سرالبداء

اشارة

سرشناسه:صافی گلپایگانی، لطف الله، 1298 -

Safi Gulpaygan, Lutfullah

عنوان و نام پديدآور:سرالبداء/ لطف الله صافی گلپایگانی (مدظله الشریف).

مشخصات نشر:قم: مکتب تنظیم و نشر آثار آیت الله صافی گلپایگانی دام ظله، 1438 ق.= 1395.

مشخصات ظاهری:104 ص.؛ 5/14×5/21 س م.

شابک:40000 ریال 978-600-7854-42-6 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ دوم.

یادداشت:کتابنامه: ص. 91 - 96؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع:بداء

موضوع:Bada (cancellation)*

رده بندی کنگره:BP218/44/ص2س4 1395

رده بندی دیویی:297/42

شماره کتابشناسی ملی:4605397

اطلاعات رکورد کتابشناسی:فیپا

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

ص: 3

سِرُّ البداء

الفقیه الکبیر المرجع الدیني الأعلی سماحة آیة الله العظمی الشیخ لطف الله الصافي الگلپایگاني (مدّظلّه ­الشریف)

ص: 4

المقدّمة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الّذي يمحو ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب، والصلاة والسلام على أفضل اُولي الألباب، سيّدنا أبي القاسم محمّد وآله الأطياب، أعدال الكتاب، سيّما الإمام الّذي يملأ الأرض بالعدل والصواب، ويجعل كيد الكافرين في تباب، واللعن على أعدائهم من الآن إلی يوم الحساب.

وبعدُ؛ فهذه رسالة وجيزة في البداء سمّيتها سرّ البداء كتبتها تبصرةً لنفسي ورجاء أن ينتفع بها غيري، وأن يجعلها الله تعالى ذخراً لي ويتقبلّها منّي بفضله وكرمه، ويعفو عن زلّاتي وخطيئاتي بعفوه ورحمته، إنّه كريم رحيم، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

ص: 5

ص: 6

حول البداء

والکلام فيه يقرّر في ضمن مباحث:

الأوّل: اعلم أنّ من جملة معتقدات الشيعة الإمامية والفرقة الناجية المقتبسة من الكتاب والسنّة وممّا يفصح عنه اتّفاق کلمات علمائهم في التفسير والحديث والکلام والعقائد، أمران:

الأمر الأوّل: الاعتقاد بأنّ الله تعالى عالم لجميع الأشياء من الأزل وقبل وجودها، لا يزيد في علمه شيئاً ولا يزداد فيه، ولا تأخّر لعلمه عن ذاته ولا هو غير ذاته، بل هو عين ذاته، وهو العالم بالأشياء قبل وجودها كعلمه بها بعد وجودها، ليس علمه مسبوقاً بالجهل كما أنّ وجوده ليس مسبوقاً بالعدم، وقدرته ليست مسبوقة بالعجز، فهو منزّه عن کلّ ما فيه وصمة الجهل والنقص، ومقدّس من أن يظهر له أمر على خلاف ما علم أو بعد خفائه عنه، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

وقد أثبتوا في كتبهم الکلامية وغيرها استحالة خفاء شيء عنه، كاستحالة كونه محلّا للحوادث والتغيير والتبديل. ويترتّب على کلّ من

ص: 7

الاستحالتين استحالة البداء بمعنى ظهور الشيء بعد الخفاء، وحصول العلم به بعد الجهل به على الله سبحانه وتعالى.

الأمر الثاني: اعتقادهم بأنّ الله تعالى قادر مختار ينشئ الأشياء بمشيّته، ويفعل ما يشاء بحكمته، له الخلق والأمر والتدبير، لم يفرغ من أمر الخلق والرزق، لا يفعل ما يفعل بالإيجاب، بل بالإرادة والمشيّة.

فکلّ يوم هو في شأن، ولا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.

يمحو ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب.

يقدّم أجل هذا ويؤخّر مدّة ذاك.يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ.

يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، يرسل الرياح وينزّل الغيث، وما من دابّة في الأرض إلّا عليه رزقها ويعلم مستقرّها ومستودعها.

بعث النبيّين واحداً بعد واحد مبشّرين ومنذرين، وأنزل عليهم الكتاب كتاباً بعد كتاب.

يسمع دعاء عباده ويستجيبه، ويدفع عنهم ميتة السوء والبلاء، ويفرّج عنهم الغموم، ويكشف منهم الهموم، ويزيد في الأعمار والآجال والأرزاق، والأمطار والبنين، وسائر ما أنعم به على عباده، بالإيمان والتقوى والأعمال الصالحة، كالصدقة وقضاء حوائج الناس،

ص: 8

والإحسان إليهم، وصلة الرحم، والبرّ بالوالدين، وشكر النعمة، والاستغفار، والتوبة.

قال الله تعالى: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَ زِيدَنَّكُمْ﴾.((1))

وقال سبحانه: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً﴾.((2))

وقال عزّ وجلّ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّٰهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّٰهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾.((3))

وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾.((4))

وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِوَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾((5)) و... و...

فالآيات الكثيرة المشتملة على الجملة الفعلية المضارعة دالّة على أنّ الله تعالى لم يفرغ من الأمر والتدبير، ومنها يعلم تفسير قوله تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ

ص: 9


1- ([1]) إبراهيم، 7 .
2- ([2]) نوح، 10 - 12 .
3- ([3]) النساء، 64.
4- ([4]) الطلاق، 2 - 3 .
5- ([1]) الأعراف، 96 .

هُوَ فِي شَأْنٍ﴾((1)) وأنّه لا يشغله شأن عن شأن، وأنّ نزول كثير من النعم ودوامه وبقاءه مشروط بأعمال العباد وحسن تصرّفهم في النعم ومقدار شكرهم عليها.

وأمّا الأحاديث: فهي أيضاً من طرق الشيعة فوق حدّ الإحصاء، كقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) «صلة الرحم تزيد في العمر وتدفع ميتة السوء وتنفي الفقر».((2))

وقال(صلی الله علیه و آله و سلم) «من أكثر الاستغفار جعل الله له من کلّ همّ فرجاً، ومن کلّ ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب».((3))

وروايات كثيرة رويت في الترغيب على الانفاقات والصدقات والخير والإحسان، وإكرام الذرّيّة الطاهرة، وإعانة الضعفاء، وقضاء الحوائج، والبرّ بالوالدين والأيتام، وأداء حقوق الجار والإخوان، وغيرها من الأعمال الصالحة سيّما الصلاة والصيام والدعاء.((4))

ومن طرق العامّة أيضاً كذلك:

منها: ما أخرجه السيوطي في الدرّ المنثور قال: أخرج ابن مردويه وابن

ص: 10


1- ([2]) الرحمن، 29 .
2- ([3]) الدیلمي، أعلام الدین، ص294؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص172.
3- ([4]) الدیلمي، أعلام الدین، ص294؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص172.
4- ([5]) الطبرسي، مکارم الأخلاق، ص135 - 139؛ الطبرسي، مشکاة الأنوار، ص321 - 322؛ السبزواري، جامع الأخبار، ص74 - 88، 106، 112، 118؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج67، ص97.

عساكر عن عليّ - رضي الله عنه - أنّه سأل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)عن هذه الآية: ﴿يَمْحُوا اللهُ...﴾((1)) فقال له: «لاُقرّنّ عينيكبتفسيرها ولاُقرّنّ عين اُمّتي بعدي بتفسيرها: الصدقة على وجهها، وبرّ الوالدين، واصطناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة، ويزيد في العمر، ويقي مصارع السوء».((2))

(وقال): أخرج ابن أبي شيبة في المصنّف، وابن أبي الدنيا في الدعاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ما دعا عبد قطّ بهذه الدعوات إلّا وسّع الله له في معيشته:

«يا ذا المنّ ولا يمنّ عليه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول لا إله إلّا أنت ظهر اللاجين، وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين، إن كنت كتبتني عندك في اُمّ الكتاب شقيّاً فامحُ عنّي اسم الشقاء، وأثبتني عندك سعيداً، وإن كنت كتبتني عندك في اُمّ الكتاب محروماً فامحُ حرماني، ويسّر رزقي، وأثبتني عندك سعيداً موفّقاً للخير، فإنّك تقول في كتابك الّذي أنزلت: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾((3))».((4))

وأخرج أيضاً في الدرّ المنثور (قال): وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم

ص: 11


1- ([6]) الرعد، 39.
2- ([1]) السیوطي، الدرّ المنثور، ج4، ص66.
3- ([2]) الرعد، 39.
4- ([3]) السیوطي، الدرّ المنثور، ج4، ص66.

عن ابن عبّاس في قوله: ﴿يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾((1)) يعني: يسأل عباده إيّاه الرزق والموت والحياة کلّ يوم هو في ذلك.((2))

(قال): وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده، والبزّاز وابن جرير والطبراني، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإیمان، وابن عساكر عن أبي الدرداء عن النبيّ صلّی الله علیه وسلّم في قول الله: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾؛((3)) قال: «من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين». وزاد البزّار:«وهو يجيب داعياً».((4))

ومنها: ما أخرج في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يقول: «من سرّه أن ينبسط له رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليَصِل رَحِمَه».((5))

وكذلك يبتلي عباده بالفقر والمرض، ونقص الأعمار والأرزاق وتغيّر

ص: 12


1- ([4]) الرحمن، 29.
2- ([5]) السیوطي، الدرّ المنثور، ج6 ص143.
3- ([6]) الرحمن، 29.
4- ([1]) السیوطي، الدرّ المنثور، ج6،ص143.
5- ([2]) البخاري، صحیح، ج3، ص8، کتاب البیوع، باب من أحبّ البسط في الرزق؛ مسلم النیسابوري، صحیح، ج8، ص8، کتاب البرّ؛ قال ابن الأثیر: الأثر: الأجل وسمّي به لأنّه یتبع العمر، قال زهیر: المرء ما عاش ممدود له أمل لا ینتهي العمر حتّی ینتهي الأثر

النعم، وحبس الدعاء ونزول البلاء بكفرانهم النعم وتكذيبهم الرسل، وظلم بعضهم بعضاً وقطع الرحم، والزنی، وسائر المناهي والمعاصي؛ لاستصلاحهم، وتكفير ذنوبهم، وتمحيصهم، ولحِكم اُخرى وعنايات يختصّ بها بعض عباده المخلصين فيبتليهم لترفيع درجاتهم، وظهور شؤونهم العالية، وتسليمهم وانقيادهم ليكونوا اُسوة حسنة لمن أراد أن يتأسّى بهم، ولغير ذلك من الحِكم المتعالية الّتي هو أعلم بها.

قال الله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّٰهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾؛((1))

وقال جلّ ثناؤه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾؛((2))

وقال تبارك وتعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّٰهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾؛((3))وقال عزّ وجلّ: ﴿ومَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلَّا فِي كِتَابٍ﴾؛((4))

ص: 13


1- ([3]) النحل، 112.
2- ([4]) الروم، 41.
3- ([5]) الأنفال، 53.
4- ([1]) فاطر، 11.

وقال سبحانه: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾؛((1))

وقال الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرينَ﴾؛((2))

وقال سبحانه وتعالى: ﴿ولَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾؛((3))

وقال عزّ وجلّ: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللّٰهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾؛((4))

وقال: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ﴾؛((5))

وقال تعالى شأنه: ﴿فَلَوْ لَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾؛((6))

ص: 14


1- ([2]) الأعراف، 142.
2- ([3]) البقرة، 155.
3- ([4]) الأعراف، 130.
4- ([5]) يونس، 107.
5- ([6]) النمل، 62.
6- ([7]) يونس، 98.

وقال عزّ اسمه: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِيُبْعَثُونَ ﴾؛((1))

وقال جلّ ثناؤه: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ﴾؛((2))

و و و....

وروي عن مولانا أمير المؤمنين(علیه السلام):

«إنَّ الله يبتلي عباده عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات، وحبس البركات، وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب، ويقلع مقلع، ويتذكّر متذكّر، ويزدجر مزدجر»؛((3)) «ولو أنّ الناس حين تنزل بهم النقم وتزول عنهم النعم فزعوا إلى ربّهم بصدق من نيّاتهم، وولهٍ من قلوبهم، لردّ عليهم کلّ شارد، وأصلح لهم کلّ فاسد».((4))

وفي الحديث عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) «لايزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهَوْا عن المنكر، وتعاونوا على البرّ والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت

ص: 15


1- ([1]) الصافّات، 143 - 144.
2- ([2]) الأنبياء، 84.
3- ([3]) نهج البلاغة، الخطبة 143 (ج2، ص25)؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج88، ص312 - 313.
4- ([4]) نهج البلاغة، الخطبة 178(ج2، ص98 - 99)؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج29، ص597.

منهم البركات، وسلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء».((1))

وملخّص الکلام: أنّ من سبر الآيات الكريمة والأحاديث من طرق الخاصّة والعامّة لا يبقى له شکّ في أنّ الله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت ولم يَعجزه، ولا يُعجزه شيء في الأرض ولافي السماء، يختار لعبيده ما يشاء حسبَ ما تقتضيه حكمته الكاملة من الزيادة في الرزق أو النقص منه، وكذا يزيد في عمر بعضهم، وينقص عن عمر بعض الآخر، ويديم الصحّة أو يزيلها ويبدّلها بالمرض، ويقدّم أمراً ويؤخّر آخر، ويكتب من کان مكتوباً منالأشقياء في السعداء وبالعكس، ويوفّق بعض الناس للخير ويحرم بعضهم منه خذلاناً بأعمالهم، ويختار لهم في جميع شؤونهم ما يريد على حسب حكمته. لم يترك أمر تدبيره فيهم ولم يفرغ منه وهو العليم الخبير القدير المدبّر الحكيم.

هذا هو البداء بمعناه الصحيح واعتقاد الشيعة فيه، الّذي جاءت به مآت من النصوص في الكتاب والسنّة، ومآله وحقيقته العقيدة بالقدرة المطلقة الأزلية للذات الاُلوهية المقدّسة، كما أنّ نفي البداء عن الله تعالى

ص: 16


1- ([5]) الطوسي، تهذيب الأحكام، ج6، ص181؛ الطبرسي، مشکاة الأنوار، ص105؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج16، ص123.

بمعناه الباطل، وهو ظهور الشيء له بعد خفائه عنه أيضاً يرجع إلی العقيدة بصفة كمالية اُخرى وهي علمه الأزليّ بالکليّات والجزئيّات، وتقدّس ذاته المقدّسة عن الجهل مطلقاً.

ولا يخفى عليك أنّ أمر النبوّات، والعقيدة بها، والبشارة والإنذار والوعد والوعيد والأمر والنهي والترغيب والتهديد، والحثّ على الدعاء والتوبة والتوکلّ والتفويض، وشكر النعمة وأمثالها إنّما يتمّ بهذه العقيدة والإيمان بأنّ الله لم يفرغ من الأمر وکلّ يوم هو في شأن، ولا ينافي ذلك علمه الأزليّ بکلّ ما يقع في المستقبل وما يقدّمه وما يؤخّره، وما يزيد وما ينقص، وهذا مذهب جمع من الصحابة، ولم أطّلع على أحد منهم ومن التابعين کان مذهبه نفي ذلك، ولا أظنّ بأحد من العلماء من أهل القبلة إلّا بعض من يأتي الإشارة إلیه غير ذاك.

وزيادة على ذلك نقول: إنّ علمه تعالى لا ينقض حكمته، ولا يقيّد قدرته ومشيّته، وقدرته لا تنفي علمه، لا حدّ لکلّ واحد منهما، ولا يتصوّر زيادة کلّ منهما على الآخر، وکلّ منهما على سعته الّتي لا نهاية لها، فهو العليم القادر المريد العزيز، الحوادث کلّها تجري بأمره وتدبيره، يزيد في الخلق ما يشاء وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير القائم بشؤون خلقه ولم يفرغ من ذلك، يبتلي الإنسان فيكرمه وينعّمه، ويقدر عليه رزقه، والحوادث

ص: 17

کلّها وکلّ واحد منها ليس واجب الوقوع حتى لا يكون لله فيه أمر ونهي ولا يقدر على تغييره والزيادة فيه أو النقصان، بل له الأمر والتدبير قبل کلّ شيء ومع کلّ شيء وبعده «ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله قبله أو بعده أومعه»((1)) يفصّل فيه ما يشاء. وصفاته وأسماؤه الفعلية كالمنّان، والرزّاق، والكافي، والشافي، والمعطي، والمجيب، والمصوّر، والمدبّر، والبديع، والبدي ء، والحافظ، والرقيب، والواهب، والمنعم، والمحسن، والمغيث، والمميت، والمحيى کلّها يدلّ على ذلك، وإنّ معانيها لم ينقطع ولا ينقطع، وأنّه لم يزل ولايزال، من شأنه أن يرزق، ويشفي، ويكفي، ويعطي ويمنع ويجيب، ويخلق ويصوّر، ويبدئ، وينعم، ويغيث، وينجي، ويهلك، ويرسل الرياح والمنّان بالعطيّات و و...

