عصمه الانبیاء والایمه علیهم السلام

اشارة

سرشناسه:صافی گلپایگانی، لطف الله، 1298 -

عنوان و نام پديدآور:عصمه الانبیاء والایمه علیهم السلام/ لطف الله الصافی الگلپایگانی (مدظله الشریف).

مشخصات نشر:قم: مکتب تنظیم و نشر آثار آیت الله صافی گلپایگانی دام ظله، 1437 ق.= 1395.

مشخصات ظاهری:75 ص.؛ 5/14 × 5/21 س م.

شابک:35000 ریال 978-600-7854-31-0 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

یادداشت:کتابنامه: ص. 67 - 73؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع:عصمت (اسلام)

موضوع:*Sinlessness (Islam)

موضوع:عصمت -- جنبه های قرآنی

موضوع:*Sinlessness -- Qur'anic teaching

رده بندی کنگره:BP220/5/ص2ع6 1395

رده بندی دیویی:297/43

شماره کتابشناسی ملی:4502624

اطلاعات رکورد کتابشناسی:فیپا

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

ص: 3

عصمة الأنبياء والأئمّة(علیهم السلام)

الفقیه الکبیر المرجع الدیني الأعلی سماحة آیة الله العظمی الشیخ

لطف الله الصافي الگلپایگاني (مدّ ظلّه الشریف)مکتب تنظیم ونشر آثار آیة الله العظمی الصافي الگلپایگاني (مدّ ظلّه الشریف)

ص: 4

المقدمه

بسم الله الرّحمن الرّحيم

من أعظم ما بُني عليه اليقين بصدق الأنبياء ورسالاتهم السماويّة إلى الرسالة الختميّة الخالدة المحمديّة، وأمان المهتدي بهدى أئمّة أهل البيت(علیهم السلام) من الضلال، عصمتهم عن المعاصي والخطأ والسهو والنسيان، قد أشبع الكلام فيه علماء الإسلام بما لا مزيد عليه؛ وهذه رسالة فيها بعض ما يتعلّق بالعقيدة بعصمة الأنبياء والأئمّة المعصومين(علیهم السلام) وعلمهم، وعلى طالب المزيد والتفصيل مطالعة كتب الأساطين كالمفيد والشيخ والخواجة والعلّامة وغيرهم أعلى الله مقامهم وشكر الله مساعيهم الجميلة.چ

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وردتنا رسالة من رئيس الجماعة الإسلامية (عادل جوهر) في أمريكا وكندا، تتضمّن ثلاثة أسئلة، ترجع كلّها إلى مسألة العصمة في الأئمّة الأطهار من أهل البيت النبويّ، وقد رفعنا هذه الأسئلة إلى العلّامة الحجّة آية الله الشيخ لطف الله الصافي دام ظلّه، علماً بأنّ سماحته أحد الأبطال في المباحث الاعتقادية، وخاصّة ما يتعلّق منها بالولاية، فتفضّل بتدوين رسالة مفصّلة وافية بالمراد وشافية لغليل السائل، وقد سلّمنا نسخةً من هذه الرسالة إلى مندوب الجماعة، حتى يبعثها إلى الجماعة الإسلامية.

ونظراً لأهمية محتويات هذه الرسالة العقائدية قمنا بنشرها ملحقةً بكتاب أقطاب الدوائر الّتي تدور مسائلها حول آية التطهير، الّتي هي من أوضح دلائل العصمة في أهل البيت(علیهم السلام).

ونحن عندما نقوم بطبع هذه الرسالة الجوابية القيّمة ننشر معها نصّ رسالة الجماعة؛ تدليلاً على اهتمامهم بهذه الاُمور، وإلفاتاً لنظر

ص: 7

المفكّرين الإسلاميّين إلى ما يدور في أذهان المسلمين القاطنين في تلكم الديار. والله نسأل التوفيق والهداية، إنّه سميع الدعاء.

17 ربيع الأوّل، 1403 ه

جعفر السبحاني

ص: 8

نصّ الرسالة وأسئلتها

سماحة العلّامة الاُستاد الشيخ جعفر السبحاني دامت إفاضاته.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعدُ، إنّنا في الجماعة الإسلامية في أمريكا وكندا نعتزّ أشدّ الاعتزاز بورثة الأنبياء والعترة الطاهرة(علیهم السلام)، علمائنا الأعلام، حفظهم الله تعالى.

ومن جملة النشاطات الّتي نقوم بها: إصدار مجلّة إسلامية «الرسالة»؛ كي نقوم بجزء يسير من الأعباء والمسؤوليات الكبيرة الملقاة على عاتقنا في بلاد الغربة.

وإنّنا في الحقيقة بحاجة ماسّة إلى البحوث والمقالات الإسلامية، وبحاجة إلى مشاركة العلماء الأجلّاء في دعم تطوّر مجلّة «الرسالة».

وإنّنا نودّ من سماحتكم التفضّل بالإجابة على الأسئلة التالية، ويفضّل أن تكون الإجابة على هيئة بحث علمي، كما نودّ أن تجيزونا بنشرها.

1. ما هي أدلّة عصمة الأئمّة(علیهم السلام) من مصادر التشريع الإسلامي؟

ص: 9

وما هو نوعها؟ وما هو الفرق بينها وبين عصمة الأنبياء(علیهم السلام)؟

2. هل يزداد علم الإمام المعصوم(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) مع الأيّام؟ وهل أنّ علمه(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) بعد تولّيه الإمامة يختلف عنه قبل ذلك؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكننا والحالة هذه الحكم بأفضلية الإمام عليّ(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) على الإمام الجواد×، الّذي تولّى الإمامة وهو ابن تسع سنين؟

3. كيف يمكننا درء الشبهة القائلة باختلاف مستويات الأئمّة(علیهم السلام) إيماناً وعلماً وخلقاً، وذلك باعتبار ما يرويه لنا التاريخ من سيرهم؟

وختاماً أسأل الله عزّ وجلّ أن يوسّع وقتكم للإجابة عن هذه الأسئلة، الّتي تتّخذ أهميّة بالغة في مثل ظروفنا الحالية، وأسأله تعالى أن يوفّقكم وإيّانا لتحقيق ما فيه رضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

رئيس الجماعة الإسلامية عادل جوهر

الثلاثاء، 14 جمادی الآخرة، سنة 1402 ه

ص: 10

جواب آية الله الصافي الگپایگاني

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على عباده الّذين اصطفى، سيّما سيّدهم أبي القاسم محمد وآله الطاهرين المعصومين.

وبعد، فهذه رسالة وجيزة في الجواب عن أسئلة أرسلها بعض الإخوان الأزكياء من أهل الدعوة إلى هدى الإسلام في أمريكا إلى أحد أصدقائي من العلماء وأساتذة الحوزة العلمية، كتبتها التماساً للثواب، وامتثالاً لأمر هذا الصديق العزيز أدام الله أيّامه، ونفع المسلمين بعلومه وبركاته.

والكلام بالنظر إلى الأسئلة يقع في مباحث:

المبحث الأوّل: في عصمة الأنبياء والأئمّة(علیهم السلام)

المبحث الثاني: في علم الإمام(عَلَيْهَ السَّلاَمُ)

المبحث الثالث: في اختلاف مستويات الأئمّة(علیهم السلام) في الإيمان والعلم والأخلاق.

ص: 11

المبحث الأوّل في عصمة الأنبياء والأئمّة(علیهم السلام)

اشارة

وهذا سؤاله بلفظه عنها:

ما هي أدلّة عصمة الأئمّة(علیهم السلام) من مصادر التشريع الإسلامي؟ وما هو نوعها؟ وما هو الفرق بينها وبين عصمة الأنبياء(علیهم السلام)؟

والجواب عن هذا السؤال يأتي في طيِّ مسائل:

المسألة الاُولى: ما هي العصمة؟

المسألة الثانية: ما هي أنواع العصمة؟ وما هو النوع الّذي يجب اتّصاف النبيّ والإمام به؟

المسألة الثالثة: الأدلّة على عصمة الأنبياء والأئمّة(علیهم السلام).

المسألة الرابعة: ما هي الدلائل العقليّة على عصمة الأنبياء والأئمّة(علیهم السلام)؟

المسألة الخامسة: ما هي أدلّة عصمتهم من مصادر التشريع الإسلامي؟

ص: 12

المسألة الاُولى: ما هي العصمة؟

الجواب:

إنّ العصمة قوّة قدسية، وبصيرة ملكوتية، ونورانية ربانية راسخة في النفس، يَحفظ بها صاحبها نفسَه عن القبائح، وعن إتيان كلّ ما في فعله الانصراف عن الحقّ ونسيان المولى.

وإن شئت قلت: هي حضور خاصّ للعبد عند مولاه لا يرتكب معه ما ينافي هذا الحضور، فلا يشتغل في هذا الحضور إلّا بما يناسبه، ففي مثل هذا الموقف الأقدس لا ذنب ولا معصية ولا انصراف عن الله تعالى، وهذا مقام رفيع لا يناله ولا يفوز به إلّا عباد الله المخلصون الكاملون، الّذين ليس لغير الله سلطان عليهم، وهم الأنبياء والأئمّة(علیهم السلام).

وإن شئت مثالاً لذلك - والمثال لا يُسئَل عنه - فانظر إلى نفسك إذا كنت طالباً لسلعة مّا فإنّك تذهب إلى السوق لشرائها، فيعرضها البائع لك بدينار، وآخر بدينارين، ولا شكّ أنّك مختار في اشترائها من الأوّل أو الثاني، لكن لا تشتريها إلّا من الأوّل؛ لِما فيكَ من قوّة التميز بين نفعك وضررك، والمعصوم في صفاء النفس، والاتّصال بعالم الغيب،

ص: 13

وقوّة الإدراك حتى في ترك الأولى كترك المستحبّات وفعل المكروهات أصفى منك ومن غيرك نفساً.

وبالجملة: فالحضور ضدّ الغياب، والتوجّه ضدّ الانصراف، فمَن كان في محضر المولى ليس بغائب عنه، ومن ذاق حلاوة قربه ومؤانسته لا يبتغي عنها بدلاً، ومَن جلس على بساط عبادته وأدرك لذّة مناجاته يقول كما قال زين العابدين(عَلَيْهَ السَّلاَمُ):

«مَتَى رَاحَةُ مَنْ نَصَبَ لِغَيْرِكَ بَدَنَهُ، وَمَتَى فَرَحُ مَنْ قَصَدَ سِوَاكَ بِنِيَّتِهِ؟».((1))

قال العلّامة الجليل السيّد عبد الله شبّر: «العصمة عبارة عن قوّة العقل من حيث لا يغلب مع كونه قادراً على المعاصي كلّها كجائز الخطأ، وليس معنى العصمة أنّ الله يجبره على ترك المعصية، بل يفعل به ألطافاً يترك معها المعصية باختياره، مع قدرته عليها، كقوّة العقل، وكمال الفطانة، والذكاء، ونهاية صفاء النفس، وكمال الاعتناء بطاعة الله تعالى، ولو لم يكن قادراً على المعاصي بل كان مجبوراً على الطاعات لكان منافياً للتكليف، ولا إكراه في الدين، والنبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أوّل من كُلّف، حيث

ص: 14


1- قطب الدين الراوندي، الخرائج والجرائح، ج1، ص266؛ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص284؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج46، ص40، 77.

