نساء فی عصر الامام الحسن علیه السلام

اشارة

نساء في عصر الإمام الحسن (علیه السلام)/ تألیف الدكتورة بیان عبید العریض؛ مراجعة شعبة الدراسات والنشرات.– الطبعة الاولی.– كربلاء: قسم الشؤون الفكریة والثقافیة فی العتبة العباسیة المقدسة، 1436ه- / 2015252صفحة؛ 24 سم

تعداد صفحات: 252ص

زبان: عربی

المصادر: ص. 243- 248؛ وكذلك فی الحاشیة.

1.الحسن بن علي المجتبی (علیه السلام) الإمام الثاني، 3- 50 ه-. 2. النساء المسلمات- عصر صدر الإسلام --تراجم. ألف. العتبة العباسیة المقدسة قسم الشؤون الفكریة والثقافیة. شعبة الدراسات والنشرات. ب. العنوان.

Bp193.12.A3 A7 2015

الفهرسة والتصنیف في مكتبة العتبة العباسیة المقدسة

الكتاب: نساء في عصر الإمام الحسن (علیه السلام).

الكاتب: د. بیان عبید العریض.

الناشر: قسم الشؤون الفكریة والثقافیة في العتبة العباسیة المقدسة.

مراجعة: شعبة الدراسات والنشرات.

التدقیق اللغوي: مصطفی كامل محمود.

الإخراج الطباعي والتصمیم: علاء سعید الأسدي - محمد قاسم النصراوي.

رقم التسجیل في دار الكتب والوثائق في بغداد 2902 لعام 2014م.

المطبعة:

الطبعة: الأولی.

عدد النسخ: 2000.

ربیع الثاني 1436- كانون الثاني 2015

ص: 1

اشارة

نساء في عصر الإمام الحسن (علیه السلام)

تألیف الدكتورة بیان عبید العریض

ص: 2

مقدمة الناشر

الحمد لله حمداً كثیراً علی جمیع نِعَمه وله الشكر سبحانه وتعالی علی ما فضّل به المؤمنین باتباعهم لرسوله الكریم وأهل بیته المعصومین، فقال سبحانه وتعالی:«إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» فکانوا هم الهادین و ورثة المبعوث رحمة للعالمین، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهیراً و جعلهم حجته علی خلقه ومکمن علمه ومفتاح رحمته و«خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» علیهم أفضل الصلاة وأتم التسلیم.

أما بعد..

ما زال قسم الشؤون الفکریة والثقافیة في العتبة العباسیة المقدسة یساهم في نشر التراث الإسلامي الخالد الذي یستسقیه من مناهل أهل بیت النبوة(صلی الله علیه وآله)، لیرتشف القارئ العزیز من هذا المعین الصافي، فمن هذا البیت النوراني شعث انوار الهدایة بفیض کریم أهل البیت الإمام الحسن بن علي المجتبی(صلوات الله و سلامه علیه)، ریحانة المصطفی(صلی الله علیه وآله) و رابع أهل الکساء، وسید شباب أهل الجنة علیه من الله أفضل الصلاة والسلام.

فکان الشرف الأسمی لما أبدعته یراعات کتّاب وباحثین کتبوا عن تراث إمامنا المجتبی (علیه السلام) من اللذین فازوا بالمراتب الخمس الأولی في مهرجان ولادة الإمام الحسن المجتبی (علیه السلام) لعام 1434 للهجرة النبویة المبارکة والموافق لعام 2013م، التي حملت العناوین التالیة:

ص: 3

1. الحسن بن علي (علیه السلام) الإمامة المنسیة للمؤلف صالح الطائی.

2. دراسات في الفکر التربوي عند الإمام الحسن (علیه السلام) للمؤلف الاستاذ یوسف مدن.

3. الإنسانيّة المثالیّة عند الحسن بن علي علیهما السلام دراسة تحلیلیّة في تراثه. للمؤلف الدکتور رحیم کریم علي الشّرِیفيّ.

4. تنزیه الإمام الحسن و محاکمة النصوص للمؤلف منذر کاظم آل هریبد.

5. صلح الإمام الحسن (علیه السلام) في فکر المستشرقین للمؤلف کریم جهاد الحسّاني.ثم اردفت بمجموعة طیبة أخری من الأنامل التي أبدعت البحوث القیّمة فکانت ثلاثة مؤلفات فائزه في المسابقة لعام 1435 للهجرة النبویة المبارکة والموافق لعام 2014م، وهي:

1. الإمام الحسن بن علی (علیهما السلام) السبط المجتبی: للمؤلف زهیر السید طالب الأعرجي.

2. الحسنیات ما قیل في السبط الأکبر من شعر: للمؤلف السید محمد المعلم.

3. الحسن (علیه السلام) والنساء: للمؤلفة د. بیان عبید العریض.

ص: 4

و للمساهمة في نشر رسالة الإسلام المحمدي الخالد متمثلاً بتراث الإمام السبط المجتبی (علیه السلام)، ومن برکات راعي الجود والفضل قمر الهواشم العباس بن علي (علیهما السلام)، نقدّم بین یدي القارئ العزیز هذه المساهمة لإحیاء أمر أهل بیت الرحمة (علیهم السلام) کما أُمرنا، روي عن الإمام الرضا (علیه السلام): انه قال: «رحم الله عبدا أحیا أمرنا، فقیل له: «فکیف یحیي أمرکم؟،«قال (علیه السلام): یتعلم علومنا و یعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن کلامنا لاتبعونا»(1).

ونسأل الله تعالی ان یتقبل هذا العمل بقبول حسن، انّه کریم مجیب.

والحمد لله رب العالمین وصلی الله تعالی علی خیر خلقه محمد وآله الطاهرین.

الناشر

قسم الشؤون الفکریة والثقافیة في العتبة العباسیة

ص: 5


1- معاني الأخبار: الشیخ أبوجعفر محمد بن علي بن الحسین بن موسی بن بابویه القمي.

ص: 6

الإهداء

الی... ابن الحبیب المصطفی (صلی الله علیه و آله)الی... ابن علي المرتضی (علیه السلام)

الی... ابن سیدة النساء (علیها السلام)

الی... إمامي الحسن المجتبی (علیه السلام)

أنر صحیفتي یوم اللقاء

بحروف محبتي لریحانة رسول السماء

رهینة مودتکم

ص: 7

ص: 8

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا

سورة الأحزاب: آیة 33

ص: 9

ص: 10

أیها الناس:

من عرفني فقد عرفني، و من لم یعرفني فأنا الحسن بن علي، وأنا ابن النبي، وأنا ابن الوصي، وأنا ابن البشیر، وأنا ابن النذیر، وأنا ابن الداعي الى الله بإذنه و انا ابن السراج المنیر.. و أنا من أهل البیت الذی کان جبریل ینزل إلینا ویصعد من عندنا، وأنا من اهل البیت الذی اذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهیرا، وأنا من أهل البیت الذی افترض الله مودتهم علی کل مسلم فقال تبارک وتعالی لنبیه: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ومَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً»

فاقتراف الحسنة مودتنا اهل البیت...من خطب الإمام الحسن المجتبی علیه السلام

ص: 11

ص: 12

المقدمة

الحمد لله رب العالمین... والحمد حقه کما یستحقه.. أحمده فوق حمد الحامدین وأشکره شکر العابدین التائبین وأستزیده نعماً ومغفرة ورحمة في کل لمحة وطرف عین من الیوم إلی یوم الدین.. الصلاة والسلام زاکیة طیبة علی اشرف خلقه أجمعین...، سید الأکوان وحبیب الباري العظیم سیدنا النبي الکریم محمد بن عبد الله حبیب قلوب المؤمنین وشفیع العارفین لحقه وحق آل بیته النجباء الطیبین من الأولین والآخرین.

أما بعد...

فإن هذا الکتاب یأتی تابعاً لکتاب (علي والنساء) الذي أنجزته بحمد الباري في العام الماضي وقدمته إلی مسابقة الإمام علي (علیه السلام) في العتبة العلويه المقدسة، ولرب قائل یستفهم لم هذا التأکید في ربط الأئمة الأطهار وسیرهم الحیاتیة (بالنساء)...؟

أقول بعد الإتکال علی المنعم المتفضل..

إن سلوکی هذا المسلک المشرف والعطر إنما کان فیضاً من فیوضات مولاتي فاطمة الزهراء (علیها السلام) سیدة نساء العالمین علی شخصي الحقیر الفقیر... بعد أن أرشدت روحي التائهة إلی ضیاء نهج النبوة والإمامة.

إن للنساء دوراً کبیراً مؤثراً ولاینکره عاقل في کل حیاة البشر، ولو تقصینا أثر الأم والأخت والزوجة والإبنة في حیاة العظماء والمشاهیر والصالحین في عموم مراحل البشریة، لوجدناه دوراً فاعلاً ودافعاً إلی الأفضل والأهدی... فما بالک بدور نساء أهل البیت والنبوة في حیاة أئمتنا وسادتنا الکرام...؟ لذا وجدت لزاماً علیّ أن أتحري مواطن

ص: 13

التنویر والإفاضة والمنعة والتسدید التي أسستها تلک النجوم الزاهرات من النساء في حیاة کل إمام.لقد بدأت بالکتابة عن أثر النساء في حیاة سید الأوصیاء مولاي الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) ثم تبعته بجمع المصادر لکتاب الإمام الحسین (علیه السلام) وفي الخاطر یرن صوت تأنیب «لم جاوزت الإمام الحسن (علیه السلام)»...!؟!

فجاء الرد مصححاً خطواتی بتلبیة الدعوة الکریمة من لدن العتبة العباسیة المقدسة للمشارکة في مسابقة الإمام الحسن المجتبی (علیه السلام).. وهکذا کان، حیث أزحت عن منضدتي مصادر کتاب مولای أبی عبد الله مؤقتاً... وقدمت علیها مصادر کتاب الإمام الحسن (علیه السلام) مع استشعاري بأني ظلمت أماميّ (علیهما السلام) حین حاولت الإلتفات کتابة وتناولاً...

مظلومیة الإمام الحسن (علیه السلام) تجلت أمام ناظري وکأنها اکبر من مظلومیة أخیه الإمام الحسین(علیه السلام)!!، کیف لا وأنا أبحث عن المصادر في المکتبات العامة والخاصة، فأعثر علی کتاب عن الإمام الحسن (علیه السلام) من بین عشرات إن لم نقل مئات الکتب عن الإمام الحسین(علیه السلام)...

وإن وجدت مصدراً ما یتناول الإمامین الحسنین معاً، فإنني (ویا للعجب) أجد ربع الصفحة أو نصفها أو بضعة أسطر یتیمات أرخت الإمام الحسن (علیه السلام) مقابل صفحات و صفحات کتبت عن الإمام الحسین(علیه السلام).

هنا أنا أطرح سؤالاً للبحث أمام أنظار المختصین: هل نحن أمام خطة (أمویة معاویة) مدروسة ومحکمة للتضییق والتضلیل ومحو کل أثر من آثار الإمام الحسن في المصادر الأولی؟

أنا لا استبعد وجود هکذا خطة أو توجه ربما استمر حتی الفترة العباسیة... لنجد

ص: 14

أنفسنا الیوم أمام قلة المصادر التي توثق لخط حیاة الإمام الحسن (علیه السلام) وفقرها.

ولکن نعاود القول، إن برکة الزهراء (علیها السلام)، تنیر درب الباحثین لشذرات في حیاة مهجة الزهراء وباکورة فرحتها بالأمومة مولای الحسن (علیه السلام) فیأخذ القلم في استلال خیوط ذهبیة من السیرة المطهرة للإمام من مصادر الأقدمین ک(بحار الأنوار) للمجلسي، أو المعاصرین ک(حیاة الإمام الحسن) للقریشي...وإن کانت معظم المصادر التاریخیة، قد رکضت علی موضوعین أساسیین في تناولها حیاة الإمام الحسن، وهما (صلح الحسن) و(زوجات الحسن)... إلا ان الباحث لا یعجزه أن یقتفي أثر مولاتنا الزهراء کأم ومولاتنا زینب کأخت وغیرها من النساء الخالدات في تکوین شخصیة الإمام من المهد حتی اللحد، مع عدم إغفال الحقیقة المرة من أن المرأة کانت سبباً في رسم بدایة الإمام ونهایته، وشتان ما بین النقطتین..، والمرأتین!

فجاء البحث علی فصول أولها تحت عنوان (الأم فاطمة... أول النساء) وتناولت فیه وجود مولاتنا الطاهرة الزکیة في حیاة الإمام الحسن (علیهما السلام) في سني حیاته الأولی وما لهذه السنوات القصار من أثر عمیق في تشکیل حیاة (الإمام في طفولته)..، وترقب العائلة المحمدیة لمقدمه مع بشارة السماء بإطلالته وتسمیته... وکیف تعاملت (الزهراء) (علیها السلام) حدیثه العهد بالأمومة مع ولیدها الأول في إغنائه روحاً وجسداً وتهیئته رجلاً وإماماً مستقبلیاً.

أما الفصل الثاني فقد سلط الضوء علی دور السیدة زینب الکبری (علیها السلام) في تکملة الدور الذي بدأته أمها في حیاة إمامنا الحسن (علیه السلام)، حیث کانت أم الأحزان علی صغر عمرها، أماً لأخوتها کما کانت الزهراء أماً لأبیها..

وتناول الفصل الثالث شذرات من حیاة نساء أخریات کن علی تماس مع هذه الأسرة ومررن بیومیات حیاة الإمام الحسن (علیه السلام) واحداثها کالسیدة الجلیلة (أم البنین)

ص: 15

لوجودها المبکّر في حیاة الإمام کزوجة لوالده سید الأوصیاء، وکذلک السیدات المؤمنات أم سلمة وأم ایمن وأسماء بنت عمیس وفضة اللواتي طرقن باب بیت فاطمة مراراً وکن علی مقربة منها ومن فلذات کبدها وأولهم سیدنا ومولانا الإمام الحسن (علیه السلام).

وجاء الفصل الأخیر... لیتحدث عن أسوأ الناس في حیاة الإمام وألعنهن عند الله ورسوله وملائکته ألا وهي الزوجة الشقیة التي سقت مولانا السم فأنهت حیاته شهیداً مغدوراً ومحتسباً عند الباري عز وجل... فکانت مثالاً حیاً للغدر والإثم العظیم. مع وجود لزوجات أخریات في حیاة الإمام الحسن (علیه السلام) کن عنواناً للرفعة والشرف والعفة والإیمان ومنحن سید شباب أهل الجنة امتداده الطبیعي من أبناء وبنات طیبین کانوا خیر خلف لخیر سلف.وختاماً... أقول، علی سعة امتناني بفکرة أن أسطر أحرف عن حیاة إمامي الحسن (علیه السلام)، بإنجاز هذه الصفحات المتواضعات، إلا أني أعترف بتقصیري وضعف همتي وعجز قلمي عن الإتیان بما یتواءم و سمو الشخصیة الآلقة والزکیة للإمام الحسن بن علي (علیهما السلام)... وعذری أنني حاولت... داعیة إلی الخالق العظیم أن یزیح عن سجل خطایاي بمقدار أحرف هذا الکتاب فهو المطلع علی النوایا وما تنطوي علیه السرائر وإني أشهده تعالی وأشهد ملائکته وأهل بیت نبیه.. أني أحبهم... وصلی الله علی محمد وآله أجمعین.

الباحثة

العبدة الفقیرة إلی الله

بغداد 1 صفر المظفر 1435ه-

ص: 16

الفصل الأول: الأم فاطمة (علیها السلام) ... أول النساء

اشارة

* زهرة الحسن (علیه السلام)… فی أحضان الزهراء

* الحسن و الزهراء (علیهما السلام) ... والأسوة الحسنة

* فراق وجه الحبیبة

ص: 17

ص: 18

المبحث الأول: زهرة الحسن (علیه السلام)

في سني الحیاة الأولی.. یكون الإنسان أسیر ظروف بیئته، في أي محیط یكون الخالق العظیم قد أوجده، وأي توفیق یرید أن یغدقه علیه...، فهو في نعمة أن توفرت له عائلة كریمة وأبوان حنینان، وأسرة كریمة المحتد، وجو إیماني تتجسد فیه عوامل الرحمة والتعاطف والألفة.

یضاف إلی كل ما سبق، نعمة أن یمنح الباري عز وجل للمولود الجدید أماً تنطوي حنایاها علی معاني العفة والرأفة والحنو وابسط معاني الأمومة المتعارف علیها إجماعاً، لیغدو الطفل عنوان مستقبل یعتد به و یعول علیه.من هنا نصبح أكثر قدرة علی استیعاب وتصور ما حبی العزیز الجلیل الإمام الحسن ابن علي (علیهما السلام) من نعم ربانیة جزیلة وافرة في خلقه وإنباته ولیداً مباركاً في اشرف خلیة اجتماعیة وإنسانیة وجدت علی وجه البسیطة، فقد مثلت الصدیقة الزهراء(علیها السلام) أشرف وأرفع ما في المرأة من إنسانیة وصون وكرامة وقداسة ورعایة وعنایة، بالإضافة إلی ما کانت علیه من ذکاء ووقار وفطنة حادة وعلم واسع(1)، لتكون البیئة النقیة التقیة الأولی لاحتضان بذرة النبوة البكر، وكفاها فخراً أنها قد تربت في مدرسة النبوة وتخرجت من

ص: 19


1- اعلام الهدایة، فاطمة الزهراء علیها السلام (سیدة النساء)، المجمع العالمي لأهل البیت، مرکز الطباعة والنشر مطبعة لیلی، ط1، 1422ه- ، قم المقدسة، ص33.

معهد الرسالة وتلقت عن أبیها الرسول الأمین (صلی الله علیه وآله) ما تلقاه عن رب العالمین(1).

ففي سنوات السبع والنصف أو الثماني الأولی من عمر الحسن (علیه السلام) المبارك كانت قد استأثرت بها والدته الزهراء (علیها السلام)، اضافة الی اهتمام أبوي ورعایة و حرص ممیز من لدن النبي محمد(صلی الله علیه وآله) والأمام علي (علیه السلام) ...، فلقد عاش في كنف الزوجین الانموزجیین في الأسلام، اللذین صار المثل الأعلی للأخلاق الأسلامیة السامیة بفضل دعاء النبی (صلی الله علیه وآله) فی لیلة الزفاف ووصایاه المقدسة لهما(2).

ومن المتعارف علیه أن الطفل الأول في الأسرة قدوماً یصبح ک(حقل تجارب) یطبق فیه فنون المعاملة الأسریة، لیحظی بأفضل فرصة تنشئة تربویة ممكنة...، إلا بیت النبوة.. فإن الطفل الأول فیها قد أعدت لتربیته خطة ربانیة محكمة الأبعاد، بعیدة الآفاق، وعمیقة الأثر، فجبرئیل (علیه السلام) قد بشر بالمولود والنبي هیّأ الأجواء لمقدمه، والأم قد تعلمت في دار أبویها ما لم تتعلمه طفلة ومن ثم إمرأة غیرها.