ومن الواضح أنّه إذا کان قد فرغ من الأمر، ولم يكن له الزيادة والنقصان في شؤون عباده لا يتصوّر مفهوم فعليّ حقيقيّ لهذه الأسماء، ولا يتعقّل اتّصافه بهذه الصفات إلّا بالتمحّل والتکلّفات، وسيأتي زيادة توضيح له في المبحث الثالث إن شاء الله تعالى.

ص: 18


1- ([1]) اُنظر: المجلسي، مرآة العقول، ج10، ص391 - 392.

اعتقاد الشيعة بالبداء بمعناه الصحيح

المبحث الثاني: قد ظهر لك ممّا ذكرنا أنّ الخاصّة والعامّة تشتركان في العقيدة بما أوجب توهّم القول بالبداء بمعناه الفاسد المردود عندهما، ولكنّ التعصّب والعناد حمل النصّاب وأعداء أهل البيت برمي الشيعة بهذا القول، وهم بفضل تمسّكهم بالكتاب والعترة (الثقلين) بريئون عن هذه العقيدة الفاسدة، وبعیدون من هذا الضلال المبين من السماء إلی الأرض. نعم حكي عن غير الشيعة مثل النظّام وبعض المعتزلة: القول بأنّ الله تعالى قد فرغ من الأمر بخلقه الموجودات دفعةً واحدةً على ما هي عليه الآن معادن ونباتاً وحيواناً وإنساناً ولم يتقدّم خلق آدم على خلق أولاده والتقدّم إنّما يقع في ظهورها لا في حدوثها ووجودها،

وأخذوا هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة، ومثل هذه العقيدة ما ذهب إلیه بعض الفلاسفة، القائلين بالعقول والنفوس الفلكية، وبأنّ الله تعالى لم يؤثّر حقيقةً إلّا في العقل الأوّل،((1)) فهم يعزّلونه تعالى عن ملكه؛ حكي عن بعضهم: أنّ الله تعالى أوجد جميع

ص: 19


1- ([1]) اُنظر: المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص130؛ المجلسي، مرآة العقول، ج1، ص131.

مخلوقاته دفعةً واحدةً دهرية لا ترتّب فيها باعتبار الصدور بل إنّما ترتّبها في الزمان فقط، كما أنّه لا تترتّب الأجسام المجتمعة زماناً وإنّما ترتّبها في المكان فقط.((1))

مثل هذا القول، قول المجبّرة في «المقتول لو لم يقتل» فقالت: إنّه کان يموت قطعاً، ومن يستنكر القول بالبداء ولا يؤمن بما دلّت عليه ما تلونا عليك من الآيات والروايات نسأل عن رأيه في قدرته تعالى: لله جلّ شأنه أن يفعل ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء،ويخلق ما يشاء، ويفعل ما يشاء، ويشفي ويعطي من يشاء، ويستجيب دعاء من يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء؟ فإن قال: نعم، فهذا ما يقوله الشيعة وهو ما يسمّونه بالبداء، وإن قال: لا، فقد أنكر قدرة الله تعالى وأنكر الكتاب والسنّة ووافق اليهود في قولهم: ﴿يَدُ اللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْديهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾؛((2)) فمن ذهب إلی إنکار البداء يتّبع اليهود وغيرهم في هذه المقالة الكافرة، ونفى قدرة الله تعالى المطلقة، ونفى سائر صفاته الكمالية وأسماءه الحسنى، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

فإن قلت: فلماذا سمّي تلك العقيدة الصحيحة بالبداء الّذي هو

ص: 20


1- ([2]) المجلسي، مرآة العقول، ج2، ص 131 - 132.
2- ([1]) المائدة، 64.

بمعنى ظهور الشيء بعد الخفاء؟

قلت: أوّلاً نمنع هذا الظهور، وثانياً نقول: إنّ ظهوره بدويّ يزول بالقرائن العقلية والمقالية، وليس بأقوى من ظهور الآيات والروايات في ذلك لولا تلك القرائن، فكما لا دلالة لهذه الآيات على علمه بشيء بعد الجهل به بدلالة آيات اُخرى والقرينة العقلية، لا دلالة لهذا اللفظ أيضاً على ذلك أصلاً بدلالة الآيات والروايات وما استقرّ عليه عقيدة القائلين بالبداء سيّما أئمّة أهل البيت(علیهم السلام).

ولا يخفى أنّ باب المجاز في جميع اللغات - سيّما اللغة العربية - باب واسع، وفي الكتاب والسنّة ما لا يحصى، والمتّبع في الدلالات الکلامية وغيرها هو الذوق السليم والرأي المستقيم، وإنّما دخل بعض الآراء الفاسدة - مثل القول بالتجسيم وأنّ له تعالى يَدٌ وجَنبٌ ورِجلٌ وغيرها من الأعضاء لما جاء في الكتاب والسنّة مجازاً وتعبيراً عن إحاطة قدرته وعلمه وغيرهما من صفاته الكمالية - لاعوجاج فهم البعض والحرمان عن صفاء الذهن ونورانية الضمير، فتمسّكوا في عقائدهم الفاسدة إلی الألفاظ المجازية الموهمة عند صاحب الذهن السقيم لآرائهم، فنعوذ بالله من الحرمان والخذلان ونسأله التوفيق والإيمان.

ص: 21

ص: 22

دفع الإشكال عن البداء

المبحث الثالث: أنّه وإن ظهر بما لا يزيد عليه أنّ العقيدة بالبداء بمعناه الصحيح الّذي بسطنا الکلام فيه مأخوذة من الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة، وعليها قام نظام التشريع ومصلحة النبوّات، واستكمال النفوس وتربيتها وتزكيتها وقيام الاُمور بالقسط، ولذا جاء في الأحاديث تعظيماً لهذه العقيدة:

«ما عبد الله عزّ وجلّ بشيء مثل البداء».((1))

إلّا أنّه لقائل أن يقول:

نعم لا ريب في بطلان القول بالبداء بمعناه الفاسد الّذي أشرتم إلیه لاستحالة الجهل على الله، تعالى شأنه عن ذلك وعن کلّ نقص، واستحالة عروض التغيّر والتبديل عليه، ولا ريب أيضاً في صراحة الآيات والروايات فيما ذكرتم للبداء من معناه الصحيح، إلّا أنّ الأخذ

ص: 23


1- ([1]) الصدوق، التوحيد، ص332، ب54، ح1؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص107، أبواب الصفات، ب3، ح19.

بالآيات والروايات، وما دلّت عليه، إنّما يصحّ لو لم يصادم ذلك إشكال عقلىّ، وإلّا يلزم تأويل الظاهر والصريح على ما لا يدفعه ذلك الإشكال.

بيان الإشكال: كيف يوفّق بين هذا الأصل الأصيل الّذي يقتضي وجوب وقوع جميع الحوادث على وفق علمه تعالى، وعدم إمكان إحداث تغيير وتبديل وتقديم وتأخير فيه، لتنزّهه تعالى شأنه عن صيرورته محلّا للحوادث وبين ما تقتضيه ظواهر هذه الآيات، وأسماؤه الحسنى والأحاديث على كثرتها من أنّه يفعل ما يشاء، ويستجيب الدعاء، ويدفع البلاء، ويزيد في الآجال وينقص منها، وأنّه يغيّر بعباده إذا غيّروا ما بأنفسهم، ويمحو ما يشاء ويثبتعلى وفق حكمته، واقتضاء أفعال عباده من الخير والشرّ، فهو کلّ يوم في شأن، وکلّ ذلك لا يجمع مع تعلّق علمه بالحوادث من الأزل. ولا ريب أنّ القائل بالبداء بالمعنى الّذي ذكرتم له، لا يرضى لنفسه أن يكون لازم اعتقاده إنکار علم الله تعالى الأزلي بالحوادث وإثبات تجدّد علمه بها، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً إذا فكيف يوفّق بينهما؟

أقول: هذه الشبهة، وشبهة المجبّرة ترتضعان من ثدىٍ واحد، ولو تمّت لبطل أكثر مسائل النبوّات.

ص: 24

والجواب: أوّلاً: إنّ علمه تعالى قد تعلّق بوقوع أفعاله باختياره وإرادته ومشيّته، وأفعال العباد أيضاً باختيارهم وإرادتهم، فلو کان تعلّق العلم بها موجباً لخروج الفعل عن اختيار الفاعل ومشيّته، لزم الخلف وتخلّف العلم عن المعلوم.

وثانياً: العلم بالشيء لا يمكن أن يكون علّةً لوجوب وجود المعلوم؛ لأنّه مع غضّ النظر عن تعلّق العلم به إن کان وجب وجوده بواسطة وجود علّته ولذا صار وجوده متعلّقاً للعلم به، فلا معنى لتأثير العلم في وجوب وجوده، وإن لم يجب وجوده، بحيث کان تعلّق العلم به علّة وجوده، أو من أجزاء علّته، يلزم الدور المحال؛ لتوقّف العلم به على وجوده في ظرفه، وتوقّف وجوده على وجوبه، فإنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد، وتوقّف وجوبه على تحقّق علّته الّتي هي عين العلم به.

وعلى هذا لا يلزم من علم الله تعالى بأفعاله وأفعال عباده الإيجاب في الأفعال الصادرة منه تعالى، ولا الجبر في أفعال المکلّفين، ولا تخلّف المعلوم عن العلم به.

ص: 25

ص: 26

جريان البداء وقانون العلّيّة

المبحث الرابع: ربّما يسئل فيقال: كيف يجوز أن يمنع في هذا العالم المادّي الحاكم عليه الأسباب المادّيّة، مثل صلة الرحم والصدقة والدعاء وغيرها عن تأثير الأسباب المادّية في مسبّباتها؟ وكيف تؤثّر هذه الاُمور في حصول مسبّبات مادّية لها أسباب مادّية اختصّت بها؟ وكيف يتغيّر بها السنن السائدة على الكون، والقواعد المحكمة الحاكمة عليها الّتي قام عليها بإذن الله تعالى وتقديره نظام هذا العالم؟ فمن يزرع الحنطة مثلاً يحصد الحنطة ولا يحصد منها الشعير والأرزّ، ومن سعى وجدّ واجتهد يحصّل أكثر ممّن قعد وتهاون وكسل، والنار مقتضٍ للإحراق لا يمنعه من ذلك إلّا عدم وجود شرطه أو وجود مانعه المادّي.

والحاصل: أنّ تأثير المقتضيات المادّيّة في مقتضياتها الّتي تكون أيضاً مادّيّة لا محالة، ليس موقوفاً على أزيد ممّا نرى، وهو وجود المقتضي والشرط وعدم المانع، وبعدَ حصول ذلك الّذي نسمّيه بالعلّة التامّة لا يتخلّف المعلول المادّي عن علّته المادّيّة.

ص: 27

أقول: کأنّ هذا القائل توهّم أنّ القائل بالبداء بمعناه الصحيح إنّما يقول بتأثير الأسباب الغيبيّة وعالم الغيب في عالم الشهادة فقط، فيمنع من وقوع بعض الحوادث والاُمور حتى بعد تحقّق سببه المادّي، أو تؤثّر ما له سبب مادّي بدون تحقّق سببه المادّي فلا يقع البداء في عالم الأسباب والمسبّبات العاديّة الّتي يدرك الإنسان استنادها إلی أسبابها بالحسّ، وغفل من أنّ ناموس البداء جارٍ في الاُمور التكوينية، سواءٌ کان ذلك - أي حصول البداء - بواسطة أمر مثل الدعاء وصلة الرحم، والذنوب والأعمال الصالحة، أو بواسطة أمر من الاُمور المادّيّة، فالأمر الّذي يقع فيه البداء ما ليس وقوعه من الاُمور المحتومة، بل موقوف في كثير من الموارد على أفعال العباد وكسبهم، سواءٌ کان هذا الفعل يعدّ سبباً عادياً في الأمر البدائي وجودا أو عدماً، كسعي العبد أو تكاسله عن السعي والعمل، فالّذي يقتل نفسه أو غيره لم يحكم علمه بذلك، وليس عمله هذا من الاُمور المحتومة، والمقتول أيضاً لم يكن موته محتوماً عليه في هذا الزمان، بل کان حياته موقوفة على عدم حدوث ما يقطع استمرار حياته وهو قتله، وعلى هذا المبنى يجب على الإنسان التحفّظ ودفع العدوّ. نعم، قد يكون ذلك من الاُمور المحتومة، بحيث لو لم يقتل في هذا الوقت لکان يموت فيه بحتف الأنف، وهذا أيضاً وإن کان

ص: 28

بلحاظ أنّ موته بحتف الأنف موقوف على عدم موته بالقتل، يكون من الاُمور البدائية إلّا أنّه بملاحظة أنّ زهوق روحه في هذا الزمان کان محتوماً لا يقع فيه البداء وإن كان أيضاً من الاُمور البدائية بلحاظ جواز وقوع البداء فيه عقلاً لولا كونه في تقدير الله تعالى من الاُمور المحتومة الّتي لا يقع فيه البداء.

نعم لم يبحث عن مثل هذه الاُمور في مبحث البداء، واختصّوا البحث فيه بالاُمور الّتي يقع تحت سيطرة عالم الغيب، وما لا يعدّ من الأسباب المادّيّة كالدعاء والصدقة وغيرها، مع أنّ ملاك البحث والنفي والإثبات بالنسبة إليها واحد.

وبعبارة اُخرى: نقول: إنّ الأسباب سواء کانت ظاهرةً مرئيّةًمحسوسة، أو كانت غيبيّةً مخفيّةً تحقّق بها مسبّباتها بإذن الله تعالى وتقديره، وتمنع عن وقوعها موانعها، سواء کانت ظاهرةً أو غيبيّةً، وحيث إنّ الکلّ مستند إلیه وهو جاعل الأسباب وفاعلها، وخالق موانعها، ويقدّرها ولو بإقداره العبد عليها، وإن کان ما يجري في العالم يجري بإرادة الله تعالى التكوينية، فهو الماحي والمانع إذا منع - المانع الظاهريّ أو الغيبيّ - السبب، كذلك عن تأثيره وهو المثبت إذا أثّر السبب في مسبّبه وتحقّق، سواءٌ كانا من هذا أو من ذاك، فالمرض الكذائيّ يمنع المريض

ص: 29

من أن تمتدّ حياته إلی أجله المسمّى فيمحو الله تعالى ذلك بالصدقة وصلة الرحم ويثبت حياته ويؤخّر في أجله، والشخص الصحيح تقتضي صحّته بقاءه إلی أجله المسمّى، ويمنع من ذلك بعض أعماله السيّئة، کلّ ذلك بإذن الله تعالى وتقديره في نظامه الأتمّ الأحسن الّذي قرّره في خلقه.

ويمكن أن يقرّر هذا بوجه آخر، وهو: أن يقال: إنّ الأسباب الظاهرية العادية الّتي تتحقّق في عالمنا المحسوس والشهادة، تقتضي تحقّق مسبّباتها، فكما أنّه يمحى أثرها بالموانع الظاهرية، يمحى أثرها ببعض الموانع الغيبية، فمثل صلة الرحم تدفع ميتة السوء الّتي تحقّق سببها الظاهريّ، وكذلك توجب بعض الاُمور الزيادة في العمر والرزق، إمّا لأنّ الله جعل في هذه الاُمور هذه الخواصّ، أو لأنّ الله تعالى وعد عباده بأنّه يفعل ذلك عند إتيان المکلّف بها، وعلى کلا الوجهين قد دلّت الآيات والروايات، قال الله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ﴾،((1)) وقال جلّ اسمه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾،((2)) وقال: ﴿أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ

ص: 30


1- ([1]) إبراهيم، 7.
2- ([2]) الأعراف، 96.

الْخَالِقُونَ ﴾؛((1)) وفي الدعاء: «اللّهمّاغفر لي الذنوب الّتي تنزل البلاء»؛((2)) والحاصل أنّ کلّ الاُمور الغير المحتومة واقع تحت سنّة المحو والإثبات.

وثانياً نقول: إنّ الظاهر من هذا الإيراد الاستبعاد أو إنکار سلطان عالم الغيب وتأثير الأسباب والموانع الغيبية على عالم الشهادة.

وهذا التوهّم إمّا ينشأ من قصر النظر إلی عالم الشهادة، والتأثّر من تسويلات الحسّيّين والمادّيّين الغافلين أو المنكرين لعالم الغيب وتأثيره في عالم الشهادة، وإمّا ينشأ من قضاء العادة على وقوع أمر بعد أمر آخر بمشيّة الله وتقديره، فيتوهّم أنّ هذا مقتضى تمامية الأمر الأوّل في العلّيّة للأمر الثاني، فلا يجوز أن يتخلّف عنه، كما لا يجوز تخلّف المعلول عن علّته التامّة، فكأنّه لم يعرف المتوهّم الفرق بين المقتضي والعلّة التامّة، وبين العلّة وأجزائها، وبين ما يقارن وجوده وجود شيء آخر، ولم يتفطّن إلی جواز عدم إحاطة البشر بجميع العلل ومعلولاتها، وشرائطها وموانعها، وكون عالم الظاهر تحت سيطرة عالم الغيب، وتأثير الأسباب الغيبيّة بإذن الله تعالى في عالم الشهادة، فيزعم العلّة ما ليس بها، ومعلولها ما ليس هو، مع أنّه لا يرى شيئاً غير وجود شيء عند وجود شيء آخر

ص: 31


1- ([3]) الواقعة، 58 - 59.
2- ([1]) الکلیني، الكافي، ج2، ص590.