قال: ﴿فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدينَ﴾((1)) ﴿وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسلِمِينَ﴾((2)) وقال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾.((3))

ولأنّه لو لم يكن قادراً على المعصية لكان أدنى مرتبةً من صلحاء المؤمنين، القادرين على المعاصي التاركين لها.((4))

وقال الشريف الأجلّ شارح الصحيفة: «العصمة في اللغة: اسم مِن عَصَمَهُ اللهُ من المكروه يَعصِمُه (من باب ضرب)، بمعنى حفظه ووقاه. وفي العرف: فيض إلهيّ يقوى به العبد على تحرّي الخير وتجنّب الشرّ ... إلى آخره».((5))

وقال الراغب: «وعصمة الأنبياء حفظه إيّاهم أوّلاً بما خصّهم به من صفاء الجوهر، ثمّ بما أولاهم من الفضائل الجسمية والنفسية، ثمّ بالنصرة وبتثبّت أقدامهم، ثمّ بإنزال السكينة عليهم، وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق».((6))

ص: 15


1- الزخرف، 81.
2- الأنعام، 163.
3- الحجر، 99.
4- شبّر، حقّ اليقين، ص135.
5- المدني الشيرازي، رياض السالكين، ج3، ص162، الروضة السادسة عشرة.
6- الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص337، مادّة (عصم).

وقال الشيخ الأكبر المفيد(قدس سره): «العصمة من الله لحججه هي التوفيق، واللطف والاعتصام من الحجج بها عن الذنوب والغلط في دين الله تعالى، والعصمة تفضّل من الله تعالى على مَن علم أنّه يتمسّك بعصمته، والاعتصام فعل المعتصم، وليست العصمة مانعةً من القدرة على القبيح، ولا مضطرّةً للمعصوم إلی الحسن، ولا ملجئةً له إليه».((1))

وقال أيضاً - رضوان الله تعالى عليه - : «العصمة لطف يفعله الله بالمكلّف بحيث يمنع عنه وقوع المعصية، وترك الطاعة مع قدرته عليهما».((2))

وقال العلّامة الحلّي: «هي ما يمتنع المكلّف معه من المعصية متمكّناً منها، ولا يمتنع منها مع عدمها».((3))

وقال الفاضل السيوري: «قال أصحابنا ومن وافقهم من العدلية: هي لطف يفعله الله بالمكلّف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية؛ لانتفاء داعيه، ووجود صارفه، مع قدرته عليها، ووقوع المعصية ممكن نظراً إلى قدرته، وممتنع نظراً إلى عدم الداعي ووجود الصارف، وإنّما قلنا بقدرته

ص: 16


1- المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامیة، ص128.
2- المفيد، النكت الاعتقادية، ص37.
3- العلّامة الحلّي، الألفين، ص67، البحث السابع.

عليها؛ لأنّه لولاه لَما استحقّ مدحاً ولا ثواباً؛ إذ لا اختيار له حينئذ؛ لأنّهما يستحقّان على فعل الممكن وتركه، لكنّه يستحقّ المدح والثواب لعصمته إجماعاً فيكون قادراً».((1))

وقالت الأشاعرة: «هي القدرة على الطاعة، وعدم القدرة علىالمعصية».((2))

وقال بعض الحكماء: «إنّ المعصوم خلقه الله جبلّةً صافيةً، وطينةً نقيّةً، ومزاجاً قابلاً، وخصّه بعقل قويّ وفكر سويّ، وجعل له ألطافاً زائدة، فهو قويّ بما خصّه على فعل الواجبات واجتناب المقبّحات، والالتفات إلى ملكوت السماوات، والإعراض عن عالم الجهات، فتصير النفس الأمّارة مأسورة مقهورة في حيِّز النفس العاقلة».((3))

وقيل: «هو المختصّ بنفس هي أشرف النفوس الإنسانية، ولها عناية خاصّة وفيض خاصّ، يتمكّن به من أسر القوّة الوهمية والخيالية،

ص: 17


1- الفاضل المقداد، اللوامع الإلهية، ص243.
2- راجع: الفاضل المقداد، اللوامع الإلهية، ص244. لا يخفى عليك بطلان هذه المقالة؛ لأنّ القدرة على الطاعة لا تُحقَّق إلّا مع القدرة على تركها، والقدرة على ترك الطاعة هي القدرة على المعصية.
3- الفاضل المقداد، اللوامع الإلهية، ص244.

الموجبتين للشهوة والغضب، المتعلّق كلّ ذلك بالقوّة الحيوانية».((1))

ولبعضهم كلام حسن جامع هنا حيث قالوا: «العصمة ملكة نفسانية يمنع المتّصف بها من الفجور مع قدرته عليه، وتتوقّف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي، ومناقب الطاعات؛ لأنّ العفّة متى حصلت في جوهر النفس، وانضاف إليها العلم التامّ بما في المعصية من الشقاوة وفي الطاعة من السعادة صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس، فتصير ملكة، ثمّ إنّ تلك الملكة إنّما تحصل له بخاصّيّة نفسية أو بدنية تقتضيها، وإلّا لكان اختصاصه بتلك الملكة دون بني نوعه ترجيحاً من غير مرجّح، ويتأكّد ذلك العلم بتواتر الوحي، وأن يعلم المؤاخذة على ترك الأولى».((2))

أقول: لا ريب أنّ الاختصاص بتلك الملكة إنّما يكون بجهة مرجّحة يعلمها الله تعالى، وليس علينا السؤال عن هذه الجهة، وهذا كاختصاص كثير من المخلوقات بل كلّها بأوصاف خاصّة، واختلافهم في الأفراد والأنواع، واختصاص السماء والأرض بالخلق وغير ذلك.

ص: 18


1- الفاضل المقداد، اللوامع الإلهية، ص244.
2- الفاضل المقداد، اللوامع الإلهية، ص244.

وما هو المعلوم عقلاً وشرعاً أنّ كلّ ذلك لم يكن عبثاً، ومن خلق هذا الخلق وجعل هذا النظام المتقن في كلّه وأجزائه لم يكن لاعباً وعابثاً، فالنظام الحاكم على عالم الإنسان، والحاكم على عالم الحيوان والنباتات بأنواعها والجمادات تشهد بحكمه كلّ تلك المخلوقات وتقدّسه عن اللغو والعبث.

وقال سبحانه وتعالى في وصف اُولي الألباب:

﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.((1))

وقال تعالى:

﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾.((2))

وقال عزّ مِن قائل:

﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾.((3))

ص: 19


1- آل عمران، 191.
2- ص، 27.
3- المؤمنون، 115.

وهذا لا يمنع عن القول بأشرفية البعض من البعض، وأفضليته، بل غاية ما يقال فيه: إنّ ذلك بتقديره وحكمته.

فالسؤال الّذي ربّما يختلج في بعض الأذهان في اصطفاء مناصطفاه الله من الأنبياء والأئمّة ، هو السؤال عن اختصاص كلّ ذوي الفضل في هذا العالم بنوعه أو فرده على غيره.

والجواب على النحو العامّ هو: أنّ أفعال الله تعالى كلّها متقنة محكمة صدرت عنه لأغراض متعالية، والتفضيل المشاهد في العالم إمّا أن يحصل لعلل يقتضيها ضيق عالم المادّة، وما جعل الله في كلّ جزء من أجزاء هذا العالم بتقديره من التأثير في غيره أو التأثّر منه، وإمّا أن يحصل لعلل اختيارية تؤثّر في كمال النفس وفضلها، وتؤثّر في تفضيل بعض الأفراد من الإنسان والحيوان والنبات على غيرها، وقد يحصل لعلل اُخرى اختيارية للعبد وغير اختيارية ممّا توجب الترجيح وتؤثّر فيه، والجهات المرجّحة كثيرة لا يمكننا إحصاؤها ومعرفة تفاصيلها، فإذا وجد بإذن الله تعالى وتقديره شخص قابل للإفاضة الغيبية والعناية الربّانيّة كالعصمة والعلوم اللدنّيّة لا يحرم منها، ويستحيل أن يمنع الله تعالى ذلك عنه، والله تعالى أعلم بموارد عناياته وإفاضاته.

هذا، ولنا أن نقول: إنّ النظام لا يتمّ بل لا يقوم إلّا على التفضيل

ص: 20

والاختصاص والاصطفاء، فاختصاص العين بالرؤية، والاُذُن بالسمع، وسائر الأعضاء بخاصّيّة معيّنة، وكذا اختصاص هذا الشجر بهذا الثمر، وهذا بهذا هو المقوّم لهذا النظام بإذن الله تعالى، ولو لم يكن هذا الاختصاص لم يكن هذا العالم ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾.((1))

فالاصطفاء والاختصاص والتفضيل أمر واقع في عالم التكوين مهما كانت علله، معلومة كانت لنا، أو مجهولة عندنا، نرى ذلك بالعيان، ونقرأه في تراجم الأنبياء والأولياء وأرباب العقول الكبيرة وغيرها، كما نلمس عصمة الأنبياء والأولياء من خلال سِيَرهم وعباداتهم، وخصائصهم وأخلاقهم، لا يمكننا إنكارالواقعيّات. والقرآن المجيد أيضاً ناطق باصطفاء بعض الناس على بعض، وبعض الأنواع على بعض، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾.((2))

وقال سبحانه:

﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَن

ص: 21


1- الأنعام، 96؛ يس، 38؛ فصّلت، 12.
2- الإسراء، 55.

كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾.((1))

وقال عزّ من قائل:

﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾((2)

أي على نساء عالم زمانها كما ورد في التفاسير .((3))

وقال جلّ شأنه:

﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾((4))

أي على عالَمي زمانهم.((5))

وقال الله تعالى:

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

ص: 22


1- البقرة، 253.
2- آل عمران، 42.
3- الطبرسي، مجمع البيان، ج2، ص746؛ أبو الفتوح الرازي، روض الجنان، ج4، ص318؛ الحويزي، تفسیر نور الثقلين، ج1، ص336.
4- البقرة، 47، 122.
5- الطبرسي، مجمع البيان، ج1، ص221؛ فخر الرازي، التفسير الکبير، ج3، ص493؛ البحراني، البرهان، ج1، ص211.

وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْخَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾؛((1))

وقال تعالى جَدّه:

﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾؛((2))

وقال تعالى شأنه:

﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾؛((3))

وقال تعالى:

﴿وَلَا تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾؛((4))

نعم، يستفاد من بعض الآيات الدالّة على التفضيل وجهه أيضاً، كقوله تعالى:

﴿فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً

ص: 23


1- الإسراء، 70.
2- آل عمران، 33.
3- فاطر، 32.
4- النساء، 32.

عَظِيماً﴾؛((1))

وقوله عزّ شأنه:

﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾؛((2))

حيث يستفاد من الآية الاُولى أنّ وجه تفضيل المجاهدين على القاعدين هو جهادهم، ومن الثانية أنّ وجه رفع درجات المؤمنين والعلماء هو إيمانهم وعلمهم.

كما يستفاد من البعض الآخر جهة التفضيل، كقوله تعالى:

﴿مِنْهُم مَن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾((3))

حيث يستفاد منه أنّ جهة تفضيل موسى على بعض الأنبياء أنّه كلّم الله، وجهة تفضيل عيسى إيتاؤه البيّنات وتأييده من جانب الله تعالى بروح القدس، وكما يستفاد من البعض الآخر أنّ التفضيل إنّما يكون

ص: 24


1- النساء، 95.
2- المجادلة، 11.
3- البقرة، 253.

لحكمة اُخرى خارجة عن المفضّل والمفضّل عليه، وإن كان فائدته ترجع إليهما وإلى النظام، كقوله تعالى:

﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيّاً﴾.((1))

إذن فلا استبعاد في اختصاص بعض الناس بالاصطفاء والعصمة وغيرها من الفضائل بعد ما يرى مثلها في نظام الله تعالى في خلقه، وبعد ما جرى عليه عادته وسنّته، فلا يجوز السؤال عن ذلك حسداً أو اعتراضاً، ولا فائدة فيه، قال الله تعالى:

﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيماً﴾.((2))

وروى شيخنا ثقة الإسلام الكليني في الكافي عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حمّاد بن عثمان، عن عبد الله الكاهلي، قال: قال أبو عبد الله(عَلَيْهَ السَّلاَمُ): «لَوْ أَنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ وَحْدَهُ لَا

ص: 25


1- الزخرف، 32.
2- النساء، 54.

