكن من الشاکرین معنا، في عليّين.(1).

ص: 47


1- كمال الدين، الباب 38، الحديث 1.

الخلاصة

لا إن الإمام العسكري (علیه السّلام) مع حرصه على السرّية والتكتّم حول ولادة الإمام المهدي (علیه السّلام) ووجوده، نراه يُطلع جماعة من شیعته و مواليه على ولادته ثمّ أنّه يأمر البعض بشراء بعض المواد لتوزيعها بمناسبة الميلاد المبارك ويرسل إلى آخر ذبيحة وهي عقيقة عقّها عن ولده(علیه السّلام) .

إنّ مهمّة الإمام (علیه السّلام) و دوره تتضمّن تعريف القواعد الشعبية وإقامة الدليل والحجّة على ولادته، وحمايته من الطغاة الذين يترّبصون بالإمام (علیه السّلام) الدوائر لأنّهم يعلمون أنه ابن الإمام العسكري (علیه السّلام) وأنّه الّذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً وهو المؤمّل لإقامة حكم الله في الأرض وإشاعة العدل والأمن فيها.

كما أنّ الإمام العسكري (علیه السّلام) كان يربّي قواعده و مواليه على تقبّل الاحتجاب، وقد سلك هذا الطريق بنفسه(علیه السّلام) ، وكانت صلته بقواعده عن طريق وكلاته و الرسائل المتبادلة بينه وبين تلك القواعد عن طريق وكلاته (رض) وبهذا كان قد مهّد لاحتجاب الإمام المهدي (علیه السّلام) وغيبته عن مواليه، وبتخطيطه هذا قد أقام الدليل والحجّة على القواعد الشعبية الشيعية بشكل خاص والأُمّة بشكل عام، وبفضله وصلت إلينا وتواترت أخبار ولادة الإمام وغيبته(علیه السّلام) .

وقد أوضح الإمام العسكري (علیه السّلام) اسمه وكنيته وبعض علامات ظهوره بعد الإشارة إلى غيبته.

ص: 48

الأسئلة

1. لماذا كان يفصح الإمام العسكري (علیه السّلام) عن ولادة الإمام المهدي (علیه السّلام) ووجوده لبعض شیعته و مواليه؟

2. ما هو دور الإمام العسكري(علیه السّلام) تجاه ولادة الإمام المهدي (علیه السّلام) ووجوده؟

3. ما هي طريقة الإمام العسكري (علیه السّلام) في بيان ولادة الإمام (علیه السّلام) لأصحابه؟

4. ما هو تخطيط الإمام العسكري (علیه السّلام) لاُطروحة الغيبة؟ 5. ماذا كانت تعني الهدايا والذبائح الّتي وزّعها الإمام (علیه السّلام) بمناسبة الولادة؟ .

6. ما هي الإجراءات التي قام بها الإمام العسكري (علیه السّلام) للتمويه على السلطة؟

7. ماذا يُستفاد من حوار الإمام المهدي(علیه السّلام) مع أحمد بن إسحاق؟

8. هل ساهم انشغال الدولة في الحروب الداخلية في إنجاح تخطيط الإمام العسكري (علیه السّلام) ؟ وضّح ذلك؟

ص: 49

الدرس 5: (علیه السّلام)عصر الإمام المهدي

اغتيال الإمام الحسن العسكري(علیه السّلام) واضطراب السلطة

لقد استشهد الإمام العسكري سنة 260 هه بعد أن سُقي السمّ من قبل المعتمد العباسي في أوّل ربيع الأوّل من تلك السنة حيث بدأت العلّة وثقل المرض عليه التحق (علیه السّلام) بالرفيق الأعلى في الثامن من الشهر(1).

واضطربت السلطة حينما اعتلّ الإمام (علیه السّلام) وأوعز المعتمد إلى خمسة من ثقاته ورجال دولته منهم (تحریر) بملازمة دار الإمام (علیه السّلام) والتعرّف على خبره وأحواله، وإخباره بكلّ بادرة تحدث، كما أرسل مجموعة من الأطبّاء لتُجري الفحوص و تُشرف عليه صباحاً ومساءاً، وعهد إليهم أن لا يفارقوه، كما أرسل قاضي القضاة و عشرة أشخاص ممّن يثق بهم و أمرهم بملازمة دار الإمام (علیه السّلام)(2) .

وممّا تجدر الإشارة إليه أنه بمجرّد اعتلال الإمام وصل الخبر إلى وزير المعتمد، عبيدالله بن يحيى بن خاقان، فركب مباشرة إلى البلاط لكي يخبر الخليفة بمرض

ص: 50


1- إبن الجوزي، عبدالرحمن بن علي، المنتظم في تأريخ الملوك والاُمم، ج 7، ص 126.
2- الإرشاد، ص 383.

الإمام (علیه السّلام) وبعد إخباره أصدر أمره بإرسال الأطبّاء وغيرهم(1). إنّ إرسال هذا العدد مضافاً إلى خادم بعثه الوزير يشير إلى أنّ السلطة كانت تسعى لمعرفة أمر غير مسألة وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام) ، وهو الوقوف على ولده لأنّها كانت تجهل ولادته و تعرف بأنّ حالة الإمام (علیه السّلام) ستؤدّي به إلى الموت حتماً.

وبالرغم من بقاء هؤلاء في دار الإمام(علیه السّلام) فإن وجودهم لم يمنع الإمام (علیه السّلام) من أداء دوره، حيث كتب مجموعة من الكتب و أرسل بعضها إلى المدينة و اُخرى إلى المدائن و هي تحمل ما يخطّطه إلى مرحلة حرجة بعد وفاته تتعلّق بدور ولده و موقف٫ القواعد الشعبية منه. وقد تمكّن الإمام العسكري(علیه السّلام) من إخفاء ما يتعلّق بولده(علیه السّلام) عن أعين السلطة ولم يحسّوا بشيء، فلم يكن مع الإمام(علیه السّلام) في مرضه سوى زوجته و عقيد الخادم، وقد أدّى صلاة الفجر والتحق بالرفيق الأعلى مودّعاً ولده و موکّلاً أمره للرعاية الإلهية(2).

تجهيز الإمام العسكري(علیه السّلام) وتشييعه

لمّا بلغ أهل سامرّاء نبأ استشهاد الإمام (علیه السّلام) ضجّت البلدة بأهلها فإنّ الجميع كانوا يقرّون بزهده وورعه وعبادته وبشرف نسبه، ولا يختلفون في ذلك على مختلف مستوياتهم الخاصّة والعامّة - فتعطّلت الأسواق واجتمع الناس لتشييع جثمان الإمام (علیه السّلام)، كما بعث الخليفة أخاه أباعیسی بن المتوكّل لأداء الصلاة، ولمّا دنا لأداء الصلاة كشف عن وجه الإمام و عرضه على الحاضرين وقال: هذا الحسن بن علي بن محمّد بن الرضا(علیهم السّلام) ، مات حتف أنفه على فراشه. وهذاالقول ممّا يثير الاستغراب والتساؤل، فليس معهوداً ذلك عند الصلاة على میّت قبله، غير أنّه يكشف عن الرعب

ص: 51


1- الطبرسي، أعلام الوری، ص 360.
2- كمال الدین، ج 2، ص 437.

الّذي كانت تعيشه السلطة وخشيتها من أن يثار سؤال حول سبب موته، وهو لم يتجاوز الثلاثين عاماً وكان بكامل صحّته، ولم يشتکِ مرضاً، ثمّ غطّى وجهه الكريم وصلّى عليه وأمر بحمله(1). وهكذا كان ذهن السلطة مشحوناً بالتوجّس والحذر ممّا یرونه مرتسماً في أذهان الناس بوضوح - وإن لم تصرّح به الأفواه، وهو التهمة الّتي تشير إلى ضلوع الجهاز الحاكم بعملية اغتيال الإمام(علیه السّلام)(2) بدسّ السمّ إليه.

ونرى أن كثرة ما أرسله الخليفة من أطبّاء وخدم وغيرهم إنّما كان من أجل أن يتعرّف على الداخلين إلى بيت الإمام(علیه السّلام) والخارجين منه ومدی تعرّفهم على حالة الإمام (علیه السّلام).

ومع أنّ أباعیسی بن المتوكّل قام بالصلاة على الإمام (علیه السّلام) في خارج بيته فقد صلّی عليه ولده المهدي(علیه السّلام) مع جمع من أصحابه و مواليه بعيداً عن المستوى الرسمي الّذي أعدّته السلطة.

وقبل صلاة الإمام المهدي(علیه السّلام) على أبيه خرج عقيد الخادم و دعا (جعفر بن علي)أخا الإمام العسكري و عمّ الإمام المهدي(علیه السّلام) .

وكان جعفر يرى أنّ الإمام العسكري ليس له خلف ظاهر و وریث واضح، ممّا دفعه ذلك للصلاة و الوقوف أمام الناس بقبول التعزية بأخيه والتهنئة بالإمامة، غير أنّ تخطيطه لم يفلح حيث تصدّى الإمام المهدي(علیه السّلام) له عند دخوله للصلاة على أبيه الإمام العسكري ونحّاه عن جنازة أبيه، وشاهد المجتمعون داخل البيت صبيّاً يخرج وبوجهه سمرة و بشعره قطط وبأسنانه تفليج، يجذب رداء عمّه جعفر ويتقدّم للصلاة على أبيه(علیهما السّلام) .

وبعد أن أدّى الإمام (علیه السّلام) الصلاة أُخرج جثمان الإمام العسكري(علیه السّلام) للجمهور،

ص: 52


1- الإرشاد، ص 320.
2- کمال الدین، ج 2، ص 435 وما بعدها.

و من ثم تمَّ تشییعه وحمله إلى مثواه الأخير، وقد دفن إلى جنب أبيه الهادي(علیهما السّلام) .

كبس دار الإمام العسكري (علیه السّلام)

لم يتيسّر للسلطة العباسيّة بعد البحث والتفضي، أيّ خبر عن وجود الإمام المهدي (علیه السّلام) أو ولادته. وكان أوّل خبر وصلها عن وجوده المبارك هو الّذي وصلها عن طريق جعفر بن علي حين أبلغ المعتمد عن وفد من القميّين كانوا قد جاءوا إلى سامرّاء و أوصلوا أموالهم إلى الإمام (علیه السّلام) وكان جعفر هذا قدرأى الإمام (علیه السّلام) لأوّل مرّة حين دفعه عن الصلاة على جنازة أبيه العسكري(علیه السّلام) ، فلمّا بلغ المعتمد ذلك أرسل جماعة من قوّاده و جنده للبحث في دار الإمام العسكري عن ولده، فالسلطة لم تتحمّل قضيّة المصلح المنتظر فهي قد بثّت عيونها بحثاً عنه وسبق أن أرسلت نساءً للتعرّف على نساء الإمام وأنّ أيّتهن تبدو عليها علامات الحمل، ولكن لم تفلخ في شيء، والآن أصبح من تبحث عنه السلطة حقيقة ماثلة أمام عينيها وهذا عمّه أقرب الناس إليه به، فأصبحت السلطة على يقين بوجوده(علیه السّلام) ، لذا بادرت بإرسال تلك الجماعة للبحث عنه، غير أنّ هذه الجماعة لم يسبق لها التعرّف على شخصيّته المباركة، و ربّما كانت تراه ولا تستطيع التعرّف عليه، وفعلاً تمكّن الإمام (علیه السّلام) أن يخرج من البيت و الجند مشغولون بالبحث عنه دون أن يلاحظوه، وهو يومئذ ابن ست سنوات فلم يره أحد منهم حتّى غاب(1).

ولم يجد هؤلاء في دار الإمام (علیه السّلام) إلّا اُمّ المهدي (علیه السّلام) فقبضوا عليها و أرسلوها إلى السلطان العباسي وبدأت محنة هذه المرأة الصالحة وهي تواجهها بكلّ صبر وصمود وإخلاص وإيمان، وخرجت من محنتها منتصرة قد حفظت سرّ ولدها ولم تُبح به للسلطة، وأبقته محجوباً مصوناً من الأعداء، و موّهت السيّدة الصالحة على السلطة

ص: 53


1- القطب الراوندي، الخرائج والجرائح، ص 164.

بادعائها أنّها حامل، و وقع كلامها في ذهن الحكّام موقعاً محتملاً.

إنّ السلطة كانت تترقّب ولادة المهدي (علیه السّلام) من الإمام العسكري(علیه السّلام) وهاهو قد انتهت حياته، ولم تر له ولداً ولم تسمع بولادته، ولما لم تعثر له على أثر بعد التفتيش قرب في ذهنها أنّ حديث ولادته صحيح، وأنه لابدّ من مراقبة والدته حتّى تلد حملها فهو الإمام الموعود الّذي سيزيل عروش الظالمين، ويملأ الأرض عدلاً.

ومن هنا جعلوا السيدة اُم الإمام المهدي (علیه السّلام) تحت مراقبة نساء الأعلى رجال الدولة - نساء المعتمد والموفق والقاضي ابن أبي الشوارب - وكانوا يتعاهدون أمرها في كلّ وقت وطالت المدّة ولم يحصلوا على شيء. و بقيت تحت المراقبة والإقامة الجبرية حتى واجهت الدولة مشاكل كبری وخاضت حروباً ضد معارضيها الذين أخذوا يهدّدون کیان الدولة فكانت ثورة صاحب الزنج، واقتراب يعقوب بن الليث الصفّار من العاصمة، و غيرها من الاضطرابات الّتي أحاطت بالدولة وقتئذ(1) ومات وزير المعتمد عبيد الله بن يحيى بن خاقان وهو ذو شخصية مرموقة ومؤثِّرة في مجريات الأحداث(2).

ونخلص إلى أنّ أُم الإمام المهدي عاشت في حجز المعتمد مدّة بلغت عامين تقريباً حيث أطلقوا سراحها سنة (262 ه).

ويتّضح أنّ هدف السلطة من حجزها كان التعرّف على وجود الإمام(علیه السّلام) لأنّها كانت تتوقّع أن يتّصل بوالدته - إن كان مولوداً و موجوداً - خلال هذه المدة الّتي تعرّضت فيها إلى الاضطهاد وإلّا فإنّ المدّة الّتي أُحتجزت فيها كانت أكثر من فترة الحمل، ومع هذا فقد باءت جهود السلطة بالفشل الذريع ولم تنل ما كانت تتوقّعه من العثور على الإمام المهدي (علیه السّلام) أو أيّ أثر يدلّ عليه.1

ص: 54


1- أنظر الكامل، ج 6، ص 7 وما بعدها.
2- الكامل، ج 6، ص 15.

الخلاصة

و كانت السلطة تخشى وجود الإمام العسكري (علیه السّلام) و تحرکه ونشاطه، ولما كان تحرّکُه (علیه السّلام) ببالغ الكتمان والسرّية، لم تتمكّن السلطة من الوقوف على نوع تحرّكه مع تنامي الوعي والنشاط في القواعد الشعبية الموالية له فإنّها التجأت إلى دسّ السمّ إلى الإمام (علیه السّلام) واستشهد سنة 260ه، فضلاً عن أنّ السلطة ربّما كان يدور في مخيّلتها أنّ الإمام المهدي (علیه السّلام) لم يولد بعد، فهي بعملها هذا تكون قد حققت غايتها في التخلّص من الإمام العسكري (علیه السّلام) وولده المنتظر لإزالة ملك الطواغيت.

وإنّ حرص الخليفة وحاشيته بتواجدهم في دار الإمام (علیه السّلام) والتعرّف على ما يحدث وسرعة وصول خبر اعتلال الإمام العسكري (علیه السّلام) وإرالأطباء والوجهاء والخدم إلى داره (علیه السّلام) من قِبَل الخليفة وأن الموفّق حينما يكشف عن وجه الإمام العسكري ويقول عنه إنه مات حتف أنفه يوفّر قرينة اُخرى تؤكّد اتّهام السلطة بالقيام بذلك العمل لأجل التخلّص منه.

ثمّ إنّ السلطة بعد وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام) ووشاية جعفر بالوفد القمّي وبأنّه سلَّم الأموال إلى الإمام المهدي، قامت بإرسال جلاوزتها لكبس دار الإمام (علیه السّلام) ، للبحث عن وجود المهدي ممّا أدّى إلى اعتقال أُمّ الإمام المهدي (علیه السّلام) ولم يُفرج عنها إلّا بعد عامين من حجزها بين نساء أعلى رجال الدولة.

ص: 55

الأسئلة

1. متى استشهد الإمام العسكري (علیه السّلام) وكيف تمّ ذلك؟ 2. ماذا يعني سرعة وصول خبر اعتلال ومرض الإمام العسكري

(علیه السّلام) لوزير المعتمد؟

3. لماذا أرسله السلطة الأطباء والوجهاء إلى بيت الإمام العسكري (علیه السّلام)؟

4. هل أن وجود عيون السلطة في دار الإمام (علیه السّلام)

أثناء مرضه منعه من أداء دوره؟ ولماذا؟

5. من الّذي صلّى على الإمام العسكري (علیه السّلام) بعد وفاته؟ .

6. ماذا يُستفاد من كثرة الناس في تشييع الإمام العسكري (علیه السّلام) واضطراب سامرّاء في ذلك اليوم؟

7. كم مدّة حجزت اُم الإمام المهدي (علیه السّلام) وهل استفادت السلطة منها حول ولدها؟

8. أين دفن الإمام العسكري (علیه السّلام)؟

ص: 56

الدرس 6: إمام المهدي (علیه السّلام) يتسلّم زمام الأمر

عمر الإمام المهدي(علیه السّلام) حين تسلّمه مهامّ الإمامة

كانت ولادة الإمام المهدي (علیه السّلام) سنة 255 ه. أو 256ه(1)، وعاش في ظلّ أبيه الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) خمس سنوات، حيث استشهد أبوه عام 260 ه. (2) فيكون عمره الشريف حين تسلّمه مهامّ الإمامة خمس سنوات.

بدء الغيبة الصغرى

يؤرّخ لبدء الغيبة الصغرى بوفاة الإمام العسكري(علیه السّلام) فهي مقترنة بتولّي الإمام المهدي(علیه السّلام) مهامّ الإمامة، وقد بدأها الإمام (علیه السّلام) بتنصيب وكيله الأوّل عثمان بن سعيد العمري عندما قابله وفد القميّين، وسمّيت هذه الفترة بالغيبة الصغرى لعدم احتجاب الإمام كليّاً، حيث كان يتّصل بقواعده عن طريق وكلائه ونوّابه.

ويمكن أن نُجمل عن ممّيزات هذه الفترة - الغيبة الغری - بالنقاط التالية:

ص: 57


1- إعلام الوری، ج 2، ص 214
2- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج 7، ص 126.

1. بدأت بتولي الإمام المهدي(علیه السّلام) ، للمنصب الإلهي الكبير في إمامة المسلمين بعد ارتحال أبيه(علیه السّلام) ، و مسؤوليّته الكبرى في قيادة قواعده الشعبية خاصّة والبشرية كلها عامّة إلى شاطئ الأمن والعدل.

2.كان الإمام (علیه السّلام) يتصل في هذه الفترة بعدد من ثقاته وخاصته ولم يكن احتجابه مطلقاً، بل يبدأ استتاره بعد نهاية هذه الفترة في سنة 329. بعد وفاة النائب الرابع علي بن محمّد السمّري.

3. وجود السفراء الأربعة الموكَّلين بتبليغ تعاليم الإمام المهدي (علیه السّلام) إلى الناس من قواعده الشعبية، بحسب الوكالة الخاصّة المنصوص عليها من قبل المهدي(علیه السّلام) نفسه أو من قبل آبائه (علیهم السّلام) .

فكان كلّ ما يصدر عن الإمام (علیه السّلام) ويرد عليه من قواعده يتمّ بواسطة هؤلاء السفراء.

ولابدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الفترة قد اشتملت على مصاعب جمّة و مشاكل کبری قد واجهها الكيان الشيعي وذلك بادّعاء من قِبَل الوكالة الخاصّة زوراً وبهتاناً أفراد متعددين، ومعارضتهم

للسفراء الحقيقيين، وإغرائهم للناس بالجهل والغواية، غير أنه لم يكتب لتلك المزاعم إلا الفشل والخيبة، نتيجة لجهود واسعة بذلها السفراء في تكذيبهم وعزل الناس عنهم بإيصال ما كان يرد عن الإمام (علیه السّلام) من توقيعات وبيانات بصدد هؤلاء المنتحلين للوكالة.

كما اُضيفت إلى مسألة ادّعاء الوكالة صعوبات اُخرى كان يواجهها الإمام المهدي (علیه السّلام)وقواعده الشعبية و مواليه، حيث كانت المطاردة و البحث من قبل السلطة عن الإمام (علیه السّلام) بالخصوص و تجاه قواعده الشعبية على وجه العموم.

كما أنّ الدولة كانت توجّه فقهاءها للتصدّي إلى مسألة الإمامة محاولة منها في تشويه هذا المبدأ بنفي حقيقة وجود الإمام المهدي(علیه السّلام) علماً بأنّ القواعد الشعبية الموالية كانت في هذه الفترة فاقدة للاتّصال المباشر بشخصيّة الإمام(علیه السّلام) والتعرّف

ص: 58

عليها تلك الشخصية الفذّة النيّرة الّتي تعطي من توجيهها و تدبيرها في نقض الشبهات وحلّ المشكلات الشيء الكثير، ممّا يصعب على الوكلاء والسفراءالقيام به إلّا بشكل يكون أضيق دائرة وأقل درجة. على أنّ الإمام المهدي (علیه السّلام) في بياناته ومقابلاته للآخرين لم يكن يألُ جهداً في التوجيه والتدبير و حل تلك الإشكالات و ما يثار من المسائل الكلامية وسواها، مضافاً إلى أن فكرة الإمام غيبة المهدي(علیه السّلام) و طول عمره وما يترتّب على ذلك من فائدة ونحوها من الأسئلة الّتي أصبحت تثار من قبل فقهاء السلطة لم يكن لها أي موضوع أو مجال في زمان وجود الأئمّة(علیهم السّلام) ، وهذا الظرف كان يكلّف السفراء، و من ثمّ الإمام المهدي(علیه السّلام) نفسه مناقشة مثل هذه الشبهات وتذليلها بنحو منطقي مقنع من أجل إفهام المؤمنین و رفع مستوى وعي القواعد الشعبية الموالية.

الملامح العامة لعصر الغيبة الصغرى

ويُقصد بالملامح العامة أبرز الحوادث والظواهر الّتي تميّز بها هذا العصر علی المستوى الخاص (أي الكيان الشيعي) بقيادة الإمام المهدي (علیه السّلام) وسفرائه وعلى المستوى العام الّذي يشمل حالة الدولة بطبقاتها المختلفة وأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية، واستتباب الأمن أو الاضطرابات والانتفاضات، ويشمل الأُمّة أيضاً ووضعها و موقفها من الدولة والأحداث التي مرّت بها خلال هذه الفترة الّتي امتدّت سبعين عاماً تقريباً أي من وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام) سنة 260ه وحتى وفاة السفير

الرابع علي بن محمّد السمري عام 329 ه.(1).

و أهم هذه الملامح هي:

1. انتقال الوكالة الخاصّة أي السفارة عن الإمام المهدي (علیه السّلام) بين أربعة من خيار

ص: 59


1- تاريخ الطبري، احداث السنوات (260 ه. 329 ه).

خلق الله وخاصّته و هم:

أ. عثمان بن سعيد العمري (الم تعرف سنة وفاته(رضی الله عنه ) ببغداد.

ب - محمّد بن عثمان العمري، المتوفى سنة (304 ه أو 305) ببغداد.

ج - الحسين بن روح النوبختي، المتوفى سنة (320ه) ببغداد.

د. علي بن محمّد السمري، المتوفي سنة (328ه أو 329ه) ببغداد.

2. تولّي الخلافة ستّة من بني العبّاس للخلافة في هذه الفترة أوّلهم المعتمد الّذي عاصر وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام) في بداية الغيبة الصغرى حتّى عام 279 ه حيث آلت الخلافة إلى المعتضد حتّى سنة 289ه واستخلف المكتفي إلى سنة 295 ه ، و بعده المقتدر إلى سنة 320ه ثمّ القاهر بالله حتّى سنة 322ه.(1).

ثم الراضي حتّى عام 329ه وهو عام وفاة النائب الرابع علي بن محمّد السمري(رضی الله عنه) ونهاية العهد الّذي نؤرّخ له.

3. ضعف الخلافة العباسية، وسيطر الموالي والأتراك على دفّة الحكم ومقاليد الأُمور، و تأثيرهم في نصب الخليفة وعزله، فکما کانوا الساعد الأيمن للدولة كانوا عاملاً مهمّاً في ضعفها وانحلالها.

4. قتل الخلفاء، إذ قلّما كان يموت خليفة حتف أنفه، فالمعتمد كان يكثر من الأكل فمات مبطوناً(2) . والمعتضد مات مسموماً من قِبَل إحدى جواريه(3) والمقتدر قتل شرّ قتلة من قِبَل المغاربة والبربر، وقال لهم: ويحكم أنا الخليفةفقالوا: قد عرفناك يا سفلة. أنت خليفة إبليس، وقتلوه وأخذوا جميع ما عليه حتّى سراويله، وتركوه مکشوف العورة إلى أن مرَّ به رجل فستره بحشيش ثمّ حفر له موضعاً ودفن وعفي

ص: 60


1- تاريخ الطبري، احداث السنوات (260ه - 329ه).
2- الكامل في التاريخ، ج 6، ص 73.
3- المسعودي، مروج الذهب، ج 4، ص 184.

قبره(1). والقاهر العباسي تولّى الحكم يومين وعاد أخوه المقتدر للحكم وقال له: لو لقّبوك بالمقهور لكان أولى من القاهر، و بكى القاهر، وقال: يا أمير المؤمنين نفسي نفسي اذكر الرحم الّذي بيني و بينك(2).

5. كثرة الحروب والاضطرابات الداخلية الّتي كان يقوم بها المعارضون للدولة من الأكراد، والخوارج والأعراب و غيرهم، وكذا من الخارجين عليها الطامعين في الملك و السيطرة، حتّى أنّ بعض الأقاليم استقلّت عن السلطة المركزية للدولة، فهذا مرداویج يخرج في فارس ويملك طول البلاد و عرضها.

6. انتقال الخلافة من سامرّاء إلى بغداد حيث بويع المعتضد أبي العبّاس بن الموفّق في بغداد سنة 279 ه، و فقدت سامرّاء مركزها التأريخي الّذي بدأ في خلافة المعتصم.

7. نهاية ثورة الزنج وقتل صاحبها علي بن محمّد بعد أن عاث في البلاد فساداً وقتلاً و استعبد الناس حيث كان بدء خروجه سنة 255ه و قتل سنة 270 ه.(3).

8.شهد هذا العصر أيضاً نهاية الدولة الطولونية في مصر، والتي بدأت سنة 254ه في عهد المعتزّ وكان مؤسّسها أحمد بن طولون التركي حيث كان والياً عليها، مستقلّاً عن عاصمة الخلافة بغداد و استمر في الحكم حتّى مات مبطوناً سنة 270 ه(4).

و بقيت الدولة الطولونية حتّى سنة 292ه حيث استولى الخليفة المكتفي على دولتهم وأموالهم وولّی مصر يحيى النوشري وبذلك انقرضت هذه الدولة.

9. ظهور شخص في شمال إفريقيا يدّعي أنّه هو المهدي وأنّه من ذرية إسماعيل بن جعفر بن محمّد الصادق (علیه السّلام) وهو جدّ الفاطميين في مصر وقد استولى على أراضٍ واسعة الأرجاء سنة 296ه بعد أن مهّد له أبوعبدالله الحسين بن أحمد بن محمّد بن

ص: 61


1- الكامل في التاریخ، ج 6، ص 221.
2- الكامل في التاریخ، ج 6، ص 202.
3- الكامل في التاریخ، ج 6، ص 51 - 53.
4- الكامل في التأريخ، ج 6، ص 55.

زکریا الشيعي من أهل صنعاء وقضى على دولة آل الأغلب في تلك المنطقة و طرد آخر أمرائها زيادة الله بن محمّد(1). وملك قسماً كبيراً من الشمال الإفريقي بما يقابل ليبيا وتونس والجزائر من الدول المعاصرة وبعد أن استتبت له الاُمور رفع يد أبي عبدالله الشيعي و يد أخيه أبي العباس، فسعى الأخير إلى التشكيك في مهدويّته قائلاً: إنّ هذا ليس الّذي كنّا نعتقد طاعته و ندعو إليه، لأنّ المهديّ يختم بالحجّة ويأتي بالآيات الباهرات، فوقع قوله هذا في قلوب الناس و تأثّروا به حتّى أنّ شيخ المشايخ من كتامة قال لمدّعي المهدوية، إن کنت المهدي فأظهر لنا آية فقد شككنا فيك فلم يمكن منه إلّا أن قتل شیخ المشایخ هذا(2).

وكان للمهدي هذا جولات مع الدولة لاحتلال مصر في سنة 301 - 307ه واحتلّ قسماً من المغرب سنة 315، وتوفّي سنة 333ه بعد أن قاتل أبایزید الخارجي(3).

ومن الطريف أن تقع دولة هذا المهديّ وادّعاءه للمهدويةً في خلال عصر الغيبة الصغرى للإمام المهدي(علیه السّلام) .

10. ظهور القرامطة، وهم فرقة من الإسماعيلية تزعم أنّ محمّد بن إسماعيل هو خاتم النبيين، وهم من الباطنية، استحلّوا أعراض الناس بالسيف والقتل وسلب أموالهم، خلال هجومهم على قوافل الحجّاج و قلعوا الحجر الأسود، ويذكر ابن الأثير أنّ صلاتهم كانت تختلف عن صلاة المسلمين وأنّ قبلتهم كانت بیت المقدس و عطلتهم كانت يوم الاثنين (4).

وربّما يستفاد من رسالة المهدي محمد بن عبدالله العلوي إليهم وجود صلة و علاقة

ص: 62


1- الكامل في التاریخ، ج 6، ص 111.
2- الكامل في التأريخ، ج 6، ص 134، 333 و 338.
3- المصدر السابق.
4- الكامل في التاریخ، ج 6، ص 70.

بينه و بينهم، حيث أعادوا الحجر الأسود إلى مكانه بعد ورود رسالته إليهم.

11. قيام الدولة البويهية سنة 321ه وقد اتّسعت قيادة عمادالدولة علي بن بویه وسيطرته في فارس و توسّع ملك الدولة البويهية نتيجة لذلك(1).

الثورات العلويّة

كان لوجود الأئمّة (علیهم السّلام) وحضورهم وتوجيههم المباشر وغير المباشر أثراً واضحاً لانفجار الثورات الداعية إلى الرضا من آل محمّد(صلّی الله علیه وآله وسلّم) بنحو استطاع الأئمّة (علیهم السّلام) أن يخفوه عن السلطات الجائرة في الفترة السابقة لعصر الغيبة، ففي خلال أقلّ من نصف قرن قد ثار عشرون شخصاً، بينما نرى أنّ السبعين سنة التالية لحضورهم تكاد تكون خالية من هذه الثورات.

وإن ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني عن قتلى الطالبيين في هذه الفترة لا يعني كثرة الخارجين على الدولة، بل إنّ من باشر الحرب منهم لا يزيد عن اثنين أو ثلاثة(2). ويعود السبب في ذلك إلى أمرين:

الأوّل: كثرة الحركات المضادّة للدولة و الّتي كانت تختلف في عقيدتها وأهدافها مع ثورات الرضا من آل محمّد (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ومع اعتزال العلويين الخروج ضدّ الدولة، كانت الدولة ترمي من تجد في وجوده خطراً عليها بأنه من القرامطة، و هو عنهم بعيد.

والأمر الثاني: وهو أهم من الأوّل، والّذي يرجع إلى انتهاء زمن حضور الأئمّة (علیه السّلام) وانقطاع اتّصالهم بالاُمّة بعد وفاة الإمام العسكري(علیه السّلام) وابتداء الغيبة الصغرى. ففي هذه الفترة يلحظ تضاؤل الدافع الثوري والتوجيه القوي إلى التمرّد والقيام بالسيف.

ص: 63


1- الكامل في التأريخ، ج 6، ص 230.
2- الغيبة الصغری، ص 362.

وقد يوجّه ذلك بأن هدف الثورات العلوية غالباً لم يكن إسقاط النظام القائم بل كانت تلك الثورات لإشغال السلطة وإبعادها عن الضغط على إمام العصر، ليتمكّن من أداء رسالته بإعداد قواعده والحفاظ على الشريعة. أمّا الوكلاء الأربعة فكانوا حلقة الوصل بين الإمام المهدي(علیه السّلام) وقواعده وكانوا يهيّتون الأمّة إلى مرحلة تطول ولا يعلم نهايتها إلّا الله سبحانه، فلابدّ من إعدادهم وتنميتهم الفكرية والروحية والبلوغ بهم مرحلة الاستقلال الفكري في مرحلة الوكالة العامة وهي مرحلة الغيبة الكبرى، حيث لا اتصال للأمة بالإمام(علیه السّلام) .

ص: 64

الخلاصة

تسلّم الإمام المهدي(علیه السّلام) مهامّ الإمامة بعد استشهاد أبيه الإمام العسكري (علیه السّلام) سنة 260ه وكان عمره الشريف خمس سنوات. وفي هذا العام ابتدأت الغيبة الصغرى وكان نائب الإمام (علیه السّلام) الإوّل و وكيله عثمان بن سعيد العمري هو الواسطة فيما بينه وبين قواعده، وسمّيت الفترة الممتدة بين 260ه و 329ه حيث وفاة آخر وكلائه بالغيبة الصغرى لعدم احتجاب الإمام (علیه السّلام) كلياً عن قواعده حيث كان الاتّصال يتمّ عن طريق الوكلاء، وقد ادعى بعض الأشخاص الوكالة الخاصة والنيابة عن الإمام المنتظر (علیه السّلام) ولكن تصدّي السفراء إلى محاولات هؤلاء أدّى إلى إحباط محاولاتهم وإفشالها، فلم يفلحوا بانتحالهم النيابة وقد قاطعتهم القواعد الشعبية الموالية للإمام.

وقد كان لتوجيهات الإمام وبياناته الدور الأكبر في إفشال مخططات الدولة الّتي وجهت فقهائها في محاولة يائسة لتشويه حقيقة إمامة المهدي (علیه السّلام) ووجوده وما يتعلّق بذلك من طول عمره و صغر سنّه عند تولّيه منصب الإمامة.

ولهذه المرحلة - فترة الغيبة الصغرى - ملامح امتازت بها منها: وجود الوكلاء أولاً ومن ثمّ ملامح تخص العصر ومايتعلّق بضعف الخلافة والصراع على السلطة والخروج عليها من قبل المعارضين، كحركة صاحب الزنج والقرامطة وغيرها من الحركات، بيد أنّ الحركات الداعية إلى الرضا من آل محمّد تكاد تنعدم في هذه الفترة، وإن لم تخلُ من تعقّب السلطة للعلويين والشيعة والقتل والتشريد فيهم.

ص: 65

الأسئلة

1. متى تسلّم الإمام المهدي (علیه السّلام) مهام الإمامة؟

2. كيف كان يتصل الإمام (علیه السّلام) بقواعده الشعبية؟

3. لماذا لم تنجح الدولة في توظيف نقائها لأجل تشويه حقيقة وجود الإمام (علیه السّلام) ؟

4. عدّد ملامح عصر الغيبة الصغرى؟

5. من هم وكلاء الإمام المهدي (علیه السّلام) في فترة الغيبة الصغرى؟

6. ماذا يستفاد من تولّي ستّة خلفاء للدولة العباسية خلال هذه الفترة 260-279ه؟

7. ماذا يعني إدعاء البعض المهدوية وقيام دولة تحت هذا الاسم؟ 8. بماذا تُعلّل قلّة الثورات العلوية الداعية للرضا من آل محمّد (صلّی الله علیه وآله وسلّم) في هذه الفترة؟

9. إلى أي شيء كانت تهدف الثورات العلوية؟

ص: 66

الدرس 7: الإمام المهدي (علیه السّلام) و التصدّي لمهامّ الإمامة

وفد القمّيين

وفدت جمهرة من القميين والإيرانيين، و معهم الأموال من الشيعة إلى الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) ، فلما انتهوا إلى (سامرّاء) أخبروا بوفاته، فسألوا عن القائم مقامه فأخبرهم بعض عملاء جعفر أنه هو الإمام، و انّه قد خرج متنزّهاً في دجلة، ومعه فريق من المغنّين فهالهم ذلك، لأنّ الإمام لا يقترف أي ذنب أو معصية وصمّم الوفد القمّي على الالتقاء به، والتعرف على خبره، فلما قفلجعفر راجعاً إلى منزله خفّوا إليه، فسلّموا عليه، وقالوا له:

«نحن من (قم) و معنا جماعة من الشيعة، وكنّا نحمل إلى سيّدنا أبي محمّد الحسن ابن علي الأموال ..».

وسارع جعفر قائلاً: «أين هي؟».

فقالوا: «معنا».

وبادر جعفر قائلاً: «احملوها إليّ »

فطلبوا منه أن يخبرهم عن كمّية الأموال، و من الّذي أرسلها إلى الإمام کما کان يخبرهم بذلك الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) فزجرهم جعفر وصاح بهم: «كذبتم تقولون

ص: 67

على أخي ما لا يفعله، هذا علم الغيب، ولا يعلمه إلّا الله ...».

و عجب القوم، و راح بعضهم ينظر إلى بعض، و تمیّز جعفر غیظاً و غضباً وقال لهم: «احملوا إلى هذا المال ...».

فردّوا عليه: «إنّا قوم مستأجرون، ووكلاء، وإنّا لا نسلّم المال إلّا بالعلامة الّتي كنّا نعرفها من سيّدنا الحسن بن علي العسكري(علیه السّلام) ، فإن کنت الإمام قبرهن لنا، وإلّا رددنا الأموال إلى أصحابها يرون فيها رأيهم ...».

ونهض جعفر إلى الخليفة فأخبره بالأمر مستعيناً به على أخذ الأموال منهم، فبعث إليهم، فلمّا مثلوا أمامه قال لهم:

«احملوا هذا المال إلى جعفر ...».

فقالوا له برجاء:

«أصلح الله أمیرالمؤمنین نحن قوم مستأجرون، ووكلاء لأرباب هذه الأموال، وأمرونا أن لا نسلّمها إلّا بعلامة ودلالة، وقد جرت بهذه العادة مع أبي محمّد الحسن بن علي ...».

وسارع الخليفة قائلاً: «فما كانت العلامة مع أبي محمّد؟ ».

وراحوا يخبرونه عنها قائلين:

«إنّه كان يصف لنا الدنانير وأصحابها والأموال وكم هي؟ فإذا فعل ذلك سلّمناها إليه، وقد وفدنا إليه مراراً فكانت هذه علامتنا معه، وقد مات، فإن يكن هذا الرجل صاحب هذا الأمر فليقم لنا بما كان يقيمه لنا أخوه، وإلّا رددناها على أصحابها ...».

وتميّز جعفر غضباً فقال للخليفة:

«یا أمیرالمؤمنين إنّ هؤلاء قوم كذّابون على أخي، وهذا علم الغيب.». فلم يعتن الخليفة به، واستجاب للوفد وقال لجعفر: «القوم رسل وما على الرسول إلّا البلاغ المبين».

وأُسقط ما في يد جعفر، والتفت الوفد إلى الخليفة طالبين منه الحماية حتّى

ص: 68

يخرجوا من سامرّاء فبعث معهم نقيباً من الشرطة لحراستهم، فلما خرجوا من المدينة، طلع عليهم شاب، حسن الوجه، فصاح

بأسمائهم واحداً بعد واحد وقال لهم:

«أجيبوا مولاكم».

فقالوا: «أنت مولانا؟».

فقال: «معاذ الله أنا عبد مولاكم،فسيروا إليه».

وساروا معه، وقد ملئت نفوسهم سرورة، فأتوا إلى دار الإمام (علیه السّلام)وكان جالساً على سریر، كأنّ وجهه الشریف فلقة قمر و عليه ثياب خضر فسلّموا عليه، ولما استقرّ بهم المجلس بادر الإمام فأخبرهم بكمّية المال وبأسماء المرسلين له، و عرّفهم برجالهم، وما كان معهم من الدوابّ، ولم تبق بادرة إلّا أخبرهم بها، فخرّوا لله ساجدين، لما هداهم إلى معرفة الإمام(علیه السّلام) ، ثمّ سألوه عن بعض الأحكام الشرعيّة فأجابهم عنها، فسلّموه الأموال، و أمرهم أن لا يحملوا شيئاً من الأموال إلى سامرّاء وأنّه ينصب لهم وكيلاً ببغداد يحملون الأموال إليه، و تخرج بواسطته التوقيعات، كما دفع الإمام (علیه السّلام) إلى أبي العبّاس محمّد بن جعفر القمّي الحميري شيئاً من الحنوط والكفن و قال له: عظّم الله أجرك في نفسك ولمّا بلغوا عقبة همدان توفّي أبوالعبّاس(1).

جعفر بن الإمام علي الهادي (علیه السّلام)

برزت شخصية جعفر بن علي الهادي (علیه السّلام) عقيب وفاة أخيه الإمام العسكري (علیه السّلام) إذ كان يرى نفسه الوريث الشرعي لأخيه، كما كان يرى أن أخاه لم يكن له خلف يرثه، ويتولّى شؤون الإمامة من بعده، لذا نجده تارة يسعى إلى السلطة لتجعله إماماً في محل أخيه العسكري، واُخرى يطلب من الوفد القمي أن يسلّمه الأموال وغيرها لأنّه أخو الإمام العسكري(علیه السّلام) وهكذا فقد كان لجعفر دورٌ في جملة من الاُمور والقضايا بعد

ص: 69


1- کمال الدین، ج 2، ص 156.

وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام) وبدء الغيبة الصغرى ستتّضح لنا من تضاعيف البحث. أمّا بالنسبة لموقف الإمام الهادي(علیه السّلام) من ولده جعفر فنجده (علیه السّلام) يأمر أصحابه بالابتعاد عنه وعدم مخالطته موضّحاً لهم أنّه خارج عن تعاليمه عاصٍ لأمره ونهيه، وكان يقول لهم تجنّبوا ابني جعفراً(1).

ويروى عن أحمد بن عبيدالله بن خاقان أنّه كان إذا سُئل عن جعفر قال: ومن جعفر حتى يُسأل عنه أو يقرن بالحسن (علیه السّلام)؟ (2)

وذات مرّة دخل الإمام الحسن العسكري(علیه السّلام) على أصحابه في السجن لأجل أن يبشّرهم بخروجهم من السجن، ويعرّفهم على رجل كان عيناً للسلطان يعمل ضدّهم، وكان معه أخوه جعفر (3).

وقد كانا معاً مسجونين في عهد المعتمد، فأرسل المعتمد رسولاً إلى السجن لإبلاغ الإمام العسكري (علیه السّلام) سلامه وإطلاق سراحه.. وحين وصل الرسول وجد على الباب حماراً ملجماً والإمام قد لبس خفّه و طیلسانه فأدى له الرسالة، وهنا أرجع الإمام (علیه السّلام) رسول المعتمد إليه من أجل أن يخبره بأن الإمام (علیه السّلام) يقول إنه و جعفر، قد خرجا من الدار جميعاً، فإذا رجع وحده و ليس معه جعفر كان في ذلك ما لا خفاء به على الخليفة فمضى الرسول وعاد بأمر اطلاق سراح جعفر مع الإمام(علیه السّلام) فصار معه إلى داره(4).

ولم يؤثر ذلك السلوك من قبل الإمام (علیه السّلام) في جعفر فنجده عندما التحق الإمام العسكري(علیه السّلام) بالرفيق الأعلى يستغل الموقف بالشكل الّذي يتمکّن به من الادعاء بأنّه وريث الإمامة ليحرز منصب الإمام (علیه السّلام) وجباية الأموال ولم ينجح في ذلك.

موقف جعفر من الإمام المهدي(علیه السّلام) وإمامته

ويتلّخص موقف جعفر في جملة من الاُمور هي:

ص: 70


1- ذبيح الله محلاتي، تأریخ سامرّاء، طبع النجف، ج 2، ص 251.
2- الشيخ المفيد، الارشاد، ص 319.
3- أعلام الوری، ص 354.
4- تأریخ سامرّاء، ج 2، ص 256.

1. ادعاؤه الإمامة بعد أخيه الحسن العسكري (علیه السّلام) فقد استخدم عدّة وسائل في سبيل ذلك منها محاولته الصلاة على أخيه و توسّطه عند الخليفة ليجعله في مرتبة أخيه في الزعامة غير أنّ المعتمد نهره وقال له: تلك منزلة خاصّة ليس لي فيها يد.

وقال له المعتمد: «اعلم أنّ منزلة أخيك لم تكن منّا وإنّما كانت من الله عزّوجلّ، و نحن قد جهدنا في حطّ منزلته و الوضع منها، ولكنّ الله عزوجلّ يأبى إلّا أن يزيده يوم رفعة. فإن كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة لك إلينا، وإن لم تكن بمنزلته، ولم يكن فيك ما كان في أخيك لم نغنِ عنك شيئاً»(1).

2. ادّعاؤه عدم وجود وريث شرعي للإمام العسكري (علیه السّلام) وأنّه يستحق التركة، و من ثمّ استيلاؤه عليها بإذن من السلطات الحاكمة.

3. و شایته بالإمام المهدي (علیه السّلام) لدى السلطات، وتبدأ السلطة سلسلة من المطاردات والاعتقالات ولم تعثر إلا على أُم الإمام المهدي(علیه السّلام) وتحتجزها عامين.

لماذا ادّعي جعفر الإمامة؟

و من خلال تتبّع الأحداث بعد استشهاد الإمام العسكري (علیه السّلام) نجد أن جملة من العوامل دفعت جعفرة لادعاء الإمامة:

1. عدم وجود وریث ظاهر يطالب بحقّه بين الناس.

2. ما اُحيط به میلاد الإمام المهدي (علیه السّلام) من كتمان وسرّية وعدم الإعلان عنه سوى في نطاق ضيّق وبين بعض خواصّ الإمام (علیه السّلام) وثقاته.

3. استقبال جعفر للمعزّين بوفاة الإمام العسكري (علیه السّلام)

وتصوّر المعزّين بأنّه وريث الإمام العسكري(علیه السّلام) .

ص: 71


1- منتخب الأثر، ص 370.

3.دعم السلطة لجعفر و مخالفتها للإمام العسکری(علیه السّلام)(1).

لماذا فشل جعفر؟

إنّ العوامل السابقة الّتي دفعت للتصدّي للإمامة لم تساهم في نجاحه لأسباب هي:

1. ما اشتهر به من سلوك غير مرضي و تحذير الإمام الهادي(علیه السّلام) شيعته منه و عدم مخالطته، لذا لم تجد دعواه صدى لدى شيعة الإمام (علیه السّلام) وقواعده الشعبية الموالية.

2. وإن كانت فكرة الإمام المهدي (علیه السّلام) مجملة في الأذهان، نجد أنّ ما قام به الإمام العسكري - من تخطيط تجاه إمامة المهدي (علیه السّلام) وولادته ووجوده و من الإعلان الخاص عن ولادته و عرضه على جماعته وخواصه، فضلاً عن تواتر الروايات عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم)والأئمّة في صفاته ونسبه . كانت نتائجه إبعاد شبهة الإمامة عن جعفر.

موقف الإمام المهدي(علیه السّلام) من جعفر

من خلال تتبّع الأحداث بعد استشهاد الإمام العسكري ((علیه السّلام) نجد أنّ الإمام المهدي(علیه السّلام) قد تصدى لفضح مخطط جعفر وادعائه الإمامة، ويتلخص موقف الإمام المهدي(علیه السّلام) في عدّة نقاط أهمّها:-

1. مبادرة الإمام (علیه السّلام) لمنعه من الصلاة وإبعاده عن جثمان أبيه أمام جماعة كثيرة منهم السفير الأوّل له والخادم عقید، و من ثمّ صلّی الإمام المهدي(علیه السّلام) داخل البيت على جثمان والد(علیه السّلام) ، مع ملاحظة أنّ جعفر تأخّر عن الصلاة ولم يُظهر أيّ ممانعة في ترك الصلاة على جثمان أخيه.

2. البيان الّذي أصدره الإمام المهدي (علیه السّلام) حول نفي إمامة عمّه، وتأكيده على بطلانها، حيث إنّ جعفر قد كتب إلى بعض موالي الإمام (علیه السّلام) يدعوهم إلى نفسه، وأنّه

ص: 72


1- الإرشاد، ص 320، إضافة إلى مصادر ذكرت سابقاً.

يقوم مقام أخيه، وحين وصل الكتاب حصلَ استبعاد حيث دعاه إلى أن يسأل أحمد بن إسحاق الأشعري عن حقيقة هذه الرسالة، الّذي هو من أخصّ أصحاب الإمام العسكري(علیه السّلام) ، و هو معروف لدى مواليه فبادر أحمد بن إسحاق بالكتابة إلى الإمام الحجّة(علیه السّلام) عن طريق النائب الخاص عثمان بن سعيد، إذ جعل کتاب جعفر في ضمن كتابه ليطلع عليه الإمام المهدي(علیه السّلام) ، فجاء جواب الإمام (علیه السّلام) إلى أحمد بن إسحاق ذا لهجة شديدة، مستنكراً أشد الاستنكار، ومتحدّياً لجعفر في إثبات الإمامة أقوى التحدّي. تضمن كتاب الإمام المهدي (علیه السّلام) النقاط التالية(1):

1. أشار إلى وجود أخطاء إملائية في كتاب جعفر.

2. أكّد الإمام (علیه السّلام) على اصطفاء الله سبحانه للأئمّة من آل البيت دون سواهم من إخوتهم أو بني عمومتهم و میّز هم بالعصمة والصفات الّتي لا تتوفّر في غيرهم.

3. نفي الإمام (علیه السّلام) أن يكون جعفر هذا عالماً بالحلال والحرام وإنّما يزعم ذلك طلباً لمصلحته و منفعته.

4. ذكّر الإمام المهدي (علیه السّلام) بحالة جعفر و سوابقه و آثار عصیانه مشهورة معلومة لدى الخاصّة والعامة.

5. طلب الإمام المهدي(علیه السّلام) من أحمد بن إسحاق أن يمتحنه ويسأله عن آية من كتاب الله يفسّرها أو صلاة يبيّن حدودها وما يجب فيها، ليتّضح بطلان ادّعائه و عدم أعلمیّته.

6. أكّد على عدم اجتماع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين (علیهما السّلام) وختم الإمام (علیه السّلام) كتابه بالدعاء لله سبحانه بحفظ الحقّ على أهله: ويقول إذا أذن الله لنا في القول ظهر الحقّ واضمحلّ الباطل وانحسر عنكم.

وممّا زاد في خيبة جعفر في دعواه، أنّ السلطة بما تملك من سلطان وقوّة عجزت

ص: 73


1- الطبرسي، الاحتجاج، ج 2، ص 259 وما بعدها.

عن دعمه في ادعائه للإمامة بل أقرّ الخليفة أنّ هذه المنزلة - الإمامة - من الله وليس للخليفة يد فيها كما مرّ سابقاً.

ولذا نرى أنّ الوزير يستهين بجعفر و یزجره ويسمعه ما يكره، فيقول له: يا أحمق، السلطان أطال الله بقاءه جرّد سيفه في الذين زعموا أنّ أباك وأخاك أئمة ليردّهم عن ذلك فلم يتهيأ له ذلك، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً، فلا حاجة لك إلى سلطان يرتّبك مراتبهم ولا غير سلطان، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنصب بنا، ثمّ إنّ الوزير استقلّه واستضعفه و أمر أن يُجَبَّ عنه، فلم يأذن له في الدخول عليه مات(1).

ولمّا ذهب إلى المعتمد من أجل طلب مساعدته في ذلك كان ردّه مثلما أجابه الوزير وقال له: ما لم يكن فيك ما كان في أخيك لم نغنِ عنك في ذلك شيئاً(2).

ثمّ إنّ جعفر بعد ذلك النشاط المعادي للإمام (علیه السّلام) وفشله وإخفاقه في كلّ إدّعاءاته تاب وأناب و أدركته الهداية الإلهية، فتاب ممّا كان منه، وتجاوز عنه الإمام المهدي(علیه السّلام) ، فصدر التوقيع الشريف في العفو عنه والتجاوز عن تقصیره، تطبيقاً لقوله تعالى: «فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » (3) وقوله تعالى: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى »(4) . وقد خرج التوقيع عن الإمام المهدي (علیه السّلام) بواسطة محمّد بن عثمان بن سعيد العمري ضمن عدّة استفتاءات تقدّم بها أحمد بن يعقوب إلى الإمام(علیه السّلام) عن طريق هذا السفير وكتب الإمام (علیه السّلام) فيما يخصّ جعفر قائلاً: وأمّا سبيل عمّي جعفر وولده، فسبيل إخوة

ص: 74


1- الإرشاد، ص 320 .
2- الخرائج والجرائح، ص 186.
3- المائدة/39.
4- طه /82 .

یوسف(علیه السّلام)(1). ، يشير بذلك إلى عفو الله تعالى عن أخوة يوسف بعدما ناصبوه العداء و غررواً به کما حدّث بذلك القرآن الكريم ثمّ عفا عنهم حين تابوا «قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ »(2).

وهذا البيان من الإمام المهدي(علیه السّلام) يدلّ على العفو و توبة جعفر وصلاحه بقرينةذكره (علیه السّلام) إخوة يوسف وما حدّث القرآن عنهم من استغفارهم.

ص: 75


1- الاحتجاج، ج 2، ح 283.
2- يوسف /91 - 92.

الخلاصة

لقد كان جعفر بن الإمام الهادي (علیه السّلام) يخطّط لنيل الإمامة و وراثة الإمام العسكري (علیه السّلام) بادّعائه أنّ الإمام العسكري (علیه السّلام) لم يخلّف وليس له وريث غيره، لذا فإنّه سعى بكلّ وسيلة لنيل ذلك، حتّى أنّه توسّل إلى الخليفة ليجعله بمكان و منزلة أخيه الإمام العسكري (علیه السّلام) غير أنّ السلطة بكلّ ما تملك من وسائل وجدت نفسها عاجزة عن ذلك فقال له الخليفة إنّ منزلة أخيك من الله عزّوجلّ وليس لي فيها يد.

و أوّل ظهور جعفر کان عُقيب وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام) حيث كان يستقبل المعزّين بوفاته والمهنّين له بالإمامة، وحاول أن يؤدّي الصلاة على الإمام العسكري ومنعه الإمام المهدي (علیه السّلام) وصلّی الإمام على أبيه بمشهد من خواصّه و وكيله الأوّل عثمان بن سعيد وخادم الإمام العسكري (علیه السّلام).

وحاول جعفر أن يغرّر بوفد القمّيين ويأخذ أموالهم واستعان بالسلطة وفشل في ذلك أيضاً حتى قال له الخليفة إنّ هؤلاء رسل، «وما على الرسول إلّا البلاغ المبين» فكانت محاولاته المتعدّدة قد باءت بالفشل غير أنّه ادّعى ورائة أخيه واستولى على كافّة أمواله وما يعود له، لاحتجاب الإمام المهدي (علیه السّلام).

ولذا فإنّ جعفراً استغلّ مناسبة مجيء الوفد القمّي و وشی بوجود الإمام المهدي (علیه السّلام) وإنّه يستلم أموال هؤلاء وما أُرسلوا به من قم، وتشدّد السلطة في البحث والمطاردة ولم تفلح في التعرف على خبر الإمام المهدي(علیه السّلام) .

ص: 76

الأسئلة

1. لماذا لم يسلم الوفد القمّي الأموال إلى جعفر؟

2. ما هو موقف جعفر من الإمام المهدي(علیه السّلام) ؟

3. ما هو موقف الإمام المهدي (علیه السّلام) من مخطّطات جعفر لإفشالها؟

4. لماذا امتنع الخليفة من مساعدة جعفر لتولّي منصب الإمامة؟ 5. ما هي العوامل الّتي دفعت جعفراً لادّعاء الإمامة؟

6. لماذا كتب أحمد بن إسحاق إلى الإمام المهدي ليلا عن جعفر؟ 7. ما هي النقاط الّتي أكّد عليها كتاب الإمام المهدي (علیه السّلام) حول ادّعاءات جعفر؟

8. ما هي علّة اعتراف السلطة بفشل وسائلها في إبعاد الشيعة عن الأئمّة (علیهم السّلام) ؟

ص: 77

الدرس 8 : تمهیدات الرسول(صلّی الله علیه وآله وسلّم) و الأئمة (علیهم السّلام) للغيبة الصغرى

اشارة

لقد تواترت الأخبار عن النبي الأعظم (صلّی الله علیه وآله وسلّم) والأئمّة المعصومين (علیهم السّلام) حول غيبة الإمام المهدي (علیه السّلام) وهي على عدّة أقسام: ۔

1. الأحاديث الّتي ذكرت أنّ للإمام المهدي سنن بعض الأنبياء کنوح، وإبراهيم ويوسف و موسی و عیسى (علیهم السّلام)، فمنهم من خفي مولده و منهم من احتجب عن قومه وأهله ثمّ شاء الله أن يعود بعد غيبة قصيرة، ومنهم من امتدّ احتجابه بحكمة الله في ذلك كما هو حال العبد الصالح الخضر (علیه السّلام)وروح الله عیسی بن مریم(علیها السّلام)(1) .

2. صرحت أحاديث أخری بغيبته الكبرى الّتي تمتدّ حتّى تتحقّق مجموعة من العلامات وبعد ذلك ستملأ الأرض عدلاً وقسطاً وتقام دولة الحقّ الّتي وعد الله عباده بقيامها في آخر الزمان .

3. وصرّحت أحاديث أخرى بأنّ للإمام المهدي (علیه السّلام)غيبتين إحداهما أطول من الأخرى فالصغرى هي الفترة الممتدّة من ولادته(علیه السّلام) وحتی احتجابه الكامل عن مواليه وشيعته بعد وفاة نائبه الرابع، ويمكن الاستفادة من أحاديث النقطة الاُولى للاستدلال

ص: 78


1- راجع كمال الدين، الأبواب 2-9 والباب 32.

على الغيبة الصغرى بالأحاديث الّتي شبهت الإمام(علیه السّلام) ببعض الأنبياء، فمنهم من خفي مولده و منهم من انقطع عن قومه، ثمّ عاد كما هو حال نبي الله يوسف حين كان من إخوته ما كان، وكذلك موسی (علیه السّلام) حين خاف قومه فذهب تلقاء مدين ثمّ عاد إليهم، كما أن هناك أحاديث وردت عن الأئمة (علیهم السّلام) وصرّحت بأنّ للإمام غیبتين صغري وكبرى. مثل ما ورد.

1. عن سعيد بن جبير قال: سمعت سید العابدين علي بن الحسين (علیه السّلام) يقول «في القائم منّا سنن من الأنبياء سنّة من أبينا آدم و سنّة من نوح و سنّة من إبراهيم و سنّة من موسى، وسنّة من عیسی، وسنّة من أيوب وسنّة من محمّد صلوات الله عليهم، وأمّا . موسى، فالخوف والغيبة، وأمّا عیسی فاختلاف الناس فيه، وأمّا أيّوب فالفرج بعد البلوى، وأمّا محمّد (صلّی الله علیه وآله وسلّم) فالخروج بالسيف»(1).

2. عن ثابت الثمالي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السّلام) أنّه قال: فينا نزلت هذه الآية « وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ »(2) ، وفينا نزلت هذه الآية «وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ »(3).

والإمامة في عقب الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهما السّلام) إلى يوم القيامة و أنّ للقائم منّا غيبتين إحداهما أطول من الاُخرى»(4).

3. عن أبي بصير قال: «قلت لأبي عبدالله (علیه السّلام) : كان أبوجعفر لا يقول: لقائم آل محمّد غيبتان إحداهما أطول من الأخرى؟ فقال: نعم ولا يكون ذلك حتى يختلف سیف بني فلان و تضيق الحلقة، ويظهرالسفياني و يشتدّ البلاء ويشمل الناس موت

ص: 79


1- کمال الدین، ج 1، ص 221 - 322.
2- الأحزاب /6.
3- الزخرف/47.
4- كمال الدین، ج 1، ص 323.

و قتل يلجأون فيه إلى حرم الله و حرم رسوله(صلّی الله علیه وآله وسلّم) (1).

4. عن محمّد بن مسلم الثقفي، عن الباقر أبي جعفر (علیه السّلام) أنه سمعه يقول: «إنّ للقائم غيبتين يقال له في إحداهما: هلك ولا يدري في أي وادٍ سلك»

5. عن المفضل بن عمر قال: «سمعت أباعبدالله (علیه السّلام) يقول: إنّ لصاحب هذا الأمر غيبتين، يرجع في إحداهما إلى أهله، والأخرى يقال: هلك وفي أي وادٍ سلك؛ قلت: كيف نصنع إذا كان ذلك؟ قال: إن ادعي مدعٍ فاسألوه عن تلك العظائم الّتي يُجيب فيها مثله»(2).

فهذه الأحاديث تذكر أنّ للإمام (علیه السّلام) غيبتين إحداهما الصغرى الّتي كان السفراء فيها واسطة بين الإمام والشيعة وكانت تخرج على أيديهم الأجوبة عن كلّ ما كان يسأل عنه من المعضلات والمشاكل الّتي تواجههم في تعاملهم اليومي، وقد ذكرنا أحاديث عن الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) والأئمة (علیهم السّلام) عن الغيبة الكبرى وهي متواترة لدى المسلمين عامّة.

علل الغيبة الصغرى

من خلال تتبع الروايات الواردة عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) والأئمّة (علیهم السّلام) نجد أنها تعلّل الغيبة بعلّتين أساسيّتين هما:

1. أن لا يكون في عنق الإمام (علیه السّلام) بيعة لطاغية زمانه عند خروجه بالسيف. فعن أبي عبدالله الصادق (علیه السّلام) قال: «يبعث القائم وليس في عنقه بيعة لأحد»(3).

2. مخافة القتل من قبل الظالمين الذين يخشون على سلطانهم لإمام (علیه السّلام) هو المؤمّل للقضاء على الظلم والظالمين وإقامة العدل في دولة الحقّ.

عن زرارة قال: سمعت أباجعفر الباقر يقول: «إنّ للقائم غيبة قبل أن يقوم، قال:

ص: 80


1- محمّد بن إبراهيم النعماني، الغيبة، ص 172 - 173.
2- راجع الغيبة للنعماني، ص 90.
3- كمال الدین، ج 2، ص 480.

قلت: ولِمَ؟ قال: يخاف - و أومأ بيده إلى بطنه»(1) أي يخاف القتل.

وفي حديث للإمام الصادق (علیه السّلام) بعد استعراضه لمحاولة فرعون قتل موسی (علیه السّلام) و حفظ الله تبارك و تعالی لموسى(علیه السّلام) : «كذلك بنو أميّة وبنو العبّاس لمّا وقفوا على أنّ زوال ملك الأُمراء والجبابرة منهم على يد القائم منّا، ناصبونا العداوة ووضعوا سيوفهم في قتل آل الرسول لله(صلّی الله علیه وآله وسلّم) وإيادة نسله طمعاً منهم في الوصول إلى القائم ويأبى الله عزّوجلّ أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلّا أن يتمّ نوره ولو كره المشركون(2).

وفي حديث آخر للإمام الرضا(علیه السّلام) يشير الإمام (علیه السّلام) إلى علّتین قد دعتا الظالمين لسلّ السيوف على آل الرسول، الأولى علمهم بأنّهم ليس لهم حقّ في الخلافة فيخافون

من ادّعاء أهل البيت (علیهم السّلام) إيّاها واستقرارها في مركزها الّذي جعله الله و عيّنه.

والثانية: هي أنهم قد وقفوا على أن زوال ملكهم على يد القائم(علیه السّلام) من أهل البيت (علیهم السّلام) من خلال الأخبار المتواترة فسعوا في إبادة نسل الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) سعياً لمنع تولّد القائم من أهل البيت (علیهم السّلام) ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره ولو كره المشركون(3).

ونرى أن الغيبة الصغرى والكبرى تشتركان في هاتين النقطتين ويضاف إلى الغيبة الصغرى بعلل و أسباب أُخرى، هي:

1. أنّها تمهيد للغيبة الكبری.

لقد سبق بيان خفاء ولادة الإمام المهدي(علیه السّلام) اعتماداً على الروايات الواردة بهذا الشأن مضافاً إليها سلوك الإمام الحسن العسكري(علیه السّلام) بهذا الشأن حول إخفائها وتكتّمه عليه، و رأينا أنّ عمّ الإمام المهدي(علیه السّلام) جعفر لم يعلم بولادته ولا بوجوده وعليه فلابدّ من هذه الفترة - الغيبة الصغرى - كي يُعرف ميلاده(علیه السّلام) ويعرض على خواصّ الإمام العسكري (علیه السّلام) كما فعل هو حيث عرضه على خواصّ أصحابه و أعلن

ص: 81


1- کمال الدین، ج 2، ص 481 .
2- راجع منتخب الأثر، ص 358 - 360، للطف الله الصافي.
3- المصدر السابق : 291.

ولادته عليهم، ثمّ عقّ عنه و تباشر الشيعة بذلك وكتموه عن مَن سواهم، وكما سبق تفصيل ذلك .

2. تکامل استقلال الكيان الشيعي فکريّاً استعدادهم لإدارة شؤونهم في حالة الغيبة الكبرى والاحتجاب الكامل للإمام (علیه السّلام) عن شيعته ومواليه، ولو رجعنا إلى حياة الأئمّة (علیهم السّلام) وتابعنا سلوكهم في التربية و التنمية لقواعدهم فقهياً وفكرياً نجد أنّ للأئمّة منهجاً خاصّاً اتّبعوه في هذا الاتّجاه لتنمية المواهب العلمية لدى قواعدهم، وخصوصاً البارزين منهم وثقاتهم، ففي عصر الإمامين الباقر والصادق(علیهما السّلام) كانا يرجعان أصحابهما إلى كتاب الله للوقوف على أجوبة المسائل الّتي تواجههم كما نلاحظ ذلك في إجابة الإمام (علیه السّلام) على سؤال (الجبيرة) عندما قطع ظفره، فقال له الإمام(علیه السّلام) : هذا و أشباهه يعرف من كتاب الله، و قرأ عليه قوله تعالى: « وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» ويدلّ على نهجهم التربوي ما صدر عنهم (علیهم السّلام) إلى خواصّهم: «أحبّ أن أرى مثلك يُفتي» أو يتحدّث عن أمرنا، فهذه النصوص توضّح لنا أنّ الأئمّة كانوا يسعون لِرفع المستوى العلمي لشيعتهم؛ تمهيداً لمرحلة الغيبة الكبرى حيث يكون اعتمادهم على رواة أحاديث الأئمة (علیهم السّلام) العارفين بالحلال والحرام، كما في التوقيع الشریف الصادر عن الإمام المهدي (علیه السّلام) إلى أحمد بن إسحاق عندما سأله عن مسائل إذ قال له:

«و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله». .

وبهذا نلمس بوضوح الدليل على فتح باب الاجتهاد في مذهب أهل البيت(علیه السّلام) ، و بعد أن نمّی الأئمّة(علیهم السّلام) الذهنية الشيعية وارتفعوا بها متجاوزین أوّليات كثيرة كانت تتطلبها عملية الاجتهاد هذه، و يقتضيها التعامل الصحيح مع النصوص امتدّ على طول فترة الوجود المبارك للأئمّة الأطهار (علیهم السّلام) وحتى نهاية عصر الغيبة الصغرى.

ص: 82

الخلاصة

يمكن تصنيف الأحاديث الّتي تواترت حول غيبة الإمام المهدي (علیه السّلام)عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) والأئمّة: من بعده إلى طوائف ثلاث:

الطائفة الّتي تضمّنت أنّ للإمام سنن بعض الأنبياء: وأخرى صرّحت بأن له غيبة وحيرة كما تحدّثت عن رجوع كثير ممّن يقول بالإمامة عن قوله...

ثمّ نجد الطائفة الثالثة تتحدّث عن غيبتي الإمام الصغرى والكبرى. وأنّ الغيبتين تشتركان في بعض العلل. مثل أن لا تكون بيعة في عنق الإمام (علیه السّلام) لطاغية زمانه و انّه يخشى على نفسه القتل، وتختصّ الغيبة الصغرى بأنّها تمهيد للغيبة الكبرى وإثبات لمولد الإمام و وجوده و تعریف مواليه به مع عرضه عليهم.

الأسئلة

1. ما هي العلل المشتركة للغيبتين : الصغرى والكبری؟

2. ما هي علّة الغيبة الصغرى بشكل خاص؟

3. اذكر الأحاديث الّتي تتحدّث عن الغيبة؟

4. ماذا يُستفاد من الأحاديث الّتي تشبّه سنن الإمام (علیه السّلام) بسنن الأنبياء(علیهم السّلام)؟

5. هل تحفظ حديثاً يشير إلى الغيبة الكبرى والصغرى معاً؟

ص: 83

الدرس 9: الغيبة الصغرى و الارتباط بالإمام المهدي(علیه السّلام)

اشارة

لقد اتضح أنّ السفراء الأربعة، الذين تولوا الوكالة الخاصّة عن الإمام المهدي (علیه السّلام) خلال غيبته الصغری هم:

عثمان بن سعيد العمري وابنه محمّد، والحسين بن روح النوبختي و علي بن محمّد السمري، والّذي بوفاته ينتهي عصر الغيبة الصغری.

إنّ وجود السفراء الأربعة بشكِّل ميّزة رئيسيّة لهذه الفترة وعليه لابدّ من البحث عن تراجمهم وحياتهم (رضوان الله تعالى عليهم).

السفير الأوّل

هو الشيخ الموثوق أبو محمّد عثمان بن سعيد العمري، أبو عمرو الأسدي وإنّما سمّي العمري نسبة إلى جدّه، ويقال له العسكري أيضاً لأنه كان يسكن العسكر وهي سامرّاء ويقال له السمّان لأنّه كان يتّجر بالسمن تغطية على الأمر.

وكان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمّد العسكري (علیه السّلام) ما يجب عليهم حمله من الأموال أنفذوا إلى أبي عمرو، فيجعله في جراب السمن وزقاقه و يحمله إلى أبي محمّد

ص: 84

العسكري(علیه السّلام) التقيّة و خوفاً(1).

أولاده: محمّد و هو السفير الثاني بعد أبيه، وأحمد.

وكان محمّد بن عثمان من أصحاب الإمام الهادي(علیه السّلام) وثقاته، وكان وكيلاً خاصّاً للإمام وقد قال عنه الإمام الهادي(علیه السّلام) : هذا أبوعمرو الثقة الأمين ما قاله لكم فعنّي قوله، وما أدّاه إليكم فعنيّ يؤدّيه(2).

وإنّ هذا النص يظهر لنا بوضوح مستوى الثقة العالية الّتي كان يتمتّع بها عثمان ابن سعید و منزلته الفريدة، وعليه إذ كان يمثِّل مع جماعة آخرين دور الوساطة بين الإمام (علیه السّلام) وقواعده الشعبية، في الفترة الّتي بدأ الإمام فيها تطبيق مسلك الاحتجاب عن مواليه تعویداً لهم على الغيبة الّتي سوف يواجهونها في حفيده المهدي(علیه السّلام) ، و بعد استشهاد الإمام الهادي (علیه السّلام) سنة (254ه) أصبح عثمان بن سعيد وكيلاً خاصاً و موثوقاً لدى الإمام العسكري(علیه السّلام) ، فكان له نشاط و براعة في العمل، وكان يتّصف عمله بالسرّيّة والكتمان التام، فكان يظهر كتاجر للسمن أمام الناس، تغطية على تحرّكه و مسلکه لتضليل السلطة وعيونها، من أجل أداء دوره المناط به من قِبَل الإمام(علیه السّلام) .

