سرشناسه:صافی گلپایگانی، لطف الله، 1298 -
Safi Gulpaygan, Lutfullah
عنوان و نام پديدآور:بیان الاصول/ تالیف لطف الله الصافی الگلپایگانی مدظله العالی.
مشخصات نشر:قم: مکتب تنظیم و نشر آثار آیت الله صافی گلپایگانی دام ظله، 1439 ق.= 1396 -
مشخصات ظاهری:3 ج.
شابک:دوره 978-600-7854-60-0 : ؛ 630000 ریال: ج.1 978-600-7854-57-0 : ؛ 630000 ریال: ج.2 978-600-7854-58-7 : ؛ ج.3 978-600-7854-59-4 :
وضعیت فهرست نویسی:فیپا
يادداشت:عربی.
يادداشت:چاپ دوم.
يادداشت:ج.2 - 3(چاپ دوم: 1439 ق. = 1396)(فیپا).
يادداشت:کتاب حاضر تقریرات درس آیت الله سیدحسین بروجردی است.
یادداشت:کتابنامه.
یادداشت:نمایه.
موضوع:اصول فقه شیعه
موضوع:* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction
شناسه افزوده:بروجردی، سیدحسین، 1253 - 1340.
رده بندی کنگره:BP159/8/ص26ب9 1396
رده بندی دیویی:297/312
شماره کتابشناسی ملی:4942697
اطلاعات رکورد کتابشناسی:فیپا
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 2
ص: 3
بیان الاُصول
تألیف المرجع الديني الأعلى آية اللّه العظمى الشيخ لطف اللّه الصافي الگلپايگاني مدّظلّه العالی
الجزء الأوّل
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، أشرف الأنبياء والمرسلين، سيّدنا أبي القاسم محمد وآله الطيّبين الطاهرين، الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
وبعد، فمن منن الله تعالى على هذا العبد الحقير أن شرّفه مدّة خمس عشرة سنة في بلدة قم المقدّسة - عشّ آل محمد صلوات الله عليهم - بالاستفادة والاستفاضة من مجالس الإفادة والإفاضة لنابغة الدهر وفقيه العصر، نائب الإمام وأمينه على الحلال والحرام، صاحب الزعامة الكبرى والمرجعية العظمى، محيي الشريعة الغرّاء، وفخر الملّة البيضاء، من كان بالحقّ حجّة عن الحجّة، صاحب المكارم والمناقب والمحامد، اُسوة الزاهدين، وجمال السالكين والمتعبّدين، مولانا السيّد الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي، أعلى الله في فراديس الجنان مقامه.
فكنت بتوفيق الله تعالى وله الحمد والشكر خصّيصاً به، ومستفيضاً من مجالس درسه في الفقه والاُصول ومجالس الإفتاء والفتوى، وسائر مجالسه المليئة بالإفادات الثمينة العلمية، والإفاضات الروحانية.
وقد كان لي ولأخي الأكبر الأمجد اختصاص به، نرى منه كثير التشويق والتقدير والترحيب، يتفحّص عنّا إذا غبنا عن مجلسه.
اللّهمّ املأ مضجعه بأنوار رحمتك الخاصّة الّتي تخصّ بها أولياءك المخلصين، واجعل روحه في أعلى عليّين عند جدّه سيّد المرسلين، صلواتك عليه وعلى أولاده الطاهرين.
ص: 5
هذا، واعلم يا أخي أنّ ما كتبته واستفدته من إفاداته في الاُصول إنّما هو من بحث المشتقّ إلى مبحث البراءة، ولكنّي أضفت إليه الأبحاث المتقدّمة، والّتي كان بعضها من حاشيته القيّمة على الكفاية موجوداً عندي، بعضها الآخر ممّا استخرجته ممّا كتبه عنه غيري، لاسيّما بعض الأفاضل ممّن تتلمّذ عليه في بروجرد((1)) كما أنّي أضفت إليه سائر المباحث من البراءة إلى آخر مبحث الاجتهاد والتقليد؛ ليكون الكتاب شاملاً للمباحث الاُصولية. والله هو الهادي إلى الصواب.
ص: 6
وهي:
الأمر الأوّل: في موضوع العلم
الأمر الثاني: في الوضع
الأمر الثالث: في الاستعمال المجازي
الأمر الرابع: في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه، أو صنفه، أو شخصه
الأمر الخامس: في أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها بما هي هي
الأمر السادس: في علائم الحقيقة والمجاز
الأمر السابع: في الصحيح والأعمّ
الأمر الثامن: في المشتقّ
ص: 7
ص: 8
قال(قدس سره): في حاشيته على الكفاية ما هذا لفظه:
قوله(قدس سره): «أمّا المقدّمة ففي بيان اُمور: الأوّل: أنّ موضوع کلّ علم، هو الّذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية».((1))
أقول: إعلم أنّ أرباب العلوم العقلية والنقلية((2)) بعد اتّفاقهم - سوى من شذّ من متأخّري الاُصوليين - على أنّ لکلّ علم من العلوم موضوعاً على حدة، وأنّ تمايزها إنّما يكون بتمايز تلك الموضوعات، قد اتّفقوا أيضاً على أنّ موضوع کلّ علم هو ما يبحث في هذا العلم عن عوارضه الذاتية. ولازم ذلك هو أنّ موضوع العلم كما يكون جهة امتياز مسائله عن مسائل سائر العلوم، كذلك يكون جهة وحدة لمسائله المختلفة أيضاً، لاشتراك جميعها في كونها باحثة عن عوارض ذلك الموضوع. وأنّه مقدّم في التحصّل على مسائل العلم، لأنّها إنّما تكون مسائله باعتبار كونها باحثة عن عوارضه. وأنّه هو الملاك الفذّ لمعرفة حدّ العلم وغايته أيضاً.
ص: 9
فموضوع العلم على هذا، هو المعلوم الأوّل الّذي يضعه مدوِّن العلم تجاه عقله ليبحث فيما يدوّنه من المسائل عن شؤونه المجهولة، وكأنّهم لذا سمّوه بموضوع العلم، لا لما قد يتراءى من المتن من أنّه الكلي الصادق على موضوعات مسائله، وسيأتي الكلام فيه.((1))
ثم إنّ مرادهم بالعارض في تعريفه كما صرّح به شارح المطالع((2)) وغيره، ويدلّ عليه تتبعّ مسائل العلوم، هو: ما اصطلح عليه المنطقيّون في كتاب إيساغوجي،((3)) وقسّموه إلى الخاصّة والعرض العامّ، وقابلوه بالذاتي المقسّم إلى النوع والجنس والفصل، وهو الخارج المحمول، أي الكلّي الخارج عن الشيء مفهوماً المتّحد معه وجوداً؛ لا ما اصطلح عليه الطبيعيّون، وقسّموه إلى المقولات التسع، وقابلوه بالجوهر، وهو الموجود في الموضوع.
والفرق بينهما من وجوه كثيرة:
منها: أنّ الذاتي والعرضي إضافيّان يمكن صدقهما على مفهوم واحد بالقياس إلى شيئين بخلاف الجوهر والعرض.
ومنها: أنّه يمكن أن يكونا مفهومين کلّ واحد منهما عرضاً للآخر بالمعنى المقابل للذاتي لا بالمعنى المقابل للجوهر، ولذا قالوا: إنّ الجنس عرض عامّ بالإضافة إلى الفصل، والفصل خاصّة غير شاملة بالنسبة إلى الجنس، وهما ذاتيان بالقياس إلى النوع.
وأيضاً: فإنّ العرض المقابل للذاتي يصدق على المفاهيم الزائدة الصادقة على
ص: 10
الجواهر أيضاً، بخلاف المقابل للجوهر.
ومرادهم بالعرض الذاتي هنا: ما كان عروضه للمعروض، أي اتّحاده معه في المرتبة المتأخّرة عن مرتبة الذات لحوقاً أوّلياً بحسب تلك المرتبة، أي لا يكون لحوقه به مترتّباً على لحوق حيثية اُخرى به كذلك حتى يكون هذا متأخّراً عن الذات بمرتبتين بحسب الاعتبار، ويكون مع ذلك عارضاً بتمام ذاته أو بجزئه المساوي.
ويقابله العرض الغريب، وهو العارض للشيء بتوسّط عارض آخر أو بجزئه الأعمّ.
وربما يقال:((1)) إنّ العارض بتوسّط العارض المساوي عرض ذاتي يبحث عنه أيضاً في العلوم، وهو بعيد محتاج إلى التثبّت.
وما يتراءى من تمثيل صاحب الفصول((2)) للعرض الغريب بالسرعة العارضة للحركة العارضة للجسم، وبالشدّة العارضة للبياض العارض للجسم من جملة العرض
ص: 11
على مصطلح الطبيعيّين، و[إطلاق] العرض الذاتي لشيء على ما يعرض نفسه، والغريب على ما لا يعرضه أصلاً بل يعرض لما هو عرض له، قد ظهر بطلانه ممّا بيّناه، مضافاً إلى ما في تمثيله هذا من المناقشات الاُخر الّتي تركناها حذراً من الإطالة.
ثم إنّه یدلّ على ما ذكروه أنّك إذا لاحظت مسائل الفنون المختلفة، وقطعت نظرك عن غير ذواتها، الّتي هي القضايا المرکّبة من موضوعات ومحمولات ونسب، حتى عن مدوِّنها وعن غرضه منه، وعمّا يصدق على موضوعاتها أو على محمولاتها من المفاهيم، رأيت في نظرك هذا بين مسائل کلّ فنّ منها من المناسبة والمشاركة ما لا تراه بينها وبين مسائل غيره، فترى تشارك مسائل النحو فقط في بيان هيأة آخر الكلمة في لغة العرب؛ مسائل الصرف في بيان هيأتها من غير جهة آخرها؛ ومسائل المنطق في بيان أنّ أيّ معلوم صالح للإيصال إلى مجهول وأيّها غير صالح؛ ومسائل العلم الإلهي في أنّ أيّ شيء ممّا نتصوّره موجود في الأعيان، وأيّها غير موجود.
ولا ترى هذا التشارك في غيرها، وهكذا سائر الفنون، وتراها مع ذلك مسائل مختلفة متمايزة بعضها من بعض، فيعلم بذلك أنّها في مرتبة ذواتها ملتئمة من جهة جامعة مشتركة بين جميعها، وجهات مائزة ينفرد كل واحد منها بواحدة منها، وقد حمل فيها إحداهما على الاُخرى. وليس شيء من تلك الجهات المائزة عين الجهة الجامعة ولا جزءها بالضرورة، فهي خارجة عنها مفهوماً، والمفروض هو اتّحادهما وجوداً قضيّة للحمل، فهي عوارض منطقية لها.
فينتج أنّ لمسائل کلّ فنّ من الفنون جهة جامعة يشترك جميعها في البحث عن عوارضها المنطقية، وأنّ تلك الجهة بعينها مائزة بينها وبين مسائل سائر الفنون لفرض كونها فاقدة لها، وهذا هو المطلوب.
وينبغي التنبيه على أمرين:
ص: 12
الأوّل: أنّ مسائل العلم ليست منحصرة في القضايا الموجبة الّتي تكون الجهات المائزة فيها عوارض واقعية لموضوع العلم، بل تشمل سوالبها أيضاً وإن كان مفادها سلب العروض، فإنّ البحث عن عوارض الموضوع يستدعي البحث عن كلّ ما قيل أو يحتمل أنّه من عوارضه، سواء أدّى إلى الإثبات أو النفي.
الثاني: أنّ الجهة الجامعة الّتي ذكرنا أنّها هي موضوع العلم لا يلزم وقوعها موضوعة في مسائل العلم.
وتقدّم أنّ تسميته به ليست بهذا الإعتبار بل الغالب في المسائل هو حمل هذه الجهة على الجهات المائزة لكونها أعمّ منها، ومن هنا ترى أنّ مفهوم المنتج لكذا وهو المرادف للموصل إلى المجهول يحمل في مسائل المنطق على ضروب الأشكال، والموجود بما هو موجود مع أنّه موضوع للفلسفة الكلّية يقع محمولاً في مسائلها على ما يبحث فيها عن وجوده.
وقصر بعضهم مسائلها على قضايا معدودة ذكرها هو، وجعل موضوعها الموجود بما هو موجود، ومحمولها ما زعم أنّه من عوارضه من العلم والقدرة والعليّة وأشباهها، مخالف لما صرّح به أعاظم الفن في مواضع كثيرة:
منها: ما ذكره المحقّق الطوسي في الطبيعيّات من شرح الإشارات، حيث عدّ مسألة وجود المادّة والصورة من مسائل العلم الإلهي، واعتذر عن ذكرها هناك بما اعتذر.((1))
إن قلت: ما ذكرته من وقوع الجهات المائزة موضوعة في المسائل ينافي ما مرّ من أنّها عوارض لموضوع العلم، وأنّ العارض هو الخارج المحمول.
قلت: الحمل هو الاتّحاد في الوجود وهو بالنسبة إلى الطرفين على السواء.
إن قلت: كيف تكون أخصّ من الجهة الجامعة مع أنّها عوارض ذاتيّة لها، وما بالذات لا يتخلّف؟
ص: 13
قلت: كونها ذاتيّة ليس بمعنى كون الذات علّة لها حتى يمتنع تخلّفها عنها، بل بمعنى أنّه لا واسطة بينهما في العروض كما مرّ، وقد قالوا: إنّ الفصول عوارض ذاتيّة للجنس مع أنّها أخصّ منه.
قوله(قدس سره): «أي بلا واسطة في العروض».
أقول: تعريف العرض الذاتي بهذا كأنّه غير مطّرد، لصدقه على ما يعرض الشيء بواسطة جزئه الأعمّ مع أنّه عرض غريب. اللّهمّ إلّا أن يقال: بشمول الواسطة في العروض للجزء أيضاً، فتأمّل.
قوله(قدس سره): «هو نفس موضوعات مسائله عيناً، وما يتّحد معها خارجاً، وإن كان يغايرها مفهوماً، تغاير الكلّي ومصاديقه، والطبيعي وأفراده. والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتّتة جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض... إلخ».
أقول: إردافه(قدس سره) تفسير موضوع العلم على طبق ما ذكره القوم بهذا الكلام يهدم أساس موافقته لهم، فإنّ محصّل مجموع كلامه حينئذٍ صدراً وذيلاً هو:
أنّ کلّ فنّ من الفنون عبارة عن جملة من قضايا لا مشاركة بينها في موضوع ولا محمول، بل هي متباينة بتمام ذواتها كتباينها مع مسائل سائر الفنون، ولكنّها مع تباينها كذلك تترتّب على مجموعها غاية واحدة هي الغرض من تدوينها، وبمداخلة جميعها في ذلك الغرض استحقّت لأن تجعل فنّاً واحداً ممتازاً عن سائر الفنون، ويكون أيضاً لموضوعاتها جامع واحد يصدق عليها صدق الطبيعي على أفراده. ولمّا كان محمول كلّ مسألة منها عرضاً ذاتياً لموضوعها الّذي هو فرد لهذا الجامع كانت محمولاتها عوارض ذاتية له أيضاً، فيصدق أنّه يبحث فيها عن عوارضه الذاتية، فيكون هو موضوعاً لذلك الفنّ وإن لم يكن له اسم ولا رسم ولا يتصوّره المدوِّن ولا غيره ولا يكون البحث في
ص: 14
مسائله راجعاً إليه.
ويرد عليه أوّلاً: ما تقدّم من أنّ مسائل الفنّ الواحد ليست متباينة بتمام ذاتها، بل لها جهة جامعة بنفسها لا بأفرادها - أحد جزئيها- .
وثانياً: أنّ محمولات المسائل بعد فرض كونها عوارض ذاتية لموضوعاتها، لا يمكن كونها عوارض ذاتية للكلّيّ الجامع بينها؛ إذ لخصوصياتها المائزة دخل في عروضها. اللّهمّ إلّا أن يفسّر العرض الذاتي بما حكيناه عن الفصول، وقد مرّ أنّه غير متّجه.((1))
وثالثاً: أنّ اندراج موضوعات المسائل تحت كلّيّ صادق عليها صدق الطبيعي على أفراده، بعد فرض عدم صيرورته منشأً لوحدة المسائل وعدم اشتراكها بسببه في جهة جامعة، لعدم رجوع البحث فيها إليه وعدم دخله في وحدة الغرض منها الّتي هي المناط في كونها فنّاً واحداً ممتازاً عن غيره على ما أفاده، بل وعدم تصوّر أحد له - لعدم اسم له ولا رسم - أيّة فائدة تترتّب على ثبوته. وأيّ فرق يتصوّر بين أن يكون وبين أن لا يكون حتى يلزمنا القول بثبوته، فهل هو حينئذٍ إلّا كالحجر بجنب الإنسان؟ ثمّ بأيّ دليل يمكننا إثباته مع أنّ الدليل قائم على خلافه في أكثرها، فهل يمكن وجود جامع بين موضوعات مسائل العلم الإلهي يكون كلّياً طبيعيّاً لها مع أنّ بعضها واجب لذاته وبعضها ممكن؟
ورابعاً: أنّ ترتّب الغاية الواحدة على المسائل المتباينة بتمام الذات غير معقول، فإنّ غرض المدوِّنين من تدوين المسائل ليس إلّا حصول العلم بها، سواء كان العلم بها مطلوباً لذاته كما في العلم الإلهي أو مقدّمة للعمل كما في أكثر الفنون، ومعلوم أنّ وحدة العلم نوعاً أو شخصاً وتعدّده تابعة للمعلوم، فما لم يكن للمسائل المختلفة جهة
ص: 15
وحدة لم يكن للعلم بها تشارك واتّحاد.
إن قلت: مراده بالغرض الواحد هو مجموع الأغراض المترتّبة على مجموع المسائل، ووحدته حينئذٍ شخصية اعتبارية كوحدة سائر المركّبات الاعتبارية، ولذا قال: «جمعها إشتراكها في الدخل في الغرض»، وليست هذه الوحدة مترتّبة على وجود الجهة الجامعة بين المسائل.
قلت: لا يمكن كون وحدة الغرض بهذا المعنى ملاك تمايز العلوم، إذ کلّ جملة من المسائل يكون لا محالة لمجموع أغراضها وحدة كذلك وإن لم تكن من سنخ واحد، فيسأل حينئذٍ أنّه لم جعل هذه الجملة فنّاً واحداً واعتبرت أغراضها واحدة كذلك؟ ولا جواب عنه إلّا بأن يقال: إنّ أغراضها من سنخ واحد، بخلاف غيرها، فيرجع إلى وحدتها النوعية الّتي ذكرنا أنّها مترتّبة على ثبوت جهة الوحدة في نفس المسائل.
قوله(قدس سره): «لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلّا كان کلّ باب، بل كلّ مسألة من کلّ علم علماً على حدّة».
أقول: فيه أنّهم قالوا: إنّ کلّ واحد من الفنون المدوَّنة يكون له موضوع خاصّ هو جهة وحدة مسائله وامتيازه عن غيره، لا أنّ كلّ جملة من المسائل إذا كان لها جهة وحدة كذلك، يلزم أن يجعل فنّاً على حدة حتى يرد عليه ما ذكر. مع أنّ هذا مشترك الورود، إذ الغرض من كلّ باب بل کلّ مسألة ممتاز عن الغرض من غيره.
ثم إنّ قوله: «ولا المحمولات» لعلّه إشارة إلى ما ذكره صاحب الفصول من أنّ امتياز العلوم يكون بامتياز الموضوعات أو حيثيّات البحث، زعماً منه أنّ موضوع النحو والصرف واحد وهو الكلمة والكلام، وإنّما يمتازان بأنّ البحث عنهما في النحو من حيث الإعراب والبناء، وفي الصرف من حيث الصحّة والاعتلال.((1))
وهو غير وجيه، فإنّ الحيثيّتين مأخوذتان في موضوعيهما. وحقيقة الأمر هي ما
ص: 16
أشرنا إليه سابقاً من أنّ موضوع النحو هو: هيأة الكلمة من جهة آخرها، وإليها أشاروا بقولهم: من حيث الإعراب والبناء، وموضوع الصرف هو: هيأتها من غير جهة آخرها، وهي المراد بقولهم من حيث الصحّة والاعتلال، وإنّما عبّروا بما ذكر تقريباً إلى فهم المبتدئين.
قوله(قدس سره): «وقد انقدح بذلك أنّ موضوع علم الاُصول، هو الكلّيّ المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة، لا خصوص الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة، بل ولا بما هي هي...إلخ».
{أقول}:((1)) الاُصوليّون بعد ما تسالموا على ما تسالم عليه غيرهم من أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، وأ نّه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة، قالوا: إنّ موضوع اُصول الفقه هو أدلّة الفقة. ومرادهم بها أدلّته بما هي أدلّته. ومرادهم بالدلالة هو الحجّية، فمرجع كلامهم حينئذٍ إلى أنّ موضوعه هو حيثيّة «الحجّة في الفقه».
ولذا استشكله المحقّق القمّي(رحمه الله) في «الحواشي» بأنّ لازمه خروج المسائل الباحثة عن حجّية الحجج كخبر الواحد والإجماع ونحوهما عن مسائل هذا العلم، ودخولها في مباديه، إذ الحجّية على هذا مقوّم للموضوع لا من عوارضه.((2))
ودفعه في الفصول بالتزام أنّ موضوعه هو ذوات الأدلّة الأربعة، لا بما هي أدلّته حتى يلزم ما ذكر.((3))
وفيه مضافاً إلى استلزامه كون موضوع الفنّ الواحد أربعة اُمور متباينة، بل وأكثر أو أقلّ على الخلاف فيه أنّه لو كان كذلك لكان يبحث فيه عن جميع عوارض الأربعة
ص: 17
لا عن الحجّية فقط. مع أنّه لا ينفع في إدخال مسألة حجّية الخبر فيها لأنّ الحجّية من عوارض الخبر لا السنّة، كما ذكره(قدس سره) في المتن وأطال الكلام فيه.
وكأنّ استصعاب دفع هذا الإشكال هو الّذي دعا شيخنا العلّامة(قدس سره) إلى العدول عن ذلك إلى ما قال: من أنّ موضوعه بل موضوع عامّة العلوم هو: الكلّيّ الجامع بين موضوعات مسائله وإن لم يكن له اسم ولا رسم. ولأجل منافاة هذا لكون تمايزها بتمايز الموضوعات، لاقتضائه تقدّم المسائل على الموضوع في التحصل عدل عنه أيضاً إلى أنّ تمايزها بالأغراض لا بالموضوعات.
وأنت بعد الإحاطة بما بيّناه تعلم أنّ هذا الإشكال إنّما نشأ من عدم تحصيل مراد القوم من موضوع العلم ومن عوارضه الذاتية، وتوهّم أنّ موضوع العلم يلزم أن يقع موضوعاً في المسائل أيضاً.
فالحقّ في الجواب عنه هو: أنّ وقوع الحجّة محمولة في تلك المسائل لخبر الواحد والإجماع ونحوهما، لا ينافي كون البحث فيها عن عوارض الحجّة، فإنّ عوارضها الّتي بحثوا في هذه المسائل عن عروضها لها، أي اتّحادها معها في نفس الأمر، هي خبر الواحد والإجماع وغيرهما ممّا وقع موضوعاً فيها لا الحجّية حتى يقال: إنّها مقوّمة للموضوع، بل الظاهر أنّ هذه القضايا الباحثة عن حجّية شيء وعدم حجّیته هي المسائل لهذا العلم فقط. ولذا اقتصر الشافعي في رسالته - الّتي صنّفها في ذلك العلم في أواخر القرن الثاني، وهي أوّل ما صنّف فيه فيما نعلم - على ذكر مسألة حجّية الكتاب والسنّة غير المنسوخين، والإجماع وخبر الواحد والقياس والاجتهاد والاستحسان. نعم، أطال الكلام في نسخ الكتاب والسنّة وفروعه. ثم زاد من جاء بعده على ما ذكره أشياء من سنخها وأشياء اُخر من غير سنخها إمّا على وجه الإستطراد أو من باب المبادي.
فظهر بما ذكرناه أنّ مسائل حجّية القطع والظنّ على
ص: 18
القول بها، وحجّية الأمارات الحاكية عن الواقع بلا معارض أو مع المعارض، وحجّية الاحتمالات غير الحاكية عنه كاحتمال بقاء ما ثبت في الاستصحاب المثبت للتكليف، كلّها من مسائل هذا العلم، وكذا المسائل النافية لحجّية ما احتمل حجّیته أو قيل بها مثل القياس والاستحسان والاجتهاد، وبعض ما مرّ على القول بعدم حجّیته، بل ومن هذا القسم أيضاً مسألة أصالة البراءة في الشبهة البدويّة فإنّ مرجعها إلى عدم حجّية احتمال التكليف بالنسبة إلى التكليف المحتمل وعدم تنجّزه به على تقدير ثبوته واقعاً.
هذا إذا قلنا بأنّ المراد بالحجّة ما كان للمولى على العبد، وأمّا إذا عمّمت لعكسه فهي من مسائله.
ثم ليعلم: أنّ مسألتي أصالة الاشتغال والتخيير أيضاً مرجعهما إلى البحث عن الحجّية وإثباتها بتقريب: أنّ ما ثبت حجّیته من العلم والأمارات وغيرهما يكون حجّة على الواقع مطلقاً سواء علم متعلّقها تفصيلاً أو تردّد بين أمرين أو اُمور، فإن أمكنت الموافقة القطعية لزمت عقلاً وهو أصالة الاشتغال، وإلّا فإن أمكنت الموافقة الاحتمالية - بکلا شقّيها - والمخالفة القطعية، كان اللازم هو الموافقة الاحتمالية وتخيّر بين شقّيها مع عدم المرجّح، وهو أصالة التخيير. وإن لم يكن شيء منهما، كما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة بلا مرجّح، كانت الحجّة على الواقع مسلوبة كما في أصالة البراءة. نعم، المسلوب هناك هو حجّية احتمال التكليف، وهنا حجّية الحجّة الإجمالية كذلك، فتفطّن.
فظهر أنّ مسائل الاُصول العمليّة ليست من سنخ آخر، ولا الغرض منها أمراً آخر غير ما هو الغرض من مسائل حجّية الأدلّة كما يتراءى من المتن، بل ويمكن على هذا التقرير إدراج جملة من مباحث الألفاظ في مسائل هذا العلم أيضاً.
بيانه: أنّ الأقدمين لمّا كانت حجّية دلالة الألفاظ عندهم واضحة، لم يبحثوا عنها بحثاً واحداً كلّياً، لكن لمّا احتملوا عدم حجّية جملة منها، إمّا لضعفها كالدلالات
ص: 19
المفهومية الناشئة من ذكر القيد، والإطلاقية الناشئة من عدم ذكره، أو لوجود ما احتملوا مانعيته منها كما في العامّ المخصَّص أو المطلق المقيَّد، أو لاحتمال اعتبار شيء فيها كالفحص عن المخصّص أو عن قرينة المجاز، عقدوا لکلّ منها مسألة. فالبحث فيها يرجع إلى البحث عن حجّية دلالة الألفاظ إذا كانت بهذه الخصوصيّة.
قوله(قدس سره): «يعرف بها القواعد الّتي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام».
أقول: إدراج مسائل حجّية الأدلّة في هذا مشكل، إذ استنباط الحكم الواقعي في مواردها على وجه القطع غير ممكن، وعلى وجه الظنّ حاصل من دون دخالة لها فيه؛ والحكم الظاهري هو عينها لا أنّها تقع في طريق استنباطه.
ص: 20
قوله(قدس سره): «الوضع هو: نحو اختصاص للّفظ بالمعنى، وارتباط خاصّ بينهما((1)) ناشٍ من تخصيصه به تارة، ومن كثرة استعماله فيه اُخرى».
أقول: أراد بالوضع، كون اللفظ موضوعاً للمعنى على أن يكون مصدراً مبنيّاً للمفعول أو اسم مصدر.
وأراد بالاختصاص، كونه ذا خصوصيّة وارتباط بالنسبة إلى المعنى، لا كونه مختصّاً به حتى يخرج وضع المشتركات.
ص: 21
ولم يبيّن نوع الخصوصيّة، إذ هو من شرح الاسم، والغرض منه الإشارة إلى ما هو المراد من المعاني الحاضرة في الذهن، لا بيان ماهية مجهولة. وعدل عمّا هو المعروف من أنّه تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه،((1)) لعدم شموله للتعيّني ولا لوضع الإنشاءات؛ مع أنّ هذا هو المعنى الّذي تترتّب عليه أحكام الوضع من الحجّية وغيرها وتؤدّي إليه أماراته لا ما ذكروه.
فحاصله: أنّ كون اللفظ موضوعاً لمعنى عند قوم، هو كونه عندهم آلة لهذا المعنى إفهاماً أو إنشاءً، وتقسيمه حينئذٍ إلى التعييني والتعيّني تقسيم له باعتبار مسبّبه، لكنّ الوضع بهذا المعنى ليس غير الدلالة الشأنية، كما لا يخفى.
قوله(قدس سره): «ثم إنّ الملحوظ حال الوضع: إمّا يكون معنىً عامّاً، فيوضع اللفظ له تارة ولمصاديقه اُخرى؛ وإمّا يكون معنىً خاصّاً، لا يكاد يصحّ إلّا وضع اللفظ له».
أقول: لمّا كان الوضع نسبة بين اللفظ والمعنى كان التعييني منه موقوفاً على تصوّر الواضع كلّاً منهما حتى يضع هذا لذاك، فباعتبار ملاحظته المعنى ووضعه اللفظ له قسّموه إلى الأقسام الثلاثة المذكورة في المتن، وباعتبار ملاحظته اللفظ ووضعه إيّاه للمعنى قسّموه أيضاً إلى الوضع الشخصي والنوعي، فقالوا: إن تصوّر لفظاً خاصّاً ووضعه لمعنى فهو شخصي، وإن لاحظ عنواناً كلّياً صادقاً على ألفاظ كثيرة فوضع كلّ فرد من أفراده الملحوظة إجمالاً بلحاظه لمعنى فهو نوعي، ومثّلوه بوضع صيغ الأفعال والأوصاف، وذلك لأنّهم لمّا رأوا أنّ الفعل الموزون بزنة «فَعَلَ» بالفتحات الثلاث مثلاً معناه مع قطع النظر عن اختلاف الموادّ واحد، وهو قيام معنى مصدره بمعنى الاسم المرفوع بعده إذا كان مفرداً مذكّراً في الزمان الماضي، واستبعدوا أن يكون الواضع وضع كلّ واحد من أفراده لهذا المعنى المتشابه بوضع مستقلّ على حدّة، تحدّسوا من ذلك أنّه
ص: 22
لاحظ هذا المفهوم الكلّي ووضع کلّ فرد منه - من أيّ مصدر كان - لقيام معناه بما بعده كذلك بوضع واحد ينحلّ إلى أوضاع كثيرة، وهكذا غيرها من الصيغ.
وعلى هذا فلك أن تقول: إنّه لا يتعيّن أن يكون الموضوع لذلك المعنى مجموع المادّة والهيأة من «ضرب» بالفتحات الثلاث مثلاً، حتى يقال: إنّ الواضع لاحظه وسائر ما يكون على وزنه إجمالاً بلحاظ مفهوم الموزون هكذا، إذ يمكن أن يكون الموضوع لهذا المعنى هيأته الّتي تقوم بنفسها بموادّ المصادر، وهي بنفسها ملحوظة للواضع تفصيلاً بنفسه، لا بمفهوم آخر صادق عليها وعلى غيرها، وعليه فيكون وضعها شخصياً وإن كانت هي كلّية لصدقها على حصصها القائمة بکلّ مادّة من الموادّ وعلى أشخاصها، ولعلّه لهذا ترك المصنف(قدس سره) ذكر هذا التقسيم.
قوله(قدس سره): «وأمّا الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فقد توهّم((1)) أنّه وضع الحروف، وما اُلحق بها من الأسماء،((2)) كما توهّم أيضاً أنّ المستعمل فيها((3)) يكون خاصّاً مع كون الموضوع له كالوضع عامّاً، والتحقيق: أنّ حال المستعمل فيه والموضوع له فيهما حالهما في الأسماء».
أقول: تحقيق كيفية وضع الحروف من هذه الجهة موقوف على بيان معانيها، وتوضيح جهة الفرق بينها وبين الأسماء الّتي تذكر في مقام تفسيرها على وجه يتراءى منه ترادفها، كلفظتي «من» و«الابتداء» أو «إلى» و«الانتهاء» أو «في» و«الظرفية» وأشباهها، مع أنّا نرى أنّه لا يصحّ استعمال أحدهما في موضع الآخر، ولا وقوع «من» و«إلى» و«في»
ص: 23
محكوماً عليه أو به كما يقع الابتداء والانتهاء والظرفيّة كذلك. ومعلوم أنّه ليس ذلك إلّا لفارق وضعيّ بينهما وهو ينافي الترادف وصحّة تفسير أحدهما بالآخر.
والحاصل: أنّ معنى «من» و«الابتداء» مثلاً، إن كان واحداً كان اللازم صحّة استعمال کلّ منهما في موضع الآخر وجواز وقوع «من» محكوماً عليه وبه كالابتداء، لکنّه لا يجوز. وإن لم يكن واحداً لم يصحّ تفسير «من» بالابتداء، لکنّه صحيح لعدم فهم العرف منها سوى الابتداء، وصحّة الملازمتين كبطلان التاليين واضحة، فينتجان بطلان المقدّم في كلتي الشرطيّتين، وهو ارتفاع النقيضين، وبطلانه ضروري. وهذه عقدة((1)) صعب حلّها على كثير من الأفهام واختلفت عبارات أهل النظر في الجواب عنها.
فقال الرضيّ(رحمه الله) في شرح ما قالوه من «أنّ الاسم ما دلّ على معنى في نفسه، والحرف ما دلّ على معنى في غيره» بعد ما أرجع ضميري نفسه وغيره إلى «ما» المراد بها الكلمة، وأبطل إرجاعهما إلى المعنى،((2)) ما هذه عبارته: «إنّ معنى «من» الابتداء، فمعنى «من» ومعنى لفظ الابتداء واحد،((3)) إلّا أنّ الفرق بينهما أنّ لفظ الابتداء ليس مدلوله مضمون لفظ آخر، بل مدلوله معناه الّذي في نفسه مطابقة،
ص: 24
ومعنى «من» مدلول((1)) لفظ آخر ينضاف ذلك المضمون إلى معنى ذلك اللفظ الأصلي، فلهذا جاز الإخبار عن لفظ «الابتداء» في قولك: «الابتداء خير من الانتهاء»، ولم يجز الإخبار عن لفظ «من» لأنّ الابتداء الّذي هو مدلولها في لفظ آخر، فكيف يخبر عن لفظ ليس معناه فيه بل في لفظ غيره؟ وإنّما يخبر عن الشيء باعتبار المعنى الّذي في نفسه مطابقة. فالحرف وحده لا معنى له أصلاً، إذ هو كالعَلَم المنصوب بجنب شيءٍ ليدلّ على أنّ في ذلك الشيء فائدة مّا، فإذا أفرد عن ذلك الشيء بقي غير دالّ على معنى [في شيء((2))] أصلاً».
ثم اعترض على نفسه: بأنّ «طويلاً» في قولك: «رأيت رجلاً طويلاً» موجد لمعناه وهو الطول، في لفظ آخر وهو «رجلاً»، مع أنّه ليس بحرف.
وأجاب: بأنّ معناه ليس هو الطول فقط، بل من له الطول مأخوذ فيه أيضاً على وجه الإجمال، وإنّما يتعيّن بالموصوف.
ثم اعترض بالمصدر المضاف كضرب زيد، إذ ليس من له الضرب مأخوذاً فيه، فهو موجد لمعناه في لفظ غيره.
وأجاب: بأنّه وإن كان كذلك في المثال، لكنّ المصدر لم يوضع لذلك، لصحّة قولنا: «الضرب شديد» بدون الإضافة إلى من له الضرب.((3)) انتهى ما أردناه.
ويرد عليه بظاهره، مضافاً إلى أنّه لم يزد المطلب إلّا إعضالاً، أنّ هذا المعنى بعد فرض وحدته، كيف يكون إذا أفاده لفظ «الابتداء» مدلولاً لنفسه وإذا أفادته لفظة
ص: 25
«من» مدلولاً للفظ آخر منضافاً إلى مدلوله الأصلي؟ مع أنّ هذا لا يخلو من تهافت بل لا يتصوّر له معنىً معقول.
وقال بعض من تأخّر((1)) عنه، في توضيح ما ذكره بعضهم في شرح التعريفين المذكورين، بعد إرجاع الضميرين فيهما إلى المعنى، من قوله: أي ما دلّ على المعنى بلحاظه في نفسه، أو لا بلحاظه في نفسه بل في متعلّقه، ما هذه عبارته بأدنى تغيير: «كما أنّ في الخارج موجوداً قائماً بذاته وموجوداً قائماً بغيره، كذلك في الذهن معقول هو مدرَك قصداً ملحوظاً في ذاته يصلح لأن يحكم عليه وبه، ومعقول هو مدرَك تبعاً وآلة لملاحظة غيره فلا يصلح لهما، فالابتداء مثلاً إذا لوحظ قصداً وبالذات كان معنىً مستقلاً بالمفهومية، ولزمه تعقّل متعلّقه إجمالاً وتبعاً من غير حاجة إلى ذكره، وهو بهذا الاعتبار مدلول لفظ الابتداء، بلا حاجة إلى ضمّ ما یدلّ على متعلّقه؛ وإذا لوحظ من حيث هو حالة بين السير والبصرة مثلاً وجعل آلة لتعريف حالهما كان معنىً غير مستقلّ بالمفهومية، ولا يصلح لأن يحكم عليه وبه، ولا يتعقّل إلّا بتعقّل متعلّقه بخصوصه، ولا يمكن أن یدلّ عليه إلّا بضمّ ما یدلّ على متعلّقه.
والحاصل: أنّ لفظ «الابتداء» موضوع لمعنى كليّ ولفظة «من» لكلّ واحد من جزئياته المخصوصة المتعلّقة من حيث إنّها حالات لمتعلّقاتها، وآلات لتعرّف أحوالها، وذلك الكلّي يمكن أن يتعقّل قصداً ويلاحظ في حدّ ذاته فيستقلّ بالمفهومية ويصلح أن يحكم عليه وبه، بخلاف تلك الجزئيّات فلا تستقلّ بها ولا تصلح لهما».((2)) انتهى.
ص: 26
وبمثل هذا فرّق بينهما شيخنا العلّامة(قدس سره) أيضاً في مواضع من هذا الكتاب((1)) وغيره، لکنّه كما ترى أنكر كون «من» موضوعة للجزئيات. ولعلّ الظاهر من كلام ذاك القائل أيضاً أنّ مناط الفرق ليس هو الكلية والجزئية، بل اللحاظ على وجه الاستقلال والآلية، لکنّه زعم أنّ الثاني لا يكون إلّا في جزئياته، فهو حينئذٍ بحث آخر يأتي بيانه.
ثم إنّ هذا البيان وإن كان أقلّ إعضالاً من الأوّل، لکنّه لعدم بيانه حقيقة هذين اللحاظين ربما يورد عليه: بأنّ هذا المعنى الواحد كيف يلحظ تارة قصداً وبالذات، واُخرى حالة بين شيئين وتبعاً لهما وآلة لتعرّف حالهما؟ وأيّ معنى لهذين اللحاظين؟ وأيضاً فهذا المعنى الّذي ليست ماهيته إلّا الإضافة بين شيئين، كيف يسلب عنه ذلك ويصير معنىً ملحوظاً على وجه الاستقلال؟ وهل يكون هذا إلّا سلباً للشيء عن نفسه؟
وذكر بعض المتأخّرين:((2)) أنّ لفظ الابتداء والانتهاء والظرفيّة وأشباهها موضوعة للإضافات المخصوصة الّتي تفهم منها، ولفظة «من» و«إلى» و«في» للارتباطات الحاصلة بين معاني المتعلّقات بسبب هذه الإضافات. انتهى.
وربما يورد عليه: بأنّ الإضافات المذكورة وأشباهها ليست ماهيّاتها إلّا الارتباطات بين المعاني، فليست الارتباطات بينها شيئاً غيرها حتى يصحّ جعلها معاني للأسماء، وجعل الارتباطات الحاصلة بها معاني للحروف.
ولعلّ منشأ هذه الإيرادات هو عدم وفاء عباراتهم بأداء مقاصدهم على ما هو حقّه، وإلّا فبعد تحقيق المسألة يتبيّن أنّه يمكن تنزيل جميعها عليه.
ص: 27
فتحقيق المقام هو:
إنّ ارتباط أحد الأمرين إلى الآخر جوهرين كانا أو عرضين أو مختلفين، وكلّيّين كانا أو جزئيّين أو مختلفين، بأيّ نحو من أنحاء الارتباط من العليّة والمعلوليّة، والتقدّم والتأخّر، والظرفيّة والمظروفيّة، والأوّلية والآخريّة، وأشباهها لا تحقّق له في نفس الأمر بغير وجود طرفيه بما لهما من الخصوصيّة هو المنشأ لانتزاع تلك الإضافات، ولا معنى لتحقّقها في نفس الأمر سوى ذلك.
نعم، للعقل أن ينتزعها من خصوصيّة الطرفين، ويتصوّرها أشياء بحيالها وعلى وجه الاستقلال، لکنّها حينئذٍ تخرج عن كونها ارتباطاً بين شيئين بالحمل الشائع وإن كان ارتباطاً بالحمل الذاتي. فكون شيئين مرتبطين بالحمل الشائع لا يكون في الخارج ولا في الذهن إلّا بأن يكون الارتباط مندكّاً فيهما موجوداً بعين وجودهما.
ولمّا كانت الحاجة ماسّة في المحاورات إلى تفهيم الارتباطات على كلا الوجهين، فتارة: يريد تصويرها للمخاطب في نفسها بحيث يتصوّرها ممتازة عن غيرها من المفاهيم، واُخرى: يريد تصوير طرفيها مرتبطين بشيءٍ من الارتباطات، فلا جرم كانت الألفاظ الموضوعة لها قسمين:
فمنها: ما وضع لإفادتها بعد انتزاعها من طرفيها، وصيرورتها أشياء بحيالها. وهذا القسم يكون كسائر الألفاظ الدالّة على المعاني المستقلّة من الجواهر والأعراض، متى سمع شيء منها فهم معناه بلا حاجة إلى غيره.
ومنها: ما وضع لإفادتها حال كونها ارتباطاً حقيقيّاً بالحمل الشائع، أي وضع ليفيد كون الطرفين مرتبطين كذلك. ولا يمكن ذلك إلّا بأن يكون موضوعاً لأن يجعل في الكلام بجنب اللفظين الدالّين على طرفي الارتباط، لا لأن يتصوّر بحذائه ذلك الارتباط حتى يخرج عن كونه ارتباطاً حقيقيّاً، وينتقض الغرض، بل لأن يفهم بسببه
ص: 28
ما يفهم من اللفظين من المعنى متخصّصين بخصوصيّة تكون منشأً لانتزاع ذلك الارتباط منهما إذا نظر إليهما العقل بنظر آخر غير هذا النظر الّذي يكون الارتباط بحسبه ارتباطاً بالحمل الشائع ومندكّاً في الطرفين. فهذا القسم هي الحروف الدالّة عليها، والقسم الأوّل أسماؤها.
ويدلّ على ذلك أنّك إذا سمعت قائلاً يقول: «السير»، «الصدور»، «زيد»، «الابتداء»، «البصرة»، «الانتهاء»، «الكوفة» تصوّرت معاني بعضها جواهر وبعضها أعراض وبعضها ارتباطات بالحمل الذاتي، من [دون] أن تفهم أنّ شيئاً منها مرتبط إلى آخر بشيءٍ من الارتباطات.
وإذا سمعته يقول: «سار زيد من البصرة إلى الكوفة» فهمت وجود سير مرتبط إلى زيد بصدوره منه، وإلى البصرة والكوفة باقتطاعه عندهما أوّلاً وآخراً؛ فيعلم بذلك أنّ ألفاظ «الصدور» و«الابتداء» و«الانتهاء» توجب تصوّر تلك المفاهيم المنتزعة المستقلّة، بخلاف هيأة الفعل والفاعل و«من» و«إلى» الواقعتين بين المتعلّق والمجرور، فإنّها تفيد السير المرتبط إلى زيد والبصرة والكوفة، أي تفيد منشأ انتزاع هذه المفاهيم. ولهذا لا يصحّ استعمال کلّ منهما في موضع الآخر؛ لأنّ كيفيّة عملهما في المعنى مختلفة، بل في غاية المباينة. ولا يمكن وقوع الحرف محكوماً عليه وبه؛ إذ ليس له معنىً متصوّر بحذائه حتى يحكم عليه أو به، وما يفيده أمر مندكّ في معنى طرفيه، ولذا قال الرضيّ: فكيف يخبر عن لفظ ليس معناه فيه بل في لفظ آخر، بخلاف القسم الأوّل؛ فإنّ معناه أمر متصوّر يكون بحذائه. ولا ينافي ذلك قولهم: «من» للابتداء، فإنّه في مقام بيان ما تفيده لفظة «من» من أنحاء الارتباطات، فلابدّ من ذكر ما يفيده تصوّراً بعد الانتزاع، وهو لفظ الابتداء.
فظهر بما ذكرناه أنّ لفظة «من» لا يقع بحذائها شيء من المعنى مطلقاً، بل ولا تفيد
ص: 29
أيضاً فائدة إلّا إذا ضمّت إلى لفظي الطرفين، فحينئذٍ تفيد تخصّص الطرفين بما ذكرناه من الخصوصيّة. وهذا هو مراد الرضيّ(قدس سره) بقوله: «فالحرف وحده لا معنى له أصلاً، إذ هو كالعَلَم المنصوب بجنب شيءٍ ليدلّ على أنّ فيه فائدة مّا، فإذا افرد عنه بقي غير دالّ على معنى في شيءٍ»، وقوله: «ومعنى «من» مدلول لفظ آخر ينضاف إلى معناه الأصلي». فاندفع بهذا ما أوردنا عليه سابقاً من التناقض.
فكلامه(رحمه الله) في غاية التحقيق، ولكن تسليمه الاعتراض بالمصدر المضاف واعتذاره عنه بأنّه ليس بالوضع، كأنّه أجنبيّ عمّا هو التحقيق، ولا ينبغي صدوره من مثله؛ فإنّ «الضرب» له معنى يقع بحذائه، غاية الأمر أنّه قائم بغيره، ولذا يمكن أن يحكم عليه وبه، وأين هو من الحروف الّتي لا يقع بحذائها شيء من المعنى أصلاً، وإنّما يكون ما تفيده فيما بحذاء لفظي الطرفين؟ ومن هنا يكون إرجاع الضمير في قولهم: «الحرف ما دلّ على معنى في غيره» إلى اللفظ أولى من إرجاعه إلى المعنى، لصدقه على التقدير الثاني على ألفاظ الأعراض مع أنّها ليست بحروف، فتدبّر.
إذا عرفت ما ذكرناه، تبيّن لك أنّ ما أفاده المصنّف(قدس سره) في مسألة المشتقّ((1)) من افتراق الإسم والحرف في كيفيّة الإستعمال في المعنى، وهو المراد بما أفاده هنا من كون افتراقهما في الوضع،((2)) في غاية الجودة. ولكن ما ذكره من أنّ ما يستعمل فيه
ص: 30
لفظة «من» هو عين ما يستعمل فيه لفظ الإبتداء،((1)) وهو المعنى الكلّي المجرّد عن جميع الخصوصيّات عند استعمالها فيه وإن كان يتقيّد بعدُ بمداليل الألفاظ الاُخر؛ كأنّه بعيد من الصواب.
انتهى ما كان عندنا من حاشية سيّدنا الاُستاذ(قدس سره) - بإنشائه وقلمه الشريف - على الكفاية.
ص: 31
ص: 32
وقد أفاد سيّدنا الاُستاذ فيما حقّقه في هذا البحث على ما يستفاد من تقريرات بحثه الّتي كتبها بعض الأفاضل من تلامذته)(1)) في بروجرد حاشية على الكفاية.
قوله(قدس سره): «صحّة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له، هل هو بالوضع أو بالطبع؟ وجهان، بل قولان ؛ أظهرهما أنّه بالطبع...».
إنّ الاستعمالات المجازية لا تحتاج صحّتها إلى وضع مختصّ بها، بل يكفي فيها وضع الألفاظ لمعانيها الحقيقية واستعمال تلك الألفاظ في غيرها من المعاني المشابهة أو المضادّة أو المناسبة لمعانيها الحقيقية؛ ويكفي في ذلك ملاحة هذا الاستعمال حسبما يدركه و يستحسنه الذوق والطبع المستقيم.((2))
فالتحقيق: أنّ استعمال اللفظ في المعنى المجازي يكون بتوسّط استعماله في المعنى
ص: 33
الحقيقي، لا بأن يستعمل في المعنيين، بل يستعمل المتكلّم اللفظ في الموضوع له مدّعياً اتّحاده مع غير الموضوع له بنفس ذلك الاستعمال ونصب القرينة على أنّ مراده الجدّي غير الموضوع له. فالمتكلّم الّذي يرى ادّعاءً اتّحاد الموضوع له مع غيره، يستعمل اللفظ في الموضوع له، ويفهم ادّعاءه وإرادته الجدّية بنفس استعمال اللفظ ونصب القرينة. فهو يستعمل لفظ الأسد في الحيوان المفترس المتّحد مع الرجل الشجاع ادّعاءً الّذي هو مراده الجدّي في قوله: رأيت أسداً.((1))
ص: 34
إعلم: أنّه لابدّ للإنسان في إفهام مقاصده لغيره ممّا یدلّ عليها، وليس يوجد فيما یدلّ عليها أسهل وأدلّ من الألفاظ، ولمّا لم تكن بين اللفظ والمعنى علاقة ذاتية بها يختصّ کلّ واحد من الألفاظ بمعنى خاصّ من المعاني حتى ينتقل الذهن منه إليه، احتاج إلى علاقة وضعية يصير بها کلّ لفظ فانياً في معناه، فجعل لکلّ معنى من المعاني لفظاً خاصّاً يفهم به المخاطب مراد المتکلّم. هذا إذا كان المتکلّم مريداً لمعنى من المعاني.
وأمّا إذا كان مراده نفس اللفظ والحكم عليه أو به، فلا حاجة إلى هذه العلاقة الوضعية؛ لأنّه ليس في ذلك دلالة شيءٍ على شيءٍ أو إرادة شيءٍ من شيءٍ أو استعمال شيءٍ في شيءٍ، بل کلّ ما هناك هو إفهام المتكلم مقصده بنفس إيجاد اللفظ ليلتفت ذهن المخاطب إليه.
وهذا اللفظ الّذي يوجده المتکلّم يكون جزئيّاً حقيقيّاً بالنظر إلى وجوده الخاصّ. ومع قطع النظر عن ذلك يكون كليّاً؛ فإن أوجده وأراد به أن يلتفت الغير إلى وجوده الخاصّ، فهو من إيجاد اللفظ وإرادة شخصه، أي إرادة التفات المخاطب إلى شخصه جزئياً.
وإن أوجده مطلقاً لالتفات الغير إليه، فهو من إيجاد اللفظ لأن يلتفت الغير إلى نوعه.
وإن أوجده مقيّداً بقيد زائد يخصّه بصنف خاصّ يريد التفات المخاطب إليه، فهو من إيجاد اللفظ للالتفات إلى صنفه.
ص: 35
وليس ذلك من باب استعمال اللفظ ودلالته على معناه الّذي وضع له اللفظ، حتى يورد على الحكم عليه بشخصه باتّحاد الدالّ والمدلول، أو تركّب القضیّة من جزءين،((1)) فافهم وتدبّر.
ص: 36
إعلم: أنّه قد استقرّ بناء العرف والعقلاء على استخدام الألفاظ لإفهام مراداتهم ومقاصدهم؛ لأنّه ليس فيما يتوسّل به لذلك ما هو أسهل من الألفاظ الجارية على اللسان. ولمّا لم يكن للألفاظ بالذات اختصاص بمعانيها الخاصّة وضعوا لکلّ معنى من المعاني لفظاً خصّ به حتى يكون دليلاً عليه ومرآةً له. والغرض من الوضع وإن كان استخدام هذه الألفاظ عند إرادة تلك المعاني، إلّا أنّ هذا ليس من قيود المعنى، وإلّا يلزم أن لا يكون المعنى حاصلاً في الخارج، ولا يكون اللفظ مرآة لما في الخارج، مثلاً لفظ «إنسان» إذا كان موضوعاً للطبيعة الكلّية الّتي تصدق على أفرادها الخارجية يصدق عليها لا محالة، أمّا إذا كان موضوعاً لها إذا كانت مرادة، فالمعنى بهذا الاعتبار لا يوجد إلّا في الذهن؛ لأنّ ما في الخارج ليس إلّا المعنى وأفراد الإنسان، فلابدّ من استعمال اللفظ في جزء معناه مجازاً حتى يتم به الغرض، أي إفهام المعنى وهو الإنسان الموجود خارجاً بأفراده.
ولا يصحّ أن يكون ذلك من باب الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ؛ إذ أنّ ذلك يصحّ إذا لوحظ معنىً كليٌّ ووضع اللفظ بإزاء کلّ فرد من أفراده، بخلاف ما إذا لوحظ معنىً كلّي مقيّد بقيد لا يتحقّق معه إلّا في الذهن ووضع له اللفظ، فلا يصحّ
ص: 37
استعمال هذا اللفظ في المعنى الخالص من القيد إلّا مجازاً، بل لا يصحّ وضع اللفظ لأفراد ذلك الكلّي خالصاً من هذا القيد، فإنّه من وضع اللفظ لغير ما لوحظ من المعنى. اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ هذا ليس إلّا من ملاحظة المعنى الكلّي الخالص من قيد كونه مراداً ووضع اللفظ للمعنى الكلّي أو لأفراده.
وبالجملة: لا يتصوّر لوضع اللفظ للمعنى بما هو مراد المتکلّم فائدة عقلائية، بل إنّ ذلك ينافي حكمة الوضع. هذا مضافاً إلى غير ذلك ممّا يترتّب عليه من المفاسد.
ومن ذلك يعلم: أنّ ما حكي عن المحقّق الطوسي وابن سينا((1)) من أ نّهما ذهبا إلى «كون الألفاظ موضوعة لمعانيها بما هي مرادة» ليس في محلّه، ولا يصحّ أن ينسب إلى مثلهما.
ص: 38
اعلم: أنّ مختار المشهور((1)) في الفرق بين الحقيقة والمجاز: أنّ الحقيقة استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له - أي المعنى الّذي جعل اللفظ مرآة له ومختصاً به - تعييناً أو تعيّناً. وأمّا المجاز فاستعماله في غير ذلك المعنى؛ لوجود علاقة بينه وبين المعنى الحقيقي - الموضوع له - .
والمختار عندنا:((2)) أنّ المستعمل فيه في الاستعمالين هو المعنى الحقيقي، إلّا أنّ المستعمِل في الأوّل يجعل اللفظ بحذاء المعنى بما هو هو، وفي الثاني يستعمل فيه أيضاً بادّعاء كون مراده الجدّي عين المعنى الموضوع له (أو من أفراده ومصاديقه).
وأمّا إذا تردّد الأمر في أنّه استعمل على النحو الأوّل أو الثاني؟ فالظاهر أنّ ذلك يفهم من ملاحظة كيفية المحاورة ومن تعابيرهم في بيان المقاصد والمرادات.
ويمكن أن يقال: إنّ الأصل بعد ما علم المعنى الموضوع له حمله على الاستعمال في المعنى الحقيقي، إلّا إذا ثبت خلافه بوجه من الوجوه، وإن كان ذلك لصيرورة المعنى
ص: 39
المجازي أشهر أو مساوياً في الاستعمالات مع المعنى الحقيقي، فحينئذٍ يستفاد ذلك من التامّل في المحاورات.
وأمّا إن كان الشكّ في المعنى المراد من جهة الشكّ في المعنى المجازي والحقيقي، لا من جهة أنّ المتکلّم استعمله في المعنى المجازي أو الحقيقي المعلومَين عند الطرفين، حتى يقال: الأصل أو الظاهر استعماله في المعنى لحقيقي، بل الشكّ في أنّه أيّ واحد من المعنيين حقيقيٌّ لكي يحمل اللفظ عليه، وأىّ واحد منهما مجازي حتى لا يحمل عليه؟ فهنا يرجع إلى علائم الحقيقة والمجاز.
فمنها: التبادر
والمعروف أنّه علامة اختصاص اللفظ بالمعنى - تعييناً أو تعيّناً -. وبعبارة اُخرى: تبادر المعنى من اللفظ ودلالته عليه وانسباقه إلى الذهن علامة الحقيقة واختصاص اللفظ بالمعنى.
لكنّ الظاهر أنّ التبادر عين الوضع، لا أنّه علامة عليه؛ إذ هو نفس دلالة اللفظ على المعنى، لأنّ المراد من الوضع ليس خصوص التعييني بل هو أعمّ منه ومن التعيّني، ومعنى الوضع فيهما صيرورة اللفظ دالّا على المعنى بوضع الواضع أو كثرة الاستعمال.((1))
ومنها: عدم صحّة السلب وصحّته، وصحّة الحمل وعدمه عدم صحّة سلب اللفظ بما له من المعنى المرتكز في الذهن عن المعنى المشكوك فيه علامة الحقيقة، كما أنّ صحّة سلبه عنه كذلك علامة كون اللفظ فيه مجازاً.
ص: 40
وبعبارة اُخرى: صحّة سلبه عن المعنى علامة المجاز، وصحّة حمله عليه علامة الحقيقة. ولا فرق في ذلك بين أن يكون المحمول والمسلوب في القضیّة اللفظ بما له من المعنى أو نفس المعنى، وأمّا الموضوع والمسلوب عنه فلا يكون إلّا المعنى المشكوك فيه.
لا يقال:((1)) إنّ سلب المعنى الحقيقي الواحد أو بعض المعاني الحقيقية أو اللفظ بما له من المعنى الواحد أو الأكثر عن المعنى المشكوك لا یدلّ على عدم كونه المعنى الحقيقي، لاحتمال الاشتراك. كما أنّ سلب جميع المعاني الحقيقية عن المعنى المشكوك لا ينهض دليلاً على مجازيّته، أي لا حاجة إلى هذا الدليل؛ لأنّه مع العلم بجميع المعاني الحقيقية لا يبقى مجال للشكّ.
فإنّه يقال أوّلاً: إنّ ذلك يتمّ في سلب المعاني عنه بالمفهوم، ولكن السلب أعمّ من المفهوم أو المصداق، فتكون صحّته دليلاً على المجازية.
وثانياً: المعنى المسلوب ليس المعلوم كونه حقيقياً حتى يقال: مع هذا العلم لا يبقى مجال للشكّ، بل هو مفهوم مّا للّفظ في ارتكاز أهل المحاورة، فلا علم لنا بجميع المعاني الحقيقية قبل هذا السلب حتى يرد علينا الإشكال المذكور.
ومنها: الاطّراد وعدمه
ولا يخفى أنّ المراد من علامية عدم الاطّراد إن كان بملاحظة نوع العلائق المجازية، فلا ريب في عدم اطّراده، وإن كان بملاحظة صنفها، فلا ريب في اطّراده،((2)) نعم بناءً على مختارنا في الفرق بين الحقيقة والمجاز - وأنّ اللفظ في كليهما يستعمل في معناه الموضوع له، إلّا أنّه في المجاز يجعل المعنى عين المعنى الموضوع له (أو فرده ادّعاءاً) -
ص: 41
تصحّ العلامية؛ إذ لا يطّرد هذا الادّعاء ولا يستحسنه الذوق ولا يستملحه الطبع دائماً، مثلاً استعمال الأسد في الرجل الشجاع يستملح ويوافق الذوق في مقام حكاية رميه ودفعه العدوّ، ولا يستملح في مقام أكله أو غيره من أفعاله العادية، وهذا بخلاف استعمال اللفظ في معناه الحقيقي، فإنّه مستحسن ومقبول لدى الذوق والطبع في جميع المقامات، فيحسن استعمال زيد مثلاً في معناه في مقام الإخبار عن عمله ومدحه وفي مقام الإخبار عن جسمه وكلّ فعل وحال من أفعاله وأحواله، وهذا المعنى للاطّراد يصحّ أن يكون من علائم الحقيقة وعكسه - عدم الاطّراد - من علائم المجاز.((1))
ص: 42
قد وقع الخلاف بينهم في أنّ المسمّى بأسماء العبادات مثل الصلاة والصوم والحجّ، هو ما كان مصاديقه خصوص الصحيح وما يترتّب عليه الأثر ويقع به الإمتثال، أو أعمّ منه وممّا يقع فاسداً ولا يتحقّق به الإمتثال؟
فلا يتوهم أنّ مرادهم من عنوان البحث - بأنّ ألفاظ العبادات هل هي أسامٍ لخصوص الصحيحة أو أعمّ منها - هو كون مفهوم الصحيح مأخوذاً في المعنى والمسمّى أم لا؟ فإنّ عدم كون ذلك مأخوذاً في تلك الأسامي، معلوم مسلّم عند الجميع.
وقبل الورود في البحث ينبغي التنبيه على اُمور:
إنّ المراد بالصحّة هو التماميّة، ويعبّر عنها في الفارسية ب- «درستى»؛ وعمّا يوصف بها بالصحيح والتامّ بالعربية، وبالفارسية ب- «درست». ومقابل الصحّة الفساد المعبّر عنه في الفارسية ب- «نادرستى»، كما أنّ مقابل الصحيح الفاسد المعبّر عنه في الفارسية ب- «نادرست».
وهذا التقابل لا يأتي في الأشياء بالنسبة إلى نفس ذواتها فلا يتّصف بالصحّة والفساد الموجود في الخارج، بل ولا المفاهيم بالنسبة إلى ذواتها، بل الاتّصاف بهما
ص: 43
يكون بالنسبة إلى غير ذواتها من العناوين الخارجة عنها، فيوصف الشيء بالصحّة إذا كان مصداقاً لعنوان مّا، وبالفساد إذا لم يكن كذلك.
وبالجملة التقابل بين الصحّة والفساد تقابل العدم والملكة،((1)) ولا يتصوّر في نفس الشيء وذاته بل لابدّ أن يكون بين الشيء وعنوان من العناوين، فهو يتّصف بالصحّة إذا كان مصداقاً لهذا العنوان، ويتّصف بالفساد إذا لم يكن مصداقاً له مع أنّ من شأنه أن يقع مصداقاً له.
وبالجملة: الصحّة والفساد لا يأتيان مثلاً في أفعال الصلاة مثل الركوع والسجود والقيام بالنسبة إلى ذواتها، أي الحركة المحقّقة في الخارج، فهي لا تتّصف بالفساد؛ لأنّ معنى اتّصافها بالفساد نفي ذاتها عن ذاتها وسلب الشيء عن نفسه، ولذا لا توصف بالصّحة أيضاً؛ لأنّ ما لا يوصف بالفساد لا يوصف بالصّحة، ولكن توصف هذه الحركة الخاصّة بالصحّة بالنسبة إلى عنوان الركوع أو السجود أو القيام، فإذا كانت مصداقاً بالنسبة إلى هذا العنوان تكون صحيحة، وإذا لم تكن مصداقاً له تكون فاسدة.
وممّا ذكر يظهر أنّ الصحّة والفساد وصفان إضافيّان، ولذلك يمكن أن يكون شيء واحد صحيحاً بالنسبة إلى عنوان أو عناوين، وفاسداً بالنسبة إلى عنوان أو عناوين اُخرى.
لا يخفى أنّه لابدّ من تصوير الجامع بين أفراد الصحيح على القول به، وأفراد الأعمّ أيضاً على القول به، إلّا أنّهم وقعوا لذلك في الإشكال. ولا ريب في عدم إمكان تصوير
ص: 44
جامع ذاتي على القولين، لعدم تعقّل الجامع الذاتي بين الاُمور المتباينة بالذات. كيف ولا يعقل ذلك في خصوص ما هو المصداق للصلاة مثلاً، كصلاة الكامل المختار التامّة الشرائط والأجزاء، فلا جامع ذاتي بين هذه الأجزاء والشرائط يختصّ بها دون غيرها؛ فما ظنّك بالجامع الذاتي بين جميع مراتب الصلاة - قصراً وتماماً، ومضطرّاً ومختاراً- .
أمّا الجامع بين مثل أجزاء الصلاة وشرائطها وبين مراتبها وأفرادها فليس إلّا ما يكون عرضياً، سواء كان المختار هو القول بالصحيح أو الأعمّ.
فنقول: أمّا الجامع العرضي بين أفراد الصحيح، فقال في الكفاية: «لا إشكال في وجوده بين الأفراد الصحيحة، وإمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره، فإنّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد، يؤثّر الكلّ فيه بذاك الجامع، فيصحّ تصوير المسمّى بلفظ الصلاة مثلاً: بالناهية عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن، ونحوهما».((1)) انتهى.
ويمكن الإيراد عليه:
أوّلاً: بأنّ الأثر الخاصّ المترتّب على أفراد الصلاة إذا كان مثل النهي عن الفحشاء أو كونها معراج المؤمن، لا يمكن أن يكون هو الجامع بين الأفراد والمسمّى بالصلاة، لأنّه لا يثبت به عدم ترتّبه على غيرها.
وثانياً: بأنّ الظاهر من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْ-مُنْكَرِ﴾،((2)) أنّها حقيقة يكون النهي عن الفحشاء أثرها، ولو كان معنى الصلاة هو الناهية عن الفحشاء يصير المعنى: الناهية عن الفحشاء تنهى عن الفحشاء، وهو المصادرة على المطلوب، وهذا لا يليق بالقرآن الكريم.
ص: 45
فالصحيح أن يقال بأنّ ما هو الجامع العرضي بين أفراد الصلاة هو ما لا يتحقّق في ضمن غيرها مثل: غاية الخضوع وكمال العبودية والتوجه الخاصّ الّذي يتحقّق في ضمن أفرادها المختلفة الأجزاء والشرائط بحسب الحالات، حتى وإن لم نعلم به تفصيلاً إلّا أ نّنا نعلم بوجوده في الجملة، فإذا دلّ الدليل على أنّ المسمّى باسم الصلاة أو الصوم أو غيرهما هو الصحيح نأخذ به، ونقول بالقدر الجامع بين أفراد الصلاة الصحيحة أو الصوم الصحيح.
وقد يشكل: بأنّ الجامع الّذي لم نتحصّله بعنوان لا يمكن أن يكون أمراً مركّباً؛ إذ کلّ ما فرض جامعاً يمكن أن يكون صحيحاً وفاسداً. كما لا يمكن أن يكون أمراً بسيطاً؛ لأنّه إمّا أن يكون مثل عنوان المطلوب، أو ملزوم المطلوب المساوي له، والأوّل مستلزم للدور لتوقّف تحقّق هذا العنوان على الطلب وتوقّف الطلب عليه. مضافاً إلى أنّه جامع عامّ يشمل جميع أفراد العبادات. ومضافاً إلى أنّ ذلك مانع من إجراء البراءة في أجزاء العبادات وشرائطها، لعدم الإجمال حينئذٍ في المأموربه وإنّما الإجمال فيما يتحقّق به وفي مثله لا مجال لها، كما حقّق في محلّه، مع أنّ المشهور القائلين بالصحيح قائلون بها في الشكّ فيهما.
وبهذا يشكل لو كان البسيط هو ملزوم المطلوب أيضاً، فلا تجري البراءة معه.
وأجاب في الكفاية عن هذا الإشكال: «بأنّ الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المرکّبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات، متّحد معها نحو اتّحاد، وفي مثله تجري البراءة، وإنّما لا تجري فيما إذا كان المأمور به أمراً واحداً خارجياً مسبّباً عن مركّب مردّد بين الأقلّ والأكثر، كالطهارة المسبّبة عن الغسل والوضوء فيما إذا شكّ في أجزائهما».((1))
ص: 46
وتوضيحه: أنّ مفهوم الصلاة ليس عنوان المطلوب ولا عناوين الأجزاء بذواتها، بل يكون عنواناً عرضياً صادقاً على کلّ الأجزاء الأصلية تارة، وعلى البعض اُخرى، وعلى أبدالها ثالثة، مع وجود جميع الشروط في الجملة تارة ومع عدمها اُخرى، وهكذا في الموانع.
وهذا العنوان العرضي لمّا كان صادقاً على الأجزاء بالفعل متّحداً معها في الخارج، كان وجوده عين وجودها، فكان بحسب الوجود مركّباً وإن كان بحسب المفهوم بسيطاً، فإذا شكّ في جزئية شيءٍ شكّ في نفس متعلّق الوجوب، فينحلّ العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بالوجوب والشكّ البدويّ فيه، فتجري البراءة النقلية على مختاره، والعقلية أيضاً على مختارنا تبعاً للقوم. وإنّما لا تجري البراءة فيما إذا كان البسيط المعلوم مسبّباً عن المرکّب، فإنّ وجوده غير صادق عليه.