شَرِيكَ لَهُ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَحَجُّوا الْبَيْتَ، وَصَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَالُوا لِشَيْ ءٍ صَنَعَهُ اللهُ أَوْ صَنَعَهُ رَسُولُ الله|، أَلَّا صَنَعَ خِلَافَ الَّذِي صَنَعَ؟ أَوْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ، لَكَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِين َ»، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَحَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾((1)) ثمّ قال أبو عبد الله(عَلَيْهَ السَّلاَمُ): «عَلَيْكُمْ بِالتَّسْليمِ». ((2))

ص: 26


1- النساء، 65.
2- الکليني، الكافي، ج1، ص390؛ ج2، ص398 (باب الشرك، ح 6)؛ راجع أيضاً: البرقي، المحاسن، ج1، ص271 (باب تصديق النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ح 365).

المسألة الثانية: ما هي أنواع العصمة؟ وما هو النوع الّذي يجب أن يكون النبيّ والإمام متّصفين به؟

والجواب:

أنّ العصمة تارةً تطلق ويراد منها العصمة عن الكفر والكذب في تبليغ الرسالة والإخبار عن أحكام الله والمعارف الدينية.

وتارةً اُخرى يراد منها العصمة عن الكفر ومطلق الكذب بعد النبوّة، أو مع ما قبلها.

وثالثةً يراد منها العصمة عن مطلق المعاصي وكلّ ما ينفر عنه بعد النبوّة أو مع ما قبلها.

ورابعةً يراد منها العصمة عن المعاصي وكلّ ما ينفر عنه، وعن ترك الأولى أيضاً بعد النبوّة أو مع ما قبلها.

فهذه سبعة أنواع، كلّ نوع تحت نوع أوسع وأشمل، حتّى يصل إلى النوع السابع وهو العصمة عن المعاصي، وترك الأولى، وكلّ ما ينفر عنه قبل النبوّة وبعدها.

ولا ريب أنّ الدليل عليه دليل على الجميع، والأقوال في النوع المعتبر في النبيّ والإمام مختلفة لا فائدة في ذكرها هنا، من أراد الاطّلاع عليها

ص: 27

فليراجع كتاب تنزيه الأنبياء((1)) والكتب المؤلّفة في الكلام والفِرَق.

والّذي نقول به ونعتقده هو عصمة الأنبياء(علیهم السلام) عن جميع المعاصي وعمّا ينفر عنه، قبل النبوّة وبعدها، وعن الخطأ والسهو والاشتباه في كلّ ما يرجع إلى تبليغ رسالات الله تعالى، وعصمة نبيّنا محمد بن عبد الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمّة المعصومين(علیهم السلام) عن جميع ذلك وعن ترك الأولى وعن الخطأ والسهو في جميع الاُمور.

ص: 28


1- السيّد المرتضی، تنزيه الأنبياء.

المسألة الثالثة: الأدلّة الّتي تقام على عصمة الأنبياء والأئمّة(علیهم السلام)

هل هي عقلية أو سمعية؟ وأعني بالثانية ما يستفاد من مصادر التشريع الإسلامي، وهل الأصل في إثبات هذا الموضوع هو العقل أو النقل يكفي في ذلك؟ فإن لم تقم الأدلّة العقلية عليه فهل يجوز إثباته بالنقل؟

والجواب:

أمّا عن الأوّل فنقول: قد دلّ العقل والنقل على وجوب عصمة الإمام، وأدلّتها العقلية والنقلية كثيرة جدّاً، فهذا كتاب الألفين لنابغة علوم المعقول والمنقول العلّامة الحلّي رضوان الله تعالى عليه، والنسخة المطبوعة منه - وإن كانت ناقصة - مشتملة على ما يتجاوز عن ألف دليل عقلي وسمعي على أنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً.

وأمّا الجواب عن الثاني: فالأصل في الاعتقاد بعصمة النبيّ والإمام، ووجوب كون الإمام معصوماً هو حكم العقل، والشرع يؤيّد العقل في حكمه هذا، وذلك لأنّ العقل قاطع بوجوب اتّصاف النبيّ والإمام بالعصمة، والشرع إنّما يكون المرجع الأوّل في كلّ مورد، لو حكم فيه بالإيجاب أو السلب لم يكن حكمه بأيّهما مغايراً لحكم العقل.

ص: 29

وبعبارة اُخرى: الشرع هو المرجع الأوّل في كلّ مورد لم يكن للعقل فيه حكم بالإيجاب أو السلب، بحيث يكون حكم الشرع بالسلب أو الإيجاب موضوعاً لحكم العقل به أيضاً، أو لحكمه الآخر، كحكمه برمي الجمار والسعي بين الصفا والمَروة، فإنّ العقل بعد حكم الشرع به يحكم به كما يحكم بوجوب إطاعته ووجوب الأمر به وذمّ تاركه.

وضابطة اُخرى في ذلك: أن لا يكون حكم الشرع في موردٍ تكون حجيّة حكم الشرع أو أصل الشرع متوقّفةً على حكم العقلبه.

ففي مسألة عصمة الأنبياء فإنّ العقل هو المرجع الأوّل، ويحكم بوجوب كون النبيّ معصوماً لأدلّته، وأمّا الشرع فالعلم بأصله متوقّف على العلم بلزوم بعث النبيّ وشرائطه وأوصافه، والعلم بهذه لو كان ممكن الحصول من جانب الشرع لزم الدور؛ لأنّ العلم بالشرع وما يخبر عنه النبيّ متوقّف على العلم بأوصافه، ولو كان العلم بأوصافه متوقّفاً على إخبار النبيّ للزم الدور.

فقد اتّضح من ذلك أنّ ما في دائرة حكم الشرع به والشرع هو المرجع الأوّل فيه هو ما لم يكن للعقل فيه حكم إيجابيّ أو سلبيّ، ولم يكن ممّا يتوقّف عليه العلم بالشرع، وإثبات اشتراط العصمة في النبيّ خارج عن ذلك، وكذا إثبات اشتراط عصمة الإمام، فإنّه وإن لم يكن ممّا

ص: 30

يتوقّف عليه العلم بالشرع لكنّ العقل حاكم به بالإيجاب، وعليه يكون الشرع فيه مرشداً إلى حكم العقل ومؤيّداً ومقرّراً له، ومن هنا يعلم أنّ الحكم بوجوب إطاعة الله تعالى عقليّ وإرشاديّ، كما أنّ الحكم بوجوب إطاعة النبيّ والإمام شرعيّ ومولويّ.

فإن قلت: إذا كان العقل هو المرجع الأوّل في تلك المسألة فمن أيّ طريق نعرف عصمة النبيّ، وأنّ المعجزة الّتي أتى بها دليل على صدقه ونبوّته، وبالتالي على عصمته؟

وبعبارة اُخرى: صدق مدّعي النبوّة يثبت بالمعجزة إذا كان معصوماً، ومن المعلوم عدم وجود دليل عقليّ على عصمة مدّعيها، إلّا أن يقال: إنّ المعجزة كما تدلّ على صدق مدّعي النبوّة تدلّ على عصمته أيضاً، وعليه كيف يكون العقل هو المرجع الأوّل؟

قلت أوّلاً: ما قلنا بأنّ العقل هو المرجع الأوّل فيه هو لزوم العصمة في النبيّ والإمام، وفرق بين مسألة وجوب كون النبيّ والإمام معصومين وبين مسألة طريق معرفة المعصوم،والمعجزة دليل على صدق مدّعي النبوّة وعصمته بحكم العقل، فما يدلّ عليه العقل أوّلاً بدون الاستعانة بالمعجزة هو لزوم بعث النبيّ ونصب الإمام ولزوم اتّصافهما

ص: 31

بالعصمة، وما يحكم به العقل بالمعجزة هو كون هذا الشخص المعيّن هو النبيّ المعصوم، والإمام المعصوم.

وثانياً: أنّ المعجزة وإن يثبت بها صدق النبيّ وعصمته، ليست من الأدلّة السمعية والشرعية، بل هي ممّا يثبت بها الشرع وحجيّة السمع، فمعجزات الأنبياء والأولياء خارجة عن الأدلّة السمعية الشرعية، ومدلولها ليست من الاُمور الّتي تثبت بإخبار النبيّ والإمام.

فظهر بذلك أن لا منافاة بين كون العقل حاكماً بلزوم العصمة في النبيّ والإمام، وبين كون المعجزة دليلاً على صدق النبيّ وعصمته، وكذلك الإمام، وأنّ هذا أيضاً حكم العقل، وليس من الشرع وما يثبت حجّيته وحقّيته بالمعجزة بشيء.

نعم، هنا أمر لا بأس بالإشارة إليه، وهو: أنّ المعجزة إنّما تكون دليلاً على العصمة إذا لم يكن في مدّعي النبوّة عملاً وخلقاً وخلقاً ما ينافي العصمة، وإذا كان فيه ما ينافي ذلك كارتكاب القبائح وسوء الأخلاق فهو الدليل على أنّ ما يظهره بعنوان المعجزة ليس معجزة؛ لأنّ الله لا يؤيّد عمل المبطلين، ولا يصلح عمل المفسدين، وهكذا يجيء الكلام في النصّ الصادر عن النبيّ على نبوّة من يأتي بعده أو إمامته، فإذا كان المدّعي لورود النصّ عليه غير مرضيّ الأخلاق والأفعال لا يعتنى بما

ص: 32

يدّعيه، ويُعلم من ذلك أنّ ما يدّعيه من النصّ لم يصدر، أو صدر في حقّ غيره.

ص: 33

المسألة الرابعة: ما هي الدلائل العقلية على عصمة الأنبياء والأئمّة(علیهم السلام)؟

الجواب:

أدلّتها كثيرة، نذكر نموذجاً منها ممّا يدلّ على معتقد الحقّ.

فمنها: أنّهم لو لم يكونوا معصومين عن المعاصي عمداً وسهواً، وعن الخطأ والنسيان والسهو في كلّ ما يرجع إلى ما يجب اتّباعهم من أقوالهم وأفعالهم وسيرهم وسلوكهم لَيرفع الاطمئنان والاعتماد عن اتّباعهم والاقتداء والتأسّي بهم، وتبطل فائدة بعث الأنبياء ونصب الأئمّة، ويُنقَض الغرض الباعث إلى إرسال الرسل، بل خطأهم ونسيانهم في الاُمور العاديّة أيضاً يضعف ذلك الاعتماد، وتنزّههم عنه يقوّي ذلك ويؤكّده غاية التأكيد، فاللطف والحكمة يقتضي اختصاصهم بعنايات وألطاف تدفع عنهم السهو والنسيان.

لا يقال: إنّ ذلك غلوّ فيهم، وإنّهم ما فوق الإنسان وأعلى منه.

لأنّه يقال: اختصاصهم بتلك العنايات، وكون ذكرهم وتوجّههم دائمياً ليس فوق حدّ الإنسان، ولا يقول ذلك إلّا من قصر عن معرفة الإنسان ومراتب كماله، وما يصل إليه في سيره إلى الله تعالى.