ومن هنا كان الإمام العسكري يكثر مدحه والثناء عليه في مناسبات مختلفة أمام مواليه و شیعته، فمن ذلك أنّه(علیه السّلام) قال: «هذا أبوعمرو الثقة الأمين، ثقة الماضي و ثقتي في المحيا والممات، فما قاله فعنّي قوله، و ما أدّى فعنّي يؤدّي». وقال (علیه السّلام) أمام وفد من اليمن: امضِ یا عثمان، فإنّك الوكيل والثقة، المأمون على مال الله»(3)، واشتهر حاله وجلالة شأنه بين القواعد الشعبية الموالية للإمام(علیه السّلام) ، فوفد اليمن حين سمع قول الإمام (علیه السّلام) فيه قالوا: يا سيّدنا إنّ عثمان لمن خيار شيعتك، و لقد زدتنا علماً بموضعه

ص: 85


1- الغيبة للشيخ الطوسي، ص 214.
2- الغيبة للشيخ الطوسي، ص 215.
3- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 216.215 .

من خدمتك وإنّه وكيلك و ثقتك على مال الله تعالى(1). فلم تزل الشيعة مقيمة على عدالته، و تتسالم على وثاقته وجلالة قدره.

لقد أمر الإمام العسكري (علیه السّلام) عثمان بن سعيد بأن يشتري عشرة آلاف رطل خبزاً و عشرة آلاف رطل لحماً يفرّقه بين بني هاشم وأن يعقّ عن الإمام المهدي بمناسبة ولادة الإمام المهدي المباركة وهذا دليل على تلك المكانة الرفيعة الّتي كان يتمتّع بها عثمان بن سعيد لدى الإمام (علیه السّلام) كما نلاحظ الإمام(علیه السّلام) في مجلس لخواصه، الذين كانوا يعدّون بأربعين رجلاً، بعدما عُرض الإمام المهدي(علیه السّلام) عليهم ونص على إمامته، ينصّ على وكالة عثمان بن سعيد عن المهدي (علیه السّلام) وسفارته له قائلاً: فاقبلوا من عثمان ما يقوله، وانتهوا إلى أمره فهو خليفة إمامكم والأمر إليه(2).

ويعزّز هذه المنزلة والمقام لدى الإمام (علیه السّلام) وجوده أثناء تغسيل و تكفين الإمام العسكري (علیه السّلام) وصلاة الإمام المهدي(علیه السّلام) عليه، وبقي أبوعمرو مضطلعاً بمهام السفارة وقائماً بها خير قيام، إلى أن وافاه الأجل، فقام ابنه أبوجعفر محمد بن عثمان بتغسيله و تجهيزه(3)، ودفن في الجانب الغربي من بغداد في شارع الميدان وأقام الرئيس أبو منصور محمّد بن الفرج على القبر صندوقاً، وقال الشيخ الطوسي: يتبرّك جيران المحلة بزيارته ويقولون هو رجل صالح ولا يعرفون حقيقة الحال فيه، وكان ذلك سنة سبع وأربعمائة(4).

وكتب الإمام المهدي(علیه السّلام) إلى ولده محمّد مُعزّياً بوفاة والده عثمان قائلاً: إنّا لله وإنّا إليه راجعون تسليماً لأمره ورضاءً بقضائه، عاش أبوك سعيد و مات حميداً فرحمه الله وألحقه بأوليائه و مواليد (علیهم السّلام) فلم يزل مجتهداً في أمرهم ساعياً فيما يقرّبه إلى الله

ص: 86


1- الغيبة، (م.س)، ص216.
2- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 217.
3- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 221.
4- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 218.

عزّوجلّ وإليهم، نضّر الله وجهه وأقال عثرته.. كان من كمال سعادته أن رزقه الله تعالی ولداً مثلك يخلفه مِن بعده، و يقوم مقامه بأمره و يترحّم عليه، و أقول الحمد لله، فإنّ الأنفس طيبة بمكانك، و ما جعله الله تعالى فيك وعندك أعانك الله وقوّاك و عضدك و وفّقك، وكان لك وليّاً وحافظاً و راعياً(1).

السفير الثاني

هو الشيخ الجليل أبو جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد العمري، تولّى السفارة بعد أبيه، بنصٍ من الإمام العسكري(علیه السّلام) حيث قال لوفد اليمن الّذي أشرنا إليه: واشهدوا عليَّ أنّ عثمان بن سعيد وکيلي وأنّ ابنه محمّد وکیل ابني مهديّكم، وبنصّ أبيه على سفارته بأمر من المهدي (2). وكانت قواعده الشعبية مجتمعة على عدالته و ثقته و أمانته لا يختلف في ذلك اثنان من الإمامية، وكيف لا وفيه وفي أبيه قال الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) لبعض أصحابه:

العمري و ابنه ثقتان فما أدّيا فعنّي يؤدّیان و ما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان(3).

وكلمات الإمام المهدي (علیه السّلام) فيه متظافرة و متواترة، فقد سمعناه يعزّیه بوفاة أبيه ويثني عليه ..، و يشجّعه و هو في أوّل أيام اضطلاعه بمهمّته الكبرى.وقال فيه: لم يزل ثقتنا في حياة الأب رضي الله عنه وأرضاه و أنظر وجهه، يجري عندنا مجراه و يسدّ مسدّه، من أمرنا يأمر و به يعمل، وغير ذلك من عظيم الإجلال والإكبار ...(4).

و بقي محمّد بن عثمان مضطلعاً بمسؤولية السفارة نحواً من خمسين سنة حتّى لقي

ص: 87


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 220 وما بعدها.
2- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 220 و 216.
3- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 219.
4- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 220.

ربه - في جمادى الأُولى سنة 350ه وكانت تخرج التوقيعات على يده من الإمام المهدي (علیه السّلام) في المهمّات أوّل حياته، بالخط الّذي كانت تخرج في حياة أبيه، لا يعرف الشيعة في هذا الأمر غيره ولا يرجع إلى أحدٍ سواه.

وقد نقلت عنه دلائل كثيرة و ظهرت على يده معجزات الإمام، و أخبرهم عن أمور زادتهم في هذا الأمر بصيرةً(1).

ومدّة سفارته كانت أطول ممن سواه من السفراء (رض)، وكانت له کتب مصنّفة في الفقه، ممّا سمعه من أبي محمّد الحسن العسكري(علیه السّلام) ، و من الإمام المهدي(علیه السّلام) » و من أبيه عثمان بن سعيد عن الإمامين الهادي والعسكري (علیهما السّلام) ، و من كتبه: كتاب الأشربة والّذي وصل إلى الحسين بن روح و علي بن محمّدالسمري فيما بعد.

وقد أخبره الإمام المهدي بوفاته، و أمّره بجمع أمره. و قد حَفَر قَبرَهُ وسوّاه بالساج، ولما سُئِل عن ذلك قال: للناس أسباب، قد أُمِرت أن أجمع أمري، فمات بعد ذلك بشهرين.

قال الراوي: فلمّا خرجت من عنده أثبَتُّ ما ذكره، ولم أزل مترقّباً به ذلك، فما تأخّر الأمر حتّى اعتلّ أبوجعفر، فمات في اليوم الّذي ذكره من الشهر الّذي قاله من السنة الّتي ذكرها(2).

وقد أوصى إلى خلفه - السفير الثالث - الحسين بن روح بأمر من الحجّة المهدي(علیه السّلام) .

ودفن أبوجعفر العمري عند والده في شارع باب الكوفة في الموضع الّذي كانت دوره و منازله فيه، و قبره الآن مشیّد معروف وسمّيت منطقة قبره في بغداد بمحلّة الخلّاني والشارع الّذي يقع فيه مرقده بشارع الخلّاني وهو في جانب الرصافة ويزوره الناس و يتبرّكون به.

ص: 88


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 221.
2- يراجع الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 222.

السفيرالثالث

هو الشيخ الجليل أبو القاسم الحسين بن روح ابن أبي بحر النوبختي، لم يُذكر تاریخ مولده كسابقيه، ولمع نجمه کوکیل مفضل لأبي جعفر محمّد بن عثمان العمري، ينظر في أملاكه، ويلقي بأسراره لرؤساء الشيعة، وكان مختصّاً به، فكان له عند الشيعة وموالي آل البيت (علیه السّلام) منزلة رفيعة و على درجة من الإكبار والإجلال، بما كان يحتمله من هذا الأمر، وما كان يختص بالمحافظة على سرّيّة وجود الإمام وكونه حلقة الوصل بينه و بين قواعده الشعبية - إلى أن انتهت الوصيّة إليه بالنص عليه، فلم يختلف في أمره ولم يشك فيه أحدٌ(1).

وقد قدم بعض الموالين بمال على أبي جعفر العمري مقداره أربعمئة دينار للإمام (علیه السّلام) فأمره بإعطائها إلى الحسين بن روح، وحين تردّد هذا الشخص في ذلك، باعتبار وصول السفارة إليه يومئذ، فأكّد أبوجعفر(علیه السّلام) ذلك و أمره مکرّراً بإعطاء المال لابن روح وذكر له أن ذلك بأمر الإمام المهدي(علیه السّلام) .

وكان تحويله إلى أبي القاسم الحسين بن روح قبل موته بسنتين أو ثلاث حتّى إذا اشتدّت بأبي جعفر علّته اجتمع لديه جماعة من وجوه الشيعة، منهم أبوعلي بن همام و أبوعبدالله بن محمّد النوبختي و أبوعبدالله بن الوجناء و غيرهم من الوجوه والأكابر، فقالوا له:

إن حدث أمرٌ، فمن يكون مكانك؟

فقال لهم: هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي، القائم مقامي، و السفير بينكم وبين صاحب الأمر(علیه السّلام) ، و الوكيل والثقة والأمين، فارجعوا إليه في أموركم و عوّلوا عليه في مهمّاتكم فبذلك أمرت وقد بلّغت(2).

ص: 89


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 227.
2- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 227.

ويروي عن أبي جعفر بن أحمد بن متیل، و هو من متقدمي أصحابه وأجلّاتهم أنّه قال: لما حضَرت الوفاة أباجعفر محمّد بن عثمان العمري كنت جالساً عند رأسه أسأله وأُحدّثه، و أبو القاسم ابن روح عند رجليه، فالتفت إليّ ثمّ قال: أُمرت أن أوصي إلى أبي القاسم الحسين بن روح، قال ابن متیل: و تحوّلت إلى عند رجليه. إلى غير ذلك من تأكيدات أبي جعفر عليه وإعلان وکالته.

والسبب المهم في هذا التأكيد هو كون الحسين بن روح لم تصدر فيه توقيعات سابقة عن الأئمة (علیهم السّلام) كما هو حال السفيرين الأوّل والثاني، لذا فإنّ أباجعفر احتاج إلى توقيع و تأكيد من الإمام المهدي(علیه السّلام) يخرج بخطه توثيقاً للحسين بن روح عند قواعد الإمام (علیه السّلام) ومواليه، فلما مضى أبوجعفر وقع الاختيار عليه. وكانت الوصية إلیه(1).

في حين أنّ الأذهان كانت بعيدة عنه، وكان احتمال الإيكال إليه ضعيفاً عند الواعين المستبصرين بشؤون المجتمع من أصحابه، حتّى احتاج أبوجعفر لأجل ترسيخ فكرة الإيكال إليه وإيضاحها، إلى تكرار الإعلان عن ذلك، و تقديمه على ساعة موته بسنوات، وإنّما كانت الظنون تحوم حول أشخاص آخرين أرسخ من أبي القاسم ثقافة و تأريخاً كجعفر بن أحمد بن متیل و أبيه، باعتبار خصوصيته وكثرة حضوره في منزله، حتى بلغ أنّه كان في آخر عمره لا يأكل طعاماً إلّا ما طبخ في منزل جعفر بن أحمد بن متیل و أبيه،وبالرغم من ذلك فقد أوكلت السفارة إلى الحسين بن روح، فسلم له

الأصحاب، وكانوا معه و بين يديه كما كانوا مع أبي جعفر(رضی الله عنه).(2)

وعلى أي حال، فقد تولّى الحسين بن روح السفارة فعلاً، عن الإمام المهدي(علیه السّلام) ...

بموت أبي جعفر العمري سنة 305ه إلى أنّ لحق بالرفيق الأعلى في شعبان عام ست

ص: 90


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 225.
2- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 225.

وعشرين وثلاثمائة، فتكون مدّة سفارته حوالي الواحدة والعشرين سنة، فإن استطعنا أن نضيف العامين أو الثلاث الّتي أمر فيها أبوجعفر العمري قبل موته بتسليم الأموال إليه، ونصّ عليه بالوكالة، و تصوّرنا أنّ السفارة حينئيذٍ كانت مسندة إلى شخصين دفعة واحدة.. فتكون مدّة سفارته ثلاثاً وعشرين سنة أو أكثر.

وكان أوّل كتاب تلقّاه من الإمام المهدي(علیه السّلام) ، هو كتاب يشتمل على الثناء عليه، و مشاركة الحملة الّتي بدأها أبوجعفر العمري في تعريف الحسين بن روح للرأي العام والأصحاب، ممّن مشى على خط الأئمة (علیهم السّلام).

وقد وردت هذه الرقعة يوم الأحد لست خلون من شوال سنة 305ه بعدحوالي الخمسة أشهر من وفاة أبي جعفر العمري، الّذي توفي في جمادى الأولى من نفس العام.

واضطلع أبوالقاسم منذ ذلك الحين بمهام السفارة، وقام بها خير قيام، وكان مسلکه الالتزام بالتقيّة المضاعفة، بنحو ملفت للنظر، بإظهار الاعتقاد بمذهب أهل السنّة من المسلمين، يحفظ بذلك مصالح كبيرة، و يجلب بها قلوب الكثيرين، على ما يأتي التعرّض له فيما يلي من البحث، حتّى إننا نسمع أنه يدخل عليه عشرة أشخاص تسعة يلعنونه وواحد شكّك، فيخرجون منه تسعة منهم يتقرّبون إلى الله بمحبته وواحد واقف. يقول الراوي: لأنه كان يجارينا من فضل الصحابة وما رويناه وما لم نروه، فنكتبه نحن عنه (رضی الله عنه) (1).

وهذا إن دل على شيء فإنّما يدلّ على لباقته وسعة اطّلاعه و توجيهه على هذا المسلك من قبل الإمام المهدي(علیه السّلام) ، وقد تولّی (رضی الله عنه) أيام سفارته الحملة الرئيسية ضدّ

ظاهرة الانحراف عن الخط، وادعاء السفارة زوراً من قبل المنحرفين وقام بتبليغ القواعد الشعبية توجيهات الإمام المهدي (علیه السّلام) في ذلك، و شجبه ظاهرة الانحراف عن

ص: 91


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 228 .

الخط وادعاء السفارة زوراً كما سيأتي التعرّض له.

وبقي مضطلعاً بمهامّه العظمى حتّى لحق بالرفيق الأعلى سنة 326ه، و دفن في النوبختية(1) وقبره اليوم في بغداد.

السفير الرابع

هو الشيخ الجليل أبوالحسن علي بن محمّد السمري أو السيمري أو الصيمري، والمشهور هو الأوّل مضبوطاً بفتح السين والميم معاً.

لم يذكر عام ميلاده ولا تاریخ فجر حياته، وانما ذكر أوّلا كواحد من أصحاب الإمام العسكري(علیه السّلام) . ثمّ ذكر قائماً بمهام السفارة المهّدية ببغداد، بعد الشيخ ابن روح، بإيعاز منه عن الإمام المهدي (علیه السّلام)(2).

تولّى السفارة من حين وفاة أبي القاسم بن روح سنة 326ه، إلى أن لحق بالرفيق الأعلى سنة 329ه في النصف من شعبان، فتكون مدّة سفارته عن الإمام المهدي(علیه السّلام) ثلاثة أعوام كاملة، غير أيام.

ولم ينفتح السمري، خلال هذا الزمان القصير بالنسبة إلى أسلافه من السفراء على القيام بنشاطات موسعة، كالّتي قاموا بها، ولم يستطع أن يكتسب ذلك العمق والرسوخ في القواعد الشعبية الذي اكتسبوه، وإن كان الاعتقاد بجلالته و وثاقته بالاعتقاد بهم، وربّما يعود ذلك من كون تلك السنوات مليئة بالظلم والجور وسفك الدماء، ممّا أدّى إلى تحجيم نشاط هذا السفير وقلّة فعاليته، وهذا السبب نفسه من الأسباب الرئيسية لانقطاع الوكالة بوفاة السمري، وعزم الإمام المهدي(علیه السّلام) على الانقطاع عن الناس، كما انقطع الناس عنه، و فرّقتهم الحوادث عن متابعة وكلائه، إلى أسباب أخرى نشير إليها1

ص: 92


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 238.
2- اعلام الوری، ص 417.

في فصل آتٍ، لذا نجد السمري(رضی الله عنه) ، يخرج إلى الناس قبل وفاته بأيّام، توقيعاً من الإمام المهدي (علیه السّلام) يعلن فيه انتهاء الغيبة الصغرى، وانتهاء عهد السفارة بموت السمري، ويمنعه عن أن يوصي بعد موته إلى أحد ليكون سفيراً بعده.

يقول(علیه السّلام) في هذا التوقيع:

«بسم الله الرحمن الرحيم: يا علي بن محمّد السمري! أعظّم الله أجر إخوانك فيك، فإنّك ميّت ما بينك وبين ستة أيّام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد، فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامّة، فلا ظهور إلّا باذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد و قسوة القلوب و امتلاء الأرض جوراً.

وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كذّاب مفتر، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم».

فكان هذا آخر خطاب خرج من الإمام المهدي(علیه السّلام) ، عن طريق السفارة الخاصّة و آخر ارتباط مباشر بينه و بين الناس في الغيبة الصغرى.

قال الراوي: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلما كان اليوم السادس عدنا إليه و هو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيّك من بعدك؟ فقال الله أمر هو بالغه» و قضی، فهذا آخر كلام سمع منه، رضي الله عنه وأرضاه(1)..

وأودع الأرض في قبره الّذي هو في الشارع المعروف بشارع الخلنجي من ربع المحول، قريب من شاطیء نهر أبي عقاب، وله الآن في بغداد مزار معروف.

ص: 93


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 243.

الخلاصة

و إنّ الغيبة الصغرى يقصد بها الفترة الّتي بدأت باستشهاد الإمام العسكري(علیه السّلام) ، وتسلّم الإمام المهدي (علیه السّلام) مهامّ الإمامة بعده، وكان اتّصاله بقواعده الشعبية يتم عن طريق السفراء الأربعة، والذين كان يتمتّع بعضهم بمنزلة عالية عند الإمامين وكلهم عند الإمام المهدي (علیه السّلام) حيث صدرت عنه توقيعات توضّح وجوب رجوع قواعده الشعبية الّتي آمنت بقيادته الفكرية والسياسية والروحية، فكانوا رضوان الله عليهم على درجة عالية من الورع والتقوى، لذا كانوا أهلاً لمقام السفارة عنه (علیه السّلام)، ويجب أن يلاحظ أن فترة وجود الإمام المهدي مع والده (علیه السّلام) لا تُعد ضمن مرحلة الغيبة الصغرى لرجوع القواعد الشعبية إلى الإمام العسكري فيما يحتاجونه من أمورهم، فهو المتولّي والشاغل لمنصب الإمامة وكانت فترة الغيبة الصغرى حوالي سبعين عاماً.

شغل منها السفير الأوّل: عثمان بن سعيد، حوالي خمس سنوات، أي أنه لم يتعد فترة خلافة المعتمد، فكما عاصر هذا الخليفة وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام) عاصر أيضاً وفاة السفير الأوّل.

و شغل السفير الثاني: محمّد بن عثمان حوالي أربعين عاماً منها، عاصر فيها بقية خلافة المعتمد، ثمّ خلافة المعتضد، ثمّ خلافة المكتفي ثمّ عشر سنوات من خلافة المقتدر، حين توّفي سنة 305 من الهجرة.

و شغل السفير الثالث: الحسين بن روح بعد وفاة سلفه، واحداً وعشرين سنةً، عاصر فيها بقية خلافة المقتدر، وقسماً من خلافة الراضي.

و خلفه السفير الرابع: علي بن محمّد السمري، وبقي في السفارة ثلاث سنين وتوفّي عام وفاة الراضي ، و عاصر خلافه المتقي مدّة خمسة أشهر وخمسة أيام.

ص: 94

الأسئله

1. ماذا نقصد بالغيبة الصغرى؟ ومتى بدأت؟

2. ما هو الدليل في استلام حسین بن روح السفارة مع وجود من اشتهر وعرف وكان قريباً من السفير الثاني كجعفر بن أحمد بن متیل و أبيه؟

3. ما هي أهمية دور السفراء الأربعة؟

4. لماذا لم يتخ للسفير الرابع القيام بنفس النشاطات للسفراء الذين سبقوه مع جلالته وعظم منزلته؟

5. هل صدرت توقيعات عن الإمام المهدي (علیه السّلام) إلى قواعده في توثیق سفرائه؟

6. متى وقعت الغيبة الكبرى، وإلى من صدر التوقيع الشريف حول ذلك؟

ص: 95

الدرس10: لسفارة: الخصائص و المضمون

الخصائص العامة والمضمون الاجتماعي للسفارة

اشارة

من خلال التتبّع التأريخي لهذه الفترة تتّضح لنا عدّة نقاط :

1. تشابه نشاط و تحرّك السفراء في الأسلوب والهدف الّذي كان يسعى كلّ واحد منهم إليه عن طريق توجيهات الإمام (علیه السّلام) لتحقيقه.

2. إن السفارة صُرفت عن العلويين صرفاً تامّاً و أُنيطت بغيرهم، مع أنّ في العلويين يومئذ من كان عالياً شأنه في العلم والفقه والعبادة

والسرّ في ذلك واضح جدّاً، يبرزه التأريخ الّذي عاشه العلويون من حين ثورة الحسين (علیه السّلام) إلى العصر الّذي نؤرّخ له: و هو تأريخ الثورات والتمرّد على الواقع الفاسد، والاحتجاج على الظلم والطغيان، فكانت الصورة الأولى الّتي تحملها الدولة عن علوي، هو كونه موالياً للأئمة (علیهم السّلام) ، من ناحية، و ثائراً على الظلم والفساد من ناحية اُخرى، أو بتعبير آخر، إنّه ثائر على كيانها القائم بشكل لا تستره تقية ولا يجدي في تغييره حذر.

3. كانت بغداد مسرحاً لتحرّك ونشاط السفراء الأربعة (رضوان الله عليهم)، ولم يُطلب قيامهم بمهمامّهم خارجها، ويعزى ذلك إلى توجيهات الإمام(علیه السّلام) .

ص: 96

كما أنّ انحصار وجود هؤلاء السفراء في بغداد لا يعني انحصار توجيهات و توقيعات الإمام المهدي(علیه السّلام) بهذا البلد، لما سنعرف من اتّصال السفراء بالوافدين إلى بغداد من الأطراف، وما سنراه من وجود وکلاء عديدين لهؤلاء السفراء في مختلف البلاد الإسلاميّة، وكانت تنتشر تعاليم الإمام المهدي (علیه السّلام) عن طريقهم، وكان الاتصال بينهم وبين السفراء، قائماً على قدم وساق.

4. لم يرد إلينا في النقل التأريخي الخاص، قيام السفراء بأعمال اجتماعية واسعة و مؤسسات مهمة، حتى على النطاق الخاص، إلّا أقل القليل.

5. كان الخط الّذي يستعمله الإمام المهدي (علیه السّلام) في توقيعاته وبياناته خطّاً موحّداً يعرفه الناس المتتبّعون لذلك، فهو لا يختلف باختلاف أشخاص السفراء واختلاف خطوطهم، ممّا يحصل القطع بصدوره عنه(علیه السّلام) .

وقد توخّى الإمام المهدي(علیه السّلام) ، أن تصدر بياناته، بنفس الخط الّذي كانت تصدر بیانات أبيه ، فإنّنا عرفنا أنّ الإمام العسكري (علیه السّلام)، استعمل أسلوب الاحتجاب تعويداً للناس على فكرة الغيبة، وكان يتّصل بقواعده الشعبية عن طريق التوقيعات والبيانات المكتوبة، فقد كان خط الإمام العسكري(علیه السّلام) معروفاً لدى جملة قواعده الشعبية، وخاصّة من كان من خاصّتهم و مبرّزيهم، وقد سمعنا كيف طلب أحدهم من الإمام العسكري(علیه السّلام) عند مقابلته أن يكتب شيئاً في ورقة، حتّى يطابقه مع التوقيعات الصادرة منه لأجل أن يأمن من التزوير، فقد استعمل الإمام المهدي(علیه السّلام) نفس الخط طيلة مدّة غيبته الصغرى فقد كانت الأجوبة تخرج من ناحيته المقدّسة بالخط الّذي يخرج في حياة أبيه الحسن العسكري (علیهما السّلام) (1) .

و لسبق معروفية هذا الخط عند الأصحاب، تكون شهادة الخط أوسع وأعلى من شهادة السفير، بكون هذا البيان صادر عن الإمام المهدي(علیه السّلام) ، فإذا انضمّت الشهادتان

ص: 97


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 216.

وتصادقتا على ذلك، كان في ذلك الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

6. بقيت في التوقيعات الّتي كان يصدرها الإمام المهدي (علیه السّلام) جهات هامّة لابدّ من بحثها في هذا الصدد و هي:

أ- في معنى التوقيع

يطلق التوقيع في لسان روایاتنا - مطابقاً للعرف السائد آئنذ - على الكلمات القصار الّتي تمليها أقلام الكبراء في ذيل الرسائل والعرائض ونحوها، لأجل جواب السؤال الّذي تتضمّنه أو حلّ المشكلة الّتي تحتويها أو التعبير عن وجهة نظر معينة فيها.

اذن فتوقيعات الإمام المهدي (علیه السّلام) هي ما كان يذكره (علیه السّلام) بخطه في جواب الأسئلة و العرائض بواسطة سفرائه من الكلمات القصار في مختلف ميادين المعرفة من الناحية العقائدية أو الفقهية أو الاجتماعية أو غيرها.

ب . في احتياج التوقيع إلى سؤال

لم تكن التوقيعات الصادرة عنه(علیه السّلام) ، مقتصرة على الإجابة على الأسئلة فقط. وإن كان الأغلب هو ذلك، بل كانت التوقيعات والبيانات الواصلة من الإمام المهدي(علیه السّلام) تتّخذ أحياناً شکل بیان ابتدائي يطول ويقصر حين تقتضي المصلحة ذلك، بدون سؤال يقتضيه و يتطلّبه، ومن أمثلة ذلك، التوقيع الّذي أصدره(علیه السّلام) مترحِّماً على سفيره الأوّل، والبيان الّذي أعلن فيه انتهاء السفارة بموت السفير الرابع، والرسالة الّتي رويت عنه(علیه السّلام) للشيخ المفيد .

ج - إنّ التوقيع كما يعتبر عملاً للإمام (علیه السّلام)

ج - إنّ التوقيع كما يعتبر عملاً للإمام (علیه السّلام) باعتبار معناه و خطّه، فانه هو الّذي كتبه حلّاً لمشكلة أو جواباً على سؤال أو بيان لمصلحة، كذلك يعتبر عملاً من أعمال السفير، باعتبار أنّ للسفير یداً في إظهاره إلى النور و اطلاع أصحابه وقواعده الشعبية عليه.

د. في مدة خروج التوقيع

كان يحتاج خروج التوقيع: جوابا على سؤال معيّن إلى حوالي اليومين أو الثلاثة...

كما هو ظاهر عدد من الروايات، كقول الراوي في إحداها: فلمّا كان بعد أيام قال لي

ص: 98

صاحبي ألا نعود إلى أبي جعفر فنسأله عن حوائجنا الّتي كنّا سألناه عنها(1).

وعلى أي حال، فمدّة الثلاثة أيام أو نحوها، مدّة معقولة في ردّ الجواب، وعليه تحمل سائر الروايات التي تعرّضت إلى خروج الردّ من دون ذكر المدة. باعتبار وضوح ذلك في الأذهان و تكرّره إلى حدّ أصبح متسالماً عليه، لا يحتاج إلى تکرار و تأكيد.

7. خفاء السفراء على السلطات

إنّ مسلك التستّر أو الحذر الّذي سلكه السفراء، انتج ما هو المقصود تماماً، وهو الخفاء على القواعد الشعبية السائرة في رحاب السلطات و عيون الدولة، وعلى المنتفعين منها والضالعين في ركابها.

وليس أدلّ على ذلك ممّا سمعناه عن موقف السفير الثالث في تفضيل الخلفاء الثلاثة جميعاً على أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السّلام) ، في مجلس للعامة.. فرفعه العامة على رؤوسهم وكثر الدعاء له والطعن على من يرميه بالرفض(2).

وإن وهذا يدلّ على شيء، فانّما يدلّ على جهلهم التام بسفارته، و أنّهم غاية ما يحملون عنه من فكرة.. أنّه متهم بالرفض، وهذا القول منهم ماحٍ لهذه التهمة و دليل على كذبها في نظرهم، وإذا لم يكن رافضياً فكيف يكون سفيراً الإمام الرافضة!؟

والّذي كان يتوخّاه این روح من كلامه ذلك، إبعاد احتمال السفارة عن أذهانهم إبعاداً تامّاً، وجعلها بشكل لا يمكن أن تخطر في ذهنهم فضلاً عن أن يصدّقوا بها.

وإذا كانوا لا يعلمون به، فهم لا يعلمون بأسلافه أيضاً، ولا بخلفه بطريق أولی.

يندرج في هذه القائمة سائر السائرين على هذا الخط من حکّام و محکومین، غیر شخص الخليفة.

فإنّ حول بعض الخلفاء توجد قرائن تأريخية تدلّنا على أنّه كان عارفاً بالحق

ص: 99


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 184.
2- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 237.

وبموضعه، كما صرّح به الشيخ الصدوق في إكمال الدين فكما أن سمعنا موقف المعتمد من الإمام العسكري(علیه السّلام) في حين طلب منه الدعاء له بالبقاء في الحكم، و رأينا موقفه من جعفر بن علي الهادي حین ادّعى الإمامة بعد أخيه، حول التوسط الى الدولة لنيل مأربه.

وبالنسبة للمقتدر فقد كان للشيخ الحسين بن روح محل عظيم عنده، و هذايمكن تفسيره باعتبار جهل المقتدر بتشیعه فضلاً عن سفارته، لما سمعناه من التزامه بالتقيّة والحذر، فكان المقتدر يقرّيه لأجل علمه وسعة اطّلاعه و حضور خاطره جاهلاً بواقعه وحقيقته.

وهذا الاحتمال وإن كان لا يخلو من قوّة في الذهن إلّا أنّ له مضعّفات تأريخيّة و قرائن موهنة له. منها: أنّ المقتدر نفسه حبسه مدّة يسيرة، و منها أنّ الشيخ ابن روح استر مدّة من الزمن(1). ولو كان بالمنزلة الّتي سمعناها مع غضّ النظر عن سفارته لمّا كان هناك موجب لذلك كما هو واضح. وإنّما يحدث ذلك لما قد يبلغ السلطات بشكل غامض و غير مباشر، ما قد يقوم به ابن روح من أعمال بصفته سفيراً عن الإمام المهدي(علیه السّلام) ، وإذ لا يكون للسلطات أي مستمسك ضدّه فانها تغضّ النظر عنه و تطلق سراحه. وعلى أي حال، يكون مسبوقاً في الجملة بذلك.

ومنها: ما إذا ضممنا هذا الموقف من المقتدر إلى موقف المعتمد قبله وموقف الراضي بعده، فانا نحصل على سلسلة من الخلفاء العارفين بالأمر، إلى بعض الحدود، وإن لم يجدوا أي اسلوب معين للوقوف ضدّه أو الحيلولة دونه، ثمّ نسمع بالنسبة إلى الراضي في حادثة أُخرى أنّه ذُكر ابن روح في مجلسه، من قِبَل أحد مؤيّدي الشلمغاني المدّعي للسفارة زوراً.. حين قال عن صاحبه الشلمغاني: إنّه لم يدّعٍ الإلهية، وإنّما

ص: 100


1- الغية، للشيخ الطوسي، ص 183.

ادّعى أنّه الباب إلى الإمام المنتظر مكان ابن روح(1).

فلم يسأله الراضي عن ابن روح هذا، ولم يستفسر منه عن خبره، ومن أين يعرف أنّه كان سفيراً؛ ولو كان الراضي جاهلاً بذلك و محاولاً التنكيل بالسفير لكان يتوجّه بالسؤال إليه، ولكان بيده أوّل مستمسك يدلّه على الإمام المهدي(علیه السّلام) ، فيدلّ ذلك على أنّه كان عالماً به إلى حدِّ ما، بل وعالماً بسفارته عن الإمام المنتظر (علیه السّلام) الّذي أشار الرجل في كلامه.

إذن فالمعتمد و الراضي بل والمقتدر أيضاً على احتمال كبير، كانوا يعلمون بالاتّجاه الّذي يسير فيه خطّ الأئمّة (علیهم السّلام) وبممثّلیه إلى حدِّ كبير.

8. مقدار ارتباط السفراء بقواعدهم الشعبية:

ذكرنا فيما سبق أنّه لم يكن يعرف باسم السفير إلّا من عُرف فيه الإخلاص العظيم والاستعداد للتضحية والفداء وهم الخاصّة الأقلّون بطبيعة الحال.

إلّا أنّ المفهوم من مجموع النقل التأريخي في رواياتنا، أنّ القواعد الشعبية الموالية في بغداد خاصّة، و في العراق عامّة، كانت تعرف - على العموم - فكرة السفارة وكيفية الاتّصال بالسفير ولو بوسائط، وأنّ عدداً مهمّاً من خاصّتهم وعلمائهم، كانوا على اتصال مباشر بهم، وعلى علم بمسؤوليّاتهم.

وقد يقوم جملة منهم بالوساطة بين السفير والمجتمع لإبلاغ توقيعات الإمام المهدي (علیه السّلام) وتوجيهاته إلى الناس.

قال الشيخ الطوسي: وقد كان في زمان السفراء الممدوحين أقوام ثقاة ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل(2).

وقد يرتبط الفرد العادي من القواعد الشعبية الموالية بواحد من هؤلاء الخاصّة،

ص: 101


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 257.
2- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 257.

لقضاء مقصوده عن طريق السفير، من دون معرفته بشخص السفير ولا مكانه ولا عمله الاجتماعي الظاهر، ولا يكون هذا الواسطة على استعداد للتصريح بذلك باعتبار کون الفرد العادي غير قادر على الكتمان ولا على مستوى المسؤولية والإخلاص، وانّه كان لأبي جعفر العمري في بغداد نحواً من عشرة أشخاص، منهم أبوالقاسم ابن روح(رضی الله عنه) كانوا وكلاء على الأموال والتجارات، إلّا أنّ استعمالهم على ذلك إنّما كان للتغطية على الأمر وزيادة الحذر والكتمان، كما هو الحال في السفير نفسه، وفي الواقع كانوا وكلاء في المال و في قيادة قواعدهم الشعبية وأنّ الحسين بن روح كان يلقي بأسراره إلى الرؤساء من الشيعة (1). وكان له وكلاء منهم الشلمغاني قبل انحرافه(2) و آخرین.

يقول الراوي: «كتبت إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح». و من هذا التعبير يظهر وجود واسطة بينه و بين الراوي وذلك لعدم وجود البريد المعروف يومئذ.

فكان الأمر في بغداد والأطراف يجري على هذا النسق، وكانت توزّع تعاليم الإمام المهدي (علیه السّلام) وتجبي الضرائب والحقوق الشرعية بشكل هرمي، يكون السفير قمّته، والوكلاء الخاصّون وسطه والقواعد الشعبية الموالية قاعدته، و ذلك مبالغة في الخفاء والحذر والتستّر.

وأمّا الأطراف البعيدة، فالأمر في مبدأ الغيبة الصغرى، و تحقّق فكرة السفراء، كان مختلفاً عن ذلك إلى حدِّ كبير، فقد كان الأمر عند الكثيرين غامضاً مجملاً.

إنّ الإمام المهدي (علیه السّلام) نفسه أسّس الأساس الرئيسي لإزالة هذا الغموض منذ اليوم الأوّل للغيبة الصغرى، حين ذكر لوفد القميّين أنّه سيعين لهم رجلاً في بغداد تدفع إليه الأموال، وتخرج عنه التوقيعات، فكان لهذا الوفد أثره الكبير في إيضاح الفكرة في

ص: 102


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 227.
2- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 183.

العراق وفي قم و أطرافها إلى حدِّ كبير.

إلّا أنّ الانتشار المطلوب لهذه الفكرة، كان يحتاج إلى عدّة سنوات لا سيّما وهو يعيش جوّ التكتّم والحذر، في كلّ أصقاع البلاد الإسلاميّة، ومن هنا كان الأمر في مبدأ الغيبة الصغرى غامضاً لدى الكثيرين و مبهماً مجملاً عندهم.

فهذا محمّد بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي، يرد العراق شاکّاً بعد وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام) ، باحثاً عن خلفه(1)، وفي الدينور حين أراد أهلها بعد وفاة الإمام بسنة أو سنتين، أن يسلّموا أموالهم إلى أحمد بن محمّد الدينوري ليحملها إلى حيث يجب تسليمها.. فأجابهم یا قوم هذه حيرة ولا نعرف الباب في هذا الوقت.

أنظر كيف أنّه يعرف السفارة وكونها مطبقة في ذلك الحين، و يعرف كونها في بغداد لكونه قصد بغداد بعد ذلك باحثاً عن السفير كما جاء به النقل(2). ولكنّه يعترف بجهله باسم و شخص السفير (الباب) في ذلك الوقت.

وفي مصر، خرج أبو الرجاء المصري، وكان من الصالحين، بعد مضي الإمام العسكري(علیه السّلام) بثلاث سنين، خرج في طلب خَلَفه(3) ، و التعرّف على وظيفته و تكليفه في تلك الفترة.

ومن الطبيعي أن يثور مثل هذا الغبار في أوّل فترة الغيبة الصغرى في المناطق النائية عن المركز، ولكنّه كان ينجلي بالتدريج بعد أن استطاع هؤلاء الباحثون عن الأمر أن يحصلوا على المراد فيعرفوا شخص السفير أو يقابلوا الإمام (علیه السّلام) نفسه أحياناً، فيرتفع شكّهم و يرجعون إلى بلدانهم لكي يبلغوا ما رأوا من الحقّ، مضافاً إلى تبليغ وفد القميّين و ما قام به من جهود، حصل بها اليقين و هدأت لأجلها النفوس.

ص: 103


1- الغيبة، ص 159، والمنتخب، ص 283.
2- بحار الأنوار، ج 13، ص 79.
3- محمّد الصدر، تاریخ الغيبة الصغرى، ص 459.

وحين اتّضح الأمر أصبح النظام الهرمي مطبقاً في الأطراف أيضاً حيث رجع الناس هناك إلى الوكلاء المبثوثين في البلدان و رجع هؤلاء بالمراسلة إلى السفير في بغداد.

المهامّ الأساسية للسفارة

ويمكن أن تُحصر هذه المهامّ والوظائف في أمرين:

الأوّل: تهيئة الأذهان للغيبة الكبرى، و تعويد الناس تدریجاً على الاحتجاب، وعدم مفاجأتهم بذلك، حيث تنتج المفاجأة نتيجة سيّئة لا محالة، إذ قد يؤدّي ذلك إلى الإنكار المطلق لوجود الإمام المهدي(علیه السّلام) .

و من ثمّ رأينا كيف أنّ الإمامين العسكريين (علیهما السّلام) بدءأ الاحتجاب عن الناس تدریجاً، وضاعفه الإمام العسكري (علیه السّلام) على نفسه، كما أنّ الإمام نفسه تدرّج في عمق الاحتجاب.. فكانت فترة السفارة أيضاً إحدى الفترات المرحلية لتهيئة الأذهان لهذا التدرّج.

ومن المعلوم أن هذا الغرض من السفارة يتحقّق بنفس تحقّق فكرة السفارة ووجود السفير في المجتمع ولو بأقلّ ما يقوم به من عمل فضلاً عن اضطلاعه بالمسؤولية بالنحو المطلوب.

الثاني: القيام بمصالح المجتمع بشكل عام، و مصالح القواعد الشعبية الموالية للأئمة(علیهم السّلام) بشكل خاص، تلك المصالح الّتي تفوت بطبيعة الحال بسبب انعزال الإمام واختفائه عن مسرح الحياة وحضوره بشكل علني فيها، شأن أي مصلحة للمجموع تفوت بغياب القائد والموجِّه.

ومن ثمّ جُعلت السفارة، لكي يقود الإمام المهدي(علیه السّلام) برأيه وإن فاتت قيادته بشخصه، ويكون التطبيق بين السفراء في حدود الإمكان وبحسب المصالح والتصرّفات الّتي يراها ويخطّطها الإمام المهدي (علیه السّلام) نفسه وهذا الغرض قد قام به كلّ واحد من السفراء الأربعة خير قيام، حيث اضطلع بحفظ مصالح المجتمع، في حدود الجوّ الخانق، والمراقبة الشديدة والتحفّظ.

ص: 104

الخلاصة

إنّ نشاط وعمل السفراء الأربعة يتّصفان بالوحدة و التشابه حيث إنّ المهمة المناطة بهم كانت واحدة.

فالتمهيد للغيبة الكبرى يُعتبر الهدف الرئيسي من نشاطهم وعملهم وقد كان مرکز عملهم ونشاطهم بغداد، وقد اختاروها بناءً على أمر الإمام المهدي(علیه السّلام) ، وربما وقع الاختيار عليها، لكونها تتوسّط أمصار الدولة الإسلاميّة آنذاك، و لكِبَر مساحتها، وكثرة سكانها، و عليه فيمكن للسفراء إخفاء عملهم و التكتّم عليه فضلاً عن كون بغداد عاصمة الدولة ونقطة التقاء أبناء الدولة فيها، ففي زحمة هذا اللقاء يكون من السهل العثور على السفراء أو التعرف على نشاطهم مع ملاحظة حذرهم وتنبيهات الإمام (علیه السّلام) لهم.

وقد سبق توضيح خصائص هذه الفترة الّتي اشتملت على نقاط تخضّ الوضع العام الدولة والأُمّة - وأخری، خصائص تتعلّق بالإمام (علیه السّلام) وقواعده الموالية له، و صلتهم بسفرائه الأربعة، وبيان أنّ الغالبية من القواعد لم تكن تعرف تفاصيل وضعية السفراء، من حيث طريقة اتّصالهم بالإمام (علیه السّلام) ومكان تواجدهم، ... و ربما مع امتداد فترة الغيبة تعرّف الكثير على وجودهم من قواعدهم، مع أنّ هناك من له علاقة وطيدة بهم من ثقاةالشيعة.

ص: 105

الأسئلة

1. وضّح كيف يتشابه نشاط وعمل السفراء الأربعة بالرغم من اختلاف ظروفهم؟

2. ماهي المهمّة الأساسية للسفارة؟

3. عدّد أربعاً من خصائص فترة الغيبة الصغرى؟

4. ما المقصود بتوقيع الإمام (علیه السّلام) وضّح ذلك؟

5. بيّن کيفية ارتباط السفراء بقواعدهم الموالية؟

6. هل اتخذ بعض السفراء وسائل معينة في التخفّي للتمويه على السلطة؟ وضّح ذلك.

7. لماذا وقع الاختيار على بغداد لتكون مسرحاً لنشاط السفراء الأربعة؟

8.ما هو دور وفد القميّين في إيضاح فكرة الغيبة لدى القواعد الشعبية الموالية؟

ص: 106

الدرس 11: السفارات المزوَّرة

إدّعاء السفارة عن الإمام (علیه السّلام)

ابتليت السفارة عن الإمام المهدي(علیه السّلام) وابتلي السفراء أيضاً، بعد أعوام قلائل من أوّل عهدهم، بدعاوي السفارة كذباً وزوراً، طمعاً في ابتزاز الأموال و تزعّم قيادة الناس.

مناشئ التزوير

إنَّ السفارة الكاذبة في واقعها تشويه للسفارة الصادقة العادلة، ومن هنا جاءت متأخّرة عنها بسنوات؛ وذلك لأنّ القواعد الشعبية الموالية في زمان الإمامين الهادي والعسكري (علیهما السّلام) ، وإن كانت قد اعتادت على وجود السفراء عن الإمام عند احتجابه عن الناس تمهيداً للغيبة الصغرى، إلّا أنّه من المحتمل أن يحتجب الإمام المهدي(علیه السّلام) عن قواعده الشعبية، ولا يوكّل عنه شخصاً على الإطلاق.

وإنّما ثبت عزمه(علیه السّلام) على التوكيل خلال هذه الفترة، عن طريق تصريحه هو(علیه السّلام) و تصريح أبيه الإمام العسكري (علیه السّلام) وأعمال السفراء في إثبات وكالتهم.

فإذا ثبت عزمه(علیه السّلام) على إيجاد الوكالة أو السفارة عنه انفتح باب إمكان دعوی السفارة الكاذبة و تزوير الدعوى بالاتّصال بالمهدي(علیه السّلام) ، خاصّة بعد العلم بالاتّصال به

ص: 107

سرّاً فلا يمكن لأحد الاطّلاع عليه أو السؤال عن مكانه وزمانه، فتكون دعوى الاتّصال به سرّاً بمكان من الإمكان ولن يمني المزوّر بصعوبة وإحراج من هذه الجهة.

حيث يعضده في ذلك عدّة اُمور:

إحداها: ضعف الإيمان لديه و عدم الإخلاص وقابليته للانحراف.

ثانيهما: الطمع بالأموال الّتي يحصل عليها عن هذا الطريق، إذ يتخيّل المزوِّر أنّ الحقوق الشرعية الّتي تدفع إلى السفير الصادق ستدفع إليه.

ثالثهما: السفارة مصدر للشهرة الاجتماعية، والتحكّم في القواعد الشعبيةالموالية للإمام (علیه السّلام) ، وإصدار الأوامر والنواهي فيها بزعم أنّها صادرة عنه(علیه السّلام).

التسلسل التأريخي للتزوير

بدأ التزوير - على ما يدّل عليه تأريخنا الخاّص - في عهد السفير الثاني الشيخ محمّد بن عثمان العمري(رضی الله عنه) ، وأمّا أبوه السفير الأوّل، فقد كان أقوى وأسمى من أن يعارضه معارض، بعد تأريخه المجيد مع الإمامين العسكريّين الماضيين (علیهما السّلام) و ثناؤهما العاطر عليه، وأداؤه لمختلف أنواع الجهاد في عهدهما، وبموجب توجيهاتهما، فلن يكون للظنون أن تحوم وللمطامع أن تظهر أو تثار لمعارضته أو مضايقته، فإنّها ستواجه بالنقد و الإنكار من كلّ جانب.

كما أنّ الظروف لم تكن لتساعد على دعوى السفارة، فإنّ الغيبة الصغرى كانت في بدايتها، و تتبّع السلطات ومطارتهم للمهدي (علیه السّلام) وعائلته ولكلّ من يمتّ إليه بصلة كانت قويّة جدّاً.

وكانت سفارة عثمان بن سعيد جهاداً كبيراً و تضحية عظمى فكيف يعرِّض الشخص نفسه للمطاردة والخطر تلقائياً بانتحال السفارة، على أن التزوير لا يكاد يحتمل وجوده قبل أن يعتاد الناس على هذا النحو من السفارة عن الإمام المهدي(علیه السّلام) ، و هذا الاعتياد كان يحتاج في تحقّقه إلى زمن تعيشه القواعد الشعبية تجاه السفارة الصادقة، وهو ما

ص: 108

لم يتحقّق في أوّل الغيبة الصغرى، وخلال الأعوام القليلة الّتي قضاها عثمان بن سعيد في السفارة.

وقد ظَهَرَ المزوّرون خلال الفترة الطويلة الّتي قضاها السفير الثاني في سفارته، و تأريخنا الخاص، وإن لم يضع الحروف على النقاط من حيث تأريخ التزوير وعدد جهاته إلّا أنّه يدلّ على بدء السفارة الكاذبة في زمان هذا السفير.

لقد ادّعى السفارة زوراً عن الإمام المهدي(علیه السّلام) في زمان أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري(رضی الله عنه) ، عدّة أشخاص، أوّلهم: أبو محمّد الشريعي، قال الراوي: وأظن اسمه كان الحسن و هو أوّل من ادّعی مقاماً لم يجعله الله فيه(1).

ثمّ محمّد بن نصير النميري، ادّعى ذلك الأمر بعد الشريفي(2) وأحمد بن هلال الكرخي(3)، و أبوطاهر محمّد بن علي بن بلال البلالي(4) ، و أبوبكر محمّد بن أحمد بن عثمان المعروف بالبغدادي ابن أخ أبي جعفر العمري(رضی الله عنه) ، و إسحاق الأحمر(5)، و رجل يعرف بالباقطاني(6).

وقد كان بعض هؤلاء صالحين في مبدأ أمرهم و من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (علیهما السّلام) ، ولكن انحرفوا وسلكوا مسلك التزوير فجابههم العمري(رحمه الله) بكلّ قوّة وانتصر عليهم، وخرجت من المهدي(علیه السّلام) التوقيعات والبيانات بلعنهم والبراءة منهم، والتأكيد على كذب سفارتهم وسوء سريرتهم.

وأمّا الشيخ الحسين بن روح السفير الثالث، فقد ابتلى بأشدّهم تأثيراً وأوسعهم

ص: 109


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 241.
2- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 244.
3- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 245.
4- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 245.
5- بحار الأنوار، ج ، ص 79.
6- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 245.

أصحاناً محمّد بن علي الشلمغاني العزاقري(1). وكان في مبدأ أمره مؤمناً مستقيماً، بل وكيلاً لابن روح، ثمّ ظهر انحرافه و سقم عقيدته.

وآخرهم في دعوى السفارة الكاذبة - على ما يظهر من عبارة الشيخ الطوسي هو:

أبودلف الكاتب، حيث كان على ذلك إلى ما بعد وفاة السمري السفير الرابع.

قال الراوي: فلعنّاه و برئنا منه لأنّ عندنا أنّ كلّ من ادّعى الأمر بعد السمري فهو کافر ضالّ مُضِلّ.

بقي شخص ممّن نسبت إليه دعوى السفارة، هو الحسین بن منصور الحلّاج، المعروف بمذهبه الصوفي، وله في هذه الدعوى مكاتبة مع أبي سهل بن اسماعیل بن علي النوبختي إلّا أنّها كانت على المظنون في زمن الحسين بن روح. فهؤلاء هم الّذين قامت حركة التزوير على أيديهم.

الإمام المهدي(علیه السّلام) وموقفه من مدّعي السفارة

اشارة

كان الاهتمام الكبير للإمام المهدي(علیه السّلام) وسفرائه في الوقوف ضدّ هذا التيّار، أكبر من الوقوف ضدّ أي تيار آخر، وذلك لسببين أساسيّين:

أحدهما

أنّ هذا العمل ممّا ينسجم مع سياسة السلطات، فلا يكون منافياً لمسلك الحذر و التكتّم، و حيث كان في ردع القواعد الشعبية الموالية عن هؤلاء المزوِّرين مصلحة کبری ، ولا مانع منه من قبل السلطات، إذن فمن المنطق أن ننتظر ازدیاد نشاط السفراء والوكلاء في ذلك، و تعدد التوقيعات بخصوصه.

ثانيها

و هو الأهمّ والمبتني على قاعدة عامّة في منطق الجماعات البشريّة، هي: أنّ الهدم

ص: 110


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 248.

الناشئ في داخل الجماعة يكون أضرَّ بها و أشد عليها من الهدم الوارد من الخارج، في الأعم الأغلب. بل إنّ المنحرفين في كلّ جماعة يمثِّلون الخط المناوئ جنباً إلى جنب مع الجماعات المعادية الاُخرى.

ومن ثمّ كان المنحرفون عن الإسلام، والمتاجرون باسمه، أشدّ على الإسلام خطراً من الكفّار والمشركين، و أكثر تأثيراً في الابتعاد عنه. و هم - في واقعهم - يد عاملة في مصلحة القوى العالمية المناوئة للإسلام في كلّ زمان.

ولذلك، كان هؤلاء المنحرفون، المدعون للسفارة زوراً، أشد على القواعد الشعبية و أضرّبها - لو استفحل أمرهم - من السلطات المنحرفة لأنّهم يتاجرون باسم الإمام المهدي(علیه السّلام) ، ويدخلون إلى عقول السذج عن طريق مهم معتاد بالنسبة إليهم وهو السفارة عنه وقبض الأموال بالوكالة عنه. ثمّ إنّهم يشيعون من عقائدهم المنحرفة وسلوكهم الباطل ويحاولون التأثير فينفوس الآخرين، تحت هذا الشعار ما يحلو لهم وما يشاءون.

على حين أنّ السلطات لا تملك إلّا الحديد والنار والسجون، ولم تكن هذه الاُمور يوماً بصالحها في القيام ضدّ العقيدة أو التأثير عليها. إذ لا تستطيع أن تدخل إلى أذهان الموالين للأئمة (علیهم السّلام)، عن طريق ديني بأي حال من الأحوال. وليس أدلّ على ذلك، من رفض المعتمد لعمالة جعفر بن علي، حين كان يائساً من تأثيره في فرض عمالته على موالي أخيه(علیه السّلام) .

فكان من الواجب الوقوف ضدّ هذا التيّار الداخلي المنحرف، الّذي كاد أن يبلغ مبلغاً عظيماً، لولا ما بيّنه الإمام المهدي (علیه السّلام) من بيّنات وما قام به السفراء من نشاط مضاعف كبير. إلى جانب شعور الدولة بالمعاداة مع هؤلاء المنحرفين ومطاردتها لهم. ولم يخطر لها أن تستفيد منهم في سبيل هدم الجماعة الموالية و تفریق شملها و تشتيت كلمتها ممّا أوجب تظافر نشاط السّفراء والدولة على حربهم ومطاردتهم.

ص: 111

ولم تكن الدولة بقادرة على جرّهم إلى جانبها و الاستفادة منهم في مصلحتها لعدّة عوامل:

الأوّل: إنّ دعوتهم - على الأغلب . كانت خارجة عن أصل الإسلام بشكل مکشوف وَواضح لدى عموم الناس، بحيث لا يمكنهم التأثير الكبير. ولا ينفعون السلطات حتّى لو أرادوا ذلك.

الثاني: إنّ توقيعات الإمام (علیه السّلام) وموقف سفرائه، كان قوّياً فعّالاً في التأثير علىالجماعة الموالية. بحيث لم يبقَ لهؤلاء المزوِّرين باقية يمكن أن تصلح سنداً للدولة، حتّى لو أرادت استخدامها.

الثالث: كانت الدولة تخاف على قواعدها الشعبية من التشتّت والانهيار. فإنّها كانت قائمة على أساس الالتزام بالإسلام، ومنتفعة في أصل وجودها من شعاراته. فإذا دخلتها الدعوات المنحرفة عنه بشكل علني صريح، كان ذلك مضرّاً بها لا محالة.

الرابع: إنّ الدولة كانت تخاف . في حدود ما تفهم - بأن يؤثّر هؤلاء المنحرفون، بشكل أو بآخر، في صرف بعض قواعدها الشعبية عن مذهبهم وتقريبهم إلى خطّ الأئمّة (علیهم السّلام) ولو باعتبار أنّ هؤلاء المنحرفين يدّعون السفارة عن الإمام المهدي(علیه السّلام) ، وهو القائد الفعلي لذلك الخط. وهو الخطّ الّذي تخشاه السلطات وقد سبقت بعض الشواهد على ذلك(1).

الخامس: كان هؤلاء المنحرفون مشتركين مع خط الأئمّة السفراء، في الشعور بظلم السلطات وعدم الاعتراف بشرعيتها. وهذا الشعور بنفسه يجعلهم يرهبون أن يبيعوا ضميرهم للسلطات ويكرّسوا نشاطهم من أجلها. وهم يشعرون أنّهم سوف لن يحصلوا من القواعد الشعبية أحداً، لو شعر الناس منهم مثل هذا الاتّجاه.

وهذا هو الّذي جعلهم طرفاً للعداء مع السلطات و مع السفراء على حدِّ سواء. ولم

ص: 112


1- اُنظر الكامل، ج 6، ص 87 .

يكن في مستطاعهم، وهم يمثِّلون أضيق الاتّجاهات وأضعفها، أن يحاربوا في جبهتين، ويبذلوا نشاطهم في أكثر من ميدان واحد. ممّا عجّل في خاتمة أمرهم وإنهاء حسابهم، و توفيق الله للأُمّة الإسلامية عموماً والموالين خصوصاً للخلاص منهم.

الخلاصة

ابتليت السفارة ككيان خاص، أُنشئ في مرحلة معيّنة بأمر الإمام المهدي(علیه السّلام) ، بافتراءات المفترین، وادعاءات المدّعين، وقد ساعد في ذلك الظروف الخاصّة المحيطة بكتمان وجود الإمام المهدي (علیه السّلام) و وضعيّة السفراء: خلال هذه الفترة من تاريخ الشيعة، حيث كانت السلطات تبحث عن الإمام (علیه السّلام) وشیعته يواجهون الاضطهاد والمطاردة.

وقد ظهر جماعة من المدّعين للسفارة والنيابة عن الإمام(علیه السّلام) ، غير أنّ جهود السفراء وما كان يصدر عن الإمام (علیه السّلام) أفشلت تلك المحاولات وحدّت من تأثيرها بين الجماعة الصالحة، وكانت هناك جملة من الأسباب كالطمع والجاه أو ربّما تحریفی السلطات أدّت إلى ظهور مثل هؤلاء الأشخاص، ومع كلّ ذلك كانت محاولاتهم يائسة، وفاشلة والراجح أنّ تاریخ ظهور السفارة الكاذبة وادّعائها كان بعد وفاة السفير الأوّل و قیام ولده محمّد بن عثمان مقامه، في أداء شؤون السفارة.

ص: 113

الأسئلة

1. وضّح أسباب إدّعاء السفارة المزوّرة؟

2.كم شخصاً ادعى هذه السفارة؟

3. ما هو التسلسل التأريخي لتزوير السفارة؟

4. ما هو دور السفراء في إفشال مخطّطات مدّعي السفارة؟ .

5. ما هو موقف الإمام المهدي (علیه السّلام) من مدّعي السفارة؟

6 . لماذا كان موقف الإمام (علیه السّلام) و سفرائه شديداً تجاه هذا الانحراف و مدّعیه؟

ص: 114

الدرس 12 : تفاصيل أعمال السفراء (1)

اشارة

سبق أن تطرّقنا إلى نشاط السفراء، بنحو عام لأنّهم لا يتميّزون في الأساليب باعتبار أنّ تحرّكهم كان وفقاً لتوجيهات الإمام المهدي (علیه السّلام) وكون ما يستقلّ به بعض السفراء من خصائص يعود إلى اختلاف المصالح الّتي كان يراها الإمام المهدي (علیه السّلام) في ذلك. بحيث لو كان السفير الآخَر في محلّه لقام بنفس العمل لا محالة، و أمّا تفاصيل أعمالهم فيكون الحديث عنه ضمن النقاط التالية:

النقطة الأولى

إقامة الحجّة على إثبات صدقهم فيما يصدر عنهم من أجل توثيق الصادر عنهم، و تقوية الرابطة بينهم وبين قواعدهم الشعبية الموالية.

ويتّضح ذلك للقواعد من خلال:

1. كون السفير صادقاً أميناً ورعاً تقيّاً، ويتمّ ذلك عن طريق التعامل والتعايش معه، من خلال مخالطته للناس وهو ما يصطلح عليه بالسلوك اليومي والاعتيادي له، أي وثاقة السفير في نفسه بحسب التجربة الّتي يعيشها مع الناس.

ومدحُ الأئمة (علیهم السّلام) للسفير الأوّل والثاني، وما صدر من توقيعات عن الإمام المهدي (علیه السّلام) في السفراء، توثيقاً ومدحاً يعتبر عاملاً مهمّاً في حصول ذلك..

ص: 115

2. إفحام مدّعي السفارة زوراً وإظهار كذيهم والقصص التالية توضّح لنا مدى ارتباط السفراء بالإمام (علیه السّلام) وأنهم لا يقولون ولا يفعلون أمراً إلّا عنه.

فمن ذلك: ما قاله الحسین بن روح للراوي الّذي ناقشه في بعض الاُمور العقائدية، فغدا عليه من الغد وهو يقول في نفسه: أتراه ذكر لنا يوم أمس من عند نفسه؟.. فابتدأه ابن روح، قائلاً: يا محمّد بن إبراهيم لئن أخِرّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق، أحبّ إليّ من أن أقول في دين الله برأيي و من عند نفسي. بل ذلك من الأصل و مسموع من الحجّة صلوات الله وسلامه عليه(1).

انظر كيف اقترنت أمور ثلاثة أنتجت نتيجة واضحة. أحدها: شكّ المخاطب. والآخر: التأكيد الّذي ذكره ابن روح في كلامه، والثالث: أنّ ابن روح ابتدأه بالكلام بما في نفسه قبل أن يعرب عنه وهو خرق للنواميس الطبيعية، وعلم الغيب ببعض مراتبه. و بذلك ارتفع شکّه، ولم يكن شکّه ليرتفع دون ذلك.

ومن ذلك أيضاً: أنّ ابن روح (رضی الله عنه) ، تكلّم مع امرأة من أهل آبة، بلغة قومها. فإنّها جاءت تحمل معها ثلاثمائة دينار لكي تسلّمها إلى السفير، و استصحبت معها مترجماً ليكون واسطة في التفاهم بينهما ولكن أبا القاسم بن روح أقبل عليها وتكلّم معها بلسان أبي فصيح بالدِئاً بسؤال أحوالها و حال صبيانها. فاستغنت عن المترجم، وسلّمت المال، و رجعت(2).

اُنظر لهذه الحجة الّتي تزيل ما قد يكون علق في قلب هذه المرأة الوافدة من الشك، أو من ثقل المسؤولية بدفع المال إليه.

ومن ذلك إخبار السري بوفاة علي بن الحسين بن بابويه القمي حيث كتب

ص: 116


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 199.
2- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 195.

المشايخ تأريخ ذلك اليوم، فورد الخبر أنّه توفّي في ذلك اليوم(1).

ومن ذلك أيضاً: أنّ أباجعفر العمري أخرج إلى محمّد بن متیل، ثویبات معلَّمَة و صُرَر فيها دراهم. وقال له: تحتاج أن تصير نفسك إلى واسط في هذا الوقت، و تدفع ما دفعته إليك إلى أوّل رجل يلقاك عند صعودك من المركبفي واسط(2). وبعد أن ينّفذ ابن متيل هذا الأمر يرى الشخص المقصود، كما وصفه العمري، ويظهر له من تضاعيف الحادثة أنّ صرّة الثياب هي كفن لمحمد بن عبيدالله الحائري، و صرّة الدراهم کراء الحمّالين و الحفّار.

ومن ذلك: أنّ الشلمغاني بعد انحرافه و تزویره، أرسل إلى الشيخ الحسين بن روح يسأله أن يباهله. وقال: أنا صاحب الرجل - يعني الإمام المهدي (علیه السّلام) -، وقد اُمرت بإظهار العلم. وقد أظهرته باطناً وظاهراً. فباهلني. فأنفذ إليه الشيخ (رضی الله عنه) في جواب ذلك: أيّنا تقدّمَ صاحبَه فهو المخصوم. فتقدّم العزاقري (وهو الشلمغاني)، فقُتل و صُلب. وأخذ معه ابن أبي عون. و ذلك في سنة 323ه(3).

النقطة الثانية

المساهمة في إخفاء المهدي(علیه السّلام) وهو ما كان كلّ واحد من السفراء يكافح في سبيله و يؤكّد عليه. وكيف لا، وهو على مستوى المسؤولية الّتي عبّر عنها بعض الخاصّة من معاصريهم بأنّه لو كان الحجّة تحت ذیله و قرض بالمقاريض ليكشف الذيل عنه، لما كشفه .

فمن ذلك: أنّ عبدالله بن جعفر الحميري وأحمد بن إسحاق الأشعري وهما من أجلاء علماء الأصحاب و خاصّة الموالين لخط الأئمة (علیهم السّلام) طلباً من أبي عمرو عثمان

ص: 117


1- الغيبة، ص 242 و منتخب الأثر، ص399 .
2- منتخب الأثر، ص 396 وإكمال الدين، المخطوط.
3- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 187.

بن سعيد السفير الأوّل أن يخبرهما عن اسم الإمام المهدي (علیه السّلام) قال: نهينم عن هذا.

وخرج التوقيع من المهدي(علیه السّلام) إلى محمّد بن عثمان العمري السفير الثاني(رضی الله عنه) ابتداءً من غير مسألة: ليُخبر الذين يسألون عن الاسم: إمّا السكوت والجنة، وإمّا الكلام والنار. فإنّهم إن وقفوا على الاسم أذاعوه. وإن وقفوا على المكان دلّوا عليه(1).

فهو(علیه السّلام) يأمر سفيره أن يخبر اُولئك الفضوليين الذين يسألون عن الاسم.. انّهم مأمورون بالسكوت. فإنّهم إن تقدّموا بشيء في هذا السبيل، فالنار مثواهم و بس المصير.

وقد أُثيرت هذه التساؤلات في الأغلب، في السنوات الاُولى من فترة الغيبة، وهذا ملحوظ ممّا نقلناه من أنّ التحریم صدر بنحو ملحوظ عن السفيرين الأوّل والثاني، ولم يصدر من السفيرين الأخيرين شيء ملحوظ في ذلك.

وعلى أي حال، فقد كان المتسائلون يغفلون أو يتناسون التبليغات القديمة من الأئمة الماضين (علیهم السّلام) . كقول الإمام الهادي(علیه السّلام) إنّكم لا ترون شخصه ولا يحلّ ذكره باسمه. قال الراوي: فقلت فكيف نذكره؟ فقال: قولوا: الحجّة من آل محمّد

(صلّی الله علیه وآله وسلّم)(2).

وقول الإمام الصادق(علیه السّلام) : صاحب هذا الأمر لا يسمّيه باسمه إلّا كافر(3).

وإن أباجعفر العمري(رضی الله عنه) ، حين رأى أنّ أباطاهر بن بلال، وهو أحد مدّعي السفارة زوراً، يحتكر الأموال الّتي للإمام (علیه السّلام) ولا يدفعها إلى سفيره الحقّ، اصطحبه وأدخله إلى بعض دوره. يقول أبوطاهر: فأشرف علي من علوّ داره فأمرني بحمل ما عندي من المال إليه. فقال له أخوه: و من أين علمت أنه صاحب الزمان؟ قال: قد وقع عليّ من الهيبة له ودخلني من الرعب منه ما علمت أنّه صاحب الزمان(4).

ص: 118


1- الغيبة للشيخ الطوسي ص 222.
2- الكافي، ج 1، ص391.
3- الكافي، ج 1، ص 392.
4- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 246.

فكان المهدي(علیه السّلام) - فيما تدلّ عليه هذه الرواية - يرى المصلحة في أن يقابل المدّعي المزوّر وجهاً لوجه، ويأمره بدفع الأموال وعدم احتكارها. فكان أن ذهب به السفير إلى بعض دوره، و تمّت المقابلة هناك. وكانت المقابلة قصيرة ورهيبة بالنسبة إلى هذا المزوِّر.. وهو يعلم بكذب نفسه، و سوء تصرّفه.

والطريف في أمره أنّه اضطر إلى الاعتراف بعدم معرفته بصاحب الزمان المهدي(علیه السّلام) شخصياً، بالرغم من أنّه يدّعي السفارة عنه. وهذا يدلّ بكلّ وضوح على كذبه وإفحامه.

النقطة الثالثة

التزام السفراء بالتكتّم والحذر. وقد سبق أن عرفنا هذا المسلك، وحملنا فكرة كافية عن أسبابه ونتائجه ، و غایتنا في هذه النقطة أن نعرض أمثلة من ذلك، في حدود ما وردنا من التأريخ.

فمن ذلك: ما سمعناه من أن أباجعفر العمري(رحمه الله) . وقد كان الأمر رهيباً جدّاً والسيف يقطر دماً.. كان يتسلّم الأموال الراجعة إلى الإمام(علیه السّلام) من أصحابها بصفته تاجراً من التجّار، ولا يدفع بها وصلاً لئلا يتسرّب إلى السلطان.

وحين آلت السفارة إلى الحسين بن روح بعد وفاة العمري، ازداد تمسكاً بالحذر والكتمان، إلى حدّ إظهار التدين بمذهب أهل السنّة والجماعة والدفاع عنه. وقد سمعناه يظهر تأخير أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السّلام) في الأفضلية عن جميع الخلفاء الراشدين الثلاثة.

ولم يكتف ابن روح باظهار ذلك، بل شمل لطفه و عطفه معاوية بن أبي سفيان أيضاً.. فقد بلغه أنّ بوّاباً قد لعن معاوية و شتمه فأمر بطرده و صرفه عن خدمته. قال الراوي: فبقى مدة طويلة يسأل في امره. فلا والله ما ردّه إلى خدمته(1).

ص: 119


1- الغيبة، الشيخ الطوسي، ص 237.

إنّ ابن روح لم يمدح معاوية.. ولكنّه في نفس الوقت لا يرى من صالح عمله كسفير عن الإمام المهدي(علیه السّلام) ، وجود من يلعن معاوية في بيته أو عند بابه.. حتّى لا يكون هذا مستمسكاً ضدّه عند الدولة في يوم من الأيام.

وكان يستعمل نفس هذا الاسلوب مع سائر الناس ما عدا من يعلم بإخلاصه و قوّة إيمانه. حتّى انه كان عشرة ذاهبين إلى ابن روح تسعة يلعنونه وواحد يشكّك، فيخرجون من عنده، تسعة يتقرّبون إلى الله بمحبّته وواحد واقف(1).

النقطة الرابعة

إخراج توقيعات الإمام المهدي(علیه السّلام) وحل المشاكل وتذليل العقبات الّتي قد تصادف بعض قواعدهم الشعبية في طريقها.

وفي الحقيقة أن المشكلات إنّما تحلّ والحاجات إنّما تقضى نتيجة لتعاليم الإمام المهدي (علیه السّلام) الواردة في توقيعاته، ومن هنا يعتبر التوقيع عملاً من أعماله، وإن استند إلى السفير باعتبار إظهاره والعمل على تطبيقه.

ونحن إذا لاحظنا أثر التوقيعات من الناحية الاجتماعية في حل المشاكل وقضاء الحاجات، نراها تندرج ضمن عدّة اُمور:

الأمر الأوّل: حل المشاكل العائلية، و تحويل الأُسرة إلى أُسرة سعيدة

فمن ذلك: أنّ زوجاً حمل زوجته إلى بيت أبيها، فأقامت فيه سنين لايسمحون لها بالرجوع إلى منزل زوجها، وكانت لا تجدي محاولات الزوج في ذلك، ثمّ إنّه أتی بغداد وسأل الدعاء من الإمام عن طريق الحسين بن روح. فخرج التوقيع: «والزوج والزوجة فأصلح الله ذات بينهما». فسهّل الله له نقل زوجته بأيسر كلفة، وأقامت معه سنین كثيرة و أنجبت منه أولاداً.

قال الزوج (وهو الراوي): و أسأت إليها إساءات استعملت معها كلّ ما لا تصبر

ص: 120


1- المصدر، ص 238.