فعندما زوج النبي(صلی الله علیه وآله) النور من النور تنفیذاً للأمر الإلهي(3) كان أمر بیت فاطمة یشغله، فما كان لرسول الله من صبر علی الإبتعاد عن قرة عینه الزهراء ولو

ص: 20


1- اعلام الهدایة، فاطمة الزهراء علیها السلام (سیدة النساء 3-، المجمع العالمي لأهل البیت، مرکز الطباعة والنشر مطبعة لیلی، ط1، 1422ه- ، قم المقدسة، ص33.
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، تحقیق وتعلیق محمود دیاب، دار المعارف للمطبوعات، بیروت لبنان، ط1، 1421ه- 2001م، 43/117، 132.
3- علي الکوراني، جواهر التاریخ، السیرة النبویة عند أهل البیت(علیهم السلام) المجلد الأول، مطبعة باقیات، ط1، 1430ه-، ص601. وفي خبر طویل بإسناده إلی أم أیمن عن النبي(صلی الله علیه وآله): وعقد جبرائیل ومیکائیل في السماء نکاح علي وفاطمة. فکان جبرائیل المتکلم عن علي ومیکائیل الراد عني. ومن تاریخ بغداد بإسناده الی إبن عباس قال: لما زفت فاطمة (علیها السلام) إلی علي (علیه السلام) کان النبي (صلی الله علیه وآله) قدامها و جبریل عن یمینها ومیکائیل عن یسارها وسبعون ألف ملک خلفها یسبحون لله ویقدسونه حتی طلع الفجر: نقلاً عن المجلسي، بحار الأنوار، 18/ص71.

بضع خطوات، لذا نجد أن النبي محمد(صلی الله علیه وآله) كان یهیئ لبیت الإمامة قبل إطلالة الإمام الحسن (علیه السلام) علی الوجود...، وهذا القرب في السكن لم یكن اختیاراً ذاتیاً، وإنما كان بأمر الله تعالی وعنایته، وبأمر رسول الله وتدبیره(1).

وكان النبي(صلی الله علیه وآله) یولي هذا الموضوع اهتماماً كبیراً، فلقد نقل عن ابن مسعود عن النبي(صلی الله علیه وآله) أنه قال: «إن الله تبارك وتعالی أمرنی أن أزوج فاطمة من علي»(2).

وغمرت الفرحة بیت النبي بهذا الزواج وهذا القرب من حبیبه (فاطمة وعلي) وأثمر هذا العقد الإلهي بعد فترة من الزمن شبلاً لیس علی وجه الأرض مثیلاً له حیث حلت نبوة السماء مرة أخری بهذه الأسرة الفریدة، عندما هنَّأت السماء النبي محمد(صلی الله علیه وآله) بمقدم ولده الإمام الحسن، فأخذ الرسول الأعظم(صلی الله علیه وآله) یبشر بأن المولود غلام قد احتفت به السماء قبل الأرض.

عن برة ابنة أمیة الخزاعي أنها قالت: لما حملت فاطمة (علیها السلام) بالحسن خرج النبي(صلی الله علیه وآله) في بعض وجوهه فقال لها«أنك ستلدین غلاماً قد هنأني به جبرئیل، فلا ترضعیه حتی أصیر إلیك»(3)

ص: 21


1- کاظم النقیب، أئمتنا قادة وهداة/ الإمام الأول أمیر المؤمنین علي ابن أبي طالب (علیه السلام) الفکر الإسلامي للطباعة والنشر والتوزیع، ط2، 1433ه- 2012م، لبنان بیروت، ص115 . جاء في أعیان الشیعة: 1/381: «اختلف فی سنة تزویج علي بفاطمة (علیهما السلام) فقیل بعد الهجرة بسنة، وقیل بسنتین وقیل بثلاث، وقال ابن الأثیر : قیل أن علي بن أبي طالب بنی بفاطمة علی رأس اثنین وعشرین شهراً من الهجرة، وروی ابن سعد في الطبقات أن تزویجهُ بها کان بعد مقدم النبي (صلی الله علیه وآله) بخمسة أشهر».
2- محمد بحر العلوم، ثلاث نساء في سماء العقیدة، دار زاید للنشر، ط3، 2006م، لندن، ص75. نقلاً عن: أبي حجر الهیثمي الصواعق المحرقة: 107.
3- أعلام الهدایة، الإمام الحسن المجتبی (علیه السلام)، المجمع العالمي لأهل البیت، مطبعة لیلی، ط1، قم المقدسة، 1422ه-، ص54. نقلاً عن بحار الأنوار: 43/ 54 والمناقب: 3/ 50.

أن البیت الذي كانت السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تسكن وتعیش فیه كان محاطاً بالقداسة والروحانیة والنور، كان ذلك البیت مبنیاً بمواد الإحترام والتقدیر، والتجلیل، والتبجیل، یعرف حق ذلك البیت كل من یعرف حق فاطمة وأبیها وبعلها وبنیها.وقد رویت الأحادیث في كرامة (بیت فاطمة) حیث روی العلامة المجلسي عن أنس بن مالك وعن بریدة قال: قرأ رسول الله(صلی الله علیه وآله): «)فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ((1)، فقام رجل قال: أی بیوت هذه یا رسول الله؟ فقال بیوت الأنبیاء، فقام الیه أبوبكر فقال یا رسول الله! هذا البیت منها؟ وأشار إلی بیت علي وفاطمة، قال: نعم، من أفضلها!!)(2)

وعن إبن عباس قال: كنت في مسجد رسول الله، وقد قرأ القارئ: )فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ...( فقلت: یا رسول الله! ماالبیوت؟ فقال: «بیوت الانبیاء». وأومأ بیده إلی منزل فاطمة؟(3).

في هكذا بیت إیماني یتنسم عبق النبوة والإمامة. حملت السیدة فاطمة الزهراء بولدها الحسن(علیه السلام)وعمرها 12 سنة(4)،

ومن الطبیعي أن النور یتجلی في وجهها، ویزهر كي یصدق علیها اسم الزهراء، ومن نور النبوة وامتزاجه بنور الوصایة انثبق نور الإمامة في بیت مبارك وشهر مبارك، ففي شهر الله، شهر الصیام كانت ولادة إمامنا الحسن (علیه السلام).

ص: 22


1- سورة النور، آیة 36.
2- محمد کاظم القزوینی، فاطمة (علیها السلام) من المهد إلی اللحد، منشورات الفجر للطباعة والنشر والتوزیع، ط1، العراق لبنان، ص118. وفي نسخة: من أفاضلها، نقلاً عن تفسیر الثعلبي ومنه تفسیر البرهان ج3/ 139.
3- المصدر نفسه، ص119. نقلاً عن کشف الغمة.
4- المجلسي، بحار الأنوار 8، ص168. نقلاً عن: مناقب آل أبی طالب ج3/ ص357 فصل حلیتها وتواریخها (علیها السلام).

لقد اجمعت المصادر علی ولادة الإمام الحسن (علیه السلام) بالمدینة المنورة لیلة النصف من شهر رمضان عام أحد سنة ثلاث من الهجرة و قیل سنة اثنین(1). وذكر المفید أن كنیته أبومحمد ولد بالمدینة، لیلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة وروی ذلك جماعة عن الإمام الصادق (علیه السلام) و كان الحسن (علیه السلام) أشبه الناس برسول الله(صلی الله علیه وآله) خلقاً وهدیاً وسؤدداً(2).وجاء في الکافي أن الإمام الحسن (علیه السلام) ولد في شهر رمضان في سنة بدر سنة اثنتین بعد الهجرة وروی أنه ولد في سنة ثلاث للهجرة واستشهد (علیه السلام) في شهر صفر. و فی التهذیب أنه ولد فی شهر رمضان سنة اثنتین من الهجرة، وکذا قول الکفعمي أنه ولد في المدینة یوم الثلاثاء منتصف شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة واستشهد یوم الخمیس السابع من صفر سنة 50 من الهجرة(3).

وفي أمالي الصدوق ص197: «عن زید بن علي، عن أبیه علي بن الحسین(علیه السلام) قال: لما ولدت فاطمة (علیها السلام) الحسن قالت لعلي: سمه، فقال: ما کنت لأسبق باسمه رسول الله. فجاء رسول الله(صلی الله علیه وآله) فأخرج إلیه في خرقة صفراء، فقال: ألم أنهکم أن تلفوه في خرقة صفراء! ثم رمی بها وأخذ خرقة بیضاء فلفه فیها، ثم قال لعلي (علیه السلام) هل سمیته! فقال: ماکنت لأسبقک باسمه؟ فقال (صلی الله علیه و آله): وماکنت لأسبق باسمه ربي عز وجل، فأوحی الله تبارک وتعالی إلی جبریل أنه قد ولد لمحمد ابن فأهبط وارآه السلام وهنئه وقل له: إن

ص: 23


1- محمد بن علي بن شهر آشوب السروي المازندراني، مناقب آل ابي طالب، تحقیق یوسف البقاعي، انتشارات ذوي القربی دار الأضواء، ط1، 1421ه- ق/ 1379ه- ش، إیران، ج4/ص33. من فصل تواریخه وأحواله(علیه السلام).
2- الشيخ المفيد، الإرشاد، منشورات المطبعة الحيدرية ومكتبتها في النجف الأشرف، 1381ه-- 1962م، ص187.
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج18/ ص341.

علیاً منک بمنزلة هارون من موسی فسمه باسم ابن هارون...»(1).

وجاء في عیون المعجزات للمرتضی(رحمه الله): «کان مولده بعد مبعث رسول الله بخمسة عشر سنة وأشهر، وولدت فاطمة أبامحمد (علیه السلام) ولها أحد عشر سنة کاملة، وکانت ولادته مثل ولادة جده وأبیه صلی الله علیهما، وکان طاهراً مطهراً یسبح ویهلل في حال ولادته، ویقرأ القرآن علی ما رواه أصحاب الحدیث عن رسول الله(صلی الله علیه وآله) أن جبرئیل ناغاه في مهده وقبض رسول الله(صلی الله علیه وآله) وکان له سبع سنین وشهور»(2).

وفي حدیث متواترعن جابر(3)قال «لما حملت فاطمة (علیها السلام) بالحسن فولدت وقد کان النبي(صلی الله علیه وآله) أمرهم أن یلفوه في خرقة بیضاء فلفوه في صفراء وقالت فاطمة (علیها السلام): یا علي سمه، فقال: ماکنت لأسبق باسمه رسول الله(صلی الله علیه وآله) فجاء النبي(صلی الله علیه وآله) فأخذه قبله وأدخل لسانه في فمه فجعل الحسن(علیه السلام) یمصه، ثم قال لهم رسول الله(صلی الله علیه وآله) ألم أتقدم إلیکم آن تلفوه في خرقة بیضاء؟ فدعابخرقة بیضاء فلفه فیها ورمی الصفراء وأذن في أذنه الیمنی وأقام في الیسری، ثم قال لعلي (علیه السلام) ماسمیته: فقال: ماکنت لأسبقک باسمه، فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله) ماکنت لأسبق ربي باسمه، فأوحی الله جل ذکره إلی جبرئیل(علیه السلام) أنه قد ولد لمحمد ابن فاهبط إلیه فأقرئه مني السلام وهنئه مني ومنک، وقل له: إن علیاً منک بمنزلة هارون من موسی فسمه باسم ابن هارون، فأتی جبرئیل النبي(صلی الله علیه وآله) وهنأه وقال له ماأمره الله تعالی به أن یسمی إبنه باسم ابن هارون، قال: وماکان اسمه، قال: شبر قال: لساني عربي، قال: سمه الحسن، فسماه الحسن(4).

ص: 24


1- علي الکوراني، جواهر التاریخ-المجلد الأول، ص599.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص344.
3- ابن بابویه، معاني الأخبار، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط1، بیروت – لبنان، 1410ه-1990م، ص57.
4- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص171.

وبهذا الإسناد عن الإمام الرضا(علیه السلام) عن آبائه علیهما السلام أنه سمي حسناً یوم السابع واشتق من اسم الحسن حسیناً(1).

و عن الإمام علي بن الحسین(علیهما السلام) قال: إن فاطمة(علیها السلام) عقت عن الحسن والحسین وأعطت القابلة رجل شاة ودیناراً(2).

وعن أسماء بنت عمیس في حدیث طویل مماثل، قالت: فسماه الحسن فلما کان یوم سابعه عقّ النبي(صلی الله علیه وآله) عنه بکبشین أملحین وأعطی القابلة فخذاً ودیناراً وحلق رأسه، وتصدق بوزن الشعر ورقا وطلی بیده المبارکة رأسه بالخلوق ثم قال: یا أسماء الدم فعل الجاهلیة(3).

والخلوق نوع من الطیب یخلط معه زعفران، وقد کان العرب في الجاهلیة یطلون رأس المولود بالدم لحبهم للقتال، ویکون ذلک أول شعارهم علي حسب زعمهم شجاعة المولود، فإنه یغمس بالدماء،... وبما أن الإسلام دین السلام والمحبة لا دین القتل والسیف، فقد غیر رسول الله(صلی الله علیه وآله) هذه السنة المجعولة من قبلهم وجعل بدلها الطیب، فکأنه یقول لهم: إن هذا المولود سیشع طیباً وسلامة وراحة واطمئناناً علی مجتمعه بمجرد ولادته(4).

ص: 25


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص171.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص173. نقلاً عن عیون الأخبار ج2، ص46 باب 32، حدیث 170.
3- مؤمن الشیلنجي، نور الأبصار في مناقب آل النبي المختار، ج1، ذوي القربی، ط1، قم-نجف، ص457. ینظر صحیح الترمذی: 1/ 286، تاریخ الخلفاء: 72.
4- ماجد ناصر الزبیدي، 500 سؤال حول الإمام الحسن (علیه السلام)، دار المحجة البیضاء للطباعة والنشر والتوزیع، ط1، 1430ه- - 2009م، بیروت، ص13؛ وفي بحار الأنوار، 44: 251: «أن العادة في الجاهلیة کانوا یطلون رأس الصبي بالدم، فقال (صلی الله علیه و آله): الدم من فعل الجاهلیة، ونهی أسماء عن فعل ذلک».

وفي حدیث مرفوع إلی علي بن أبي طالب(علیه السلام) قال «لما حضرت ولادة فاطمة قال رسول الله(صلی الله علیه وآله) لأسماء بنت عمیس وأم سلمة)رضی الله عنهما (احضرا فاطمة فإذا وقع ولدها واستهل صارخاً فأذّنا في اذنه الیمنی وأقیما في اذنه الیسری(1)فإنه لا یفعل ذلک مثله إلا عصم من الشیطان، ولا تحدثنا شیئاً حتی آتیکما، فلما ولدت فعلتا ذلک، وأتاه رسول الله(صلی الله علیه وآله) فسره ولباه بریقه وقال «اللهم إني أعیذه بک وذریته من الشیطان الرجیم»(2).

وکان الإمام الحسن(علیه السلام) یشبه رسول الله في الخلقة والخلق وکان النبي(صلی الله علیه وآله) یقول «یا حسن أنت أشبهت خَلقي وخُلقي» والمشهورأنه(علیه السلام) أشبه رسول الله(صلی الله علیه وآله) من الرأس الی الصدر(3).

وقد استحوذ علی محبة جده هو وأخیه الإمام الحسین ویقول «الولد ریحانة وریحانتای من الدنیا الحسن والحسین»(4).

وذکر ابن شهر آشوب صاحب المناقب: عن عمران بن سلمان وعمرو بن ثابت قالا: الحسن والحسین اسمان من أسامي أهل الجنة ولم یکونا في الدنیا.

وعن جابر بن عبد الله قال: قال النبي (صلی الله علیه وآله): «سمی الحسن حسناً لان بإحسان الله قامت السماوات والأرضون، واشتق الحسین من الإحسان، وعلي والحسن اسمان من أسماء الله تعالی والحسین تصغیر الحسن».

ص: 26


1- ینظر: مسند أحمد: 6/ 9، سنن الترمذي: 240، ذخائر العقبی: 120.
2- الشبلنجي، نور الأبصار، ص456.
3- الشیخ محمد مهدي الحائري، معاني السبطین في آحوال الحسن والحسین، صبح الصادق، ط1، ذی القعدة 1425ه-، قم – ایران/ نجف – عراق، ص9.
4- الشیخ محمد مهدي الحائري، شجرة طوبی، ج1: ص30، ط5، محرم الحرام 1385، منشورات المکتبة الحیدریة ومطبعتها - النجف الأشرف.

وحکی أبو الحسین النسّابة: کأن الله عز وجل حجب هذین الاسمین عن الخلق یعني حسناً وحسیناً حتی یسمی بهما ابنا فاطمة(علیها السلام) فإنه لایعرف أن أحداً من العرب تسمی بهما في قدیم الأیام إلی عصرهما.(1)وهکذا تظهر بجلاء قدسیة هذا الخلق المبارک الذي سماه الله عز وجل الحسن وسماه في التوراة شبراً، وأنزل ملائکته للتهنئة بمولده فأینعت أزاهیر المحبة والغبطة والسرور في بیوت النبي والمدینة لمقدمه البهیج.

فکیف أدت مولاتنا الزهراء(علیها السلام) دور الأم والمربیة للإمام الحسن.. باکورة فرحتها بالأمومة وما الذي اقتطفته ذاکرة (الولد–الحسن) في طفولة لم تتعدَ بضع سنین؟

لأنها فاطمة.. ولأنها الزهراء ولأن نورها من نور رسول الله ولأنها روضة الخصال والفضائل التي انزوت عن غیرها من النساء، فمن الصعوبة بمکان أن نحیط بکل لحظات طفولة الإمام الحسن (علیه السلام).

ولکننا نصیب کبد الحقیقة عندما نقول أن الزهراء (علیها السلام) کانت أماً قبل ولادتها للإمام الحسن(علیه السلام) فهی أم أبیها بکل فخر.. هذه الصبیة المخلصة في سد الفراغ العاطفي في قلب النبي محمد (صلی الله علیه وآله) فغدت أماً قبل أن تکون أماً...!؟

إن التاریخ لا یحدثنا إلّا نتفاً من هذه المواقف الأمومیة التي کانت تصدر عن فاطمة بالنسبة للرسول، ولکنه یؤکد بنجاح فاطمة في هذه المحاولة التي أعادت إلی محمد (صلی الله علیه وآله) الإکتفاء العاطفي الذي ساعده دون شک في تحمل الأعباء الرسالیة الکبری(2).