ويمكن الإشكال بأنّه وإن شيّدنا أركان القول بجريان البراءة العقلية عند الشكّ في الجزئية والشرطية ودفعنا ما أورده شيخنا(قدس سره)، لكن جريان البراءة فيما إذا كان المكلّف به مفهوماً منتزعاً من جملة وجودات باعتبار الإضافة إلى شيءٍ آخر إمّا بالعلّية أو بغيرها وشكّ في مدخليّة وجود في انتزاع هذا المفهوم وتحقّق هذه الإضافة في نفس الأمر عند عدم هذا الوجود، في غاية الإشكال، وإن كان هذا المفهوم متّحداً معها حين ما يصدق، وصادق عليها حين يتحقّق، ألا ترى أنّه إذا أمر المولى عبده بإزهاق روح حيوان وهو يتحقّق منه بجملة اُمور شكّ في دخل واحد، فلم يوجده ولم يتحقّق الإزهاق لم يعدّ معذوراً وإن كان الإزهاق حين تحقّقه صادقاً على نفس هذه الجملة، وهكذا عنوان التعظيم إذا تحقّق بجملة اُمور صادق عليها وشكّ في دخل شيءٍ - جزءاً أو شرطاً-، وتمام الكلام في محلّه.((1))
ص: 47
ص: 48
هذا كلّه في تصوير القدر الجامع على القول بالصحيح. وأمّا على القول بالأعمّ فقد ذكر لتصويره في الكفاية وجوهاً:
أحدها: أن يكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة كالأركان في الصلاة مثلاً، وكان الزائد عليها معتبراً في المأموربه لا في المسمّى.((1))
وأجاب عنه أوّلاً: بأنّ التسمية بها لا تدور مدارها، ضرورة صدق الصلاة مع الإخلال ببعض الأركان.
وثانياً: بعدم الصدق عليها مع الإخلال بسائر الأجزاء والشرائط عند الأعمّي.
وثالثاً: بلزوم أن يكون الإستعمال فيما هو المأمور به - بأجزائه وشرائطه - مجازاً عنده، وكان من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ، لا من باب إطلاق الكلّي على الفرد، ولا يلتزم به القائل بالأعمّ، فافهم.
ص: 49
ثانيها: أن تكون موضوعة لمعظم الأجزاء الّتي تدور مدارها التسمية عرفاً، فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمّى، وعدم صدقه عن عدمه.
وأجاب عنه أوّلاً: بما أورد على الأوّل أخيراً.
وثانياً: بأنّه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمّى، فيكون شيءٌ واحدٌ داخلاً فيه تارةً وخارجاً عنه اُخرى، بل مردّداً بين أن يكون هو الخارج أو غيره وذلك عند اجتماع تمام الأجزاء، وهو كما ترى، سيّما إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.
أقول: إنّ مراد القائل بهذا الوجه إن كان مفهوم الأجزاء أو مفهوم معظم الأجزاء أو مفهوم أجزاء المطلوب بأمر «أقيموا الصلاة» أو الصحيح من الصلاة، فلا تتحصّل هذه المفاهيم إلّا بتحصّل مفهوم الصلاة، فإذا كان تحصّل مفهوم الصلاة متوقّفاً على تحصّل هذه المفاهيم يدور.
وإن كان مراده مصداق معظم الأجزاء، فمصاديقه كثيرة فلابدّ من تعدّد الوضع أو الوضع لواحدٍ منها، وهو غير الجامع بين الأفراد.
ثالثها: أن يكون وضع الصلاة كوضع الأعلام الشخصية، فكما لا يضرّ في التسمية فيها تبادل الحالات من الصغر والكبر، ونقص بعض الأجزاء وزيادتها، كذلك في الصلاة وسائر العبادات لا يضرّ بالتسمية اختلاف أفرادها حسب تبادل الحالات.
والجواب عنه: بالفرق بين ما نحن فيه وبين الأعلام الشخصية، فإنّ تلك الأعلام موضوعة للأشخاص، مثلاً لفظ «زيد» موضوع لابن عمرو، والموضوع له ليس جسم زيد وبدنه المرکّب حتى يكون اختلافه بحسب الزيادة والنقيصة موجباً لاختلاف معناه، بل الموضوع له يكون أمراً واحداً، وهو ابن عمرو الّذي هو فردٌ معيّنٌ للإنسان، وهو محفوظ في جميع الحالات الطارئة عليه، وهذا بخلاف الحقائق المرکّبة، فإنّ كلّ فردٍ منها موجودٌ بوجودٍ خاصّ تصدق عليه الحقيقة الّتي هو تحتها، وهي الجامعة بين أفرادها.
ص: 50
وبعبارة اُخرى: الموضوع له فيما يكون هو الجامع للأفراد كلّي ينطبق على أفراده لا تصوير له على القول بالأعمّ، بخلاف ما هو الموضوع له في الأعلام الشخصية، فإنّها موضوعة لها، وتشخّص كلّ فردٍ منها بوجوده الخاصّ الباقي ما بقي وجوده.
بل يمكن أن يقال: إنّ الأعلام الشخصية أيضاً وضعها كأسماء الأنواع، فهي أيضاً موضوعة للشخص الإنساني الّذي ينطبق عليه إذا كان واجداً لجميع الأعضاء والأجزاء، وكذا إذا كان فاقداً لبعضها، لكن ذلك لا يكون مصحّحاً لتصوير الجامع على القول بالأعمّ، بل يؤيّد ما ذكرناه في تصويره على القول بالصحيح، لأنّ تصويره على القول بالأعمّ يحتاج إلى جزء خارجي للعبادة يكون باقياً مع انتفاء غيره ممّا له دخل في صحّتها - جزءً أو شرطاً -، فتدبّر.
رابعها: ما ذكره أيضاً في الكفاية وردّ عليه.((1))
ويرد عليه مضافاً إلى ما أورده شيخنا الاُستاذ(قدس سره): أنّ استعمال اللفظ الّذي وضع للصحيح في ما وضع له وإرادة الفاسد منه وغير ما هو الموضوع له منه بدعوى كون
ص: 51
الفاسد هو هو أو فرداً منه، لا يجعل الموضوع له الأعمّ وحقيقة فيه ولا يحدث بذلك جامعاً بين الصحيح والفاسد. غاية الأمر لو استعمل اللفظ في الفاسد وفي غير الموضوع له حتى صار حقيقةً فيه، يصير اللفظ به مشتركاً لفظياً بين المعنيين اللذين لا جامع بينهما.
نعم، يمكن تصوير الجامع بين أفراد الفاسد بأنّه ما لا يترتّب عليه أثر الصحيح.
خامسها: أيضاً ما ذكره في الكفاية وأجاب عنه.((1))
أقول: إنّ الكميّة في أسامي المقادير والأوزان ملحوظةٌ في معاني ألفاظها، لكن يمكن أن لا تكون ملحوظة على نحو لا تشمل الأقلّ منه أو الأكثر بما يتسامح العرف فيه، بل كانت ملحوظة كذلك أي على نحوٍ تشمل الأقلّ منه أو الأكثر في الجملة؛ وليس الأمر كذلك في العبادات، إذ ليست الكميّات المتّصلة أو المنفصلة مأخوذةً فيها حتى يقال بوضع الألفاظ لها، ولا ينافي ذلك أن يعرضها العدد ببعض الاعتبارات.
ذكروا((2)) أنّ ثمرة النزاع بين الصحيحي والأعمّي هو: الرجوع إلى البراءة على الأعمّ، وإلى الاشتغال على الصحيح، وذلك بناءً على التفصيل في مسألة البراءة
ص: 52
والاشتغال بين ما إذا كان منشأ الشكّ - في مدخلية شيء من الجزء أو الشرط في المأمور به - إجمال النصّ، فالمرجع الاحتياط، أو عدم النصّ، فالمرجع البراءة، وذلك لأنّه إذا حصل الشكّ في دخل شيء في المأمور به فعلى القول بالصحيح يكون الشكّ في المسمّى، فيصير الخطاب مجملاً، وعلى القول بالأعمّ يكون الشكّ في الزائد على المسمّى لا لإجمال الخطاب، بل لفقد النصّ الدالّ على اعتبار المشكوك فيه.
وأمّا لو قلنا بعدم الفرق - في إجراء البراءة في الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة - بين إجمال النصّ وفقده، فلا يكون ذلك ثمرة للنزاع، لأنّ البراءة تكون هي المرجع على كلا القولين.
والصحيح أنّه لا وجه للرجوع إلى الأصل في صورة وجود الدليل مثل الإطلاق أو العموم، وهنا - على القول بالأعمّ - المرجع هو إطلاق الدليل وصدق الصلاة على الفاقد للمشكوك جزئيّته فيه أو شرطيته له، فإنّه أحد أفراد المأمور به ومصاديقه. نعم، هذا يكون بعد توفّر شرائط التمسّك بالإطلاق؛ وأمّا على القول بالصحيح فلا مجال للتمسّك بالإطلاق، ولابدّ من الرجوع إلى الاحتياط. اللّهمّ إلّا أن نقول برجوع ذلك إلى الشكّ في الزائد ببيان أسلفناه في طيّ تصوير الوجوب الضمني للأجزاء.
فتلخّص ممّا ذكر: عدم الثمرة للنزاع في الصحيح والأعمّ بالقول بإجراء البراءة أو التمسّك بالإطلاق على القول بالأعمّ، والرجوع إلى الاحتياط على القول بالصحيح، وذلك لما قد ظهر لك من جريان البراءة على القول بالصحيح أيضاً.
المختار في المسألة:((1)) والحقّ الّذي يؤدي إليه النظر في بيان المختار هو: أنّ ألفاظ العبادات كلّها مستعملة في لسان الشرع فيما هو الموضوع له من أوّل الأمر في العصور الجاهلية وما قبلها بل من بدو تكوّن الإنسان، كما تدلّ عليه الآيات والأخبار على أنّ هذه الماهيّات
ص: 53
العبادية ليست من مخترعات الشريعة الإسلامية، بل هي مرسومةٌ ومعمولٌ بها بين أبناء نوع الإنسان من أوائل التاريخ بل من قبل التاريخ،((1)) إلّا أنّها تختلف صورها باختلاف الأدوار والأكوار.
والخصوصيات المجعولة المستحدثة في زمن الإسلام إنّما هي الخصوصيات الفردية المذكورة في لسان الشارع لا ترتبط بالوضع أو الاستعمال المجازي، بل هي مستفادة بالقرينة من باب تعدّد الدالّ والمدلول، كما بنى عليه الباقلاني.((2))
وهذا الّذي قلناه ثابت في تمام الماهيات العبادية من الصوم والصلاة والحجّ والزكاة وغيرها من العبادات، ولذلك قد أنكرنا الحقائق الشرعية أو المتشرعيّة. فالموضوع له هو الحقيقة الّتي وضعت لها هذه الألفاظ من أوّل الأمر، ومعلوم أنّ معانيها أعمّ من الأفراد الموجودة في العصور الجاهلية أو الأفراد الصحيحة الّتي أمر بها الشارع، وهذا يكفي في إثبات القول بالأعمّ، فلا نحتاج في إثبات الأعمّ إلى غير ما أسلفناه في الحقيقة الشرعية.((3))
ونتيجة ذلك: أنّ المرجع فيما شكّ في جزئيّته أو شرطيته في العبادات هو أصالة البراءة؛ لأنّ الشكّ فيه شكّ في وجود الدليل على دخل المشكوك فيه في المأمور به - شرطاً أو شطراً - . وأمّا الإطلاقات فليست في مقام بيان ما هو من مصاديق الصلاة مثلاً في شرع الإسلام حتى يتمسّك بها، وإنّما هي تشير إلى المعنى المركوز في الأذهان - بحسب العرف واللغة - الصادق على أفراده المختلفة حسب المقرّر في الشرائع السابقة وحسب ما يقرّر أو قرّر وبيّن في شرعنا الخالد. إذن فليس هنا إلّا البراءة عمّا نشك في دخله في الصلاة وغيرها، والله هو العالم.
ص: 54
ثم إنّه قد استدلّ للقائل بالصحيح بوجوه:((1))
منها: الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواصّ والآثار، للصلاة مثلاً ، كقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «الصلاة عمود الدين»،((2)) أو «الصوم جُنّةٌ من النار»،((3)) فإنّ هذه الخواص لا تترتب إلّا على الصحيح منها.
وكذا: ما یدلّ من الأخبار على نفي ماهيتها وحقيقتها لفقد بعض شرائطها أو أجزائها، كقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»،((4)) ولو كان الموضوع له هو الأعمّ لا يصحّ نفي الحقيقة لمجرد ذلك.
وفيه:((5)) أنّ التمسّك بمثل أصالة العموم أو أصالة الحقيقة إنّما يصحّ إذا كان الشكّ واقعاً في مراد المتکلّم، وأ نّه أراد العموم أو أراد الحقيقة أم لا؟ أمّا إذا شككنا في كيفية إرادته مع العلم بمراده فلا يتمسّك بالاُصول اللفظية؛ وفي المقام نعلم أنّ مراده(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)
ص: 55
من الصلاة الّتي هي عمود الدين الصلاة الصحيحة، ونتردّد في كيفية الاستعمال المذكور فهل هو حقيقي أو مجازي؟ فإذا قال المولى: أكرم العلماء وقال: لا تكرم زيداً، يدور الأمر بين كون خروج زيد عن تحت عنوان «العلماء» العامّ، تخصيصاً أو تخصّصاً، بعدم وجوب إكرام زيد لا يصحّ التمسّك بأصالة العموم لإثبات خروج زيد عن تحت العامّ بالتخصيص، كما لا يجوز التمسّك بأصالة العموم إذا شككنا في كون زيد أو عمرو عالماً، لكونه من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيه.
وهكذا نقول في مثل قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»، فتدبّر.
ثم إنّه قد استدلّ للأعمّي بوجوه:((1))
منها: صحّة تعلّق النذر بترك الصلاة في المكان المكروه فيه الصلاة كالحمّام لمرجوحيتها، فلو كان ما وضع له لفظ «الصلاة» خصوص الصحيح، يكون متعلّق النذر هو ترك الصلاة الصحيحة، وهي بعد تعلّق النذر بتركها لا يمكن أن تقع صحيحة، فلا موقع لتركها في المكان المنذور تركها فيه وفاءً بالنذر بل مطلقاً، لانتفاء متعلّق الترك المنذور لوقوعه فاسداً لا صحيحاً، فلا يتحقّق به الحنث، وما يتحقّق به الحنث لا يمكن تحقّقه لحرمته ولوقوع الحنث المحرم به، فيلزم من تعلّق النذر بترك الصلاة الصحيحة عدم ما يمكن أن يكون صحيحاً حتى يتعلّق الترك المنذور به، فيلزم من وجوده عدمه.
وفيه: أنّ هذا الإشكال يأتي على القول بالأعمّ أيضاً، لأنّ متعلّق النذر إن كان فعلاً من الأفعال يجب أن يكون راجحاً، وإن كان ترك فعل من الأفعال يجب أن يكون ذاك الفعل مرجوحاً، وما هو المرجوح في المكان المكروه فيه الصلاة كالحمّام هو الصلاة
ص: 56
الصحيحة سواء كان الموضوع له الصحيح أو أعمّ. ولا يصحّ أن يكون متعلّق النذر ترك الصلاة الفاسدة أو أعمّ منها، لما ذكرنا من اشتراط كون الفعل الّذي تعلّق النذر بتركه مرجوحاً، إذن فلا فرق في تأتّي الإشكال بين القولين.
والجواب عن أصل الإشكال: عدم صحّة النذر في المقام بأن يقال: إنّ المصحّح للنذر - إذا تعلّق بترك فعل - إنّما هو مرجوحيته ذاتاً لا بالإضافة إلى سائر أفراده العرضية، كالصلاة في الحمّام، فإنّها مرجوحة بالنسبة إلى الصلاة في البيت أو في المسجد لا بملاحظة ذاتها بل بملاحظة كون غيرها أفضل وأكثر ثواباً منها، فلا يتعلّق بتركها النذر بل يتعلّق بفعلها النذر، إلّا أن يرجع النذر في الأوّل إلى إتيان الصلاة في البيت أو في المسجد، فلا يجوز إتيانها في الحمّام لوقوعها عصياناً للأمر بإيقاعها في المسجد، وفي الثاني يرجع إلى ترك الصلاة في المسجد وفي البيت، فتدبّر.((1))
الأوّل: هل يجري النزاع المذكور في العبادات، في المعاملات أيضاً أو لا؟
ذهب المحقّق الخراساني إلى التفصيل بين القول بكون أسامي المعاملات موضوعة للمسبّبات، فقال: لا مجال للنزاع في كونها للصحيحة أو للأعمّ؛ لعدم اتّصافها بهما، وبين كونها موضوعة للأسباب.((2)) فلم يمانع من جريانه.
وتوضيحه: أنّ لکلّ قسم من المعاملات معنى إعتبارياً ليس له وجود إلّا في عالم الاعتبار، فلا وجود له حقيقیاً سوى منشأ انتزاع هذا الاعتبار الّذي هو كالعلّة بالنسبة إليه، فإذا تحقّق ذلك المنشأ وجد هذا العنوان الاعتباري في عالم الاعتبار، وإذا اختلّت بعض شرائطه فلا يتحقّق.
ص: 57
وبعبارة اُخرى: أمر هذا الأمر الاعتباري دائرٌ بين الوجود والعدم، ووجوده يدور مدار وجود علّته، فلا يتّصف بالصحّة تارةً وبالفساد اُخرى، بل يتّصف بالوجود أو بالعدم. وعليه فإن كانت الأسماء موضوعة لهذا المعنى الاعتباري - المسبّب - فلا مجال للنزاع.
أمّا إذا كانت تلك الأسامي موضوعة للأسباب (وإن شئت قلت: مستعملة في الأسباب) فيمكن وقوع النزاع فيها، ويقال: إنّ عنواناً، مثل البيع، هل هو موضوع للعقد الجامع لشرائط التأثير في ملكية الثمن والمثمن للمشتري والبائع، أو موضوع لأعمّ منه ومن غير المؤثّر؟
ولا يبعد دعوى كونه موضوعاً لما هو الصحيح والمؤثّر.
هذا بيان لما أفاده شيخنا الاُستاذ(قدس سره)، لکنّه تفصيل لا يخلو عن الإشكال، وذلك لأنّ أسامي المعاملات، مثل البيع والإجارة، إنّما تكون موضوعة لماهيّاتها من غير تحيّثها بحيثية الوجود والعدم، فالماهيّات وإن كانت تارة موجودة في الخارج واُخرى غير موجودة، لكنّ الموضوع له هو نفس ماهيّة الملكية ونفس ماهيّة (عُلقة) الزوجيّة وغيرهما، فلا يصحّ التفصيل المذكور.
والدليل على ذلك صحّة إطلاق المعدوم عليها، فيقال: البيع معدوم، ولو كان البيع موضوعاً للمسبب الموجود والماهية الموجودة، يلزم التناقض بحمل المعدوم عليه. وكذلك يقال: البيع موجود، فلو كان معناه الماهيّة الموجودة يكون معناه: الّذي هو موجود موجود. فما ذكره(قدس سره) وجهاً للتفصيل غير وجيه، لأنّ السببیّة والمسبّبيّة من لوازم الوجود لا الماهية، وقد عرفت أنّ أسامي المعاملات موضوعة للمعاني المعرّاة عن الوجود، أي الماهيّات.
نعم، الألفاظ المشتقّة من هذه الأسامي، كلفظ «باع» و«يبيع» و«بع» الموضوعة للإخبار والأمر، تدلّ على وجود مصاديقها أو طلب إيجادها.
ص: 58
وعلى هذا، فالحقّ عدم تأتّي الخلاف في أسماء المعاملات مطلقاً من غير تفصيل بين الأسباب والمسبّبات.
الأمر الثاني: أفاد في الكفاية:((1)) كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيحة لا يوجب إجمالها، بناءً على تعلّق الأحكام بالأفراد، كما توهّم في ألفاظ العبادات.
لأنّ إطلاقها - لو كان في مقام البيان - يشمل کلّ ما هو فردٌ لها عند العرف، فلو كان يعتبر في البيع مثلاً شيئاً زائداً على ما هو المعتبر عند العرف لكان على المولى أن يبيّنه. نعم، لو شكّ في اعتبار أمرٍ فيه عند العرف لا يصحّ التمسّك بالإطلاق، كما أنّه لا يتمسّك بالإطلاق إلّا مع وجود ما يسمّونه بمقدّمات الحكمة الّتي هي عند صاحب الكفاية الاُمور الثلاثة المذكورة في محلّها.((2))
وأمّا بناءً على تعلّق الأحكام بالطبائع، كما هو الحقّ، فيشكل التمسّك بالإطلاق لإثبات عدم مدخلية المشكوك دخله؛ لأنّ الشكّ في اعتبار شيءٍ، في فردية عقدٍ معيّنٍ لطبيعة البيع مثلاً، شكّ في كونه مصداقاً لتلك الطبيعة، والتمسّك بالإطلاق لإثبات ذلك تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيه.
نعم، إذا رجع ذلك إلى الشكّ في دخل جهة زائدة على نفس الطبيعة صحّ التمسّك بالإطلاق لنفيها.
وربما يقال: إنّ الطبيعة إذا كانت معلومة عند العرف، لا يكون الشكّ في فردية شيءٍ لها إلّا بالشكّ في مدخلية حيثيةٍ زائدة على ما هي حيثيتها عند العرف، فيتمسّك لعدم دخلها بالإطلاق، فتأمّل.((3))
ص: 59
الأمر الثالث: في تحقيق معنى الجزء، والشرط، والفرق بينهما، فنقول: إنّ دخل شيءٍ في تحقّق المأمور به إمّا يكون بتركّب المأمور به منه ومن غيره، ويكون ممّا به قوام ذاته وماهيته كالركوع والسجود وغيرهما من أجزاء الصلاة، فهذا جزؤه وما به قوام ماهيته وحقيقته؛ وإمّا يكون شيئاً خارجاً عن حقيقة المأمور به وما يتركّب منه، لكن له دخلٌ في تحقّقه أو تحقّق أجزائه، فهو من مقدّماته ويسمّى شرطه، كمقدّمات الصلاة، مثل الطهارة وغيرها ممّا تتوقّف الصلاة عليه وتكون مشروطة بوجوده قبلها أو بعدها أو حين أدائها.
فالأمر الوجودي الّذي يكون مع غيره تكويناً أو تشريعاً - ويعدّ بالاعتبار شيئاً واحدا ً- هو جزء ذلك الشيء؛ والأمر الوجودي الذي يكون وجود المأمور به وتحقّقه متوقّفاً على وجوده - قبله أو بعده أو مقارناً له - هو شرط المأمور به.
وبعبارة اُخرى: يكون المأمور به مقيّداً بذلك الشيء ولا يتحقّق بدونه، بنحوٍ يكون التقيّد داخلاً في المأمور به، والقيد كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة خارجاً عنه. وهذا معنى كون الطهارة من شرائط الصلاة.
وأمّا ما يستفاد من الكفاية((1)) من دخل شيءٍ عدميّ في المأمور به واعتباره شرطاً أو شطراً، ففيه: أنّ العدم لا يؤثّر ولا يوصف بالتأثير والتأثّر. وعدّهم «عدم المانع» من أجزاء العلّة التامّة، يكون من المسامحة في التعبير، والمراد: أنّ وجود المانع، كالقهقهة، يكون مخلّا، لا أنّ عدمه مؤثّرٌ في وجود المأمور به - شطراً أو شرطاً- .
وبالجملة: المأمور به ليس إلّا المشروط والمقيّد بقيدٍ كذائيّ وجوديّ الّذي يكون لوجود القيد دخل في وجوده لتقيّد وجوده به، وأمّا عدم المانع فلا يؤثّر في وجوده. نعم،
ص: 60
وجوده يكون في ظرف عدم مانعه، لا أنّ عدم مانعه يكون مقدّمة لوجوده. ومعنى اعتبار عدم المانع: وجوب إزالة المانع، وفرقٌ بين كون وجود شيءٍ مانعاً عن وجود آخر، وبين كون عدمه شرطاً لوجوده، وما لا يعقل تصوّره هو الثاني. وكيف كان، فالمعاني معلومة خارجاً سواء كانت التعابير عنها مطابقةً للإصطلاح، أو مخالفةً له.
ص: 61
ص: 62
وقبل الخوض والكلام فيه، ينبغي بيان مقدّمات:
مبحث هنا: في بيان معنى المشتقّ الّذي يمكن أن يقع فيه النزاع، وبيان الفرق بينه وبين ما لا يمكن أن يقع النزاع فيه؛ فنقول: إنّ المفاهيم المنتزعة على أقسام:
منها: ما يكون منتزعاً من مقام الذات مع الإغماض عن اللواحق الخارجة عنها، بحيث إذا فُرضت الذات بما هي هي مجرّدةً عن کلّ قيد، ينطبق عليها هذا المفهوم، وتكون الذات مصداقاً له حين فرض خلوّها عن جميع اللواحق.
والوجه في ذلك: أنّ المفهوم لا ينتزع إلّا من مرتبة الذات، فلابدّ وأن يكون في مرتبة الذات منطبقاً عليها بلا تأخّر عنها ولا تقدّم عليها، ويقال لهذا: الذاتي.
ومنها: ما ينتزع من المرتبة المتأخرة عن الذات وهو: ما يسمّونه في المنطق «بالعرض» أي ما يكون خارجاً عن الذات. وينقسم إلى قسمين: اللازم، والمفارق.
فالعوارض اللازمة لا تفارق الذات مادامت الذات موجودة وباقية.
والعوارض المفارقة تجري على الذات تارة ولا تجري عليها تارة اُخرى، كالضحك والقيام والقعود وغيرها.
ص: 63
ولا يخفى عليك: أنّ النزاع في مسألة المشتقّ إنّما يكون في هذا القسم الأخير. والظاهر كون أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة وصيغ المبالغة من هذا القبيل.((1))
لابدّ في المفاهيم المفارقة الصادقة على الذات من وجود حيثية الصدق ومناط صحّة حمل المفهوم عليها حتى يكون صدق مفهوم على ذاتٍ دون غيرها نتيجة لوجود تلك الحيثية فيها دون غيرها، فمفهوم الضارب أو الشارب مثلاً لا يصدق على زيد إلّا إذا كانت له خصوصية يصدق عليه بملاحظة تلك الخصوصية أنّه ضارب أو شارب، وهي: خصوصية صدور الضرب عنه مثلاً، فلا يصدق عليه الضارب قبل وجود تلك الخصوصية وإلّا فلو لم تلاحظ هذه الحيثية في حمل المفاهيم المفارقة على الذوات، فلازم ذلك الترجيح بلا مرجّح حين حملها على الذوات في وقت دون الآخر، وحين حمل أحد المفاهيم على إحدى الذوات دون غيرها. فلو فرض عدم تحقّق هذا الملاك في مورد، كما إذا لم يتلبس زيد بالنصر مثلاً في جميع الأزمنة، لا يصدق عليه مفهوم الناصر، وإلّا يلزم من صدقه الترجيح بلا مرجّح، أو صدق کلّ عنوان على کلّ شيء.
المفاهيم الصادقة على الذوات - الّتي فيها ملاك الحمل ومناط الصدق - تنقسم إلى قسمين:
قسم: يكون بإزائه في الخارج شيء، وقسم: لا يكون بإزائه في الخارج شيء، كالرقّيّة والاُبوّة والبنوّة وغيرها من الاُمور الاعتبارية الّتي تنتزع ممّا يكون وعاؤه عالم العين
ص: 64
والخارج، لما فيه حالة أو هيأة أو نسبة له مع غيره، فلا يكون بإزاء هذا القسم من المفاهيم في عالم الخارج شيء غير وجود منشأ إنتزاعه.
وهذه المفاهيم أيضاً على قسمين:
قسم: يكفي فيه تلبّس الذات بالمبدأ آناً مّا ومجرّد حدوث المبدأ في الذات لاعتباره وإنتزاعه، كالاُبوّة والبنوّة، ولا يحتاج صدق المفهوم على الذات - في هذا القسم - إلى بقاء المبدأ وما هو ملاك الحمل وحيثية الصدق؛ إذ بمجرّد حدوث الإبن ينتزع معنى الاُبوّة والبنوّة، فيصحّ حمل مفهوم الاُبوّة على الأب ولو كان ذلك بعد موت الإبن، وبالعكس.
وقسم: لا يكفي فيه مجرّد الحدوث، بل يكون الانتزاع والاعتبار دائراً مدار بقاء المبدأ، فبقاء صدق المفهوم منوطٌ ببقاء المنتزع منه لا مجرّد حدوثه، كانتزاع الفوقية والتحتية من شيئين إذا كان أحدهما أعلى من الآخر.
المراد بالحال في عنوان المسألة،((1)) ليس الحال المذكور في الفعل - الّذي هو أحد الأزمنة الثلاثة - فلا ينبغي توهّم كون النزاع في أنّ مفهوم المشتقّ مقيّد بزمان الحال أو أنّه أعمّ من ذلك، بل مرادهم بالحال حال النسبة والجري.
نعم، حيث إنّ النسبة واقعةٌ في زمانٍ تكون زمانيةً لا محالة، فمفهوم المشتقّ كما لا يكون مقيّداً بمكانٍ لا يكون مقيّداً بزمانٍ أيضاً؛ فالمكان والزمان بالنسبة إلى مفهوم المشتقّ على حدّ سواء.
ص: 65
المراد بالأعمّ ليس الأعمّ المذكور في المنطق الّذي هو في مقابل الأخصّ ويكون أكثر أفراداً من الأخصّ، كالحيوان في قبال الإنسان، بل المراد منه هنا أطولية زمان صدق المفهوم على المصداق، فالمصداق على كلا القولين واحدٌ إلّا أنّه على القول بالأخصّ يكون عمره أقصر من المصداق الّذي يفرض على القول بالأعمّ.
وبعبارة اُخرى: زمان صدق المفهوم على الذات يكون أطول على القول بالأعمّ من زمان صدقه على القول بالأخصّ.
***
إذا عرفت هذه المقدّمات فاعلم: أنّ محلّ النزاع في المشتقّ، وما به يرجع روح الاختلاف في المقام، هو: أنّ المشتقّات الجارية على الذوات هل تكون حقيقة في المتلبّسة بالمبادئ في الحال، أو فيما يعمّها وما انقضت عنها؟ بعد الاتّفاق على مجازيّتها فيما إذا استُعملت واُريد بها من يتلبّس بالمبدأ في الاستقبال.
وبعبارة اُخرى: هل الضارب والشارب وأمثالهما من الأعراض المفارقة تصدق على من كان متلبّساً بالضرب أو الشرب في حال النسبة وجري المفهوم على الذات، أو تصدق على من تلبّس بالمبدأ ولو لم يكن في حال النسبة والجري متلبّساً بالمبدأ؟ بمعنى أنّ من انقضى عنه المبدأ يكون باقياً على مصداقيته للضارب والشارب ببقاء ذاته، لا أنّه في حال التلبّس يكون مصداقاً لهما وفي حال الإنقضاء لا يكون كذلك.
والحاصل: أنّ حقيقة النزاع راجعة إلى أنّ هذا الفرد الّذي صدق عليه مفهوم في زمان مّا، من جهة تلبّسه بالمبدأ في ذلك الزمان، هل يكون باقياً على حاله ومصداقيته لذلك المفهوم بعد انقضاء المبدأ أم لا؟
ص: 66
لا يخفى عليك: أنّ النزاع في المقام: إمّا أن يكون عقلياً بمعنى أنّه هل يصدق عقلاً مفهوم الضارب والناصر وغيرهما على من تلبّس بمبدئهما في الزمان الماضي كما يصدق عليه في زمان التلبّس، أو أنّه لا تصدق عليه تلك المفاهيم إلّا في حال التلبّس بالمبدأ فحسب؟
وإمّا أن يكون النزاع لغوياً، بمعنى أنّ الموضوع له في أسماء الفاعلين وغيرها هل هو المتلبّس بالمبدأ في الحال، أو أعمّ منه وممّن انقضى عنه المبدأ؟
فإن كان النزاع عقلياً: فالقول بالأعمّ ضعيف، يظهر وجهه بالمراجعة إلى المقدّمات المذكورة؛ لأنّه بعد العلم بأنّ حيثية صدق الضارب أو القاعد وملاك الحمل في أمثالهما من المفاهيم الجارية على الذوات ليست إلّا تلبّس الذات بالمبدأ واتّحاده معها، يحكم العقل بعدم صدق تلك المفاهيم بعد زوال حيثية الصدق ومناط الحمل على من كان متلبساً بالمبدأ في الزمان الماضي. فكما أنّه لا يصدق مفهوم من هذه المفاهيم على ذات قبل أن تتلبّس به لكون الذات فاقدة لما هو مناط الصدق، كذلك لا يصدق عليها أيضاً بعد انقضاء زمن التلبّس؛ وذلك لعدم
الفرق بين ما قبل زمان التلبّس وما بعده.
نعم، إذا كان تلبّس مّا كافياً في اعتبار المفهوم وصدقه على الذات، كما أشرنا إليه في المقدّمة الثالثة، فلا مانع من حمل المفهوم على الذوات بعد انقضاء تلبّس الذات بالمبدأ؛ لأنّ ملاك صدق المفاهيم الّتي تكون من هذا القبيل ليس إلّا الأمر الاعتباري الّذي ينتزع من تلبّس الذات بالمبدأ، وهو موجود في عالم الاعتبار، ولا يلزم لاعتبار المفهوم شيءٌ أزيد من حدّوث المبدأ. فعلى هذا ولو كان منشأ الانتزاع متصرّماً لكن ملاك الصدق - وهو الاعتبار - موجود في عالم الاعتبار حتى بعد انقضاء منشأ الانتزاع.
ص: 67
ولكنّه لا يخفى عليك: أنّ هذا الفرض لا يكون جارياً في المشتقّات، كأسماء الفاعلين والمفعولين ممّا هو داخلٌ في محلّ النزاع وموضع النقض والإبرام؛ لأنّ مثل هذا التلبّس (تلبس مّا)، لا يكفي في اعتبار المفهوم في باب المشتقّات، بل صدق المفهوم على الذات يكون دائراً مدار بقاء تلبّس الذات بالمبدأ، كما لا يخفى.
فقد ظهر ممّا ذكرنا ضعف قول القائلين بالأعمّ؛ لأنّ التفريق بين من يتلبّس بالمبدأ في الاستقبال وبين من انقضى عنه المبدأ، تحكّم ومستلزم للترجيح بلا مرجّح.
وأمّا إن كان النزاع لغوياً: فتصوّر مفهوم الموضوع له على القول بالأخصّ في غاية السهولة؛ لأنّ الموضوع له على هذا القول: ذات اتحدت مع المبدأ بنحو من أنحاء الاتّحاد. وأمّا على القول الآخر: فتصوّر مفهومه في غاية الإشكال. نعم، بعد التامّل يمكن تصوّر مفهوم منتزع عن الذات لأجل تلبّسها بالمبدأ في حالة من الحالات، مثل: كون الشيء بحيث ضرب أو قام.
وأظنّ أنّ هذا كافٍ في إبطال القول بالأعمّ. مضافاً إلى أنّ دعوى أنّ واضع الألفاظ في کلّ لغةٍ إذا وضع أسماء الفاعلين وغيرها وضعها للأعمّ ممّن تلبّس بالمبدأ في الحال وممّن انقضى عنه، دون من يتلبّس به في الاستقبال، دون إثباتها خرط القتاد.
ثم إنّه قد أفاد بعض أفاضل عصرنا(قدس سره): أنّ النزاع في المقام واقعٌ في أنّ المشتقّ هل وضع لحصّة من الذات، وهي الّتي التئمت مع المبدأ، بمعنى أنّ الموضوع له، هذه الحصّة الملتئمة مع المبدأ، أو أنّه موضوع لذاتٍ التئمت مع المبدأ في وقتٍ مّا؟
وفيه ما لا يخفى.
الأوّل: قد ظهر ممّا ذكرناه خروج الجوامد الجارية على الذوات عن محلّ النزاع وإن
ص: 68
ذهب بعضهم إلى دخولها في حريم النزاع، وتبعهم المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفاية،((1)) واستشهد عليه بما عن الإيضاح((2)) فيمن كانت له زوجتان كبيرتان مدخولتان وزوجة صغيرة، فأرضعت الكبيرتان زوجته الصغيرة - على الترتيب - حيث قال: إنّه تحرم الكبيرة الاُولى والصغيرة. أمّا الثانية ففي حرمتها خلاف، واختار والدي المصنّف((3)) وابن إدريس((4)) حرمتها؛ لأنّ هذه يصدق عليها أنّها اُمّ زوجته، لأنّه لا يشترط في صدق المشتقّ بقاء المشتقّ منه.
وما في المسالك((5)) أيضاً من ابتناء حكم هذه المسألة على الخلاف في المشتقّ.
وتوضيح الوجه في عدم جريان النزاع بناءً على كونه لغوياً هو: أنّ الموضوع له على القول بالأعمّ ذلك الأمر الاعتباري المنتزع عن الزوجية - أي العلاقة الثابتة بين الزوج والزوجة - في حال ثبوتها، فما دامت الزوجية والرابطة الخاصّة بين الزوجين باقية يصدق الزوج والزوجة، وإلّا فبمجرّد زوالها يزولان؛ إذ هما حاكيان عن تلك العلاقة وثبوتها. وليس لهما مفهوم آخر غيرها حتى يصدقا بسبب ذلك المفهوم على من كان في الزمان الماضي زوجاً لامرأةٍ أو زوجةً لرجل.
وأمّا بناءً على كون النزاع عقلياً، فيمكن القول بعدم الفرق بين الجوامد والمشتقّات،
ص: 69
ولكنّه قد ذكرنا ما يظهر به فساد القول بالأعمّ، وأنّ الأمر يدور مدار وجود المناط وجهة الصدق، مثل وجود الزوجية في المثال، فمع وجودها يصحّ إطلاق الزوج أو الزوجة على الذات، ولا يصحّ مع عدم وجود الملاك.
ثم إنّه يمكن أن يؤتى بالمثال لما نحن فيه بوجهٍ آخر، وهو: فيما إذا كانت للمرء زوجةٌ صغيرةٌ فطلّقها وبعد الطلاق أرضعتها إمرأته، فلو قيل بأنّه يصدق على المرضعة أنّها اُمّ زوجته لا يجوز له نكاحها، وأمّا لو قيل بعدم صدقها عليها فيجوز له نكاحها.
والظاهر أنّ منشأ التعرّض لبيان المثال الأوّل وجوده في الرواية الّتي فيها تخطئة ابن شبرمة القائل بحرمة المرضعة الثانية أيضاً، فبيّن الإمام أبو جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خطأه بقوله: «حرمت عليه الجارية وامرأته الّتي أرضعتها أوّلاً، وأمّا الأخيرة فلم تحرم عليه لأنّها أرضعت ابنته».((1))
وهنا ظهر عدم ابتناء حرمة المرضعة الاُولى على النزاع في المشتقّ.
وأمّا ما قيل في ابتنائه على ذلك بأنّ الاتّصاف بالاُمومة إنّما يكون في وقت خروج الصغيرة عن الزوجية وصيرورتها بنتاً فلا تكون الكبيرة الاُولى في زمانٍ من الأزمنة اُمّ الزوجة الفعلية حتى تحرم عليه، وإنّما هي اُمّ من كانت زوجته فتبتني حرمة الاُولى أيضاً على ما حقّق في مبحث المشتقّ.
فواضح الفساد؛ لأنّ زوال الزوجية معلولٌ لتحقّق عنوان الاُمومة، والمعلول يكون متأخّراً عن علّته رتبةً بالضرورة، فتحقّق عنوان الاُمومة يكون متقدّماً على زوال عنوان الزوجية، كما لا يخفى.((2))
ص: 70
التنبيه الثاني: لا يذهب عليك أنّه لا يفرق في ما نحن فيه اختلاف مبادئ المشتقّات، وكونها في بعضها حرفة، وفي بعضها ملكة، وفي بعضها غيرهما.((1)) كما أنّه لا يفرق في ما نحن بصدده اختلاف أنحاء التلبّسات، فمنها ما يكون تلبّس الذات به بنحو الحلول كالعلم، فإنّ كيفيّة تلبّس الذات (وهو العالم) به يكون حلولياً؛ ومنها ما يكون التلبّس به بنحو الصدور كالضرب، إذا كان المشتقّ اسم الفاعل؛ ومنها ما يكون بنحو الوقوع كالمضروب؛ ومنها ما يكون على نحو الظرفية وكون الذات ظرفاً للمبدأ كاسم الزمان والمكان.
فإذا نظرنا إلى مبدءٍ كالضرب، فكما أنّ وجوده محتاجٌ إلى شخص يصدر عنه الضرب وهو الضارب (اسم الفاعل)، كذلك هو محتاج إلى شخص يقع عليه وهو المضراب (اسم المفعول)، وإلى آلة بتوسطها يصدر الضرب من الضارب ويقع على المضروب وهي المضرب (اسم الآلة)، وإلى زمان يقع فيه الضرب وهو المضرب (اسم الزمان)، وإلى مكان يقع فيه الضرب وهو المضرب أيضاً (اسم المكان). فالمبدأ في المثال هو الضرب، واختلافه مع سائر المبادئ، كالعلم والكتابة، غير تغاير أنواع التلبّسات الواقعة في اسم فاعله ومفعوله وآلته واسم زمانه ومكانه، فتغاير المبادئ بعضها مع بعض غير تغاير أنحاء التلبّسات بالنسبة إلى مبدأ واحد، فالضرب مبدأ واحد لكن التلبّس به يكون بنحو الصدور كالضارب وبنحو وقوعه على الذات كالمضروب، وبنحو كون الذات آلة لصدور المبدأ من الفاعل ووقوعه على المفعول كالمضرب، وبنحو الظرفية كالمضرب.
هذا، وليكن ما ذكرنا من الفرق بين اختلاف المبادئ وأنواع التلبّسات استدراكاً على الكفاية فإنّها غير متعرّضةٍ لذلك.
التنبيه الثالث: ربما تُوهّم عدم جريان النزاع في أسماء الأزمنة؛ لأنّ الذات فيها وهي
ص: 71
الزمان بنفسه ينقضي ويتصرّم، فلا يمكن وقوع النزاع في أنّ الوصف الجاري عليه حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال، أو فيما يعمّ ما كان متلبّساً به في الماضي؟
وقد أجاب عنه في الكفاية: بأنّ انحصار مفهوم عامّ بفردٍ، غير موجب لكون اللفظ موضوعاً بإزاء ذلك الفرد دون العامّ، وإلّا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة، بأنّه وضع لمفهوم عامّ - مع القطع بانحصاره في الفرد الواحد الأحد جلّ جلاله - أو هو موضوع للفرد.((1))
ويمكن الجواب بأنّه بعد قيام البرهان على بطلان الجزء الّذي لا يتجزّأ وتتالي الآنات لا مجال للقول بأنّ للزمان أجزاءً لا تتجزّأ وآناتٍ متتالية، بل لابدّ من القول بأنّ للزمان وحدة اتّصالية تدريجية هي عين الوحدة الشخصية، فإنّ بعض الحقائق تصرّمه عين بقائه وتجدّده وانقضاؤه عين وجوده، فامتداد الزمان من الاُمور الّتي لا تناهي لها ويكون بعينه ظرفاً للأشياء، ولكنّه مع تصرّمه وتجدّده شيء واحد.
فعلى هذا، تكون الذات في الزمان باقية؛ إذ تصرّمها عين بقائها، فلا مانع من وقوع أسماء الأزمنة تحت النزاع أيضاً.
التنبيه الرابع: لا إشكال في خروج سائر المشتقّات من قبيل الأفعال والمصادر المزيد فيها عن حريم النزاع؛ لعدم كونها جارية على الذوات.
ذكر المحقّق الخراسانى(قدس سره) في المقام عدم دلالة الأفعال على الزمان، وبرهن عليه بما في الكفاية وبعض فوائده.((2))
ص: 72
ولكن لا يخفى عليك: أنّ ما اختاره في الأمر والنهي صحيح؛ لأنّ مدلولهما مجرد البعث والزجر ولا دلالة لهما على الزمان.
وأمّا الفعل الماضي والمضارع فلا شبهة في كون الزمان مأخوذاً في مدلولهما، ومن الواضح عدم وجود فرق بين «ضَرَب» في اللغة العربية و«زد» في الفارسية وما يراد منهما في سائر اللغات، وبين «يضرب» و«می زند» وما يراد منهما في سائر اللغات إلّا من جهة دلالة «ضَرَبَ» على سبق وقوع الفعل، ودلالة «يضرب» على وقوع الفعل في حصّة من الزمان الصادقة على الحال والاستقبال، فيكون الفعل المضارع مشتركاً معنويّاً بين الحال والاستقبال.
ثم إنّه ذكر المحقّق الخراساني(قدس سره) هنا كلاماً في المعنى الحرفي يخالف المشهور من النحاة أيضاً، وقد استقصينا الكلام فيه سابقاً فلا نعيده خوفاً من الإطالة. هذا تمام الكلام في المقدّمات.
وأمّا الكلام في تأسيس الأصل في المسألة، فاعلم: أنّه لا أصل في المسألة على نحو كلّي يعوّل عليه عند الشكّ في أنّ ما يصدق عليه الضارب - مثلاً - هو الذات مادام تلبّسها بالمبدأ باقياً، أو أنّه الذات ولو بعد انقضاء تلبّسها؟
وأمّا الاُصول العملية في الموارد الجزئية فتختلف بحسب اختلاف الموارد، ففي مثل كراهة البول تحت الأشجار المثمرة يكون الأصل البراءة إذا انقضى عن الشجر المثمر التلبّس بالمبدأ قبل حكم الشارع بالكراهة، ويكون المرجع الاستصحاب إذا انقضى عنه بعد حكمه بالكراهية.
وكيف كان، فقد اختلفوا في أصل المسألة، فمنهم من زعم أنّ المشتقّ حقيقة في
ص: 73
الأعمّ مطلقاً. ومنهم من ذهب إلى أنّه حقيقة فيه إذا كان المشتقّ محكوماً عليه، وفي المتلبّس في الحال إذا كان محكوماً به. واختار بعضهم غير ذلك من الأقوال.((1))
والحقّ ما ظهر من مطاوي ما ذكرناه، وهو كونه حقيقة في من تلبّس بالمبدأ في الحال.
وقد مضى ما يظهر به صحّة القول بكون المشتقّ موضوعاً للأخصّ وضعف القول بالأعمّ.
وصفوة القول بعد ما صارت الجهة المبحوث عنها في المسألة - وهي أنّ حيثية صدق القائم على الذات هل هي القيام بالفعل أو مفهوم يعمّ حال التلبّس والإنقضاء؟- معلومة، أن نقول للقائل بالأعمّ المدّعي للتبادر: كيف يمكنكم إثباته والاستدلال به؟ وقد تبيّن فيما سبق خفاء حيثية الصدق في عالم الاعتبار وعدم وضوحها إلّا بعد التامّل، فما معنى هذا التبادر؟ وأيّ معنى ينسبق إلى الذهن بعد هذا الغموض؟
بيان ودفع إشكال: لا يخفى أنّ المشتقّات المستعملة في لسان أهل المحاورة تارة: تستعمل لأجل مجرّد بيان اتّحاد الذات مع المبدأ استعمالاً حقيقياً، أي في الموضوع له، ففي مثل هذا المورد تجعل الذات موضوعاً والمشتقّ محمولاً، كما في قولنا: زيدٌ ضاربٌ.
وتارة اُخرى: تستعمل لأجل جعلها مرآة لملاحظة الغير، وهذا كما إذا عرف المخاطب الشخص الّذي صدر منه الضرب بعينه ولم يعرفه باسمه، فيقال له: أكرم الضارب، بحيث يجعل الضارب مرآة وآلة لملاحظة الذات الصادر عنها الضرب. وهذا قد استعمل أيضاً في معناه الحقيقي، وبسبب استعماله في ذلك المفهوم يلتفت المخاطب إلى الشخص المعهود.
ص: 74
وثالثة: تستعمل لأجل دخالتها في الحكم وعليّتها له، كما إذا قال: أكرم العالم؛ فإنّ المراد منه بحسب مقدّمات الإطلاق وجوب إكرام كلّ من كان متّصفاً بصفة العلم فعلاً، فلا يتّجه بذلك استدلال القائل بالأعمّ((1)) بقوله تعالى: ﴿السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾،((2)) وقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّاني فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾؛((3))
حيث يترتّب القطع والجلد بعد انقضاء التلبّس وليس حين التلبّس بالسرقة أو الزنا.
وذلك لعدم التنافي بين ما قلناه وبين ترتّب القطع والجلد في الموردين بعد انقضاء التلبّس؛ لأنّ الحكم بالقطع والجلد يستفاد من مناسبة الحكم والموضوع، حيث إنّهما من وظائف السائسين والحكّام، فلا يمكن أن يكون المراد وجوب إجراء الحدّ على من كان مشغولاً بالزنا والسرقة.
ورابعة: تستعمل في المعنى الحقيقي أيضاً لأجل نفي الحكم عن الذات المتّصف بصفة ولو آناً مّا، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَ-مَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّال-ِمين ﴾،((4)) حيث إنّ المستفاد من قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ﴾ وطلب إبراهيم جعل الإمامة في ذريّته بقوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتي﴾ وإضافة العهد إلى ياء النفس، أنّ منصب الإمامة منصب خطير عالٍ إلهيّ، وأنّ الإمام لابدّ أن يكون منصوباً من الله تعالى، ونصبه من وظائف مقام الربوبية وخصائصه، فلا ينال هذه الدرجة الرفيعة من كان متلبّساً بالظلم ولو آناً مّا. ومقتضى الجمع المحلّى باللام عدم نيل جميع أفراد الظالمين لهذا المقام، هذا.
ولا يخفى، أنّه لا يصحّ أن يكون المراد في الآية الشريفة أنّ المتلبّس بالظلم في حال
ص: 75
الظلم لا ينال عهد الله تعالى؛ لأنّ الظلم ليس من الأوصاف الملازمة للإنسان، بل يكون من الأعراض المفارقة، فإذا قلنا: الظالم لا يتصدّى منصب الحكومة أو السلطنة، فمعناه أنّ من اتّصف بهذه الصفة ولو في وقت من الأوقات غير لائقٍ لحيازة هذا المنصب. ولو كان المراد عدم نيل الظالم له في حال الظلم، لزم من ذلك لياقة كلّ الناس لذلك المنصب الرفيع؛ لأنّه لا يوجد واحد من الظالمين قد تلبّس بالظلم في جميع الأزمنة، كما هو واضح.
لا يخفى عليك: أنّ مفهوم المشتقّ بسيطٌ. ومعناه أنّه عند الإطلاق لا يجيء إلى الذهن من الضارب والعالم مثلاً إلّا الضرب والعلم مبهماً ولا بشرط. نعم، في بعض المشتقّات يكون مفهومه مركباً لأجل تركّب مفهوم مبدئه.
ولا يخفى عليك أيضاً: أنّ مفهوم الذات والشيء غير معتبرٍ في مفهوم المشتقّ على کلّ حالٍ. ومن قال باعتبار أحدهما في مفهوم المشتق إنّما أراد من ذلك اعتبار مصداق الشيء أو الذات في مفهومه، هذا. وقد وقع النزاع في بساطة مفهومه وعدمها بين صاحب الكفاية وصاحب الفصول.((1))
واستدلّ في الكفاية على بساطته بما حقّقه المحقّق الشريف من أنّه لو اعتبرنا مفهوم الشيء في مفهوم الناطق مثلاً، يلزم دخول العرض العامّ في الفصل؛ ولو اعتبرنا ما هو مصداق الشيء، كالإنسان مثلاً، في قولنا: الإنسان ضاحك يلزم انقلاب القضیّة
ص: 76
الممكنة إلى الضرورية؛ لأنّ الشيء الّذي له الضحك هو الإنسان وثبوته لما جعل في القضیّة موضوعاً - وهو الإنسان - ضروريّ.((1))أقول: لا يخفى عدم لزوم المحال من ذلك أصلاً. غاية الأمر أنّه يلزم من صحّة الشقّ الأوّل عدم كون الناطق - مجرّداً - فصلاً، خلافاً لما ذهب إليه المنطقيّون من جعله فصلاً مجرّداً عن الذات.
وأمّا صحّة الشقّ الثاني فغير ملازمة للانقلاب، بل لا يلزم منها إلّا كون القضیّة الّتي زعمها المنطقيّون ممكنةً ضروريةً من أوّل الأمر، لا أنّها كانت ممكنةً ثم انقلبت إلى الضروریّة.
وقال في الكفاية بعد الجواب عمّا أجاب به الفصول باختياره الشقّ الأوّل لدفع الإشكال: «والتحقيق أنّ مثل الناطق ليس بفصل حقيقيّ، بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصّه، وإنّما يكون فصلاً مشهورياً منطقياً يوضع مكانه إذا لم يعلم نفسه بل لا يكاد يعلم... إلخ».
وفيه: أنّه كان من الممكن أن يجعلوا الفصل «النطق»، فافهم.
وأجاب عمّا ذكر في الفصول (من اختياره الشقّ الثاني ودفع الإشكال بأنّ المحمول ليس مصداق الشيء مطلقاً بل مقيداً بالوصف، وليس ثبوته للموضوع حينئذٍ ضرورياً): «بأنّ عدم كون ثبوت القيد ضرورياً لا يضرّ بدعوى الانقلاب... إلخ».
وفيه: أنّ المحمول في القضیّة بناءً على اعتبار مصداق الشيء في مفهوم المشتقّ يكون مجموع قولنا: «إنسان له النطق» فالمقيّد بما أنّه مقيّد ومع قيده يكون محمولاً لا مطلقاً، فتأمّل جيّداً.
ص: 77
ثم لا يذهب عليك: أنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) ذهب إلى خلاف ما يستفاد من كلامه في أوّل الأمر من بساطة مفهوم المشتقّ، فاختار في آخر هذا المبحث تركّب مفهومه. ومحصّل ما أفاده في المقام بعد هذه المناقشات مع الفصول: أنّ مفهوم المشتقّ إنّما يكون بسيطاً بالنظر البدويّ، ولكنّه بعد التأمّل يظهر كونه مركّباً.
وهذا كلام غريبٌ منه؛ لأنّ غالب المفاهيم بل كلّها تجيء إلى الذهن بنحو البساطة، ولا يظهر بعد التامّل كونه مركّباً إلّا أن يكون مفهوم مبدئه كذلك.
لا فرق بين المبدأ والمشتقّ بحسب المفهوم، فمفهوم المشتقّ يكون عين مفهوم المبدأ وبالعكس، فلا فرق بين الضارب والضرب، والعالم والعلم، والضاحك والضحك. ولو قيل بأنّ الضارب هو الذات الّتي صدر عنها الضرب، أو العالم ذات ثبت لها العلم مثلاً؛ فإنّما هو لأجل تفهيم المطلب على المتعلّمين.
نعم، يظهر من هذه العبارات كون معنى الضرب نوع فعل يصدر من الذات، والعلم نوع شيء يحلّ فيها، وهذا یدلّ على اختلاف أنحاء التلبّسات، ولا ربط له بما نحن فيه.
إن قلت: فعلى هذا، لا مانع من حمل المبدأ على الذات أيضاً كالمشتقّ.
قلت: المانع كون المبدأ آبياً عن حمله على الذات، بخلاف المشتقّ فإنّه لا يأبى عن ذلك؛ لأنّ المشتقّ مفهومه الضرب مثلاً، ولكن بحيث يمكن أن يكون تمام تحصّله ذلك أو جهة اُخرى، فالضرب المبهم مفهوم المشتقّ بخلاف المبدأ، فإنّ مفهومه هو الضرب الّذي كان تمام تحصّله ذلك، ولا يكون فيه إبهام، فيكون المانع من حمل المبدأ على الذات كون المفهوم في المشتقّ لا بشرط وفي المبدأ بشرط لا.
ص: 78
وليس المراد من لا بشرطية المشتقّ وبشرط لائية المبدأ ما يراد منهما في مبحث الماهية، بل هو ما يراد منهما في الفرق بين الجنس والفصل والمادّة والصورة.
وتوضيح ذلك: أنّ المرکّبات على قسمين:
قسمٌ تكون له أجزاء في الخارج وإن كان يعدّ في نظر العرف شيئاً واحداً، وتتصوّر له ماهية واحدة بحيث تسع وتشمل جميع الأجزاء؛ ففي هذا القسم لا يصحّ حمل الجزء على الكلّ وحمل الكلّ على الجزء. والوحدة فيه تكون لا محالة اعتبارية، والكثرة حقيقية، وتركيبه يكون تركيباً انضمامياً.
وقسم ليس له أجزاء في الخارج وإن كان عند التأمّل والاعتبار ينحلّ إلى جزءين أو إلى أجزاء؛ ففي هذا القسم يكون الجزء عين الكلّ والكلّ عين الجزء، وتكون وحدته حقيقية، كما تكون كثرته اعتبارية، كالإنسان، وتركيبه يكون اتّحادياً.
وفي هذا القسم ذهب أهل المعقول إلى أنّ مجرد ذلك لا يصير موجباً لصحّة حمل الجزء على الكلّ والكلّ على الجزء؛ لأنّا إذا نظرنا إلى شيء فتارة نراه تامّ التحصّل بحيث لا تفرض في رؤيتنا جهة إبهام، وتارة نراه مبهماً ومن غير أن يكون تمام تحصّله ما يقع تحت نظرنا من حالاته وكيفياته، بل بحيث يمكن أن تكون له تحصّلاتٌ وتشخّصاتٌ غير ذلك، مثلاً: إذا نظرنا إلى البحر فتارة يكون نظرنا مقصوراً على الماء الموجود في المكان الكذائي المحدود بحدودٍ خاصّةٍ بحيث يكون تمام تحصّله وجوده في هذا الحدّ من المكان، فلو نظرنا إلى البحر في مكان آخر نحكم بمباينة الماء الموجود في هذا المكان مع الماء الّذي رأيناه سابقاً، وتارة ننظر إلى الماء الّذي يكون في مكان من البحر، ولكن لا من جهة كونه في هذا المكان ومحدوداً بحدٍّ خاصّ، ومن غير أن يكون تمام تحصّله وجوده في ذلك المكان وتخصّصه بهذه الخصوصيات، ففي هذه الصورة يكون الماء الموجود في مكانٍ آخر من البحر عين هذا الماء، بحيث لو قلنا بأنّ هذا هو ما نراه سابقاً لكان صحيحاً.
ص: 79
إذا عرفت ذلك، فنقول: إذا نظرنا إلى الحيوان وأخذنا تحت النظر تمام الماهية المشتركة بين الإنسان والبقر والغنم وغيرها، بحيث يكون تمام تحصّله ذلك، وكذلك لو نظرنا إلى الناطق بما أنّه مميّز الإنسان عن سائر الأنواع، فبحسب هذا النظر لا يمكن حمل أحدهما على الآخر، فلا يصحّ أن يقال: «الناطق حيوان أو الحيوان ناطق»، ولا يمكن حمل الإنسان عليهما، وحملهما عليه. وهذا ما يعبّر عنه بالمادّة والصورة العقلية، ويكون التركيب بينهما انضماميّاً.
وأمّا لو نظرنا إلى الحيوان لا بنحو يكون تمام الماهية المشتركة بين الإنسان وسائر الأنواع، بل نظرنا إليه وأخذناه مبهماً من دون أن يكون تمام تحصّله كونه تمام الماهية المشتركة بين الإنسان وغيره، أو شيء آخر. كذلك في طرف الناطق إذا أخذناه تحت النظر من غير أن يكون تمام تحصّله جهته المميّزة، أو جهة اُخرى، فلا مانع من حمل أحدهما على الآخر، فيصحّ أن يقال: بأنّ «الناطق حيوان والحيوان ناطق»، وحمل الإنسان عليهما، وحملهما عليه بأن يقال: «الإنسان حيوان والحيوان إنسان، أو الناطق إنسان والإنسان ناطق». ويعبّر عن هذا بالجنس والفصل، ويكون التركيب بينهما اتّحادياً.
وبما ذكرنا ظهر الفرق بين المادّة والصورة والجنس والفصل، فالجزء المتصوّر إذا اُخذ كما ذكرنا لا بشرط يكون جنساً أو فصلاً، وإذا اُخذ بشرط لا يكون مادّة أو صورةً.
واللا بشرط المذكور في المقام وكذا البشرط لا غير ما هو المذكور في تقسيمات الماهية واعتباراتها، فتارةً: تعتبر الماهية بشرط الوجود ويعبّر عنها بالماهية بشرط شيء، وتارة: تعتبر بشرط لا وهي الماهية الّتي لا يكون لها حظٌ من الوجود، وثالثة: تعتبر لا بشرط أن يكون معها الوجود.
ولا يخفى عليك: أنّ الفرق بين اللا بشرطية المذكورة في مبحث الماهية واللا بشرطية المذكورة في الجنس والفصل: أنّ الماهية في الأوّل تلحظ لا بشرط وبدون القيد حتى
ص: 80
اندكاكها في القيد، بخلاف الأخيرة، فإنّ الماهية تكون ملحوظة بما أنّها مندكّة في القيود سواء كان تمام تحصّلها وحيثيّتها بما نرى من القيود، أو كان بأشياء اُخر.
ثم إنّه قد ظهر ممّا ذُكر وجه ما أفاده أهل المعقول من كون کلّ من الجنس والفصل جزءاً للحدّ لا المحدود، لأنّ فرض كونهما جزءين للمحدود منافٍ لحمل أحدهما على الآخر، وحمل الكلّ على الجزء، فلو قلنا في تعريف الإنسان بأنّه حيوانٌ ناطقٌ، لا يكون الحيوان وكذا الناطق جزءاً للإنسان بل هما جزءان لحدّه.
ولا يخفى عليك: أنّ مبنى القول بلا بشرطية المشتقّ وبشرط لائية المبدأ ثلاثة اُمور:
أحدها: كون الأعراض من مراتب وجود المعروضات وأنحائه، فإذن لا محالة يكون التركيب بين العرض والمعروض اتّحادياً.
ثانيها: قول أهل المعقول بأنّ الفرق بين الجنس والفصل والمادّة والصورة العقليتين كون الأوّليين لا بشرط والاُخريين بشرط لا.
ثالثها: كون المشتقّ بالنسبة إلى الذات عرضاً والذات معروضة.
هذا، ولا يذهب عليك عدم صحّة ما أفاده في الكفاية((1)) في معنى لا بشرطية مفهوم المشتقّ من كونه غير آبٍ عن الحمل، وفي معنى بشرط لائية مفهوم المبدأ من كونه آبياً عن الحمل، وذلك لما ذكرنا في مقام الفرق بينهما من أنّه إذا لوحظ الشيء تامّ التحصّل وبأن يكون الملحوظ تمام حيثيته الوجودية ووضعنا اللفظ بإزائه يصير المفهوم بشرط لا وآبياً عن الحمل. وإذا اعتبرناه غير تامّ التحصّل بل بنحو يمكن أن يكون تمام تحصّله وحيثيته الوجودية ما نرى منه من القيود، ويمكن أن يكون تحصّله لجهاتٍ اُخرى يصير مفهوم اللفظ لا بشرط ولا يأبى عن الحمل، فتدبّر.
ص: 81
لا ريب في صحّة حمل القادر، والعالم، والحيّ، والمريد، وغيرها من الأسماء الحسنى على الله تعالى، إلّا أنّه لمّا يتراءى لزوم تغاير المبدأ مع ما يجري عليه المشتقّ ولم يكن لله تعالى حيثٌ وحيثٌ بمعنى أنّه لا تكون له حيثيةٌ يصدق عليه لتلك الحيثية أنّه عالمٌ وحيثيةٌ اُخرى موجبة لصدق القادر، أو الدائم، أو القديم، أو غيرها عليه تعالى؛ وإلّا لزم تركّب ذاته المقدّسة.
ذهبت الأشاعرة((1)) إلى قيام العلم والقدرة وسائر الصفات بذاته المقدّسة وتغايرها معها، وأنّ کلّ هذه الصفات قديمة كذاته تعالى، لأنّه لو لم تكن قديمة يلزم خلوّ ذاته تعالى عنها في رتبته المتقدّمة على قيام الصفات به تعالى.
ولازم قولهم هذا تعدّد القدماء، وفساده من الواضحات.
ولذا ذهبت المعتزلة((2)) إلى القول بنيابة الذات عن هذه الصفات، بمعنى أن ليس لله تعالى علمٌ، ولا قدرةٌ، ولا الصفات الاُخرى، ولكن يظهر منه آثار هذه الصفات.
تعالى الله عمّا يقول الأشاعرة والمعتزلة علوّاً كبيراً.
والتحقيق: عينيّة الصفات والذات، بمعنى كون علمه وقدرته وحياته وغيرها عين ذاته البسيطة، فما هو حيثية صدق العالم والقادر والقديم عليه تعالى، ذاته المقدّسة الأزلية. ولا يلزم تغاير المبدأ ومن يجري عليه المشتقّ؛ لأنّا نرى بالوجدان صحّة حمل القديم على بناءٍ مضى من تاريخ بنائه ألف عامّ بالنسبة إلى بناءٍ قبل خمسمائة عامّ، ولا
ص: 82
يكون معنىً لقدمه إلّا وجوده في تمام هذه المدّة، فلا تكون حيثية صدق القديم عليه غير وجوده الكذائي، ولا يكون ماوراء ذات البناء شيءٌ يكون قائماً به.
وأمّا الحياة فلو كانت حقيقتها ما يتصوّر بالنسبة إلى الإنسان والحيوان - وهو تحقّق علاقة الروح بالبدن، وفي مقابله الموت الّذي هو عبارة عن زوال لياقة البدن لتعلّق الروح به - فلا يخفى عدم تصوّر الحياة بهذا المعنى لله تعالى، بل لا يمكن تصوّر الحياة بهذا المعنى بالنسبة إلى سائر الموجودات الحيّة من الأرواح والملائكة والنبات والجماد.
أمّا لو كان معنى الحياة معنى يصحّ إطلاقه على جميع الموجودات الحيّة وهو ظهور الآثار المترقّبة عن الشيء بأسرها منه، وبهذا المعنى يقال: الله تعالى حيٌّ، والإنسان حيٌّ، والمعدن حيٌّ، والماء حيٌّ، فمعنى كونه تعالى حيّاً بروز جميع آثار واجبية الذات عنه تعالى، وهذا كما ترى لا يكون شيئاً ماوراء الذات حتى يكون قائماً به تعالى. وهكذا نقول في العلم فإنّه الإنكشاف، وهذا أيضاً ليس شيئاً غير الذات.
ص: 83
ص: 84
وفيه فصول:
الفصل الأوّل: فيما يتعلّق بمادّة الأمر
الفصل الثاني: فيما يتعلّق بصيغة الأمر
الفصل الثالث: في الإجزاء
الفصل الرابع: في مقدّمة الواجب
الفصل الخامس: في مسألة الضدّ
الفصل السادس: في أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه
الفصل السابع: في الواجب التخييري
الفصل الثامن: في الواجب الكفائي
الفصل التاسع: في الواجب المطلق والموقّت
الفصل العاشر: في متعلّق الأوامر والنواهي
ص: 85
ص: 86
والكلام فيه يقع في جهات:
قال الجوهري: «أمرته بكذا أمراً. والجمع الأوامر».((1))
ولا يخفى: أنّ جمع الأمر على الأوامر من الجموع النادرة.
والقول بأنّه جمع الآمرة بحذف الموصوف (أي الصيغة أو الكلمة الآمرة) فيكون المراد من الأوامر: الكلمات الآمرة والصيغ الآمرة، بعيد عن الذهن كما يشعر بذلك كلام مولانا أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء كميل: «وخالفت بعض أوامرك»؛ فإنّه بعيد في الغاية حمل لفظ الأوامر المذكور في كلامه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على هذا المعنى، بل المستفاد منه الطلب المخصوص الّذي يكون مرادفه بالفارسية لفظ «فرمان».
وعلى کلّ حال اختلفوا في معنى لفظ الأمر، وذكروا له معاني عديدةً:
منها: الشأن، والطلب، والفعل، والفعل العجيب، والغرض، وغيرها. والظاهر
ص: 87
أن الأمر ليس كذلك في جميع المعاني المذكورة؛ فإنّه لا يستعمل في الفعل في كلامهم. وأمّا قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾؛((1)) فالظاهر أنّ المراد به المعنى الحدثي وما يشتقّ منه الأفعال وغيرها.
وكذلك الفعل العجيب، فلا يستعمل الأمر في كلامهم في الفعل العجيب أيضاً؛ واشتباه بعض الاُصوليين في ذلك إنّما نشأ من موافقة مادّة الأمر بفتح الهمزة مع الإِمر بكسرها، حيث إنّ الإِمر بالكسر بمعنى الفعل العجيب، كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾.((2))
وأمّا الغرض، في مثل قولنا: «جاء زيد لأمر كذا» فإنّ ما یدلّ على الغرض هو اللام ويكون مدخوله مصداقه.