النساء عليه، فما وقعت بيني وبينها لفظة شرّ ولا بين أحد من أهلها إلى أن فرّق الزمان بيننا(1).

الأمر الثاني: تيسير الشفاء لأمراض قد أزمنت وطال علاجها فمن ذلك: أنّ شخصاً خرج به ناسور، فعرضه على الأطباء و أنفق في التداوي عليه مالاً. فلم يجد فيه شيئاً، فكتب رقعة إلى الإمام (علیه السّلام) يسأل فيها الدعاء. فخرج التوقيع إليه قائلاً: «ألبسك الله العافية و جعلك معنا في الدنيا والآخرة». .

يقول: فما أتت عليّ جمعة حتّى عوفيت، وصار الموضع مثل راحتي، فدعوت طبيباً من أصحابنا و أريته إيّاه. فقال: ما عرفنا لهذا دواء. وما جاءتك العافية إلّا من الله بغیر احتساب(2).

الأمر الثالث: طلب الولد. فمن ذلك: أنّ علي بن الحسين بن موسی بن بابويه القمي، أرسل إلى أبي القاسم بن روح بواسطة أبي جعفر محمّد بن علي الأسدي، يسأل الإمام (علیه السّلام) أن يدعو له أن يرزقه ولداً ذكر. فسأله أبوجعفر الأسدي لابن بابویه ولنفسه. فأخبره ابن روح بعد ذلك بثلاثة أيام: أنّه(علیه السّلام) قد دعا لابن بابویه و انّه سيولد له ولد مبارك ينفع الله به، و بعده أولاد. ولكنّه لم يدع له وقال: ليس إلى ذلك من سبيل. فلم يولد له(3).

الأمر الرابع: سؤال الدعاء المهام الاُمور: فمن ذلك: أنّ القاسم بن العلا، وهو من الوكلاء في آذربيجان، وُلد له عدّة بنين فكان يكتب إلى المهدي(علیه السّلام) يسأل الدعاء لهم. فلايجاب بشيء في أمرهم. فماتوا كلّهم فلمّا ولد له ولده الحسين، كتب يسأل الدعاء له. فأجيب إلى ذلك. و بقي ابنه في الحياة (4).

ص: 121


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 186 و 197.
2- الارشاد، ص 332.
3- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 195 و 188.
4- الإرشاد ص 331.

الأمر الخامس: الاستئذان بالسفر. فمن ذلك: أنّ رجلاً يمانيّاً كان في بغداد، فأراد أن يخرج مع قافلة يمنيّة متهيّئة للخروج. فكتب يستأذن في الخروج. فخرج التوقيع قائلاً: لا تخرج معهم فليس لك في الخروج معهم خِيَرَة. وأقم بالكوفة فامتثل الأمر وأقام بالكوفة.

وخرجت القافلة متوجّهة إلى اليمن فخرجت عليهم بنو حنظلة فاجتاحتهم و استأصلتهم.

فكتب هذا الرجل اليماني يستأذن في ركوب البحر، فلم يؤذن له، فبقي متطلّعاً سائلاً عن أخبار المراكب الّتي خرجت في تلك السنة. فعرف بعد ذلك أنّها جميعاً قد غرقت و تقطّعت من الرياح البوارح، ولم يسلم منها مركب(1).

الأمر السادس: الاستئذان بالخروج إلى الحجّ. فمن ذلك: أنّ رجلاً من بني نوبخت عزم على الحجّ في إحدى السنين و تأهّب له. فخرج إليه من المهدي(علیه السّلام) خطاب يقول:

نحن لذلك كارهون فاغتمّ الرجل وضاق صدره. وكتب إلى الناحية: أنا مقيم على السمع والطاعة، غير أنّي مغتمّ بتخلّفي عن الحجّ. فخرج إليه الجواب: لا يضيقنّ صدرك، فإنّك تحجّ من قابل. فلمّا كان من قابل - أي السنة الآتية - كتب الرجل يستأذن، فورده الإذن. فكتب إلى الناحية: إنّي عادلت محمّد بن العبّاس وأنا واثق بديانته وصيانته. فورد الجواب: الأسدي نعم العديل فإن قدم فلا تختر عليه. قال الراوي: فقدم الأسدي فعادلته(2).

انظر كيف يتوخّى الإمام المهدي (علیه السّلام) مصالح أصحابه و مواليه ويذلّل مشاكلهم ويحلّ مصاعبهم بسعة صدر وانفتاح على الحوادث.

الأمر السابع: طلب الناس تزويدهم بأكفان و حنوط. فمن ذلك ما كتب، محمّد بن

ص: 122


1- الإرشاد، ص 332.
2- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 257.

زیاد الصيمري يسأل المهدي (علیه السّلام) كفناً. يتيمّن بما يكون من عنده، فورد الجواب: إنّك تحتاج إليه سنة إحدى وثمانين. فمات - رحمه الله تعالى - في الوقت الّذي حدّده و بعث إليه بالكفن قبل موته بشهر(1).

الأمر الثامن: تحذير الوكلاء من السلطات. فإنّه خرج إلى الوكلاء في بعض الأيّام أمر بأن لا يأخذوا من أحد شيئاً وأن يتجاهلوا بالأمر. فلم يعلم الوكلاء السبب وكان السبب أن وصل إلى مسامع عبدالله بن سليمان الوزير، وجود وکلاء للمهدي (علیه السّلام) في بغداد و غيرها من النواحي. فهَمَّ بالقبض عليهم، فنصحوه أن يرسل لكل وكيل شخصاً يدّعي أنه له مال يدفعه للإمام. فمن قَبَضَ من الوكلاء شيئاً قَبِضَ عليه.

ص: 123


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 181.

الخلاصة

إنّ الحديث عن تفاصيل نشاط السفراء الأربعة يلقي لنا ضوءاً على

جهادهم وحركتهم الواسعة وآثارها الإيجابية على القواعد الشعبية الموالية كما يوضّح لنا مكانة السفراء العلمية و دورهم الجهادي على المستويات المختلفة سواء ما كان يخص الإخلاص والحرص في نقل ما يصدر عن الإمام (علیه السّلام) لمواليه أو ما ينقلونه من القواعد إلى الإمام (علیه السّلام) أو ما يخصّ التكتّم والسرية في كلّ ذلك. ثمّ نجد أنّ بعض السفراء يؤكّد أن لا يقول أو يفعل شيئاً إلّا أن يكون ذلك بعلم الإمام (علیه السّلام) وإذنه ولا يحقُّ له أن يتحدّث من عنده.

وكان لوعيهم العقائدي والاجتماعي أثر بارز في إنجاح مهنتهم، فضلاً عن توثيق الإمام (علیه السّلام) لهم ومدحه وإطرائِه لأمانتهم من دور في تمسّك القواعد بهم والأخذ عنهم.

الأسئلة

1. بين دور السفراء في إخفاء وجود الإمام (علیه السّلام)؟

2. بيّن الجهاد العلمي للسفراء؟

3. اذكر مورداً واحداً يوضّح مساندة الإمام (علیه السّلام) للسفراء في حل مشكلة تتعلّق بشخص ادّعي السفارة؟

4. وضّح أثر التوقيعات في تماسك و ترابط القواعد الشعبية بالسفراء.

5. هل صدرت توقيعات حول تحذير السفراء من السلطة وضّح ذلك؟

ص: 124

الدرس 13: تفاصيل أعمال السفراء (2)

النقطة الخامسة

قبض السفراء للأموال وتوزيعها وإيصالها إلى حيث يجب دفعها. وهو من واضحات وظائفهم ومهمّات أعمالهم، بصفتهم حلقة الوصل بين الإمام وقواعده الشعبية، و تتمثّل هذه الأموال بما يملكه الإمام من الحقوق الشرعية الإسلاميّة في أموال الناس.

إنّ الموالين لخط الأئمة (علیهم السّلام) ، كانوا يحملون من أطراف البلاد الإسلاميّة هذه الأموال إلى الأئمة (علیه السّلام)، وكانت الوفود تفد إليهم حاملة الأموال والأسئلة فتسلّم الأموال إليهم وتستقي منهم أجوبة المسائل و حل المشاكل.

وكان الإمام(علیه السّلام) في أوّل مقابلة للوفد يصف المال قبل قبضه و یذکر جنسه و کمیّته و من دفعه و غير ذلك. إلزاماً للحجّة تجاه الوفد فإذا علم الوفد بإمامته، وورد عليه في السنوات الاُخرى حاملاً له بعض الأموال لم يحتج إلى ذلك.

واستمرّت الوفود تصل بالأموال إلى السفراء من بعيد، إلى جانب أموال اُخرى يحملها الأفراد من قريب إليهم. و يكون من وظيفة السفراء إزاء ذلك - حين يتسلّمون المال - أن يصفوهُ أيضاً ويذكروا خصائصه؛ لأجل إقامة الحجّة على الآخرين، وإثبات

ص: 125

صدق السفير. و ذلك بتعليم من الإمام المهدي(علیه السّلام) .

فمن ذلك: أنّ محمّد بن إبراهيم بن مهزيار سلّم مالاً جليلاً إلى رسول الإمام (علیه السّلام) بدلالة الوصف(1) ودفع أحمد بن محمد الدينوري إلى وكيل المهدي(علیه السّلام) ستّة عشرألف دینار من أهل الدينور، دفعها بدلالة الوصف أيضاً(2).

وظاهر بعض الروايات، أنّ الأموال كانت تحمل في السنوات الأُولى من الغيبة الصغرى إلى سامرّاء حيث يكون من يقبضها هناك ويسلّمها إلى المهدي(علیه السّلام) . وذلك بدلالة من السفير نفسه. كما فعل أبو جعفر العمري مع الدينوري المشار إليه (3).

فهذا هو حال قبض الأموال من قبل وكلاء الإمام المهدي(علیه السّلام) وسفرائه ثمّ لا يهمّنا أن نفكّر في أنّ هذه الأموال هل تبقى لدى السفراء أم تُدفع إلى المهدي(علیه السّلام) . لأنّها على أي حال تكون تحت إشرافه و رهن تعليماته فإنّها إن دفعت إليه مباشرة فهو غاية المطلوب، وإن بقيت في يد السفير، فلا مانع منه فإنّ يد الوكيل مثل يد الأصيل.

النقطة السادسة

الجهاد العلمي للسفراء. حول المناقشات العقائدية و حلول المشاكل العلمية الّتي كان يقوم السفراء بها، سواء من ذلك ما كان لتوجيه أصحابهم وصقل أفكارهم، أو لأجل الاحتجاج ضدّ الشبهات الّتي كان يثيرها الآخرون، والدفاع عن الحقّ بلسان مخلص سليم.

ونقصد بالجهاد العلمي التوجيهات والمناقشات الّتي يذكرها أحد السفراء الأربعة، من عند أنفسهم، باعتبار ما يعرفونه من الحقّ. في حدود تعاليم الإمام المهدي (علیه السّلام) ومسلكهم العام.

ص: 126


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 171.
2- البحار، ج 13، ص 79.
3- البحار، ج 13، ص 79.

ويندرج في ذلك، ما سمعناه عن السفير الأوّل في النهي عن التصريح باسم الإمام المهدي(علیه السّلام) ، و الشكوى من جور السلطات و سطوتهم.

وللشيخ ابن روح مناقشات عديدة، فمن ذلك مناقشته لبعض المتكلّمين المعروف بتُرك الهروي، في فضل الزهراء على سائر بنات النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) . حتى قال الهروي: فما رأيت أحدة تكلّم و أجاب في هذا الباب بأحسن ولا أوجز من جوابه(1).

ومن ذلك مناقشته لرجل حول مقتل الإمام الحسين (علیه السّلام) بِيَد أعداء الله عزّوجلّ. وقد أجابه بجواب مطوَّل، أكّد فيه أنّ حكمة الله عزّوجلّ قد جرت في أنّ أنبيائه وأوليائه يكونون في حال غالبين واُخرى مغلوبين وفي حال قاهرين واُخرى مقهورين. ولو جعلهم عزّوجلّ في جميع أحوالهم غالبين و قاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم لاتّخذهم الناس آلهةً من دون الله عزّوجلّ، ولما عُرف فضل صبرهم على البلاء والاختبار.

وحين شکَّ الراوي في أنّ هذا الكلام، هل قاله من عنده أم هو من تعاليم الإمام المهدي(علیه السّلام) ، قال له ابن روح: یا محمّد بن إبراهيم؛ لأن أخرّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح من مكان سحيق أحبّ إليّ من أن أقول في دين الله برأيي و من عند نفسي بل ذلك من الأصل و مسموع من الحجّة صلوات الله وسلامه عليه(2).

و من تعاليمه(رحمه الله)، ما قاله لأحمد بن محمّد الصفواني: أنّ يحیی بن خالد سمَّ موسی بن جعفر(علیه السّلام) في إحدى وعشرين رطبة ومات بها. وأنّ النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) والأئمة (علیهم السّلام)، ما ماتوا إلّا بالسيف أو السمّ. وقد ذكر عن الرضا(علیه السّلام) أنّه سُمّ وكذلك ولده وولد ولده(3).

ص: 127


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 239.
2- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 119 والاحتجاج، ص 288.
3- الغيبة للشيخ الطوسي، ص 239.

حياة الإمام المهدي(علیه السّلام) في الغيبة الصغرى

1.صفته

كان سلام الله عليه يوم وفاة أبيه، حين رآه الناس يصلّي على أبيه.. صبيّاً، بوجههِ سمرةٌ، بشعرهِ قطط، بأسنانه تفلیج .

ثم وصفه من رآه بعد ذلك خلال غيبته الصغرى، بأنّه شابّ حسن الوجه طيّب الرائحة، هيوب؛ و مع هيبته متقرّب إلى الناس. قال الراوي: فتکلم، فلم أرَ أحسن من كلامه ولا أعذب من منطقه في حسن جلوسه(1).

وفي رواية أُخری: إنّه شابّ أسمر لم أرَ [أحداً] قط في حسن صورته واعتدال قامته(2).

وفي رواية ثالثة: فتی حسن الوجه طيّب الرائحة يتبختر في مشيته(3).

وفي رواية رابعة: أنه ليس بالطويل الشامخ ولا بالقصير اللأزقّ بل مربوع القامة مدوّر الهامة صَلت الجبين أزجُّ الحاجبين، أقنى الأنف، سهل الخدّين. على خدّه الأيمن خال(4) . إلى غير ذلك من الروايات(5).

ونسمع من سفيره محمّد بن عثمان(رحمه الله) ، حين سُئل عن رؤيته للمهدي(علیه السّلام) ..يصف عنقه في حسنه و غلظه، فيشير بيده و يقول: وعنقه هكذا(6) أو قال: ورقبته مثل هذا(7).

ص: 128


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 152.
2- المصدر، ص 153.
3- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 159.
4- المصدر، ص 161.
5- اُنظر المصدر أيضاً ص 156، 163 و 182.
6- المصدر، ص 215.
7- المصدر، ص219.

وإنّما أكّد على صفة عنقه ليدلّ على صفة الرجولة فيه، وأنّه لم يبق كما عهده الناس في حياة أبيه صبيّاً صغيراً، أو غلاماً عشارياً عليه رداء تقنّع به(1).

وفي زمان العمري السفير الثاني، حاول شخص أن يقابل المهدي (علیه السّلام) فوفّر له العمري فرصة المقابلة. فرآه شاباً من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة.

ثمّ وُصِفَ لباسه حال الإحرام للحجّ: بأنّه(علیه السّلام) يحضر الموسم كلّ سنة، يرى الناس ويعرفهم ویرونه ولا يعرفونه(2) . و يكون في أثناء حجه متّزراً ببردة و متّشحاً بأخرى، وقد عطف بردائه على عاتقه، شأنه في ذلك شأن كلّ حاجّ مُحرِم يلبس ثياب الإحرام. وفي رواية أخری عليه إزاران(3) .

2.مكانه و تنقّلاته

كان حال حياة أبيه (علیهما السّلام) في سامرّاء. دلّت على ذلك جميع الروايات الناقلة لمشاهدته في تلك الفترة. و من الطبيعي أن يبقى في سامرّاء یوم وفاة أبيه حيث يصلّي عليه و يقابل وفد القميّین، ليحوّلهم على بغداد، حيث يعيّن لهم سفيراً.

ويبقى في سامرّاء ردحاً من السنين بعد ذلك، كما تدلّ عليه حوادث تحویل السفيرين الأوّلين بأموال الوفود إلى سامرّاء. ويدلّ عليه أيضاً بعض مقابلاته هناك، ويدلّ عليه أيضاً ما قامت به السلطات من المطاردة له و الكبس على داره في سامرّاء من قبل المعتمد والمعتضد، حيث يكون(علیه السّلام) موجوداً هناك ولكنّه كان يستطيع التخلّص. إذن فهو إلى زمان خلافة المعتضد الّتي تولّاها عام 279 ه كان ساكناً في دار أبيه في سامرّاء فلو فرض - كما هو المظنون - أنّ الكبس الّذي أمر به المعتضد كان في أوّل سنة من خلافته، فمعنى ذلك أنّ المهدي(علیه السّلام) بقي هناك

ص: 129


1- المصدر، ص 155.
2- المصدر، ص 221 .
3- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص156.

تسعة عشر سنة بعد وفاة أبيه (علیه السّلام).

وقد أبعد المهدي (علیه السّلام) عن نفسه كلّ الآثار، وكل ما يلفت النظر ويثير الشك، وکلاوه أصبحوا بعيدين عنه، لكي لا يوجّهوا الأنظار إليه أوّلاً، ولكي يعيشوا في قلب الحوادث الاجتماعية شأن كلّ من يريد أداء الخدمة الصالحة لمجتمعه و اُمّته، ثانياً. ولكي يبعدوا هم بدورهم عن مراقبة الدولة وعاصمة الملك حال كونها في سامرّاء خلال هذه التسعة عشر سنة ثالثاً.

أمّا هو فلاينبغي أن يعيش الحوادث ولا أن يختلط بالناس. بل يبقى بعيداً يكتفي بسماع الأخبار والاطّلاع على الآثار، يعيش هموم الاُمّة الإسلاميّة. حتى تهدأ الثائرة ويندمل الجرح و تخف المطاردة، ويمضي الردح الأوّل من الغيبة الصغرى ليستطيع بعد ذلك أن يقوم بعمل جديد.

والمتتبّع لخروج التوقيعات والبيانات عن الإمام المهدي(علیه السّلام) خلال الفترة الاُولى من غيبته، يرى بوضوح قلّتها وندرتها. إلى حدّ لا يكاد ينقل عن السفير الأوّل، بل السفير الثاني في أوّل سفارته توقیع ذو أهمية، إلّا في حدود قليلة وعند الحاجة الكبيرة. وما ذلك إلّا لأنّ الحاجة إلى الحذر كانت في هذه الفترة الزم، والبعد بين المهدي (علیه السّلام) وسفرائه من حيث المكان كان أكثر.

وحين تنتهي هذه الفترة الحرجة، ولا يزال محمّد بن عثمان سفيراً في ذلك الحين، تنفتح له(علیه السّلام) ، فرصة جديدة في الخروج والتجوّل بنحو لا يمكن أن يعرفه الناس ولا أن يشار إليه بحقيقته. فإنّ أكثر الناس لم يروه في حياة أبيه. و من رآه منهم كان قد رآه طفلاً أو صبيّاً والآن قد أصبح شاباً وسيماً، فلا تكاد ملامحه أن تكون محفوظة معروفة بعد مرور هذه الفترة. على أنّ جيلاً من الناس قد مات و جيلاً واجه الحياة من جديد، وهو لا يعرف من شكل المهدي (علیه السّلام) شيئاً. وكلّما طالت المدّة ابتعدت صورته عن أذهان.

و من هنا انفسحت للمهدي (علیه السّلام) فرصة جديدة، لأن يدخل بغداد لنراه تارة بزيّ

ص: 130

التجّار(1) . و أخرى آمراً محمّد بن علي بن بلال، أن يدفع ما لديه من الأموال إلى سفيره العمري(2). و أصبح يحضر موسم الحجّ في كلّ عام، ماشياً(3). بل أصبح يخالط الحجّاج من خواصّه و يحدّثهم (4) ويعلّمهم الأدعية ويعطيهم التعليمات (5). بل إنّه ليكشف حقيقته أمام البعض إذا اقتضت المصلحة ولم يكن في ذلك خطر(6). وكان يسكن خلال فترة الحجّ في تلك الديار المقدّسة. ومن هنا سنرى أن جملة من مقابلاته تمّت هناك، من قِبَل الباحثين عنه المريدين للتشرّف بلقائه.

وكما يذهب إلى الحجّ، فإنّه يذهب إلى كربلاء لزيارة جدّه سیّد الشهداء أبي عبدالله الحسين(علیه السّلام) ، يوم عرفة، فيوصل إلى أحدهم مالاً(7).

بل إنّه يصل إلى مصر، على ما يظهر من بعض الروايات، و ينزل الإسكندرية في خان ينزله الغرباء، يصلّي في مسجده بأهل ذلك الخان. ثمّ يسافر مع أحدهم، ويأخذ طريق البحر(8).

ثمّ إنّه يعود من هذه الأسفار إلى بغداد ليباشر الاتصال بسفرائه وإدارة مصالح المجتمع في وجه المنحرفين، عن طريق التوقيعات والبيانات.

هذا ونسمع قول المهدي (علیه السّلام) - في رواية علي بن إبراهيم بن مهزیار - یاابن المازیار! أبي محمّد عهد إليّ أن لاأجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم، ولهم الخزي

ص: 131


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 164.
2- المصدر، ص 246.
3- المصدر، ص 258.
4- المصدر، ص 152.
5- المصدر، ص 156.
6- المصدر، ص 152.
7- المصدر، ص 181.
8- المصدر، ص 183.

في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب أليم، وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلّا وعرها و من البلاد إلّا عقرها، والله مولاكم أظهر التقية، فوكّلها بي . فأنا في التقية إلى يوم يؤذن لي فأخرج(1).

3. عمره الشريف

ولد(علیه السّلام) في النصف من شعبان عام 255ه، فيكون عمره حين وفاة أبيه في شهر ربيع الأوّل من عام 260ه أربع سنوات وحوالي ستّة أشهر، وفي هذا العمر تولی منصب الإمامة وقيادة الاُمّة وآتاه الله الحكم صبياً.

ولم يكن شكله يوم وفاة أبيه موافقاً مع هذا العمر بل كان صبياً يافعاً حتّى قال من راه: إنّه ابن ثمان أو عشر سنين، وحين شوهد في الحج سنة 293ه، فقد شاهد شاباً أسمراً، قال الراوي: لم أرَ مثله قط في حسن صورته واعتدال قامته(2)، ثمان وثلاثون عاماً و يكون عمره عند وفاة سفيره الثاني في جمادى الاُولى سنة 305هجرية خمسين عاماً غير ثلاثة أشهر وعند وفاة سفيره الثالث الحسين بن روح (رحمه الله)سنة 326ه واحداً وسبعين سنةً. و يكون عمره عند وفاة سفيره الرابع الشيخ السمري، سنة 329ه وانتهاء فترة الغيبة الصغرى، أربعاً وسبعين سنةً. قضى منها أربع سنين ونصفاً في حياة أبيه (علیهما السّلام) و تسعة وستّين عاماً ونصفاً و خمسة عشر يوماً في الغيبة الصغرى، ثمّ بدأت الغيبة الكبرى، حيث لا ظهور إلّا أن يأذن الله تعالى بالفرج لكي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، و يكون عمره يوم انتهى المسعودي من كتابه إثبات الوصية و في هو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة. مائة. أي بعد انتهاء الغيبة الصغرى بثلاث سنوات.. يكون عمره الشريف ستّاً وسبعين سنة وأحد عشر شهراً

ص: 132


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 161.
2- .

ونصف شهر، كما ذكر المسعودي(1).

هذا بحسب عدد السنين. وأمّا بحسب شكله، فكان(علیه السّلام) لايزال شابّاً، يقدّره الناظر بحوالي العشرين عاماً على ما يستفاد من مجموع أوصافه. وهذا أمر ممكن بل ضروري الثبوت، باعتبارین

أحدهما: وهو الأمر الأساسي، و هو الإيمان بقدرة الله تعالى الّذي خلقنا أوّل مرّة والّذي يحيي العظام وهي رميم، وبيده ملكوت كلّ شيء، وهو على كلّ شيء قدير.

فاذا عرفنا المصلحة الكبرى المتوقفة على وجود المهدي الإمام (علیه السّلام)والمسؤولية الكبرى المناطة به، و أنّها من الأهمية في الإسلام إلى حدّ تقتضي أن يُعمل الله عزّوجلّ إرادته الخاصّة في تنفيذها.. عرفنا كيف يمكن أن يحفظ الله تعالى الإمام المهدي (علیه السّلام)لأجل ذلك الهدف الكبير. ولا مانع من ذلك عقلاً و نقلاً كما ورد في القرآن الكريم عن أصحاب الكهف و عزیر.

ثانيهما: نموّه البطيء في غيبته الكبرى بحيث يقدّر له من العمر حين ظهوره أربعين عاماً كما ورد في مجموعة من الأحاديث(2).

ومن طريف ما ورد في هذا الصدد، ما في عقد الدرر عن أبي عبدالله الحسين (علیه السّلام) قال: لو قام المهدي لأنكره الناس، لأنّه يرجع إليهم شابّاً موفقاً وإنّ من أعظم البليّة أن يخرج إليهم صاحبهم شابّاً، وهم يظنّونه شيخاً كبيراً(3). والمراد من قوله، يرجع إليهم انّه يظهر لهم بعد غياب، لا أنّه يكون شيخاً ثمّ يتحوّل شابّاً بطريق إعجازي.

هذا كلّه، بحسب المصالح الإلهية الكبرى، المذخورة ليومه الموعود.

ص: 133


1- إثبات الوصية، ص 263.
2- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 258 وكتاب المهدي، ص 8.
3- محمّد الصدر، تاریخ الغيبة الصفری، ص 549.

الخلاصة

إن صلاة الإمام المهدي (علیه السّلام) على أبيه (علیه السّلام) أتاحت فرصة رؤيته، وكان صبيّاً بوجهه الكريم سمرة، بشعره قطط بأسنانه تفلیج كما ورد عن الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) والأئمّة (علیهم السّلام) في صفاته(علیه السّلام) .

وقد وصفه سفيره الثاني لمواليه عندما سألوه عنه(علیه السّلام) ، وسكن في سامرّاء فترة ليست بالقصيرة، و تنقّل بينها وبين الأمصار الّتي يسكنها مواليه، وذهب إلى زيارة الإمام الحسين (علیه السّلام) في كربلاء، و شوهد وهو يؤدي مراسم الحجّ، كما ذهب إلى مصر.

وكان عمره الشريف حين وفاة والده (علیه السّلام) أقلّ من خمس سنوات، وعمره عند وفاة السفير الرابع عام 329ه أربعاً وسبعين عاماً، وكل من رآه في ذلك الوقت يقول عنه أنّه شاب ابن ثلاثين سنة أو تزيد قليلاً، وكان في تنقّلاته بزيّ تاجر ليموّه على السلطان الجائر ويتمكّن من التحرّك بحرّية لإتمام هذه المرحلة من غيبته وليتمّ بناء الكيان الّذي ابتدأه آباؤه الكرام (علیهم السّلام) .

الأسئلة

1. هل تتوافق الروايات الواردة عن الأئمّة (علیهم السّلام) حول صفة الإمام (علیه السّلام) مع ما ورد من أحاديث عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ؟

2. بماذا اتّسمت البيانات والتوقيعات الصادرة من الإمام خلال حياة السفير الأوّل؟

3. كيف كان تنقّل الإمام (علیه السّلام) بين المناطق المختلفة؟

ص: 134

4. هل زار الإمام مناطق مواليه وقواعده؟

5 . هل شوهد الإمام (علیه السّلام) يؤدّي مراسم الحجّ؟

6. بماذا تُفسّر الحيوية الدائمة للإمام (علیه السّلام) ؟

ص: 135

الدرس 14: الإمام المهدي (علیه السّلام) في الغيبة الصغری (1)

أهم نشاطات الإمام (علیه السّلام) العامّة

أوّلا: وجوده و إمامته

إنّ التحاق الإمام العسكري(علیه السّلام) بالرفيق الأعلى وما رافق ولادة ولده الإمام المهدي(علیه السّلام) من كتمان و تحفّظ كلّها عوامل تدفع الإمام(علیه السّلام) إلى تعريف مواليه وسواهم بوجوده وإظهار ما يلزم لبيان تولّيه الإمامة بعد أبيه(علیه السّلام) .

وكانت صَلاته على أبيه وإبعادُه لعنه جعفر أوّل ظاهرة يخرج فيها الإمام(علیه السّلام) ويكشف نفسه أمام ملا من الناس بمختلف المستويات حيث تجمّعوا لتشييع الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام)، وقد حضر من القواعد الشعبية ما يقارب الأربعين شخصاً مع السفير الأوّل عثمان بن سعيد رضي الله عنه.

ثانياً: صيانة تراث آبائه (علیهم السّلام)

إنّ النشاط العام الثاني البارز للإمام (علیه السّلام) في فترة الغيبة الصغري هو الحفاظ على تراث آبائه و تنمية الناحية العلمية والفكرية لقواعده الشعبية والحفاظ على مسار الاُمّة بقدر ما يمكن عن الانحراف. وقد تضمّن هذا التراث تحدید و توضیح قواعد وأصول استنباط الأحكام الشرعية والمعارف الإسلامية كما يتّضح ذلك من خلال نشاطات

ص: 136

السفراء و توجيهات الإمام (علیه السّلام) لهم.

وقد دونت في عصر الغيبة الصغرى الاُصول الأربعمائة والّتي ضمّت ما ورد عن الأئمة (علیهم السّلام) وحُفظت فيها السنّة النبويّة الواردة عن طريق أهل البيت (علیهم السّلام) (1). وبالتالي

حفظ المسيرة الثقافية و التكاملية للاُمة الإسلاميّة.

ثالثاً: النيابة الخاصّة

إنّ النيابة كنظام قد اكتمل و أرسى مرتكزاته الإمام المهدي (علیه السّلام) وقد سبقه الأئمة (علیه السّلام) في الاعتماد على الثقات والخواص من أهل التقوى وممّن عرفوا بوفرة العلم والاجتهاد.

ونجد أن الإمام الهادي (علیه السّلام) يمهّد للوكالة ويوثّق لقواعده وكيل الإمام المهديّ الأوّل بقوله: «هذا أبوعمرو الثقة الأمين ثقة الماضي و ثقتي في المحيا والممات، فما قاله لكم فعني يقوله، و ما أدى إليكم فعنّي يؤدّيه»(2).

وقد أحصى الشيخ الصدوق أسماء اثني عشر شخصاً من وكلاء ونوّاب الإمام المهدي(علیه السّلام) في الغيبة الصغرى، وأضاف السيد محمّد الصدر إليهم أسماء ستّة آخرين استناداً إلى ما ورد في المصادر التاريخية وكتب الرجال(3) .

وكان الإمام (علیه السّلام) يعيّنهم مباشرة و يصدر بيانات و توثيقات حول ذلك مع نفي الوكالة عمّن كان يدّعيها غيرهم ولم يكن منهم.

وربّما يقال أنّه لم تكن حاجة في زمن الأئمة الذين سبقوا الإمام المهدي(علیه السّلام) إلى الوكلاء الخاصّين الذين يقومون بنفس أعمال السفراء الأربعة لأن الإمام (علیه السّلام) كان موجوداً وظاهراً، وكان بالإمكان لكل أحد أن يتّصل به، ولئن مرَّ بعض الأئمة (علیهم السّلام)

ص: 137


1- السيد علي الشهرستاني، منع تدوين الحديث، ص 397 - 465.
2- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 215.
3- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 172 وما بعدها.

في بعض الظروف بوضع استثنائي يصعب الوصول المباشر إليهم خصوصاً بعد واقعة الطف، وامتداداً مع وجودهم حتى تاريخ الغيبة الصغرى؛ فإنّ ذلك لا يقاس بعصر غيبة الإمام (علیه السّلام) وعدم إمكان الارتباط به.

وممّا لا شكّ فيه أنّ الأوضاع السياسية والظروف الخاصّة بالكيان الشيعي، عقيب استشهاد الإمام العسكري(علیه السّلام) وبدء مرحلة الغيبة الصغرى لم تكن تسمح بأن يكون عمل السفراء علنيّاً، لذا كان الشرط الأوّل في الوكلاء وخاصّة السفراء أن يكونوا على مرتبة عالية من الإلتزام بالسريّة والكتمان و عدم الكشف عن المهام المناطة بهم خلال هذه المرحلة.

كما وضع الإمام (علیه السّلام) الإطار العام والشروط الواجب توفّرها في النائب العام في مرحلة الغيبة الكبرى إتماماً لما ورد عنهم من الصفات اللازمة عن آبائه(علیهم السّلام) .

رابعاً: الكيان الشيعي

يُستفاد من الروايات الواردة بشأن سيرة الإمام (علیه السّلام) خلال فترة الغيبة الصغرى أنّ جهوده ورعايته لم تقتصر على سفرائه بل كان الإمام يسعى لحفظ سائر المؤمنين من

الاضطهاد والظلم العباسي متّخذاً سبيل آبائه (علیهم السّلام).

فقد روى الشيخ الكليني(رضی الله عنه) في الكافي «عن علي بن محمّد قال: خرج نهي عن زيارة مقابر قریش والحيرة فلما كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطائي فقال له: الق بین الفرات و البرسيين وقل لهم لا يزوروا مقابر قريش فقد أمر الخليفة أن يتفّقد كلّ من زار فيقبض عليه»(1).

كما أنّ الإمام (علیه السّلام) منع وكلاءه من استلام الأموال من قواعده، عندما أمر الخليفة بأن ترسل إليهم أموال بيد أشخاص لا يعرفونهم، كي يقبضوا على الذين يستلمون المال، لمّا بلغه وجود الإمام، وأنّه تجبى إليه الأموال عن طريق وزير الخليفة - عبد الله

ص: 138


1- الكافي، ج 1، ص 441.

بن سليمان(1) -

كما شملت هذه الرعاية قضاء حوائج المؤمنين الشخصية والاجتماعية والإصلاح بينهم وحلّ مشاكلهم المختلفة الفكرية و غيرها ممّا نقلته لنا المصادر التاريخية في هذه الفترة(2).

فضلاً عن مواقفه(علیه السّلام) في كشف الانحرافات العقائدية، وإفشال انتحال السفارة من مدّعي السفارة والإمامة.

فكانت التوقيعات الشريفة والرسائل الصادرة عن الإمام(علیه السّلام) في مرحلة الغيبة الصغرى هي أحد أهمّ أنشطته في الغيبة الصغرى و تُعدّ أحد مصادر تاريخ هذه الفترة.

خامساً: لقاؤه بالمؤمنين

لقد اشتملت المصادر الروائية المعتبرة على الكثير من الروايات الّتي تحكي عن التقاء الإمام (علیه السّلام) بالمؤمنين خلال الغيبة الصغرى فلا يكاد يخلو كتاب من الكتب المصنّفة في تأريخ الأئمّة أو الإمام المهدي (علیه السّلام) خاصّة من ذكر مثل هذه الروايات، فالشيخ الصدوق (رضی الله عنه) قد روي عن محمّد بن أبي عبدالله الكوفي إصابته حول من التقى بالإمام (علیه السّلام) من مختلف أرجاء العالم الإسلامي فقد ذكر ثمانية وستّين شخصاً، كما ذكر الميرزا النوري: أنّ عدداً من الثقات بلغ ثلاثمائة و أربعة أشخاص استناداً إلى المصادر المعتبرة(3) .

و هي تخص الذين رأوه و عرفوه، وكان يقصد من لقائه(علیه السّلام) بهم اُموراً، وقد صرّح الإمام (علیه السّلام) لعيسى الجوهري حين التقاه قرب المدينة المنورة سنة (268 ه) بسبب لقائه به بقوله(علیه السّلام) :

ص: 139


1- الكافي، ج 2، ص 440.
2- يُراجع الغيبة الصغرى للإطّلاع على تفصيل ذلك، ص 367 و ما بعدها.
3- الميرزا النوري، النجم الثاقب، ج 2، ص 44 - 48.

«یا عیسی ما كان لك أن تراني لولا المكذّبون القائلون بأين هو؟ وأين وُلِد؟ ومن راه؟ وما الّذي خرج إليكم منه؟ وبأيّ شيء نبّأكم؟ وأيّ معجز أتاكم؟ أما والله لقد دفعوا أمير المؤمنين مع ما رَوَوه، وقدّموا عليه، وکادوه و قتلوه، وكذلك آبائي (علیه السّلام) ولم يصدّقوهم ونسبوهم إلى السحر وخدمة الجن إلى ما تبيّن.

یا عیسی، نخبِرّ أولياءنا ما رأيته، و إيّاك أن تخبر عدوّنا فَتُسلَبهُ، فقلت: يا مولاي ادع لي بالثبات، فقال: لو لم يثبّتك الله ما رأيتني وامض بنجعك راشداً فخرجت أكثر حمداً لله و شكراً»(1).

ويستفاد من الروايات أنّ كثيراً من المؤمنين كانوا يجتهدون في طلب لقائه(علیه السّلام) في موسم الحجّ خاصّة . كما تجد مصداق ذلك في قصة علي بن مهزيار الأهوازي.

ص: 140


1- تبصرة الولي، ص 197.

الخلاصة

كان تحرّك ونشاط الإمام المهدي (علیه السّلام) بدءاً من صلاته على أبيه (علیه السّلام) أمام ملأ من الناس، الذين احتشدوا يوم تشييع الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) وحتى إعلان إنتهاء الغيبة الصغرى، ويظهر أن جهوده(علیه السّلام) في سبيل تعريف الاُمّة بوجوده وأهمية هذا الوجود المبارك لها، ومن ثمّ إسناد ومساعدة المؤمنين في مختلف جوانب حياتهم الفكرية والعقائدية والاجتماعية، كما أسّس النيابة الخاصّة والعامة، وبيّن مواصفات الشخص والشروط الواجب توفّرها فيه لينال هذا المقام الرفيع، وكان لرسائله (علیه السّلام) وتوقيعاته الدور البارز في إثبات تأريخ هذه الفترة، وما جرى فيها مع ما تضمّنته من حلول لمشاكِلَ كانت تعاني منها قواعده الشعبية و مواليه. ثمّ رفده لقواعده بالوسائل السليمة للاتّصال بالله سبحانه وطاعته وطلب مرضاته، وقد تضمّنتها أدعيته و زیاراته لآبائه (علیهم السّلام) كما حصلت جملة من اللقاءات بينه وبين مواليه في مناطق مختلفة من أقطار العالم الإسلامي.

الأسئلة

1. ماذا قصد الإمام (علیه السّلام) من نشاطاته المختلفة؟

2. وضّح دور الإمام علي(علیه السّلام) خلال الغيبة الصغرى؟

3. ما هو دور الإمام المهدي (علیه السّلام) في تركيز فكرة النيابة العامة؟

4. ماذا كان قصد الإمام (علیه السّلام) من لقاءاته بالمؤمنين؟

5. ما هو دور الإمام (علیه السّلام) في حفظ الكيان الشيعي خلال فترة الغيبة الصغرى؟

ص: 141

الدرس 15 : الإمام المهدي (علیه السّلام) في الغيبة الصغری (2)

الإمام (علیه السّلام) والسلطة العباسية

كان القبض على الإمام المهدي (علیه السّلام) أحد الأهداف الكبرى للدولة، حيث أنّها تعلم ما في كيانها من ضعف و انحراف. و تعلم أنّ المهدي(علیه السّلام) هو المذخور لرفع الظلم والجور عن الإنسانية، اذن وجوده يعتبر تهديداً لكيان الدولة العباسية الظالمة.

ولم تكن الدولة تعلم انه سيتأخّر ظهوره، فإنّ من مميّزات ظهور الإمام المهدي (علیه السّلام) کونه محتمل الظهور في كلّ وقت، لكي يخافه كلُّ ظالم و يخشاه كلُّ منحرف.

وقد قامت السلطة العبّاسية بثلاث حملات للقبض عليه، إحداها قام بها المعتمد في الفترة المتأخرة عن وفاة الإمام العسكري (علیه السّلام)والأُخريان قام بهما المعتضد الّذي تولّى الحكم بعده. وأمّا الخلفاء المتأخّرون فلم ينقل عنهم ذلك، ولعلّهم كانوا قد يئسوا من ذلك بأساً تامّاً.

وقد انشغلت الدولة بحرب صاحب الزنج و غیره، ممّا أوجب انحراف السلطات عن أن تجرّد حملات أُخرى للكبس والتفتيش عن الإمام، أثناء خلافة المعتمد، وهي التسعة عشر عاماً الّتي قضاها في الحكم بعد وفاة الإمام الحسن العسكري(علیه السّلام) .

إلا أنّ التجسس المستمر والرصد الدائم من قبل السلطات، كان قائماً على قدم

ص: 142

وساق، ومستمراً خلال ذلك الزمان، وكان يجابهه بأساليب السرية والكتمان المضاعفة الّتي كان السفيران الأوّلان يقومان بها في هذه الفترة الصعبة من الغيبة الصغرى، بما في ذلك تحريم التصريح باسمه والدلالة على مكانه، إلا لمن امتحن الله قلبه للإيمان.

وفي خلال هذه الأعوام التسعة عشر، كان التجسّس قد أنتج شيئاً مهمّاً بالنسبة للدولة. و هو ثبوت فكرة السفارة لديها، بعد ثبوت وجود الإمام (علیه السّلام) وأنّ هناك من يدّعي السفارة عن الإمام المهدي(علیه السّلام) ويقبض المال بالوكالة عنه(1) اذن فهو موجود. ليس هذا فقط، بل يقود قواعده الشعبية ويقبض الأموال منهم. وهذه كانت من أعظم مهامّ المعتضد عند تولّيه للخلافة أن يجدد الحملات للقبض على الإمام المهدي(علیه السّلام) .

انظر إلى مقدار ما أتت به أخبار التجسس، انه يعلم بدار المهدي(علیه السّلام) وهي دار أبيه و هو لا يحاول أن يرى المهدي (علیه السّلام) أو أن يكلمه، وإنما يأمر بقتله وحمل رأسه إليه. و بذلك يتحقّق الهدف الأعلى لكيان الدولة المتسلّط.

والخليفة لا يعيّن شخصاً أو اسماً معيناً. بل يغمض من هذه الناحية لأنّه يريد أن يبقي هذا الأمر خفيّاً حتّى على هؤلاء القائمين بالعملية، ولا يهمّه بعد ذلك أن يقتلوا شخصاً غير المهدي ويأتوه برأسه. فحسبه أنه قام بالمحاولة.

و يتوخّى المعتضد من هذا الغموض أهدافاً:

الأوّل: عدم إثارة مسألة المهدية(علیه السّلام) أمام هؤلاء الجلاوزة.

الثاني: عدم کشف مهمّتهم الحقيقية أمامهم، محافظة على سمعته وسمعة الدولة فإنّهم إنّ عرفوا أنّ المعتضد يكلّفهم القبض على المهدي (علیه السّلام). أمكن تسرّب الخبر إلى المجتمع، فيترتّب على ذلك، ما لا يحمد للمعتضد عقباه.

الثالث: عدم کشف مهمّتهم الحقيقية أمامهم للمحافظة على سرّيّة المطلب، حتّى عن

ص: 143


1- أعلام الوری، ص 421.

خاصّة رجال الدولة، وجهاز استخباراتها، فإنّ الأمر أهم وأدق من أن يعرفه الناس.

وبدأت الحملة كما أمر المعتضد، و توجّه ثلاثة أشخاص إلى سامرّاء، وبحثوا عن الدار، فوجدوها، كما وصفها لهم المعتضد، و رأوا في الدهليز خادماً أسود وفي يده تكة ينسجها. فسألوه عن الدار و من فيها. فقال: صاحبها. قال رشيق الّذي هو قائد حملة الاغتيال: فوالله ما التفت إلينا وقلّ اكتراثه بنا.

ثمّ إنّهم استمرّوا في مهمّتهم، فكبسوا الدار و تجسّسوا خلالها فوجدوا غرفة سرّيّة وعليها ستر جمیل جدید.

ولم يكن في الدار أحد، فرفعوا الستر، فرأوا بيتاً كبيراً كأنّه بحر فيه ماء. وفي أقصى البيت حصير يبدو كأنه على الماء. وفوقه رجل من أحسن الناس هيئة، قائم يصلي. وبقي مشتغلاً بصلاته متوجهاً إلى ربه لم يلتفت إليهم، كأنّه لم يرهم ولم يسمعهم.

فسبق أحد الرجلين اللذين كانا مع رشيق ليتخطّى البيت، فغرق في الماء، وما زال يضطرب، حتّى أنقذه صاحباه و أخرجاه مغشيّاً عليه وبقي ساعة. ثمّ همّ الرجل الآخر أن يتخطّى البيت فغرق في الماء أيضاً. فأصابه ما أصاب صاحبه.

فبقي رشيق وحده وهو قائد الحملة، مبهوتاً واجماً، و أيس من تحقيق الغرض، و أراد أن يلطف من خاطر هذا المصلي ويزيل ما يكون قد علق بذهنه من هذه الحملة، فتوجّه إليه قائلاً: المعذرة إلى الله وإليك فوالله ما علمت كيف الخبر ولا إلى من أجيء. و أنا تائب إلى الله. قال رشيق: فوالله مالتفت إلى شيء. وما انتقل عمّا كان فيه فهالنا ذلك، وانصرفنا عنه.

انظر الرعاية الإلهية وكيف انتصر المهدي(علیه السّلام) على هؤلاء الجلاوزة المنحرفين وكيف استطاع أن يؤثّر هذا التأثير الرهيب الّذي هو كرامة له من الله سبحانه و تعالی.

وحين آيس رشيق من بلوغ الغرض، وذاق صاحباء الغرق والعذاب، اضطرَّ إلى الانصياع للتحدّي واعترف بالعجز. إنه لم يكن يتوقّع شيئاً ممّا رآه، فضلاً عن كلّ ما

ص: 144

راه. ولم يعلم إلّا أنّ المعتضد أرسله على شخص ما ليقبض عليه ويأخذ برأسه. وأمّا مثل هذا التدبير الحاسم فهو لم يواجِه مثله من قبل أيّ شخص آخر حاول القبض عليه. إنّه يواجه الهول و التحدّي الصريح لأول مرة في حياته، بشكل لا يجد حيلة، ولا يعرف إلى تذليله طريقاً.

إذن، فلصاحب هذا البيت شأن غير اعتيادي، شأنٌ أعلى من القوى الاعتيادية الّتي يعرفها رشيق. والمعتضد إنّما أغمض له الشك لسبب في نفسه. إذ لعلّه يعرف شأن صاحب هذا البيت على الإجمال. إنّه هو الّذي أوقعه في هذا الهول و التحدي بالرغم من أنّ التحدي في واقعه متوجّه إلى المعتضد نفسه أكثر ممّا هو متوجه إلى رشيق.

فينبغي التخلّص من المسألة، والقاء المسؤولية كلها على كاهل المعتضد، والاعتذار من صاحب الدار، ذي الشأن المجهول الرهيب.

وصحب هؤلاء الجلاوزة هولٌ في داخل قلوبهم، وتوجّهوا توّأ إلى بغداد، ليحملوا هذا الخبر العجيب الرهيب إلى المعتضد. وكان المعتضد ينتظرهم، وقد أمر الحجّاب والحرس على أن يدخل هذا الوفد عليه في أي وقت كان، ليلاً أو نهاراً. فإنّ مهمّتهم أعمق وأعقد من أن تحتمل التأجيل.

ودخل عليه الوفد وهو يحمل هولة بين جنبيه، ونقل له الحكاية كما وقعت. فقال: ويحكم لقيكم أحد قبلي وجرى منكم إلى أحد سبب أو قول؟ فقالوا: لا. فقال: أنا نفيُّ من جدّي - أي ليس من بني العبّاس -، وحلف بأشدّ أيمان له، أنّه إذا بلغه أنّهم أخبروا أحداً بهذا الخبر ليضربنَّ أعناقهم. قال رشيق: فما جسرنا أن نحدّث به إلّا بعد موت المعتضد.

إذن يعرف المعتضد ذلك جيّداً، ولكنّه يخاف منه على حاشيته و أساس ملکه.

إنّ هؤلاء الثلاثة بالرغم من أنّه حاول الإغماض عليهم في كلامه، قد اطلّعوا على الحقيقة وواجهوا الحقّ، حتّى اضطرّ رشيق إلى التنازل و التوبة. إلّا أنّه لا ينبغي أن يكون الناس الآخرون کرشیق عارفين بالحق أو منصاعين له. و من ثمّ نراه يحلف لهم

ص: 145

بأغلظ الأيمان ويهدّدهم بالقتل، إن بلغه أنّهم أخبروا أحداً بذلك. فلم يجسروا أن يخبروا به إلّا بعد موته. فإنّ أيمانه و تهدیده إنّما يكون رسمياً في حال حياته لا بعد موته.

وظنَّ المعتضد، أن هذه الحملة، إنَّما فشلت باعتبار قلّة العدد وباعتبار سرّية التخطيط والتنفيذ. فلا أقلّ من احتمال نجاح الحملة لو كثر العدد و انکشف الغرض.

ولم يستطع أو لم يرد أن يفهم أن هذا العقل الّذي تحدّاه مرّة واحدة، يمكنه أن يتحدّاه عشرات المرّات. ولن تستطيع أيّ قوة في البشر أن تسيطر أو تقضي عليه.

ومن هنا جرّب حملةً أكبر، وبعث عدداً أكثر، وأتبعه بجيش كبير. فانظر إلى هذا الجُبن أمام فرد واحد، و الفزع الّذي تتّصف به الدولة تجاه هذا الأمر العظيم.

وينبغي في هذا الصدد أن نذكر الرواية بنصّها(1) قال الراوي:

ثمّ بعثوا عسكراً أكثر، فلمّا دخلوا الدار سمعوا من السرداب قراءة القرآن فاجتمعوا على بابه و حفظوه حتّى لا يصعد ولا يخرج. و أميرهم - يعني قائد الحملة - قائم يصل(2) العسكر كلهم. فخرج من السكة الّتي على باب السرداب، و مرّ عليهم. فلما غاب، قال الأمير: انزلوا عليه. فقالوا: أليس هو الّذي مرّ عليك؟ فقال: ما رأيته. قال: ولمَ تركتموه؟ قالوا: إنّا حسبنا أنَّكَ تراه.

إنّه يقرأ القرآن، إنّ القرآن الكريم هو حلقة الوصل بين جميع الفئات الإسلاميّة. و العلامة الرئيسية لتمسك الفرد بالإسلام. فالمهدي(علیه السّلام) يريد أن يفهمهم ضمناً - لو كانوا يفهمون - حرمة الاعتداء عليه وقتله، باعتباره مؤمناً بالقرآن الّذي تعترف السلطات بقدسيّته في ظاهر سلوكها.

ومن طريف حال هؤلاء الجلاوزة، أنّهم لم يبادروا للقبض على الإمام(علیه السّلام) . بل

ص: 146


1- البحار، ص 118، ج 13.
2- في المصدر: يصلي وهو خطأ مطبعي لا محاله.

وقفوا على باب السرداب و عن اقتحامه. إنّهم يخافون مواجهة المهدي (علیه السّلام) ويحتاجون إلى مدد أكبر وعدد أكثر. فهم منتظرون لوصول المدد من بغداد إلى سامرّاء.

وفي هذه الأثناء استغلّ الإمام المهدي (علیه السّلام) أروع لحظة من لحظات ذلك الحصار، لحظة اقترنت بالدقّة في التوقيت والضبط في التدبير والعناية الإلهية الّتي ترعاه. إنّها لحظة غفلة قائد الحملة عن الترصّد و الانتباه. لحظة لم يأتِ فيها المدد، ولم تصدر الأوامر بعد باقتحام المكان.

وهنا خرج أمامهم من السرداب و مرّ على قائد الحملة ولم يشاهده، و أختفى حيث لا يمكن أن يصل إليه هذا الجيش. وهكذا تظافرت هذه الأمور لكي تنتج النتيجة الكبرى ولكي ينفذ المخطط الإلهي العظيم لإنقاذ مستقبل البشرية بالإمام المهدي (علیه السّلام) من الظلم والجور.

ص: 147

الخلاصة

قامت السلطة العباسية وعلى امتداد فترة الغيبة الصغرى بالعمل الجادّ من أجل القبض على الإمام أو قتله غير أنّ جهودها باءت بالفشل الذريع.

وقدعمدت السلطة إلى تفتيش ومداهمة دار الإمام (علیه السّلام) عدّة مرّات وتمكّن الإمام من التخلّص من طَوق جلاوزة السلطة دون أن تشعر به بل لعلّه كان مروره على بعضهم من دون أن يحرِّك ساكناً تجاه الإمام (علیه السّلام).

وفي آخِر مرّة دخلوا الدار وكان الإمام (علیه السّلام) يقرأ القرآن و سمعوا ذلك وذهبوا صوب الصوت على أنّ الرعاية الإلهية تسبّبت في إصابتهم بذهول، ويمرّ عليهم الإمام (علیه السّلام) ولم يحرّكوا شيئاً تجاهه، ويذهب دون أن يمسّوه بأذى.

وكان للفشل الّذي لحق بهذه الحملات دور في العدد لقتل الإمام (علیه السّلام) غير أنّ هذه الجهود ذهبت أدراج الرياح، وسلّم الإمام (علیه السّلام) برعاية الله وحفظه.

ص: 148

الأسئلة

1. وضّح سبب محاولات التفتيش و البحث عن الإمام من قبل السلطة؟

2. ما الّذي كان يتوخّاه المعتضد من الغموض والإبهام في أوامره الّتي أصدرها لقتل الإمام (علیه السّلام).

3. ما هي نتائج التصرّف الّذي صدر من الإمام (علیه السّلام) تجاه الحملة التفتيشيّة لداره(علیه السّلام) ؟

4. اذكر الآثار الّتي تركها تصرف الإمام (علیه السّلام) في نفوس المهاجمين؟

5. ما هي الأُمور الّتي أدّت إلى حفظ الإمام (علیه السّلام) من السلطة وجلاوزتها؟

ص: 149

الدرس 16: من تراث الإمام المهدي (علیه السّلام) في الغيبة الصغرى (1)

من التراث العقائدي

1. من كلامه في التوحيد ونبذ الغلو

«إنّ الله تعالى هو الّذي خلق الأجسام وقسّم الأرزاق، لأنّه ليس بجسمٍ ولا حالُّ في جسم، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم، وأمّا الأئمّة(علیهم السّلام) فإنّهم يسألون الله تعالى فيخلق ويسألونه فيرزق إيجاباً لمسألتهم وإعظاماً لحقّهم»(1).

2. في مقام الأئمّة (علیهم السّلام)

«الّذي يجب عليكم ولكم أن تقولوا، إنّا قدوةُ الله وأئمّةً وخلفاءُ اللهِ في أرضه وأُمناؤُهُ على خلقِه، و حُججُهُ في بلادهِ، نعرِفُ الحلالَ والحرامَ ونعرِفُ تأويلَ الكتابِ وفصلَ الخِطابِ»(2).

ص: 150


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 178.
2- تفسير العياشي، ج 1، ص 16.

3. في علّة الخلق وبعث الأنبياء والأوصياء

«يا هذا يرحمُك اللهُ إنَّ الله تعالى لم يَخلُقَ الخلقَ عبثاً، ولا أهمَلهُم سُدیً، بل خَلقهم بِقدرتِهِ وجعلَ لهم أسماعاً و أبصاراً و قلوباً و ألباباً، ثمَّ بعثَ إليهم النبيِّين عليهم السّلام مُبشِّرین و منذرينَ، يأمُرونَهُم بطاعتهِ وينهونهُم عن معصيتهِ، و يعرِّفونهم ما جهلوهُ من أمرِ خالقِهم و دينهِم، وأنزَلَ عليِهم كِتاباً وبعثَ إليهم ملائكةً، يأتونَ بينهم وبينَ مَن بعثَهُم إليهم بالفضلِ الّذي جعلهُ لهم عليهم، وما آتاهُم من الدلائِل الظاهِرةِ والبراهينِ الباهرةِ والآياتِ الغالبةِ، فمنهم من جعلَ النّارِ عليهِ برداً وسلاماً، واتّخذهُ خليلاً، و منهم مَن كلَّمَهُ تكليماً، وجعلَ عَصاهُ ثُعباناً مُبيناً، و منهم مَن أحيي الموتى بإذن اللهِ، و أبرأَ الأكمهَ والأبرصَ بإذنِ الله، و منهم من علَّمهُ منطقَ الطير وأُوتيَ مِن كُلِّ شيءٍ، ثمَّ بعثَ محمّداً صلّى الله عليهِ و آلهِ رحمةً للعالمينَ، وتَمَّمَ بهِ نعمتّهُ، و ختَمَ بهِ أنبياءَهُ، و أرسلَهُ إلى النّاسِ كافَّةً، و أظهرَ من صِدقهِ ما أظهَر، وبيَّنَ من آیاتِه و علاماتهِ ما بيَّنَ، ثُمَّ قبضهُ صلَّى الله عليه و آله حميداً فقيداً سعيداً، وجعلَ الأمر بعدهُ إلى أخيه و ابن عمِّه و وصيِّه و وارِثهِ عليِّ بن أبي طالب عليهِ السّلامُ، ثُمَّ إلى الأوصياء من وُلدهِ واحِداً واحّداً، أحيي بهم دينهُ، وأتمَّ بهم نُورَهُ، وجعلَ بينهُم وبين إخوانِهم و بني عمِّهم والأذنينَ فالأذنينَ من ذَوي أرحامِهم فُرقاناً بيِّناً يعرفُ به الحُجّةُ من المحجوجِ، والإمام من المأمومِ، بأن عَصَهُم من الذُّنوبِ، و برَّ أهُم من العُيوبِ، وطهَّرهم من الدّنسِ، و نزَّههُم من اللَّبسِ، و جعلهُم خُزّانَ علمِه، و مُستودعَ حكمَتهِ، و موضعَ سِرِّهِ، و أيَّدَهُم بالدّلائل، ولولَا ذلكَ لكانَ النَّاسُ على سَواءٍ، ولادَّعى أمرَ الله عزَّوجلَّ كُلُّ أحدٍ، ولما عُرِفَ الحقُّ من الباطِلِ، ولا العالِمُ من الجاهِلِ»(1).

4. في دحض إدّعاء جعفر الكذّاب

قال(علیه السّلام) في تتمّة كلامه السابق الّذي أوضح فيه صفات الإمام الحقّ:

ص: 151


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 174.

«وقد ادّعى هذا المُبطِلُ المُفتري على الله الكَذِبَ بما ادّعاهُ، فلا أدري بأيةِ حالةٍ هي لَهُ رجاء أن يُتمَّ دعواهُ؟ أبِفِقهٍ في دينِ الله؟ فوالله ما يعرفُ حلالاً من حرامٍ ولا يُفرِّقُ بين خطأٍ وصوابٍ، أم بعلمٍ؟ فما يعلَمُ حقّاً من باطِلٍ، ولا مُحكماً من مُتشابهِ، ولايَعرِفُ حدَّ الصّلاةِ ووقتَها. أم بِورع؟ فالله شهيدٌ على تركهِ الصّلاةَ الفرضَ أربعينَ يوماً، يزعُمُ ذلكَ لطلبِ الشَّعوذةِ، ولعلَّ خبرهُ قد تأدَّي إليكُم، وهاتِيكَ ظروفُ مسکِرهِ منصُوبةً، و آثارُ عصيانهِ لله عزّوجلَّ مشهورةٌ قائِمةٌ. أم بأيةٍ؟ فليأتِ بها، أم بحجَّةٍ. فليُقمها، أم بدلالةٍ. فلیذ کُرها. قال الله عزّوجلّ في كتابهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ» فالتمِس تولّی الله توفيقكَ من هذا الظّالِمِ ما ذَكرتُ لكَ، وامتحنهُ وسلهُ عن آية من كتابِ اللهِ يفَسِّرُها، أو صلاةِ فريضةٍ يُبيِّنُ حدُودها، وما يجبُ فيها لتعلَمَ حالهُ و مِقدارَهُ، و يظهرَ لكَ عُوَارُهُ و نقصانهُ، واللهُ حسيبهُ.

حفظَ الله الحقَّ على أهلهِ، و أقرّهُ في مُستقرِّهِ، وقد أبى اللهُ عزّوجلّ أن تكونَ الإمامةُ في أخوينِ بعدَ الحسنِ والحسينِ (علیهما السّلام) ، وإذا أذِنَ اللهُ لنا في القولِ ظهرالحقُّ، واضمحلَّ الباطِلُ، وانحسرَ عنكم. وإلى الله أرغبُ في الكفاية، وجميل الصُّنعِ والولایهِ، و حسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ وصلّى الله على مُحمّدٍ و آلِ محمّدٍ»(1) .

5. في انتظام نظام الإمامة وعدم خلوّ الأرض من الحجّة

و من رسالة له إلى سفيريه العمري وابنه: «وفّقكُما الله لطاعتهِ، و ثبَّکُما على دينِه،

ص: 152


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 174.

و أسعدكما بمرضاتهِ، انتهى إلينا ما ذكرتُما أنَّ الميثميّ أخبرکُما عن المختارِ و مناظراتهِ من لِقيَ، واحتجاجهِ بأنّه لا خلفَ له غيرُ جعفرِ بن عليّ و تصدیقهِ إيّاهُ، و فهمتُ جميعَ ما كتبتما بهِ ممّا قالَ أصحابُکُما عنهُ، وأنا أعوذُ بالله من العَمى بعد الجلاء، ومن الضّلالةِ بعدَ الهَدى، و من موبقاتِ الأعمالِ و مردياتِ الفتنِ، فإنّه عزّوجلّ يقول: «الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ »كيفَ يتساقطونَ في الفِتنةِ و يتردّدُونَ في الحيرةِ، ويأخذُونَ يميناً وشمالاً، فارَقُوا دينهُم، أم ارتابوا، أم عاندُوا الحقَّ، أم جهِلُوا ما جاءت به الرّواياتُ الصّادقَةُ والأخبارُ الصحيحةُ، أو علِموا ذلكَ فتناسَوا ما يَعلمون أنَّ الأرضَ لا تخلو من حُجَّةٍ إمّا ظاهِراً وإمّا مغموراً.

أو لَم يعلمُوا انتظامَ أئمّتهم بعلم نبيِّهم صلّى الله عليه و آله واحِداً؟ بعدَ واحِدٍ إلى أن أفضَى الأمرُ بأمرِ اللهِ عزّوجلّ إلى الماضي - يعني الحسن بن عليّ (علیهما السّلام) - فقامَ مقامَ آبائه (علیهم السّلام) يهدِي إلى الحقِّ وإلى طريق مستقيمٍ، كانُوا نوراً ساطعاً، وشهاباً لامِعاً و قَمَراً زاهِراً، ثُمَّ اختارَ اللهُ عزّوجلّ لهُ ما عندهُ فمضى على منهاج آبائه (علیهم السّلام) حذوَ النعل بالفعلِ على عهدٍ عَهَدَهُ، و وصيّةٍ أوصى بها إلى وصیِّ سترهُ اللهُ عزّوجلّ بأمرهِ إلى غايةٍ، وأخفى مكانهُ بمشيئةٍ للقضاءِ السّابقِ والقدَرِ النّافذِ، و فينا موضِعُهُ، ولنا فضلُهُ ولو قَد أذِنَ الله عزّوجلّ فيما قَد منعهُ عنهُ و أزالَ عنهُ ما قد جرى بِهِ من حكمهِ لأراهُمُ الحقَّ ظاهِراً بأحسنِ جليةٍ، و أبينِ دلالةٍ، و أوضحِ علامَةٍ، ولأبانَ عن نفسهِ وقامَ بحجَّته، فليدعُوا عنهمُ اتِّباعَ الهوى، وليقيموا على أصلهمُ الّذي كانوا عليه، ولا يبحثُوا عمّا سُترَ عنهُم فيأثَمُوا، ولا يكشِفوا سِترَ اللهِ عزّوجلّ فيندمُوا، وليعلمُوا أنَّ الحقَّ معنا وفينا، لا يقولُ ذلكَ سوانا إلّا کَذّابٌ مُفتړٍ، ولا يدَّعِيِه غيرُنا إلّا ضالُّ غويُّ ،فليقتصِرُوا مِنّا على هذهِ الجُملةِ دون التَّفسيرِ، و يقنعُوا من ذلك بالتعريضِ دون التصريح إن شاءَ الله»(1).

ص: 153


1- کمال الدین، ص 510.

6. الحقیّة والمفوّضة

وجّه قوم من المفوّضة كامل بن إبراهيم المدني، إلى أبي محمّد(علیه السّلام) قال: فقلت في نفسي - : لئن دخلت عليه أسأله عن الحديث المروي عنه: (لايدخل الجنّة إلّا من عرف معرفتي وقال بمقالتي)، وكنت جلست إلى باب عليه ستر مسبل، فجاءت الريح فكشفت طرفه، وإذا بفتى كأنّه فلقة قمر، من أبناء أربع سنين، أو مثلها فقال لي: يا کامل بن إبراهيم! فاقشعررت من ذلك، فقلت: لبّيك ياسيدي.

قال: جئت إلى وليّ الله تسأله: لا يدخل الجنّة إلّا من عرف بمعرفتك وقال بمقالتك؟

قلت: إي والله.

قال: إذن - والله - يقلّ داخلها، و الله ليدخلنّها قوم يقال لهم: (الحقّيةُ).

قلت: و من هم؟

قال: هم قوم من حبّهم لعلّي يحلفون بحقّه، ولا يدرون ما حقّه وفضله.

إنّهم قوم يعرفون ما تجب عليهم معرفته جملة لا تفصيلاً، من معرفة الله و رسوله والأئمة ونحوها.

ثمّ قال: وجئت تسأل عن مقالة المفوّضة كذبوا، بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله، فإذا شاء الله شئنا والله يقول: «وما تشاؤون إلّا أن يشاء الله).

ثمّ رجع الستر إلى حالته فلم استطع كشفه، فنظر إليّ أبومحمّد مبتسماً فقال: يا کامل ما جلوسك وقد آساك بحاجتك الحجّة من بعدي(1).

7. الغيب لله

7. الغيب لله(2)

«یا محمّد بن علي، تعالى الله وجل عمّا يصفون، سبحانه وبحمده، ليس نحن

ص: 154


1- الشيخ علي اليزدي، إلزام الناصب في الحجة الغائب (علیه السّلام).ج1ص 341.
2- الاحتجاج، الطبرسي، ج 2، ص 280 - 281.

شركاؤه في علمه ولا في قدرته، بل لا يعلم الغيب غيره، كما قال في محكم كتابه تباركت أسماؤه: «قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ».

وأنا وجميع آبائي من الأوّلين، آدم و نوح و إبراهيم و موسی، و غيرهم من النبيين، و من الآخرين محمّد رسول الله، وعلي بن أبي طالب و غيرهم من مضى من الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين، إلى مبلغ أيّامي و منتهى عصري، عبيد لله عزّوجلّ: «من أعرض عن ذكري فإنّ له معيشةً ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال: ربِّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً؟ قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسي».

یا محمّد بن علي قد آذانا جهلاء الشيعة وحمقاءهم، و من دينه جناحُ البعوضة أرجح منه.

فأشهد الله الّذي لا إله إلّا هو وكفى به شهيداً، ورسوله محمّد(صلّی الله علیه وآله وسلّم) وملائكته و أنبياؤه وأولياؤه (علیهم السّلام) ، و أُشهدك، و أُشهد كلّ من سمع كتابي هذا: أني بريءٌ إلى الله وإلى رسوله ممّن يقول: إنّا نعلم الغيب، ونشاركه في ملكه، أو يُحلّنا محلّاً سوى المحل الّذي رضيه الله لنا و خُلِقنا له، أو يتعدّى بنا عمّا قد فسّرته لك و بيّنته في صدر كتابي.

و أُشهدكم أنّ كلّ من نبرأ منه فإنّ الله يبرأ منه و ملائكته و رسله و أولياءه.

وجعلت هذا التوقيع الّذي في هذا الكتاب أمانة في عنقك و عنق من سمعه، أن لا يكتمه من أحد من مواليّ و شيعتي، حتى يظهر على هذا التوقيع، الكل من الموالي، لعلّ الله عزوجل يتلافاهم فيرجعون إلى دين الحقّ، وينتهون عمّا لا يعلمون منتهى أمره، ولا يبلغ منتهاه، فكل من فهم کتابي ولا يرجع إلى ما قد أمرته و نهيته، فقد حلّت عليه اللعنة من الله و متن ذکرتُ من عباده الصالحين.

وأما ندامة قوم شكّوا في دين الله على ما وصلونا به، فقد أقلنا من استقال فلا

ص: 155

حاجة إلى صلة الشاکّين»(1).

8. ارتداد الشلمغانی

«عرّف أطال الله بقاك، و عرفك الله الخير كلّه، وختم به عملك. من تثق بدينه وتسكن إلى نيّته من إخواننا أدام الله سعادتهم: بأنّ محمّد بن علي المعروف بالشلمغاني، عجّل الله له النقمة ولا أمهله: قد ارتدّ عن الإسلام وفارقه، و ألحد في دين الله، وادّعی ما کفر معه بالخالق جلّ وتعالى،وافتری كذباً وزوراً، وقال بهتاناً وإثماً عظيماً، كذب العادلون بالله وضلّوا ضلالاً بعيداً، وخسروا خسراناً مبيناً.

وإنّا برئنا إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته منه، ولعنّاه، عليه لعائن الله في الظاهر منّا والباطن في السرّ والجهر، وفي كلّ وقت، وعلى كلّ حالٍ وعلى كلّ من شایعه وبلغه هذا القول منّا فأقام على تولّيه بعده.

أعلمهم تولّاك الله أنّنا في التوقي والمحاذرة منه على مثل ما كنّا عليه ممّن تقدّمه من نظرائه: من (السريعي، والنميري، الهلالي، والبلالي) وغيرهم، وعادة الله جل ثنائه مع ذلك قبله وبعده عندنا جميلة، و به نثق وإيّاه نستعين، وهو حسبنا في كلّ أمورنا و نعم الوكيل»(2).

9- الغيبة والقيادة والمرجعية

«أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك، ووقاك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمّنا، فاعلم: أنّه ليس بين الله عزّوجلّ وبين أحد قرابة، و من أنكرني فليس منّي، و سبیله سبیل ابن نوح.

ص: 156


1- الاحتجاج، ج 2، ص 278.
2- الاحتجاج، ج 2، ص 289 وما بعدها.

وأمّا سبيل عمّي جعفر وولده، فسبيل إخوة يوسف (علیه السّلام)، وأمّا الفقّاع فشربه حرام ولا بأس بالشلماب.

وأمّا أموالكم فلا نقبلها إلّا لتطهروا، فمن شاء فليصل ومن شاء فليقطع، وما آتانا الله خير ممّا آتاكم.

وأمّا ظهور الفرج فإنّه إلى الله وكذب الوقّاتون.

وأمّا قول من زعم أنّ الحسين لم يقتل، فكفر و تکذیب و ضلال.

وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجّة الله.

وأمّا محمّد بن عثمان العمري - فرضي الله عنه وعن أبيه من قبل فإنه ثقتي وكتابه كتابي.

وأمّا محمّد بن علي بن مهزيار الأهوازي، فسيصلح الله قلبه، و يزيل عنه شکّه.

وأمّا ما وصلنا به، فلا قبول عندنا إلّا لما طاب و طهر، وثمن المغنية حرام.

وأمّا محمّد بن شاذان بن نعيم، فإنه رجل من شيعتنا أهل البيت(1).