ص: 27


1- ینظر بحار الأنوار: المجلسي: ج43 ص252.
2- سلیمان کتاني، فاطمة الزهراء-وتر في غمد، المعاونة الثقافیة للمجمع العالمة لأهل البیت، ط1، مطبعة مجاب، 1431ه-، ص51.

إن التاریخ یؤکد هذا الدور الذي اضطلعت به مولاتنا الزهراء(علیها السلام) حینما ینقل تکراراً عن لسان النبي «فاطمة أم ابیها» وحینما نری أنه یعاملها معاملة الأم فیقبل یدها، ویخصها بالزیارة عند کل عودة منه إلی المدینة، ویودعها منطلقاً من عندها إلی کل أسفاره ورحلاته(1) وکأنه یتزود من نبع الأمومة الصافي هذا عاطفة لسفره. وإذا ما قدم من سفره فإن نحر فاطمة یستقبل شفتیه الکریمتین یمطره تقبیلاً، فمنه یشم رائحة الجنة(2).إن السیدة الطاهرة فاطمة (علیها السلام) علي صغر سنها وهی تخوض غمار تجربتها کأم... کانت مربیة کبیرة(3)

کیف لا وهي تحتضن ولیدها، جامع الحسن في صفات ومزایا وأوصاف تضارع أوصاف أبیها الحبیب فتشتعل حرارة الوجد في قلبها للصورة المصغرة من نبي الأمة یتبرعم بین ظهراني بیت الإمامة.. في کل لمحة والتفاتة تری الزهراء ولیدها تنفتح ملامحه الآسرة... طفلاً جمیل المحیا أبیضَ مشرباً بحمرة، أدعج العینین، ذا وفرة، عظیم الکرادیس، بعید المنکبین، جعد الشعر،.. کأن عنقه إبریق فضة(4).

فکانت الزهراء(علیها السلام) شدیدة الإعتزار بانتسابها الی أبیها وکانت مفطورة علی یقین الإیمان، وکان من اعتزازها بالإنتساب إلی المصطفی أنها کانت تسر بتشابه أبنائها لأبیها وکانت تذکر ذلک حین تدللهم وتلاعبهم مراراً وتکراراً ولم یکن أحب إلیها من أنه

ص: 28


1- المصدر نفسه. نقلاً عن: المجلسي بحار الأنوار، 43:25.
2- القندوزي الحنفي، مختصر ینابیع المودة لذوي القربی، مکتبة هیئة الأمین، ط2، 1425ه--2004م، العراق-کربلاء المقدسة، ص162.
3- نصت رواية ابن المسيب عن الإمام زين العابدين(علیه السلام) قال « فقلت لعلي بن الحسين: فمتى زوج رسول الله فاطمة من علي؟ فقال بالمدينة بعد الهجرة بسنة وكان لها يومئذ تسع سنين». نقلاً عن الکافي: 8/ 338.
4- باقر شریف القرشی، حیاة الإمام الحسن، دار جواد الأئمة (علیه السلام) للطباعة والنشر والتوزیع، ط1، 1432ه--2011م، بیروت-لبنان، ج1 ص60.

یقال لها «إن أسباط رسول الله یشبهون رسول الله»

لقد عکفت الزهراء(علیها السلام) علی إظهار محاسن ولیدها الحسن بالإهتمام به والإعتناء بتربیته بدنیاً ونفسیاً وذهنیاً فها هي ترسل له ذؤابتین في القرن الأیسر وثقبت الأذن الیمنی لتصنع في شحمه الأذن قرطاً، وفي الأذن الیسری في أعلاها شنفاً(1). أما زغب ریش جبرائیل فکان یجمع لیجعل في تمائمه.

وقد حرصت علی نظافة مظهره ورونقه، فما کان یری إلا جمیل المظهر بقمیصه الأحمر(2).

وعن ابن عباس قال: انطلقت مع رسول الله (صلی الله علیه وآله) فنادی علی باب فاطمة ثلاثاً فلم یجبه أحداً فمال الی الحائط فقعد فیه و قعدت إلی جانبه بینما هو کذلک إذ خرج الحسن بن علي قد غسل وجهه وعلقت علیهسبحة قال: فبسط النبي (صلی الله علیه وآله) یدیه ومدهما ثم ضم الحسن إلی صدره وقبله وقال: إن ابني هذا سید ولعل الله عز وجل یصلح به بین فئتین من المسلمین(3).

ومن کتاب الأربعین للفتواني روی «أن النبي (صلی الله علیه وآله) دعا الحسن فأقبل وفي عنقه سخاب فظننت أن أمه حبسته لتلبسه فقال النبي (صلی الله علیه وآله) هکذا، وقال الحسن(علیه السلام) هکذا بیده

ص: 29


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص185. وجاء في فروع الکافي ج6/ص33: روي أن النبي (صلی الله علیه وآله) ترک له ذؤابتین في وسط الرأس وهو أصح من القرن. وفي الهدایة للصدوق ص70: «وقال النبي (صلی الله علیه وآله) لفاطمة (علیها السلام) أنقبي علی أذني ابني الحسن والحسین خلافاً علی الیهود». وفي قاموس الکتاب المقدس ص316: «وکانت عادة قومیة عند الإسماعیلیین آن یلبس الرجال أقراطاً». قضاة 25: 8 و 26». نقلاً عن: علي الکوراني، جواهر التاریخ، المجلد الأول، ص602.
2- الإصابة: ابن حجر: ج2: ص63، قال بریدة: کان النبي (صلی الله علیه وآله) یخطب، إذ جاء الحسن والحسین(علیهما السلام) علیهما قمیصان أحمران یمشیان ویعثران، فنزل من المنبر فحملهما ووضعهما بین یدیه.
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص215. نقلاً عن: مناقب آل أبي طالب، ج4، ص20.

فالتزمه فقال النبي (صلی الله علیه وآله) اللهم إني أحبه فأحب من یحبه - ثلاث مرات»(1).

وفي حدیث ثوبان أن فاطمة حلت الحسن والحسین بقلبین من فضة، القلب: السوار(2).

ومما سبق یبدو جلیا اهتمام مولاتنا الزهراء(علیها السلام) بمظهر ولدها الحسن وأنها لاتخرجه من الدار إلا وهو مغتسلاً متزیناً.

وأخذت الزهراء(علیها السلام) تضیف علی ولیدها لمسات من نبض روحها النقیة التقیة، فعاش الإمام الحسن طفولتة المبارکة وصباه الباکر الکریم في کنف أطهر الأحضان وأشرفها، في کنف وارثة کل مفاخر أسرتها، وریثة نبل جدید لا ینشأ عن الأرض والدم والمال، بل ظاهرة وحي، صنیع الإیمان والجهاد والثورة والفکر والإنسانیة وبنسیج جمیل من کل قیم الروح العالیة(3).

فعاش الإمام الحسن(علیه السلام) في ظل أمه الزهراء(علیها السلام) انصع ایامه البیض الحافلة بالنور في المدینة المنورة، یوم کان یدرج فیها بموقعه الممیز ومقامه المدلل المرموق بین أقرانه وأترابه ویوم کان یلعب ویمرح فیها... مستشعراً بألمعیته المبکرة، عظم مکانته بین المسلمین وإن کان طفلاً، ففي حدیث لأبي رافع قال: کنت ألاعب الحسن والحسین(علیهما السلام) بالمداحي، {هی أحجار أمثال القرصة کانوا یحفرون ویرمون فیها بتلک

ص: 30


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص215. نقلاً عن: مناقب آل أبي طالب، ج4، ص20. والسخاب: قلادة تتخذ من قرنفل ومحلب وسک ونحوه ولیس فیها من اللؤلؤ والجوهرشیء وقیل: هو خیط ینظم فیه خرز یلبسه الصبیان والجواري.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص69. نقلاً عن: النهایة، ج4، ص98.
3- علي شریعتي، فاطمة هي فاطمة، الآثار الکاملة - 3 ، دار الأمیر للثقافة والعلوم ط2، 1428ه- 2007م، بیروت - لبنان، ص140.

الأحجار فإن وقع الحجر فیها فقد غلب صاحبها وإن لم یقع غُلِب}.. فإذا أصابت مدحاتي مدحاته قلت: احملني فیقول: أترکب ظهراً حمله رسول الله! فأترکه فإذا أصابت مدحاته مدحاتي قلت: لا أحملک کما لم تحملني فیقول: أما ترضی أن تحمل بدناً حمله رسول الله (صلی الله علیه وآله) فأحمله(1).

وهذه الواقعة تعطینا درساً تربویاً في جعل الصبي ینعم باللعب واللهو البریء مع اترابه مهما علا مقامه ومقام أسرته فهذا من دواعي تنمیة قدراته بشکل صحیح. ومما لا شبهة فیه أن للزهراء(علیها السلام) الدور الکبیر في تنمیة مدارک الإمام الحسن وفي نمو ذکائه وفي سلوکه العام.

عن یعلي بن مرة أنه قال خرجنا مع النبي (صلی الله علیه وآله) دعینا إلی طعام فإذا الحسن یلعب في الطریق، فأسرع النبي (صلی الله علیه وآله) أمام القوم ثم بسط یده فجعل یمر مرة ههنا ومرة ههنا یضاحکه حتی أخذه فجعل إحدی یدیه في ذقنه والأخری بین رأسه ثم اعتنقه فقبله ثم قال رسول الله: حسن مني وأنا منه أحب الله من أحبه، الحسن والحسین سبطان من الأسباط(2).

فالرسول (صلی الله علیه وآله) تولی تربیة سبطه، وأفاض علیه مکرمات نفسه، والإمام أمیر المؤمنین(علیه السلام) غذاه بحکمه ومثله، والبتول القدسیة أفضل بنات حواء قد غرست في نفس ولیدها الفضیلة والکمال، وبذلک سمت طفولته فکانت مثالاً للتکامل الإنساني، وعنواناً للسمو والتهذیب ورمزاً للذکاء والعبقریة بالرغم من قصر الفترة التي قضاها الإمام الحسن(علیه السلام) في کنفها، إلا أنه نهل من علم أمه وفقهها نصیباً کبیراً لأنها(علیها السلام)

ص: 31


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص214. نقلاً عن: مناقب آل أبي طالب، ج4، ص 72، فصل في محبة النبي إیاه.
2- المصدر نفسه، نقلاً عن: بشارة المصطفی، ص156.

قامت بنقل کل ما لدیها من سجایا وفضایل إلی ولدها البکر(1).

إن هذه الروایة تعطي أروع درس من دروس الأمومة الحقة، فالزهراء الأم عادلة في إغداق محبتها وعطفها علی ولدیها وما کانت لتفضل کبیراً علی صغیر أو بالعکس...کما تبین لنا هذا الحادثة مبلغ اهتمام الزهراء(علیها السلام) کأم في تعلیم أولادها منذ نعومة أظفارهم، وقد نقل علماء الفقه ورواة السنة الشیء الکثیر عن الإمام الحسن(علیه السلام) مما سمعه وشاهده من والدته الطاهره(علیها السلام) ومن جده رسول الله (صلی الله علیه وآله) فیما یتعلق بأحکام الشریعة المقدسة وآدابها، وذلک یدل علی نبوغه وعبقریته وإدراکه الواسع، والناظر في طفولته(علیه السلام) یهیم بها إعجاباً وإکباراً وتقدیساً، وذلک لما لها من آیات الکمال والفضیلة والذکاء، ولما أنیطت بلون من التربیة الرفیعة التي لم یظفر بها انسان فیما نحسب(2).

ولکننا هنا نشیر الی مسألة قد تستوقف المطلعین علی سیرة أهل البیت(علیهم السلام) وهو معیشة الکفاف والزهد التي عاشوها لاسیما بیت(علي وفاطمة) الذي تتبع خطوات النبي محمد (صلی الله علیه وآله) في معیشته خطوة بخطوة، فنجد في روایات عدة کیف عانت الزهراء(علیها السلام) من الجوع حتی الاصفرار والهزال والمرض وکان للإمام الحسن وهو طفل وصبي في کنف والدته نصیب من هذا الحرمان.

ولکن هذا الحرمان لم یثلم الصورة البهية لهذا البیت النبوي، لقد عاش الإمام الحسن(علیه السلام) حیاة طیبة سعیدة حلوة لا یعکرها الفقر، ولا تغیرها الفاقة، ولا تضطرب بالحوادث، حیاة یهب عليها نسیم الحب والوثام وتزینها العاطفة بجمالها المدهش(3).

ص: 32


1- سعید رشید زمیزم، نساء حول الحسین، دار الجوادین، ط1، 1432ه- - 2-11م، بیروت – لبنان، ص12.
2- باقر شریف القرشي، حیاة الإمام الحسن/ ج1، ص70.
3- محمد کاظم القزویني، فاطمة (علیها السلام) ، ص121.

فعن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: کان أمیر المؤمنین(علیه السلام) یحطتب ویستقي ویکنس، وکانت فاطمة(علیها السلام) تطحن وتعجن وتخبز.

وعن الإمام الباقر(علیه السلام) أن فاطمة(علیها السلام) ضمنت لعلي(علیه السلام) عمل البیت والعجین والخبز وقم البیت، وضمن لها علي(علیه السلام) ما کان خلف الباب من نقل الحطب وأن یجيءَ بالطعام، فقال لها یوماً: یا فاطمة هل عندک شیء! قالت: والذي عظم حقک، ما کان عندنا منذ ثلاثة أیام شیء نقریک به، قال: أفلا أخبرتني!قالت کان رسول الله (صلی الله علیه وآله) نهاني أن أسألک شیئاً، فقال: لا تسألي إبن عمک شیئاً، إن جاءک بشیء وإلّا فلا تسألیه(1).

إن شظف العیش الذی عاشته الزهراء(علیها السلام) وهي أم لم یؤثر في کدحها في اللیل والنهار جاهدة في ارضاء ربها عز وجل وتوفیر أسباب الراحة لزوجها وبنیها، فلطالما دخل علیها النبي (صلی الله علیه وآله) ووجدها تطحن وعلیها کساء من وبر الإبل، فبکی لحالها ویقول لها تصبراً: «تجرعي یا فاطمة مرارة الدنیا لنعیم الآخرة»(2).

وفي روایة مماثلة جاءت في (مناقب آل أبي طالب، ج3- ص341) في تفسیر الثعلبي عن جعفر بن محمد(علیهما السلام) وتفسیر القشیري عن جابر الأنصاري أنه رأی النبي (صلی الله علیه وآله) فاطمة وعلیها کساء من أجلة الإبل وهی تطحن بیدها وترضع ولدها، فدمعت عینا رسول الله (صلی الله علیه وآله) فقال: یا بنتاه تحملي مرارة الدنیا بحلاوة الآخرة، فقالت: یا رسول الله الحمد لله علی نعمائه، والشکر لله علی آلائه فأنزل الله: «وَلَسَوْفَ یُعْطِیکَ رَبُّکَ فَتَرْضَی».

لقد کان الإمام الحسن(علیه السلام) وهو صبي یشارک والدته في معاناتها وضعف حالها وتکلفها ما لا تطیق من تحملها أعباء أسرتها الصغیرة وحیدة دون عون... حتی انطبع

ص: 33


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص31 عن تفسیر العیاشي.
2- مریم نور الدین فضل الله، المرأة في ظل الإسلام، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزیع، ط1، 1399ه- - 1979م، بیروت – لبنان، ص185.

في ذهنه الصورة ذاتها التي وصفها بها والده الإمام علي (علیه السلام) حینما قال لرجل من بني سعد: «ألا أحدثک عني و عن فاطمة أنها کانت عندي و کانت من أحب أهله إليه و أنها استقت بالقربة حتي أثر في صدرها، و طحنت بالرحی، حتي مجلت يدها و کنست البيت حتي غبرت ثيابها و أوقدت النار تحت القدر حتي دکنت ثيابها فأصابها من ذلک ضرر شديد فقلت لها: لو أتيت أباک فسألتیه خادماً يکفيک ضر ما انت فيه من هذا العمل. فأتت النبي (صلي اللَّه عليه و آله) فوجدت عنده حداثاً فاستحت و انصرفت...»(1).وهکذا قد نجد أن الإمام الحسن(علیه السلام) قد یبیت هو وأسرته أیاماً ولیال دون طعام، کما أفصحت بذلک والدته السیدة الطاهرة(علیها السلام) لسلمان المحمدي بالقول: «یا سلمان والذی بعث محمد (صلی الله علیه وآله) بالحق نبیاً إن لنا ثلاثاً ما أطعمنا، وأن الحسن والحسین قد اضطربا علي من شدة الجوع رقدا کأنما فرخان منتوفان...»

وعن أنس إن بلال أبطأ عن صلاة الصبح فقال له النبي (صلی الله علیه وآله): إنَّ بِلاَلاً بطَّأَ عن صلاة الصّبح فقال له النبي (صلی الله علیه وآله) ما حَبَسَك فقال: مَرَرْتُ بفاطمة وهي تطحَنُ، وَالصّبي يبكي، فقلتُ لها إن شِئتِ كفيْتُكِ الرّحا وكفَيْتِنِي الصَّبيَّ وإن شئتِ كفيْتُكِ الصّبيَّ وكفيتِني الرّحا فقالت أنا أرفقُ بابني منكَ، فذاك حَبَسَنِي، قال فرَحِمتَها رحِمَك الله»(2).

نعم لقد کانت سیدة نساء العالمین(علیها السلام) هی الأرفق بولدها عن کل البشر فما کانت لتدعه یفارق حضنها الدافئ حتی وهی تدیر الرحی..، لقد شب الإمام الحسن(علیه السلام) علی هذه الصور الإیمانیة من تفاني والدته في أداء دورها کأم حانیة ومؤمنة مطیعة لله ولرسوله ومتأسیة به.

حتی وان شکت له لحظات ضعفها الإنسانیة وهی تحدث أباها شاکیة: یا أبه لا

ص: 34


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص63.
2- محمد جواد طبسي، حیاة الصدیقة فاطمة، مؤسسة بوستان کتاب قم، ط1، 1423ه- - قم المقدسة – ایران، 142. نقلاً عن: ذخایر العقبی، ص51.

طاقة لي بخدمة البیت فاخدمني خادماً تخدمني وتعینني علی أمر البیت، فیجیبها النبي (صلی الله علیه وآله) بأفضل من العون والخادم وخیر منهما فیعلمها: أن تسبحین الله عز وجل في کل یوم ثلاثاً وثلاثین مرة وتکبرینه أربعاً وثلاثین مرة فذلک مائة باللسان وألف حسنة في المیزان یا فاطمة إنک إن قلتها في صبیحة کل یوم کفاک الله ما أهمک من أمر الدنیا والآخرة(1).