وأظنّ أنّ لفظ الأمر مشترك((3)) بين معنيين:
أحدهما: المعنى الحدثي الّذي تشتقّ منه الأفعال وغيرها.
ثانيهما: المعنى الجامد الّذي يكون عبارة عن الشيء، بل يكون أخصّ منه؛ لأنّ الشيء يطلق على الجواهر، فيقال: زيدٌ شيءٌ، ولا يقال: زيدٌ أمرٌ. ولكن يصحّ قولك: أتيتك لأمر من الاُمور، والأمر الّذي معناه هذا يكون جمعه الاُمور، ولا نظر للاُصولي في تعيين معناه.
اختلف الاُصوليون - بعد اتّفاقهم على دلالة الأمر على الطلب - في اعتبار كون
ص: 88
الطلب من العالي حتى لا يكون الطلب من المساوي، أو السائل أمراً. وكذلك في اعتبار الاستعلاء وعدمه.
والّذي ينبغي أن يقال: إنّ الطلب على قسمين:
قسم: يصدر من الطالب لأجل أن يكون موجباً للانبعاث وسبباً لتحريك الغير، ويكون موجب الانبعاث والتحريك مجرّد ذلك الطلب بدون ضمّ ضميمةٍ.
وقسم: لا يكون كذلك، بل ينشأ الطلب ويضمّ معه شيء آخر من الإصرار والاسترحام والتطميع والتعظيم والدعاء وغيرها، فلا يكون مجرّد إنشاء هذا الطلب باعثاً ومحرّكاً.
فإذا كان الطلب من القسم الأوّل يكون أمراً. وإذا كان من قبيل الثاني يكون سؤالاً أو التماساً. فبناءً عليه لا يعتبر في معناه العلوّ ولا الاستعلاء. نعم، لو طلب المساوي أو السافل بالنحو الأوّل يذمّه العقلاء ويقبّحونه، لأنّ اللائق بهذا الطلب الكذائي إنّما هم الموالي بالنسبة إلى عبيدهم ومن يجري مجراهم.
لا يخفى عليك: أنّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) وإن ذكر في الجهة الثالثة كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب،((1)) ولكن الأولى بيان ذلك في الجهة الرابعة، فإنّ اللازم بيان حقيقة الطلب أوّلاً ثم البحث في أنّ الوجوب الذي هو قسم من الطلب هل هو مفهوم الأمر أم لا؟ فعلى هذا، ينبغي لنا تقديم البحث عن حقيقة الطلب، فنقول بعون الله تعالى:
إنّ القوم حيث قسّموا الطلب إلى قسمين: الوجوب والندب، صاروا بصدد بيان
ص: 89
حقيقة الطلب. وحيث إنّ البحث عن ذلك مرتبط بالبحث عن اتّحاد الطلب والإرادة وعدمه الّذي يكون من شعبات المسألة المعروفة الكلاميّة الّتي وقع فيها الاختلاف بين الأشاعرة والمعتزلة - وهي أنّ صفة التكلّم من صفات الذات، أو الفعل؟ - ساقوا الكلام في تحقيق اتّحاد الطلب والإرادة، ولكن لم يبيّنوا محلّ الاختلاف والنزاع مفصّلاً ولم يأتوا بما يوضّح المرام، بل خرج بعضهم عمّا هو محلّ النقض والإبرام، فاللازم توضيح جهة النزاع ومنشأ الاختلاف بنحو يتّضح روح البحث وما هو الحقّ في المقام.
فنقول: إنّ المسلمين في صدر الإسلام تلقّوا الآيات والأخبار غالباً من غير أن يتعمّقوا في مضامينها ويبحثوا في مراداتها، بل کانوا يأخذونها من صاحب الشرع صلوات الله عليه وآله ويحفظونها ككنوز جواهر لا يعلم حافظها ما فيها، ولمّا وصلت النوبة إلى عصر الصحابة و رأوا شدّة اهتمام الإسلام بتحصيل العلم، والتفتوا إلى أنّ الواجب عليهم تحصيل العلوم، صاروا مهتمّين بتعلّم العلوم وإعمال التفحّص في سبيلها وعقدوا في المساجد حلقات تذاكروا فيها تفسير القرآن المجيد، وتحادثوا بما سمعوه عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). وفي هذا العصر اطّلع المسلمون على ما في أيدي الناس من الأفكار والآراء لأجل اختلاطهم ومعاشرتهم مع غيرهم من الملل المختلفة، لاسيّما في عصر التابعين الّذي كثر فيه الأسرى العارفون بآراء مللهم في مبدأ العالم وصفاته تعالى، وكيفيّة تكوّن العالم وغيرها، وقد كان بعض هؤلاء الأسرى يحضر بعض تلك الحلقات ويطرح هذه الآراء، وكان أكثر تشكيل تلك الحلقات في مساجد مكّة والمدينة المكرّمتين والكوفة والبصرة.
وممّن كان له حلقة بحثٍ في مسجد البصرة الحسن البصري، وربّما حضر في حلقة بحثه بعض المطّلعين على بعض الآراء من الملّيّين، وصارت نظرياته منشأً لبحثهم في صفات الله تعالى، ومزيد اهتمامهم في فهم ما جاء في القرآن الكريم من الصفات الجارية عليه تعالى، كالعالم، والقادر، والمتكلّم، وغيرها. وقد وقع لواصل بن عطاء
ص: 90
أحد تلامذته معه اختلافٌ في بعض المسائل، فاعتزل من حلقته وجلس في ناحية اُخرى من المسجد، ووافقه في الاعتزال بعض التلامذة. ومن ذلك الزمان اُسّس مذهب الاعتزال، إلى أن نشأ أبو الحسن الأشعري الذي كان في بداية أمره من المعتزلة وممّن يرى رأيهم ويسلك سبيلهم، ثم رجع عن ذلك وأخذ طريقة الحسن البصري ومن يحذو حذوه، واهتمّ بردّ آراء المعتزلة وسمّاهم بأهل البدعة، كما سمّى نفسه وموافقيه بأهل السنّة. وذهب في صفات الله تعالى إلى قيامها بالذات قياماً حلولياً. وحيث رأى أنّ القول بحدوث الصفات ملازم لخلوّ الذات منها في المرتبة المتقدّمة على حدوثها ذهب إلى قدم صفاته تعالى، ولم يتحاش من تعدّد القدماء، فخالف المعتزلة الّذين قالوا بالنيابة.
وأثبت الكلّ لله تعالى صفات ثبوتية وسلبية، وأنّ صفاته الثبوتية على قسمين: صفات الذات وصفات الفعل. لکنّهم اختلفوا في التكلّم وكونه من صفات الذات أو الفعل فذهبت المعتزلة((1)) إلى أنّه من صفات الفعل،((2)) كما هو الحق عند الإمامية. وقالوا بأنّنا ما نفهم من الكلام إلّا تلك الأصوات والحروف المسموعة المنتظمة، ولا فرق فيه بيننا وبين الله تعالى، إلّا أنّه تعالى يوجد الكلام في الأشياء كشجرة موسى(عَلَيْهِ السَّلاَمُ). فمعنى التكلم إيجاد الأصوات والحروف.
وذهبت الأشاعرة((3)) إلى أنّ الكلام صفة من صفات الذات، كالعلم والقدرة، ولا فرق فيه بيننا وبينه تعالى. وعبّروا عنه بالكلام النفسي. وقالوا بأنّنا إذا تکلّمنا بکلامٍ فلا
ص: 91
محالة يكون في نفسنا شيء نعبّر عنه بالكلام اللفظي ونحكي بسببه عنه وهذه الصورة النفسية هي ما نسمّيها بالكلام النفسي، والكلام اللفظي حاكٍ عنه.((1))
وقالت المعتزلة في ردّهم: إنّ الكلام لا يخلو إمّا أن يكون من الجمل الخبرية أو الإنشائية، فلو كان من الجمل الخبرية فلا نجد في ذهننا إلّا العلم بما أخبرنا شيئاً نسمّيه بالكلام النفسي. ولو كان من الجمل الإنشائية، فإن كانت الجملة أمرية فلا يكون في أنفسنا بحذائها شيء غير الإرادة، وإن كانت زجرية فلا يكون غير الكراهة، فما هذا الكلام النفسي الّذي تقولون بأنّ الكلام اللفظي يكون حاكياً عنه، ونحن لا نرى بالوجدان غير الإرادة والكراهة والعلم، صفةً اُخرى تكون وراءها.
ومن هنا ظهر منشأ نزاعهم في اتّحاد الطلب والإرادة وعدمه؛ لأنّ من شعب النزاع والاختلاف في الكلام النفسي أنّ الجملة الإنشائية لو كانت بعثية تكون حاكية عن الطلب النفسي الّذي يكون مغايراً للإرادة على مذهب الأشعري.
وأمّا على مذهب المعتزلة فلا يكون شيء في النفس غير الإرادة، وإنّما تكون الجمل الإنشائية الأمرية حاكية عن الإرادة، فيكون الطلب متّحداً مع الإرادة، لكن لا بمعنى اتّحادهما حقيقة، فإنّ الطلب اللفظي وما هو حاكٍ عن الإرادة يكون مغايراً معها بالضرورة، بل مرادهم من الاتّحاد حكاية الجمل الإنشائية البعثية عن الإرادة.
ص: 92
ففي الحقيقة: القول باتّحاد الطلب والإرادة راجع إلى إنكار الطلب النفسي، وأ نّه لا يكون غير الإرادة في النفس شيء نسمّيه بالطلب النفسي. كما ظهرت أيضاً مناسبة البحث عن الطلب والإرادة في الاُصول في هذا المقام.
والحاصل: أنّ النزاع واقع في أنّه هل توجد صفة في النفس غير الإرادة یدلّ عليها الطلب اللفظي، دلالة المسبّب على السبب، أم لا؟
ونحو ذلك يقال في الجمل الخبرية، فهل يوجد في أنفسنا شيء غير العلم تدلّ عليه الجمل الخبرية، أم لا؟ وقس على هذا الاختلاف الواقع في الجمل الإنشائية الزجرية؛ فإنّ الاختلاف بالنسبة إليها راجع إلى وجود صفة في النفس غير الكراهة وعدمه.
ومرجع الكلّ إلى أنّه هل تكون سوى الصفات المعروفة صفة في النفس تكون قائمة بها قياماً حلولياً نعبّر عنها بالكلام النفسي، ويدلّ عليها الكلام اللفظي، دلالة المسبّب على السبب، أم لا؟ فالأشاعرة اتّفقوا على الأوّل، والعدلية على الثاني.
وهذا البحث، أي البحث عن الكلام - الّذي مرجعه إلى البحث في أنّ القرآن مخلوق وحادث، أو قديم؟ -، أوّل بحث وقع بينهما في صفات الله تعالى، لمّا صاروا بصدد البحث وتصحيح العقائد وتطبيقها على ما ورد عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ولذا سمّي علم الكلام بالكلام((1)) مع احتوائه على المباحث الكثيرة غير مبحث الكلام.
ولا ريب أنّ البحث في الكلام بحث دينيّ كلاميّ بحت، وينادي بالمغايرة مع ما في كتب الاُصول، فإنّ المتاخّرين من الاُصوليّين ادخلوه فى الاُصول بعدما لم يكن لهذا البحث أثرٌ في كتب المتقدّمين، ولم يلتفتوا إلى ما هو محلّ النزاع وروح الاختلاف. وأوّل من ذكره في الاُصول المحقّق صاحب الحاشية(قدس سره).((2)) وتوهّم أنّ المراد من اتّحاد الطلب
ص: 93
والإرادة ترادفهما، وأنّ مراد القائل بمغايرتهما تغايرهما بحسب الموضوع له، وأنّ الموضوع له في الطلب الطلب الإنشائي وفي الإرادة الصفة المعهودة.
مع وضوح أنّ هذا غير لائق بأن يبحث عنه الأشاعرة والمعتزلة ويتعبوا أنفسهم بتسويد صفحات عديدة من الكتب الكلامية؛ لأنّ المسألة تصير على هذا مسألة لغوية.
وتبعه بعده سائر الاُصوليين، حتى وصلت النوبة إلى المحقّق الخراساني(رحمه الله) ، فهو وإن كان يظهر من بعض ما أفاد في المقام((1)) إلتفاته إلى ما هو محلّ النزاع في علم الكلام ولكن يظهر من بعض عباراته خلاف ذلك، فكأنّه تارة إلتفت إلى محلّ النزاع، واُخرى أغمض عنه ولذا أصلح بزعمه بين الطائفتين العدلية والأشاعرة، وقلع أساس النزاع بما حقّقه.((2))
وحاصل ما أفاده(قدس سره): أنّ الطلب والإرادة موضوعان لماهية واحدة وهي الإرادة العينية. ولهذه الماهية - وهو الموضوع المتصوّر - وجود خارجي وهو الطلب والإرادة الحقيقية العينية، ووجود اعتباري وهو الطلب والإرادة المنشاءان باللفظ.
فالعدلية إنّما ذهبوا إلى اتّحاد الطلب والإرادة بحسب الوجود الخارجي، وأنّ ما يدلّ عليه لفظ الإرادة هو ما يدلّ عليه لفظ الطلب، وإلى اتّحادهما أيضاً بحسب الوجود الذهني، وإلى اتّحادهما أيضاً في عالم الإنشاء.
والأشاعرة إنّما ذهبوا إلى تغايرهما بملاحظة تغاير الطلب الإنشائي مع الإرادة الخارجية.
هذا، ولكن يظهر ممّا أسلفناه فساد هذا التحقيق أيضاً؛ لأنّ النزاع كما ذكرنا لا يكون إلّا نزاعاً دينياً بحتاً ولا يكون نزاعاً لفظياً، فالأشاعرة إنّما ذهبوا إلى وجود صفة غير الصفات المعهودة في المتکلّم وسمّوها بالكلام النفسي، والعدلية على خلاف ذلك، فالنزاع واقع في وجود هذه الصفة وعدمها. ولو عبّرت العدلية عن مرادهم بالاتّحاد
ص: 94
فليس مقصودهم اتّحاد الطلب والإرادة حقيقة؛ لأنّ من الواضح عدم اتّحاد هذا الإنشاء المخصوص مع الإرادة الّتي تكون من الصفات النفسانية، بل مرادهم من اتّحادهما: دلالة الطلب على الإرادة دلالة المعلول على العلّة.
هذا، مع أنّ المعروف والمسلّم عند أهل المعقول تقسيم الوجود إلى العيني، والذهني، والكتبي، واللفظي، وإنّما يطلق الوجود على اللفظي والكتبي مسامحةً من جهة حكاية اللفظ والكتابة عن الوجود.
والمحقّق المذكور زاد في الكفاية على الأقسام الأربعة قسماً خامساً وهو الوجود الاعتباري الّذي سمّاه في المقام بالإرادة والطلب الإنشائي،((1)) مع أنّ الحقائق والاُمور الحاصلة في الخارج غير قابلة للاعتبار، فلا يعقل اعتبار وجود الإرادة - الّذي يكون وعاؤه عالم العين - في عالم الاعتبار؛ لأنّ الاعتبارات بعضها يكون له ما بحذاء في الخارج كالفوقية والتحتية والاُبوّة والبنوّة، وتنتزع هذه العناوين من جهة خصوصيات الوجودات العينية بالنسبة إلى وجودٍ آخر، وبعضها لا يكون له ما بحذاء في الخارج، وهذا ينتزع من جعل من بيده الاعتبار ووضعه، كالحكومة والولاية، فإنّ الحكومة مثلاً تنتزع من نصب السلطان أحداً ليتولّى أمر بلدٍ، وكذلك البيع، فإنّه ينتزع من إيجاب البائع وقبول المشتري. وعلى کلّ حالٍ، لا يكاد يتصوّر الوجود الاعتباري للحقائق الموجودة في عالم العين.
ثم إنّه قد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ حقيقة الطلب عبارة عن وجود إنشائي اعتباري ينشأ بالجمل الإنشائية البعثية ويعتبر وجوده في عالم الاعتبار بإنشاء المنشى ء، ويكون مجرّد إنشاء الآمر والباعث حاكياً عن إرادته هذه.
ص: 95
ثم اعلم: أنّ الأشاعرة قد تمسّكوا لما ذهبوا إليه بدليلين:
ص: 96
أحدهما:((1)) أنّه لو لم تكن في المتکلّم غير الإرادة صفة یدلّ عليها الطلب اللفظي فما هو مدلول الأوامر الصادرة عن الله تعالى الّتي لا تكون متعلّقاتها مرادةً له تعالى، كأمره تعالى الخليل بذبح ولده، حيث إنّ الله تعالى لم يرد منه الذبح، فما المحكيّ عنه في تلك الموارد؟ وهل يكون غير الطلب النفسي شيء؟ وهل يصحّ بعد ذلك قول القائل بعدم تعقّل صفة قائمة بالنفس غير الصفات المعروفة؟ فعلى هذا، فما یدلّ عليه الطلب اللفظي ليس إلّا الطلب النفسي القائم بذاته تعالى أزلاً.
وثانيهما: ما ذكره في الكفاية((2)) [كما أشار إلى الأوّل،] وهو أنّه لو لم تكن غير الصفات المعروفة صفة یدلّ عليها الكلام اللفظي، يلزم تخلّف إرادته تعالى عن المراد في تكليفه الكفّار وأهل العصيان، حيث أنّه أمر الكفّار بالإيمان، والعصاة بالواجبات، ولم يصدر منهم الإيمان وفعل الواجبات، وتخلّف إرادته عن مراده محال فلم يرد منهم الإيمان وأداء الفرائض البتّة. فما یدلّ عليه الطلب اللفظي هو الطلب النفسي، لا الإرادة.
والجواب عن الأوّل: أنّ الآمر تارة يأمر المأمور بفعل لحصول كمال له بسبب إتيانه ذلك الفعل. واُخرى يأمره به لأن يأتي بمقدّماته وجميع ما يتوقّف عليه الفعل، مع علمه بوجود المانع عن حصول الفعل، وذلك أيضاً لحصول الكمال للعبد.
ولا يخفى: أنّه في الأوّل أراد نفس الفعل، وفي الثاني أراد المقدمات. وقصة أمر الخليل(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بذبح ولده من قبيل الثاني، لأنّ الله أمره - لحصول الكمال له - بإتيانه جميع المقدّمات بحيث يساوق إتيانها الإتيان بالذبح عادةً لولا طروّ المانع، ولو أمره بالمقدّمات لا يحصل له ذلك الكمال وهو كونه بجميع وجوده وحقيقته مطيعاً للمولى، بحيث يذبح ولده في سبيل طاعته ورضاه. فالله تعالى لم يرد منه الذبح، بل أراد المقدّمات بأمره بالذبح. وقوله تعالى: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾((3)) دليل على اكتفائه بإتيان المقدّمات. ويكون أمره تعالى بالذبح كاشفاً عن إرادته تعالى لوصول عبده إلى الكمال.
وأمّا الجواب عن الثاني: فأجاب عنه المتکلّمون من العدلية بأنّ إرادة الله تعالى إذا تعلّقت بما هو فعله تعالى فلا يمكن تخلّفها عن المراد، وأمّا إذا تعلّقت بصدور فعل عن الغير بإرادة ذلك الغير فلا.((4))
وقال في الكفاية في مقام الجواب: بأنّ المستحيل تخلّفه عن المراد إرادته التكوينية دون إرادته التشريعية. وفسّر الاُولى بالعلم بالنظام على النحو الكامل التامّ، والثانية بالعلم بالمصلحة في فعل المكلّف.((5))
ولا يخفى عدم احتياج الجواب إلى بيان ماهيّة الإرادتين وأخذ ذلك من الحكماء((6)) وذكره في المقام. والظاهر أنّه تمهيد لبيان ما يذكر بعد ذلك من الإشكال والجواب
ص: 97
بقوله(قدس سره): فإن قلت... إلخ، وهو خارج عن محل النزاع. مع أنّه لم يؤدّ حقّ الجواب وكأنّه أظهر العجز عنه في آخر المقال.((1))
وأمّا الإشكال المذكور في كلامه فهو الإشكال المعروف عن الخيّام((2)) وغيره.
وقد أجاب عنه المحقّق الطوسي(رحمه الله) بأنّ العلم تابع للمعلوم ولا يكون المعلوم تابعاً للعلم.((3))
ص: 98
وفي هذا الجواب نظر، بل ظاهره واضح الفساد؛ لأنّ العلم على قسمين:
علم فعليّ، وهو الّذي يتعلّق بما أراد الفاعل فعله، وهذا العلم ليس تابعاً للمعلوم لأنّه لا يكون موجوداً قبله.
وعلم انفعالي: وهو الّذي يكون تابعاً للمعلوم، لأنّه لا يتعلّق بالمعلوم إلّا بعد وجوده.
وعلمه تعالى إنّما يكون من قبيل الأوّل، وأمّا الثاني فمحال في حقّه تعالى.
والتحقيق في بيان مراده(قدس سره): أنّ علمه تعالى بالنظام الأتمّ تعلّق بما أنّها مترتّبة بعضها على بعض وبما أنّ بعضها علل و بعضها معلولات، ومن الواضح أنّ ذلك الترتّب والعلّية، سواء كان إعدادياً أو ما به يكون الشيء موجوداً، ليس حاصلاً بجعله تعالى، بل هو حاصل بذاته وبالنظر إلى ماهيته المجعولة، فالصادر عنه تعالى بإيجاده هي الموجودات، والعلم بالترتب والعلّية المذكورة بين هذه الموجودات - المعلومة - يكون شبيهاً بالانفعال، ومن جملة تلك المعلومات فعل المكلّف الّذي يكون معلولاً لاختياره بأن يصدر الفعل عنه بترجيحه جانب الوجود أو العدم بعد كون فعله وتركه للمكلّف وميله إليهما على السواء.
وما ذكرناه هو الملاك في اختيارية الأفعال وصحّة المؤاخذة والعقوبة وحسن الثواب، لا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني(قدس سره) من كون ملاكها مسبَّبية الفعل عن الإرادة وصدوره بها، لأنّ الحيوان أيضاً يصير على هذا المبنى مختاراً ومستعدّاً لتوجيه التكليف إليه.
وبالجملة: خلق الإنسان ذا أميالٍ مختلفة وغرائز متباينة، لأنّ النفس الإنسانية متكوّنة من الرقائق المتضادّة، فلها ميولٌ حسب ما تقتضيه تلك الرقائق، فلا محالة يكون للإنسان بالنسبة إلى فعل کلّ شيء وتركه ميل إلى أحدهما حسب تلك الميول.
ومنحه الله تعالى القوّة العقلية لتمييز الصلاح والفساد، وبَعَث الأنبياء(علیهم السلام) ليعاونوا
ص: 99
العقل على ذلك وعلى إتيان الصالحات وترك السيّئات، فلا يصدر عنه فعل ولا ترك إلّا بعد ترجيحه أحد الطرفين، وهذا هو معنى الاختيار.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿إنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾.((1))
الأمشاج: جمع المشج، ومعناه المختلط. فالمعنى والله العالم: أنّه تعالى خلق الإنسان من مختلطات، أجزاؤها أيضاً مختلطة، وهذا الاختلاط إشارة إلى تلك الرقائق. كما أنّ الظاهر من الآية أنّ المراد بالنطفة نطفته الروحانية لا الجسمانية.((2)) وهذا الاختلاف والاختلاط صار سبباً لاختلاف الميول ثم الاختيار وترجيح بعضها على بعض.
إذا عرفت ذلك كلّه تعرف أنّ علمه تعالى بصدور الفعل عن العبد باختياره لا يقلّب الفعل عن كونه اختياريا. لأنّ هذا العلم يكون لا محالة شبه الانفعال وتابعاً للمعلوم؛ إذ العلّية والمعلولية من ذاتيّات العلل والمعلولات.((3))
ص: 100
ص: 101
بعدما ظهر لك في الجهة الثالثة: أنّ حقيقة الطلب عبارة عن وجود إنشائيّ اعتباريّ موطنه عالم الاعتبار، وينتزع من الجمل الإنشائية البعثية، فليعلم: أنّ الطلب على قسمين: إلزامي إيجابي، وندبي استحبابي.واللازم بيان ما به يمتاز کلّ واحد منهما عن الآخر.
فنقول: إنّ امتياز الأشياء بعضها عن بعض تارة: يكون بتمام الذات من غير أن يفرض بينهما جزء مشترك.
واُخرى: ببعضها، وهذا في الحقائق المشتركة في الجنس الممتازة بالفصل الّذي هو جزء الذات.
وثالثة: يكون الامتياز بالمنضمّات والعوارض.
ورابعة: يحصل بالزيادة والنقصان، مثل: الخطّين المتمايزين بالطول والقصر.
وخامسة: يتحقّق الامتياز بالشدّة والضعف، كامتياز بياض العاج عن بياض الثلج. وفي هذين الأخيرين يكون ما به الامتياز عين ما به الاشتراك.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ امتياز الأمر الوجوبي عن الاستحبابي ليس من قبيل القسم الأوّل ولا الثاني. أمّا الأوّل فواضح.
ص: 102
وأمّا الثاني، فلأنّ الامتياز بجزء الذات لا يتحقّق إلّا إذا كان فصل الوجوب هو المنع من الترك، وفصل الاستحباب هو الإذن في الترك، كما هو المشهور بين القدماء. والحال أنّه ليس كذلك؛ لأنّ المنع من الترك في الأمر الوجوبي والإذن فيه في الندبي لا يكون جزء الذات وداخلاً فيها كدخول الفصل المقوّم في النوع، بل المنع من الترك لا يكون في الحقيقة إلّا طلب ترك الترك، وترك الترك نفس الفعل لا الجزء المميّز له.
كما أنّه ليس الامتياز أيضاً من قبيل القسم الثالث والرابع. وإنّما الظاهر كونه من قبيل القسم الخامس، إذ الطلب الإنشائي يكون كالبعث الخارجي المباشري فكما أنّ الطالب في الطلب المباشري قد يكون شديد البعث بحيث يجرّ المبعوث نحو المطلوب، وقد لا يكون بهذا الحدّ، كذلك في الطلب الإنشائي، فيكون الامتياز بين الوجوب والندب بالشدّة والضعف.
وليس معنى ذلك كون الطلب الإنشائي من المقولات المشكّكة حتى يقال بأنّ الأمر الاعتباري ليس مقولاً بالتشكيك، بل بمعنى أنّ إنشاء الطلب تارة يكون مقارناً لاُمور تدلّ على تأكّده، واُخرى يكون مقارناً لاُمور تدلّ على عدم تأكّده. فالطلب الندبي هو الطلب المقارن مع الإذن في الترك، والطلب الخالي عن ذلك أو المقارن مع اُمور تؤكّد الطلب هو الطلب الإيجابي.
فعلى هذا يكون الأمر حقيقة في الطلب، وأمّا الوجوب فإنّما يستفاد من عدم مقارنة الأمر مع القرينة الدالّة على الندب. فما هو الملاك وتمام الموضوع لاستحقاق العقاب وصحّة مؤاخذة المولى عبده، نفس إنشاء الطلب مع عدم الإذن في الترك ولو احتملنا إذنه في الترك.
ويمكن أن يقال بأنّ امتياز الوجوب والندب إنّما يكون في مبدئهما، وما هو علّة للطلب الإنشائي وهي الإرادة النفسانية، فإنّها تارة تكون متأكّدة بحيث لا يرضى
ص: 103
بترك مراده، وتارة لا تكون كذلك، فإذا كانت متأكدة يكون الطلب الإنشائي الناشئ منها إيجابياً وإلّا كان ندبيّاً.
فعلى هذا يكون الطلب الإنشائي غير المقرون بالإذن في الترك كاشفاً عن هذه الإرادة المتأكّدة وطلباً إلزامياً.
ثم إنّه ربما يظهر من كلام بعضهم: أنّ الفصل المميّز بين الوجوب والاستحباب إنّما هو صحّة المؤاخذة على المخالفة في الوجوب، وعدمها في الندب.
كما يظهر من بعض آخر أنّ فصل الوجوب هو عدم رضا المولى بترك الواجب، وفصل الندب رضاه على ذلك.
ولا يخفى ما فيهما.
أمّا الأوّل، فلأنّ صحّة المؤاخذة وعدمها من الآثار العقلية للأمر الوجوبي والاستحبابي، الّتي لا تكون إلّا بعد تحصّل الأمر الوجوبي في الوجوب والندبي في الندب، فلا يعقل أخذها في تحصّل الوجوب وعدمها في تحصّل الندب؛ لأنّ الفصل إنّما يكون محصّل الجنس ومقوّم النوع.
وأمّا الثاني، فلأنّ عدم الرضا على ترك الفعل أمر قلبي نفساني لا يمكن أن يكون فصلاً مقوّماً لما يوجد في الرتبة المتأخّرة عنه في عالم الاعتبار، وكذلك الرضا على الفعل.
وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ دلالة الجمل الإنشائية - فيما تكون خالية عن الإذن في الترك - على الوجوب إنّما تكون بالدلالة العقلية؛ لأنّ المتكلّم الحكيم إذا قال: «اضرب زيداً» أو «أمرتك بكذا» فكلامه هذا من حيث إنّه فعل من أفعاله یدلّ على صدوره منه عن الاختيار والقصد، وأنّ صدوره عنه لا يكون لغواً ولا هزلاً بل لأجل إفادة فائدة. ومن حيث إنّه لفظ تکلّم به یدلّ على أنّه تکلّم به لإفادة المعنى الموضوع له لا لإفادة مطلب آخر، وهذا الإنشاء الخالي من الإذن في الترك من حيث إنّه فعل صدر
ص: 104
من الحكيم یدلّ على الوجوب، إمّا من جهة كونه مقارناً مع أمریدلّ على تأكّد طلب المولى بناءً على المبنى الأوّل، أو من جهة كونه دالاً على وجود الإرادة المتأكّدة في نفسه على المبنى الثاني.
ومن هنا ظهر عدم صحّة ما أفاده المحقّق الخراساني(رحمه الله)((1)) من دلالة الأمر وضعاً أو إنصرافاً على الطلب الإنشائي المقيّد بالإرادة المتأكّدة؛ إذ فيه مضافاً إلى ما ذكر أنّ الطلب الإنشائي لا يمكن أن يكون مقيّداً بالإرادة الّتي هي من الكيفيّات النفسانية، مع أنّ الطلب الإنشائي إنّما يكون معلولاً للإرادة، فكيف يقيّد المعلول بعلّته؟
ثم إنّ ما ذكرناه إلى هنا إنّما يكون مبنيّاً على صحّة تقسيم الطلب إلى الإيجاب والندب، وأمّا لو قلنا بعدم صحّة هذا التقسيم، وأنّ الاستحباب والإذن في الترك تنافي مع البعث والتحريك والطلب، وأنّ مقتضى المولويّة الطلب على سبيل الإلزام، فلا يبقى مجال لهذه الأبحاث.
وقد اختار ذلك المحقّق القمّي(قدس سره)،((2)) فإنّه ذهب إلى مباينة الندب مع الوجوب وعدم كونهما من سنخ واحد. وأنّ الأوامر الندبيّة كلّها إنّما تكون للإرشاد؛ لأنّ الندب منافٍ للطلب والبعث ومقتضى المولوية.
وربما كان مختاره هذا غير بعيد عن الصواب.
هذا تمام الكلام بالنسبة إلى مادّة الأمر سواء اُنشئ بالألفاظ أو الأفعال من غير دخل خصوصية لفظ من الألفاظ أو فعل من الأفعال. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وهو حسبي ونعم الوكيل.
ص: 105
الاُولى: اختلاف صيغ الأمر
الصيغ الّتي بها يتحقّق الطلب بحيث يصحّ بعد التكلّم أن يقال: «طلب المتکلّم» وإن كانت متّفقة في أصل تحقّق الطلب بها، لكن يمكن القول بالفرق بينها. ففرق بين قول المولى لعبده: أطلب منك إكرام العلماء أو آمرك بإكرامهم، وبين قوله: أكرم العلماء؛ فإنّ مفهوم الطلب في الأوّل يكون متصوّراً عنده ويتوجّه إليه المتکلّم عند التكلّم، وهذا بخلافه في الثاني فإنّه ليس للآمر توجّه إلّا إلى المطلوب وهو إكرام العلماء، فكأنّه لم يكن الطلب متصوّراً عنده حين إلقاء اللفظ.
ومن هذه الجهة ذهب بعض أساتذتنا إلى أنّ صيغة إفعل وما في معناها موضوعة لمجرد انتساب الفعل. ولكنه لا يخفى ما فيه؛ لأنّا نرى أنّ المتکلّم إذا قال: إضرب أو اُنصر، يقال في العرف: طلب الضرب أو النصر.
هذا، ويمكن أن يقال: إنّ الإنسان تارة: يتوجّه إلى الشيء توجّه من يطلبه، واُخرى: توجّه من يتصوّره، وثالثة: توجّه من يصدّقه، ولابدّ أن يكون لفظ إضرب مثلاً مستعملاً وموضوعاً للضرب الّذي توجّه إليه المتكلّم توجّه من يطلبه، إذ لا يمكن أن يكون موضوعاً لتصوّر أو تصديق نسبة الضرب إلى المخاطب، لأنّهما أجنبيان عن مفاد هذه الصيغ الإنشائية، فتدبّر.
الثانية: كثرة استعمال الأمر في الندب
قال صاحب المعالم(قدس سره): الثانية: «يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمة(علیهم السلام) أنّ استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعاً في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجّح الخارجي،
ص: 106
فيشكل التعلّق في إثبات وجوب أمرٍ بمجرّد ورود الأمر به منهم(علیهم السلام)».((1))
وقد أجاب عنه في الكفاية بوجوه:
الأوّل: إنّ كثرة استعمال صيغة الأمر في الندب في الكتاب والسنّة غير موجب لنقلها إليه أو حملها عليه لكثرة استعمالها في الوجوب أيضاً.
الثاني: إنّه وإن كثر استعمالها فيه إلّا أنّه مع القرينة المصحوبة، وذلك وإن كان موجباً لشدّة اُنس الذهن مع المعنى المجازي إلّا أنّ مجرّد الاُنس وتوجّه الذهن إلى المعنى المجازي بمعونة القرينة لا يكون موجباً لصيرورة اللفظ مجازاً مشهوراً حتى يترتّب أثره وهو الترجيح أو التوقّف.
الثالث: النقض بكثرة استعمال العامّ في الخاصّ حتى قيل: «ما من عامّ إلّا وقد خصّ» ومع ذلك لم ينثلم بها ظهوره في العموم بل يحمل على العموم ما لم تقم قرينة على الخصوص.((2))
وفيما أفاده في مقام الجواب نظر:
ففي الأوّل: أنّ صاحب المعالم(قدس سره) ادّعى الكثرة في جميع الأخبار المروية عنهم(علیهم السلام) لا خصوص السنّة المصطلحة في المرويات عن النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى يقال بكثرة استعمالها في الوجوب فيها أيضاً. وادّعاء كثرة استعمالها في الوجوب في جميع الأخبار في مقابل كثرته في الندب مُجازفة جدّاً.
وفي الثاني: أنّه لو قلنا بأنّ الدالّ على المعنى المجازي هو اللفظ والقرينة معاً صحّ ما أفاده في الجواب. أمّا لو قلنا بأنّ الدالّ على المعنى المجازي هو نفس اللفظ، والقرينة إنّما تدلّ على إرادة المعنى المجازي منه كما هو الحقّ، فلا يتمّ ما أفاده، ففي مثل قولنا:
ص: 107
رأيت أسداً يرمي يكون المستعمل في الرجل الشجاع هو الأسد وأمّا «يرمي» فهي قرينة على إرادة المعنى المجازي من اللفظ.
وفي الثالث: أنّ العامّ كما هو التحقيق ومختاره أيضاً،((1)) لا يستعمل إلّا في العموم، والمخصّص إنّما یدلّ على تعلّق الإرادة الجدّية بالخاصّ.
هذا مضافاً إلى أنّ استعمال العامّ في الخاصّ وإن كان كثيراً إلّا أنّه ليس بالنسبة إلى معنى مجازيّ واحد بل يكون بالنسبة إلى معانٍ مجازية متعدّدة، فلا يكون استعماله بالنسبة إلى کلّ واحد من هذه المعاني كثيراً، وأين هذا من استعمال صيغة الأمر وإرادة الندب الّذي لا يكون إلّا معنى مجازياً واحداً، فكثرة الاستعمال فيه توجب اُنس الذهن بخلاف المقيس عليه.
هذا كلّه بناءً على المسلك المشهور وأنّ الأمر حقيقة في الوجوب.
وأمّا بناءً على المختار من كون الأمر حقيقة في مطلق الطلب وأنّ الوجوب إنّما يستفاد من عدم اقتران الأمر بقرينة على الترخيص بخلاف الندب، أو من جهة أنّ الوجوب عبارة عن الإرادة الأكيدة فخلوّ الأمر عن القرينة الدالّة على الندب يكون كاشفاً عنها بخلاف الندب، فلا يبقى مجال لهذه التفصيلات.
نكتة: في الأوامر ونواهي المعصومين(علیهم السلام): وهاهنا نكتة لا يخلو ذكرها عن فائدة في الفقه، وهي: أنّ الأوامر والنواهي الصادرة عن النبيّ والأئمّة - صلوات الله عليهم أجمعين - ليست كلّها مولوية، بل تارة تصدر عنهم بما أنّ لهم الولاية والسلطنة على الناس: وهذه كالأوامر والنواهي النبوية الصادرة في الغزوات المرتبطة بالجهاد من تعيين وظائف المجاهدين ونحو ذلك، وكالأوامر والنواهي العلوية في حرب الجمل وصفّين وغيرهما.
ص: 108
وتارة اُخرى: تصدر عنهم بما أنّهم مبلّغو الأحكام وعالمون بالتكاليف الدينية. وهذا القسم لم يصدر عنهم إلّا لمجرّد الإرشاد، كأوامر الفقهاء والوعّاظ ونواهيهم. فقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد سؤال السائل عن من شكّ في الثلاث والأربع: «يبني على الأربع» مثلاً، لا یدلّ إلّا على الإرشاد، ومخالفته لا تعدّ معصية ومخالفة للإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ). نعم، تكون معصية لله تعالى إذا كان المُرشَد إليه واجباً.
وعلى هذا البناء وفرض دلالة الإرشاد على مطلوبية المُرشَد إليه، تارة: يكون الأمر خالياً عن القرائن الدالّة على كون المُرشَد إليه ندباً فيحكم بوجوب المُرشَد إليه، واُخرى: لا يكون كذلك فيحكم باستحبابه.
ومن ذلك يظهر فساد ما ذكره صاحب المعالم(قدس سره) من كثرة استعمال الصيغة في كلام الأئمّة(علیهم السلام) في الندب؛ لأنّ الأوامر الصادرة عنهم إنّما استعملت في جميع الموارد - إلّا موارد خاصّة - في الإرشاد لا المولوية من الندب والوجوب.((1))
ثم إنّه قد ظهر ممّا ذكر حال بعض المباحث المذكورة في الكفاية،((2)) وإنّما لم نتعرّض لذكرها احترازاً من الإطالة، وهي كالبحث في أنّ الجمل الخبرية الّتي تكون في مقام الإنشاء هل تفيد الوجوب أو لا؟ فبأيّ لفظ اُنشئ الطلب يكون حاله حال الأمر من غير فرق بين الجمل الإنشائية والإخبارية.
ص: 109
إعلم: أنّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) لم يجعل لبيان حقيقة الواجب التعبّدي والتوصّلي مبحثاً يخصّه، بل ذكر ذلك في المبحث الخامس من الفصل الثاني. وجعل البحث عن بيان ماهيّتها من مقدّمات التحقيق في أنّ إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصّلياً فيجزي إتيانه مطلقاً ولو بدون قصد القربة، أو لا؟ وأنّه لابدّ من الرجوع فيما شكّ في تعبّديّته وتوصّليته إلى الأصل، والحال أنّ أصل البحث من مهمّات مباحث الأوامر، واللازم طرحه مستقلّا ثم طرح تفريعاته. وكيف كان، فالكلام - تبعاً لترتيب الكفاية - يقع في اُمور:
الأمر الأوّل: تنقسم الواجبات بل مطلق ما كان مأموراً به إلى التعبّدي والتوصّلي، والأوّل كالصلاة والصوم والحجّ وغيرها، والثاني كغسل الثوب والبدن ودفن الميّت وما يكون من هذا القبيل.
الأمر الثاني: إنّ المأمور به التعبّدي عبارة عن: ما يعتبر في حصول الغرض منه إتيانه لله تعالى. والتوصّلي ما لا يعتبر فيه ذلك، بل يحصل الغرض بمجرد تحقّقه وحصوله في الخارج وبأيّ وجه اتّفق ولو لم يكن حصوله بقصد التقرّب إلى الله تعالى، بأن كان بقصد الرئاء مثلاً أو بأيّ داعٍ آخر، أو حصل من غير قصد واختيار.
لا يقال: يلزم من ذلك تعلّق الأمر في التوصّليات بما هو أعم من كونه بالاختيار، ومحذوره لا يقلّ من محذور الأمر بما هو خارج عن الاختيار رأساً.
لأنّه يقال: إنّ الآمر تارة يأمر العبد ويصير أمره سبباً لإيجاد الداعي وإرادة الفعل في العبد من غير أن يكون لإرادته دخل في حصول غرض الآمر من تحقّق الفعل، واُخرى يأمره لإيجاد إرادة الفعل في العبد وصدور الفعل عن تلك الإرادة بأن يكون الفعل معلولاً لإرادته فلا يحصل غرض الآمر إلّا بصدور الفعل عن إرادة العبد؛ والواجب
ص: 110
التوصّلي إنّما يكون من القسم الأوّل، حيث يكفي مجرّد تحقّقه من غير دخل لإرادة العبد واختياره في حصول الغرض، ويسقط الأمر بتحقّق المأمور به ولو عن غير قصد واختيار، ولا يلزم منه المحذور المذكور، لأنّ الأمر يتعلّق بما هو مختار العبد لا أعمّ منه ولكنّه يسقط ولو بوقوع الفعل من غير اختيار، لأنّ غرضه قد حصل. فأثر الأمر في التوصّلي إنّما هو إيجاد الداعي في العبد من غير أن يكون لهذا الداعي دخل في الغرض.
الأمر الثالث: لا يعتبر في حصول التعبّد إتيان الفعل بداعي الأمر، بل إذا أتى به بأيّ داعٍ كان مناسباً لشأن المولى اعتناءً بشأنه واحتراماً له يحصل التعبّد ولو لم يتعلّق به أمر المولى.
نعم، إذا شكّ في أنّ هذا مناسبٌ لشأن المولى ومقامه أم لا؟ لابدّ لاستكشاف ذلك من الأمر به.
الأمر الرابع: لا يخفى عليك: أنّنا لم نعثر في كلمات السابقين على الشيخ الأنصاري(رحمه الله) القول بعدم إمكان أخذ قصد التقرّب والامتثال في متعلّق الأمر، بل الظاهر أنّ مذهبهم كون قصد الامتثال من ضمن كيفيّات المأمور به. والشيخ(قدس سره) أوّل من ذهب إلى عدم إمكانه، وفرّع عليه عدم جواز التمسّك بالإطلاق في صورة الشكّ لإثبات توصّلية المأمور به.((1))
وقد قرّر وجه هذا الكلام - الّذي أرسله تلامذة الشيخ ومن تأخّر عنهم إرسال المسلّمات - في التقريرات بما حاصله راجع إلى أنّ تخصّص الفعل بخصوصية إتيانه بقصد الامتثال واتّصافه بتلك الخصوصية إنّما يكون من الاُمور المتأخّرة عن الأمر ومن الانقسامات اللاحقة للحكم، فكيف يعقل أخذه في موضوع الحكم؟
وقد ذكروا في بيان ذلك وجوهاً بعضها يرجع إلى وقوع المحال في ناحية الأمر وأنّه
ص: 111
لا يعقل الأمر مع قصد الامتثال في المأمور به - شرطاً كان أو شطراً - ؛ وبعضها يرجع إلى امتناعه في ناحية الإتيان والامتثال.
ذكروا لبيان وقوع المحال في ناحية الأمر و كونه تكليفاً محالاً وجوهاً:((1))
أحدها: أنّه لا شكّ في أنّ نسبة الحكم إلى الموضوع كنسبة العرض إلى المعروض، والصفة إلى الموصوف؛ فكما لا يمكن أخذ العرض في المعروض والصفة في الموصوف للزوم الدور وتقدّم الشيء على نفسه، كذلك لا يمكن أخذ قصد الأمر في موضوع الحكم؛ لأنّ الحكم وقصد امتثاله متوقّفان على الموضوع ومتأخّران عنه، فلو فرض أخذ قصد امتثاله في الموضوع يلزم تقدّم هذا المتأخّر وصيرورة المتوقّف موقوفاً عليه، وليس هذا إلّا تقدّم الشيء على نفسه، وهو الدور المحال.
ثانيها: أنّ من الواضح اشتراط التكليف بقدرة المكلّف وعدم تعلّق الأمر إلّا بالمقدور، فلو أخذنا قصد الامتثال في متعلّقه يلزم عدم مقدوريته، لأنّ القدرة عليه تتوقّف على الأمر والأمر متوقّف على كونه مقدوراً، فيلزم الدور.((2))
ثالثها: ما أفاده بعض أساتيذنا: من لزوم اجتماع اللحاظين؛ لأنّ قصد الأمر لو كان من الكيفيّات المأخوذة في المأمور به يلزم بالنسبة إلى الآمر لحاظه آليّاً واستقلاليّاً، لأنّ الأمر بالصلاة المقيّدة بقصد الأمر يكون ملحوظا آليّاً ومندكّاً في لحاظه استقلاليّاً قيداً للصلاة المأمور بها فليزم المحال واجتماع اللحاظين المتنافيين.
ص: 112
فاعلم: أنّ ما أفاده المحقّق الخراساني(قدس سره) من لزوم الإشكال والمحال في ناحية الامتثال وجوه:
الأوّل: أنّ داعويّة الأمر لا تكون إلّا إلى عمل منطبق للمأمور به، فإذا كان المأمور به مقيّداً بالداعويّة يلزم الدور، لأنّ الداعويّة تتوقّف على انطباق العمل على المأمور به، والانطباق يتوقّف على الداعويّة.
الثاني: إنّ الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلّقه، والمفروض أنّه ليس ذات الفعل، بل هو ذات الفعل بداعي الأمر، وحينئذٍ ننقل الكلام إلى الأمر الثاني وأنّ متعلّقه ليس ذات الفعل، بل ذات الفعل بداعي الأمر - حسب الفرض - وهكذا الكلام في الأمر الثالث، وهلمّ جرّا تتسلل الأوامر إلى غير النهاية.
وقد أفاد صاحب الكفاية(قدس سره) هذا الوجه والوجه السابق في مجلس درسه.
الثالث: ما يظهر من الكفاية((1)) من عدم إمكان الإتيان بذات الفعل بداعي الأمر؛ لأنّ الأمر - حسب الفرض - متعلّق بها مقيّدة بداعي الأمر ولا يكاد يدعو الأمر إلّا إلى متعلّقه لا إلى غيره أي ذات الفعل. وبعبارة اُخرى امتثال الأمر بالصلاة المقيّدة بقصد الأمر بها دون ذاتها بقصد الأمر موقوف على الأمر بذاتها المفقود هنا، والأمر بها مقيّدة بقصد الأمر لا يمكن امتثاله لأنّه لا يدعو إلّا إلى ما تعلّق به دون غيره أي ذات الصلاة، فتدبّر.
توضيح عبارات الكفاية: وحيث إنّ عبارات الكفاية في هذا المقام في غاية الاختصار، فلا بأس بتوضيحها وبيان المراد منها.
ص: 113
فهو(قدس سره) بعد الإشارة إلى استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه قال: «وتوهّم إمكان تعلّق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر... إلخ».
لعلّ المتوهّم يريد أوّلاً دفع الإشكال الثالث من ناحية الأمر((1)) بأنّه يمكن تصوّر الأمر بالمقيّد ولحاظ الأمر آليّاً واستقلاليّاً، لکنّه لا بلحاظ واحد ولا في رتبة واحدة، بل بلحاظين وفي رتبتين.
ولم يذكر دليل إمكان تصوّر الآمر لها((2)) مقيّدة كما أنّه لم يذكر أصل الإشكال.
وثانياّ دفع الإشكال الثاني من ناحية الأمر (من لزوم الدور وتوقّف الأمر على القدرة والقدرة على الأمر) بأنّ المعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً في صحّة الأمر إنّما هو في حال الامتثال لا حال الأمر.
وهذا التوهّم واضح الفساد، ضرورة أنّه وإن كان تصوّرها كذلك بمكان من الإمكان ويجاب به عن الإشكال باجتماع اللحاظين، إلّا أنّه لا يدفع إشكال الدور، لأنّه لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها؛ لعدم الأمر بها، فإنّ الأمر - حسب الفرض - تعلّق بها مقيّدة بداعي الآمر ولا يكاد يدعو الآمر إلّا إلى ما تعلّق به لا إلى غيره.
إن قلت: نعم، ولكن نفس الصلاة أيضاً صارت مأموراً بها بالأمر بها مقيّدة.
وذلك بتصوير الأمر الانحلالي لذات الفعل؛ لأنّ المأمور به بالتحليل العقلاني ينحلّ إلى المقيّد والقيد.
ص: 114
قلت: كلّا! وسيأتي في باب مقدّمة الواجب عدم اتّصاف الجزء التحليلي العقلي بالوجوب، فذات المقيّد مجرّدة عن القيد لا تكون مأموراً بها، وليس في الخارج إلّا وجوداً واحداً واجباً بالوجوب النفسي.
إن قلت: سلّمنا ذلك، لكنّنا نقول بأخذ قصد الامتثال شطراً وجزءً لا شرطاً وقيداً، فعليه يكون نفس الفعل الّذي تعلّق به الوجوب مع قصد الامتثال متعلّقاً للوجوب، لأنّ المرکّب ليس إلّا نفس الأجزاء بالأسر، أي لا بشرط الاجتماع ولا بشرط عدمه، فكما يتعلّق الأمر بمجموع الأجزاء، كذلك يتعلّق بکلّ واحد من الأجزاء، فيكون تعلّقه بکلّ بعين تعلّقه بالكلّ، فيصحّ إتيان الفعل بداعي ذلك الوجوب ضرورة صحّة الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبها، فالجزء الّذي هو ذات الفعل يؤتى به بقصد الامتثال، والجزء الآخر الّذي هو عبارة عن قصد الامتثال يتحقّق بتحقّق الجزء الّذي هو ذات الفعل الّذي يؤتى به بقصد الامتثال.
قلت: لا يمكن تصوير صحّة ذلك في المقام وإن سلمنا صحّته في غيره، لأنّه يلزم من ذلك تعلّق الأمر بأمر غير اختياري، فإنّ الفرض كون داعي الأمر جزاً للمأمور به لا شرطاً، فيكون القصد أيضاً مأموراً به كنفس الفعل، والحال أنّ قصد الأمر ليس إلّا إرادة خاصّة، وملاك اختيارية الفعل صدوره عن الإرادة، وأمّا الإرادة نفسها فلا تكون عن إرادة اُخرى وإلّا لتسلسلت فلا تكون اختيارية.
هذا مضافاً إلى أنّه لا يصحّ الإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه مستقلاً ومن غير أن يكون في ضمن الكلّ، وإنّما يصحّ الإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيان الجميع بهذا الداعي، ولا يكاد يمكن الإتيان بالمركّب من قصد الامتثال بداعي امتثال أمره، لأنّه يلزم منه علّية الشيء لنفسه ومحرّكيته إلى محرّكية نفسه.
إنتهى ما أردنا ذكره لإيضاح بعض عبارات الكفاية في المقام. ولنرجع إلى ما كنّا فيه وتحقيق الحقّ في المقام فنقول:
ص: 115
ربما يتوهّم((1)) الفرق بين أخذ قصد الأمر في المأمور به وبين غيره من الدواعي كحسن الفعل أو مصلحته أو محبوبيته عند المولى وغير ذلك، فترد الإشكالات المذكورة عند قصد الأمر دون غيره من الدواعي، فلا مانع من أخذها في المأمور به.
والحقّ عدم الفرق بين قصد الأمر وغيره في ورود إشكال الدور والتسلسل وغيرهما؛ لأنّ قصد الحسن والمصلحة أيضاً متوقّف على كون الفعل حسناً ومشتملاً على المصلحة في الخارج، وكونه كذلك متوقّف على قصد الحسن والمصلحة عند الإتيان، وإلّا لم يكن الفعل حسنا ولا ذا مصلحة. وقس على هذا البيان تقرير التسلسل وغيره من الإشكالات.
إنّ الإشكالات الراجعة إلى لزوم المحال في ناحية الأمر، كلّها بعيدة عن الصواب.
أمّا الإشكال الأوّل، ففيه: أنّ الحكم إنّما يكون متوقّفاً على الوجود الذهني للموضوع لا الخارجي منه، وأمّا الموضوع فهو بوجوده الخارجي متوقّف على الحكم، فلا دور.
وأمّا الإشكال الثاني، ففيه: أنّ القدرة الّتي هي ملاك صحّة التكليف والأمر إنّما هي القدرة على إتيان المأمور به في ظرف الامتثال والإتيان لا قبله، فقدرة المكلّف قبل زمان الامتثال وظرف الإتيان لا تكون من قبيل أجزاء العلّة بالنسبة إلى التكليف حتى يقال بلزوم حصولها عند تعلّق الحكم بالموضوع.
ص: 116
فالحكم متوقّف على لحاظ قدرة المكلّف عند الامتثال ولا شكّ في أنّه يصير قادراً حين الامتثال ولو تتوقّف هذه القدرة على الأمر، فلا دور أصلاً.((1))
وأمّا الإشكال الثالث، ففيه: أنّ ما هو المحال هو لحاظ شيء آليّاً واستقلاليّاً بلحاظ واحد وفي آنٍ واحد، وأمّا لحاظه تارة آليّاً واُخرى استقلاليّاً جائز بالضرورة، فيلاحظ الأمر تارة استقلاليّاً آن تصوّر الموضوع، واُخرى آليّاً حين تعلّق الأمر به.
هذا تمام الكلام في الجواب عن الإشكالات الراجعة إلى لزوم المحال في ناحية الأمر.
وإنّما المهمّ الجواب و التفصّي عن الإشكالات الراجعة إلى لزوم المحال في ناحية الامتثال. وقد أفادوا في مقام التفصّي وجوهاً غير خالية عن الإشكال.
أحدها: الالتزام بتعدّد الأمر بأن يتوصّل الآمر إلى غرضه بأمرين أحدهما يتعلّق بذات الفعل، والآخر بإتيانه بداعي الأمر. هذا ما أفاده الشيخ الأنصاري(قدس سره).((2))
وأجاب عنه في الكفاية((3)) أوّلاً: بمنع الصغرى، لأنّا نقطع بأنّه ليس في العبادات إلّا أمر واحد.
وثانياً: بأنّ الأمر الأوّل لو كان يسقط بمجرّد الإتيان بذات الفعل مجرّداً عن قصد الامتثال، فلا يبقى مجال لموافقة الأمر الثاني؛ لانتفاء موضوعه رأساً، فلا يتوصّل الآمر بالأمر الثاني إلى غرضه. وإن لم يكد يسقط، فليس له وجه إلّا عدم حصول غرضه بذلك، فلا وجه حينئذٍ للأمر الثاني (ولا التشبّث بحيلة تعدّد الأمر)؛ لاستقلال العقل بلزوم إتيان المأمور به بنحو يحصل غرض الآمر به.
ص: 117
ثانيها: ما يستفاد من بيان الكفاية في ضمن الجواب المذكور من أنّ المقصود إتيان الفعل بداعي الأمر إلّا أنّ المولى لمّا لم يتمكّن من أخذ ذلك في الأمر جعل متعلّق أمره أعمّ ممّا هو محصّل لغرضه وغيره، ثم إنّ العقل بعد ذلك يحكم بلزوم موافقته على نحو يوجب سقوط الأمر وحصول الغرض.
وفيه: أنّه يلزم من ذلك أن يكون الأمر بذات الفعل صورياً محضاً من غير أن يكون محصّلاً لغرض المولى، والحال أنّ الظاهر من الأمر بها كونه حقيقياً.
ثالثها: ما أفاده بعض الأجلّة من المعاصرين(قدس سره)((1)) وهو الفعل الواقع في الخارج على قسمين: أحدهما ما ليس للقصد دخل في تحقّقه بل لو صدر من العاقل لصدق عليه عنوانه، والثاني ما يكون قوامه في الخارج بالقصد كالتعظيم والإهانة وأمثالهما. ولا إشكال في أنّ تعظيم من له أهلية ذلك بما هو أهل له وكذا شكره ومدحه بما يليق به حسن عقلاً ومقرّب بالذات بلا حاجة في تحقّق هذا القرب إلى وجود أمر بهذه العناوين.
نعم، قد يشكّ في أنّ التعظيم المناسب له أو المدح اللائق بشأنه يتحقّق بماذا؟ وقد يتخيّل كون عمل خاصّ تعظيماً له وأنّ القول الكذائي مدح له وفي الواقع ليس كذلك، بل ما اعتقده تعظيماً له يكون توهيناً له وما اعتقده مدحاً يكون ذمّاً بالنسبة إلى مقامه. والمكلّف لمّا لم يكن له طريق إلى استكشاف المناسب لمقام المولى تبارك وتعالى إلّا إعلامه تعالى، فلابدّ أن يعلّمه أوّلاً ما يتحقّق به تعظيمه ثم يأمره به، وليس هذا الأمر إلّا لتشخيص المناسب لمقامه تعالى من دون أن يكون قصده دخيلاً في تحقّق القرب حتى يلزم منه محذور الدور.
وفيه نظر: لأنّ الباعث على الاهتمام في تصحيح الأمر التعبّدي وجزئية قصد الأمر أو قيديّته وقوع الإجماع بل الضرورة عليه بين المسلمين خلفاً عن سلف، وإلّا فإنكاره
ص: 118
بالمرّة ليس بعسير، فالمقصود تصويره على نحو لا يزاحم ذلك الإجماع والضرورة، وهذا لا يتمّ بما ذكره(قدس سره)، فإنّه أنكر دخالة قصد التقرّب في العبادة رأساً، إذ المراد من إتيان الفعل بقصد التعظيم إن كان إتيانه بداعي كونه تعظيماً للمولى، فهذا وإن كان موجباً لصيرورة العمل عبادة، إلّا أنّه لا يرفع به إشكال الدور؛ لأنّ قصد كون الفعل تعظيماً للمولى موقوف على كون ذات الفعل تعظيماً له وكونها كذلك موقوف على قصد كونه تعظيماً له، وقد مرّ((1)) نظير هذا الإشكال في صورة قصد الملاك والمصلحة.
وأمّا إن كان مراده من إتيان الفعل بقصد التعظيم إنشاء التعظيم وإيجاده بالفعل من دون أن يقصد التقرّب به، فلازمه مضافاً إلى إنكار ما عليه الإجماع والضرورة من اعتبار قصد التقرّب، اجتماع ذلك مع الدواعي النفسانية كالرئاء وهضم الغذاء وغيرهما، وأن يكون قصد الرئاء وغيره غير منافٍ لإنشاء التعظيم الّذي فرض هنا عبادة، وهذا أيضاً مخالف للإجماع.((2))
ورابعها: ما أفاده المعاصر المذكور(قدس سره) أيضاً((3)) بأنّه من الممكن أن يكون المعتبر في العبادات إتيان الفعل خالياً عن سائر الدواعي ومستنداً إلى داعي الأمر، فالفعل المقيّد بعدم الدواعي النفسانية ووجود الداعي الإلهي وإن لم يكن قابلاً لتعلّق الأمر به بملاحظة جزئه الأخير ولزوم الدور، وأمّا من دون ضمّ الأخير فلا مانع منه.
وأمّا إشكاله بأنّ هذا الفعل من دون ملاحظة تمام قيوده الّتي منها الأخير لا يكاد
ص: 119
يتّصف بالمطلوبية، وكيف يمكن تعلّق الطلب بالفعل من دون ملاحظة تمام القيود الّتي يكون بها قوام المصلحة، فمندفع بأنّه قد يتعلّق الطلب بما ليس هو مطلوباً في حدّ ذاته، بل يراد منه حصول أمر آخر، والفعل المقيّد بعدم الدواعي النفسانية من هذا القبيل، فإنّه وإن لم يكن تمام المطلوب مفهوماً، إلّا أنّه لمّا لم يوجد في الخارج مصداق له إلّا بداعي الأمر - لعدم إمكان خلوّ الفاعل المختار عن کلّ داعٍ يصحّ تعلّق الطلب به - فهو يتّحد في الخارج مع ما هو مطلوب حقيقة. كما لو كان المطلوب الأصلي إكرام الإنسان، فلا شبهة في جواز الأمر بإكرام الناطق، لأنّه لا يوجد في الخارج مصداقٌ له إلّا متّحداً مع الإنسان الذي إكرامه مطلوب أصلي.
وليس هذا الأمر صورياً بل هو أمر حقيقيّ وطلب واقعيّ لأنّ متعلّقة متّحد في الخارج مع المطلوب الأصلي.
ولا يخفى: أنّ مثل هذه الأوامر الملحوظة فيها حال الغير تارة يكون للغير، واُخرى يكون غيرياً.
مثال الأوّل: الأمر بالغسل قبل الفجر لأجل الصوم، فإنّ الأمر متعلّق بالغسل قبل الأمر بالصوم، وليس هذا الأمر معلولاً لأمر آخر، إلّا أنّه يكون لمراعاة حصول الغير وهو الصوم في زمانه.
ومثال الثاني: الأوامر الغيرية الّتي تكون مسبّبة من الأوامر النفسية المتعلّقة بالعناوين المطلوبة نصّاً. وما نحن فيه من قبيل الأوّل، لأنّ الأمر بالفعل مقيّداً بعدم الدواعي النفسانية لا يكون تمام المطلوب النفسي، إلّا أنّه متّحد خارجاً مع ما هو تمام المطلوب ومحصّل لتمام الغرض فيكون أمراً للغير .
وهذا الجواب يشبه ما أجاب به صاحب الكفاية - وذكرناه في الوجه الثاني - في عدم تعلّق الأمر بتمام المطلوب، بل بما هو الأعمّ، ولكن لا يرد عليه ما أوردناه هناك، لأنّه
ص: 120
بنحو لا وجه لتوجّه الإشكال المذكور إليه. ولكن يورد عليه: بأنّه خلاف الظاهر من أدلّة العبادات، إذ ليس المعتبر فيها خلّوها عن الدواعي النفسانية وإتيانها بداعٍ إلهي، بل المعتبر فيها أمر بسيط وهو إتيانه بداعي الأمر الإلهي، فلا يستقيم ما ذكره في الجواب.
هذا تمام الكلام فيما أفادوه في مقام الجواب، وقد ظهر لك عدم ارتفاع الإشكال بواحد منها، فاللازم علينا التفصّي عن الإشكال على نحو صحيح.
وقبل الورود في المطلب لابدّ من تقديم مقدّمات:
اُولیها: أنّ دخل شيءٍ في المأمور به يتصوّر على ثلاثة أنحاء، الأوّل: كون ذلك الشيء جزءً للمأمور به بمعنى تركّبه منه ومن غيره. والثاني: كونه قيداً للمأمور به لا بمعنى كونه داخلاً فيه، بل بمعنى تقيّد المأمور به بذلك الشيء على نحو يكون القيد خارجاً وتقيّده به - على نحو المعنى الحرفي - داخلاً. والثالث: أن يكون المأمور به معنوناً بعنوان لا يمكن حصول ذلك العنوان له إلّا إذا كان معه هذا الشيء، وهذا في الحقيقة يكون شرطاً عقلياً لحصول المأمور به وممّا يتوقّف عليه انطباق ذلك العنوان على المأمور به.
ثانيتها: لا إشكال في أنّ الأمر كما يدعو إلى تمام متعلّقه يدعو أيضا إلى کلّ جزء من أجزائه وشرائطه ومقدّماته الخارجية، سواء قلنا بالملازمة في باب المقدّمة أم لا، لأنّه ولو لم نقل بالملازمة وترشّح الأمر بالمقدّمة من قبل الأمر بذيها لکنّه لم يناف أن يدعو الأمر إلى كلّ جزء من الأجزاء والشرائط والمقدّمات الخارجية، فإنّ المكلّف الذي يكون في مقام إطاعة مولاه وامتثال أوامره إذا رأى أنّ التكليف المتوجّه إليه مشروط بشرط، لا يتردّد في لزوم تحصيل ذلك الشرط. وهذا معنى دعوة الأمر واستدعائه کلّ جزء من الأجزاء والشرائط والمقدّمات الخارجية. هذا مضافاً إلى أنّه لو قلنا بالملازمة في باب المقدّمة لا
ص: 121
يكون الأمر المتوجّه إليها مستقلّا كسائر الأوامر، بل يكون فانياً ومندكّاً في الأمر بذيها، لأنّه لا هويّة للأمر الطريقي مستقلّا وبنفسه إلّا هويّة الأمر بذي الطريق، فيكون الأمر بالطريق والمقدّمة كلا أمر.
ومن هنا ظهر ضعف ما أفاده في الكفاية - في جواب الإيراد بأنّ نفس الصلاة أيضاً صارت مأموراً بها بالأمر بها مقيّدة - بقوله: «قلت: كلاّ! لأنّ ذات المقيّد لا تكون مأموراً بها، فإنّ الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلاً... إلخ».
وقد عرفت وجه الضعف بأنّه لا حاجة إلى الأمر بل يكفي مجرّد كون الأمر داعياً إلى ذات المقيّد، لأنّ الأمر كما يكون داعياً إلى متعلّقه يكون داعياً إلى جميع مقدّماته وشرائطه أيضاً.
ولا يخفى عليك: أنّ ما أفاده بعد ذلك - في جواب الإشكال الّذي أورده على نفسه - أيضاً ضعيف جدّاً، فإنّه بعد ذكر الإيراد بقوله: «إن قلت: نعم، لکنّه إذا اُخذ قصد الامتثال شرطاً، وأمّا إذا اُخذ شطراً فلامحالة نفس الفعل الّذي تعلّق الوجوب به مع هذا القصد يكون متعلّقاً للوجوب، إذ المرکّب ليس إلّا نفس الأجزاء بالأسر، ويكون تعلّقه بکلٍّ بعين تعلّقه بالكلّ، ويصحّ أن يؤتى به بداعي ذلك الوجوب ضرورة صحّة الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه». أفاد في مقام الجواب بما لفظه: «قلت: مع امتناع اعتباره كذلك فإنّه يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير اختياريّ، فإنّ الفعل وإن كان بالإرادة اختيارياً إلّا أنّ إرادته حيث لا تكون بإرادة اُخرى وإلّا لتسلسلت ليست باختيارية، كما لايخفى».
وفيه أوّلاً: أنّ الإرادة تكون اختيارية، لأنّ اختيارية کلّ فعل بها وهي بنفسها اختيارية، فلا يلزم التسلسل.
وثانياً: لو كانت الإرادة غير اختيارية فلا يمكن دخلها في الغرض وحكم
ص: 122
العقل بوجوبها لتحصيل الغرض، مع أنّ صاحب الکفایة(قدس سره) ذهب إلى دخلها في الغرض ووجوبها بحكم العقل لتحصيل الغرض وجعلها ملاكاً لصحّة الأفعال العباديّة وعباديّتها.
ثالثتها: أنَّ المأمور به الّذي تكون له أجزاء متعدّدة وشرائط متكثّرة تارة يكون تمام أجزائه وشرائطه غير حاصلة، واُخرى يكون بعضها حاصلاً وبعضها غير حاصل، ولا ريب أنّ الأمر يدعو ويبعث المكلّف إلى إتيان الجميع في الصورة الاُولى وإلى الجزء أو الشرط الّذي لا يكون حاصلاً في الصورة الثانية، ولا يدعو إلى الحاصل لأنّه محال.
رابعتها: لا ريب أنّ الأمر ليس بنفسه علّة لإطاعة المكلّف وتحقّق المأمور به في الخارج بل الأمر لا يكون إلّا محقّقاً لموضوع الإطاعة الّذي ينتظره العبد بمقتضى واحدة من الحالات النفسانية الخمسة على سبيل مانعة الخلوّ وهي كما يلي:
الاُولى: اعتقاد المكلّف باستحقاق المولى للعبادة وأهليّته لها.
الثانية: وصول المكلّف إلى مرتبة فناء دواعيه النفسانية ومقهوريّته تحت نور جماله وجلاله وكبريائه، وتأثير عظمة المولى في نفسه، ونورانية سماء قلبه بسبب إشراقات أنوار كماله وقدرته وسائر صفاته وأسمائه، بحيث لو أمره المولى بفعلٍ تحرّكه هذه الملكة النفسانية بتمام شوقه وهمّه نحو العمل وإطاعة المولى.