وأمّا أبو الخطّاب محمّد بن أبي زينب الأجدع فإنّه ملعون وأصحابه ملعونون فلاتجالس أهل مقالتهم، فإنّي منهم بريء، و آبائي(علیه السّلام) منهم براء.

وأمّا المتلبّسون بأموالنا، فمن استحلّ منها شيئاً فأكله فإنّما يأكل النيران.

وأمّا الخمس فقد أُبيح لشيعتنا وجعلوا منه في حلِّ إلى وقت ظهور أمرنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث.

وأمّا علّة ما وقع من الغَيبة فإنّ الله عزّوجلّ قال:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ »إنّه لم يكن أحد من آبائي إلّا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه.

ص: 157


1- الاحتجاج، ص 281 - 284.

وإنّي أخرج - حين أخرج - ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي.

وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي، فكالانتفاع بالشمس إذا غيبها عن الأبصار السحاب وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء، فاغلقوا السؤال عمّا لايعنيكم، ولا تتكلّفوا علم ما قد كفيتم، و أكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإنّ ذلك فرجكم والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب و علی من اتبع الهدی»(1).

10-خلف العسكري

10-خلف العسكري(2)

«بسم الله الرحمن الرحيم. عافانا الله وإيّاكم من الفتن، ووهب لنا ولكم روح اليقين، وأجارنا وإيّاكم من سوء المنقلَب.

إنّه اُنهي إليّ ارتياب جماعة منكم في الدين، وما دخلهم من الشك والحيرة في ولاة أمرهم فعمّنا ذلك ولكم لا لنا، وساءنا فيكم لا فينا لأنّ الله معنا فلا فاقة بنا إلى غيره. والحقّ معنا فلن يوحشنا من قعد عنّا ونحن صنایع ربّنا والخلق بعدُ صنایعنا.

یا هؤلاء، مالكم في الريب تتردّدون، و في الحيرة تتسكّعون؟

أو ما سمعتم الله يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»؟ أوما علمتم ما جاءت به الآثار ممّا يكون و يحدث في أئمّتكم؟ على الماضين والباقين منهم السلام، أوما رأيتم كيف جعل لكم الله معاقل تأوون إليها، وأعلاماً تهتدون بها، من لدن آدم (علیه السّلام) إلى أن ظهر الماضي(علیه السّلام) كلّما غاب عَلَم بدأ عَلَم، وإذا أفل نجم طلع نجم، فلمّا قبضه الله ظننتم؛ أن الله أبطل دینه و قطع السبب بينه و بين خلقه كلّا ما كان ذلك ولا يكون، حتّى تقوم الساعة ويظهر أمرهم وهم کارهون.

ص: 158


1- الاحتجاج، ص 278.
2- الاحتجاج، ج 2، ص 279.277 .

وإنّ الماضي(علیه السّلام) مضى سعيداً فقيداً على منهاج آبائه (علیهم السّلام) (حذو النعل بالنعل) وفينا وصيته وعلمه، و منه خلفه و من يسد مسدّه، ولا ينازعنا موضعه إلّا ظالم آثمّ، ولا يدّعيه دوننا إلّا كافر جاحد.

ولو أنّ أمر الله لا يغلب، وسره لا يظهر ولا يعلن، لظهر لكم من حقّنا ما تبهر منه عقولكم و يزيل شکوکم، و لكن ما شاء الله كان، ولكلّ أجَل كتاب، فاتّقوا الله و سلّموا النا، وردّوا الأمر إلينا، فعلينا الإصدار كما كان منّا الإيراد، ولا تحاولوا كشف ما غطّي عنكم، ولا تميلوا عن اليمين و تعدلوا إلى اليسار، واجعلوا قصدكم إلينا بالمودّة على السنة الواضحة فقد نصحت لكم، والله شاهد عليّ و عليكم، ولولا ما عندنا من محبّة صاحبكم و رحمكم والإشفاق عليكم، لكنّا عن مخاطبتكم في شَغَل ممّا قد امتحنّا به منازعة الظالم العتلّ الظالم، المتتابع في غيه المضادّ لربّه المدّعي ما ليس له، الجاحد حقّ من افترض الله طاعته، الظالم الغاصب.

وفي ابنة رسول الله - صلّى الله عليه وعليها - لي أسوة حسنه و سیتردي الجاهل رداء عمله، و سيعلم الكافر لمن عقبى الدار.

عصمنا الله وإيّاكم من المهالك والأسواء، والآفات والعاهات كلّها برحمته فإنّه وليّ ذلك، والقادر على ما يشاء، وكان لنا ولكم وليّاً وحافظاً، والسلام على جميع الأوصياء والأولياء، والمؤمنين و رحمة الله و بركاته، وصلّى الله على النبي محمّد و آله و سلّم تسليماً»(1).

ص: 159


1- الاحتجاج، ج 2، ص 277 - 279.

الخلاصة

لقد تضمن التراث القيّم للإمام المهدي (علیه السّلام) مناحي متعدّدة في الجوانب الفكرية والعقائدية فضلاً عن رسائله الّتي كانت تعالج مشاكل آنيّة واُخرى بعيدة ومستقبليّة تتعلّق بكيان الجماعة الصالحة والقواعد الموالية للإمام(علیه السّلام) .

ففي الجانب العقائدي نجد أنّ الإمام (علیه السّلام) يركّز على عظمة الله سبحانه وقدرته وإليه يعود كلّ شيء، كما أنّ هنالك إشارات وإيضاحات حول مقام الأئمّة (علیهم السّلام) وأنّهم عِبادٌ مکرمون، وأنّ لهم مقاماً و مكاناً خاصّاً عند الله سبحانه، كما ورد عنه (علیه السّلام) بیان خاصّ بعلّة الخلق وبعث الأنبياء والأوصياء و دورهم في حياة الإنسان.

كما أنّ رسائله إلى قواعده و مواليه قد أوضح فيها المشاكل العقائدية الّتي كانت تعاني منها الجماعة الصالحة ولاسيما مسائل إمامة أهل البيت (علیهم السّلام) وبالأخص قضايا الإمام المهدي (علیه السّلام) من أسباب الغيبة وفوائدها وتكاليف الجماعة الصالحة في عصر الغيبة إلى غيرها من قضايا العقيدة بما يتناسب مع الظروف المحيطة به وبقواعده الموالية له.

ص: 160

الأسئلة

1. بيّن المناحي الّتي تضمّنها تراث الإمام المهدي (علیه السّلام) ؟

2. ما هي إشارات الإمام (علیه السّلام) إلى مقام و مكانة الأئمة عند الله سبحانه؟

3. اذكر الكيفيّة الّتي دحض بها الإمام (علیه السّلام) ادّعاءات عمّه جعفر بن علي(علیه السّلام)؟

4. وضّح علّة الخلق وبعث الأنبياء كما وردت في كلمات الإمام (علیه السّلام) ؟

5. ما هي وصيّة الإمام (علیه السّلام) لقواعده ليكونوا في أتمّ الاستعداد لظهوره(علیه السّلام)؟ .

6. ما هي أهميّة الرسائل الّتي بعثها الإمام (علیه السّلام) إلى أعلام الطائفة؟

ص: 161

الدرس 17، 18 : من تراث الإمام المهدي (علیه السّلام) في الغيبة الصغری (2)

مسائل الحميري - رقم 1

مسائل الحميري(1) - رقم 1

«بسم الله الرحمن الرحيم. أطال الله بقاك، وأدام الله عزّك، وتأييدك وسعادتك وسلامتك و أتمّ نعمته عليك، وزاد في إحسانه إليك، وجميل مواهبه لديك، وفضله عندك، وجعلني من السوء فداك، وقدمني قبلك (2) الناس يتنافسون في الدرجات، فمن قبلتموه كان مقبولاً، و من دفعتموه كان وضيعاً، والخامل من وضعتموه، ونعوذ بالله من ذلك وببلدنا أيّدك الله جماعة من الوجوه يتساوون و يتنافسون في المنزلة، وورد أيّدك الله كتابك إلى جماعة منهم في أمر أمرتهم به من معاونة، وأخرج علي بن محمّد بن الحسين بن الملك المعروف بملك بادوكة وهو ختن(3) رحمه الله من بينهم فاغتنم بذلك، وسألني - أيّدك الله - أن أعلمك ما ناله من ذلك، فإن كان من ذنب فاستغفر الله منه، وإن يكن غير ذلك عرفته ما تسكن نفسه إليه إن شاء الله.»

ص: 162


1- الاحتجاج. لأبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، ج 2، ص 301-303.
2- أي جعل موتي قبل موتك. وهذا دعاء له بطول العمر.
3- الختن - بفتحتين - قريب الزوجة من أب وأخ.

التوقيع: «لم نکاتب إلّا من كاتبنا». .

(وقد عودتني أدام الله عزّك في تفضلك ما أنت أهل أن تخبرني على العادة و قبلك -أعزّك الله - فقهاؤنا قالوا: إنّا محتاجون إلى أشياء تسأل لنا عنها.

روى لنا عن العالم(1) (علیه السّلام) : أنه سئل عن إمام قوم، صلّى بهم بعض صلاتهم وحدثت علیه حادثة(2) ، كيف يعمل مَن خلفه؟

فقال: يؤخّر ويتقدّم بعضهم، ويتمّ صلاتهم، و يغتسل من مسّه»

التوقيع: «ليس على مَن نحّاه إلّا غسل اليد، وإذا لم يحدث حادثة يقطع الصلاة، تمّم صلاته مع القوم» (3).

«و روي عن العالم (علیه السّلام) : أن من مسّ میتاً بحرارته غسل يده، و من مسّه وقد برد فعليه الغسل.

وهذا الإمام في هذه الحالة لا يكون إلّا بحرارة، فالعمل ما هو. ولعلّه ينحّيه بثيابه٫ ولا يمسّه، فكيف يجب عليه الغسل.»

التوقيع: «إذا مسّه على هذه الحال لم يكن عليه إلّا غسل يده».

«و عن صلاة جعفر: إذا سها في التسبيح في قيام أو قعود، أو ركوع أو سجود و ذکره في حالة أُخرى قد صار فيها من هذه الصلاة، هل يعيد ما فاته في ذلك التسبيح في الحالة الّتي ذكرها أم يتجاوز في صلاته؟»

التوقيع: «إذا سها في حالة من ذلك ثمّ ذكر في حالة أُخرى، قضى ما فاته في الحالة الّتي ذكره».

«و عن المرأة: يموت زوجها، يجوز أن تخرج في جنازته أم لا؟»

ص: 163


1- الشيعة کانوایر یمزون ب(العالم) للإمام موسی بن جعفر(علیه السّلام) .
2- أي مات في أثناء الصلاة.
3- أي ان لم يقم المأموم الّذي تولّى تنحية إمام الجماعة عن المحراب بحركات ماحية لصورة الصلاة، يتابع صلاته مع الجماعة، فيقوم بدور الإمام.

التوقيع: «تخرج في جنازته».

«وهل يجوز لها في عدّتها أن تزور قبر زوجها أم لا؟»

التوقيع: «تزور قبر زوجها ولا تبيت عن بيتها».

«وهل يجوز لها أن تخرج في قضاء حق يلزمها، أم لا تبرح من بيتها وهي في عدّتها؟»

التوقيع: «إذا كان حق خرجت فيه وقضته، وإن كانت حاجة ولم يكن لها من ينظر فيها خرجت بها حتّى تقضيها، ولا تبيت إلّا في بيتها»(1).

«و روي في ثواب القرآن في الفرائض وغيرها: أن العالم (علیه السّلام) قال: عجباً لمن لم يقرأ في صلاته: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ » كيف تقبل صلاته؟

وروي: ما زكت صلاة من لم يقرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ».

وروي: أن من قرأ في فرائضه «الهُمزة» أُعطي من الثواب قدر الدنيا فهل يجوز أن يقرأ «الهُمزة» ويدع هذه السور الّتي ذكرناها، مع ما قد روي: أنه لا تقبل صلاة ولا تزكو إلّا بهما؟

التوقيع: «الثواب في السورة على ما قد روي: وإذا ترك سورة ممّا فيها الثواب وقرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وإِنَّا أَنْزَلْنَاهُ » لفضلهما أعطي ثواب ما قرأ، و ثواب السور الّتي ترك ويجوز أن يقرأ غير هاتين السورتين و تكون صلاته تامّة ولكن يكون قد ترك الفضل».

وعن وداع شهر رمضان: متى يكون؟ فقد اختلف فيه أصحابنا، فبعضهم يقول: يقرأ في آخر ليلة منه وبعضهم يقول: وهو في آخر يوم منه إذا رأى هلال شوال؟»

التوقيع: «العمل في شهر رمضان في لياليه، والوداع يقع في آخر ليلة منه، فإذا خاف أن ينقص الشهر جعله في ليلتين».

ص: 164


1- فأصل الخروج من البيت لحاجة . لا يوجد من ينظر فيها - يجوز، إنّما المهم أن لا تبيت خارج بیتها.

«و عن قول الله عز وجل: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ » أرسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) المعنيّ به؟ «ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ » ما هذه القوة؟ «مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ »(1) ما هذه الطاعة و أين هي؟ ما خرج لهذه المسألة جواب.

فرأيك أدام الله عزّك بالتفضّل عليّ بمسألة من تثق به من الفقهاء عن هذه المسائل فأجبني عنها منعماً مع ما تشرحه لي من أمر علي بن محمّد ابن الحسين بن الملك المتقدّم ذكره بما يسكن إليه ويعتد بنعمة الله عنده، و تفضّل عليّ بدعاءٍ جامع لي ولإخواني في الدنيا والآخرة فعلت مثاباً إن شاء الله(2)

التوقيع: «جمع الله لك و لإخوانك خير الدنيا والآخرة».

مسائل الحميري - رقم 2

مسائل الحميري(3) - رقم 2

« فرأيك أدام الله عزّك في تأمّل رقعتي والتفضّل بما أسأل من ذلك لأضيفه إلى سائر أياديك عندي و منك عليّ، واحتجت أدام الله عزّك أن يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثانية هل يجب عليه أن يكبّر؟ فإنّ بعض أصحابنا قال: لايجب عليه التكبير، ويجزيه أن يقول بحول الله وقوّته أقوم وأقعد؟.

الجواب: «إنّ فيه حديثين: أمّا أحدهما: (فإنّه إذا انتقل من حالة إلى حالة اُخرى فعليه التكبير). وأما الآخر: فإنّه روی: (أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك في التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى) و بأیّهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً».

ص: 165


1- التكوير /19 - 21.
2- يبدو أنّ الإمام المهدي(علیه السّلام) كان يتبع الأسلوب النبوي في عدم الإجابة على الأسئلة الّتي لا ضرورة منها للسائلين أو هي فوق مستوياتهم.
3- الاحتجاج، ج 2، ص 303.

وعن الفص الخماهن(1): هل يجوز فيه الصلاة إذا كان في اصبعه؟»

الجواب: «فيه كراهية أن يصلّي فيه، وفيه أيضاً إطلاق، والعمل على الكراهية»(2).

«و عن الرجل اشترى هَدياً لرجل غاب عنه، وسأله أن ينحر عنه هدياً بمني فلمّا أراد نحر الهدي نسي اسم الرجل ونحر الهدي، ثمّ ذكره بعد ذلك، أيجزي عن الرجل أم لا؟»

الجواب: «لا بأس بذلك، وقد أجزأ عن صاحبه»..

«و عندنا حاكة مجوس، يأكلون الميتة، ولا يغتسلون من الجنابة، و ينسجون لنا ثياباً ، فهل يجوز الصلاة فيها من قبل أن تغسل؟»

الجواب: «لا بأس بالصلاة فيها».

«وعن المصلّي: يكون في صلاة الليل في ظلمة، فإذا سجد يغلط بالسجادة ويضع جبهته على (مسح أو نطع) فإذا رفع رأسه وجد السجادة هل يعتد بهذه السجدة أم لايعتد بها؟»

الجواب: «ما لم يستو جالساً فلا شيء عليه في رفع رأسه لطلب الخَمِرة»(3).

«وعن المحرم: يرفع الظلال هل يرفع خشب أو العمارية الكنيسة ويرفع الجناحين أم لا؟»(4)

ص: 166


1- كلمة معرّية تطلق على نوع من الحديد. وفي بعض النسخ (الجوهر) وإذا صحّ فالمراد غير الجواهر الّتي يستحبّ الصلاة فيها.
2- من عادة الأئمة (علیهم السّلام) أنّهم كانوا يعملون على تربية المواهب لدى أصحابهم، ولعل التفصيل في الجوابین السابقين لتربية ملكة الاجتهاد لدى الحميري.
3- حصيرة صغيرة كانت توضع ليسجد عليها - كالسجدة المعمولة من التراب - سمّيت خمرة لأنّها تستر الوجه من الأرض.
4- العمارية رقعة مزينة تخاط في المظلّة، وتطلق على قماش المظلة. والكنيسية: نوع من المحمل تشبه هندسته هندسة الكنيسة. وفي مجمع البحرين: الكنيسة شيء يعزّز في المحمل أو الرحل ويلقي عليه ثوب يستظل به الراكب ویستر به.

الجواب: «لا شيء عليه في ترك رفع الخشب».

«و عن المحرم: يستظلّ من المطر بنطع أو غيره، حذراً على ثيابه و ما في محمله أن يبتلّ، فهل يجوز ذلك؟»

الجواب: «إذا فعل ذلك في المحمل في طريقه، فعليه دم»(1).

«و عن الرجل: يحجّ عن واحد، هل يحتاج أن يذكر الّذي حج عنه عند عقد إحرامه أم لا، وهل يجب أن يذبح عمّن حجّ عنه و عن نفسه أم يجزيه هدي واحد؟ »

الجواب: «قد يجزيه هدي واحد، و يذكره وإن لم يفعل(2) فلابأس».

«و هل يجوز للرجل أن يحرم في کساء خزّ أم لا؟»

الجواب: «لا بأس بذلك، وقد فعله قوم صالحون».

«وهل يجوز للرجل أن يصلّي في بطيط(3) لا يغطي الكعبين أم لايجوز؟»

الجواب: «جائز».

« و عن الرجل يصلّي وفي كمّه أو سراويله سكين أو مفتاح حديد، هل يجوز ذلك؟ »

«وعن الرجل: يكون معه بعض هؤلاء(4) ، ويكون متّصلاً بهم، فيحج ويأخذ ذات

ص: 167


1- أي عليه أن يكفّر بذبح شاة والتصدّق بها.
2- الظاهر أنّ هذين جوابان عن سؤالين دمجاً معاً (ويذكره) أي: المنوب عنه في عقد الإحرام. والهدي من الأنعام: ما يسوقه الحاج المقرن معه، فالقارن يسوق الهدي عند إحرامه، ويتخيّر بين التلبية والإشعار أو التقليد، ويختص البقر والغنم بتقليدها بنعل قد صلّي فيه. وأمّا إن ساق الإبل فيتخيّر بين تقليدها، وبين إشعارها بأن يشقّ الجانب الأيمن من سناها ويلطّخ صفحتها بدمها. و إذا ساق الهدي قرن بين عمرته و حجهبإحرام واحد، وإذا لم يسق تمتّع بالعمرة إلى الحجّ وضحى يوم العيد بما يشتريه من منی.
3- البطيط: نوع من الأحذية مفلطح مفتوق عند قبّة القدم.
4- وادي العقيق، ثاني المواقيت الّتي يحرم منها الحجاج، ويبعد عن مكة المكرمة مائة كيلومتراً تقریباً ،وهو ميقات أهل العراق وأهل نجد، وكل من يمرّ به في طريقه إلى مكّة. وأوّل هذا الميقات . من جهة العراق - موضع يقال له: (المسلخ) ووسطه (غمرة) و آخره (ذات عرق)۔ والشيعة يحرمون من المسلخ) والسنّة يحرمون من (ذات عرق). فإذا اقتضت التقيّة تأخير الإحرام إلى (ذات عرق) وجب على الحاج أن يلبس ثوبي الإحرام ويلبّي سرّاً من (المسلخ) ثمّ يلبس المخيط تقية وإن لم يمكنه ذلك أحرم بثيابه ولبّی فإذا بلغ (ذات عرق) ينزع المخيط ويفدي لبسه في حال الإحرام. والحاصل: أنّ الواجب هو الإحرام من المسلخ.

عرق فيحرم معهم لما يخاف الشهرة(1) أم لايجوز إلّا أن يحرم من المسلخ.»

الجواب: «يحرم من ميقاته ثمّ يلبس الثياب، ويلبي في نفسه، فإذا بلغ إلى ميقاتهم أظهر».

«و عن لبس النعل المعطون(2) فإنّ بعض أصحابنا يذكر أن لبسه کریهٌ؟»

الجواب: «جائز، ولا بأس به».

«و عن الرجل: من وكلاء الوقف مستحلّاً لما في يده، ولا يَرع عن أخذ ماله ريّما نزلت في قريته وهو فيها. أو أدخل منزله . وقد حضر طعامه - فيدعوني إليه، فإن لم آكل من طعامه عاداني عليه وقال: فلان لا يستحلّ أن يأكل من طعامنا فهل يجوز لي أن آكل من طعامه وأتصدّق بصدقة؟ وكم مقدار الصدقة؛ وأن أهدي هذا الوكيل هديّة إلى رجل آخر فأحضر فيدعوني إلى أن أنال منها، وأنا أعلم أنّ الوكيل لا يَرع عن أخذ ما في يده، فهل عليّ فيه شيء إن أنا نلت منها؟»

الجواب: «إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه واقبل برّه وإلّا فلا».

«وعن الرجل ممّن يقول بالحق ويرى المتعة، ويقول بالرجعة، إلّا أنّ له أهلاً؟

ص: 168


1- أي يخاف التشهير به.
2- عطن الجلد: وضع في الدماغ وترك فانتن، فهو عطين ومطون، والدباغ ملح يجعل فيه الجلد إلى أن يتفسّخ صوفه.

موافقة له في جميع أموره، وقد عاهدها: ألا يتزوّج عليها، ولا يتمتّع ولا يتسرّی و قد فعل هذا منذ تسعة عشر سنة. ووفی بقوله، فربّما غاب عن منزله الأشهر فلا يتمتّع ولا تتحرّك نفسه أيضاً لذلك، ويرى أن وقوف من معه من أخ وولد و غلام و وکیل وحاشية ممّا يقلّله في أعينهم، ويحبّ المقام على ما هو عليه محبّة لأهله و میلاً إليها، وصيانة لها ولنفسها، لا لتحريم المتعة بل يدين الله بها، فهل عليه في ترك ذلك مأثمّ أم لا؟»

الجواب: «يستحبّ له أن يطيع الله تعالى بالمتعة، ليزول عنه الحلف في المعصية ولو مرّة».

مسائل الحميري - رقم 3

مسائل الحميري(1) - رقم 3 سأل عن المحرم: «يجوز أن يشدّ المئزر من خلفه على عقبه بالطول، و يرفع طرفيه إلى حقويه ويجمعهما في خاصرته ويعقدها، ويخرج الطرفين الآخرين من بين رجلين ويرفعهما إلى خاصرته، و يشدّ طرفيه إلى ورکيه، فيكون مثل السراويل يستر ما هناك، فإنّ المئزر الأوّل كنّا نتّزر به إذا ركب الرجل جمله يكشف ما هناك، وهذا أستر؟»

فأجاب(علیه السّلام) : «جاز أن يتّزر الإنسان كيف شاء إذا لم يحدث في المئزر حدثاً بمقراط ولا إبرة يخرجه به عن المئزر، و غزره غزراً ولم يقعده، ولم يشد بعضه ببعض، وإذا غطّى سرّته وركبتيه كلاهما فإنّ السنّة الُمجمع عليها بغير خلاف تغطية السرّة و الركبتين، والأحب إلينا والأفضل لكل أحد شده على السبيل المألوفة المعروفة عند الناس جميعاً إن شاء الله».

ص: 169


1- الاحتجاج، ج 2، ص 306-309. کتاب آخر لمحمد بن عبدالله الحميري إلى صاحب الزمان (علیه السّلام)، من أجوبة مسائله الّتي سأله عنها في سنة سبع وثلاثمائة:...

وسأل: «هل يجوز أن يشد عليه مكان العقد تکه؟»

فأجاب: «لا يجوز شد المئزر بشيء سواه من تکه ولا غيرها».

وسأل عن التوجّه للصلاة أن يقول على ملّة إبراهيم و دین محمّد (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، فإنّ بعض أصحابنا ذكر: «أنّه إذا قال علی دین محمّد فقد أبدع، لأنّا لم نجده في شيء من كتب الصلاة خلا حديثاً في كتاب القاسم بن محمّد عن جدّه عن الحسن بن راشد: أن الصادق (علیه السّلام) قال للحسن: كيف تتوجّه؟

فقال: أقول لبيك وسعديك.

فقال له الصادق (علیه السّلام) : ليس عن هذا أسألك. كيف تقول وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً.

قال الحسن: أقول.

فقال الصادق(علیه السّلام) : إذا قلت ذلك فقل: على ملّة إبراهيم، و دین محمّد، و منهاج علي بن أبي طالب، والإتمام بآل محمّد، حنيفاً ومسلماً وما أنا من المشركين»

فأجاب(علیه السّلام) : «التوجّه كلّه ليس بفريضة، والسنّة المؤكّدة فيه الّتي كالإجماع الّذي لا خلاف فيه: وجّهت وجهي للّذي فطر السماوات والأرض، حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم و دین محمّد وهدي أميرالمؤمنين، وما أنا من المشركين. إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين، لا شريك له وبذلك اُمرت وأنا من المسلمين. اللهمّ اجعلني من المسلمين أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجیم بسم الله الرحمن الرحيم ثمّ اقرأ الحمد.»

قال الفقيه(1) الّذي لا يشكّ في علمه: «إنّ الدين لمحمّد والهداية لعلي أمير المؤمنين

ص: 170


1- يمكن أن يكون المراد من (الفقيه) هو الإمام الصادق، باعتبار الرواية عنه في السؤال، ويمكن أن يكون المراد من (الفقيه) الإمام الكاظم، لأنّ الشيعة كانوا يعبرون عنه ب(الفقيه) أو ب(لفقيه أهل البيت) ويمكن أنّ المراد غيرهما من الأئمة، لأنّ هذا اللقب كان يطلق على منهم في زمانه.

لأنّها له (علیه السّلام) وفي عقبه باقية إلى يوم القيامة فمن كان كذلك فهو من المهتدين ومن شكّ فلا دين له، ونعوذ بالله من الضلالة بعد الهدی»

وسأله عن القنوت في الفريضة إذا فرغ من دعائه، يجوز أن يردّ يديه على وجهه وصدره للحديث الّذي روي: (أنّ الله عزّوجلّ أجلّ من أن يردّ يدي عبده صفراً بل يملأهما من رحمته) أم لا يجوز؟ فإنّ بعض أصحابنا(1) ذكر أنه عمل(2) في الصلاة.»

فأجاب(علیه السّلام) : «ردّ اليدين من القنوت على الرأس والوجه غير جائز في الفرائض،والّذي عليه العمل فيه، إذا رجع يده في قنوت الفريضة و فرغ من الدعاء، أن يردّ بطن راحتيه مع صدره تلقاء ركبتيه على تمهّل، و يكبّر ويركع، و الخبر صحيح وهو في نوافل النهار والليل دون الفرائض، والعمل به(3) فيها أفضل». .

وسأل: «عن سجدة الشكر بعد الفريضة، فإنّ بعض أصحابنا ذكر آنّها (بدعة) فهل يجوز أن يسجدها الرجل بعد الفريضة؟ وإن جاز ففي صلاة المغرب هي بعد الفريضة أو بعد الأربع ركعات النافلة؟»

فأجاب(علیه السّلام) : «سجدة الشكر من ألزم السنن وأوجبها، ولم يقل إنّ هذه السجدة بدعة إلّا من أراد أن يحدث بدعة في دين الله. فأمّا الخبر المروي فيها بعد صلاة المغرب والاختلاف في أنّها بعد الثلاث أو بعد الأربع فإنّ فضل الدعاء والتسبيح بعد الفرائض على الدعاء بعقيب النوافل كفضل الفرائض على النوافل، والسجدة دعاء و تسبيح فالأفضل أن تكون بعد الفرائض فإن جعلت بعد النوافل أيضاً جاز»(4).

وسأل: «أنّ لبعض إخواننا ممّن نعرفه ضيعة جديدة بجنب ضيعة خراب، للسلطان

ص: 171


1- يقصد من أصحابنا : علماء الشيعة.
2- عمل في الصلاة، أي عمل خارج عن الصلاة، والعمل الخارج عنها - إذا دخل فيها - يفسدها.
3- أي العمل بالخبر المذكور أعلاه في النوافل أفضل فيرد يديه من القنوات على وجهه وصدره، ولا يفعل ذلك في الفرائض وإنّما يرد راحتي يديه مع صدره سوية مقابل ركبتيه للركوع.
4- لأنها مستحبّة، فتقديمها على النافلة أفضل، و تأخيرها لا يضرّ كما أن تركها ليس حراماً.

فيها حصّته و اکرته ربّما زرعوا حدودها ويؤذيهم عمّال السلطان و يتعرّضون في الكل من غلّات ضيعته، وليس لها قيمة لخرابها وإنّما هي بائرة منذ عشرين سنة، وهو يتحرّج من شرائها لأنّه يقال: إنّ هذه الحصة من هذه الضيعة كانت قبضت عن الوقف قديماً للسلطان، فإن جاز شراؤها من السلطان، وكان ذلك صلاحاً له وعمارة لضيعته وإنّه يزرع هذه الحصة من القرية البائرة لفضل ماء ضيعته العامرة، وينحسم عنه طمع أولياء السلطان، وإن لم يجز ذلك عمل بما تأمره به إن شاء الله تعالى؟»

فأجاب: «الضيعة لايجوز ابتياعها إلّا من مالكها أو بأمره أو رضاءٍ منه»(1) .

وسأل: «عن رجل استحلّ امرأة خارجة من حجابها، وكان يحترز من أن يقع ولد فجاءت بابن، فتحرّج الرجل أن لا يقبله فقبله و هو شاكّ فيه. وجعل يجري النفقة على اُمّه وعليه حتّى ماتت الاُمّ، و هو ذا يجري عليه غير انّه شاكّ فيه ليس يخلطه بنفسه، فإن كان ممّن يجب أن يخلط بنفسه ويجعله کسائر ولده فعل ذلك وإن جاز أن يجعله له شيئاً من ماله دون حقّه فعل؟»

فأجاب(علیه السّلام) : «الاستحلال بالمرأة يقع على وجوه، والجواب يختلف فيها فليذكر الوجه الّذي وقع الاستحلال عليه به مشروحاً ليعرف الجواب فيما يسأل عنه من أمر الولد إن شاء الله». .

وسأله الدعاء له فخرج الجواب:

«جاد الله عليه بما هو جلّ و تعالى أهله، إيجابنا لحقّه، ورعايتنا لأبيه رحمه الله، وقربه منّا، وقد رضينا بما علمناه من جمیل نیّته، ووقفنا عليه من مخاطبته، المقرّ له من الله، الّتي يرضي الله عزّوجلّ و رسوله وأوليائه عليهم السلام والرحمة بما بدأنا، نسأل الله بمسألته ما أمّله من كلّ خير عاجل و آجل، وأن يصلح له من أمر دينه

ص: 172


1- لأنّ ما يغتصبه السلطان يبقى ملكاً لمالكه الشرعي، فشرائه من السلطان ليس أكثر من عملية صورية لرفع سلطته، وأما شرائه الحقيقي فلايتمّ إلّا من مالكه.

و دنیاه ما يجب صلاحه، إنّه ولي قدير».

مسائل الحميري - رقم 4

مسائل الحميري(1) - رقم 4

«بسم الله الرحمن الرحيم أطال الله بقاك وأدام عزّك وكرامتك وسعادتك وسلامتك، وأتمّ نعمته عليك و زاد في إحسانه إليك، وجميل مواهبه لديك، وفضله عليك، وجزيل قِسَمِه لك، وجعلني من السوء كلّه فداك، وقدّمني قبلك(2).

إنّ قبلَنا(3) مشایخ و عجايز يصومون رجباً منذ ثلاثين سنة وأكثر، ويصلّون بشعبان و شهر رمضان. وروي لهم بعض أصحابنا: أنّ صومه معصية؟»

فأجاب(علیه السّلام) : «قال الفقيه(4) : يصوم منه أيّاماً إلى خمسة عشر يوماً إلّا أن يصوم عن

ص: 173


1- الاحتجاج، أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، ج 2، ص 309 - 315.
2- أي جمل وفاتي قبل وفاتك.
3- قبلنا: عندنا.
4- الفقيه في مصطلح الحديث - هو الإمام موسی بن جعفر(علیه السّلام) ففي عهد الإمام الكاظم كان الإرهاب الرشيدي يلاحق الشيعة، ويكفي دليلاً على مدى إرهاب هارون الرشيد، أنّ ذرية النبي تنكرّوا وهربوا إلى أفريقيا و أنّ الإمام الكاظم بقي سبع سنوات على المشهور - مسجوناً في الزنزانات الانفرادية تحت الأرض، ثمّ توفّي مسموماً وحمل جثمانه أربعة من الحمّالين. فكان الشيعة يرمزون عن الإمام الكاظم(علیه السّلام) ب(الفقيه) وب (العالم) وربّما ب (الرجل). وفي مجمع البحرين: (قد يطلق العالم ويراد به أحد الأئمة من غير تعيين) ولعلّ أحدهم من غير تعيين هو المعني ب(العالم) في بعض الأحاديث التالية، لأنّها تشير إلى روایات مأثورة عن غير الإمام الكاظم(علیه السّلام) . ويلاحظ أنّ الإمام المهدي(علیه السّلام) يستشهد بعض الروايات أو بعض الأئمة . كما نجد في هذا الحديث وأحاديث اُخرى - رغم أن قوله حجّة كأقوالهم. ولعل سبب ذلك: - 1. توجيه العلماء إلى الاعتماد على الروايات المأثورة عن أهل البيت جميعاً وعدم محاولة استقصاء المعارف الإسلامية عن طريق مراسلته فقط، وكأنّه يريد إشعارهم بأنّ أهل البيت جميعاً خطوط متوازية إلى الإسلام وهو واحد نزل من عند الأحد.تکریم آبائه(علیهم السّلام) ، شأن كلّ الأئمة والأنبياء الذين كانوا يردون عن أسلافهم: لا لقصور فيهم وإنّما تخليداً لأولئك الأسلاف في سلسلة الاقداس. كما نجد القرآن الكريم وسائر كتب السماء تروي عن الأنبياء السابقين وريّما عن غيرهم كلقمان رغم أنها هبطت من عند الله الّذي هو مرسل الرسل ومصدر الرسالات، ولكنّه أراد أن يلمّ البشر بالترابط الوثيق بين شجرة النبوّة وجذورها الممتدّة حتّى المظهر الأولى للإنسان، وأن يتواكب مع توجهات السماء إلى الأرض وتجاوب الرسالات مع تطوّر الإنسان. حتّى لا يحسبها أطروحة مرتجلة أو تجربة مجهولة النتائج والأبعاد. 3. إنّ الإمام المهدي (علیه السّلام) حيث لم يكن حاضراً يحاور أنصاره وأعدائه حتّى الإقناع والافحام اختار الاستناد إلى المسلمات العقلية أو الإسلامية أحياناً، وأحياناً الاعتماد على الروايات المأثورة عن آبائه ليكون أبعد عن التقنيد والتشكيك.

الثّلاثة الأيام الفائتة(1)، للحديث: «أنّ نِعم شهرُ القضاء رجب».

وسأل: «عن رجل يكون في محمله و الثلج كثير بقامة الرجل، فيتخوّف إن نزل الغوص فيه، و ربّما يسقط الثلج وهو على تلك الحال ولا يستوي له أن يلبّد شيئاً منه لكثرته و تهافته، هل يجوز [له] أن يصلّي في المحمل الفريضة؟ فقد فعلنا ذلك أيّاماً فهل علينا في ذلك إعادة أم لا؟»

فأجاب: «لابأس [به] عند الضرورة والشدّة».

ص: 174


1- لعلّ المعنى: يصوم عن الأشهر الثلاثة الأيّام الفائتة بأنّها يصومها قضاءاً إذا كانت عليه، لأن صوم القضاء مقدّم على صوم الندب. وإلّا فإنّ عدداً من الأحاديث تؤكّد استحباب صیام الأشهر الثلاثة. ولعلّ هذا النهي عن سيّدنا و مولانا صاحب الزمان - صلوات الله عليه - إنّما هو لأجل أن أبا الخطّاب كان قد روی وجوب صوم رجب وشعبان، فنهي الأئمة (علیهم السّلام) نهي وجوب، أو نهي انتشار عمل لكي يعرف الاستحباب، قال شيخنا الحر العاملي - قدّس الله نفسه الزكية . في الوسائل: «قال الكليني: وجاء في صوم شعبان أنّه (علیه السّلام)سئل عنه فقال: ما صامه رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ولا أحد من آبائي - أقول - حمله الكليني على إرادة نفي الفرض والوجوب وأنّهم ما صاموه على ذلك الوجه بل على الاستحباب (قال) و ذلك أنّ قوم قالوا: إنّ صومه فرض مثل صوم شهر رمضان و أن من أفطر يوماً من شعبان وجبت عليه الكفارة». وسائل الشيعة، ج 7، ص 361 - 362).

وسأل: (عن الرجل يلحق الإمام وهو راكع فيركع معه و يحتسب تلك الركعة، فإنّ بعض أصحابنا قال: إن لم يسمع تكبيرة الركوع فليس له أن يعتدّ بتلك الركعة؟»

فأجاب: «إذا لحق مع الإمام من تسبيح الركوع تسبيحة واحدة اعتدّ بتلك الركعة وإن لم يسمع تكبيرة الركوع»(1) .

وسأل: «عن رجل صلّى الظّهر ودخل في صلاة العصر فلمّا أن صلّی من صلاة العصر ركعتين استيقن أنّه صلّى الظهر رکعتین، كيف يصنع؟»

فأجاب: «إن كان أحدث بين الصلاتین حادثة يقطع بها الصلاة أعاد الصلاتین و إن لم يكن أحدث حادثة جعل الركعتين الآخرتين تتمّة لصلاة الظّهر، وصلّى العصر بعد ذلك»(2).

وسأل: «عن أهل الجنّة يتوالدون إذا دخلوها أم لا؟»

فأجاب: «إن الجنة لا حمل فيها للنساء ولا ولادة، ولا طمث ولا نفاس ولا شقاء بالطفولية، وفيها ما تشتهي الأنفس و تلذّ الأعين(3)، كما قال سبحانه: فإذا اشتهى المؤمن ولداً خلقه الله بغير حمل ولا ولادة على الصورة الّتي يريد كما خلق آدم عبرة»..

وسأل: «عن رجل تزوّج امرأة بشيء معلوم إلى وقت معلوم، وبقي له عليها وقت، فجعلها في حلّ ممّا بقي له عليها وقد كانت طمثت قبل أن يجعلها في حلّ من أيّامها بثلاثة أيّام، أيجوز أن يتزوّجها رجل معلوم إلى وقت معلوم عند طهرها من هذه1

ص: 175


1- الفتوى على أن من أدرك الإمام في حالة الركوع اعتدّ بتلك الركعة وإن لم يدرك تسبيحة ولا تكبير الركوع، استناداً إلى أحاديث صحيحة قد عمل بها فيحمل مثل هذا التوقيع على ضروب من الفضيلة أو غيرها إذ لم ينقل القول به عن أحد من الفقهاء قديماً وحديثاً سوى الشيخ في نهاية الأحكام والعلّامة في التذكرة مع موافقتهما للمشهور في سائر كتبهما، بل عبارة التذكرة غير ظاهرة في مخالفة المشهور، فلا يبعد تحقق الاجماع عليه.
2- بعض الفتاوى لا يعتمد هذا النص بوجود نصوص معارضة. وعلى العموم هذا الحديث معرض للاجتهاد كبقيّة الأحاديث. و عملية الاستنباط تتوقف على جميع النصوص الواردة في القضيّة المطروحة للاجتهاد ،و النظر فيها وفق المقاييس المأثورة الّتي نقحت في علم (أصول الفقه).
3- الزخرف /71.

الحيضة أو يستقبل بها حيضة اُخرى؟»

فأجاب: «يستقبل حيضة غير تلك الحيضة، لأنّ أقلّ تلك العدّة حيضة وطهرة تامّة».

وسأل: «عن الأبرص والمجذوم وصاحب الفالج، هل يجوز شهادتهم، فقد روي لنا: أنّهم لا يؤمّون الأصحّاء»

فقال: «إن كان ما بهم حادثاً جازت شهادتهم، وإن كان ولادة لم تجز»(1).

وسأل: «هل يجوز للرجل أن يتزوّج ابنة امرأته؟»

فأجاب: «إن كانت ربّيت في حجره فلا يجوز، وإن لم تكن ربّيت في حجره وكانت أمّها من غير عياله(2) روي: أنّه جائز».

وسأل: «هل يجوز أن يتزوّج بنت ابنة امرأة ثمّ يتزوّج جدّتها بعد ذلك أم لا؟»

فأجاب: «قد نهي عن ذلك».

وسأل: «عن رجل ادّعي على رجل ألف درهم وأقام به البيّنة العادلة، وادّعى عليه أيضاً خمسمائة درهم في صكّ آخر، وله بذلك بيّنة عادلة، وادّعى عليه أيضاً ثلاثمائة درهم في صكّ آخر، ومائتي درهم في صكّ آخر، وله بذلك بيّنة كله بيّنة عادلة ويزعم المدّعى عليه أنّ هذه الصكوك كلّها قد دخلت في الصکّ الّذي بألف درهم،

ص: 176


1- هذه الرواية فقهياً غير معمول بها، لمعارضتها للعمومات الدالّة على قبول شهادة غير الفاسق مطلقاً، الّتي قد عمل بها قديماً وحديثاً، وعدم اعتبار سند هذه الرواية لإثبات الحكم الشرعي، وعدم عمل الفقهاء بها حتّى يجير السند بالعمل، وعدم شاهد آخر له سوی مرسل الدعائم عن أبي جعفر (علیه السّلام) الّذي رواه من مستدرك الوسائل بالنسبة للأبرص فقط من هذه الثلاثة، ومطلقاً لا مقيداً بالولادة (اذن) فیجب ردّ علم هذه الرواية إلى أهلها - صلوات الله عليهم أجمعين - والله أعلم.
2- أي عقد عليها ولم يدخل بها ما لم يدخل بها لا تجب عليه نفقها ولا تكون من عياله مع امتناعها في الدخول بها لانّها حينئذ بحكم الناشزة، إذ النفقة والاعالة في مقابلة التمكين، فان لم يكن من طرفها تمكين فلا تجب الإعالة من طرفه وحينئذٍ لا تكون ابنتها ربيبته، لقوله تعالى: «وربائبكم اللّاتي في حجوركم، من نسائكم اللّاتي دخلتم يهنّ، فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح علیکم...» (النساء /23).

والمدّعي منكر أن يكون كما زعم، فهل يجب الألف درهم مرّة واحدة أو يجب عليه كلّما يقيم البيّنة به؟ وليس في الصكاك استثناء إنّما هي صكاك على وجهها(1)

فأجاب: «یؤخذ من المدّعى عليه ألف درهم مرّة وهي الّتي لا شبهة فيها، ویرد اليمين في الألف الباقي على المدعي فان نکل فلا حقّ له».

وسأل عن طين القبر (2): «يوضع مع الميّت في قبره هل يجوز ذلك أم لا؟»

فأجاب: «يوضع مع الميّت في قبره، ويخلط بحنوطه إن شاء الله».

وسأل: «فقال: روي لنا عن الصادق (علیه السّلام) : أنّه كتب على إزار ابنه: إسماعيل يشهد أن لا إله إلّا الله، فهل يجوز أن نكتب مثل ذلك بطين القبر أم غيره؟»

فأجاب: «يجوز ذلك».

وسأل: «هل يجوز أن يسبّح الرجل بطين القبر، وهل فيه فضل؟» فأجاب: «يجوز ذلك و فيه فضل» (3).

وسأل: «عن الرجل يزور قبور الأئمّة (علیهم السّلام) ، هل يجوز أن يسجد على القبر أم لا؟ وهل يجوز لمن صلّى عند بعض قبورهم (علیهم السّلام) أن يقوم وراء القبر ويجعل القبر قبلة،

ص: 177


1- هذا إذا كانت الشهادات والصكوك بحيث يحتمل أن يكون الألف مجموع الديون أمّا إذا كانت الشهادات والصكوك بحيث تدلّ على أنّ الفريق الأوّل دفع إلى الفريق الثاني مرّة ألف و مرّة خمسمائة و ثالثة ثلاثمائة ورابعة مائتين فعلى الفريق الثاني ألفان ولا تردّ اليمين على الفريق الأوّل.
2- المراد من طين القبر كلما ورد مطلقاً في الأحاديث هو طين قبر الإمام الحسين (علیه السّلام).
3- وقد ورد في عديد الأحاديث ذلك (منها) ما ورد في كتاب آخر للحميري (رحمه الله) إلى صاحب الأمر(علیه السّلام) (وسئل هل يجوز أن يسبح الرجل بطين القبر وهل فيه فضل؟ فأجاب(علیه السّلام) : يسبح به فما من شيء من التسبيح أفضل منه ومن فضله أن الرجل ينسى التسبيح ويريد السبحة نيكتب له التسبيح. وعن الصادق (علیه السّلام) قال: من سبح بسبحة من طين قبر الحسين (علیه السّلام) تسبيحة كتب الله له أربعمأة حسنة ومحا عنه أربعمأة سيئة وقضيت له أربعمأة حاجة ورفع له أربعمأة درجة (الحديثان من كتاب: جامع٫ أحاديث الشيعة، ج 2، ص 332).

أو يقوم عند رأسه أو رجليه؟. وهل يجوز أن يتقدّم القبر ويصلّي ويجعل القبر خلفه أم لا؟»

فأجاب: «أمّا السجود على القبر، فلا يجوز في نافلة ولا فريضة ولا زيارة(1) والّذي عليه العمل أن يضع خدّه الأيمن على القبر. وأمّا الصلاة فإنّها خلفه،ويجعل القبر أمامه ولا يجوز أن يصلّي بين يديه ولا عن يمينه ولا عن يساره، لأنّ الإمام (علیه السّلام) يتقدّم ولا يساوي»(2).

وسأل: «يجوز للرجل إذا صلّي الفريضة أو النافلة و بيده السبحة أن يديرها وهو في الصلاة؟»

فأجاب: «يجوز ذلك إذا خاف السهو والغلط».

وسأل: «هل يجوز أن يدير السبحة بيده اليسار إذا سبّح، أو لا يجوز؟»

فأجاب: «يجوز ذلك والحمد لله ربّ العالمين»..

وسأل: «روي عن الفقيه في بيع الوقف خبر مأثور: إذا كان الوقف على قوم بأعيانهم وأعقابهم، فاجتمع أهل الوقف على بيعه وكان ذلك أصلح لهم أن يبيعوه، فهل يجوز أن يشتري من بعضهم إن لم يجتمعوا كلّهم على ذلك أم لا يجوز إلّا أن يجتمعوا كلّهم على ذلك؟ وعن الوقف الّذي لايجوز بيعه؟»

فأجاب: «إذا كان الوقف على إمام المسلمين فلا يجوز بيعه، وإن كان على قوم من

ص: 178


1- أي ولا صلاة زيارة، وهذه الصلاة من النوافل الخاصّة الّتي تستحب بعد زيارات المعصومين - حسب الترتيب المأثور - وليست من النوافل العامة.
2- ثبت في السنّة: أنّ الإمام لا يتقدّم ولا يساوي. وهذا الحكم عام يشمل إمام الجماعة مطلقاً سواء أكان معصوماً أو غير معصوم، فلا تجوز الصلاة معه الخطوط الّتي بينه وبين الكعبة أو في الخط المساوي له، وإنّما في الخطوط الّتي خلفه فقط. و ثبت - أيضاً . عندنا حسب الاستدلال الفقهي عدم جواز الصلاة في حضرةالمعصوم مساوياً له أو مقدّماً عليه، سواء كان حيّاً أو ميّتاً، لأنّ المعصومين جميعاً أحياء عند ربّهم.

المسلمين فليبع كلّ قوم ما يقدرون على بيعه مجتمعين و متفرّقين إن شاء الله»(1).

وسأل: «هل يجوز للمحرم أن يصير على إبطه المرتك والتوتياء لريح العرق أم لايجوز؟»(2)

فأجاب: «يجوز ذلك وبالله التوفيق».

وسأل: «عن الضرير إذا شهد في حال صحّته على شهادة، ثم كفّ بصره ولا يرى خطّه فيعرفه، هل يجوز شهادته أم لا؟ وإن ذكر هذا الضرير الشهادة، هل يجوز أن يشهد على شهادته أم لا يجوز؟»

فأجاب: «إذا حفظ الشهادة و حفظ الوقت، جازت شهادته»(3).

وسأل: «عن الرجل يوقف ضيعة أو دابّة ويشهد على نفسه باسم بعض وکلاء الوقف، ثمّ يموت هذا الوكيل أو يتغيّر أمره ويتولّى غيره، هل يجوز أن يشهد الشّاهد

ص: 179


1- هذا إذا كان الوقف نوعاً من الهبة، بحيث لا يكون حبس العين الموقوفة مأخوذاً في مضمونه، وإلّا فلا يجوز إلّا في صور خاصّة مستثناة في الفقهالإسلامي، و ذلك من أجل أدلّة مؤكّدة عليه.
2- المرتك، نوع من الحشيش خفيف الرائحة، و التوتيا حجر يكتحل به، ولا يعتبر من الطيوب فلا يستعمل في الاكتحال حالة الإحرام لحرمته مهما كانت المادة الّتي تستعمل فيه، ولا مانع من طلي الأيط به لقطع رائحة العرق.
3- للسؤال جزءان: الأوّل: إذا وقع عقد بيع أو وقف أو غيرهما، وكتبت به وثيقة وحضر شاهدان و شحّا وثيقة العقد بشهادتهما ثم كفّ بصر أحدهما، فهل تمضي شهادته الكتبية قائمة إلّا ما دام صاحبها قادراً على قراءة خطّه لتقريره أو إنكاره، والحاصل هل الخط حجّة إذا انفصل عن كاتبه أم لا؟ الثاني: إذا شهد إنسان حادثاً أو عقداً، ثمّ كفّ بصره فهل يبقى حاملاً للشهادة أو تعطّل قابليته لحمل الشهادة؟ والجواب ناظر إلى الجزء الثاني من السؤال، حيث يركزّ فقط على قابلية الضرير للشهادة مادامت تتوفّر فيه شرائطها من حفظ الشهادة وحفظ الوقت، والعدالة والإيمان وما إلى ذلك. وقد خُصّ الشرطين الأوّلين بالذكر لأنّ الاصابة بالعمى لا تفقد المرء إيمانه وعدالته - غالباً. و لكن قد تسلب منه بعض محفوظاته.

لهذا الّذي اُقيم مقامه إذا كان أصل الوقف لرجل واحد أم لا يجوز ذلك(1)؟»

فأجاب: «لا يجوز ذلك، لأنّ الشهادة لم تقم للوكيل وإنّما قامت للمالك، وقد قال الله: « وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ».

وسأل: «عن الركعتين الاُخراوین وقد كثرت فيهما الروايات فبعض يروي: أنّ قراءة الحمد وحدها أفضل، وبعض يروي: أنّ التسبيح فيهما أفضل، فالفضل لأيّهما لنستعمله؟»

فأجاب: «قد نسخت قراءة أم الكتاب في هاتين الركعتين للتسبيح، والّذي نسخ التسبيح قول العالم (علیه السّلام) : كلّ صلاة لا قراءة فيها فهي خداج(2) إلّا للعليل، أو يكثر عليه السهو فيتخوّف بطلان الصلاة عليه(3) »

وسأل: «يتّخذ عندنا ربّ الجوز لوجع الحلق والبحبحة، يؤخذ الجوز الرطب من قبل أن ينعقد ويدقّ دقّاً ناعماً ويعصر ماؤه ويصفّى ويطبخ على النصف ويترك يوماً وليلة ثمّ ينصب على النار، ويلقي على كلّ ستّة أرطال منه رطل عسل ويغلی و بنزع

ص: 180


1- بأن كان الوقف على شخص الوكيل الأوّل، لا على أمر عام يمثّله الوكيل الأوّل حتّى إذا اُصيب تولاه من يخلفه لبقاء ذلك الأمر العام ممثّلاً في خليفته.
2- الخداج: النقصان، يقال: خدجت الناقة، فهي خادج إذا ألقت ولدها قبل تمام الأيام. وإن كان تام الخلق. ووصفت الصلاة الّتي لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب بالمصدر للمبالغة. وهذا الحديث يدلّ على نقصان الصلاة بدون فاتحة الكتاب مع أنّها تقرأ في الاُولين فلایبقی نقص وإن لم يقرأها في الآخرين، ولعل الاستشهاد به للقراءة في الأخيرتين دون التسبيح لما يشعر به من أهمية أم الكتاب في الصلاة ومع هذا فالمشهور بين الفقهاء أفضلية التسبيح فيهما لأدلّة أخرى معارضة لهذا الخبر واقوائية تلك من وجوه عديدة.
3- استحباب التسبيح في مادّتين: - الاُولى: العليل، الّذي يشق عليه الوقوف طويلاً لقراءة الفاتحة فيكتفي بالتسبيح. الثانية: كثير السهر الّذي إن قرأ الفاتحة في الأخرين أستشيهما بالأوليين. فیسبح التسبيحات الأربعة حتّى يتذكّر أنّه في الأخريين.

رغوته، و يسحق من النوشادر والشب اليماني في كلّ واحد نصف مثقال و یراق بذلك الماء، ويلقى فيه درهم زعفران المسحوق، ويغلی ويؤخذ رغوته و يطبخ حتّى يصير مثل العسل ثخيناً، ثمّ ينزل و يبرد ويشرب منه، فهل يجوز شربه أم لا؟»

فأجاب: «إذا كثيره يسكر أو يغيّر(1) فقليله وكثيره حرام، وإن كان لا يسكر فهو حلال».

وسأل: «عن الرجل يعرض له الحاجة مما لا يدري أن يفعلها أم لا، فيأخذ خاتمین فيكتب في أحدهما (نعم افعل) وفي الآخر (لا تفعل) فيستخير بالله مراراً، ثمّ يری فيهما، فيخرج أحدهما فيعمل بما يخرج، فهل يجوز ذلك أم لا؟ والعامل به والتارك له أهو مثل الاستخارة أم سوى ذلك؟»

فأجاب: «الّذي سنّه العالم(علیه السّلام) في هذه الاستخارة بالرقاع و الصلاة»(2).

وسأل: «عن صلاة جعفر بن أبي طالب(رحمه الله) : في أيّ أوقاتها أفضل أن تصلّي فيه، وهل فيها قنوت؟ وإن كان ففي أيّ ركعة منها؟»

فأجاب: «أفضل أوقاتها صدر النهار في يوم الجمعة، ثمّ في أيّ الأيّام شئت وأيّ وقت صلّيتها من ليل أو نهار فهو جائز، والقنوت فيها مرّتان، في الثانية قبل الركوع و في الرابعة بعد الركوع»(3) .

وسأل: «عن الرجل ينوي إخراج شيء من ماله وأن يدفعه إلى رجل من إخوانه ثمّ يجد في أقربائه محتاجاً، أيصرف ذلك عمّن [فيمن] نواه له أو إلى قرابته؟»

فأجاب: «يصرفه إلى أدناهما وأقربهما من مذهبه، فإن ذهب إلى قول العالم (علیه السّلام):

ص: 181


1- أي يسكر سكراً خفيفاً، ويدلّ على أنّ المقصود من (يغير) السكر الخفيف قوله: (وان كان لا يسكر).
2- والحاصل أنّه ليس حراماً إن لم يكن بنيّة التشريع، ولكنّه ليس من الاستخارة، وأما الاستخارة فهي (ذات الرقاع) وإنّما يدلّ على أنها الاستخارة الّتي بيّنها (العالم) وهو الإمام موسی بن جعفر(علیه السّلام) .
3- مسألة كون القنوت الثاني بعد رکوع الرابعة لم يرد في غير هذا الخبر، و هو مناف للعمومات الدالّة على أن القنوت قبل الركوع إلّا في صلاة الجمعة.

(لا يقبل الله الصدقة وذو الرحم محتاج) فليقسّم بين القرابة وبين الّذي نوی حتّی يكون قد أخذ بالفضل كلّه».

وسأل: «قد اختلفت أصحابنا في مهر المرأة، فقال بعضهم: إذا دخل بها سقط المهر ولا شيء لها، وقال بعضهم: هو لازم في الدنيا والآخرة، فكيف ذلك؟ وما الّذي يجب فيه؟»

فأجاب: «إن كان عليه بالمهر کتاب فيه (ذکر) دین فهو لازم في الدنيا والآخرة وإن كان عليه كتاب فيه ذكر الصداق سقط إذا دخل بها، وإن لم يكن علیه کتاب، فإذا دخل بها سقط باقي الصداق»(1).

وسأل: «روي لنا عن صاحب العسكر (علیه السّلام)(2) أنه سئل عن الصلاة في الخز الّذي يغشّ بوبر الأرانب. فوقّع: يجوز، وروي عنه أيضاً، أنّه لايجوز. فأيّ الخبرين يعمل به؟»

ص: 182


1- لعلّ المصطلح حين صدور هذا التوقيع يختلف عن المصطلح اليوم، فالقرآن لم يصطلح على كلمة (المهر) وإنّما ذكر (الصداق) بصيغة الجمع مرّة واحدة فقط «و آتوا النساء صدقاتهنّ نحلة.» (النساء / 4). ولعلّ المقصود أنّ ما تبنى عليه عقدة النكاح - من أموال نقدية أو عينية، الّتي تدرج عادة في وثيقة الزواج - فهو دين لازم في الدنيا والآخرة، وأمّا الهدايا والنقود الّتي تقدّم إلى الخطيبة في فترة الخطوبة أو تعارف الأزواج على القيام بها من ولائم و عزائم وما إليها، سواء كتب فيها كتاب أو لم يكتب بها کتاب، فهي تختص بفترة الخطوبة، وينتهي دورها بالدخول. ولعلّ اشتقاق الكلمتين اللتين استخدمهما الإمام في التوقيع - يساعد على فهم الحكم، و(المهر) ما يمهر عليه أي يختم عليه في وثيقة، فيكون ديناً لازماً. و(الصداق) ما يعبر عن صدق الرجل في محبة خطيبته. فیکون نافلة لها دورها الموقت إذا لم يشترط وكان تبرعاً.
2- المتوكل العباسي من الخلفاء العباسيين، عاصر الإمام علي الهادي، فاستدعاه ونجله الإمام الحسن العسكري(علیهما السّلام) من مدينة جدهما الرسول إلى مدينة سامرّاء و فرض عليهم الإقامة الجبرية في المنطقة العسكرية حتّى تنقطع عنهما الشيعة، فلقّبا ب (العسكريين) وقد اشتهر الإمام علي بن محمّد بالهادي واشتهر نجله الحسن العسكري و(صاحب العسكر) يرمز إلى كل منهما دون تعيين

فأجاب: «إنّما حرم في هذه الأوبار و الجلود، وأمّا الأوبار و حدها فحلال»(1).

وسأل: «نجد في إصفهان ثياب عتابه (عتابية) على عمل الوشا في قزّ أو إبريسيم هل يجوز الصلاة فيها أم لا؟»

فأجاب: «لا يجوز الصلاة إلّا في ثوب سداه و لحمته قطن أو کتان»

وسأل: «عن المسح على الرجلين و بأیّهما يبدأ باليمني أو يمسح عليهما جميعاً معاً؟»

فأجاب(علیه السّلام) : «يمسح عليهما معاً فإن بدأ بإحدهما قبل الأخرى فلا يبتدئ إلّا باليمني».

وسأل: «عن صلاة جعفر في السفر هل يجوز أم لا؟»

فأجاب: «يجوز ذلك». .

وسأل: «عن تسبيح فاطمة (علیها السّلام) : من سها و جاز التكبير أكثر من أربع وثلاثين هل يرجع إلى أربع وثلاثين أو يستأنف؟ وإذا سبّح تمام سبع وستين هل يرجع إلى ستة وستين أو يستأنف؟ وما الّذي يجب في ذلك؟»

فأجاب: «إذا سها من التكبير حتّى يجوز أربعة و ثلاثين عاد إلى ثلاثة وثلاثين

ص: 183


1- مسألة لحم الأرنب من المسائل الخلافية فالسنّة يرون أنّ لحمه حلال والشيعة على أنّه من المسوخ و من ذوات المخلب وتحيض أنثاه وفيه أدلّة خاصّة و نصوص متعدّدة بالتحريم أيضاً، فلحمه حرام، و تلحقه أحكام الحيوانات المحرمة. ولعلّ تفصيل الإمام في الجواب لعدم اتخاذ موقف جدي مع إعطاء الإشارة للفقهاء إلى أنّه من محرّمات اللحوم وتبنى عليه أحكامها. علماً بأنّ المستحصل من مجموع روایات هذا الباب عدم التفريق بين الجلد و الوبر، فما حل لحمه تجوز الصلاة فيهما وما لا يحلّ لحمه لاتجوز الصلاة في شيء منهما. ولا يخفى) الحيوان - سواء أكان حلال اللحم أو حرامه - إذا ذبح بالطريقة الشرعية طهر جلده وإلّا كان من الميتة، وبما أنّ الناس لا يعنون بذبح الحيوانات المحرّمة اللحوم - غالباً. يكون جلدها نجساً فإذا اتّخذ منه کساءاً نجس الثوب الّذي يليه إذ لا تخلو ملابس الإنسان من رطوبة مسرية من عرقه أو من المياه الّتي يستعملها.

وبنى عليها، وإذا سها في التسبيح فتجاوز سبعاً وستين تسبيحة عاد إلى ستّة وستین وبنى عليها(1).

مسائل الأسدي

« أما ما سألت عنه من الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فلئن كان كما يقول الناس: «إنّ الشمس تطلع بين قرني شيطان و تغرب بين قرني شيطان» فما أرغم أنف الشيطان شيء أفضل من الصلاة، فصلِّها وأرغم الشيطان أنفَه.

أما ما سألت عنه من أمر الوقف على ناحيتنا، و ما يجعل لنا ثمّ يحتاج إليه صاحبه فكل ما لم يسلّم فصاحبه فيه بالخيار، وكل ما سلّم فلا خيار لصاحبه فيه احتاج أو لم يحتج، افتقر إليه أو استغنى عنه.

وأما ما سألت عنه من أمر من يستحلّ ما في يده من أموالنا ويتصرّف فيه تصرفه في ماله من غير أمرنا، فمن فعل ذلك فهو ملعون، ونحن خصماؤه يوم القيامة.

وقد قال النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) : «المستحلّ من عترتي ما حرّم الله ملعون على لساني ولسان كلّ نبي مجاب» فمن ظلمنا حقّنا كان في جملة الظالمين لنا، وكانت لعنة الله عليه لقوله عزّوجلّ: (ألا لعنة الله على الظالمين).

وأمّا ما سألت عنه عن أمر المولود الّذي نبتت غلفته بعدما يختن مرّة أُخرى، فإنّه يجب أن يقطع غلفته فإنّ الأرض تضجّ إلى الله تعالى من بول الأغلف أربعين صباحاً.

ص: 184


1- تسبيحة الزهراء: أربعة وثلاثون تكبيرة، و ثلاثة وثلاثون تحميدة، وثلاثة وثلاثون تهليلة. فإذا تجاوز الأربعة والثلاثين تكبيرة - سهواً - اعتبرها ثلاثة وثلاثين (وبنى عليها) نكسر الرابعة والثلاثين ليضع خاتمها بإرادته. وإذا حمد أكثر من ثلاثة وثلاثين فكان مجموع التكبيرات والتحميدات أكثر من سبعة وستين عاد إلى ستة وستين أي اعتبر التحميدات اثنتين وثلاثين (و بنی علیها) بأن حمد الثالثة والثلاثين ليضع خاتمتها بارادته. كلّ هذا لم يتجاوز التحميد مائة فإذا تجاوزها فقد تجاوز السهو حدّ التدارك ولا تحسب له تسبيحة الزهراء، ولكن لا شيء عليه لأنّ أصلها مستحب.

وأما ما سألت عنه من أمر المصلّى والنار والصورة و السراج بين يديه هل يجوز صلاته فإنّ الناس قد اختلفوا في ذلك قبلك؟ فإنّه جائز لمن لم يكن من أولاد عَبدة الأصنام والنيران: أن يصلّي والنار والصورة والسراج بين يديه، ولا يجوز ذلك لمن كان من أولاد عبدة الأوثان والنيران.

وأمّا ما سألت عنه من أمر الضياع الّتي لناحيتنا، هل يجوز القيام بعمارتها وأداء الخارج منها، وصرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية احتساباً للأجر و تقرّبا إليكم، فلايحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه؛ فكيف يحلّ ذلك في مالنا؟ من فعل ذلك بغير أمرنا فقد استحلّ منّا ما حرّم عليه، و من أكل من أموالنا شيئاً فإنّما يأكل في بطنه ناراً وسيصلى سعيراً، وأمّا ما سألت عنه من أمر الرجل الّذي يجعل لناحيتنا ضيعة، و يسلّمها من قيّم يقوم بها ويعمرها، ويؤدّي من دخلها خراجها ومؤونتها ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا، فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّماً عليها، إنّما لا يجوز ذلك لغيره.

وأمّا ما سألت عنه من الثمار من أموالنا يمرّ به المار فيتناول منه ويأكل هل يحلّ ذلك؟ فإنّه يحل له أكله ويحرم عليه حمله »(1).

ص: 185


1- الاحتجاج، الطبرسي، ج 2، ص 298 - 300.

الخلاصة

نظرة إلى التراث الفقهي كان عصر الغيبة الصغرى يشكّل تمهيداً لاستقلال فقهاء مدرسة أهل البيت: واعتمادهم على الاجتهاد الّذي حدّدت لهم الشريعة معالمه الأساسية و طبّقه أهل البيت و رسموا لهم معالمه.

ومن هنا نلاحظ في هذا التراث الفقهي الّذي ورد عن الإمام المهدي (علیه السّلام) أنّه يحكي عن غزارة المادّة الفقهية لدى الفقهاء ومن هنا يسترشد الفقهاء بالإمام (علیه السّلام) لحلّ موارد التعارض والاختلاف إتماماً لمراحل العمل الاجتهادي في مجال استنباط الأحكام الشرعية.

الأسئلة

1. ما هي أهمّ المحاور الّتي تدور حول أسئلة الحميري؟

2. ما هي أهمّ المحاور الّتي تدور حول أسئلة الأسدي؟

3. ماذا نستفيده من مسائل الحميريوأجوبة الإمام عليها؟

4 . بماذا تتميّز أجوبة الإمام (علیه السّلام) على الأسئلة الفقهية الّتي وردت عليه؟

ص: 186

الدرس 19: من تراث الإمام المهدي (علیه السّلام) في الغيبة الصغرى (3)

من أدب الدعاء و الزيارة

1. دعاء التوحيد

بسم الله الرحمن الرحيم اللهمّ إنّي أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك المأمونون على سرّك المستبشرون بأمرك الواصفون لقدرتك المعلنون لعظمتك، أسألك بما نطق فيهم من مشيئتك فجعلتهم معادن لكلماتك وأركاناً لتوحيدك و آیاتك و مقاماتك الّتي لا تعطيل لها في كلّ مكان يعرفك بها من عرفك لا فرق بينك وبينها إلّا أنّهم عبادك وخلقك فتقها و رتقها بيدك بدؤها منك و عودها إليك أعضاد و أشهاد و مناة وأذواد و حفظة و روّاد، فيهم ملأت سمائك و أرضك حتى ظهر أن لا إله إلّا أنت فبذلك أسألك وبمواقع العزّ من رحمتك وبمقاماتك و علاماتك أن تصلّي على محمّد و آله و أن تزيدني إيماناً و تثبیتاً، یا باطناً في ظهوره و ظاهراً في بطونه و مکنونه یا مفرّقاً بين النور والديجور یا موصوفاً بغیر کُنه و معروفاً بغير شبه حادّ كلّ محدود و شاهد كلّ مشهود، و موجد كلّ موجود و محصي كلّ معدود و فاقد كلّ مفقود، ليس دونك من معبود أهل الكبرياء

ص: 187

والجود يا من لا يكيّف بكيف ولا يؤيّن بأین یا محتجباً عن كلّ عين یا دیموم یا قیّوم وعالم معلوم صلِّ على محمّد و آله و على عبادك المنتجبين وبشرك المحتجِبين و ملائكتك المقرّبين والبُهم الصّافّين الحافّين وبارك لنا في شهرنا هذا المرجَّب المكرّم وما بعده من الأشهر الحرم وأسبغ علينا فيه النعم وأجزل لنا فيه القِسم و آبرر لنا فيه القسم باسمك الأعظم الأجلّ الأكرم الّذي وضعته على النهار فأضاء وعلى الليل فأظلم، واغفر لنا ما تعلم منّا ومنّا لا نعلم، واعصمنا من الذنوب خیر العصم واكفنا كوافي قدرك وامنن علنيا بحسن نظرك ولا تكلنا إلى غيرك، ولا تمنعنا من خيرك وبارك لنا فيما كتبته لنا من أعمارنا و أصلح لنا خبيئة أسرارنا وأعطنا منك الأمان واستعملنا بحسن الإيمان، وبلّغنا شهر الصيام وما بعده من الأيّام والأعوام ياذا الجلال والإكرام(1).

2. دعاء القضاء الحوائج

«اللّهُمَّ إِنْ أَطَعْتُكَ فَالْمَحْمَدَةُ لَكَ، وَ إِنْ عَصَيْتُكَ فَالْحُجَّةُ لَكَ، مِنْكَ الرَّوْحُ وَمِنْكَ الْفَرَجُ، سُبْحانَ مَنْ أَنْعَمَ وَشَكَرَ، سُبْحانَ مَنْ قَدَّرَ وَغَفَرَ .

اللّهُمَّ إِنْ كُنْتُ عَصَيْتُكَ فَإِنِّي قَدْ أَطَعْتُكَ فِي أَحَبِّ الْأَشْياءِ إِلَيْكَ وَهُوَ الْإِيمانُ بِكَ، لَمْ أَتَّخِذْ لَكَ وَلَداً وَلَمْ أَدْعُ لَكَ شَرِيكاً مَنّاً مِنْكَ بِهِ عَلَيَّ لَامَنّاً مِنِّي بِهِ عَلَيْكَ، وَقَدْ عَصَيْتُكَ يَا إِلهِي عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْمُكابَرَةِ، وَلَا الْخُرُوجِ عَنْ عُبُودِيَّتِكَ، وَلَا الْجُحُودِ لِرُبُوبِيَّتِكَ، وَلكِنْ أَطَعْتُ هَوايَ وَأَزَلَّنِي الشَّيْطانُ، فَلَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ وَالْبَيانُ فَإِنْ تُعَذِّبْنِي فَبِذُنُوبِي غَيْرُ ظالِمٍ لِي، وَ إِنْ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي فَإِنَّكَ جَوادٌ كَرِيمٌ . یا کریم یا کریم (حتى ينقطع النفس) ثم تقول: يَا آمِناً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْكَ خائِفٌ حَذِرٌ أَسْأَلُكَ بِأَمْنِكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَخَوْفُ ِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْكَ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ،

ص: 188


1- الشيخ عبّاس القمي، مفاتیح الجنان، ص 130.