روی ابن شهر آشوب في مناقبه عن محمد بن علي بن الحسین(علیهما السلام) قال: «بعث رسول الله سلمانا إلی فاطمة، قال: فوقفت بالباب وقفة حتی سلمت فسمعت فاطمة تقرأ القرآن من جوا وتدور الرحی من برا ما عندها أنیس. فتبسم رسول الله (صلی الله علیه وآله) وقال: «یا سلمان ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها ايماناً الی مشاشها،تفرّغت لطاعة الله فبعث الله ملکاً اسمه زوقابیل وفي خبر آخر: جبرائیل فأدار لها الرحی وکفاها الله مؤونة الدنیا مع مؤونة الآخرة»(2)

وفي مصباح الأنوار عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: أقبلت فاطمة (عليها السلام) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فعرف في وجهها الخمص - قال: يعني الجوع - فقال لها: يا بنية هاهنا فأجلسها على فخذه الأيمن، فقالت: يا أبتاه إني جائعة، فرفع يديه إلى السماء فقال: اللهم رافع الوضعة ومشبع الجاعة أشبع فاطمة بنت نبيك، وقال أبوجعفر(عليه السلام): فوالله ما جاعت بعد يومها حتى فارقت الدنيا.

في مثل هذا الجو الرباني المشحون إیماناً وتعبیراً وتصبراً وفناء في ذات الله قضی الإمام الحسن(علیه السلام) طفولته المبکرة، حتی تناقل عنه حدیثه المشهور عن عبادة والدته وطول وقوفها للصلاة لیلاً... قال «رأیت أمي فاطمة (علیها السلام) قامت في محرابها لیلة جمعتها

ص: 35


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص100. نقلاً عن: کشف الغمة: ج1، ص353-363.
2- مناقب آل أبي طالب، ج3، ص338.

فلم تزل راکعة ساجدة حتی اتضح عمود الصبح و سمعتها تدعوا للمؤمنین والمؤمنات و تسمیهم و تکثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشی ء فقلت لها: یا اماه لِمَ لا تدعین لنفسک کما تدعین لغیرک؟ فقالت: یا بنی الجار ثم الدار»(1).

لقد اعطت مولاتنا الزهراء(علیها السلام) لولدها الإمام الحسن(علیه السلام) أمثولة حسنة وعبرة ونصیحة طیبة في تعبدها ودعائها، فکانت خیر معلمة لأبنائها في إعطائها مثالاً حیاً لسلوک تربوي إسلامي تناقلته الأجیال الإسلامیة وحذت حذوها بعد أن انطبع في وجدان ولدها الحسن (علیه السلام).

إن هذه الروایة تعکس عمق حسن الإتکال علی الله عند مولاتنا الزهراء(علیها السلام) وکیف لم تقنط ولم تقنط أولادها من رحمته وانفراج الحال وتحقیق مبتغاهم، لقد أشاعت في نفوسهم الأمل في تحقیق مبتغاهم ولم تردهم بحقیقةسوء الحال...، وکم من أم معدمة علیها أن تتأسی بأم الحسن(علیه السلام) وتتعلم منها هذه الوسیلة التربویة في اشاعة الروح الإیجابیة في بیتها وفي مخیلة أولادها بأن الفرج من عند الله هو أقرب من حبل الورید.

لقد کانت الزهراء(علیها السلام) نعْم الأم والمربیة الصالحة للإمام الحسن(علیه السلام) الذي ما فتئت تنادیه بنور عیني...، کانت لصیقة به وبسکناته وحرکاته ولحظات غفوه وانتباهاته ولم تستحوذ علیه باهتمامها فقد علمت أن ولدها الحسن سیکون ابناً للنبي محمد (صلی الله علیه وآله) کما هو ابن لها فأفسحت له خیارات أن یتشارکا (بنوة) الطفل الأول والسبط الأول بکل تفاصیلها الحیاتیة...، ووجدانها یحتفي بالرسول(صلی الله علیه وآله) أباً وجداً وقدوة حسنة لولیدها الحسن... کما هو أبٌ رؤوفٌ بها وبکل المسلمین... ولهم فیه قدوة حسنة وهذا ما ستلتقطه حروفنا في المبحث التالي.

ص: 36


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص81.

المبحث الثاني: الحسن والزهراء(علیهما السلام).. والأسوة الحسنة

أن التربیة الصالحة للفرد هي رسالة المجتمع للأجیال، ولهذا کانت تربیة (الزهراء-الأم)(علیها السلام) لابنها الإمام الحسن(علیه السلام)، رسالة تربویة عالیة المضامین وذات مفاصل نبویة هامة أرختها الأحادیث النبویة الشریفة. لتعتقد الأذهان أن النبي محمد(صلی الله علیه وآله) ما کان یغادر بیت ابنته فاطمة قط..، وفاطمة وابنها الحسن(علیه السلام) لم یفارقا والدها الحبیب محمد (صلی الله علیه وآله) قط.

إن اقتران حیاة الإمام الحسن(علیه السلام) مع أخیه الإمام الحسین(علیه السلام) في فترة زمنیة قصیرة مع جدها (صلی الله علیه وآله) جعل الحدیث عن حیاة أحدهما مقترنة بالآخر، حتی کاد من العسیر الفصل في الروایات إلّا نذر یسیر.

ونحسب هنا أن الزهراء(علیها السلام) التی عاشت حیاتها المبارکة لصیقة أبیها وحیاته، فکان لها عنوان الأبوة والعطف والرحمة... والقدوة الحسنة، أرادت لولدها الحسن(علیه السلام) الإرتباط العضوي والروحي ذاته مع سید المرسلین، وهذا ما أثبتته الأقوال والشهادات المتواترة عبر التاریخ الإسلامي.وقد أرادت الصدیقة الطاهرة(علیها السلام) أن تحیط ولدها البکر وهو في مقتبل العمر بأطواق من الأسالیب التربویة، التي ما اعتادت علیها مجتمعات مکة والمدینة.. فکان هناک طوق المحبة الفائقة الوصف وطوق الحمایة والتعویذ من الشرور، وطوق التعلیم

ص: 37

والمسؤولیة وطوق التبشیر بالمکانة العالیة في آیات قرآنیة محکمة وأحادیث نبویة مرسلة.

إن تطرقنا لهذا الجانب المشرق الوضاء من حیاة الإمام الحسن(علیه السلام)، لیس تکراراً لما قیل بل للتأکید علی أن التربیة النبویة للإمام والتي تمیزت بأسالیب مختلفة وجدیدة علی أوساطها، لم تکن منحصرة علی ولد فاطمة(علیها السلام) فحسب، بل هي دروس حیة مستدامة لکل أسرة إسلامیة بضرورة إتباعها في تنشئة الأجیال، لأن ما یصدر عن الأبوین تجاه الأبناء في الصغر سیحدد المعالم الشخصیة لهم في الکبر.

فمن ترقب لولادته وتبشیر بمقدمه ونظرة فاحصة إلی مراسیم ولادته، نتلمس الإهتمام الکبیر الذي أولاه النبي محمد (صلی الله علیه وآله) بالإمام الحسن(علیه السلام).

ولا نغفل هنا أن رسول الله (صلی الله علیه وآله) قد تفل في فیه وألباه بریقه(1).

وألباه هو أول الحلیب الذي یخرج من الوالدة، والمقصود هنا أن رسول الله (صلی الله علیه وآله) أطعمه من ریقه الزکي قبل أن ترضعه أمه أو أی مرضعة أخری. وهذه الممارسة ما زالت تجري في مجتمعاتنا الإسلامیة، حیث شاع أن الطفل یتطبع بطباع وخلق ومزایا أول شخص یرضعه ریقه. وقد تواتر عن النبي (صلی الله علیه وآله) أنه قال: «اللهم إني أعیذ بک وولده من الشیطان الرجیم»(2)عندما

لباه بریقه.

لقد کان الإمام الحسن بن علي (علیهما السلام) خیر الناس أباً وأماً وجداً وجدةً وعماً وعمةً وخالاً وخالةً(3)، وهذا قول نبوي کان (الصبي- الحسن) یسمعه مراراً من جدة وهو یلقیه علی مسامع الجمع من حوله، لیؤکد عمق الارتباط المقدس بین شخصیتین.

ص: 38


1- یراجع: کشف الغمة: 1/514، والبحار: 44/ 136، والعوالم (الإمام الحسن): 13.
2- المجلسي، بحار الأنوار: 43/ 256.
3- یراجع: کشف الغمة: 1/ 522، والمناقب: 3/ 165 نقلاً عن صحیح الترمذي.

فالحسن ابن رسول الله جسماً ومعنی، وتلمیذه الفذ وربیب مدرسة الوصي التي شعت علی الناس هدی ورحمة، وهذا الإفتخار علی لسان النبي (صلی الله علیه وآله) بقي یتردد علی لسان الإمام الحسن (علیه السلام) حتی آخر خطبة، فما صعد المنبر إلّا وقال: أیها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم یعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب، أنا ابن أول المسلمین إسلاماً، وأمي فاطمة بنت رسول الله، أنا ابن البشیر، أنا ابن النذیر، أنا ابن السراج المنیر، أنا ابن من بعث رحمة للعالمین(1).

وقد یقال إنها انتقال للصفات الوراثیة من الآباء إلی الأبناء، ومن جیل إلی جیل، ولکن الأمر هنا مختلف، فإضافة إلی العوامل الوراثیة، نجد أن الإمام الحسن (علیه السلام) هو صورة مکثفة عن الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) شکلاً ومضموناً، یکاد تتطابق فیها صفاتهما الخَلقیة والخُلقیة، ویکفینا الاستدلال هنا إلی قول النبي(صلی الله علیه وآله) مخاطباً الحسن(علیه السلام): «أشبهت خَلقي وخُلقي»(2).

هذا القول الشهیر والکلمة الحقة علی لسان نبي الأمة یعدّان وسام استحقاق لمنصب الخلافة ودرساً للأمة الإسلامیة في وجوب وراثة الرسالة المحمدیة..، وهو في الوقت ذاته یشکل دافعاً معنویاً (للإمام – الصبي) بعمق الانتماء لجده النبي(صلی الله علیه وآله).

وما کان الإمام الحسن (علیه السلام) لیغفل لحظة عن هذا الانتماء، وقد روي عنه قوله: «من کان یباء بجدّ فإن جدي الرسول (صلی الله علیه وآله) أو کان یباء بأم فإن أمي البتول، أو کان یباء بزور فیزورنا جبرئیل»(3).

نعم إن ابن الزهراء (علیها السلام) ما کانت لتغیب عن ذاکرته أیام طفولته الأولی والتحاقه

ص: 39


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص254.
2- راضي آل یاسین، صلح الحسن، ص226.
3- مناقب آل أبي طالب، ج4، ص9. فصل في علمه وفصاحته (علیه السلام) وقد رواه الحاکم في أمالیه.

بجده في ساعات نهاره ولیله، روئ تملک الحس، هذا جده الأعظم، وهذا سلطان نبوته في قومه، وهذه نجوم الآی الکریمات تتنزل بین الفینة والفینة. کأنها برید السماء إلی الأرض ولا تتنزل إلّا في بیته، وهذا أبوه،وزیر النبي والمجاهد الأکبر الذي أخضع صنادید العرب لکلمات الله، .. وهذه أمه الطاهرة البتول، التي باهل بها الرسول فکانت بحق سیدة نساء العالمین(1).

ولو لم یکن من إرث وفخر یلحق بالإمام الحسن (علیه السلام) إلّا بنوته للنبي الخاتم (صلی الله علیه وآله) ، لکفاه فخراً هذا الإنتماء الذي أکده رسول الله مراراً بالقول الثابت والمتواتر عنه: إن الله عز وجل جعل ذریة کل نبي في صلبه، وإن الله تعالی جعل ذریتي في صلب علي بن أبي طالب.

حتی أن الصحابة تناقلوا قول رسولهم الکریم، فهذا عمر قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله) یقول: کل بني أُنثی فإن عصبتُهم أبیهم ماخلا ولد فاطمة فإني أنا عصبتُهم وأنا أبوهم(2).

لهذا نهج الصحابة والمسلمون الأوائل علی تأکید هذا القول في تسمیتهم للإمام الحسن (علیه السلام) أو الإشارة الیه (بولد رسول الله) و(ابن النبي) لأنهم لا یستطیعون مخالفة قوله (صلی الله علیه وآله): ذریة کل نبي من صلبه وذریتي من ابنتي فاطمة(3).

وقال الرازي في تفسیر قوله تعالی:)وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ... وَزَكَرِيَّا

ص: 40


1- راضي آل یاسین، صلح الحسن، (صلی الله علیه وآله) 172.
2- الطبراني، أخبار الحسن بن علي بن أبي طالب، حققه وعلق علیه محمد شجاع ضیف الله، دار الأوراد للنشر والتوزیع، الکویت الحرة، 1412ه- - 1992م، ص69.
3- محمد مهدی الحائري، شجرة الطوبی، ج2، دار المحجة البیضاء للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت – لبنان، ص378.

وَيَحْيَى وَعِيسَى( بعد أن ذکر دلالة الآیة علی بنوة الحسنین للنبي(صلی الله علیه وآله) قال: «ویقال إن أبا جعفر الباقر(علیه السلام) استدل بهذه الآیة عند الحجاج بن یوسف»(1).

وأرسل عمرو بن العاص إلی أمیر المؤمنین یعیبه بأشیاء منها: أنه یسمی حسناً وحسیناً ولدي رسول الله (صلی الله علیه وآله) فقال لرسول عمرو بن العاص: «قل للشائن ابن الشائن: لو لم یکونا ولدیه لکان ابتر، کما زعم أبوک»(2).وفي بعض أیام صفین حین رأی ابنه الحسن (علیه السلام) یتسرع إلی الحرب فقال أمیر المؤمنین (علیه السلام) املکوا عني هذا الغلام لا یهدني فإني أنفس بهذین یعني – الحسن والحسین- عن الموت لئلا ینقطع بهما نسل رسول الله (صلی الله علیه وآله) (3).

ولقد صدح الإمام الحسن (علیه السلام) في أکثر من مناسبة وأکثر من موقف بإظهار بنوته لرسول الله (صلی الله علیه وآله) وإثباتها، فقد قال محتجاً علی معاویة: «... فأخرج رسول الله (صلی الله علیه وآله) من الأنفس معه أبي، ومن البنین أنا وأخي، ومن النساء فاطمة أمي من الناس جمیعاً، فنحن أهله ولحمه ودمه ونفسه، ونحن منه وهو منا»(4).

وقد أجمعت المعاجم کافة علی تأکید النبي المصطفی لحقیقة أبوته للإمام الحسن (علیه السلام) وأخیه، ففي معجم الطبراني بإسناده عن ابن عباس، وأربعین المؤذن، وتاریخ الخطیب بأسانیدهم إلی جابر:

ص: 41


1- أعلام الهدایة، الإمام الحسن المجتبی)علیه السلام)، ص57. نقلاً عن تفسیر الرازي: 13/66، وفضائل الخمسة في الصحاح الستة: 1/247.
2- ابن ابي الحدید المعتزلي، شرح نهج البلاغة، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم، مکتبة طریق المعرفة – دار الکتاب العربي، نجف – بغداد، ط1، 1426ه- -2005م، ج20، ص334.
3- المصدر نفسه، ج11، ص25.
4- القندوزي الحنفي، ینایع المودة، ص479.

قال النبي (صلی الله علیه وآله): «إن الله -عز وجل- جعل ذریة کل نبي من صلبه خاصة، وجعل ذریتي من صلبي و من صلب علي بن أبي طالب، إن کل بني بنت ینسبون إلی أبیهم إلّا أولاد فاطمة، فإني أبوهم»(1).

کما إن إخراج الحسنین (علیهما السلام) إلی المباهلة بعنوان أنهما أبناء الرسول الأکرم محمد (صلی الله علیه وآله) مع أنهما ابنا ابنته الصدّیقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) له دلالة هامة ومغزی عمیق، حیث إنه «في الآیة دلالة علی أن الحسن والحسین – وهما ابنا البنت- یصح أن یقال: إنهما ابنا رسول الله (صلی الله علیه وآله) لأنه وعد أن یدعو أبناءه، ثم جاء بهما»(2).وقد استنتج علماء المسلمین الفضل للإمام الحسن (علیه السلام) وأخیه من المباهلة، ومنهم ابن أبي علان –وهو أحد أئمة المعتزلة- حیث یقول: «هذا یدل علی أن الحسن والحسین کانا مکلفین في تلک الحال، لأن المباهلة لا تجوز إلّا مع البالغین».

کما کان الإمام الحسن حاضراً في طفولته وصباه الأول مع جده النبي (صلی الله علیه وآله) وأمه الزهراء (علیها السلام) في وقائع وحوادث لا تنسی کالمباهلة وإشراکه في بیعة الرضوان، ثم شهادته علی کتاب لثقیف، إلی غیر ذلک من أقوال للنبي (صلی الله علیه وآله) فیه ومواقفه في المناسبات المختلفة.

ولکن یبقی طوق المحبة والإیثار الذی أبداه النبي (صلی الله علیه وآله) للإمام الحسن في طفولته ما یستوقف الأقلام والأفهام...، فالطفل في سنیه الأولی تتعزز مدارکه ومؤهلاته وقدراته ما أغدق علیه من محبة.. ولقد أفاض النبي الأکرم (صلی الله علیه وآله) بسخاء علی ولده الحسن (علیه السلام) في

ص: 42


1- إبن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب،ج4،نقلاً عن تاریخ بغداد: 1/333، المعجم الکبیر للطبراني: 3/44 رقم 2630، أمالي الصدوق: 450 ح 609، روضة الواعظین: 95، الإحتجاح للطبري: 1/77.
2- أعلام الهدایة، 4/ ص55. نقلاً عن تفسیر الرازي: 8/ 81، وفتح القدیر: 1/ 347، وتفسیر النیسابوري بهامش تفسیر الطبري: 3/ 214، ومجمع البیان: 2/ 452، والغدیر: 7/ 122، وعن القرطبي:4/ 104.

هذا الباب.

فکم درج الحسن بقدمیه الصغیرتین علی صدر جده العظیم، الذي یقول له: «افتح فاک»، فیقبله بفیه، ثم یقول: «اللهم إني أحبه فأحبّه وأحبّ من أحبه»(1).

ولقد أحب الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) أمامنا الحسن (علیه السلام) محبة لا منتهی لها حتی عوتب علیها یوم قیل له: یا رسول الله إنک تصنع بهذا –یعني الحسن- شیئاً لم تصنعه بأحد»، فقال: «إن هذا ریحانتي»(2).

وروی أبوبکرة، قال: «رأیت رسول الله (صلی الله علیه وآله) علی المنبر والحسن بن علي إلی جنبه، وهو یقبل علي الناس مرّة، وعلیه أخری، ویقول: إن ابنی هذا سید، ولعل الله أن یصلح به بین فئتین عظیمتین من المسلمین»(3).وفي شیء من التمعن في کلمات الروایة یظهر لنا شدة افتتان النبي محمد (صلی الله علیه وآله) بولده الحسن، حتی یکاد لا یکتفي من النظر الیه والإستزادة من رؤیة محیاه الحسن.