قال الإمام أبو عبد الله الصادق(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) على ما روي عنه: «الصُّورَةُ الْإِنْسَانِيَةُ

ص: 34

هِيَ أَكْبَرُ حَجَجِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ، ... وَهِيَ الْهيْكَلُ الَّذِي بَنَاهُ بِحِكْمَتِهِ، وَهِيَ مَجْمُوعُ صُوَرِ الْعَالَمينَ، وَهِيَ الْمُخْتَصَرُ مِنَ الْعُلُومِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ».((1))

ويُنسب إلى أمير المؤمنين(عَلَيْهَ السَّلاَمُ):

وَأَنْتَ الْكِتَابُ المُْبينُ الَّذِي * بِأَحْرُفِهِ يَظْهَرُ الْمُضْمَرُ((2))

الغلوّ إنّما يحصل برفعهم من مرتبة العبودية والمخلوقية، والفقر الذاتيّ إلى مرتبة المعبودية والخالقية والغنى الذاتيّ.

والفضائل وكثير من الصفات وما يتقرّب به العبد إلى المولى ويتخلّق بأخلاقه مشتركة بين الإنسان والملائكة، فلم يدلّ دليل على امتناع اتّصاف البشر بها وإن لم تحصل إلّا للأوحديّ من الناس، وإثباتها لهم ليس غلوّاً فيهم، وغاية ما يقال فيهم: إنّ هذه الصفات في الملائكة فعلية، وليست بالاستعداد وبالقوّة، والإنسان لا بشرط في ذلك عن الفعلية والاستعداد، فبعض أفراد الإنسان فيه هذا بالقوّة، وبعضهم حاصل فيه بالفعلية.

هذا، مضافاً إلى أنّ القول بأنّهم ما فوق الإنسان إن اُريد به رفعهم إلى

ص: 35


1- السبزواري، شرح الأسماء الحسنى، ج1، ص12.
2- الفيض الکاشاني، تفسير الصافي، ج1، ص92؛ السبزواري، شرح الأسماء الحسنی، ج1، ص12.

مرتبة الملائكة وإثبات هويّتهم لهم فليس هذا رفعاً لهم من مرتبتهم إن لم يكن إثباتاً لقصر لهم؛ إذ الأنبياء والأئمّة أفضل من الملائكة؛ لأنّ عصمتهم عن المعاصي ليس معناها عدم تمكّنهم منها، أو نفي ما كان يمكن أن يكون داعياً لهم، وكم فرق بين من لا يتحقّق له الداعي إلى الأكل لعدم إمكان ذلك له، فلا يسند إليه ترك الأكل حقيقة، وإن اُسند إليه فلا يكون إلّا مجازاً، كقول القائل: إنّ الحجر لا يأكل، فامتناعه عن الأكل ليس عن إرادة واختيار، بل لا يصحّ أن يسند إليه الامتناع عن ترك الأكل، وبين من يمتنع عنه بالاختيار، ويسند إليه كسائر أفعاله وتروكه الاختيارية؛ ولأجل هذا يقول المحقّق الطوسي القدّوسي(قدس سره) في أفضلية الأنبياء على الملائكة: والأنبياء أفضل؛ لوجود المضادّ.((1))

وأمّا قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾((2))، وقولهتعالى: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إلَّا بَشَراً رَسُولاً﴾((3)) فليس مفادهما أنّ إثبات صفات الملائكة لهم غلوّ ورفع عن درجة الإنسان إلى درجة أعلى،

ص: 36


1- الخواجة نصير الدين الطوسي، تجريد الإعتقاد، ص217؛ راجع ايضاً: العلّامة الحلّي، کشف المراد، ص360.
2- الكهف، 110؛ فصّلت، 6.
3- الإسراء، 93.

بل المراد نفي الغلوّ بإثبات صفات الله المختصّة لهم وإثبات الاستقلال لهم في عرض إرادة الله ومشيئته، فهم ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾((1))، ليس لهم الإتيان بآية إلّا بإذن الله تعالى، فمثل النبيّ الخاتم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الّذي:

فَاقَ النَّبيّينَ في خَلْقٍ وَفِي خُلُقٍ * وَلَمْ يُدَانُوهُ فِي عِلْمٍ وَلَا كَ-رَمِ

وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسوُلِ اللهِ مُلْتَمِسٌ * غُرْفاً مِنَ الْيَمِّ أَوْ رَشْفاً مِنَ الدِيَمِ((2))

﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.((3))

وأيضاً مثل هاتين الآيتين ردّ على من يطلب من النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ترك ما هو ضرورة وجود الإنسان، كالأكل والشرب والمشي في الأسواق؛ زعماً منه أنّ ترك ذلك كمال للنبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؛ ولهذا قالوا:

﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾((4)

وقال سبحانه وتعالى:

ص: 37


1- الأنبياء، 26-27.
2- الأعرجي، تخميس قصيدة البردة، ص180؛ الأمين العاملي، أعيان الشيعة، ج9، ص305؛ المحدّث القمّي، الأنوار البهيّة، ص35.
3- النجم، 3 - 4.
4- الفرقان، 7.

﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُواْ أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً * قُل لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءمَلَكاً رَسُولاً﴾.((1))

ومن الأدلّة الّتي اُقيمت على عصمة الأنبياء والأئمّة(علیهم السلام): أنّه يجب في النبيّ والإمام قوّة الرأي والبصيرة وعدم السهو، وكلّ ما يُنفَر عنه، ومن المعلوم أنّ المعصية - كبيرةً كانت أو صغيرةً - من أعظم ما يُنفَر عنه، ومن أقوى الشواهد على ضعف الرأي، والسهو أيضاً يذهب بمكانته الاجتماعية، وربّما يصير سبباً لاستهزاء الناس به، وإنكارهم ما عليه وقدحهم بما ليس له، وكلّ ذلك ينافي مصلحة النبوّات.

ومنها: أنّه يجب متابعتهم وإطاعتهم، ولو لم يكونوا معصومين جاز أن يأمروا بالمعصية وما فيه المفسدة، وينهوا عن الطاعة وما فيه المصلحة، وذلك يؤدّي إلى إغواء الناس وإضلالهم، وهذا ضدّ المقصود من بعث الرسل؛ لأنّ الغرض منه هداية العباد والبشارة والإنذار.

ومنها: غير ذلك من الأدلّة الّتي تُعدّ بالمئات، ذكرها العلاّمة الحلّي في الألفين

ص: 38


1- الإسراء، 94 - 95.

وفي سائر كتبه في الكلام والإمامة، وذكر طائفةً منها غيره أيضاً، من شاء أكثر من ذلك فليراجع هذه الكتب.

ص: 39

المسألة الخامسة: ما هي أدلّة عصمتهم من مصادر التشريع الإسلامي؟

الجواب:

إنّ الأدلّة الدالّة عليها من مصادر التشريع الإسلامي كثيرة جدّاً، تجد المئات منها أيضاً في كتاب الألفين، ونحن نشير إلى بعض تلك الأدلّة بتعبير منّا.

فنقول: من الأدلّة الدالّة عليها من القرآن المجيد قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.((1)) فهذه الآية الكريمة صريحة في عِظَم أمر الإمامة، وأنّها عهد الله تعالى لا ينالها الظالمون، والظلم عنوان عامّ لكلّ ما لا يجوز فعله شرعاً أو عقلاً، كما تعرف ذلك من موارد استعمالاته في الكتاب والسنّة واللغة.

لا يقال: إنّ الآية لا تدلّ على أكثر من عدم لياقة الظالم لنيل منصب الإمامة في حال تلبّسه بالظلم، ولا تدلّ على عدم نيله إذا كان متلبّساً به فيما مضى.

لأنّه يقال أوّلاً: لا نُسلّم كون المشتقّ حقيقةً في المتلبّس بالمبدأ في

ص: 40


1- البقرة، 124.

الحال، أي في حال الجري والنسبة، بل هو أعمّ منه وممّا انقضى عنه المبدأ.

وثانياً: إنّ ما هو الملاك في عدم نيل الظالم الإمامة هو صدور الظلم عنه، فما يمنع شارب الخمر وقاتل النفس المحترمة، والسارق وغيرهم من الظالمين عن التشرّف بمقام الإمامة هو شرب الخمر وقتل النفس والسرقة، وإن صدر عنهم في الماضي وتابوا بعده، وليس المراد أنّ الشارب حال تلبّسه بشرب الخمر، والزاني في حال تلبّسه بالزنی، والسارق في حال تلبّسه بالسرقة، وعابد الأصنامفي حال تلبّسه بعبادة الأصنام وعدم توبته عن هذه الأفعال غير صالح لهذا المقام، أمّا بعد هذا الحال ولو بساعة ولحظة وبعد التوبة لا تقدح هذه المعاصي في صلاحيته، وهذا واضح يُعرَف بأدنى تأمّل.

إن قلتَ: فما هو معنى قوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «الإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ»((1))، و «التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا»((2))، وقوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ».((3))

قلتُ: لا ريب في ذلك، ولكن قد بيّنّا لك أنّ الشرع إنّما يحكم تأسيساً،

ص: 41


1- أحمد بن حنبل،مسند، ج4، ص199، 204 - 205؛ القمّي، تفسير، ج1، ص148؛ البيهقي، السنن الکبری،ج 9، ص123؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص23، ح 24؛ ج110، ص371.
2- ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، ج1، ص237، ح 150؛ المحدّث النوري، مستدرك الوسائل، ج12، ص129، ح 12.
3- ابن ماجة القزويني، سنن، ج2، ص1420؛ الکليني، الكافي، ج2، ص435، ح 10؛ الصدوق، عيون أخبار الرضا(عَلَيْهَ السَّلاَمُ)، ج1، ص79؛ البيهقي، السنن الکبری، ج10، ص154؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج16، ص75.

وهو المرجع الأوّل فيما لا حكم فيه للعقل، ففي دائرة الأحكام والتكاليف الشرعية - وضعية كانت أو تكليفية - الإسلام يجبّ ما قبله، ويذهب بالآثار الشرعية المترتّبة على الأفعال الّتي ارتكبها الشخص قبل إسلامه على التفصيل المذكور في الفقه، أمّا الآثار الوضعية الحقيقية فليست بتشريعية، ولا تنالها يد الإنشاء والاعتبار، فليست قابلةً للمحو بالإسلام والتوبة.

فتنفُّر الطباع عمّن ارتكب قبائح الأعمال والشرور وعبد الأصنام قبل إسلامه وتوبته لا يزول بهما، وكذا عدم الاعتماد على الكذّابين والخائنين وأهل الفجور والشرّ والفساد أمر طبيعيّ لا يمكن رفعه بالإنشاء، ومصلحة النبوّات وتربية العباد، وسياسة اُمورهم تقتضي أن يكون النبيّ والإمام من غيرهم.

وكم فرق بين من لم يكفر بالله طرفة عين، وكان له في سالف عمره سوابق حسنة، وكانت حياته مضيئةً بالخيرات مشرقةً بالصلحوالسلم والكرامة الإنسانية والرشد والفلاح ومنع الظلم ورحمة الأيتام والضعفاء والمستضعفين، وبين من مض-ى برهة من عمره في عبادة الأصنام وارتكاب القبائح حتى وَأْد البنات بقساوة شديدة قلّما يرى مثلها في تاريخ الإنسان.((1))

ص: 42


1- وهذا عمر بن الخطّاب قد دفن فيما روي ستّاً من بناته في الجاهلية، وإن كان [ ليحفر لإحداهنّ الحفرة يريد أن يئدها فيها فيتخلّله غبار الحفر فتنفض البنت عن أبيها غباره، وتمشّط لحيته بأصابعها حناناً ورقّةً فلا يُلين ذلك من قلبه شيئاً، حتى إذا انتهى زجّها في قبرها وأهال التراب بين بكائها وعويلها واستنجادها به: يا أبتاه ! (الاُستاذ محمد سعيد الأفغاني، مجلّة حضارة الإسلام، طبع دمشق، العدد 2، ص 21، س 22).