وَ أَنْ تُعطِيَنِي أَماناً لِنَفْسِي وَأَهْلِي وَوَلَدِي وَسائِرِ مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ حَتَّى لَا أَخافَ وَلَا أَحْذَرَ مِنْ شَيْءٍ أَبَداً إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَحَسْبُنَا اللّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ، يَا كافِيَ إِبْرَاهِيمَ نُمْرُودَ، وَيَا كافِيَ مُوسى فِرْعَوْنَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَأَنْ تَكْفِيَنِي شَرَّ فُلانِ ابْنِ فُلان(1).

اللهمّ انجز لي ما وعدتني، اللهمّ انتقم لي من أعدائي.»

3. من دعائه(علیه السّلام) للمؤمنين عامّة

إِلهِى بِحَقِّ مَنْ نَاجَاكَ، وَبِحَقِّ مَنْ دَعَاكَ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَ تَفَضَّلْ عَلى فُقَراءِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِالْغَناءِ وَالثَّرْوَةِ، وَعَلى مَرْضَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُومِناتِ بِالشِّفاءِ وَالصِّحَّةِ، وَعَلى أَحْياءِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِاللُّطْفِ وَالْكَرَمِ، وَعَلى أَمْواتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَعَلى غُرَباءِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِالرَّدِّ إِلى أَوْطانِهِمْ سالِمِينَ غانِمِينَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ» (2).

4. من دعائه (علیه السّلام) في قنوته

«... و أسألك باسمك الّذي خلقت به خلقك ورزقتهم كيف شئت وكيف شاؤوا، یا مَن لا تغيّره الأيّام والليالي أدعوك بما دعاك به نوح حين ناداك فأنجيته ومَن معه و أهلكت قومه، وأدعوك بما دعاك إبراهيم خليلك حين ناداك فأنجيته وجعلت النار عليه برداً وسلاماً، وأدعوك بما دعاك به موسی کلیمك حين ناداك فلقت له البحر فأنجيتهُ و بني إسرائيل، وأغرقتَ فِرعونَ وقومهُ في اليَمِّ، وأدعوكَ بما دعاكَ به عیسی روحكَ حين ناداكَ، فنجَّیتَهُ من أعدائهِ وإليكَ رفعتهُ، وأدعوكَ بما دعاكَ حبيبُك وصفيُّكَ

ص: 189


1- علي بن موسی بن محمّد الطاووس، مهج الدعوات، ص 294 - 295.
2- مهج الدعوات، ص 295.

و نبيُّك محمّد صلّى الله عليهِ و آلهِ، فاستجبتَ لهُ و من الأحزابِ نجَّيتهُ، و على أعدائِك نصرتَهُ، وأسألُك باسمِكَ الّذي إذا دُعيتَ بهِ أجبتَ، يا مَن له الخلقُ والأمرُ، یا منَ أحاطَ بِكلِّ شيءٍ علماً، یا مَن أحصى كُلَّ شيءٍ عدداً، يا من لا تُغيِّرهُ الأيّام والّلياليّ، ولا تتشابهُ عليه الأصواتُ، ولا تخفَى عليه اللُّغاتُ،ولا يُبرِمهُ إلحاحُ الملحِّينَ.

أسألك أن تُصلِّي على محمَّدٍ و آلِ محمّدٍ خيرتِكَ من خَلقِكَ، فصَلِّ عليهِم بأفضل صلواتِك، و صلِّ على جميعِ النبيِّينَ والمُرسلينَ الّذينَ بلَّغُوا عَنكَ الهُدى، وأعقدُوا لك المواثيِقَ بالطّاعةِ، وصلِّ على عبادِكَ الصّالحِينَ، يا مَن لايُخلِفُ الميعاد أنجِز لي ما وعدتني، واجمَع لي أصحابي، و صبِّرهُم، وانصرني على أعدائِكَ و أعداءِ رسُولِكَ، ولا تُخیِّب دعوتي، فإنّي عبدُك وابن عبدكَ و ابنُ أمَتِك، أسيرُ بين يديكَ، سيّدي أنت الّذي مننتَ عليَّ بهذا المقامِ، و تفضّلتَ بهِ عليَّ دون كثيرٍ من خلقِكَ، أسألُكَ أن تُصلّي على محمّدٍ و آلِ محمَّدٍ، وأن تُنجِزَ لي ما وعدتني، إنَّك الصّادقُ، ولا تُخِلفُ الميعادَ، وأنتَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ»(1).

5. حجابه (علیه السّلام)

قال الإمام (عج): «اللَّهُمَّ احْجُبْنِي عَنْ عُيُونِ أَعْدَائِي وَ اجْمَعْ بَيْنِي وَ بَيْنَ أَوْلِيَائِي وَ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي وَ احْفَظْنِي فِي غَيْبَتِي إِلَى أَنْ تَأْذَنَ لِي فِي ظُهُورِي وَ أَحْيِ بِي مَا دَرَسَ مِنْ فُرُوضِكَ وَ سُنَنِكَ وَ عَجِّلْ فَرَجِي وَ سَهِّلْ مَخْرَجِي- وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً وَ افْتَحْ لِي فَتْحاً مُبِيناً وَ اهْدِنِي صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَ قِنِي جَمِيعَ مَا أُحَاذِرُهُ مِنَ الظَّالِمِينَ وَ احْجُبْنِي عَنْ أَعْيُنِ الْبَاغِضِينَ النَّاصِبِينَ الْعَدَاوَةَ لِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكَ وَ لَا يَصِلُ إِلَيَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ بِسُوءٍ فَإِذَا أَذِنْتَ فِي ظُهُورِي فَأَيِّدْنِي بِجُنُودِكَ وَ اجْعَلْ مَنْ يَتْبَعُنِي لِنُصْرَةِ دِينِكَ مُؤَيِّدِينَ وَ فِي سَبِيلِكَ مُجَاهِدِينَ وَ عَلَى مَنْ أَرَادَنِي وَ أَرَادَهُمْ بِسُوءٍ مَنْصُورِينَ،

ص: 190


1- المصدر نفسه، ص 68.

وَ وَفِّقْنِي لِإِقَامَةِ حُدُودِكَ وَ انْصُرْنِي عَلَى مَنْ تَعَدَّى مَحْدُودَكَ وَ انْصُرِ الْحَقَّ وَ أَزْهِقِ الْبَاطِلَ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً وَ أَوْرِدْ عَلَيَّ مِنْ شِيعَتِي وَ أَنْصَارِي مَنْ تَقَرُّ بِهِمُ الْعَيْنُ وَ يَشُدُّ بِهِمُ الْأَزْرُ وَ اجْعَلْهُمْ فِي حِرْزِكَ وَ أَمْنِكَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ»(1).

6. ومن صلواته على النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) وآله

«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، وَخاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَحُجَّةِ رَبِّ العالَمِينَ، المُنْتَجَبِ فِي المِيثاقِ، المُصْطَفَى فِي الظِّلالِ، المُطَهَّرِ مِنْ كُلِّ آفَةٍ، البَريءُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، المُؤَمَّلِ لِلنَّجاةِ، المُرْتَجَى لِلشَّفاعَةِ، المُفَوَّضِ إِلَيْهِ دِينُ اللهِ، اللَّهُمَّ شَرِّفْ بُنْيانَهُ، وَعَظِّمْ بُرْهانَهُ، وَأَفْلِجْ حُجَّتَهُ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ، وَأَضِئْ نُورَهُ، وَبَيِّضْ وَجْهَهُ، وَأَعْطِهِ الفَضلَ وَالفَضِيلَةَ، وَالمَنْزِلَةَ وَالوَسِيلَةَ، وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ، وَابْعَثْهُ مَقاماً مَحْمُوداً يَغْبِطُهُ بِهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ، وَصَلِّ عَلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، وَوارِثِ المُرْسَلِينَ، وَقائِدِ الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، وَسَيِّدِ الوَصِيِّينَ، وَحُجَّةِ رَبِّ العالَمِينَ، وَصَلِّ عَلَى الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ، إِمامِ المُؤْمِنِينَ، وَوارِثِ المُرْسَلِينَ، وَحُجَّةِ رَبِّ العالَمِينَ، وَصَلِّ عَلَى الحُسَيْنِ بنِ عَلِيٍّ ،إِمامِ المُؤْمِنِينَ، وَوارِثِ المُرْسَلِينَ، وَحُجَّةِ رَبِّ العالَمِينَ، وَصَلِّ عَلَى عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ، إِمامِ المُؤْمِنِينَ، وَوارِثِ المُرْسَلِينَ، وَحُجَّةِ رَبِّ العالَمِينَ، وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، إِمامِ المُؤْمِنِينَ، وَوارِثِ المُرْسَلِينَ، وَحُجَّةِ رَبِّ العالَمِينَ، وَصَلِّ عَلَى جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، إِمامِ المُؤْمِنِينَ، وَوارِثِ المُرْسَلِينَ، وَحُجَّةِ رَبِّ العالَمِينَ، وَصَلِّ عَلَى مُوسَى بنِ جَعفَرٍ، إِمامِ المُؤْمِنِينَ، وَوارِثِ المُرْسَلِينَ، وَحُجَّةِ رَبِّ العالَمِينَ، وَصَلِّ عَلَى عَلِيِّ بنِ مُوسَى، إِمامِ المُؤْمِنِينَ، وَوارِثِ المُرْسَلِينَ، وَحُجَّةِ رَبِّ العالَمِينَ، وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ علِيٍّ، إِمامِ المُؤْمِنِينَ، وَوارِثِ المُرْسَلِينَ، وَحُجَّةِ رَبِّ العالَمِينَ، وَصَلِّ عَلَى عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدٍ، إِمامِ المُؤْمِنِينَ، وَوارِثِ المُرْسَلِينَ، وَحُجَّةِ رَبِّ العالَمِينَ، وَصَلِّ عَلَى الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ، إِمامِ المُؤْمِنِينَ، وَوارِثِ المُرْسَلِينَ، وَحُجَّةِ رَبِّ

ص: 191


1- مهج الدعوات، ص 68.

العالَمِينَ، وَصَلِّ عَلَى الخَلَفِ الهَادِي المَهْدِيِّ، إِمامِ المُؤْمِنِينَ، وَوارِثِ المُرْسَلِينَ، وَحُجَّةِ رَبِّ العالَمِينَ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، الأَئِمَّةِ الهادِينَ، العُلَماءِ الصَّادِقِينَ، الأَبْرارِ المُتَّقِينَ، دَعائِمِ دِينِكَ، وَأَرْكانِ تَوْحِيدِكَ، وَتراجِمَةِ وَحْيِكَ، وَحُجَجِكَ عَلَى خَلْقِكَ، وَخُلَفائِكَ فِي أَرْضِكَ، الَّذِينَ اخْتَرْتَهُمْ لِنَفْسِكَ، وَاصْطَفَيْتَهُمْ عَلَى عِبادِكَ، وَارْتَضَيْتَهُمْ لِدِينِكَ، وَخَصَصْتَهُمْ بِمَعْرِفَتِكَ، وَجَلَّلْتَهُمْ بِكَرامَتِكَ، وَغَشَّيْتَهُمْ بِرَحْمَتِكَ، وَرَبَّيْتَهُمْ بِنِعْمَتِكَ، وَغَذَّيْتَهُمْ بِحِكْمَتِكَ، وَأَلْبَسْتَهُمْ نُورَكَ، وَرَفَعْتَهُمْ فِي مَلَكُوتِكَ، وَحَفَفْتَهُمْ بِملائِكَتِكَ، وَشَرَّفْتَهُمْ بِنَبِيِّكَ، صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِمْ، صَلاةً زاكِيَةً، نامِيَةً كَثِيرَةً، دائِمَةً طَيِّبَةً، لا يُحِيطُ بِها إِلاَّ أَنْتَ، وَلا يَسَعُها إِلاَّ عِلْمُكَ، وَلا يُحْصِيها أَحَدٌ غَيْرُكَ. اللَّهُمَّ وَصَلِّ عَلَى وَلِيِّكَ، المُحْيِي سُنَّتَكَ، القائِمِ بِأَمْرِكَ ، الدَّاعِي إِلَيْكَ، الدَّلِيلِ عَلَيْكَ، حُجَّتِكَ عَلَى خَلْقِكَ، وَخَلِيفَتِكَ فِي أَرْضِكَ، وَشاهِدِكَ عَلَى عِبادِكَ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ نَصْرَهُ، وَمُدَّ فِي عُمْرِهِ، وَزَيِّنِ الأَرْضَ بِطُولِ بَقائِهِ، اللَّهُمَّ اكْفِهِ بَغْيَ الحاسِدِينَ، وَأَعِذْهُ مِنْ شَرِّ الكائِدِينَ، وَازْجُرْ عَنْهُ إِرادَةَ الظَّالِمِينَ، وَخَلِّصْهُ مِنْ أَيْدِي الجَبَّارِينَ. اللَّهُمَّ أَعْطِهِ فِي نَفْسِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَشِيعَتِهِ وَرَعِيَّتِهِ، وَخاصَّتِهِ وَعامَّتِهِ، وَعَدُوِّهِ وَجَمِيعَ أَهْلِ الدُّنْيا، ما تُقِرُّ بِهِ عَيْنَهُ، وَتَسُرُّ بِهِ نَفْسَهُ، وَبَلِّغْهُ أَفْضَلَ ما أَمَّلَهُ فِي الدُّنْيا وَالآخرةِ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ جَدِّدْ بِهِ ما امْتَحَى مِنْ دِيْنِكَ، وَأَحْيِ بِهِ ما بُدِّلَ مِنْ كِتابِكَ، وَأَظْهِرْ بِهِ ما غُيِّرَ مِنْ حُكْمِكَ، حَتَّى يَعُودَ دِينُكَ بِهِ وَعَلَى يَدَيْهِ غَضّاً جَدِيداً، خالِصاً مُخْلَصاً، لا شَكَّ فِيهِ وَلا شُبْهَةَ مَعَهُ، وَلا باطِلَ عِنْدَهُ، وَلا بِدْعَةَ لَدَيْهِ. اللَّهُمَّ نَوِّرْ بِنُورِهِ كُلَّ ظُلْمَةٍ، وَهُدَّ بِرُكْنِهِ كُلَّ بِدْعَةٍ، وَاهْدِمْ بِعِزِّهِ كُلَّ ضَلالَةٍ، وَاقْصِمْ بِهِ كُلَّ جَبَّارٍ، وَأَخْمِدْ بِسَيْفِهِ كُلَّ نارٍ، وَأَهْلِكْ بِعَدْلِهِ جَوْرَ كُلَّ جائِرٍ، وَأَجْرِ حُكْمَهُ عَلَى كُلِّ حُكْمٍ، وَأَذِلَّ بِسُلْطانِهِ كُلَّ سُلطانٍ. اللَّهُمَّ أَذِلَّ كُلَّ مَنْ ناواهُ، وأَهْلِكْ كُلَّ مَنْ عاداهُ، وَامْكُرْ بِمَنْ كادَهُ، وَاسْتَأْصِلِّ مَنْ جَحَدَهُ حَقَّهُ، وَاسْتَهانَ بِأَمْرِهِ، وَسَعَى فِي إِطْفاءِ نُورِهِ، وَأَرادَ إِخْمادَ ذِكْرِهِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ المُصْطَفَى، وَعَلِيٍّ المُرْتَضى، وَفاطِمَةَ الزَّهْراءِ، وَالحَسَنِ الرِّضا، وَالحُسَيْنِ المُصَفَّى، وَجَمِيعِ الأَوْصِياءِ، مَصابِيحِ الدُّجَى، وَأَعْلامِ الهُدَى، وَمَنارِ التُّقَى، وَالعُرْوَةِ الوُثْقَى، وَالحَبْلِ المَتِينِ، والصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، وَصَلِّ عَلَى وَلِيِّكَ وَوُلاةِ عَهْدِكَ، وَالأَئِمَّةِ مِنْ وُلْدِهِ، وَمُدَّ فِي

ص: 192

أَعْمارِهِمْ، وَزِدْ فِي آجالِهِمْ، وَبَلِّغْهُمْ أَقْصَى آمالِهِمْ دِيناً وَدُنْياً وَآخِرَةً، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ»(1).

7. الزيارة المعروفة بزيارة آل یاسین

قال محمّد بن عبدالله بن جعفر الحميري: خرج التوقيع من الناحية المقدّسة -حرسها الله - بعد المسائل(2):

«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ لا لِأَمْرِهِ تَعْقِلُونَ، حِکْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِی النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا یُؤْمِنُونَ السَّلامُ عَلَیْنَا وَ عَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِینَ»..

«إِذَا أَرَدْتُمُ التَّوَجُّهَ بِنَا إِلَى اللَّهِ وَ إِلَینَا فَقُولُوا کَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

«سَلَامٌ عَلَى آلِ یس»؛ (3) السَّلاَمُ عَلَیْکَ یَا دَاعِیَ اللَّهِ وَ رَبَّانِیَّ آیَاتِهِ السَّلاَمُ عَلَیْکَ یَا بَابَ اللَّهِ وَ دَیَّانَ دِینِهِ. السَّلاَمُ عَلَیْکَ یَا خَلِیفَةَ اللَّهِ وَ نَاصِرَ خلقِّهِ. السَّلاَمُ عَلَیْکَ یَا حُجَّةَ اللَّهِ وَ دَلِیلَ إِرَادَتِهِ. السَّلاَمُ عَلَیْکَ یَا تَالِیَ کِتَابِ اللَّهِ وَ تَرْجُمَانَهُ. السَّلاَمُ عَلَیْکَ یَا بَقِیَّةَ اللَّهِ فِی أَرْضِهِ. السَّلاَمُ عَلَیْکَ یَا مِیثَاقَ اللَّهِ الَّذِی أَخَذَهُ وَ وَکَّدَهُ. السَّلاَمُ عَلَیْکَ یَا وَعْدَ اللَّهِ الَّذِی ضَمِنَهُ. السَّلاَمُ عَلَیْکَ أَیُّهَا الْعَلَمُ الْمَنْصُوبُ، وَ الْعِلْمُ الْمَصْبُوبُ وَ الْغَوْثُ وَ الرَّحْمَةُ الْوَاسِعَةُ وَعْداً غَیْرَ مَکْذُوبٍ. السَّلاَمُ عَلَیْکَ حِینَ تَقُومُ السَّلاَمُ عَلَیْکَ حِینَ تَقْعُدُ.السَّلاَمُ عَلَیْکَ حِینَ تَقْرَأُ وَ تُبَیِّنُ . السَّلاَمُ عَلَیْکَ حِینَ تُصَلِّی وَ تَقْنُتُ السَّلاَمُ عَلَیْکَ حِینَ تَرْکَعُ وَ تَسْجُدُ. السَّلاَمُ عَلَیْکَ حِینَ تُهَلِّلُ وَ تُکَبِّرُ . السَّلاَمُ عَلَیْکَ حِینَ تَحْمَدُ وَ تَسْتَغْفِرُ. السَّلاَمُ عَلَیْکَ حِینَ تُصْبِحُ وَ تُمْسِی . السَّلاَمُ عَلَیْکَ فِی اللَّیْلِ إِذَا یَغْشَی وَ النَّهَارِ إِذَا تَجَلَّی. السَّلاَمُ عَلَیْکَ أَیُّهَا الْإِمَامُ الْمَأْمُونُ. السَّلاَمُ عَلَیْکَ أَیُّهَا الْمُقَدَّمُ الْمَأْمُولُ.السَّلاَمُ عَلَیْکَ بِجَوَامِعِ

ص: 193


1- المصدر نفسه، ص 302.
2- الطبرسي، الاحتجاج، ج 2، ص 315- 318.
3- الصافات /30.

السَّلاَمِ.أُشْهِدُکَ یَا مَوْلاَیَ أَنِّی أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِیکَ لَهُ،وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ لاَ حَبِیبَ إِلاَّ هُوَ وَ أَهْلُهُ،وَ أُشْهِدُکَ یَا مَوْلاَیَ أَنَّ عَلِیّاً أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ حُجَّتُهُ،وَالْحسَنَ حُجَّتُهُ وَالْحُسَیْنَ حُجَّتُهُ وَعَلِیَّ بْنَ الْحُسَیْنِ حُجَّتُهُ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِی حُجَّتُهُ،وَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍّ حُجَّتُهُ وَموُسَی بْنَ جَعْفَرٍ حُجَّتُهُ وَعَلِیَّ بْنَ موُسی حُجَّتُه،وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِی حُجَّتُهُ وَ عَلِیَّ بْنَ مُحَمَّدٍ حُجَّتُهُ وَالْحَسَنَ بْن عَلِی حُجَّتُهُ،وَ اَشْهَدُ اَنَّکَ حُجَّةُ اللَّهِ اَنْتُمُ الاْوَّلُ وَالاْ خِرُ وَ اَنَّ رَجْعَتَکُمْ حَقُّ لا رَیْبَ فیها یَوْمَ،لا یَنْفَعُ نَفْساً ایمانُها لَمْ تَکُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ،اَوْ کَسَبَتْ فی ایمانِها خَیْراً وَاَنَّ الْمَوْتَ حَقُّ وَاَنَّ ناکِراً وَنَکیراً حَقُّ،وَاَشْهَدُ اَنَّ النَّشْرَ حَقُّ وَالْبَعْثَ حَقُّ وَاَنَّ الصِّراطَ حَقُّ وَالْمِرْصادَ حَقُّ،وَالْمیزانَ حَقُّ وَالْحَشْرَ حَقُّ وَالْحِسابَ حَقُّ وَالْجَنَّةَ وَالنّارَ حَقُّ،وَالْوَعْدَ وَالْوَعیدَ بِهِما حَقُّ یا مَوْلایَ شَقِیَ مَنْ خالَفَکُمْ وَ سَعِدَ مَن طاعَکُمْ،

فَاشْهَدْ عَلی ما اَشْهَدْتُکَ عَلَیْهِ وَاَ نَا وَلِیُّ لَکَ بَریٌ مِنْ عَدُوِّکَ،فَالْحَقُّ ما رَضیتُموُهُ وَالْباطِلُ ما اَسْخَطْتُموُهُ،وَالْمَعْروُفُ ما اَمَرْتُمْ بِهِ،وَالْمُنْکَرُ ما نَهَیْتُمْ عَنْهُ،فَنَفْسی مُؤْمِنَةٌ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لا شَریکَ لَهُ،وَ بِرَسوُلِهِ وَ بِاَمیرالْمُؤْمِنینَ وَبِکُمْ یا مَوْلایَ اَوَّلِکُمْ وَ آخِرِکُمْ،وَ نُصْرَتی مُعَدَّةٌ لَکُمْ وَمَوَدَّتی خالِصَةٌ لَکُمْ آمینَ آمینَ.

الدعاء عقيب هذا القول: بسم الله الرحمن الرحيم. اللّهمّ إنّي أسألك أن تصلّي على محمّد نبي رحمتك، وكلمة نورك، وأن تملأ قلبي نور اليقين، وصدري نور الإيمان، و فکري نور الثبات، و عزمي نور العلم، و قوّتي نور العمل، ولساني نور الصدق، و دیني نور البصائر من عندك، و بصري نور الضياء وسمعي نور وعي الحكمة. و مودّتي نور الموالاة لمحمّد و آله (صلّی الله علیه وآله وسلّم). حتّى ألقاك وقد وفيت بعهدك و میثاقك. فلتسعني رحمتك يا ولي يا حميد.

اللهمّ صلِّ على حجّتك في أرضك. وخليفتك في بلادك. والداعي إلى سبيلك والقائم بقسطك، والثائر بأمرك، ولي المؤمنين، وبوار الكافرين، و مجلّي الظلمة و منير الحقّ، و الساطع بالحكمة والصدق. وكلمتك التامّة في أرضك، المرتقب الخائف و الولي

ص: 194

الناصح. سفينة النجاة، و علم الهدی، ونور أبصار الوری، و خير من تقمّص وارتدی، و مجلّي العمي الّذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً إنّك على كلّ شيء قدير.

اللّهمّ صلِّ على وليّك و ابن أوليائك الذين فرضت طاعتهم، و أوجبت حقّهم و أذهبت عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

اللّهم انصره و انصر به أولياءك وأولياءه، و شیعته و أنصاره واجعلنا منهم.

اللّهمّ اعذه من كلّ باغ وطاغ، و من شر جميع خلقك. واحفظه من بين يديه و من خلفه، و عن يمينه وعن شماله. واحرسه، وامنعه، من أن يوصل إليه بسوء واحفظ فيه رسولك و آل رسولك، و أظهر به العدل و أيّده بالنصر، وانصر ناصریه واخذل خاذلیه، واقصم به جبابرة الكفرة، واقتل به الكفّار والمنافقين، وجميع الملحدين، حيث كانوا في مشارق الأرض ومغاربها، بَرّها و بحرها، و املأ به الأرض عدلاً، واظهر به دین نبيّك، واجعلني اللّهمّ من أنصاره وأعوانه، وأتباعه وشیعته، و أرني في آل محمّد ما يأملون، وفي عدوّهم ما يحذرون إله الحقّ آمين، يا ذا الجلال والإكرام، يا أرحم الراحمين

ص: 195

الخلاصة

اشتمل تراث الإمام (علیه السّلام) على مجموعة من الأدعية والزيارات الّتي أسهمت في تربية وبناء الكيان الروحي للجماعة الصالحة، وقد احتوت هذه الأدعية على مضامین عالية فيما يختص بآداب الاتّصال بالله سبحانه و بیان معالم التوحيد والتنزيه كما قد ورد عن الإمام (علیه السّلام) زیارات خاصّة بالرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) والأئمة (علیهم السّلام) وحثّ باتّجاه المداومة على زيارتهم والمواظبة عليها من أجل إدامة الاتّصال وتقوية أواصر الروابط بين القواعد وأوليائهم.

الأسئلة

1. بيّن بعض الجوانب الّتي تناولتها أدعية الإمام (علیه السّلام) ؟ 2. إلى أي شيء تهدف تلك الأدعية؟

3. ماذا تهدف الزيارات الواردة عن الإمام (علیه السّلام)؟

4. ما هو دور الأدعية والزيارات في تربية وتنمية الجانب الروحي والعقائدي للجماعة الصالحة؟

ص: 196

الدرس 20 : من تراث الإمام المهدي (علیه السّلام) في الغيبة الصغرى (4)

الأجوبة الموجزة الصادرة عن الإمام(علیه السّلام)

اشارة

هناك رسائل كثيرة كانت تكتب إلى الإمام (علیه السّلام)، فيها حوائج و أسئلة وكان يصدر الجواب عليها باختصار، نثبت هنا نماذج منها - من غير استيعاب - مقتصرین علی الأجوبة فقط، دون تفاصيل الرسائل و الحوائج:

1. ستلد ابنأ

کتب رجل يسأل الدعاء في حمل له، فورد عليه الدعاء في الحمل قبل الأربعة الأشهر، فجاء كما قال (علیه السّلام)(1).

2. نعي إلىّ نفسي

وكتب أحمد بن إسحاق - وكيل الإمام الحسن العسكري(علیه السّلام) - بعد موت الإمام العسكري، إلى الناحية المقدسة يستأذن الإمام المهدي(علیه السّلام) في الحجّ.

فورد الإذن له، و بعث إليه بثوب. فقال أحمد بن إسحاق: نعى إلىّ نفسي.

ص: 197


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 11، ص 306، عن كتاب النجوم.

فانصرف من الحجّ فمات بحلوان(1).

3. ولادة الصدوق

وبعث الحسين بن علي بن بابویه والد الشيخ الصدوق(قدّس سرّهما) - مع أبي القاسم الحسين بن روح برقعة إلى صاحب الأمر (علیه السّلام) يسأله فيها الولد، فكتب (علیه السّلام) في الجواب:

«قد دعونا الله لك بذلك، وسترزق ولدین ذکرین خیّرین».

فولد له أبوجعفر (الصدوق) و أبوعبدالله من أم ولد.

وكان أبوعبدالله الحسين بن عبیدالله يقول: سمعت أباجعفر (يعني الشيخ الصدوق(قدّس سرّه ) يقول: أنا ولدت بدعوة صاحب الأمر (علیه السّلام) ويفتخر بذلك(2).

4.مات الولد

وعن علي بن محمّد قال: حدّثني بعض أصحابنا قال: ولد لي ولد فكتبت - أي: إلى الناحية المقدسة - أستأذن في تطهيره يوم السابع فورد: «لا تفعل».

فمات يوم السابع أو الثامن. ثم كتب بموته فورد الجواب: «ستخلف غيره، و غیره، قسمّ الأوّل أحمد، و من بعد أحمد جعفراً».

فجاءا كما قال.(3)

5. ثوبان للكفن

وعن سعد بن عبدالله أنّ الحسن بن النضر - في قصة طويلة . قال: ... وإذا بيت عليه ستر فنوديت منه:

«یا حسن بن النضر أحمد الله على ما منَّ به عليك ولا تشكّنَ فَوَدّ الشيطان أنّك

ص: 198


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص309، عن رجال الكشي.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص306، عن فهرست النجاشي.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 308، عن ارشاد المفيد و غيبة الطوسي(قدّس سرّه) .

شککت».

وأخرج إليّ ثوبين و قيل لي: «خذهما فتحتاج إليهما». فأخذتهما و خرجت.

قال سعد: فانصرف الحسن بن النضر، و مات في شهر رمضان (یعني: من نفس تلك السنة) وكفّن في الثوبين(1).

6. يبقى

وعن القاسم بن العلاء قال: ولد لي عدة بنين فكنت أكتب و أسأل الدعاء فلا يكتب إليّ لهم بشيء، فلما ولد لي الحسن ابني كتبت أسأل الدعاء فأُجبت:

«يبقي والحمد لله»(2).

7. تحوّل قرمطياً

وعن الحسن بن الفضل بن زید اليماني قال: كتب أبي بخطّه کتاباً فورد جوابه، ثمّ کتب بخطّي فورد جوابه، ثمّ كتب بخط رجل من فقهاء أصحابنا فلم يرد جوابه.

فنظرنا فكانت العلة: أنّ الرجل تحوّل قرمطياً(3) .

8. حصانة الوكلاء

وعن الحسن بن الحسين العلوي قال: كان رجل من ندماء روز حسني و آخر معه فقال له: هوذا يجبي الأموال (يقصد صاحب الأمر صلوات الله عليه) وله وكلاء وسمّوا جميع الوكلاء في النواحي و أنهى ذلك إلى عبيدالله بن سليمان الوزير، فهمّ الوزير بالقبض عليهم.

فقال السلطان: أطلبوا أين هذا الرجل؛ فان هذا أمر غليظ.

ص: 199


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 308، عن الكافي.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 308، عن الكافي.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 308، عن الكافي.

فقال عبيدالله بن سليمان: نقبض على الوكلاء. فقال السلطان: لا، ولكن دسّوا لهم قوماً لا يعرفون بالأموال فمن قبض منهم شيئاً قبض عليه. قال: فخرج (يعني: من الناحية المقدسة إلى بعض الوكلاء).

«بأن يتقدّم إلى جميع الوكلاء: أن لا يأخذوا من أحد شيئاً، وأن يمتنعوا من ذلك، ويتجاهلوا الأمر».

فاندسّ بمحمد بن أحمد رجل لا يعرفه وخلا به فقال: معي مال أريد أن اُوصله فقال له محمّد: غلطت أنا لا أعرف من هذا شيئاً، فلم يزل يتلطّفه و محمّد بتجاهل عليه، و بثّوا الجواسيس و امتنع الوكلاء كلّهم لما كان تقدّم إليهم(1).

9. مقام أبيك

وعن محمّد بن إبراهيم بن مهزیار قال: اجتمع عند أبي مال کثیر -بعد مضي أبي محمّد(علیه السّلام) . فحمله وركب في السفينة وخرجت معه مشيّعاً له، نوعك وعكاً شديداً، فقال: يابني ردّني ردّني فهو الموت، واتّق الله في هذا المال و أوصى إليّ ومات.

فقلت في نفسي: لم يكن أبي يوصي بشيء غير صحيح، أحمل هذا المال إلى العراق، وأكتري داراً على الشط، ولا اُخبر أحداً، فإن وضح لي شيء کوضوحه أيّام أبي محمّد(علیه السّلام) أنفذته وإلا تصدّقت به.

فقدمت العراق، وأكتریت داراً على الشط وبقيت أيّاماً فإذا أنا برسول معه رقعة فیها:

«یا محمّد معك كذا وكذا، في جوف كذا وكذا».

حتى قص عليّ جميع ما معي ممّا لم أحط به علماً، فسلّمت المال إلى الرسول، و بقيت أياماً لا يرفع لي رأس، فاغتممت، فخرج إلي:

ص: 200


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 310، عن الكافي للكليني(قدّس سرّه).

«قد أقمناك مقام أبيك فاحمد الله»(1).

10. جواب الثلاثة

وقال الحسن بن الفضل بن زید اليماني:

كتبت في معنيين (أي: في موضوعین) و أردت أن أكتب في الثالث و امتنعت منه مخافة أن يكره ذلك، فورد جواب: المعنيين والثالث الّذي طويته، مفسّراً(2).

11. إلى أحمد بن الحسن

وقال أحمد بن الحسن: وردت الجبل (أي: إيران) وأنا لا أقول بالإمامة، اُحبّهم جملة إلى أن مات یزید بن عبدالملك (وفي نسختي الكافي، و إرشاد المفيد: یزید بن عبدالله) فأوصى إليّ في علّته: أن يدفع الشهري السمند، وسيفه، و منطقته إلى مولاه يعني: صاحب الأمر(علیه السّلام) ) فخفت إن لم أدفع الشهري إلى «اذکوتكين» (حاكم الجبل آنذاك) نالني منه استخفاف، فقومت الدابة والسيف والمنطقة بألف دينار في نفسي، ولم اطلّع عليه أحداً، فإذا الكتاب قد ورد عليّ من العراق:

«يا أحمد بن الحسن الألف دينار الّتي لنا عندك ثمن الفرس والسيف سلّمه إلى أبي الحسن الأسدي». .

قال: فخررت لله ساجداً شكرت لما منّ على وعرفت أنّه حجّة الله حقاً لأنّه لم يكن وقف على هذا أحد غيري، فأضفت إلى ذلك المال ثلاثة آلاف دينار أخرى سروراً بما منّ الله علي بهذا الأمر(3).

الشهري السمند: نوع من الفرس.

ص: 201


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 310، عن غيبة الشيخ الطوسي(قدّس سرّه) . (قوله: لا يرفع لي رأس) كناية عن عدم الاعتناء به والتوجّه إليه.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 311، عن غيبة الطوسي(قدّس سرّه) .
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 316، عن غيبة الطوسي وكتاب النجوم.

12. إماماً لك

وبعد موت القاسم بن العلاء خرج التوقيع إلى ابنه الحسن کتاب تعزية وفي آخره دعاء.

«ألهمك الله طاعته، و جنب معصيته».

قد جعلنا أباك إماماً لك، وفعاله لك مثالاً»(1).

13. إنك تحتاج إليها

وقال أبوغالب: وقد كتبت رقعة أسأل فيها أن تقبل ضيعتي، وألمحت في ذلك فكتب إليّ: «اختر من تثق به فاكتب الضيعة باسمه فإنّك تحتاج إليها». .

فكتبتها باسم أبي القاسم موسی بن الحسن ابن أخ أبي جعفر، ثقتي به و موضعه من الديانة والنعمة.

فلم تمض الأيام حتّى أسرني الأعراب، ونهبوا الضيعة الّتي كنت أملكها، و ذهب فيها من غلاتي ودوابي و التي نحواً من ألف دينار، وأقمت في أسرهم مدّة إلى أن اشتريت نفسي بمائة دينار و ألف وخمسمائة درهم ولزمني من أجرة الرسل نحو من خمسمائة درهم، فخرجت واحتجت إلى الضيعة فبعتها(2).

14. لك فيها عشرون درهماً

قال محمّد بن شاذان بن نعيم: اجتمع عندي مال للغريم (علیه السّلام) خمسماة درهم تنقص عشرين درهماً، فأبيت أن أبعثها ناقصة هذا المقدار، فأتممتها من عندي و بعثت بها إلى محمّد بن جعفر ولم أكتب مالي فيها، فأنفذ إلي محمّد بن جعفر القبض وفيه:

«وصلت خمسماة درهم لك فيها عشرون درهماً»(3) .

ص: 202


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 316، عن غيبة الطوسي و كتاب النجوم.
2- العلامة المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 223، عن غيبة الشيخ الطوسي(رضی الله عنه) .
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 325، عن اكمال الدين و ارشاد المفيد والخرائج.

الغريم: كناية عن مولانا صاحب الزمان عليه الصلاة والسلام و عجّل الله تعالی فرجه.

15. أخرج حقّ لابن عمّك

قال الشيخ العمري -نائب الناحية المقدسة -: صحبت رجلاً من أهل السواد (یعني: أهل العراق) و معه مال للغريم (علیه السّلام) ، فأنفذه فرد عليه و قيل له:

«أخرج حقّ ابن عمّك منه و هو أربعمأة درهم»

فبقي الرجل باهتاً متعجّباً ونظر في حساب المال، وكانت في يده ضيعة لولد عمّه قد كان ردّ عليهم بعضها و زوی عنهم بعضاً، فإذا الّذي فضل لهم من ذلك المال أربعمأة درهم كما قال(علیه السّلام) . فأخرجه وأنفذ الباقي فقبل(1).

16. كذب الوقّاتون

قال علي بن عاصم الكوفي:

خرج في توقيعات صاحب الزمان(علیه السّلام) :

«ملعون ملعون من سمّاني في محفل من الناس»(2).

وقال الشيخ محمّد بن عثمان العمري - نائب الناحية المقدسة - قدّس الله روحه:

خرج توقيع بخطه (علیه السّلام) أعرفه:

«من سمّاني في مجمع من الناس باسمي فعليه لعنة الله».

وكتبت أسأله عن ظهور الفرج؟ فخرج في التوقيع:

«کذب الوقّاتون» (3).

ص: 203


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 326، عن اكمال الدين و ارشاد المفيد.
2- العلامة المجلسي، بحارالأنوار، ج 51، ص 184، عن اكمال الدين.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 184، عن اكمال الدين.

17. إن عرفوا المكان

وعن أبي عبدالله الصالحي قال: سألني أصحابنا بعد مضي أبي محمّد(علیه السّلام) أن أسأل عن الاسم والمكان فخرج الجواب: «إن دللتم على الاسم أذاعوه، وإن عرفوا المكان دلّوا عليه.»(1)

ص: 204


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 33، عن الكافي. مسألة النهي عن تسمية الإمام المهدي (علیه السّلام) باسمه الخاص صلوات الله عليه وعلى آبائه قد ورد في أحاديث عديدة عن أئمة أهل البيت بدها بأمير المؤمنين وانتهاءاً بالإمام الحسن العسكري والإمام المهدي نفسه عليهم الصلاة والسلام وقد جمع منها العلامة المجلسين(قدّس سرّه) في بحار الأنوار بضعة عشر حديثاً. (ج 51، ص 31-34). وقد اختلفت كلمات الفقهاء - رضوان الله عليهم - في تفسير هذا النهي. فقد قال الشيخ الصدوق - رضوان الله عليه -: «الّذي أذهب إليه النهي عن تسميته» يقصد بذلك التحريم وقال بعضهم بالكراهة، وفصّل بعضهم بين أوائل الغيبة الصغرى نالتحريم وبين الأزمنة المتأخّرة فالكراهة. قال المحقّق القمي(قدّس سرّه) في جامع الشتات ما ترجمته: «أخبار المنع عن تسميته جنابه(علیه السّلام) كثيرة، حتّى أنّ الكليني (قدّس سرّه) روی بسند صحيح عن الإمام الصادق(علیه السّلام) أنّه قال: صاحب هذا الأمر لا يستيه باسمه إلّا كافر، وهكذا في أحاديث أخرى ورد التصريح بحرمة ذكر اسمه الشريف. ولكن ما يستفاد من سائر الأخبار هو: أنّ ذلك من باب التقية والاتّقاء في حقّه و من الأزمنة الأولى من ولادته(علیه السّلام) والأزمنة المتقارية من أيّام غيبته(علیه السّلام) ، وذلك لأنّ الفراعنة في زمان آل محمد(صلّی الله علیه وآله وسلّم) كانوا دائماً يحاولون إطفاء النور الإلهي. وحيث أنّهم كانوا قد سمعوا أنّ صاحب الأمر (علیه السّلام)سيملأ الأرض عدلا وقسطاً بعدما ملئت ظلماً و جوراً، وقد كان علماء السنة أيضاً رووا هذا الحديث، وكان قد ورد في أخبارهم أيضاً أنّ اسمه موافق لاسم جده رسول الله(صلّی الله علیه وآله وسلّم) ... إلى أن قال: لهذه الأسباب كان فرعون ذاك الزمان يسعى حثيثاً في طلبه(علیه السّلام) ، ولأجل ذلك جعلوه(علیه السّلام) مختفياً، ونهوا شيعتهم عن ذكر اسمه الشريف وعن مكانه، وقد ورد في بعض الأخبار التصريح بأنّ علّة ترك ذكر الاسم الشريف هو: أنّه حيث تحقّق عند السلطان أنّ أبا محمّد يعني الإمام الحسن العسكري(علیه السّلام) مات ولم يخلف ولداً فإذا ذكر اسمه (علیه السّلام) صار في طلبه فاتّقوا الله، واحفظوا ألسنتكم عن ذكر اسمه (والحاصل) أنّ وجه المنع ظاهراً هو هذا، وأمّا في أمثال زماننا فلا أرى مانعاً عنه ظاهراً (ولو) لم يصرّح باسمه واكتفي بلفظ (الحجّة) كان أحوط». (جامع الشتات، ج 2، ص 748).

الخلاصة

كانت الجماعة الصالحة تتّصل بالإمام(علیه السّلام) عن طريق نوّابه وخواصّه، وكان البعض يرسل إلى الإمام (علیه السّلام) رسالة يضمّنها بعض احتياجاته، إمّا الدعاء له بأن يرزق الولد، أو تحقیق حاجة أخرى دنيويه أو مسألة عن شخص ما لا يعرف عنه بعض الأُمور، وتعود إليهم أجوبة تلك الرسائل عن طريق وكلائه.

الأسئلة

1. ما هي الواسطة بين الجماعة الصالحة والإمام (علیه السّلام) من حيث إيصال الرسائل؟

2. عدد بعض ما حملته الرسائل من أجوبة؟

3. ماذا يستفاد من دعاء الإمام (علیه السّلام) بولادة الصدوق(رضی الله عنه)؟

4. بماذا يمكن أن يستفاد من دلالة كثرة الرسائل بين الجماعة الصالحة والإمام (علیه السّلام)؟

ص: 205

الدرس 21 : بدء الغيبة الكبرى

اشارة

كانت وفاة علي بن محمّد السمري (329ها إيذاناً بابتداء عصر الغيبة الكبرى. وكان التوقيع الصادر عن الإمام(علیه السّلام) إلى محمّد قبل وفاته بستّة أيّام هو الإعلان عن انتهاء فترة الغيبة الصغرى، فلم تكن الغيبة الكبرى واحتجاب الإمام (علیه السّلام) عن شيعته وقواعده أمرة مفاجئاً و غير متوقّع بل قد مهّد لهذه الغيبة الرسول الأعظم (صلّی الله علیه وآله وسلّم) حيث تواترت عنه الأخبار الدالّة على ذلك.

فقد روي جابر بن عبدالله الأنصاري عن رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) قوله:

«المهدي من ولدي اسمه اسمي وكنيتُه کُنيتي أشبه الناس بي خَلقاً و خُلقاً، تكون له غيبة و حيرة تضِلّ فيه الاُمم، ثمّ يقبل کالشهاب، ويملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً.»(1)

اوكما تواتر عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ذلك فقد تواتر عن أئمة أهل البيت(علیه السّلام) أيضاً من خلال الروايات الكثيرة الّتي تشير إلى الغيبة الصغرى والكبرى معاً.

إذن كانت عامّة الشيعة قبل حصول الغيبة تعلم بحتميّة وقوعها فلم يكن في حدوثها

ص: 206


1- کمال الدین، ج 1، ص 286.

عنصر المفاجأة كما يتوهّمه البعض بل كانت الصدمة الّتي تلقاها الشيعة المعاصرون للإمام (علیه السّلام) - بغيبة إمامهم صدمة كبيرة. وكانوا يظنّون أن لا تقع غيبته إلّا في زمان متأخّر عن زمانهم.

إنّ العمل الدؤوب لإعداد النفس وترويضها أوّلاً والتصدّي لمظاهر الفساد والظلم و الانحراف ثانياً يُعدّان الترجمة العملية والواقعية لانتظار الإمام (علیه السّلام) والاعتقاد بإمامته، وبذلك يتحقّق الانتظار الواعي الّذي حثّت عليه الروايات واعتبرته أفضل العبادة.

فعن الإمام علي(علیه السّلام) أنّه قال: «انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله تعالى، فإنّ أحبّ الأعمال إلى الله انتظار الفرج»(1) .

ويحدّث الإمام علي بن الحسين (علیه السّلام) أباخالد الكابلي عن أهل زمان الغيبة الكبرى قائلاً له: يا أبا خالد إنّ أهل زمان غیبته القائلون بإمامته المنتظرون لظهوره أفضل أهل كلّ زمان لأنّ الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بالسيف، أولئك المخلصون حقّاً، و شیعتنا صدقاً، والدعاة إلى دین الله تعالى سرّاً وجهراً.

وقال (علیه السّلام) : «انتظار الفرج من أعظم الفرج»(2).

الإعلان عن بدء الغيبة الكبرى

كان التوقيع الشريف الصادر عن الإمام المهدي(علیه السّلام) إلى علي بن محمّد السمري يخبره بدنوّ أجله، و أنّه ميّت بعد ستّة أيّام، إعلاناً ببدء مرحلة الغيبة الكبرى وإنتهاء الفترة الممهّدة لها وهي فترة السفراء الأربعة الّتي عُرفت بالغيبة الصغری.

ص: 207


1- الشيخ الصدوق، الخصال، ص 625.
2- کمال الدین، ج 2، ص 321.

ونصّ التوقيع المبارك هو: «بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنّك ميّت ما بينك وبين ستّة أيّام فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامّة فلا ظهور إلّا باذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول أمد و قسوة القلب و امتلاء الأرض جوراً، وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني، والصيحة فهو كذّاب مفتړٍ ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم»(1).

ووفقاً للنصّ المبارك يتّضح ما يلي:

1. انتهاء دور النيابة الخاصّة.

2. إنّ مرحلة الغيبة الصغرى و دور السفراء - كوسطاء . كانا إتماماً لدور الأئمة(علیهم السّلام) في إنضاج العقل الشيعي وإبلاغه مستوىً عالياً في التفاعل مع الأحداث و استنباط أحكامها.

3. بدء مرحلة النيابة العامة وإرجاع الشيعة إلى رواة أحاديث أهل البيت (علیهم السّلام) في كل واقعة تحدث كما ورد في النص الشريف عن الإمام الحجّة لأحمد بن إسحاق:

«وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجتي عليكم، وأنا حجّة الله»(2).

4. التمويه التام على السلطات الجائرة حول وجود الإمام (علیه السّلام) ، وأنّ من يدّعي مشاهدته فهو كذّاب مفتر، فالسلطات والحالة هذه أمنت خروجه ليمحو الظلم والطغيان العباسي.

5. إنّ أمر الإذن بخروجه (علیه السّلام) عائد إلى الله سبحانه وتعالى.

ص: 208


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 242.
2- کمال الدین، ج 2، ص 484.

علل الغیبة الکبری

لقد أشارت الأحاديث الشريفة المرويّة عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) والأئمة الأطهار (علیهم السّلام) لأسباب و علل غيبة الإمام (علیه السّلام) ، وبإلقاء نظرة متمعنة فيما جاء من النصوص حول الغيبة يتّضح أنّ هذه الروايات والأحاديث على طوائف:

فطائفة تذكر أنّ علّة الغيبة هي أنّ الله سبحانه جعل للإمام (علیه السّلام) سنن الأنبياء في غیباتهم.

وطائفة أُخرى تعلّل غيبته (علیه السّلام) بخوفه من القتل.

وطائفة ثالثة تذكر أنّ العلّة هي أن لا تكون في عنقه(علیه السّلام) بيعة لطاغية حين يظهر بالسيف.

وطائفة رابعة لم تذكر سبباً صريحاً بل لسانها يقول: إنّ الغيبة أمر من أمر الله سبحانه و سرّ من أسراره يُكشف عنه حين ظهور الإمام(علیه السّلام) .

و نقل هنا مجموعة الأحاديث حول هذا الموضوع، ثمّ نشير إلى ما جاء في كلِّ منها ممّا يرتبط بتعليل ظاهرة الغيبة له(علیه السّلام) .

1. الطائفة الاُولى: روى سدير عن أبيه عن الإمام الصادق (علیه السّلام) قال: إنّ للقائم منّا غيبة يطول أمدها، فقلت له: يا ابن رسول الله ولِمَ ذاك؟ قال: لأنّ الله عزّوجلّ أبي إلا أن يجعل فيه سنن الأنبياء (علیهم السّلام) في غيباتهم، وأنّه لابدّ له یاسدیر من استيفاء مدّة غیباتهم، قال الله تعالى: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ » أي سنن من كان قبلكم(1).

و روی عبدالله بن الفضل الهاشمي قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد(علیه السّلام) يقول: إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة لابدّ منها، یرتاب فيها كلّ مبطل، فقلت له: ولِمَ جعلت فداك؟ قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم، قلت: فما وجه الحكمة فيغيبته؟ قال:

ص: 209


1- الحر العاملي. إثبات الهداة، ج 3، ص 486- 487.

وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدّم من حجج الله تعالى ذكره. إنّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلّا بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر(علیه السّلام) إلا بعد افتراقهما، یا ابن الفضل إنّ هذا الأمر من أمر الله و سرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنّ الله عزّوجلّ حكم، صدّقنا بأنّ أفعاله كلّها حكمة، وإن كان وجهها غير منکشف(1).

2. و من الطائفة الثانية ما رواه زرارة عن الإمام الباقر (علیه السّلام) قال: إنّ للقائم غيبة قبل ظهوره، قلت، ولِمَ؟ قال: يخاف و أومی بيده إلى بطنه - قال زرارة يعني: القتل(2).

ومنها ما روي عن عبدالله بن عطا عن أبي جعفر(علیه السّلام) قال: قلت له إنّ شيعتك بالعراق كثيرة، والله ما في أهل بيتك مثلك، فكيف لا تخرج؟ قال: فقال: یا عبدالله ابن عطا، قد أخذت تفرش اُذنيك للنَوكي. إي والله ما أنا بصاحبكم، قال: قلت له: فمن صاحبنا؟ قال: انظروا من عَمِيَ على الناس ولادته، فذاك صاحبكم؛ إنّه ليس منّا أحد يشار إليه بالإصبع ويُمضَغُ بالألسن إلّا مات غيظاً أو رغم أنفه.(3).

3.و من الطائفة الثالثة ما روي عن الحسن بن محبوب بن إبراهيم الكرخي قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السّلام) أو قال له رجل: أصلحك الله ألم يكن علي(علیه السّلام) قوياً في دين الله؟ قال: بلى، قال: فكيف ظهر عليه القوم وكيف لم يمنعهم؟ وما منعه من ذلك؟ قال: آية في كتاب الله عزّوجلّ منعته، قال: قلت: وأيّ آية هي؟ قال: قول الله عزّوجلّ « لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا » إنّه كان لله عزّوجلّ ودایع مؤمنون في أصلاب قوم کافرین و منافقین فلم يكن علي(علیه السّلام) ليقتل الآباء حتّى تخرج الودایع،

ص: 210


1- کمال الدین، ص 481.
2- علل الشرائع، ج 1، ص 246.
3- الكافي ج 1، ص 342.

فلمّا خرجت الودايع ظهر على ظهر فقاتله، وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبداً حتّى تظهر و دایع الله عزّوجلّ فاذا ظهرت ظهر على ظهر فقاتله(1).

4. و من الطائفة الرابعة ما روي عن الإمام الصادق (علیه السّلام)

قال: و الله لا يكون الّذي تمُدنّ إليه أعناقكم حتّى تميّزوا وتمحّصوا، ثمّ يذهب من عشرة شيء ولا يبقى منكم إلّا الأندر، ثمّ تلا هذه الآية «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ »(2).

5. و من الطائفة الخامسة ما روي عن الإمام الباقر (علیه السّلام)

قال: «دولتنا آخر الدول، ولم يبق أهل بيت لهم دولة إلّا ملكوا قبلنا لئلايقولوا إذا رأوا سيرتنا إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عزّوجلّ: العاقبة للمتّقین» (3).

6. و من الطائفة السادسة: ما روي عن الإمام الرضا (علیه السّلام) أنّه قال - في جواب من سأله عن علّة الغيبة -: «لئلّا يكون في عنقه بيعة إذا قام بالسيف»(4).

وهذا المعنى مروي عن كثير من الأئمة (علیهم السّلام) بألفاظ متقاربه، منها ما روي عن الإمام المهدي(علیه السّلام) أنّه قال في توقيعه إلى إسحاق بن يعقوب في جواب أسئلته:

«و أمّا علّة ما وقع من الغيبة، فإنّ الله عزّوجلّ يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ » إنّه لم يكن أحد من آبائي (علیهم السّلام) ، إلّا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنّي أخرج حين أخرج، ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي»(5).

7. ويقول(علیه السّلام) في رسالته الاُولى للشيخ المفيد:

ص: 211


1- علل الشرائع، ص 147.
2- الحميري، قرب الاسناد، ص 162.
3- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 282؛ سورة الأعراف.
4- عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 273 .
5- كمال الدين، ص483.

نحن وإن كنّا ناوین بمكاننا النائي عن مساكنالظالمين حسب الّذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح و لشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين(1).

8. ويقول سلام الله عليه في رسالته الثانية للشيخ المفيد:

ولو أنّ أشياعنا - وفّقهم الله لطاعته - على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخّر عنهم الُيمن بلقائنا، ولتعجّل لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا. فما يحبسنا عنهم إلّا ما يتّصل بنا ممّا نكرهه ولا نؤثره منهم(2).

إذن هناك أسباب واقعية وموضوعية هي الّتي تكمن وراء ظاهرة الغيبة كشفت هذه النصوص عنها تارة بشكل صريح واُخرى بشكل رمزي هذا من جهة، ومن جهة اُخرى أنّ كلّ نصِّ تكفّل ببيان جزء من تلك العلّة الواقعية الّتي ظهرت بمظهر سنّة من سنن الأنبياء، فإنّ معنی وجود سنّة هو وجود قانون عام ينطبق على الحوادث التأريخية كلما تشابهت الظروف. وحيث أنّ الإمام المهدي(علیه السّلام) يعبّر عن نفس الخط الّذي سار عليه الأنبياء وبعثوا من أجل تحقيق أهدافه. إذن سوف تخضع حركته لنفس السنن العامة الّتي تحقّقت في حياة الأنبياء(علیهم السّلام) .

وصلاح الاُمّة يقتضي أن يغيب الإمام (علیه السّلام) حيث لا تتحقّق الأهداف بظهوره قبل الأوان و قبل تهيّؤ الظروف الموضوعية الكفيلة بتحقّق أهداف رسالات الأنبياء على یده.

وظهور الإمام قبل أن تتحقّق الظروف الكفيلة بحفظ وجوده الّذي يستطيع إيجاد التغيير العالمي المنشود قد يستلزم قتله من قبل الظالمين فلايكون نفع ظهوره أكبر من نفع غيبته.

ص: 212


1- الكاشاني، معادن الحكمة، ج 2، ص 306.
2- الكاشاني، معادن الحكمة ج 2، ص306.

الخلاصة

إنّ غيبة الإمام (علیه السّلام) الكبرى واحتجابه عن الأنظار من الاُمور المسلّمة الّتي تَحتَّمَ وقوعها وفقاً للأحاديث المتواترة، فلم تكن القواعد الشعبية الموالية له بعيدة عن هذا التصوّر، بل كانت تتوقّع ذلك في كلّ حين، ولمّا قربت وفاة السفير الرابع عام 329 للهجرة، أعلن الإمام (علیه السّلام) بتوقيعه الشريف عن بدء المرحلة الثانية من غيبته ودعوته قواعده لانتظاره و الدعاء له، راسماً لهم طريقاً واضحاً في التعامل بإرجاعهم إلى رواة أحاديث أهل البيت (علیهم السّلام) في الحوادث الواقعة وهم الفقهاء الجامعون لشرائط القيادة النائبة عنه، كلّ هذه اُمور وقضايا مسلّمة لدى القواعد الّتي رُبّیت خلال فترة طويلة امتدّت منذ أيام الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) وإلى اليوم الّذي وقعت فيه الغيبة الكبرى. وقد ورد في الأحاديث أنّ علّة الغيبة هي، أن لا تكون في عنقه (علیه السّلام) بيعة لطاغية، وأنّها حصلت خشية القتل وتصفية القيادة المعصومة المتمثّلة في المهدي (علیه السّلام).

الأسئلة

1. إنّ حدث الغيبة الكبرى هل كان أمراً مفاجئاً للقواعد الشعبية؟ ولماذا؟

2. هل تدلّ أحاديث انتظار الفرج على وقوع الغيبة؟ وكيف ذلك؟ 3. ما هي الدلالة في الأحاديث الّتي اعتبرت انتظار الفرج من أفضل العبادة؟

4. كيف تمّ الإعلان عن حدوث الغيبة الكبرى؟

5. ما هي علل الغيبة الكبرى حسب طوائف الأحاديث الواردة في هذا الصدد؟

ص: 213

الدرس 22 : خصائص الغيبة الكبرى

اشارة

ابتدأت الغيبة الكبرى بإعلان الإمام المهدي(علیه السّلام) عن إنتهاء الغيبة الصغرى المتمثّل بانتهاء السفارة وبدء الغيبة التامّة وأنّه لا ظهور إلّا باذن الله عزّوجلّ.

وتنتهي الغيبة الكبرى باليوم الموعود حيث يشرق فيه نور الإمام المهدي(علیه السّلام) ويظهر لعامّة الناس ظهوراً يتصدّى فيه لأخذ زمام الأمور في العالم الإسلامي والإنساني أجمع، و تسعد البشرية حينذاك بلقائه حيث يخرجها من الظلمات إلى النور ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً.

و تتّصف هذه المرحلة من حياة الإمام بخصائص ومميّزات تجعلها من أحرج الفترات في تاريخ الإسلام عامّة والجماعة الصالحة خاصّة، وإن أهم هذه الخصائص هي:

1. أنّ أوّل ما تمتاز به هذه المرحلة هو انقطاع الناس عن القائد الإسلامي والموجِّه الإلهي للتجربة الإسلاميّة، فهي على عكس الفترات السابقة الّتي عاشتها الجماعة الصالحة في العصر النبوي المبارك وعهود الأئمّة الأطهار(علیهم السّلام) ، كما أنّها تختلف عن مرحلة الغيبة الصغرى والّتي امتازت بالاتّصال غير المباشر بالإمام(علیه السّلام) عن طريق السفراء الأربعة (رضوان الله تعالى عليهم).

ص: 214

2. انتشار الظلم والجور، و انحسار الإسلام عن الحياة السياسية، وبذلك تتميّز هذه الفترة عن العصر الّذي كان يسود فيه الإسلام و يسيطر على حياة الإنسان وبطابع الرسالة الإسلاميّة، وبذا تكون هذه الفترة متميّزة عن عهود سيادة و قيمومة الإسلام في الحياة العامة .

3. التشكيك في وجود الإمام (علیه السّلام) لاحتجابه عن واقع الحياة ولطول زمان غيبته(علیه السّلام) ، ثمّ طغيان التيّارات الضالّة الّتي تُسبّب في بروز ظاهرة التشكيك واتّساعها في حياة الاُمّة الإسلاميّة.

ففي زمن الغيبة الصغرى نجد أنّ التواصل بين القواعد والإمام (علیه السّلام) كان حاصلاً عن طريق السفراء، وأنّ ما كان يطرح من إشكالات حول المسائل المختلفة كانت الأمّة تجد حلولها إمّا بمبادرة من الإمام وإخراج توقيع يتضمن ذلك أو عن طريق سؤال قواعده و موالیه بتوسّط سفرائه. فالإلزام متيقّن في التوقيعات الصادرة عنه(علیه السّلام) حيث أنّ القواعد الموالية كانت تجهد و تجد في تطبيق ما يصدر عن الإمام(علیه السّلام) أو سفرائه والحال أنّ الغيبة الكبرى حيث لا واسطة بين الإمام وقواعده إذ هي فترة الاحتجاب التام وانقطاع الإمام عن الارتباط بالناس. فوسيلة الإفهام للقواعد الموالية والجماعة الصالحة هي الرجوع إلى الفقهاء الرواة لنصوص أهل البيت (علیهم السّلام) الأُمناء على الشريعة و على الأُمّة الإسلاميّة كما ورد ذلك في الحديث المعروف عنه (علیه السّلام).

سيرة الإمام المهدي(علیه السّلام) في عصر الغيبة الكبرى

اشارة

إنّ الإطار العام لسيرة الإمام(علیه السّلام) في هذه الفترة هو التمهيد لظهوره. وهذا التمهيد يشمل رعاية الجماعة الصالحة وحفظها وحفظ الرسالة الخاتمة من التحريف إضافة إلى القيام بمهامّ اُخرى تتعلّق بسائر وظائف الإمام (علیه السّلام) وإن كان ذلك بأساليب أكثر خفاءً ممّا كان عليه الحال في الغيبة الصغرى وبذلك يتحقّق الانتفاع بوجوده المبارك كما يُنتفع بالشمس إذا غيّبها السحاب كما ورد في مجموعة من الأحاديث الشريفة.

ص: 215

ويمكن تصویر تحرّك ونشاط الإمام (علیه السّلام) خلال احتجابه فی عصر الغیبة الکبری بأحد شکلین:

1. اُطروحة خفاء الشخص

وهي الاُطروحة التقليدية المتعارفة المذكورة في ذهن عدد من الناس و تدلّ عليها ظواهر بعض الأدلّة على ما سنرى، وهي أنّ الإمام المهدي(علیه السّلام) يختفي بجسمه عن الأنظار، فهو يرى الناس ولا يرونه، وبالرغم من أنّه قد يكون موجوداً في مكان إلّا أنّه يُرى المكان خالياً منه.

أخرج الصدوق في إكمال الدين بإسناده عن الريّان بن الصلت، قال: سمعته يقول: سئل أبو الحسن الرضا(علیه السّلام) عن القائم(علیه السّلام) فقال: لا يری جسمه ولا يسمّى باسمه.

وأخرج بإسناده عن الصادق جعفر بن محمّد(علیه السّلام) في حديث قال: الخامس من ولد السابع يغيب عنكم شخصه ولا يحلّ لكم تسميته(1).

وأخرج أيضاً بإسناده عن عبيد بن زرارة قال سمعت أباعبدالله(علیه السّلام) يقول: يفقد الناس إمامهم فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه.

وهذه الأطروحة هي أسهل افتراض عملي لاحتجاب الإمام المهدي(علیه السّلام) عن الناس ونجاته من ظلم الظالمين، فإنّه في اختفائه هذا يكون في مأمن قطعي حقيقي من أيّ مطاردة أو تنکیل حیثما كان على وجه البسيطة.

وهذا الاختفاء يتمّ عن طريق الإعجاز الإلهي، كما تمّ طول عمره لمدى السنين المتطاولة بالإعجاز أيضاً، وكان كلا الأمرين لأجل حفظ الإمام المهدي(علیه السّلام) عن الموت والأخطار، لكي يقوم بالمسؤولية الإسلاميّة الكبرى في اليوم الموعود.

وتضيف هذه الاُطروحة: بأنّ هذا الاحتجاب قد يزول أحياناً عندما توجد مصلحة

ص: 516


1- بحار الأنوار، ج 51، ص 143.

في زواله: كما لو أراد الإمام المهدي (علیه السّلام) أن يقابل شخصاً من البشر لأجل أن يقضي له حاجة أو يوجّه له توجيهاً أو ينذره إنذاراً. فإنّ المقابلة تتوقّف على رؤيته، ولا تتمّ مع الاختفاء.

وعلى ذلك تحمل كلّ أخبار مشاهدة الإمام المهدي (علیه السّلام) خلال غيبته، حتى ما كان خلال الغيبة الصغرى، ويذكر التاريخ بأنّ الإمام المهدي (علیه السّلام) ظهر لعمّه جعفر الكذّاب مرّتين ثمّ اختفى من دون أن يعلم أين ذهب، وهذا الشاهد يؤيّد صحّة هذه الأُطروحة.

2. الاُطروحة الثانية: اُطروحة خفاء العنوان

2. الاُطروحة الثانية: اُطروحة خفاء العنوان (1)

ونريد بذلك أنّ الناس يرون الإمام المهدي (علیه السّلام) بشخصه دون أن يكونوا عارفين أو ملتفتين إلى حقيقته.

لقد سبق أن عرفنا من تأریخ الغيبة الصغرى أنّ الإمام المهدي(علیه السّلام) قد ربّاه أبوه محتجباً عن أعين الناس، إلا القليل من الخاصّة الذين أراد أن يطلعهم على وجوده ويثبت لهم إمامته من بعده، ثمّ ازداد الإمام المهدي(علیه السّلام) احتجاباً بعد وفاة أبيه و أصبح لا يتّصل بالناس إلّا عن طريق سفرائه الأربعة، غير عدد من الخاصّة المأمونين على السرّ الذين كانوا يبحثون عن الخلف بعد الإمام العسكري (علیه السّلام) كعلي بن مهزیار الأهوازي و غيره، وكان الإمام المهدي (علیه السّلام)يؤكّد عليهم في كلّ مرّة الكتمان و الحذر.

وكلمّا تقدّمت السنون في الغيبة الصغرى وتقدّمت الأجيال وقلّ الذين كانوا قد عاصروا الإمام العسكري (علیه السّلام) وشاهدوا ابنه المهدي(علیه السّلام) حتّى انقرضوا بالتدريج، ووجدت أجيال جديدة لا تعلم اُسلوب اتّصالها بالإمام إلا الإتّصال بسفيره على أفضل تقدير.

وكان هذا الجيل - بشكل عام - جاهلاً بشكل إمامه المهدي(علیه السّلام) بحيث لو واجهوه

ص: 217


1- محمّد الصدر، تاریخ الغيبة الكبرى، ص 7- 10.

لما عرفوه البتة إلّا بإقامته الأدلّة القطعية على شخصيّته.

ومن هنا تیسّرت له - كما علمنا في ذلك التاريخ - فرصة السفر إلى مختلف أنحاء البلاد كمكّة ومصر، من دون أن يكون ملفتاً لنظر أحد.

وهذا ما نعنيه من خفاء العنوان، فإنّ أيّ شخص يراه يكون غافلاً بالمرّة عن كونه هو الإمام المهدي (علیه السّلام) ، وإنّما يرى فيه شخصاً عادياً كسائر الناس لا يلفت النظر على الإطلاق.

ويمكن للمهدي(علیه السّلام) أن يعيش في أي مكان يختاره و في أي بلد يفضّله سنین متطاولة، من دون أن يُلفت إلى حقيقته نظر أحد، و تكون حياته في تلك الفترة كحياة أي شخص يكتسب لمعيشته من بعض الأعمال الحرّة كالتجارة أو الزراعة أو غيرها، ويبقى على حاله هذه في مدينة واحدة أو عدّة مدن، حتى بأذن الله تعالى له بالفرج.

ويمكن الاستدلال على هذه الاُطروحة من زاويتين: -

الزاوية الاُولى: الأخبار الواردة بهذا الصدد، منها: ما أخرجه الشيخ الطوسي في الغيبة عن السفير الثاني الشيخ محمّد بن عثمان العمري أنّه قال: «والله إنّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كلّ سنة، يرى الناس و يعرفهم ويرونه ولا يعرفونه». .

والمقصود بصاحب هذا الأمر: الإمام المهدي(علیه السّلام) ، والمراد بالموسم موسم الحجّ والرواية واضحة الدلالة على عدم اختفاء الشخص و مقترنة بالقسم بالله تعالى تأكيداً و صادرة من سفير الإمام المهدي(علیه السّلام) وهو أكثر الناس اطلاعاً على حاله.

ومنها ما ورد عن السفير من قوله حول السؤال عن اسم الإمام المهدي(علیه السّلام) : وإذا وقع الاسم وقع الطلب(1).

فإنّه ليس في طلب الحكام للمهدي (علیه السّلام) ومطاردتهم له، أيّ خطر ولا أيّ تأثير، لو كانت الأطروحة الاُولى صادقة وكان جسم المهدي(علیه السّلام) مختفياً، إذ يستحيل الوصول

ص: 218


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص219.

إليه، وإنّما الخطر يكمن في إمكان كشفه فيما إذا لم يكن مختفياً بجسمه، والنهي عن الاسم إنّما يكون تجنّباً للمطاردة. وهذا ينسجم مع الاُطروحة الثانية. فإنّه ما دام عنوان المهدي (علیه السّلام) واسمه مجهولين، يكون في مأمن عن المطاردة، و أمّا إذا «وقع الاسم» وعرف العنوان، لا يكون هذا الأمن متحقّقاً و يكون احتمال المطاردةقويّاً.

ومنها: ما ورد من التوقيع الّذي خرج من المهدي(علیه السّلام) إلى سفيره محمّد بن عثماني(رضی الله عنه) يقول فيه: فإنّهم إن وقفوا على الاسم أذاعوه، وإن وقفوا على المكان دلّوا عليه(1).

فإنّه لو صدقت الاُطروحة الاُولى لم يكن رؤية المهدي (علیه السّلام) في أيّ مكان على الإطلاق ولم يكن في الدلالة على أيّ مكان خطر أصلاً، وإنّما يكون الخطر موجوداً طبقاً للاُطروحة الثانية.

ومنها: ما قاله أبوسهل النوبختي حين سئل فقيل له: كيف صار هذا الأمر إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟ فقال: هم أعلم و ما اختاروه، ولكن أنا رجل ألقى الخصوم وأُناظرهم، ولو علمت بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجّة على مكانه لعلّي كنت أدلّ على مكانه، و أبوالقاسم فلو كان الحجّة تحت ذیله وقرض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه(2).

ومن الواضح أنّه لا معنى لكل هذه الاحتياطات و التحفّظات مع صحّة الاُطروحة الاُولى في اختفاء شخص المهدي(علیه السّلام) ، وإنّما ينبغي كلّ هذا التحفّظ مع صحّة الاُطروحة الثانية، فإنّ الدلالة على المكان هي فرع انكشاف العنوان، والقائل لهذا الكلام هو أبوسهل النوبختي الّذي كان من جلالة القدر والوثاقة بحيث كان من المحتمل أن يكون هو السفير عن الإمام (علیه السّلام) ... ومن هنا سئل في هذه الرواية عن

ص: 219


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 222.
2- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 220.

سبب غضّ النظر عنه و إبداله بالشيخ ابن روح.

ولابدّ من الإشارة إلى أنّ هناك مجموعة من العوامل ساهمت في إبعاد الناس عن التصدي للبحث عن الإمام (علیه السّلام) وهي:

1. الجهل بشكله و هيئة جسمه جهلاً تامّاً، و هو عامل مشترك بين أعدائه و محبّيه.

2. إنكاره من قِبَل غير قواعده الشعبية بما فيهم سائر الحكّام الظالمين الذين يمثِّل المهدي(علیه السّلام) رمز الثورة عليهم و إزالة نظمهم من الوجود، فهم في إنكارهم له مرتاحون عن مطاردته، و هو في راحة من مطاردتهم.