الثالثة: يلاحظ المكلّف كثرة نعماء المولى وشدّة اهتمامه بتربية عبده وعظمة آلائه، فيراه مستوجباً لأنواع الشكر، فيقوم بأداء وظيفته وإطاعة أمر المولى حسب قدرته شكراً لبعض آلاء ربّه وتعظيماً له.
الرابعة: شدّة الخوف من عقاب ربّه بحيث يدعوه إلى إطاعة أوامره ونواهيه.
الخامسة: إشتياقه وطمعه بما عند ربّه من الفضل والإحسان وجزيل الثواب، بحيث يبعثه ذلك إلى تحصيل مرضاته وإطاعته دركاً لبعض فضله وجزيل ثوابه.
ص: 123
فهذه الحالات الخمسة كلّها أو بعضها تكون علّة لإطاعة المكلّف وامتثال أوامر مولاه.
وبمجرّد حصول واحدة منها تتحقّق علّة الإطاعة، بحيث لا يكون فصل بين هذه الحالة وإتيان العبد بما يتحقّق به إطاعة المولى إلّا أمر المولى. فالأمر إنّما يحقّق موضوع الإطاعة، وأمّا نفس الإطاعة فهي معلولة لإحدى الحالات الخمسة.
فتلخّص ممّا ذكر: أنّ إرادة الإطاعة وقصد العبادة من العبد تحصل قبل أمر المولى، وبعد صدور أمره يصير العبد في مقام الإتيان ويأتي بالمأمور به بقصد الطاعة بمقتضى هذه الحالة من غير أن يكون قصد الإطاعة مستنداً إلى الأمر.
إذا عرفت ما تلوناه عليك فاعلم: أنّه يمكن التفصّي عن الإشكال بوجهين.
الأوّل: أنّ الأمر وإن كان متعلّقاً بالفعل مشروطاً بقصد القربة والامتثال إلّا أنّه لا يتعلّق الأمر بقصد القربة بنفسه ولا يدعو الأمر إليه أصلاً، ولا يكون هذا القصد متوقّفاً على الأمر حتى يستلزم المحال.
أمّا عدم تعلّق الأمر بقصد القربة بنفسه فلما ذكرناه آنفاً في المقدّمة الثانية من عدم تعلّق أمر حقيقيّ بالأجزاء والشرائط.
وأمّا أنّه لا يدعو الأمر إلى قصد القربة فلما ذكرناه كذلك في المقدّمة الثالثة من عدم دعوة الأمر إلى الشرط والجزء الحاصل. وقد تبيّن في المقدّمة الرابعة حصول ذلك الشرط، أي قصد القربة، بسبب إحدى الحالات المذكورة.
وأمّا عدم توقّف قصد الأمر على تحقّق الأمر بمعنى عدم استناده إليه فبمقتضى المقدّمة الرابعة أيضاً، فإنّ قصد القربة مستند إلى الحالات النفسانية المذكورة، فإذا أمره المولى بالصلاة والصيام مثلاً يوجد في نفسه بمجرّد هذا الأمر قصد إتيان الصلاة والصوم طاعة له من دون أن يكون هذا القصد مستنداً إلى الأمر.
الثاني: أنّ الأمر متعلّق بعنوان الصلاة إلّا أنّ انطباق هذا العنوان على هذه الأفعال
ص: 124
الخارجية موقوف على قصد القربة عقلاً، وقد كشف الشارع عن دخل قصد القربة في هذا الانطباق بسبب أخذه في متعلّق الأمر، لکنّه - أي القصد - ليس متوقّفا على انطباق ذلك العنوان على هذه الأفعال حتى يلزم الدور، بل هو متوقّف على إحدى الحالات الخمسة المذكورة.
هذا تمام الكلام فيما هو مناسب للمقام.
تستنتج ممّا مرّ نتيجتان:
الاُولى: إمكان التمسّك بالإطلاق إن قلنا بإمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر، وعدم إمكانه لو قلنا بعدم إمكان أخذه في المأمور به. فالذاهب إلى الأوّل يتمسّك بالإطلاق، والقائل بالثاني لا يتمسّك به.
الثانية: أنّه بعد فرض عدم إمكان التمسّك بالإطلاق ففي مقام العمل هل يكون الأصل العملي البراءة أو الاشتغال؟ فيه وجهان، يطلب تفصيله من مبحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين لأنّه المناسب لهذا البحث، كما لا يخفى أنّ المناسب لمباحث الأوامر ليس إلّا البحث في ماهيتي التعبّدي والتوصّلي، والبحث عن إمكان أخذ قصد التقرّب في الأمر وعدمه، فلذلك نكتفي بهذا المقدار من مقتضى الأصل اللفظي والعملي، ونختم الكلام في المقام. والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على خير خلقه أجمعين محمّد وآله الطاهرين.
ص: 125
ص: 126
وفيه مبحثان:
المبحث الأوّل: في المرّة والتكرار
المبحث الثاني: في الفور والتراخي
الحقّ أنّه لا دلالة للصيغة على المرّة ولا على التكرار،((1)) بل لا تدلّ إلّا على طلب إيجاد الطبيعة، سواء كان المراد من المرّة الفرد الواحد من الطبيعة أو الدفعة((2)) بمعنى إيجاد الطبيعة دفعة واحدة ولو كان في ضمن أزيد من الفرد الواحد. وسواء كان مراد القائل بالمرّة عدم وجوب إتيان الزائد عليها بمعنى أنّ المأمور به المرّة لا بشرط حتى لا يكون الإتيان بالزائد موجباً للبطلان أو كان مراده بالمرّة بشرط لائية المأمور به حتى يكون الإتيان بالزائد موجباً لفساد المأتيّ به. ففي جميع هذه الصور نقول بعدم
ص: 127
دلالة الصيغة إلّا على طلب إيجاد الطبيعة، فليست للصيغة دلالة على المرّة أصلاً. وهكذا الكلام في جانب التكرار سواء كان مرادهم من التكرار تكرار المرّة بالمعنيين الأوّلين أو بالمعنيين الثانيين.
بناءً على المختار إذا أتى بفرد من المأمور به يسقط الأمر ويكتفى به في مقام الامتثال. فلو أتى بفرد آخر ثانياً يكون لغواً، لأنّه قد سقط الأمر بإتيان الفرد الأوّل. والقول بعدم سقوطه يستلزم طلب الحاصل المحال.
ولا ريب في تحقّق الامتثال أيضاً لو أتى بأفراد متعدّدة دفعة واحدة، كما إذا أمره المولى بعتق رقبة فأعتق جميع عبيده، فلا شكّ في حصول الامتثال وسقوط الأمر.
ولكنّ الإشكال في أنّ هذا هل يُعدّ امتثالاً واحداً أو أنّه امتثالات متعدّدة؟ ففي المسألة أقوال، ثالثها: التفصيل((1)) والإحالة إلى قصد الممتثل، فلو قصد الامتثال بجميع الأفراد أي بکلّ فرد منها يكون ذلك امتثالات متعدّدة. وأمّا لو قصد الامتثال بالمجموع أو بواحد منها يكون امتثالاً واحداً .
وأمّا وجه القول الأوّل: أنّ المطلوب ليس إلّا إيجاد أصل الطبيعة، وأمّا التعيّنات والتشخّصات فهي خارجة عن متعلّق الطلب وتأتي من ناحية وجود الطبيعة في الخارج: فالدخل لها في المطلوب، ففي فرض الإتيان بأفراد متعدّدة لا يتحقّق الامتثال إلّا بأصل الطبيعة وهي أمر واحد.
وفيه: وإن كان المطلوب إيجاد أصل الطبيعة وعدم دخالة خصوصيّاتها المفردة فيه، إلّا أنّ المكلّف قد أوجد الطبيعة بإيجاد کلّ فرد وتُحمل الطبيعة على کلّ فرد بالحمل
ص: 128
الشائع الصناعي، والأفراد المتعدّدة الحاصلة دفعة من الطبيعة وجودات متعدّدة لها لا وجودٌ واحدٌ،((1)) وقد ذكرنا أنّ المطلوب بالصيغة ليس إلّا نفس الطبيعة فلا محالة يصدق على إيجاد کلّ فردٍ منها إيجاد تلك الطبيعة، فيصدق على إيجاد کلّ من الأفراد امتثال الأمر المتعلّق بالطبيعة، فلا يكون الامتثال امتثالاً واحداً بل يُعدّ امتثالات متعدّدة. وهذا، أي القول الثاني، أقوى القول في المسألة.
وأمّا القول بالتفصيل ودخالة القصد في تعدّد الامتثال وعدمه، فلا وجه له. نعم، لو كان الأمر تعبّدياً فبالنسبة إلى کلّ فرد قصد الامتثال يحصل الامتثال. وبالنسبة إلى فردٍ لم يقصد ذلك فلا، ولكن هذا لا يكون لدخالة القصد في الامتثال، بل لأجل عدم إتيانه بتمام المأمور به بالنسبة إلى فردٍ لم يقصد بإتيانه الامتثال.
بعدما ظهر لك عدم دلالة الصيغة على المرّة والتكرار يظهر لك أيضاً عدم دلالته على الفور والتراخي، بل لم أجد قائلاً بدلالتها على التراخي. نعم، ذهب بعضهم كالشيخ الطوسي(قدس سره)((2)) إلى دلالته على الفور، فعلى هذا لا تكون المسألة إلّا ذات قولين لا أزيد.
الأمر عقيب الحظر ثم إنّه لا يخفى عليك: أنّه وإن اختلفوا في دلالة الأمر الصادر عقيب الحظر أو توهّمه في دلالته على نفي الحظر السابق ورفع توهّمه - أي الإباحة - أو الوجوب، ولكنّ الحقّ عدم وجود ضابطة في ذلك، فعلى المجتهد التامّل التامّ في الموارد، لأنّه قد يكون ظا
ص: 129
ص: 130
إعلم: أنّ كلمات الاُصوليّين اختلفت في تحرير عنوان المسألة، فبعضهم قال: إنّ الأمر هل يقتضي الإجزاء أم لا؟((1)) وبعضهم قال: إنّ الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء أم لا؟((2)) وبعضهم زاد عليه قَيد «على وجهه»((3)) ردّاً على ما ذهب إليه القاضي عبد الجبّار العامّي،((4)) الّذي أدخل هذه المسألة في الاُصول وقال فيها بعدم الإجزاء. وسبب ذلك أنّه رأى في الفقه أنّ المكلّف لو صلّى مع الطهارة المستصحبة ثم بان الخلاف لا تجزيه
ص: 131
تلك الصلاة، فذهب إلى القول بأنّ الإتيان بالمأمور به لا يقتضي الإجزاء، فأجابوا عنه بأنّ العلّة للإجزاء إتيان المأمور به على وجهه، أي بتمام ما هو معتبر فيه وموجب لتحصيل الغرض، وتلك الصلاة ليست كذلك فيحكم بعدم الإجزاء.((1))
فهذا هو السبب لإضافة القيد المذكور إلى العنوان لا ما ذكره صاحب الكفاية من أنّه اُضيف في العنوان ليكون شاملاً ما يعتبر في المأمور به شرعا وعقلاً كقصد القربة الّذي لا يمكن أخذه - على مبناه - في المأمور به، فهذا القيد جاء في العنوان حتى يشمل قصد القربة المعتبر عقلاً، فلا نظر فيه إلى خصوص ما يعتبر شرعاً، لأنّه عليه يكون توضيحيّاً لا احترازيّاً.((2))
وفساد هذا التفسير يظهر لمن يتأمل في تاريخ حدوث القيد المذكور، فإنّه قيد نشأ بين القدماء، فكيف يمكن أن يكون ناظراً إلى خلاف المتأخّرين من إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به؟ وقد نشأ هذا الخلاف في زمن الشيخ الأنصاري(قدس سره)((3)) وهو أوّل من تفطّن بالموضوع، فلا وجه لما ذكره في الكفاية.
كما أنّه لا وجه لكون هذا القيد إشارة إلى قصد الوجه، لأنّه مضافاً إلى ما أنكره الأكثر((4)) لا خصوصية له بالذكر.
لا يخفى عليك: أنّ المراد من «الاقتضاء» في قولهم: «إنّ الأمر يقتضي الإجزاء» هو
ص: 132
«دلالة» الأمر على إجزاء الإتيان بالمأمور به.
وأمّا المراد منه (الاقتضاء) إذا نسب إلى الإتيان بالمأمور به هو العلّية التامّة((1)) من حيث إنّ الآمر الحكيم إذا أمر بشيء لأجل حصول غرض فلا محالة يأخذ تحت أمره کلّ ما له دخل في تحصيل غرضه ولا يجوز عليه أن يأمر بما هو أعمّ من محصّل غرضه أو أخصّ منه، وإلّا يكون ناقضاً لغرضه، وحينئذٍ إذا أتى المكلّف بالمأمور به على وجهه فلابدّ من حصول الغرض وتحقّق الامتثال وسقوط الأمر. أمّا حصول الغرض، فلأنّ المولى أخذ کلّ ما له دخل في حصول غرضه في المأمور به وقد أتى المكلّف به. وأمّا تحقّق الامتثال، فلأنّه يتحقّق بإتيان المأمور به على وجهه، والمفروض أنّ المكلّف أتى به كذلك. وأمّا سقوط الأمر، فلأنّه لا مجال بعد ذلك لبقائه وإلّا يلزم طلب الحاصل، وهو محال، كما لو أمر به ثانياً.
ومن هنا يظهر معنى الإجزاء بأنّ معناه والمراد منه كفاية المأتيّ به عن الغرض الموجب للأمر.((2)) وهذا موافق لما ذهب إليه القائل بالإجزاء، وأمّا القائل بعدم الإجزاء فينكر ما ذكرناه من الدلالة والعلّية وكفاية الإتيان بالمأمور به عن الغرض.
لا يخفى عليك: الفرق بين مسألتنا هذه((3)) ومسألة المرّة والتكرار، فإنّ النزاع في مبحث المرّة والتكرار إنّما يجري في أنّ المأمور به بحسب دلالة الأمر هل هو المرّة أو التكرار؟ وهذا بخلاف ما نحن فيه، إذ النزاع هنا واقع في أنّ الإتيان بالمأمور به مرّة
ص: 133
كان أو مكرّراً هل يجزي أم لا؟ فالنزاع الواقع في مسألة الإجزاء يكون كبروياً وفي مسألة المرّة والتكرار صغروياً.
وأمّا الفرق بين هذه المسألة و مسألة تبعية القضاء للأداء فممّا لا يحتاج إلى بيان، لأنّ البحث في مسألة التبعية في أنّ وجوب القضاء هل هو بالأمر الأوّل أو يحتاج إلى أمر جديد؟ مضافا إلى أنّ موردها عدم الإتيان بالمأمور به، وهذا بخلاف مسألة الإجزاء، فإنّ موردها الإتيان بالمأمور به والبحث في إجزائه وعدمه.
هذا تمام الكلام في مقدّمات البحث. وأمّا الكلام في أصله، فيقع في ثلاث مواضع. ونبدأ سائلين من الله تعالى الإعانة والتوفيق فإنّهما خير رفيق.
يقع البحث هنا في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي، والمأمور به بالأمر الظاهري، والمأمور به بالأمر الاضطراري عن التعبّد ثانياً بکلّ واحد من هذه الأوامر في نفس مرتبتها، فنقول:
لا إشكال في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي - وهو الأمر الّذي يتعلّق بالموضوع بما هو و بعنوانه الأوّلي - عن الأمر به ثانياً.
كما لا إشكال في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري - وهو الّذي يتعلّق بالموضوع بملاحظة العجز عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الأوّلي - عن الأمر به ثانياً بنفس الأمر الاضطراري، وهكذا الكلام في الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري - وهو الأمر المتوجّه إلى المكلّف في ظرف الاشتباه وجهله بالحكم الواقعي وموضوعه - فإنّه أيضاً موجب للإجزاء وسقوط أمره، فلا يجب الإتيان به في ثاني الحال مع بقاء جهله.
ص: 134
ولو فرض في هذه الثلاثة بقاء الأمر لكان لغواً، بل يكون محالاً لأنّه طلب الحاصل. ولا يمكن أيضاً الأمر بها بملاك الغرض الحاصل من الموارد الثلاثة، لعدم فوت شيء من الغرض، وهذا واضح.
أمّا ما ذكره في الكفاية((1)) من تبديل الامتثال، كما لو أمره المولى بإتيان الماء فأتى به ولكن لم يشربه المولى بعدُ فله أن يبدِّل ذلك الماء بماءٍ آخر.
ففيه: أنّ المكلّف وإن أتى بالفعل المتعلّق للأمر إلّا أنّه ما کان مطلوبا نفسيا، فما دام لم يحصل غرض المولى من ترويته وإسقائه لم يسقط أمره ومطلوبه النفسي، فعلى المكلّف إتيان الماء الموصل إلى الغرض والمطلوب النفسي، فليس ما ذكره من المثال من باب تبديل الامتثال.
هل يجزي الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر الاختياري الواقعي بعد رفع الاضطرار أم لا؟ فهل تجب الإعادة في الوقت أو القضاء خارجه أم لا؟ في المسألة فروض ممكنة، قال في الكفاية في تصويرها:
إنّ التكليف الاضطراري إمّا أن يكون وافياً بتمام الغرض والمصلحة، أو لم يكن كذلك، بل يبقى منه شيء أمكن استيفاؤه، أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه، أو بمقدار يستحبّ.
ص: 135
ثم ذكر أحكام الأقسام من الإجزاء وعدمه وجواز البدار في بعض الصور، وذكر أنّ المرجع في مقام الإثبات هو الإطلاق لو كان، كظاهر قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ...﴾((1)) الآية؛ وقوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «التیمّم أحد الطهورين»((2)) فإنّ ظاهرهما الإجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء. وإلّا فالأصل يقتضي البراءة لكونه شكّاً في أصل التكليف.((3))
هذا، ولكنّه مبنيّ على تغاير الأمرين (الاختياري والاضطراري) وكونهما في عرض واحد، فعليه يبحث عن كفاية أحدهما عن الآخر. وأمّا بناءً على التحقيق في المسألة من طولية الأفراد وتعلّق الأمر بالطبيعة الّتي لها أفراد ومصاديق بعضها لصورة الاختيار وبعضها الآخر لصورة الاضطرار، فلا يأتي البحث عن كفاية أحدهما عن الآخر، فإنّ الصلاة - مثلاً - طبيعة لها أفراد ومصاديق بحسب أحوال المكلّفين، ففي حال فقدان الماء يكون فردها ومنطبقها الصلاة مع الطهارة الترابية، وفي حال وجدان الماء يكون ما تصدق عليه الطبيعة المأمور بها الصلاة مع الطهارة المائية. وأيضاً في حال تمكّن المكلّف من القيام يكون ما ينطبق عليه عنوان المأمور به والطبيعة الواقعة تحت الأمر الصلاة قائماً، وفي حال عدم تمكّنه من القيام يكون مصداق الطبيعة المذكورة الصلاة قاعداً، وفي حال عدم تمكّنه منه الصلاة مضطجعاً، فجميع هذه الصلوات أفراد لطبيعة الصلاة، وهي تصدق على کلّ واحدة منها، فلا يبقى مجال لبحث الكفاية.
ومن الواضح: أنّ متعلّق الأمر في قوله تعالى: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ طبيعة الصلاة، هذه
ص: 136
فرد لها وتلك فرد آخر وهكذا، وهذا ممّا لا إشكال فيه، فما حُكي عن الشيخ(قدس سره) من بدلية صلاة المتيمّم المضطرّ عن الصلاة الكامل المختار، بعيد عن الصواب ومخالف لظواهر الأخبار والكتاب كقوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طِيِّباً﴾ إلى قوله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ...﴾((1)) الآية؛ وقوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَوةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أوْ رُكْبَاناً...﴾((2)) الآية.
فإنّ الظاهر من الآيتين كون الصلاة مع الطهارة الترابية في حال عدم وجدان الماء، وراكباً في حالة الخوف فردان واقعيّان لطبيعة الصلاة المأمور بها، كما أنّ الصلاة مع الطهارة المائية في حال وجدان الماء، والصلاة في غير حال الخوف فردان لها من غير فرق بينها.
والحاصل: أنّه وإن كان يظهر من كلمات المتأخّرين أنّ محلّ النزاع في إجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن المأمور به الواقعي فيما يكون للشارع أمر متعلّق بالمكلّف في حال الاختيار، وأمر آخر متعلّق به في حال الاضطرار، إلّا أنّ هذا بعيد عن الصواب وغير قابل لأن يُعدّ محلّ البحث والنزاع؛ لأنّه لا ينبغي توهّم إجزاء الإتيان بما هو المأمور به لأمر عمّا هو المأمور به لأمر آخر وإلّا فيصحّ أن يكون النزاع في إجزاء الإتيان بالصلاة عن الصوم والزكاة وغيرهما. نعم، يمكن دلالة دليل بالخصوص على ذلك في مورد واقتصار المولى في صورة الإتيان بأحدهما عن الآخر، ولكن هذا غير إجزاء نفس الإتيان بأحدهما عن الآخر، فالصحيح أن يكون محلّ البحث: إجزاء الإتيان بالفرد الاضطراري عن الأمر بالطبيعة. ولعمري هذا واضح
ص: 137
غير محتاج إلى بيان، ولكن حيث كان ظاهر عباراتهم موهماً لذلك، أطلنا الكلام فيه. ولذا لو راجعنا كلمات المتقدّمين، نجد في بعض كلماتهم ما يوافق ما ذكرناه ويصدّقه، مثل ما يستفاد من المحقّق(قدس سره) في المعتبر في مسألة: إذا كان معه ماء فأراقه، ما هذا لفظه: «إذا كان معه ماء فأراقه قبل الوقت، أو مرّ بماءٍ فلم يتطهّر ودخل الوقت ولا ماء، تيمّم وصلّى ولا إعادة، ولو كان ذلك بعد دخول الوقت فكذلك. وللشافعي وأحمد هنا روايتان، أحدیهما: يعيد؛ لأنّه فرّط في الصلاة مع القدرة على طهارة كاملة. لنا أنّه صلّى مستكملة الشرائط، فتكون مجزية. والإراقة للماء سائغة، فلا يترتّب عليها لواحق التفريط».((1))
هذا ولا يخفى: أنّه ليس محلّ النزاع أيضاً صورة بقاء حالة فقدان الماء، أو عدم التمكّن من القيام أو القعود وغيرها إلى آخر الوقت، لأنّه ليس في هذه الصور تخيير للمكلّف في إتيان الفرد الاضطراري والاختياري مع انحصار ما هو منطبق لطبيعة الصلاة المأمور بها بفرد واحد، فلا يكون الفرد الاختياري فرداً بحسب حاله، فلا ينبغي في هذه الصورة توهّم عدم الإجزاء.
فروح البحث ومرجع النزاع راجع إلى ما إذا كان المكلّف فاقداً للماء في أوّل الوقت، وواجداً له في آخر الوقت، وأتى بالمأمور به في حال الاضطرار.
ولم نقل بأنّ المستفاد من الأدلّة كون الصلاة مع الطهارة الترابية فرداً لها في حال فقدان الماء في جميع الوقت، حتى لو لم يبق المكلّف على حاله من فقدان الماء في جميع الوقت يجب الالتزام بعدم كون ما أتى به فرداً للطبيعة المأمور بها؛ لأنّه لو قلنا ذلك لم يبق لهذا النزاع مجال أصلاً، ولم تترتّب عليه فائدة وثمرة.
ص: 138
فالنزاع يقع فيما إذا قلنا بأنّ المستفاد من الأدلّة أنّ للواجب بحسب حال المكلّف فردين، فرد مع الطهارة الترابية في أوّل الوقت، وفرد مع الطهارة المائية في آخره، فما هو المنطبق على للطبيعة المأمور بها في أوّل الوقت فرد، وفي آخره فرد آخر. بمعنى أنّ المكلّف مخيّر إمّا شرعاً((1)) وإمّا عقلاً فيما كلّفه الشارع - من إتيان الصلاة - أن ينتخب أحد فردي الطبيعة.
إذا عرفت محلّ النزاع ومركب البحث، فاعلم: أنّ مقتضى القاعدة، كما ظهر لك ممّا ذكر، فيما إذا أتى المكلّف بالصلاة في أوّل الوقت مع الطهارة الترابية، إجزاؤها عن صلاة اُخرى في آخر الوقت مع الطهارة المائية. إذ لا مجال لعدم الإجزاء وعدم سقوط الأمر بعد إتيان ما هو فرد للمأمور به. نعم، يمكن دلالة دليل خاصّ على عدم إجزاء الفرد الاضطراري عن الفرد الاختياري، لكن هذا فيما إذا لم يكن إطلاق للأمر المتعلّق بالطبيعة فيدلّ على فردية ذلك الفرد بمجرّد عروض حالة فقدان الماء، أو عدم التمكّن من القيام.
ثم إنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) بعدما ذكر في مقام الإثبات: أنّ المتَّبع هو الإطلاق لو كان، قال: «وإلّا فالأصل، وهو يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة لكونه شكّاً في أصل التكليف... إلخ».((2))
وفيه: أنّه لو لم يكن إطلاق للدليل، لا مجال لإجراء البراءة والقول بالإجزاء، بل المرجع هو الاشتغال؛ لأنّ الشكّ بعد العلم بأصل التكليف يرجع إلى الشكّ في
ص: 139
السقوط بأنّ التكليف الثابت يقيناً هل سقط بالإتيان الكذائي أم لا؟ ولا ريب في أنّ المرجع حينئذٍ هو الاشتغال، فلابدّ من القول بوجوب الإعادة أو القضاء.
لا يذهب عليك وجه ما ذهبنا إليه في الفقه في بعض حواشينا، وما كان في فتاوى المتقدّمين، من عدم إجزاء بعض الأفعال في ظرف الاضطرار عمّا هو المأمور به في حال الاختيار، كما إذا حكم قاضي العامّة بالعيد في يوم الثلاثين من شهر رمضان، فالواجب على المكلّف في موارد التقيّة، متابعة رأيه وإفطار الصوم، لحفظ نفسه ودفع ضررهم،((1)) فإنّ الحكم في المقام عدم الإجزاء؛ لعدم ما یدلّ على انطباق عنوان الصوم المأمور به على هذا العمل، وكونه فرداً لطبيعة الصوم. غاية الأمر یدلّ على عدم حرمة الإفطار وعدم وجوب الإمساك تكليفاً لا وضعاً، فلا يدلّ على عدم كون الأكل مفطراً. وليس هذا كالصلاة مع الطهارة الترابية في أوّل الوقت إذا كان فاقداً للماء، فإنّها مصداق لطبيعة الصلاة المأمور بها كما لا يخفى.
فإذا كان الإفطار بالاضطرار فرداً للطبيعة المأمور بها يسقط الأمر بالصوم أيضاً ولحكمنا بالإجزاء. وقس على ذلك نظائر هذا المثال في كلّ مورد يرفع دليل الاضطرار الأمر بالطبيعة فقط من دون أن يجعل المضطرّ إليه فرداً للطبيعة، والله الهادي إلى الصواب.
ص: 140
قال في الكفاية بما ملخّصه: لو كان الدليل الدالّ على الحكم الظاهري أصلاً من الاُصول العملية كأصالة الطهارة والحلّية فالإتيان بالمأمور به يكون مجزياً عن الواقع حتى في صورة انكشاف الخلاف.
وأمّا لو كان دليله الأمارة، فإن قلنا بطريقية الأمارات فلازمه عدم الإجزاء بعد انكشاف الخلاف. وأمّا إن قلنا بالسببية وأنّه بواسطة قيام الأمارة على شيء توجد في المؤدّى مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع ومفسدة تركه، فلابدّ من القول بالإجزاء لو كانت المصلحة المتدارك بها مطابقة لمصلحة الواقع، وإن لم تكن مطابقة لها فالكلام الكلام المذكور في الأمر الاضطراري.
وأمّا في صورة الشكّ في كون الأمارة حجّة من باب الطريقية أو السببية فمقتضى أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف الإعادة في الوقت... إلخ.
وأفاد في وجه إجزاء الحكم الظاهري فيما يكون دليله الأصل: بأنّ ذلك مقتضى ملاحظة دليل الأصل ودليل الحكم الواقعي، وبيان ذلك: أنّا نلاحظ قوله(قدس سره): «كلّ شيء طاهر»؛((1)) ونستفيد منه تنزيل مشكوك الطهارة منزلة الطهارة الواقعية؛ لأنّه لو اُريد منه ظاهره يلزم الكذب، فيستفاد منه أنّ کلّ شيء بمنزلة الطاهر الواقعي حتى انكشاف الخلاف ثمّ ينضمّ هذا الدليل إلى دليل الحكم الواقعي - وهو اشتراط الصلاة
ص: 141
بطهارة البدن واللباس، مثل قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا صلاة إلّا بطهور»؛((1)) و «لا يقبل الله تلك الصلاة إلّا فيما أحلّ الله أكله»، فنستنتج من الجمع بينهما: أنّ شرط الصلاة هي الطهارة الّتي تكون أعمّ من الظاهرية والواقعية، وكذلك حلّية اللباس؛ لأنّ دليل الأصل حاكم عليه وناظر إليه ومبيّن لدائرة الشرط، هذا.((2))
ولا يخفى عليك: أنّ تقسيمه - على الظاهر - ليس بحاصر؛ لأنّ تقسيمه إنّما يكون متكفّلاً لبيان الحكم في الموضوعات والشبهات الموضوعية بأنّه إذا كان الحكم الظاهري ممّا يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلّقه وكان بلسان تحقّق ما هو شرطه أو شطره، كقاعدة الطهارة أو الحلّية، فانكشاف الخلاف لا یدلّ على عدم إجزائه عن الحكم الواقعي. وإذا كان الحكم الظاهري بلسان تحقّق ما هو الشرط واقعاً، كالأمارة، فبناءً على الطريقية لا يجزي، وبناء على السببیّة يجزي لو كان وافياً بتمام المصلحة، أو لم يكن وافياً بتمام المصلحة ولكن كان الباقي غير ممكن التدارك، أو غير واجب التدارك.
فكما ترى ليس في كلامه حكم الشبهات الحكمية مثل ما إذا شكّ في جزئية السورة ودلّت الأمارة أو دليل شرعي آخر كأصالة البراءة على عدمها، ثم انكشف الخلاف. فكلامه ساكت عن حكم هذه الصلاة الفاقدة للسورة الّتي تكون فرداً لطبيعة الصلاة وأنّها مجزئة عن الصلاة الواجدة لها أم لا؟
لا يقال: إنّه قد ذكر في آخر كلامه حكم الفرض المذكور بقوله: «وأمّا ما يجري في إثبات أصل التكليف... إلخ».
ص: 142
لأنّه يقال: المذكور في آخر كلامه ليس إلّا حكم صورة الشكّ في الموضوعين، أي صلاة الظهر والجمعة. وأمّا الحكم بالنسبة إلى الشبهات الحكمية الراجعة إلى موضوع واحد كالشكّ في أصل جزئية السورة ليس مذكوراً في كلامه.
إنّ النزاع في إجزاء الأوامر الظاهرية - سواء كان دليلها الأصل أو الأمارة - عن الأوامر الواقعية، لا يقع فيما إذا قامت أمارة أو أصل على نفي وجوب شيء ثم انكشف أنّ الواقع وجوبه، أو على وجوب فعل مع كون الواجب غيره، كما إذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ثم انكشف أنّ الواجب صلاة الظهر، فهذه الموارد خارجة عن محطّ النزاع لأنّه لا إشكال في عدم إجزاء الإتيان بمتعلّق أمر عن متعلّق أمر آخر.
فمحلّ الكلام ومورد النقض والإبرام في مركّب ذي أجزاء وشرائط وموانع، بأن يكون الحكم - أصلاً كان دليله أو أمارة - دالّا على عدم اعتبار شيء في المأمور به أو عدم قاطعية شيء فيه، أو دلّ على حصول جزء أو تحقّق شرط من شروط المأمور به ثم انكشف بعد الإتيان خلاف ذلك.
وبعبارة اُخرى: النزاع واقع فيما إذا كان الحكم راجعاً إلى كيفيّات المأمور به.
وبعبارة ثالثة: محلّ النزاع ومورد الكلام فيما إذا كان الحكم متعلّقاً بعنوان كالصلاة ودلّ الحكم الظاهري على حصول هذا العنوان في ظرف الشكّ. فلا مجال لتوهّم وجود أمرين في هذه الموارد يكون أحدهما متعلقاً بالواجد للسورة مثلاً وهو الحكم الواقعي، والآخر متعلّقاً بالفاقد لها في صورة الجهل وهو الحكم الظاهري. بل ليس في البين إلّا أمر واحد متعلّق بطبيعة الصلاة - مثلاً - يكون لها مصداق واقعي ومصداق آخر ظاهري، فيبحث عن إجزاء الإتيان بالمصداق الظاهري عن الأمر بالطبيعة.
ص: 143
وعلى کلّ حال، فمقتضى التحقيق حسبما يؤدي إليه النظر الدقيق أن يقال: إنّ الكلام تارة يقع في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري فيما يكون دليل الحكم أصلاً من الاُصول. واُخرى في إجزائه فيما يكون الدليل الدالّ عليه أمارة من الأمارات. ولنقدّم الكلام فيما يستفاد من الجمع بين دليل الحكم الظاهري - أصلاً كان أو أمارة - ودليل الحكم الواقعي بحسب مقام الإثبات، وذلك ينعقد في مقامين:
إذا كان دليل الحكم أصلاً من الاُصول، كأصالة الطهارة وأصالة الحلّية وقاعدة البناء على إتيان ما شكّ في إتيانه بعد الدخول في الجزء المترتّب عليه، أي قاعدة التجاوز أو الفراغ،((1)) نلاحظ مفاد کلّ واحد من أدلّة هذه الاُصول مثل «كلّ شيء طاهر...»؛((2)) أو «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال...»؛((3)) ونرى دلالة الأوّل على الحكم بطهارة مشكوك الطهارة والثاني على حلّية مشكوك الحلّية، ثم نلاحظ الأدلّة الأوّلية الدالّة على اشتراط الصلوات الخمس اليومية بطهارة البدن واللباس،
ص: 144
فنحكم في ظرف الشكّ بمقتضى الجمع بين الدليلين باشتراط الصلاة بالطهارة والحلّية أعمّ من الظاهرية والواقعية. فدليل الأصل يوسّع دائرة التكليف ويبيّن وظيفة المكلّف في حال الشكّ بأنّ تكليفه في حال الشكّ يكون هكذا استمرّ شكّه بعد ذلك أم لا؟ فلا يتصوّر في مثله انكشاف الخلاف وعدم الإجزاء، لأنّه عمل بوظيفته وأتى بما هو مأمور به ومصداق للطبيعة.
وهكذا الحال بالنسبة إلى قاعدة التجاوز أو الفراغ، وهي قوله: «إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء»؛((1)) فإنّ مفادها جواز البناء على إتيان المشكوك بعد الدخول في الجزء المتأخّر عنه. وهذا حكم تعبّدي مورده الشكّ الفعلي، توسّع به دائرة موضوع الصلاة. وليس مشروطاً باستمرار الشكّ، بل بمجرد حدّوث الشكّ يبنى على الإتيان، سواء استمرّ شكّه أم لا، فنستفيد من ملاحظة دليل هذه القاعدة مع دليل وجوب الصلوات اليومية فردية المأتيّ به للطبيعة المأمور بها ولو كان في الواقع فاقداً للجزء المشكوك، فهذا المأتيّ به فرد للصلاة منطبق لعنوانها، كما أنّ الفرد الواجد للجزء أو الواقع مع الطهارة الواقعيّة فرد لها. وهذا معنى إجزاء الفرد المأتيّ به في حال الشكّ عن الأمر بالطبيعة.
وكذلك الحال إذا دلّ الأصل كالبراءة الشرعية، على نفي جزئية شيء أو شرطيته أو عدم قاطعيته، فإنّ مقتضى ما يستفاد من حديث الرفع((2)) في جنب الأحكام الواقعية: كون الأصل المصطاد من مثل هذا الحديث حاكماً على تلك الأحكام وموسّعاً لدائرة الموضوع في ظرف الجهل أو النسيان، وأنّ هذا الفرد الفاقد للجزء (المنفيّ جزئيّته
ص: 145
بالأصل) فرد للمأمور به، فلا إشكال في کلّ ما كان من هذا القبيل من القول بالإجزاء واتّساع نطاق المأمور به. هذا كلّه فيما كان دليل الحكم الظاهري أصلاً.
وأمّا إذا كان دليل الحكم الظاهري أمارة من الأمارات كما إذا قامت البيّنة على إتيان الركوع، أو أخبر عدل بقراءة السورة، أو عدم جزئيّتها للصلاة، أو عدم مانعية القهقهة لها، وغير ذلك. فإن قلنا بلزوم ملاحظة لسان نفس الأمارة مع دليل الحكم الواقعي، فدلالته على عدم الإجزاء ممّا لا ينكر، لأنّ لسان الأمارة كما ينادي بحصول ما هو الشرط واقعاً، ينادي أيضاً بعدم الإجزاء بعد كشف الخلاف.
ولكنّنا لا نلاحظ لسان الأمارة بل نلاحظ دليل حجّية الأمارة مثل قول الشارع: إبن على قول العادل مثلاً، أو صدّق العادل، وما في معناهما، ونلاحظ معه دليل الحكم الواقعي، فلا نجد حينئذٍ فرقاً بين الاُصول والأمارات، فكما أنّ مقتضى ظهور دليل الأصل ودليل الحكم الواقعي كفاية الإتيان بالمصداق الظاهري للطبيعة، كذلك مقتضى ظهور دليل الأمارة عند ملاحظته مع الحكم الواقعي طابق النعل بالنعل، فيستفاد منهما أيضاً كفاية الإتيان بالمصداق الظاهري.
ولو أغمضنا عن ذلك وقلنا بأنّ دليل التعبّد بالأمارة لا يفيد الإجزاء، فلا وجه مع ذلك لما أفاده المحقّق الخراساني في الكفاية بقوله: «وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنّه ما هو الشرط واقعاً كما هو لسان الأمارات فلا يجزي، فإنّ دليل حجّیته حيث كان بلسان أنّه واجد لما هو شرطه الواقعي فبارتفاع الجهل ينكشف أنّه لم يكن كذلك».((1))
وذلك لأنّ دليل حجّية الأمارة ليس نفس الأمارة حتى يقال بأنّ لسانه لسان أنّه
ص: 146
واجد لما هو الشرط واقعاً، بل الدليل على حجّیتها هي الأدلة الّتي أقاموها على حجّية الخبر وغيره وليس في لسان هذه الأدلّة تحقّق ما هو الشرط أو رفع المانع واقعاً، بل مفادها التعبّد بقول العادل مثلاً في جعل الناقص فرداً للمأمور به تعبّداً.
والحاصل: أنّه لا فرق بين دليل الأصل والأمارة، فكما أنّ قوله: «كلّ شيء طاهر» يعيّن وظيفة المكلّف في ظرف الشكّ، كذلك حديث الرفع وغيرهما، فإنّ مقتضى هذه الاُصول في ظرف الشكّ إجزاء الصلاة الفاقدة للجزء أو الشرط مثلاً عن الواقع وكونها فرداً لطبيعة الصلاة كما أنّ صلاته الواجدة لهما في حال العلم تكون فرداً لها، كذلك مقتضى قوله: صدّق العادل مثلاً، وابن على قوله، تعيين وظيفة المكلّف في حال الشكّ، وبيان أنّ ما أخبر به العادل من إتيان الركوع أو عدم جزئيّة السورة للصلاة مثلاً فرد للطبيعة المأمور بها؛ لأنّ الواجب هو البناء العملي على قول العادل وإلغاء احتمال الخلاف عنه وترتيب آثار الصدق عليه بأن يعدّ المخبر عنه في ظرف الشكّ فرداً للمأمور به. فلا فرق بين لسان الأمارة ولسان الأصل، فإنّ كلّا منهما يعيّن تكليف الشاكّ في مقام الامتثال ويكون مرآة للفرد الّذي به يحصل الامتثال في ظرف الشكّ، فكما أنّ الأوّل موجب للإجزاء فليكن الثاني أيضاً كذلك.
إنّ ما ذكرناه من عدم الفرق بين الأمارات والاُصول في اقتضائهما الإجزاء، لا ينافي حكومة الأمارات على الاُصول، وذلك لأنّ المماثلة والمساواة إنّما تكون في مجرّد كون کلّ منهما حكم الشاكّ في مقام الامتثال، لا أنّ الأصل يكون كالأمارة في جميع الجهات، فإنّ من الواضح تقديم الأمارة على الأصل، لأنّ موضوعه - وهو الشاكّ - يزول بمقتضى الأمارة الّتي يبدّل الموضوع من الشاكّ إلى العالم بالحكم، يعامل
ص: 147
بمفادها معاملة الواقع، وينزّل منزلته، فدليلها مفسّر لدليل الأصل وشارح له وحاكم عليه، فلا يبقى معها مجال لجريان الأصل.
فتلخّص من جميع ما أسلفناه: أنّ مقتضى ظهور دليل الأصل أو الأمارة بعد ضمّهما إلى دليل الحكم الواقعي كون الفعل الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط فرداً للطبيعة الواقعة تحت الأمر. وهذا معنى الإجزاء المذكور في كلام القدماء من الفقهاء كالعلّامة والمحقّق وغيرهما5. فعلى هذا، يكون الفرد المأتيّ به في حال الشكّ فرداً للمأمور به واقعاً، ومجزياً عن الفرد الآخر. هذا تمام الكلام في مقام الإثبات والاستظهار من الاُصول والأمارات الشرعية.
وأمّا الكلام بحسب مقام الثبوت: فحاصله أنّه يرد على القول بالحكم الظاهري والواقعي وجوه من الإيراد: من لزوم اجتماع النقيضين، أو الضدّين، أو المثلين، أو تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة.
ولا يمكن الذبّ عنها بتقييد الحكم الواقعي بالحكم الظاهريّ، وتخصيص الحكم الواقعي بصورة العلم به؛ لأنّ هذا إنّما يتمّ لو كان الحكم الظاهري والواقعي في عرض واحد، وواردين على موضوع واحد، وأمّا مع تأخّر الحكم الظاهريّ عن الواقعي برتبتين (إحداهما نفس الحكم الواقعي، والثانية الشكّ فيه) فلا يمكن التقييد أو التخصيص؛ لأنّ الموضوع في أحدهما هو الشكّ في موضوع الآخر، فهما داخلان في باب التعارض.
هذا مضافاً إلى أنّ التقييد أو التخصيص مستلزم للدور؛ لأنّ الحكم بوجوب الصلاة مثلاً لو كان مقيّداً بصورة العلم به يلزم توقّف الحكم على العلم به، ولا ريب في أنّ العلم بالحكم أيضاً متوقّف على الحكم.
فالحقّ في الجواب أن يقال: إنّ الحكم إنّما اُنشئ مطلقاً من غير تقييد بالعلم والجهل.
ص: 148
وليس معنى إطلاقه أنّ المشكوك والمعلوم قد تعلّقت بهما إرادة الآمر، بل معناه أنّ الآمر أنشأ الحكم عارياً عن هذه القيود . إلّا أنّه لا يريد انبعاث المكلّف منه إلّا في ظرف العلم به. وذلك - أي عدم إرادة انبعاثه في صورة الجهل - ليس لقصور في ناحية الحاكم، بل القصور يكون في ناحية الحكم وهو في سلسلة علل الانبعاث، فإنّ الحكم لا يمكن أن يكون علّة لانبعاث المكلّف وحصول إرادة الفعل في نفسه إلّا في صورة علمه بالحكم، فالقصور راجع إلى ضيق دائرة العلّة.
ولو أراد الآمر انبعاث المأمور في جميع الأحوال فلابدّ له من التمسّك بأمر آخر يتعلّق بموضوع يكون دائم الموافقة أو غالب الموافقة مع الواقع، كأن يقول: إذا احتملت وجوب شيء فأت به.
لا يقال: يمكن أن ينبعث العبد من الأمر الأوّل في حال الجهل أيضاً لاحتمال وجود الأمر، فلا يحتاج الآمر إلى أمر آخر غير الأمر الأوّل.
فإنّه يقال: إنّ انبعاثه على هذا لا يكون من الأمر، بل يكون من احتمال وجود الأمر، فحال وجود الأمر الأوّل وعدمه سواء في انبعاث العبد.
إذا عرفت ما قلناه من إنشاء الحكم غير مقيّد بالعلم والجهل، وعدم انبعاث العبد إلّا إذا كان عالماً بالحكم، يمكّنك حينئذٍ أن تجمع بين الحكمين الواقعي والظاهريّ، بأن يكون الحكم الواقعي بالنسبة إلى الجاهل أو المضطرّ متوقّفاً في مرتبة الإنشاء وعدم وصوله إلى مرتبة الفعلية، وإنّما الفعلي في حقّه هو الحكم الظاهري، وبذلك يرتفع التنافي بين الحكمين في حقّ شخص واحد.
إن قلت: إنّ التحقيق على ما أفاده المحقّق الخراساني(رحمه الله) بقاء فعليّة الحكم الواقعي في ظرف الشكّ، وعذرية الحكم الظاهري في صورة الخطأ، وكونه ترخيصاً للمكلّف في هذه الصورة.
ص: 149
قلت: فساد هذا التحقيق أوضح من أن يخفى على مثله؛ لأنّ التنافي بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي مع بقاء فعليته كالنار على المنار ولو فسّرنا الحكم الظاهري بالترخيص في ترك الجزء أو الشرط في صورة الشكّ، لأنّ الترخيص منافٍ للبعث الفعلي نحو الفعل، كما أنّ الزجر عنه ينافي البعث نحوه. فلا مناص ممّا ذكرناه لحلّ التنافي من اختصاص فعلية الحكم الواقعي بالعالم، هذا.
وأمّا الإشكال بأنّ الذهاب إلى الإجزاء في مسألتنا هذه موجب للتصويب المجمع على بطلانه.
فيظهر جوابه بعد ذكر مقدّمة وهي: أنّ مسألة التخطئة والتصويب من المسائل المذكورة في الكتب الكلامية من أوائل ظهور علم الكلام، وكذلك الكتب الاُصولية من زمن الشيخ الطوسي(قدس سره) الّذي هو أوّل من صنّف في الاُصول كتاباً مفصّلاً وهو «العدّة»((1)) بعدما صنّف فيه اُستاذه الشريف المرتضى(قدس سره) كتابه المختصر الموسوم ب- «الذريعة».
وبيانها: أنّه هل يكون لله تعالى بعدد آراء المجتهدين أحكام مختلفة حتى يكون كلّهم مصيبين أم لا؟ بل يكون حكم الله في حقّ الجميع واحداً ولا يكون المصيب من الآراء غير رأي واحد، فكلّ من كان رأيه مخالفاً لذلك الرأي يكون مخطئاً لا محالة.
واختلف القائلون بالتخطئة بأنّ المخطئ معذور أم لا؟ ونقل عن بعض معتزلة بغداد الذهاب إلى فسق المخطئ. وذهب الأكثر إلى معذوريّته.
إذا عرفت ذلك، يظهر لك عدم وجود الإجماع من جميع الاُمّة على بطلان التصويب. وأمّا إجماع الإمامية، فمن الواضح أنّ حجّية إجماعهم إنّما تكون من جهة
ص: 150
أنّهم أصحاب النصّ، بمعنى أنّهم لا يقولون ولا يفتون بمقتضى عقولهم والاستحسانات، كما يعملون أصحاب القياس في الأحكام الشرعية، فهم معتقدون أنّ النصّ الصادر من الأئمّة(علیهم السلام) حجّة كالنصّ الصادر من النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وذلك بمقتضى النصوص المعتبرة، منها حدّيث الثقلين عنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).
وهذه، أي حجّية أقوالهم وآرائهم، غير الخلافة والرئاسة العامّة التي تدّعي الشيعة أنّها لهم(علیهم السلام)، بل ولو لم نقل بذلك فلابدّ من القول بحجّية آرائهم(علیهم السلام) بمقتضى الحديث الشريف المذكور وأمثاله.((1))
فإذا ثبت إجماع الإماميّة على مسألة وتوافقهم عليها خلفاً عن سلف مع علمنا بأنّهم لا يقولون من عند أنفسهم ولا يتّبعون مقتضى رأيهم ولا يفتون إلّا بما عن النبيّ والأئمّة - صلوات الله عليهم أجمعين - فنكشف من ذلك قول أئمّتهم(علیهم السلام) ومطابقته لما أجمعوا عليه.
ولكن هذا الإجماع لم يقم في ما نحن فيه. وإنّما الشيخ(قدس سره) قال في «العدّة» بإجماع المتکلّمين من المتقدّمين والمتأخّرين من الإمامية على بطلان التصويب.((2)) وهذا كما ترى غير الإجماع المصطلح المعلوم حجّیته عندنا وإن كان للمتكلمين على بطلان التصويب دلائل قطعية بأنّ حكم الله في حقّ الجاهل والعالم على حدّ سواء، ولكن أنّى هذا من الإجماع المصطلح، فلا يمكن للخصم أن يتمسّك به لردّ ما اخترناه من أنّه يوجب التصويب المجمع على بطلانه.
هذا، مضافاً إلى أنّ مختارنا ليس من التصويب الّذي قد اُدّعي الإجماع على بطلانه؛ لأنّا نقول بأنّ الحكم الواقعي مطلق وغير مقيّد بصورة العلم والجهل، بل تقيّده بذلك ممتنع، لأنهّ مستلزم للدور، ولكن الشارع الحاكم حيث يرى عدم إمكان تحريك
ص: 151
الجاهل بسبب الأمر وعدم انبعاثه من ذلك الحكم المطلق، فلا يريد انبعاثه من الحكم إلّا في صورة علمه به.
فإنشاء الحكم غير مقيّد بصورة العلم والجهل، ولكنّ الحكم حيث ينشأ لأن يكون محرّكاً للمكلّف وباعثاً له نحو الفعل؛ فلا يمكن أن يكون علّة لانبعاث الجاهل، فلابدّ للآمر أن يريد بذلك الحكم انبعاث العالم.
ولو أراد صدور الفعل من الجميع فعليه أن يتوصّل إلى مراده بإلقاء خطاب آخر يكون متوجّهاً إلى المكلّف في ظرف الشكّ والجهل بإيجاب الاحتياط والإتيان بجميع المحتملات، وحيث إنّ ذلك موجب لاختلال النظام من جهة العسر الشديد، فله أن يوسّع دائرة المأمور به بتوسّط خطاب آخر في ظرف الجهل والشك. ويمكن أن يكون هذا الخطاب دليلاً على عدم الفرق بين العالم والجاهل بالنسبة إلى حكم الله الواقعي، فإنّ مقتضى الجمع بين هذا الخطاب ودليل أصل التكليف أنّ المأمور به هو طبيعة الصلاة وعنوانها إلّا أنّ لها فرداً بحسب حال الاختيار والعلم وهو الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط وفرداً بحسب حال الاضطرار أو الشكّ وهو الصلاة الفاقدة للسورة مثلاً، فكما أنّ الأوّل يكون موجباً للإجزاء فليكن الثاني أيضاً مثله.
وعلى کلّ حال لا مانع من القول بإجزاء المأمور به بالأمر الظاهري بحسب مقام الثبوت كما أنّه لا إشكال فيه بحسب مقام الإثبات أيضاً، وقد ظهر وجهه ممّا قدّمناه.
وأمّا ما في بعض الأذهان من تفويت المصلحة في صورة تأدية الحكم الظاهري إلى عدم جزئية شيء مع كونه جزءً للمأمور به.
فيمكن أن يقال في مقام رفعه بأنّ المصلحة كما يمكن أن تكون في ذات المأمور به يمكن أن تحصل فيه بسبب تعلّق الأمر به، فأمر الشارع مثلاً بالصلاة المرکّبة من القيام
ص: 152
والسجود والركوع والتشهّد وغيرها يكون موجباً لحصول مصلحة في الصلاة، كذلك أمره بالصلاة المركّبة من القيام والسجود والركوع غير التشهّد مثلاً، سبب لحصول المصلحة المقصودة منها، ففي کلّ من الصورتين يمكن القول بعدم المصلحة إذا لم يتعلّق الأمر بها.
وبالجملة: فنحن لا نتصوّر معنىً للمصلحة في هذه الموارد إلّا حصول التعبّد وإطاعة المولى، وهذا كما يمكن أن يحصل بإتيان الصلاة في الصورة الاُولى، كذلك لا مانع من حصوله في الصورة الثانية أيضاً، وهذا معنى إيجاد الأمر المصلحة في المأمور به.
ثم إنّه قد تلخّص من جميع ما ذكرناه: أنّه وإن صار كلام المتقدّمين كالعلّامة والمحقّق وغيرهما موجباً لتوهّم تعدّد المأمور به في حال الاضطرار وفي حال الشكّ والجهل ولذلك ذهبوا إلى عدم الإجزاء إلّا في بعض الصور، ولكنّك بعد الإحاطة بما تلوناه عليك وبعد التدبّر في كلماتهم تعرف أنّ مرادهم هو كون المكلّف به في جميع الموارد واحداً إلّا أنّ له أفراداً متعدّدة، فالمكلّف إذا أتى بما هو فرد للمأمور به أجزأ عنه، سواء كان ذلك الفرد فرداً له في حال الاضطرار أو الاختيار أو في حال العلم أو الجهل.
فمرادهم من الإجزاء أنّ المأمور قد أتى بما هو فرد للطبيعة المأمور بها، لأنّ المستفاد من قوله تعالى: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أوْ رُكْبَاناً...﴾((1)) الآية؛ وقوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا...﴾((2)) الآية؛ وقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «كلّ شيءٍ نظيف...» الحدیث؛((3)) وقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «كلّ
ص: 153
ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو»؛((1)) وغيرها أنّ الصلاة المأتيّ بها في جميع هذه الأحوال ولو كانت فاقدةً لجزءٍ أو شرطٍ هي فرد للصلاة المأمور بها.
هذا تمام الكلام في مبحث الإجزاء. والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على خير خلقه أجمعين محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
ص: 154
الفصل الرابع: في مقدّمة((1)) الواجب
لا يخفى عليك: أنّ عنوان النزاع في مقدّمة الواجب في كلمات القدماء من
ص: 155
الاُصوليين هو: أنّ الآمر إذا أمر بشيءٍ وكانت له مقدّمات بها يحصل ذلك الشيء - بمعنى أنّ هذه المقدّمات واقعةٌ في طريقه وتكون من أجزاء علّة حصوله - فهل يلزم من أمره هذا، الأمر بتلك المقدّمات؟ بحيث لو كانت لفعل مقدّماتٌ كثيرةٌ تكون کلّ واحدة منها واجبة مضافاً إلى وجوب هذا الفعل أو لا؟
ولا يخفى عليك: أنّه بناءً على هذا لا يكون النزاع فرعياً، بل لأنّه يرجع إلى وجود الملازمة بين وجوب شيءٍ ووجوب مقدّماته لا يكون إلّا اُصوليّاً.((1))
وحيث رأى المتأخّرون أنّ الالتزام بوجوب جميع المقدّمات في عرض وجوب ذي المقدّمة ممّا لا ينبغي الذهاب إليه قسّموا الواجب إلى النفسي والغيري تارةً، وإلى الأصلي والتبعي تارةً اُخرى. وأثبتوا للمقدّمة نحواً من الوجوب المساوق مع القول بعدم الوجوب.
والظاهر أنّ تطويل البحث في المقدّمة كما هو دأب المتأخّرين قليل الجدوى إلّا أنّ الاقتفاء لأثرهم لمّا لم يكن خالياً عن كثير فائدة - لأنّ بعض المباحث الّتي تعرضوا لها من حيث هي تعدّ من المباحث العلمية المفيدة - فلا ينبغي طيّ المقال وتركها، فعلينا أن نسلك سبيلهم بحسب الوسع بعون الله تعالى، وقبل الخوض في المقصود ينبغي تقديم اُمور:
يظهر ممّا ذكرناه في موضوع علم الاُصول((2)) أنّ هذه المسألة ليست اُصولية، وإنّما هي من المبادئ الأحكامية، فلا حاجة لإعادة الكلام فيها.
ص: 156
بدأ الاُصوليون في طرح هذا البحث بذكر أقسام المقدّمة، ولعلّه لذكرها في عنوان المسألة بأنّ المقدّمة واجبة أم لا؟ فتعرّضوا أوّلاً لبيان معنى المقدّمة وأقسامها، ثم لبيان أقسام الواجب، ثم دخلوا في أصل البحث.
ولا يخفى: أنّ المناسب في مقام التسمية تسميتها بالمتقدّمة، لأنّ مرادهم بالمقدّمة ما لها تقدّم على شيء آخر، إلّا أنّه يمكن أن تكون تسميتها بالمقدّمة لأجل الإشارة إلى أنّ أصل ذاتها موجب للتقدّم.
وكيف كان، تنقسم المقدّمة إلى أقسام:((1))
منها: الداخلية والخارجية
والمراد بالاُولى: الأجزاء المأخوذة في ماهية المأمور به. وبالثانية: الاُمور الخارجة عن ماهيته ممّا يتوقّف وجود ذي المقدّمة عليها. وقد استشكل في مقام تصوير المقدّمات الداخلية بأنّ المقدّمية نسبة متضایفة محتاجة إلى طرفين أحدهما المقدّمة والآخر ذي المقدّمة. وبعبارة اُخرى: احتياج ذى المقدّمة إلى المقدّمة إضافة لها طرفان: المحتاج إليه وهو المقدّمة، والمحتاج وهو ذو المقدّمة، فلا يعقل أن تكون أجزاء المرکّب مقدّمة للمركّب والحال أنّه ليس إلّا نفس الأجزاء بأسرها وإلّا لزم احتياج الشيء في الوجود إلى نفسه.((2))
والظاهر أنّ هذا الإشكال مأخوذ من الإشكال المعروف من أهل المعقول بالنسبة
ص: 157
إلى العلّة التامّة، وبيانه: أنّ من المعلوم أنّ المعلول مغاير لعلّته وممتاز عنها فلا يعقل اتّحادهما معاً، والحال أنّ المادّة والصورة من أجزاء العلّة وهما متّحدتان مع المعلول بل عينه، فيلزم تقدّم الشيء وتوقّفه على نفسه، وهذا هو الدور المحال.
وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني(قدس سره) بأنّ المقدّمة ليست إلّا نفس الأجزاء بالأسر وهي الأجزاء الملحوظة من حيث التألّف والاجتماع بلا شرط - على نحو عدم الاعتبار لا اعتبار العدم - بحيث تكون بالحمل الأوّلي غير مجتمعة ولا مؤتلفة، وتكون بالحمل الشائع مجتمعة ومؤتلفة في مقابل الأجزاء الملحوظة بشرط الاجتماع والتألّف والتركّب الحقيقي أو الاعتباري وهو ذو المقدّمة.
هذا، ويمكن أن يقال: إنّ المقدّمة تكون کلّ فرد فرد من الأجزاء كالتكبير والقراءة والركوع، فالتكبير مقدّمة والقراءة مقدّمة والركوع مقدمة.
لا يقال: إذا كان هذا الجزء مقدّمة وذلك الجزء الآخر أيضاً مقدّمة وهكذا، فجميع الأجزاء تكون مقدّمة ويعود الإشكال.
لأنّه يقال: إنّ جميع الأجزاء على هذا مقدّمات، لا مقدّمة.
وبالجملة: في المرکّبات الاعتبارية يتعلّق لحاظ الآمر بجميع الأجزاء ويعتبرها واحداً، ثم يأمر المكلّف بإتيان هذا الواحد الاعتباري، فيكون التكبير مقدّمةً له والركوع مقدّمة اُخرى. ولا يلزم من ذلك كون جميع الأجزاء مقدّمةً، بل كون الأجزاء مقدّماتٍ، وذو المقدّمة هذه المقدمات الّتي لها وحدة اعتبارية من جهة أنّ الآمر لاحظها واعتبرها واحداً.
ومن هنا يظهر ما في كلام المحقّق الخراساني(قدس سره) في دفع الإشكال حيث قال: بأنّ المقدّمة نفس الأجزاء بالأسر، وذو المقدّمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع، فالمغايرة حاصلة بينهما.((1))
ص: 158
لأنّ المغايرة بين المقدّمة وذيها لا تكون اعتبارية بل تكون حقيقية وما أفاده كافٍ في دفع الإشكال لو كانت المغايرة بينهما اعتبارية، هذا.
وأمّا الوجوب المتعلّق بکلّ جزء من الأجزاء، أي المقدّمات الداخلية، فلا ريب في نفسيته، وذلك لأنّ المرکّب إذا كان واجباً بالوجوب النفسي فكلّ جزء من أجزائه يكون واجباً كذلك أيضاً لا محالة وملوّناً بهذا اللون، لأنّ المرکّب ليس إلّا تلك الأجزاء.
ولا يبقى بعد كون کلّ جزء من أجزاء المرکّب واجباً بوجوبه النفسي مجالٌ للوجوب الغيري؛ إذ الوجوب إنّما يترشّح من ذي المقدّمة إلى المقدّمة إذا لم تكن المقدّمة واجبة.
ومن هنا يظهر فساد القول بالوجوب النفسي والوجوب الغيري معاً.((1)) وإن كان أضعف الاحتمالات في المقام احتمال وجوب الأجزاء بالوجوب الغيري، لأنّ الأجزاء - وهي نفس الكلّ - لو كانت واجبة كذلك لزم أن لا يكون لنا واجب بالوجوب النفسي، فكيف يتولّد منه ذلك الوجوب الغيري؟ فتدبّر.
ومنها: العقلية و العادية والشرعية
أمّا المقدّمة العقلية، فهي: ما يمتنع وجود ذيها بدونها.
وأمّا الشرعية، فقد توهّم أنّها كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، فإنّ الصلاة بنفسها قابلة للتحقق والوجود ولو بدون الطهارة، إلّا أنّ الشارع لمّا جعل الطهارة شرطاً لها فلا تتحقق شرعا إلّا بها.
ولكن لا يخفى: أنّه لا يكاد أن تنال يد الجعل المقدّمية وعدمها. فلا يمكن للشارع أن يتصرّف في مقدّمية شيءٍ لشيء بجعله مقدّمة له أو نفيها عنه، فلو كان شيء مشروطاً بشيء واقعاً فلا ينقلب عمّا هو عليه بسبب تصرف الشارع فيه، فإلغاؤه تلك الشرطية لا يصير سبباً لحصوله من دون ذلك الشرط.
ص: 159
نعم، يمكن للشارع أن يأمر بعنوانٍ يصدق على هذه الأفعال الخارجية المخصوصة الّتي من ضمنها الطهارة فلا يصدق على غيرها، من غير أن يأخذ شيئاً شرطاً للمأمور به. فعدم انطباق عنوان المأمور به على تلك الأفعال من غير طهارة محفوظ وباقٍ على حاله من دون حاجة إلى اشتراط شيء فيه أو جعله مقدّمة له.
وأمّا تقييد المأمور به بقيد أو شرط شرعاً بحيث يستحيل تحقّقه بدونه، فهو راجع إلى القسم الأوّل أي المقدّمة العقلية. وعلى کلّ حال ليس للمقدّمة الشرعية معنى محصّل.
وأمّا العادية، فقد توهّم أنّها كالصعود على السطح فإنّه لا يمكن عادة إلّا بنصب السلّم وإن كان يمكن عقلاً بالطيران.
ولا يخفى ما فيه؛ لأنّ الصعود على السطح بالنسبة إلى غير المتمكن من الطيران ممتنع عقلاً إلّا بتوسّط نصب السلّم وأشباهه، فهي راجعة إلى العقلية أيضا.
ومنها: مقدّمة الوجود، والصحّة، والوجوب، والعلم
أما مقدّمة الوجود، فهي ما يتوقّف عليها وجود ذيها بمعنى استحالة وجوده إلّا في ظرف وجودها كنصب السلّم بالنسبة إلى الكون على السطح.
وأمّا مقدّمة الصحّة، فهي الّتي يمكن وجود ذيها بدونها لكن صحّته متوقّفة عليها، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.
وأمّا مقدّمة الوجوب، فهي ما يتوقّف عليها وجوب ذيها.((1))
وأمّا مقدّمة العلم، فهي ما يتوقّف عليها العلم بحصول الواجب، كإدخال شيءٍ أزيد ممّا بين قصاص الشعر وطرف الذقن في غسل الوجه طولاً، وشيء أزيد ممّا دارت عليه الإبهام والوسطى عرضاً لتحصيل العلم بغسل المقدار الواجب. وكالوضوء من الإناءين المعلوم كون أحدهما مضافاً لتحصيل العلم بحصول الوضوء بالماء المطلق.
ص: 160
ولا يخفى عدم وجود فائدة في هذا التقسيم؛ وذلك لأنّ مقدّمة العلم لا تكون ممّا يتوقّف عليها وجود الواجب، فلا يمكن ترشّح الوجوب عليها من قبل وجوب ذيها؛ لأنّ من الممكن الوضوء من أحد الإناءين المشتبهين واتّفاق كونه الماء المطلق. فالقول بوجوب الوضوء منهما لا يكون من جهة المقدّمية المقصودة، بل من باب حكم العقل بالوضوء منهما إرشاداً لتحصيل العلم بالبراءة.
وأمّا مقدّمة الوجوب، فخارجة عن محلّ النزاع أصلاً؛ لأنّ ذي المقدمة لا يتصف بالوجوب قبل وجودها حتى يترشّح عليها وجوبه، وبعد وجودها لا يعقل ترشّح الوجوب عليها، لأنّه تحصيل الحاصل.
وأمّا مقدّمة الصحّة، فإن قلنا في باب الصحيح والأعمّ بوضع ألفاظ العبادات للصحيح فلا ريب في رجوعها إلى مقدّمة الوجود. وأمّا إن قلنا بوضعها للأعمّ فالمقدّمة تكون مقدّمة لوجود الواجب بالحمل الشائع، فلا يتحقّق الواجب بدونها، فترجع بناءً على الأعمّ أيضاً إلى مقدّمة الوجود.
ومنها: المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة
تنقسم المقدّمة بتقسيم آخر إلى المقدّمة الحاصلة قبل وجود ذيها، وإلى المقدّمة المقارنة، له وإلى المقدّمة المتأخّرة عنه.
وحيث إنّ المقرّر في محلّه عدم إمكان تقدّم المعلول على العلّة لا رتبة ولا زماناً بل اللازم وجوب تقدّمها على المعلول تقدّماً طبعياً أشكل الأمر في المتأخّرة بل في المقدّمة المتصرّمة حين وجود ذيها أيضاً؛ لأنّ من الواضح لزوم تقارن العلّة والمعلول زماناً في الوجود وإلّا فتبطل العلية والمعلولية والمسانخة بينهما.((1))
وأفاد في الكفاية في دفع الإشكال - بعد تقسيمه الموارد الّتي توهّم انخرام
ص: 161
القاعدة العقلية فيها إلى ما كان المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف، وإلى ما كان شرطاً للوضع، وإلى ما كان شرطاً للمأمور به - ما حاصله: إنّ كون شيءٍ شرطاً للتكليف متقدّماً عليه أو متأخّراً عنه، مثل القدرة على المأمور به حين الفعل، ليس معناه كون وجوده الخارجي شرطاً، بل المراد لحاظه ووجوده ذهناً. فالآمر في مقام التكليف إذا لاحظ قدرة المكلّف حين الإتيان بالفعل صحّ منه التكليف والأمر. فشرط التكليف متقدّماً كان أو متأخّراً أو مقارناً ليس إلّا لحاظه ووجوده الذهني المقارن مع المشروط.
أمّا كون الشيء شرطاً للمأمور به، فليس معناه إلّا أنّ الآمر يعتبر وينتزع بسبب إضافة المأمور به إلى ذلك الشيء وتعقّب ذلك الشرط له عنواناً منه يكون بذلك العنوان حسناً ومتعلّقاً للغرض.
كما أنّ الأمر كذلك بالنسبة إلى الوضع، كالإجازة بالنسبة إلى العقد الفضولي فإنّ معنى شرطيتها له ليس إلّا أنّ لحاظها متأخّراً عنه موجب لصحّة اعتبار الملكية وانتزاعها من العقد. هذا ملخّص ما أفاده(قدس سره).((1))
وأمّا تحقيق الحقّ في المقام فسيجيء في نهاية البحث عن التقسيم الآتي للمقدّمة، إن شاء الله تعالى.
ومنها: تقسيمها إلى السبب، والشرط، وعدم المانع، والمُعِدّ
ص: 162
قسّموا المقدّمة بلحاظ آخر إلى السبب، والشرط، وعدم المانع، والمعدّ.
فالأوّل: ما يلزم من وجوده الوجود و من عدمه العدم.((1))
والثاني: ما يلزم من عدمه عدم ذي المقدّمة، ولا يلزم من وجوده وجوده.