أو أشياء اُخرى، ولم ير عليّة هذا لذاك، ولم يفهم لماذا صار هذا الأمر المادّي علّة لهذا، ولماذا صارت علّية هذا لذاك ذاتية له ولم تصِر ذاتيةً لشيء آخر، أليس هذا یعني القول بالعلل الماديّة وأنّها من ذاتيات العلل إخباراً عن الغيب؟ وما أحسن قولهم في تعريف المعجزة: أنّها خرق عادة يأتي بها النبيّ عند التحدّي وطلب القوم منه الآية والمعجزة، كما جاء في القرآن الكريم حكايةً عن فرعون في محاجّته مع النبيّ موسى - على نبيّنا وآله وعليه السلام -: ﴿قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ﴾.((1))

لا يقال: إنّ ما تقول ينتهي إلی نفي قاعدة العلّيّة، ولازمه تأثير کلّ شيء في کلّ شيء، أو عدم تأثير شيء في شيء.

فإنّه يقال: إنّ القاعدة تامّة لا خدشة فيها، والعلّة التامّة کلّما وجدت لا تنفكّ عن معلولها، ولا يجوز وجود المعلول بدون العلّة، كما لا يجوز وجود الحادث بدون المحدّث القديم ووجود المخلوق بدون الخالق، لكن لا تعرف بنفس هذه القاعدة مواردها ولا تثبت بها مصاديقها. فربما يتحقّق المقتضي والشرط وعدم المانع فيزعم الغافل من الشرط وعدم المانع أنّ المقتضي تمام العلّة، كما ربّما يغفل من عدم المانع فيستند

ص: 32


1- ([1]) الأعراف، 106 - 107.

المعلول إلی المقتضي والشرط، أو بالعكس يستنده إلى المقتضي وعدم المانع.

وعلى هذا يجوز أن يمنع إرادة الله القاهرة على جميع ما سواه، النار من الإحراق، وغير ذلك ممّا وقع في التكوينيات على خلاف العادة وجريان الأسباب والمسبّبات العادية.

فمن قصر نظره إلی ما يعرف من الأسباب الظاهرة ولم يلتفت إلی غيرها ممّا يجهلها من الأسباب الظاهرة والباطنة وحكم الله تعالى وسننه في تربية عباده، واستصلاح اُمورهم، لا يرى تخلّف المسبّبات عن الأسباب الظاهرة وتشمله هذه الآية الكريمة: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾.((1))

ولو طرح حجاب الغفلة والالتفات إلی ظاهر الحياة الدنيا، يفهم أنّ سنن الله تعالى لا تنحصر فيما يعرفه من قصر نظره إلی عالم الظاهر، فالدعاء والصدقة وصلة الرحم، وإعانة الضعيف وشكر النعمة وغيرها، وكذا الظلم وقطع الرحم وغيرهما من الأعمال السيّئة تؤثّر في وقوع كثير من الحوادث بإذن الله تعالى وسنّته، ويغيّر الله تعالى لها مظاهر حياتنا المادّية من الرخاءوالخصب، ونزول الأمطار، وظهور البركات

ص: 33


1- ([2]) الروم، 7.

كما يغيّر بها حالات النفوس وأحوال القلوب فتشملها التوفيق أو تحرم منه وتبتلى بالخذلان. ولا نعني بالبداء إلّا ذلك.

فيزيد الله تعالى بصلة الرحم في عمر من لا يتجاوز عمره بحسب الأسباب الظاهرة - لولا هذه الصلة - من ثلاثين مثلاً إلی أربعين، أو ينقص منه بواسطة قطع الرحم مثلاً إلی عشرين، وهكذا يدفع بصلة الرحم أو الصدقة أو الدعاء عن البلاء وميتة السوء. وكذا يؤثّر عمله في شقاوته وسعادته، فيكتسب بالأعمال الصالحة والتوبة السعادة، فيمحو الله اسمه من الأشقياء ويثبته في زمرة السعداء، كما هو في اُمّ الكتاب. ولا يزيد في العمر ولا ينقص منه إلّا الله، ولا يدفع البلاء، ولا يكتب الشقيّ سعيداً إلّا الله وملائكته العاملون الموکّلون على هذه الاُمور بأمره، إذاً فليس لنا إلّا القول بذلك، وأنّه لم يغلق باب رحمة الله على عباده، وأنّه هو الحاكم البارئ المصوّر المعزّ الخالق لما يشاء، والفاعل لما يشاء، لا إله إلّا هو العزيز الحكيم.

ص: 34

في محلّ البداء

المبحث الخامس: لا يخفى عليك أنّ محلّ البداء بمعناه المعقول المستفاد من الكتاب والسنّة ليس جميع الاُمور، حيث إنّ الحوادث - كما دلّ عليه العقل والنقل - ليست کلّها موقوفة غير محتومة، بل بعضها محتوم، وبعضها ممّا هو مكتوب في لوح المحو والإثبات، موقوفٌ على أمر من الاُمور كالدعاء والصدقة؛ وبعبارة اُخرى: کلّ ما يحدث في العالم وما يعرضه من الحالات والعوارض إمّا يكون بأمر الله تعالى محتوم الوقوع ليس وجوده أو عدمه أو طروّ حالة عليه مثل عروض زيادة أو نقص موقوفاً على أمر من الاُمور وشأن من الشؤون، أو لا يكون كذلك، بل لوجوده أو فنائه أو طروّ حالة عليه، صورتان: طبيعية، وهي ما يقتضيها طبع الكائن، وغير طبيعية، وهي ما يمنع طبع الكائن عن التأثير مطلقاً، أو يؤخّر أو يقدّمه، فمثلاً يمكن أن يقال: إنّ لبعض أفراد الإنسان بحسب القضاء الإلهي أو بحسب طبعه واستعداد مزاجه اقتضاء أن يعيش إلی تسعين سنة فلا يعيش أزيد من ذلك، إلّا أنّ له أجل آخر بل

ص: 35

مدّة اُخری قبل ذلك، فيموت به في ستّين مثلاً لأمر من المرض وغيره، فإن وصل الرحم أو تصدّق بصدقة يؤخّر موته به، وكذلك قطع الرحم يعجّل فناءه قبل الستّين، واستمرار بقائه إلی تسعين بالنسبة إلی کلّ سنة وکلّ يوم يمكن أن يكون في علمه تعالى معرضاً لخطرات وهجوم ما يقطع حبل عمره، ويدفع کلّ ذلك بمثل الدعاء والصدقة، وکلّ ما يدفع البلاء من ترك الذنوب وغيره، كما يمكن أن يعجّل ذلك أيضاً بالذنوب الجالبة للبليّات.

ويمكن أن يكون الشخص بسبب حالة أو حالات كثيرة مورداً لاُمور محتومة، وبحسب حالات كثيرة اُخرى مورداً لاُمور موقوفة، لا يعلم تفاصيل ذلك إلّا الله تعالى، وليس علينا إلّا الإیمان والتسليم والاعتقاد بالبداء إجمالاً لا نعرف المحتوم من الموقوف إلّا بإخبار الله تعالى وأنبيائه وأوليائه، وفي موارد غير قليلة ربّما يعرف الموقوف من المحتوم بالمنامات الصادقة، وما يظهر لنا في الوقائع بالأمارات والقرائن.

هذا، وکلّ ذلك - كما حقّقناه وذكرناه مراراً - لا ينافي علمه تعالى بما تصير إليه الاُمور، وما يحصل شرطه وما لا يحصل، وما هو محتوم ليس مشروطاً بشيء لكيفيّات وجود الأشياء وخلقها وشرائطه، وجميع ما هو مرتبط بها معلومة لله تعالى من الأزل، كما لا ينافي علمه بکلّ هذه

ص: 36

الاُمور وقوع البداء فيها.

ويمكن أن يقال والله أعلم به: إنّ البداء يقع في قدر الله تعالى دون قضائه، فما قدّر الله من تأثير الأشياء وخواصّها وآثارها وكونها أسباباً لمسبّبات خاصّة ليس محتوم الوقوع، بل يمحو أثر بعضها ببعض الاُمور المادّيّة الّتي يستند في الإنسان محوه به لا نسهو بذلك التأثير والتأثّر، والغير المادّيّة كالدعاء والتوکّل وصلة الرحم، فالبداء في هذه الاُمور معناه أمران: أحدهما: أنّ ما قدّر من الآثار والتأثيرات للأشياء لا يجب أن يحقّق مطلقاً، بل يمكن أن يمنعه تقدير الله الآخر، وما قدّر من الأثر شيء آخر من الاُمور الماديّة أو غيرها كصلة الرحم والدعاء، ولا ينافي علمه أزلاً بما ينتهي إلیه ذلك التقديرات المقدّرة.وثانيهما: أنّ الله تعالى يمنع من هذه المقدّرات، فيجعل مثلاً النار الّتي من شأنها الإحراق بتقدير الله على عبده برداً وسلاماً، ويمنع تأثير السيف والحديد على مولانا الرضا(علیه السلام)، ويدفع البلاء عن عبده بالدعاء، وهذا بخلاف ما تعلّق به قضاؤه تعالى، فإنّه يقع لا محالة، وکلّ ذلك من شؤون قدرته وحكمته، والله هو العالم بحقائق الاُمور.

ص: 37

ص: 38

لا يقع البداء فيما أخبر به الله أو حججه

المبحث السادس: لا مجال للريب في أنّه لا يقع البداء المعقول الّذي جاءت به الآيات والروايات فيما أخبر الله تعالى ورسله به عباده؛ لأنّه موجب لتكذيبه تعالى أو تكذيب رسله، بل هو مختصّ بما هو علمه مخزون مكنون عند الله تعالى وعند أوليائه المأمونين على أسراره المودعة فيهم والخير والناس عنه.

ويدلّ على ذلك طائفة من الروايات مثل رواية الفضيل بن يسار: قال: سمعت أبا جعفر(علیه السلام) يقول: «العلم علمان، فعلم عند الله مخزون لم يُطلِع عليه أحداً من خلقه، وعلم علّمه ملائكته ورسله، فإنّه سيكون، لا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون يقدّم منه ما يشاء ويؤخّر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء».((1))

وعلى هذا ليس البداء في مثل تنصيص الأنبياء بعضهم على بعض، وفي

ص: 39


1- ([1]) البرقي، المحاسن، ج1، ص243؛ الکليني، الكافي، ج 2، ص 147، باب البداء، ح6.

تنصيصهم على خلفائهم وأوصيائهم كتنصيص الأنبياء الماضين على نبوّة سيّدنا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وتنصيصه على الأئمّة الاثني عشر(علیهم السلام)، وإخباره عن الملاحم والمغيّبات كشهادة أمير المؤمنين(علیه السلام) وشهادة مولانا أبي محمّد الحسن السبط الأكبر(علیه السلام) بالسمّ، وشهادة أبي عبد الله سيّد الشهداء(علیه السلام) بالسيف بالطفّ، وشهادة عمّار وأنّه تقتله الفئة الباغية، وغيرها من أخباره الغيبيّة.

كما أنّه ليس البداء فيما وعد الله تعالى به نبيّه(صلی الله علیه و آله و سلم)في القرآن المجيد، وأخبره به من الحوادث المستقبلة كظهور الإسلام علىجميع الأديان، وخروج دابّة الأرض، وخلافة المؤمنين في الأرض، وعجز البشر عن الإتيان بمثل سورة من القرآن إلی الأبد وإلى آخر الدهر، وغيرها، دون غير ذلك ممّا لم يخبر الله تعالى به إیّاه ولا أنبياءه وخلفاءه بالتنصيص.

ولولا ذلك لبطل تنصيصات الرسل على من يأتي بعدهم من الأنبياء، ولما تمّ الاستدلال بتنصيص الأنبياء على نبوّة نبيّنا صلّی الله علیه وآله وعليهم أجمعين، مع أنّ الله تعالى احتجّ بذلك في كتابه الكريم.

قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾.((1))

وقال سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ

ص: 40


1- ([1]) البقرة، 146؛ الأنعام، 20.

مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾.((1))

وقال عزّ من قائل: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ﴾.((2))

وقال تعالى شأنه: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾.((3))

ألا ترى أنّه لا يسمع من أهل الكتاب ادّعاء وقوع البداء في مثل هذه النصوص، كما لا يسمع ادّعاء الإمامة من غير الأئمّة الاثني عشر(علیهم السلام).((4))

ص: 41


1- ([2]) الأعراف، 157.
2- ([3]) الفتح، 29.
3- ([4]) الصفّ، 6.
4- ([5]) بل يمكن أن يقال: إنّ التنصيص على إمامة الأئمّة وولايتهم لا يجوز أن يقع فيه البداء، لأنّه إخبار عن الولاية الّتي هو من الاُمور الإنشائية والمجعولات الشرعية، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة، 124)؛ بل يمكن أن يقال ذلك في الرسالة أيضاً؛ استناداً بقوله تعالى: ﴿اللّٰهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام، 124) فلا يتطرّق في مثل ذلك البداء؛ لأنّه بعد الإنشاء يقع على ما يقع، ورفعه بعد وجوده في وعاء الاُمور الاعتبارية قبل مجيء زمان القيام به لا يجوز، ويكون من رفع الحكم قبل مجيء وقت إتيانه، نعم إذا لم يكن المولى في إنشائه جادّاً وکان إنشاؤه صوريّاً يجوز رفعه، لكن هو خارج عمّا نحن فيه، وأمّا بعد قيامه به فلا يجوز رفعه وقطع استمراره، لأنّ الله تعالى لا يشرّف أحداً بنصبه للإمامة والولاية الّتي هيZ [عهده الّذي لا يناله الظالمين إلّا إذا کان جامعاً بشرائط تولّيها من العصمة عن الذنوب والخطاء في ماضي عمره ومستقبله، لا ينتزع منه لباساً وتشريفاً شرّفه به، فكيف يجوز بعد أن ابتلى إبراهيم بما ابتلاه وجعله للناس إماماً انتزاع هذه الكرامة الّتي كرّمه بها منه؛ هذا مضافاً إلی أنّ النصوص قد دلّت على استمرار الولاية والإمامة العامّة لمن نصبه الله لها صراحة.

والحاصل: إنّ وقوع البداء في هذه التنصيصات، والتعريفات وما به يعرف المحقّ من المبطل، والآيات والعلامات والملاحم لا يوافق حكمة الله تعالى، ومفسد لنظام النبوّات، ويبطل الاتّكال على التنصيصات وأخبار الأنبياء والأوصياء، ولذا لم يحتمل أحد في قصّة صلح الحديبيّة جواز وقوع البداء فيما أخبر به النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)من فتح مكّة المكرّمة، ولم يردّ النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)اعتراض المعترض المنافق بعدم لزوم وقوعه في هذا العام؛ لجواز وقوع البداء فيه، بل أجابه بأنّه(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يقيّده بهذا العام، ((1)) قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللّٰهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّٰهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ﴾.((2))

ص: 42


1- ([1]) ابن هشام، السیرة النبویّة، ج3، ص791؛ الطبرسي، إعلام الوری، ج1، ص235؛ ابن کثیر، تفسیر القرآن العظیم، ج4، ص215؛ ابن کثیر، البدایة والنهایة، ج4، ص258؛ ج6، ص203؛ ابن کثیر، السیرة النبویّة، ج3، ص428؛ الحلبي، السیرة الحلبیة، ج2، ص97؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج21، ص169.
2- ([2]) الفتح، 27.

دفع الوهم

المبحث السابع: ربّما يتوهّم استفادة وقوع البداء في بعض ما نصّ الله والنبيّ أو الوليّ به من بعض الآيات والروايات، مثل قوله تعالى:

﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾؛((1))

وقوله تعالى: ﴿فَلَوْ لَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾.((2))

ومن الروايات، مثل ما ورد ظي وقوع البداء في إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق(علیه السلام)،((3)) وفي أبي جعفر محمّد بن الإمام عليّ النقيّ(علیه السلام).((4))

ومثله ما ورد في إخبار روح الله عيسى - على نبيّنا وآله وعلیه السلام - بموت امرأة تهدى إلی زوجها في ليلتها، فلمّا أصبحوا جاؤوا فوجدوها

ص: 43


1- ([1]) الأعراف، 142.
2- ([2]) يونس، 98.
3- ([3]) الصدوق، التوحید، ص336؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج47، ص269.
4- ([4]) الکلیني، الکافي، ج1، ص326.