وثالثاً: عدم نيلِ الظالم عهدَ الله تعالى في حال ظلمه، سيّما إذا كان ظلمه عبادة الأصنام وارتكاب الفجور، والظلم للعباد بالاستعلاء عليهم واستضعافهم واضح لا يحتاج توهّمه إلى دافع، سيّما إذا كان السائل نبيّاً جليلاً كإبراهيم الخليل الّذي بلغ في معرفة الله تعالى الغاية القصوى، ودفع توهّمه خلاف البلاغة، فإذن ليس المراد منه إلّا مطلق من صدر عنه الظلم، بل خصوص من صدر عنه الظلم في الماضي، أو يعلم الله بصدوره عنه في المستقبل، وأمّا المتلبّس بالظلم، فعدم أهليّته معلوم بالضرورة لا حاجة إلى التنبيه عليه.

نعم، هذه الآية لا تدلّ على أزيد من عصمتهم عن المعاصي.

ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾.((1))

وهذه الآية تدلّ على وجوب إطاعة الرسول، واُولي الأمر في كلّ ما يأمرون به وينهون عنه، ولو لم يكونوا معصومين لزم الأمر بإطاعة غير

ص: 43


1- النساء، 59.

المعصوم، والأمر بإطاعته قبيح؛ لكونهمعرّضاً للأمر بالقبيح والنهي عن الحسن.

ومنها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.((1))

فإنّه يدلّ على وجوب الكون مع الصادقين، والكون معهم عبارة عن متابعة أقوالهم والاقتداء بأفعالهم، والتزام سيرتهم وعدم مفارقتهم، فيجب أوّلاً عدم خلوّ الزمان منهم، وثانياً كونهم معصومين عن المعاصي والخطأ والسهو، بل وترك الأولى، وقد روي من طرق الشيعة وأهل السنّة أنّ الصادقين هم أئمّة أهل البيت(علیهم السلام).((2))

وللفخر الرازي في تفسيره الكبير كلام حول تفسير هذه الآية يؤيّد بالإفصاح مذهب الشيعة الإمامية، وكلامه في غاية التحقيق، ولا عبرة بما قال في ذيل كلامه من الجواب عمّا تفطّن به، فإنّه في غاية الضعف،

ص: 44


1- التوبة، 119.
2- يراجع في ذلك: الحاكم الحسكاني، شواهد التنزيل، ج1، ص 341 - 345؛ ابن البطریق، خصائص الوحي المبين، الفصل23، ص234 - 235؛ السيوطي، الدرّ المنثور، ج3، ص290؛ وغيرها من كتب أعلام الشيعة وأهل السنّة، ولابن البطريق هنا استدلال على أنّ الإيمان والتقوى لا ينفعان إلّا بعد الكون مع أمير المؤمنين عليّ (عَلَيْهَ السَّلاَمُ) (ص234 - 235).

ويستبعد خفاء ضعفه عن مثله، فلعلّه إنّما قاله خوفاً من النواصب الّذين يرون إنكار فضائل أهل بيت النبيّ(علیهم السلام) وبغضهم من علائم كون الشخص من أهل السنّة، مع أنّ النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: «لَا يُحِبُّ عَلِيّاً مُنَافِقٌ، وَلَا يُبْغِضُهُ مُؤْمِنٌ».((1))

وقال عليّ(عَلَيْهَ السَّلاَمُ): «عَهِدَ إِلَيَّ النَّبيُّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): أَنَّهُ لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ».((2))ومن الآيات الدالّة على عصمتهم: قوله تعالى حكايةً عن إبليس: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾؛((3))

وقوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾؛((4))

وقوله سبحانه: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّيَ

ص: 45


1- الترمذي، سنن، ج5، ص299، ح 3801؛ أبو يعلی الموصلي، مسند، ج12، ص361، ح 6931.
2- راجع: أحمد بن حنبل، مسند، ج1، ص84، 95، 128؛ الترمذي، سنن، ج5، ص306، ح 3819؛ النسائي، سنن، ج8، ص116؛ النسائی، السنن الکبری، ج5، ص137.
3- ص، 82 - 83.
4- الحجر، 42؛ الإسراء، 65.

إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ ((1))، وقوله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾((2))؛ وقوله عزّ من قائل: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾((3))وغيرها ممّا يطول بنا المقام بذكرها وبيان الاستدلال بها.

إن قلت: إذا كان الأمر بإطاعة غير المعصوم قبيحاً لا يصدر عن الحكيم - كما ذكرتم في بيان الاستدلال بقوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾((4)) - فما تقولون في اُمراء السرايا، وحكّام البلاد، والمفتي والقاضي، مع أنّ الاُمّة اتّفقت على وجوب إطاعتهم وعدم عصمتهم؟

قلت أوّلاً: إنّهم وإن كانوا ممّن تجب طاعته فيما علم بعدم خطئهم، وفيما لا طريق إلى العلم بخطئهم، إلّا أنّه لو علم بخطئهم لم تجب إطاعتهم؛ لأنّه «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصيَةِ الْخَالِقِ»((5))وليس أمر اُمراء

ص: 46


1- يونس، 35.
2- آل عمران، 31.
3- الأحزاب، 33.
4- النساء، 59.
5- نهج البلاغة، الحکمة 165 (ج4، ص41)؛ الصدوق، من لا يحض-ره الفقيه،[ ج4، ص381؛ الطبرسي، مکارم الأخلاق، ص420؛ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص228.

السرايا وحكم حكّام البلاد بحيث لا يمكن تخلّفه عن الواقع وفرض الخطأ فيه، كما هو الأمر في أمر النبيّ والإمام وحكمهما، لأنّه لا يتخلّف عن الواقع، ودليل على الش-رع، والش-رع يعرف به كما يعرف بغيره من مصادر التشريع.

وثانياً: إنّ النبيّ والإمام إذا أخطآ ليس من ورائهما نبيّ أو إمام ينبّه على خطئهما، بخلاف اُمراء الس-رايا والحكّام فإنّ النبيّ والإمام من ورائهم يحفظان الشريعة من التحريف والتغيير، وينبّهان على خطأ اُمراء السرايا والعمّال.

وثالثاً نقول: إمّا أن نقول بوجوب إطاعة الإمام في جميع الأوقات، أو يخصّص عمومه ببعض الأوقات، لا سبيل إلى الثاني، فإنّ الاُمّة اتّفقت على وجوب إطاعته مطلقاً وفي جميع الأوقات، وعلى هذا لو فرض كون الإمام غير معصوم يمكن أن يقع في الخطأ في وقت مّا، ويأمر على خلاف ما أمر به النبيّ فحينئذ: إمّا أن تجب إطاعته ومخالفة النبيّ، وهذا باطل قطعاً، وإمّا أن تجب إطاعة النبيّ ومخالفة الإمام، وهو مخالف لوجوب إطاعة كلّ واحد منهما؛ لأنّ الله ساوى بينهما في الأمر بإطاعتهما، وإمّا أن تجب إطاعة كلّ واحد

ص: 47

منهما وهو محال وتكليف بما لا يطاق، فلا يبقى إلّا الأمر الرابع وهو عصمة الإمام كالنبيّ، وعدم وقوع المخالفة بينهما.

وعلى هذا فنقول: فرق واضح بين إطاعة الإمام وإطاعة اُمراء الس-رايا والحكّام، فإنّ الله لم يساوِ بين إطاعتهم وإطاعة الإمام والنبيّ، وإنّما وجبت إطاعتهم بأمر النبيّ أو الإمام بتعيينهما إيّاهم لهذه المناصب؛ ولذا يجب أن يكون الإمام كالنبيّ معصوماً دون غيرهما من اُمراء السرايا والحكّام.

هذا بعض الأدلّة الّتي اُقيمت على عصمة الأنبياء والأئمّة(علیهم السلام) من القرآن المجيد المصدر الأوّل للتشريع الإسلامي بتقرير منّا.وهنا أيضاً أدلّة كثيرة من السنّة الّتي هي المصدر الثاني للتش-ريع، نشير إلى طائفة منها:

فمنها: الأحاديث المتواترة المشهورة بين الفريقين بأحاديث الثقلين.((1))

ص: 48


1- منها: ما أخرجه عبد بن حميد في مسنده، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «إِنِّي تَارِكٌ فيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ الل-هِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتي، إِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّی يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ». عبد بن حميد، منتخب مسند عبد بن حميد، ص108. ومنها: ما أخرجه أحمد في مسنده: «إِنِّي أَوْشَكَ أَنْ اُدْعَی فَاُجيبَ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، كِتَابَ الل-هِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعِتْرَتِي، کِتَابُ الل-هِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَإِنَّ اللَّطِيفَ الْ-خَبيرَ أَخْبَرَنِي أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقا حَتَّی يَرِدَا عَلَيَّ الْ-حَوْضَ، فَانْظُرُوني كَيْفَ تَخْلُفُونَنِي فِيهِمَا». أحمد بن حنبل، مسند، ج3، ص17.

وهذه الأحاديث - على كثرتها وتواترها، وكثرة مُخرِجِيها ورواتها من الصحابة - قد دلّت على عدم خلوّ الزمان من إمام معصوم عن الذنب والسهو والخطأ، وحصر طريق الأمن من الضلال والاختلاف بالتمسّك بالكتاب والعترة الهادية المعصومة.

ومنها: أحاديث السفينة((1))، الدالّة على أنّ «مثل أهل بيت رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق».

وهذه الأحاديث أيضاً دلّت على وجود إمام معصوم من أهل البيت في جميع الأعصار.

ومنها: أحاديث الأمان،((2)) وهذه الأحاديث أيضاً دلّت على عدمخلوّ الزمان من معصوم من أهل بيت النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يكون وجوده أماناً

ص: 49


1- أخرج هذه الأحاديث من أعلام العامّة ما يربو على المائة عن جمع من الصحابة، وألفاظها في بعض طرقها هكذا: «مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي مَثَلُ سَفينَةِ نوُحٍ، مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ». الصفار، بصائر الدرجات، ص317؛ الکوفي، مناقب الإمام أمير المؤمنين(عَلَيْهَ السَّلاَمُ)، ج2، ص146؛ المغربي، شرح الاخبار، ج2، ص502 - 503؛ ج3، ص3؛ الحاکم النيسابوري، المستدرك، ج2، ص343؛ ج3، ص151.
2- ولفظها في بعض طرقها هكذا: «النُّجُومُ أَمَانٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْغَرَقِ، وأَهْلُ بَيْتي أَمَانٌ لِاُمَّتي مِنَ الْإِخْتِلَافِ ...». الحاکم النيسابوري، المستدرك، ج3، ص149؛ الصالحي الشامي، سبل الهدی والرشاد، ج11، ص7؛ المتّقي الهندي، کنز العمّال، ج12، ص102.

لأهل الأرض، والتمسّك به أماناً من الضلالة والاختلاف.

وقد أشبعنا الكلام حول هذه الأحاديث «أحاديث الثقلين»، و «أحاديث السفينة»، و «أحاديث الأمان» وأسنادها ومتونها ودلالتها في كتابنا أمان الاُمّة من الضلال والاختلاف.

ولا يخفى عليك أنّ الأحاديث في عصمة النبيّ والإمام كثيرة جدّاً، والأحاديث المذكورة وإن لم تدلّ على عصمة النبيّ إلّا أنّها بعد الدلالة على عصمة الإمام تدلّ على عصمة النبيّ بالطريق الأولى، وإنّما استشهدنا بهذه الأحاديث لتواترها وشهرتها بين الفريقين، ومن أراد أكثر من ذلك فليراجع الموسوعات والجوامع، كالكافي والبحار.