3. ارتکاز صحّة الأطروحة الاُولى عند عدد من قواعده الشعبية، أخذاً بظواهر الأخبار الّتي سمعناها؛ إذ مع صحّتها لايكون هناك سبيل إلى معرفته بل يستحيل الإحساس بوجوده إلّا عن طريق المعجزة وهي لا تتحقّق إلّا للأوحديّ من الناس.

4. الإيمان بعناية الله تعالى له وحفظه ليومه الموعود. فمتى تعلَّقت المصلحة بالمقابلة مع الإمام المهدي (علیه السّلام) كان هو الّذي يريدها. ومتى لم تتعلّق المصلحة فالأصلح للإسلام والمسلمين ألّا تتمّ المقابلة، وإن تحرّق الفرد المؤمن إليها شوقاً ومن هنا يكون الفرد الاعتيادي في حالة يأس من مقابلته والتعرّف إليه.

مهامّ الإمام المهدي(علیه السّلام) في الغيبة الكبرى

تتركّز مهامّ الإمام (علیه السّلام) - مع ملاحظة إنقياد الاُمّة وطاعتها له - في الأُمورالتالية:

1. وجوب تولّيه رئاسة الدولة وقيادة الاُمّة، بمعنى تطبيق الاُطروحة الكاملة للعدل الإسلامي على وجه الأرض، والأخذ بزمام أمور المجتمع وإدارته لأجل ضمان هذا التطبيق.

2. وجوب الدعوة الإسلاميّة، بمعنى إدخال المجتمع الكافر في بلاد الإسلام، إمّا بالحرب أو بالصلح أو بغيرهما.

3. وجوب الحفاظ على المجتمع المسلم ضدّ الغزو الخارجي ، والدفاع عن بيضة

ص: 220

الإسلام بالنفس و النفيس.

4. وجوب صيانة المجتمع المسلم من الانحراف و شيوع الفساد في العقيدة أو السلوك بالتوجيه الصحيح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و تبلیغ تعاليم الإسلام.

وهذه الاُمور الأربعة، تجب وجوباً مطلقاً في أي مكان وزمان، ويجب أن يبذل الإمام والاُمّة في سبيلها أقصى ما يستطيع و تستطيع.

5. وفي صورة عجز الإمام عن جملة من الأعمال السابقة؛ لكونه يعيش في مجتمع منحرف يطارده و یراقبه و يعزله عن الأعمال الاجتماعية والسياسية، كما كان عليه حال عامّة أئمّتنا(علیهم السّلام) . ففي مثل ذلك يكون عمل الإمام (علیه السّلام) مكرّساً في الأغلب - على الحفاظ على قواعده الشعبية و موالیه، و على حسن علاقتهم بالآخرين و حسن تلقّيهم تعاليم الدين و تطبيقهم أحكام الإسلام.

نعم إن وجد الإمام طريقاً إلى القيام ببعض الأعمال الإسلاميّة على نطاق واسع، وكان المانع مرتفعاً عنه في ذلك العمل، وجب عليه إنجازه ولا سيّما إذا كان ذلك العمل أوسع من قواعده الشعبية وشاملاً لكلّ بلاد الإسلام.

6. وجوب إغاثة الملهوف وإعانة المضطرّ، وهو تكليف عامّ لا يختصّ بالإمام(علیه السّلام) ، بل يعمّ كلّ مسلم، نعم قد يحول العجز عن الإغاثة أو يحول وجود عمل أو هدف إسلامي أهمّ عن الإغاثة، فيسقط وجوبها.

إنّ الإمام المهدي(علیه السّلام) ، مذخور للقيام بتأسيس وإدارة دولة الحقّ العالمية في اليوم الموعود، و هو من أعظم الأهداف الإلهية الّتي ترتبط بأصل خلق البشرية ووجودها. وقد علمنا من القواعد العامة بما فيها قانون المعجزات بأنّ الأهداف الإلهية العليا تتقدّم على أي شيء آخر، فكل ما تتوقّف هذه الأهداف العُليا على حدوثه فإنّه يحدث لا محالة وكل ما تتوقّف على انتفائه وانعدامه فإنّه ينتفي لا محالة سواء كان ذلك من أُمور الكون أو من أحكام الشريعة.

فإذا نظرنا إلى هذا الهدف المهم الّذي ذُخِر الإمام المهدي (علیه السّلام) له، وجدنا أموراً

ص: 221

عديدة يتوقّف هذا الهدف على حدوثها كوجود المهدي (علیه السّلام) وغيبته، والمعجزة الّتي تتكفّل طول بقائه، والمعجزة الّتي تتكفّل اختفاءه الشخصي أحياناً لصيانته من الأخطار، كما نجد أُموراً يتوقّف اليوم الموعود على انتفائها، فمن ذلك في جانب الأحكام:

أنّ كلّ حكم شرعي يكون تطبيقه متنافياً مع حفظ الإمام المهدي(علیه السّلام) أو غيبته، وبالتالي يكون متنافياً مع تحقّق اليوم الموعود فإنّ وجوب تطبيق هذا الحكم يكون ساقطاً شرعاً عن الإمام (علیه السّلام) ، ولا يجب عليه امتثال هذا الحكم و تنفيذه، و أمّا الأحكام الشرعية الإسلاميّة غير المنافية لهذه الاُمور سواء كانت أحكاماً فردية كوجوب الصلاة والصوم أو أحكاماً اجتماعية عامّة كوجوب الأمر بالمعروف - مثلاً. فلا موجب للالتزام بسقوطها، بل تكون شاملة له، و يجب عليه تنفيذها لاستطاعته، وعدم منافاتها مع غيبته والهدف من وجوده.

إذا علمنا ذلك، استطعنا أن نحكم بوضوح بسقوط التكليف بأي واحد من الاُمور السابقة إذا كان مستلزماً لانكشاف أمره وزوال غيبته، وهذا واضح إلى حدِّ كبير في الاُمور الثلاثة الاُولى، فإنّه مستلزم لذلك عادة، إلّا أن يفترض كونه قائداً أو موجّهاً بشخصية ثانوية يُعرَفُ بها غير صفته الحقيقية.

ص: 222

الخلاصة

بدأت الغيبة الكبرى بانتهاء السفارة، وتنتهي عندما يأذن الله بظهور

الإمام (علیه السّلام) لإقامة دولة الحقّ.

وللغيبة الكبرى خصائص، منها: انقطاع الارتباط بالإمام (علیه السّلام)، وبروز ظاهرة التشكيك في وجوده، فضلاً عن انتشار الظلم والفساد في الأرض، و ازدیاد اضطهاد الجماعة الصالحة.

وهناك اطروحتان حول تحرّك الإمام (علیه السّلام) في هذه الفترة دون أن يخلّ ذلك باحتجابه و غیبته، وهناك مجموعة من العوامل ساعدت في اختفاء الإمام (علیه السّلام) وجعلت البحث عنه من الاستحالة بمكان. سواء كان البحث من قواعده الشعبية أو من معادیه.

وللإمام (علیه السّلام) مهامّ خلال فترة احتجابه و ظهوره يسعى لتحقيقها فيما إذا توفّرت شروط معيّنة.

الأسئلة

1. ما هي خصائص الغيبة الكبرى؟

2. لماذا تبرز ظاهرة التشكيك في وجود الإمام (علیه السّلام) حال الغيبة الكبرى؟

3. هناك اطروحتان لكيفيّة تحرّك الإمام (علیه السّلام) في الغيبة الكبرى، اذكر أدلّة كلِّ منهما؟

4. ما هي العوامل الّتي ساعدت في المنع عن البحث عن الإمام(علیه السّلام) ؟

5. كيف تأخذ الجماعة الصالحة معالم دينها وأحكامها في الغيبة الكبرى؟

ص: 223

الدرس 23: الإنتفاع بالإمام (علیه السّلام) في الغيبة الكبري (1)

إذا كان الإمام الغائب لا يستطيع ممارسة واجباته السياسية والاجتماعية، إذن فما الفائدة في وجوده وإمامته.

وإذا وصلنا إلى روح هذا السؤال استطعنا أن نعمّمه على سائر الأئمّة الحاضرين قبل الغيبة في المجتمع الإسلامي ولكنّهم لم يكونوا قادرين على ممارسة مهامّهم الاجتماعية والسياسية وهي إدارة شؤون الدولة الإسلاميّة وقيادة الأُمّة الإسلاميّة قيادة علنية كما كان يمارسها الخلفاء والحكّام بعد عصر الرسول(صلّی الله علیه وآله وسلّم) .

إذن ينسحب هذا السؤال الخطير على إمامة جميع الأئمّة المعصومين ما عدا فترةٍ من حياة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السّلام) وفترة قصيرة جدّاً من حياة الإمام الحسن المجتبى (علیه السّلام) وأُخرى من حياة الإمام الحسين (علیه السّلام).

ومن هنا انطلق بعض الكتاب المعاصرين للتشكيك في إمامة الأئمة الاثني عشر متجاوزاً بهذا الإشكال إمامة الإمام المهدي المنتظر من أهل البيت (علیهم السّلام).

ویندفع هذا الاعتراض من أساسه إذا استطعنا أن نتصوّر للإمام الغائب دوراً اجتماعياً أو سياسياً يقوم به في عصر غيبته. كما استطعنا أن نصوّر لسائر الأئمة من أهل البيت(علیه السّلام) أدواراً اجتماعية وسياسية كانوا يقومون بها في حياتهم بالرغم من

ص: 224

الحصار و الرقابة الشديدة عليهم ممّا أدّى هذا النوع من النشاط والدور إلى عدم تحمّل وجودهم أحياءً في أوساط الأمّة الإسلاميّة. فبادر الحكّام إلى عزلهم بالكامل و محاصرتهم حتّى في داخل بيوتهم وحياتهم الشخصيّة، فكان الإمام الرضا (علیه السّلام) ولیّاً للعهد ولكنّه كان مراقَباً على الدوام من قِبَل المأمون العبّاسي. وكانت زوجة الإمام الجواد(علیه السّلام) بنت المأمون فهي خير رقيب عليه و سُجِنَ الإمام الهادي والعسكري (علیهما السّلام) في سامرّاء إلى جانب قصر الخليفة.

ولم تدم أعمار هؤلاء الأئمة طويلاً ولم تبلغ حتّى متوسّط العمر الطبيعي لكل إنسان بالرغم من كونهم أصحّاء غير مبتلين بمرض يؤدّي بحياتهم.

إذن تأريخ أهل البيت (علیهم السّلام) الحافل بالجهاد والنشاط الاجتماعي والسياسي غير المباشر خير دليل على أنّ أهل البيت (علیهم السّلام) هم أهل بيت الرسالة والاُمناء عليها شاء الناس أم أبوا ذلك، وهم يمارسون واجباتهم كأئمّة هداة على أيّ حال وفي كلّ الظروف وإن انتهت ممارساتهم الجهادية إلى القتل والسبي والتشريد والاضطهاد والسجن حيث لا تأخذهم في الله لومة لائم، كما شهد تأريخهم المجيد بذلك.

إن تأريخ أهل البيت (علیهم السّلام) بدءاً بالإمام علي (علیه السّلام) وانتهاءً بالإمام العسكري (علیه السّلام) وهم يعيشون مختلف الظروف السياسية والاجتماعية القاسية حافلٌ بصور الجهاد الّتي لم نجد لها مثيلاً عند غيرهم من المسلمين و حينئذٍ ألا يكون جهاد أصحاب هذا الخط المؤزَّر بالتضحيات دليلاً واضحاً ومنطقياً على أنّهم أعرف بمهامّهم وأنّهم لا يتخلّون عنها بأي شكل.

ومن هنا سوف يولّد هذا الاستقراء لنا اطمئناناً نفسياً على أنّ الإمام المهدي (علیه السّلام) کسائر آبائه الطاهرين يمارس مهامّه و هو غائب عن الأنظار كما يمارسها و هو حاضر ولا يتلكّأ في ذلك رغم حراجة الظروف وصعوبتها. بل لعلّه بغيبته يكون أقدر على الممارسة و التحرّك.

على أنّ مهامّ الأئمّة الأطهار لا تتلخّص في ممارسة العمل السياسي أو الجهادي

ص: 225

المكشوف بل إنّها تستوعب كلّ أوجه النشاط الاجتماعي والسياسي والثقافي للأُمّة ولمجاهديها وعلمائها ورموزها بشكل مباشر أو غير مباشر إن تعذّر التوجيه المباشر. ولا يبعد أن يكون نشاط الإمام (علیه السّلام) الاجتماعي والسياسي في غيبته أكثر وأكبر حجماً من نشاطه ممّا لو كان ظاهراً يُعرف بشخصه في عصر الغيبة الّذي نتكلّم عنه.

وينبغي أن لا يغيب عنّا أنّ النشاط السياسي أو الاجتماعي هو أحد مهامّ الإمام المعصوم (علیه السّلام) الّتي تشمل الأمّة المسلمة والرسالة الإسلامية وما يتعلّق بهما بل الإنسانية جمعاء و تبدأ هذه المهام بصيانة الرسالة و الشريعة من التحريف و صيانة الأُمّة الإسلاميّة من الانهيار والاضمحلال وبالتالي صيانة وجودهم السياسي وكيانهم الدولي من الضعف إن أمكن ذلك ثمّ قيادته العلنية للأُمّة الإسلاميّة إن توفّرت ظروفها وشروطها.

إذن هنا عدّة مهام مترتّبة من حيث الأهميّة.

وحين يعزل الإمام من مركز القيادة العلنية للأُمّة فإنّه يضطرّ لممارسة دورة القيادي وسائر مهامّه من وراء الستار.

ونحن لا نستطيع أن ننكر ممارسته لدوره بعد أن قام الدليل النقلي والعقلي على وجوده و استمرار حياته وضرورة بقائه ولو كان ذلك بقدرة إلهية خاصّة.

ويشهد بقاء الاُمة الإسلاميّة بالرغم من أنّها قد مرّت بظروف عصيبة جدّاً كانت من شأنها أن تضمحلّ بالكامل وبقاء مشعل الحقّ فيها متوهّجاً على مدى القرون، و استمرار روح الثورة والجهاد ضدّ الباطل بالرغم من شراسته و هيمنته على العالم أجمع، كلّ ذلك يشهد على أنّ يداً غيبيّة ترعى هذه الأُمّة المسلمة وأنّ قلباً واعياً وهادياً يوقد مشعل الحقّ الهادي على مدى العصور.

وقد أشارت جملة من النصوص الروائية الواردة عن أهل البيت (علیهم السّلام) وبعضها عن الإمام المهدي(علیه السّلام) بالذات إلى كيفيّة الانتفاع به في عصر الغيبة بحيث تتحقّق بعض الأغراض - إن لم تتحقّق جميعها قبل توفّر الشروط اللازمة لإقامة دولة العدل

ص: 226

الموعود. و حينئذٍ سوف لا يكون وجوده لغواً بل يكون ضرورياً إذا أخذنا كلّ الأهداف البعيدة و القريبة من وجوده بنظر الاعتبار.

فمن ذلك قوله المشهور: وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي، فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب(1). وأضاف(علیه السّلام) : وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء

فالسحاب كناية عن خفاء العنوان، والشمس كناية عن التأثير النافع المنتج في المجتمع بعد وضوح أنّ العمل الّذي يمكن للمهدي (علیه السّلام) تنفيذه مع جهل الناس بحقيقته و عنوانه - أي في غيبته - أقل بكثير ممّا يستطيع القيام به حال ظهوره وإعلان أمره.

ومن ذلك: ما روي عن الإمام المهدي (علیه السّلام) أيضاً في نصّ له بهذا الخصوص: إنّا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء و اصطلمكم الأعداء، فاتّقوا الله جلَّ جلاله، وظاهرونا على انتباشكم من فتنة قد أنافت عليكم يهلك فيها من حمّ أجله و يحمي عنها من أدرك أمله(2).

ونحن نعلم أنّ وقوفه(علیه السّلام) ضدّ الأعداء ونزول اللأواء - وهي الشدائد لا يكون إلّابالعمل المثمر والجهاد الحقيقي على الصعيدين العام والخاص. و خاصّة و هو يأمرنا بمظاهرته أي معاونته و موافقته على إخراجنا من الفتنة والنجاة من الهلكة. فإنّ على كل فرد مسؤوليّة تامّة في ذلك، ولا تنحصر المسؤولية بالقائد كما هو واضح، بل أن شعوره بالمسؤولية لا يكاد يكون مثمراً من دون شعور شیعته و رعيّته بمسؤوليّتهم تجاه قائدهم و مبدأهم أيضاً.

إذن فهو(علیه السّلام) يحمل همّ شعبه و مواليه، يتذكّرهم دائماً ويعمل على حفظهم و دره المخاطر عنهم باستمرار، بمقدار ما يمكنه أن يؤدّيه من عمل تماماً، كما عرفنا عن

ص: 227


1- الاحتجاج، ج 2، ص 284 وغيرها.
2- الاحتجاج، ج 2، ص 223.

آبائه (علیهم السّلام)، وكما عرفناه في خلال غيبته الصغرى، غاية الفرق أن تلك الأعمال كانت منه و من آبائه (علیهم السّلام) بالصفة الحقيقية لهم، وأمّا عمله خلال هذه الفترة، فليست بهذه الصفة وإنّما بصفته فرداً اعتياديّاً في المجتمع.

ولكن الإمام المهدي (علیه السّلام) يتوخّى في موارد عمله وجود شرطين أساسيين إن اجتمعا كان في إمكانه أن يتصدّى للعمل، وإن تخلّف أحدهما ترك العمل لا محالة وأبقى الواقع على واقعه.

الشرط الأوّل: أن لايؤدي به عمله إلى انکشاف أمره وانتفاء غيبته، إذ من الواضح أن المهدي (علیه السّلام) حين يقوم بالأعمال العامة الإسلاميّة، بصفته فرداً عادياً في المجتمع يمكنه أن يستمر بها إلى حدّ معيّن ليس بالقليل. ولكنّه لو لمع اسمه واشتهر صيته ب(شخصيّته الثانوية» لكان هناك احتمال كبير في انکشاف حقيقته وافتضاح سرّه. ولا أقلّ من أن ينتبه الناس إلى غموض نسبه وجهالة أصله، فيتوصّلوا بالفحص والسؤال إلى حقيقته، أو يحتملوا ذلك على الأقل، وهو ما لا يريده الله تعالى أن يكون.

إذن فعمل الإمام المهدي (علیه السّلام) لابدّ أن يقتصر على الحدود الّتي لا تؤدّي إلى انکشاف أمره، فيدقّق في ذلك و يخطّط له، وهو الخبير الألمعي ويحسب لكل عمل حسابه، وأي عمل علم أن التدخّل فيه يوجب الانكشاف: انسحب عنه، مهما ترتّبت عليه من نتائج لأنّ الحفاظ على سرّه و ذخره لليوم الموعود، أهمّ من جميع ما يتركه من أعمال.

ولكن هذا لا ينافي تأثيره في الأعمال اليومية الخيّرة الّتي نراها سائدة في المجتمع، وذلك لإمكان أن يكون هو المؤثّر في تأسيسها حال صغرها و ضآلة شأنها، وقد أودعها إلى المخلصين الذين يأخذون بها ويذکّون أوارها، بدون أن يلتفتوا أو يُلتفت إلى حقيقة عمله، بقليل ولا بكثير.

الشرط الثاني: أن لا يؤدّي عمله إلى التخلّف والقصور في تربية الاُمّة أو اختلال شرائط يوم الظهور الموعود.

ص: 228

بيان ذلك، أنّنا أشرنا أنّ ليوم الظهور الموعود شروطاً سوف نتعرّض لها تفصيلاً ولكل شرط من تلك الشروط أسبابه و علله. تلك الأسباب الّتي تتولّد و تنشأ في عصر ما قبل الظهور، حتّى إذا أتت اُكلها و أثّرت تأثيرها بتحقيق تلك الشروط و إنجازها كان يوم الظهور قد آن أوانه و تحقّقت أركانه.

و المهدي (علیه السّلام) ، حيث يعلم الشرائط والأسباب، فهو مكلّف - على الأقل - بحماية تلك الأسباب عن التخلّف أو الانحراف، لئلّا يتأخّر تأثيرها أو ينخفض عمّا هو المطلوب انتاجها، إن لم يكن مكلّفاً بإذكاء أوارها و السير الحثيث في تقدّم تأثيرها.

ومن أهمّ شرائط اليوم الموعود، أن تكون الأُمّة ساعة الظهور على مستوى عالٍ من الشعور بالمسؤولية الإسلاميّة، والاستعداد

للتضحية في سبيل الله عزّوجلّ. أو على الأقل، أن يكون فيها العدد الكافي ممّن يحمل هذا الشعور ليكون هو الجندي الصالح الّذي يضرب بين يدي المهدي(علیه السّلام) ضدّ الكفر والانحراف، و يكون الجيش المكوّن من مثل هذا الشخص هو الجيش الرائد الواعي الّذي يملأ الأرض بقيادة المهدي (علیه السّلام) قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً.

وإذا كان ذلك من الشرائط، فلابدّ من توفّر أسبابه في زمن ما قبل الظهور في عصر الغيبة الكبرى والمحافظة على هذه الأسباب. والسبب الرئيسي لتولّد مثل هذا الوعي والشعور بالمسؤولية الإسلاميّة و الإقدام على التضحية لدى الاُمّة بالمستوى المطلوب، هو مرورها بعدد مهم من التجارب القاسية والظروف الصعبة وإحساسها بمرارة الظلم والتعسّف ردحاً كبيراً من الزمن؛ حتّى تستطيع أن تعي نفسها وأن تشخّص واقعها و تشعر بمسؤوليّتها، فان هذه الصعوبات كالمبرد الّذي يجلو الذهب ويجعل السکّين نافذاً، فإنّ الاُمّة - في مثل ذلك - لاتخلد إلى الهدوء والسكون بل تضطرّ إلى التفكير بأمرها وبلورة أفكارها، و تشخیص آلامها وآمالها، و تشعر بنحو وجداني عميق بسهولة التضحية في سبيل الأهداف الكبيرة ووجوبها إذا لزم الأمر ونادى منادي الجهاد في سبيل الله.

ص: 229

وتلك الاُمّة الواعية هي الّتي تستطيع أن تصول بين يدي الإمام المهدي(علیه السّلام) وأن تؤسّس العدل المنتظر في اليوم الموعود، دون الاُمّة المنحرفة المتداعية، أو الاُمّة المنعزلة أو المنصهرة المنهارة، فإذا كان مرور الاُمّة بظروف الظلم والتعسّف ضرورياً لتحقيق شرط اليوم الموعود، فمثل هذا الشرط يجب رعايته والمحافظة عليه.

إذن فالمهدي(علیه السّلام) بالرغم من أنّه يشعر بالأسى لمرور شعبه وقواعده بمثل هذه الظروف القاسية، إلّا أنّه لا يتصدّى لإزالتها ولا يعمل على تغييرها، تقديماً لمصلحة اليوم الموعود على أهل هذا اليوم الموجود.

وأمّا ما لا يكون من الظلم دخيلاً في تحقيق ذلك الشرط، وكان الشرط الأوّل لعمل المهدي(علیه السّلام) متوفّراً فيه -أيضاً- فإنّ الإمام (علیه السّلام) يتدخّل لإزالته ويعمل على رفعه، بموجب التكليف الشرعي الإسلامي المتوجّه إليه.

ونحن الذين لا نعيش هموم الإمام المهدي(علیه السّلام) وأهدافه ورؤاه - نكاد نكون في جهل مطبق ، من حيث تشخیص أنّ هذا الظلم هل له دخل في تحقيق شرط الظهور أو لا. ما عدا بعض موارد التخمين. فإنّه يحتاج إلى نظر بعيد يمتدّ خلال السنين إلى يوم الظهور. وهذا النظر منعدم لدي أي فرد في العالم ما عدا المهدي(علیه السّلام) نفسه، فيعود تشخیص ذلك إليه، بما وهبه الله من ملكات و قابليّات على تشخيص الداء وتوفير الدواء(1).

ص: 230


1- السيد محمّد الصدر، تاریخ الغيبة الكبرى، ص 57 - 59.

الدرس 24: الإنتفاع بالإمام (علیه السّلام) في الغيبة الكبرى (2)

اشارة

ول«رونلدسن»: عدم التفات الإمام المهدي (علیه السّلام) إلى أصحابه و قواعده الشعبية و عدم رفع الظلم عنهم، وهو بذلك يريد أن يستنتج عدم وجوده زاعماً أنّه لو كان موجوداً، فهو شخص يشعر بالمسؤولية والعطف تجاه أصحابه، فهو لا محالة رافع للظلم عنهم. مع أنّه لم يعمل ذلك، بالرغم من أنّ المظالم في التاريخ كثيرة و شديدة. فهو غير موجود.

وهو وإن لم يصرّح بهذه النتيجة، ولكنّه يوحي بها إيحاءً واضحاً، حين يقول:

«و في القرن التالي الغيبة الإمام استلم البُويهِيّون زمام السلطة الزمنية فبذلوا جهوداً كبيرة لتوحيد الطائفة الشيعية و تقويتها، كبناء مشاهدها وجمع أحاديثها و تشجيع علمائها و مجتهديها.

ومع ذلك فلم يظهر الإمام المنتظر في هذا القرن الّذي كانت الطائفة الشيعية تتمتّع فيه بحسن الحال».

و مرَّ قرن آخر دالت فيه دولة حماة الشيعة من البُويهِيّين، ولكنّ

الإمام في (غيبته الكبرى).

و مرَّ قرن ثالث يمتاز بالظلم والثورات و تحكّم المماليك، ولكنّ الإمام الّذي كانوا

ص: 231

يرتجون ظهوره لم يظهر.

وجاء دور الحروب الصليبية الّتي اشترك (آل البيت) فيها دون أن يكون لهم إمام، فمن الجانب الإسلامي، كانت السلطة لإعلان الجهاد تنحصر بيد بني العبّاس والفاطميين المارقين في مقاومة الجيوش الغازية للشعوب المسيحية بالاسم في أوربا ولكن الإمام أخَّر ظهوره.

وبعد مرور أربعة قرون على وفاة آخر الوكلاء في القرن الثالث عشر الميلادي۔ اجتاح الغزاة المغول بلاد ایران يقتلون ويهدمون بقساوة لا مثيل لها.

وبالرغم من التخريب والآلام فإنّ (صاحب الزمان) المنتظر بفارغ الصبر لم يظهر.

وحتى في ابتداء القرن السادس على زمن شيوخ آذربيجان والدولة الصفوية الجديدة، لم يتّصل الإمام الغائب بشيعته إلّا بالحلم فكان يظهر لهؤلاء الملوك كما يدّعون!!»(1).

وبالرغم من أنّ في هذا الكلام توجد عدّة نقاط تحتاج إلى إعادة النظر، إلّا أنّ المهم مناقشة الاشكال الرئيسي الّذي يثيره رونلدسن، وهو استبعاد وجود الإمام من خلال عدم ظهوره عند الحاجة لأجل رفع الظلم عن قواعده الشعبية خاصّة، والمسلمین عامّة.

وقد اتّضح الجواب على ذلك ممّا قلناه متمثّلاً في عدّة وجوه:

أوّلاً: إنّا يجب أن لا نتوقّع من الإمام المهدي (علیه السّلام) الظهور الكامل، في أيّ ظرف من الظروف، باعتباره مذخوراً لنشر العدل الكامل في العالم كلّه، لا لرفع المظالم الوقتية أو الاتّصال بأشخاص معيّنين.

وقد عرفنا أنّ الإسراع بالظهور قبل أوانه يوجب جزماً فشل التخطيط الإلهي لليوم الموعود، لأنّ نجاحه منوط بشروط معيّنة وظروف خاصّة لا تتوفّر قبل اليوم الموعود.

ص: 232


1- عقيدة الشيعة، لرونلدسن، ص 349.348 .

وقد عرفنا أنّ كلّ ما أعاق نجاحه لايمكن وجوده بحسب إرادة الله تعالى وإرادة المهدي (علیه السّلام) نفسه، مهما كان الظرف مهمّاً وصعباً.

ثانياً: إنّنا نحتمل - على الأقل - أنّ المهدي (علیه السّلام) يرى أنّ بعض الظلم الّذي كان ساري المفعول خلال التأريخ، كالحروب

الصليبية مثلاً، غير قابلة للإزالة من قبله حال الغيبة بحال، ولا ينفع التخطيط السرّي أو العمل الاعتيادي، بصفته فرداً عادياً، في إزالتها؛ لقوّة تأثيرها و ضراوة اندفاعها. و معه يصبح الإمام المهدي (علیه السّلام) حال غيبته عاجزاً عن رفع هذا الظلم، فيكون معذوراً بالنسبة لعدم التصدّي لرفعه طبقاً للقواعد الإسلاميّة و لوظيفته الصحيحة.

ثالثاً: إنّ جملة من موارد الظلم الساري في المجتمع لا يتوفّر فيه الشرط الأوّل من الشرطين السابقين اللّذين ذكرناهما لعمل الإمام المهدي(علیه السّلام) ، فلايعمل المهدي لإزالته بطبيعة الحال، و هو ما إذا كان العمل ملازماً لانكشاف أمره وانتفاء غيبته.

رابعاً: إنّ جملة من موارد الظلم، لا يتوفّر فيه الشرط الثاني من الشرطين السابقين، باعتبار أنّ وجوده سبب لانتشار الوعي في الاُمّة وشعورها بالمسؤولية الّذي هو أحد الشروط الكبرى ليوم الظهور. وقد قلنا بأنّ مثل هذا الظلم وإن وجب على الاُمّة الكفاح لإزالته إلّا أنّ الإمام المهدي (علیه السّلام) لا يتسبّب لرفعه، لأنّ في رفعه إزالة للشرط الأساسي لليوم الموعود، و هو ما لا يمكن تحقّقه في نظر الإسلام.

إذن سائر أنحاء الظلم الساري المفعول في التأريخ لا محالة مندرجة تحت أحد هذه الاُمور، فإذا كان الإمام المهدي (علیه السّلام) قد عمل لإزالتها فقد خالف وظيفته الإسلاميّة و مسؤوليّته الحقيقيّة، ولا أقل من احتمال ذلك.

إذن فليس هناك أي تلازم بين وجود المهدي(علیه السّلام) وبين وقوفه ضدّ هذه الأنحاء من الظلم حتّى يمكن لرونلدسن أن يستنتج من عدم وقوفه ضدّ الظلم، عدم وجوده.

وأمّا الأنحاء الاُخرى من الظلم، فقد قلنا بأنّ تكليفه الشرعي ووظيفته الإسلاميّة، تقتضي وقوفه ضدّه و حيلولته دونه بصفته فرداً عادياً في المجتمع كما أوضحناه. إذن

ص: 233

فهو يقف ضد الظلم في حدود الشروط الخاصّة الإسلاميّة، كيف و هو على طول الخط يمثِّل المعارضة الصامدة ضدّ الظلم والطغيان(1).

موطن الإمام (علیه السّلام) في الغيبة الكبرى

تعدّدت النصوص الواردة حول موطن الإمام المهدي(علیه السّلام) وإليك جملة منها:

1. قال الإمام المهدي (علیه السّلام) لمحمد بن إبراهيم بن مهزیار حین قابله:

يا ابن المازیار! أبي محمّد عهد إليّ أن لا اُجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم. وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلّا وعرها، و من البلاد إلّا عفرها.. 2. وهناك روايتان تشيران إلى أنّ المهدي(علیه السّلام) يسكن الجزر المجهولة في البحر الأبيض المتوسط(2).

3) ورد عن أبي بصير عن الإمام الباقر (علیه السّلام) أنّه قال: لابدّ لصاحب هذا الأمر من عزلة، ولابدّ في عزلته من قوّة، وما بثلاثين من وحشة ونعم المنزل طيبة (3).

زواج الإمام المهدي(علیه السّلام) وأولاده

وردت بعض النصوص المشيرة إلى قضية زواج الإمام المهدي(علیه السّلام) وأولاده و هي:

1. روى الشيخ النعماني تلميذ ثقة الإسلام الكليني في كتاب الغيبة، والشيخ الطوسي في كتاب الغيبة بسندين معتبرين عن المفضّل بن عمر قال: سمعت أباعبدالله (علیه السّلام) يقول:

ص: 234


1- السيد محمّد الصدر، تاریخ الغيبة الكبرى، ص 57 - 59.
2- النجم الثاقب، ج 2، ص 182 و مابعدها.
3- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 102.

إنّ لصاحب هذا الأمر غيبتين إحداهما تطول حتّى يقول بعضهم مات و يقول بعضهم قتل، ويقول بعضهم ذهب، حتّى لا يبقى على أمره من أصحابه إلّا نفر يسير لا يطّلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره إلّا الّذي يلي أمره(1).

2. روى الشيخ الطوسي وجماعة بأسانید متعدّدة عن يعقوب بن يوسف الضرّاب الإصفهاني أنّه حجَّ في سنة إحدى و ثمانین و مائتين، فنزل بمكة في سوق الليل بدار تسمّى دار خديجة، وفيها عجوز كانت واسطة بين الشيعة وإمام العصر(علیه السّلام) . والقصّة طويلة وذكر في آخرها أنّه(علیه السّلام) أرسل إليه دفتراً وكان مكتوب فيه: صلوات الله على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و باقي الأئمة وعليه صلوات الله عليه، وأمَرَه إذا أردت أن تصلّي عليهم فصلِّ عليهم هكذا و هو طويل، و في موضع منه:

«اللهمّ اغطِه في نفسه وذرّيّته و شیعته و رعيّته وخاصّته وعامّته وعدوّه وجميع أهل الدنيا ما تقرّ به عينه...».

وفي آخره هكذا:

«اللهمَّ صلّ على محمّد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء والحسن الرضا، و الحسين المصفّى، وجميع الأوصياء مصابيح الدّجى، وأعلام الهدی، ومنار التقى والعروة الوثقى، والحبل المتين، والصراط المستقيم و صلِّ على وليّك وولاة عهده والأئمة من ولده، و مدّ في أعمارهم وزد في آجالهم، وبلّغهم

آمالهم ديناً و دنياً، و آخرة انّك على كلّ شيء قدير»(2).

3. وجاء في زيارته المخصوصة الّتي تقرأ في يوم الجمعة، ونقلها السيد رضي الدين علي بن طاووس في كتاب (جمال الاُسبوع):

«صلّى الله عليك وعلى آل بيتك الطيّبين الطاهرين».

ص: 235


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 162.
2- المصدر نفسه، ص 275.

وفي موضع آخر منها: «صلوات الله عليك وعلى آل بيتك هذا يوم الجمعة».

وفي آخرها قال: «صلوات الله عليك وعلى أهل بيتك الطاهرين». 4. نقل السيد ابن طاووس (رحمه الله) و غیره زيارة له (علیه السّلام) وإحدى فقراتها هو الدعاء بعد صلاة تلك الزيارة كما يلي:

«اللهمّ أغطِهِ في نفسه وذرّیّته و شیعته و رعيّته وخاصّته وعامّته وجميع أهل الدنيا ما تقرّ به عينه، و تسرّ به نفسه»(1).

5. روى السيد الجليل علي بن طاووس في كتاب (عمل شهر رمضان) عن ابن أبي قرّة دعاءاً لابدّ أن يقرأ في جميع الأيام لحفظ وجود الإمام الحجّة(علیه السّلام) ، ومن فقرات هذا الدعاء: «وتجعله وذريّته من الأئمّة الوارثين»؟.(2).

ص: 236


1- البحار، ج 102، ص 100-101.
2- النجم الثاقب، ج 2، ص 71.

الخلاصة

إنّ الاستفادة من الإمام (علیه السّلام) حال غيبته الكبرى حاصلة دون أدنى شکّ سواء حصل لنا العلم بالكيفية الّتي تتمّ بها أم لم يحصل ذلك، فإنّ التشبيه الوارد في الروايات بحمل الانتفاع به (علیه السّلام) كما ينتفع بالشمس حين تحجبها السحاب، و أنّه (علیه السّلام) أمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء. وقد وردت تشکیکات حول سبب عدم ظهوره مع ازدياد الظلم والجور، كما أنّه قد قامت دول موالية أو شيعية في فترات من التأريخ.

وقد وردت مجموعة من الروايات تشير إلى مكان وجوده المبارك (علیه السّلام) وتشير إلى زواج الإمام (علیه السّلام) وأنّ له عدداً من الأولاد.

الأسئلة

1. كيف يتمّ الاستفادة والانتفاع من الإمام (علیه السّلام) خلال الغيبة الكبرى؟

2. هل أشار الإمام (علیه السّلام) إلى كيفية الانتفاع به؟ وكيف؟ 3. ماهي الشروط الّتي لوتوفّرت لأمكن للإمام أن يتحرّك؟

4. ماهي الشبهة الّتي أثارها رونلدسن؟ و ما هو جوابها؟

5. اذكر نصّاً يُحدّد موطن و مسكن الإمام (علیه السّلام) في غيبته الكبرى؟

6. ضهل وردت روایات حول وجود أولاد للإمام (علیه السّلام) اذكر نصّا منها؟

ص: 237

الدرس 25: تكاليف الاُمّة الإسلاميّة في عصر الغيبة الكبرى (1)

1. الإيمان بالإمام المهدي المنتظر(علیه السّلام)

من التكاليف المطلوبة إسلاميّاً حال الغيبة: الاعتراف بالمهدي (علیه السّلام) كإمام مفترض الطاعة وقائد فعلي للاُمّة، وإن لم يكن عمله ظاهراً للعيان، ولا شخصه معروفاً لدى الناس.

وهذا من الضروريات الواضحة، على المستوى الإمامي للعقيدة الإسلاميّة وقد اعتبرناها في هذا التأريخ أصلاً مسلّماً.

فإنّه الإمام الثاني عشر الموجّه لقواعده الشعبية، وهو المعصوم المفترض الطاعة الحي منذ ولادته إلى زمان ظهوره.

وحسب الفرد المسلم أن يعلم أن إمامَه وقائده مطّلع على أعماله وملمّ بأقواله، يفرح للتصرّف الصالح و يأسف للسلوك المنحرف، و يعضد الفرد عند الملمّات... حسب الفرد ذلك لكي يعي موقفه ويحدّد سلوكه تجاه إمامه، وهو يعلم أنّه يمثِّل العدل المحض وأنّ رضاه رضاء الله ورسوله، و أنّ غضبه غضب الله و رسوله.

كما أنّ حسب الفرد أن يعرف أنّ عمله الصالح و تصعيد درجة إخلاصه و تعمیق شعوره بالمسؤوليّة تجاه الإسلام والمسلمين، يشارك في تحقيق شرط الظهور

ص: 238

ويقرّب اليوم الموعود.

إذن ف(الجهاد الأكبر) لكل فرد تجاه نفسه يحتل الفرد المسؤولية الكبرى تجاه العالم كلّه، ويدعوه إلى ملئه قسطاً وعدلاً كما ملئ ظلماً و جوراً.

فكيف لا ينطلق الفرد مجاهداً مضحّيّاً عاملاً في سبيل إصلاح نفسه و إرضاء ربّه؟!

ومن ثمّ نرى النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) يؤسّس أساس هذا الشعور في الفرد المسلم ويقرن طاعة الإمام المهدي(علیه السّلام) بطاعته و معرفته - على المستوى العملي التطبيقي - بمعرفته، فإنّ معرفة النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بصفته حامل مشعل العدل إلى القائم، والاعتراف به لا يكون بالاعتراف التأريخي المجرّد بوجوده و وجود شريعته، بل بالمواظبة التامّة على الالتزام بتطبيق تعاليمه والأخذ بإرشاداته وتوجيهاته، وإلّا كان الفرد منكراً للنبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) كنبيِّ على الحقيقة، وإن كان معترفاً بوجوده التأريخي.

وحيث أنّ أفضل سلوك إسلامي وأعدله إنّما يتحقّق تحت إشراف القائد الكبير و هو الإمام المهدي (علیه السّلام) إذن تكون الطاعة الحسنى لنبيّ الإسلام و أفضل تطبيقات شريعته، هي ما كانت بقيادة المهدي(علیه السّلام) إذن صحّ أنّ معرفة المهدي (علیه السّلام) - علی المستوى السلوكي التطبيقي - معرفة النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، و إنكاره على مستوى إنكاره له، و من هنا نفهم مغزى ما ورد عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بقوله: من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني(1).

وقوله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) : القائم من ولدي اسمه اسمي وکنیته کنیتي، وشمائله شمائلي وسنّته سنّتي، يقيم الناس على ملّتي و شريعتي، و يدعوهم إلى كتاب ربّي عزّوجلّ. من أطاعه فقد أطاعني، و من عصاه فقد عصاني، ومن أنكره في غيبته فقد أنكرني، و من كذّبه فقد كذّبني، و من صدّقه فقد صدّقني، الحديث(2). إلى غير ذلك من الأخبار الواردة بهذا المضمون عنه (صلّی الله علیه وآله وسلّم) و عن أئمّة الهدى (علیهم السّلام).

ص: 239


1- آية الله لطفی الصانی، منتخب الأثر، ص 492.
2- کمال الدین، ج 2، ص 411.

وهذا الكلام من النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) وإن كان منطبقاً على المعتقد الإمامي في المهدي (علیه السّلام) إلّا أنّه بنفسه قابل للتطبيق على المعتقد العام لأهل السنّة والجماعة في المهدي إذا استطعنا إلغاء فكرة الغيبة عن كلامه (صلّی الله علیه وآله وسلّم) فإنّهم عندئذ يتّفقون مع الإمامية في مضمون الحديث جملةً وتفصيلاً، إذ من المقطوع به والمتسالم عليه بين سائر المسلمين أنّ المهدي(علیه السّلام) هو الرائد الأكبر في عصره لتطبيق الإسلام، فهو يقيم الناس على ملّة رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ويدعوهم إلى كتاب الله عزّوجلّ.

ومن الطبيعي مع اتّحاد الاتّجاه والاُطروحة، أن تكون طاعة المهدي (علیه السّلام)ولا طاعة للنبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) و عصیانه عصياناً له، و تكذيبه تكذيباً له، و تصديقه تصديقاً له.

كما أنّ من المحتّم أن يكون إنكار ظهور المهدي(علیه السّلام) وقيامه بالسيف لإصلاح العالم، إنكاراً لرسالة النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ورفضاً لجهوده الجبّارة في بناء الإسلام، كيف لا؟ و ظهور المهدي(علیه السّلام) هو الأمل لرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) في أن تسود شريعته في العالم، و تتكلّل مساعيه وتضحياته بالنصر المبين، بعد أن لم تكن الشروط وافية والظروف مؤاتية لحصول هذا النصر في عصره.

بل يكون إنكار المهدي (علیه السّلام) في الحقيقة إنكاراً للغرض الأساسي من خلق البشرية والحكمة الإلهية من وراء ذلك، كما قد يؤدّي إلى التعطيل الباطل في الإسلام.2

2. الانتظار

اشارة

الانتظار هو التوقّع الدائم لتنفيذ الغرض الإلهي الكبير وحصول اليوم الموعود الّذي تعيش فيه البشريّة العدل الكامل بقيادة الإمام المهدي(علیه السّلام) .

وهذا التوقّع الدائم لا يرفع التكاليف الإلهية بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله والدفاع عن شعائر الله ودفع الفساد الاجتماعي والفردي.

بل إنّه يدلّ على تأكّد الواجبات والتكاليف ولزوم الاستعداد التام للوقوف إلى جنب

ص: 240

الإمام المهدي (علیه السّلام) في غيبته و ظهوره.

وينسجم الانتظار في بعض مستوياته مع الإعداد والتمهيد لظهور الإمام المنتظر القائم بالقسط والعدل.

يا ترى ما هي مستويات الانتظار؟

مستويات الانتظار

اشارة

ويتّضح لنا مغزى هذا التكليف بالانتظار من خلال المستويات التالية:

1. المستوى العقائدي

... و يتكوّن برهانيّاً من ثلاثة اُمور: -

الأمر الأوّل: الاعتقاد بتعلّق الغرض الإلهي بإصلاح البشريّة جميعاً وتنفيذ العدل المطلق فيها في مستقبل الدهر، وأنّ ما تعلّق به الغرض الإلهي و الوعد الربّاني في القرآن لا يمكن أن يتخلّف.

الأمر الثاني: الاعتقاد بأنّ القائد المظفّر الرائد في ذلك اليوم الموعود، هو الإمام المهدي(علیه السّلام) كما تواترت بذلك الأخبار عند الفريقين، ومن هنا أصبح ذلك ضروريّ الثبوت.

الأمر الثالث: الاعتقاد بأنّ المهدي القائد هو محمد بن الحسن العسكري (علیه السّلام) ... الأمر الّذي قامت ضرورة المذهب الإمامي. وقامت عليه الأعداد الضخمة من أخبارهم... ووافقهم عليه جملة من مفكّري العامّة وعلمائهم كابن عربي في الفتوحات المكية، والقندوزي في ينابيع المودّة والحمويني في فرائد السمطين والكنجي في البيان ..... و غيرهم.

2. المستوى النفسي للانتظار

ويتكوّن من أمرين رئيسيّين: -

الأمر الأوّل: الاستعداد الكامل لتطبيق الاُطروحة العادلة الكاملة، كواحد من البشر على أقلّ تقدير، إن لم يكن من الدعاة إليها والمضحّين في سبيلها.

ص: 241

الأمر الثاني: توقّع البدء بتطبيق الاُطروحة العادلة الكاملة أو شروق الظهور في أيّ وقت؛ لما قلناه من أنّه منوط بإرادة الله تعالى، بشكل لا يمكن لغيره التعيين أو التوقيت. و من المحتمل أن يشاء الله تعالى ذلك في أيّ وقت؛ مضافاً إلى الأخبار الدالّة على حصوله فجأة أو بغتة.

3. المستوى السلوكي للإنتظار
اشارة

ويتمثّل بالالتزام الكامل بتطبيق الأحكام الإلهية السارية في كلّ عصر، على سائر علاقات الفرد وأفعاله وأقواله، حتّى يكون متّبعاً للحقّ الكامل والهدى الصحيح، فيكسب الإرادة القويّة والإخلاص الحقيقي الّذي يؤهّله للتشرّف بتحمّل طرف من مسؤوليّات اليوم الموعود.

وهذا السلوك ضروري و ملزم لكلّ من يؤمن باليوم الموعود، على أي من المستويات السابقة فضلاً عن مجموعها، وبخاصة المسلمين الذين قام البرهان لديهم بأنّ المهدي (علیه السّلام) يطبق اُطروحته العادلة الكاملة متمثّلةٌ في أحكام دينهم الحنيف.

وأمّا المسلم الأمامي الّذي يعلم بأنّ قائده معاصر له، يراقب أعماله ويعرف أقواله، و يأسف لسوء تصرّفه، فهو مضافاً إلى وجوب إعداد نفسه لليوم الموعود، يجب أن يكون على مستوى المسؤولية في حاضره أيضاً. وفي كلّ أيام حياته، لكي لا يكون عاصياً لقائده متمرّداً على تعاليمه، وهذا الإحساس نفسه يسرع بالفرد إلى النتيجة المطلوبة، و هو النجاح في التمحيص، والإعداد لليوم الموعود.

وإذا كان الفرد على هذا المستوى الرفيع استطاع أن يحرز الخير على مستويات أربعة:

المستوى الأوّل

إحراز الخير لنفسه في دنياه وآخرته، أمّا في آخرته، فباعتبار رضا الله عزّوجلّ، وأمّا في دنياه فباعتبار أمرين:

أحدهما: السلوك العادل الّذي يتّخذه الفرد والمعاملة الصالحة والعلاقات الجيّدة

ص: 242

الّتي يعامل بها الآخرين.

وثانيهما: أنّه يصبح على مستوى المسؤولية إذ يأمل بلقاء القيادة في اليوم الموعود إذا أشرق فجره.

المستوى الثاني

إحراز الخير لأمّته باعتبار أنّه إذ يعدّ نفسه الإعداد الصالح، فإنّه يشارك في تهيئة شرط اليوم الموعود، بمقدار تكليفه وقدرته، فيكون قد تسببّ إلى الخير كلّ الخير بلأُمّته.

المستوى الثالث

إحراز الخير، لا لأمّته فحسب، بل للبشرية جمعاء، فإنّ الخير الناتج من إيجاد شرط الظهور، عامّ لكلّ البشر، والمشاركة في إيجاده مشاركة في إيجاد العدل الكامل السائد في اليوم الموعود.

وهذه المستويات الثلاثة، ممّا تقتضيه العقائد الإسلامية العامّة المشتركة بين سائر المذاهب، بل ممّا يقتضيه الاعتراف باليوم الموعود، في أيّ دين من الأديان.

المستوى الرابع

إنّ الفرد بمساهمته في إيجاد شرط الظهور، يساهم في إرضاء إمامه المهدي (علیه السّلام) و جلب توجّهه فيما يخصّ الشعور بزيادة المؤمنين وقلّة العاصين والمشاركة الحقيقية في الإعداد للمدن الكبير.

وهذا المستوى خاصّ بالاُطروحة الإمامية لفهم المهدي(علیه السّلام) .

فهذه هي الجهات الأساسية الّتي يجب أن يتّخذها الفرد، لكي يكون على المستوى الإسلامي المطلوب للانتظار.

ص: 243

3. أهمية العمل الإسلامي ما قبل الظهور

إنّ الفرد الّذي يهرب بنفسه من ظروف الظلم، وهكذا المجتمع الّذي يعيش في الرفاه النسبي بعيداً عن هذه الظروف، فإنّه لن يعمل ولن يستطيع الوصول إلى حدّ الوعي والإخلاصالمطلوب، ولو وصل إلى شيء، فإنّما يصل إليه ببطء شديد، و يكون ضحلاً و قليلاً.

كما أنّ الاُمّة إذا شاع بين ظهرانيها الظلم والتعسّف، وكانت راضية به مستسلمة تجاهه، لايوجد فيها عمل ضدّه، و لا تفكير لرفعه أو تخفيف منه، إذن فسوف تكون أمة خائنة يتضاءل إخلاصها، وينمحي شعورها بالمسؤولية، وتحتاج في ولادة ذلك الشعور عندها من جديد إلى زمان مضاعف و دهر طويل. قال تعالى: « إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ »(1).

وليت شعري كيف يكون هؤلاء على مستوى إصلاح البشرية كلّها في اليوم الموعود، و هم قاصرون عن إصلاح مجتمعهم الصغير و أنفسهم؟

لهذا فالتفكير الجدّي والعمل الصالح الجهادي هو الأساس لتصعيد درجة الإخلاص والشعور بالمسؤوليّة والمران على الصمود والتضحية هو الشرط الأساسي لتكفّل مهمّة اليوم الموعود.

ثمّ إن تصعيد درجة الإخلاص، قد يكون قائماً على أساس الاضطرار، وقد يكون قائماً على أساس الاختيار.

أمّا قيامه على أساس الاضطرار فهو الأمر العام الّذي يقتضيه التمحيص الإلهي، بشكل رئيسي، فإنّ الأفراد في حبّهم لذاتهم وتفضيلهم للراحة، لا يميلون - عادة - إلى العمل الاجتماعي العام، لما فيه من شعور بالجهد والمسؤولية، ومن ثَمّ فَهُم لا ينطلقون نحوه إلّا تحت وطأة من الاضطرار والشعور بالضغط والإحراج، ومن ثَمَّ كان لابدّ في

ص: 244


1- الرعد/11.

حملهم على العمل العام إيكالهم إلى الظروف الصعبة الظالمة.

ومن ثَمّ انعقد التخطيط الإلهي على حمل الاُمّة على العمل الاضطراري بهذا المعنى، لأجل تحقيق مصالحها الكبرى في يوم الظهور.

وأمّا قيام الإخلاص والوعي على أساس الاختيار، فباندفاع المكلّف إلى العمل أكثر من مقدار الاضطرار والإحراج، أي بمجرّد شعوره بالمطلوبية الإسلاميّة له، إلزاماً أو استحباباً ... بأن يكون على الدوام معارضاً للظلم داعياً إلى الحقّ هادياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة.

فإنّ الاندفاع إلى ذلك يحتاج إلى درجة كبيرة من الوعي والاخلاص و قوّة الإرادة، ولا يتوفّر ذلك إلّا للقليل، إلّا أنّه على أي حال - ليس هو المستوى المطلوب توفّره في المشاركة في قيادة العالم كلّه في يوم الظهور وإنّما يكون العمل الاختياري أو ما نسمّيه بالتمحيص الاختياري مضافاً إلى التمحيص الاضطراري سبباً لإيجاد مثل هذا المستوى الرفيع.

ومن الواضح أيضاً ما لهذا التمحيص الاختياري، من أثر بليغ في التصعيد السريع، بشكل أعظم بكثير ممّا ينتجه التمحيص الاضطراري، و في التعجيل بإيجاد شرط الظهور، بمقدار ما تقتضيه الظروف الثقافية والفكرية الّتي يعيشها الفكر الإسلامي، في أيّ عصر.

إذن فما قيمة هذه الشبهة الّتي تقول بأنّ الاعتقاد بالمهدي(علیه السّلام) يمنع عن العمل الاجتماعي الإصلاحي.

إنّ شرط الظهور، هو هذا المستوى الإيماني، وليس هو كثرة الظلم وامتلاء الأرض جوراً، كما يريد البعض أن يفكّروا، لوضوح أنّ الأرض لو امتلأت تماماً بالظلم وانعدم منها عنصر الإيمان لما أمكن إصلاحها عن طريق القيادة العامة، بل يكون منحصراً بالمعجزة الّتي برهنّا على عدم وقوعها، أو إرسال نبوّة جديدة، وهو خلاف ضرورة الدين من أنّه لا نبيّ بعد رسول الإسلام.

ص: 245

وإنّما تتضمّن فكرة اليوم الموعود، سيطرة الإيمان على الكفر، بعد سيطرة الكفر على الإيمان، مع وجود كلا الجانبين، وهو قوله تعالى بالنسبة للمؤمنين: « لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا » وقوله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) : يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً.

ص: 246

الدرس 26 : تكاليف الأُمة الإسلاميّة في عصر الغيبة الكبری (2)

مدلول الانتظار

سبق أن أشرنا إلى أنّ إيجاد اليوم الموعود، هو الغرض الأساسي من إيجاد البشرية، وقد خطّط الله تعالى لإيجاده منذ فجر الخليقة ولازال هذا التخطيط سارياً إلى حين تحقق نتيجته النهائية و غرضه الأصيل.

وقد كان انتظار البشرية لليوم الموعود، موجودة، منذ بلّغ الأنبياء السابقون(علیه السّلام) البشرية عن وجوده، إلّا أنّ الانتظار اكتسب صيغاً متعدّدة بتعدّد أزمنة تطوّر البشريّة نحو ذلك الغد المنشود، فإنّ البشرية قد مرّت بهذا الاعتبار - بأربعة عهود أو مراحل.

مراحل الانتظار

المرحلة الاُولى

فترة ما قبل الإسلام. وقد كان الناس خلالها يفهمون من كلّ نبيّ يبلّغهم عن اليوم الموعود، أمرين مقترنين:

أوّلهما: الإهمال من التاريخ و إيكاله إلى إرادة الله تعالى محضاً.

ص: 247

وثانيهما: أنّ هذا النبي الّذي يبلّغهم عنه، ليس هو القائد المذخور لهذه المهمّة. وإنّما سیوجد في المستقبل البعيد شخص آخر يكون مضطلعاً بها وقائداً للبشرية من خلالها.

والناس في تلك العهود، وإن لم يكونوا ملتفتين إلى سرّ ذلك، إلّا أنّنا عرفنا سرّ ذلك بسبب اطّلاعنا على تفاصيل التخطيط الإلهي، حيث عرفنا أنّ كلا شرطي اليوم الموعود لم يكونا متوفّرين في تلك الفترة. فلم تكن البشرية على مستوى فهم الاُطروحة العادلة من ناحية، ولم تكن على مستوى الإخلاص و قوّة الإرادة المطلوب توفّرها في قيادة اليوم الموعود من ناحية أُخرى.

المرحلة الثانية

فترة ما بعد الإسلام إلى بدء الغيبة الصغرى. حيث كانت البشريّة قد تلقّت عن الله عزّوجلّ أطروحتها العادلة الكاملة، وبذلك توفّر أحد الشرطين السابقين.

إلّا أنّ معنى الانتظار لم يكن يختلف - مع ذلك - اختلافاً جوهرياً كما سبق، بمعنی أنّ الأمل في ذلك الحين لم يكن منعقداً على حدوث اليوم الموعود بغتةً وفي أيّ وقت. بل كان المفهوم هو تحقّقه في المستقبل البعيد أيضاً.

ولكنّ الفرق بينه و بين الانتظار في المرحلة السابقة هو إحراز المسلمين أنّ اليوم الموعود سوف يكون طبقاً لأطروحتهم ودينهم، دون غيره.

وهذا واضح جدّاً، لو لاحظنا طرق التبليغ عن ذلك اليوم من قِبَلِ النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) والأئمّة المعصومين (علیهم السّلام) بعده. أمّا بالنسبة إلى النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) فيكفينا إخباره عن المهدي (علیه السّلام) وأنّه من ولده و عترته وأنّه من ذريّة فاطمة(علیها السّلام) . وأنّه سيولد فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً و أنّه من ولد الحسين(علیه السّلام) وأنّ صفاته هي صفات النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) . إذن فقائد اليوم الموعود ليس هو شخص النبي(صلّی الله علیه وآله وسلّم). ولن يقوم النبيّ (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بهذه المهمّة الكبرى، خلال حياته، كما عرفنا فلسفة ذلك. فالانتظار في عهد النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) كان مقترناً باليقين بعدم حدوثه الفوري في ذلك الحين.

ويبقى الانتظار في عصر الأئمة (علیهم السّلام) حاملاً لنفس هذا المفهوم ويمكن أن نستفيد

ص: 248

ذلك من عدّة أقسام من الأحاديث الّتي كانوا(علیهم السّلام) يعلنون بها فكرة المهدي (علیه السّلام) أمام الناس. كقولهم (علیهم السّلام) : أنّ المهدي هو السابع من ولد الخامس منهم(1). أو قول الإمام الباقر(علیه السّلام) : والله ما أنا بصاحبكم. قال الراوي: فمن صاحبنا؟ قال انظروا من تخفی على الناس ولادته فهو صاحبكم.

فهو إذ ينفي عن نفسه أنّه المهدي (علیه السّلام) يعرف شيعته أنّ اليوم الموعود لن يتحقّق ما دام في الحياة على أقلّ تقدير.

وكقولهم: «كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدی و لا علم، يبرأ بعضكم من بعض»؟!

فما دام أئمة الهدی (علیهم السّلام) معروفين و متّصلين بالناس فالمهدي الموعود (علیه السّلام) غیر موجود، و من ثَمّ فليس هو الّذي يقوم بالسيف لإنجاز اليوم الموعود.

وكذلك إذا لاحظنا أخبار التمحيص، الّتي تنفي الظهور قبل مرور الناس بهذا القانون، كقوله(علیه السّلام) : إنّ هذا الأمر لا يأتيكم إلّا بعد يأس، ولا والله حتّى تُميّزوا، ولا والله حتى تُمَحصّوا، ولا والله لا يأتيكم حتّى يشقى من يشقى ويسعد من يسعدی فاليوم الموعود لن يتحقّق ما دام الناس غير ممحّصين.

وكذلك إذا لاحظنا الأخبار الدالّة على حدوث علامات الظهور، ممّا لم يتحقق في عصر الأئمة (علیهم السّلام) السابقين، كالصيحة والخسف، وغيرها فإنّه ما لم توجد هذه العلامات، لا يظهر المهدي (علیه السّلام) .

فالمسلمون في زمن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) والأئمة (علیهم السّلام) لم يكونوا ينتظرون ظهور المهدي(علیه السّلام) على الفور، وإن كانوا قد بلّغوا بشكل أكيد و شديد عن ظهوره في مستقبل الزمان.

والإمامیّون، فقد دلّت الأخبار على هذا التوقّع فيهم، بما فيها أخبار التمحيص نفسها حيث يقول الإمام(علیه السّلام) فيها: إنّ هذا الأمر لا يأتيكم إلّا بعد يأس، أو يقول: هيهات

ص: 249


1- منتخب الأثر، ص 212.

هيهات... لا يكون الّذي تمدّون إليه أعناقكم حتّى تمحّصوا(1).

المرحلة الثالثة

الانتظار في عصر الغيبة الصغرى، لمن يؤمن بها، وهم القواعد الشيعية الإمامية.

وفي هذه المرحلة كان الإمام المهدي(علیه السّلام) موجوداً يقود قواعده الشعبية في الخفاء ولاشكّ أنّ الناس كانوا ينتظرون ظهوره في أي وقت، باعتبار ما يشعرون به من ظلم ومطاردة وتعسف من قبل الحاکمین، وهم يعلمون علم اليقين بوجوده و اطّلاعه على الأوضاع الشاذّة الّتي يعيشها المجتمع، و يعلمون أنّه المذخور لإزالة الظلم من العالم كلّه غافلین - بطبيعة الحال - عن اقتضاء التخطيط الإلهي تأجيل ذلك، لعدم توفّر أحد شرائط اليوم الموعود.

ولو دقّقنا النظر، لم نجد في رفع هذا الجو الفكري من الناس مصلحة، بل كانت المصلحة تقتضي إيكالهم إلى انتظارهم التلقائي الارتكازي وعدم التعرّض إلى تصحيحه أو تكذيبه، لأنّه، يزيد من الربط العاطفي للقواعد الشعبية المؤمنة بالمهدوية، بإمامها وقائدها، لوضوح أنّ الأمل فيه كلّما كان أقوى كان هذا الارتباط أبلغ وأكبر.

بل إنّ هناك من الأخبار ما يدلّ على أنّ الإمام المهدي(علیه السّلام) نفسه كان يذكّي هذه العاطفة و يؤكّد قرب الظهور.

المرحلة الرابعة

فترة الغيبة الكبرى، الّتي لازلنا نعيشها.

وقد قلنا إنّ الانتظار فيها يحمل معنی توقّع الظهور، وقيام اليوم الموعود في أيّ وقت وفي كلّ يوم؛ لكونه منوطاً بإرادة الله تعالى لا غير، كما ورد في بيان

ص: 250


1- غيبة النعماني ص111.

المهدي(علیه السّلام) الّذي أعلن به انتهاء السفارة وبدء الغيبة الكبرى حيث قال: فلا ظهور إلّا بإذن الله تعالى ذكره.

ولِما ورد من أنّ يوم الظهور يحدث فجأة أو بغتة، كما سمعنا من مكاتبة المهدي(علیه السّلام) للشيخ المفيد. و غيرها من الروايات.

نعم يمكن أن نلاحظ أنّه في فترة بدء الغيبة الكبرى، كانت هناك بعض الدلائل على عدم فوريّة الظهور، حيث نسمع من بیان انتهاء السفارة نفسه قوله(علیه السّلام) :

فقد وقعت الغيبة التامّة، فلا ظهور، إلّا باذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب(1).

وطول الأمد يستدعي مضيّ عدّة سنوات، بل عشرات السنين، لابدّ من انتظار انتهائها، قبل توقّع الظهور الفوري.

إلا أنّ مفهوم طول الأمد يختلف باختلاف تصوّر الأفراد ومقدار وعيهم العقلي والثقافي والإيماني، فقد لايحتاج حين يسمعه الفرد العادي لأوّل مرّة أكثر من عدّة سنوات، وبخاصة مع إناطة الظهور بإذن الله تعالى مع ما يراه الفرد من قسوة القلوب فعلاً وامتلاء الأرض جوراً، فكان في الإمكان - بحسب الجو النفسي السائد يومئذ - أن يبدأ مفهوم الانتظار الفوري بعد عدّة سنوات من تاريخ هذا البيان، ولم يكن أهل ذلك العصر بحاجة إلى أن يدركوا أنّ المراد من طول الأمد ما يزيد على الألف عام بقليل أو كثير، كما ندركه الآن من التكاليف المطلوبة في عصر الغيبة الكبرى ألا وهي: الالتزام بالتعاليم الإسلامية الحقّة النافذة فيما قبل الظهور.

وهذا من واضحات الشريعة، فإنّ مقتضى شمول تعاليمها هو عمومها لكل الأجيال، و وجوب إطاعتها وتطبيقها على واقع الحياة في كلّ الأجيال، سواء ما كان منها على مستوى العقائد والمفاهيم، أو ما كان على مستوى الأحكام.

ص: 251


1- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 243.

إذن، تكون الأحكام الإسلاميّة الصادرة المعلنة، منذ عصر الرسالة، نافذة المفعول، بكل تفاصيلها وخصائصها، من دون معارض ولا ناسخ و يجب على الفرد إطاعتها وامتثالها، و هو واضح من وجهة نظر إسلاميّة.

وهذا هو المراد من عدد من الأخبار على اختلاف مضامينها، إذ تأمر المسلم بالبقاء على ما كان عليه من عقيدة و تشریع، بالرغم من وجود تيّار الفتن و شبهات المنحرفين.

أخرج ابن ماجة(1) عن رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) مايفيد ذكر التكليف في عصر الفتن قوله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) : تأخذون بما تعرفون وتعدون ما تنكرون، و تُقبلون على خاصّتكم وتذرون فمنأمر عامّتكم.

والمراد بهذا الحديث الشريف، بعد فهمه على أساس القواعد الإسلاميّة العامة.. هو وجوب الأخذ بما قامت عليه الحجّة من أحكام الإسلام أو عقائد.

بمعنى أنّه متی دلّ الدليل الصحيح علی کون شيء معيّن هو حكم إسلامي أو عقيدة إسلاميّة، وجب الأخذ به، بمعنى لزوم العمل عليه إن كان حكماً ووجوب الاعتقاد به إن كان عقيدة، وأما ما كان مخالفاً لذلك، فيجب رفضه واعتباره انحرافاً و فساداً.

وأخرج الكليني في الكافي والصدوق في إكمال الدين والنعماني في الغيبة عن المفضّل بن عمر عن أبي عبدالله الصادق (علیه السّلام) حين سأله الراوي عن تكليفه في زمان الغيبة حين تكثر الفتن ودعاوي الضلال و تنتشر الشبهات قال الراوي، فكيف نصنع؟ قال: فنظر إلى شمس داخلة في الصفة. فقال: يا أباعبدالله ترى هذه الشمس؟ قلت: نعم، قال: والله لأمرنا أبين من هذه الشمس(2).

فالمطلوب إسلامياً، هو متابعة خط الأئمة(علیهم السّلام) الذين هم البقاء الأمثل للنبوّة

ص: 252


1- سنن ابن ماجة، ج 2، ص 308.
2- بحار الأنوار، ج 1، ص 147.

والإسلام باعتبار وضوح ما هم عليه من الحقّ، كوضوح الشمس المشرقة،وقيام الحجّة فيه على الخلق، فلابدّ من التمسّك به والسير عليه خلال الغيبة الكبرى، لكي ينجو به المسلم من الفتن ويبتعد عن مزالق الانحراف.

ولئن كان هذا الحديث ممّا لا يؤمن به إلّا القواعد الشعبية الإمامية، فإنّ الأخبار المتقدّمة تعمّهم وغيرهم من أبناء الإسلام.

وهل من التكاليف اتّخاذ مسلك السلبية والعزلة أو المبادرة إلى الجهاد؟

لقد دلّنا الوجدان والأخبار الخاصّة والقواعد العامّة، على ما سمعنا، على أنّ زمان الغيبة الكبری، مستغرق بموجات الظلم والانحراف والفساد فهل من وظيفة الفرد المسلم هو السلبية والانعزال عن الأحداث وعدم وجوب إعلان المعارضة ومحاولة تقويم المعوج من الأفراد والأوضاع، أو أنّ وظيفة الفرد في نظر الإسلام هو العمل الاجتماعي الفعّال، والجهاد الناجز في سبيل الله ضد الظلم والطغيان؟

دلّت الآيات الكريمة بعمومها على وجوب الجهاد كقوله عزّ من قائل: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ »(1) وقوله تعالى : « ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ »(2) .

ص: 253


1- الأنفال / 60.
2- التوبة / 120.

الخلاصة

إن من القضايا الضرورية الواضحة، الاعتقاد بوجود الإمام المهدي(علیه السّلام) .

ولقد ورد عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) أنّ المنكِر للمهدي(علیه السّلام) مُنكِر للنبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم). و من سیاق البحث اتّضح أنّ الله سبحانه قد كان من حكمته أن يحتجب الإمام (علیه السّلام)، وانه المؤمل لإقامة الكتاب والسنّة يوم يأذن الله بخروجه(علیه السّلام) .

و من هنا ولضرورة الاتّصال الدائم والارتباط به (علیه السّلام) وجبت على الاُمّة مجموعة من التكاليف لابدّ أن تلتزمها الاُمّة و تقوم بها تعبيراً عن ذلك الاتّصال والارتباط به (علیه السّلام) من أجل التمهيد والإعداد لظهوره.

وليس الانتظار هو الابتعاد عن أداء مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما قوام صلاح المجتمع الإسلامي وضمان سیره تجاه الحقّ والعدل.

لقد أكّدت كثير من الروايات أهمّية الانتظار و وصفته بأنّه أفضل العبادة.

للانتظار مفهوم خاص وإنّ البشارة بالمنقذ المصلح مسألة مشتركة بين الأديان، وقد كانت البشرية قبل الإسلام منتظرة قدومه طلباً للخلاص من الظلم والجور.

ثمّ جاءت الرسالة الخاتمة وأعطت هذه المسألة أبعادها الحقيقية على المستويات كافّة.

ص: 254

الأسئلة

1. ما هو دور الإخلاص والشعور بالمسؤولية في رفع الظلم و الجور؟

2. هل يتعارض العمل والتحرّك ضد المفاسد والظالمين مع مضمون الحديث أنّ خروجه (علیه السّلام) بعدما تُملأ الأرض ظلماً و جوراً؟

3. هل الاعتقاد بالإمام المهدي (علیه السّلام) يمنع العمل الاجتماعي والإصلاحي؟

4. ما هي دلالة مفهوم الانتظار؟

5. عدّد المراحل الّتي مرّت بها البشرية من حيث فهم الانتظار؟

6. هل يعني الانتظار توقّع الظهور والتهيّؤ له حسب الفهم الإمامي؟

ص: 255

الدرس 27 : الحكم الإسلامي في عصر الغيبة الكبرى

اشارة

إنّ معنى الانتظار لغة هو: الترقّب والتوقّع. وعليه فقد يتوهّم أنّ علينا أن نعيش في فترة الغيبة مترقّبين فقط لليوم الموعود الّذي يبدأه الإمام المنتظر(علیه السّلام) بالقضاء على الكفر، وبالقيام بتطبيق الإسلام لنعيش الحياة تحت ظلاله في دعة وأمان، غیر متوفّرين على القيام بمسؤوليّة تحكيم الإسلام في حياتنا وفي كلّ مجالاتها، وبخاصة مجالها السياسي بدافع من إيماننا بأن مسؤولية تحكيم الإسلام في كلّ مجالات الحياة هي وظيفة الإمام المنتظر(علیه السّلام) ، فلسنا بمكلّفين بها الآن.

إلا أنّنا متى حاولنا تجلية واقع الأمر بما يرفع أمثال هذه الألوان من التوهّمات، نجد أنّ منشأ هذه المفارقة هو محاولة عدم الفهم، أو سوء الفهم في الواقع.

وذلك لأنّ ما يُستفاد من الانتظار في إطار واقعه کلازم من لوازم الاعتقاد بالإمام المنتظر (علیه السّلام) يتنافى وهذه الألوان من التوهّم تمام المنافاة، لأنّه يتنافی وواقع العقيدة الإسلاميّة الّتي تضمّ عقيدة الإمامة كجزء مهم من أجزائها.