على حالها.((1))

وفي أنّ الله تعالى أوحى إلی نبيّ من أنبيائه بأن يخبر فلان الملك أنّي متوفّيه إلى كذا وكذا،((2)) وفي شابّ کان عند داود إذ أتاهملك الموت فسلّم عليه وأحدّ ملك الموت النظر إلی الشابّ.((3))

وما ورد في نبيّ من أنبياء بني إسرائيل أنّ الله وعده أن ينصره إلی خمسة عشر ليلة،((4)) ونبيّ وعده الله النصرة إلی خمسة عشره سنة،((5)) وفي إخبار النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)بقتل يهوديّ يعضّه أسود في قفاه،((6)) وما ورد في تعيين وقت الفرج والرخاء.((7))

والجواب عن هذا التوهّم:

أوّلاً: أنّه يمكن أن يقال: إنّ ما قلنا بعدم وقوع البداء فيه بدلالة العقل

ص: 44


1- ([5]) الصدوق، الأمالي، ص589 - 590؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص94.
2- ([6]) الصدوق، عیون أخبار الرضا(علیه السلام)، ج1، ص179 - 182؛ قطب الدین الراوندي، قصص الأنبیاء، ص241.
3- ([1]) قطب الدین الراوندي، قصص الأنبیاء، ص207.
4- ([2]) ابن بابویه، الإمامة والتبصرة، ص94 - 95.
5- ([3]) ابن بابویه، الإمامة والتبصرة، ص94 - 95.
6- ([4]) الکلیني، الکافي، ج4، ص5.
7- ([5]) العیاشي، تفسیر، ج2، ص154، 217؛ الطوسي، الغیبة، ص427 - 429؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص113 - 114، 118 - 120.

والنقل عليه هو إخبار النبيّ أو الوليّ عمّا من شأنهما أن يخبرا عنه، كالتنصيص على الأوصياء والخلفاء والإخبار عن المغيّبات إظهاراً للمعجزة وفي مقام التحدّي والاحتجاج وإعلاماً لعلائم الحقّ والباطل، وإعلاماً لبعض ما يقع من جلائل الحوادث والفتن، كفتنة الدجّال والشجرة الملعونة وغيرها من الإخبارات الّتي

تؤكّد وقوعها معنى النبوّات وتقوّي الوعي الإيمانيّ والاهتداء إلی الحقّ والصواب.

وأمّا ما ذكرتم من الآيات والأخبار فما فيها من الإخبار، إخبار عن اُمور جزئية لا ترتبط بالعقائد والشرعيات من الاُصول والفروع، والإخبار عنها کان بعد إثبات نبوّة النبيّ أو ولاية الوليّ المخبر عنه بالمعجزة أو بالنصّ أو کليهما، مع ما يدلّ في نفس الواقعة بعد ظهور كونها بدائية من أنّ ما أخبر عنه إنّما لم يقع لكونه من الاُمور الموقوفة، فكان موت هذا مثلاً موقوفاً على ترك الصدقة أو صلة الرحم أو بقائه وتأخير أجله موقوفاً على الصدقة وصلة الرحم، فلمّا وصل الرحم، اُخّر في أجله، ومع وجود هذه الدلالة في الواقعة ليست دلالة الإخبار عن الأمر الموقوف الّذيلم يقع، على جلالة قدر شأن النبيّ أو الوليّ بأقلّ من وقوعه على طبق إخباره، بل يكون هذا أفيد وآكد في استصلاح الناس وموعظتهم ودعوتهم إلى البرّ والخير.

ولو تأمّلنا في الموارد الّتي ورد عدمُ وقوع ما أخبر به النبيّ أو الوليّ،

ص: 45

نجد في جميعها شاهداً على ذلك، سواء اعتبر هذا الشاهد بمنزلة القرينة على أنّ المخبر عمل بالتورية في خبره، أو أنّه کان مأموراً بالإخبار عنه، وأن لا قبح في ذلك بعد وجود فائدة ومصلحة فيه، وظهور حقيقة الأمر على الناس، ويأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

وثانياً: نقول: إنّ الآيات الّتي فسّرت بالبداء، بعضها لا يدلّ على أزيد من كون بعض الاُمور بدائياً وموقوفاً على أمر وجوديّ أو عدميّ، بل لا يدلّ أزيد من كونه غير حتميّ الوقوع وأنّه بمشيّة الله تعالى، كقوله تعالى: ﴿يَمْحُوا اللّٰهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾؛((1))

وقوله جلّ وعزّ: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلَّا فِي كِتَابٍ﴾.((2))

وبعضها وإن ادّعي دلالته على إخبار الله تعالى أو نبيّه بأمر وقع خلافه، إلّا أنّه لم يثبت دلالته على ذلك، مثل قوله تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعينَ لَيْلَةً ﴾.((3)) فإنّ صحّة دعوى دلالته على عدم زيادة زمان الميعاد على ثلاثين، موقوفة على حجّية مفهوم العدد الّذي ثبت في الاُصول عدم حجّيته بل عدم دلالته،((4))

ص: 46


1- ([1]) الرعد، 39.
2- ([2]) فاطر، 11.
3- ([3]) الأعراف، 142.
4- ([4]) القمّي، قوانین الاُصول، ص191؛ العراقي، نهایة الأفکار، ج1 - 2، ص503؛ الحکیم، المحکم في اُصول الفقه، ج1، ص625.

ومثله لا يدلّ على أزيد من الوعد بالثلاثين، ولا يدلّ على تقييده بعدم تشرّف موسى بالزيادة على ذلك العدد، ففي الحقيقة ما هو الموقوف الإتمام بالأربعين، فإنّهموقوف على ثلاثين دون العكس، فلا يجيء منه تكذيب النبيّ، وإن شئت فقل: إنّه يدلّ على عدم وقوع الميعاد على الأقلّ لا الأكثر.

وبعض الآيات كقوله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم(علیه السلام): ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ َ﴾؛((1)) فلا دلالة لقوله تعالى: ﴿ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾، على أزيد من الشروع بالذبح بالاشتغال بمقدّماته، وإلّا قال: إنّي أرى في المنام أنّي ذبحتك، وكان الواجب على إبراهيم(علیه السلام) الاشتغال بمقدّمات الذبح والشروع فيه ثم ذبح ابنه؛ لأنّ الظاهر من الحكم بالمقدّمة الحكم بذي المقدّمة، ولكن هذا بدلالة العقل بعد ما لم يرد من الأمر بيان في ذلك وليس بدلالة اللفظ، كما يستفاد من «أَنِّي ذْبَحْتُكَ» وبعد ما جاء البيان يعلم أنّ المأمور به هو الشروع والاشتغال بمقدّمات الذبح طبقاً لما رآه في المنام، ولذا قال الله تعالى: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾؛((2)) ومثل هذا

ص: 47


1- ([1]) الصافّات، 102.
2- ([2]) الصافّات، 105.

ليس من البداء بشيء ولا من تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وبعض الآيات مثل قوله تعالى: ﴿فَلَوْ لَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾؛((1)) لا دلالة فيها إلّا على أنّ الإیمان يمنع من العذاب، وهذا مدلول آيات كثيرة وروايات متواترة، وقد ورد في التفسير أنّ يونس - على نبيّنا وآله وعلیه السلام - أخبرهم بالعذاب إنْ لم يتوبوا، ولم يؤمنوا،((2)) وهذا لا يجعله معرضاً لتكذيب المكذّبين، نعم ورد في تفسيرها في بعض الروايات أنّه أخبرهم بالعذاب، ولم يقيّده بعدم الإيمان والاستمرار على الكفروالعصيان.((3))

وظاهر هذه الأخبار وإن کان يجعل النبيّ معرضاً للتكذيب، إلّا أنّه يمكن أن يقال: إنّ عدم تقييده نزول العذاب بعدم الإيمان في اللفظ، کان اتّكالاً على القرينة المعلومة، وهي عدم نزول العذاب بعد الإيمان؛ لأنّه ظنّ بهم عدم الإیمان وخرج من بينهم لظنّه ذلك، لا لأنّ العذاب كان محتوماً عليهم غير موقوف بعدم الإیمان، ولذا أمرهم عالم بالإيمان

ص: 48


1- ([3]) يونس، 98.
2- ([4]) الطبري، جامع البیان، ج11، ص119؛ الطبرسي، مجمع البیان، ج5، ص204؛ أبو الفتوح الرازي، روض الجنان، ج10، ص209.
3- ([1]) الطبري، جامع البیان، ج11، ص118 - 119.

والتوبة. هذا، ويمكن أن يقال: إنّ الإخبار بنزول العذاب کان إخباراً بمقدّماته وإشرافه عليهم، كما في قوله تعالى: ﴿ولَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ﴾؛((1)) وكما قيل في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾.((2))

هذا مختصر الکلام في الآيات الّتي قيل بإخبارها عن وقوع أمر وقع فيه البداء من غير تقييد بأنّه موقوف يمكن أن يقع فيه البداء.

وأمّا الأحاديث، فهي مع الغضّ عن ضعفها من حيث السند أو المتن أو کليهما وقوّة الأحاديث الدالّة على أنّ الله لا يكذّب رسله، بحيث لو وقعت المعارضة بينها وبين هذه الأحاديث، يجب الاعتماد عليها وترك هذه الأحاديث وردّ علمها إليهم(علیهم السلام) على طوائف:

منها: ما ورد في وقوع البداء في إسماعيل((3)) ابن سيّدنا الإمام أبي عبد

ص: 49


1- ([2]) القصص، 23.
2- ([3]) مريم، 71؛ الزمخشري، الکشاف، ج3، ص35؛ الطبرسي، جوامع الجامع، ج2، ص405؛ الطبرسي، مجمع البیان، ج6، ص811.
3- ([4]) قد نبشت الحكومة الجائرة المتسمّية بالسعوديّة في زماننا باسم توسعة الشارع قبره فوجد جسده طريّاً كأنّه مات في الحال، فنقل إلی البقيع ودفن والقصّة مشهورة معروفة، وإسماعيل هذا توفّي سنة ثلاث وثلاثين ومأة قبل وفاة أبيه الصادق(علیه السلام) بعشرين سنة، توفّي بالعريض قرب المدينة، وحمل على أعناق الرجال حتّى دفن بالبقيع، وکان أبو عبد الله(علیه السلام) يحبّه حبّاً شديداً ويكرمه إكراماً عظيماً. وروي أنّه لمّا مات جزع عليه أبو عبد الله(علیه السلام) جزعاً شديداً ووجد به وجداً عظيماً، وتقدّم سريره بغیرحذاء ولا رداء، وأمر بوضع سريره على [الأرض قبل دفنه مراراً كثيرة، وکان يكشف عن وجهه وينظر إلیه يريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانّين خلافته له من بعده، وإزالة الشبهة عنهم في حياته. راجع: المدني الشیرازي، رياض السالكين، ج1، ص126.

الله جعفر الصادق(علیه السلام)،((1)) وفي أبي جعفر محمّد ابن مولانا الإمام أبي الحسن عليّ الهادي(علیه السلام)،((2)) إلّا أنّه لا دلالة في ما ورد فيهما على الإخبار بوقوع أمر فيهم كالإمامة وغيرها قبل موتهما، حتى يلزم من موتهما تكذيب هذا الخبر، بل کان الأمر بالعكس؛ إذ لم يرد في إمامتهما نصّ وخبر، وورد التنصيص على الأئمّة الاثني عشر المعروفين في أحاديث متواترة روتها الثقات قبل ولادتهم.

قال السیّد الأجلّ شارح الصحيفة: فائدة: روي عن الصادق(علیه السلام) أنّه قال: «ما بدا لله أمر كما بدا له في إسماعيل»؛ فتوهّم بعضهم أنّ معناه أنّه جعله أوّلاً قائماً بعده مقامه، فلمّا توفّى نصب الكاظم(علیه السلام) بدله، وهذا وهم باطل وخطأ محض، كيف وقد ثبت وصحّ من طرق الإمامية ورواياتهم أنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)قد أنبأ بأئمّة اُمّته، وأوصيائه من عترته، وأنّه سمّاهم بأعيانهم(علیهم السلام) وأنّ جبرئيل(علیه السلام) نزل بصحيفة من السماء فيها أسماؤهم وكناهم، كما شحنت بالروايات في ذلك كتب الحديث سيّما

ص: 50


1- ([1]) الصدوق، التوحید، ص336.
2- ([2]) الکلیني، الکافي، ج1، ص326.

كتاب الحجّة من الكافي، وإنّما معنى الحديث المذكور - إن صحّ وثبت - ما قاله الصدوق(قدس سره) في كتاب التوحيد إنّه(علیه السلام) يقول: «ما ظهر لله أمر كما ظهر له في إسماعيل ابني إذا اخترمه قبلي ليعلم أنّه ليس بإمام بعدي».((1)) انتهى.

ولا يخفى عليك أنّ الروايات على عدد الأئمّة الاثني عشر من طرق العامّة أيضاً متواترة، وقد وردت فيها أسماؤهم بأعيانهم. وأمّا الرواية فقد حكي عن كتاب زيد النرسي عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «ما بدا لله بداء أعظم من بداءٍ بدا له فيإسماعيل ابني»؛((2)) فيمكن حملها على أنّه ما بدا وظهر لإثبات أمر الله تعالى، وأنّ عهد الإمامة لم يكن معهوداً لإسماعيل كما بدا لله فيه، وعلى هذا استعمل البداء في ظهور الأمر بعد خفائه، أي: ظهور أنّ أمر الإمامة ليس لإسماعيل للناس بعد ما کان مخفيّاً عنهم، لإثبات أمرالله تعالى.

وهنا احتمال آخر، وهو أنّ المراد من إسماعيل هو إسماعيل بن إبراهيم(علیهما السلام)، وکلمة «ابني»، إمّا هو تصحيف «أبي» كما يدلّ عليه ما

ص: 51


1- ([3]) الصدوق، التوحید، ص336؛ المدني الشیرازي، ریاض السالکین، ج1، ص127 - 128.
2- ([1]) المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص122، أبواب الصفات، ب3، ح 69؛ ج47، ص269.

روى الصدوق عن أبي الحسين الأسدي، وهو: أنّه روى أنّ الصادق(علیه السلام) قال: «ما بدا لله بداءٌ كما بدا له في إسماعيل أبي، إذ أمر أباه بذبحه ثم فداه بذبح عظيم»((1)) أو زيدت على الحديث سهواً من بعض الناقلين، ويدلّ على ذلك أنّ أعظميّة البداء تناسب قصّة إسماعيل المشهورة بين الناس المعروفة بالعظمة، والّتي هي من أعظم الشواهد على تسليم المؤمن الموحّد لربّه تعالى، قال الله تعالى: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَا ذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾.((2))

وعلى کلّ ذلك؛ المراد بوقوع البداء فيهما ليس وقوعه في إمامتهما، لما دلّت علیه الروايات المصرّحة بإمامة الأئمّة الاثني عشر(علیهم السلام)، فليردّ علم هذه الأحاديث - لو صحّت وسلمت ممّا يرد عليها من المناقشات السندية والدلالية - إليهم(علیهم السلام)، أو يحمل على المحامل الصحيحة، مثل أنّ بقاء إسماعيل وهكذا محمّد إلی بعد مضيّ والدهما کان موقوفاً على أن لا يصير ذلك سبباً لتوهّمإمامتهما، أو موقوفاً على أن لا يظنّ إمامتهما

ص: 52


1- ([2]) الصدوق، التوحید، ص336.
2- ([3]) الصافّات، 102 - 107.

في حياة أبيهما، وهذا حمل صحيح، بل استظهار مستقيم من مثل قوله: «ما بدا لله بداءٌ كما بدا له في إسماعيل ابني»، سيّما بقرينة الروايات المتواترة الناصّة على إمامة الأئمّة المرويّة بالطرق الصحيحة، عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم).

هذا، وقد سمعت أنّ الصدوق خرّيت صناعة الحديث وإمام أهله وحامليه، فسّر هذا الحديث بأنّه(علیه السلام) يقول: «ما ظهر لله أمر كما ظهر في إسماعيل ابني إذا اخترمه قبلي ليعلم أنّه ليس بإمام بعدي».((1))

هذا وقد سمعت ما احتملنا أيضاً في مفاد الخبر، والله أعلم.

وقال حبر الطائفة الشيخ المفيد(قدس سره) في تصحيح الاعتقاد: قول أبي عبد الله(علیه السلام): «ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل»، فإنّما أراد به ما ظهر من الله تعالى فيه من دفاع القتل عنه، وقد کان مخوفاً عليه من ذلك مظنوناً به، فلطف له في دفعه عنه، وقد جاء في الخبر بذلك عن الصادق(علیه السلام) فروي عنه(علیه السلام) أنّه قال: «کان القتل قد كتب على إسماعيل مرّتين فسألت الله في دفعه عنه فدفعه».((2))

وظاهر کلامه أنّ الصادق(علیه السلام) سئل عن قوله: «بدا لله...» فأجاب عنه، وفسّر کلامه «بأنّ القتل قد كتب...» وعلى هذا فالمعوّل في مقام بيان آراء

ص: 53


1- ([1]) الصدوق، التوحيد، ص 336، باب 54، ح10.
2- ([2]) المفید، تصحيح اعتقادات الإمامية، ص66.

من الحديث على تفسير الإمام(علیه السلام).