وفي سنن ابن ماجة، وفضائل أحمد، روی نافع عن أبي جبیر عن أبي هریرة أنه (صلی الله علیه وآله) قال: «اللهم إني أحبه فأحبه وأحبّ من یحبه»، قال: وضمه إلی صدره.

وفي الحلیة بالإسناد عن البراء بن عازب قال: رأیت رسول الله (صلی الله علیه وآله) واضعاً الحسن علی عاتقه فقال من أحبني فلیحبه(4).

ص: 43


1- راضي آل یاسین، صلح الحسن، ص174. نقلاً عن: الزمخشري والطبراني وینابیع المودة والإصابة (ج2 ص12) وغیرها.
2- إبن شهر آشوب، المناقب، 4/ص29. في محبة النبي إیاه.
3- باقر القریشي، ص87. نقلاً عن الإصابة: ص: 330، صحیح بخاري: 1: 152، ورواه أحمد ابن حنبل في مسنده: 5: 44.
4- إبن شهر آشوب، المناقب، 4/ص29.

وعن أنس بن مالک قال: سُئِل رسول الله (صلی الله علیه وآله) أي أهل بیتک أحب إلیک؟ قال: الحسن والحسین، وکان یقول لفاطمة: ادعي لي ابنيّ، فیشمهما ویضمهما الیه(1).

ویبدو جلیاً من الأحادیث المتواترة أن بحر الحب هذا بین النبي وولده لم تهدأ أمواجه لا بکرة ولا عشیاً، في بیت أو في شارع..، بل حتی في المسجد وعند الصلاة والسجود أو الخطبة علی المنبر(2)...،

کانت حالة الوجد والهیام بحب ابني فاطمة یجتاح جنبات الرسول محمد (صلی الله علیه وآله) فیصرح بحبه علانیة دون مواربة ولِمَ لا والحسن بضعة الزهراء... حبیبته وبضعته وابنته الأثیرة.

ولقد استشعر الإمام الحسن (علیه السلام) علی صغر سنه مدیات هذا الحب فتعلق بطوقه وانجذب الیه انجذاباً شدیداً حتی إذا ما خیره النبي (صلی الله علیه وآله) سائلاً إیاه: «یا حسن هل تمضي إلی کتف أبیک؟ فیجیبه: والله یا جداه إن کتفک لأحب إلي من کتف أبي»(3).وقد یمضی النهار جله والإمام الحسن (علیه السلام) عند جده یلعب حتی إذا مضی عامة اللیل وهَمَّ بالانصراف إلی أمه مع أخیه برقت برقة ما زالت تضيء لهما حتی دخلا علی فاطمة (علیها السلام) والنبي (صلی الله علیه وآله) ینظر إلی البرقة ویقول: الحمد لله الذي أکرمنا أهل البیت(4).

وخیر ما یلخص الکلام في حب سید الأنام لولده الحسن الإمام.. قول الإمام

ص: 44


1- القندوزي الحنفي، ینابیع المودة، ص175. نقلاً عن: سنن الترمذي، 5/323 حدیث 3861.
2- إبن شهر آشوب، المناقب، ج4، ص31. عن أبي قتادة أن النبي قبّل الحسن وهو یصلي، وکم من مرة کان الرسول (صلی الله علیه وآله) یقطع حدیثه وینزل من المنبر لیحمل الحسن والحسین ویقول: صدق الله (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)
3- المصدر نفسه.
4- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص192. نقلاً عن: عیون الأخبار، ج2، ص29، باب 31، حدیث 121.

علي (علیه السلام) حیث قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله) یقول: لقد أذهلني هذان الغلامان -یعنی الحسن و الحسین- أن أحب بعدهما أحداً إن ربی أمرنی ان أحبهما و أحب من یحبهما(1).

لقد أظهر النبي محمد (صلی الله علیه وآله) لولده الحسن أرقی معاني الود طوال السنوات السبع الأولی من عمره، وکان حریصاً علی تطویقه بطوق الحمایة والتعویذ من الشرور، منذ الولادة حتی الصبا...، فقد روی الجنابذي بسنده عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): یا عبد الرحمن ألا أعلمک عوذة کان یعوّذ بها إبراهیم ابنیه إسماعیل وإسحاق وأنا أعوذ بهما ابني الحسن والحسین قل: کفی بسمع الله واعیاً لمن دعا ولا مرمی وراء أمر الله لرام رمی(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): رقا النبي (صلی الله علیه وآله) حسناً وحسیناً فقال: أعیذکما بکلمات الله التامة و أسمائه الحسنی کلها عامة من شر السامة والهامة، و من شر کل عین لامة و من شر کل حاسد إذا حسد. ثم التفت النبي (صلی الله علیه وآله) إلینا فقال: هکذا (کان) یعوّذ إبراهیم إسماعیل وإسحاق(علیهما السلام) (3).

وکم من مرة انتزع النبي (صلی الله علیه وآله) ولده الإمام الحسن من عاتق أمه وأخذ یناغیه قائلاً: «حزقة حزقة، ترق عین بقة»ویبدو من تواتر الأحادیث أن النبي (صلی الله علیه وآله) ما کان یعوّذ الإمام الحسن (علیه السلام) في البیت أو بین أهله وأسرته فحسب، بل أنه یرقیهم ویحصنهم في کل مکان وأینما وجدهم،

ص: 45


1- المجلسي، بحار الأنوار، ص193. نقلاً عن: کامل الزیارات ص113 باب 14، حدیث 1.
2- المصدر نفسه، ج18، ص217. نقلاً عن کشف الغمة، ج1، ص522، فصل في ما ورد في حق الحسن (علیه السلام).
3- المصدر نفسه، ص120. نقلاً عن أصول الکافي، ج2، ص569، باب الحرز والعوذ، حدیث 3.

وکثیراً ما شهد منه الصحابة تعویذه للحسنین بالمعوذتین (الفلق والناس)(1)، ومن کثرة ما عوذهما بهما قال ابن مسعود: أن هاتین السورتین لیستا من القرآن، بل هما عوذتان للحسنین(علیهما السلام). ولکن لم یتابع ابن مسعود أحد من الصحابة، وصح عن النبي (صلی الله علیه وآله) أنهما من القرآن(2).

کما روي في المناقب عن ابن عمر قوله: کنا جلوساً عند رسول الله (صلی الله علیه وآله) إذ مر به الحسن والحسین، وهما صبیان فقال: هات ابنيّ أعوذهما بما عوذ به إبراهیم ابنیه إسماعیل وإسحاق، فقال: «أعیذکما بکلمات الله التامة، من کل عین لامة، ومن کل شیطان وهامة»(3).

لقد عاش الإمام الحسن (علیه السلام) من عمره الشریف مع جده المصطفی (صلی الله علیه وآله) سبع سنین وأشهراً، وقیل ثماني سنین(4).

وکان النبي(صلی الله علیه وآله) یشرکه في جلساته واوقات تعبده، لیکون صورة مصغرة عنه في الطباع والتطبع.

جاء الحسن بن علي (علیهما السلام) یمشي علی هدوء ووقار فنظر إلیه رسول الله (صلی الله علیه وآله) وقال: «إن جبرئیل یهدیه ومیكائیل یسدده و هو ولدي والطاهر من نفسي و ضلع من أضلاعي هذا سبطي و قرة عیني بأبی هو»(5).

ومن هنا جاء اهتمام الصدیقة الطاهرة (علیها السلام) في جعل أبیها القدوة الحسنة والمتبعة

ص: 46


1- عایدة طالب، الإمام الحسن في محنة التاریخ، ص64. نقلاً عن: المیزان في تفسیر القرآن، ج20، ص394.
2- إبن شهر آشوب، المناقب، ج9، ص50. نقلاً عن: تفسیر التبیان للطوسی: ج10، ص434؛ تفسیر جامع الجوامع: ج3، ص881؛ تفسیر مجمع البیان: ج10، ص494.
3- عایدة طالب، ص64.
4- إبن شهر آشوب، المناقب، ج4، ص33.
5- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص239.

لبناء شخصیة ولدها الحسن نفسیاً وروحیاً، جسدیاً وعقلیاً...، فعن أبو السعادات في الفضائل، « إن الحسن (علیه السلام) کان یحضر مجلس رسول الله (صلی الله علیه وآله) و هو ابن سبع سنین فیستمع الوحی فیحفظهفیأتی أمه فیلقي إلیها ماحفظه، کلما دخل علی (علیه السلام) وجد عندها علماً بالتنزیل فیسألها عن ذلک... فقالت: من ولدک الحسن..»(1).

وفي هذا العمر المبکر لم یکن الإمام الحسن (علیه السلام) یتعلم فقط بل ویُعلم أیضاً، والأذهان تذهب هنا إلی روایة تعلیمه هو وأخیه الإمام الحسین (علیه السلام) کیفیة الوضوء الصحیح للشیخ الکبیر.

وهناک مصادر تاریخیة تشیر إلی أن الإمام الحسن (علیه السلام) قد بدأ بحفظ الشيء الکثیر مما سمعه من جده (صلی الله علیه وآله) وعمره الشریف أربع سنین(2).

ولیس هذا الأمر بمستغرب من ابن النبي، وفلذة کبده، وربیب مدرسة النبوة حیث ترعاه وتتولی تعلیمه خیرة عقول البشریة من خاتم الأنبیاء وسید الأوصیاء وسیدة النساء.

ولما کان الإسلام دیناً متکاملاً یبحث عن التکامل في شخصیة الإنسان المسلم، فإن البیت المحمدي کان یلقي علی أذهان الإمام الحسن(علیه السلام) أولی المعارف الدینيه، ما کان لیغفل عن تنشئة البدن وصحته، وبیت النبوة هو الرمز للبطولة والشجاعة..، فتحدثنا السیرة النبویة عن لوحة أبویة رائعة تشهدها الزهراء (علیها السلام) هي اصطراع الإمام الحسن مع أخیه الإمام الحسین(علیه السلام) ، والنبي یراقب ویشجع ویملأ الجو حماسة ونشاطاً حتی تعجب من فعله ابنته الزکیة فتساءل مبتهجة: «یا رسول الله تقول: إیهاً حسن وهو أکبر

ص: 47


1- بحار الأنوار، ج18، ص242.
2- ینظر باقر القرشي، الإمام الحسن، ج1، ص68. نقلاً عن: أسد الغابة: ج2، ص11؛ صحیح مسلم: ج2، ص751؛ الإصابة: ج1، ص329؛ تاریخ الیعقوبي: ج2، ص201.

الغلامین، فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله): أقول إیهاً حسن، ویقول جبرئیل: إیهاً حسین»(1).

إن تشجیع النبي (صلی الله علیه وآله) للإمام الحسن (علیه السلام) في اصطراعه مع أخیه الحسین (علیه السلام)، لهو تأکد علی أهمیة تنمیة قابلیة الطفل بدنیاً، في جو من المرح واللهو واللعب للولد بین والدیه وعائلته، فهذا الأمر ممایعزز ثقته في نفسه ویقوي شخصیته..، وإلی سنوات قریبة کان الآباء یفعلون فعل النبي في تشجیع الأبناء علي الاصطراع فیما بینهم والفوز بهدیة ما.

إن هذه الممارسة التربویة النبویة الحمیدة قد اختفت من حیاتنا بظهور الأجهزة والألعاب التقنیة الحدیثة التي تغلق عالم الطفل علی ذاته، وتثقل روحه الطریة بشتی الأمراض، وتبعده عن جو الأسرة الحمیم، وتصیبه بالتوحد والإنانیة وشتی علامات التغریب.

ومن هنا کان یقال للإمام الحسن (علیه السلام) إن فیک عظمة، فیجیب: بل فيّ عزّة قال الله تعالی)ولِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ((2).

نعم لقد أغدق النبي محمد (صلی الله علیه وآله) علی ولده الإمام الحسن (علیه السلام) نصیباً وافراً من محبته ولطفه ورعایته، وأسبل علیه فیض من روحه وملکاته حتی اشتهر قول واصل بن عطاء في السبط الحسن(علیه السلام): علیه سیماء الأنبیاء وبهاء الملوک(3).

ومن هیبته أنه کان یبسط له علی باب داره، فإذا خرج وجلس انقطع الطریق، فما مر أحد من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بیته فمر الناس(4).

ص: 48


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص191. نقلاً عن: أمالي الطوسي، ص513، مجلس 18، حدیث 30.
2- إبن شهر آشوب، المناقب، ج4، ص9.
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص 242.
4- إبن شهر آشوب، المناقب، ج9، ص11.

وقد قال أبوعبد الله الصادق(علیه السلام): وکان الحسن (علیه السلام) اشبه الناس برسول الله (صلی الله علیه وآله) خلقاً وهدیاً وسؤدداً(1).لقد ورث الإمام الحسن (علیه السلام) من أبیه النبي محمد (صلی الله علیه وآله) کل شیء ولکنه خصه بخصال الهیبة والسؤدد عندما سألته الزهراء (علیها السلام) ذلک قائلة: «یارسول الله هذان ابناک فانحلهما فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله): أما الحسن فنحلته هیبتي وسؤددي...»(2).

وفي حدیث آخر...» قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): أما الحسن فأنحله الهیبة والعلم (أو الحلم) وفي الخصال أن فاطمة (علیها السلام) أتت بابنیها الحسن والحسین (علیهما السلام) إلی رسول الله في شکواه الذي توفي فیه فقالت: یا رسول الله هذان ابناک فورثهما شیئاً فقال: أما الحسن فإن له هیبتي وسؤددي.(3)

وإن کان النبي المصطفی (صلی الله علیه وآله) قد أکد مراراً علی إمامة الإمام الحسن وسیادته في الدنیا والآخرة وأعطی الدلائل الواضحة علی محبة الجالبة للنجاة والفوز.. فإنه أخذ یزید من تحذیره المؤمنین والمسلمین من تبعة بغضه.. کلما اقترب موعد التحاقه بالرفیق الأعلی...، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: إن إبنیّ هذین ربیتهما صغیرین، و دعوت لهما کبیرین، و سئلت الله لهما ثلاثاً فأعطانی اثنتین و منعنی واحدة: سألت الله لهما أن یجعلها طاهرین زکیین فأجابنی إلی ذلک، وسألت الله أن یقیهما وذریتهما وشیعتهما النار فأعطانی ذلک، وسألت الله أن یجمع الأمة علی محبتهما فقال: یا محمد إنی قضیت قضاءً و قدرت قدراً و إن طائفة من أمتک ستفي لک بذمتک فی الیهود و النصاری و المجوس وسیخفرون ذمتک فی ولدك، وإنی أوجبت علی نفسی لمن فعل ذلک ألا أحله محله کرامتی، ولا أسکنه

ص: 49


1- المفید، الإرشاد، ص187.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص189.
3- المصدر نفسه نقلاً عن: الخصال، ج1، ص77، باب 2، حدیث 22.

جنتی ولا أنظر إلیه بعین رحمتي یوم القیامة(1).

وعن جابر الأنصاري کذلک، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): إن الجنة تشتاق إلی اربعة من أهلی، قد أحبهم الله و أمرنی بحبهم:علی بن أبی طالب، و الحسن والحسین، والمهدی صلوات الله علیهم الذي یصلي خلفه عیسی بن مریم(2).وجاء في کشف الغمة قول عمر: سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله) یقول: إن فاطمة وعلیاً والحسن والحسین في حظیرة القدس، في قبة بیضاء سقفها عرش الرحمن عز وجل.

وقد انذر وبشر نبي الرحمة (صلی الله علیه وآله) وجعل من محبة الإمام الحسن (علیه السلام) و بغضه فیصلاً ما بین الجنة والنار، فعن أبي ذر الغفاري (رضوان الله علیه) قال: رأیت رسول الله (صلی الله علیه وآله) یقبل الحسن والحسین بن علي وهو یقول: «من أحب الحسن و الحسين و ذريتهما مخلصاً لم تلفح النار وجهه، ولو كانت ذنوبه بعدد رمل عالج إلا أن يكون ذنباً يخرجه من الإيمان.

وفي قول آخر عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله: من أبغض الحسن والحسين، جاء يوم القيامة وليس على وجهه لحم، ولم تنله شفاعتي(3).

وعن أبي هریره قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله) یقول: من أحب الحسن والحسین فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني(4).

وروی جابر الأنصاري، قال رسول الله (صلی الله علیه وآله) ذات یوم بعرفات وعلي تجاهه: «أدن مني یا علي، خلقت أنا وأنت من شجرة، أنا أصلها، وأنت فرعها، والحسن والحسین

ص: 50


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص199. نقلاً عن مجالس المفید، ص78، مجلس 9، حدیث 3.
2- المصدر نفسه، ص218.
3- المجلسي، ص194. نقلاً من کامل الزیارات، ص114، باب 14، حدیث 4 و 7.
4- المجلسي، ص190. نقلاً عن: أمالي الطوسي، ص251، مجلس9، حدیث 38.

أغصانها، فمن تعلق بغصن منها أدخله الله الجنة»(1).

لقد کان الإمام الحسن (علیه السلام) عنوان محبة دائمة وموضع سرور لا ینقطع عن قلب الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) حتی لحظاته الأخیرة.. أخذ النبي (صلی الله علیه وآله) یقبله في فمه ویقبل أخیه في نحره، لیثیر في أذهان المسلمین أمد الدهر قضیة مهمة ترتبط بسبب استشهادهما (علیهما السلام) وإعلاماً منه عن تعاطفه معهما، وتأییده لهمافي مواقفهما وقضایاهما. والکل یعلم أن الرسول (صلی الله علیه وآله) لم ینطلق من مواقفه من منطلق الأهواء الشخصیة، و النزعات والعواطف الذاتیة، وإنما کان ینبه الأمة علی عظمة هذین الإمامین ومقامهما الرفیع.(2)

وبقي حب النبي المصطفي (صلی الله علیه وآله) لولده الحسن یتجلي حتی الرمق الأخیر عندما دعاه وأخیه إلیه قرب موته، فقبلهما وشمهما، وجعل یرشفهما وعیناه تهملان(3).

وهنا یمکن للأذهان الواعیة أن تستحضر عظم حزن الإمام الحسن (علیه السلام) لفقد جده الرسول المصطفی(صلی الله علیه وآله) وفقدانه لکل ذاک الزخم الطاغي من الحب والشغف، فما کان منه إلا أن اتجه ساعیاً إلی منبر جده باکیاً، فوجد الخلیفة أبابکر یخطب علی المنبر، فقال له: إنزل عن منبر أبي، فأجابه أبوبکر: صدقت والله، إنه لمنبر أبیک لا منبر أبي(4).