وقد ثبت بالأدلّة العقلية والنقلية عصمة النبيّ والإمام عن جميع المعاصي عمداً وخطأً وسهواً، وعن السهو والنسيان فيما يؤول إلى تبليغ أحكام الله تعالى، وشؤون الرسالة والإمامة، وأمّا العصمة عن الخطأ والنسيان والسهو في الاُمور العاديّة وترك الأولى لغير نبيّنا والأئمّة(علیهم السلام) من الأنبياء الماضين فغير ثابتة، بل ربما يستظهر من بعض الآيات والأحاديث صدور هذه الاُمور من بعضهم، وهذا وإن كان قابلاً للتأويل إلّا أنّه ليس في البحث عنه كثير فائدة؛ لأنّ مثل ذلك غير مض-رّ بشؤون رسالاتهم ومقاماتهم العليّة الثابتة، وليس من الاُمور الاعتقادية

ص: 50

الّتي تجب معرفتها، فيكفينا الاعتقاد في ذلك إن قيل بوجوب الاعتقاد فيه بما هو الواقع.

نعم، ل-مّا قلنا: إنّ العصمة هي أعلى مراتب حضور العبد عند مولاه، ونورانية نفسانية ملكوتية تذهب بكلّ الظلام، وتش-رق كلّ وجود صاحبها فلا شكّ أنّ لهذه النورانية مراتبَ ودرجاتٍ أعلاهاما حصل لنبيّنا والأئمّة(علیهم السلام)، وأدناها ما يصون الشخص عن المعاصي عمداً وسهواً، وعن الاشتباه والسهو والنسيان في أمر الرسالة وشؤونها، فعلى هذا يمكن أن يوجد في عظماء الأنبياء نورانية وعناية ربّانية دائمة تصرفهم عن ترك الأولى، وتدفع عن قلبهم غطاء السهو و حجاب النسيان.

وأمّا بالنسبة إلى نبيّنا محمد(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأوصيائه وخلفائه الإثني عش-ر(علیهم السلام) فحيث إنّهم في أعلى مراتب القوّة القدسية والنورانية الربّانية، ولا تفوق رتبتَهم في الحضور عند المولى والجلوس على بساط قربه واُنسه رتبة، فعدم صدور ترك الأولى عنهم كعدم صدور المعاصي في نهاية الوضوح، يظهر ذلك لكلّ من درس تاريخ حياتهم النورية وأخلاقهم الإلهية، وأدعيتهم ومناجاتهم، وخشيتهم من الله تعالى، وإنابتهم إليه وانقطاعهم عن الخلق.

فهم أكمل المظاهر لإخلاص العبد وترك الاشتغال بغير الله تعالى،

ص: 51

لا يصدرون إلّا عن أمره، كلّ أفعالهم محمودة مرضيّة، وكلّ حالاتهم حميدة شريفة، لا تؤثّر فيهم الدواعي إلّا داعي الله، فكمال إخلاصهم يمنعهم عن الاعتناء بغير داعي الله تعالى، وعن الاشتغال بغير ذكره وامتثال أوامره ونواهيه، قد خرقت أبصار قلوبهم حجب النور فوصلت إلى معدن العظمة، وصارت أرواحهم معلّقة بعزّ قدسه، جباههم ساجدة لعظمته، وعيونهم ساهرة في خدمته، ودموعهم سائلة من خشيته، وقلوبهم متعلّقة بمحبّته، وأفئدتهم منخلعة من مهابته، انقطعت همّتهم إليه، وانص-رفت رغبتهم نحوه، لقاؤه قرّة أعينهم، وقربه غاية سؤلهم. إذن فكيف يصدر ترك الأولى ممّن بعض شؤونه وحالاته ما سمعت؟! رزقنا الله تعالى محبّتهم وولايتهم وشفاعتهم، وحشرنا في زمرتهم.

ولا يخفى عليك أنّ ترك الأولى ليس معناه ترك المستحبّ أو فعل المكروه فحسب، بل ربّما يكون بترك المستحبّ أو فعل المكروه، وربّما يكون بفعل المستحبّ وترك المكروه، والنبيّوالإمام أعلم بموارد ترك الأولى، فلا يجوز نسبة ترك الأولى إلى النبيّ والوليّ، بل إلى غيرهما من الفقهاء العارفين بأحكام الله تعالى، وموارد تزاحم المستحبّات والمكروهات، بعضها من بعض، بمجرّد ترك المستحبّ أو فعل المكروه،

ص: 52

بل يمكن الاستدلال بفعلها على عدم كون هذا الفعل أو الترك مستحبّاً أو مكروهاً بقول مطلق، وإلّا لَما كان يصدر عنهم.

ثم إنّه قد بقي مطلب آخر، وهو: النظر في الآيات والأحاديث الّتي تُوُهِّم منها عدم عصمة الأنبياء، ولئلّا يطول بنا المقام نحيل الباحثين إلى التفاسير المأثورة عن أهل بيت النبوّة أعدال القرآن الكريم، وكتاب تنزيه

الأنبياء و الشافي وتلخيصه، و اللوامع الإلهية، و بحار الأنوار وغيرها من كتب الكلام والحديث.

ومجمل القول في الآيات: إنّها غير ظاهرة في عدم عصمة الأنبياء، ولو سلّم ظهور لبعضها يجب تأويله وحمله على المجاز، لدلالة هذه القرائن العقلية على عدم إرادة ظاهرها.

وأمّا الأحاديث فأكثرها من الإسرائيليّات، ومخرَّجة في كتب العامّة، فهي إمّا موضوعة لا سند لها ولا أصل، كخبر الغرانيق والإسرائيليّات الّتي اُخذت من اليهود، مثل «كعب الأحبار» و «وهب بن منبّه» في قصص الاُمم الماضية وأنبيائهم، تجد فيها من الخرافات والأعاجيب ما تضحك له الثكلى. وإمّا ضعيفة السند لا يعتمد عليها، سيّما في اُصول الدين، ومعارضة بأحاديث اُخرى صحيحة معتضدة بحكم العقل.

ص: 53

وبالجملة: فلا تجد في الأخبار ما يصحّ التعويل عليه، والركون إليه في نفي العصمة للأنبياء(علیهم السلام)، والله الهادي إلى الصواب.

ص: 54

المبحث الثانی: في علم الإمام(عَلَيْهَ السَّلاَمُ)

وإليك سؤال السائل العزيز بلفظه:

هل يزداد علم الإمام المعصوم(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) مع الأيّام؟ وهل أنّ علمه(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) بعد تولّيه الإمامة يختلف عنه قبل ذلك؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكننا والحالة هذه الحكم بأفضليّة الإمام عليّ(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) على الإمام الجواد(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) الّذي تولّى الإمامة وهو ابن تسع سنين؟

الجواب: قد عقد شيخ المحدّثين ثقة الإسلام الكليني (رحمه الله)في كتاب الحجّة من الجامع الكافي أبواباً في علومهم، منها: «باب لولا أنّ الأئمّة(علیهم السلام) يزدادون لنفد ما عندهم».

وإبداء الرأي في هذه الأبواب - لو لم نقل بكون بعضها من متشابهات كلامهم وأسرارهم(علیهم السلام) - موقوف على ملاحظة جميعها، وما فيها من الأحاديث، وردّ مجملها على مفصّلها، وظاهرها على صريحها،

ص: 55

وملاحظة أسنادها، ثمّ شرحها وتفسيرها بما لا يخالف اُصول المذهب، كأفضلية الإمام أمير المؤمنين(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) من سائر الأئمّة(علیهم السلام)، وأفضلية رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الجميع.

فلو فرض وجود حديث معتبر يدلّ بلازمه الخفيّ مثلاً على أفضلية بعض الأئمّة(علیهم السلام) من أمير المؤمنين(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) لا يحتجّ به؛ لأنّ المعلوم من ضرورة المذهب، وما يعرفه الخاصّ والعامّ من مذهب أهل البيت(علیهم السلام)، اتّفاقهم على أفضليّة أمير المؤمنين من غيره من الأئمّة(علیهم السلام).

فمثل هذا اللازم ليس المراد قطعاً، وهذه القرينة القطعية تكفي في تعيين المراد، وعدم اعتبار مثل هذه اللوازم بل الظواهر.

إذن إذا عرضت هذه الأحاديث على أهل الفنّ وعلى من له اُنس بأحاديثهم ومعرفة مذاهبهم، لا يعتني بمثل هذه الاحتمالات، كما أنّك لا تحتمل إذا سمعت قائلاً يقول: «رأيت أسداً يرمي» أنّ مراده من الأسد هو الحيوان المفترس.

وبعد هذه المقدّمة نقول: إنّ ازدياد علم الإمام المعصوم أمر ممكن معقول قد ورد في الأحاديث، ولا شكّ في أنّ الأنبياء والأئمّة(علیهم السلام) وإن عُلِّموا الأسماء كلّها، وأنّ الأئمّة(علیهم السلام) عُلِّموا علم ما كان وما يكون،((1))

ص: 56


1- عقد في الكافي باباً بهذا العنوان: «باب أنّ الأئمّة(علیهم السلام) يعلمون علم ما كان وما[يكون، وأنّه لا يخفی عليهم الشيء»، الکليني، الکافي، ج1، ص260. كما عقد باباً بهذا العنوان: «باب أنّ الأئمّة(علیهم السلام) يعلمون جميع العلوم الّتي اُخرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل(علیهم السلام)»، الکليني، الکافي، ج1، ص255. وقال مولانا أمير المؤمنين(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) على ما في نهج البلاغة: «وَالل-هِ لَوْ شِئْتُ أَنْ اُخْبِرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَخْرَجِهِ وَمَوْلِجِهِ وَجَمِيعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فِيَّ بِرَسُولِ الل-هِ|، أَلَا وَإِنِّي مُفْضِيهِ إِلَى الْ-خَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْح-َقِّ وَاصْطَفَاهُ عَلَى الْ-خَلْقِ مَا أَنْطِقُ إِلَّا صَادِقاً، وَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَبِمَهْلِكِ مَنْ يَهْلِكُ وَمَنْجَى مَنْ يَنْجُو، وَمَآلِ هَذَا الْأَمْرِ، وَمَا أَبْقَى شَيْئاً يَمُرُّ عَلَى رَأْسِي إِلَّا أَفْرَغَهُ فِي أُذُنَيَّ وَأَفْضَ-ى بِهِ إِلَيَّ»؛ نهج البلاغة، الخطبة 175 (ج2، ص89 - 90). وقال(عَلَيْهَ السَّلاَمُ): «فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَوَ الل-هِ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْ ءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ وَلَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَتُضِلُّ مِائَةً إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا وَمُنَاخِ رِكَابِهَا وَمَحَطِّ رِحَالِهَا وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلاً وَيَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتًا». نهج البلاغة، الخطبة 93 (ج1، ص182 - 183).

إلّا أنّه لا شكّ في أنّ علم الجميع عند علم الله ليسإلّا كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾((1))؛ ولذا خاطب نبيّه الّذي علَّمه ما لم يكن يعلم وقال: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾.((2))

فالإمام كالنبيّ في حركته الكمالية، وسيره إلى الله تعالى لا يقف على حدٍّ، كما أنّ السير إلى الله تعالى، في عين أنّه في كلّ مرحلة من مراحله مرتبة من الوصول ونيل للمقصود، فإنّه لا نهاية له، ولا ينتهي إلى حدّ، ففي هذا

ص: 57


1- الإسراء، 85.
2- طه، 114.