ثم لا يخفى عليك أنّ من الأحاديث الواردة في وقوع البداء في أبي جعفر محمّد بن الإمام عليّ بن محمّد بن عليّ الرضا بل أظهرها، ما روي فيه أنّ مولانا أبا الحسن عليّ الهادي(علیه السلام) لمّا توفّي ابنه أبو جعفر قال لابنه الإمام أبي محمد(علیه السلام): «يا بنيّ أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً».((1))

أقول: لو لم نقل بأنّه ومثله من الأحاديث من متشابهاتها، فلاظهور له على أنّ محمّد بن عليّ (علیه السلام) کان منصوصاً عليه بالإمامة فبدا لله فيه قبل موته فأماته، أو بدا لله فيه بعد موته فأقام مقامه أخاه أبا محمّد(علیه السلام)، كما أنّه لا دلالة له على أنّ مولانا أبا محمّد لم يكن منصوصاً عليه قبل موت أخيه أبي جعفر، فلمّا توفّي أخوه جعله الله تعالى خليفة لأبيه ونصبه إماماً للناس بعده، فهذا الاحتمال لا يستظهر من الخبر، مضافاً إلی أنّه يردّه الأحاديث الصحيحة الصريحة على أنّ أبا محمّد كان منصوصاً عليه بالإمامة من الله تعالى ومن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)ومن أجداده الطاهرين قبل ولادته وولادة أخيه محمد.

إن قلت: نعم لا دلالة لهذا الخبر على أنّ محمّداً كان منصوصاً عليه

ص: 54


1- ([3]) الکلیني، الكافي، كتاب الحجّة، ج1، ص326، باب الإشارة والنصّ على أبي محمد(علیه السلام)، ح 4 و5 و6.

بالإمامة إلّا أنّه لا شكّ في دلالته على وقوع بداء فيه، إذاً فما هو المقصود وما المراد من الأمر في قوله: «فقد أحدث فيك أمراً؟».

قلت: يمكن أن يكون المراد من إحداث الأمر، إظهار إمامة مولانا أبي محمد(علیه السلام) لمن يظنّ أنّ أخاه أبا جعفر خليفة لأبيه، وليس معنى ذلك أنّ الله تعالى توفّاه لإظهار هذا الأمر، بل المراد أنّ بطلان هذا الظنّ کان أمراً يترتّب على موته فأسند إحداثه إلی الله تعالى لإسناد سببه - وهو موته - إلیه.

هذا، ولا يخفى عليك أنّ ما صدر من بعض الأعيان والعباقرة، وأكابر العلماء في تفسير هذا الخبر، فقال: أي: جعلك الله إماماً بموت أخيك قبلك، بدا لله فيك.((1)) فکلام لا يصدر من مثله، ولا أدري كيف نعالج ذلك مع أنّه ثبت في كتابه، فهل دسّ هذا في کلامه أو سقط هنا من کلامه ما يوضح مراده؟ وكيف کان، فهو أجلّ من أن يفسّر الخبر بمثل هذا مع مخالفته لاتّفاق الإمامية، وللأحاديث المتواترة.

أخبار اُخری: ومن الأحاديث الّتي قيل بدلالتها على وقوع البداء فيما أخبر به الأنبياء(علیهم السلام) ما فيه الإخبار بموت شخص لم يتّفق موتهفي الوقت المعيّن، مثل الحديث المروىّ عن أمالي الصدوق بسنده عن أبي

ص: 55


1- ([1]) الفیض الکاشاني، الوافي، ج2، ص387.

بصير قال: سمعت أبا عبد الله الصادق جعفر بن محمد(علیهما السلام): «إنّ عيسى روح الله مرّ بقوم مجلبين، فقال: ما لهؤلاء؟ قيل: يا روح الله إنّ فلانة بنت فلان تهدى إلی فلان بن فلان في ليلتها هذه، قال: يجلبون اليوم ويبكون غداً. فقال قائل منهم: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: لأنّ صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه، فقال القائلون بمقالته: صدق الله وصدق رسوله، وقال أهل النفاق: ما أقرب غداً، فلمّا أصبحوا جاؤوا فوجدوها على حالها لم يحدث بها شيء، فقالوا: يا روح الله إنّ الّتي أخبرتنا أمس أنّها ميتة لم تمت، فقال عيسى - علی نبیّنا وآله وعلیه السلام - ﴿يَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾؛((1)) فاذهبوا بنا إليها، فذهبوا يتسابقون حتى قرعوا الباب، فخرج زوجها، فقال له عيسى: استأذن لي على صاحبتك، قال: فدخل عليها فأخبرها أنّ روح الله وکلمته بالباب مع عدّة، قال: فَتَخَدَّرت فدخل عليها، فقال لها: ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت: لم أصنع شيئا إلّا وقد كنت أصنعه فيما مضى، إنّه کان يعترينا سائل في کلّ ليلة جمعة فنُنيله ما يقوته إلى مثلها، وإنّه جاءني في ليلتي هذه وأنا مشغولة بأمري وأهلي في مشاغیل، فهتف فلم يجبه أحد، ثمّ هتف فلم يجب، حتى هتف مراراً، فلمّا سمعتُ مقالته قمت متنكّرة حتى أنلته كما كُنّا ننيله، فقال لها: تنحّي عن مجلسك فإذا تحت ثيابها أفعي مثل جذعة، عاضّ

ص: 56


1- ([1]) إبراهيم، 27.

على ذنبه، فقال(علیه السلام): بما صنعت صرف الله عنك هذا».((1))

وما روي عن العيون بسنده عن النوفلي يقول: قال الرضا(علیه السلام) لسليمان المروزي: «ما أنكرت من البداء يا سليمان والله عزّ وجلّ يقول: ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾؛((2)) ويقول عزّوجلّ: ﴿وَهُوَ الَّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ﴾؛((3)) ويقول: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾؛((4)) ويقول عزّ وجلّ: ﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾؛((5)) ويقول: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَان مِنْ طِينٍ﴾؛((6)) ويقول عزّ وجلّ: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَ مْرِ اللّٰهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾؛((7)) ويقول عزّ وجلّ: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ﴾.((8))

قال سليمان: هل روّيت فيه عن آبائك شيئا؟ قال: «نعم، روّيت عن

ص: 57


1- ([2]) الصدوق، الأمالي، ص589 - 590؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 4، ص 94، باب3، ح1.
2- ([3]) مريم، 67.
3- ([1]) الروم، 27.
4- ([2]) البقرة، 117؛ الأنعام، 101.
5- ([3]) فاطر، 1.
6- ([4]) السجدة، 7.
7- ([5]) التوبة، 106.
8- ([6]) فاطر، 11.

أبي، عن أبي عبد الله(علیه السلام) أنّه قال: إنّ لله عزّ وجلّ علمين علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلّا هو، من ذلك يكون البداء، وعلماً علّمه ملائكته ورسله، فالعلماء من أهل بيت نبيّك يعلمونه». قال سليمان: اُحبّ أن تنزعه لي من كتاب الله عزّ وجلّ، قال: «قول الله عزّ وجلّ لنبيّه: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ﴾؛((1)) أراد إهلاكم ثم بدا لله تعالی، فقال: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾».((2)) قال سليمان: زدني جعلت فداك، قال الرضا(علیه السلام). «لقد أخبرني أبي عن آبائه(علیهم السلام) أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلی نبيّ من أنبيائه أن أخبر فلاناً الملك أنّي متوفّيه إلی كذا وكذا، فأتاه ذلك النبيّ فأخبره فدعا الله الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير، وقال: يا ربّ أجّلنى حتى يشبّ طفلي، وقضی أمري، فأوحى الله عزّ وجلّ إلی ذلك النبيّ أن ائتِ فلاناً الملك فأعلمه أنّي قد أنسيت في أجله، وزدت في عمره خمس عشرة سنة، فقال ذلك النبيّ: يا ربّ إنّك لتعلم أنّي لم أكذب قطّ، فأوحى الله عزّ وجلّ إلیه إنّما أنت عبدمأمور فأبلغه ذلك، والله لا يسئل عمّا يفعل».

ثم التفت إلی سليمان فقال له: «أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب». قال: أعوذ بالله من ذلك، وما قالت اليهود؟ قال: «﴿قَالَتِ

ص: 58


1- ([7]) الذاريات، 54.
2- ([8]) الذاريات، 55.

الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ﴾،((1)) يعنون

أنّ الله قد فرغ من الأمر فليس يحدث شيئاً، فقال الله عزّ وجلّ: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾؛((2)) ولقد

سمعت قوماً سألوا أبي موسى بن جعفر(علیهما السلام) عن البداء فقال: وما ينكر الناس من البداء، وأن يقف الله قوماً يرجيهم لأمره».

قال سليمان: ألا تخبرنى عن: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾((3)) في أيّ شيء اُنزلت؟ قال: «يا سليمان ليلة القدر يقدّر الله عزّ وجلّ فيها ما يكون من السنة إلى السنة من حياة أو موت أو خير أو شرّ أو رزق، فما قدّره في تلك الليلة فهو من المحتوم».

قال سليمان: الآن قد فهمت جعلت فداك فزدني. فقال: «يا سليمان إنّ من الاُمور اُموراً موقوفة عند الله تبارك وتعالى يقدّم منها ما يشاء ويؤخّر ما يشاء، ویمحو ما یشاء؛ يا سليمان إنّ عليّاً(علیه السلام) کان يقول: العلم علمان فعلم علّمه الله ملائكته ورسله، فما علّمه ملائكته ورسله فإنّه يكون ولا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم يطّلع عليه أحداً من خلقه، يقدّم منه ما يشاء ويؤخّرمنه ما يشاء، ويمحو ما یشاء ويثبت ما يشاء». قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين لا اُنكر بعد يومي هذا

ص: 59


1- ([1]) المائدة، 64.
2- ([2]) المائدة، 64.
3- ([3]) القدر، 1.

البداء، ولا اكذّب به إن شاء الله.((1))

وما روى عن كتاب الإمامة والتبصرة لعليّ بن بابويه بإسناده عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «کان في بني إسرائيل نبىّ وعده الله أنّ ينصره إلی خمس عشرة ليلة، فأخبر بذلك قومه، فقالوا: والله إذاکان ليفعلنّ وليفعلنّ، فأخّره الله تعالى إلی خمس عشرة سنة، وکان فيهم من وعده الله النصرة إلی خمس عشرة سنة، فأخبر بذلك النبيّ قومه فقالوا: ما شاء الله فعجّله الله لهم في خمس عشرة ليلة».((2))

وما روي عن كتاب قصص الأنبياء بالإسناد إلی الصدوق بسنده عن هشام بن سالم قال: سأل عبد الأعلى مولى بني سام الصادق(علیه السلام) وأنا عنده حديث يرويه الناس، فقال: «وما هو؟» قال: يروون أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلی حزقيل النبيّ(علیه السلام) أن أخبر فلان الملك أنّي متوفّيك يوم كذا، فأتى حزقيل(علیه السلام) الملك فأخبره بذلك، قال: فدعا الله وهو على سريره حتى سقط ما بين الحائط والسرير، فقال: يا ربّ أخّرني حتى يشبّ طفلي وأقضي أمري، فأوحى الله إلى ذلك النبيّ أن ائت فلاناً وقل:

ص: 60


1- ([4]) الصدوق، عیون أخبار الرضا(علیه السلام)، ج1، ص179 - 182؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص95 - 96، ب3، ح2.
2- ([1]) ابن بابویه، الإمامة والتبصرة، ص94 - 95؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص112، ب3، ح32.

إنّي انسأت في عمره خمس عشرة سنة، فقال النبيّ: يا ربّ وعزّتك إنّك تعلم أنّي لم أكذب كذبة قطّ، فأوحى الله إلیه إنّما أنت عبد مأمور فأبلغه.((1))

وما روي عن الكافى بسنده عن سالم بن مكرّم عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «مرّ يهوديّ بالنبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)فقال: السام عليك، فقال النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) عليك، فقال أصحابه: إنّمَا سلّم عليك بالموت، فقال: الموت عليك، فقال النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) وكذلك رددت، ثم قال النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) إنّ هذا اليهوديّ يعضُّه أسود في قفاه فيقتله، قال: فذهب اليهوديّ فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله، ثم لم يلبث أن انصرف، فقال له رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ضعه فوضّع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاضّ على عود، فقال: يا يهوديّ ما عملت اليوم؟ قال: ما عملت عملاً إلّا حطبي هذا احتملته فجئت به، وكان معي كعكتان فأکلت واحدةً وتصدّقت بواحدة على مسكين، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بها دفع الله عنه، وقال: إنّ الصدقة تدفعميتة السوء عن الإنسان».((2))

والّذي يقال في هذه الأحاديث، أوّلاً: إنّ المخبر عنه فيها ليس من

ص: 61


1- ([2]) قطب الدین الراوندي، قصص الأنبیاء(علیهم السلام)، ص241؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص 112 - 113، باب3، أبواب الصفات، ح33.
2- ([1]) الکلیني، الکافي، ج4، ص5؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 4، ص 121 - 122، أبواب الصفات، باب3، ح67.

الاُمور المحتومة الّتي ليست فيها البداء، وإنّما کان من الاُمور الموقوفة كما يدلّ عليه نفس ما في هذه الأخبار من ظهور الحقيقة وانكشاف الواقع على نحو لا يكذّب به النبيّ، ولا يبقى لذي مقالٍ مقالاً بل يقوى اعتماد الناس به.

وثانياً: ما في هذه الأحاديث من الإخبار ببعض الوقائع ليس من الاُمور التبليغية الّتي هي من وظائف الأنبياء والأئمّة وما يدور مدارها وجود مفهوم النبوّات والإنباء من الله تعالى والسفارة بين الخالق والخلق، وإتمام الحجّة على العباد وغير ذلك ممّا به يقوم مصالح النبوّات، وتقتضيه قاعدة اللطف وغيرها من القواعد العقلية الّتي يثبت بها لزوم بعث الرسل وإنزال الكتب وهداية الناس وتبليغهم وإرشادهم إلی کلّ ما يقرّبهم إلی الجنّة ويبعّدهم عن النار.

ويؤيّد هذا ما في نفس هذه الأخبار مثل خبر العيون فإنّه لو لم يحمل ما علّمه الله تعالى ملائكته ورسله على ما علّمهم من الاُمور التبليغية وما هو من شأن الرسل الإخبار به، يقع التنافي بين قوله(علیه السلام): «وعلماً علّمه ملائكته ورسله...»، وما روى فيه(علیه السلام) عن أبيه عن آبائه عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ويرفع التنافي برفع اليد عن عموم ما علّمه الله تعالى وتخصيصه بغير مثل قضیّة النبيّ المرويّة عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وفي نفس هذا الحديث

ص: 62

قرينة على عدم شمول عمومه مثلَ ما في هذه الأحاديث فتدبّر.

وثالثاً: الإخبار بما في هذه الأحاديث کان بعد ثبوت نبوّتهم بالمعجزات والبيّنات، وبعد ذلك لا يضرّ وقوع مثل ما في هذه الأحاديث بأمر نبوّة ولا يضعف به الإیمان بصدقهم سيّما بعد ما في هذه القصص من الشاهد على أنّ الإخبار بها لم يكن جزافاًوكذباً. هذا، وقد تلخّص من جميع ما ذكر أنّ ما نصّ الله تعالى وأنبياؤه والأئمّة الطاهرون(علیهم السلام) عليه من الاُمور الاعتقادية والمطالب الدينية لا يقع فيها البداء، يجب أن يقع الإخبار بهذه الاُمور كما اُخبر بها البتّة، وإلّا لاختلّ نظام النبوّات ويترتّب عليه مفاسد كثيرة.

إنْ قلت: فما تقول في النسخ فإنّه واقع في التشريعيات ممّا نصّ عليه النبيّ الّذي نسخ بعض أحكام شرعه من التکليفات أو الوضعيّات، بل ربّما وقع ذلك في شرع نبيّ واحد، فكان الحكم في موضوع في برهة من عصر نبوّته تحريمه، ثم نسخ وجاء الوحي بوجوبه أو إباحته.

قلت: النسخ ليس من البداء الّذي قرّرنا صحّته في التكوينيّات، بل هو إظهار الحكم في موضوع يظنّ استمرار حكمه السابق، وإن شئت قلت: هو ردّ حكم العقلاء أو بنائهم باستمرار حكم المولى ما لم يرد منه بيان انتهائه، فإذا قال المولى: «أكرم العلماء»، فكما أنّ له عموم أفراديّ

ص: 63

يشمل به الحكم جميع أفراد العلماء، وليس إخراج بعض أفراد العلماء منه بالمخصّص المنفصل أو المتّصل نسخ الحكم، كذلك له عموم أزمانيّ شامل جميع الأزمنة، وليس إخراج بعض الأزمنة منه بالدليل المتّصل أو المنفصل نسخاً لهذا الحكم، بل في کلّ منهما دليل على أنّ شمول الحكم الّذي أنشأ ضرباً للقاعدة والقانون للمورد المخصّص لم يكن جدّیّاً.