يقول الشيخ المظفر(رحمه الله) : «وممّا يجدر أن نعرفه في هذا الصدد: ليس معنی انتظار هذا المصلح المنقذ (المهدي)، أن يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود إلى الحقّ من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته، والجهاد في سبيله، والأخذ بأحكامه، والأمر

ص: 256

بالمعروف والنهي عن المنكر.

بل المسلم أبداً مكلّف بالعمل بما اُنزل من الأحكام الشرعية، وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطرق الموصلة إليها حقيقة، وواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ما تمكّن من ذلك وبلغت إليه قدرته (كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته).

ويقول الصافي الكلبايكاني: «وليعلم أنّ معنى الانتظار ليس تخلية سبيل الكفّار والأشرار، و تسليم الأمور إليهم، والمراهنة معهم، و ترك الأمر بالمعروف والنهي عن٫ المنكر، والإقدامات الإصلاحية.

فإنّه كيف يجوز إيكال الأمور إلى الأشرار مع التمكّن من دفعهم عن ذلك، والمراهنة معهم، و ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من المعاصي الّتي دلّ عليها العقل والنقل وإجماع المسلمين.

ولم يقل أحد من العلماء و غيرهم بإسقاط التكاليف قبل ظهوره(علیه السّلام) ، ولا يُرى منه عين ولا أثر في الأخبار.

نعم، تدلّ الآيات والأحاديث الكثيرة على خلاف ذلك، بل تدلّ على تأكّد الواجبات والتكاليف و الترغيب إلى مزيد الاهتمام في العمل بالوظائف الدينية كلها في عصر الغيبة.

فهذا توهّم لا يتوهّمه إلا من لم يكن له قليل من البصيرة والعلم بالأحاديث والروايات»(1) .

إنّ الّذي يستفاد من الروايات في هذا المجال، هو أنّ المراد من الانتظار هو: وجوب التمهيد و التوطئة لظهور الإمام المنتظر (علیه السّلام) ويدلّ على ذلك ما يلي:

1. ما روي عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) : «يخرج رجل يوطىء (أو قال: يمكّن) لآل محمّد، كما

ص: 257


1- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر (علیه السّلام) ، ص 499۔ 500، هامش.

مکّنت قریش لرسول الله(صلّی الله علیه وآله وسلّم) ، وجب على كلّ مؤمن نصره (أو قال: إجابته)...».

2. ما روي عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) أيضاً: «يخرج ناس من المشرق فيوطّئون للمهدي».

3. ما روي عنه (صلّی الله علیه وآله وسلّم) أيضاً: «يأتي قوم من قِبَل المشرق، ومعهم رایات سود، فيسألون الخير فلا يعطَونه، فيقاتلون فيُنصرون، فيعطَون ما سألوه، فلا يقبلونه حتّی يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملأها قسطاً، كما ملأوها جوراً، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم؛ ولو حَبوا على الثلج»(1) .

ضرورة الحكم الإسلامي في زمن الغيبة

يعتبر وجوب قيام حكم إسلامي في زمن الغيبة من ضروريات الدين الّتي لا تحتاج إلى محاولة إثبات أو تجشّم استدلال.

يقول الفيض الكاشاني: «فوجوب الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البرّ والتقوى، والإفتاء، والحكم بين الناس بالحق، وإقامة الحدود والتعزيرات، وسائر السياسات الدينية، من ضروريات الدين، وهو القطب الأعظم في الدين، والمهم الّذي ابتعث الله له النبيين، ولو تركت لعطّلت النبوّة، واضمحلّت الديانة وعمت الفتنة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، وخربت البلاد، و هلك العباد، نعوذ بالله من ذلك»(2).

ويقول صاحب الجواهر: «وبالجملة، فالمسألة من الواضحات الّتي لا تحتاج إلى أدلّة» (3).

ويقول السيد البروجردي: «اتفقت الخاصّة والعامة على أنّه يلزم في محيط الإسلام وجود سائس وزعيم يدير أمور المسلمين، بل هو من ضروريات الإسلام»(4).

ص: 258


1- النعماني، کتاب الغيبة، ص 174.
2- مفاتیح الشرائع، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، کتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 617.
4- البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر، ص 52.

ولعلّ ما يترتّب على ترك امتثال هذا الوجوب من محاذير شرعية، يكفي في لفت النظر إلى ضروريّته الدينيّة.

و ربّما كان أهمّها ما يلي:

1. تعطيل التشريع الإسلامي في أهمّ جوانبه، الجانب السياسي - و حرمته من الوضوح بمكان؛ نظراً إلى أنّه تشريع عطل؛ وإلى ما ينجم عن تعطيله من ارتكاب المحارم، و انتشار الجرائم، و شیوع الموبقات وأمثالها.

يقول العلّامة الحلّي، في تعطيل الحدود وهي فرع من فروع التشريع السياسي: «إن تعطيل الحدود يفضي إلى ارتكاب المحارم، و انتشار المفاسد؛ و ذلك مطلوب الترك في نظر الشرع»(1).

ويقول الشهيد الثاني: «فإنّ إقامة الحدود ضرب من الحكم، وفيه مصلحةكليّة و لطف في ترك المحارم، و حسم لانتشار المفاسد»(2).

2. الخضوع لحكم الكافر - و هو ممّا ينجم عن تعطيل التشريع السياسي الإسلامي أيضاً، و أُفرد بالذكر هنا نظراً لأهميّته و لوضوحه.. ولأنّه ليس وراء عدم الخضوع للحكم الإسلامي ممّن يعيش في بقعة جغرافية سياسية، إلّا الخضوع للحكم الكافر،

لأنه لا ثالث للإسلام والكفر؛ إذ الحكم حكمان: حكم الله و حكم الجاهلية.

الكيان الشيعي في عصر الغيبة الكبرى

1. الشيعة في القرن الرابع للهجرة

ظهرت عوامل في القرن الرابع الهجري، ساعدت على انتشار مذهب التشيّع و تقویته، منها ضعف الخلافة العباسية، و ظهور ملوك آل بویه.

لقد كان لملوك آل بویه - وهم شيعة - التأثير البالغ في مركز الخلافة ببغداد، وكذا

ص: 259


1- مختلف الشيعة في أحكام الشريعة، کتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- مسالك الأفهام إلى شرح شرائع الإسلام، کتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

في الخليفة، وهذه القدرة جعلت الشيعة قادرة على أن تقف أمام المخالفين، الذين طالما حاربوا الشيعة لما كان لهم من قدرة خلال خلافتهم، وتمكّن الشيعة حينذاك أن ينشروا عقائدهم بكلّ حرية.

والمؤرّخون متّفقون على أنّ الجزيرة العربية، أو معظمها كانت تعتنق مذهب الشيعة، سوى المدن الكبيرة منها، علماً بأنّ بعض المدن مثل، هجر وعمان وصعدة كانت شيعية، ومدينة البصرة كانت تعتبر مركزاً لأهل السنة، وكانت في صراع ديني مع الكوفة باعتبارها مركز التشيّع، وكذا كانت الشيعة تتواجد في كلّ من طرابلس ونابلس و طبريّة و حلب و هراة، وكذلك في الأهواز و سواحل الخليج الفارسي من إيران(1).

وفي أوائل القرن الرابع - استولی ناصر الأطروش على شمال ایران، بعد كفاح دام سنوات، فاستقرّ في ناحية طبرستان و أسّس دولته، واستمرّت لأولاده من بعده، وكان الحسن بن زید العلوي قد حكم هذه المنطقة قبل الأطروش(2).

وفي هذا القرن استولى الفاطميّون وهم من الفرقة الإسماعيلية على مصر، و أسّسوا حکومتهم الّتي استمرّت أكثر من قرنين (296 - 527).

وقد كان يظهر صراع بين الشيعة والسنّة أحياناً في بعض الحواضر کبغداد والبصرة و نیسابور.

2. الشيعة في القرن الخامس و حتّى القرن التاسع الهجري

توسّعت رقعة تواجد الشيعة خلال القرن الخامس حتّى أواخر القرن التاسع وظهر ملوك اعتنقوا مذهب التشيّع، فصاروا يدعون له.

و رسخت الدعوة الإسماعيلية في «قلاع الموت»، واستقلّت في دعوتها قرناً

ص: 260


1- الحضارة الإسلاميّة، ج 1، ص 97.
2- مروج الذهب، ج 4، ص 373؛ الملل والنحل، ج 1، ص 254.

و نصف قرن في وسط إيران(1). وحكم السادة المرعشيّون سنین متمادية في مازندارن(2).

واختار الملك «خدابنده» و هو أحد ملوك المغول مذهب الشيعة، وخلفه في الحكم ملوك من هذه الطائفة لأعوام متعاقبة، وساهموا في نشر و ترويج المذهب الشيعي، وكذا سلاطین «آق قوینلو»، إذ كانت مدينة تبریز(3) مرکز حکومتهم، وكانت تنبسط سيطرتهم حتّى فارس و کرمان، و حکمت الدولة الفاطمية في مصر لسنوات متعاقبة كما أشرنا.

و من الطبيعي أنّ القدرة الدينية لأهل السنّة مع الملوك كانت متغيّرة و متفاوتة، وبعد سقوط الدولة الفاطمية و مجيء دولة الأيّوبيين، تغيّرت الظروف، و فقد الشيعة في مصر والشام الحريّة على الإطلاق، و قتل الكثير منهم(4).

و ممّن قُتل من كبار علماء الشيعة بعد سيطرة أهل السنّة على مقاليد الحكم: الشهيد الأوّل «محمّد بن محمّد المكّي» أحد نوابغ الفقه الشيعي سنة 786 للهجرة في دمشق بتهمة التشيّع(5).

وقتل أيضاً الشيخ «شهاب الدّين السهروردي» في حلب بتهمة الفلسفة(6).

فالشيعة خلال هذه القرون الخمسة، كانوا في ازدياد من حيث النفوس والعدد، وكانت الزيادة تابعة لمدى موافقة ومخالفة السلاطين للتشيّع من حيث إعطائهم القدرة والحريّة الفكريّة. ولم تعلن في هذه الفترة أيّة دولة إسلاميّة مذهب التشيّع مذهباً رسميّاً لها.

ص: 261


1- يراجع كتاب الكامل وروضة الصفا وحبيب السير.
2- الكامل وأبي الفداء، ج 3.
3- تاریخ حبيب السير.
4- تاريخ حبيب السير و أبي الفداء و غيرهما.
5- روضات الجنّات و ریاض العلماء نقلاً عن ریحانة الأدب، ج 2، ص 365.
6- الروضات وكتاب المجالس و وفيات الأعيان.

3. الشيعة في القرن العاشر و الحادي عشر للهجرة

نهض شاب في سنة 906 للهجرة، و هو في الثالثة عشرة من عمره، من عائلة «الشيخ صفي الدين الأردبيلي» المتوفّی سنة 735ه وكان أحدمشايخ الطريقة على المذهب الشيعي مع ثلاثمائة من الدراويش الذين كانوا من مريدي آبائه، و تحرّك لإيجاد دولة شيعية مستقلّة مقتدرة، فسار من مدينة «أردبیل» وشرع بفتح البقاع وإخضاعها لسيطرته مزيلاً بذلك نظام ملوك الطوائف في إيران، وبعد حروب دامية مع الملوك المحلّيين و خاصّة مع ملوك «آل عثمان» الذين كانوا ينوبون عن الإمبراطورية العثمانية، استطاع أن يجعل من إيران دولة موحّدة بعد أن كانت ممزّقة، يحكم كلّ بقعة منها فئة خاصّة، وجعل المذهب الشيعي، مذهباً رسمياً لها(1).

وبعد وفاة الملك «إسماعيل الصفوي» أعقبه ملوك آخرون من السلالة ذاتها، منتصف القرن الثاني عشر الهجري، وكل واحد من هؤلاء الملوك كان يؤيّد المذهب الشيعي، ففي زمن «الشاه عباس الكبير» والّذي كان يعتبر ذروة القدرة لهذه السلالة، استطاع أن يوسّع بقعتهم، فازدادت نفوسهم، فبلغت ضَعف(2) ما عليه الآن في إيران (سنة 1384 ه). و الفرقة الشيعية، في القرنين ونصف القرن الأخير تقريباً، بقيت على حالتها في سائر البقاع الإسلاميّة مع استمرار الازدياد الطبيعي لها.

4. الشيعة في القرن الثاني عشر وحتى القرن الرابع عشر للهجرة

إنّ الازدياد و التطوّر لأتباع المذهب الشيعي خلال القرون الثلاثة الأخيرة كان يتحقّق في الوقت الحاضر الّذي هو مطلع القرن الخامس عشر الهجري، و يعتبر التشيع مذهباً رسمياً في ایران، و معظم سكّان اليمن والعراق هم من الشيعة، كما تتواجد الشيعة في كلّ الدول الإسلاميّة في العالم.

ص: 262


1- روضة الصفا وحبيب السير و غيرها.
2- روضة الصفا و حبيب السير.

الخلاصة

كان لعوامل كثيرة، الأثر في الحدّ من انتشار التشيّع في أرجاء الوطن الإسلامي؛ فللاضطهاد والتشريد والتنكيل من قبل السلطات الأمويّة أوّلاً ومن ثمّ العباسيّة الدور الأكبر في الحدّ من نشاط الأئمة (علیهم السّلام) من جهة و شیعتهم ومواليهم من ناحية أخرى، غير أنّ هناك فترات ضعف ووهن بسبب الصراع داخل الاُسرة المالكة والحروب الخارجية، قد ساهمت في انتشار و توسّع حركة الجماعة الصالحة في كثير من بلدان العالم الإسلامي، كما قامت لهم دول في فارس و عراق و مصر و غيرها من بلدان العالم الإسلامي. وكانت تلك الدول تتّصف بالتسامح في تعاملها مع أصحاب المناصب الإسلاميّة الأخرى وإن لم تخل بعض المراحل من صراع كان يصل إلى حدّ شهر السيف بين المتصارعين.

ولقد شهدت الفترات المختلفة التطوّر العلمي والفلسفي و الأدبي لرجال وعلماء الشيعة على امتداد التأريخ الإسلامي.

الأسئلة

1. اذكر بعض العوامل الّتي ساعدت على انتشار التشيع في القرن الرابع الهجري؟

2. هل هناك دور لعلماء الشيعة في قيام بعض الدول الشيعية، وضّح ذلك؟

3. كيف شهدت القرون (4 إلى 9) هجرية انتشار المذهب الشيعي؟

4. ما هو سبب قتل بعض العلماء الشيعة في الشام أو مصر؟

ص: 263

الدرس 28 رؤية الإمام(علیه السّلام) في عصر الغيبة الكبرى (1)

1. الأحاديث الدالّة على الرؤية

تفيد الأحاديث الشريفة المتحدّثة عن غيبة الإمام المهدي - عجّل الله فرجه - أنّ غيبته هي «غيبة عنوان» وليست «غيبة شخص» بمعنى أنّه: «حيّ موجود یُحلّ ويرتحل ويطوف في الأرض»(1)، وقد صرّحت بذلك طائفة من الأحاديث الشريفة نذكر فيما يلي نماذج منها:

1. ما رواه الشيخ النعماني في كتاب البيعة عن الإمام علي(علیه السّلام) أنّه قال ضمن حديث طويل عن غيبة المهدي الموعود: «... فوربّ عليِّ: إنّ حجّتها قائمة، ماشية في طرقاتها، داخلة في دورها وقصورها، جوّالة في شرق الأرض وغربها تسمع الكلام و تسلّم على الجماعة»(2).

2. ما رواه الشيخ الصدوق في كمال الدين عن الإمام الصادق

(علیه السّلام) أنّه قال ضمن حديث عمّا في المهدي المنتظر عجّل الله فرجه . من سُنَن الأنبياء (علیهم السّلام): «... و أمّا

ص: 264


1- کشف الغمّة في معرفة الأئمّة للشيخ علي بن عيسى الأربلي، ج 2، ص 493.
2- غيبة النعماني، ص 142؛ بحار الأنوار، ج 28، ص 70 عنه.

سنّة يوسف، فإنّ إخوته كانوا يبايعونه ويخاطبونه ولا يعرفونه...»(1).

3. ما في دلائل الإمامة عن الإمام الصادق (علیه السّلام) في الموضوع نفسه قال: «.... وأمّا سنّة من يوسف فالستر، جعل الله بينه و بين الخلق حجاباً يرونه ولا يعرفونه..»(2).

4. ما في غيبة النعماني بسنده عن الإمام علي (علیه السّلام)

قال في ضمن حدیث: ..... ولكنّ الحجّة تعرف الناس ولا يعرفونها، كما كانيوسف يعرف الناس وهم له منکرون»(3).

5. ما روى الكليني في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (علیه السّلام) قال: «للقائم غیبتان إحداهما قصيرة، والاُخرى طويلة، الغيبة الاُولى لا يعلم بمكانه فيها إلّا خاصّة شيعته، والاُخری لا يعلم بمكانه فيها إلّا خاصّة موالیه» وفي رواية النعماني: «.. إلّا خاصّة مواليه في دینه» و رواه من عدّة طرق(4).

6. ما روى الشيخ الطوسي في غيبته بسنده عن الإمام الباقر(علیه السّلام) قال: «لابدّ لصاحب هذا الأمر من عزلة، ولابدّ في عُزلته من قوّة، وما بثلاثين من وحشة ونِعمَ المنزل طيبة»(5)، وواضحٌ من الحديث أنّ الإمام يستقوي بهؤلاء «الثلاثين» في غيبته.

7. ما روى الكليني في الكافي والنعماني في الغيبة بأسانيدهم عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال: «لابدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة، ولابدّ له في غيبته من عزلة ونعم المنزل طيبة وما بثلاثين من وحشة»(6) .

ص: 265


1- كمال الدين، للشيخ الصدوق، ج 1، ص 28: إثبات الهداة، ج 3، ص 458.
2- دلائل الإمامة، للشيخ أبو جعفر الطبري الإمامي، ص 251 و مثله في كمال الدین، ج 2، ص 350.
3- غيبة النعماني، ص 141؛ إثبات الهداة، ج 3، ص 532.
4- الكافي، ج 1، ص 350؛ تقریب المعارف، للشيخ تقي الدين أبي الصلاح الحلبي، ص 190؛ غيبة النعماني، ص 170؛ بحار الأنوار، ج 52، ص 155: إثبات الهداة، ج 2، ص 445.
5- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص 102؛ بحار الأنوار، ج 52، ص 153.
6- الكافي، ج 1، ص 340؛ غيبة النعماني، ص 188؛ تقريب المعارف، ص 190؛ إثبات الهداة ج 3 م 445.

8. ما روى الشيخ الصدوق في كتاب مَن لا يحضره الفقيه عن محمّد بن عثمان العمري(رحمه الله) قال: «والله إنّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كلّ سنة، يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه»(1).

إذن الأحاديث الشريفة: «متناصرة بأنّه لابدّ للقائم المنتظر من غيبتين إحداهما أطول من الاُخرى يعرف خبره الخاص في القصوى، ولا يعرف العام له مستقرّاً في الطولى إلّا من تولّی خدمته من ثقات أوليائهِ ولم ينقطع عنه إلى الاشتغال بغيره.» كما يقول الشيخ المفيد - رضوان الله عليه (2)، كما أنّها صريحة في تأكيد رؤية الناس له(علیه السّلام) دون معرفة هويّته؛ وأنّه يتعامل معهم ويحادثهم ويلتقي بهم وإن كانوا غير عارفين بهويّته، وهذا معنى (غيبة العنوان)»

وعليه يتّضح أنّه (علیه السّلام) يلتقي بالعباد ويهديهم ويقضي حوائجهم في غيبته ويقوم بمهامّ إمامته في غيبته، مثلما كان يفعل يوسف(علیه السّلام) مع إخوته على ما حكاه القرآن الكريم.

ومع اتّضاح هذه الحقيقة؛ يتّضح أيضاً أنّ من الطبيعي أن يتنبّه بعض الملتقين به(علیه السّلام) إلى هويّته بعد انتهاء التقائهم به لصدور بعض الاُمور والكرامات الّتي لا يمكن أن تصدر عن غيره(علیه السّلام) . وقد تواتر نقل وقوع ذلك في الروايات المنقولة في المصادر المعتبرة بشأن الذين التقوا به في غيبته.

بل وليس ثمّة مانع من أن يكشف لبعضهم عن هويّته حتّى أثناء اللقاء كما کشف يوسف عن هويّته لأخيه «بنیامین» حسب ما نقله القرآن الكريم، بل قد لاحظنا في الأحاديث الشريفة تصريحاً بما هو أبعد من ذلك و أهمّ و هو معرفة بعض الأولياء من «خاصّة مواليه في دینه» حتّى بمكانه في الغيبة الكبرى، وقد صرّحت بعض الروايات

ص: 266


1- من لا يحضره الفقيه، ص 279 من الطبعة القديمة.
2- الفصول العشرة في الغيبة للشيخ المفيد، ص 82 .

بمعرفة بعض ثقات الأولياء بهويّته - عجّل الله فرجه - أثناء اللقاء كما ورد بالنسبة للسيد الجليل علي بن طاووس و السيد بحر العلوم و غيرهم كما سنرى لاحقاً.

2. دلیل نفي الرؤية و تفسيره

أجل تردد البعض تجاه إمكانيّة الالتقاء به(علیه السّلام) في غيبته الكبرى بالخصوص استناداً إلى ما ورد في التوقيع الشريف الّذي بعثه الإمام (علیه السّلام) إلى آخر سفرائهِ في الغيبة الصغرى و هو الشيخ علي بن محمّد السمري - رضوان الله عليه -، حيث جاء فيه: «ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني و الصيحة فهو كذّاب مفتړٍ»(1).

بيد أنّ هذا الفهم لا ينسجم مع هدف التوقيع الشريف وهو إعلان انتهاء الغيبة الصغرى و نظام الوكلاء المنصوبين من قِبَلِ الإمام المهدي (علیه السّلام) مباشرة، فالمقصود منه تکذیب مَن يدّعي المشاهدة بمعنى الوكالة الظاهرية العامّة و تشکیل حلقة الارتباط بين الإمام والاُمّة حيث أمر الإمام الشيخ السمري بأن لا ينصب بعده أحدا لانتفاء الحاجة إلى ذلك بانتهاء عصر الغيبة الصغرى، وكذلك تكذیب مدّعي المشاهدة بمعنی الظهور العلني العام وبدء التحرّك العسكري العلني للإمام - عجّل الله فرجه - كما يشير إلى ذلك قوله(علیه السّلام) : «قبل خروج السفياني و الصيحة» وهما من العلامات الحتميّة الّتي تسبق خروجه - عجّل الله فرجه - بشهور قليلة، فالهدف هو تحذير المؤمنين من الأدعياء المنحرفين الذين يسعون لخداع الاُمّة بادّعاء الارتباط بالإمام.

على أنّ هذا الفهم لا ينفي أن يلتقي الإمام بالمؤمنين في غيبته الكبرى دون أن يعرّفهم بهويّته أو يشرط عليهم الكتمان و عدم إخبار أحد إلّا عددٍ قليلٍ ثقات المؤمنين ولا يصدق على ذلك عنوان «الادّعاء». .

وقد تصدّى عدد من العلماء الأعلام لدحض الاستدلال بهذا التوقيع على نفي الالتقاء بالإمام (علیه السّلام) في غيبته الكبرى ولعلّ أجمع ردّ هو ما أورده السيّد محمّد الصدر

ص: 267


1- راجع نفس التوقيع الشريف كاملاً في كمال الدین، ج 2، ص 516.

فی تأریخ الغیبة الصغری(1).

وقد صرّح بالحقيقة المتقدّمة عدد من كبار العلماء من المتقدّمين والمتأخّرين، فمثلاً يقول السيد المرتضی علم الهدی (قدّس سرّه): «... إنّه غير ممتنع أن يكون الإمام (علیه السّلام) يظهر لبعض أوليائهِ ممّن لا يخشى من جهته أسباب الخوف، فإنّ هذا ممّا لا يمكن القطع على ارتفاعه وامتناعه وإنّما يعلم كلّ واحد من شيعته من حال نفسه ولا سبيل له إلى العلم بحال غيره»(2)، ويقول الشيخ الطوسي (قدّس سرّه): «نحن نجوّز أن يصل إليه كثيرٌ من أوليائهِ والقائلون بإمامته فينتفعون به»(3)، ويقول السيد علي بن طاووس: «و الطريق مفتوحة إلى إمامك(علیه السّلام) لمن يريد الله جلَّ شأنه عنايته به و تمام إحسانه إليه»(4)، ويقول رضوان الله عليه في مقام آخر: «و إذا كان (علیه السّلام) غير ظاهر الآن لجميع شیعته فلايمتنع أن يكون جماعة منهم يلقونه وينتفعون بقاله وفعاله ويكتمونه كما جرى الأمر في جماعة من الأنبياء والأوصياء والملوك حيث غابوا عن كثير من الأُمّة لمصالح دينيّة أو دنيويّة أوجبت ذلك»(5).

ويقول المولى الخراساني في كفاية الاُصول ضمن مبحث الإجماع: «... بل لا يكاد يتّفق العلم بدخولها(علیه السّلام) على نحو الإجمال في الجماعة في زمن الغيبة وإن احتمل تشرّف بعض الأوحديّ بخدمته ومعرفته أحياناً»(6)، ويقول المحقّق النائيني: «... قد يتّفق في زمان الغيبة للأوحدي التشرّف بخدمته وأخذ الحكم

ص: 268


1- تأريخ الغیبة الصغرى، ص 639 - 654: جنة المأوى، لآية الله الميرزا النوري المطبوع مع بحار الأنوار، ج53، ص 318- 325 وغيرهما.
2- تنزيه الأنبياء للسيد المرتضی، ص 184.
3- الغيبة، للشيخ الطوسي، ص184.
4- کشف المحجة، ص213.
5- الطرائف، للسيد ابن طاووس، ص 185.
6- كفاية الاُصول، ج 2، ص 291.

منه(علیه السّلام)(1) ، ويقول السيد الكلبايكاني في جواب على استفتاء بشأن الأعمال الّتي تؤدي إلى التشرّف بلقاء الإمام المهدي -عجّل الله فرجه - : «إجمالاً لايمكن تحديد سبیل تمكّن أي أحد من الالتقاء بالإمام (علیه السّلام) إلّا أن العمل بالتكاليف الشرعية والسعي لمرضاته و سروره(علیه السّلام) والقيام ببعض الأعمال كالاعتكاف لأربعين ليلة في مسجد السهلة أو غيره قد تؤدّي إلى تشرّف البعض برؤيته حسب ما تقتضي المصلحة»(2)، والشهادات والتصريحات المماثلة كثيرة يصعب إحصاؤها.

يُضاف إلى كلّ ذلك أن الواقع التأریخي قد صدّق هذه الحقيقة عملياً باستمرار هذه اللقاءات إلى عصرنا الحاضر والأخبار الّتي تناقلها العلماء الأعلام والثقات كثيرة، يفوق عددها حدّ التواتر بكثير بحيث يحصل العلم لدى مراجعتها واستقرائها بعدم الكذب والخطأ فيها في الجملة (3)، وقد نقل الميرزا النوري مائة منها في كتابه «النجم الثاقب»، و في المصادر الاُخرى ما يزيد على ذلك بكثير و أكثر منها ما لم يتمّ تدوينه في المصنّفات، يُضاف إلى ذلك العدد الجم من المقابلات الّتي لم يصرّح بها أصحابها إلّا العدد محدود.

3. فوائد و آثار الرؤية

ويُستفاد من هذه الروايات أنّه (علیه السّلام) يقوم في معظم هذه اللقاءات بقضاء حوائج المؤمنین اقتفاء بسنّة آبائه الطاهرين (علیهم السّلام)، و توضيح بعض القضايا العقائدية المهمّة وإبلاغ التوجيهات التربويّة المهمّة والأدعية المسنونة ومايقوّي ارتباطهم بالله عزّوجلّ وسُبل التقرّب منه، يُضاف إلى ذلك أن إظهاره(علیه السّلام) المعجزات و الكرامات في هذه اللقاءات يساهم في إثبات وجوده (علیه السّلام) وإمامته بهدف ترسيخ الإيمان بذلك و قطع

ص: 269


1- فوائد الاُصول، الجزء الأوّل.
2- استفتاء مخطوط منه رضوان الله عليه نقله الشيخ کريمي جهرمي أحد أفراد مكتبه في كتاب رعاية الإمام المهدي للمراجع والعلماء الأعلام، ص 18 من الترجمة العربية المطبوعة في بيروت - دار ياسين.
3- تأریخ الغيبة الصغرى، ص 639.

الشكوك المثارة في كلّ عصر من المشكّكين بشأن وجوده، الأمر الّذي يعزّز مسيرة المؤمنين في التمهيد لظهوره - عجّل الله فرجه -، و عليه يتّضح أنّ هذه اللقاءات تشكّل في الواقع أحد وسائل الإمام للقيام بمهامّ إمامته في غيبته.

كما يُلاحظ أنّ معظم هذه اللقاءات تكون عادة بمبادرة من الإمام نفسه و بصورة لا يتوقّعها الفائز بلقياه عادةً وواضحٌ أنّ للعامل الأمني تأثيراً واضحاً في ذلك، كما أنّ هذه اللقاءات تكون بعد مدّة . قد تطول أحياناً - من صدق المؤمن في طلب مقابلته - عجّل الله فرجه - والإخلاص لله عز وجل في القيام بالأعمال الصالحة والفوز برضا(علیه السّلام) قبل الفوز بلقياه كما يشير إلى ذلك السيد الكلبايكاني في النصّ الّذي نقلناه عنه آنفاً.

ويُلاحظ أيضاً أنّ الذين فازوا بلقائه (علیه السّلام) هم من الذين أخلصوا في العمل الصالح و أنّهم ينتمون إلى شرائح اجتماعية مختلفة من العلماء والعبّاد والصالحين وحتّى المؤمنين العاديين الذين ينقطعون إليه(علیه السّلام) عن الاشتغال بغيره.

كما يُلاحظ أنّ هذه اللقاءات عادة ما تكون بالمقدار اللازم لقضاء ما يطلبه المؤمن الطالب للّقاء أو تحقيق الإمام (علیه السّلام) لغايته المرّجوة منها، وغالباً ما ينتبه المؤمن إلى أنّ مَن التقاه هو الإمام المهدي (علیه السّلام) بعد انتهاء المقابلة طبعاً و ذلك حفظاً لمبدأ الاستار في هذه الفترة، إلّا أنّ ذلك لايمنع أن نرى في هذه اللقاءات أنّ العديد من الفائزين بلقياه كانوا يعرفون هويّته - عجّل الله فرجه -، وهؤلاء عادةً ما يكونون من ذوي المراتب الإيمانية السامية.

كما نلاحظ في هذه الروايات أنّ المقابلات حصلت في أماكن متعدّدة، منها المراقد المقدّسة والمساجد المباركة وفي موسم الحجّ الّذي صرّحت الأحاديث الشريفة بأنّ الإمام (علیه السّلام) يحضره كلّ عام، وهو يمثِّل فرصة ثمينة للالتقاء بالمؤمنين الذين يأتون من جميع أقطار المعمورة، وإيصال التوجيهات إليهم حتّى دون التعريف بنفسه بصراحة.

ويمكن أن يكون بعض هذه اللقاءات مع أولياء الإمام (علیه السّلام) الثقات الذين رأينا في الأحاديث الشريفة المتقدّمة تصريحاً بأنّهم يعلمون بمكان الإمام ويشكّلون جهاز أمن

ص: 270

المعاونين له يستقوي بهم للقيام بمهامّ الإمامة، فيمكن أن يتصوّر بعض المؤمنين الذين يطلبون من الإمام شيئاً و يقضيه لهم على أيدي أحد هؤلاء الثقات، بأنّ مَن التقوه هو الإمام نفسه، إلّا أنّ من الثابت أنّ الكثير من الروايات تشتمل على دلائل و شواهد كثيرة تصرّح بأنّ الالتقاء كان بالإمام المهدي نفسه(علیه السّلام) .

بعد التوضيحات العامّة المتقدّمة ننتخب مجموعة قليلة من روايات الالتقاء بالإمام المهدي - عجّل الله فرجه - في غيبته الكبرى منذ بدايتها و إلى القرون الأخيرة.

الخلاصة

1. غيبة الإمام المهدي (علیه السّلام) غيبة عنوان وليست غيبة شخص.

2. وهو في عصر الغيبة يلتقي مع العباد ويهديهم ويقضي حوائجهم في غيبته و يقوم بمهامّ إمامته في غيبته.

3. وصرّحت بعض النصوص بمعرفة بعض الأولياء من خاصّة مواليه في دینه بهويّته، بالرغم من صدور التوقيع الشريف بأنّ من ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتړٍ.

4. وقد فسّرت المشاهدة في هذا النصّ بدعوى الوكالة الظاهرية العامّة الّتي تعتبر حلقة وصل بين الإمام والاُمّة كما كان للإمام (علیه السّلام) سفراء معّينون في عصر غيبته الصغرى.

5. والهدف من هذا التحذير هو تحذير المؤمنین ممن يستغل هذا العنوان للمتاجرة به وخداع المسلمين بذلك.

ص: 271

الأسئلة

1. ما معنى غيبة الشخص؟ و ما هو الفرق بينها وبين غيبة العنوان؟

2. اذكر بعض النصوص الدالّة على أنّ الإمام المهدي يلتقي بالمؤمنين في غيبته؟

3. ما هي الأهداف الّتي تتضمّنها النصوص الدالّة على التقاء الإمام المهدي في عصر الغيبة ببعض مواليه وثقاته والمؤمنين.

4. ما هو المراد من تکذیب مدّعي الرؤية؟ وما المراد من دعوى الرؤية؟

ص: 272

الدرس 29 : رؤية الإمام(علیه السّلام) في في عصر الغيبة الكبرى (2)

نماذج من الرؤية

1. روى الشيخ الثقة سعيد بن هبة الله المعروف بالقطب الراوندي «و هو الشيخ الإمام الفقيه الّذي وصف بأنّه عين صالح ثقة له تصانيف(1) كما جاء في كتابه المعروف بالخرائج و الجرائح، ما ملخّصه أنّه روي عن جعفر بن محمّد بن قولویه قال: لمّا وصلتُ بغداد سنة سبع وثلاثين عزمت الحجّ وهي السنة الّتي ردّ القرامطة فيها الحجر الأسود إلى مكانه كان أكثر همّي النظر إلى من ينصب الحجر، فإنّه يمضي في أثناء الكتب قصّة أخذه، فإنّه لا يضعه في مكانه إلّا الحجّة في الزمان، فاعتللت علّة صعبة فكتبت رقعة مختومة أسأل فيها من مدّة عمري فهل تكون الموتة في هذه العلّة أم لا، وقلت للرسول: همّي في إيصال هذه الرقعة إلى واضع الحجر في مكانه، فذكر أنّه رأی واضع الحجر فالتفت إليه، وقال: هات ما معك، فناولته الرقية فقال من قبل أن ينظر إليها: قل له: لا خوف عليك في هذه العلّة و يكون ما لابدّ منه بعد ثلاثين سنة، فكان كما قال والحديث طويل

ص: 273


1- الفهرست، للشيخ منتجب الدین، ج 87، ص 639.

أخذنا منه موضع الحاجة(1).

والشيخ ابن قولويه المذكور وصفه النجاشي بأنّه «من ثقات أصحابنا وأجلّاتهم في الحديث والفقه» وقال عنه الشيخ الطوسي: «ثقة له تصانیف کثيرة على عدد أبواب الفقه» و مات(رحمه الله) سنة (368ها، وهو اُستاذ الشيخ المفيد. فالمقصود من سنة (37) المذكورة في الرواية هي سنة (337) وقد توفّي الشيخ ابن قولویه بالفعل بعد ثلاثين سنة من الحادثة المذكورة.

والحادثة وقعت بعد ثمان سنوات من بدء الغيبة الكبرى بوفاة آخر السفراء الأربعة الشيخ علي بن محمّد السمري سنة (329) والملاحظ في الرواية أنّ الالتزام بمبدأ الاستتار في الغيبة الكبرى لم يمنع الإمام(علیه السّلام) من الإقدام على وضع الحجر الأسود في مكانه ليستقرّ فيه وهذا من خصائص الحجّة كماجری مع الإمام زین العابدین (علیه السّلام) و غیره، و من المعلوم أنّ وضع الحجر يُمثّل حادثة مهمّة تستقطب اهتمام الناس والاحتشاد لمشاهدة من يضعه لذا فهي فرصة مناسبة لإثبات الإمام - عجّل الله فرجه - لوجوده وإمامته في الوقت نفسه، وهذه غاية مهمة جديرة بالملاحظة.

ويُلاحظ في الرواية أنّ ابن هشام رسول الشيخ جعفر بن محمّد بن قولويه يصف الإمام (علیه السّلام) بأنّه: «غلام أسمر اللون حسن الوجه»، وهذا الوصف متكرّر في الروايات الاُخرى و إن اختلفت التعبيرات، وفيه تصدیق لما صرّحت به الأحاديث الشريفة بأنّ الإمام المهدي (علیه السّلام) لا يهرم بمرور الأعوام ويظهر لهم شابّاً وهم يتصوّرونه بهيئة الشيوخ(2).

2. وقال الشيخ الفقيه الثقة العالم والمحدث الفاضل والحافظ الصدوق أبوالحسن

ص: 274


1- راجع الخرائج، ج 1، ص 475: إثبات الهداة، ج 2، ص 694 والتلخيص منه وتجده أيضاً في كشف الغمّة، ج 2، ص 502 و بحار الأنوار، ج 52، ص 58.
2- راجع مثلاً كمال الدين، ج 2، ص 376، حديث الإمام الرضا(علیه السّلام) .

علي بن عبيدالله المشهور بمنتجب الدین (504 - 585) شيخ الأصحاب في كتابه الرجالي «الفهرست» الّذي ترجم فيه علماء الإمامية منذ عصر الشيخ الطوسي إلى عصره فكان بمثابة تذييل لفهرست الشيخ الطوسي(1) قال في عدد التراجم: «الثائر بالله المهديّ ابن الثائر بالله الحسيني الجيليّ كان زیدیّاً وادّعی إمامة الزيديّة وخرج بجيلان ثمَّ استبصر وصار إماميّاً و له رواية الأحاديث، وادَّعى أنّه شاهد صاحب الأمر وكان يروي عنه أشياء.

وقال: أبو الحسن عليّ بن محمّد بن عليّ ابن أبي القاسم العلويّ الشعرانيّ عالم صالح، شاهد الإمام صاحب الأمر، ويروي عنه أحادیث، عليه وعلى آبائه السلام.

وقال: أبوالفرج المظفّر بن عليّ بن الحسين الحمدانيّ ثقة عين و هو من سفراء الإمام صاحب الزّمان (علیه السّلام) أدرك الشيخ المفيد و جلس مجلس درس السيّد المرتضی و الشيخ أبي جعفر الطوسي قدّس الله أرواحهم»(2).

و الثلاثة الذين ذكرهم الشيخ منتجب الدين هم من العلماء الأجلّاء، ورواة الأحاديث عنه(علیه السّلام) ، ويظهر أنّ رؤية الثائر الحسيني الجيلي المذكور للمهدي -عجّل الله فرجه . قد تضمّنت ظهور معجزات و کرامات إلهية على يد الإمام (علیه السّلام) جعلته يؤمن به وبإمامته و يترك دعواه إمامة الزيدية ويستبصر ويؤمن بإمامة المهدي و آبائه(علیهم السّلام) .

ويظهر من جملة من الروايات أن الإمام المهدي - عجّل الله فرجه - أولی الزيدية اهتماماً خاصّاً لهدايتهم إلى المذهب الحقّ لقربهم من الإمامية وإخلاص الكثيرين منهم في طلب الحقّ و رفض الظلم. وستأتي لاحقاً رواية هدايته السيد عطوة الحسيني من مشائخ الزيدية في القرن الهجري السابع كما لاحظنا في غيبته الصغرى هدايته

ص: 275


1- راجع هديّة الأحباب، للشيخ القمي، ص 266 - 267.
2- بحار الأنوار، ج52، ص 77.

لأبي سورة الزيدي و هو أيضاً من مشايخهم كما نقله الشيخ الطوسي و غيره.

ويُلاحظ أيضاً أنّ الشيخ منتجب الدين قد صرّح بأنّ العالم الصالح أبا الحسن علي العلوي الشعراني يروي عن الإمام المهدي - عجّل الله فرجه - أحادیث، دون أن ينكر ذلك الأمر الّذي يشير إلى تلقّي هذه الظاهرة بالقبول.

كما تنبغي الإشارة إلى ما وَصَفهُ به أبو الفرج المظفّر الحمداني وهو من تلامذة المفيد والمرتضى و الطوسي أي من علماء القرن الخامس الهجري بأنّه «من سفراء الإمام صاحب الزمان» لا يعني السفارة الخاصة الّتي انتهت بوفاة السمري - رضوان الله عليه - سنة (329ها و الّتي كانت مألوفة في الغيبة الصغرى، بل المقصود أنّه حمل شيئاً إلى بعض موالي الإمام (علیه السّلام) وشیعته من خلال التقائهِ به، فلعلّ حاله مثل حال الّذي حمل رسائل الإمام للشيخ المفيد - رضوان الله عليه - ، أو الّذي حمل رسالة الإمام السيد ابن طاووس(قدّس سرّه) الّتي ذكرها السيد ابن طاووس في كتابه غياث سلطان الوری(1).

3. ومنها ما رواه الفقيه الزاهد والمحدّث الجليل أبو الحسين ورّام بن أبي فراس المتوفّی سنة 605 للهجرة وهو من أحفاد مالك الأشتر وجدّ السيد ابن طاووس لاُمّه المعاصر للشيخ منتجب الدين وقد وصفه بقوله: فقيه صالح شاهدته بحلّة و وافق الخبر الخبر، ووصفه سبطه السيد ابن طاووس بأنه «ممّن يُقتدي بفعله» و أطراء الشهيد في شرح الإرشاد بثناء بليغ على زهده وعلمه(2)، فقد قال(رحمه الله) في كتابه المشهور: «تنبیه الخواطر و نزهة النواظر» المعروف باسم «مجموعة ورّام»: «حدّثني السيّد الأجلّ عليّ بن إبراهيم العريضي العلوي الحسيني، عن علي بن علي بن نما، قال: حدَّثنا الحسن بن علي بن حمزة الأقساسيّ في دار الشريف عليّ بن جعفر بن عليّ المدائني العلوي قال:

ص: 276


1- بحار الأنوار، ج 53، ص 208، رسالة جنة المأوى، الحكاية الثانية.
2- راجع مقدّمة كتابه تنبيه الخواطر، ص(د . ه).

كان بالكوفة شيخ قصّار، كان موسوماً بالزّهد منخرطاً في سلك السياحة متبتّلاً للعبادة مقتضياً للآثار الصالحة فاتّفق يوماً أنّني كنت بمجلس والدي، وكان هذا الشيخ يحدِّثه وهو مقبل عليه.

قال: كنت ذات ليلة بمسجد جعفي و هو مسجد قديم في ظاهر الكوفة وقد انتصف اللّيل و أنا بمفردي فيه للخلوة والعبادة إذا أقبل علىَّ ثلاثة أشخاص، فدخلوا المسجد فلمّا توسّطوا صَرحَته، جلس أحدهم ثمَّ مسح الأرض بيده يمنة ويسرة و خضخض الماء، ونبع فأسبغ الوضوء منه، ثمَّ أشار إلى الشخصين الآخرين بإسباغ الوضوء فتوضّئا ثمَّ تقدَّم فصلّى بهما إماماً فصلّيت معهم مؤتماً به.

فلمّا سلّم وقضى صلاته بهرني حاله، واستعظمت فعله من إنباع الماء، فسألت الشخص الّذي كان منهما على يميني عن الرجل فقلت له: من هذا؟ فقال لي: هذا صاحب الأمر ولد الحسن، فدنوت منه و قبّلت يديه، و قلت له: يا ابن رسول الله ما تقول في الشريف عمر بن حمزة هل هو على الحقّ؟ فقال: لا، و ربّما اهتدى إلّا أنّه لا يموت حتّى يراني. فاستطرفنا هذا لحديث.

فمضت برهة طويلة فتوفّي الشريف عمر ولم يسمع أنّه لقيه فلمّا اجتمعت بالشيخ الزّاهد ابن بادية ذكرته بالحكاية الّتي كان ذكرها، و قلت له مثل الرادَّ عليه أليس كنت ذكرت أنّ هذا الشريف لا يموت حتّى يرى صاحب الأمر الّذي أشرت إليه؟ فقال لي: و من أين علمت أنّه لم يره؟

ثمَّ إنّني اجتمعت فيما بعد بالشريف أبي المناقب ولد الشريف عمر بن حمزة و تفاوضنا أحاديث والده فقال: إنّا كنا ذات ليلة في آخر اللّيل عند والدي وهو في مرضه الّذي مات فيه، و قد سقطت قوّته و خفت صوته، والأبواب مغلّقة علينا إذ دخل علينا شخص هبناه، واستطرفنا دخوله، و ذهلنا عن سؤاله، فجلس إلى جنب والدي وجعل يحدِّثه مليّاً ووالدي يبكي ثمَّ نهض. .

فلمّا غاب عن أعيننا تحامل والدي وقال: أجلسوني فأجلسناه و فتح عينيه وقال:

ص: 277

أين الشخص الّذي كان عندي؟ فقلنا: خرج من حيث أتي فقال: اطلبوه فذهبنا في أثره فوجدنا الأبواب مغلّقة ولم نجد له أثراً فعُدنا إليه فأخبرناه بحاله وأنّا لم نجده، و سألناه عنه، فقال: هذا صاحب الأمر ثمَّ عاد إلى ثقله في المرض واُغمي عليه(1).

يُستفاد من سند الرواية أنّ الحادثة وقعت في بدايات القرن الهجري السادس.

ويبدو أنّ الشيخ الكوفي الزاهد كان يطلب لقاء الإمام - عجّل الله فرجه- وأنّ الإقبال على صالحات الأعمال من الوسائل المهمّة للفوز برضا الإمام - وفيه رضا الله تعالی - وبالتالي الفوز بلقائهِ. أمّا الشريف عمر بن حمزة فيظهر أنّه كانت له مكانة مرموقة بين الإمامية إلّا أنّ فيه إعوجاجاً ليس عن عنادأو إصرار بل عن جهل أزاله الإمام بلقائهِ به و أثّر فيه ذلك كما هو واضح من بكائه عند حديث الإمام (علیه السّلام) ، و واضحٌ أنّ لاهتداء مثل هذا الشخص ذي المكانة المرموقة آثاراً مهمّة على الآخرين.

4. وللشيخ الفقيه الزاهد ورّام نفسه رواية مع صاحب الزمان

عجّل الله فرجه - تكشف عن أنّه - رضوان الله عليه - كان على اتّصال بالإمام (علیه السّلام) ، فقد نقل سبطه السيد الجليل علي بن طاووس المجمع على جلالته و وثاقته و صدور الكرامات عنه في كتابه الموسوم ب«فرج المهموم» و ضمن حديثه عن طائفةٍ ممّن شاهدوا المهدي - عجّل الله فرجه - من معاصریه، قال(رحمه الله) : ومن ذلك ما حدّثني به الرشيد أبوالعبّاس بن میمون الواسطيّ ونحن مصعدون إلى سامرّاء قال: لمّا توجّه الشيخ يعني جدّي ورّام بن أبي فراس قدّس الله روحه من الحلّة متألّماً من المغازي وأقام بالمشهد المقدّس بمقابر قريش شهرين إلّا سبعة أيّام قال: فتوجّهت من واسط إلى سرّ من رأي وكان البرد شدیداً فاجتمعت مع الشيخ بالمشهد الكاظميّ و عرّفته عزمي على الزّيارة فقال لي: اُريد اُنفذ إليك رقعة تشدّها في تكّة لباسك - فشددتها أنا في لباسي- فإذا وصلتَ إلى القبّة الشريفة، ويكون دخولك في أوّل الليل ولم يبق عندك أحد، وكنت آخر من

ص: 278


1- بحار الأنوار، ج 52، ص 55.

يخرج فاجعل الرُّقعة عند القبّة فإذا جئت بكرة ولم تجد الرقعة فلا تقل لأحد شيئاً.

قال: ففعلت ما أمرني وجئت بكرة فلم أجد الرقعة وانحدرت إلى أهلي وكان الشيخ قد سبقني إلى أهله على اختياره فلمّا جئت في أوان الزّيارة ولقيته في منزله بالحلّة قال لي: تلك الحاجة انقضت.

قال أبو العبّاس: ولم اُحدِّث بهذا الحديث قبلك أحداً منذ توفّي الشيخ إلى الآن وكان له منذ مات ثلاثون سنة تقريباً(1).

و اُسلوب الاتّصال بالإمام (علیه السّلام) بواسطة «الرقع» والرسائل مأثور عن الأئمّة الأطهار وقد رويت في ذلك عدّة أحاديث شريفة وقد رواها السيد ابن طاووس في كشف المحجّة(2) والرواية المتقدّمة أحد موارد تصدیق نجاح هذه الوسيلة الارتباطيّة.

5. وقد نصّ بعض العلماء(3) على أنّ الطريق كانت مفتوحة أمام السيد ابن طاووس للالتقاء بالإمام - عجّل الله فرجه - استناداً إلى إشارات وردت في كتبه خاصّة كتابه القيّم «کشف المحجّة لثمرة المهجة» وهو عبارة عن وصيّة طويلة كتبها لولده في أواخر عمره الشريف وقد اشتملت على الكثير من الفوائد العقائدية والأخلاقية القيّمة.

قال - رضوان الله عليه - في أواخر كتابه مهج الدعوات: «كنت أنا بسرَّ من رأى فسمعت سَحَراً دعاء القائم (علیه السّلام) فحفظت من دعائه لمن ذكره الأحياء والأموات و أبقهم أو قال: وأحيهم في عزَّنا و ملكنا أو سلطاننا و دولتنا وكان ذلك في ليلة الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وستّمائة» (4).

والدعاء للمؤمنين من مظاهر رأفة الإمام(علیه السّلام) بهم، وقد وردت عدّة روایات علّم

ص: 279


1- المصدر السابق، ج 52، ص 54.
2- کشف المحجّة، ص 211.
3- آية الله الميرزا حسين النوري خاتمة المحدّثين في رسالة جنّة المأوى المطبوعة مع بحار الأنوار، ج 53، ص 304.
4- مهج الدعوات، للسيد ابن طاووس، ص 296.

فيها المؤمنين طائفةً من الأدعية للخلاص من المحن.

6. وروى الشيخ التقي الثقة علي بن عيسى الأربلي الّذي وصفه الحرّ العاملي في كتابه «أمل الآمل» بأنّه كان «عالماً فاضلاً محدّثاً ثقة شاعراً أديباً، منشئاً، جامعاً الفضائل والمحاسن» و «كان وزيراً لبعض الملوك وكان ذا ثروة وشوكة عظيمة فترك الوزارة واشتغل بالتأليف والتصنيف والعبادة والرياضة في آخر أمره» وكتابه «کشف الغمّة في معرفة الأئمة (علیهم السّلام) » من المصادر الموثّقة بين الفريقين وقد وصف بأنّه «خیر كتاب في خير موضوع فائق على كثير ما ألف في هذا الموضوع». وهو من أعلام القرن الهجري السابع وقد توفّي سنة (693ه)(1).

قال(رحمه الله) في هذا الكتاب: وحكى لي السيّد باقي بن عطوة الحسني أنّ أباه عطوة کان، آدر، وكان زيديّ المذهب وكان ينكر على بنيه الميل إلى مذهب الإماميّة و يقول: لا اُصدِّقكم ولا أقول بمذهبكم، حتّى يجيء صاحبکم، يعني المهدي(علیه السّلام) فيبروني من هذا المرض، و تكرّر هذا القول منه.

فبينا نحن مجتمعون عند وقت العشاء الآخرة إذا أبونا يصيح ويستغيث بنا فأتيناه سراعاً فقال: الحقوا صاحبكم الساعة خرج من عندي، فخرجنا فلم نر أحداً فعدنا إليه وسألناه فقال: إنّه دخل إلىَّ شخص وقال: يا عطوة فقلت: من أنت؟ فقال: أنا صاحب بنيك قد جئت لاُبرئك ممّا بك ثمَّ مدَّ يده فعصر (قروتي) و مشی ومددت يدي فلم أر لها أثراً.

قال لي ولده: وبقي مثل الغزال ليس به (آدر)، واشتهرت هذه القصّة وسألت عنها غير ابنه فأخبر عنها.

والأخبار عنه(علیه السّلام) في هذا الباب كثيرة وأنّه رآه جماعة قد انقطعوا في طريق الحجاز و غيرها، فخلّصهم وأوصلهم إلى حيث أرادوا، ولولا التطویل لذكرت منها

ص: 280


1- راجع ملخّص ترجمته في تبصرة الولي، ص 234، الهامش.

جملة، و لكن هذا القدر الّذي قرب عهده من زماني كاف(1).

والآدر: هو من به الأدرة، وهي حالة مرضية تنتج من إنفتاق الصفاق ويحدث إنتفاخ في الصفن نتيجة لذلك. و واضح أنّ مجيء الإمام(علیه السّلام) لهذا السيد وإذهاب مرضه عنه باذن الله، هو انتصار للمذهب الحقّ في هذا التحدّي المتكرّر من السيد عطوة الحسني؛ وإضافة للآثار المحمودة لهذا الانتصار على الآخرين، فإنّ فيه أيضاً هداية للسيد عطوة إلى الصراط المستقيم.

وأمّا ما أشار إليه الشيخ علي بن عیسی من كثرة الأخبار بشأن إغاثته(علیه السّلام) للمنقطعين في الصحاري والطرق، فهو من الاُمور المشهورة الّتي اشتملت عليها الكثير من الأدلّة المصرّحة بقيام الإمام بنفسه - سلام الله عليه - بمهمّة الإغاثة، وقد تحدّث آية الله الميرزا حسين النوري خاتم المحدّثين في كتابه القيّم «النجم الثاقب» عن طائفة من الأدلّة الروائيّة المؤيّدة لهذه الحقيقة.

7. والعلّامة الحلي الحسن بن یوسف بن المطهر هو أحد أبرز علماء الإمامية على الإطلاق و عَلَم أعلامهم في القرن الهجري الثامن، وقد رویت بشأن نشاطه العلمي حادثتان کان للإمام المهدي - عجّل الله فرجه به حضورٌ فيهما، نذكرهما معاً لأهميّة

دلالاتهما.

الأولى نقلها الشيخ الفاضل علي بن إبراهيم المازندراني المعاصر للشيخ البهائي و السيد الشهيد الثالث القاضي التستري صاحب إحقاق الحقّ في مجالس المؤمنین، قال ما ملخّصه أنّه اشتهر بين أهل الإيمان أنّ بعض علماء العامّة ألّف كتاباً اشتمل على شبهات بشأن عقائد الإمامية وكان يقرأه على الناس في مجالسه و يُضلّهم به، فسعی العلّامة الحلّي أن يأخذه منه ليردّ عليه لكنّ الرجل كان يرفض إعارته لأحد من الإماميّة خشية من الردّ عليه، فاتّخذ العلّامة تلمّذه على الرجل في بعض الفنون وسيلة

ص: 281


1- کشف الغمّة، ج 2، ص 497؛ بحار الأنوار، ج 52، ص 65.

لاستعارته منه، فاستحيى الرجل من ردّه لكنّه قال: إنّي آليت على نفسي أن لا اُعطيه أحداً أزيد من ليلة، فأخذه العلّامة واشتغل باستنساخ الكتاب حتى تعب و غلبه النوم فحضر الإمام الحجّة عجّل الله فرجه . وقال للعلّامة: ولّني الكتاب وخذ في نومك، فلمّا انتبه العلّامة وجد الكتاب وقد تمّ استنساخه بإعجاز الإمام(علیه السّلام) (1).

أمّا الحادثة الثانية فقد نقلها المرحوم الميرزا التنكابني في كتابه «قصص العلماء» نقلاً عن صاحب المناهل الفقيه الجليل السيد محمّد المجاهد، و ملخّصها أنّ العلّامة الحلّي التقى صاحب الزمان عجّل الله فرجه - في طريقه لزيارة سيّدالشهداء (علیه السّلام) وهو لا يعرفه ولكن لمّا وجد سعة علمه أخذ يسأله جملة من المسائل الفقهيّة، فأفتي فيها بما أنكره العلّامة وقال - مع سعة اطّلاعه على الأحاديث .: ليس لدينا حديث يطابق هذه الفتوى، فأخبره الإمام (علیه السّلام) بوجود الحديث في تهذيب الشيخ الطوسي وذكر له الصفحة والسطر، ثمّ سأله عن رؤية المهدي - عجّل الله فرجه - في غيبته الكبرى فقال الإمام (علیه السّلام) وكان قد وضع يده في يد العلّامة - : كيف لا يمكن رؤية صاحب الأمر في حين أنّ يده في يدك!، فهوی العلّامة يريد تقبيل أقدام الإمام، فاُغمي عليه فلمّا أفاق لم يرَ أحداً، ثمّ عاد إلى منزله و بحث عن الحديث في كتاب التهذيب فوجده في المكان الّذي حدّده الإمام فكتب على حاشية الكتاب: «هذا الحديث الّذي أشار إليه صاحب الأمر(علیه السّلام) بذكر الصفحة والسطر». ونقل المرحوم التنکابني عن الآخوند المولى اللاهيجي تلميذ السيد المجاهد أنّه رأى نسخة كتاب التهذيب المذكورة وفي حاشيته خطّ العلّامة الحلّي وعبارته المذكورة(2).

و دلالة الروايتين واضحة في تسديد الإمام المهدي - عجّل الله فرجه - للعلماء العاملين في نشاطهم لترويج المذهب الحقّ والإسلام النقي والدفاع عنه، وكذلك في

ص: 282


1- مجالس المؤمنین، ج 1، ص 573؛ جنة المأوى، ج 53، ص 252 و هامشها.
2- قصص العلماء، ص 359 (الطبعة الفارسية).

نشاطهم العلمي لمعرفة أحكامه، وهذا من المهامّ الأساسية للإمام المعصوم في عصر.

على أنّ في الرواية الثانية تصريحاً من الإمام - عجّل الله فرجه - بشأن إمكانية رؤيته(علیه السّلام) في غيبته.

8. العلّامة المولى أحمد الأردبيلي الشهير بالمقدّس الأردبيلي صاحب کتاب «مجمع الفائدة والبرهان» المتوفّي سنة (993ه) و هو من كبار العلماء و أحد أعلام الإمامية في غزارة علمه و شدّة تقواه و رسوخ ورعه، وقد اشتهرت قصّة لقائِهِ بالإمام المهدي - عجّل الله فرجه - المعروفة في مسجد الكوفة واستفساره منه عن إحدى المسائل العلمية الدينية الّتي اشتبه عليه واقع الأمر فيها، وقد نقلها المحدِّث الجزائري في الأنوار النعمانية عمّن وصفه بأنّه : «أوثق مشایخي علماً وعملاً» عن أحد تلامذة السيد الأردبيلي اسمه میر غلام من أهل تفرش، كان على مرتبة سامية من العلم و الورع.

والحادثة واضحة الدلالة في تسديد صاحب الزمان(علیه السّلام) للعلماء العاملين و ثقات الأتقياء في نشاطهم العلمي لمعرفة حقائق الدين وإيصالها للناس(1).

9.كتب المحدّث التقي الشيخ عبّاس القمي - رضوان الله عليه - في كتاب الفوائد الرضوية في تراجم علماء الإمامية في ترجمة الفقيه الجليل السيد مهدي بحرالعلوم (1155 - 1212ه) الموصوف في كتب التراجم بكلّ جميل قائلاً: «ما تواتر نقله عنه

رضوان الله عليه - أنّه تشرّف مراراً برؤية صاحب العصر - عجّل الله فرجه -، [و] نقل عنه کرامات باهرة إلى الحدّ الّذي جعل صاحب الجواهر يقول عنه: صاحب الكرامات الباهرة والمعجزات القاهرة...»(2) .

وقد نقل الميرزا النوري في جنّة المأوى طائفة من روايات التقاء السيد بحرالعلوم

ص: 283


1- راجع تفصيل الحادثة في الأنوار النعمانية، للسيّد نعمة الله الجزائري، ج 2، ص 303.
2- الفوائد الرضويّة، ص 676.

بالإمام(علیه السّلام) ، نكتفي بالإشارة إلى واحدة منها ترتبط بالسنين الّتي قضاها السيدبحرالعلوم في مكّة المكرّمة لأمرٍ يرتبط بإعمار المسجد الحرام وحفظ معالمه الأصيلة وتشتمل هذه الرواية على تقديم دعم مالي وفير من الإمام - سلام الله عليه - للسيد بعد أن نفذت نفقته، وفيها دلالة على تنوّع الدعم الّذي يقدّمه الإمام لثقات العلماء العاملين في نشاطاتهم لحفظ الدين ومعالمه(1).

10. وثمة روايات اُخرى تدلّ على الأمر نفسه، منها ما يرتبط بالدعم المالي الّذي يسّره (علیه السّلام)لآية الله العظمى الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي في تأسيس حوزة قم العلمية وحفظها عن طريق جهود الفقيه الورع آية الله الشيخ محمّد تقي البافقي اليزدي وهو من أعلام العلماء المجاهدين في القرن الأخير الّذي تحلّى بدرجة عالية من الشجاعة والثبات في حفظ الدين وقيمه في مواجهة خطط الطاغية رضا بهلوي لتمييع القيم الدينية وكان الإمام الخميني يُكِنُّ له احتراماً خاصّاً و رويت عنه عدّة روایات بشأن فوزه بلقاء صاحب الزمان عجّل الله فرجه - لا يسع المقام لذكرها وبعضها يرتبط بتوفير الدعم المالي بهدف حفظ حوزة قم المقدّسة(2).

ص: 284


1- رسالة جنّة المأوى المطبوعة مع البحار، ج 53، ص 237.
2- راجع في تفصيل كلّ ذلك الكتاب الّذي كتبه عن حياته تلميذه المؤرّخ آية الله الشيخ محمّد الرازي والكتاب يحمل اسم «الشيخ محمّد تقي البافقي - المجاهد في سبيل الله في القرن الرابع عشر، وهو بالفارسية.

الخلاصة

دلّت الوقائع التاريخيّة المتعدّدة والمتواترة إجمالاً على مدى القرون

المتطاولة في عصر الغيبية الكبرى على إمكان الرؤية و الالتقاء بالإمام (علیه السّلام)

بل قد تحقّق ذلك لأصنافٍ من المؤمنين وقضاء حوائجهم وإبلاغهم التوجيهات الّتي كان يرى الإمام (علیه السّلام) لزوم إيصالها إلى المؤمنين.

الأسئلة

1. هل هناك أدلّة تأريخيّة على تحقّق رؤية المذنبين للإمام (علیه السّلام) في عصرالغيبة الكبرى؟ اذكر بعضها، ثمّ بين أهداف ونتائج هذه الرؤية؟

2.كيف توفّق (تجمع) بين النصّ الدالّ على تكذيب مدّعي الرؤية وبين الأدلّة التأريخيّة الدالّة على تحقّق الرؤية في عصر الغيبة الكبرى؟

ص: 285

الدرس 30 : تراث الإمام (علیه السّلام) في عصر الغيبة الكبرى

رسالته (علیه السّلام) إلى الشيخ المفيد

رسالته (علیه السّلام) إلى الشيخ المفيد(1)

للأخ السديد و الولي الرشيد الشيخ المفيد أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن النعمان أدام الله إعزازه، من مستودع العهد المأخوذ على العباد.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ، أَمَّا بَعْدُ سَلَامٌ عَلَیْکَ أَیُّهَا الْوَلِیُّ الْمُخْلِصُ فِی الدِّینِ الْمَخْصُوصُ فِینَا بِالْیَقِینِ فَإِنَّا نَحْمَدُ إِلَیْکَ اللَّهَ الَّذِی لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَ نَسْأَلُهُ الصَّلَاهَ عَلَى سَیِّدِنَا وَ مَوْلَانَا وَ نَبِیِّنَا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّاهِرِینَ.

وَ نُعْلِمُکَ- أَدَامَ اللَّهُ تَوْفِیقَکَ لِنُصْرَهِ الْحَقِّ وَ أَجْزَلَ مَثُوبَتَکَ عَلَى نُطْقِکَ عَنَّا بِالصِّدْقِ- أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَنَا فِی تَشْرِیفِکَ بِالْمُکَاتَبَهِ وَ تَکْلِیفِکَ مَا تُؤَدِّیهِ عَنَّا إِلَى مَوَالِینَا قِبَلَکَ أَعَزَّهُمُ اللَّهُ بِطَاعَتِهِ وَ کَفَاهُمُ الْمُهِمَّ بِرِعَایَتِهِ لَهُمْ وَ حِرَاسَتِهِ.

فَقِد أَمدَکَ اللَّهُ بِعَوْنِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ الْمَارِقِینَ مِنْ دِینِهِ- عَلَى مَا تذْکُرُهُ وَ اعْمَلْ فِی تَأْدِیَتِهِ إِلَى مَنْ تَسْکُنُ إِلَیْهِ بِمَا نَرْسِمُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

نَحْنُ وَ إِنْ کُنَّا نَائِینَ بِمَکَانِنَا النَّائِی عَنْ مَسَاکِنِ الظَّالِمِینَ- حَسَبَ الَّذِی أَرَانَاهُ اللَّهُ

ص: 286


1- أبومنصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسی، الاحتجاج، ج 2، ص 322، طبع النجف، 1386 ه

تَعَالَى لَنَا مِنَ الصَّلَاحِ وَ لِشِیعَتِنَا الْمُؤْمِنِینَ فِی ذَلِکَ مَا دَامَتْ دَوْلَهُ الدُّنْیَا لِلْفَاسِقِینَ- فَإِنَّا نُحِیطُ عِلْماً بِأَنْبَائِکُمْ. وَ لَا یَعْزُبُ عَنَّا شَیْ ءٌ مِنْ أَخْبَارِکُمْ- وَ مَعْرِفَتُنَا بِالذُّلِّ الَّذِی أَصَابَکُمْ مُذْجَنَحَ کَثِیرٌ مِنْکُمْ إِلَى مَا کَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَنْهُ شَاسِعاً، وَ نَبَذُوا الْعَهْدَ الْمَأْخُوذَ وَراءَ ظُهُورِهِمْ کَأَنَّهُمْ لا یَعْلَمُونَ.

إِنَّا غَیْرُ مُهْمِلِینَ لِمُرَاعَاتِکُمْ، وَ لَا نَاسِینَ لِذِکْرِکُمْ وَ لَوْ لَا ذَلِکَ لَنَزَلَ بِکُمُ اللَّأْوَاءُ(1) وَ اصْطَلَمَکُمُ(2) الْأَعْدَاءُ فَاتَّقُوا اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ وَ ظَاهِرُونَا عَلَى انْتِیَاشِکُمْ مِنْ فِتْنَهٍ(3) قَدْ أَنَافَتْ عَلَیْکُمْ(4)، یَهْلِکُ فِیهَا مَنْ حُمَّ أَجَلُهُ(5) وَ یُحْمَى عَنْهَا مَنْ أَدْرَکَ أَمَلَهُ وَ هِیَ أَمَارَهٌ لِأُزُوفِ(6) حَرَکَتِنَا بِأَمْرِنَا وَ نَهْیِنَا وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ کَرِهَ الکافرون.

اعْتَصِمُوا بِالتَّقِیَّهِ، مِنْ شَبِّ نَارِ الْجَاهِلِیَّهِ یُحَشِّشُهَا(7) عَصَبٌاً أُمَوِیَّهٌ، یَهُولُ بِهَا فِرْقَهً مَهْدِیَّهً.

أَنَا زَعِیمٌ بِنَجَاهِ مَنْ لَمْ یَرُمْ فِیهَا الْمَوَاطِنَ الخفیّة، وَ سَلَکَ فِی الطَّعْنِ مِنْهَا السُّبُلَ الْمَرْضِیَّهَ.

إِذَا حَلَّ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَتِکُمْ هَذِهِ، فَاعْتَبِرُوا بِمَا یَحْدُثُ فِیهِ وَ اسْتَیْقِظُوا مِنْ رَقْدَتِکُمْ لِمَا یَکُونُ فِی الَّذِی یَلِیهِا، سَتَظْهَرُ لَکُمْ مِنَ السَّمَاءِ آیَهٌ جَلِیَّهٌ- وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلُهَا بِالسَّوِیَّهِ وَ یَحْدُثُ فِی أَرْضِ الْمَشْرِقِ مَا یَحْزُنُ وَ یُقْلِقُ وَ یَغْلِبُ مِنْ بَعْدُ عَلَى الْعِرَاقِ طَوَائِفُ عَنِ الْإِسْلَامِ مُرَّاقٌ تَضِیقُ بِسُوءِ فِعَالِهِمْ عَلَى أَهْلِهِ الْأَرْزَاقُ ثُمَّ تَنْفَرِجُ الْغُمَّهُ مِنْ

ص: 287


1- الأوراء: الشدّة وضيق المعيشة.
2- اصطلمه: استأصله.
3- انتاشه من الهلكة: أنقذه.
4- أناف على الشيء: طال وارتفع عليه.
5- حمّ أجله: قرب.
6- الازُوف: الاقتراب.
7- حشى النار: ارقدها و هيجها.

بَعْدُ بِبَوَارِ طَاغُوتٍ مِنَ الْأَشْرَارِ ثُمَّ یُسَرُّ بِهَلَاکِهِ الْمُتَّقُونَ الْأَخْیَارُ وَ یَتَّفِقُ لِمُرِیدِی الْحَجِّ مِنَ الْآفَاقِ مَا یُؤَمِّلُونَهُ مِنْهُ عَلَى تَوْفِیرٍ غلَیْهِ مِنْهُمْ وَ اتِّفَاقٍ، وَ لَنَا فِی تَیْسِیرِ حَجِّهِمْ عَلَى الِاخْتِیَارِ مِنْهُمْ وَ الْوِفَاقِ شَأْنٌ یَظْهَرُ عَلَى نِظَامٍ وَ اتِّسَاقٍ فَلْیَعْمَلْ کُلُّ امْرِئٍ مِنْکُمْ بِمَا یَقْرُبُ بِهِ مِنْ مَحَبَّتِنَا، وَ یَتَجَنَّبُ مَا یُدْنِیهِ مِنْ کَرَاهَتِنَا وَ سَخَطِنَا ،فَإِنَّ أَمْرَنَا بَغْتَهٌ فُجَاءَهٌ حِینَ لَا تَنْفَعُهُ تَوْبَهٌ وَ لَا یُنْجِیهِ مِنْ عِقَابِنَا نَدَمٌ عَلَى حَوْبَهٍ، وَ اللَّهُ یُلْهِمُکُمُ الرُّشْدَ وَ یَلْطُفُ لَکُمْ فِی التَّوْفِیقِ بِرَحْمَتِهِ.

نُسْخَهُ التَّوْقِیعِ بِالْیَدِ الْعُلْیَا عَلَى صَاحِبِهَا السَّلَامُ

رسالة ثانية للشيخ المفيد

رسالة ثانية للشيخ المفيد (1)

من عبدالله المرابط في سبيله إلى ملهَمِ الحقّ و دلیلهِ(2).

بِسمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ ، سَلامُ اللَّهِ عَلَيكَ أيُّهَا النّاصِرُ لِلحَقِّ ، الدّاعي إلَيهِ بِكَلِمَةِ الصِّدقِ.