المسير يسير الإمام دائماً إلى الأمام، ولا يتساوى يوماه، بل كلّ يوم من أيّامه أفضل من أمسه، وليس ابتداء هذا السير من حين الولادة الجسمانية، بل يبتدئ من حين وجوده النوري، ويستمرّ في العوالم والنشئآت الّتي يُسار به قبل هذا العالم، كما أنّ أمده لا ينتهي بارتحاله من هذه الدنيا، ولعلّ سائر الناس من الصلحاء في عالم البرزخ كان هذا حالهم، لا ينتهي سيرهم الكمالي بالموت العنص-ري، بل يمكن أن يكون الموت لهم بحسب صلاحياتهم وقابلياتهم مبدأً لمثل هذا السير، والله أعلم.

والحاصل: أنّ مثل هذا السير لازم لكلّ سالك إلى الله، ولا نهاية له، فهو لا يزال في حال الرجوع إلى الله تعالى: قال الله سبحانه: ﴿إِنَّا لِلهِ وَإِنَّ-ا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾((1))، وقال تعالى: ﴿ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾.((2)) ولو فرض لسلوكه وسيره ورجوعه هذا انتهاء فلا دخل لطول حياته العنص-رية، وقصرها فيه.

ولا يخفى عليك أنّا وإن عجزنا عن درك حقيقة هذا الشأن والعلوم الّتي تفاض على الإمام، إلّا أنّه لا وجه لاستبعاد مثل هذا الشأن لهم وكم لهم من الشؤون بل ولغيرهم ممّا لا ندرك حقيقته، ولكن نعرفه

ص: 58


1- البقرة، 156.
2- الشورى، 53.

بآثاره ونلمسه بعينه.

إذن فلا دخل لتولّي الإمامة وعدمه في العلم الّذي يزداده الإمام حتى يشكل الحكم بأفضلية الإمام عليّ(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) على الإمام الجواد(عَلَيْهَ السَّلاَمُ).

نعم، إنّ الأئمّة(علیهم السلام) في العلوم المشار إليها بقوله سبحانه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾((1)) وفيما هو من مؤهّلات الإمامة سواء، لا يتفاوت علمهم هذا بعد تولية الإمامة من قبلها، ولا يزدادون فيه بتولّيهم.

وعلى هذا يدفع توهّم الإشكال في أفضلية الإمام عليّ(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) من الإمام الجواد(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) لتولّيه الإمامة في صغر سنّه؛ لعدم ثبوت أفضليّته من سائر الأئمّة بذلك.

ومسألة تولِّي أمر الإمامة أمر إداريّ منظَّم يرجع إلى الحكم والإدارة، لا تنحصر شؤون الإمامة فيه، والإمام صاحب هذه الشؤون هو قبل تولّيه الإمامة كبعد تولِّيه، فمن جملة هذه الشؤون حجّية أقواله وأفعاله في الأحكام الشرعية، والمعارف الإسلامية، فهذه ثابتة له مطلقاً، ولا دخل لتولّيه الإمامة في ذلك.

فالإمام الحسن المجتبى(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) إمام واُسوة، وأقواله وأفعاله وسيرته

ص: 59


1- البقرة، 31.

وهديه حجّة يجب الأخذ بها، ويحرم ردّها في حياة أبيه وقبل تولِّيه الإمامة واُمور النظام.

كما أنّ الحسين(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) أيضاً قبل تولِّيه الاُمور في عص-ر أبيه وعص-ر أخيه كان إماماً، كما نصّ على ذلك رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقال: «الْ-حَسَنُ وَالْ-حُسَيْنُ إِمَامَانِ قَامَا أَوْ قَعَدَا».((1)) فهما إمامان حتى في عص-ر النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وفي صغر سنّهما.

والإمام عليّ(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) أيضاً كان إماماً ووليّاً قبل تولِّيه الإمامة والولاية في عص-ر الرسالة أيضاً، ولا ينافي ذلك كونه مأموراً بإطاعة النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وكون النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) متبوعاً ونبيّاً وحاكم-اً عليه، والإمام(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) تابع-اً لهومقتدياً به، وواحداً من اُمّته، ومستضيئاً من أنوار علومه، ومتَّبعاً لش-ريعته، وكون إمامة الإمام وسائر الأئمّة(علیهم السلام) أيضاً جزءاً من شريعته ورسالاته.

ويدلّ على ذلك الحديث الأوّل من «باب حالات الأئمّة(علیهم السلام) في صغر السنّ» من كتاب الحجّة من الكافي، والحديث طويل أخرجه بإسناده عن الكناسي، قال: سألت أبا جعفر(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) ... إلى أن قال: فقلت: جعلت فداك، أكان عليّ(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) حجّةً من الله ورسوله على هذه الاُمّة في حياة رسول

ص: 60


1- الصدوق، علل الش-رائع، ج1، ص211؛ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص163؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص291، ح 54.

الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟ فقال: «نَعَمْ يَوْمَ أَقَامَهُ لِلنَّاسِ وَنَصَبَهُ عَلَماً وَدَعَاهُمْ إِلَى وِلَايَتِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ»، قلت: وكانت طاعة عليّ(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) واجبةً على الناس في حياة رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبعد وفاته؟ فقال: «نَعَمْ وَلَكِنَّهُ صَمَتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ مَعَ رَسُولِ الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وَكَانَتِ الطَّاعَةُ لِرَسُولِ الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عَلَى اُمَّتِهِ وَ عَلَى عَلِيٍّ(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وَكَانَتِ الطَّاعَةُ مِنَ اللهِ وَمِنْ رَسُولِهِ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ لِعَلِيٍّ(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وَكَانَ عَلِيٌّ (عَلَيْهَ السَّلاَمُ) حَكِيماً عَالِماً».((1))

ثمّ إنّ لنا كلاماً في المقام لا بأس بالإشارة إليه، وهو: أنّ أفضلية بعض الناس من بعض، وبعض الأنبياء من بعض، وبعض الأئمّة من بعض إنّما تكون بقول مطلق في الصفات النفسية والخصائص الذاتية، والتخلّق بالأخلاق الإلهية إذا كان المفضّل في كلّ هذه الكمالات أقوى وأفضل من غيره، أمّا في غيرها من الفضائل فربّما لا يوجد من يكون باعتبار جميع العناوين والأوصاف أفضل من غيره؛ فإنّ الإمام عليّ(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) أفضل من ابنيه سبطَي نبيّ الرحمة، من جهة أنّه ابن عم الرسول، وزوج البتول، وأبو السبطين، فليس لهما ابن عمّ كابن عمّ أبيهما، وزوجة كزوجته، وابنان كابنيه، وهما أفضل من الإمام(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) من جهة أنّ لهما أباً مثل الإمام، وجدّاً مثل الرسول(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، واُمّاً مثل سيّدة نساء العالمين،

ص: 61


1- الکليني، الكافي، ج1، ص382 - 383، ح1.

وليس للأمير(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) هذه الفضائل، وجعفر الطيّار الشهيد أفضل من أخيه الإمام، من جهة أنّ له أخاً كالإمام، وليس للإمامأخٌ كأخي جعفر(رحمه الله).

ومسألة تولّي الإمام الجواد(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) الإمامة في صغر السنّ فضيلة، وإن شئت قل: أفضليّةٌ من هذا القبيل، فالإمام أبو الحسن الرضا(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) استشهد وابنه الإمام الجواد(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) في صغر السنّ لابدّ له من تولّي الإمامة بعد أبيه، وقيامه مقامه؛ لأنّه وسائر الأئمّة(علیهم السلام) في مؤهّلات تولّي الأمر في حال صغرهم وكبرهم سواء.

ومن هنا يعلم أنّ نبوّة عيسى ويحيى في صغرهما وكونهما صبيَّين لا يدلّ على أفضليّتهما من غيرهما من الأنبياء؛ لأنّ نبوّتهما في حال الصغر ليس لأنّهما استأهلا لذلك وغيرهما ممّن صار نبيّاً بعد ما بلغ أشُدَّه لم يستأهل لذلك في حال الصغر، بل ربّما ذلك كان لحكمة ومصلحة اقتضت ذلك فيهما، وتلك في غيرهما، فبقاء النبيّ في القوم أربعين سنة، وظهور صدقه وأمانته، ومكارم أخلاقه في الناس ربّما كان هي المصلحة الموجبة لتأخّر بعثه ومأموريته للدعوة إلى الله تعالى، كما ربّما يكون ذلك لحصول الاستعداد اللازم في الناس لقبول الإسلام، وغير ذلك من المصالح الّتي لا يعلمها إلّا الله والراسخون في العلم ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.((1))

ص: 62


1- الأنعام، 124.

المبحث الثالث في اختلاف مستويات الأئمّة(علیهم السلام) في الإيمان والعلم والأخلاق

قال السائل المحترم - زاد الله في سداده ورشاده -: كيف يمكننا درء الشبهة القائلة باختلاف مستويات الأئمّة(علیهم السلام) إيماناً وعلماً وخُلُقاً؟ وذلك باعتبار ما يرويه لنا التاريخ من سيرهم.

أقول: إن كان المراد من المستويات مقوّمات الأهلية للإمامة، وتولّي الزعامة والقيادة، فكلّ واحد منهم(علیهم السلام) واجد لتلك المرتبة، وإن كان المراد اختلاف مستوياتهم في الزائد على هذه المرتبة فالّذي دلّ عليه الدليل هو أفضلية الإمام أمير المؤمنين(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) من سائر الأئمّة ومن الأنبياء السلف على نبيّنا وآله وعليهم السلام.

ويستفاد من بعض الأحاديث أنّ مولانا المهديّ(علیهم السلام) - وهو تاسع الأئمّة من ذرّيّة الحسين(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) - أفضل التسعة(علیهم السلام) كما أنّ الأحاديث

ص: 63

الكثيرة الّتي دلّت على أنّه(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) يؤمّ عيسى بن مريم وعيسى يقتدي به صريحةٌ في أفضليّته من عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام.

وإن كان المراد أنّ سيرهم التاريخية دلّت على اختلاف مستوياتهم، فنقول:

أوّلا: إنّ سيرهم التاريخية إنّما دلّت على علوِّ مستوى أرباب هذه السيرة، ولم نجد فيها ما يدلّ على اختلاف مستوياتهم، ومجرّد عدم حفظ التاريخ سيرة بعضهم، وما صدر عنه من العلوم لا يدلّ على أنّ مستوى غيره ممّن حفظ عنه التاريخ ذلك كان أرفع وأعلى منه، لاسيّما مع ما نعلم بأنّ السبب الوحيد في عدم حفظ ما صدر عن بعض الأئمّة(علیهم السلام) مثل الإمامين السبطين(عَلَيْهَما السَّلاَمُ) إلّاالنزر اليسير، هو السياسات الغاشمة الجبّارة الحاكمة على المسلمين.

وإن شئت أن تعرف أفاعيل السياسة في ذلك، والخسارات العلمية الّتي منيت بها هذه الاُمّة من أرباب هذه السياسات، الّتي حرمت الناس حرّيّاتهم في أخذ العلوم الإسلامية من منابعها الأصلية ومصادرها الأوّلية راجع كتب التاريخ، وكتاب النصائح الكافية، وكتابنا أمان الاُمّة من الضلال والاختلاف.

نعم، مرّت على هذه الاُمّة أزمنة كان أخذ العلم عن أهل البيت(علیهم السلام)

ص: 64

وروايته من أعظم الجرائم السياسية، يُعذَّب مُحِبُّوهم وشيعتهم شرَّ تعذيب، ويُنكَّل بهم أشدّ التنكيل، يُقطِّعون أيديهم وألسنتهم، ويقتلونهم شرّ قتلة، ويسبّون بطل الإسلام ونفس الرسول وباب علمه وخليفته ووصيّه على المنابر الّتي لم تقم في الإسلام إلّا بمجاهداته وتضحياته وبطولاته.