والثالث: ما يلزم من وجوده عدمه.
والرابع: ما يلزم من وجوده وعدمه وجوده.
وبعبارة اُخرى: إذا كان الشيء مؤثّراً في وجود شيءٍ آخر، وكان منه وجود ذلك الشيء، نسمّيه بالسبب.
وإذا كان وجوده موجباً لحصول قابلية الوجود للشيء، نسمّيه بالشرط.
وإذا كان عدمه موجباً لحصول تلك القابلية، نسمّيه بالمانع. فعدمه مقدّمة لحصول ذي المقدّمة.
وإذا كان وجوده وعدمه موجباً لهذه القابلية كالأقدام بالنسبة إلى الكون في المسجد، نسمّيه بالمعدّ.
لا يخفى: أنّه على مسلك أهل المعقول يكون المعدّ وعدم المانع راجعاً إلى الشرط؛ لأنّ الشرط على اصطلاحهم هو الفاعل الّذي يكون به الوجود في مقابل المقتضي الّذي يكون منه الوجود. وهو إمّا من متمّمات فاعلية الفاعل، أو من مصحّحات قابلية القابل. كما أنّ السبب المذكور في كلام الاُصوليين يكون أخصّ من السبب المذكور في عرف أهل المعقول؛ لأنّ السبب على اصطلاحهم يطلق على المقتضي وما يكون منه
ص: 163
الوجود سواء أثّر في المسبّب وأوجده أم لم يوجده لفقدان شرطٍ من شرائط وجوده. وأمّا على اصطلاح الاُصوليّين فالسبب هو المقتضي المؤثّر في الوجود، أي العلّة التامّة، ولذا مثّلوا له بحركة اليد لحركة المفتاح.
وعلى کلّ حال، تعريف الاُصوليين للمعدّ بأنّه ما يلزم من وجوده وعدمه الوجود لا يخلو عن المناقشة؛ لأنّ المعدّ مثل وضع الأقدام ورفعها للكون في المسجد لا يكون إلّا وجوداً واحداً، لأنّه حركة واحدة كسائر الحركات، فكما أنّ الحركة في الكمّ والكيف وفي الجوهر - على القول بها - لا تُعدّ وجوداً وعدماً بل تكون حركة واحدة ووجوداً واحداً، كذلك وضع القدم ورفعه لا يكون إلّا حركة واحدة ووجوداً واحداً كما لا يخفى.
يظهر من مثالهم بحركة اليد والمفتاح للمقدّمة السببیّة في الأفعال التوليدية أنّ مرادهم بالسبب ما كان متعلّقاً لاختيار العبد. ولا يخفى أنّه بعد الاعتراف بأنّ حركة اليد - وهي العرض القائم بوجود اليد - وجودها غير وجود حركة المفتاح - وهي العرض القائم بوجود المفتاح - وأنّ لازم ذلك كون الإيجاد أيضاً متعدّداً، لأنّ الإيجاد والوجود واحد ولا فرق بينهما إلّا أنّ الوجود إذا نسب إلى الفاعل يقال له الإيجاد، ومن دونها يقال له الوجود، يكون صدق السبب والمسبّب على مثل حركة اليد وحركة المفتاح موقوفاً على تعدّد جهة صدورهما من الفاعل، وأمّا لو قلنا بأنّ الصادر منه لا يكون إلّا واحداً ولم يصدر من الفاعل غير فعل واحد وعمل واحد، فلا يصحّ أن يقال بترشّح الوجوب من أحدهما إلى الآخر. فصدق المقدّمة السببیّة في الأفعال التوليدية يتوقّف على صدق تعدّد صدور الفعل من الفاعل.
ص: 164
الأمر بالمسبّب في الأفعال التوليدية((1))
لا يخفى عليك: أنّ النزاع في وجوب المقدّمة السببیّة لا يصحّ إلّا بعد الفراغ عن النزاع في أنّ الأوامر المتعلّقة بالمسبّبات ظاهراً تكون متعلّقة بها واقعاً ولُبّا أيضاً أو أنّها بحسب الواقع متعلّقة بالأسباب، فعلى القول الأوّل يأتي النزاع في وجوب السبب من باب المقدّمية، وأمّا على القول الثاني فلا مجال للنزاع المذكور.
بيان ذلك: أنّ القوم اختلفوا فيما إذا تعلّق الأمر بالمسبّب ظاهراً في أنّ متعلّقه هل هو المسبّب حقيقة، أو هو السبب وإن كان متعلّقه ظاهراً هو المسبّب على أقوال:
أحدها: وجوب المسبّب مطلقاً.((2))
ثانيها: وجوب السبب مطلقاً.((3))
ثالثها: التفصيل((4)) بين ما إذا كان بين السبب والمسبّب فاعل بالطبع أو الإرادة كما في صورة الأمر بإلقاء شخص في النار للإحراق أو إلقائه إلى السبع، وبين ما لم يكن كذلك بل كان صدوره منه بلا واسطة شيءٍ من هذا القبيل. فعلى الأوّل يكون الأمر بالمسبّب كالإحراق مثلاً أمراً بالسبب وهو الإلقاء لا محالة، لأنّ الإحراق أو الإتلاف فعل النار والسبع، فلا يتعلق الأمر به واقعاً. وعلى الثاني
ص: 165
يكون الأمر متعلّقاً بالمسبب واقعاً كما هو متعلّق به ظاهراً. وعلى هذا يتّجه النزاع في المقدّمة السببیّة.
ولكنّ التحقيق هو: أنّ متعلّق الأمر ليس إلّا نفس المسبّب؛ وذلك لأنّ ما استدلّوا به لرجوع الأمر إلى السبب ومنع رجوعه إلى المسبّب: إمّا أنّ التكليف لا يتعلّق إلّا بالمقدور والمسبّب ليس بمقدور.((1))
فجوابه: أنّ المقدور بالواسطة مقدورٌ.
وإمّا أنّ الأمر لا يتعلّق إلّا بما هو فعل للمكلّف والمسبّب ليس فعلاً له؛((2)) لأنّه لو كان فعله، لما انفكّ عنه في بعض الأحيان، كما إذا رمى سهماً ومات الرامي بعد رميه فأصاب شخصاً، فلو كان القاتل والفاعل هو الرامي لما جاز حصول القتل والفعل بعد موته، لاستحالة انفكاك المعلول عن علّته زماناً فهذا كاشفٌ عن عدم كون الرامي وأمثاله - فيما كان من هذا القبيل - فاعلاً بل الفاعل هو السهم.
فجوابه: أنّ الأمر لا يصدر من المولى إلّا لأن يكون داعياً وباعثاً نحو الفعل المأمور به، وأن يبعث العبد إلى إرادة المأمور به أو إلى ما يتوصّل بسببه إليه، فإذا كان ذلك ملاك الأمر فلا مانع من تعلّق الوجوب بالمسبّب.
ويظهر من كلمات الاُصوليين سيّما المثال الّذي مثلّوا به في المقام أنّ النزاع في المقدّمة السببیّة واقع فيما إذا كان السبب والمسبّب من الأفعال التوليدية، بمعنى عدم توسّط إرادة اُخرى بين السبب والمسبّب. ولا يكون في البين غير إرادة المكلّف المتعلّقة بالسبب، كما إذا رمى شخصاً بسهمٍ فأصابه وخرق قلبه فمات ذلك
ص: 166
الشخص، ففي مثله وإن كان للموت وجود ولخرق قلبه أيضاً وجود مستقلّ وللإصابة أيضاً وجود وللرمي وجود كذلك وهكذا، وكذلك لکلّ من هذه الوجودات إيجادٌ خاصّ؛ لاتّحاد الإيجاد والوجود لما مرّ من أنّ الفرق بينهما ليس إلّا أنّه إذا نسب ما وجد إلى فاعله وموجده يسمّی بالإيجاد، وإذا نسب إلى نفسه يسمّی بالوجود. ولكن متعلّق الإرادة لا يكون إلّا الرمي. وأمّا الإصابة المترتّبة عليه والخرق المترتّب عليهما والموت المترتّب عليها فغير متعلّقة للإرادة، غير أنّه بيّنّا أنّه لا مانع من تعلّق الأمر بالمسبّب حقيقة.
فإن قلت: إنّ الأمر لابدّ وأن يتعلّق بما هو فعل للمكلّف.
قلت: يكفي في ذلك انتسابه إليه، فكما يصحّ أن يقال: إنّه رمى، يصحّ أن يقال: إنّه خرق وإنّه قتل، هذا.
وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّ السبب على مذاق الاُصوليّين هو ما كان من قبيل الرمي بالنسبة إلى القتل، وفي مثله لا يلزم تقارن السبب والمسبّب زماناً. وهذا بخلاف ما لو اُريد من السبب العلّة الموجدة وفاعل الشيء الّذي يكون منه الوجود؛ لأنّه يلزم منه تقارن العلّة والمعلول زماناً قطعاً، لعدم إمكان تحقّق ضرورة الإيجاب للعلّة من دون تحقّقها للمعلول. وإذا كان الحكم بالنسبة إلى السبب على ذوق الاُصوليين هكذا، فما ظنّك بالشرط؟
إنّ شرائط التكليف في الحقيقة: قيود وأوصاف ترجع إلى المكلّف أو المكلّف به، فتخرج عن دائرة الحكم والتكليف وتدخل في دائرة الموضوع، ولا شبهة في تأخّر الموضوع عن الحكم وجوداً، ولكنّه مقارن له حين الحكم عليه بالإمكان. فلا يصحّ
ص: 167
تكليف المولى عبده إلّا بعد إحراز وجودها تصوّراً في المكلّف، وهي مثل القدرة والعقل والبلوغ من الشرائط العامّة. ولازم وجودها إمكان التكليف والبعث من قبل المولى.
وبعبارة اُخرى: شرط التكليف قيد في المكلّف أو في المأمور به ووصف فيهما يوجب وجوده صحّة حمل المحمول على الموضوع في قضيّة: «التكليف ممكن».
بعد ما عرفت من أنّ الشرط قيد ووصف للمكلّف أو المكلّف به تعرف بأنّه بناءً على ما حقّقناه لا يلزم منه تقارن الشرط والمشروط زماناً بل من الممكن تقدّمه على المشروط (والتكليف) وتأخّره عنه؛ لأنّه لا يكون علّة للوجود، بل موجب لصحّة انتزاع إمكان التكليف. وأمّا ما يلزم تقارن وجوده مع المشروط زماناً فهو العلّة الموجدة للشيء، هذا بالنسبة إلى شرط التكليف.
وأمّا شرط المأمور به فكون شيء شرطاً فيه يمكن أن يكون على أنحاء:
أحدها: أن يكون المراد من شرطية شيءٍ فيه كون المأمور به مقيّداً به على نحو يكون القيد خارجاً والتقيّد داخلاً، كما في صورة الأمر بالصلاة مقيّدة بالوضوء، أو الأمر بإتيان المرأة الصوم مقيّداً بالغسل.((1)) ففي مثل هذا الفرض لا مانع من تقدّم الشرط أو تأخّره عن المشروط، فكما أنّ من الممكن أن يأخذ الشارع شيئاً قيداً للمأمور به مقارناً له، كذلك لا مانع من أخذ شيءٍ متأخّرٍ عن المأمور به أو متقدّمٍ عليه قيداً له. فإذا أتى المأمور بالأمر المتقدّم أو المتأخّر مع نفس المأمور به فقد أتى بما هو وظيفته، وإلّا فلا.
ص: 168
ثانيها: أن يكون المراد من شرطية شيء في المأمور به دخله في انتزاع عنوانه الاعتباريّ وانطباقه على معنونه. فمعنى شرطيّة ذلك الشيء له عدم اعتبار ذلك العنوان وانتزاعه إلّا في ظرف وجود هذا الشيء مقارناً له أو متقدّماً عليه أو ملحوقاً به، فالصوم المأمور به مثلاً أمر انتزاعي اعتباري لا ينتزع من هذه الإمساكات المخصوصة إلّا في ظرف لحوق الغسل به، والشارع لا يعتبر ذلك إلّا على هذه الكيفية.
ثالثها: أن يكون الشرط دخيلاً في وجود المشروط. وهذا هو الّذي لا يمكن تأخّره عن المشروط بل اللازم تقدّمه عليه تقدّماً وجوبيّاً، فيتقدّم عليه طبعاً ويقارنه زماناً لو كان من الزمانيات. وأمّا إذا كان من المجرّدات فلا يتصوّر فيه التقارن الزماني وعدمه. وكأنّه في الكفاية جزم بلزومه مطلقاً.
وأمّا تقدّمه عليه بنحو إذا فرض ضرورة وجود الشرط فرض ضرورة وجود المشروط، وبعبارة اُخرى: تقدّمه عليه تقدّماً إيجابياً فلا يلزم؛ لأنّ ذلك التقدّم لا يكون إلّا في العلّة التامّة وما منه وجود الشيء، هذا.
ولا يخفى عليك: أنّه على النحوين الأوّلين يكون القول بوجوب الشرط وجوباً غيرياً مقدّمياً وهو بعيد عن الصواب؛ لأنّ القيد في القسم الأوّل واجب بوجوب المقيّد، فكما أنّ ذات الصلاة واجبة يكون قيدها أيضاً واجباً. وهذا نظير تعلّق الأمر بمركّب ذات أجزاء، فكلّ واحد من هذه الأجزاء واجب بالوجوب النفسي. وهكذا الكلام في القسم الثاني؛ فإنّ الأمر المتعلّق بالعنوان الاعتباري إنّما هو متعلّق بمنشأ انتزاعه سواء كان منشأ انتزاعه شيئاً واحداً أو مركّباً. هذا تمام الكلام في تقسيمات المقدّمة.
ص: 169
للواجب أقسام بحسب تقسيمات مختلفة:
منها: تقسيمه إلى المطلق والمشروط
إعلم: أنّه قد عرّف الواجب المطلق والمشروط بتعاريف((1)) لا يهمّنا البحث عنها وتطويل البيان في ما قيل أو يمكن أن يقال في نقضها وإبرامها، ونخبة القول فيه ما أفاده في الكفاية وهو: أنّ الواجب إذا لوحظ مع شيء فإن كان وجوبه مشروطاً به فهو مشروط بالنسبة إلى هذا الشيء، وإن كان وجوبه غير مشروط به فهو مطلق بالإضافة إليه، من غير فرق بين أن يكون الشيء المشروط به الوجوب من شرائط الوجود كنصب السلّم للكون على السطح، أو من شرائط الوجوب كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ.
فعلى هذا، لا ريب في أنّ الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيّان للواجب، فيمكن أن يكون الواجب مطلقاً من جهة وبالنسبة إلى شيء، ومشروطاً بالنسبة إلى شيء آخر. وإلّا لو قلنا بأنّ الواجب المطلق هو ما كان وجوبه مطلقاً وغير مشروط بشيء أصلاً، والمشروط ما كان مشروطاً بشيء سواء كان من جميع الجهات مشروطاً أو من جهة واحدة، حتى تكون النسبة بينهما التباين، يلزم منه عدم وجدان واجب مطلق أصلاً؛ ضرورة توقّف کلّ وجوب على شرط من الشروط ولا أقلّ من الشرائط العامّة، هذا.((2))
ص: 170
لا يخفى عليك: أنّ الواجب المشروط كما عن الكلّ((1)) إلى زمان الشيخ الأنصاري(قدس سره) هو ما كان وجوبه مشروطاً. ولا نزاع بين غير الشيخ من الفقهاء - قدّس سرّهم - في أنّ الشرط في الأوامر المشروطة راجع إلى الهيئة. كما هو ظاهر القواعد الأدبية في مثل: «إن جاءك زيد فأكرمه»؛ فإنّه لا يشكّ أحد في أنّ المعلّق على المجيء جملة أكرمه لا مادّة الإكرام. ولهذا قالوا في مبحث مقدّمة الواجب بأنّا لو قلنا بوجوب المقدّمة، فإنّما هو بالنسبة إلى ما يكون مقدّمة الوجود لا ما يكون مقدّمة الوجوب؛ إذ من الواضح عدم وجوب تحصيل الاستطاعة لو قال المولى: إن استطعت فحجّ، لأنّه لا وجوب للحجّ قبل حصول الاستطاعة حتى يترشّح منه الوجوب إلى تحصيل الاستطاعة.
ولكنّ الشيخ(رحمه الله) منع رجوع الشرط إلى الهيئة، وذهب إلى رجوعه إلى المادّة.((2))
ولمّا رأى أنّ هذا - مضافاً إلى كونه على خلاف مختار الجميع - مخالف للقواعد العربية بل القواعد الأدبية مطلقاً وبحسب کلّ لغة، صار بصدد الاستدلال وبيان ما یدلّ على لزوم كون الشرط قيداً للمادة لبّاً، ثم أشار إلى دقائق أدبيّة ممّا یدلّ على عدم إمكان رجوعه إلى الهيئة، فأفاد لمقصوده الأوّل: بأنّ العاقل بعد التوجه والالتفات إلى شيء إمّا أن تتعلّق به إرادته وطلبه، أم لا. وعلى الأوّل إمّا أن يكون ذلك الشيء مورداً لطلبه مطلقاً، أو على تقدير خاصّ، وذلك التقدير قد يكون من الاُمور الاختيارية، وقد لا يكون. وعلى الأوّل قد يكون ذلك الأمر مأخوذاً في المكلّف به على نحو يكون مورداً للتكليف، وقد لا يكون كذلك. وعلى كلّ حال: فالإرادة والطلب المتعلّق به لا
ص: 171
يمكن أن يكون مشروطاً بشيء، بل المشروط والمقيّد نفس المطلوب لا الطلب. فلا مانع من كون المراد والمطلوب مشروطاً، بمعنى مطلوبيّته في زمان خاصّ أو في ظرف وجود شيء خاصّ. ثم أفاد لمقصوده الثاني، أي امتناع رجوع القيد إلى الهيئة مستفيداً في ذلك من الدقائق الأدبية:
فمنها: أنّ مفاد الهيئة لا يكون إلّا إنشاء الطلب وإيجاده اعتباراً، والإيجاد والإنشاء في عالم الاعتبار لا يمكن أن يكون مشروطاً بشيء، فلا يصحّ أن يقال: إنّي أوجدته بشرط كذا، أو اُوجده وأنشأه إن كان كذا؛ لأنّ الإيجاد مساوق للوجود والتحقّق ولو في عالم الاعتبار، والاشتراط والتقيّد تعليق للتحقّق، فلا يجتمعان.
ومنها: أنّ مفاد الهيئة - الّذي هو الطلب - معنى حرفي، وقد ثبت في محلّه أنّ الوضع في الحروف عامّ والموضوع له خاصّ، فيكون مفاد الهيئة جزئيّاً حقيقيّاً خارجيّاً، وما هو كذلك لا يمكن إطلاقه ولا تقييده، إلّا في عالم التصوّر والتعقّل، وأمّا في عالم الخارج فلا يعقل ذلك، لأنّه يلزم منه انقلاب الشيء عمّا وقع عليه.
وبعبارة اُخرى: إن كان اللفظ موضوعاً لمعنىً كلّي فبإنشائه يوجد ذلك المعنى الكلّي. وأمّا إن كان موضوعاً لمعنىً جزئيّ فبإنشائه يوجد ذلك المعنى الجزئيّ كما فيما نحن فيه، فإنّ الهيئة موضوعة لأفراد الطلب الخارجي فبإنشائها يوجد فرد من الطلب الخارجي الّذي لا يكون إلّا جزئيّاً حقيقيّاً، ومن الواضح عدم إمكان تقييد الفرد الجزئي.((1))
ومنها: أنّ معاني الهيئات كمعاني الحروف معانٍ آليّة وحالات للغير، والإطلاق والتقييد لا يتصوّر إلّا في المعاني المستقلّة.((2))
ثم إنّه(قدس سره) حيث رأى أنّه لو صحّ ما ذكره يرد عليه إشكال وهو: أنّ ما ذكره من
ص: 172
المبنى لا يجتمع مع القول بعدم وجوب تحصيل الاستطاعة في الحجّ وغيره ممّا كان من هذا القبيل كتحصيل النصاب في الزكاة؛ لأنّه بعد فرض إطلاق الوجوب يجب على المكلّف الإتيان بالمأمور به مع تمام قيوده، والحال أنّه(قدس سره) موافق للمشهور في القول بعدم ترشّح الوجوب من الحجّ إلى تحصيل الاستطاعة ومن الزكاة إلى تحصيل النصاب. فأفاد في دفع هذا الإشكال بأنّ المطلوب تارة: يكون حصول مصلحته مطلقاً. واُخرى: يكون حصولها مقيّداً بقيد، وذلك القيد تارة: يكون بحيث لو أتى به المكلّف عن تكليف من المولى وكان انبعاثه بسبب أمر المولى يوجب حصول المصلحة كالصلاة المشروطة بالطهارة، فإنّ المصلحة الصلاتية لا تحصل إلّا إذا أتى المكلّف بالطهارة تعبّداً، وثالثة: يكون القيد على نحو لا تحصل المصلحة إلّا إذا أتى المكلّف بقيد المأمور به لا عن تكليف.
وبعبارة واضحة: المصلحة تارة: تحصل بإتيان المأمور به مع قيده بشرط كون القيد مأموراً به، أيضاً، وتارة: لا تحصل إلّا إذا لم يكن كذلك وإنّما كان القيد غير مأمور به فلو كان القيد مأموراً به لم تحصل المصلحة، وما نحن فيه من هذا القبيل، ففي مثله لا يعقل الوجوب وكون القيد مأموراً به، لأنّه يلزم منه نقض غرض المولى، هذا.
ولا يخفى عليك فساد ما تفصّى به عن الإشكال؛ لأنّ المراد بالقيد لو كان هو الجزء العقلي فهو واجب بالوجوب النفسي المتعلّق بالكلّ. ولو كان المراد به ما يتوقّف عليه المقيّد بأن يكون مقدّمة له، أو يكون ممّا لا ينطبق العنوان المأمور به عليه كالصلاة مثلاً إلّا في ظرف وجوده، فبحسبهما وإن كان يمكن توهّم عدم وجوب القيد، إلّا أنّه بعد فرض الوجوب مطلقاً لا ينبغي توهّم ذلك.
هذا مضافاً إلى أنّ تقييد المأمور به بقيدٍ لا يكون مأموراً به ومشروطيّته بحصول ذلك القيد لكن لا عن تكليف، كلام خالٍ عن الوجه؛ لأنّ تقييد المأمور به بالقيد المشروط
ص: 173
إتيانه عن التكليف حَسَن وموجب لحدوث جهة الحُسن فيه، وأمّا تقييده بالقيد المشروط عدم إتيانه عن التكليف فلا طريق لتصوّر وجه له أصلاً.
وأمّا ما أفاده المحقّق الخراساني(قدس سره) في وجه عدم وجوب المقدّمة المعلّق عليها الوجوب على مختار الشيخ(رحمه الله): بأنّها وإن كانت من المقدّمات الوجودية للواجب إلّا أنّها قد أخذت على نحو لا يكاد يترشّح عليها الوجوب من ذيها؛ فإنّ الآمر قد جعل الشيء واجباً على تقدير حصول ذلك الشرط ومعه كيف يترشّح عليه الوجوب من جانب ذيها ويتعلّق به الطلب، وهل هذا إلّا طلب الحاصل؟((1))
فبعيد عن الصواب؛ لأنّ ما أفاده لا يدفع إشكال لزوم وجوب هذه المقدّمة مع إطلاق الوجوب، إلّا أن يقال برجوع ذلك إلى تقييد الهيئة وهو على خلاف مختار الشيخ(قدس سره)، فتأمّل.
والّذي ينبغي أن يقال: إنّ الملاك والقاعدة لرجوع القيد إلى المادّة لا إلى الهيئة: كون الفعل المقيّد ذا مصلحة أراد المولى حصول تلك المصلحة مطلقاً، ففي هذا الفرض لا يصحّ القيد إلّا برجوعه إلى المادّة.((2))
وأمّا القاعدة والملاك لرجوع القيد إلى الهيئة دون المادّة فعلى أقسام:
منها: أنّ الآمر يطلب فعلاً لدفع أو رفع مفسدة عن المكلّف، لکنّه في ظرف حدوث تلك المفسدة وتوجّهها إليه، فيكون الفعل مطلوباً بنفسه من دون تقييد له بوجود
ص: 174
تلك المفسدة المبغوضة، فدافعيّته عنها ليست مقيّدة بشيء حتى تكون المادّة مقيّدة، وإنّما طلبه ووجوبه - أي الهيئة - مقيّد بحدوث المفسدة. وهذا مثل أن يقول: إن ظاهرت فأعتق رقبة، أو إن فاتتك الصلاة فاقضها، أو إن أفطرت فكفّر؛ فإنّ العتق وقضاء الصلاة والكفّارة موجبة لدفع المنقصة الروحية الحاصلة بسبب الظهار وترك الصلاة وإفطار الصوم ولا تقييد لدافعيّة العتق أو القضاء أو أداء الكفّارة عن هذه المفسدة والمنقصة الروحية، ولكن وجوبها مقيّد بالظهار وترك الصلاة والإفطار.
ومنها: أن يكون الفعل المأمور به ذا مصلحة في جميع الأوقات والأحوال بمعنى سببيّة ذلك الفعل لتحقّق هذه المصلحة كيف ما وقع وأينما وقع، ولكن لأجل وجود المانع لا يمكن البعث إليه إلّا في بعض الموارد. ففي هذا الفرض يكون القيد راجعاً إلى الهيئة لا محالة أيضا، وهذا كاشتراط وجوب الصلاة بالقدرة، فإنّها لو صدرت عن العاجز تكون معراجه وموجباً لقربه، ولكن حيث لا يمكن تحريك العاجز وبعثه نحوها يقيّد الطلب بصورة القدرة، وهكذا بالنسبة إلى التمييز والعقل ونحوهما. وكما إذا كان البعث المطلق نحو الفعل موجباً للعسر كما في الحجّ، فتكون الاستطاعة قيداً للهيئة ولو كان الحجّ ذا مصلحة صدر من المستطيع أو غيره، ولكن حيث إنّ وجوبه على الجميع موجب للعسر فلذلك قيّده الشارع بالاستطاعة. ونحوه وجوب الزكاة، هذا.
إذا عرفت إمكان رجوع القيد إلى الطلب مع إطلاق المطلوب ثبوتاً، يبقى الكلام في مقام الإثبات وفي أنّه هل يوجد في اللغات المتداولة سيّما اللغة العربية الواسعة لفظ يفيد ذلك المعنى أو لا؟ فلو ادّعي إمكان أن يكون لأهل الألسنة سيّما أهل اللسان
ص: 175
العربي مراداً مثل ما ذكر ولم يمكنهم إفادته ولا بيانه، فلا ريب أنّه خلاف الواقع؛ لأنّا نرى بالوجدان أنّ أهل کلّ لغة سيّما العرب يعبّرون في مقام التفهيم - بتوسط الجمل الشرطية - عن مرادهم إذا كان من قبيل ما ذكر. ولو قال لهم قائل بأنّ ذلك محال، لم يقبلوا منه، ويعدّون قوله شبهة في مقابل البديهة وإنكاراً للوجدانيات، فإنّ کلّ أحد يرى من نفسه إمكان إفادة هذا المراد في مقام الإفهام بتوسط إنشاء الجمل الشرطية. وهذا شائع في محاوراتهم واستعمالاتهم من دون أن ينكره أحد. فعلى هذا، لا مجال للاعتناء بالإشكالات المذكورة ودعوى استحالة ذلك؛ إذ كلّها شبهات مقابل البديهة والوجدان. مع أنّ أدلّ دليل على إمكان شيء وقوعه.
ثم إنّه لا يخفى عليك عدم الفرق في ذلك بين قوله: «أطلب منك الإكرام إن جاء زيد» أو «إن جاء زيد فأكرمه».
نعم، الفرق بينهما كما مرّ من جهة أنّ الطلب في الأوّل وقع تحت لحاظ الآمر مستقلّا أي لاحظه باللحاظ الاستقلالي ثم استعمل لفظ الطلب. وأمّا في الثاني فهو مغفولٌ عنه، وملاحظته مندكّة في ملاحظة المطلوب و أنّ الآمر لا يرى إلّا فعل الإكرام، فينشئ لفظ «أكرمه» من غير التفات إلّا إلى تحقّق الإكرام من المطلوب منه. نعم، يرى الإكرام رؤية من اشتاق إليه ويتوجّه إليه توجّه من يطلبه، كما أنّ الإنسان إذا مشى إلى مسجد يكون حين المشي غافلاً عن مشيه ولا يرى إلّا لكون في المسجد.
ويمكن بعيداً أن يكون مراد الشيخ(قدس سره) من عدم إمكان رجوع القيد إلى الهيئة هذا الفرق الموجود بين النحوين من الأمر. وأنّه حيث إنّ الطلب مغفول عنه فلا يمكن تقييده؛ لأنّ إمكان تقييده ملازم لملحوظيته استقلالاً وهي خلاف الفرض. فحيث إنّ الآمر لا يرى إلّا المطلوب، فلابدّ من أن يكون القيد راجعاً إليه.
ولكن لا يخفى عليك أنّ هذا أيضاً في الحقيقة يرجع إلى تقييد الهيئة.
ص: 176
الأوّل: لا ينبغي الارتياب في عدم وجوب مقدّمة الوجوب في الواجب المشروط، وأمّا المقدّمات الوجوديّة فوجوبها لو قلنا بالملازمة تابع في الاشتراط لوجوب ذيها.
الثاني: إنّ مقدّمة الوجوب وما هو شرط للوجوب لا يلزم أن يكون مقدّماً أو مقارناً زماناً للوجوب، بل يلزم أن يكون مقدّماً عليه بالطبع. فعلى هذا، تارة: يكون وجود هذه المقدّمة قبل الوجوب كأكثر المقدّمات الوجودية. واُخرى: يكون بعده. وهذا لا إشكال فيه بناءً على ما سلكه المحقّق الخراساني(قدس سره) في شرائط التكليف،((1)) وعلى ما حقّقناه أيضاً.((2)) والله تعالى أعلم بالصواب، وهو حسبي ونعم الوكيل في المبدأ والمآل، وأسأله التوفيق وحسن العاقبة والخاتمة، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
ومنها: تقسيمه إلى المنجّز والمعلّق
قال في الفصول: إنّه ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف، ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدورٍ له، وليسمّ منجّزاً. وإلى ما يتعلّق وجوبه به، ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدورٍ له، وليسمّ معلّقاً كالحجّ؛ فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة، ويتوقّف فعله على مجيء وقته، وهو غير مقدورٍ له...،((3)) إلخ.
واستشكل على نفسه بأنّه على هذا لو كان الوجوب فعلياً يلزم تعلّقه بأمر غير مقدورٍ للمكلّف، والحال أنّ القدرة من الشرائط العامّة، فإنّ وجوب الحجّ في شهر ذي
ص: 177
الحجّة لو تعلّق مطلقاً بالمكلّف في شهر ذي القعدة مثلاً، يلزم منه التكليف بما لا يطاق؛ لأنّ الحجّ قبل الموسم غير مقدورٍ له. ولو تعلّق به مشروطاً بمجيء الوقت، فلا وجوب قبله حتى يجب تحصيل الراحلة والزاد.
ودفعه بأنّ ما هو الشرط في صحّة التكليف مقدوريّة المكلّف به في ظرف الامتثال وزمان العمل لا حال البعث والتكليف.
وقد تعرّض أيضاً لإشكال آخر وهو: أنّه لو كان المراد من إطلاق الوجوب قبل الموسم إطلاقه حتى بالنسبة إلى غير القادر ومن يموت قبل الموسم، فهذا تكليف بما لا يطاق. وأمّا إن كان المراد من إطلاقه إطلاقه بالنسبة إلى القادر والواجد للشرط، فإطلاقه مشروط بتحقّق الشرط، فلا يكون وجوباً قبل تحقّق الشرط.
ودفعه بأنّ المراد إطلاق التكليف بالنسبة إلى القادر والواجد للشرط. ولا يلزم منه اشتراط الوجوب بدخول الوقت، بل يمكن أن يكون مشروطاً بأمر اعتباري ينتزع من إدراك المكلّف وقت الامتثال وصيرورته فيما يأتي قادراً، فالشرط كونه بحيث يصير قادراً أو يُدرك الوقت، فالوجوب بذلك الأمر الاعتباري، وهو حاصل قبل دخول الوقت.
وغرضه من ذلك كلّه تصحيح القول بوجوب الأغسال الليلية للصوم، ووجوب تحصيل الزاد والراحلة قبل الموسم للحجّ؛ لأنّه بما أفاد لا مانع من القول بحالية الوجوب في الصوم والحجّ واستقبالية الواجب.
ولا يخفى: أنّ مبنى هذا التقسيم أنّه(قدس سره) تخيّل عدم إمكان تأخّر شرط الوجوب عن الوجوب في الواجب المشروط. ورأى القول بأنّ الحجّ والصوم من الواجبات المشروطة المتداولة، موجب للقول بعدم وجوب مقدّماتهما الوجودية مثل الغسل
ص: 178
وتحصيل الزاد والراحلة، فقسّم الواجب بالاعتبار المذكور حتى يتمّ القول بوجوب الغسل في الليلة السابقة ووجوب السير إلى الحجّ وغير ذلك.
ولا يذهب عليك: أنّ صاحب الفصول(قدس سره) لم يقسّم الواجب إلى المطلق والمشروط والمعلّق بأن يكون المعلّق قسماً ثالثاً في مقابلهما، حتى يقال: إنّ تقسيمه إلى المطلق والمشروط أمره دائر بين النفي والإثبات، فيلزم من تقسيم الفصول ارتفاع النقيضين وهو محال، بل ما يظهر من الفصول أنّه قسّمه إلى المطلق والمشروط باعتبار، وإلى المعلّق والمنجّز باعتبار آخر.
وكذا لا مجال للقول بأنّه(قدس سره) قد جعل المعلّق قسماً من المطلق؛((1)) لأنّ من الواضح كون المعلّق قسماً للمشروط. وإنّما الفرق بين هذا وسائر أقسام المشروط: أنّ الشرط في المعلّق أمر اعتباريّ موجود في الحال، وهو كونه بحيث يدرك الموسم أو يفي عمره بإدراك الوقت، بخلاف سائر أقسام المشروط؛ فإنّ الشرط فيها لا يتحقّق إلّا بتحقّق زمان الواجب.
فظهر بزعمه(قدس سره) أنّ المعلّق يكون من المشروط وافتراقه مع سائر أقسام المشروط في اعتبارية الشرط فيه ووجوده في عالم الاعتبار قبل مجيء وقت الواجب، هذا.
ولكن لا فائدة لهذا التقسيم ولو سلّم أنّ الاُمور الاعتبارية يمكن أن توجد قبل وجود منشأ اعتبارها (مع أنّ التحقيق أنّ الأمر الانتزاعي الاعتباري لا يتحقّق إلّا بتحقّق منشأ انتزاعه)، لأنّا قد حقّقنا((2)) جواز تأخّر شرط التكليف، عنه. ومراد صاحب الفصول(رحمه الله) من هذا التقسيم تصحيح القول بوجوب بعض المقدّمات،
ص: 179
والتفصّي عن الالتزام بوجوب المشروط قبل تحقّق شرطه كوجوب السير إلى الحجّ قبل مجيء ذي الحجّة، فلو قلنا بوجوب السير قبل ذي الحجّة من جهة وجوب الحجّ يلزم تحقّق وجوب الحجّ قبل شرطه - وهو مجيء ذي الحجّة - .
وقد عرفت في ما مضى إمكان ذلك بناءً على القول بجواز تأخّر الشرط عن المشروط، وأنّ أمثال ذلك كثير في الشرعيات، ولا حاجة للتفصّي عن الإشكال المتوهّم فيها إلى التقسيم المذكور.
ومن هنا يظهر عدم لزوم المحال لو التزمنا بقول صاحب الفصول(قدس سره)، كما زعمه بعضهم. ولو دقّقنا النظر لعلمنا أنّ مقصوده من ذلك لا يكون إلّا بيان إمكان فعلية الإيجاب واستقبالية الواجب. وهذا كلام صحيح عبّر عنه بالواجب المعلّق، وإن شئت عبّر عنه بالواجب المشروط. ولا يمكن الذبّ عن الإشكال المذكور في وجوب السير إلى الحجّ وتحصيل الراحلة إلّا على القول بفعلية الوجوب واستقبالية الواجب. أو القول بأنّ أمثال هذه المقدّمات واجبة بالوجوب النفسي لا بالغير، بل وجوبا نفسياً للغير، كما قد يظهر من بعض الأخبار والآيات الدالّة على وجوب هذه المقدّمات.
ثم إنّه قد حكى في الكفاية إشكالاً عن بعض أهل النظر،((1)) والحقّ في الجواب عنه ما أفاده(رحمه الله) فيه. وأمّا الجواب بأنّ إتيان المقدّمات من باب التهیّؤ لإرادة الفعل فيما بعد،((2)) ففاسد جدّاً؛ لأنّ إرادة المقدّمات إرادات تبعية متولّدة من إرادة أصل الفعل وهي الشوق المؤكّد. والله تعالى يعلم الصواب، وهو الهادي إلى ما هو الحقّ في کلّ باب.
ص: 180
ومنها: تقسيمه إلى الأصلي والتبعي
إنّ المحقّق القمّي(رحمه الله) قسّم الواجب إلى الأصلي والتبعي.((1)) ومراده من الأصلي كما يستفاد من كلامه، هو: الواجب الّذي يحصل وجوبه من اللفظ ويثبت من الخطاب قصداً. وأمّا التبعي فهو: الّذي يكون وجوبه غير مقصود للمتكلّم وإن كان يستفاد وجوبه من اللفظ أيضاً.
فالأوّل كقوله: «إن جاءك زيد فأكرمه»، فإنّ دلالته على وجوب الإكرام عند المجيء مقصود للمتكلّم، وقد قصد من الخطاب ذلك.
والثاني، فمثل ما يستفاد من الآيتين الكريمتين: ﴿وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ﴾؛((2)) و ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾؛((3)) فإنّه يستفاد من لحاظ الآيتين معاً كون أقلّ الحمل ستة أشهر، وأمثال ذلك من دلالات الإشارة. فكون أقلّ الحمل ستة أشهر لا يقصد من اللفظ في الآيتين ولكنّهما تدلّان عليه بالالتزام، هذا.
والّذي ينبغي أن يقال: إنّ محصّل هذا: أنّ الواجب الأصلي هو ما يدلّ اللفظ على وجوبه دلالة أصلية مقصودة للمتكلّم. والتبعيّ ما لم يكن كذلك.
وبعبارة اُخرى: الدلالة الأصلية في جميع الموارد هي: دلالة اللفظ على معناه المقصود للمتكلّم. والدلالة التبعية هي: دلالته على معنى غير مقصود له، ولكن هذا إنّما يتمّ ويصحّ فيما تكون له حقيقة لا من جهة الإنشاء وسببيّته، كأقلّ الحمل. وأمّا مثل البعث والطلب الّذي لا يكون له وجود إلّا بسبب الإنشاء فلا يعقل دلالته عليه تبعاً، فبعد فرض كون تحصّل الطلب بإلقاء اللفظ وإنشائه قاصداً لمعناه لا يمكن تحصّله من غير
ص: 181
أن يتحقّق إنشاء خاصّ كذلك، فلا يمكن دلالة اللفظ عليه تبعاً؛ لأنّ لازمه دلالة اللفظ على المعدوم، والحال أنّ العدم لا يشار إليه ولا يخبر عنه.
ثم إنّه لا يخفى عليك: أنّ هذا التقسيم لا يعقل ولا يكون إلّا بحسب مقام الدلالة والإثبات.((1)) وأمّا بحسب مقام الثبوت فلا يمكن تصوّر تقسيمٍ غير تقسيمه إلى النفسي والغيري، فلا مجال للقول برجوع هذا التقسيم إلى مقام الثبوت.((2))
ومنها: تقسيمه إلى النفسي والغيري
وقد يقال في تعريفهما: بأنّ الواجب النفسي هو الّذي وجب لنفسه. والغيري ما وجب لغيره.
واُورد عليه: بأنّه يلزم من هذا التعريف أن تكون الواجبات الشرعية جلّها بل كلّها سوى المعرفة واجبات غيريّة؛ لأنّها ليست مطلوبة بالذات بل تعلّق الطلب بها من أجل فائدة ومصلحة تترتّب عليها، فالصلاة مثلاً واجبة لأجل أنّها موجبة لحصول القرب وصفاء الروح وغيرهما.((3)) وبعبارة اُخرى: يلزم عدم صدق المعرِّف على کلّ ما صدق عليه المعرَّف.
واُجيب: بأنّ الواجب النفسي هو الواجب الّذي لا تكون فائدته ومصلحته وما اُمر لأجله مأموراً به، لأنّه لا يمكن أن يقع تحت الأمر والتكليف، كالتقرّب إلى الله وحصول الدرجات في الجنة، فإنّ هذه الفوائد ليست اختيارية حتى تقع تحت الأمر.
ص: 182
ولا يخفى ما في هذا الجواب، فإنّ المقدور بالواسطة مقدور، فحصول القرب وإن كان ممّا لا يقدر عليه المكلّف ابتداءً لکنّه مقدور له مع الواسطة.
والأولى أن يجاب عنه: بأنّ الواجب النفسي هو الّذي تعلّق الإيجاب به بنفسه، بحيث يرى العرف تعلّقه به ابتداءً، وإرادة الآمر بإيجابه انبعاث المكلّف لإتيانه نفسه. والغيري ما كان إيجابه غير متعلّق بنفسه بل يكون متعلّقاً في الحقيقة بغيره، فلا يكون البعث إليه إلّا بعثاً إلى غيره وليس طلبه إلّا طلب غيره.
وبعبارة اُخرى: الواجب الغيري هو ما يمكن أن يقال: إنّه واجب باعتبار وليس واجباً باعتبار آخر، فباعتبار أنّ الطلب تعلّق به ظاهراً هو واجب، وأمّا باعتبار أنّ المطلوب ما كان هو في طريقه بحيث لا يرى العرف للطلب المتعلّق به وجوداً مستقلاً هو ليس بواجبٍ.
والحاصل: أنّ النفسي هو الواجب الّذي تعلّق به الوجوب بنفسه لا لأنّه واقع في طريق غيره، والغيري هو الّذي تعلّق به البعث والطلب لا لنفسه ولا بنفسه حقيقة بل من جهة وقوعه في طريق حصول واجب آخر، فالبعث والطلب فيه يكون راجعاً في الحقيقة إلى واجب آخر هو ذو المقدّمة، ووجوب هذا الفعل الواقع في طريقه يكون مندكّاً وفانياً فيه، بحيث إنّ الآمر لا يرى عند إيجابه إلّا الغير وحصول ذي المقدّمة من المكلّف. ولهذا يمكن أن يقال: بأنّه لا وجوب هنا حقيقة ولا طلب واقعاً، وأنّ الأوامر الغيرية أوامر إرشادية صرفة راجعة إلى الأوامر النفسية. ولو لم نقل ذلك، فلا ريب في أنّ نحو وجود الأوامر الغيرية لا يكون إلّا وجوداً مندكّاً في الغير.
إذا شكّ في واجب أنّه نفسي أو غيري؟ فتارة: يكون وجوب الغير مقيّداً بشيء
ص: 183
بمعنى كونه مطلوباً في ظرف وجود شيء أو في زمان خاصّ، فلا إشكال في التمسّك بإطلاق الدليل على وجوب ذلك الواجب مطلقاً كان بذلك الغير واجباً أم لا. وتارة: يكون الغير واجباً مطلقاً وعلى کلّ حال، فتمام الشكّ في الواجب راجع إلى أنّه نفسي أو غيري، وفي هذه الصورة ذهب المحقّق الخراساني(رحمه الله) إلى نفسيّته وجواز التمسّك بالإطلاق لإثبات نفسيّته؛((1)) لأنّ الشكّ واقع في أنّ الواجب هل وجب لأجل الغير أو لا؟ وإطلاق الهيئة يقتضي عدم تقييد وجوبه بذلك.
ولا يخفى ما في جواز التمسّك بالإطلاق في الصورة الثانية؛ لأنّه يلزم منه جواز تقييد المعلول من ناحية علّته فإنّ الواجب الغيري وجوده معلّل بوجود الغير، فلو قلنا بإمكان التمسّك بالإطلاق لإثبات نفسية الواجب - لأنّ كونه غيرياً معناه تقييده بغيره وكونه مترشّحاً منه وهو منفيّ بالإطلاق - يلزم منه وقوع ما هو فى المرتبه السابقة في المرتبة اللاحقة، ووقوع ما هو العلّة في مرتبة المعلول، وبطلانه واضح.
فالنتيجة: عدم الفرق فى الوجوب النفسي والغيري من جهة التمسّك بالإطلاق. وبعبارة اُخرى: وجوب الواجب الغيري معلول لوجوب الواجب النفسي وغير مقيّد بكون غيره واجباً وكونه مترشّحاً منه، بل وجوب الواجب النفسي أي ذي المقدّمة علّة للبعث نحو الواجب الغيري أي المقدّمة، لكن على سبيل الإطلاق وعدم كونه بعثاً مقيّداً بوجوب غيره وإلّا يلزم كون العلّة الّتي هي سبب لوجود المعلول قيداً له وسببا وعلّة لنفسه، فتدبّر جيّداً.
ويمكن دعوى انصراف الهيئة إلى الوجوب النفسي؛ لأنّ العرف لا ينصرف ذهنه عند طلب المولى إلّا إلى نفسيّة طلبه وإرادة المولى انبعاث العبد نحو المبعوث إليه لإتيانه لنفسه.
ص: 184
لا يخفى عليك: عدم استحقاق المكلّف الثواب بسبب موافقته للأمر النفسي، بمعنى أن يكون له مطالبة الثواب والأجر من المولى وقبح منعه من قبل المولى. وهذا من جهة أنّ العبد مِلْك للمولى، فلو أمره المولى بفعل فامتثل وأطاعه لم يكن للعبد طلب الأجر منه؛ لأنّ المولى تصرَّف في ملكه، وعلى العبد امتثال أمره. بل كلّما اشتدّت العبودية اشتدّ قبح طلب الأجر من المولى، فكيف بمن أنشأ العبد وخلقه وصوّره ونعّمه! وأيضاً الأوامر النفسية كلّها ذات مصالح راجعة إلى العبد، والمولى غنيّ عن إطاعته، فقبيح من مثل هذا العبد طلب الأجر منه، كما أنّه يقبح على المريض الّذي عالجه الطبيب وأعاد صحّة بدنه وسلامته إليه، لكن أمره بشرب المسهل ونهاه عن أكل البطّيخ مثلاً، أن يطلب من ذلك الطبيب الأجر على أنّه أطاع أمره وشَرب المسهل وانتهى عن أكل البطّيخ، بل لا يعدّ ذلك إلّا من نقص العقل.
فالثواب والأجر من المولى لا يكون إلّا رحمة وتفضّلاً منه.
وأمّا التعبير بالأجر في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿هُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾؛((1)) أو الجزاء، كقوله تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ﴾؛((2)) أو الثواب، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ﴾،((3)) فإنّما هو لأجل كمال العناية بهداية العبد، كقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾.((4))
ص: 185
فعلى هذا، لا مجال للاعتناء بقول بعض المتکلّمين((1)) من أنّ التكليف تحميل المشقّة والكلفة، فعلى الحكيم إعطاء الأجر للمكلّف. هذا بالنسبة إلى الأوامر النفسية.
وقد اتّضح من ذلك وجه عدم استحقاق الأجر والثواب لو أتى بالأوامر الغيرية ومقدّمات الواجبات النفسية.((2)) نعم، لا مانع من التفضّل من قبله جلّ شأنه.
وأمّا الكلام في استحقاق العقوبة على المخالفة، فلا يخفى أنّ العبد لو خالف أمر المولى فحيث يُعدّ طاغياً عليه وخارجاً عن رسم العبودية يستحقّ العقوبة بذلك، بمعنى أنّ للمولى عقابه. ولو عاقبه فلا يتصوّر قبح في عقابه عبده العاصي، هذا فيما تكون المخالفة مخالفة للواجبات النفسية، أو المحرّمات كذلك.
وأمّا العقاب على ترك المقدّمات ومخالفة الأوامر المتعلّقة بها، فلا مجال له أصلاً؛ لأنّ المخالفة لا تكون إلّا واحدة، فليكن عقابها أيضاً كذلك.
قد اُشكل في الطهارات الثلاث((3)) بأنّ من الواضح كونها من الواجبات الغيرية مع أنّ قصد الامتثال معتبر فيها، وهذا مشعر باستقلالها وأنّ لها امتثالاً مستقلاً، وهذا يتنافى مع غيريّتها ومقدّميّتها.
ص: 186
واُشكل((1)) أيضاً بأنّه كيف يمكن الأمر بإتيانها بقصد الامتثال مع أنّ الأمر لا يدعو إلّا إلى ما هو متعلّقه، فداعوية الأمر نحو الفعل موقوف على قصد الأمر، وقصد امتثال الأمر موقوف على كون الأمر داعياً إلى هذا الفعل، فيلزم منه الدور.
ولا يمكن الجواب عن هذا الإشكال في المقام بما قد يجاب عنه في الواجبات النفسية بتقريب: أنّ من الممكن أن لا يكون قصد الامتثال جزءاً للمأمور به، بل الأمر تعلّق بأصل العمل وعلم من الخارج حصول الإطاعة وتوقّفها على قصد الامتثال، كما عرفت تفصيله في مبحث التعبّدي والتوصّلي.((2)) وأمّا فيما نحن فيه حيث إنّ الأمر الغيري ترشّحي لا يكاد يترشّح إلّا إلى ما هو مقدّمة للواجب، والمقدّمة كما هو الفرض لا تكون إلّا الطهارة مع قصد الامتثال، فلابدّ من تعلّق الأمر الترشّحيّ الغيري بالمقدّمة، وهي نفس العمل مع قصد الامتثال والتقرّب.
ولايمكن التفصّي عن هذا الإشكال بما تفصّى به المحقّق الخراساني(قدس سره) هناك.((3))
وهذا مراد صاحب الكفاية فيما نحن فيه بقوله: «هذا مضافاً إلى أنّ الأمر الغيري لا شبهة في كونه توصّلياً... إلخ».((4))
وغرضه أنّ الأمر التعبّديّ النفسي على ما عرفت سابقاً - في التعبّدي والتوصّلي - هو الأمر المتعلّق بما هو أوسع من الغرض، وهذا بخلاف الغيري فإنّه لا يتعلّق إلّا بما هو محصّل لذي المقدّمة، فلا يكون إلّا توصّلياً صرفاً. فلا يفيد ذلك الجواب في ما نحن فيه. (ويأتي نظير هذا الإشكال على المحقّق الخراساني(قدس سره) في توجيه الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات إذا تعلّق النذر بهما، في ذيل البحث في الشبهة المصداقية).
ص: 187
والّذي ينبغي أن يقال في الجواب: إنّ إتيان المقدّمات بقصد الامتثال وحصول التقرّب بها لا يكون موقوفاً على الأمر بالمقدّمات، بل إذا أراد المكلّف إتيان ذي المقدّمة بقصد الامتثال والتقرّب تتولّد من تلك الإرادة إرادة ما هو مقدّمته، فيأتي بها لأجل حصول ذيها، وهذا المقدار كافٍ في تحقّق الامتثال وحصول التقرّب.
فلو فرضنا أنّ المكلّف أراد إتيان المقدّمة لكن لا لغرض شهويّ ونفسانيّ بل من جهة أنّه أراد إتيان ذي المقدّمة مع كون إرادته لإتيانه متولّدة من أمر المولى كفى ذلك في الامتثال واستحقّ بذلك الثواب كما يستحقّ بإتيان ذيها.
فلو قام شخص من نومه في الليل مع شدّة البرد وتوضّأ من ماء بارد لصلاة الليل وأدركه الموت قبل الصلاة، وقام شخص آخر في مكان آخر لا تكون برودته بهذه المثابة وتوضّأ وأتى بها، أيجوز عند العقل أن يقال بأنّ الثاني امتثل ولكنّ الأوّل لم يمتثل؟ وهل يجوّز العقل أن یکافئ المولی ويشكر عمل الثاني دون الأوّل؟ هذا.
ولو لم نقل بذلك وقلنا بعدم استحقاق الثواب فالتقرّب والامتثال حاصل على کلّ حال؛ لأنّه لا يتوقّف على ترتّب الثواب. فعلى هذا، لا مانع من إتيان المقدّمة بقصد التقرّب والامتثال من غير تعلّق أمر بها. مع أنّه لو قلنا بتعلّق الأمر بها من جهة مقدّميتها فلا يتحقّق الامتثال بقصد ذلك الأمر بل إنّما يتحقّق لو أراد فعل ذيها ممتثلاً.
نعم، يمكن أن يكون لبعض المقدّمات كالطهارة أمر مخصوص من جهة نفسها، أو أوامر متعدّدة من جهة كونها مقدّمة لواجبات متعدّدة أو مستحبّات مختلفة، فلا مانع من حصول التقرّب والامتثال بقصد الأمر المتعلّق بنفسها أو بسبب قصد الأمر المتعلّق بذيها وإرادتها المتولّدة من إرادة ذيها.
ومن هنا يظهر الجواب عن الإشكال الثاني وهو لزوم الدور، فإنّ المكلّف إذا أتى بالمقدّمة وكانت إرادته لفعلها متولّدة من إرادة ذيها وهذه متولّدة من إرادة امتثال
ص: 188
الأمر كفى ذلك في تحقّق التقرّب وحصول الامتثال. هذا مضافاً إلى أنّنا في مبحث التعبّدي والتوصّلي قد أجبنا عن هذا الإشكال((1)) بعون الله المتعال.
بناءً على ما حقّقناه - من تحقّق الامتثال والتقرّب بفعل المقدّمة إن كانت إرادته متولّدة من إرادة ذيها وكانت إرادة ذيها متولّدة من إرادة امتثال الأمر المتعلّق به - لا يبعد القول بصحّة إتيان هذه المقدّمة ولو لم يتعلّق الأمر الوجوبي بذيها في حال إتيانها، كالوضوء أو الغسل قبل حضور وقت الصلاة. فلو أراد المكلّف امتثال أمر الصلاة في وقتها وتولّدت من إرادته هذه إرادة الوضوء قبل حضور الوقت فلا يبعد القول بصحّته؛ لأنّ هذا المقدار كافٍ في حصول الامتثال والتقرّب.
وبالجملة: لا مانع من توسعة دائرة امتثال المقدّمة بالنحو المذكور مع كون دائرة امتثال ذيها مضيّقة.
هل يعتبر قصد التوصّل بالمقدّمة في وجوبها؟ وهل الواجب منها خصوص الموصلة؟
لا يخفى: أنّ وجوب المقدّمة بناءً على القول بالملازمة غير مشروط بإرادة فعل ذيها وإن كان يظهر من صاحب المعالم(قدس سره) اشتراط وجوبها بإرادة ذيها.((2))
وذلك لأنّ وجوب المقدّمة لا يكون إلّا وجوباً ظلّياً رشحيّاً ولا يتصوّر بناءً على الملازمة وجوب ذي المقدّمة من غير تعلّق الوجوب إلى مقدّمته، فكما لا يمكن وجود
ص: 189
ذي الظلّ مع عدم الظلّ، كذلك لا يمكن وجوب ذي المقدّمة مع عدم وجوب المقدّمة فالمقدّمة، تابعة لذيها في الإطلاق والاشتراط من دون تقييد آخر لها، وهذا واضح لا يحتاج إلى إطالة الكلام. إنّما وقع الخلاف بينهم في متعلّق وجوب المقدّمة وأنّ الواجب هل هو المقدّمة الّتي اُريد بإتيانها التوصّل إلى ذيها فلو لم يقصد من إتيانها هذا لما وقعت على صفة الوجوب، أو أنّ الوجوب تعلّق بمقدّمة يترتّب عليها ذو المقدّمة، فلو لم يترتّب عليها كشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب وعدم كونها متعلّقة له، أو لا يكون شيء منهما معتبراً في تعلّق الوجوب بها؟ وجوه، بل أقوال:
أوّلها: ما هو المنسوب إلى الشيخ الأنصاري(قدس سره) والمحكيّ عن تقريرات بحثه.((1))
وثانيها: مختار صاحب الفصول(رحمه الله).((2))
وثالثها: مختار الكفاية،((3)) وغيرها.
وهناك وجه آخر كما في الفصول وهو: كون متعلّق الوجوب وما يقع متّصفاً بالوجوب خصوص ما قصد به التوصّل إلى ذي المقدّمة مع موصليته إلى ذي المقدّمة.((4))
ولا يخفى عليك: أنّ الوجه الأوّل وإن كان قد نسب إلى الشيخ(رحمه الله) كما توهّم في الكفاية،((5)) ولكن هذا التوهّم إنّما نشأ من عدم التامّل التامّ في كلام صاحب التقريرات؛ فإنّ ما ذكره في هذا المقام (بنحو إن قلت وقلت) صريح في أنّ مراد الشيخ(رحمه الله): توقّف حصول التقرّب بالمقدمة على قصد التوصّل بسببها إلى ذي المقدّمة.
وهذا كلام متين وقد بيّنا وجهه سابقاً. فالمقدّمة إن كانت ممّا لها مطلوبية ونفسية
ص: 190
ومصلحة ذاتية كالوضوء والغسل يحصل التقرّب بفعلها تارة بإرادة أمرها النفسيّ. وتارة اُخرى بإرادة التوصّل بسبب فعلها إلى ذيها وإن لم تكن ممّا لها مطلوبية نفسيّة، فلا يمكن التقرّب بها إلّا بإرادة التوصل بسبب فعلها إلى ذيها. فعلى هذا، يسقط ما أورده المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية على الشيخ(قدس سره).((1))
وأمّا الكلام في أصل المطلب، فلا يكون محتاجاً إلى بيان؛ لأنّ عدم توقّف اتصاف المقدّمة بالوجوب على قصد التوصّل أوضح من أن يخفى، ولا ينبغي توهّم اعتباره لأحد بعد فرض كون المقدّمة ما يتوقّف عليها وجود ذي المقدّمة، وأنّ توقّفه عليها لا يكون إلّا بذات المقدّمة من غير دخل لهذا القصد وعدمه فيه. فالحقّ ما ذهب إليه وأوضحه في الكفاية.
وأمّا الوجه الثاني، وهو: أنّ المقدّمة لا تقع واجبة إلّا إذا ترتّب عليها ذو المقدّمة، ولا تقع على صفة الوجوب لو لم يترتّب عليها ذو المقدّمة. وليس معنى ذلك أنّ الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة مشروط بترتّب ذي المقدّمة عليها، بل معناه أنّ الوجوب مطلق ولكنّ المقدّمة لا تقع على صفة الوجوب إلّا إذا كانت موصلة وترتّب عليها ذيها.
وقد بنى على ذلك في الفصول وجوب المقدّمة المحرّمة الّتي توقّف عليها واجب أهمّ لو ترتّب ذلك الواجب عليها، بخلاف ما لو لم يترتّب عليها ذو المقدّمة فتكون المقدّمة باقية على حالها من الحرمة. فلو أتى بهذه المقدّمة بزعم ترتّب ذيها عليها فاتّفق
ص: 191
عدم ترتّبه عليها فقد ارتكب فعلاً محرّماً، ولكن حيث زعم انطباق الواجب عليها يكون معذوراً ولا يعاقب عليه. كما أنّه لو لم يرتكب المقدّمة مع علمه بتوقف ذيها عليها وظهر فيما بعد أنّه لو فعلها أيضاً لما ترتّب ذو المقدّمة عليها، فليس عليه شيء. نعم، هو متجرٍّ بتركه فعلاً قَطَع بوجوبه.((1))
وفيه: أنّه إن اُريد بالموصلية أنّ للمقدّمة فردين، أحدهما: ما يترتّب عليه ذو المقدّمة وتكون موصلة إليه. والآخر: ما ليس كذلك. وقد تعلّق الوجوب المطلق بالأوّل لا بنحو أن تكون الموصلية قيداً له ويكون متعلّق الأمر مركباً من نفس المقدّمة وموصليّتها، بل الموصليّة لا تكون إلّا عنواناً يشار بها إلى ذلك الفرد، فهذا يرجع إلى أنّ المقدّمة الّتي تعلّق بها الوجوب من قبل ذي المقدّمة ليس إلّا ما يلزم من وجوده وجود ذي المقدّمة ومن عدمه عدمه، وهذا تفصيل بين السبب وغيره أي بين الأفعال التوليدية وغيرها، وقد تقدّم فساد ذلك التفصيل.((2))
وإن اُريد بالموصليّة أنّ الوجوب تعلّق بجميع أفراد المقدّمة لكن بقيد كونها موصلة وترتّب ذي المقدّمة عليها، حتى يكون متعلّق الوجوب: المقدّمة المقيّدة بالموصليّة، فلازم هذا أنّه لو كان لواجب نفسي آلاف من المقدّمات أن يترشّح منه إلى جميع تلك المقدّمات مع قيد الموصليّة آلاف من الوجوبات الغيرية، وحيث إنّ هذا القيد لا يحصل إلّا في ظرف إتيان المكلّف بذي المقدّمة يلزم أن يتعلّق من هذه المقدّمات بعدد
ص: 192
جميعها وجوب غيريّ مقدّميّ بذي المقدّمة، فيصير ذو المقدّمة مقدّمة لما تكون مقدّمة له ومتوقّفاً على ما يكون متوقّفاً عليه، وهذا دور محال.
لا يخفى عليك: أنّ الأقوال الثلاثة المذكورة - أي ما ذهب إليه صاحب المعالم(قدس سره) من كون وجوب المقدّمة مشروطاً بإرادة المكلّف إتيان ذيها، وما نسب إلى الشيخ(رحمه الله) من إطلاق الوجوب وتقييد متعلّقه وكون الواجب ما اُريد به التوصّل إلى ذي المقدّمة، وما اختاره صاحب الفصول(رحمه الله) من كون المقدّمة المقيّدة بالإيصال متعلّقاً للوجوب - إنّما ظهرت لتصحيح العبادة الّتي يتوقّف على تركها فعل الواجب الفوري، كالصلاة الّتي تتوقف على تركها الإزالة. وسيجيء إن شاء الله تعالى التعرّض لذلك على النحو المستوفى في مبحث الضدّ.
ثمرة النزاع((1))
لا يخفى عدم ترتّب ثمرة على البحث في وجوب المقدّمة؛ فإنّه ولو قلنا بوجوب المقدّمة إلّا أنّ وجوبها ليس إلّا وجوباً تطفّليّاً مندكّاً في وجوب ذي المقدّمة بحيث لا يمكن بالنسبة إليه تصوّر الامتثال والعصيان، كما سيتّضح لك إن شاء الله تعالى.
إعلم: أنّه ليس في المسألة أصل يعوّل عليه عند الشكّ؛ فإنّه ليس لوجوب المقدّمة أثر شرعي حتى يستصحب أو تجري فيه البراءة.
ص: 193
وأمّا ما أفاده المحقّق الخراساني(قدس سره) من صحّة استصحاب عدم وجوبها؛ لأنّ نفس وجوب المقدّمة يكون مسبوقاً بالعدم حيث يكون حادثاً بحدوث ذيها، فالأصل عدم وجوبها.((1))
ففيه: أنّه إن أراد من استصحاب عدم وجوبها نفي استحقاق المكلّف للعذاب على تركها، فنفي استحقاق العقاب وإثباته ليس من الاُمور التعبّدية حتى يتعبّدنا به. مضافاً إلى أنّ ترك المقدّمة غير موجب لذلك كما أنّ فعلها أيضاً ليس سبباً لاستحقاق الثواب، بل استحقاق الثواب والعقاب راجع إلى امتثال الأمر النفسي وعصيانه.
وإن أراد بذلك نفي فعليّة وجوب المقدّمة، فلا يتمّ أيضاً ما أفاده؛ لأنّه بعد الالتزام بأنّ وجوب المقدّمة - على القول به - لا يكون إلّا ظلّا لوجوب ذيها، كيف يمكن نفي فعلية وجوبها مع بقاء فعلية وجوب ذي المقدّمة؟
وبالجملة: فلا فائدة لإجراء الاستصحاب؛ لأنّه لو تعلّق الوجوب بالمقدّمة واقعاً فلا يمكن نفي فعليته بسبب الاستصحاب بعد فرض بقاء فعليّة ذي المقدّمة، وإن لم يتعلّق الوجوب فلا فائدة لذلك.
هذا، مضافاً إلى أنّ نفي فعليّة وجوبها بالاستصحاب لا فائدة له أصلاً؛ لأنّ على المكلّف الإتيان بالمقدّمة على کلّ حال من جهة توقّف الواجب عليها قلنا بوجوبها الغيري أم لا.
بعد ما عرفت المقدّمات، ندخل في أصل البحث، وقبل ذلك نحرّر محل النزاع بأنّه هل يتوجّه من قِبل الأمر بالواجب أمر إلى کلّ مقدّمة من مقدّماته؟ بمعنى أنّ العقل
ص: 194
يحكم بأنّ لازم ذلك تولّد أمر واحد من الأمر بالواجب لو كانت المقدّمة واحدة، أو أكثر إذا كانت المقدّمات أكثر - ولو كان الآمر غافلاً - أم لا؟
ولا وجه لتوهّم كون النزاع في الوجوب العقلي وأنّ العقل هل يحكم بوجوب إتيان المقدّمة أو لا؟ لأنّ هذا غير قابل للنزاع، لرجوعه إلى اللابدّيّة العقلية ولزوم إتيان المقدّمة بحكم العقل حفظاً من الوقوع في مفسدة ترك ذي المقدّمة. فليس محلّ النزاع ومرجع الاختلاف إلّا الوجوب الشرعي((1)) بالمعنى الّذي ذكرناه.
ص: 196
ولا يخفى عليك: أنّ مراد المفصّل (بين السبب وغيره) من السبب: الفعل المباشريّ الّذي هو تحريك العضلات كتحريك اليد، ومن المسبّب: الفعل الّذي يوجد بعين تحريك العضلات من غير توسط إرادة اُخرى بينه وبين الفعل كحركة المفتاح المسبّب من تحريك اليد وكذا انفتاح الباب، فالفعل الحاصل من السبب من غير توسط إرادة بينه وبين حصول ذلك الفعل هو المسبّب كتحريك المفتاح وانفتاح الباب. إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الوجه الّذي توهّم للقول بالتفصيل هو عدم قدرة المكلف على المسبّب في الأفعال التوليدية وأنّ الأمر فيها يتعلّق بالسبب.
وقد ظهر فساد هذا التوهّم ممّا ذكرناه سابقاً عند البحث في أنّ الأوامر المتعلّقة بالمسبّبات ظاهراً هل هي متعلّقة بها حقيقة أو لا؟ وقلنا بإمكان تعلّقها بالمسبّبات أيضاً حقيقةً، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور. مضافاً إلى أنّه ولو كان لکلّ من تحريك اليد وتحريك المفتاح وانفتاح الباب وجوداً مستقلّا وإيجاداً كذلك لاتّحاد الوجود والإيجاد من جهة أنّ الفرق بينهما ليس إلّا أنّ ما وجد إذا نسب إلى الفاعل نسمّيه بالإيجاد وبالنسبة إلى نفسه يسمّى بالوجود، ولكن من جهة ملاحظة حصول هذه الثلاثة من فاعل واحد وعدم توسيط إرادة اُخرى بين تحريك اليد وحركة المفتاح وانفتاح الباب تعدّ فعلاً واحداً، فلا مانع من تعلّق الأمر بالمسبّب أيضاً.
هذا، مضافاً إلى أنّ التفصيل خارج عمّا هو محلّ النزاع في مبحث المقدّمة، وإنّما هو نزاع آخر في متعلّق الأمر النفسي، وأنّه السبب أو المسبّب؟ فيكون أجنبيّاً عمّا نحن فيه.((1))
وأمّا وجه توهّم التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره، فهو ما يتراءى من وقوع
ص: 197
بعض الواجبات في الخارج كالصلاة والصوم وغيرهما من غير تحقّق شرائطها، فلو لم نقل بوجوب الشرط يلزم حصول الموافقة بمجرّد حصول الواجب، ومن الواضح بطلانه، فهذا دليل تقيّد الواجب بشرطه كالطهارة مثلاً، فالصلاة المقيّدة بها على نحو يكون القيد خارجاً والتقيد داخلاً تكون متعلّقة للوجوب. وبعبارة اُخرى: إنّ متعلّق الوجوب هو الصلاة الواقعة بعد الغسلتين والمسحتين، وحيث لا يمكن تعلّق الوجوب بالتقيّد فلابدّ من تعلّقه بالقيد الّذي يكون منشأً لانتزاع التقيّد.
وفيه: أنّ الأمر المتعلّق بالقيد الّذي يكون منشأً لانتزاع التقيّد هو عين الأمر بالتقيّد؛ لأنّ الأمر المتعلّق بالتقيّد راجع في الحقيقة إلى منشأ انتزاعه والوجوب المتعلّق به وجوب نفسيّ.