هذا، ويمكن أن يقال: إنّ العموم بالنسبة إلی أفراد العامّ يستفاد من اللفظ، بخلافه بالنسبة إلی الأزمان، فلا دلالة للّفظ بإحدى دلالاته الثلاث عليه، بل مستند ذلك إمّا بناء العقلاء على الاستمرار، أو حكمهم بالاستمرار وبقاء الحكم، فالأوّل إنّما يثبت الحكم به على جميع أفراد العامّ بالحجّة اللفظية، والثاني بالحجّة العقلية ليس في موردها دليل قطعيّ، أو الظهور اللفظي للحجّة على أنّ الحكم کان كذا حتى يكون إنشاء حكم آخر نسخاً له، فتدبّر جيّداً.نعم إذا دلّ دليل بالخصوص على حكم في مورد خاصّ - مثل وجوب صلاة الظهر - ثم جاء دليل آخر على نسخ هذا الحكم قبل مجي ء وقت العمل به، فللبحث فيه من جهة البداء مجال، إلّا أنّه لم يقع مثله في التشريعيات، والموارد الّتي توهّم ذلك فيها، مثل أمر إبراهيم الخليل(علیه السلام) بذبح ابنه لم يكن الأمر بها حقيقة، بل كان الأمر بها على بعض المقدّمات،

ص: 64

أو فهم بالقرينة عدم جدّ الآمر في أمره، وأنّ إرادته لم تكن جدّية وإنّما أمر بما أمر لمصالح اُخرى، وأمّا إخراج بعض أفراد الظهر مثلاً من دليل وجوب صلاة الظهر تقييداً أو تخصيصاً في هذا المورد الّذي يستفاد من اللفظ شمول حكم الأفراد والأزمان على وِزانٍ واحد فليس من البداء.

أخبار تعيين وقت الفرج:

وأمّا الأخبار الواردة في تعيين وقت الفرج والرخاء مثل مضمرة أبي بصير قال: قلت له: ألهذا الأمر أمد تريح إلیه أبداننا ننتهي إلیه؟ قال: «بلى ولكنّكم أذعتم فزاد الله فيه».((1))

وحديث أبي حمزة الثمالي قال: قلت لأبي جعفر(علیه السلام): إنّ عليّاً(علیه السلام) کان يقول: «إلى السبعين بلاء» وکان يقول: «بعد البلاء رخاء» وقد مضت السبعون ولم نر رخاءاً، فقال: أبو جعفر(علیه السلام): «يا ثابت إنّ الله تعالى کان وقّت هذا الأمر في السبعين، فلمّا قتل الحسين اشتدّ غضب الله على أهل الأرض فأخّره إلی أربعين ومأة سنة، فحدّثناكم فأذعتم الحديث وكشفتم قناع السرّ، فأخّره الله ولم يجعل له بعد ذلك وقتاً عندنا، و﴿يَمْحُوا اللّٰهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾((2))». قال أبو حمزه: وقلت ذلك لأبي عبد

ص: 65


1- ([1]) الطوسي، الغیبة، ص427 - 428، 431؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص113، ب3، ح38.
2- ([2]) الرعد، 39.

الله(علیه السلام) فقال: «قد کان ذلك».((1))

وخبر عثمان النوّاء، قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) يقول: «کان هذاالأمر فيّ فأخّره الله، ويفعل بعدُ في ذرّيّتي ما يشاء».((2))

وحديث فضل بن أبي قرّة قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السلام)يقول: «أوحى

الله إلى إبراهيم أنّه سيولد لك، فقال لسارة، فقالت: ﴿أَ أَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ﴾((3)) فأوحى

الله إلیه أنّها ستلد ويعذّب أولادها أربعمائة سنة بردّها الکلام عليّ، قال: فلمّا طال على بني إسرائيل العذاب ضجّوا وبكَوْا إلی الله أربعين صباحاً، فأوحى الله إلی موسى وهارون يخلّصهم من فرعون، فحطّ عنهم سبعين ومأة سنة»، قال: وقال أبو عبد الله(علیه السلام): «هكذا أنتم لو فعلتم لفرّج الله عنّا، فأمّا إذا لم تكونوا فإنّ الأمر ينتهي إلى منتهاه».((4))

وخبر عمرو بن الحمق قال: دخلت على أمير المؤمنين(علیه السلام) حين ضرب على قرنه، فقال لي: «يا عمرو إنّي مفارقكم»، ثم قال: «سنة السبعين فيها بلاء» - قالها ثلاثاً - فقلت: فهل بعد البلاء رخاء؟ فلم يجبني واُغمي عليه، فبكت اُمّ کلثوم فأفاق فقال: «يا اُمّ کلثوم لا تؤذينى فإنّك لو قد ترين ما

ص: 66


1- ([3]) المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص114، ب3، ح39.
2- ([1]) الطوسي، الغیبة، ص429؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص114، ب3، ح40.
3- ([2]) هود، 72.
4- ([3]) العیّاشي، تفسیر، ج2، ص154؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص118، ب3، ح50.

أرى لم تبكي، إنّ الملائكة في السماوات السبع بعضهم خلف بعض، والنبيّون خلفهم، وهذا محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)آخذ بيدي يقول: انطلق يا عليّ فما أمامك خير لك ممّا أنت فيه». فقلت: بأبي أنت واُمّي قلتَ: «إلی السبعين بلاء»، فهل بعد السبعين رخاء؟ قال: «نعم يا عمرو إنّ بعد البلاء رخاءاً و ﴿يَمْحُوا اللّٰهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتاب ﴾((1))».((2))

هذه الأخبار ربّما يوهم ظاهرها البداء في حصول الفرج قبلقيام مولانا المهديّ(علیه السلام) بأبي هو واُمّي، مع أنّ الأخبار المتواترة من طرق العامّة والخاصّة قد دلّت على أنّ الفرج التامّ لا يتحقّق إلّا بظهوره(علیه السلام) فهو الّذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.

والجواب

عن هذه الأخبار:

أوّلاً: بضعف سند بعضها وجهالة رجالها، كخبر عثمان النوّاء، وبالإجمال أو ضعف متن بعضها.

وثانياً: بما في بعضها من عدم التصريح والجزم بالوقت، بل والتصريح بعدم الجزم وأنّ سنّة البداء تؤثّر في ذلك، ولذا تلا(علیه السلام) - كما ترى في خبر عمرو بن الحمق وأبي حمزة -: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ

ص: 67


1- ([4]) الرعد، 39.
2- ([5]) العیّاشي، تفسیر، ج2، ص217؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص119 - 120، باب3، ح60.

الْكِتَابِ ﴾؛((1)) وهذا لا ينافي الخبر الجزميّ والتصريح بأنّ الرخاء والفرج إنّما يتحقّق بظهور الإمام المنتظر والوليّ الثاني عشر(علیه السلام)، فالله تعالى وأولياؤه بتعليمه تعالى إيّاهم عالمون بوقوع البداء في جميع هذه الأوقات، وأنّ ظهور هذا الأمر والعدل الکلّي والرخاء التامّ لا يتحقّق إلّا بعد امتحان شديد وفتن كبيرة كثيرة، لا يبقى فيها على الإیمان إلّا من امتحن الله قلبه بالإيمان بعد غيبة الإمام الثاني عشر(علیه السلام) غيبة يطول أمدها، يرتاب فيها الجاهلون إلی أن منّ الله تعالى على عباده بظهوره(علیه السلام)، فيملأ به الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.

وربّما يكون وجه الحكمة في إخبارهم بظهور الأمر في هذه الأزمنة - لو قلنا بدلالة هذه الأخبار به - مع علمهم بعدم تحقّقه لوقوع البلاء فيه، هو بيان أنّ عدم ظهور الأمر وتمكّن الأئمّة من القيام بالأمر راجع إلی الناس، ووجوده لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منّا، وأن يكون هذه الأخبار تسليةً للمؤمنين المنتظرين لفرج أولياء الله وغلبة الحقّ ونصرة الدين وأهله، فأخبروا الشيعة بجواز حصول الفرج والخلاص عن حكومة الجبابرة والطواغيت في بعض الأزمنة لحصول مقتضيه وإن کانوا عالمين بما يمنعتحقّق ذلك، ولذا أرشدوهم إلی أنّ ذلك قد لا

ص: 68


1- ([1]) الرعد، 39.

يتحقّق لقوله تعالى: ﴿يَمْحُوا اللّٰهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾؛((1)) والحاصل: أنّ هذه الأخبار إنّما صدرت لأجل تأليف القلوب وتقريباً للفرج ومنعاً لاستيحاش الناس لو قيل لهم بأنّه لا يتحقّق إلّا مثلاً بعد الألف أو مدّة طويلة كذا وكذا، وقد صرّح في بعض الأحاديث بهذه الفائدة.((2))

وثالثاً: فرق واضح بين القول: بأنّ بعد كذا رخاء وبين القول بأنّ الرخاء بعد كذا، وما يستفاد من بعض هذه الأحاديث - بل صريح لفظه - هو الأوّل، وأنّ بعد كذا يكون رخاء، ومثل هذا ليس الإخبار عن تقدّم أمر الفرج العامّ الشامل لجميع البشر بظهور الإمام المنتظر(علیه السلام).

ورابعاً نقول: يجوز أن يكون الأمر الّذي جاء في هذه الأحاديث قد وقّت له أوقات بحسب الأسباب الّتي هي واقعة تحت اختيار المکلّفين، وکان تأخّره لعدم تحقّق تلك الأسباب بسوء اختيارهم كما أشرنا إليه، أو نقول كما يستفاد من شيخ الطائفة(قدس سره) أيضاً: إنّ المصلحة اقتضت تحقّق الأمر في وقت من الأوقات مشروطة بأن لا يتحقّق ما يقتضي المصلحة تأخيره إلی زمان آخر لا يقع فيه ما يقتضي أيضاً تأخيره، وإلّا فيؤخّر الله

ص: 69


1- ([1]) الرعد، 39.
2- ([2]) انظر: منتخب الأثر، للمؤلّف، ص270 - 273.

تعالى إلی ذلك الزمان.((1))

فالمصلحة قد اقتضت وقوع هذا الأمر، أي: أمر إدارة اُمور الاُمّة وتدبير شؤونها السياسيّة والاجتماعية وغيرهما من حين ارتحال الرسول الأعظم - صلوات الله وسلامه عليه وآله - إلی الرفيق الأعلى تحت يد من نصبه الله تعالى وليّاً على الاُمور، وجعله حجّةً على عباده، فلمّا وقع ما وقع لم يتحقّق الأمر كما اقتضته المصلحة الاُولى، واقتضت مصلحة اُخرى وهي حفظ كيان الإسلام ودفع الخطر عنه، وعدم قيام الوليّ لمطالبة بالأمربالمحاربة والقوّة، فتأخّر تحقّق هذا الأمر لهذه المصلحة ومصالح اُخرى من امتحان العباد وغيره ممّا لا نحيط به، والله أعلم به.

وبعبارة اُخرى: لا شكّ في أنّ إصلاح حال العباد وقيام الاُمور بالقسط منوط بكون إدارة الاُمور والولاية عليها لمن له الولاية عليها من قبل الله تعالى، وحيث لا يعرف من له هذه الأهلية واللياقة إلّا الله تعالى يجب على حسب قاعدة اللطف وغيرها تعيين من يلي الأمر بعد النبيّ ونصبه، فلا يجوز إهمال هذا الأمر الخطير مع دخله العظيم في تحقّق أهداف النبوّات، ورسالات السماء وتوقّف كمال الدين وتمام النعمة عليه، قال الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ

ص: 70


1- ([3]) الطوسي، الغیبة، ص429.

نِعْمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾؛((1)) وقد نصّ النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)بأمر الله تعالى على ولاية الأئمّة الاثني عشر(علیهم السلام) حفظاً لهذه المصلحة، ولئلّا يكون للناس على الله حجّة وقد اقتضت تحقّق هذا الأمر بعد النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)أسبابه ومقتضياته وكانت الاُمور تجري على مجراها الّذي ينتهي إلی ذلك لولا مخالفة الفئة المنافقة، وحزب الشیطان الّذين منعوا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)من كتابة وصيّته فهتكوا حرمته وقالوا وأسمعوه ما لا يقوله المسلم المؤمن بالله ورسوله، وإنّه: ﴿ومَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.((2))

وعلى هذا يصحّ أن يقال: إنّ الأمر، أي: كون الولاية بعد النبيّ لأمير المؤمنين(علیهما السلام)، وإن کان من الاُمور الحتمية المتحقّقة له(علیه السلام) بنصب النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)إيّاه لها؛ بل کانت متحقّقة له قبل ذلك وکان نصب النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)إعلاماً بهذا الأمر المتحقّق؛ إلّا أنّ ميعاد تحقّقه الظاهريّ کان عند ارتحاله(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى الرفيق الأعلى، ولكنّه منع من ذلك ما صدر من المخالفين وطلّاب الرئاسة من الاجتماع في السقيفة ونقض البيعة، وبعد قيام من لم يكن له أهلية القيام بهذا الأمرالخطير، ولم يعيّنه النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، ثم بعدما وقع الأمر بيد من عيّنه الله تعالى فجاهد في الله حقّ جهاده، إلّا أنّ بقيّة

ص: 71


1- ([1]) المائدة، 3.
2- ([2]) النجم، 3 - 4.

الفئة المنافقة ومحبّي الدنيا والرئاسة حالوا بينه وبين الاُمور ونكثوا بيعته وخرجوا على الإمام الحقّ فقام أمير المومنين مولانا أبو الحسن(علیه السلام) بدفع مكائدهم عن الإسلام وإخماد فتنهم إلی أن استشهد(علیه السلام) بضربة أشقى الأشقياء، آل الأمر إلی أن تغلّب مثل معاوية على بلاد الإسلام وارتكب مظالم تقشعرّ منه الجلود،((1)) وجهد في إطفاء نور النبوّة والتوحيد وإرجاع الناس إلى القهقری حتى مات، وترك الأمر لابنه الفاسق الفاجر بعد ما أكره الناس على البيعة له تحت سيوف عمّاله، فاقتضت الأسباب والأوضاع الاجتماعيّة رجوع الأمر إلى أهله، لكن هذه الأسباب أيضاً لم تؤثّر لأنّ الاُمّة إلّا القليل منها لم تُجب دعوة مولانا أبي عبد الله الحسين(علیه السلام) الّتي قام بها إتماماً للحجّة، فتركت نصرته وباعت الدين بالدنيا، فلمّا قتل الحسين(علیه السلام) اُخّر ذلك، أي: لم يتهيّأ ما يقتضيه من الأسباب إلی سنة مأة وأربعين. وفي هذا الأوان أيضاً لمّا اُذيع ذلك للظالمين وانكشف السرّ، شدّ أعداء الله وأعداء آل محمّد على المؤمنين وشيعة الحقّ، فردّوهم عمّا يأملون، وبعد ذلك اُخّر الرخاء والفرج ولم يعلموا الشيعة بأزمنة اُخرى ربّما حصل فيها بعض الأسباب المقتضية لهذا الأمر ويمنع المانع من تأثيرها، وهكذا يستمرّ الأمر إلی

ص: 72


1- ([1]) راجع كتاب النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية وكتاب معاوية بن أبي سفيان في الميزان.

زمان لا يعلمه إلّا الله يوم الوقت المعلوم، يوم ظهور مولانا المهديّ(علیه السلام) وممّا يؤثّر حصول المقتضيات ويقوّيها ويوجب رفع الموانع الدعاء لتعجيل الفرج.

وعلى هذا نقول: ما ورد في تعيين وقت الفرج والرخاء إنّما ورد في مقام بيان هذه المراحل والأوضاع الّتي مرّت على الاُمّة وبيان لبعض الأسباب الّذي صار سبباً لتأخير ظهور هذا الأمر وتحقّق ما وعد الله تعالى به أنبياءه ورسله وعباده، قال الله تعالى:﴿ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾.((1))

هذا وقد ظهر لك أنّ ما في بعض الأخبار من توقّع الرخاء في سنة كذا أو تأخيره إلی سنة كذا، ليس معناه أنّ الأمر يتحقّق بمشيّة الله تعالى لامحالة في سنة كذا، حتى إذا اُخّر منها يلزم منه العجز أو الجهل عليه، تعالى الله عنهما علوّاً كبيراً.

أو يقال: كيف يكون هذا مع دلالة الأخبار المتواترة على عدم تحقّق ذلك لواحد من الأئمّة(علیهم السلام) إلّا بقدر ما تحقّق لأمير المؤمنين والإمام المجتبى(علیهما السلام)، وإلّا ما يتحقّق على النحو الكامل لمولانا المهديّ(علیه السلام) بأبي هو واُمّي.

فإنّ المراد من هذه الأخبار أنّ أمر ولايتهم من حيث الظهور وفعلية

ص: 73


1- ([1]) الصافّات، 171 - 173.

تولّيهم الاُمور مشروطة باُمور مثل قبول الاُمّة وتسليمهم لهم، وغير ذلك ممّا لا يعلم إلّا بإخبار الله تعالى، وتخصيص بعض السنين والأوقات بالذكر إنّما يكون لأصل أنّ زوال بعض الموانع يجعل الفرج والرخاء أرجى وأسهل حصولاً.

فإن قلت: ما فائدة الإخبار بذلك مع العلم بعدم حصوله له؛ لعدم تحقّق شرطه أو وجود مانعه؟

قلت: مضافاً إلی ما مرّ في ضمن الجواب الثاني، فائدته، أوّلاً: إتمام الحجّة وبيان أنّ الله تعالى لم يكتب على خلقه الذلّ والصغار وسيطرة الظالمين عليهم، وأنّه لا يصيبهم ما أصابهم إلّا بما كسبت أيديهم.

وثانياً: الترغيب إلی العمل وتشويق الناس وتشجيعهم على حفظ مواضعهم قبال الكفرة والظلمة، وعلى حفظ الثبات، والاستقامة في أداء الواجبات.