هذا والإمام الحسن لم یعرف عنه ما یماثل هذا الموقف طوال عمره الشریف، حیث روی أن الحسن (علیه السلام) لم یسمع قط منه کلمة فیها مکروه إلا مرة واحدة، فإنه کان بینه وبین عمرو بن عثمان خصومة في أرض فقال له الحسن: لیس لعمرو عندنا إلا ما

ص: 51


1- باقر القرشي، ص95. نقلاً عن: مسند أحمد بن حنبل، ج1، ص77.
2- اعلام الهدایة، 4، ص51.
3- إبن شهر آشوب، المناقب، ص47، فصل 2في محبة النبي (صلی الله علیه وآله) إیاهما (علیهما السلام).
4- اعلام الهدایة، ج5، ص62. نقلاً عن تاریخ الخلفاء للسیوطي: 8؛ الصواعق المحرقة، 175.

یرغم أنفه(1).

واقتطع الأجل المحتوم أحد جناحي فراشة الطفولة الزاهیة من عمر الإمام الحسن (علیه السلام) ودع أباه وجده ونبیه ومعلمه ورفیق ضحکته وسلوة أیامه..، توفي حبیب طفولته مغادراً.. فغادرت أیامه الفرحة والوثام والإستقرار.

وكان على الصبي الحسن أن يعلق أنامله الرقيقة بأطراف حبال الصبر الجميل، ويتمسك بقوة بجناح الفراشة التوأم.. لقد ركن إلى كنف أمه يصب حزنه إلى حزنها على فراق أحب الخلق وخير الخلق...

لیکن مع الزهراء (علیها السلام) یعتصر آخر قطرات طفولته وصباه .. یبقي متأملاً وجهها النضر ولو إلی حین.

ص: 52


1- إبن شهر آشوب، المناقب، ج4، ص23. في مکارم أخلاقه(علیه السلام).

المبحث الثالث: فراق وجه الحبیبة

اشارة

أطبقت الأحزان علی قلوب جمیع المسلمین، بفقدهم لرسول الله (صلی الله علیه وآله) وحلت المصیبة علی بیت النبوة بفقد الحبیب محمد (صلی الله علیه وآله)، فضجت بیوت المدینة ومکة بالبکاء.. وکان الخطب أکثر ألماً ووجعاً علی قلب فاطمة الزهراء(علیها السلام) فما رُئیت حتی الممات إلا باکیة نادبة منتحبة حزناً مع زوجها وولدیها علی فراق أبیهم.

ولقد کان الإمام الحسن (علیه السلام) شدید البکاء علی النبي في لحظات الوداع الأخیرة، حتی قال له الإمام علي (علیه السلام): کف یا حسن فقد شققت علی رسول الله(صلی الله علیه وآله)(1).

کیف لا، وهو یری رسول الله (صلی الله علیه وآله) یوصي علیاً قبل موته قائلاً: السلام علیک أبا الریحانتین أوصیک بریحانتيَّ من الدنیا، فعن قلیل ینهد رکناک علیک(2).

فهل وعت ذاکرة الصبا فحوی هذه الکلمات. هل عرف الحسن مغزاها فتوجس من وقوعهما خیفة؟

بالطبع کان الإمام الحسن وکل بیت فاطمة یتهیأ صابراً لوقع أیام ما بعد وفاة الأب الرؤوف الحنون، وکان من الممکن أن یکون أي أحد من المسلمین هو من یتبع النبي المصطفي (صلی الله علیه وآله) إلی تراب قبره ومثواه الأخیر، إلا أن تسلسل الأحداث أبی إلا أن یکون

ص: 53


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج22، ص521.
2- إبن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص357.

الإمام الحسن (علیه السلام) هو آخر وأقرب من یودع خاتم النبیین، فینزل قبره في روایة الخاتم(1).وکما تشرف الإمام الحسن (علیه السلام) بوداع النبي (صلی الله علیه وآله) کذلک تشرف بالصلاة علیه، فقد روي أنه (صلی الله علیه وآله) أوصی علیاً بالصلاة علیه، فقال: یا علي کُن أنت وابنتي فاطمة والحسن والحسین، وکبروا خمساً وسبعین تکبیرة، وکبّر خمساً وانصرف.(2)

وکان الذي ولی غسله الإمام علي (علیه السلام) وقد حضر تجهیز النبي (صلی الله علیه وآله) ودفنه الإمام الحسن (علیه السلام) (3).

ولقد رأینا مبلغ الحزن والأسی الذي ضرب أطنابه في حنایا الحسن حتی أنه لم یتمالک نفسه وهو یری منبر النبي محمد(صلی الله علیه وآله) خالیاً من حضوره، فیقف مقابل أبي بکر وهو یخطب علی المنبر قائلاً له بلوعة واضحة تشف عن مقدار المصیبة التي حلت علیه: انزل عن منبر أبي. فأجابه أبي بکر: صدقت، والله إنه لمنبر أبیک، لا منبر أبي، فبعث علي إلی أبي بکر إنه غلام حدث، وإنا لم نأمره، فقال أبوبکر: إنا لم نتهمک(4).

وهکذا انطوت من حیاة الإمام الحسن (علیه السلام) بوفاة أبیه المصطفی (صلی الله علیه وآله) الصفحة الأولی التي کانت من أسعد أیامه کلها وأنصعها. لیعقبها انطواء صفحة لاحقة.. سریعة

ص: 54


1- روي أنه لما دُفن (صلی الله علیه وآله) وخرج من قبره ألقی المغيرة بن شعبة خاتمه في قبره (صلی الله علیه وآله) فقال لعلي: خاتمي! فقال له علي (علیه السلام): إنّما ألقيت خاتمک لکي تنزل فيه، فيُقال نزل في قبر النبي (صلی الله علیه وآله)، والذي نفسي بيده لا تنزل فيه أبداً ومنعه. ثم قال علي لولده الحسن (علیه السلام): أدخل فناوله الخاتم ففعل. طبقات ابن سعد، ج2، ص302.
2- ماجد ناصر الزبیدی، 500 سؤال...، ص59
3- ابن الأثیر، الکامل في التاریخ، المجلد الثاني، دار الفکر- بیروت، 1398ه- - 1978م، ص225.
4- راضي آل یاسین، ص31. نقلاً عم تاریخ الخلفاء للسیوطي، ص80 و 143؛ تاریخ بغداد، ج1، ص 141؛ الصواعق المحرقة، ص175.

اللحاق.. عندما فارقه وجه الحبیبة فاطمة، ففجع في سنة واحدة بالنبي وابنته(1).

لقد انتقل الرسول (صلی الله علیه وآله) من هذه الدنيا وسبطه الحسن (علیه السلام) في مطلع صباه في السابعة من عمره والنصف على قول. أو في الثامنة من عمره إلا خمسة أشهر على قول آخر.نعم کان لوفاة الرسول(صلی الله علیه وآله) وقع مؤلم في روح الإمام الحسن الطاهرة، وهو لم يكن بعد قد أنهی ربیعه الثامن(2).

وأخذ يتربص بأيامه المنصرمة سراعاً، لا یکاد یری أمه فیها إلا باكية نادبة ناحلة، متعجلة الرحيل إلى أبيها بعد أن أخبرها أنها أول أهل بيته لحوقاً به.

ففي البخاري ومسلم والحلية ومسند أحمد بن حنبل روت عائشة أن النبي (صلی الله علیه وآله) دعا فاطمة في شكواه الذي قبض فيه فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها فضحكت فسألت عن ذلك: فقالت: أخبرني النبي (صلی الله علیه وآله) أنه مقبوض فبكيت ثم أخبرني أني أول أهله لحوقاً به فضحكت. وفي كتاب ابن شاهين قالت أم سلمة وعائشة: إنها لما سئلت عن بكائها وضحكها قالت: أخبرني النبي (صلی الله علیه وآله) أنه مقبوض ثم أخبر أن بني سيصيبهم بعدي شدة فبكيت، ثم أخبرني أني أول أهله لحوقاً به فضحكت(3).

و في أمالي الطوسي عن المفيد عن الصدوق، عن...، عن عبدالله بن العباس قال: لما حضرت رسول الله (صلی الله علیه وآله) الوفاة بكى حتى بلت دموعه لحيته، فقيل له: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: أبكي لذريتي وما تصنع بهم شرار أمتي من بعدي، كأني بفاطمة بنتي وقد ظلمت بعدي وهي تنادي يا أبتاه، فلا يعينها أحد من أمتي، فسمعت ذلك فاطمة (علیها السلام) فبكت، فقال رسول الله لا تبكي يا بنية، فقالت: لست أبكي لما يصنع بي من بعدك،

ص: 55


1- ماجد ناصر الزبيدي، ص67.
2- أعلام الهداية، ص5، الإمام الحسين بن علي ع، ص64.
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص131. نقلاً عن مناقب آل أبي طالب، ج3، ص357.

ولكني أبكي لفراقك يا رسول الله، فقال لها: أبشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي فإنك أول من يلحق بي من أهل بيتي(1).

وفي قصص الأنبياء عن ابن عباس قال: دخلت فاطمة على رسول الله (صلی الله علیه وآله) في مرضه الذي توفي فيه، قال: نعيت إلي نفسي، فبكت فاطمة، فقال لها: لا تبكن فإنك لا تمكثين من بعدي إلا اثنين وسبعين یوماً ونصف یوم حتى تلحقي بي، ولا تلحقي بي حتی تتحفي بثمار الجنة فضحكت فاطمة)علیها السلام)(2).وترانا نجزم القول أن ضحكتها في ذاك اليوم كانت هي الضحكة الأخيرة في حياتها، فما رئيت بعدها ضاحكة قط.

أخذ الإمام الحسن (علیه السلام) يشبع ناظريه من والدته الصديقة الطاهرة (علیها السلام) وهی تذوي يوماً بعد يوم حزناً على وفاة الحبيب محمد(صلی الله علیه وآله)، أياماً معدودات من عمر الزمن كانت بالنسبة له زمناً آخر سيودعه، إلى حيث لا رجعة، فبعدها سيودعه وفي حناياه سيحمل راحلاً وجه الحبيبة فاطمة.

وقد اختلفت الروايات في مدة بقائها بعد أبيها، ففي مقاتل الطالبيين قال أبو الفرج: كانت وفاة فاطمة (علیها السلام) بعد وفاة النبي بمدة يختلف في مبلغها فالمكثر يقول: ثمانية أشهر والمقلل يقول: أربعين یوماً إلا أن الثابت في ذلك ما روي عن أبي جعفر محمد بن علي (علیهما السلام) أنها توفيت بعده بثلاثة أشهر حدثني بذلك الحسن بن علي، عن الحارث عن ابن سعد عن الواقدي عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر محمد بن علي(علیهما السلام).(3)

ص: 56


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص114. نقلاً عن أمالي الطوسي ص188، مجلس 7، حدیث 18.
2- قصص الأنبياء، ص 309، فصل 15، حدیث 382.
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص 154. نقلاً عن مقاتل الطالبین، ص31.

وذكر وهب بن منبه، عن ابن عباس أنها بقيت أربعين يوما.بعده، وفي رواية ستة أشهر(1).

ولا يمكن التطبيق بين أكثر تواريخ الولادة والوفاة ومدة عمرها الشريف، ولا بين تواريخ الوفاة وبين ما مر في الخبر الصحيح أنها (علیها السلام) عاشت بعد أبيها خمسة وسبعين یوماً(2).

وفي رواية أنها توفيت وعمرها ثمانية عشرة عاماً وسبعة أشهر، وعاشت بعده اثنين وسبعين يوماً، ویقال: قد قيل أربعين یوماً وهو أصح، وتوفيت ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة من الهجرة، ويقال: ومشهدها بالبقيع، وقالوا: إنها دفنت في بيتها، وقالوا قبرها بين قبر رسول الله ومنبره.

وفي كشف الغمة نقلت من كتاب الذرية الطاهرة للدولابي قال: لبثت فاطمة (علیها السلام) بعد النبي (صلی الله علیه و آله) ثلاثة أشهر، وقال ابن شهاب: ستة أشهر، وقال الزهري: ستة أشهر، ومثله عن عائشة، ومثله عن عروة بنالزبير، وعن أبي جعفر محمد بن علي(علیهما السلام) خمسا وتسعين ليلة في سنة عشرة، وقال ابن قتيبة في معارفه: مائة يوم، وقيل ماتت في سنة إحدى عشرة ليلة الثلاثاء لثلاث لیالٍ من شهر رمضان، وهي بنت تسع وعشرين سنة أو نحوها(3).

واعلم أن في مدة بقائها صلوات الله عليها بعد أبيها خلافاً عظیماً بین الخاصة والعامة، وقد اتفق كل من الفريقين على أن عمرها بعد أبيها لم يكن أكثر من ستة

ص: 57


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص 154. نقلاً عن مقاتل الطالبین، ص31.
2- المجلسي، ج43، ص155.
3- محمد باقر البهبهاني، محمد، علي، فاطمة – سیرتهم – حیاتهم – مصائبهم، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط1، بیروت – لبنان، 1410ه-/1990م، ص33.

أشهر ولا أقل من أربعين يوماً، بأن أكثر الأحاديث المعتبرة قد دلت على أن بقاءها بعد أبيها كان خمسة وسبعين يوماً.

وعن كتاب دلائل الإمامة للطبري مسنداً عن أبي بصیر، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قبضت فاطمة (علیها السلام) في جمادي الآخرة يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه سنة إحدى عشرة من الهجرة، وكان سبب وفاتها أن قنفذاً مولى عمر لكزها بنعل السيف بأمره، فأسقط محسناً ومرضت مرضاً شديداً من ذلك، ولم تدع أحداً ممن آذاها يدخل عليها حتى ماتت(1).

وقال المجلسي رحمه الله في جلاء العيون: واعلم أن في مقدار عمرها وسنة الوفاة خلافاً کثیراً وقد دلت أكثر الروايات المعتبرة على كون عمرها، إلى وقت الوفاة ثماني عشرة سنة، وقال بعضهم تسع وعشرين سنة، قيل ثلاثين سنة، وقيل سبعة وعشرين سنة، وقيل عشرين سنة، وقيل خمس وعشرين سنة، والأصح الأشهر بين الإمامية القول الأول(2). ففي قول منسوب للإمام علي (علیه السلام): أنها توفيت بعد النبي (صلی الله علیه وآله) بخمسة وسبعين یوماً(3).

وإن كانت الأيام الباقية للزهراء (علیها السلام) بعد أبيها شهراً أو ستة أشهر.. فما كانت إلا أياما سواء في قتامتها وسوداويتها...، هكذا كان يراها الإمام الحسن (علیه السلام) وعنهما نقل إلى الأجيال، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: ما رئيت فاطمة (علیها السلام) ضاحكة قط منذ قبض رسول الله حتی قبضت(4).

ص: 58


1- محمد باقر البهبهاني، محمد، علي، فاطمة – سیرتهم – حیاتهم – مصائبهم، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط1، بیروت – لبنان، 1410ه-/1990م، ص331.
2- المصدر نفسه، ص343.
3- أخبار الطبراني، ص94.
4- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص 361، فصل في حليتها وتواريخها (علیها السلام).

كما روي أنها ما زالت بعد أبيها معصبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يغشى عليها ساعة بعد ساعة...، وكان الإمام الحسن الشديد التعلق بأمه الزهراء (علیها السلام)، قد ازداد تعلقاً بها بعد فقد النبي المصطفى (صلی الله علیه وآله) وما كان ليفارقها في حزنها وندبها.. ولذلك كانت تشركه وأخيه في ذاك الندب الحزين قائلة لهما: أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرة بعد مرة؟ أين أبوكما الذي کان أشد الناس شفقة عليكما فلا يدعكما تمشيان على الأرض؟ ولا أراه يفتح هذا الباب أبداً ولا يحملكما على عاتقه کما لم يزل يفعل بكما(1).

وكأننا نستشف من الروايات جواب الحسن (علیه السلام) لأمه دموعاً مدرارة وحزناً حارقاً دفیناً أظهرته الزهراء (علیها السلام) في أدق تجلیاته وهي تتحري مواضع الذکری واسترجاع الوجود المحمدي، ولو کان قمیصاً تشمه أو آذان تسمعه.

فمن بعض كتب المناقب،... عن علي (علیه السلام) قال: غسلت النبی فی قمیصه، فکانت فاطمة تقول: أرنی القمیص، فإذا شمته غشي علیها، فلما رأیت ذلک غیبته(2).

كما روي أنه لما قبض النبي (صلی الله علیه وآله) امتنع بلال من الأذان، قال لا أُؤذن لأحد بعد رسول الله(صلی الله علیه وآله)، وإن فاطمة(علیها السلام) قالت ذات يوم: إني أشتهي أن أسمع صوت مؤذن أبي بالأذان،

فبلغ ذلك بلالاً، فأخذ في الأذان، فلما قال: الله أكبر الله أكبر، ذكرت أباها وأيامه، فلم تتمالك من البكاء، فلما بلغ إلى قوله: اشهد أن محمداً رسول الله شهقت فاطمة وسقطت لوجهها وغشي عليها، فقال الناس لبلال: أمسك يا بلال فقد فارقت ابنة رسول الله الدنيا، وظنوا أنها قد ماتت، فقطع أذانه ولم يتمه فأفاقت فاطمة وسألته أن يتم الأذان فلم يفعل، وقال لها: يا سيدة النسوان إني أخشی

ص: 59


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص132.
2- المصدر نفسه، ص115، نقلاً عن مقتل الحسین للخوارزمي، ج1، ص77.

علیک مما تنزلیه بنفسک إذا سمعت صوتي بالأذان، فأعفته عن ذلک(1).کان الإمام الحسن.. يعلم على صغر سنه أن حزن والدته والتي كانت أقرب النساء إليه، ما كان حزناً عادياً أو مفتعلاً أو استعراضياً أو مرتجلاً.. فلقد أظهرت أمه الحبيبة كامل الصورة التي أنبأها بها النبي في وصاياه الأخيرة:.. فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي، فتقدم علي محزونة، مكروبة، مغمومة، مغصوبة، مقتولة، فأقول عند ذلك: اللهم العن من ظلمها، وعاقب من غصبها، وذلل من أذلها وخلّد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها، فتقول الملائكة عند ذلك: آمين(2).

ولذا عُدَّت الصديقة فاطمة من رأس البكائين الثمانية: آدم ونوح ويعقوب ويوسف وشعيب وداود وفاطمة وزين العابدين علیهم السلام. قال الصادق(علیه السلام): أما فاطمة فبكت على رسول الله (صلی الله علیه وآله) حتى تأذى بها أهل المدينة(3).