هذا، مضافاً إلى إمكان إنكار وقوع ذي المقدّمة بدون شرطه الشرعي، ودعوى رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي، فالصلاة لا تقع في الخارج إلّا بعد حصول مقدّمتها وهي الطهارة، وإن كان بحسب الظاهر يتخيّل وقوعها بدون مقدّمتها؛ لأنّه ربما كان المأمور به عنواناً ينطبق على أفعال خاصّة مشروطة بوجود اُمور معها بحيث لا ينطبق ذلك العنوان إلّا بعد حصول تلك الشروط، مثل عنوان الصلاتية؛ فإنّه لا ينطبق على القيام والركوع والسجود وغيرهما إلّا بعد حصول المسحتين والغسلتين، فتحقّق هذا العنوان في الخارج لا يمكن إلّا بهذا الشرط. والعقل وإن لم يدرك توقّف حصول هذا المأمور به وانطباق عنوانه على هذه الأفعال مقيّدة بهذا القيد، ولكنّ الشرع كشف عن ذلك بخطاب إرشاديّ كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ...﴾ الآية.((1))
ص: 198
أمّا الوجوه الّتي ذكروها لإثبات الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة والمقدّمة، وأنّه يتولّد من الطلب النفسيّ طلب غيريّ متعلّق بالمقدّمة، وأنّ الأمر كما يبعث المكلّف نحو ذي المقدّمة يبعثه نحو المقدّمة، فهي كثيرة ربما تتجاوز عشرين دليلاً، ذكر أكثرها المحقّق السبزواري.((1))
منها: الدليل المشهور بينهم عن أبي الحسين البصري،((2)) وهو قياس اقتراني شرطي.
بيانه: لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها، وحينئذٍ فإن بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بما لا يطاق، وإلّا خرج الواجب المطلق عن كونه واجباً مطلقاً؛ ينتج أنّه لو لم تجب المقدّمة يلزم إمّا التكليف بما لايطاق، أو خروج الواجب المطلق عن كونه واجباً مطلقاً، واللازمان باطلان فالملزوم مثلهما.((3))
ولا يخفى بطلان هذا الدليل، فإنّه إن أراد ممّا هو الأوسط في القياس وهو قوله: «وحينئذٍ» جواز ترك المقدّمة الّذي هو التالي في الشرطية الاُولى، فالملازمة بينه وبين التالي في الشرطية الثانية ممنوعة؛ لأنّه لا يلزم من بقاء ذي المقدّمة على وجوبه التكليف
ص: 199
بما لا يطاق. وإن أراد منه ترك المقدّمة أي فحين ترك المقدّمة إمّا أن يبقى الواجب... الخ، فبطلان القياس من جهة عدم تكرر الأوسط واضح.
ومنها: ما استدلّ به المحقّق الخراساني(رحمه الله) من إرجاعه وجوب المقدّمة إلى الوجدان؛((1)) فإنّه شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً له مقدّمات أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها. ولذلك يصحّ من المولى أن يقول: ادخل السوق واشتر اللحم، فيجعل المقدّمة في قالب الطلب، ومن الواضح أنّ ملاك الأمر بدخول السوق ليس إلّا مقدّميته لشراء اللحم. فكما أنّ دخول السوق يكون متعلّقاً لطلبه وإرادته لكونه مقدّمة لشراء اللحم، فليكن كذلك حال کلّ مقدّمة من مقدّمات الواجب من غير فرق بينها، فكلّها متعلّقة لطلبه، لوجود هذا الملاك في الجميع.((2))
وفيه: أنّ البعث إلى دخول السوق بعث إلى شراء اللحم حقيقة، ولا يكون للدخول صفة المطلوبية أصلاً. فلو سئل المولى عن عدد مطلوباته في ما إذا بعث عبده نحو فعل تكون له مقدّمات كثيرة؟ لأجاب عن وحدة مطلوبه وأنّ المبعوث إليه ليس إلّا الفعل المذكور ومطلوبه النفسي.
ومنها: استدلال بعض المعاصرين((3)) بأنّه كما تتولّد من الإرادة التكوينية المتعلّقة بفعل إرادات اُخر متعلّقة بمقدّماته، كذلك تتولّد من الإرادة التشريعية - وهي إرادة صدور الفعل من العبد باختياره - إرادات متعلّقة بصدور مقدّمات هذا الفعل منه.
وفيه: أنّه فرق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية؛ فإنّه لا يعقل صدور الفعل في الاُولى إلّا بذلك، وأمّا في الثانية فيمكن أن يريد المولى ذلك الفعل من دون توجّه إلى
ص: 200
مقدّماته، وينشأ الطلب لأجل حدوث إرادة الفعل في العبد، ثم إذا أراد العبد إتيان الفعل تتولد من إرادته هذه إرادات اُخر متعلّقة بمقدمات الفعل.
ثم إنّه قد ظهر من جميع ما ذكرناه أنّ القول بعدم وجوب المقدّمة ليس ببعيد عن الصواب.
نعم، لو اُريد من الوجوب حكومة العقل بلزوم إتيان المقدّمة لمكان توقّف ذيها عليها، فهو مسلّم، لكن أين هو من وجوبها الشرعي! ومع ذلك كله، لا مضايقة من موافقة القائل بالوجوب لو أراد منه وجوباً ترشّحياً طريقيّاً تطفّليّاً بحيث لا يكون له امتثال ولا عصيان ولا أثر آخر، بل كان واجباً بوجوب ذي المقدّمة بالعرض.
والحاصل: إنّ المقدّمة باعتبار عدم ترتّب أثر على وجوبها، غير واجبة. وباعتبار أنّ الطلب المتعلّق بالشيء يستتبع الطلب المتعلّق بمقدّماته بالعرض، واجبة.
وأمّا لو أراد من وجوبها كون الوجوب المتعلّق بها وجوباً وطلباً وبعثاً في مقابل الطلب والبعث المتعلّق بالواجب النفسي، بحيث لو سألنا المولى عن عدد مطلوباته يعدّ کلّ واحدة من المقدّمات مطلوباً على حدة، فهو ممنوع جدّاً.
ويمكن أن يكون نظر صاحب الفصول(رحمه الله) - في اختياره تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة - إلى ما أشرنا من عدم تشخّص وتعيّن ونفسية وجوب المقدّمة إلّا بحسب الوجوب المتعلّق بذيها، فحيث إنّه رأى أنّ القول بالوجوب مطلقاً (موصلة كانت المقدّمة أم غير موصلة) مستلزم لعدم صحّة القول بمعصية العبد إذا أتى بالمقدّمة المحرّمة الّتي لم يترتّب عليها ذو المقدّمة مع أنّ هذا فاسد؛ ذهب إلى وجوب المقدّمة الموصلة، بمعنى أنّ وجوب المقدّمة حيث لا يكون له وجود واقعاً وإنّما يطلق
ص: 201
عليها الواجب مسامحة، فلو صادف مع وجودها وجود الواجب وترتّب الواجب عليها لا تقع المقدّمة المحرّمة على صفة الحرمة لوقوعها مقدّمة للواجب الأهمّ، وأمّا لو لم يترتّب عليها الواجب فحرمتها باقية على حالها؛ لأنّ الطلب المتعلّق بالمقدّمة ليس طلباً له واقعاً، فتأمّل.
مقدّمة المستحبّ والحرام((1))
قد ظهر ممّا ذكر حال مقدّمة المستحب، فكلّ ما قيل أو يقال في مقدّمة الواجب يقال فيها.
وأمّا مقدّمة الحرام، فلو قلنا بأنّ النهي عبارة عن الزجر عن الفعل فلا يعقل تولّد زجر آخر من الزجر الراجع إلى ذيها يكون راجعاً إلى المقدّمة. ولو قلنا بأنّ النهي عبارة عن طلب الترك، وقلنا بثبوت الوجوب الغيري في مقدّمة الواجب فلا مناص من القول بحرمة مقدّمات الحرام حرمة غيرية في الجملة؛ لأنّ الملاك في كلتيهما واحد، إلّا أنّ مقدّمات الحرام حيث لا يتوقّف الترك فيها على ترك جميع المقدّمات فالحرمة تتعلّق بفعل المقدّمة السببیّة بل بالجزء الأخير من العلّة التامّة للفعل، فلا يحرم من المقدّمات إلّا ما يؤدّي إلى المحرم، فتدبّر جيّداً.
ص: 202
ص: 203
هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟
وقبل الخوض في المطلب ينبغي تقديم اُمور:
إنّ الضدّ على اصطلاح أهل المعقول: کلّ أمر وجوديّ يمكن تعقلّه من غير تعقّل مقابله. وذلك لأنّ کلّ أمر إذا لوحظ مع أمر آخر فإمّا أن يكونا متخالفين، أو متماثلين، أو متقابلين. والمتقابلان إمّا أن يكون أحدهما الوجود والآخر العدم الّذي ليس من شأنه الوجود، أو العدم الّذي من شأنه الوجود. وإمّا أن يكون کلّ منهما أمراً وجودياً لم يمكن تعقّل أحدهما بدون الآخر، أو يمكن ذلك. فالمتناقضان: ما يكون أحدهما الوجود والآخر العدم الّذي ليس من شأنه الوجود. والعدم والملكة: ما يكون أحدهما الوجود والآخر العدم الّذي من شأنه الوجود. والمتلازمان: (وقد يعبر عنهما بالمتضائفين) ما لا يمكن تعقّل أحدهما بدون الآخر. والمتضادّان: ما يمكن تعقّل أحدهما بدون الآخر.
وأمّا في اصطلاح الاُصوليين فيطلق الضدّ تارة: على الضدّ العامّ بمعنى الترك أو
ص: 204
أحد الأضداد الوجودية لا بعينه. واُخرى: على کلّ أمر وجوديّ لا يمكن اجتماعه مع أمر وجوديّ آخر، ويسمّونه بالضدّ الخاصّ.
ومن هنا يظهر أنّ الضدّ في اصطلاح الاُصوليين أعمّ من الضدّ المصطلح عليه عند أهل المعقول؛ لأنّه عند الاُصوليين يشمل کلّ ما يمكن تعقلّه بدون تعقّل مقابله، وما لم يمكن تعقّله كذلك فيشمل المتضائفين أيضاً.
إنّ المتقدّمين قد جعلوا النزاع في الضدّ من مبادئ علم الاُصول، وذكروه في المبادئ الأحكامية الّتي تكون قسماً من المبادئ التصديقية لعلم الاُصول؛ فإنّ مبادئه التصديقية على أقسام: أحدها: ما يوجب ذكره بصيرة في مسائل العلم، مثل ذكر معنى الوجوب والحرمة، وسمّوه بالمبادئ اللغوية. وثانيها: ما يبحث فيه عن الحسن والقبح والإدراكات العقلية، وسمّوه بالمبادئ العقلية. وثالثها: ما يبحث فيه عن حالات الأحكام وكيفياتها وملازماتها والنسب الواقعة بينها واجتماع بعضها مع بعض وتقسيمات الأحكام، مثل تقسيم الحكم إلى التكليفي والوضعي، وتقسيم التكليفي إلى الأحكام الخمسة التكليفية، وسمّوه بالمبادئ الأحكامية.
وكيف كان، فبحثنا هذا إنّما يكون من المبادئ الأحكامية، ولا ينبغي أن يعدّ من المسائل الاُصولية.
قد وقع اختلاف في المقام بين الاُصوليين، فذهب بعضهم إلى أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، ولم يذكر ما أراد من الضدّ. وبعضهم قال باقتضائه النهي
ص: 205
عن ضدّه العامّ، وعنى الترك من الضدّ العامّ. وبعضهم عنى منه أحد الأضداد الوجودية لا بعينه. وذهب بعضهم إلى أنّه يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ، ثم اختلفوا في كيفية الاقتضاء. فبعضهم قال بأنّ الأمر عين النهي عن الضدّ. واختار آخرون جزئية النهي عن الضدّ للأمر. ومذهب بعضهم أنّ النهي عن الضدّ يكون لازماً للأمر. واختلف القائلون بالمذهب الأخير، فقال بعضهم بأنّ النهي عن الضدّ يكون لازماً بيّناً بالمعنى الأخصّ للأمر. وذهب بعض منهم إلى أنّه لازم له بالمعنى الأعمّ.
إذا عرفت هذه الاُمور، فاعلم: أنّ المسألة عقلية، ولا أثر لاختلاف آرائهم فيما هو المهمّ.
ينبغي تقديم البحث عن الضدّ العامّ الّذي اُريد منه الترك. والظاهر أنّ هذا مراد القائل بأنّ الأمر عين النهي عن ضدّه، وإلّا فمن الواضح فساد دعوى العينية لو اُريد من الضدّ، الضدّ العامّ بمعناه الآخر، أو الضدّ الخاصّ. كما أنّه لا يبعد أن يكون هذا المعنى مراد من قال بأنّه جزؤه.
ولا يخفى: أنّ منشأ القول بجزئيّة النهي عن الضدّ للأمر: تعريفهم للوجوب بأنّه طلب الفعل مع المنع من الترك، فتوهّموا أنّ المنع من الترك يكون جزءً لمعنى الوجوب. والحال أنّ المراد بذلك بيان درجة تأكّد الطلب لا أنّ معنى الوجوب مركّب من هذا وذاك؛ لأنّ الطلب حيث يكون مقولاً بالتشكيك يكون له مراتب ودرجات فأقواها ما نسمّيه بالوجوب.
وأمّا منشأ القول بأنّ النهي عن الضدّ عين معنى الأمر فهو: ما ذكر في النواهي من
ص: 206
أنّ النهي طلب الترك، حيث إنّ متعلّق الترك تارة يكون الفعل، واُخرى يكون الترك، بحسب اختلاف المقامات، ففيما نحن فيه طلب الترك متعلّق بترك الواجب، فمعنى النهي عن الضدّ طلب ترك ترك الواجب وهو عين الأمر به.
وبعبارة اُخرى: منشأ القول بالعينية: ما ذكروه في باب النواهي من أنّ النهي طلب الترك، وحيث إنّ متعلّق الترك يكون ضدّ الواجب فالطلب يكون متعلّقاً بترك الترك لا محالة، وهذا لا يتحقّق إلّا بفعل الواجب وحصوله، فالأمر بالشيء الّذي هو عبارة عن طلب الفعل يكون عين النهي عن ضدّه الّذي معناه طلب ترك ترك ذلك الفعل، فالأمر الّذي هو عبارة عن طلب الفعل مغاير للنهي عن ضدّه مفهوماً ومتّحد معه مصداقاً، ويحمل هذا عليه بالحمل الشائع الصناعي.
كما أنّ النهي على ذلك يكون عين الأمر بالفعل. وليس معنى ذلك أنّ النهي حكم والأمر حكم آخر بمعنى توجّه الحكمين والتكليفين إلى المكلّف، بل المراد أنّ معنى الأمر بالشيء وطلب وجود فعل يكون طلب ترك تركه، ففي نفس الأمر يتحقّق ذلك الترك والوجود بإيجاد الفعل.
لا يقال: كيف يمكن أن يكون الفعل الواحد مصداقاً للوجود والعدم؟ فلا محيص عن القول بالملازمة بين الحكمين.
لأنّه يقال: إنّ المراد بالضدّ في المقام ليس النقيض المصطلح - الّذي ربما يقال في تعريفه: نقيض کلّ شيء رفعه - حتى يصير طلب ترك الترك أمراً عدمياً، بل المراد منه ما كان في مقابل شيء سواء كان من الاُمور العدمية كالترك بالنسبة إلى الفعل، أو الوجودية كالفعل بالنسبة إلى الترك. فعلى هذا، نقول: إنّ معنى النهي عن الضدّ هو طلب ترك النقيض، وفي نفس الأمر ترك النقيض لا يتحقّق إلّا بفعل الواجب.
هذا، وقد ظهر ممّا حقّقناه أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام بمعنى
ص: 207
الترك بناءً على كون معنى النهي طلب الترك. وكذلك لو كان الأمر بمعنى البعث، والنهي بمعنى الزجر على ما قوّيناه، فالأمر الّذي هو عبارة عن بعث المكلّف نحو الفعل وجلبه إليه عين الزجر عن ضدّه العامّ خارجاً ومصداقاً، كما أنّ الزجر عن الضدّ عين البعث إلى الفعل مصداقاً وإن كانا متغايرين مفهوماً. هذا تمام الكلام في الضدّ العامّ بمعنى الترك.
يعرّف الضدّ الخاصّ بأنّه: کلّ أمر وجودي لا يمكن اجتماع صدوره مع الواجب من المكلّف الواحد في زمان واحد، كالصلاة مع إزالة النجاسة عن المسجد، أو هي مع أداء الدين. ولا يخفى: أنّ هذا هو المهمّ في المقام ومحلّ النزاع بين الأعلام.
وقد استدلّ على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ بوجهين:((1))
الأوّل: أنّ فعل الضدّ، كالصلاة مثلاً، مستلزم لترك الإزالة الواجبة، وترك الإزالة حرام؛ لأنّه الضدّ العامّ الّذي يكون الأمر بها عين النهي عنه، ففعل الضدّ مستلزم للحرام وما يستلزم الحرام حرام.
الوجه الثاني: أنّ أداء الدين فوراً أو الإزالة واجب يتوقّف على ترك الصلاة وما يتوقّف عليه الواجب واجب، فترك الصلاة واجب وترك تركها حرام.
ولا يخفى: أنّ الدليل الأوّل اُخذ من حرمة الضدّ العامّ بمعنى الترك، بتقريب: أنّ فعل الضدّ مستلزم لترك الإزالة المحرّم من جهة كون هذا الترك ضدّ عامّ لفعل الإزالة الواجبة، ومستلزم المحرّم محرّم ففعل الضدّ محرم.
والدليل الثاني اُخذ من وجوب إتيان الواجب، بتقريب: أنّ أداء الدين المأمور به
ص: 208
واجب وهو يتوقّف على ترك الصلاة وما يتوقّف عليه الواجب واجب فترك الصلاة واجب. وحيث إنّ فعل الضدّ العامّ محرّم فترك ترك الصلاة الّذي هو عبارة اُخرى عن فعلها حرام.
ولا يخفى أيضاً: أنّ تمامية الدليل الأوّل تتوقّف على حرمة مقدّمة الحرام؛ لأنّ معنى استلزام فعل الضدّ لترك الواجب سببية فعله ومقدّميته لتركه. وتمامية الدليل الثاني تتوقّف على وجوب المقدّمة. كما أنّ دليلية الدليلين موقوفة على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه العامّ.
هذا، والّذي ينبغي أن يقال: إنّ المضادّة بين شيئين كالسواد والبياض وغيرهما من نظائرهما إنّما تكون من الإضافات المتشاكلة الأطراف كما في الاُخوّة، فما فرض في أحدهما لابدّ وأن يفرض في الجانب الآخر؛ لأنّهما متشابهان على المفروض، وبناءً عليه لو فرض استلزام وجود أحد الضدّين لعدم الضدّ الآخر كما هو المبيّن في الوجه الأوّل، فلابدّ من القول بكون وجود الآخر أيضاً مستلزماً لعدم ضدّه.
وهكذا لو قلنا بأنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لوجود الآخر كما هو المذكور في الوجه الثاني، فلابدّ وأن يكون ترك الآخر مقدّمة لوجود ضده، فيلزم من ذلك أن تكون مرتبة کلّ واحد من الضدّين متأخّرة عن الآخر ومتقدّمة عليه، بل يلزم تأخّره عن نفسه وتقدّمه على نفسه.
ووجهه: أنّه إذا كان ترك الضدّ مقدّمة لوجود الضدّ الآخر يلزم أن يكون وجوده أيضاً متقدماً على وجود هذا الشيء بحسب الرتبة لاتّحاد مرتبة الوجود والعدم، فوجود هذا الضدّ كما يكون متأخّراً عن عدم الضدّ الآخر يكون متأخّراً عن وجوده أيضاً، وهذا المتأخّر يجب أن يكون متأخّراً عن المتقدّم وعن کلّ ما تأخّر عنه المتقدّم؛ لأنّ المتأخّر عن المتأخّر عن الشيء متأخّر عن ذلك الشيء، ومن جملة
ص: 209
ما تأخّر عنه المتقدّم وجود هذا الضدّ المتأخّر؛ لأنّ وجود المتقدّم أيضاً موقوف على عدم المتأخّر، فتكون مرتبة وجود المتأخّر متقدّمة على المتقدّم، فيلزم تأخّر المتأخّر عن نفسه.
وأيضاً إذا كان ترك الضدّ مقدّمة لوجود الضدّ الآخر يكون وجوده أيضاً متقدّماً عليه - بحسب المرتبة - وعلى کلّ ما يكون متأخّراً عنه، ومن جملة ما يكون متأخّراً عنه هذا الضدّ المتقدّم؛ لأنّ عدم هذا الضدّ المتأخّر يكون مقدّمة لوجوده، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه، وهذا محال.
إنّ المستفاد من كلمات السابقين التزامهم بالمقدّمية، كما هو الظاهر من جواب العضدي والحاجبي عن الدليل الثاني؛ فإنّهما التزما في الجواب بنفي وجوب المقدّمة مع اعترافهما بأصل المقدّمية.((1))
ويستفاد هذا أيضاً منهم في ردّهم شبهة الكعبي،((2)) حيث قال: إنّ كل فعل إمّا يكون مقدّمة للواجب فيجب، أو مقدّمة لترك الحرام فيجب أيضاً، لأنّ ترك الحرام واجب.
وأجابوا عنها: بأنّا لا نسلّم وجوب مقدّمة الواجب.((3)) ولكنّه قد ظهر ممّا حققناه عدم إمكان القول بالمقدّمية، وأنّ كلماتهم في المقام خالية عن التحقيق.
ص: 210
إنّ مقتضى التحقيق أن يقال في مقام الجواب: إنّ ما هو تمام الملاك للقول بالاقتضاء هو مقدّمية الترك لوجود الضدّ بملاحظة استحالة اجتماع وجود الضدّين كالسواد والبياض في محلّ واحد وفي زمان واحد. فالتضادّ الواقع بينهما موجب لامتناع اجتماع وجودهما كذلك وعلى نحو المعيّة، فوجود الضدّ في حال معيّته مع الضدّ الآخر محال. فلو فرضنا معيّة أحدهما مع عدم الآخر ارتفعت تلك الاستحالة وانقلبت مادّة الامتناع إلى الإمكان.
فكما أنّ ملاك الامتناع والاستحالة هو ضدّية وجود کلّ منهما مع الآخر ومعيّة وجود کلّ منهما لوجود الآخر، فليكن رفع هذا الامتناع بملاك معية وجود کلّ منهما لعدم الآخر.
وكما أنّ الضدّية - الّتي هي تمام الملاك للامتناع - ليست إلّا بأن يكون الضدّان في مرتبة واحدة من الوجود وعلى نحو المعيّة ولا يكون لأحدهما تقدّم على الآخر بنحو من أنحاء التقدّم، كذلك لابدّ وأن يكون نقيض کلّ من الضدّين مع نقيض الآخر في رتبة واحدة وعلى نحو المعيّة، فعلى هذا يكون نقيض أحد الضدّين في مرتبة الضدّ الآخر.
فبناءً عليه كما أنّ ملاك حكم العقل بالامتناع في الوجود لا يكون إلّا لفرض كونهما في مرتبة واحدة، كذلك حكم العقل بإمكان وجود أحدهما مع عدم الآخر لا يكون إلّا لفرض أنّ الوجود والعدم في مرتبة واحدة، فعلى هذا لا يمكن أن يكون عدم أحد الضدّين مقدّمة لوجود الآخر وبالعكس، كما لا يخفى.
ثم إنّه ربما يقال بأنّ عدم الضدّ عند وجود الضدّ الآخر يكون من باب عدم المانع
ص: 211
عند وجود المعلول، وحيث لا إشكال في كون عدم المانع من المقدّمات وأجزاء العلّة فليكن عدم الضدّ أيضاً بالنسبة إلى وجود الضدّ الآخر كذلك.((1))
ولكن يمكن أن يقال: بأنّ أجزاء العلّة - من المقتضي والشرط وعدم المانع - ليست كلّها في مرتبة واحدة وفي عرض واحد، بل يستند عدم المعلول إلى کلّ واحد منها على نحو الطولية، فيستند عدم المعلول أوّلاً إلى عدم المقتضي لو فرض عدمه؛ ولو فرض وجوده فيستند إلى عدم الشرط؛ ولو فرض وجوده أيضاً فيستند إلى وجود المانع. فالمانع يؤثّر ويمنع المقتضي من التأثير بعد حصول الشرط، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل؛ لأنّ عدم الضدّ غير مستند إلى وجود المانع حتى يقال بأنّ عدمه من المقدّمات، بل هو مستند إلى عدم مقتضيه.
إنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ في مقام التأثير الفعلي، وأمّا بحسب مقام الشأنية والصلاحية فالمانع ما يصلح للمانعية ولو كان قبل وجود المقتضي، فإنّ معنى المقدّمية لا يجب أن يكون فعلياً، فبناءً على هذا لو فرضنا صلاحية وجود الضدّ للمانعية عن الضدّ الآخر لابدّ لنا من القول بكون عدمه مقدّمة لوجود الآخر.
قد يقال في ثمرة النزاع بأنّ القول بالاقتضاء، وأنّ النهي في العبادات موجب للفساد، ينتج فساد الضدّ إذا كان عبادياً.
ص: 212
واستشكل الشيخ البهائي(رحمه الله)((1)) على ترتّب هذه الثمرة بأنّا ولو قلنا بأنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه لكن مع ذلك لا إشكال في أنّ مقتضى الأمر بالشيء عدم الأمر بضدّه، فالأمر بإزالة النجاسة أو أداء الدين وإن لم يقتض النهي عن الصلاة إلّا أنّه يقتضي عدم الأمر بها وإلّا يلزم الأمر بالضدّين وهو محال، لا من جهة قبح صدوره عن الآمر الحكيم، بل ولا من جهة أنّه تكليف بالمحال، بل لأنّه محال بنفسه؛ لأنّ معناه إيجاب ما هو المحال، والإيجاب متفرّع على انقداح الإرادة النفسانية ومع فرض الاستحالة لا يمكن انقداح تلك الإرادة من الحكيم وغيره، فبناءً عليه يقتضي الأمر بالشيء عدم الأمر بضدّه، فالأمر بالإزالة يقتضي عدم الأمر بالصلاة المضادّة لها، وهذا يقتضي بطلان الصلاة لو ترك الإزالة وأتى بها؛ لأنّها ليست مأمورا بها فلا يمكنه قصد الأمر الّذي تتوقّف عليه صحّة العبادة.
وأجابوا عنه أوّلاً: بأنّا لا نسلّم استحالة الأمر بالضدّين مطلقاً؛ لأنّا لا نرى في ذلك مانعاً واستحالة إذا كان أحد الضدّين موسّعاً والآخر مضيّقاً.((2))
وثانياً: سلّمنا أنّ الأمر بأحد الضدّين موجب لعدم الأمر بالآخر وأنّه لا يمكن في مقام الامتثال قصد أمره، إلّا أنّ هذا لا يرفع المصلحة الكائنة في فعل الضدّ الآخر، ويكفي في تحقّق الامتثال قصد تلك المصلحة والمطلوبية الذاتية.((3))
ص: 213
وثالثاً: بأنّ الأمر بالضدّين لو فرض استحالته فهو إنّما يكون موجباً للمحال لو كان الأمر بهما في محلّ واحد وآن واحد على الإطلاق، لكن إذا كان أحدهما - الّذي يكون أهمّ من الآخر - على نحو الإطلاق والآخر مشروطاً بعصيان الأهمّ على سبيل الترتّب، فلا يوجب المحال. وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.((1))
بأنّ معنى الموسعية لو كان هو الكلّية بحسب الزمان بمعنى أنّ الآمر لاحظ المأمور به في امتداد من الزمان وكان لهذا الامتداد أجزاء بحيث تكون نسبة الامتداد إلى أجزائه كنسبة الكلّ إلى أجزائه لا كنسبة الكلّي إلى أفراده وجزئياته، فعلى هذا يكون الأمر الواحد متعلّقاً بشيء واحد في مجموع هذه الأجزاء الزمانية، فيكون لحاظ المأمور به في هذا الامتداد لحاظه في أجزائه إذ الكلّ هو عين الأجزاء بالأسر، فلا يمكن انفكاك لحاظ الكلّ عن لحاظ الأجزاء، والمفروض وجود أمر آخر، كالإزالة مثلاً، من المولى في بعض هذه الأجزاء الزمانية، وليس هذا غير الأمرين بالضدّين.
وكذا لو كان معنى الموسعية التخيير الشرعي، بمعنى أنّ کلّ فرد من الأفراد الموجودة في هذا الظرف يكون متعلّقاً لأمر خاصّ، فكلّ فرد منها بما أنّه واقع في جزء من هذا الظرف الزماني واجد لهذه الخصوصية، فله أمر خاصّ به، فيكون تمام الأفراد بخصوصياتها مورداً لأمر مستقلّ لكن على سبيل التخيير، فعليه لا يصحّ الأمر بالفرد المزاحم مع ما يضادّه وهو مأمور به أيضا؛ لأنّ هذا عين الأمرين بالضدّين، هذا.
ص: 214
إنّ التحقيق((1)) في معنى الموسعية أنّه ليس أحد الوجهين المذكورين، بل معناه أنّ المأمور به يكون طبيعة الفعل على وجه كلّيّ بحيث تكون لها بحسب أجزاء الزمان أفراد كثيرة خارجية، وهذه الطبيعة قابلة للانطباق على جميع تلك الأفراد انطباقاً قهرياً، كما يكون في انطباق کلّ طبيعي على جميع أفراده، فعلى هذا لا يكون لتلك الأفراد - الّتي لها خصوصيات فردية مشخّصة - دخل فيما هو الملاك والمناط في الأمر بالطبيعة؛ لأنّ المصلحة إنّما تترتّب على صرف الطبيعة المأمور بها، أمّا الخصوصيات الفردية فهي خارجة عن الملاك فلابدّ أن تكون خارجة عمّا هو متعلّق الأمر، ومن الواضح أنّ ما ليس له دخل في متعلّق الأمر ليس له دخل في تحقّق الامتثال.
وإن شئت مزيد توضيح لذلك فاعلم: أنّ الفعل الّذي يتعلّق به البعث والتحريك الإنشائي ويكون متعلّقاً للإرادة التشريعية لابدّ وأن تكون له مصلحة تترتّب عليه عند وجوده في الخارج ملازماً لوجود تلك المصلحة، ويكون الأمر بهذا الفعل بملاحظة تلك المصلحة لا محالة وإلّا لكان الأمر به جُزافاً ولغواً، وكذلك يلزم أن يكون لکلّ خصوصية من الخصوصيات ووصف من الأوصاف الّتي تؤخذ في متعلّق الأمر دخل في حصول هذه المصلحة وترتّب الغرض على الفعل حتى لا يكون أخذ هذه الخصوصية في متعلّق الأمر لغواً.
إذا عرفت ذلك يظهر لك أنّ طبيعة الصلاة مثلاً وجميع القيود المأخوذة فيها لابدّ وأن تكون لها مصلحة تترتّب عليها، وأن تكون القيود والخصوصيات المأخوذة فيها مؤثّرة ودخيلةً في ترتّب تلك المصلحة عليها، ومن تلك الخصوصيات الملحوظة فيها
ص: 215
كونها في وقت كذائي معيّن - أوّله الزوال وآخره الغروب مثلاً - فلا مناص من أن يكون لهذه الخصوصية دخل في ترتّب المصلحة عليها وإلّا لكان الأمر بالصلاة مخصّصاً بها لغواً.
وأمّا ما لا يكون له دخل في ذلك كخصوصية وقوعها في أوّل الوقت أو آخره أو وسطه فلا يكاد أخذه فيها؛ لأنّ أخذها يكون عبثاً ومن قبيل ضم الحجر إلى جنب الإنسان، فالمتعلّق للأمر إنّما هو الطبيعة المشتركة بين أفرادها من أوّل الزوال إلى الغروب على نحو اشتراك الطبيعي بين أفراده، فعلى هذا لا مانع من تعلّق الأمر بالطبيعة بملاحظة المصلحة المترتّبة عليها في زمان ممتدّ ولو كان بعض أفراد هذه الطبيعة مزاحماً لتكليف آخر ومطارداً له، إذ الضدّية والمطاردة لا تكون من جانب متعلّق التكليف الّذي هو الطبيعة ليس إلّا، فلا تكون معاندة بينها وبين غيرها أصلاً، بل المطاردة والمضادّة إنّما تكون بين بعض أفرادها المخصّصة بخصوصية كونه في زمان خاصّ، ومن المعلوم أنّ هذه الخصوصية غير مأخوذة في متعلّق الأمر؛ لأنّ هذه الخصوصية (وقوعها في ذلك الجزء من الزمان أو جزء آخر منه) غير دخيلة في ترتّب المصلحة.
والحاصل: أنّ ما هو المضادّ للتكليف الآخر من أفراد هذه الطبيعة ليس مأموراً به وإن كان ممّا تنطبق عليه تلك الطبيعة انطباق الكلّي على أفراده، فليس بين المأمور به وغيره تزاحماً وتعانداً أصلاً. وهذه الطبيعة لا تصير باعتبار هذا الفرد خارجة عن كونها مقدورةً وإن كان هذا الفرد منها مزاحماً ومطارداً للغير، فلا يكون الأمر بالطبيعة الموسّعة والأمر بالطبيعة المضيّقة من قبيل الأمر بالضدّين. فإذا صحّ تعلّق الأمر بها كذلك يمكن امتثالها بإيجاد کلّ فرد من أفرادها حتى تنطبق عليه تلك الطبيعة ولو كان الفرد المأتيّ به هو الفرد المزاحم للتكليف الآخر.((1))
ص: 216
ثم إنّه قد انقدح ممّا ذكرناه ضعف ما أورده بعض الأعاظم على هذا الكلام وإن كان المحتمل أنّه من زلّات أقلام بعض المقرّرين. وهو: أنّ السرّ في استحالة الأمر بالضدّين ليس قبح صدوره عن الحكيم كما هو المشهور، بل عدم انقداح الإرادة النفسانية مع الالتفات والعلم بامتناع وجود الضدّين في نفس الآمر الحكيم، فحينئذٍ تكون قدرة المكلّف شرطاً لأصل التكليف، فلا تكاد أن تكون في نفس المولى إرادة لفعله بعد علمه بعدم قدرة المكلّف على ذلك. وفيما نحن فيه قد فرضنا أنّ المولى حَكم بفعل الأهمّ في بعض زمان المهمّ وحكمه هذا يسلب عنه القدرة على إتيان الفرد المهمّ في هذا الزمان، وحيث إنّ الامتناع الشرعي كالامتناع العقلي فلا يمكن الأمر بالمهمّ في ظرف الأهمّ وزمان مزاحمته معه.
ولا يخفى ما في هذا الكلام من الغفلة عمّا فرضناه، فإنّ المفروض كون الطبيعة - خالية عن جميع الخصوصيات الفردية - تمام متعلّق الأمر، فلا يكون وقوعها في زمان المزاحمة مع ما هو الأهمّ إلّا كالحجر المضموم إلى جنب الإنسان.
هذا مضافاً إلى أنّ حكمه بعدم قدرة المكلّف على المهمّ في زمان مزاحمته مع الأهمّ هو عين المتنازع فيه؛ فإنّ النزاع لا يكون إلّا في أنّ التكليف بالمهمّ على نحو تعلّقه بالطبيعة المجرّدة عن الخصوصيات الفردية في ظرف التكليف بالأهم على نحو تعلّقه بخصوص الفرد محال أم لا؟
وقوله: إنّ الامتناع الشرعي كالامتناع العقلي، ليس من المسلّمات.
هذا، ولكن لا يذهب عليك: أنّ ما ذكرناه من إمكان صدور الأمر بالضدين إنّما هو مختص بصورة عدم تضيّق الموسّع، وأمّا في صورة تضيّق وقته بحيث لو لم يأت بهذا الفرد لما تحقّق الإتيان بالطبيعة المأمور بها فلا محيص عن القول بأنّ الفرد الأخير يكون مأموراً به بالأمر التبعي للتحفظ على الطبيعة المأمور بها عن العصيان والفوت، فحينئذٍ
ص: 217
لو كان ذلك مزاحماً للأهم يكون الأمر به من الأمر بالضدّين. هذا كلّه فيما يكون أحدهما موسّعا دون الآخر.
وأمّا إذا كان کلّ منهما مضيّقاً وموقّتاً بالزمان الّذي تضيّق به الآخر، فلا يمكن تصوير الأمرين، بل لابدّ وأن يؤتى بالمهمّ بقصد المحبوبية الذاتية، لأنّ عبادية العبادة لا ينحصر طريق تحصيلها بقصد الأمر، بل يمكن القول بكفاية قصد محبوبيتها الذاتية، كما لا يخفى.
تصدّى بعض الأعاظم لتصوير الأمر بالضدّين على نحو الطولية وكون أحدهما مشروطاً بعصيان الآخر، فيكون الأمر بالمهمّ مشروطاً بعصيان الأهمّ.
وقد وقع الخلاف في إمكان ذلك واستحالته. وجوّزه المحقّق الثاني على ما يظهر عنه في بعض المسائل الفقهية،((1)) وشيّد أركانه الميرزا الشيرازي،((2)) ثم تلقّاه منه بالقبول تلميذه المعظّم السيّد محمد الفشاركي(قدس سره)، وحقّقه تلامذته عدا المحقّق الخراساني(قدس سره) فإنّه استحال ذلك.((3))
ومختارنا الحقّ هو الجواز. وقبل الشروع فيما هو المهمّ في المقام ينبغي المراجعة إلى الوجدان ليتّضح أنّ الضرورة العقلية هل هي قائمة على إمكان ذلك أو لا؟
والحقّ أنّ العقل لا يأبى عن قبول إمكانه، ولا يرى مانعاً لصحّة الأمر بالضدّين بحيث يكون أحدهما مترتّباً على عصيان الآخر، فلا يسمح للحكم بامتناعه. وهذا واضح بعد المراجعة إلى الوجدان وغنيّ عن البيان. فإنّ الوجدان حاكم بصحّة أمر المولى عبده بإنقاذ ولده الغريق على الإطلاق، وأمره بإنقاذ أخيه الغريق لكن لا على نحو الإطلاق بل بشرط عصيان أمره بإنقاذ ولده الغريق، وليس هذا من الممتنعات الوجدانية.
وأمّا البحث العقلي في ذلك وتحقيق المرام خارجاً عن إطار الوجدان، فيحتاج إلى بيان مقدّمة لم تذكر في كلمات الأعلام، فنقول: لا إشكال في أنّ ملاك استحالة الأمرين بالضدّين لا يكون إلّا امتناع اجتماع الضدّين في الخارج وأنّه لا يمكن انقداح الإرادة في نفس الآمر الملتفت إلى امتناع اجتماع الضدّين. وتحقّق هذا الملاك في الأمر الواحد المتعلّق بالضدّين في غاية الوضوح، إذ لا يمكن تعقّل تعلّق الإرادة الواحدة بالضدّين ولا يعقل انقداحها في نفس الآمر الملتفت فلا يعقل البعث والتحريك.
ولكن من الواضح عدم كون ما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ المفروض في مسألة الترتّب هو أمران تعلّق کلّ منهما بغير ما تعلّق به الآخر، وكلّ منهما يدعو نحو متعلّقه الّذي هو ممكن في حدّ ذاته، ولا يكون التحريك بواحد منهما مع قطع النظر عن الآخر تحريكاً بالمحال، فلا يكون انقداح الإرادة محالاً، لأنّ كلّا منهما يبعث إلى متعلّقه الممكن في حدّ ذاته، فعلى هذا لا يكون الأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ من باب الأمر بالضدّين، أو الأمر بالمحال.
وبعبارة اُخرى: إنّ إرادة الأهمّ والبعث والتحريك نحوه مع قطع النظر عمّا يضادّه لا تكون من المحالات العقلية بل هي من الممكنات الواقعة كثيراً، وكذلك لا مانع من إرادة المهمّ بما هو هو وفي نفسه مع قطع النظر عن الأمر بالأهمّ. فليس هذا المقام، ومقام الأمر بالمحال والأمر بالضدّين من باب واحد، بل هنا أمران تعلّق کلّ منهما بشيء غير ما تعلّق به الآخر، ومن الواضح إمكان کلّ منهما في نفسه.
نعم، الأمران إذا كانا في مرتبة واحدة بحيث يكون البعث والتحريك بأحدهما في
ص: 218
رتبة البعث والتحريك بالآخر، يكون هذا مستحيلاً كالأمر بالضدين، بمعنى أنّ العقل كما يحكم باستحالة الأمر بجمع الضدّين، حاكم أيضاً باستحالة الأمرين بالضدّين إذا كانا في مرتبة واحدة، بحيث كان التحريك بأحدهما في عرض تحريك الآخر، وكان كلّ واحد من البعثين في مرتبة البعث الآخر.
ثم إنّه لا فرق فيما هو ملاك الاستحالة والامتناع بين ما إذا كان الأمران كلاهما بنحو الإطلاق - ويكون تحريك کلّ منهما في رتبة تحريك الآخر - ، أو الاشتراط بأن يكون كلاهما مشروطين بشرطٍ واحد، كما إذا قال السيّد لعبده: إذا دخلت السوق يجب عليك شراء اللحم وإذا دخلت السوق فاشتر الخبز. أو يكونا مشروطين بشرطين ولكن كان حصولهما في مرتبة واحدة، سواء كان الشرط اضطرارياً أو اختيارياً، فيكون بعث کلّ واحد منهما نحو متعلّقه في مرتبة بعث الآخر. فلا فرق في جميع هذه الموارد من جهة استلزامها ملاك الاستحالة العقلية وهو التحريك إلى شيء في مرتبة التحريك إلى شيء آخر.
وأمّا إذا كان أحدهما مطلقاً والثاني مشروطاً بعصيان الآخر، فلا يلزم منه ملاك الاستحالة؛ لأنّ ملاك حكم العقل بالامتناع والاستحالة ليس إلّا عدم إمكان التحريك نحو شيء في مرتبة تحريكٍ آخر نحو شيء آخر. وهذا الملاك غير موجود في المقام؛ إذ المفروض أنّ أحد الأمرين تعلّق بموضوعه على نحو الإطلاق والثاني على نحو اشتراطه بعصيان الآخر. فالتحريك بالمهمّ ليس في مرتبة التحريك بالأهمّ؛ لأنّه مشروط بعصيان الأهمّ، والتحريك بالأهمّ يكون متقدّماً على عصيانه المتقدّم على التحريك بالمهمّ، فإذا كان التحريكان في مرتبتين، كيف يمكن أن يتحقّق فيهما مناط الاستحالة العقليّة؟ وهو التحريك بشیء فی رتبه التحریک بالاخر.
لایقال : بناء علی ما ذکرتم یلزم ان یکون الامر بالاهم ایضا مشروطا بعدم
ص: 219
العصيان؛ لأنّه عند عصيانه لا يكون مأموراً به بل المأمور به عندئذٍ هو المهمّ والحال أنّ المفروض إطلاق الأمر بالأهم.
هذا، مضافاً إلى أنّ اشتراط الأمر بالامتثال أو العصيان أو كليهما غير معقول؛ فإنّه بشرط الامتثال مستلزم لتحصيل ما هو الحاصل، وبشرط العصيان مستلزم لاجتماع النقيضين، وبشرط الإطاعة والعصيان مستلزم لکلّا المحذورين، وما لا يمكن تقييده واشتراطه لا يصحّ إطلاقه، بمعنى أنّه إذا لا يمكن تقييده بعنوان الإطاعة والعصيان بأن يقال: أيّها المطيع أو أيّها العاصي افعل کذا وکذا أو أيّها المطيع والعاصي افعلا كذا وكذا، فلا يمكن إطلاقه بالنسبة إليهما.
مضافاً إلى ذلك كلّه: أنّ الإطاعة والعصيان ممّا يترتّب على الأمر في المرتبة المتأخّرة عنه، فلا يمكن أخذهما في متعلّق الأمر.
فإنّه يقال: إنّ الأمر بالأهمّ لا يكون مشروطاً بالإطاعة والعصيان حتى يستلزم المحذورات المذكورة، بل الأمر متعلّق بذات المكلّف العاصي أو المطيع مثل أن يخاطبه بقوله: يا أيّها الإنسان إفعل كذا، وهذا هو الّذي يعبّر عنه بالإطلاق الذاتي ولا محذور فيه.
إن قلت: إنّ المهمّ وإن لم يكن طارداً للأهمّ من جهة اشتراطه، ولكن الأهمّ يكون طارداً للمهمّ لفرض إطلاقه ولو بالإطلاق الذاتي.
قلت: مرتبة العصيان مرتبة عدم تأثير الأمر، ولو فرض وجود الأمر فلا يكون مؤثّراً في تحريك العبد، فلا مانع عقلاً من الأمر بالمهمّ في تلك المرتبة، وقد مرّ أنّ الأمر بالمهمّ متأخّر عن الأمر بالأهمّ برتبتين والأمر بالأهمّ متقدّم عليه بمرتبتين، والمتأخّر عن الشيء لا يمكن ارتقاؤه إلى المرتبة المتقدّمة لذاك الشيء، وما هو متقدّم على الشيء لا يمكن انحطاطه وتنزّله في مرتبة ذلك الشيء، فلا تحصل المطاردة بين المتخالفين رتبة.
ص: 220
ثم إنّه ربما یمکن أن يختلج في بعض الأذهان ويشتبه العصيان الرتبي بالعصيان الخارجي الّذي يقع في الخارج في وعاء الزمان، ويقال: إنّ عصيان الأهمّ الّذي هو شرط للمهمّ لا يكون إلّا بعد انقضاء زمان الأهمّ، والحال أنّ المفروض أنّ زمان الأهمّ عين زمان المهمّ، فلا يمكن وجود ما اشترط عليه الأمر بالمهمّ إلّا بعد انقضاء زمان المهمّ.((1))
والجواب: أنّ هذا الإشكال إنّما نشأ من خلط العصيان الرتبي بالخارجي، والحال أنّ العصيان الرتبي غير العصيان الخارجي، فإنّ العصيان الرتبي الّذي هو شرط للمهمّ يحصل قبل انقضاء زمان المهمّ في الوعاء المخصوص به، بخلاف العصيان الخارجي الزماني - الّذي هو ليس شرطاً للمهمّ - كما هو معلوم.
إن قلت: فعلى هذا، لا مانع من أمرين بالضدّين واشتراط أحدهما بإطاعة الآخر؛ لأنّ الإطاعة والعصيان يكون من قبيل النقيضين وفي مرتبة واحدة، فكما أنّ اشتراط أحد الأمرين بعصيان الآخر موجب للخروج عمّا هو مناط الامتناع وانقلاب مادّة الامتناع إلى الإمكان، فليكن اشتراط أحدهما بإطاعة الآخر كذلك.
قلت: إنّ الفرق بين الإطاعة والعصيان أوضح من أن يخفى؛ فإنّ حقيقة الإطاعة وقوع المأمور به في الزمان الّذي لابدّ وأن يقع فيه، وليس معنى كون الأمر بالمهمّ مشروطاً بإطاعة الأهمّ إلّا الأمر بأحد الضدّين بشرط وجود ضدّه، وليس هذا إلّا الأمر بالمحال والتحريك إلى الضدّين، وهذا يكون أسوء حالاً من الأمرين بشيئين في مرتبة واحدة يكون کلّ واحد منهما ممكناً في حدّ نفسه ممتنعاً بالقياس إلى الآخر.
هذا، مضافاً إلى أنّ هذا مستلزم للتناقض؛ فإنّ الأمر بالشيء بشرط وجود ضدّه
ص: 221
معناه الأمر بالشيء بشرط انقضاء زمانه وهذا مستلزم لعدم الأمر به، فيكون الأمر بالشيء مشروطاً بعدم الأمر به.
إن قلت: بناءً على ما ذكرتم لا محيص عن الالتزام بعقابين عند ترك الأهمّ والمهمّ، مع أنّ العقاب على تركهما ليس إلّا العقاب على أمرٍ غير مقدور للمكلّف، لأنّه لا يكون قادراً على إيجاد الأهمّ والمهمّ.((1))
قلت: أيّ مانع عقلي من ذلك بعد فرض تعلّق الأمرين بهما على سبيل الترتّب؟ فلا يكون ذلك عقاباً على غير مقدور، لأنّه قادر عليهما على نحو الترتّب فما يكون مصحّحاً لتعلّق التكليف هو الملاك والمناط لصحّة العقاب.((2))
إنّ للشيخ الأنصاري(رحمه الله) كلاماً، حاصله: إنّ خبر الواحد إذا تعارض مع خبر آخر، وقلنا بالسببية في باب حجّية الخبر بمعنى قيام المصلحة في نفس العمل به، يكون من
ص: 222
قبيل المتزاحمين فيتقيّد إطلاق دليل حجّية کلّ منهما بعدم الآخر من غير أن يسقط أصل الخطاب، وبهذا يرتفع محذور التزاحم.((1))
وأورد عليه بعض المعاصرين(رحمه الله)((2)) - على ما في تقريرات بحثه - بأنّ هذا التزام بخطابين يكون کلّ منهما مترتّباً على عدم امتثال الآخر وليس هذا إلّا الالتزام بالترتّبين فضلاً عن الالتزام بترتّب واحد، والحال أنّ الشيخ ممّن ينكر إمكان الترتّب ويلتزم بسقوط الأمر بالمهمّ.((3))
هذا خلاصة ما أفاده المعاصر المزبور رداً على الشيخ(رحمه الله). ولكنّك بعد التأمّل في كلام الشيخ(رحمه الله) تعرف عدم ورود هذا الإشكال على كلامه؛ فإنّ مراد الشيخ أنّه بعد الالتزام بالسببية ووجود المصلحة في نفس العمل بالخبرين المتعارضين يرجع التعارض بينهما إلى التزاحم ونتيجته تقييد إطلاق دليل کلّ منهما بعدم الآخر، وهذا عبارة اُخرى عن التخيير العقلي، وبهذا يرتفع محذور التزاحم من غير أن يسقط الخطابين من الأصل.
وبعبارة أخرى: لا يكون مراد الشيخ(رحمه الله) من تقييد کلّ من الإطلاقين بعدم الآخر
ص: 223
تقييد کلّ منهما بعصيان الآخر، كما هو الحال في مسألة الترتّب حتى يكون کلّ واحد منهما مترتّباً على الآخر كما ظنّه هذا المحقّق المعاصر(رحمه الله)، بل مراده تعيّن کلّ واحد منهما في ظرف عدم الآخر بما أنّه عدم للآخر لا بما أنّه عصيان له. ولعلّ هذا هو محلّ التأمّل عند السيّد الشيرازي(قدس سره) ووجه عدم التزامه بالعقابين.
نعم، لو كان عدم الآخر بمعنى التمرّد والعصيان يكون وجوب العمل بکلّ واحد منهما مشروطاً بعصيان الآخر ويتّجه الإشكال، ولكن تفسير كلامه بهذا واضح البطلان.
هذا خلاصة الكلام في المقام ونسأل الله التوفيق وعليه التكلان.
ص: 224
هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه أو لا؟((1))
إعلم: أنّ هذا البحث قد انقلب عمّا هو عليه أوّلاً، ضرورة أنّه لا معنى للبحث عن هذا العنوان ولا محصّل له، بل محصّله لا يكون إلّا التناقض؛ فإنّ مع انتفاء الشرط ينتفي المشروط وهو الأمر، فيكون محصّل العنوان: أنّ مع فرض عدم الأمر هل يجوز الأمر أو لا؟ وليس هذا إلّا التناقض. فالصحيح في عنوان المسألة أن يقال: هل يجوز للآمر الأمر مع كون أمره واجداً لشرائطه حين الأمر ولكنّه يعلم انتفاء بعض شرائطه عند مجيء وقت العمل به، كما في أمره مع علمه بالنسخ عند حضور وقت العمل مثل:
ص: 225
أمره تعالى بذبح إبراهيم - على نبيّنا وآله وعليه السلام - ولده مع علمه تعالى بفقدان شرطه وقت العمل، فإنّه ربما يكون من شرائط وجوبه عدم وجود الفداء.
إذا عرفت ما يمكن أن يرجع إليه البحث وعنوان الكلام فاعلم: أنّ الأشاعرة لمّا ذهبوا إلى الكلام النفسي وأنّه غير الإرادة النفسانية((1)) التزموا بجواز ذلك؛ لأنّه لا مانع من تعلّق الطلب النفسي على هذا بأمر يعلم الآمر فقدان شرطه عند حضور وقت العمل.((2)) وأمّا المعتزلة: فقد ذهبوا إلى عدم جواز ذلك؛((3)) فإنّهم نفوا وجود صفة قائمة بالنفس غير الإرادة وسائر الصفات المعروفة، فبناءً عليه لا يمكن تعلّق الإرادة بشيء كان الآمر عالماً بفقدان شرط أمره قبل حضور وقت العمل. وأمّا قضيّة إبراهيم(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأمثالها فقد أسلفنا الكلام في تحقيقه، فتدبّر.
ص: 226
لا يخفى: أنّ قدماء الاُصوليّين من العامّة حيث عرّفوا الواجب على سبيل الإطلاق بأنّه: هو الّذي يستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب؛((1)) أشكل عليهم الأمر في الواجب التخييري، لأنّه بناءً على تعريفهم لا يوجد جامع بينه وبين الواجب التعييني؛ فإنّ التخييري على فرض كونه واجباً لا يكون بحيث يستحقّ تاركه العقاب، فلا يصدق عليه ما ذكروه في تعريف مطلق الواجب.
وأمّا أصحابنا الإمامية - رضوان الله عليهم - فقد أدركوا حقيقة الأمر، وأنّه ليس جامع بينهما، وأنّ الوجوب التعييني حقيقته تحتّم المولى عبده بإتيان شيء وإلزامه له، والتخييري إلزامه وتحتّمه عبده بإتيان شيئين أو أشياء على سبيل الترديد النفس الأمري. ولأجل ذلك قالوا في تعريف الواجب التخييري: بأنّه الّذي يكون تاركه لا إلى بدل مستحقّاً للعقاب.((2))
ص: 227
فظهر من ذلك: أنّ حقيقة الوجوب التخييري إيجاب شيئين أو أشياء على سبيل الترديد النفس الأمري، والوجوب التعييني على نحو التعيين والتنجيز.
ولا يخفى: أنّ مراد الأصحاب بالبدل المذكور في تعريف الواجب التخييري ليس البدل الّذي يكون مقابلاً للأصل كما هو المصطلح، بل المراد هو الفرد التخييري كما هو واضح.
ثم إنّه قد يفصل بين الواجب التخييري كما في الكفاية((1)) بأنّه يمكن أن تكون المصلحة المترتّبة على کلّ واحد من الشيئين أو الأشياء عين المصلحة الّتي تترتّب على غيره. فلو تعلّق الأمر بکلّ واحد من الشيئين أو الأشياء على سبيل التخيير يكون بمناط ترتّب تلك المصلحة الواحدة على کلّ واحد منها، ولابدّ من كون الواجب في هذا الفرض الجامع بينها وتعلّق الوجوب به تعييناً، فالتخيير بين أفراد هذا الجامع يكون عقلياً.
ويمكن أن تكون لکلّ واحد منها مصلحة خاصّة لا تكون في الآخر، ولكنّ المصلحتين تكونان بحيث لو أتى بأحدهما لا يبقى مجال لإتيان الآخر ويسقط ما يكون في غيره من المصلحة، بحيث يكون الإتيان بکلّ واحد منها مانعاً عن حصول مصلحة الآخر لو اُتي به أيضاً، فالتخيير في هذه الصورة يكون شرعياً، كخصال الكفّارة.
هذا، ولكنّك خبير بأنّه يمكن فرض مصلحة خاصّة لکلّ فرد من الأفراد حتى في الصورة الاُولى كما يمكن في الصورة الثانية وذلك بمقتضى الدليل، فإنّ الأمر يتعلّق بکلّ واحد منهما على حدة، فأين هذا من كشف الجامع بينهما بحيث يكون متعلّق الأمر هو الجامع؟ فتأمّل.
ص: 228
وقع الخلاف في إمكان التخيير بين الأقلّ والأكثر.((1))
ولا يخفى: أنّه لابدّ من فرض النزاع فيما إذا كان الأكثر مشتملاً على الأقلّ، وهذا هو معنى الأقلّ والأكثر؛ فالزيادة الّتي تزيد على الأقلّ إمّا أن تكون من جنس المزيد عليه وهذا كالطبائع المشكّكة الّتي لها أفراد مختلفة في الشدّة والضعف والطول والقصر والأوّلية والآخرية، وإمّا أن لا تكون كذلك بل الزيادة تكون مباينة للأقلّ، فيكون الأقلّ والأكثر من قبيل المتباينين.
والحاصل: أنّ محلّ النزاع يكون فيما إذا كانت الجهة المشتركة هي الجهة المائزة، سواء كانت من قبيل الكمّيات المنفصلة كالأعداد، أو المتّصلة كالخطّ. مع فرض أنّ موضوع النزاع هو ذات الأقلّ والأكثر، لا بما أنّ الأقلّ له حدّ عدمي هو عدم وجدانه للزيادة وأخذه بشرط لا؛ إذ حينئذٍ يصير من قبيل المتباينين تباين الماهية بشرط لا مع الماهية بشرط شيء، فيخرج عن محلّ النزاع.
إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّه قد يقال في تقريب التخيير: بأنّه إذا كان الأقلّ محصّلاً للغرض والأكثر أيضاً محصّلاً له بحيث يكون إذا وجد الأقلّ وجد الغرض بتمامه، وإذا وجد الأكثر وجد الغرض بتمامه أيضاً، ويكون الأقلّ في ضمن الأكثر جزءً للمحصّل، فتخصيص الوجوب بخصوص الأقلّ أو الأكثر يكون بلا مخصّص لا محالة؛ بداهة أنّه إذا كان الخطّ الطويل كالقصير محصّلاً لتمام الغرض يكون تخصيص الوجوب بأحدهما دون الآخر تخصيصاً من غير مخصّص، هذا في الكمّيات المتّصلة.
ص: 229
وأمّا الكمّيات المنفصلة أو المتّصلة الّتي يتخلّل فيها العدم، فهي أيضاً كذلك؛ لأنّ الغرض إنّما يترتّب على الأقلّ لو لم يضمّ إليه الأزيد، ولو انضمّ إليه الأزيد فلا يترتّب عليه بل يترتّب على فرد آخر وهو الأكثر. هذا ملخّص تقريب القول بالتخيير.
ولكنّك خبير بأنّه لو كان الأقلّ والأكثر من الكمّيات المنفصلة أو ممّا يتخلّل فيه العدم، كالخطّ الّذي يقطع في حدّ مّا، فيحصل الغرض بمجرّد حصول الأقلّ، فلايصحّ فرض التخيير بينهما أصلاً.((1))
نعم، يمكن أن يقال: بأنّه لو كانت للطبيعة الجامعة خصوصية ملازمة للأقلّ وخصوصية اُخرى ملازمة للأكثر، كالصلاة المخصَّصه بالخصوصيّة السفرية أو الحضرية تكون في الأقلّ مصلحة لا تكون في الأكثر وفي الأكثر مصلحة لا تكون في الأقلّ إلّا أنّ كلّا من المصلحتين لو حصلت توجب سقوط الاُخرى. ويمكن أن تكون التسبيحة من هذا القبيل، فإنّها لو لوحظت بماهي هي وبما أنّها تسبيحة من غير ضمّ خصوصية بها لايمكن تصوّر التخيير بين الأقلّ والأكثر فيها؛ لأنّ الغرض يحصل بأوّل تسبيحة صدرت من المكلّف ولا تصل النوبة إلى الأكثر. وأمّا إذا لوحظت مع خصوصية وبما أنّ في إحداها مصلحة خاصّة وفي الثلاثة مصلحة اُخرى لامانع من تصوير التخيير بينهما حينئذٍ. هذا كلّه فيما إذا كان على نحو الانفصال كما في التسبيحات، أو الاتّصال مع تخلّل العدم فيه.
وأمّا لو لم يكن كذلك وكان متّصلاً من غير تخلّل عدم في اتّصاله، فلا يبعد صحّة التخيير بينهما مطلقاً ولو لم يكن کلّ من الأقلّ والأكثر ملازماً لعنوان ذي مصلحة خاصّة؛ فإنّ الخطّ الطويل يكون فرداً واحداً من الخطّ، والقصير أيضاً فرداً منه، فما دام لم يتخلّل العدم في رسمه يكون شيئاً واحداً غير الآخر، قصيراً كان أو طويلاً، فتدبّر.
ص: 230
الواجب الكفائي هو: الواجب الّذي توجّه الخطاب به إلى كلّ واحد من المكلّفين، ولكنّه يسقط لو أتى به واحد منهم.
وقد اختلفت كلماتهم في تصويره،((1)) فيظهر من بعضها: أنّ الخطاب فيه توجّه إلى تمام المكلّفين بعنوان المجموع من حيث المجموع ويسقط بإتيان فرد واحد منهم.
ويظهر من البعض الآخر من الكلمات: أنّ الخطاب متوجّه إلى واحد من المكلّفين كما هو الشأن في الواجب التخييري، وإنّما الفرق بينهما: أنّ الترديد في الواجب التخييري في ناحية متعلّق التكليف، وفي ما نحن فيه في ناحية المكلّفين.((2)) فكما لا مانع من تصوير الترديد في ناحية متعلّق التكليف، لا مانع من تصويره في جانب المكلّفين أيضاً.
وذهب بعضهم إلى: أنّ الخطاب في الواجب الكفائي متوجه إلى كل فرد فرد من
ص: 231
المكلّفين على سبيل الاستغراق، إلّا أنّ الخصوصية في الواجب الكفائي تكون في ناحية السقوط وهذا بحيث لو أتى به أحد منهم سقط من السائرين.((1))
إنّك خبير بفساد التعاريف المذكورة.
أمّا التعريف الأوّل، ففيه: أنّ عنوان المجموع ليس عاقلاً حتى يصحّ توجيه الخطاب إليه.
وأمّا التعريف الثاني، فلو كان المراد بواحد منهم مفهومه فيرد عليه الإشكال الأوّل. ولو كان المراد به مصداق أحد منهم فالترديد لا يعقل في جانب المكلّفين؛ لأنّ توجيه الخطاب لابدّ وأن يكون نحو شخص معيّن، إذ لا يمكن تحريك الشخص المردّد وبعثه نحو الفعل. وهذا بخلاف الترديد في جانب المتعلّق، إذ الغرض كما أنّه يترتّب تارة على متعلّق واحد كذلك يمكن أن يترتّب على کلّ واحد من المتعلّقات.
وأمّا التعريف الثالث، فيرد عليه: أنّ السقوط إن كان من جهة حصول تمام الغرض بإتيان واحد منهم، فلا مجال لتوجيه الخطاب نحو كلّ فرد فرد من المكلّفين، وإنّما يصحّ نحو واحد منهم.
وإن لم يكن وجه السقوط حصول الغرض، فلا يسقط الأمر؛ لأنّ الغرض إذا لم يحصل بعد إتيان واحد من المكلّفين فلا مجال لسقوط التكليف عن السائرين.
هذا مضافاً إلى أنّه لا يعقل أن يكون امتثال شخص للأمر امتثالاً من شخص آخر أيضاً.
ص: 232
إنّ التحقيق يقتضي أن يقال: إنّ للأمر إضافة إلى الآمر بسبب صدوره منه؛ وإضافة إلى المأمور بتحريكه إيّاه؛ وإضافة إلى الفعل الصادر بقيامه فيه قيام العرض في الموضوع، فكما يمكن أن تكون إضافته إلى الفعل المتعلّق بقيد صدوره عن کلّ فرد من الأفراد مباشرة، كما في الصلاة والصيام، فإنّ الأمر بهما قد توجّه إلى المكلّفين بقيد صدورهما عن کلّ فرد فرد منهم لقيام المصلحة بهذا النحو، كذلك يمكن أن تكون إضافة الأمر إلى المتعلّق لا بنحو صدور ذلك عن کلّ واحد منهم بل كانت إضافته إلى الطبيعة الصرفة لأجل تعلّق الأمر بصرف طبيعة الفعل لا بقيد تكثّرها بتكثّر أفرادها، ومن الواضح أنّ الطبيعة توجد بوجود فردٍ مّا، وبعد وجودها كذلك لا مجال لعدم سقوط الأمر المتعلّق إليها. وهذه حقيقة الواجب الكفائي.
الأوّل: ربما يقال - كما في الكفاية: - بأنّ مقتضى إطلاق الأمر هو أن يكون الواجب عينياً؛ لأنّ الكفائي مقيّد بعدم إتيان الآخر والحال أنّ الإطلاق يقتضي خلاف هذا التقيّد.((1))
ولكن بعدما ذكرنا التحقيق في الوجوب الكفائي لا مجال لهذا القول، فإنّه على ما حقّقناه يقتضي الإطلاق خلاف ذلك؛ لأنّ القيد إنّما يكون في الوجوب العيني لا الكفائي، إذ المفروض أنّ الطبيعة الصرفة العارية عن خصوصية صدورها من الأشخاص هي متعلّقة الأمر في الكفائي، بخلاف العيني فإنّ المتعلّق فيه مقيّد بقيد صدورها عن کلّ فرد فرد من المكلّفين، هذا بحسب الإطلاق.
ص: 233
وأمّا الّذي يقتضيه الظاهر فالإنصاف أنّه خلاف ذلك؛ لأنّ الأمر ظاهر في العيني لا الكفائي وهذا غير الإطلاق.
الثاني: إنّ مقتضى ما هو الحقّ من أنّ الطبيعة تتكثّر بتكثّر أفرادها: هو الامتثالات العديدة فيما يكون الآتي بالواجب الكفائي متعدّداً وامتثلوه دفعة واحدة. وقد أوضحنا ذلك في مسألة المرّة والتكرار بل يكون الأمر في المقام أوضح من هناك، والله تعالى أعلم بالصواب.
ص: 234
إنّ الواجب إمّا مطلق وهو: ما ليس للزمان دخل في حصول مصلحته إذا أتى به، حتى لو فرض حصول الواجب في ما وراء عالم الزمان لا مانع من تحقّق مصلحته.
فعلى هذا، ولو كان الفعل المأمور به من الزمانيات بمعنى ضرورة وقوعه في وعاء الزمان ولكن لا يكون هذا سبباً لدخل الزمان في حصول مصلحته وتقيّد الواجب بزمان خاصّ.
وإمّا موقّت وهو: ما كان للزمان دخل في حصول مصلحته.
وهذا تارة: يكون الزمان الّذي له دخل في حصول مصلحته بمقدار ما يحتاج فعل الواجب إليه من غير زيادة، فهو المضيّق. وتارة: يكون أوسع من ذلك كصلاة الظهر، وهو الموسّع.
فالواجب الموسّع هو الفعل الّذي أمر بإتيانه في القطعة الواسعة من الزمان، فيكون المأمور به طبيعة الفعل الواقعة في تلك القطعة من غير دخالة لوقوعها في أوّلها أو وسطها أو آخرها في حصول المصلحة. فكما تكون للطبيعة أفراد دفعية، تكون للموسّع أيضاً أفراد تدريجية. وكما أنّ المكلّف مختار في إتيان کلّ واحد من أفرادها الدفعية، كذلك هو مخيّر بالنسبة إلى أفرادها التدريجية. وكما أنّ التخيير بين الأفراد الدفعية عقلي، يكون التخيير بين الأفراد التدريجية أيضاً عقلياً.
ص: 235
ولا يخفى: أنّ الواجب الموسّع بهذا المعنى لا يصير مضيّقاً ولا تضيق دائرته بتضييق زمانه؛ لأنّ الموسّع هو الواجب الّذي تعلّق الطلب بإتيانه في تلك القطعة من الزمان، فإن أتى به في أوّل الوقت يقال: إنّه أتى بالمأمور به وكذلك إن أتى به في وسط الوقت أو في آخره، فهو على حاله.
ولا يصحّ أن يقال: إنّه أتى بالفرد المأمور به فيما يأتي به في أوّل الوقت أو آخره، وإنّما هو يأتي بالطبيعة المأمور بها يكون في أوّل الوقت أو آخره أو في ضمن أيّ فرد من هذا الكلّي الممتدّ في قطعة من الزمان. وعليه إذا لم يبق من الوقت إلّا بمقدار لا يكون زائداً على المقدار الّذي يحتاج إليه الفعل من الزمان عقلاً وأتى بالمأمور به في هذا الوقت، فقد أتى بالطبيعة المأمور بها أيضاً بما أنّها موسّعة لا مضيّقة،((1)) لأنّ الطبيعة لا تنقلب عمّا هي عليه، وإنّما الانطباق في هذه الصورة قهريّ عقلاً.
وقع الخلاف في دلالة الأمر بالموقّت على الأمر به في خارج الوقت.