وثالثاً: تقوية روح الرجاء وحسن الظنّ بالمستقبل حتى لا يتسلّط عليهم القنوط عن رحمة الله تعالى، ولا ييأسوا من روح الله، وهذهحكمة كبيرة يجب على من يسوس الناس بالسياسة الإلهية رعايتها حتى لا يخرجوا عن الطريق المستقيم، ولا يتكاسلوا، ولا يتقاعدوا عن العمل.

هذا ما ألهمنا الله تعالى حول هذه الأحاديث، والله وليّ التسديد

ص: 74

والتوفيق.

ومنه يظهر لك تفسير غيرها من الأحاديث إن شاء الله تعالى.

ص: 75

ص: 76

دفع التنافي بين الأخبار

المبحث الثامن: إن قيل: جاء في بعض الأحاديث المرويّة في باب البداء أنّ لله علمين، علم علّمه ملائكته ورسله، فذلك لا يجيء فيه البداء، وعلم مخزون عنده لم يُطلع عليه أحداً من خلقه، فذلك الّذي يقع فيه البداء، وأنتم قد أجبتم عن الأخبار الّتي دلّت على وقوع البداء فيما علّمه الله تعالى بعض رسله بحمل العلم الأوّل على الاُمور التبليغية وما من شأن النبيّ بيانه وإرشاد الناس إلیه والإعلام به، وأيضاً اختصاص مفاد ما دلّ على وقوع البداء فيما علّمه الله تعالى رسله على مواردَ ظهر وجهُ الحكمة فيها على الخلق فصار مؤيّداً للنبيّ وموجباً لمزيد الإيمان به.

إذاً فكيف يوفّق بين هذه الأخبار والأخبار الّتي رواها الکليني - رضوان الله تعالى عليه - الدالّة على أنّ النبيّ والأئمّة - صلوات الله عليهم - کانوا عالمين بما كان وما يكون وما هو كائن،((1)) وكيف يوجّه هذا التقسيم وحصر علمهم فيما لا يجيء فيه البداء؟

ص: 77


1- ([1]) الکلیني، الکافي، ج1، ص260 - 262.

أقول: أوّلاً: يستفاد من قوله(علیه السلام) في هذه الأحاديث: «فإنّه يكون ولا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله»؛((1)) أنّ المراد من العلم المخزون عنده هو ما لم يُطلِع عليه أحداً بهذه الخصوصية، أي: لمّا لم يُطلِع عليه أحداً وقوع البداء فيه، لا يستلزم تكذيب الله وتكذيب ملائكته ورسله دون ما علّمه ملائكته ورسله، ومن المعلوم أنّ ما علّمه أنبياءه إنّما يستلزم تكذيبهم لو کانوا مأمورين بإخبار القوم به، وأمّا لو لم يخبروا الناس به وعلّمهم الله تعالى ليكون مخزوناً عندهم، لا يستلزم ذلك تكذيبهم، فإنّ الملائكة والأنبياء بل والمؤمنين الكاملين لا يكذّبون الله ولا رسله إذا وقع البداء فيما أخبروا عنه، إذاً ليس نفس التعليم مستلزماً للتكذيب، بل إخبارهم الناس بما علّمهم الله تعالى ووقوع البداء فيه يجعلهم معرضاً لتكذيب الجاحدين والمنافقين وضعفاء النفوس والإيمان، وعلى هذا لا يستفاد من الحديث ما يخالف ما يدلّ على سعة علم الأئمّة(علیهم السلام)، بل يدلّ على أنّ ما علّمهم ولم يأذن لهم بالإخبار عنه لا يقع فيه البداء، كما يدلّ بالمنطوق على أنّ الله تعالى أو النبيّ أو الوليّ إذا أخبروا الناس عن أمر لا يقع فيه البداء، فالحديث يوضح محلّ البداء، وليس في مقام تعيين مقدار ما يتعلّق علم النبيّ والإمام به من المغيّبات.

ص: 78


1- ([1]) الصدوق، التوحید، ص444.

وثانياً: ما کان مخزوناً عند الله تعالى يشمل ما کان مخزوناً عند ملائكته ورسله والأئمّة(علیهم السلام) بإذنه، ولم يأذن لهم أن يخبروا به أحداً من خلقه، بل ما يقبل التقسيم هو ما عندهم دون ما هو عنده، لأنّ هذا التقسيم إن کان بملاحظة خصوصية في المعلوم وامتياز بعضه عن بعض، فلا يوجد خصوصية في العلم وتعدّد علم الباري جلّ شأنه، فإنّ علمه يتعلّق بکلّ ما يجوز أن يكون معلوماً ومتعلّقاً للعلم على وزانٍ واحد، فكما لا يجوز الإشارة إلی ذاته منحازاً عن صفاته، ولا يجوز الإشارة إلی صفات ذاته منحازاً عن ذاته، ولا يجوز الإشارة إلی علمه بخصوصية تعلّقه إلیالمعلوم المعيّن ممتازاً عن علمه بالمعلوم الآخر، فلا تبعّض ولا تجزئة في علمه تعالى ولا يشار إلی علمه بالمعلوم الخاصّ، لأنّ کلّ ذلك ينتهي إلی القول بالتجزئة والتركيب الّذي ينافي القول الحقّ وعينيّة الذات والصفة واتّحادهما مصداقاً بالنسبة إلی البارئ تعالى، فلا يمكن، كما لا يمكن تصوّر حقيقتها أيضاً.

إن قلت: فكيف تقول: إنّه عالم بالجزئيات؟

قلت: هو تعالى شأنه عالم بالجزئيات والکلّيات لا يعزب عن علمه شيءٌ، ولكن لا تعدّد ولا تكرّر لعلمه، والكثرة المتصوّرة إنّما جاءت من ناحية معلوماته كقدرته، ولا تكثّر في قدرته ولا يتصوّر فيه الشدّة

ص: 79

والضعف والتكرار والتعدّد، بل الشدّة والضعف يخيّل للجاهل الّذي يرى المقدورات وكرّاتها وتعدّدها وكبيرها وصغيرها فيتوهّم هذه في حقّه تعالى.

والحاصل: أنّ التقسيم الحقيقي بالنسبة إلی صفاته الذاتية باطل مستلزم للنقص وإثبات ما هو تعالى منزّه عنه.

والّذي يؤيّد ما قلناه من أنّ لفظة «عنده» ليست صريحة في أنّ العلم مخزون فيه وعند نفسه، وأنّه يصحّ أن يكون مخزوناً عند ملائكته وعمّال إرادته وأنبيائه ورسله وأوليائه، ويقال: إنّه مخزون عنده، قوله تعالى: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ﴾،((1)) أي: مخزون ومكتوب في كتاب، وقوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾؛((2)) فالمراد بما هو مخزون عنده ما هو مجعول ومخزون في وعاء مناسب من الأوعية كنفس الملك وقلب النبيّ والوليّ واللوح المسمّى بلوح المحو والإثبات ممّا جعله بحكمته وقدرته مظاهر علمه، فهذا ليس بعلمه الحقيقيّ الذاتيّ بل يطلق عليه العلم تنزيلاً لكونه حاكياً عنه، فالعلم المخزون محتاج إلی الخازن وإلى المخزن وهو يتصوّر بالنسبة إلی علمه تعالى إذا کان مخزوناً في قلب النبيّ أوالوليّ

ص: 80


1- ([1]) طه، 52.
2- ([2]) الرعد، 39.

أو نفس الملك أو كتاب مناسب له، فالله هوالخازن، والمخزون العلم، والمخزن هو باطن النبيّ، ومع ذلك يصحّ أن يقال: إنّه مخزون عنده كما أنّه مكتوب عنده في كتاب.

ويدلّ على أنّ العلم يطلق على ما في الكتاب وما يحكى عنه، قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾؛((1)) فإنّ العلم الّذي طلب منهم إخراجه ليس ما هو من الكيفيّات النفسانيّة بالنسبة إلينا، بل إنّما اُريد منه ما عندهم من الكتب والآثار.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه عدم دلالة هذه الأخبار على حصر علم النبيّ والأئمّة(علیهم السلام) بالمغيّبات فيما أخبروا عنه، هذا مضافاً إلی عدم معارضتها مع الأخبار المتواترة الدالّة على علمهم بها، سواء في ذلك ما أخبروا عنها وما لم يخبروا عنه.

إن قيل: كيف يوجّه مع القول بالبداء إخبار الأنبياء والأولياء، بل وإخبار الله تعالى عن المغيّبات وما يقع في مستقبل الزمان؛ لجواز وقوع البداء، فيها؟

أقول: أوّلاً: إنّ بعض الاُمور ليس من الاُمور الموقوفة، فلا يجيء فيه البداء.

ص: 81


1- ([1]) الأنعام، 148.

وثانياً: جواز وقوع البداء في أمرٍ؛ غير وقوعه أو لا وقوعه فيه، وكون أمر موقوفاً على أمر؛ لا يلازم وجود الموقوف عليه، فيجوز الإخبار بوقوع أمر بدائيّ موقوف لتعلّق العلم بوقوعه وعدم وقوع البداء فيه، كما يجوز الإخبار بعدم وقوعه في الظرف الّذي اقتضت الأسباب الظاهرة وقوعه؛ للعلم بوقوع البداء فيه وكون وقوعه موقوفاً على أمر يعلم عدم تحقّقه، فكما يجوز الإخبار عن المغيّبات الّتي لا يتطرّق فيه البداء، يجوز الإخبار عن وقوع الاُمور البدائية أو لا وقوعها.

إن قيل: ما قلتم يرفع الإشكال إذا لم يقع البداء فيما أخبروا عنه، وأمّا إذا وقع فيه البداء وخالف الواقع الخبر، كما روي ذلك في عدّة من الروايات، كيف يوجّه ذلك؟ فإنّه ينافي مصلحة النبوّات، وقاعدة اللطف، ومستلزم لنقض الغرض وتنفّر الناس عن المخبرواستنكارهم عليه، وتقبيحهم إيّاه.

فإن کان النبيّ أو الوليّ غير عالمين بما أخبرا عنه ولو باحتمال وقوع البداء فيه، فكيف يجوز لهما الإخبار عنه من غير أن يشترطاه بالبداء وكونه متوقّفاً على عدم حدوث بعض ما يمنع منه؟ وإن قيل: إنّ النبيّ والوليّ كانا عالمين بما أخبرا به يقال: من أين حصل لهما العلم بذلك مع علمهما بإمكان وقوع البداء فيه ومضادّة هذا العلم مع العلم بما أخبرا عنه؟

ص: 82

أقول: الجواب عن هذه الشبهة - بعد الغضّ عن ضعف هذه الروايات من حيث السند والمتن وعدم جواز الالتزام والاعتقاد بمفادها، وبعد أن کان يظهر ممّا ذكرناه من ذي قبل، أوّلاً: أنّا لا نسلّم منافاة الإخبار بأمر اتّفق عدم وقوعه لعدم حصول شرطه أو وجود مانعه لمصلحة النبوّات وقاعدة اللطف، بعد ما ظهر وجه ذلك، وسيّما إذا کانت فيه مصلحة اُخرى أيضاً من مصالح النبوّات، مثل توجيه الناس إلی المعارف الإلهية وصفاته الجلاليّة والجماليّة وتقوية الوعي الاعتقادي وبصيرة الواعين في الإیمان بالله وصفاته الكمالية، وأنّه لم يزل ولا يزال قادراً ورحماناً، وكريماً، غفّاراً وهّاباً لا يشغله شأن عن شأن، وأنّه المفزع في کلّ نائبة، مفرّج الهموم وكاشف الغموم يعفو ويصفح ويفعل ما يريد حتى لا يزعم من قلّت بصيرته أنّه فرغ من الأمر وفوّضه إلی ما يرى ويتولّد من الأسباب والفواعل الظاهرة على سبيل التسلسل، فيستند الأفاعيل إليها على سبيل الحقيقة على نحو لم يكن لله تعالى فيه تدبير ومشيّة، فيقول بمقالة اليهود.

قال الله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْديهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾؛((1))

ص: 83


1- ([1]) المائدة، 64.

وقال عزّ شأنه: ﴿أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴾؛((1))وقال سبحانه: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾؛((2))

وقال تعالى جدّه: ﴿أَ فَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ََ * أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ﴾.((3))

وعلى هذا لا يحكم بقبح الإخبار عن أمر لا يقع بالبداء إذا ظهر وجه الحكمة فيه، ونمنع كونه سبباً لتنفّر الناس عن النبيّ أو الإمام الّذي ثبت نبوّته أو إمامته بالمعجزة والنصّ، بل ربّما يكون ظهور الأمر للناس وأنّ ما أخبر به کان لازم الوقوع لولا انتفاء شرطه أو حدوث مانعه سبباً لقوّة إيمانهم وكمال رغبة النفوس إليه، لأنّ أقلّ ما يستفاد من ذلك هو أنّه مطّلع على المغيّبات الّتي ربّما لا تتحقّق بالبداء.

وثانياً نقول: إنّ الكذب ليس من العناوين المقبّحة بالذات كالظلم الّذي يحكم العقل بقبحه الذاتي؛ وبنفس عنوانه كيف اتّفق، وفي أيّ زمان اتّفق، وعلى أيّ وجه وفي أيّ مكان اتّفق.

وأمّا الكذب فهو مثل الضرب المولم، وكثير من العناوين، حسنه

ص: 84


1- ([2]) الواقعة، 58 - 59.
2- ([1]) الواقعة، 63 - 64.
3- ([2]) الواقعة، 68 - 69.

وقبحه يختلف بحسب اختلاف أفراده، والوجوه والاعتبارات، فبعض أفراده يقع تحت العناوين المحسّنة بالحسن الذاتي، كحفظ النفس المحترمة من الوقوع في التهلكة، ومنع الظالم من الظلم، ودفع الخطر عن جماعة المسلمين ومصالحهم العامّة، ومثل الكذب ووضع اليد على مال الغير والتصرّف فيه، فإنّه إذا کان بإذنه أو لحفظه وإحساناً إلیه يكون حسناً لا محالة.((1))

ولو سلّم قبح مجرّد الكذب ولو لم يكن واقعاً تحت عنوان آخر من العناوين المقبّحة بالذات، فلا شكّ أنّه ليس مثل الظلم الّذي لا يمكن أن يقع حسناً، بل إذا وقع تحت أيّ عنوان يكون حسنه غالباً على قبح مجرّد الكذب بحيث يذمّ تاركه على تركه ويحكم بحسنه،وعلى أيّ حال فلا يحكم بقبح الإخبار عن وقوع أمر بحسب اقتضاء أسبابه العامّة الظاهرة وقوعه مع العلم بعدم وقوعه، أو الشكّ في ذلك إذا ترتّبت على هذا الإخبار مصلحة مهمّة، وخصوصاً إذا دفعت حزازة الإخبار عن خلاف الواقع بظهور حقيقة الأمر، وأنّ الإخبار کان معتمداً على منشأ عقلائي، وهو العلم بوجود المقتضي والأسباب.

وثالثاً نقول: إنّ الموارد المذكورة في الروايات بعضها إخبار وإنذار عن

ص: 85


1- ([3]) يستفاد ذلك من القرآن المجيد في ما حكاه من قصّة موسى وعبد من عباد الله. الکهف، 65 - 82.

وقوع ما ينذر به لإتمام الحجّة على المنذَر (بالفتح) وتحذيره عن وقوعه فيه، وترغيبه بالتحذير عنه بالتوبة والإنابة والصدقة وغيرها، وفي مثله يكون الخبر مشعراً بجواز وقوع البداء، وأنّ الواجب على المنذَرين التوبة والرجوع إلی الله تعالى.

فتلخّص أنّه لا يثبت بهذه الأخبار أمرٌ غير إيضاح أمر البداء وتبيين موارده، فالإخبار فيها إمّا کان اتّكالاً على القرينة الحالية، وهي معلومية جواز وقوع البداء في مواردها بالإيمان والتوبة والصدقة وغيرها، كما يستفاد ذلك من قصّة قوم يونس - على نبيّنا وآله وعلیه السلام - أو کان الفرض إراءة الشاهد على ذلك ليطمئنّ به قلوب المؤمنين ويدفع به استبعاد المرتابين، والله ورسوله أعلم، فارتفع الإشكال بحذافيره والله الموفّق للصواب.

فإن قيل: فما تقول في ما روي عن أمير المؤمنين(علیه السلام) أنّه قال: «لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما کان وبما يكون وبما هو كائن إلی يوم القيامة، وهي هذه الآية: ﴿يَمْحُوا اللّٰهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾((1))».((2))

وروي نحوه عن سيّدي شباب أهل الجنّة وعن الإمام زين العابدين

ص: 86


1- ([1]) الرعد، 39.
2- ([2]) الطبرسي، الاحتجاج، ج1، ص384؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص97، أبواب الصفات، ب3، ح4.