وجاء في كتاب الأمالي للصدوق أن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: البكاؤون خمسة: آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد (صلی الله علیه وآله) وعلي بن الحسين زين العابدين (علیه السلام) وأما فاطمة بنت محمد فقد بكت على أبيها حتى تأذى منها أهل المدينة، وقالوا لها: لقد آذيتنا بكثرة بكائك(4).

وما كانت الصديقة الزهراء (علیه السلام) لتهدأ أو تنقطع عن زيارة قبر النبي (صلی الله علیه وآله) والندب

ص: 60


1- بحار الانوار، نقلاً عن: من لایحضره الفقیه،ج1، ص194، باب الأذان والإقامة وثواب المؤذنین، حدیث44.
2- أمالي الصدوق، ص 174، مجلس 24، حدیث2.
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص31.
4- مريم نور الدين فضل الله، المرأة في ظل الإسلام، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1399ه- - 1979م، بيروت لبنان، ص208.

عنده حد الغشيان والإمام الحسن (علیه السلام) رفيق خطوها اليومي هذا ودمعتها الساكبة.. يراها ملتاعة.. ويسمعها نادبة:

«رُميت يا أبتاه بالخطب الجليل، ولم تكن الرزية بالقليل، وطرقت يا أبتاه بالمصاب العظيم، وبالفادح المهول. بكتك يا أبتاه الأملاك ووقفت الأفلاك، فمنبرك بعدك مستوحش، ومحرابك خالٍ من مناجاتك وقبرك فرح بمواراتك، والجنة مشتاقة إليك وإلى دعائك وصلاتك.ويا أبتاه ما أعظم ظلمة مجالسك، فوا أسفاه عليك إلى أن أقدم عاجلاً عليك وأثكل أبو الحسن المؤتمن، أبو ولديك، الحسن والحسین..»(1)

وما غابت أبد الدهر عن ناظري الإمام الحسن (علیه السلام) صورة الصبا هذه، وهو يرى والدته الزهراء آخذة بالبكاء والعويل ليلها ونهارها، وهي لا ترقأ دمعتها ولا تهدأ زفرتها..، فكانت الصورة الأكثر ألفاً للمرأة الأم والابنة الوفية والزوجة المنکوبة.

وكما لم يفارق الحسن أمه في ندبها عند قبر النبي وفي بيتها، كذلك لم يفارقها قط في رحلتها اليومية بكرة وعشياً إلى بيت الأحزان. بعد أن ضجرت القلوب القاسية في المدينة وتبرمت من بكاء الابنة الحبيبة على أبيها الحبيب.

تذكر الروايات اجتماع شيوخ أهل المدينة(2)،

حیثُ أقبلوا إلى أمير المؤمنين علي (علیه السلام) فقالوا له: يا أبا الحسن إن فاطمة (علیها السلام) تبكي الليل والنهار فلا أحد منا يتهنأ بالنوم في الليل على فراشنا، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا، وإنا نخيرك أن

ص: 61


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص129، باب ما وقع عليها(علیها السلام) من الظلم وبكائها وحزنها.
2- المصدر نفسه.

تسألها إما أن تبكي ليلاً أو نهاراً فقال (علیه السلام) حباً وکرامة. فأقبل أمیر المؤمنین (علیه السلام) حتی دخل على فاطمة (علیها السلام) وهي لا تفيق من البكاء ولا ينفع فيها العزاء فلما رأته سكنت هنيئة له، فقال لها: يا بنت رسول الله (صلی الله علیه وآله) إن شيوخ المدينة يسألوني أن أسألك أن تبكي أباك ليلاً وإما نهاراً فقالت:.يا أبا الحسن ما أقل مكثي بينهم وما أقرب مغيبي من بين أطهرهم فوالله لا أسكت ليلاً ولا نهارا أو ألحق بأبي رسول الله (صلی الله علیه وآله) فقال لها علي (علیه السلام) افعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك(1).فماكان من الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) إلا أن بنى لها في البقيع بيتاً عن المدينة نازحاً سمي ب-(بيت الأحزان) وكانت إذا أصبحت قدمت الحسن والحسين (علیهما السلام) أمامها، وخرجت إلى البقيع باكية فلا تزال بين القبور باكية، فإذا جاء الليل أقبل أمير المؤمنين (علیه السلام) إليها وساقها بين يديه إلى منزلها(2).

ولم تزل على ذلك إلى أن مضى لها بعد موت أبيها سبعة وعشرون يوماً، واعتلت العلة التي توفيت فيها..، كل يوم من هذه الأيام الحزينة يذكرها الإمام الحسن (علیه السلام)، فكم اصطحبته ممسكة به بيد والأخرى بيد أخيه الحسين إلى (بيت الأحزان) يمضيان النهار، ثم يعودون بعد أن تصب السيدة فاطمة(علیها السلام) دموعها على مصائب الدهر التي أحالت نهاراتها إلى ليالٍ سوداء...، ويستذكر في مخيلته الطرية الندية... أياماً ندية تضج بالعافية والحبور والإيمان...

ويستذكر يوماً تعلقت أنامله بأناملها يشهدان معاً نزول الآيات فيهم خاصة،.. كان الإمام الحسن (علیه السلام) معها في قوله تعالى: (قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى

ص: 62


1- محمد کاظم القزویني، فاطمة (علیها السلام) من المهد إلى اللحد، ص379، نقلاً عن المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص177.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص129.

وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (1) . ولما نزلت هذه الآية تساءل القوم: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال (صلی الله علیه وآله) علي وفاطمة وابناهما...(2).

ففي الصواعق المحرقة لابن حجر: عن الإمام الحسن(علیه السلام): أنه خطب خطبة قال فيها: وأنا من أهل البيت الذين افترض الله عز وجل مودتهم وموالاتهم، فقال فیما أنزل علی محمد(صلی الله علیه وآله) (قُل لَا أَسْأَلُكُمْ) واقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت.

ولقد كان مع الزهراء (علیها السلام) وهي ذاهبة إلى المباهلة...، مباهلة النبي المصطفى (صلی الله علیه وآله) مع وفد نصارى نجران..، حينما صلى النبي (صلی الله علیه وآله) الصبح وأخذ بيد علي وجعله بين يديه، وأخذ فاطمة (علیها السلام) فجعلها خلف ظهره، وأخذ الحسن والحسين عن يمينه وشماله.. وكان نزول الآية.. قوله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِمِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)(3) فلم يكن ما تشير إليه الآية من الأبناء إلا الحسن وأخيه الحسين (علیهما السلام)، على صغر سنهما.

لقد كان الحسنان (علیهما السلام) في أيام طفولتهما الأولى في مستوى من النضج والكمال الإنساني بحيث كانا يملكان المؤهلات كافة التي تجعلهما محلاً للعناية الإلهية..، فكان الإمام الحسن (علیه السلام) من الشركاء في الدعوى، وفي الدعوة إلى المباهلة لإثباتها، وهذا من

ص: 63


1- سورة الشورى: آية 23.
2- محمد كاظم القزويني، فاطمة من المهد إلى اللحد، ص 135. مستدرک الحاكم، 3: 172. مجمع الزوائد، 9: 146. الصواعق المحرقة: 101. مجمع البيان، 9: 29، تفسير سورة الشورى.
3- آل عمران: 61.

أفضل المناقب التي خص الله بها أهل بيت نبيه(1).

وقد استنتج علماء المسلمين الفضل للإمام الحسن (علیه السلام) وأخيه الحسين من المباهلة، ومنهم ابن أبي علان - وهو أحد أئمة المعتزلة- حيث يقول: هذا يدل على أن الحسن والحسين كانا مكلفين في تلك الحال، لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين(2).

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) قد شركهما في بيعة الرضوان، وعرف ذلك عند المؤرخين، حيث قال الشيخ المفيد: « وكان من برهان كمالهما (علیهما السلام) وحجة اختصاص الله تعالى لهما بيعة رسول الله لهما، ولم يبايع صبياً في ظاهر الحال غيرهما»(3). ومعنى ذلك أن النبي قد رأى في الحسنين (علیهما السلام) علی صغر سنهما أهلية وقابلية لتحمل المسؤوليات الجسام (4).

وخلاصة القول، ما قد روي عن القندوزي الحنفي عن رسول الله (صلی الله علیه وآله) أنه قال: «لو علم الله تعالى أن في الأرض عباداً أكرم من علي وفاطمة والحسن والحسين لأمرني أن أباهل بهم، ولكن أمرني بالمباهلة بهؤلاء، وهم أفضل الخلق»(5).وما نزول سورة هل أتى ببعيدة عن خاطر الإمام الحسن (علیه السلام) ..، قال الله تبارك وتعالى في سورة الدهر: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا(5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا( إلی قوله: )وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا) (6). وكانت هذه الآيات قد نزلت حينما تصدقت والدته السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) ووالده

ص: 64


1- أعلام الهداية، الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام)، ص54.
2- نقله عنه أبو حيان في (البحر المحيط) في تفسير آية المباهلة.
3- المفيد، الإرشاد، ص 219.
4- أعلام الهداية، الإمام الحسن..، ص 59.
5- القندوزي، ينابيع المودة، ص 214.
6- الإنسان، 5 / 22.

أمير المؤمنين، معه وأخيه الإمام الحسين (علیه السلام) في نذر شفائهما من المرض(1).

وكان الإمام الحسن (علیه السلام) مع الصديقة الطاهرة (علیها السلام) يشاركها نور آية النور بقوله تعالی: (اللّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ...) (2).

روى الحافظ بن المغازلي الشافعي في كتاب المناقب، بالإسناد إلى علي بن جعفر قال: سألت أبا الحسن (الكاظم) (علیه السلام) عن قوله عز وجل: (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ)؟ قال (علیه السلام): المشكاة: فاطمة، والمصباح الحسن، والحسين: الزجاجة.

وعن رسول الله (صلی الله علیه وآله) أنه قال: «ونور إبنتي فاطمة من نور الله...»(3).

وهل يستطيع الفكر الوضاء للإمام الحسن (علیه السلام) أن يغفل عن آية التطهير.. يوم جمعهم الأب الحبيب محمد (صلی الله علیه وآله) تحت كساء واحد، ففاقت شهرة هذه الرواية وفضلها الآفاق...، وأجمع ثقات الرواة أنها نزلت في رسول الله (صلی الله علیه وآله) وفي أمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة وولديها الحسنين (علیهم السلام) ولم يشاركهم أحد في هذه الفضيلة(4).

عن أم سلمة: أن رسول الله(صلی الله علیه وآله) قال لفاطمة: ائتيني بزوجك وابنيك!فجاءت بهم فالقى عليهم رسول الله (صلی الله علیه وآله) كساء فدكياً ثم قال: اللهم هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد کما جعلتها على إبراهيم إنك حميد مجيد.

ص: 65


1- محمد كاظم القزويني، فاطمة من المهد إلى اللحد، ص 142 وما بعدها.
2- سورة النور: 35.
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج15/ ص 10.
4- للمزيد ينظر: التفسير الكبیر، 6: 783. صحيح مسلم، 2: 331. الخصائص الكبرى، 2: 264. الرياض النضرة، 2: 188. خصائص النسائي: 4. تفسير جامع البيان، 22: 5. مسند أحمد ابن حنبل، 4: 107. السنن الكبرى، البيهقي، 2: 150. أسباب النزول، الواحدي: 239. روضة الواعظین، 157. ، تفسير سورة الأحزاب، وغيرها.

وكيف تغيب عن ذاكرة الإمام الحسن (علیه السلام) هذه الفضيلة الجامعة له مع أحب الخلق إليه من أهل بيته، ومع والدته الحبيبة..، وهو يصغي لطرق أبيه النبي محمد (صلی الله علیه وآله) بابهم كل يوم خمس مرات طوال أشهر قارئاً تلك الآية. ليعي من يعي أنها ما كانت إلا لآل محمد (صلی الله علیه وآله).

عن ابن عباس، قال: «شهدت رسول الله (صلی الله علیه وآله) تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب (علیه السلام) وقت كل صلاة، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، الصلاة رحمكم الله كل يوم خمس مرات»(1).

في كل تلك الأوقات المشرقات كانت يد الزهراء (علیها السلام) تحتضن أنامله الرقيقة، وهي تشركه معها في الخطو نحو التبجيل والتقديس..، واليوم هو معها في شكواها من مر الزمان وتقلبه، حضر معها خطبتها وشكواها في المسجد النبوي وهضم حقها في فدك (2)،

وكان معها في الدار عندما هجم القوم بنيران حقدهم يرومون اقتحامه أو حرقه..، كان الإمام الحسن مع أمه الموجوعة تكاد تنطبق أضلاعها بين الباب والجدار ووجع المسمار (3)

وهی تستغیث بجده ولا من مجیب.

وما كان الإمام الحسن (علیه السلام) لتمحى من ذاكرته تلك الصورة الأليمة حتى الكبر..، فها هو يقول لمغيرة بن شعبة فيما احتج به على معاوية وأصحابه: أنت ضربت فاطمة (علیها السلام) بنت رسول الله (صلی الله علیه وآله) حتى أدميتها وألقت ما في بطنها استذلالاً منك لرسول الله (صلی الله علیه وآله) ومخالفة منك لأمره وانتهاكاً لحرمته، وقد قال رسول الله (صلی الله علیه وآله) أنت سيدة نساء أهل الجنة

ص: 66


1- باقر القريشي، حياة الإمام الحسن، ج1/ ص 87. نقلاً عن: الدر المنثور: 5: 199.
2- علي الكوراني، جواهر التاريخ، ج1/ ص 146.
3- علي الأحمدي الميانجي، ظلامة الزهراء في النصوص والآثار، المركز الإسلامي للدراسات، ط 1، ایران، ص218 ومابعدها.

والله مصیرک إلى النار(1).

عاش معها آخر لحظات الأمومة المفعمة بالحنو، وهو يرى نحولها وانصهار شبابها يذوي قطرة فقطرة إلى قاع العمر.. تنتظر بشارة أبيها إليها «أنت أول اللاحقين بي»..، نعم كان يراقب معها لحظات الرحيل إلى من تاقت النفس والروح للقياه... فتصبح کوکباً قصير الأجل في سماء النبوة.

كان وجه أمه الحبيبة يقترب من الأفول يوماً بعد يوم، لذا أخذ الإمام الحسن (علیه السلام) يعد دقائق الأيام لا ساعاتها المتبقية، تشرب حدقتيه بلهفة كل التفاتة وآهة من والدته فاطمة الزهراء (علیها السلام) يراها ناقمة على من ظلمها وغصبها حقها وتمتنع عن لقائهم. فيشاركها النقمة والغضب النبيل..، ويراها مستجيبة لنداء ربها، فيكاد يلبي معها.. لولا ما کُتِب من كتب الآجال المتفرقة.

وما كان ليفارقها في يومها الأخير من أيام مرضها بعد أن أدت آخر واجباته كأم حنون. والذي وعاه التاريخ، أن الزهراء (علیها السلام) ، كان يبدو عليها الارتياح في اليوم الأخير من حياتها، فقامت من فراش المرض ونادت أولادها، فعانقتهم طويلاً فقبلتهم ثم أمرتهم بالخروج إلى زيارة قبر جدهم رسول الله (صلی الله علیه وآله) (2) حتى ظنت أسماء بنت عميس التي تتولى تمريضها أنها تماثلت للشفاء.

وفي روایة أخری، أن الزهراء (علیها السلام) شرعت تغسل أطفالها وطفقت تغسل رؤوسهم بالماء والطين، لأنها لم تجد غسيلاً غير الطين(3).

ثم شرعت تغسل ثياب أطفالها

ص: 67


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18/ ص142. نقلاً عن: الاحتجاج، ج2، ص 40، رقم 150.
2- في روضة الواعظين قال: مرضت فاطمة (علیها السلام) مرضا ًشديداً ومكثت أربعين ليلة في مرضها إلی ان توفیت. البهبهاني ص333. المجلسي، بحار الأنوار، ج18/ ص 138.
3- مریم فضل الله: المرأة في ظلّ الاسلام، ص22.

بيديها المرتعشتين، ودخل الإمام علي (علیه السلام) البيت وإذا به يرى أم الحسن (علیه السلام) قد غادرت فراش العلة وهي تمارس أعمالها المنزلي فَرَقَّ لحالها الإمام واستفهمها الحال، فأنبأته أن هذا اليوم هو آخر يوم من أيام حياتها، وأنها قامت بدور الأم لآخر مرة من غسل لرؤوس أطفالها وثيابهم لأنهم سيصبحون يتامى بلا أم، سألهاالإمام عن مصدر هذا النبأ فأخبرته بالرؤيا، حيث رأت أباها في قصر من الدر الأبيض، فلما رآها قال(صلی الله علیه وآله): هلمي إلي يا بنية فإني إليك مشتاق!! فقالت: والله إني لأشد شوقاً منك إلى لقائك. فقال لها: أنت الليلة عندي!!

كانت تلك اللحظات الأخيرة هي آخر ما شاطر فيها الإمام الحسن (علیه السلام) والدته الصدیقة (علیها السلام) من لحظات الحياة، ولم يكن يعلم أنه سيعود مشوقاً إليها بعد هنيهة ليراها فيجدها كما النائمة..، فيسأل أسماء مع اخيه الحسين: یا أسماء ما ينيم أمنا في هذه الساعة؟ قالت: يا ابني رسول الله ليست أمكما نائمة، قد فارقت الدنيا(1).

لقد أشفقت الزهراء (علیها السلام) على ابنها الحسن (علیه السلام) وأخوته من رؤية لحظاتها الأخيرة فأرسلت بنتيها زينب وأم كلثوم إلى بيوت بعض الهاشميات، وأرسلت الحسن والحسين (علیهما السلام) مع أبيهم، كل ذلك من باب الشفقة والرأفة والتحفظ عليهما من صدمة مشاهدة المصيبة(2).

ولكن فاجعة فقد الزهراء (علیها السلام) قد عمت على بيوت كل المسلمين وقلوبهم، وكان يومها كيوم أبيها..، فما أن انتشر خبر وفاتها في المدينة حتى ارتجت المدينة بالبكاء والصراخ والعويل على فقد بهجة قلب المصطفى، وكان ذلك كيوم فقد رسول الله (صلی الله علیه وآله) (3).

ص: 68


1- محمد كاظم القزويني، ص 395.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج18/ ص 135.
3- اعلام الهداية، فاطمة الزهراء (علیها السلام)، ج3، ص186.

أما الإمام الحسن فقد وقعت عليه المصيبة كاقسى ما يكون حتى لم يتمالك نفسه فوقع على جسد الحبيبة يقبلها مرة بعد مرة ويقول منتحباً: يا أماه كلميني قبل أن تفارق روحي بدني(1).