وبعبارة اُخرى: وقع النزاع في فوات الموقّت بفوات وقته وعدمه.
ولا يخفى: عدم دلالة الأمر على مطلوبيته في خارج الوقت لو لم نقل بدلالته على عدمها، وأنّ دليل وجوب الموقّت یدلّ على فواته بفوات وقته. هذا، إذا كان لنا أمر واحد.
وأمّا إذا كان لنا أمر متعلّق بالفعل مطلقاً، وأمر على سبيل التوقيت، فالأمر واضح أيضا؛ لأنّ بعد فوات الموقّت وإن لم يكن للأمر الثاني دلالة على وجوبه في خارج الوقت إلّا أنّ الأمر الأوّل حيث لا يفوت متعلّقه بفوت الوقت فدلالته على مطلوبيته
ص: 236
المطلقة في الوقت وخارجه على حاله. فلا مجال للنزاع في هذين الموردين لوضوح عدم دلالة الأمر في المورد الأوّل، ووضوح دلالة الأمر المطلق في المورد الثاني.
ثم إنّه قد ذكر في الكفاية: أنّه لو كان التوقيت بدليل منفصل ولم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت بل كان لدليل الواجب إطلاق، لكان مقتضى إطلاق الواجب ثبوته ولو بعد انقضاء الوقت.((1))
وفيه: أنّه لا يكاد أن يفهم من ذلك الكلام معنى معقول؛ لأنّه بعد ظهور الدليلين في بيان تمام المطلوب، وأنّه نفس الطبيعة على ما يستفاد من إطلاق دليل الواجب، وأنّه الفعل المقيّد بحصوله في زمان خاصّ على ما يستفاد من إطلاق دليل القيد، يقع التعارض بينهما. وحينئذٍ لا يخلو إمّا أن يكون کلّ من الأمرين غير مرتبط بالآخر ويستفاد من كلّ واحد منهما حكم مستقلّا على حدة، فهذا غير مربوط بالمقام ولا يقع التعارض بينهما؛ وأمّا إن كان كلاهما راجعين إلى حكم واحد ومتكفّلين لبيان حكم واحد، فاللازم بعد إحراز ذلك حمل المطلق منهما على المقيّد، وبعد ذلك لا يبقى لدليل الواجب إطلاق حتى يقال: إنّ قضيّة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت، فتدبّر.
ص: 237
إعلم: أنّ الاُصوليّين قد اختلفوا في أنّ متعلّق الأوامر هل تكون الطبائع أو الأفراد؟
فذهب بعضهم إلى أنّ متعلّقها الطبائع. والبعض الآخر إلى أنّ متعلّقها الأفراد.
ولا يخفى: أنّ مراد القائل بالطبيعة: أنّ متعلّق الأمر في قولنا: ادخل السوق واشتر اللحم، لا يكون إلّا الجهة الّتي يصدق عليها شراء اللحم من غير دخل لسائر الخصوصيات والحيثيات فيه، فإذا دخل العبد السوق واشترى اللحم فالمصحّح للقول بأنّه امتثل أمر المولى ليس إلّا جهة إتيانه بهذه الحيثية الّتي يصدق عليها شراء اللحم، فتكون هذه الجهة مناطاً لصدق العنوان.
وأمّا مراد القائل بالفرد: أنّ جميع الحيثيات الفردية والجهات المميّزة للفرد تكون واقعة تحت الأمر.
وممّا يؤيّد ما ذكرناه من مراد القائلين بالطبائع: أنّ المجوّز في باب اجتماع الأمر والنهي يقول: إنّ متعلّق الصلاة لا يكون إلّا الجهة الّتي يصدق على الفعل أنّه صلاة، ومتعلّق النهي عن الغصب ليس إلّا الجهة الّتي بها يصدق على العمل أنّه غصب، فتختلف الجهتان فيمكن اجتماعهما في محلّ واحد.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ لمفهوم الأمر - وكلّ لفظ كان مفاده مفاد الأمر كالإلزام
ص: 238
والبعث والإيجاب والطلب - إضافة إلى الّذي يصدر منه الطلب والأمر وهو الآمر؛ وإضافة إلى من يطلب منه الفعل المأمور به وهو المأمور والمطلوب منه؛ وإضافة إلى ما يريد الآمر وقوعه في الخارج وتحقّقه وهو المطلوب والمأمور به.
ويشترط في تحقّق هذه الإضافات أن يكون المأمور موجوداً - حال الطلب والأمر - في الخارج، لاستحالة توجيه الخطاب نحو المعدوم.
وأمّا المأمور به فيشترط أن لا يكون موجوداً في الخارج وإلّا يلزم تحصيل الحاصل. مضافاً إلى أنّ لحاظ الحيثيّات المميّزة لأفراد، غير حاكٍ عن سائر الأفراد المميّزة بحيثيات اُخرى. وحيث إنّه لابدّ من تعلّق الطلب بالمطلوب ولا يمكن اتّصاف الموجود في عالم الخارج بالمطلوبية، فيكون المطلوب بوجوده الذهني مطلوباً ومتعلّقاً لإضافة الأمر إليه، فالآمر حين الأمر يلاحظ الجهة الّتي بسببها ينطبق على الفعل الخارجي الصلاة والصوم مثلاً، من غير أن تكون ملاحظتها في الذهن قيداً لها؛ لأنّه لو لاحظها مقيّدةً بقيد لحاظها في الذهن فلا يكون له موطنٌ إلّا الذهن، فلا يكون حاكياً عن الخارج وعن الجهة الخارجة الّتي بها يصدق على الأفراد الخارجية أنّها مطلوبة.
وبالجملة: ما هو المتعلّق للأحكام ليس إلّا الجهة المشتركة والحيثية الّتي توجد في جميع الأفراد من غير دخل لسائر الحيثيّات والجهات والخصوصيّات الفرديّة والمميّزة، هذا.
ثم إنّه لايخفى: أنّ صاحب الكفاية(قدس سره) ذهب إلى أنّ متعلّق الأحكام ليس إلّا نفس الطبائع من دون نظر إلى الخصوصيات الفردية، ولكن ليس المراد من ذلك زائد عليها وهو المطلوبية، وهذا محال؛ لأنّ الماهية من حيث هي ليست إلّا هي، ولذا قالوا في مبحث
ص: 239
أصالة الوجود: إنّ ارتفاع النقيضين في مرتبة الذات ليس بمحال، فالماهية من حيث هي لا تكون موجودة ولا معدومة، فيصحّ أن يقال: إنّ الإنسان في مرتبة ذاته وماهيّته ليس بعالم وليس بجاهل.
بل مرادهم أنّ متعلّق الطلب وجود الطبيعة، ومتعلّق الأمر نفس الطبيعة، لأنّه بمعنى طلب الوجود. وكذلك النهي يتعلّق بنفس الطبيعة بمعنى طلب تركها.
لا يقال: إذا كان الوجود متعلّقاً للطلب فلا يصحّ القول بعدم مطلوبية الخصوصيات الفردية؛ لأنّه لا يمكن بعد القول ببساطة الوجود تصوّر التفكيك بين وجود تلك الجهة المشتركة وسائر الجهات، لأنّهما موجودان بوجود واحد.
لأنّه يقال: إنّ متعلّق الحكم ليس مطلق الوجود حتى يرد علينا ما ذكر، بل المتعلّق هو الوجود المضاف إلى الطبيعة.
ولا ينبغي توهّم((1)) أنّ مقتضى ما ذكر - من تعلّق الطلب بوجود الطبيعة - أن يكون الطلب متعلّقاً بما هو حاصل وصادر في الخارج وتحصيلاً للحاصل.
لأنّ المراد أنّ الآمر يريد صدور الوجود من العبد وجعله بسيطاً، كما هو مفاد «كان» التامّة، وإفاضته.
كما أنّه لا مجال بعدما ذكر لتوهّم تعلّق الطلب بالطبيعة لأجل وجودها، والنهي بالطبيعة لأجل عدمها حتى يكون وجود الطبيعة غاية لطلبها، وعدمها غاية للنهي عنها.
لأنّه يعود الإشكال المذكور وهو جواز حمل ما هو زائد وخارج عن الذات عليها، هذا كلّه بناءً على أصالة الوجود.
وأمّا بناءً على أصالة الماهية، فمتعلّق الطلب ليس هو الماهية بما هي أيضاً بل بما هي
ص: 240
بنفسها في الخارج، فيطلب الماهية كذلك لكي يجعلها بنفسها - لا بوجودها - من الخارجيات والأعيان الثابتة. انتهى حاصل ما أفاده.((1))
ولكن قد ظهر ممّا ذكرناه أنّه لا مانع من تعلّق الأمر والطلب بالطبيعة من غير فرق بينهما، فلا وجه لمنعه في الكفاية تعلّق الطلب بها مع اعترافه بتعلّق الأمر بها بتوهّم أنّ الأمر طلب الوجود وأمّا الطلب فلا يمكن أن يكون متعلّقاً بغير الوجود بناءً على القول بأصالة الوجود. وأمّا بناءً على القول بأصالة الماهية فيتعلّق الطلب بالماهية لكن بلحاظ وجودها.
فالحقّ كما ذكرناه: تعلّق الأمر وكذا الطلب بنفس الطبيعة، أي بالحيثية الّتي تدلّ عليها مادّة الأمر، مثلاً في قوله: ﴿أَقيمُوا الصَّلَوةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ﴾((2)) لا يتعلّق الأمر إلّا بالجهة الّتي تصدق عليها أنّها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
لا يقال: إنّ الطبيعة وماهية إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أو الضرب أعمّ من أن تكون موجودة أو معدومة فتصدق إقامة الصلاة على تلك الحيثية سواء كانت موجودة أم معدومة، فلا يصحّ أن تكون متعلّقة للطلب وواقعة تحت الأمر، لأنّ الأمر والطلب لا يتعلّقان بأعمّ من الموجود والمعدوم.
فإنّه يقال: لا مجال لهذا الإشكال، إذ الماهيّة في حال كونها معدومة آبية عن صدق المفاهيم عليها ولا يصحّ حمل إقامة الصلاة مثلاً على ما هو المعدوم؛ لأنّ العدم باطل بالذات وليس له استحقاق حمل مفهوم عليه.
وبالجملة: فالعقل وإن كان يرى للضرب الموجود حيثية موجودة، وماهية وجهة
ص: 241
يصدق عليها أنّه ضرب، لكن يراهما في عالم التحليل ممتازاً عن الآخر وإن كانا متّحدين معاً مصداقاً بحيث لا يكون في الخارج إلّا شيئاً واحداً.
ولأجل هذه التجزئة والتحليل يُشكّ في أنّ الصادر من المصدر والمفاض من المفيض، وبعبارة اُخرى: الصادر بالذات هل هو وجود الضرب وتعلَّق الجعل بتبعه إلى الماهيّة كما اختاره القائل بأصالة الوجود، أو أنّ المجعول بالذات والمفاض هو ماهية الضرب وتعلَّق الجعل بتبعها إلى الوجود؟
ولكن مع ذلك كلّه لا يصدق مفهوم الضرب على الماهية المعدومة. ولا مانع من تعلّق الطلب والأمر بالجهة الّتي يصدق عليها مفهوم الضرب أو إقامة الصلاة، فالآمر يطلب إصدار هذه الطبيعة من المكلّف، ولا نظر له إلى أنّ الإصدار يتعلّق أوّلاً بالوجود أو بالماهية.
وأمّا ما في كلامه(رحمه الله) من «أنّ الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي»، فغير مربوط بالمقام؛ لأنّ معنى هذه القاعدة أنّ الماهية إذا اُخذت بنفسها ومجرّدة عن جميع الخصوصيات لا يصحّ حمل شيء عليها إلّا ذاتها وماهو جزء ذاتها، مثلاً ماهية الإنسان من حيث هي هي آبية عن حمل جميع المفاهيم عليها إلّا مفهوم ذاتها أو جزء ذاتها، فلا مانع من أن يقال: الإنسان إنسان، أو حيوان، أو ناطق. فلا يصدق عليه - إذا اُخذ موضوعاً - إلّا الإنسان أو الحيوان أو الناطق، ولا يحمل عليه أنّه جاهل أو عالم وشبههما. ولكن عدم صحّة حمل شيء على الماهية من حيث هي هي غير ذاتها أو جزء ذاتها لا ينافي صحّة إضافة شيء وتعلّقه بالماهية من حيث هي هي، فمن الممكن بل الواقع كثيراً إضافة أمر إليها كإضافة التصوّر والعلم والقدرة والطلب. فهذه الاُمور تتعلّق بها من حيث هي هي، وهذا لا ينافي خروجها بعد ذلك من هذه الحيثية واستحقاق الماهية لحمل ما كان زائداً على ذاتها عليها، مثل أن تقول: الطبيعة متصوّرة
ص: 242
أو معلومة أو مطلوبة؛ لأنّ تعلّق القدرة والتصوّر والعلم والطلب قبل عروض تلك الصفات عليها وفي رتبة سابقة عليها.
فظهر ممّا ذكر أنه لا مانع من تعلّق الأمر والطلب بالطبيعة المجرّدة عن جميع الخصوصيات وإن كانت بعد إضافته إليها تستحقّ حمل أنّ-ها مطلوبة. والله تعالى أعلم بالصواب.
ص: 243
الفصل الأوّل : في مفاد الأمر والنهي
الفصل الثاني: في اجتماع الأمر والنهي
الفصل الثالث: في اقتضاء النهي للفساد
ص: 244
ص: 245
إعلم: أنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) وإن ذهب في الكفاية إلى عدم الفرق بين مفاد الأمر والنهي، وأنّ کلّ واحد منهما بمادته وصيغته لا دلالة له إلّا على الطلب، غير أنّ متعلّق الطلب في الأمر وجود الطبيعة، وفي النهي عدمها، فلا تفاوت في مفادهما أصلاً.
وحيث إنّ متعلّق الطلب في الأمر يكون وجود الطبيعة فلو أتى المكلّف بفردٍ منها يتحقّق به الامتثال؛ لأنّ الطبيعي يوجد بوجود فردٍ من أفراده. وفي جانب النهي حيث إنّ متعلّق الطلب يكون عدم الطبيعة فلا يتحقّق الامتثال إلّا بعدم جميع أفرادها. فإطاعة أمر المولى تتحقّق بإيجاد فردٍ من الطبيعي، وعصيانه لا يتحقّق إلّا بترك جميع الأفراد. وإطاعة نهيه لا تتحقق إلّا بترك جميع أفراد الطبيعي، ومعصية نهيه تتحقّق بوجود فردٍ من أفراده.((1))
ولكنّه يلزم من ذلك أوّلاً: لو نهى المولى عبده عن شرب الخمر مثلاً، فأطاعه ولم يشرب الخمر في هذا اليوم مع شدّة ميله إليه، وكذا لم يشربه في الغد، وهكذا أن يعدّ کلّ ذلك امتثالاً واحداً. أو نهاه عن أكل مائدة شخص، فدعاه إليها فلم يجبه لأجل نهي المولى، ثم دعاه بعد ذلك اليوم فلم يجبه، وهكذا لم يجبه في جميع الأيّام مراعاة لنهي المولى أن يكون کلّ ذلك امتثالاً واحداً.
ص: 246
وثانياً: لو عصا العبد نهي المولى فأتى بفردٍ من أفراد المحرّم، ثم أتى بعد ذلك بفردٍ آخر منه لم يكن على هذا المبنى إتيانه بالفرد الثاني عصياناً.
وثالثاً: لو امتنع من شرب الخمر المنهيّ عنه في يوم وشربه في يوم آخر لا يكون بالنسبة إلى امتناعه عنه ممتثلاً.
والعقلاء في أحكامهم يخالفون جميع هذه اللوازم، ويكون ديدنهم في باب الإطاعة والعصيان منافياً لها بأشدّ المنافاة، وهذا كاشف عن إختلاف مفاد الأمر والنهي خلافاً لما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره).
والّذي يقتضيه التحقيق:((1)) أنّ الأمر والنهي مختلفان بحسب الحقيقة والأثر؛ وذلك لأنّ حقيقة الأمر عبارة: عن البعث نحو الفعل وتحريك المأمور إليه، وحقيقة النهي هي: الزجر عن الفعل والمنع عنه.
وبعبارة اُخرى: حقيقة الأمر: ما يقال له بالفارسية «وا داشتن، وادار كردن»، وحقيقة النهي: ما يقال له بهذه اللغة «باز داشتن». فالآمر إذا رأى في فعل مصلحة عائدة إلى نفسه أو إلى المأمور يصير ذلك الفعل محبوباً له فيبعث المكلّف نحوه. وإذا رأى في فعلٍ مفسدة عائدة إلى نفسه أو إلى عبده يصير ذلك الفعل مورداً لبغضه فيزجر عبده عن إتيانه. هذا اختلافهما بحسب المبدأ والحقيقة.
وأمّا اختلافهما بحسب الأثر من حيث الامتثال والعصيان،((2)) فهو بمكان من
ص: 247
الوضوح؛ فإنّ المولى إذا أمر عبده بفعل فأتى بفردٍ منه، يحكم العقلاء بامتثال أمره وسقوطه وحصول غرضه. وهذا بخلاف جانب النهي؛ فإنّهم لا يحكمون بسقوط النهي لو انزجر المكلّف عن فردٍ من أفراد المنهيّ عنه.
كما أنّهم لا يحكمون بعصيان الأمر لو لم يكن لمتعلّقه وقت أو كان ولكن كان موسّعاً ولم يأت المكلّف به في قطعة من الزمان. وفي جانب النهي يحكمون بالامتثالات العديدة لو انزجر من النهي وترك فرداً من الطبيعة المنهيّ عنها ثم ترك غيره من الأفراد وكان تركه لهذه الأفراد مع ميله واشتهائه إلى فعلها. ولا يحكم بالامتثال لو ترك جميع أفراد المنهي عنه أو بعضها مع عدم الميل أو الاشتهاء، بل يعدّ هذا موافقة للنهي لا إطاعته وامتثاله.
وأيضاً في جانب الأمر لو أتى بجميع الأفراد العرضية دفعة واحدة بقصد الامتثال يحكم بالامتثال والإطاعة بالنسبة إلى جميع الأفراد، دون ما إذا لم يقصد الامتثال إلّا بترك واحد منها، فلا يحكم بالامتثال إلّا بالنسبة إلى هذا الّذي قصد بإتيانه امتثال الأمر وإن صار الجميع متروكاً.
كما أنّه لا مجال للحكم بالامتثال إذا أتى بالأفراد التدريجية بعد الإتيان بواحد منها؛ لأنّ الغرض يحصل بوجود أوّل فرد من الطبيعة، فلو كان الأمر بعد ذلك باقياً على حاله يلزم تحصيل الحاصل.
وكذلك يحكمون بالعصيان وحصول المخالفة لو أتى بفرد من أفراد المنهيّ عنه بعد تحقّق العصيان والمخالفة بإتيانه بفرد آخر منه قبله؛ ووجه ذلك أنّ زجر المولى عبده عن الطبيعة يقتضي ترك إتيان كلّ فرد من أفرادها بحيث لو عصاه بالنسبة إلى فرد أو أطاعه يرى زجره عنها باقياً على حاله.
وأيضاً متعلّق الأمر والبعث في الأمر لا يكون إلّا ما به تحصل موافقة الأمر كإيتاء
ص: 248
الزكاة وإقامة الصلاة، ومتعلّق النهي على خلاف ذلك؛ لأنّه يكون ما به تتحقّق المخالفة كشرب الخمر والزنا. وهذا أيضاً يقتضي تخالفهما في الأثر؛ لأنّ على ذلك حصول الموافقة يتحقّق بإيجاد كلّ فردٍ من أفراد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وتحقّق المخالفة في جانب النهي يكون بالإتيان بکلّ فردٍ من أفراد الزنا وشرب الخمر. فالأوّل لا يقتضي إلّا وجوب الإتيان بفردٍ واحدٍ وكفاية الإتيان به في مقام الامتثال، وتحقّق العصيان بترك جميع الأفراد. والثاني يقتضي الاجتناب عن جميع الأفراد، وتحقّق العصيان بسبب الإتيان بکلّ فردٍ من أفراد المنهيّ عنه عصياناً مستقلاً بالنسبة إلى کلّ منها. وهكذا الكلام في جانب امتثال النهي.
لا يقال: إنّ ما ذكرته من تكثّر العصيان في جانب النهي صحيح لو اُخذت الطبيعة المتعلّقة للنهي مطلقة، أي بنحو الإرسال، وأمّا لو اُخذت في لسان الدليل مهملة، فلا.((1))
فإنّه يقال: إنّ هذا كلام أجنبيّ عن المقام وسيجيء البحث عنه إن شاء الله تعالى في المطلق والمقيّد؛ وذلك لأنّ الكلام في المقام إنّما يكون فيما إذا كانت الطبيعة تمام متعلّق الأمر والنهي وكانت في موضوعيتها للحكم تامّة وهذا يكون ملاك الإطلاق كما سنحققه فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الأوّل: لو ترك المنهيّ عنه من غير اشتهاء وميل إليه، بل كما يتّفق كثيراً من غير التفات، لا يعدّ تركه هذا إطاعة للمولى وإن كان هذا الترك موافقة للنهي. فالامتثال وعدمه في صورة الموافقة راجع إلى اشتهائه وعدمه وكفّ النفس عن فعل المنهيّ عنه وعدمه، كما لا يخفى.
ص: 249
الثاني: ربما يتّفق في بعض الموارد الأمر بما كان من الاُمور العدمية، وتردَّد بعض من الأعلام في كونه أمراً أو نهياً، كما إذا تعلّق الأمر بأمر عدميّ كالإمساك، فتردَّد في أنّ حقيقة هذا الأمر هل هي راجعة إلى النهي عن إتيان المفطرات الخاصّة، أو هو أمر حقيقة كما أنّه كذلك بحسب الظاهر؟
ولكن لا يخفى عليك: أنّ في هذه الموارد يكون متعلّق الأمر أمراً وعنواناً وجودياً ملازماً لهذا الأمر العدمي.
تلخّص ممّا ذكر أنّ اختلاف الأمر والنهي راجع إلى حقيقتهما، ولازم ذلك تحقّق الإطاعة في جانب الأمر بمجرّد الإتيان بفردٍ من الطبيعة؛ لأنّ ما هو تمام متعلّق البعث يكون وجود الطبيعة على نحوٍ ذكرناه في مبحث الطبائع والأفراد، فبمجرّد الإتيان بفردٍ من الطبيعة تتحقّق الإطاعة ويسقط الأمر، ولا يتحقّق العصيان إلّا بترك جميع الأفراد.
وأمّا في جانب النهي، فالعصيان يتحقّق بإتيان کلّ فردٍ من أفراد الطبيعة؛ لأنّ لازم الزجر عن وجود الطبيعة - حسب ما حقّقناه في البحث السابق - تحقّق العصيان بالإتيان بکلّ فردٍ من أفراد الطبيعة المنهيّ عنها، فهذا الفرد مزجور عنه وذاك أيضاً مزجور عنه وهكذا.
وهذا الاختلاف غير مرتبط بمتعلّقيهما؛ فإنّه في جانب الأمر والنهي واحد، فالزجر متعلّق بالوجود كما أنّ الأمر أيضاً متعلّق به.
نعم، ما به تحصل الموافقة في جانب الأمر هو عين ما تحصل به المخالفة في جانب النهي. فمتعلّق الأمر في «أقيموا الصلاة» و«آتوا الزكاة» يكون وجود إقامة الصلاة
ص: 250
وإيتاء الزكاة، وبهما تحصل الموافقة. ومتعلّق النهي في «لا تزن» و«لا تشرب» هو وجود الزنا والشرب، وبهما تتحقّق المخالفة.
وأمّا الامتثال فيتحقّق بترك کلّ فردٍ من أفراد المنهيّ عنه مع الميل إليه واشتهائه به، فبالنسبة إلى ترك کلّ فردٍ إذا تركه كذلك امتثل نهي المولى، وأمّا لو لم يكن له ميل إلى المنهيّ عنه فبمجرّد تركه لا يكون ممتثلاً وإن كان هذا موافقة لنهي المولى.
لا يقال: بناءً على هذا يلزم أن لا يكون العصيان مثل الامتثال مسقطاً للتكليف وأن يكون النهي بعد العصيان بسبب الإتيان ببعض الأفراد باقياً على حاله.
لأنّه يقال: سيأتي تحقيق ذلك في آخر هذا المبحث((1)) بأنّ القول بسقوط التكليف بالعصيان فاسد جدّاً، فلا مجال إلّا القول ببقاء النهي على حاله لو تحقّق عصيان المكلّف بالنسبة إلى بعض الأفراد دون غيره.
لا يخفى عليك: أنّه وإن وقع النزاع بينهم في أنّ متعلّق الطلب في النهي هل هو الكفّ،((2)) أو مجرّد الترك وأن لا يفعل؟((3)) ولكن لا وقْع لهذا النزاع بعدما حقّقنا معنى الأمر والنهي بأنّ مفاد النهي ليس الطلب حتى يأتي هذا النزاع بأنّه طلب الكفّ أو مجرّد الترك، بل مفاده إنّما هو الزجر عن وجود الطبيعة.
ولا يمكن أن يقال: يصحّ جريان هذا النزاع من جهة الأمر بالنقيض الّذي ينتزع
ص: 251
من النهي، كما ذكر في مبحث الضدّ بالنسبة إلى الأمر((1)) - في مقام بيان ملاك القول بعينية الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه - بأنّه وإن كان حقيقة الأمر البعث إلى الوجود ولكن ينتزع منه النهي عن نقيضه وهو العدم، لا بمعنى أنّ هذا النهي مغاير للأمر ولا بمعنى عينيته للأمر بل هو متّحد مع الأمر بنحو من أنحاء الاتّحاد بحيث ينتزع العقل من الأمر ذلك ويحكم باتّحادهما وجوداً وحمل أحدهما على الآخر بالحمل الشائع الصناعي الّذي ملاكه الاتّحاد في الوجود، فالأمر يكون غير النهي المنتزع منه مفاداً ومفهوماً ومتّحداً معه مصداقاً.
لأنّه يقال: وإن كان لا مانع من تصوير ذلك في النهي أيضاً ببيان أنّ النهي وإن كان حقيقته الزجر عن وجود الطبيعة ولكن ينتزع العقل من النهي الأمر بالنقيض وهو عدم الطبيعة، لكن لا بمعنى أنّ هذا عين النهي ولا أنّ هذا مغاير له بل هو متّحد معه بنحو من أنحاء الاتّحاد وينتزع ذلك منه عقلاً؛ ولكن لا يفيد ذلك لإجراء البحث المذكور، فإنّ الأمر المنتزع عن النهي ليس متعلّقه إلّا عدم الطبيعة ولا يقيّد بكونه عدم الخاصّ أي عدم الطبيعة الملازم للرغبة إلى الوجود؛ لأنّ نقيض الوجود العدم المطلق لا المقيّد. والحاصل: أنّ النهي لا يتّحد مع الكفّ أصلاً حتى يأتي النزاع المذكور، فتدبّر.
يمكن أن يقال بإمكان تقسيم النهي إلى التوصّلي والتعبّدي((2)) لو قيل بأنّ مفاد النهي هو طلب ترك الطبيعة، فإنّه كما يمكن طلب
ص: 252
تركها مطلقاً، كذلك يمكن طلب ترکها مقيّداً بقصد القربة. وأمّا بناءً على ما اخترناه من كون مفاده الزجر عن الوجود،((1)) فلا يصحّ هذا التقسيم.((2))
لا يذهب عليك: أنّه وإن اشتهر بينهم أنّ مسقط التكليف أمران،((3)) أحدهما: الإطاعة والموافقة. وثانيهما: العصيان والمخالفة، ولكنّ الصواب أنّ العصيان والمخالفة في جانب الأمر لا يكون سبباً لسقوط الأمر، بل إنّما يكون سببه أمراً آخر يوجد في ظرف العصيان وهو امتناع الإتيان بالمأمور به، كما إذا أمره بفعل في زمان معيّن ولم يأت المكلّف به حتى خرج الوقت، فسقوط الأمر لا يكون من جهة العصيان بل من جهة خروج الوقت وامتناع الإتيان بالمأمور به.
أو تكون علّة سقوطه امتناع بقاء التكليف، كما في الموسّعات فيما إذا لم يأت المكلّف بالواجب حتى مات، فسقوط التكليف راجع إلى استحالة تكليف الموتى.
ومن هذا يظهر وجه عدم سقوط النهي بمجرّد تحقّق العصيان بالنسبة إلى أحد أفراد المنهيّ عنه كما أشرنا إليه. والله تعالى أعلم بالصواب.
ص: 253
قد أشرنا في طيّ المباحث السابقة((1)) إلى أنّ لکلّ تكليف إضافة ونسبة إلى المكلّف وهو الآمر؛ وإضافة إلى المكلّف به وهو الحيثية الّتي تعلّق البعث إليها في الأمر، والزجر عنها في النهي؛ وإضافة إلى المكلّف وهو المأمور. فبدون تلك الإضافات لا يعقل تحقّق التكليف، فلا يتحقّق التكليف إلّا إذا وجد جميع هذه الإضافات، وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد من التوضيح.
ولا يخفى عليك: عدم إمكان تعلّق الأمر والنهي والبعث والزجر من شخص واحد إلى حيثية واحدة متوجّهاً إلى مكلّف واحد في آن واحد. ففي صورة وحدة التكليف ووحدة زمانه ووحدة المكلّف لا يعقل جواز اجتماع الأمر والنهي.
وبعبارة اُخرى: امتناع اجتماع تلك الإضافات، أي توجه الأمر والنهي والبعث والزجر من جانب شخص واحد إلى مكلّف واحد في متعلّق واحد، وفي آن واحد من البديهيات. وامتناع اجتماع تلك الإضافات ليس من جهة صيرورته تكليفاً بالمحال
ص: 254
لأجل عدم قدرة المكلّف على إتيان هذه الحيثية وتركها في زمان واحد، بل امتناعه راجع إلى نفس التكليف من جهة استحالة البعث والزجر نحو شيء واحد في مرتبة واحدة من جانب شخص واحد إلى شخص واحد.
نعم، لا مانع من تعلّق البعث والزجر بحيثية واحدة وتوجيههما إلى مكلّف واحد إذا كان الباعث غير الزاجر، فأحدهما يزجره عن هذه الحيثية والآخر يبعثه نحوها. كما أنّه لا مانع من التكليف في صورة تعدّد متعلّقه ولو كان الآمر والزاجر واحداً والمأمور أيضاً واحداً. وكذلك لا مانع من أمر المولى أحد عبيده بفعل وزجره عبده الآخر منه. وأمّا بدون هذه الجهات المفرِّقة فلا يمكن زجر مكلَّف واحد عن حيثية واحدة في آن واحد من مكلِّف واحد مع بعثه إليها كذلك.
ومن هنا يظهر أنّ النزاع في مبحث اجتماع الأمر والنهي لا يكون إلّا صغروياً، فبعد تسلّم امتناع الاجتماع على النحو المذكور عند الكلّ، اختلفوا في أنّ المولى إذا أمر عبده بحيثيّة وبعثه نحوها ونهاه عن حيثية اُخرى وكانت النسبة بينهما عموماً من وجه أو مطلقاً فجمع العبد في مقام الإتيان بين تلك الحيثيتين، هل يكون ممتثلاً من جهة إتيانه بتلك الحيثية المبعوث إليها وعاصياً من جهة الإتيان بالحيثية المزجور عنها أو لا؟ بل يكون هذا من صغريات الكبرى المذكورة الّتي امتناعها من الضروريات، فيحكم العقل باستحالة ذلك من جهة دخوله تحت هذه الكلّية؟
وبعبارة اُخرى: بعد فرض توافق عقول الكلّ على استحالة توجيه البعث والزجر في مرتبة واحدة من المولى الواحد إلى المكلّف الواحد، هل يلزم الخروج عن تحت هذه القاعدة الكلية من تباين الحيثية الّتي وقعت متعلّقة للأمر مع الحيثية المتعلّقة للنهي أو لا؟
فالقائل بالامتناع يقول: إذا كانت الحيثية الّتي تعلّق الأمر بها قابلة لأن يجمع المكلّف بينها وبين الحيثية المزجور عنها بإتيان فردٍ يكون منطبق تلك الحيثيتين ومجمع العنوانين
ص: 255
واختار بسوء اختياره هذا الفرد، يكون الفرد متعلّقاً للبعث من جهة كونه منطبقاً للحيثية المأمور بها ومتعلّقاً للزجر من جهة كونه منطبقاً للحيثية المزجور عنها، فيكون تعلّق البعث إليه في رتبة تعلّق الزجر به، فيدخل تحت الكلّية الضرورية وهي امتناع اجتماع الأمر والنهي في رتبة واحدة واختلاف الحيثيتين لا يرفع الاجتماع الممتنع.
وأمّا القائل بالجواز، فيقول: إنّ إتيان المكلّف بفردٍ ينطبق عليه كلّ من الحيثيتين والعنوانين لا يكون سبباً لتعلّق الأمر والنهي بهذا الفرد، فالبعث والزجر على حالهما ليس لمتعلّق کلّ منهما مساسٌ بالآخر، فلا يكون الأمر بحيثية والزجر عن حيثية اُخرى - تكون النسبة بينهما عموماً من وجه - من صغريات الكلية الضرورية.
هذا كلّه في تحرير محلّ النزاع، وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّ كثيراً من إفادات القوم في هذا المقام تطويلات لا طائل تحتها. ومنشأ ذلك تفسيرهم العبارة المعروفة في كتبهم في عنوان البحث من أنّه «هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في شيءٍ واحد من جهة واحدة أو لا؟» فاختلفوا في معنى الجواز المذكور في هذا العنوان، بأنّه بمعنى الإمكان العقلي أو الوقوعي. وفي معنى الاجتماع، بأنّه ليس الاجتماع الآمري، وهو توجّه الأمر والنهي من جانب المولى إلى عبده بالنسبة إلى شيء واحد، فإنّ هذا واضح الامتناع. بل المراد به الاجتماع المأموري، وهو فيما إذا كان للحيثية المأمور بها فرد يكون منطبقاً للحيثية الّتي تكون منهيّاً عنها واختار المأمور ذلك المصداق للحيثيتين.
واختلفوا أيضا في أنّ المراد من الأمر والنهي هل يعمّ الأمر والنهي الغيريين، أو لا يشمل إلّا النفسيين؟ وفي أنّ المراد منهما هو الأمر والنهي التعيينيّان أو يعمّهما والتخيريين؟ وكذلك في أنّ المراد منهما الأمر والنهي العينيّان أو يعمّهما والكفائيين؟
وأيضاً اختلفوا في ما هو مرادهم بالواحد، بأنّ المراد به الواحد الشخصي أو الجنسي والنوعي والصنفي أو ما هو أعمّ منها؟
ص: 256
وكذلك تکلّموا في ما هو المراد من الجهة، وفي معنى الجهة التقييدية والجهة التعليلية.
والحال أنّه ليس لنا تضييع الوقت لأجل تفسير تلك العبارة الّتي هي سترة للواقع وحجاب يمنع المحصّلين عن الوصول إلى روح المقصود.
والمحقّق الخراساني(رحمه الله) وإن كان في مقام تلخيص الاُصول وإلغاء القشور والزوائد وأخذ ما هو اللبّ في جميع المطالب، ولكن قد وقع في هذا المقام وغيره فيما كان يفرّ منه، فما صار كتابه مصوناً من هذه القشور والزوائد. وفي ما نحن فيه أيضاً قدّم قبل الخوض في الكلام اُموراً ليس في كلّها كثير فائدة، بل بعضها يكون خالياً عن الفائدة وينبغي إلغاؤه.
الاُولى: ممّا ينبغي إسقاطه، من مقدّمات البحث، ونحن نسقطه في هذا المقام هو البحث المذكور في الكفاية عن مرادهم من «الواحد». وتمام مراده في هذه المقدّمة إثبات أنّ المراد بالواحد ليس الواحد الشخصي بل ما هو أعمّ منه ومن الكلّي؛ لأنّه كما يمكن تعلّق الأمر بالواحد الشخصي لأجل عنوان وتعلّق النهي به أيضاً بعنوان آخر، كذلك يمكن تعلّقهما بالواحد الكلي. ومثّل له بالصلاة في المغصوب، فإنّها كلّي مقول على كثيرين، فيتعلّق الأمر بها من جهة تعنونها بعنوان الصلاتية والنهي من جهة تعنونها بعنوان الغصبية.((1))
ولا يخفى ما في هذا الكلام، فإنّ ما هو منشأ الآثار وملاك الاستحالة والامتناع عند القائل به هو اتّحاد العنوانين وجوداً وفي عالم الخارج لا مفهوماً، فلا مانع من تعلّق الأمر والنهي بالكلّي من جهة واحدة أيضاً؛ لأنّه ليس موجوداً ولا يوجد في الخارج، فالاجتماع
ص: 257
فيها ليس حقيقياً فلا يدخل في نزاع النفي والإثبات. بخلاف الواحد الشخصي، فإنّ تعلّق الأمر والنهي به - حيث إنّه يوجد في الخارج - محال وممتنع، كما لا يخفى.((1))
الثانية: الأمر الثاني من الاُمور الّتي ذكرها المحقّق الخراساني(رحمه الله)،((2)) وينبغي تأجيلها إلى تنبيهات البحث لا ذكرها في المقدّمة.
الثالثة: البحث عن كون المسألة من المسائل الاُصولية، أو المبادئ الأحكامية، أو التصديقية، أو من المسائل الكلامية.((3)) وحيث إنّا قد استقصينا الكلام في ما هو الملاك لاُصولية المسألة وموضوع علم الاُصول، فلا مجال بعد المراجعة إلى ما ذكرناه للقول باُصولية هذه المسألة بل الصحيح عدّها من المبادئ الأحكامية.
الرابعة: وهي أيضاً غير محتاجه إلى البيان، وقد ذكرها في الكفاية بأنّ المسألة عقلية.((4))
لأنّا نبحث فيما هو المقصود من أنّه هل يجوز أمر المولى بحيثية لها فرد يكون منطبقاً لحيثية اُخرى مزجوراً عنها أو لايجوز؟ - على ما فصّلناه في بداية البحث - سواء كان الأمر والنهي والإيجاب والتحريم بدلالة العقل أو اللفظ.
ص: 258
الخامسة:((1)) عدم اعتبار وجود المندوحة وعدمها في النزاع((2)) وهذا أيضاً واضح؛ لأنّ ما هو المهمّ في المقام لزوم المحال واجتماع الحكمين المتضادّين وعدم لزومه، ولا يتفاوت هذا بوجود المندوحة وعدمها وإن كان القائل بالجواز لابدّ وأن يقيّده بوجودها حتى لا يلزم محذور التكليف بالمحال.
السادسة: ردّ في الكفاية ابتناء النزاع على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع.((3))
ولا يخفى فساده؛ لأنّه لو قلنا بعدم ابتنائه على ذلك ومجيء النزاع ولو كان متعلّقها الأفراد يلزم تعلّق الحكمين بواحد شخصي على القول بالجواز، ووحدة الإضافات الزجرية والبعثية؛ وذلك لأنّ المفروض وحدة الباعث والزاجر وكذا المكلّف في الأمر والنهي وأيضاً المزجور عنه والمأمور به، فيلزم منه وحدة تلك الإضافات.
لا يقال: إذا ارتفع غائلة الامتناع بتعدّد الوجه والعنوان على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع، يرتفع أيضاً لو قلنا بتعلّقها بالأفراد؛ فكما أنّه يمكن أن يكون وجود واحد مأموراً به من جهة انطباق الطبيعة المأمور بها عليه ويكون منهيّاً عنه من جهة انطباق الطبيعة المنهيّ عنها عليه ولا يضرّ ذلك بتعدّد الطبيعتين، كذلك لا مانع من تعدّد الفردين واتّحادهما في الخارج يكون فرداً للمأمور به وبعينه فرداً للمنهيّ عنه، فيجري فيه النزاع أيضاً.
فإنّه يقال: قد مرّ فيما سبق أنّ معنى تعلّق الحكم بالفرد تعلّقه به بخصوصياته، ومع ذلك لا يعقل جواز تعلّق الأمر والنهي بالفرد في مرتبة واحدة.
والقول بأنّ هذا ممكن من جهة كون الفرد فرداً ومصداقاً للطبيعة المأمور بها وفرداً للطبيعة المنهيّ عنها.
ص: 259
مندفع بأنّه خارج عمّا نحن فيه؛ لأنّ الحكم بكون الفرد فرداً للطبيعة المأمور بها من جهة اشتماله على الطبيعة وكذلك في جانب النهي، اعتراف بتعلّق الأمر والنهي بالطبيعة لا بالفرد.
السابعة: ما ذكره(قدس سره) من لزوم أن يكون لکلّ واحد من متعلّقي الإيجاب والتحريم مناط حكمه.((1))
وليس له مساس بمحلّ النزاع؛ فإنّ النزاع واقع في إمكان تعلّق الأمر بحيثية وتعلّق النهي بحيثية كانت النسبة بينهما عموماً من وجه، فالقائل بالجواز يقول بالإمكان عقلاً، وقع ذلك في الخارج أم لا، والقائل بالامتناع يقول بعدم الإمكان كذلك عقلاً، وأنّه لابدّ وأن تكون النسبة بين الحيثيتين التباين.
فالأولى ذكره في ثمرة النزاع بأنّ الثمرة تظهر فيما إذا كان إيجاب وتحريم كذلك، وكان في کلّ من متعلّقهما مناط حكمه مطلقاً حتى في مورد التصادق، ففي هاهنا يقول القائل بالجواز بكون المورد محكوماً بحكمين، والقائل بالامتناع يقول بكونه محكوماً بأقوى المناطين، أو بحكم آخر غيرهما إذا لم يكن أحدهما أقوى.
فالأولى ذكر الأمر الثامن وكذلك الأمر التاسع والعاشر بعد البحث عن أصل المسألة وتحقيق الحقّ فيها.
إذا عرفت ذلك كلّه، فندخل في أصل البحث بعون الله تعالى.
إعلم: أنّه ادّعي شهرة القول بالامتناع بين القدماء، ولكنّ الحقّ عدمها. بل يمكن
ص: 260
دعوى عدم توجّه جلّ المتقدّمين لولا الكلّ بهذه المسألة،((1)) وإنّما ذهب إلى القول بالامتناع جماعة من المتأخّرين، واختار الجواز جماعة من محقّقيهم.
وعمدة ما استند إليه القائل بالامتناع: لزوم اجتماع الضدّين، وبيانه: أنّه لو قلنا بجواز توجّه الأمر والنهي بحيثيتين يكون بينهما عموم من وجه يلزم اجتماع الضدّين في محلّ واحد وهما الوجوب والحرمة.
واُجيب: بأنّه لا يلزم من ذلك اجتماع الضدّين في محلّ واحد؛ لأنّ الوجوب متعلّق بذلك الفرد لكن لم يتعلق في الحقيقة إلّا بالحيثية الّتي بها يصدق عليه أنّه صلاة مثلاً، والحرمة تعرض لذلك الفرد ولكن عرضت على الحيثية الّتي بها يصدق عليه أنّه غصب، فكلّما يكون متبعّضاً في نظر الحس أو العقل فلا مانع من كون کلّ واحد من أبعاضه معروضاً لعرض يكون هذا العرض ضدّاً لما يعرض بعضه الآخر.
واستشكل عليه: بأنّ هذا يتمّ على القول بأصالة الماهية، وأمّا على القول بأصالة الوجود فلا يتمّ هذا الجواب، لأنّ الوجود بسيط بحسب الذهن والخارج.
ثانيتها: أنّ متعلّق الأحكام لا يكون إلّا حقائق الأشياء، فمتعلّق أمر الصلاة مثلاً لا يكون إلّا حقيقة الصلاة وهي الصلاة الّتي توجد في الخارج ويأتي المكلّف بها وهو فاعلها وجاعلها، لا ما هو اسم الصلاة، ولا عنوانها المنتزع من المتعلّق بحيث لولا انتزاعه تصوّراً واختراعه ذهناً لما كان في الخارج بحذائه شيء.
ثالثتها: أنّ تعدّد الوجه والعنوان لا يوجب تعدّد المعنون؛ فإنّ المفاهيم الكثيرة والعناوين المتعدّدة ربما تنطبق على الواحد وتصدق على الفارد الّذي لا كثرة فيه، فلا يصحّ أن يقال: إنّ الأمر يتعلّق بجهة صلاتية الفعل والنهي بجهة غصبيته؛ لأنّ الجهات الكثيرة لا تصير سبباً لانقلاب الفعل عمّا هو عليه من الوحدة.
(ولا يخفى أنّ الأولى ذكر هذه المقدّمة في ضمن المقدّمة الثانية دفعاً للدخل وجواباً عمّا يقال: من أنّ تعدّد الوجه والعنوان موجب لتعدّد المعنون والمتعلّق الحقيقي للأحكام).
رابعتها: أنّ الوجود إذا كان واحداً تكون الماهية مثله واحدة، فمع وحدة الوجود لا يمكن تعدّد الماهية، فلا تكون للمفاهيم الصادقة على وجود واحد ماهيات وحقائق متعدّدة.
وبالجملة: فما هو الواحد وجوداً واحد ماهية وحقيقة، فالمجمع وإن كان يصدق عليه متعلّق الأمر والنهي إلّا أنّه كما يكون واحداً وجوداً يكون واحداً ماهية وحقيقة. ولا يتفاوت في ذلك القول بأصالة الوجود وأصالة الماهية كما زعمه صاحب الفصول(قدس سره)،((1)) فإنّه زعم صحّة القول بالامتناع لو قلنا بأصالة الوجود؛ لأنّ المجمع يكون على هذا واحداً ولايمكن اجتماع الوجوب والحرمة فيه، وأمّا على القول بأصالة الماهية، فلا؛ لأنّه لا مانع من أن تكون لوجود واحد ماهيّات متعدّدة، هذا ما أفاده في الكفاية.
وإذا عرفت ما مهّده من المقدّمات في تحكيم مباني الاستدلال، عرفت مراده أيضاً
ص: 262
في مقام الاستدلال من أنّ المجمع إذا كان واحداً وجوداً وذاتاً يكون تعلّق الأمر والنهي به محالاً ولو كان بعنوانين.
وبالجملة: حيث نتأمّل في أدلّة القائلين بالجواز نرى أنّ كلّهم يطلبون طريق الخلاص من اجتماع الضدّين الواقع في المقام بسبب تعدّد مركب الحكمين (الوجوب والحرمة)؛ فإنّهم يستدلّون:((1))
تارة: بأنّ ماهو المتعلّق للأحكام ليس إلّا الطبائع، فلا يكون الفرد مجمعاً وموضوعاً للوجوب والحرمة ومركباً للأمر والنهي حتى يقع اجتماع الضدّين.
وتارة اُخرى: بأنّ متعلّق الأحكام وإن كان حقيقةً هو الفعل الصادر عن المكلّف ولكنّ العقل يرى بالدقّة أنّ مركب الأمر حيثيةٌ ومركب النهي حيثيةٌ اُخرى من الفعل مع وحدته، كالماء الموجود في الحوض فإنّه لا مانع من أن يكون جانباً منه ملوَّناً بلون غير ما تلوّن به طرفه الآخر.
وثالثة: بأنّه لا مانع من أن تكون لموجود واحد ماهيّتان تكون إحداهما متعلّقاً للأمر والاُخرى للنهي بناءً على صحّة القول بأصالة الماهية، فعلى هذا القول لا مانع من الجواز.
فأراد المحقّق الخراساني(رحمه الله) بما مهّد من المقدّمات ردّ هذه الاستدلالات، فالمقدّمة الثانية لردّ الدليل الأوّل؛ وأفاد الثالثة لردّ الدليل الثاني؛ والرابعة لردّ الدليل الثالث.
والتحقيق في مقام الجواب عمّا أفاده المحقّق الخراساني(رحمه الله): إنكار تضادّ الأحكام الخمسة مطلقاً.
وتوضيح ذلك: أنّ الأمر كما مرّ مراراً هو البعث، والنهي عبارة عن الزجر، وهما
ص: 263
عرضان قائمان بنفس المولى قياماً صدورياً فمعروضهما نفس المولى ولكلّ منهما إضافة وتعلّق إلى العبد وإضافة إلى الفعل من دون لزوم أن يكون العبد والفعل موجودين في الخارج، نظير تعلّق الإرادة بالمراد والعلم بالمعلوم والحال أنّ ذاتهما غير موجودين في الخارج، وإنّما هذه الإضافة تكون منشأً لانتزاع مفهوم المأمور وحمله على العبد، وإضافة الأمر إلى الفعل يكون منشأً لانتزاع مفهوم الواجب والمأمور به وحمله على الفعل، فيقال: إنّه واجب ومأمور به أو حرام ومنهيّ عنه، ولكن ليس معنى ذلك أنّ الوجوب أو الحرمة عرض معروضه فعل المكلّف حتى لا يمكن اجتماعهما في معروض واحد؛ لأنّ لازم ذلك إمكان تحقّق العرض بدون المعروض في صورة العصيان، لأنّ في صورة العصيان ليس فعلاً حتى يعرضه الوجوب ويضاف إليه الأمر حقيقةً والحال أنّ البعث متحقّق بالنسبة إلى العصاة.((1))
لا يقال: إنّ مناط صدق المحمول على الموضوع كون الموضوع معروضاً له والمحمول عرضاً له، فلابدّ من وجود الموضوع حتى يعرضه المحمول.
لأنّه يقال: ليس الأمر كذلك، ولا يكون مناط الصدق في القضايا كون المحمول عرضاً للموضوع، ولا ملازمة بين صدق المحمول عليه وكونه عرضاً له، فملاك صدق المحمول على الموضوع في قضية: «هذا الفعل واجب» أو «هذا العبد مأمور» ليس إلّا وجود منشأ الانتزاع وهو الأمر، فوجود الأمر وعروضه بنفس المولى يكون هو المناط لانتزاع مفهوم الواجب وملاك صدقه على الفعل.
إذا عرفت ذلك تعرف أنّ إمكان انتزاع ذلك المفهوم وصدق حمله على الفعل وامتناعه إنّما يكون دائراً مدار إمكان الأمر وامتناعه، وفي ما نحن فيه لا يأبى العقل
ص: 264
ولا يرى امتناعاً لأمر المولى عبده بحيثية يمكن أن يجمع العبد بينها وبين الحيثية المزجور عنها بسوء اختياره. ولا يلزم منه اجتماع العرضين في موضوع واحد.
إن قلت: إنّ إطلاق الأمر والنهي يقتضي تعلّقهما بالفرد الّذي يكون مجمعاً للعنوانين، ولازم ذلك عروض العرضين المتضادّين على نفس المولى بسبب قيام الأمر والنهي بنفسه قياماً صدورياً.
قلت: ليس معنى إطلاق الأمر انحلاله إلى الأفراد، بل المراد من إطلاقه كون متعلّقه حيثية طبيعة المأمور به من دون قيد زائد فيها، ومعناه سقوط الأمر بإتيان کلّ فردٍ من الأفراد. وكذلك الإطلاق في جانب النهي.
لا يقال: إنّ لازم بعث المولى بحيثية يمكن أن يجمع المكلّف بينها وبين الحيثية المنهي عنها اجتماع الضدّين أي الوجوب والحرمة في محل واحد وهو مجمع الحيثيّتين.
لأنّه يقال: لا يكون الوجوب والحرمة عرضاً حتى يقال بعدم إمكان عروضهما معاً على فعل المكلّف، وإلّا فيجب أن لا يتعلّق الوجوب بالفعل إلّا بعد وجوده حتى لا يلزم وجود العرض بدون المعروض. فالوجوب والحرمة و مفهوم الواجب والحرام مفاهيم تنتزع من بعث المولى وزجره وإضافتهما إلى الفعل. وليس مناط صدق حمل الواجب أو الحرام على الفعل عروض هذه الإضافة؛ لأنّه لم يوجد بعد، بل ملاك صدقه كما ذكر ليس إلّا العرض القائم بنفس المولى قياماً صدورياً.
فلا يصحّ أن يقال: إنّ بعث المولى وزجره على هذا يصير سبباً لاجتماع الضدّين؛ لأنّه يقال: إنّ المولى لم يبعث إلّا بالحيثية الصلاتية بحيث يكون وجود طبيعة الصلاة تمام متعلّق أمره، فلو كانت الصلاة ملازمةً لتحليل الغذاء أو تليين الأعضاء مثلاً، لا يقال: إنّه بعث إلى تحليل الغذاء؛ لأنّ تمام متعلّق بعثه ليس إلّا وجود طبيعة الصلاة تكون ملازمة لشيء أم لم تكن. وهكذا الكلام في جانب الغصب والتصرّف في مال الغي
ص: 265
ومرجع جميع ما ذكرناه ليس إلّا عدم كون الوجوب أو الحرمة عرضاً لفعل المكلّف. وحيث إنّ غير واحد من القائلين بالجواز اعترفوا بكونهما عرضاً له صرفوا تمام همّهم في مقام الجواب لإثبات تعدّد معروضهما ولم يأتوا بما يكفي في مقام الجواب، فتدبّر.
تمثيل: كما يمكن أن يكون شيء واحد متعلّقاً للعلم والجهل في آن واحد مثلاً: علمت بمجيء عادل في الغد مع جهلك بمجيء العالم فيه، فاتّفق مجيء زيد العالم العادل، يكون ذلك المجيء معلوماً ومجهولاً أي منطبقاً لکلا العنوانين ومصداقاً لهما، ولا يقول أحد بوقوع اجتماع الضدّين في هذا المثال، كذلك لا مانع من كون وجود واحد منطبقاً ومصداقاً لعنوان المأمور به والمنهيّ عنه من غير أن يتحقّق اجتماع الضدّين.
إن قلت: إنّ العلم والجهل قد تعلّقا في المثال بالماهية، وهذا بخلاف المقام لأنّ البعث والزجر يتعلّقان بالوجود.
قلت: إنّ العلم والجهل أيضاً متعلّقان بالوجود، لأنّ العلم متعلّق بوجود مجيء العادل والجهل بوجود مجيء العالم.
هذا تمام الكلام في إبطال ما توهّم أن يكون دليلاً على الامتناع.
وأمّا القول بالجواز، فالقائل به غنيّ عن الاستدلال بعدما حقّقناه في المقام؛ لأنّه إذا لم يثبت الامتناع يتّجه القول بالجواز، إذ لا يتصوّر ثالث لهما.
ولا يعتنى بما قد يقال: من أنّ عدم إثبات الامتناع ليس دليلاً على الجواز، فإنّ من الممكن أن يكون الأمر بهذه الحيثية الّتي يمكن أن يجمع العبد بينها وبين الحيثية المزجور عنها من الممتنعات ولكن لم نعثر على وجه الامتناع.
لأنّا نحكم بالجواز أو الامتناع بحسب ما تدرك عقولنا. ولو سلّمنا ذلك فلا مانع من شمول إطلاق الأمر والنهي للفرد الّذي يكون مجمعاً للحيثيّتين.
ص: 266
ومع ذلك كلّه، فيمكن أن يستدلّ للقول بالجواز بأنّا نرى أنّ المولى إذا أمر عبده بفعل كخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاصّ((1)) وجعل لذلك الفعل ثواباً ولعدم انتهائه عن هذا النهي عقاباً فخاط العبد في هذا المكان، فلو طالبه بالثواب الموعود على الخياطة لا يصحّ للمولى أن يقول: إنّك غير مستحقّ للثواب لوقوع الخياطة في هذا المكان. والعرف يعتبر هذا المولى مجازفاً في أقواله، كما أنّ العقل أيضاً يراه مجازفاً؛ لأنّ العبد قد أتى بتمام متعلّق الأمر وإن أتى بتمام متعلّق نهيه أيضاً.
بقي في المقام شيء وهو أنّ ثمرة النزاع إنّما تظهر فيما إذا كان قصد التقرّب شرطاً لصحّة المأمور به وأتى المكلّف به ولكن في ضمن فرد يكون مجمعاً للحيثيّتين، فلو قلنا بأنّ الفعل الّذي يكون مصداقاً للحيثية المزجور عنها غير قابل لأن يتقرّب به ولا يصلح لأن يتعبّد به، لا يعدّ الإتيان بهذا الفرد المنطبق للعنوانين والمجمع للحيثيّتين إطاعة وامتثالاً؛ لأنّه لم يأت بما هو المأمور به فلا يكون ممتثلاً سواء قلنا بالجواز أو الامتناع؛ لأنّ المفروض اعتبار قصد القربة ودخله في انطباق عنوان المأمور به على الفعل، وذلك كالصلاة والصوم. فلو فرض عدم صلاحية الفعل لأن يتقرّب به لا يكون ذلك الفعل فرداً للمأمور به ومنطبقاً لعنوانه أصلاً.
وأظنّ أنّ المشهور من المتقدّمين حيث حكموا ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة أو الوضوء بماء مغصوب حكموا به لهذه الجهة، ولم يتفطّن القائل بالامتناع بمنشأ فتواهم
ص: 267
فتوهّم أنّ ذلك لجهة أنّهم يعدّون محل النزاع من صغريات الكلّية المذكورة، فادّعى - بناءً على هذا التوهّم الفاسد - الشهرة على الامتناع.((1))
وأمّا لو قلنا: إنّ الفعل الّذي يكون منطبقاً ومصداقاً للحيثية المزجور عنها لا يخرج بذلك عن كونه صالحاً لأن يقصد التقرّب به ولا فرق بينه وبين غيره في كونه صالحاً لأن يتقرّب به، يصير من صغريات مسألتنا هذه، وتظهر الثمرة بناءً على هذا الفرض. هذا ملخّص الكلام في المقام. وعلى الله التوكّل وبه الاعتصام.
ينبغي التنبيه على اُمور:
التنبيه الأوّل: جريان النزاع في العموم من وجه والمطلق
لا فرق فيما ذهبنا إليه من جواز الأمر بحيثية يمكن اجتماعها مع الحيثية المزجور عنها أن تكون النسبة بين الحيثيّتين العموم من وجه أو المطلق، فلا مانع من توجيه الأمر إلى عامّ وتوجيه النهي إلى حيثية تكون بالنسبة إليه خاصّاً. ولا يلزم من جمع العبد بين
ص: 268
الحيثيتين بسوء اختياره توجّه أمر المولى ونهيه إلى وجود مركّب واحد؛ لأنّ ذلك صحيح لو قلنا بانحلال الأمر إلى الأوامر المتعدّدة بحيث يكون كلّ حيثية خاصّة موجودة مع حيثية اُخرى بهذا القيد مأموراً بها، ولكن لا نقول بهذا، بل نقول: إنّ ما هو تمام متعلّق أمر المولى لا يكون إلّا تلك الحيثية وأمره متعلّق بإيجاد تلك الحيثية الحسنة الّتي لا تكون فيها جهة قبح أصلاً، فلو جمع العبد بين هذه الحيثية والحيثية المقبحة الّتي لا تكون فيها جهة حسن أصلاً لا يصير هذا سبباً لامتناع توجه الأمر بهذه الحيثية والنهي بالحيثية الاُخرى ولو كان الفعل المتحيّث بالحيثيّتين ذا مصلحة ومفسدة.
نعم، لو كانت مصلحة الحيثية المحسّنة أقوى من مفسدة الحيثية المقبّحة لكان الفعل حسناً باعتبار ذلك، كما أنّه بالعكس لو كان الأمر بالعكس.
ولكن في صورة أقوائية المصلحة لو فرض وجود المندوحة لا يكون صدوره عن المكلّف حسناً ولذا لا يمكن التعبّد به ولا يصلح لأن يتقرّب به، أمكن أخذ قصد التقرّب في متعلّق الأمر كما ذكرناه أو لا يمكن، كما اختاره في الكفاية.
ولا يخفى: أنّه على القول بالامتناع لا مجال للقول بتقييد جانب النهي وترجيح جانب الأمر في صورة أقوائية المصلحة مع وجود المندوحة؛ لأنّ معنى هذا ليس إلّا حرمة الغصب أو التصرّف في مال الغير إلّا في حال الصلاة ولم يقل به أحد، ففي جميع الموارد على الامتناع لابدّ من تقييد جانب الأمر إلّا في صورة عدم المندوحة وأقوائية مصلحة الأمر، هذا.
والحاصل: أنّ اجتماع الأمر والنهي الّذي يكون تكليفاً محالاً إنّما يكون من جهة امتناع حصول الحالة الزجرية والبعثية في نفس المولى بالنسبة إلى شيء واحد في زمان واحد كما مرّ ذكره، ولا يكون هذا إلّا إذا كانت الحيثيتان متساويتين في الصدق أو متلازمتين في الوجود كالاستدبار والاستقبال، أو تكون الحيثية المزجور عنها أعمّ من
ص: 269
الحيثية المأمور بها في الصدق أو في الوجود، وأمّا إذا لم تكن النسبة بينهما كذلك فلا إشكال ولا امتناع حتى إذا كانت النسبة بينهما عموماً مطلقاً مثل الأمر بحيثية والنهي عنها إذا كانت مخصّصة بخصوصية خاصّة بحيث لا تكون تلك الخصوصية بنفسها تمام متعلّق النهي ولا الحيثية مخصّصة بها، بل كان لکلّ منهما دخل في حصول الغرض.
التنبيه الثاني: جريان النزاع في الأمر الندبي والنهي التنزيهي
لا يخفى عليك: أنّ ما ذكرناه من امتناع اجتماع الأمر الوجوبي والنهي التحريمي إذا كان متعلّقاهما متساويين في الصدق أو في الوجود، أو كانت الحيثية المأمور بها أخصّ من الحيثية المزجور عنها، وجواز الاجتماع في سائر الموارد؛ يكون جارياً أيضاً فيما إذا لم يكن الأمر وجوبياً بل يكون ندبياً والنهي تحريمياً، أو كان الأمر ندبياً والنهي تنزيهياً،((1)) ولكن الفرق أنّ في الصورة الأخيرة لو كان متعلّق الأمر عبادياً لا مانع من صحّة وقوعه عبادة لو أتى به في ضمن الفرد المتحيّث بالحيثية المتعلّقة للنهي التنزيهي؛ فإنّ صدوره عن الفاعل لا يكون قبيحاً فلا مانع من التقرّب به كما إذا كانت الحيثيتان المتعلّقتان للأمر الندبي والنهي التنزيهي متساويتين وكان ملاك النهي أقوى، فالحيثية المأمور بها وإن لم يتعلّق بها الأمر لكن لا مانع من وقوعها صحيحة وعبادة لو قلنا بكفاية قصد الملاك.
التنبيه الثالث: في وقوع الاجتماع في بعض العبادات
ممّا استدلّ به القائل بالجواز وقوع الاجتماع في موارد كثيرة مثل العبادات المكروهة كصوم يوم عاشوراء، والصلاة في الحمّام، وفي مواضع التهمة، والصيام في السفر،
ص: 270
وبعد وقوع الاجتماع لا مجال للنزاع في إمكانه وامتناعه؛ لأنّ الوقوع أخصّ من الإمكان فلو لم يجز الاجتماع لما وقع في الموارد المذكورة.((1))
لا يقال: إنّ ملاك الامتناع موجود إذا كان النهي تحريمياً والأمر وجوبياً، وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا مانع من الاجتماع لعدم تحقّق ملاك الامتناع.
لأنّه يقال: لا فرق فيما هو ملاك الاستحالة والامتناع وملاك الجواز والاجتماع بين اجتماع النهي التحريمي مع الأمر الوجوبي، والنهي التنزيهي مع الأمر الوجوبي أو الندبي، كما مرّ بيانه في التنبيه الثاني.
ويمكن دفع أصل الإشكال على سبيل الإجمال في جميع الموارد.
أوّلاً: بما أفاده في الكفاية بناءً على ما اختاره من الامتناع وهو: أنّ بعد قيام البرهان على استحالة الاجتماع لا مجال للأخذ بما يكون ظاهره الاجتماع، فلابدّ لنا من التأويل والتوجيه.((2))
وثانياً: نقول بأنّ في جميع الموارد الّتي توهّم الاجتماع في الشرعيات لا يدلّ الدليل على أزيد من صحّة العبادة، فليس لنا أن نقول بأنّ ما هو المتعلّق للنهي في هذه الموارد متعلّق للأمر أيضاً بعد عدم وجدان الدليل على كونه مأموراً به.
وأمّا صحّة الفعل ووقوعه عبادة فيمكن أن يكون لأجل الملاك والمحبوبية الذاتية. هذا ما يمكن أن يقال في الجواب على نحو الإجمال.
وأمّا الجواب على سبيل التفصيل، فنقول: إنّ بعض الموارد الّتي ذكرها بعض من القائلين بالجواز في هذا الدليل داخل في حريم النزاع، كما إذا تعلّق الأمر بحيثية والنهي
ص: 271
التنزيهي بحيثية اُخرى وكانت النسبة بينهما عموماً من وجه كالصلاة في مواضع التهمة،((1)) فإنّ الأمر قد تعلّق بحيثية الصلاة والنهي بحيثية الكون في موضع التهمة، جمع المكلّف بين الحيثيتين أم لا؛ ومثل ما إذا أمر بحيثية على نحو الإطلاق ونهى تنزيهاً عن هذه الحيثية إذا كانت مخصّصة بخصوصية بحيث يصير متعلّق النهي خاصّاً بالنسبة إلى الأمر كالصلاة في الحمّام.((2)) فإذا كان من هذا القبيل يبتني الأمر على أصل المسألة ويكون داخلاً في محلّ النزاع، والقائل بالجواز في فسحة من جهة ذلك، وعلى القائل بالامتناع جواب الإشكال.
وأمّا إذا تعلّق النهي بما ليس له بدل - كصوم يوم عاشوراء((3)) - فاللازم على کلّ من القائل بالجواز والامتناع التخلّص عن الإشكال؛ لأنّه وارد على کلّ حال.
و ملخّص ما أفاده المحقّق الخراساني(قدس سره) هو: الالتزام بوجود مصلحة في الفعل من غير أن تشوبها مفسدة، ووجود مصلحة في الترك من جهة انطباق عنوان ذي مصلحة عليه، أو من جهة ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة من دون الانطباق، فهما يكونان من قبيل المستحبّين المتزاحمين اللذين أمر المولى بأحدهما من جهة أرجحيّته، فلو أتى المكلّف بالآخر لا مانع من صحّته لوجود المصلحة فيه.((4))
ص: 272
وفيه أوّلاً: مبنائية جوابه وتوقّفه على ما اختاره في معنى النهي من أنّه طلب ترك الوجود، وقد عرفت فساده وأنّ الظاهر منه هو الزجر عن الفعل.
وثانياً: سلّمنا مبناه لكن الظاهر تعلّق النهي بنفس الترك، لا العنوان المنطبق على الترك أو الملازم له.
وثالثاً: العنوان المنطبق على الترك يكون عدمياً لا محالة، لأنّ الترك عدميّ فلا داعي لتبديل متعلّق النهي من الترك إلى العنوان المنطبق عليه، لأنّه يمكن تصوير المصلحة في الترك أيضاً.
ورابعاً: ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة بغير الانطباق ليست تحت يد المكلّف حتى يتعلّق النهي بها.
التنبيه الرابع: لا يخفى أنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) قد اختصّ التنبيه الأوّل من تنبيهات الباب بذكر مسألة: من توسّط داراً مغصوبة وانحصر التخلّص عن الغصب بالخروج عنها، فهل يكون هذا الخروج كالدخول حراماً أو لا؟
وقد أفاد في أوّل هذا التنبيه ما ليس راجعاً إلى أصل المطلب وهو: أنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام وإن كان يوجب ارتفاع حرمته والعقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه لو كان مؤثّراً فيه كما إذا لم يكن بحرام بلا كلام إلّا أنّه إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار بأن يختار ما يؤدّي إليه لا محالة، فإنّ الخطاب بالزجر عنه حينئذٍ وإن كان ساقطاً إلّا أنه حيث يصدر عنه مبغوضاً عليه وعصياناً لذلك الخطاب ومستحقّاً عليه العقاب لا يصلح لأن يتعلق به الإيجاب، وهذا ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب.
وفيه: أنّ الاضطرار إلى فعل الحرام الّذي فيه ملاك الوجوب ولكن كان ملاك الحرمة فيه أقوى لا يوجب تعلّق الوجوب به؛ لأنّ الاضطرار يرفع النهي والحرمة المتعلّقة إلى الفعل لا المفسدة الكامنة فيه، فلا يعقل تعلّق الوجوب بفعل فيه مفسدة
ص: 273
أقوى من مصلحته وإن لم يتعلّق به النهي من جهة. نعم، لو فرض حصول المصلحة في ظرف الاضطرار وكانت أقوى من مفسدة الترك لا مانع من وجوب الفعل.
فالاضطرار إلى شرب الخمر مثلاً لا يصير موجباً لوجوبه وإن كان فيه منافع للناس. نعم، ربما يجب ذلك لوجود مصلحة أقوى من المفسدة في ظرف الاضطرار كما إذا اضطرّ بشربه لانحصار طريق حفظ النفس به.