ففي هذه الظروف والأحوال لم تسمح الفرص لبعض الأئمّة (علیهم السلام) القيام ببثِّ العلم كما سمحت للبعض الآخر مثل الإمام الباقر والإمام جعفر الصادق(عَلَيْهَما السَّلاَمُ)، ومع ذلك فما في أيدينا منهم يكفي في الدلالة على علومهم اللدُنِّية، وأنّ مستوى كلّ واحد منهم في الإيمان والعلم والأخلاق أعلى المستويات، وأنّهم خُزّان العلم، ومعادن الإيمان، وينابيع الحكم، وكنوز الرحمن، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، وعلم كلّ واحد منهم علم الجميع.

فهذا الإمام جعفر الصادق(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) قد أخذ العلم منه جماعة يربو عددهم على أربعة آلاف رجل، حتّى أنّ الحافظ الشهير ابن عقدة (المتوفّى سنة 333 ه ) صنّف كتاباً في أسماء الرجال الّذين رووا عنه أربعة آلاف رجل، وأخرج لكلّ رجل حديثاً وعلماً رواه عن

ص: 65

الصادق(عَلَيْهَ السَّلاَمُ)، وله أيضاً كتاب من روى عن أمير المؤمنين(عَلَيْهَ السَّلاَمُ)، وكتاب من روى عن الحسن والحسين(عَلَيْهَما السَّلاَمُ)، وكتاب من روى عن عليّ بن الحسين(عَلَيْهَ السَّلاَمُ)، وكتاب من روى عن أبي جعفر محمد بن عليّ(عَلَيْهَ السَّلاَمُ)، وهو الّذي قال في مجلس مناظرة له:إنّه يجيب بثلاثمائة ألف حديث من أحاديث أهل البيت(علیهم السلام).

ومَن سَبر غور كتب الحديث، واُصول الشيعة، وكتب التراجم والرجال، وما بقي ممّا صدر عنهم في الأجواء المملوءة بالاضطهاد والضغط والقمع، في جميع حاجات الإنسان المعنوية والماديّة يعرف أنّ مستواهم في جميع الكمالات أعلى وأنبل من أن يُقاس إليهم أحد من الناس.

جعلنا الله تعالى من شيعتهم، ووفّقنا لمتابعتهم، والاقتداء بهم، والمنتظرين لفرج قائمهم، وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

لطف الله الصافي الگلپايگاني

ليلة السابع عشر من رجب المرجّب، سنة 1403 ه.

ص: 66

مصادر التحقیق

1. القرآن الکريم.

2. أعيان الشيعة، الأمين العاملي، السيّد محسن (م. 1371ق.)، بيروت، دار التعارف، 1403ق.

3. الألفين في إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) ، العلّامه الحلّي، حسن بن يوسف (م. 726ق.)، الکويت، مکتبة الألفين، 1405ق.

4. الأنوار البهيّة في تواريخ الحجج الإلهية، المحدّث القمّي، عبّاس (م. 1359ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1417ق.

5. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار(علیهم السلام)، المجلسي، محمد باقر (م. 1111ق.)، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1403ق.

6. البرهان في تفسير القرآن، البحراني، السيّد هاشم الحسيني (م. 1107ق.)، طهران، مؤسّسة البعثة، 1416ق.

7. بصائر الدرجات في فضائل آل محمد(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، الصفار، محمد بن الحسن (م. 290ق.)، طهران، موسّسة الأعلمي، 1404ق.

8. تجريد الاعتقاد، الخواجة نصير الدين الطوسي، محمد بن محمد

ص: 67

(م. 672ق.)، قم، مکتب الإعلام الإسلامي، 1407ق.

9. تخمیس قصيدة البردة (للبوصیري)، الأعرجي، السیّد حسن، بیروت، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، تراثنا، العدد2، السنة 6، 1411ق.

10. تصحيح اعتقادات الإمامية، المفيد، محمد بن محمد (م. 413ق.)، بيروت، دار المفید، 1414ق.

11.تفسير الصافي، الفيض الکاشاني، محسن بن مرتضی1. (م. 1091ق.)، طهران، مکتبة الصدر، 1416ق.

12. تفسير القمّي، القمّي، عليّ بن إبراهيم (م. 307ق.)، قم، دار الکتاب، 1404ق.

13. التفسير الکبير (مفاتيح الغيب)، الفخر الرازي، محمد بن عمر (م. 606ق.)، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1420ق.

14. تفسير نور الثقلين، الحويزي، عبد عليّ بن جمعة (م. 1112ق.)، قم، منشورات إسماعيليان، 1412ق.

15. تنزيه الأنبياء، السيّد المرتضی، عليّ بن الحسین (م. 436ق.)، بیروت، دار الأضواء، 1409ق.

16. حضارة الإسلام، الأفغاني، محمد سعيد، دمشق، العدد 2.

17. حقّ اليقين في معرفة اُصول الدين، شبّر، السيّد عبد الله

ص: 68

(م. 1242ق.) قم، منشورات أنوار الهدی، 1424ق.

18. الخرائج و الجرائح، قطب الدین الراوندي، سعيد بن هبة الله (م. 573ق.)، قم، مؤسّسة الإمام المهدي(عَلَيْهَ السَّلاَمُ)، 1409ق.

19. خصائص الوحي المبين، ابن البطريق، يحيی بن الحسن (م. 600ق.)، دار القرآن الکريم، 1417ق.

20. الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، السيوطي، جلال الدين (م. 911ق.)، قم، مکتبة المرعشي النجفي، 1404ق.

21. روض الجنان وروح الجنان في تفسير القرآن، أبو الفتوح الرازي، حسين بن عليّ (م. 554ق.)، المشهد، آستان القدس الرضوي، 1408ق.

22. رياض السالکين في شرح صحيفة سيّد الساجدين، المدني الشيرازي، السيّد عليّ خان بن أحمد (م. 1120ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1415 ق.

23. سبل الهدی والرشاد في سيرة خير العباد، الصالحي الشامي، محمد بن يوسف (م. 942ق.)، بيروت، دار الکتب العلمية، 1414ق.

24سنن ابن ماجة، ابن ماجة القزويني، محمد بن يزيد (م.1. 275ق.)،دار الفکر.

25. سنن الترمذي، الترمذي، محمد بن عيسی (م. 279ق.)، بيروت،

ص: 69

دار الفکر، 1403ق.

26. السنن الکبری، البيهقي، أحمد بن الحسين (م. 458ق.)، بيروت، دار الفکر، 1416ق.

27. السنن الکبری، النسائي، أحمد بن شعيب (م. 303ق.)، بيروت، دار الکتب العلمية، 1411ق.

28. سنن النسائي، النسائي، أحمد بن شعيب (م. 303ق.)، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

29. شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار(علیهم السلام)، المغربي، قاضي نعمان بن محمد التميمي (م. 363ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1414ق.

30. شرح الأسماء الحسنی، السبزواري، ملّا هادي (م. 1300ق.)، قم، مکتبة بصیرتي.

31. شواهد التنزيل، الحاکم الحسکانی، عبيد الله بن عبد الله (م. 506ق.)، طهران، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، 1411ق.

32. علل الشرائع، الصدوق، محمد بن عليّ (م. 381ق.)، النجف الأشرف، المکتبة الحيدریة، 1385ق.

33. عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، ابن أبی جمهور الأحسائي،

ص: 70

محمد بن عليّ (م. 880ق.)، قم، مطبعة سيّد الشهداء، 1403ق.

34. عيون أخبار الرضا(عَلَيْهَ السَّلاَمُ)، الصدوق، محمد بن عليّ (م. 381ق.)، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، 1404ق.

35. الکافي، الکليني، محمد بن يعقوب (م. 329ق.)، طهران، دار الکتب الإسلامية، 1363ش.

36. کشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلّامة الحلّي، حسن بن يوسف (م. 726ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1417ق.

37. کنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، المتّقي الهندي، عليّ (م. 975ق.)، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1409ق.

38. اللوامع الإلهية في المباحث الکلامية، الفاضل المقداد، مقداد بن عبد الله السيوري (م. 826ق.)، قم، مکتب الإعلام الإسلامي، 1422ق.

39. مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، فضل بن الحسن (م. 548ق.)، طهران، منشورات ناصر خسرو، 1372ش.

40. المحاسن، البرقي، أحمد بن محمد (م. 274ق.)، طهران، دار الکتب الإسلامية، 1370ش.

41. مستدرﻙ الوسائل ومستنبط المسائل، المحدّث النوري، ميرزا حسين

ص: 71

(م. 1320ق.)، بيروت، مؤسّسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، 1408ق.

42. المستدرك علی الصحيحين، الحاکم النيسابوري، محمد بن عبد الله (م. 405ق.)، بيروت، دار المعرفة.

43. مسند أبي يعلی الموصلي، أبو يعلی الموصلي، إسماعيل بن محمد (م. 307ق.)، دمشق، دار المأمون للتراث.

44. مسند الإمام أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل، الشيباني (م. 241ق.)، بيروت، دار صادر.

45. مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، حسين بن محمد (م. 502ق.)، نشر الکتاب، 1404ق.

46. مکارم الأخلاق، الطبرسي، حسن بن فضل (م. 554ق.)، منشورات الشريف الرضي، 1392ق.

47. من لا يحضره الفقيه، الصدوق، محمد بن عليّ (م. 381ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1404ق.

48. مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، محمد بن عليّ (م. 588ق.)، النجف الاشرف، المکتبة الحيدرية، 1376ق.

49. مناقب الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عَلَيْهَ السَّلاَمُ) ، الکوفي، محمد بن سليمان (م. قرن 3)، قم، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، 1412ق.

ص: 72

50. منتخب مسند عبد بن حميد، عبد بن حمید (م. 249ق.)، مکتبة النهضة العربیة، 1408ق.

51. النکت الاعتقادیة، المفید، محمد بن محمد (م. 413ق.)، بیروت، دار المفید، 1414ق.

52. نهج البلاغة، الإمام عليّ بن أبي طالب(عَلَيْهَ السَّلاَمُ)، الشريف الرضي، تحقيق وشرح محمد عبده، بيروت، دار المعرفة، 1412ق.

53. وسائل الشيعة إلی تحصيل مسائل الشريعة، الحرّ العاملي، محمد بن الحسن (م. 1104ق.)، قم، مؤسّسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، 1414ق.

ص: 73

ص: 74

الفهرس

المقدّمة. 5

نصّ الرسالة وأسئلتها 9

جواب آية الله الصافي الگپایگاني. 11

المبحث الأول: في عصمة الأنبياء والأئمّة(علیهم السلام). 12

المسألة الاُولى: ما هي العصمة؟. 13

المسألة الثانية: ما هي أنواع العصمة؟ وما هو النوع الّذي یجب أن یکون النبيّ... 27

المسألة الثالثة: الأدلّة الّتي تقام على عصمة الأنبياء والأئمّة(علیهم السلام). 29

المسألة الرابعة: ما هي الدلائل العقلية على عصمة الأنبياء والأئمّة(علیهم السلام)؟. 34

المسألة الخامسة: ما هي أدلّة عصمتهم من مصادر التشريع الإسلامي؟. 40

المبحث الثاني: في علم الإمام(عَلَيْهَ السَّلاَمُ). 55

المبحث الثالث: في اختلاف مستويات الأئمّة(علیهم السلام) في الإيمان والعلم والأخلاق. 63

مصادر التحقیق. 67

ص: 75

ص: 76

آثار سماحة آية الله العظمى الصافي الگلپايگاني مدّ ظلّه الوارف

الصورة

ص: 77

الصورة

ص: 78

الصورة

ص: 79

الصورة

ص: 80

الصورة

ص: 81

الصورة

ص: 82

الصورة

ص: 83

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.