فَإِنّنا نَحمَدُ اللَّهَ إلَيكَ الَّذي لا إله إِلّا هُوَ ، إلهُنا وإلهُ آبائِنَا الأَوَّلينَ ، ونَسأَلُهُ الصَّلاةَ وسَيِّدِنا ومَولانا مُحَمَّدٍ خاتَمِ النَّبِيّينَ ، وعَلى أهلِ بَيتِهِ الطّاهِرينَ .

وبَعدُ ، فَقَد كُنّا نَظَرنا مُناجاتَكَ عَصَمَكَ اللَّهُ بِالسَّبَبِ الَّذي وَهَبَهُ اللَّهُ لَكَ مِن أولِيائِهِ ، وحَرَسَكَ بِهِ مِن كَيدِ أعدائِهِ ، وشَفَّعَنا ذلِكَ(3) الآنَ مِن مُستَقَرٍّ لَنا يُنصَبُ في شِمراخٍ ، مِن بَهماءَ(4) صِرنا إلَيهِ آنِفاً مِن غَماليلَ (5)، ألجَأَنا إلَيهِ السَّباريتُ (6) مِنَ الإِيمانِ(7) ، ويوشِكُ أن

ص: 288


1- الاحتجاج، ج 2، ص 324 - 325.
2- الإمام یقصد نفسه من (عبدالله المرابط فی سبیله) کما یقصد المفید من(ملهم الحق و دلیله).
3- أي شفعنا مناجاتك، فدعمناها من الموقع الّذي نحن فيه.
4- شمراخ: هو العذق عليه بسر أو عنب. رأس الجبل.أعالي السحاب. والبهماء: المشكلة المبهمة. الصحراء. وإذا فسّرنا اليهماء بالصحراء و فسرنا الشمراخ برأس الجبل يكون المعنى أنّ الإمام اختار مسکنه في قمّة جبل في صحراء ومن هناك دعم مناجاة المفيد.
5- الغماليل: الاُمور المستورة المتراكبة.
6- السباریت: المساكين.
7- وهذا النصّ قد يدلّ على أنّ سلبيات بعض الشيعة تنعكس على الإمام فيضطرّ إلى تغيير بعض أوضاعه السكنية والإجتماعيّة.

يَكونَ هُبوطُنا إلى ضَحضَحٍ(1) مِن غَيرِ بُعدٍ مِنَ الدَّهرِ ولا تَطاوُلٍ مِنَ الزَّمانِ ، ويَأتيكَ نَبَأٌ مِنّا بِما يَتَجَدَّدُ لَنا مِن حالٍ(2) ، فَتَعرِفُ بِذلِكَ ما یعتمد (نَعتَمِدُهُ) مِنَ الزُّلفَةِ إِلَينا بِالأَعمالِ ، وَاللَّهُ مُوَفِّقُكَ لِذلِكَ بِرَحمَتِهِ .

فلتكن - حرسك الله بعينه الّتي لا تنام - أن تقابل بذلك فتنة تُبسِلُ نفوسَ قومٍ حرثت باطلاً لاسترهاب المبطلين (3) يبتهج لدمارها المؤمنون، ويحزن لذلك المجرمون.

و آية حركتنا من هذه اللوثة(4) حادثة بالحرم المعظّم، من رجس منافق مذمّم ستحلّ للدم المحرّم، يعمد بكيده أهل الإيمان، ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان، لأنّنا من وراء حفظهم بالدعاء الّذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء(5) فلتطمئنّ بذلك من أوليائنا القلوب، وليتّقوا بالكفاية منه وإن راعتهم بهم الخطوب، والعاقبة - بجمیل صنع الله سبحانه - تكون حميدة ما اجتنبوا المنهي عنه من الذنوب.

ص: 289


1- الضحضح: الماء اليسير.
2- وهذا النصّ يدلّ على أنّ الشيخ المفيد سيبقى على اتّصال بالإمام بعد تأريخ هذه الرسالة.
3- تبسل نفوس قوم: توردها الهلكة، و استرهاب المبطلين: تخويفهم، وربّما المعنى أنّ جانبي الفتنة من أهل الباطل، فتترك دماراً يفرح به المؤمنون ويحزن المجرمون.
4- اللوئة - بالضم - الاسترخاء والبطؤ، ومنه (التأثت راحلته): أبطأت في سيرها، وفي الحديث (إنّ النفس قد تلتأت على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه) المعنى قد تضطرب ولم تنبعث مع صاحبها - مجمع البحرین. ولعل المقصود من (اللوثة): الغيبة، و من (حركتنا) : الظهور، والحرم المعظّم هو المسجد الحرام، فتكون حادثة المسجد الحرام من علامات الظهور.
5- الحوادث التي وقعت في المسجد الحرام عديدة، فلا نستطيع التأكّد من الحادثة التي يعنيها الإمام هنا.

ونحن نعهد إليك أيّها الوليّ المخلص المجاهد فينا الظّالمين أيّدك الله بنصره الّذي أيّد به السلف من أوليائنا الصالحين: إنّه من اتّقى ربّه من إخوانك في الدين، وأخرج ممّا عليه إلى مستحقّيه، كان آمناً في الفتنة المبطلة، و محنها المظلمة المضلّة، و من بخل منهم بما أعاده الله من نعمته على من أمره بصلته، فإنّه يكون خاسراً بذلك لأُولاه و آخرته(1).

ولو أنّ أشیاعنا وفّقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لمّا تأخّر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقّ المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلّا ما يتّصل بنا ممّا نكرهه ولا نؤثره منهم(2) والله المستعان، و هو حسبنا ونعم الوكيل، وصلواته على سيّدنا البشير النذير محمّد و آله الطاهرین و سلّم.

وكتب في غرّة شوّال من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.

نسخة التوقيع باليد العليا صلوات الله على صاحبها

ص: 290


1- هذا النصّ عهد من الإمام المهدي(علیه السّلام) بأنّ دفع الحقوق الشرعيّة ضمان للأمن من المحنة في الدنيا والفتنة في الدين، وأنّ البخل بها يُعرّض الدنيا والآخرة للبوار. ولعلّ سبب تشديد الإمام المهدي في هذه الرسالة، وفي التوقيع الّذي رواه أبو الحسن الأسدي، وفي أجوبته على أسئلة الحميري و غيره: أنّ العنصر الاقتصادي أهمّ العناصر في استمرار الحركة الدينية - في غيبته - بعد العنصر البشري.
2- المعنى الظاهر لهذه العبارة: أنّ عدم اجتماع قلوب الشيعة على الوفاء بالعهد الّذي أخذه الله عليهم هو الّذي يؤدّي إلى تأخير الظهور، ولو اجتمعت قلوب العدد الكافي منهم على التضحية المخلصة في سبيل الله بما لا يقلّ عن ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلاً يظهر الإمام المهدي(علیه السّلام) ، ولكن عدم توفّر مثل هذا العدد حتّى الآن في المستوى المطلوب - هو الّذي أدّى إلى بقاء الإمام المهدي(علیه السّلام) رهن الغيبة. ويحتمل أن يكون المعنى: أنّ مشاهدة الإمام على حق المعرفة يتوقّف على إخلاص القلب للوفاء بالعهد و طهارته من الذنوب.

هذا كتابنا إليك أيّها الوليّ المُلهَمُ للحقّ العليّ(1) بإملائنا و خطّ ثقتنا، فأخفه عن كلّ أحد، و اطوه واجعل له نسخة عليها من تسكن إلى أمانته من أوليائنا، شملهم الله ببركاتنا إن شاء الله.

الحمد لله والصلاة على سيّدنا محمّد النبيّ و آله الطاهرین.

دعاء الفرج

اِلهى عَظُمَ الْبَلاءُ وَ بَرِحَ الْخَفآءُ، وَ انْکَشَفَ الْغِطآءُ،وَ انْقَطَعَ الرَّجآءُ، وَ ضاقَتِ الاَرْضُ وَ مُنِعَتِ السَّمآءُ،وَ اَنْتَ الْمُسْتَعانُ وَ اِلَیْکَ الْمُشْتَکى وَ عَلَیْکَ الْمُعَوَّلُ فِى الشِّدَّةِ وَ الرَّخآءِ.

اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَ الِ مُحَمَّداُولِى الاَمْرِ الَّذینَ فَرَضْتَ عَلَیْنا طاعَتَهُمْ وَ عَرَّفْتَنا بِذلِکَ مَنْزِلَتَهُمْ ،فَفَرِّجْ عَنّا بِحَقِّهِمْ فَرَجاً عاجِلا قَریباً کَلَمْحِ الْبَصَرِ اَوْ هُوَ اَقْرَبُ. یا مُحَمَّدُ یا عَلِىُّ یا عَلِىُّ یا مُحَمَّدُ اِکْفِیانى فَاِنَّکُما کافِیانِ، وَ انْصُرانى فَاِنَّکُما ناصِرانِ، یا مَوْلانا یا صاحِب الزَّمانِ،الْغَوْثَ الْغَوْثَ الْغَوْثَ، اَدْرِکْنى اَدْرِکْنى اَدْرِکْنى،السّاعَةَ السّاعَةَ السّاعَةَ، الْعَجَلَ الْعَجَلَ الْعَجَلَ،یا اَرْحَمَ الرّاحِمینَ بِحَقِّ مُحَمَّد وَ الِهِ الطّاهِرینَ(2)

ص: 291


1- يظهر من هاتين الرسالتين مدى تعظيم الإمام المهدي (علیه السّلام) للمخلصين من أوليائه. وقد كان دأب آبائه المهديين، كما قال ضرار لمعاوية ابن أبي سفيان - في وصف الإمام علي (علیه السّلام): «... يعظّم أهل الدين، و يحبّ المساكين». . ولعلّ الإمام المهدي كان يؤدّي عملاً تربوياً من خلال مدحه للشيخ المفيد، ليشعره بأنّه في هذا المستوى فعليه أن يحرص على أن يرتفع لا أن ينحدر، والتعظيم يصعد النابهين كما يغرّ التافهين.
2- مفاتیح الجنان، ص112.

الخلاصة

تدلّ الرسالتان اللتان صدرتا من الناحية المقدّسة على مدّعی اهتمام الإمام المهدي(علیه السّلام) 3 بنوابّه و شیعته وانّه يتدخّل لحلّ معضلاتهم وتأييدهم وتسديدهم وتكامل مسيرتهم - إذا اقتضت المصلحة الإلهية ذلك.

والاهتمام بدعاء الفرج تعبير آخر عن توجيههم الوجهة المطلوبة بتعجيل الفرج والانتظار المستمر حتى يتحقّق النصر الإلهي على يديه.

الأسئلة

1. ما هي أهمّ المحاور في رسالة الإمام (علیه السّلام) الاُولى للشيخ المفيد؟

2. ما هي أهمّ المحاور في رسالته الثانية؟

3. قارن بين موضوعات الرسالتين.

4.ما هي دلالة الرسالتين في مجال رعاية الإمام (علیه السّلام) للجماعة الصالحة؟

5. ما هي المفاهيم الأساسية الّتي جاءت في دعاء الفرج؟

ص: 292

الدرس 31: شرائط الظهور و علاماته (1)

الظروف الموضوعية لانتهاء الغيبة الكبرى

اشارة

وفي هذا الموضوع يتمّ البحث في عدّة جهات:

الجهة الاُولى

في الفرق بين شرائط الظهور وعلاماته:

فمن شرائط الظهور وجود العدد الكافي من المخلصين الممحَّصين الغزو العالم بالحق والهدی.

وسنعرف من علائم الظهور وجود الدجّال والخسف و غيرها.

ويشترك هذان المفهومان - الشرائط والعلائم - بأنّهما معاً ممّا يجب تحقّقه قبل الظهور، ولا يمكن أن يوجد قبل تحقّق كلّ الشرائط والعلامات. فان تحقّقه قبل ذلك، مستلزم لتحقّق المشروط قبل وجود شرطه أو الغاية قبل الوسيلة؛ كما أنّه مستلزم الكذب العلامات الّتي أحرز صدقها و توافرها.

فلابد أن يوجدا معاً قبل الظهور، خلال عصر الغيبة الكبرى. وبالرغم من نقاط الاشتراك هذه، فإنّ بينهما من نقاط الاختلاف ما لابدّ لنا من بيانها بشكل يتّضح الفرق

ص: 293

بين المفهومين بشكل أساسي.

الفرق الأوّل: إنّ إناطة الظهور بالشرائط إناطة واقعية وبتمام تحقّقها يتحقّق الظهور. وهذا هو الفرق الأساسي المستفاد من نفس مفهوم اللفظين، الشرط والعلامة - فان معنى الشرط في الفلسفة، ما كان له بالنتيجة علامة عليّة و سببيّة لزوميّة بحيث

يستحيل وجوده بدونه.

وهذا هو الّذي نجده على وجه التعيين في شرائط الظهور، فإنّنا سنرى إنّ انعدام بعض الشرائط يقتضي انعدام الظهور أساساً بحيث لا يعقل تحقّقه، وانعدام بعضها الآخر يقتضي فشله و من ثَمّ عدم إمكان نشر العدل الكامل المستهدف في التخطيط الإلهي الكبير. فلابدّ أوّلاً من اجتماع الشرائط لكي يمكن تحقّق الظهور ونجاحه.

أمّا العلامة، فليس لها دخل سوى الدلالة والإعلام والكشف عن وقوع الظهور بعدها، ومثالها هيجان الطيور الدالّ على وقوع المطر أو العاصفة بعده من دون إمكان أن يقال: إنّ العاصفة لايمكن أن تقع بدون هیجان الطيور.

بل يمكن وقوعها، بطبيعة الحال، وإن كانت قد لا تنفك عن ذلك في كلّ عاصفة.

ومعه فتنبثق ضرورة وجود العلامة قبل الظهور، بصفتها دليلاً كاشفاً عن وقوعه لا بصفتها ذات ارتباط واقعي لزومي، كما كان الحال في شرائط الظهور.

نعم، ينبغي أن نأخذ بنظر الاعتبار، نقطة واحدة، وهي أنّ بعض العلامات، کوجود الدجّال، وقتل النفس الزكيّة، مربوطة ارتباطاً عضوياً بالشرائط.

بمعنى أنّ هذه العلامات من مسبّبات ونتائج عصر الفتن والانحراف الّذي هو سبب التمحيص الّذي هو سبب ایجاد أحد شرائط الظهور.

الفرق الثاني: إنّ علامات الظهور عبارة عن عدّة أحداث، قد تكون مبعثرة، ولابدّ من وجود ترابط واقعي بينها، سوی كونها سابقة على الظهور، الأمر الّذي برّر جعلها علامة للظهور في الأدلّة الإسلاميّة.

و أمّا شرائط الظهور، فلها - باعتبار التخطيط الإلهي الطويل - ترابط سببي و مسبّبي

ص: 294

واقعي، سواء نظرنا إلى ظرف وجودها قبل الظهور، أو نظرنا إلى ظرف إنتاجها قبل الظهور.

الفرق الثالث: إنّ العلامات قد لا تجتمع أصلاً في أيّ زمان بل يحدث أحدهاوينتهي، ثمّ يبدأ الآخر في زمان متأخّر.. وهكذا. كما أنّها قد تجتمع صدفة أحياناً، فهي حوادث مبعثرة في الزمان كما أنّها مبعثرة بحسب الربط الواقعي.

وأمّا الشروط، فلابدّ أن تجتمع في نهاية المطاف، فإنّها توجد تدريجاً، إلّا أنّ الشرط الّذي يحدث يستمر في البقاء، ولايمكن - في منطق التخطيط الإلهي - أن يزول، فعندما يحدث الشرط الآخر، يبقى مواكباً للشرط الأول، وهكذا تتجمع الشرائط و تتجمع في نهاية المطاف، في اللحظة الأخيرة من عصر الغيبة.

الفرق الرابع: إن العلامات تحدث و تنفذ بأجمعها قبل الظهور. في حين أنّ الشرائط لاتوجد بشكل متكامل إلّا قبيل الظهور أو عند الظهور. ولا يمكن أن تنفذ، وإلّا لزم انفصال الشرط عن مشروطه و النتائج عن المقدّمات، و هو مستحيل.

والسرّ في ذلك كامن في الفرق بين النتائج المتوخّاة من وراء كلا المفهومين. فإنّ العلامات بصفتها دلالات وكواشف عن الظهور، فإنّ وظيفتها سوف تنتهي عند حدوثه، ولا يبقى لها أي معنى بعده، وأمّا الشروط فحيث أنّها دخيلة في التسبّب إلى وجود يوم الظهور وإلى تحقّق النصر فيه.

الفرق الخامس: إنّ شرائط الظهور دخيلة في التخطيط الإلهي، ومأخوذة بنظر الاعتبار فيه؛ باعتبار توقّف اليوم الموعود عليه. بل إنّنا عرفنا: أنّ البشرية كلّها من أوّل ولادتها إلى يوم الظهور، کرّسها التخطيط الإلهي، لإيجاد يوم الظهور.

وأمّا العلامات، فليس لها أيّ دخل من هذا القبيل؛ بل كلّ إنتاجها هو إعلام المسلمين و تهيئة الذهنية عندهم لاستقبال يوم الظهور و جعلهم مسبوقين بحدوثه في المستقبل أو بقرب حدوثه.

الفرق السادس: إنّ علامات الظهور، يمكن الانتباه أو الفحص والتدقيق، والتأكّد

ص: 295

ممّا وجد منها وما لم يوجد، باعتبارها حوادث يمكن تحديدها، و الإشارة إليها، و من هنا انبثقت دلالتها للمسلمين على قرب الظهور.

وأمّا الشرائط، فقد قلنا إجمالاً أنّه من المتعذّر تماماً التأكّد من اجتماعها.

و ذلك، لأنّ منها: حصول العدد الكافي من المخلصين الممحَّصين في العالم، وهذا ممّا لا يكاد يمكن التأكّد منه لأحد من الناس الاعتياديّين.

الجهة الثانية

ونحن إذ نتكلّم عن شرائط الظهور، إنّما نريد بها الشرائط الّتي يتوقّف عليها تنفيذ اليوم الموعود، ونشر العدل الكامل في العالم كلّه فيه، و ذلك اليوم الّذي يعتبر ظهور المهدي(علیه السّلام) الركن الأساسي لوجوده، و من ثَمّ يتحدّد ظهوره(علیه السّلام) بنفس تلك الشرائط، بالرغم من أنّ فكرة الغيبة والظهور إذا لاحظناها مجرّدة، لن نجدها منوطة بغير إرادة الله عزّوجلّ مباشرة ولكنّ الله تعالی أراد أن يتحدّد الظهور بنفس هذه الشرائط، لأجل إنجاح اليوم الموعود. لأنّ المهدي(علیه السّلام) مذخور لذلك، فيكون بين الأمرين ترابط عضوي وثيق.

وإذا نظرنا إلى هذا المستوى الشامل ارتفعت الشرائط إلى ثلاثة:

الشرط الأوّل: وجود الأطروحة العادلة الكاملة الّتي تمثِّل العدل المحض الواقعي، والقابلة التطبيق في كلّ الأمكنة والأزمنة، والّتي تضمن للبشرية جمعاء السعادة والرفاه في العاجل، والكمال البشري المنشود في الآجل.

بدون مثل هذه الاُطروحة يكون العدل الكامل منتفياً، وغير ممكن التطبيق.

وعليه فإنّ الهدف في الحقيقة هو تطبيق الاُطروحة العادلة الكاملة الّتي لا تحتوي على ظلم أو نقص.

وأن تكون هذه الأطروحة ناجزة عند الظهور، إذن مع عدمها يومئذ، ينتفي التطبيق بانتفائها ويتعذّر العدل المنشود في اليوم الموعود.

ص: 296

ولابدّ أن تكون هذه الاُطروحة معروفة ولو بمعالمها الرئيسية قبل البدء بتطبيقها، لما عرفنا في الحديث عن التخطيط الإلهي من أنّ تطبيقها يتوقّف على مرور الناس بخطّ طويل من التجربة والتمحيص عليها ليكونوا مُمرّنين على تقبّلها وتطبيقها، ولا يفاجؤهم أمرها، ويهولهم مضمونها و يصعب عليهم امتثالها فيفسد أمرها ويتعذّر نجاحها كما هو واضح.

الشرط الثاني: وجود القائد المحنّك الكبير الّذي له القابلية الكاملة لقيادة العالم كلّه ويتمّ الكلام حول هذا الشرط ضمن نقطتين:

النقطة الاُولى: يرجع هذا الشرط بالتحليل إلى شرطين:

أحدهما: اشتراط وجود القائد للثورة العالمية، حيث لا يمكن تحققّها من دون وجود قائد

ثانيهما: أن يكون لهذا القائد قابلية القيادة العالمية.

إلّا أنّنا يجب أن نلاحظ أنّ قيادة العالم و تطبيق الاُطروحة الكاملة من الدقّة والأهمّية بحيث تفوق بأضعاف مضاعفة قيادة أيّ دولة في العالم مهما كانت واسعة وكبيرة. ومن هنا كان للرأي العام - لأجل أن يكون کاملاً وقابلاً لهذه القيادة - أن يكون كلّ فرد من مكوّنيه بالرغم من نقصانه، ذو درجة عليا من الوعي والشعور بالمسؤولية والتدقيق في الاُمور، بحيث يحصل بانضمامه إلى غيره ذلك الرأي العام المتّفق عليه، القابل للقيادة، وهذه الصفة لم تصبح غالبة في الأفراد على طول الخطّ التأريخي الطويل لعمر البشرية تجاه أيّ مبدأ من المبادئ فضلاً عن العدل الكامل، وفي دولة محدودة، فضلاً عن أفراد البشريّة في دولة عالميّة.

وهذا أمر وجداني يعيشه كلّ فرد منّا بالنسبة إلى ملاحظة أنحاء الفشل والاضطرار إلى التعديلات المتوالية في الدول والسياسات العامّة، مهما كانت قيادتها شخصية أو جماعية، ولم تنجح أي ديمقراطيّة جماعيّة لحدّ الآن من الخطأ والزلل، بل العمد في أكثر الأحيان. وعلى أيّ حال، يستحيل علىّ عصر الفتن والانحراف، أن يوجد رأياً

ص: 297

عامّاً كاملاً عادلاً، يمكنه أن يقود العالم قيادة جماعية في اليوم الموعود.

الشرط الثالث: وجود الناصرين المؤازرين المنفِّذين بين يدي ذلك القائد الواحد ويتعيّن القول به، بعد نفي فرضيّتين:

الفرضية الاُولى: أن يفترض أنّ هذا الفرد الواحد، يغزو العالم بمفرده.

وهو واضح الامتناع والبطلان، مهما اُوتي الفرد من كمال عقلي و جسمي، بعد التجاوز عن الفرضية الآتية، و هو ايجاد المعجزة من أجل تحقيق النصر.

الفرضية الثانية: إنّ هذا القائد يغزو العالم عن طريق المعجزة، و يتلخّص ذلك فيما يلي:

1. أنّه لو كانت الدعوة الإلهية على طول التأريخ، قائمة على إيجاد المعجزات من أجل النصر، لما وجد على وجه الأرض منذ خلقت أيّ انحراف أو ضلال، ولما احتاج الأمر إلى قتال وجهاد، في حين أنّ الدعوة الإلهية قدّمت آلاف الأنبياء والعاملين بهديهم کشهداء في طريق الحقّ، بما فيهم الأئمّة المعصومون (علیهم السّلام) .

2. إنّ الدعوة الإلهية على طول الخط قد ارتكزت على التربية الاختيارية للفرد والاُمّة، على السواء.

و ذلك، أنّه بعد أن وهب الله تعالى للإنسان السمع والبصر والفؤاد يعني العقل والاختيار، وهداه النجدین: طريق الحقّ وطريق الباطل، وحمّله مسؤوليّة أعماله والأمانة الكبرى الّتي رفضت السماوات والأرض أن تحملها، وحملها الإنسان ويها تبدأ فكرة التمحيص.

ومن المعلوم أنّ الإيمان الممحَّص، ولو بشكله البسيط يكون أثمن و أرسخ من الإيمان القهري؛ فإنّه يتّصف بالضحالة والضعف وفي قلّة الاستجابات الصالحة المطلوبة من قِبَل الإنسان، وهذا الإيمان القهري يمكن أن ينتج من جوّ المعجزات.

إذن، فحيث تنتفي هاتان الفرضيتان، يتعيّن المطلوب، وهو احتياج القائد في تطبيق العدل على العالم إلى الناصرين والمؤيّدين لكي ينتشر الجهاد انتشاراً طبيعياً.

ص: 298

وتندرج في هذا الشرط، الصفات الأساسية الّتي يجب أن يتّصف بها هؤلاء المريدون، ليكون هذا الشرط في واقعه: وجود المؤيّدين على النحو المعيّن لا المؤيّدين كيف كان.

وأهمّ ما يشترط في هؤلاء المؤيّدين، شرطان متعاضدان، يكمّل أحدهما الآخر، ويندرج تحتهما سائر الأوصاف.

أحدهما: الوعي والشعور الحقيقي بأهمّية عدالة الهدف الّذي يسعى إليه، والاُطروحة الّتي يسعى إلى تطبيقها.

ثانيهما: الاستعداد للتضحية في سبيل هدفه، على أي مستوى اقتضته مصلحة ذلك الهدف.

وبمقدار ما يوجد في نفس الفرد من هاتين الصفتين، يكون الفرد، قابلاً للعمل الاجتماعي والجهاد في سبيل الحقّ.

وبمقدار ما يفقد الفرد من هاتين الصفتين، يكون عاجزاً عن العمل والجهاد مهما كان مخلصاً في تديّنه و لكنّه كان منعزلاً عن المجتمع.

ومن هنا، استهدف التخطيط الإلهي، إيجاد التمحيص الّذي يربّي الاُمّة التربية التدريجيّة البطيئة نحو إيجاد هذين الشرطين، وتكاملهما في نفوس الأفراد بحيث يكونون قابلين لقيادة العالم، فيحقّقون هذا الشرط الثالث.

قد يقال بلزوم شرط رابع لتطبيق الاُطروحة العادلة الكاملة في اليوم الموعود، و هو وجود قواعد شعبية كافية ذات مستوى مطلوب من حيث الوعي والتضحية من أجل هذا التطبيق، لتكون هي رائده الأول في اليوم الموعود.

فإنّ المخلصين الممحَّصين الذين يتوفّر فيهم الشرط الثالث، يمثّلون الطليعة الواعية الغزو العالم، وأمّا تطبيق الاُطروحة فيحتاج إلى عدد أكبر من القواعد الشعبية الكافية ليكونوا هم المُثُل الصالحة لتطبيق الاُطروحة العادلة الكاملة في العالم.

ص: 299

الجهة الثالثة

يتأكّد توفّر الشرط الثالث، باعتبار وضوح توفّر سائر الشروط في دعوته(علیه السّلام) ، وعدم وجود بوادر انخرامها إلّا فيما يعود إلى هذا الشرط، فإنّ دعوته مبدئيّة ذات قيادة، و هو بشخصه القائد، ونلاحظ أميرالمؤمنين (علیه السّلام) كان يعاني من توفّر الشرط الثالث، حيث نراه في العهد الأخير من خلافته يخاطب أصحابه بأنّهم ملأوا قلبه قيحاً ويتمّنى إبدالهم بخير من صرف الدينار بالدرهم، وهذا راجع في حقيقته والتأسّف من ضعف الشرط الثالث يومئذ وعدم توفّره بالنحو المطلوب، للظروف الّتي كان يعيشها المجتمع يومئذ.

وحينما تولّى الإمام الحسن (علیه السّلام) مركز الخلافة، والقيادة، وحاول مناجزة القتال للجهاز المنحرف الحاكم، تفرّق عنه جيشه، واستطاع معاوية شراء ضمائر قادة الإمام (علیه السّلام) واحداً بعد واحدٍ، حتّى لم يبقَ معه(علیه السّلام) من جيشه ناصر؛ فاضطرّ إلى الصلح مع معاوية، وهذا في واقعه، رجوع إلى المحافظة على الدعوة المبدئيّة بعد انخرام الشرط الثالث، أو الرجوع إلى التقيّة بعد عدم وجودالناصرين المؤيّدين ويأتي بعده دور الإمام الحسين بن علي(علیه السّلام) ، فتأتيه مئات الكتب من العراق، من الناصرين المؤيّدين الثائرين على الحكم الأموي المنحرف؛ فتتوفّر له الحجّة بوجود الناصر -أعني الشرط الثالث - بعد توفّر الشرائط الاُخرى، فيشعر بوجوب قيامه بالدعوة الإلهية والثورة الطلب الاصلاح في أمّة جدّه رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) كما قال هو(علیه السّلام)(1).

1. ويأتي دور الأئمّة المعصومين (علیهم السّلام) المتأخّرين عن الإمام الحسين (علیه السّلام) فيبدأ عصر الهدنة، كما سُمّي بذلك من قبلهم (علیهم السّلام)، وذلك باعتبار عدم توفّر الشرط الثالث و انعدام الناصرين المخلصين أو قلّتهم عن المقدار الكافي للثورة.

ص: 300


1- مقتل الحسين المقوم، ص 139.

ويتّضح ذلك بجلاء من موقف الإمام الصادق (علیه السّلام) تجاه مبعوث الثورة الخراسانية إليه، الّذي كان يقول له بأنّ الثائرين هناك من أصحابه و مؤيّديه فلماذا لا يقوم بالجهاد والمطالبة بحقّه في الحكم المباشر، قائلاً: یابن رسول الله لكم الرأفة والرحمة، و أنتم أهل بيت الإمامة، ما الّذي يمنعك أن يكون لك حقّ تقعد عنه، و أنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف.

فقال له(علیه السّلام) : اجلس یا خراساني رعى الله حقّك، ثمّ قال: يا حنيفة أسجري التنوّر، فسجرته حتّى صار کالجمرة و ابيضّ علوّه، ثمّ قال: يا خراساني! قم فاجلس في التنّور. فقال الخراساني: ياسيدي يا ابن رسول الله لا تعذّبني بالنار، أقلني أقالك الله، قال (علیه السّلام): أقلتك.

قال الراوي - و هو حاضر في ذلك المجلس - فبينما نحن كذلك، إذ أقبل هارون المكّي، ونعله في سبّابته، فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله، فقال له الصادق(علیه السّلام) : ألق نعلك من يدك واجلس في التنور، قال: فألقى النعل من سبابته، ثمّ جلس في التنور. وبعد هنيئة التفت إليه الإمام (علیه السّلام)، وقال: كم تجد بخراسان مثل هذا؟ فقال: والله ولا واحداً. فقال: أما إنّا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت(1).

ص: 301


1- بحار الأنوار، ج 11، ص 139 عن المناقب لابن شهر آشوب.

الخلاصة

إنّ الحديث عن الظروف الموضوعية لانتهاء مرحلة الغيبة الكبری وبده مرحلة اُخرى - وهي ظهور الإمام (علیه السّلام) . يعني الحديث عن شروط وعلامات تواترت الروايات الكثيرة بذكرها تمهيداً لتربية الشخصية الإسلاميّة على دلالاتها لتعيشها على امتداد هذا التأريخ الّذي تناولته المباحث المتعدّدة منتظرة ومتوقّعة لهذه المرحلة في كلّ آن حتّى اليوم الموعود.

ووفقاً لذلك لابدّ من التعرّف على المراد بالشروط و الفرق بينها وبين العلامات ليتّضح لنا المراد بها في تضاعيف البحث، ولفهم الروايات الّتي تضمّنتها.

فالشرط معناه ما كان له بالنتيجة شيء يدلّ عليه وسببّية لزوميّة بحيث يستحيل وجوده بدونها، مثل وجود العدد الكافي من المخلصين الممحصين لنصرة الإمام (علیه السّلام).

وأمّا العلامة فليس لها سوى دلالة الإعلام والكشف عن وقوع الظهور بعدها، و من العلائم وجود الدجّال و الخسف بالبيداء و غيرها.

ثمّة فروق متعدّدة بين الشرط والعلامة تميّز بينهما.

ص: 302

الأسئلة

1. ماذا نعني بشروط الظهور؟

2. ماذا يُقصد بعلامات الظهور؟

3. عدّد الفروق بين العلائم والشروط؟

4. ما هو الهدف من مرحلة الظهور؟

5. إذکر دور القائد في الثورة العالميّة؟ وما هي مواصفاته لهذه المهمّة؟

6. ماذا يتطلّب تحقّق وجود الناصرين المؤازرين بين يدي القائد من أجل إنجاح ثورته العالميّة.

ص: 303

الدرس 32 علامات الظهور (2)

اشارة

إن الروايات الّتي تدلّ على حدوث دلائل و علامات معيّنة في مستقبل الزمان، على ثلاثة أقسام: ۔

القسم الأوّل: يتعلّق بظهور المهدي (علیه السّلام) بنصّ الرواية، كما هو الحال في الأعمّ الأغلب من أخبار المصادر الإمامية، حيث کُرِّست كلّها تقريباً لذلك وقلّ فيها التعرّض لعلامات الساعة الّتي تحدث بعد الظهور.

القسم الثاني: ما ورد مربوطاً بالساعة وقيام يوم القيامة، وهو الأعمّ الأغلب من أخبار المصادر العامّة، حيث لم يرتبط بظهور المهدي(علیه السّلام) منها إلّا القليل نسبيّاً.

القسم الثالث: ما ورد مهملاً من الناحيتين السابقتين. بمعنی تکفّل الرواية لبيان حدوث الحادثة من دون أن يفهم منها ارتباطها بالظهور وبقيام الساعة.

فما ورد مرتبطاً بالمهدي(علیه السّلام) بشكل مباشر أو غير مباشر، ممّا حدث أو لم يحدث، هو في حقيقته من علامات قيام الساعة أيضاً، باعتبار ما قلناه من أنّ مفهوم العلامة ليس إلّا الحادثة الّتي جعلت منبّهاً للناس عند حدوثها إلى حدوث ما يليها، وكاشفة عنه.

ومن المعلوم أنّ الحادثة المتقدّمة على الظهور والكاشفة عنه كاشفة عن

ص: 304

قيام الساعة أيضاً.

إذن فمن الصحيح أن تنسب علامات الظهور إلى الساعة، وتجعل علامات عليها كما ورد بالفعل في العديد من الروايات.

وما ورد مرتبطاً بالساعة بشكل غير مباشر ولا قريب، يمكن لنا جعله علامة على الظهور، بنفس اعتبار التقابل السابق.

وكذلك ما ورد مهملاً من الارتباط بالظهور والساعة، يمكن أن نجعله من علامات الظهور أيضاً.

ولا يبقى من علامات الساعة الخاصة بها، إلّا ما يقع قبل قيامها بقليل، بحسب الأخبار الدالّة عليها، وفي مثله يتعيّن أن يكون واقعاً بعد الظهور أيضاً:

هناك عدّة قرائن تدلّنا على تقدّم الأعم الأغلب من الحوادث الواردة في الأخبار، متقدّمة على الظهور، و تصلح أن تكون علامة عليه، وإن ورد في الأخبار مرتبطاً بقيام الساعة أو مهملاً عن الربط.

القرينة الاُولى: وجود الدليل التأريخي على وقوع الحادثة الّتي تنبّأت بها الرواية. فإنّ معنى ذلك تقدّمها على العصر الحاضر وهو دليل على تقدّمها على الظهور أيضاً، ومثاله التنبَّؤ بهلاك الدولة العبّاسية.

القرينة الثانية: ارتباط الحادثة بعصر الفتن والانحراف، کوجود الكذّابين والدجّال، وقد علمنا تقدّم عصر الفتن على الظهور، فيكون كلّ ما هو مرتبط بهذا العصر، متقدّم على الظهور أيضاً.

فإن قال قائل: فكيف علمنا بتقدّم عصر الفتن على الظهور، مع أنّ عدداً من الروايات السابقة الدالّة على انحراف الزمان، لم يكن مرتبطاً بظهور المهدي (علیه السّلام) بحسب صراحته و مدلوله المباشر، و هو الأعمّ الأغلب من روايات العامّة، فكيف نثبت تقدّم عصر الفتن على الظهور بشكل مطلق؟

قلنا: يمكن الجواب على ذلك في مستويين:

ص: 305

المستوى الأوّل: إنّ تقدّم عصر الفتن على الظهور، أو عصر الظلم على العدل من واضحات الإسلام، بل من واضحات كلّ من يؤمن باليوم الموعود القاطع للظلم، من أهل الأديان، إذن كلّ ما دلّ على وجود الانحراف، فهو خاص بما قبل الظهور.

المستوى الثاني: وجود عدد كبير من الروايات تربط الفتن والانحراف بما قبل الظهور بالصراحة والدلالة المباشرة، فتكون هذه الروايات قرينة على أنّ المراد من الروايات الاُخرى، نفس هذا المضمون أيضاً.

القرينة الثالثة: إن الحادثة الواحدة، كالخسف بالبيداء، مثلاً، يتكرّر ذكرها في عدّة روایات، منها ما هو مرتبط بالساعة، ومنها ما هو مرتبط بالمهدي(علیه السّلام) ، و منها ما هو مهمل. فيكون ما دل على ارتباطه بالمهدي(علیه السّلام) أي على تقدّمه على ظهوره، قرينة على باقي الروايات.

أمّا الروايات الّتي تذكر الحادثة مهملة عن الربط، فحملها واضح، لأنّه من باب حمل المطلق على المقيد، فكأنّ الأخبار المهملة ذكرت الحادثة مربوطة بعصر ما قبل الظهور أيضاً.

وأمّا الروايات الّتي تربط نفس الحادثة بقيام الساعة، وتجعلها من أماراتها فباعتبار أنّ هذا الارتباط يناسب البعد الزمني الكبير كما عرفنا، فيكون شاملاً لعصر ما قبل الظهور وما بعده.

القرينة الرابعة: قيام الدليل في كثير من الأحيان على تقدّم الحادثة المعيّنة على بعض الحوادث المتقدّمة على الظهور أو المعاصرة له، فيكون ذلك الدليل بنفسه كافياً لإثبات وقوع تلك الحادثة المعيّنة قبل الظهور.

مثاله: ما ثبت في الروايات من تقدّم وجود الدجّال على نزول المسيح الّذي هو بدوره معاصر مع الظهور، فيتعيّن أن يكون وجود الدجّال متقدّماً على الظهور، إلى غير ذلك من الأمثلة.

فبهذه القرائن ونحوها يثبت أنّ الأعمّ الأغلب ممّا رواه العامّة من الحوادث حال

ص: 306

كونها منسوبة و مرتبطة بقيام الساعة، هي في واقعها من علامات الظهور.

إنّ هذه القرائن الّتي ذكرناها لا تختصّ بتعيين زمن حدوث الحوادث بل تشمل بشكل وآخر، سائر الخصائص والتفاصيل المعطاة في الروايات، إذ يمكن على الدوام جعل بعض الروايات قرينة على بعض لاثبات شيء أو نفيه وخاصّة بعد الالتزام بالتشدّد السندي.

ويمكن أن ينظر إلى العلامات وانقسامها بالنسبة للظهور:

الأوّل: ما كان مندرجاً في التخطيط الإلهي و قريباً من الظهور كقتل النفس الزكية، لو ثبت دلیل نقله.

الثاني: ما كان مندرجاً في هذا التخطيط وبعيداً عن عصر الظهور، کوجود دولة العباسيّين والحروب الصليبيّة.

الثالث: ما كان أمراً تكوينياً قريباً من الظهور، کالكسوف والخسوف المشار إليه.

الرابع: ما كان أمراً تكوينيّاً بعيداً عن عصر الظهور، كالذي ورد في الأخبار من حصول الفيضانات و وجود أسراب الجراد و شحّة الأمطار في عصر الغيبة الكبری.

و تكون هذه العلامة مطابقة للقواعد الأوّليّة، ولابدّ من الالتزام بها سواء ورد ذكرها في الروايات أو لا. بعد أن تمّ البرهان على وجود التخطيط الإلهي وصحّته، وهذه هي المزيّة الرئيسيّة لهذا الشكل من الروايات عن غيرها.

و أمّا بالنسبة إلى الحوادث التكوينية الّتي بشّرت الروايات بوقوعها قبل الظهور، ولو بزمن طويل. فالسرّ الأساسي في كشفها عن الظهور وكونها علامة عليه، هو أنّ النبي الأكرم (صلّی الله علیه وآله وسلّم) والأئمّة الأطهار (علیهم السّلام) يختارون بعض الحوادث الكبرى الملفتة للنظر ممّا يعلمون وقوعها في المستقبل بالوحي أو بالإلهام فيخبرون بها مرتبطاً بالظهور، فيثبت بالقطع واليقين صدق الإخبار بالظهور وهذا هو معنی کاشفيّتها عن الظهور، وكونها علامة عليه.

وأما بالنسبة إلى الحوادث الكونيّة القريبة من الظهور، بحسب دلالة الأخبار، فالسرّ

ص: 307

الأساسي في دلالتها على الظهور هو أنّ الله تعالى يوجد بعض الحوادث الكونية بشكل خاص لأجل أن تصبح علامة على الظهور، لأجل إلفات نظر الناس إلى الظهور، وخاصة أولئك المخلصين الممحَّصين الذين كانوا ولا زالوا ينتظرون الظهور.

مناقشة علامات الظهور

بعض الإشكالات الّتي قد ترد على علامات الظهور ونذكر أهمّها:

الإشكال الأوّل: إنّ بعض العلامات المذكورة في الأخبار متضمّنة للمعجزات وخوارق الطبيعة. وهي ممّا لا يمكن حدوثها، ومعه لابدّ من الاقتصار على مايقع بشكل طبيعي من العلامات.

والجواب عن ذلك:

أنّ قانون المعجزات هو الحكم الفصل في ذلك. وبتطبيقه على العلامات نعرف أنّ كلّ علامة كانت واردة بشكل منحصر في مقام إقامة الحجّة من قِبَل الله تعالى على البشر، فهي ممكنة الوقوع بل ضرورية لا محالة، ومطابقة للقواعد العامة المبرهن على صحّتها في الإسلام.

وإن لم تكن العلامة المنقولة واقعة في هذا السبيل، لم تكن مطابقة للقاعدة ولزم رفض دليلها ما لم يكن قطعيّاً، وليس في الإسلام دلیل قطعي يدلّ على ذلك.

وإذا تصفّحنا العلامات، لم نجد منها ما هو قائم على أساس إعجازي غير بعض الحوادث الكونية السابقة على الظهور، کالكسوف والخسوف في غير أوانه والصيحة.

الإشكال الثاني: إنّ كلّ علامات الظهور تتضمّن إخبار بالمستقبل، فكيف يمكن أن نتأكّد من صحّتها، مع أنّه لا يمكن للبشر الاطّلاع على المستقبل.

والجواب على ذلك:

إنّه لا يمكن الإخبار بالمستقبل إلّا عن طريق التعليم من قبل علّام الغيوب جلّ شأنه، إمّا بالوحي أو بما يمتّ إليه بصلة بواسطة أو بوسائط كما كانت عليه صفة

ص: 308

النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم)ه والأئمّة المعصومين من بعده، على ما هو الثابت في عقيدة الإسلام.

إذن، فمادام المعصوم(علیه السّلام) عارفاً بحدوث المستقبل، أمكنه الإخبار بها بطبيعة الحال.

و معه، فليس علينا إلّا أن ننظر إلى ما وَصَلَنا من هذه الأخبار فإن كانت إثباتاً تأريخياً كافياً للعلامة المعيّنة، أمكن الأخذ به بطبيعة الحال. وإلّا لزم رفضه لأنّه غير كاف للإثبات، لا لكونه موضعاً للمناقشة في أساسه النظري.

الإشكال الثالث: إنّ علامات الظهور، كما تكون منبّهة للمخلصين الممحَّصين المؤيّدين للمهدي(علیه السّلام) ، فتُعِدُّهم نفسياً لاستقباله و مؤازرته، كذلك تكون العلامات منبّهة لأعداء المهدي (علیه السّلام) الذين من المحتمل أن يعدّوا العدّة ضدّه، وخاصّة إذا حدثت العلامات القريبة من الظهور، في يوم من الأيّام، فيكون هذا التنبيه ضدّ مصلحة اليوم الموعود، كما هو واضح، فكيف كان ذلك؟!

والجواب على هذا الإشكال يتمّ على عدّة مستويات:

المستوى الأوّل: أنّنا إذا لاحظنا ما عليه البشر اليوم، بل على مدى الخطّ التأريخي، وجدنا أنّ هذا الإشكال غير ذي موضوع بالنسبة إلى أيّ فرد منهم.

أمّا منكروا اليوم الموعود و منکروا وجود المهدي أساساً، باعتبار الاتّجاه المادّي أو غيره، فهم بطبيعة الحال ينكرون علائم الظهور، جملة وتفصيلاً، ولا يعتبرون شيئاً من الحوادث كاشفاً عنه أو دالّاً عليه. وهم في نهاية الشوط لا يتوقّعون الظهور لكي يستعدّوا ضدّه بعدّة أو عدد .

وأمّا المعترفون باليوم الموعود من أهل الأديان المختلفة، فليس عندهم علامات له ولم يلتفتوا إلى أيّ تقديمات إليه أو كواشف عنه، و معه يكون حالهم في عدم توقّع الظهور حال منکریه.

ومثلهم من هذه الجهة، المسلمون المنحرفون الذين ساروا على أساس مادّي أو مصلحي في انحرافاتهم في عصر الفتن والانحراف، ولا يبقى - بعد ذلك - إلّا

ص: 309

المسلمون المخلصون الذين يعتقدون بالمهدي (علیه السّلام) وينتظرون ظهوره، وهم على إحاطة ذهنيّة كاملة بالعلامات فهم الذين تلفتهم الحوادث إلى يوم الظهور.

المستوى الثاني: إنّ هؤلاء المنحرفين أو الكافرين الذين يخشى من التفاتهم إلى علائم الظهور، لن يلتفتوا إليها، وإن عرفوا مجملاً أنّ هناك أخباراً تدلّ على ذلك.

إنّ هؤلاء حتى لو صادف أن اطّلعوا على بعض الأخبار الناقلة لعلامات الظهور أو سمعوها من الأفواه، فسوف لن يأخذوا منها محصَّلاً واضحاً أو دليلاً موثوقاً، بعدما عرفنا من اكتنافها بالرمزيّة، وسيرها طبقاً لفهم الناس المعاصرين لعصور الصدور.

مضافاً إلى تحقيق السند و تذلیل سائر المشكلات الّتي يحتاج تذليلها إلى فهم مترابط متكامل، و هو ممّا يفقده الأعمّ الأغلب من البشر وحيث لا يفهم الفرد المراد، لم يستطع تطبيق العلامة المخبر عنها.

الخلاصة

تنقسم العلامات المستقبليّة إلى علامات ما قبل الظهور وعلامات الظهور وعلامات قيام الساعة (ما بعد الظهور).

و لقرب مقام الساعة من الظهور إذا ما قيس إلى تأریخ ما قبل الظهور تكون علائم قيام الساعة علائم للظهور أيضاً.

و هناك إشكالات قد ورد علىعلامات الظهور ولكن بالإمكان الإجابة

عنها كما جاء في نصّ البحث.

ص: 310

الدرس 33: علامات الظهور (3)

في الحوادث الّتي دلّنا التأريخ على حدوثها

إنّ النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) أو أحد الأئمة (علیه السّلام) حين يخبر بوقوع بعض الحوادث قبل وقوعها، مرتبطة

بالمهدي (علیه السّلام) أو غير مرتبطة به، فتحدث هذه الحوادث فعلاً. فنجدها ونحن في العصر المتأخّر، وقد حدثت وانتهت و سمعنا التنبُّؤ بوقوعها أيضاً . و حينئيذٍ - فأكبر القرائن على صدق هذه الروايات هو حدوث الاُمور الّتي أخبرت بحدوثها. ما لم يقم دلیل خارجي على عدم صحّتها في بعض الأحيان.

ومن الطريف أنّ بعض التنبّؤات قد قالها النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) وسجّلها أتباع أهل البيت (علیهم السّلام) في مصادرهم، قبل حدوث الحادثة المطلوبة، ثمّ حدثت الحادثة فعلاً باليقين.

وما دلَّ الدليل على حدوثه ممّا ورد التنبّؤ بحدوثه عدّة أمور:

الأمر الأوّل: اخبار النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بانحراف القيادة الإسلاميّة بعده.

قال (صلّی الله علیه وآله وسلّم) : يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنّون بسنّتي وسيقوم فيهم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين، في جثمان إنس.

وأخرجت الصحاح الاُخرى - الترمذي وابن ماجة وأحمد والحاكم - مثل ذلك.

الأمر الثاني: اخبار النبي(صلّی الله علیه وآله وسلّم) أو أحد الأئمة (علیهم السّلام) عن شؤون دولة بني العبّاس.

ص: 311

فمن ذلك: ما رواه النعماني في غيبته، عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ، إنّه التفت إلى العبّاس فقال:

ياعمّ ألا أخبرك بما خبّرني به جبرئیل؟ فقال : بلى يارسول الله، قال: قال لي: ويل الذريتك من ولد العباس. فقال يا رسول الله، أفلا أجتنب النساء، فقال: قد فرغ الله ممّا هو كائن.

ودولة بني العبّاس، واضحة للعيان في التأريخ، وما وقع بينها وبين أولاد علي وفاطمة (علیها السّلام) - أولاد النبي عليه وعليهم الصلاة والسلام - من الخلاف و ما ذاقوه من بني العبّاس من التشريد والمطاردة و التعسّف، أوضح من أن يذكر و أشهر من أن يسطّر، كما أنّ ثورات العلويين عليهم الّتي تعدّ بالعشرات خلال تأريخهم الطويل، معروف موصوف.

وكالخبر الّذي ورد عن الإمام الباقر(علیه السّلام) في حديث أنّه قال: ثمّ يملك بنو العبّاس فلا يزالون في عنفوان من الملك و غضارة من العيش، حتى يختلفوا فيما بينهم، فإذا اختلفوا ذهب ملكهم(1).

ودولة العباسيين اُسّست بعد وفاة الإمام الباقر(علیه السّلام) بثمانية عشر عاماً حيث توفّي (علیه السّلام) سنة 114ه و تولّی أبوالعبّاس السفّاح، أوّل ملوك بني العبّاس سنة 132ه.

وقد بدأ نجمهم بالأفول عند سيطرة الأتراك على الحكم ثمّ انعزلوا تماماً عن المشاركة الفعلية في الحكم في عصر البويهيين و عصر السلاجقة. حتّى إذا لم يبق للخلافة أيّ هيبة أو قيادة و تضارب المجتمع المسلم في داخله أصبح طعمة سائغة لهجمات التتار بقيادة هولاكو المغولي، حيث سقط آخر خلفائهم عبدالله المستعصم بالله سنة 656ه(2).

كما ورد التنبّؤ باختلاف أهل المشرق والمغرب، كالذي ورد عن الإمام الباقر(علیه السّلام)

ص: 312


1- غيبة النعماني، ص 139.
2- دلیل خارطة بغداد، ص 277.

أيضاً في نفس الحديث حيث قال: «واختلف أهل المشرق والمغرب».

التنبؤ بثورة صاحب الزنج

أخرج الصدوق في الإكمال(1) عن ابن عبّاس عن رسول الله عن الله عزّوجلّ في بعض كلامه مع رسوله في المعراج، حيث جعل ذلك من علامات الظهور فقال:

«و خراب البصرة على يد رجل من ذرّيّتك يتبعه الزنوج».

وقال في الإرشاد(2): «وقد جاءت الآثار بذكر علامات الزمان قيام القائم المهدي(علیه السّلام) وعدد عدداً كبيراً منها، إلى أن قال: «و خروج العبيد عن طاعة ساداتهم و قتلهم مواليهم».

وكل ذلك ممّا حدث بالفعل على يد صاحب الزنج.

اسمه علي بن محمّد، زعم أنّه علوي، ولم يكن على ما يذكر التاريخ - كذلك، فإنّ نسبه في عبد قيس و أمّه من بني أسد بن خزيمة.

وعلى أي حال فرواية الصدوق تؤیّد کونه علويّاً، على حين نجد الإمام العسكري برواية ابن شهرآشوب(3)، ينفي ذلك و يقول: «و صاحب الزنج ليس منّا أهل البيت».

إخبار النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بوقوع الحروب الصليبية

وذلك: فيما أخرجه أبو داود وابن ماجة في صحيحيهما بألفاظ متقاربة عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، واللفظ لأبي داود:

«ستصالحون الروم صلحاً آمناً، فتغزون أنتم وهم عدوّاً من ورائكم فتُنصرون

ص: 313


1- إكمال الدین، ج 1، ص 251 - 252.
2- الإرشاد، ص 337.
3- المناقب، ج 3، ص 529.

و تغنمون و تسلمون، ثمّ ترجعون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول. فيرجع رجل من أهل الصليب. فيقول غلب الصليب فيغضب رجل من المسلمين فيدقّه، فعند ذلك تغدر الروم و تجتمع للملحمة». .

وأضاف أبوداود بسند آخر: «و يثور المسلمون إلى أسلحتهم، فيقتلون، فيكرّم الله تلك العصابة بالشهادة».

وأمّا ابن ماجة فأضاف إلى الحديث الأوّل بسند ثان:

«فيأتون تحت ثمانين، تحت كلّ غاية اثنا عشر ألفاً».

وهذا الحديث الشريف مطابق كلّ المطابقة مع فترة التأريخ الإسلامي.

وقد قلنا: إنّ أوّل دليل على صحّة الأخبار وقوع ما أخبر به، وهذا الحديث من أوضح مصاديق ذلك، لأنّ مضمونه واقع في التأريخ بالقطع واليقين.

وإنّ هذا الحديث الشريف لا يحتمل فيه ذلك لأنّه صدر عن النبي(صلّی الله علیه وآله وسلّم) في صدرالإسلام.

ومن هنا يمكن أن يعتبر ذلك من المعجزات الّتي تؤيّد عقيدة الإسلام، و صدق کلام النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ، وأنّه لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحيٌ يوحي. فضلاً عن إسنادها لفكرة وجود المهدي(علیه السّلام) .

ولعلّ أوضح الحوادث صراحة في ذلك ما حدث سنة 375 ه على مايحدّثنا التأريخ(1). من أنّه وقع اختلاف بين ملوك الروم مع بعضهم فاستنجد بعض منهم بملوك الإسلام وذلك البعض هو «ورد» الرومي، وكان من أكابر رؤسائهم وقوّاد جيوشهم و عظماء بطارقتهم فطمع في الملك و لا قدرة له على قتال المتنازعين، فكاتب أباتغلب بن حمدان أمير حلب والموصل نيابة عن الخليفة، واستنجد به وصاهره، فأجابه ابن حمدان و استجاش بالمسلمين من الثغور فحصل له جيش ضخم، فقصد قتال الروم

ص: 314


1- الفتوحات الإسلاميّة، ج 1، ص 347.

بذلك الجيش فأخرجوا له جيشاً بعد جيش وهو يهزمهم، فقوی جنانه فقصد القسطنطينيّة، و مع تلك الجيوش «ورد» الرومي الطالب التملّك القسطنطينيّة.

فانظر كيف اتّفق هذا الحمداني والرومي على حرب بقية الروم وانتصراعليهم، كما قال النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ، وإن لم يدم هذا النصر طويلاً، فإنّه حين أراد فتح مدينة القسطنطينيّة جمعوا له جيوشاً كثيرة وقاتلوه قتالاً شديداً حتّى انهزم(1).

فتح القسطنطينيّة

أخرج مسلم: أنّ رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) قال:

«لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جیش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، إلى أن يقول: فيفتحون القسطنطينيّة».

وهذا ما تحقّق فعلاً، بعد عدّة قرون من تسجيله في المصادر الحديثيّة فضلاً عن زمن التنبّؤ به من قِبَل النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) . فيكون من هذه الناحية كما قلنا في التنبّؤ بالحروب الصليبية على مستوى المعجزات.

وأمّا المهدي (علیه السّلام) فسوف يفتحها مرّة أُخرى إلّا أنّه سوف يأخذها من المسلمين المنحرفين كما يأخذ سائر البلاد الإسلاميّة و غيرها.

وإنّما ذكرت في الأخبار لأهميّتها الجغرافية و استراتيجيّتها العسكريّة.

علامات أخرى متحقّقة

أوّلاً: مقتل الحسني.

ثانياً: اختلاف بني العبّاس في الملك الدنيوي.

ثالثاً: إقبال رايات سود من قبل خراسان.

ص: 315


1- الفتوحات الإسلامية، ج 1، ص 347.

رابعاً: ظهور المغربي بمصر وتملّكه الشامات.

خامساً: نزول الترك الجزيرة.

سادساً: نزول الروم بالرملة.

سابعاً: خلع العرب أعنتها و تملّكها البلاد، وخروجها عن سلطان العجم.

ثامناً: ثبت في الفرات، حتّى يدخل الماء أزقّة الكوفة.

تاسعاً: عقد الجسر بما يلي الكرخ بمدينة بغداد.

عاشراً: اختلاف صنفين من العجم، وسفك دماء كثيرة فيما بينهم.

ص: 316

الخلاصة

إنّ الروايات الّتي تُحدّثنا عن علامات الظهور كانت على أوجه ثلاثة منها ما تحدّث أو ارتبط بظهور الإمام (علیه السّلام)، في حين أنّ الوجه الآخر كان يتضمّن ما هو مرتبط بقيام الساعة وإشراطها، كما أن بعض الروايات كانت تحمل التنبّؤ بحدوث الحادثة والعلامة دون أن تظهر متعلّقها بالساعة أو بالظهور، ويمكن أن تحمل الأوجه الثلاثة على بعضها، لأنّ الحادثة المتقدّمة على الظهور والكاشفة عنه تكون أيضاً كاشفة عن قيام الساعة كما يمكن أن تحمل أو توجّه العلامات الّتي تضمّنت الكشف عن يوم القيامة على الظهور، كما يمكن أن تحمل تلك العلامات الّتي لم يراد بها ذكر الظهور أو الساعة على الظهور، فالظهور قطعاً قبل الساعة من أشراطها وكثيرة هي الروايات الّتي أشارت إلى حصوله وحدوثه ولو بيوم قبل الساعة.

إنّ الحوادث الّتي تضمّنتها الروايات منها ما تحقّق وحدث فعلاً ومنها متوقّع الحدوث، فمنها ما كان لسانه يتحدّث عن قيام دولة بني العبّاس وقبلها الدولة الأموية، وحوادث أخرى في شرق الأرض وغربها، ولا يغفل في كلّ هذا أنّ الدور الأكبر في تحقّق هذه العلائم و ترابطها يعود إلى المخطّط الإلهي المتعلّق باليوم الموعود و ظهور الإمام (علیه السّلام) لإقامة دولة الحقّ.

ص: 317

الأسئلة

1. ماذا يُقصد بالعلامة وما هو دورها في الدلالة على ظهور الإمام (علیه السّلام) ؟

2. ما هي أقسام الروايات الّتي تحدّثت عن علائم الظهور؟

3. كيف يمكن حمل تلك الأقسام على بعضها فتكون علائم للظهور؟

4. هل تحقّقت بعض علائم الظهور الّتي تضمّنتها الروايات؟

5. اذكر بعض القرائن الّتي تساعد على حمل روایات الفتن والإنحراف على أنّها مرتبطة بالظهور؟

6. كيف ينظر إلى العلامات وانقسامها بالنسبة للظهور؟

7. ما هي الإشكالات الواردة على علائم الظهور؟ وكيف تجيب عنها؟

ص: 318

الدرس 34: الدولة الإسلامية في عصر الظهور

اشارة

إنّ دولة الإمام المنتظر(علیه السّلام) ، هي دولة الإسلام، تلك الدولة الّتي تتجسّد فيها تطبيقات التشريع الإسلامي كاملة عادلة، وفي مختلف مجالات الحياة، لدى الفرد والاُسرة، والمجتمع، والدولة.

والّتي تمثّلت في حكم نبيّنا محمّد (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، حينما أقام الدولة الإسلاميّة الاُولى في المدينة المنوّرة.

وهنا قد يتساءل: إنّ الظروف الزمانية والمكانية الّتي عاشتها دولة النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) وأحاطت بها، ولابستها، ربّما

اختلفت مع ظروف دولة الإمام المنتظر (علیه السّلام) ، وهذا قد يستدعي شيئاً من الاختلاف بين الدولتين؟

و هو تساؤل ينطوي على قدر من الوجاهة، وبخاصّة وأنّ التشريع الإسلامي المدوّن لم يحتوِ في الكثير من أنظمته على التفاصيل الوافية في بيان رسائل و أساليب التطبيقات للأحكام التشريعيّة في مجال الدولة، ولم يتضمّن في كثير من موادّه - دستوريّة ونظاميّة - إلّا الأحكام الكلّيّة والخطوط العامّة.

وإنّ الحياة قد قفزت في تطوّراتها المدنيّة قفزات هائلة وبعيدة، عادت معها تلكم

ص: 319

الوسائل والأساليب للقرون السالفة غير ذات أهمية.

إنّه تساؤل وجيه لما تقدّم، غير انّنا متى أدركنا أنّ للإمام المعصوم الكشف عن الأحكام الشرعية الإلهية الواقعية كالنبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، وليست المسألة لديه مسألة اجتهاد قد يصيب الواقع وقد يخطيء، وإنّما هي مسألة إدراك الأحكام الشرعية بواقعها(1) ولعلّه إلى هذا تشير الأحاديث المتضمّنة دعوة الإمام المنتظر(علیه السّلام) الناس إلى إسلام جدید، وهديهم إلى أمر قد دثر فضلَّ عنه الجمهور(2). ويؤيّده ما اشتهر عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) : أنّ الإسلام سيعود غريباً كما جاء غريباً(3).

إنّنا حينما ندرك ذلك لا يبقى لدينا أي مجال الأمثال هذا التساؤل، على أنّ الوسائل والأساليب خاصّة، هي موضوعات و الموضوعات تختلف تبعاً لتطوّر الحضارة والمدنية، فتتغيّر الأحكام وفقاً لتغيّر الموضوعات، وتغيّر الحكم تبعاً لتغيّر الموضوع شيء طبيعي في كلّ تشريع إسلامي أو غير إسلامي.

نعم، هناك فرق واحد بين دولة النبي(صلّی الله علیه وآله وسلّم) ودولة حفيده الإمام المنتظر (علیه السّلام) يرجع إلى طبيعة الظروف أيضاً ومساعدتها في إعداد الأجواء الكافية للتطبيق، وهو اتساع نفوذ الدولة السياسي.

ففي دولة النبي(صلّی الله علیه وآله وسلّم) لم يتّسع نفوذها السياسي اتّساعاً يشمل كلّ العالم، وإن كانت دولة النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) عالمية في أهمّ خصائصها إلّا أنّ الأجواء الاجتماعية والسياسية آنذاك لم تؤاتها ظروفها لتحقيق عالميّتها.

عالمية النفوذ السياسي

اشارة

أمّا دولة الإمام المنتظر(علیه السّلام) ، فالذي نقرأه في الأحاديث التنبّؤيّة عن

ص: 320


1- أصول الفقه المقارن، محمّد تقي الحكيم، ص 184.
2- في انتظار الإمام، عبدالهادي الفضلي، ص 22 وما بعدها.
3- إكمال الدين، ص 64.

المعصومين (علیهم السّلام) ، أنّ نفوذها السياسي سيشمل العالم كلّه، تحقيقاً لوعد الله تعالی بعالميّة الإسلام في أمثال الآيات الكريمة التالية:

1. «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ»(1)

2. «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا » (2)

3. «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ». (3)

وفي الحديث المروي عن الإمام الصادق(علیه السّلام) عن أبيه الإمام الباقر (علیه السّلام): «لم يجيء تأويل هذه الآية يعني قوله تعالى: « وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً »(4) ولو قد قام قائمنا سيری من يدركه ما يكون تأويل هذه الآية وليبلغنّ دین محمّد(صلّی الله علیه وآله وسلّم) ما بلغ الليل». .

وعن الإمام الصادق (علیه السّلام) أيضاً: «إذا قام القائم المهدي لا تبقى أرض إلّا نودي فيها شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله». .

وليست عالمية النفوذ السياسي هي وحدها أبرز معالم دولة الإمام المنتظر(علیه السّلام) فهناك من خصائصها ومعالمها البارزة، غير هذا، ممّا سنلاحظه في النصوص التنبّوئيّة الواردة عن المعصومین (علیهم السّلام).

وربّما كان أهمّها ما يأتي:

ص: 321


1- الأنبياء / 105.
2- النور /55.
3- التوبة /33.
4- التوبة /36.

1. عالمية العقيدة الإسلاميّة (عقيدة التوحيد) وعمومها للمجموعة البشرية في العالم أجمع وتطهير الأرض من كلّ عقائد الشرك والكفر والضلال والنفاق.

أ- عن محمّد بن مسلم قال: قلت للباقر(علیه السّلام) : ما تأويل قوله تعالى في الأنفال «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ »؟

قال: لم يجيء تأويل هذه الآية، فإذا جاء تأويلها يقتل المشركون، حتى يوحّدوا الله - عزّ وجلّ - وحتى لا يكون شرك، وذلك في قيام قائمنا.

ب - عن رفاعة بن موسى قال: سمعت جعفر الصادق (علیه السّلام) يقول في قوله تعالى: « وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا » قال: إذا قام القائم المهدي لا تبقى أرض إلّا نودي فيها شهادة: أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله.

ج - عن عمران بن میثم عن عباية: أنّه سمع أميرالمؤمنين(علیه السّلام) يقول: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ »، أظهرَ بعد ذلك؟

قالوا: نعم.

قال: كلّا، فوالّذي نفسي بيده، حتى لا تبقى قرية إلّا وينادي فيها بشهادة:أن لا إله إلّا الله، بكرةً وعشياً.

2. تنعّم الاُمّة الإسلاميّة في زمنه (علیه السّلام)

أ- عن أبي سعيد الخدري عن النبي(صلّی الله علیه وآله وسلّم) قال: تتنعّم أمّتي في زمن المهدي(علیه السّلام) نعمة لم يتنعّموا مثلها قط، ترسل السماء عليهم مدراراً ولا تدع الأرض شيئاً من نباتها إلّا أخرجته، والمال كدوس يقوم الرجل فيقول: يا مهدي أعطني: فيقول: خذ(1).

ب - إذا قام القائم (علیه السّلام) حكم بالعدل، وارتفع أيّامه الجور، وأمنت به السُبل، وأخرجت الأرض بركاتها، ورد كلّ حق إلى أهله ولم يبق أهل دين حتّى يظهروا

ص: 322


1- الهيثمي، مجمع الزوائد، ج 7، ص 317؛ مستدرك الصحیحین، ج 4، ص 558.

الإسلام، و يعترفوا بالإيمان.

أما سمعت الله - سبحانه - يقول: « وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ».

وحكم بين الناس بحكم داود (علیه السّلام) حکم محمّد(صلّی الله علیه وآله وسلّم).

فحينئذٍ تظهر الأرض كنوزها، و تبدي بركاتها، ولا يجد الرجل منكم يومئذ موضعاً لصدقته، ولا برّه، لشمول الغني جميع المؤمنين.

ج - يقاتلون حتى يوحّد الله، ولا يشرك به شيئاً، وتخرج العجوز الضعيفة من المشرق تريد المغرب لا يؤذيها أحد، ويخرج الله من الأرض نباتها، و ينزل من السماء قطرها.

د. إذا قام قائمنا قشم بالسوية، و عدل في الرعيّة، فمن أطاعه فقد أطاع الله، و من عصاه فقد عصى الله.

3. انتشار الثقافة والعلم

روي عن الإمام الباقر(علیه السّلام) في حديث له:

«و تؤتون الحكمة في زمانه، حتّى أنّ المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله تعالى وسنّة رسول الله الله(صلّی الله علیه وآله وسلّم) ».

4. وحدة سيرة الإمام والنبي

أ- عن عبدالله بن عطاء المكّي عن شيخ من الفقهاء (یعني أباعبدالله الصادق (علیه السّلام) قال: سألته عن سيرة المهدي: كيف سيرته؟

فقال: يصنع كما صنع رسول الله(صلّی الله علیه وآله وسلّم) يهدم ما كان قبله كما هدم رسول الله أمر الجاهلية، و يستأنف الإسلام جديداً.

ب - عن عبدالله بن عطاء قال: سألت أباجعفر الباقر (علیه السّلام) ، فقلت: إذا قام القائم بأيّ

ص: 323

سيرة يسير في الناس؟

فقال: يهدم ما قبله كما صنع رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ويستأنف الإسلام جديداً.

ج - وعن أبي بصير قال: سمعت أباجعفر الباقر(علیه السّلام) يقول: في صاحب هذا الأمر شبه من أربعة أنبياء: شبه من موسى، وشبه من عیسی وشبه من يوسف، وشبه من

محمّد (صلّی الله علیه وآله وسلّم).

فقلت: ما شبه موسی؟

قال: خائف يترقّب.

قلت: وما شبه عیسی؟

فقال: يقال فيه ما قيل في عیسی.

قلت: فما شبه يوسف؟

قال: السجن والغيبة.

قلت: وما شبه محمّد (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ؟

قال: إذا قام سار بسيرة رسول الله(صلّی الله علیه وآله وسلّم) إلا أنّه يبين آثار محمّد.

د- وفي حديث عبدالله بن عطا مع الباقر(علیه السّلام)؟ قلت: بما يسير؟

قال: بما سار به رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) هدر ما قبله و استقبل(1).

5.أصحاب الإمام المهدي (علیه السّلام)

أمّا أصحاب الإمام المنتظر (علیه السّلام) فهم من خيار البشر في تقواهم وورعهم وتحرّجهم فی الدین، و نلمح- بإیجاز إلی بعض شؤونهم:

أ- روی محمّد بن الحنفيّة، أنّ رجلاً سأل الإمام أمير المؤمنين(علیه السّلام) عن الإمام المهدي، فقال (علیه السّلام) يخرج في آخر الزمان، ثمّ ذكر الإمام أوصاف أصحابه، فقال:

ص: 324


1- بحار الأنوار، ج 51، ص 136 - 149.

«فيجمع الله تعالى له قوماً قزع کقزع السحاب يؤلف الله بين قلوبهم لا يستوحشون إلى أحد، ولا يفرحون بأحد يدخل فيهم»(1).

ومعنى هذا الحديث أنّهم على بصيرة من أمرهم، و بيّنة من ربّهم، فلايفرحون بمن التحق بهم، ولا يستوحشون بمن خرج منهم، قد ألّف الله بين قلوبهم، واترعت نفوسهم بالإيمان و حبّ الله، والتفاني في خدمة الإسلام، والذبّ عن قِيَمه و أهدافه.

ب - من كلام للإمام أميرالمؤمنین (علیه السّلام) في وصفهم جاء فيه:

«قوم لم يمنّوا على الله بالصبر، ولم يستعصموا بذل أنفسهم في الحقّ، حتّى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدّة البلاء، حملوا بصائرهم على أسيافهم ودانوا لربّهم بأمر واعظهم»(2).

و حفل کلام الإمام بأروع آیات المدح والثناء لأصحاب المنتظر(علیه السّلام) ، دعاة الحقّ، وأنصار الإسلام، وحملة القرآن.

ج - قال الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) في وصفهم

«يجاهدون في الله قوم أذلّة عند المتكبّرين في الأرض مجهولون، وفي السماء معروفون»(3).

وهؤلاء الصفوة من المتّقين الأخيار، هم أصحاب الإمام المنتظر (علیه السّلام) وولاة أموره، ووزرائه الذين يقيمون معه الحقّ، و يؤسّسون العدل، ويدمّرون قلاع الظلم والجور.

أمّا أصحاب الإمام الذين يبايعونه فهم كعدد أصحاب (بدر).

روی عبدالله بن سنان عن الإمام الصادق(علیه السّلام) ، أنّه قال: «المفقودو