وبعبارة اُخرى: قد ذكر المحقّق الخراساني(قدس سره) في مقدّمة التنبيه الأوّل الّذي اختص لبيان حكم هذه المسألة اُموراً ثلاثة:
أحدها: ارتفاع الحرمة والعقوبة فيما إذا اضطرّ المكلّف إلى ارتكاب الحرام.
ولا يخفى: أنّ الاضطرار الّذي ذكره، تارة: يكون عقلياً كما إذا اضطرّ إلى ارتكاب حرام على نحو لا يكون له اختيار في تركه، كما إذا حبس في مكان مغصوب، فالعقل حاكم بارتفاع حرمة الكون في هذا المكان والعقوبة عليه.
واُخرى: يكون عرفياً كما إذا اضطرّ إلى شرب الخمر من جهة انحصار علاج مرضه به، فهذا الاضطرار لا يكون عقلياً؛ لأنّه مختار في شرب الخمر. وفي هذا القسم أيضاً ترتفع الحرمة والعقوبة لكن بحديث الرفع.
وثالثة: يكون شرعياً كما إذا اضطرّ إلى أداء الصلاة في المكان الغصبي، فإنّ اضطراره بالتصرّف في مال الغير يكون لأجل حكم الشارع بوجوب أداء الصلاة.
وثانيها: أنّ الاضطرار إلى الحرام مضافاً إلى أنّه يصير موجباً لارتفاع الحرمة والعقوبة عليه يكون موجباً لتأثير ملاك الوجوب لو كان في الفعل کلّ من الملاكين، ملاك الحرمة وملاك الوجوب، ولكن كان ملاك الحرمة أقوى. فلو فرض عدم تأثير ملاك الحرمة فلا مانع من تأثير ملاك الوجوب.
وفيه: أنّه بالاضطرار يرتفع النهي والحرمة المتعلّقة بالفعل لا المفسدة الكامنة فيه،
ص: 274
فما دام المفسدة موجودة فيه لا يصحّ تعلّق الوجوب به؛ لأنّ المانع من عدم تعلّق الوجوب به وصيرورته محبوباً للمولى وجود المفسدة الكامنة فيه لا وجود النهي، فإذا اضطرّ المكلّف إلى شرب الخمر لا يجب شربه من جهة أنّ فيه منافع للناس، بل هو باقٍ على حاله.
نعم، لو حدثت في ظرف الاضطرار مصلحة أقوى في الفعل، كما إذا توقّف حفظ النفس على شرب الخمر، يصير ذلك الفعل واجباً لا محالة، لكن هذه غير المصلحة الكامنة فيه مع قطع النظر عن الاضطرار.
ولعلّ أن يكون وجه هذا التوهّم قولهم بالوجوب وتأثير ملاك الوجوب إذا اجتمع الأمر والنهي واضطرّ المكلّف إلى ارتكاب المجمع بناءً على الجواز. وهذا غير ما نحن فيه، كما لا يخفى.
وثالثها: أنّ الاضطرار إذا كان بسوء اختيار المكلّف لا يرتفع بسببه أثر الحرمة من المبغوضية والعقوبة على الفعل، كما أنّه لا يؤثّر ملاك الوجوب إن كان فيه.
والّذي ينبغي أن يقال في المقام أنّ الاضطرار إلى فعل إمّا أن يكون بغير دخل اختيار المكلّف فيه أو باختياره، وفيما إذا كان باختياره تارة: يكون سبب اضطراره فعلاً مباحاً، واُخرى فعلاً حراماً، وهذا الأخير إمّا أن لا يكون من جنس الحرام الّذي اضطرّ إليه، كما إذا ضرب شخصاً بغير حقّ مع علمه بأنّه موجب لحبسه في الدار المغصوبة، أو يكون من جنسه ولكن لا يكون شخصه كما إذا تصرّف في دار عمرو عدواناً مع علمه بأنّ هذا موجب لحبسه في دار زيد بدون إذنه، أو يكون شخصه أيضاً كما إذا اضطرّ إلى التصرّف في دار زيد عدواناً من جهة تصرّفه السابق - كدخوله في تلك الدار - عدواناً، وفي جميع هذه الموارد تارة: يكون الاضطرار إلى ارتكاب الحرام مع الالتفات بموجبية موجبه له أم لا؟ وفي صورة الالتفات إمّا يحصل له العلم
ص: 275
بحصول الاضطرار وكونه مسبّباً من هذا الفعل، أو يبقى مردّداً. هذه هي الفروض المتصوّرة لكون الاضطرار بالاختيار.
وأمّا إذا كان الاضطرار بغير الاختيار، فلا شكّ في كونه موجباً لارتفاع الحرمة والعقوبة على الفعل المضطرّ إليه.
وأمّا إذا كان سببه فعلاً اختيارياً - حراماً كان أم مباحاً - وعلم المكلّف بموجبيته للاضطرار، فالظاهر أنّه لا يرتفع بسببه أثر الحرمة من العقوبة على الفعل وغيرها وإن كان التكليف ساقطا في حقّه فعلاً. وأمّا في صورة عدم العلم وحصول الترديد في سببية الفعل للحرام المضطرّ، فالظاهر أنّه أيضاً كذلك سواء كان سببه فعلاً حراماً أو مباحاً.
إذا عرفت ذلك كلّه، فاعلم: أنّهم قد اختلفوا في أصل المسألة، فيما يكون الاضطرار بسوء الاختيار وينحصر التخلّص به، على أقوال:
أحدها: القول بوجوب التصرّفات المتوقّف عليها الخروج ليس إلّا، من دون ترتّب مفسدة وعقوبة ومؤاخذة عليها، فهذه التصرّفات واجبة ومأمور بها رأساً ومن الأوّل. وهذا مختار الشيخ(قدس سره).((1))
ثانيها: القول بوجوبها وحرمتها معاً. وهو مختار صاحب القوانين.((2))
ثالثها: القول بكونها منهيّاً عنها بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار.((3))
رابعها: القول بوجوبها مع كونها مخالفة ومعصية للنهي السابق. وهو مختار صاحب الفصول(رحمه الله).((4))
ص: 276
ولا يخفى ما في مختار صاحب الفصول(قدس سره) من الفساد؛ لأنّه لا يعقل مخالفة النهي السابق الساقط في حال سقوطه؛ لأنّ المخالفة فرع بقاء الأمر.
وأمّا وجه مختار الشيخ(قدس سره) فهو: أنّ التصرّفات المتوقّف عليها الخروج قبل الدخول لاتكون مقدورة فلا يمكن تعلّق الأمر والنهي بها مطلقاً بل تصير مقدورة بعد الدخول، فالتكليف المتعلّق بها - أمراً كان أو نهياً، مشروطاً كان أم مطلقاً - لا يتعلّق بها إلّا بعد الدخول، وحيث إنّه لا يمكن في ذلك الظرف تعلّق النهي بتلك التصرّفات لأنّه مضطرّ إليها، فلابدّ وأن يتعلّق الأمر بها في ذلك الظرف مقدّمة للخروج، ولا يعقل أن يكون التكليف غير ذلك.
وبعبارة اُخرى: التصرّفات الخروجية لا تكون منهيّاً عنها أصلاً. والتكليف المتوجّه إليها ليس إلّا وجوبياً راجعاً إلى الخروج، ويكون هذا التكليف قبل الدخول مشروطاً وبعده مطلقاً. والسرّ في ذلك: أنّ التصرّفات المذكورة قبل الدخول لا تكون مقدورة فلا يتعلّق بها تكليف مطلق، وبعد الدخول تصير مقدورة، ولكن حيث لا يعقل توجّه النهي إليها لرجوعه إلى وجوب إبقاء الغصب مثلاً، فيتوجّه إليها الأمر بالخروج لا محالة.
وهذا نظير ارتكاب فعلٍ يؤدّي إلى مرض يكون علاجه منحصراً في شرب الخمر؛((1)) فإنّه لا يصحّ تعلّق النهي بشرب الخمر في هذا الظرف قبل ارتكاب الفعل المذكور، لأنّه تكليف بما هو خارج عن تحت الاختيار، ولكن يتوجّه الأمر بشرب الخمر في هذا الظرف قبل ارتكابه مشروطاً بارتكاب الفعل المزبور، ومطلقاً بعد الارتكاب، هذا.
ولكن مع ذلك كلّه، المسألة غير خالية عن الإشكال، لأنّه لو قيل بمقالة صاحب
ص: 277
الفصول(رحمه الله) يلزم اجتماع الضدّين. ولو قيل بحرمة التصرّفات المتوقّف عليها الخروج، فهو خلاف الوجدان. كما أنّ الأمر كذلك لو قيل بوجوبها من غير الحرمة.
وربما توهّم في المقام إمكان الترتّب، أي ترتّب الأمر بالخروج على عصيان النهي عن الغصب. وهذا وإن كان بحسب الظاهر قريباً، ولكن لم ينقل من أحد من الأعلام. ولعلّ السرّ في ذلك: أنّ الترتّب في غير هذا المقام إنّما يتصوّر إذا كان لنا أمران: أحدهما متعلّق بالأهمّ والآخر بالمهمّ في ظرف عصيان الأهمّ، ولكن فيما نحن فيه ليس الأمر بالخروج مغايراً مع النهي عن الغصب؛ لأنّه قد مرّ فيما سلف أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ بمعنى اتّحاد متعلّقيهما في نفس الأمر، فالأمر بالخروج ليس إلّا الأمر بترك الغصب وهو منتزع عن النهي عن الغصب، كما أنّ النهي عن الترك منتزع من الأمر بالفعل.
وبالجملة: فالنهي عن الغصب ينحلّ إلى نواهي متعدّدة، فكل آنٍ من آنات الغصب منهيّ عنه وينتزع منه الأمر بترك الغصب، وهذا بخلاف باب الترتّب فإنّ کلّ واحد من الأمرين يكون غير الآخر.
والذي لا يبعد أن يكون أقرب الوجوه في المسألة هو: التفصيل بين من كان تائباً ونادماً من عمله وأراد الخروج لأجل التخلّص عمّا هو مبغوض للمولى، وبين من لم يكن تائباً بل كان باقياً على العصيان وعدم الاعتناء بنهي المولى، فإذا كان نادماً من عمله لا يكون عمله منهيّاً عنه ولا يعاقب على التصرّفات الخروجية؛ لأنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له، بل يصير تصرّفه هذا حسناً وممدوحاً شرعاً وعقلاً. وأمّا إذا لم يكن نادماً وتائباً، يكون عمله منهيّاً عنه بالنهي السابق الساقط، فلا مانع من أن يعاقبه المولى على التصرّفات الخروجية. والله تعالى أعلم بالصواب.
غفر الله لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
ص: 278
ص: 279
هل النهي عن الشيء يقتضي فساده أو لا؟
إعلم: أنّ الباحثين عن هذه المسألة من المتقدّمين قد أدّوا حقّها وأدركوا الجهة المبحوث عنها فيها، ومع كمال الاختصار بيّنوها في كتبهم غاية التبيين. بخلاف أكثر المتأخّرين؛ فإنّهم وإن ذكروا في المقام مطالب كثيرة إلّا أنّ أكثرها أجنبيّ عمّا يرجع إليه روح البحث وجهة الاختلاف ومحلّ الفائدة، بل ربما لم يأت بعضهم بعد هذه التطويلات بما هو راجع إلى أصل المسألة ويبيّن الحقّ به فيها، وهذا من قبيل الاختلاف في أنّ هذا البحث من مباحث علم الاُصول أو غيره من العلوم.((1)) ومن قبيل الاختلاف في كون المسألة عقلية.((2)) ومعنى الاقتضاء وغيرها.((3)) وربما صارت هذه الاختلافات حجاباً للواقع وسبباً لتبعيد المسافة للمتعلّم. ونحن بعد إلغاء تمام هذه التطويلات ندخل في البحث مبتدءاً بتعريف الصحّة والفساد بعون الله تعالى:
ص: 280
معنى الصحّة والفساد((1))
إنّ کلّ موجود إذا وجد، إمّا يوجد على نحو يترقّب وجوده وينطبق عليه عنوان ذلك الموجود المترقّب وجوده أم لا.
فإن كان تحقّقه في الخارج أو غيره من الوعاء المناسب له على نحو يكون ذلك الموجود هو الموجود المترقّب وجوده يتّصف ذلك الموجود بصفة الصحّة وتترتّب عليه آثار الوجود المعنون بعنوان الصلاة أو الصوم أو النبات أو الإنسان مثلاً، ويقال: إنّه صحيح من جهة انطباق العنوان المترقّب وجود معنونه على ذلك الموجود.
وإن لم يكن نحو تحقّقه هكذا: بل كان على نحو لا يصدق عليه ذلك العنوان ووجد على خلاف ما يترقّب أن يوجد يتّصف بالفساد. ولكن لا من جهة نفس ذاته، فإنّ ما وجد بحسب نفس ذاته تامّاً تترتّب عليه آثاره المخصوصة، بل من جهة عدم انطباق ذلك العنوان عليه، وتحققه على خلاف ما يترقّب أن يوجد.
وبالجملة: فما وجد لا يتصف بالفساد من جهة نفس ذاته ولا يكون ناقصاً من حيث ذاته؛ فإنّ القراءة قراءة و السورة سورة والتسبيح تسبيح وكذلك الركوع والسجود كلها بحسب ذاتها تامّة تترتّب عليها آثارها المخصوصة بها ولا نقص ولا فساد فيها بحسب هذا.
ولكن لا يكون هذا ملاك الصحّة كما يوهمه ما في الكفاية؛((2)) فإنّه على ما ذكرناه
ص: 281
تكون الصحّة أخصّ من التمامية الّتي هى عبارة عن منشأيّة الشيء لترتّب آثاره عليه، فربما يكون الشيء تماماً وتترتّب عليه آثاره ولا يكون صحيحاً من جهة أنّه وجد على خلاف ما يترقّب أن يوجد ولا ينطبق عليه عنوان الشيء المترقّب وجوده. ولكن لا يمكن أن يكون الشيء صحيحاً ولا يكون تماماً ولا تترتّب آثاره عليه.
وهكذا الكلام في جانب الفساد؛ فإنّه أيضاً يكون أخصّ من التمامية فربما يكون الشيء تامّاً ولا يكون فاسداً من جهة أنّه وجد على نحو ينطبق عليه عنوان الموجود المترقّب وجوده. وربما يكون الشيء تامّاً تترتّب عليه آثاره الخاصّة به ويكون فاسدا لتحقّقه على خلاف ما يترقّب أن يوجد وعدم انطباق عنوان الموجود المترقّب وجوده عليه، هذا.
ولا بأس بأن يقال بأنّ التقابل الواقع بين الصحّة والفساد قريب من تقابل العدم والملكة. ثم إنّ الموجود الّذي يوجد في الخارج أو في وعاء آخر إمّا أن يكون من الموجودات الّتي توجد تارة على نحو يترقّب وجودها، واُخرى لا على هذا النحو بل يوجد على خلاف ما يترقّب أن يوجد؛ وإمّا أن لا يكون من هذا القبيل بل يكون بحيث كلّما يتحقّق في وعائه المناسب له يترتّب عليه أثره وينطبق عليه عنوان ما يترقّب وجوده ولا ينفكّ عنه ذلك، وهذا كإتلاف مال الغير والملاقاة مع النجاسة وغيرهما، فما يكون من هذا القسم لا يتصور فيه النزاع ولا يكون محلّا للاختلاف.
إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ اتّصاف الأشياء بالصحّة والفساد، تارة: يكون على نحو يكون معلوماً عند الكلّ. وبعبارة اُخرى: تارة يكون الشيء بحيث كلّما وجد يعرف کلّ واحد من العقلاء بأنّه وجد على نحو يترقّب وجوده أم لا. وهذا يكون لمعلومية کلّ ما له دخل في وجود هذا الشيء على هذا النحو عندهم، ومعلومية ما ليس له هذه الدخالة.
ص: 282
واُخرى: لا يكون الشيء ممّا يعلم حاله ووجوده على هذا النحو، فلا يعرف الانطباق وترتّب الآثار إلّا من كان عالماً به. وهذا كالأدوية والمعاجين المخصوصة، فإنّ ترتّب أثر كذائيّ خاصّ على معجون الموجود الخاصّ ممّا لا يعلمه إلّا من كان عالماً بالطبّ، كما أنّ عدم ترتّب هذا الأثر عليه لا يكون معلوماً إلّا عنده. ومن هذا القبيل تكون المعاملات والعبادات والإيقاعات؛ فإنّه لا يعلم ما له دخل في ترتّب الأثر واعتبار الملكية مثلاً في البيع وغيره إلّا العالم به وهو الشارع.
فلو تعلّق النهي بما كان من قبيل القسم الأوّل يكون النهي عنه دالّا على الحرمة والمبغوضية ولا دلالة فيه على فساده أصلاً. كما لو نهى المولى عبده عن لبس الحرير والذهب أو لباس آخر، فلا يُعقل أن تكون لنهيه هذا دلالة على فساد لبس الحرير أو فساد ما يترتّب عليه من الأثر وهو الزينة.
وأمّا إذا تعلّق النهي بما كان من القسم الثاني يكون النهي المتعلّق به دالّا على الفساد وإرشاداً بعدم تماميته وترتّب الأثر المقصود عليه. وهذا كنهي الطبيب المريض بأن لا يزيد شيئاً على الدواء الخاصّ المركّب من الأجزاء الخاصّة أو لا ينقص منه شيئاً. ومثل نهي الشارع عن كثير من المعاملات، كنهيه عن بيع الغرر، وبيع المنابذة، والملامسة، وبيع الكلب، أو نهيه عن لبس الحرير في الصلاة.
ولا يخفى عليك: أنّ النهي الدالّ على الحرمة مستلزم للفساد إذا كان متعلّقه أمراً عبادياً.((1)) بل مطلق الحرمة والمبغوضية، سواء كان دليلهما لفظياً أو لبّياً، مستلزمة لفساد المحرم والمبغوض إذا كان المحرم أمراً عبادياً؛ لأنّ لمقرّبية العمل دخلاً في صحّة المأتيّ به إذا كان عبادياً، ولا يمكن أن يكون فعل المبغوض والمبعِّد عن المولى مقرّباً، قلنا بجواز الاجتماع أو امتناعه.
ص: 283
قسّم الشيخ(قدس سره) - كما أفاد بعض مقرّري بحثه - النواهي الواردة في العبادات إلى قسمين:
أحدهما: ماهو منساق لبيان المانع، كالأوامر الواردة في العبادات لبيان الأجزاء والشرائط، ولا إشكال في دلالة هذه النواهي على الفساد، بل ذلك لا يخلو عن مسامحة، فإنّ الفساد الواقعيّ إنّما أوجب النهي عن العبادة المقارنة للمانع، لا أنّ النهي اقتضى الفساد.
وثانيهما: ما هو منساق لتحريم أصل العبادة من دون إرشاد إلى عدم وقوع الامتثال بها، كقولك: «لا تصلّ في الدار المغصوبة» غير قاصد بذلك رفع الإذن الحاصل من إطلاق الأمر بالصلاة، وهذا ينبغي أن يكون محلّا للنزاع، ثم أفاد بأنّه يقتضي الفساد.((1))
وقسّم(قدس سره) النواهي الواردة في المعاملات إلى أقسام:
أحدها: أن يكون النهي متعلّقاً بالمعاملة من حيث إنّها أحد أفعال المكلّف فيكون إيجاد السبب والتلّفظ بالإيجاب والقبول مثلاً وقت النداء مثل شرب الخمر محرّماً من غير ملاحظة أنّ هذا الفعل المحرّم يوجب نقلاً وانتقالاً. ولا ريب في عدم دلالة هذا النحو من النهي على الفساد.
ثانيها: أن يكون مفاد النهي مبغوضية إيجاد السبب لا من حيث إنّه فعل من الأفعال بل من حيث إنّ ذلك السبب يوجب وجود المسبّب المبغوض في نفسه، كما في النهي عن بيع المسلم للكافر؛ فإنّ إيجاد السبب حرام بواسطة إيراثه أمراً مبغوضاً وهو سلطنة الكافر على المسلم بناءً على الصحّة ووجوب الإجبار على إخراجه عن ملكه.
ص: 284
فلو قلنا بأنّ الأسباب الناقلة إنّما هي مؤثّرات عقلية قد اطّلع عليها الشارع وبيّنها لنا من دون تصرّف زائد يمكن القول في هذا القسم بعدم دلالة النهي على الفساد.
وأمّا إن قلنا بأنّ هذه أسباب شرعية وضعها الشارع وجعلها مؤثّرة في الآثار المطلوبة فلابدّ من القول بالفساد؛ فإنّ من البعيد جعل السبب مع كون المسبّب مبغوضاً.
ثالثها: أن يكون مفاد النهي حرمة الآثار المترتّبة على المعاملة المطلوبة منها، مثل ما يدلّ على حرمة أكل الثمن فيما إذا كان عن الكلب والخنزير. وهذا النهي یدلّ بالالتزام على عدم حصول الملك بهذه المعاملة وهو عين الفساد؛ لأنّه لا وجه لحرمة التصرّف في الثمن والمبيع ونحو ذلك من الآثار المترتّبة على الملك لو حصل الملك.
رابعها: أن يكون النهي ناظراً إلى إطلاق دليل الصحّة فيكون لا محالة مقيّداً لإطلاقه ويكون مفاده التصريح بالدلالة على الفساد، فكأنّه بمنزلة الاستثناء لقوله مثلاً «أوفوا بالعقود» الدالّ على حصول الملك والنقل والانتقال بالعقد.((1))
خامسها: وهو الّذي زاده المحقّق الخراساني(رحمه الله) على هذه الأقسام، وهو: تعلّق الحرمة بالتسبّب بالمعاملة الخاصّة إلى مضمونها، فالنهي متعلّق على هذا بالتوسّل من هذا السبيل وإيجاد ذلك السبب الخاصّ إلى مسبّبه. وذهب إلى عدم دلالة النهي في هذا القسم أيضاً على الفساد.((2))
ولا يخفى عليك: أنّه يمكن إنكار النهي المتعلّق بالسبب في الشرعيات كما ذكره في القسم الأوّل؛ فإنّ البيع وقت النداء وما كان من هذا القبيل لا يكون منهيّاً بما هو فعل مباشري، بل النهي قد تعلّق حقيقة بحقيقة المعاملة وما يعبّر عنه بالفارسية ب- «داد و
ص: 285
ستد» لكن لا من جهة مبغوضية أصل المعاملة بل من جهة مزاحمتها مع السعي إلى ذكر الله. وهذا الملاك موجود في کلّ فعل يزاحم السعي.
وهذا النهي لا يكون إلّا غيرياً وليس فيه دلالة على الفساد ولا على حرمة المعاملة أصلاً، فإذا ترك الصلاة واشتغل بالمعاملة لا يكتب عليه معصيتان.
وأمّا ما كان من قبيل القسم الخامس وهو تعلّق النهي بالتسبّب، فالقول فيه بدلالة النهي على الفساد قريب؛ لأنّ الشارع حيث أراد عدم التوصّل بذلك السبب الخاصّ إلى المسبّب يقتضي هذا إلغاء سببيته رأساً، فالنهي المتعلّق بالمسبّب يكون إرشادياً لا محالة.
والّذي ينبغي أن يقال في المقام: إنّا نرى العلماء في الأبواب المتفرّقة من الفقه كثيراً ما يستدلّون بالنهي على فساد المعاملة،((1)) كالنهي عن بيع الغرر وعن بيع المنابذة وعن نكاح منكوحة الأب وغيرها. ومن الواضح أنّه ليس ذلك من أجل دلالة النهي لغة على الفساد بل ولا شرعاً؛ لأنّه لا يدّعي أحد أنّ الشارع وضعه للدلالة على الفساد بعدما لم يكن كذلك في اللغة.
فما ينبغي أن يكون وجهاً لهذا أنّه كما أنّ الأسباب الناقلة كالإيجاب والقبول ليست مطلوبات نفسية لأرباب المعاملات، بل وليست مسبّباتها أيضاً - من قبيل الملكية والزوجية - مطلوبات نفسية، وإنّما هي أسباب يوجدها الناس لأجل الآثار الّتي تترتّب على مسبّباتها، كجواز التصّرف في الثمن والمثمن بسبب الإيجاب والقبول، وحصول الملكية في البيع، وجواز الوط ء بسبب الإيجاب
ص: 286
والقبول، وحصول الزوجية في النكاح، فلا يكون النهي المتعلّق بهذه الأسباب متعلّقاً بها وبمسبّباتها حقيقة، بل النهي إنّما يتعلّق بالأثر المترتّب على المسبّب الّذي لأجله يوجد السبب وما هو مطلوب نفسي، فالنهي المتعلّق بالمعاملة ليس مفاده حرمة إيجاد السبب والمسبّب، بل مفاده النهي عن ترتيب الأثر على المعاملة والعمل بمضمونها ليس إلّا، هذا.
قد استدلّ لدلالة النهي على فساد المعاملة بروايات، أمتنها متناً ما رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده؟ فقال: «ذاك إلى سيّده، إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما». قلت: أصلحك الله إنّ الحَكَم بن عتيبة وإبراهيم النَّخعي وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد، ولا يحلّ إجازة السيّد له. فقال أبو جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «إنّه لم يعص الله، إنّما عصى سيّده فإذا أجازه فهو له جائز».((1))
وجه الدلالة: أنّ مقتضى قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لم يعص الله... إلخ» أنّ النكاح لو كان ممّا حرّمه الله تعالى كان فاسداً، فمراده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - على الظاهر - أنّ النكاح حيث لم يكن ممّا حرّمه الله ولم يمضه لا يقع فاسداً، لأنّ هذا النكاح لا يقع معصية لله تعالى. فلو كان معصية لله تعالى وممّا لم يمضه يكون فاسداً؛ لأنّه يستتبع الفساد لا محالة.
وقريبة منها روايته الاُخرى عن أبي جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: سألته عن رجل تزوج عبدُه
ص: 287
امرأةً بغير إذنه فدخل بها، إلى آخر الرواية.((1)) ولعلّهما رواية واحدة لبعد تكرّر هذا السؤال من زرارة عن الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
وأمّا رواية البقباق عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قال: قلت لأبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): الرجل يتزوّج الأمة بغير علم أهلها قال: «هو زنى، إنّ الله يقول: ﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ﴾((2))».((3))
فلا دلالة لها على ما نحن بصدده، كما لا يخفى.
حكي عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحّة.((4))
فإن كان مرادهما من ذلك أنّ النهي یدلّ على الصحّة بالمعنى الّذي حقّقناه، وهو: تحقّق المنهيّ عنه على نحو يترقّب أن يوجد ويتحقّق، فهو صحيح.((5)) وإن كان مرادهما كون المنهيّ عنه مأموراً به وقابلاً لأن يتقرّب به، فلا دلالة له على ذلك. والله العالم.
ص: 288
ص: 289
وفيه فصول:
الفصل الأوّل: في معنى المنطوق والمفهوم
الفصل الثاني: في المنشأ وما يحصل به المفهوم
الفصل الثالث: في مفهوم الشرط
الفصل الرابع: في المفهوم في الجمل الإنشائية
الفصل الخامس: هل المراد انتفاء سنخ الحكم أو شخصه؟
الفصل السادس: في تعدّد الشرط ووحدة الجزاء
الفصل السابع: في تداخل الأسباب والمسبّبات
الفصل الثامن: في تطابق المفهوم مع المنطوق
ص: 290
ص: 291
والحقّ: أنّ المنطوق والمفهوم من صفات المدلول. وانقسامه إليهما من جهة اختلاف خصوصية الدلالة، فباعتبار وجود إحدى الخصوصيتين في دلالة الكلام يسمّى المدلول مفهوماً، أو منطوقاً. ولا يوجب هذا كونهما من صفات نفس الدلالة وإن كان ربما يوجد في كلماتهم تقسيمها إلى المفهومية والمنطوقية.
فدلالة اللفظ تارة: تكون بحيث يسمّى مدلوله بحسب هذا النحو من الدلالة مفهوماً. واُخرى: تكون بحيث يسمّى مدلوله منطوقاً.
وربما يظهر من كلمات القدماء عدم وضوح مفادهما عندهم، ولذا وقع الاختلاف بينهم في أنّ دلالة الغاية في ﴿أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾((1)) على عدم وجوب الصوم بعد الليل، هل تكون بالمفهوم أو بالمنطوق؟
وعلى کلّ حال فلا يخفى عليك: أنّ الشيخ(رحمه الله) بعدما أفاد انحصار المدلول المطابقي في المنطوق وكذلك المدلول التضمّني - إلّا على قول من زعم أنّ دلالة الجملة الشرطية على الحكم المفهومي إنّما هي بالتضمّن؛ فإنّه على هذا ينقسم المدلول التضمّني إلى المفهوم والمنطوق - وانقسام المدلول الالتزامي إليهما، ونقل تعريف
ص: 292
الحاجبي وتفسير العضدي له، وغير ذلك؛((1)) أفاد في ذيل كلامه بأنّ التحقيق في المقام: أن يقال: إنّ لوازم المداليل المفردة خارجة عن المقسم. وأمّا المداليل الالتزامية للمركّبات، فما كان منها لا يقصد دلالة اللفظ عليه وإن كان يستفاد منه، يكون خارجاً عن المفهوم. وما كان يقصد دلالة اللفظ عليه، فإن كان الحكم المستفاد من الكلام المنطوق به مفاده مفاد قولك لا غير، كما في مفهوم المخالفة مثل قولك: زيد قائم غير عمرو. أو كان الحكم ثابتاً للغير على وجه الترقّي كما في مفهوم الموافقة فهو المفهوم بقسميه، وإلّا فهو المنطوق.
وبعدما أفاد في توضيح مراده هذا، قال في آخر كلامه: بأنّه غاية ما يمكن أن يقال، إلّا أنّه بعد إحالة على المجهول.((2))
وهكذا حال غيره ممّن تأخّر عنه، فلم يأتوا بما يوضح مفادهما ويظهر به حقيقتهما.
والّذي ينبغي أن يقال: إنّ الدلالات الثلاث كلّها منطوقية، وليست إحدى منها مقسماً للمنطوق والمفهوم. وكما أشرنا إليه أنّ مفادهما ليس مجهولاً عندهم كما زعمه الشيخ(رحمه الله) وغيره، بل الظاهر أنّهما عندهم بمكان من الوضوح، وعدم اختلاف بينهم في مفادهما. فما یدلّ عليه اللفظ في محلّ النطق هو المنطوق. وما یدلّ عليه لا في محلّ النطق هو المفهوم.((3))
ومرادهم من هذا التعريف: أنّ الّذي يستفاد من كلام المتکلّم ويصحّ أن يقال بأنّه قال كذا وتكلّم بكذا أو أخبر عن كذا أو أمر بكذا ونهى عن كذا، ويصحّ أن يحتجّ بسببه معه بأنّك قلت هكذا وأمرت بكذا، ولا يصحّ له أن ينكره، هو المنطوق. وأمّا ما
ص: 293
لا يكون كذلك ويمكنه في مقام الاحتجاج إنكار التكلّم به وأن يقول ما نطقت به، ولا يقال فيه: إنّه قال كذا، هو المفهوم.
فعلى هذا، يكون المفهوم خارجاً من الدلالات الثلاث.
ولا يخفى عليك: أنّ الدلالات بحسب اصطلاحهم غيرها بحسب مصطلح المنطقيّين؛((1)) فإنّ تقسيمهم راجع إلى الألفاظ المفردة ومرادهم من الدلالة الالتزامية ما یدلّ عليه اللفظ بالالتزام في عالم الذهن والتصوّر، و يكون لازم وجود المعنى المطابق في عالم الذهن، سواء كان لازماً لوجوده الخارجي أو لم يكن، بل كان مبايناً معه كالعمى والبصر.
وأمّا الدلالات بحسب اصطلاح الاُصوليّين فتقسيمهم إيّاها راجع إلى الألفاظ المرکّبة. فدلالة الجملة على مجموع ما تدلّ عليه أجزاؤها المفردة موسومة بالمطابقة، فاتّحاد الموضوع وهو زيد مع المحمول وهو القيام بحيث يكون الموضوع معروضاً له وكان القيام قائماً به، هو المعنى المطابقي.
ودلالة الجملة على جزء هذا المعنى وهو كون بعض أجزائه كرِجله أو رأسه أو غيرهما معروضاً لوضع خاصّ ومتّحداً معه، عبارة عن التضمّن.
ودلالة الجملة على لوازم هذا المعنى - لكن لا على ما كان لازمه بحسب الذهن، أي لازم وجوده الذهني كما استقرّ عليه اصطلاح المنطقيين، بل على ما كان لازم وجوده الخارجي - تسمّى بالالتزام.
وهذه الدلالات الثلاث كلّها دلالات منطوقية، وليست واحدة منها مفهومية؛ فإنّه يصحّ الاحتجاج مع المتکلّم بکلّ واحدة منهنّ، ويصحّ أن يقال بأنّك قلت هكذا أو أخبرت عن هذا، بالنسبة إليهنّ على السواء.
ص: 294
وبالجملة: الغرض من ذلك كلّه: بيان أنّ المفهوم ليس من الدلالات الثلاث حتى يقال بأنّ حجّیته لو ثبت أصله غنيّة عن البيان، وأنّ النزاع واقع في الصغرى كما زعمه المتأخّرون،((1)) ولذا نرى أنّ القدماء يستدلّون لحجّية مفهوم الشرط وغيره من المفاهيم بأنّه لو لم تكن حجّة لكان أداء الكلام بهذا النحو لغواً، فيفهم من هذه عدم كون المفهوم عندهم من الدلالات الثلاث،((2)) وأنّ النزاع يكون كبروياً وإلّا لما احتاجوا إلى الاستدلال لحجّيته.
والمتأخّرون حيث اشتبه عليهم ذلك وتوهّموا أنّه قسم من المدلول بالدلالة الالتزامية صاروا في مقام إثبات أصل المفهوم من طريق ظهور ذكر العلّة على انحصارها.((3))
والحاصل: أنّ تمسّك القدماء لحجّية المفهوم بدخالة القيد في ثبوت الحكم وإلّا يلزم كون القيود المذكورة في الكلام لغواً، یدلّ على أنّ المفهوم غير المداليل الّتي یدلّ عليها اللفظ بإحدى الدلالات الثلاث، وأنّ النزاع الواقع في المقام لا يكون إلّا كبروياً.
لا فرق فيما ذكر بين مفهوم المخالفة وهو: ما يفهم من تقيّد الكلام بقيد من القيود من عدم ثبوت الحكم للمقيّد بما هو ودخالة ذلك القيد في ثبوت الحكم، وبين مفهوم
ص: 295
الموافقة وهو: ما يستفاد عرفاً من الكلام المقيّد بقيد من عدم دخالة ذلك القيد في الحكم، وثبوت الحكم لموضوع كان فاقداً لهذا القيد، استفيد ذلك من جهة أولوية الفاقد كما في الآية: ﴿فَلَا تَقُلْ لَ-هُما اُفٍّ﴾،((1)) فإنّ العرف يفهمون أنّه ليست لحرمة التأفيف خصوصية وإنّما ذكر لأجل أنّه أحد مصاديق الظلم على الوالدين، فحرمة ما ليس تأفيفا بل كان من قبيل الضرب والشتم أولى. أو من غير جهة الأولوية كما إذا قال: «إذا شكّ الرجل بين الثلاث والأربع يبني على الأربع»، فإنّ العرف يفهم من ذلك عدم دخالة قيد الرجولية في الحكم، وأنّه حكم شكّ المرأة أيضاً.
وممّا ذكر((2)) يظهر: أنّ ما استشكلوا على الشريف المرتضى(قدس سره) - في استدلاله على عدم حجّية المفهوم بقوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾؛((3)) وقوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾؛((4)) بأنّه لو كان المفهوم حجّة لما قامت إمرأتان مقام أحد الشاهدين.((5)) وإشكالهم عليه - أوّلاً وثانياً وثالثاً وبأنّ هذا الاستدلال بعيد عن محلّ البحث، ولا يليق بمقام السيّد(رحمه الله) ((6)) - في غير محلّه؛ لأنّ نظر السيّد(رحمه الله) إنّما يكون على إبطال استفادة دخالة القيد في الحكم، لا نفي دلالتهما على عدم الاكتفاء بشاهد واحد، وسيجيء لذلك مزيد توضيح إن شاء الله تعالى.
ص: 296
هذا تمام الكلام في أصل المفهوم. وتلخّص منه أنّ الدلالة إذا كانت لفظيةً كالدلالات الثلاث يكون مدلولها منطوقاً، وإذا كانت غير لفظية يكون مدلولها مفهوماً.
ص: 297
يمكن أن يقال: إنّ العرف يستفيد المفهوم من نفس التلفّظ والتكلّم بما أنّه فعل اختياريّ، صوناً لفعل الحكيم من اللغوية؛ فإنّ في صورة الشكّ في كون المتکلّم في تکلّمه، بل وكلّ فاعل في فعله يكون لاغياً أو لا؟ استقرّ بناء العرف والعقلاء على عدم كونه لاغياً، بل أنّه فَعَلَ ما فَعَلَ لغرض ومقصد. وهذا الأصل يكون حجّة ومتّبعاً عند العقلاء، ولهذا لو اعتذر العبد في مخالفة مولاه بأنّي احتملت أن يكون لاغياً، لا يسمع منه.
وهذا الأصل يجري مقدّماً على إجراء أصالة كون غرض المتکلّم إفادة معنى من المعاني فيما إذا شكّ في أنّ المتکلّم في مقام الإفادة أو تكلّم لغرض آخر، كدفع شرّ ظالم أو غيره.
كما أنّ إجراء هذا الأصل الأخير أيضاً يكون مقدّماً على أصالة إرادة المعنى الحقيقي.
وكيف كان، فيما إذا كان المتکلّم في مقام الإفادة ولم يكن لاغياً وكان كلامه متضمّناً لزيادات على الموضوع والمحمول يفهم من نفس تكلّمه دخالة هذا الزائد في مقصوده؛ فإنّ العرف يفهم من إتيان المتکلّم بقيد في كلامه - من جهة أنّ تکلّمه فعل من الأفعال، لا من جهة دلالة لفظ القيد على معناه - أنّ للقيد دخالة في ثبوت الحكم. ويفهم من ذلك عدم ثبوت الحكم لما كان فاقداً لهذا القيد. فالمفهوم هو: ما يستفاد من تقييد كلام المتکلّم بقيد. وأمّا مفهوم الموافقة فهو في الحقيقة لا يستفاد من اشتمال
ص: 298
الكلام على قيد زائد، بل إنّما يستفاد من كون تقيّد الموضوع بهذا القيد من باب كونه أحد الأفراد والمصاديق لما هو الموضوع أو أنّه فرد دانيّ له، كقوله تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَ-هُ-مَا اُفٍّ﴾،((1)) فإنّ العرف يحكم بعدم دخالة هذا القيد في الموضوع، وثبوته لما كان فاقداً له.
ولو أغمضنا عن ذلك ولم نقل بأنّ اشتمال الكلام على القيد يفيد دخالته في الحكم من جهة أنّه فعل من الأفعال، فلا يمكن القول باستفادة المفهوم بما ذكره المتأخّرون من دلالة تقييد الحكم بواسطة كلمة «إن» على الانتفاء عند الانتفاء، من جهة أنّ ظاهر القضیّة الشرطية سببية الشرط للجزاء على وجه الانحصار.
وذلك من جهة أنّ مفاد القضیّة الشرطية إذا كان عليّة الشرط للجزاء لا يفيد الانتفاء عند الانتفاء أصلاً، فلو قال الطبيب للمريض: «إن شربت الماء يزيد مرضك»، أو قال المنجّم: «إذا اجتمع الكوكب الفلاني مع كوكب آخر تقع في العالم حادثة مهمّة» فلو أكل المريض البطّيخ وصار سبباً لشدّة مرضه، أو وقعت في العالم الحادثة المذكورة من دون اجتماع الكوكبين، لا يصحّ الاعتراض على الطبيب، فإنّ له أن يقول: ليس لازم قولي عدم سببية غير الماء لشدّة المرض. وهكذا في جانب المنجّم.
نعم، إذا كان المتکلّم في مقام بيان تمام ما هو المناط لترتّب الحكم على الموضوع وأتى بقيد زائد، فظاهره كما مرّ هو: الانتفاء عند الانتفاء، كقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «إذا کان الماء قدر كُرٍّ لم ينجّسه شيء».((2))
وملخّص الكلام في المقام: أنّ المتکلّم الحكيم الّذي يكون في مقام الإفادة إذا أتى في
ص: 299
كلامه بقيد زائد في طرف الموضوع أو المحمول لابدّ وأن يفيد ذلك القيد دخالته في الحكم صوناً لفعله وتكلّمه من اللغوية.
هذا تمام الكلام فيما يحصل به المفهوم.
وأمّا الكلام في مفاده، فلا ريب في دلالته على أنّ المقيّد بما هو هو، أي من دون قيده، ليس موضوعاً للحكم، ولكن لا دلالة له على عدم كون المقيّد موضوعاً للحكم إذا كان فاقداً للقيد المذكور في الكلام وواجداً لقيد آخر. فلا يفيد المفهوم أكثر من دخالة القيد، وأنّ المقيّد في نفسه وبحسب ذاته لا يكون مرْكباً للحكم. فعلى هذا، لا مانع من ضمّ قيد آخر إليه يقوم مقامه، فقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «الماء إذا كان قدر كرّ لم ينجّسه شيء»، لا يفهم منه إلّا دخالة الكرّية في موضوع حكم الشارع بعدم التنجّس وأنّ نفس الماء مجرّداً عن القيد ليس موضوعاً للحكم، لا أنّ تمام الموضوع لهذا الحكم هو الماء إذا كان كرّاً، فلا يفهم منه تنجّسه بشيء ولو ضمّت إليه خصوصية اُخرى تقوم مقام القيد المذكور ككونه جارياً أو مطراً.
نعم، إذا كان المتکلّم في مقام بيان تمام ما هو مناط الحكم واُحرز ذلك، فلا مانع من أخذ المفهوم والحكم بأنّه ينجّسه شيء ولو ضمّت إليه خصوصية اُخرى، ولعلّ هذا مراد كاشف الغطاء(رحمه الله) في المقام، حيث أفاد: أنّ المتکلّم إذا كان في مقام البيان يستفاد هذا من كلامه، وإلّا فلا.
وممّا ذكرنا ظهر مراد السيّد المرتضى(رحمه الله)، فإنّه في مقام الجواب عن القائل بالانتفاء عند الانتفاء مطلقاً ولو قام قيد آخر مقام القيد المذكور، فأفاد بأنّ تقيّد الموضوع بقيد لا یدلّ على أزيد من دخالة القيد في الحكم وأنّه لا يكون بما هو هو موضوعاً، وليس
ص: 300
فيه دلالة على أنّ الحكم يدور مدار ذلك القيد مطلقاً، ألا ترى في قوله تعالى: ﴿وَأَشهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾((1)) مع أنّه یدلّ على عدم جواز قبول شاهد واحد إلّا إذا انضمّ إليه شاهد آخر، لا يمنع من قبول شاهد واحد إذا انضمّت إليه إمرأتان أو خصوصية اُخرى.((2))
وغرضه من ذلك أنّ تقيّد المقيّد بقيد لایدلّ على أزيد ممّا ذكر، كما أنّه يستفاد من الآية دخالة ضمّ شاهد آخر في جواز القبول وعدم جواز قبول شاهد واحد بما هو هو، ولكن لا يستفاد منه عدم جواز القبول في صورة ضمّ ضميمة اُخرى إليه، وهذا كما ترى كلام تحقيقي متين.
تتمة: في تعريف المفهوم في الكفاية أفاد المحقّق الخراساني(رحمه الله) في تعريف المفهوم، بأنّه عبارة عن: «حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصية المعنى الّذي اُريد من اللفظ بتلك الخصوصية ولو بقرينة الحكمة وكان يلزمه لذلك... إلخ».((3))
ويمكن أن يستظهر ممّا يفيد في مفهوم الشرط والوصف((4)) أنّ تلك الخصوصية المستتبعة لذلك الحكم المفهومي ليست إلّا انحصار العلّة.
ولا يخفى ما في هذا الكلام من الاضطراب؛ لأنّ تلك الخصوصية إن اُريدت من اللفظ فهي داخلة في المعنى، ويصير معناه بناءً على هذا: أنّ المفهوم حكم إنشائي أو إخباري يكون لازماً للمعنى الّذي اُريد من اللفظ ولازمه أن يكون المفهوم من المداليل الالتزامية. وإن لم ترد من اللفظ، فهي خارجة عن مدلول اللفظ. مضافاً إلى أنّ
ص: 301
هذه الخصوصية كانحصار العلّة لا تلازم المعنى الّذي اُريد من اللفظ وهو علّية الشرط للجزاء؛ لأنّها كما يمكن أن تكون منحصرة، يمكن أن تكون غير منحصرة.
وبالجملة: وإن أشار(قدس سره) إلى أنّ هذه التعريفات شرح الاسم إلّا أنّه لابدّ من أن يكون شرح الاسم وما يشار به إلى المعرَّف ممّا يصحّ أن يشار به، هذا.
وقد أفاد بعض الأعاظم من المعاصرين في المقام بأنّ انفهام معنى تركيبي من جملة تركيبية إن كان باعتبار نفس الجملة في حدّ ذاته تكون الدلالة منطوقية. وإن كان باعتبار لزومها لمفاد الجملة بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ، حتى تكون الدلالة لفظية، فتكون الدلالة مفهومية. وبنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ، حتى لا تكون الدلالة لفظية، فتكون سياقيه كدلالة الاقتضاء((1)) ودلالة التنبيه((2)) ودلالة الإشارة.((3)) ولا فرق في ذلك بين دلالة جملة واحدة كدلالة قوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «كفّر» في جواب من قال «هلكت وأهلكتُ، واقعت أهلي في نهار شهر رمضان»((4)) على علّية
ص: 302
الوقاع للتكفير؛ وبين دلالة الجملتين كدلالة الآيتين الشريفتين((1)) على كون أقلّ الحمل ستة أشهر.((2))
وفيه: أنّ دلالة الاقتضاء والإشارة والتنبيه إنّما تكون من الدلالات المنطوقية،((3)) وليس لنا دلالة اُخرى في مقابل الدلالة المفهومية والمنطوقية تكون موسومة بالدلالة السياقية.
ص: 303
نبحث هنا في مفهوم الشرط على مسلك المتأخّرين وإن كان خلاف ما ذهبنا إليه. وحاصل ما أفاد في الكفاية في المقام: أنّ إثبات المفهوم موقوف:
أوّلاً: على إثبات أنّ القضیّة الشرطية لزومية لا اتّفاقية.
وثانياً: على إثبات دلالة الجملة على نحو الترتّب؛ لأنّه يمكن أن يكون الشرط والجزاء معلولين لعلّة ثالثة.
وثالثاً: على إثبات أنّ الترتّب يكون على نحو الترتّب على العلّة بمعنى ترتّب الجزاء على الشرط الّذي هو علّته.
ورابعاً: على إثبات أنّه على نحو ترتّب المعلول على العلّة المنحصرة.
فمنكر المفهوم في سعة وفسحة.
وأمّا القائل بالمفهوم مستدلاً بالتبادر، فلا يمكن له إثباته.
وأمّا ادّعاؤه: انصراف إطلاق العلاقة اللزومية إلى ما هو أكمل أفرادها، وهو اللزوم بين العلّة المنحصرة ومعلولها.
ففاسد؛ لعدم كون الأكملية موجبة للانصراف. ولعدم كون العلّة المنحصرة أكمل من غيرها.
ص: 304
كما أنّه لا وجه للتمسّك بما هو قضيّة الإطلاق بمقدّمات الحكمة، كما يتمسّك بقضية إطلاق صيغة الأمر لإثبات الوجوب النفسي؛ لأنّ التمسّك بالإطلاق بمعونة مقدّمات الحكمة لا يكاد يتمّ فيما هو مفاد الحرف كما في المقام، وإلّا لم يكن المعنى حرفياً.
هذا، مضافاً إلى أنّ کلّ واحد من أنحاء اللزوم والترتّب تعيينه محتاج إلى القرينة، كان اللزوم والترتّب بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة أو لا .
ولا يقاس المقام بالواجب النفسي والغيري؛ فإنّ النفسي واجب على کلّ تقدير، دون الغيري فإنّه واجب على تقدير الوجوب النفسي فبيانه محتاج إلى مؤونة التقييد بما إذا كان الغير واجباً، فيكون الإطلاق في الصيغة مع مقدّمات الحكمة محمولاً على الوجوب النفسي.
وأمّا الاستدلال على المفهوم بإطلاق الشرط، بتقريب: أنّ الشرط لو لم يكن بمنحصر يلزم تقييده، ضرورةَ أنّه لو قارنه أو سبقه أمر آخر لم يؤثّر وحده، وقضيّة إطلاقه تأثيره كذلك مطلقاً.
ففيه: أنّه لا يكاد أن يصحّ إنكار المفهوم مع إطلاقه كذلك، إلّا أنّه لو لم نقل بعدم اتّفاقه لا ريب في ندرة تحقّقه.
وأمّا لو قيل: بأنّ مقتضى إطلاق الشرط تعيّنه كما أنّ مقتضى إطلاق الأمر هو تعيّن الوجوب.
فيدفع: بأنّ الواجب التعييني هو الواجب الّذي تعلّق به الوجوب معيّناً من غير أن يكون له عدل، بخلاف التخييري فإنّ الوجوب يتعلّق فيه بأحد الشيئين أو الأشياء على سبيل الترديد، فلا مانع من التمسّك بالإطلاق لإثبات الواجب التعييني؛ لأنّه ليس له عدل، وما له العدل محتاج إلى زيادة مؤونة. وهذا بخلاف الشرط، فإنّه - واحداً كان أم متعدّداً - يكون دخله في المشروط على نحو واحد، ولا تتفاوت الحال فيه
ص: 305
ثبوتاً حتى يقال بتفاوته إثباتاً. واحتياج ما إذا كان الشرط متعدّداً إنّما يكون لبيان تعدّده لا لبيان نحو تأثيره في المشروط، فحيث كانت القضية مسوقة لبيان الشرطية من غير إهمال ولا إجمال لا تتفاوت نسبة إطلاق الشرط إلى المشروط، كان هناك شرط آخر أم لا؟ بخلاف إطلاق الأمر، فإنّه لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني فلا محالة يكون في مقام الإهمال والإجمال.((1)) هذا حاصل ما أفاده في الكفاية.
ويمكن أن يزاد على هذه الوجوه الخمسة الّتي أجاب عنها(قدس سره) وجهاً سادساً، وهو: ما أوردناه عليه في مجلس بحثه: بأنّ الشرط إمّا يكون مؤثّراً في المشروط بشخصه وخصوصيته؛ وإمّا أن لا يكون مؤثّراً كذلك، بل بما أنّه أحد مصاديق العلّة، ويكون مؤثّراً فيه من جهة أنّه واجد لما هو الجامع بينه وبين سائر مصاديقها فيؤثّر بهذه الجهة، وظاهر اختصاص هذا الشرط بالذكر أنّه هو المؤثّر في وجود المشروط، ويكون علّة له بشخصه وخصوصيته، فانتفاؤه يكون مستلزماً لانتفاء المشروط، ولا نعني بالمفهوم إلّا هذا.
وقد أجاب عنّا: بأنّ التفطّن بهذا لا يحصل إلّا بعد إعمال التأمّل والدقّة العقلية، وهذا لا يساعده ابتناء المحاورات على العرفيات.
ص: 306
ص: 307
إذا قال: «أوقفت مالي (أو وقفت مالي) على أولادي الفقراء (أو إن كانوا فقراء)» فهل يصحّ أن يقال فيه بالمفهوم أو لا؟
الظاهر: أنّ الوقف حيث تكون حقيقته حفظ العين وإبقاءه على عنوان أو أشخاص، بحيث يدرّ على المعنون، ووجوده يتحقّق بإنشاء الواقف وإيجابه، فإذا قال: «أوفقتُ مالي على أولادي إن كانوا فقراء» جعل العين على أولاده معلّقاً على هذا الشرط، ففي صورة انتفاء الشرط لا يصحّ أن يقال بانتفاء المشروط وهو وقف هذا المال على أولاده؛ لأنّ عدم تعلّق الوقف بهم لو لم يكونوا فقراء ليس من جهة المفهوم ودلالة قوله: «أوقفت... إلخ» على الانتفاء عند الانتفاء، بل انتفاء الحكم عن غير هذا المورد إنّما يكون لأجل أنّ إيجاد الواقف وإنشاءه لم يتعلّق بالعين إلّا بشرط كونهم فقراء وعدم تعلّق إنشائه بغير هذا المورد.
والحاصل: أنّه لا يصحّ في الإنشائيات والإيجاديات القول بالمفهوم؛ لأنّنا ندور فيها مدار الإنشاء والإيجاد، فبعد العلم بأنّ الإنشاء والإيجاد لم يتعلّق بغير هذا المورد وأنّ تعلّقه بغيره يحتاج إلى إنشاء يخصّ به، لا يصحّ أن يقال بأنّ قوله: «إن جاءك زيد فأكرمه» إذا كان في مقام الإنشاء لا الإخبار يفيد المفهوم على القول به؛ لأنّ إيجاد الوجوب وإنشاءه لم يتعلّق بإكرامه إلّا بشرط مجيئه، فعدم وجوب إكرامه على تقدير
ص: 308
عدم مجيئه ولو تخصّص بخصوصية اُخرى لا يكون من باب المفهوم، بل من جهة عدم تعلّق الإنشاء إليه وعدم كون غير هذا الشخص من وجوب الإكرام.
نعم، لا مانع من القول بالمفهوم في الإخباريات كما لو قال: «إذا جاء زيد يجب إكرامه»؛ وفي الإنشاءات الإرشادية مثل ما هو الغالب في أوامر الأنبياء والأئمّة - صلوات الله عليهم - وأوامر العلماء، حيث إنّهم إذا كانوا في مقام بيان الأحكام لا يأمرون مولوية بل يرشدون الناس إلى أحكام الله تعالى. ففي مثل هذه الموارد لا مانع من جريان نزاع المفهوم كما لا يخفى، فتدبّر واغتنم.((1))
ص: 309
لا يخفى عليك: أن على القول بالمفهوم ليس معناه انتفاء سنخ الحكم كما ذهب إليه الشيخ(رحمه الله)((1)) ومن تأخّر عنه؛((2)) لأنّ الجزاء المعلّق على الشرط لا يكون إلّا جزئياً، كالوجوب المعلّق على المجيء، فبانتفاء الشرط لا ينتفي إلّا ذلك الحكم المنشأ في هذا الظرف. فكما أنّ بانتفاء هذا الشرط لا يصحّ أن يقال بانتفاء وجوب إكرام عمرو ووجوب إكرام خالد، لا يصحّ أيضاً أن يقال بانتفاء نوع الحكم المعلّق على الشرط.
فلا معنى لما أفاد في الكفاية بأنّ المعلّق على الشرط هو نوع الوجوب.((3))
لأنّ النوع يمتنع أن يوجد من غير أن يتشخّص بالخصوصيات المفردة، فلا يصحّ أن يتعلّق به الإنشاء والإيجاد.((4))
ص: 310
ثم إنّه لا يخفى عليك: ما في عبارة التقريرات من أنّ انتفاء شخص الحكم لازم ارتفاع الكلام الدالّ على الإنشاء.((1))
لأنّ لازم هذا الكلام وحاصله: أنّ الحكم بشخصه ينتفي بمجرّد تمامية كلام المتکلّم؛ لأنّه من الموجودات غير القارّة. وبطلان هذا واضح؛ لأنّ بقاء الحكم ليس وجوده دائراً مدار بقاء الكلام، بل الحكم ينتزع من كلام المتکلّم وله بقاء في عالم الاعتبار إلى أن يسقط بالامتثال أو العصيان أو ذهاب موضوعه، فتأمّل جيّداً.
ص: 311
مثال ذلك: «إذا خفي عليك جدران البلد فقصِّر»،((1)) و«إذا خفي عليك أذان المصر فقصِّر». فقيل برفع اليد عن المفهوم في كليهما.
وقيل بتخصيص مفهوم کلّ منهما بمنطوق الآخر، فينتفي وجوب القصر عند انتفائهما، بخلاف الوجه الأوّل فإنّه ليس لهما دلالة على عدم دخالة شيء ثالث في الجزاء لإلغاء مفهومهما رأساً.
وقيل بتقييد إطلاق الشرط في کلّ منهما بالآخر، حتى يكون الشرط هو خفاء الأذان والجدران معاً، فلا يجب القصر عند انتفاء خفاء أحدهما، ويجب عند وجود كليهما.
وقيل بأنّ الشرط هو القدر المشترك وما هو الجامع بينهما.
ولا يخفى: أنّ رفع اليد عن مفهوم کلّ منهما - كما في الوجه الأوّل - خلاف الظاهر في مثل هذا المقام الّذي تكون القرينة لوجود المفهوم في الجملة موجودة ولو لم نقل بالمفهوم في الجملة الشرطية أصلاً.
وأمّا الوجه الثاني: فتخصيص المفهوم بالمنطوق بعيد من جهة أنّ المفهوم يستفاد من دلالة التكلّم على مسلك القدماء أو من دلالة الجملة الشرطية على العلّية المنحصرة
ص: 312
على مذهب المتأخّرين. وعلى کلّ حال، فلا يكون مفاد المفهوم مثل العموم حتى يمكن أن يقال بتخصيص الإرادة الاستعمالية وعدم تعلّق الإرادة الجدّية بالعموم.
وأمّا الوجه الثالث: فهو أيضاً خلاف الظاهر.
ولا يبعد أن يقال بأنّ الوجه هو الرابع، كما لا يخفى.
ص: 313
إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء - سواء كان الشرط من جنس واحد، كما لو قال: كلّما نمت فتوضّأ، أو كلّما بلت فتوضّأ؛ أو لم يكن من جنس واحد بل كان مختلفاً، كما إذا قال: إذا نمت فتوضّأ، وإذا بلت فتوضأ، ممّا يكون الظاهر فيه حدوث الجزاء، وهو الوجوب المتعلّق بطبيعة عند وجود الشرط - فهل اللازم لزوم الإتيان بالجزاء متعدّداً((1)) أو لا؟((2)) فيه أقوال. وقبل الخوض في الكلام ينبغي تحرير محلّ النزاع.
إنّ تمام الاختلاف يرجع إلى أنّ تعدّد الشرط هل يكون موجباً لتعدّد التكليف أو لا يوجب إلّا تكليفاً واحداً؟ فإتيان المكلّف بالفعل ثانياً يكون عزيمة. وعلى الأوّل، فهل يجب الإتيان بما هو قضيّة كلّ جزاء على حدّة، أو يكفي إتيان فعل واحد؟ لو قلنا بأنّه لا مانع من اجتماع الوجوبين في محلّ واحد بعنوانين مختلفين، فلو أتى المكلّف بفعل
ص: 314
واحد بقصد امتثال الجميع يجزيه عن الجميع. ولو أتى بأفعال متعدّدة بقصد امتثال الأوامر المتوجّهة إليه في کلّ جزاء لا مانع منه.
ويعبّر عن الاختلاف الأوّل بأنّ الأصل، أي ظاهر القضیّة، هل يقتضي تداخل الأسباب أو لا؟
وعن الثاني بأنّ الأصل هل يقتضي تداخل المسبّبات أو لا؟
ولا يخفى: أنّه لا مساس لهذه المسألة بالمسألة السابقة كما توهّم في الكفاية؛ لأنّ البحث والاختلاف في المسألة السابقة فيما إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء مع العلم بعدم تعدّد الجزاء، بخلاف هذه المسالة.
وأيضاً محلّ البحث فيما نحن فيه يكون فيما إذا كان الشرط بحسب ظاهر القضیّة سبباً لتعلّق التكليف بالمكلّف، بخلاف المسألة السابقة فإنّ تعلّق التكليف الصلاتي بالمكلّف فيما إذا قال: إذا خفي الأذان... وإذا خفي الجدران... مفروغ منه وإنّما يبيَّن بهما حدّ الانتقال من التمام إلى القصر.
هذا، مضافاً إلى ابتناء المسألة السابقة على ظهور الجملة الشرطية في المفهوم، وعدم ابتناء مسألتنا هذه عليه أصلاً. فلا مساس لکلّ واحدة منهما بالاُخرى.
إنّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) قد اختار مذهب المشهور، وهو: عدم التداخل. واستدلّ عليه بأنّ ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه أو بكشفه عن سببه، وذلك يقتضي حدوث الجزاء عند حدوث کلّ من الشرطين.
ولا ريب أنّه مع القول بكون حقيقة واحدة مثل الوضوء بما هي واحدة في مثل: إذا بلت فتوضّأ وإذا نمت فتوضّأ أو فيما إذا نام مكرّراً لا يمكن أن تكون محكومة
ص: 315
بحكمين متماثلين، يكون مقتضى هذا الظهور فيما إذا تعدّد الشرط كما في المثال هو وجوب الوضوء بکلّ شرط غير ما وجب بالآخر. ولا ضير في كون فرد محكوماً بحكم فرد آخر، وإلّا يلزم رفع اليد عن هذا الظهور.
لا يقال: تقدير تعدّد الفرد ينافي إطلاق الجزاء؛ لأنّ إطلاقه يقضي بوجوب الإتيان بمجرّد وجود الطبيعة من غير تقييد ولو قلنا بأنّ متعلّق الوجوب في کلّ من الجزاءين يكون فرداً من الطبيعة غير ما هو متعلّق الوجوب في الجزاء الآخر، يوجب تقييد إطلاق الجزاء.
فإنّه يقال: إنّ ظهور الجملة في كون الشرط سبباً أو كاشفاً عن السبب يقتضي ذلك، أي تعدّد الفرد، فيكون بياناً لما هو المراد من إطلاق الجزاء.
ولا دور بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء وظهور إطلاق الجزاء؛ لأنّ ظهور الإطلاق يكون معلّقاً على عدم البيان، وظهور الجملة فيما ذكر صالح لأن يكون بياناً، فلا ظهور له مع ظهورها.((1))
ثم اعلم: أنّ الشيخ(قدس سره) قد استدلّ على هذا المذهب بظهور الجملة الشرطية في سببية الشرط للجزاء وعلّيته له، ومقتضى ذلك كون کلّ علّةٍ علّةً لمعلول مستقلّ.
وبعبارة اُخرى: ظهور الجملة الشرطية في مسبّبية الجزاء للشرط يقتضي كون الجزاء المسبّب معلولاً له بخصوصه، ولازم ذلك كون متعلّق الوجوب في کلّ من الشرطين فرداً من الطبيعة غير الفرد الّذي يكون متعلّق الوجوب في الآخر.((2))
ولا يخفى: أنّ ما أفاد في الكفاية مأخوذ عمّا أفاده الشيخ(رحمه الله) مع تفاوت يسير؛ لأنّ
ص: 316
الشيخ(رحمه الله) استدل بظهور الجملة في علّية الشرط ومعلولية الجزاء، والمحقق الخراساني(رحمه الله) استدلّ بظهورها في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط.
والفرق بين التقريبين: أنّه على ما أفاده في الكفاية إذا قارن وجود أحد الشرطين مع الآخر لا مانع من وحدة الجزاء، ولا يكون هذا رفع اليد عن الظهور؛ لأنّه لا دلالة للجملة - بناءً على ما أفاده - على طلب حدوث کلّ من الشرطين حدوث الجزاء مستقلّا ولو في صورة مقارنة الشرطين، بل إنّما تدل على لزوم حدوث الجزاء عند حدوث الشرط قارن معه شرط آخر أم لا.
وهذا بخلاف ما أفاده الشيخ(رحمه الله)؛ فإنّ مقتضاه حدوث الجزاء مستقلّا عند حدوث کلّ من الشرطين مطلقاً، هذا.
ولا يخفى عليك: أنّ ما أفاده الشيخ(قدس سره) في ضمن كلماته، كما في التقريرات، من أنّ متعلّق الجزاء إذا كان واحداً نوعياً كالوضوء وقلنا بأخذ الوحدة النوعية في الموضوع له، لا يكون قابلاً للتعدّد فلا يتحمّل وجوبين؛ إذ لا فرق في امتناع اجتماع الأمثال بين أن تكون الوحدة شخصية أو نوعية، فعند تعدّد الأسباب لا دليل على تعدّد الآثار والتكاليف، لعدم صلاحية الفعل المتعلّق للتكليف المدلول عليه باللفظ المأخوذ في الجزاء للتعدّد.((1))
ثم منع(قدس سره) دخالة الوحدة النوعية في الموضوع له؛ لأنّ ما هو الموضوع له ليس إلّا نفس الماهية الخارجة عنها الوحدة.((2))
فليس ما أفاده في محلّه؛ لأنّ الواحد النوعي صالح للتعدّد.
ص: 317
وكذا ما أفاد في الجواب عمّا أفاده المحقّق النراقي(رحمه الله) - من أنّ الأسباب الشرعية علل للأحكام المتعلّقة بأفعال المكلّف لا لنفس الأفعال، فتعدّد الأسباب لا يوجب تعدّد المسبّبات وهو الوجوب. ولا دلالة لتعدّد الوجوب على وجوب إيجاد الفعل متعدّداً، لإمكان تعلّق الفردين من حكم بفعل واحد كما في الإفطار بالحرام في نهار شهر رمضان وقتل زيد القاتل المرتدّ - من أنّ المسبّب هو اشتغال الذمّة ولا مانع من قبول الاشتغال للتعدّد؛ لأنّه تابع لقبول الفعل المتعلّق له، فإذا كان الفعل ممّا يقبل التعدّد فالاشتغال به أيضاً يقبل التعدّد.
ليس في محلّه أيضاً؛ لأنّ المسبّب ليس اشتغال الذمّة، بل هو أمر ينتزع من تعلّق التكليف بالمكلّف، كما هو واضح.
هذا، والّذي ينبغي أن يقال في أصل استدلال الشيخ وصاحب الكفاية(قدس سره): إنّه بعد هذه الإفادات، إنّا لم نتعقّل معنىً صحيحاً لتقييد الجزاء ولم يمكن لنا تصوّره؛ لأنّ متعلّق الوجوب إمّا أن يكون في إحدى الجملتين نفس الطبيعة مطلقة ومن غير تقييد، فما معنى تقييد متعلّق الآخر؟ وإن قيل: إنّه مقيّد بما هو غير متعلّق الآخر، فلا يفهم معنى صحيح لتقييد فرد من الطبيعة بكونه غير تلك الطبيعة.
وإمّا أن يكون متعلّق الوجوب فيما يوجد سببه أوّلاً هو فرد من الطبيعة وفي الآخر ما كان غير هذا الفرد، ففيه: أنّه لا يكون في جميع الموارد وجود سبب المقيّد مسبوقاً بوجود سبب غير المقيّد، بل تارة يكون هذا مسبوقاً واُخرى ذاك.
وهكذا الكلام لو قلنا بأنّ كلّا من المتعلّقين مقيّد بأن يكون غير الآخر.
ويمكن أن يكون هذا وجه ما قال بعض الأعاظم من أنّ الشرط إنّما هو سبب للأفعال لا للأحكام، وأمّا الحكم فيجيء من قبل اقتضاء السببية لهذا الفعل.
ص: 318
ولكن هذا غير حاسم لمادّة الإشكال، لأنّ ظاهر القضیّة كون الشرط سبباً للحكم للأفعال.((1))
ص: 319
لا يخفى: أنّه يجب تطابق المفهوم مع المنطوق في تمام القيود المعتبرة في الكلام والإعتبارات اللاحقة إلّا في النفي والإثبات، كما هو واضح لا ريب فيه.
وإنّما الإشكال فيما إذا كان المأخوذ في المنطوق عامّاً استغراقياً، كقولك: «إن جاءك زيد فأكرم العلماء» فهل يكون مفهومه عدم وجوب إكرام کلّ فرد من العلماء في ظرف عدم المجيء، أو عدم وجوب إكرام الجميع؟ فلو دلّ على وجوب إكرام بعضهم لا يعارضه المفهوم.
وبعبارة اُخرى: المفهوم هو عموم السلب أو سلب العموم؟
ولا فرق في ذلك بين أن يكون مفاد المنطوق القضیّة الموجبة أو الشرطية السالبة، كقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «إذا کان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»،((1)) فهل يكون مفهومه أنّه إذا لم يكن قدر كرّ ينجسّه کلّ شيء من النجاسات. أو أنّ مفهومه أنّه إذا لم يكن كراً ينجسّه شيء منها؟ يمكن أن يقال: إنّ الوجه الثاني هو ما يفهم العرف من هذه القضیّة دون الأوّل. فالحقّ ما اختاره الشيخ المحقّق صاحب الحاشية((2)) وإن خالفه المحقّق الأنصاري((3)) قدّس الله سرّهما.
ص: 320
قد ظهر ممّا ذكرنا سابقاً أنّ ما هو ملاك أخذ المفهوم عند القائل به من القدماء: اشتمال الكلام على قيد زائد من جهة أ