والباقر وأبي عبد الله(علیهم السلام)،((1)) فإنّه يدلّ على أنّهم غير عالمين بالوقائع البدائية والاُمور الموقوفة.أقول: ليس المراد منه لولا هذه الآية لكانوا عالمين بما کان وبما يكون وبما هو كائن، ولكنّ الآية ونظام البداء السائد بإذن الله على اُمور الخلق منعهم عن العلم بذلك، بل الظاهر أنّ المراد التنبيه على أنّهم(علیهم السلام) إنّما امتنعوا عن إظهار ما عندهم من العلوم وبيان ما يقع فيه البداء وما لم يقع، لأنّ المصالح المتضمّنة في نظام البداء المحقّقة لمصالح النبوّات وكمال النفوس في المعارف الإلهية لا تتحصّل إلّا بخفاء العلم بمواردها على الناس، فالإخبار بکلّ ذلك أو بجلّها ينافي المصالح العظيمة الكامنة في نظام المحو والإثبات، ويشعر بل يدلّ على ذلك کلام مولانا أمير المؤمنين(علیه السلام) في خطبته بعد النهروان: «وأيمُ الله لولا أن تنکلوا وتدَعوا العمل، لحدّثتكم بما قضی الله على لسان نبيّكم(صلی الله علیه و آله و سلم)»؛((2)) إذاً فلا دلالة لمثل هذا الحديث على أنّه لولا هذه الآية وهذا النظام الكامل التامّ لكنّا عالمين بما يكون إلى أن تقوم الساعة، فإنّ هذا - مضافاً إلی أنّه لا يستفاد من هذه الأحاديث - يُردّ بالأخبار الكثيرة المتواترة الدالّة على أنّهم عالمون بما

ص: 87


1- ([3]) المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص97، ب3، ح4 و5.
2- ([1]) الثقفي الکوفي، الغارات، ج1، ص7.

يكون إلی قيام الساعة.((1))

قال مولانا أمير المؤمنين(علیه السلام): «والله لو شئت أن اُخبر کلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ألا وإنّي مفضيه إلی الخاصّة ممّن يؤمَن ذلك منه، والّذي بعثه بالحقّ واصطفاه على الخلق ما أنطِق إلّا صادقاً، ولقد عهد إليّ بذلك کلّه وبمهلك من يهلك، ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمرّ على رأسي إلّا أفرغه في اُذُنيَّ وأفضى به إليّ».((2))

وقال(علیه السلام): في خطبة ذكر فيها طائفة من الملاحم: «سلونى قبل أن تفقدوني - إلى أن قال: - والّذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تضلّ مأة أو تهدي مأة إلّا نبّأتكمبناعقها وقائدها وسائقها».((3))

قال السیّد الأجلّ شارح الصحيفة إنجيل أهل البيت وزبور آل محمّد - صلوات الله عليهم - في الروضة الثانية والأربعين:

تواترت الأخبار عن العترة الزاكية، وأجمعت الأصحاب من الفرقة الناجية أنّ أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - والأوصياء من أبنائه، علموا جميع ما في القرآن علماً قطعيّاً بتأييد إلهيّ، وإلهام ربّانيّ، وتعليم

ص: 88


1- ([2]) الکلیني، الكافي، ج2، ج1، ص240، 260 - 262.
2- ([3]) نهج البلاغة، الخطبة 175 (ج2، ص89 - 90).
3- ([1]) الثقفي الکوفي، الغارات، ج1، ص7 - 9.

نبويّ، وقد طابق العقل في ذلك النقل، وذلك أنّ الإمام إذا لم يعلم جميع ما في القرآن لزم إهمال الخلق، وبطلان الشرع، وانقطاع الشريعة، وکلّ ذلك باطل بحكم العقل والنقل.((1))

ومن الأخبار ما ورد من طرق العامّة عن أبي الطفيل، قال: شهدت عليّاً(علیه السلام) يخطب وهو يقول: «سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلّا أخبرتكم، وسلوني (واسألوني) عن كتاب الله، فو الله ما من آية إلّا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل».((2))

وقال أبو نعيم في حلية الأولياء: عن ابن مسعود، قال: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، وما منها حرف إلّا وله ظهر وبطن، وإنّ عليّ بن أبي طالب عنده علم الظاهر والباطن.((3))

وأيضاً أخرج من طريق أبي بكر بن عيّاش، عن نصير، عن سليمان الأحمسي، عن أبيه عن عليّ(علیه السلام) قال: «والله

ما نزلت آية إلّا وقد علمت فيمَ اُنزلت، وأين اُنزلت، إنّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً، ولساناً سؤولاً».((4))

ص: 89


1- ([2]) المدني الشیرازي، ریاض السالکین، ج5، ص435 - 436.
2- ([3]) الإربلي، کشف الغمّة، ج1، ص114؛ ابن عبد البرّ، الاستیعاب، ج3، ص1107؛ السیوطي، الإتقان، ج2، ص493؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج40، ص179.
3- ([4]) أبو نعیم الأصفهاني، حلية الأولياء، ج1، ص65.
4- ([5]) أبو نعیم الأصفهاني، حلية الأولياء، ج1، ص67 - 68؛ المدني الشیرازي، ریاض السالکین، ج5، ص436.

وأمّا الروايات في ذلك من طرق الخاصّة فأكثر من أن تحصى، منها ما رواه ثقة الإسلام بسند حسن عن جابر، قال: سمعت أبا جعفر(علیه السلام) يقول: «ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن کلّه كما أنزل الله إلّا كذّاب، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالی إلّا عليّ بن أبي طالب(علیه السلام) والأئمّة من بعده(علیهم السلام)».((1))

وعن سيّدنا أمير المؤمنين(علیه السلام): «إنّ فيه (القرآن) علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلّمتكم».((2))

وعن أبي جعفر(علیه السلام) أنّه قال: «ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن کلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء».((3))

وعنه(علیه السلام): «إنّ مِن علم ما اُوتينا تفسير القرآن».((4))

وعن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) يقول: «والله إنّي لأعلم كتاب الله من أوّله إلی آخره فكأنّه في كفّي، فيه خبر السماء وخبر ما

ص: 90


1- ([1]) الصفّار، بصائر الدرجات، ص213؛ الکلیني، الكافي، ج1، ص228، ح1.
2- ([2]) الکلیني، الكافي، ج1، ص60 - 61، ح7؛ المدني الشیرازي، ریاض السالکین، ج5، ص437.
3- ([3]) الکلیني، الكافي، ج1، ص228، ح2.
4- ([4]) الکلیني، الكافي، ج1، ص229، ح3.

كان وخبر ما هو كائن، قال الله عزّ وجلّ: «فیه تبیان کلّ شيء».((1))

قال بعض المحقّقين: قوله(علیه السلام): «كأنّه في كفيّ»، تنبيه على أنّ علمه(علیه السلام) بما في الكتاب علم شهوديّ بسيط واحد بالذات متعلّق بالجميع، كما أنّ رؤية ما في الكفّ رؤية واحدة متعلّقة بجميع أجزائه، والتعدّد إنّما هو بحسب الاعتبار، وقوله(علیه السلام): «فيه خبر السماء»، يعني من أحوال الأفلاك وحركاتها، وأحوال الملائكة ودرجاتها، وحركات الكواكب ومداراتها، ومنافع تلك الحركات وتأثيراتها، إلى غير ذلك من الاُمور الكائنة في العُلويّات،والمنافع المتعلّقة بالفلکيّات،((2)) وقوله(علیه السلام): «وخبر الأرض»، يعني من جوهرها وانتهائها، وما في جوفها وأرجائها، وما في تحتها وأهوائها، وما فيها من المعدنيّات، وما تحت الفلك من البسائط والمركّبات الّتي تتحيّر في إدراك نبذ منها عقول البشر، ويتحسّر دون بلوغ أدنی مراتبها طائر النظر، وقوله(علیه السلام): «خبر ما کان وما هو كائن» أي: من أخبار السابقين، وأخبار اللاحقين کلّيّاتها وجزئيّاتها، وأحوال الجنّة ومقاماتها، وتفاوت مراتبها ودرجاتها، وأخبار المثاب فیها بالانقياد والطاعة والمأجور فيها بالعبادة والزهادة، وأهوال النار ودركاتها،

ص: 91


1- ([5]) الکلیني، الكافي، ج1، ص229، ح4.
2- ([1]) المجلسي، مرآة العقول، ج3، ص33.

وأهوال مراتب العقوبة ومصيباتها، وتفاوت مراتب البرزخ في النور والظلمة، وتفاوت أحوال الخلق فيه بالراحة والشدّة، کلّ ذلك بدليل قوله تعالى: «فیه تبیان کلّ شيءٍ»،((1)) أي: كشفه وإيضاحه، فلا سبيل إلی إنكاره، والله أعلم.((2)) انتهى کلام شارح الصحيفة.

هذا آخر ما وفّقنا بتحريره حول البداء، والحمد لله ربّ العالمين، وصلواته وسلامه على رسوله الأمين، وأهل بيته الطاهرين، وقد تمّ تحرير ذلك في شهر ذي القعدة الحرام من شهور سنة 1405 الهجرية القمرية، وقد تجنّبنا في هذه الرسالة عن الاستشهاد بمخترعات الفلاسفة أذناب اليونانيّين وأتباعهم من المنتحلين إلى المذاهب الإسلامية، اُولئك الّذين لم يهتدوا بهدى أهل بيت الوحي والنبوّة(علیهم السلام)، وسلكوا سبلاً متشعّبة أبعدتهم عن التمسّك بالثقلين.

وأنا أقلّ العباد لطف الله الصافي الگلپايگاني ابن العالم الفقيه المرحوم المولى محمّد جواد الصافي غفر الله تعالى له ولوالديه، وحشرهم مع ساداته الأنجبين عليهم الصلاة والسلام.

ص: 92


1- ([2]) إشارة إلی الآیة 89 من سورة النحل.
2- ([3]) المدني الشیرازي، رياض السالکین، ج5، ص437 - 438.

مصادر التحقیق

1.القرآن الکریم.

2.الإتقان في علوم القرآن، السیوطي، جلال الدین (م.911ق.)، بیروت، دار الفکر، 1416ق.

3.الاحتجاج، الطبرسي، أحمد بن عليّ (م.548ق.)، النجف الأشرف، دار النعمان، 1386ق.

4.الاستیعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البرّ، یوسف بن عبد الله القرطبي (م.463ق.)، بیروت، دار الجیل، 1412ق.

5.أعلام الدین في صفات المؤمنین، الدیلمي، الحسن بن محمّد (م.841ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث.

6.إعلام الوری بأعلام الهدی، الطبرسي، الفضل بن الحسن (م.548ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1417ق.

7.الأمالي، الصدوق، محمّد بن عليّ (م.381ق.)، قم، مؤسّسة البعثة، 1417ق.

ص: 93

8.الإمامة والتبصرة من الحیرة، ابن بابویه القمّي، عليّ بن الحسین (م.329ق.)، قم، مدرسة الإمام المهدي(علیه السلام)، 1404ق.

9.بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار(علیهم السلام)، المجلسي، محمّد باقر (م.1111ق.)، بیروت، مؤسّسة الوفاء، 1403ق.

10.بصائر الدرجات في فضائل آل محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، الصفّار، محمد بن الحسن (م.290ق.)، طهران، مؤسسة الأعلمي، 1403ق.

11.تفسیر القرآن العظیم (تفسیر ابن کثیر)، ابن کثیر، إسماعیل بن عمر (م.774ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1419ق.

12.تفسیر جوامع الجامع، الطبرسي، الفضل بن الحسن (م.548ق.)، طهران، جامعة طهران، 1377ش.

13.التوحید، الصدوق، محمّد بن عليّ (م.381ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي.

14.تهذیب الأحکام، الطوسي، محمّد بن الحسن (م.460ق.)، طهران، دار الکتب الإسلامیة، 1364ش.

15.جامع الأخبار، السبزواري، محمّد بن محمّد (م.679ق.)، قم، منشورات الشریف الرضي، 1405ق.

16.جامع البیان في تفسیر القرآن، الطبري، محمّد بن جریر

ص: 94

(م.310ق.)، بیروت، دار المعرفة، 1412ق.

17. حلیة الأولیاء وطبقات الأصفیاء، أبو نعیم الأصفهاني، أحمد بن عبد الله (م.430ق.)، بیروت، دار الکتاب العربي، 1405ق.

18.الدرّ المنثور في التفسیر بالمأثور، السیوطي، جلال الدین (م.911ق.)، بیروت، دار المعرفة.

19.روض الجنان وروح الجنان في تفسیر القرآن، أبو الفتوح الرازي، حسین بن عليّ (م.554ق.)، مشهد، آستان قدس رضوي، 1408ق.

20.ریاض السالکین في شرح صحیفة سیّد الساجدین(علیه السلام)، المدني الشیرازي، السیّد علي خان بن أحمد (م.1120ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1415ق.

21.السیرة الحلبیة، الحلبي، عليّ بن برهان (م.1044ق.)، بیروت،

دار المعرفة، 1400ق.

22.السیرة النبویّة، ابن کثیر، إسماعیل بن عمر (م.774ق.)، بیروت، دار المعرفة، 1396ق.

23.السیرة النبویّة، ابن هشام، عبد الملك الحمیري (م. 8 -213ق.)، القاهرة، مکتبة محمّد عليّ صبیح وأولاده، 1383ق.

ص: 95

24.صحیح البخاري، البخاري، محمّد بن إسماعیل (م.256ق.)، بیروت، دار الفکر، 1401ق.

25.صحیح مسلم، مسلم النیسابوري، مسلم بن الحجّاج(م.261ق.)، بیروت، دار الفکر.

26.عیون أخبار الرضا(علیه السلام)، الصدوق، محمّد بن عليّ (م.381ق.)، بیروت، مؤسّسة الأعلمي، 1404ق.

27.الغارات، الثقفي الکوفي، إبراهیم بن محمّد (م.283ق.)، مطبعة بهمن.

28.الغیبة، الطوسي، محمّد بن الحسن (م.460ق.)، قم، مؤسّسة المعارف الإسلامیة، 1411ق.

29.قصص الأنبیاء، قطب الدین الراوندي، سعید بن هبة الله (م.573ق.)، قم، منشورات الهادي، 1418ق.

30.قوانین الاُصول، القمي، میرزا أبو القاسم (م.1231ق.)، الطبعة الحجریة.

31.الکافي، الکلیني، محمّد بن یعقوب (م.329ق.)، طهران، دار الکتب الإسلامیة، 1363ش.

32.کتاب التفسیر، العیّاشي، محمّد بن مسعود (م.320ق.)، طهران، المکتبة العلمیة الإسلامیة.

ص: 96

33.الکشّاف عن حقائق غوامض التنزیل وعیون الأقاویل في وجوه التأویل، الزمخشري، محمود بن عمر (م.538ق.) بیروت، دار الکتاب العربي، 1407ق.

34.کشف الغمّة في معرفة الأئمّة(علیهم السلام)، الإربلي، عليّ بن عیسی (م.693ق.)، بیروت، دار الأضواء، 1405ق.

35.مجمع البیان في تفسیر القرآن، الطبرسي، الفضل بن الحسن (م.548ق.)، طهران، منشورات ناصر خسرو، 1372ش.

36.المحاسن، البرقي، أحمد بن محمّد (م.274ق.)، طهران، دار الکتب الإسلامیة، 1370ش.

37.المحکم في اُصول الفقه، الحکیم، السیّد محمّد سعید، مؤسّسة المنار، 1414ق.

38.مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)، المجلسي، محمّد باقر (م.1111ق.)، طهران، دار الکتب الإسلامیة، 1404ق.

39.مشکاة الأنوار في غرر الأخبار، الطبرسي، عليّ بن الحسن (م.قرن7)، قم، دار الحدیث، 1418ق.

40.معاویة بن أبي سفیان في المیزان، العقّاد، عبّاس بن محمود (م.1382ق.)، بیروت، دار الکتاب العربي، 1386ق.

ص: 97

41.مکارم الأخلاق، الطبرسي، حسن بن الفضل (م.554ق.)، قم، منشورات الشریف الرضي، 1392ق.

42.النصائح الکافیة لمن یتولّی معاویة، ابن عقیل العلوي، محمّد بن عقیل (م.1350ق.)، النجف الأشرف، مطبعة نعمان، 1385ق.

43.نهایة الأفکار، العراقي، ضیاء الدین (م.1361ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1405ق.

44.نهج البلاغة، الإمام عليّ بن أبي طالب(علیه السلام)، الشریف الرضيّ، تحقیق وشرح، محمّد عبده، بیروت، دار المعرفة، 1412ق.

45.الوافي، الفیض الکاشاني، محمّد محسن بن مرتضی (م.1091ق.)، أصفهان، مکتبة الإمام أمیر المؤمنین(علیه السلام)، 1406ق.

46.وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن (م.1104ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1414ق.

ص: 98

الفهرس

المقدّمة. 5

حول البداء. 7

اعتقاد الشيعة بالبداء بمعناه الصحيح. 19

دفع الإشكال عن البداء. 23

جريان البداء وقانون العلّيّة. 27

في محلّ البداء. 35

لا يقع البداء فيما أخبر به الله أو حججه. 39

دفع الوهم. 43

دفع التنافي بين الأخبار. 77

مصادر التحقیق.. 93

ص: 99

ص: 100

آثار سماحة آية الله العظمى الصافي الگلپايگاني مدّ ظلّه الوارف

الصورة

ص: 101

الصورة

ص: 102

الصورة

ص: 103

الصورة

ص: 104

الصورة

ص: 105

الصورة

ص: 106

الصورة

ص: 107

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.