ولقد كان إمامنا الحسن (علیه السلام) صادقاً في قوله فلقد كانت أمه الزهراء (علیها السلام) أعز النساء في حياته، فهي روحه التي بين جنبيه، وها هي تفارقه ببدنها بينما بقي شفيق روحها الطاهرة ابداً يرف على أيام عمره الطاهر حتى الممات.وكما أن الزهراء (علیها السلام) لم تغفل عن ولدها الحسن(علیه السلام) في حياتها، كذلك كانت بعد رحيلها.. فقد أوصت بما يليق بها وبولدها وكان من حنوها المتناهي أنها قد فكرت بأدق التفاصيل الحياتية لأولادها بعد فراقها، فأخذت توصي الإمام أمير المؤمنين بمراعاة ذلك. فماذا أوصت الأم الزهراء(علیها السلام)؟

عن علي بن أبي طالب قال: لما حضرت فاطمة الوفاة دعتني فقالت: أمنفذ أنت وصيتي وعهدي؟ قلت: بلى أنفذها فأوصت إليه وقالت: إذا انا مت فادفني لیلاً... ولا تؤذنن رجلين ذكرتهما(2)...

يا بن العم إني أجد الموت الذي لابد منه ولا محيص عنه وأنا أعلم أنك بعدي لا تصبر على قلة التزويج فإن أنت تزوجت امرأة اجعل لها يوماً وليلة واجعل لأولادي يوماً وليلة يا أبا الحسن ولا تصح في وجههما فيصبحان يتيمين غريبين فالويل لأمة تقتلهما وتبغضهما(3).

یا بن عم! أوصيك أولاً: أن تتزوج بابنة أختي أمامة فإنها تكون لولديَّ مثلي فإن

ص: 69


1- الطبسي، حياة الصديقة فاطمة..، ص 268.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج18/ ص 135.
3- المصدر نفسه، ص 116.

الرجال لابد لهم من النساء(1).

وفي رواية أخرى: ولا تُصح في وجههما فيصبحان يتيمين غريبين يا أبا الحسن! منكسرين، فإنهما بالأمس فقدا جدهما واليوم يفقدان أمهما(2)...

ويح نفسي. أي أم عظيمة حظي بها الإمام الحسن (علیه السلام) وأي قلب نابض بالرحمة والحنو، إن قلب مولاتنا الزهراء (علیها السلام) يتحرى مواطن العطف والمواساة في قلوب أحاطت بها فلم تجد أكثر حنواً من قلب أمامة لتكون أماً بديلة للحسن (علیه السلام) .. فمن أجل ذلك قال أمير المؤمنين (علیه السلام) أربع ليس إلى فراقه سبيل، بنت أبي العاص أمامة أوصتني بها فاطمة بنت محمد(صلی الله علیه وآله) (3).

ولكن أي بديل ما كان ليعوض الإمام الحسن (علیه السلام) عن فراق وجه أمه الحبيبة، ولقد أخذ بالتزود منها، فهذا الفراق، واللقاء الجنة.. ولسانه يضج باللوعة: واحسرة لا تنطفئ أبداً من فقد جدنا محمد المصطفى وأمنا فاطمةالزهراء! يا أم الحسن يا أم الحسين إذا لقيت جدنا محمد المصطفى فأقرئيه منا السلام وقولي له: إنا قد بقينا بعدك يتيمين في دار الدنیا..

فقال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): إن أشهد الله أنها قد حنّت وأنّت ومدّت يديها وضمتهما إلى صدرها ملياً(4)وإذا

بهاتف من السماء ينادي: يا أبا الحسن! ارفعهما فلقد أبكيا والله ملائكة السماوات(5).

ص: 70


1- محمد حسين الأعلمي الحائري، تراجم، 2/ ص 332.
2- محمد كاظم القزويني، ص 397.
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج18/ ص 130.
4- المصدر نفسه، ص 138.
5- المجلسي، بحار الأنوار، 18/ ص 130.

وذكرت أكثر الروايات أن الإمام الحسن (علیه السلام) قد حضر غسلها حيث كان مع أخيه (علیه السلام) الحسين يدخلان الماء(1)وحضرا

الصلاة عليها ودفنها ليلاً(2).

فارق الإمام الحسن (علیه السلام) وجه الحبیبة..

ماتت الزهراء بجسمها، ولكنها بقيت بروحها، ولا تزال حية في قلوب المؤمنين.. رمزاً حياً للأم المثالية في الإسلام... بل الأم المقدسة.

فما أجمل تعبير الأستاذ العقاد حيث يقول: «إن في كل دين صورة للأنوثة الكاملة المقدسة، يتخشع بتقديسها المؤمنون، كأنما هي آية الله من ذكر وأنثى...»

لقد كانت الزهراء (علیها السلام) في الصفحة الأولى من عمر الإمام الحسن (علیه السلام) عنوان المحبة وينبوع الحنان ومثال الدعة والاستقرار... فكانت ملء الروح والقلب والجوانح... وما كان ألق وجودها ليفارقه وإن فارق وجهها الحبيب.

ص: 71


1- بحار الانوار، ج 43، ص 179.
2- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج30، ص 365.

ص: 72

الفصل الثاني: الأخت زینب (علیها السلام) ... اقرب النساء

اشارة

* زینب الحوراء (علیها السلام)... أم أخیها

* الحسن و زینب (علیهما السلام)... أخت الأحزان

ص: 73

ص: 74

المبحث الأول: زینب الحوراء (علیها السلام)... أم أخیها

في البدء.. وقبل الولوج إلى عالم الحسن وأخته زينب (علیها السلام) لابد من تأشير عدة أمور:

البيئة الاجتماعية التي كانت تعيشها السيدة زينب الحوراء(علیها السلام) وخصائص بيت آل محمد (صلی الله علیه وآله) الذي ترعرعت فيه وليدة بيت النبوة، فهو بيت فريد من نوعه، متميز في طرازه، يتوارث فيه الأبناء كل خصال الآباء والأمهات، كأنما نسخوا نسخاً، وتناسلوا الصفات الوراثية ذاتها، فنجد الحفيدة زينب صورة طبق الأصل من الأم فاطمة والجدة خديجة عليهن السلام.

تكامل الأدوار الجهادية بين تلك الأجيال واضحٌ فالمسؤولية هي ذاتها، وذاك القدر المتماثل ما بين الجدة والأم والحفيدة في تحمل المآسي والصعاب بصلابة وعنفوان وإيمان.

فإذا كانت الصديقتان خديجة وفاطمة قد عاشتا وماتتا مظلومتين، فقد جسدت السيدة زينب(علیها السلام) كل ظلال الحزن المحمدي على مدى الدهر.

ومن أبرز علامات المظلومية ندرة ما تناقلته الأجيال عن العقيلة زينب(علیها السلام) في علاقتها مع أخيها الإمام الحسن(علیه السلام) على الرغم من غزارة الأحداث والمواقف التاريخية التي عاصرتها هاتان الشخصيتان المباركتان.

ص: 75

وجملة القول أن الفارق الزمني والعمري الضئيل ما بين ولادة كل من السيدة الحوراء(علیها السلام) وأخويها، جعلها أقرب إلى معايشة الأحداث بذات الذاكرة والاستيعاب والتفاصيل البارزة، مما جعلها مهيأة تماماً للاضطلاع بدور الأم بعد فقدهم الأم الغالية الطاهرة، فكانت زينب بحق.. أم أخيها.

فبعد أن تناولنا في الفصل السابق، علاقة المرأة - الأم بالإمام الحسن (علیه السلام) نعطف الكلام إلى علاقة الإمام بالمرأة الأخت ممثلة بالسيدة زينب الحوراء (علیها السلام).

ولدت العقيلة زينب (علیها السلام) في صدر الإسلام، بعد عصر كان له حق وأد البنت دون أي قانون يطالب بتجريمه، حتى إذا جاء الإسلام، متعها بحقوقها كاملة، واعتبرها أماً وزوجة، وخلصها من الوأد والحرمان(1).

فقد بذل رسول الله(صلی الله علیه وآله) جهداً متناهياً في رفع مستوى المرأة التي تعيش في عصره والتي كانت تحمل تبعات الاضطهاد الماضيالطويل وعقده، وكذلك بذل جهداً في تحسين نظرة الناس إليها، فقد اعتبر أن: «خیر الأولاد البنات»(2)

وأن: «المرأة محببة عنده مع الصلاة». حیث قال رسول الله(صلی الله علیه وآله)«حبب إلي من الدنيا ثلاث: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة»، ، مع أحاديث كثيرة مماثلة لهذا المعنى تواترت عن الرسول الأكرم(صلی الله علیه وآله). والتي تستمد مصداقيتها من تأكيد القرآن الكريم في آياته المحكمات على تماثل الحقوق والواجبات لدى الجنسين، المرأة والرجل، كما في الآية الكريمة: (وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجةٌ((3) وهذه الدرجة، هي التي عبر القرآن الكريم عنها في آية أخری: (الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساء

ص: 76


1- سليمان كتاني، فاطمة وتر في غمد، ص 124.
2- ورد الحديث بلفظ: «نعم الولد البنات» في الكافي 6: 5، روضة الواعظين: 369، فردوس الأخبار، 2: 367، مكارم الأخلاق، 1: 472، عدة الداعي، 109، وسائل الشيعة، 21: 362، كشف الخفاء، 2: 379.
3- سورة البقرة، 228.

بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا)(1).

أما الآيات التي تضيف المرأة على الرجل لبيان الأحكام أو التقدير أو المواعظ أو العبر فكثيرة جداً دون أن تقلل من مقامها أو تحقرها أو تعتبرها أقل شأناً من الرجل کما جاء في الآية الكريمة: (مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَکَرٍ أَو أُنثی وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحیِیَنَّهُ حَیاةً طَیِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(2)والآية الكريمة ایضاً (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)(3).

وكان بيت النبي محمد(صلی الله علیه وآله) رمزاً وعنواناً لتطبيق كل هذه الالتفاتات الرحمانية فظهرجلياً في أحاديث نبوية فاقت شهرتها الآفاق حب المصطفى لبضعته الزهراء (علیها السلام) حتى غدت أوسمة من خاتم الرسل على صدر ابنته الأثيرة، تزداد تألقاً كلما مر الزمن وما هو ببعيد تأكيد الرسول الأعظم(صلی الله علیه وآله) لمكانة زوجته الصديقة الكبرى (خدیجة)(علیها السلام)، وخصوصية موقعها في حياته وجهاده من أجل رفعة الإسلام.ومن كرامتها عليه(صلی الله علیه وآله) أنه لم يتزوج امرأة قبلها، وجاءه منها عدة أولاد، ولم يتزوج عليها امرأة قط، ولا تسرى إلى أن قضت نحبها، فوجد لفقدها، فإنها كانت نعم القربى، وكانت تنفق عليه من مالها، ويتجر(صلی الله علیه وآله)لها، وقد أمره الله أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب. وكان النبي(صلی الله علیه وآله) يثني عليها حتى بعد وفاتها، ويفضلها

ص: 77


1- سورة النساء: 34.
2- سورة النحل: 97.
3- سورة الأحزاب: 35.

على سائر نساء المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها، بحيث أن عائشة كانت تقول: ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة من كثرة ذكر النبي(صلی الله علیه وآله)لها (1).

وقال عنها السيد عبدالحسين شرف الدين: صديقة هذه الأمة، وأولها إیماناً بالله وتصدیقاً بکتابه، ومواساة لرسول الله(صلی الله علیه وآله)... انفردت برسول الله(صلی الله علیه وآله) خمساً وعشرین سنة لم تشاركها فيه امرأة ثانية، ولو بقيت ما شاركها فيه أخرى، وكانت شريكته في محنته طيلة أيامها معه.

أما أشرف علي الهندي، قال: وكانت من أفضل نسائه وأحبهن إليه، وكانت تنتظر نبوته ويسألها ابن عمها عنه ذلك وعن دلائل تعرفها فيه فتخبره بذلك فيقول: هو والله النبي المنتظر(2).

وفي حضن أم كان الحنان يذوب من ردناها ربيت فاطمة، فأضحت كأمها مثالاً تطبیقیاً آخر على كون المرأة هي استجابة لتلك التربية الممتازة ولادة وتنشئة وعملاً وایحاءً. وكانت فاطمة هي (المرأة) كما يريد الإسلام للمرأة أن تكون، فصور ملامحها، ورسمها النبي(صلی الله علیه وآله)وصقلها ورباها وعلمها فأصبحت انموذج الأم تجاه أبنائها.

أما السيدة زينب (علیها السلام) فكانت خلاصة النبل والطهر والتقديس وعصارته في كلا الشخصيتين أمها و جدتها)علیهما السلام( .

نشأت العقيلة زينب الكبرى(علیها السلام) في كنف أبيها أمير المؤمنين(علیه السلام) وحجر أمها سيدة نساء العالمين)علیها السلام( فأخذت منهما ما يسمو بها إلى أرقى درجات الكمال، فكانت

ص: 78


1- علي محمد علي دخل، أعلام النساء، دار المرتضى - مؤسسة أهل البيت (علیهم السلام)، بيروت – لبنان، 1399ه- - 1979م، ص39.
2- المصدر نفسه، ص 41.

نعم الخلف لخير سلف(1)، نشأت نشأة قدسية وتربت تربية روحانية متجلببة بجلابيب العظمة والجلال مرتدية رداء العفة والحشمة والوقار.. ترعرعت في أحضان النبوة وتربت في بيت الرسالة ونمت في مهد الولاية والإمامة، وولدت في مهبط الوحي والتنزيل ورضعت من ثدي الإيمان والعصمة والنزاهة(2).

وكانت ولادتها بعد ولادة الحسين(علیه السلام) فالسيدة زينب (علیها السلام) هي الطفل الثالث للسيدة فاطمة الزهراء، وكان بين الحسن والحسين طهر واحد، أي مقدار أقل طهر واحد وهي عشرة أيام، وكان بينهما في الميلاد ستة أشهر وعشرٌ(3).

لذا نجد تقارب أعمار أولاد مولاتنا فاطمة الزهراء(علیها السلام) فكأنهم توائم بتعاقبهم الزمني المتقارب. حيث ولدت السيدة زينب في السنة الخامسة من الهجرة، وكانت فاطمة الزهراء(علیها السلام) تمني نفسها أن يكون الجنين في بطنها بنتا فالحسن والحسين(علیهما السلام) قد ملئا أفق البيت العلوي بهجة وسعادة، وبقي قلبها يهفو إلى بنت لتتضاعف فرحتها(4).

وفي رواية أخرى لميلادها الميمون، تقول أن في غضون السنة السادسة من الهجرة استقبل البيت العلوي الفاطمي الطاهر بغبطة وحبور الطفل الثالث من أطفالهم، وهي البنت الأولى للإمام علي والسيدة فاطمة الزهراء(علیها السلام)(5).

ص: 79


1- علي الفتلاوي، المرأة في حياة الحسين(علیه السلام)قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة، شعبة الدراسات والبحوث الإسلامية، ط1، 1429ه-/ 2008م، العراق – کربلاء المقدسة، ص75.
2- محمد حسين الأعلمي الحائري، تراجم أعلام النساء، ج2، ص164.
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج18/ ص 178.
4- بحر العلوم، ص 111.
5- محمد كاظم القزويني، زينب الكبرى(علیها السلام) من المهد إلى اللحد، حققه وعلق عليه ولده السيد مصطفى القزويني، دار المرتضى، ط1، بیروت – لبنان، 1426ه- - 2005م، ص31.

ففي اليوم الخامس من شهر جمادى الأولى ولدت السيدة زينب(1)، وفتحت عينها لتأتلق بمحيا ثلاثة من أطهر خلق الله تعالى: محمد رسول الله، وعلي أمير المؤمنين، وفاطمة سيدة نساء العالمين، صلى الله عليهم أجمعين.

وهناك أقوال أُُخَر في تاريخ ميلادها، منها أن ولادتها كانت في السنة التاسعة من شهر رمضان، في طراز المذهب ص21، س22، وقيل في غرة شهر شعبان في السنة الثالثة وقال السيوطي في رسالته الزينبية ولدت في حياة جدهارسول الله(صلی الله علیه وآله) وكانت لبيبة جزلة عاقلة لها قوة جنان فإن الحسن(علیه السلام) ولد قبل وفاة جده بثمان سنين والحسين(علیه السلام) بسبع سنين وزينب بخمس سنين(2).

والقول المشهور بين الشيعة هو ولادتها في جمادى الأولى في السنة السادسة من الهجرة.

وحالها كحال أخويها، فإن من قام بتسميتها هو جدها النبي المصطفى(صلی الله علیه وآله) تذکر الروايات المعتبرة أن رسول الله(صلی الله علیه وآله) بعد أن بُشر بهذه المولودة سارع إلى بيت فاطمة (علیها السلام) وتلقف حفيدته بحزن ووجوم، ثم ضمها إلى صدره الشريف ووضع خده على خدها فبکی بکاءً شدیداً عالیاً، وسالت دموعه على خديه. فقالت فاطمة (علیها السلام) مم بكاؤك، لا أبكى الله عينك يا أبتاه؟ فقال بنتاه يا فاطمة، إن هذه البنت ستُبتلى ببلايا وترد عليها مصائب شتى، ورزايا أدهى. يا بضعتي وقرة عيني، إن من بكى عليها، وعلى مصائبها

ص: 80


1- للمزيد ينظر: جعفر النقدي، زينب الكبرى، ص17، باب اسمها وتاريخ ولادتها؛ وكتاب(ریاحین الشریعة) للمحلاتي ج3، ص 23.
2- محمد حسين الأعلمي الحائري، تراجم النساء، ج2/ ص 162.

يكون ثوابه كثواب مَن بكى على أخويها(1) ثم سماها زينب(2).

فكما جاء في المصادر أنه لما ولدت السيدة زينب مضى عليها عدة أيام ولم يعين لها اسم، فسألت السيدة فاطمة الإمام أمير المؤمنين(علیهما السلام) عن سبب التأخير في التسمية؟ فأجاب الإمام: إنه ينتظر أن يختار النبي الكريم لها اسماً(3).

وروى الشيخ محمد علي الكاظمي في كتابه المسمى بسرور المؤمنين، لما ولدت زينب قالت فاطمة(علیها السلام) لعلي(علیه السلام) سمها يا علي و كان رسول الله(صلی الله علیه وآله) في سفر فقال علي(علیه السلام) اصبري يا فاطمة حتى يرجع رسول الله(صلی الله علیه وآله) من سفره فلما رجع(صلی الله علیه وآله) بعد ثلاثة أيام من سفره ودخل بيت فاطمة قال علي: يا رسول الله لقد أعطى الله تعالى ابنتك فاطمة بنتاً فعین اسمها- فقال(صلی الله علیه وآله) أولاد فاطمة أولادي لكن أنتظر نزول الوحي في تسميتها فنزل جبرئيل فقال يا رسول الله إن الله تعالى سلم عليك وقال لك سم مولودة فاطمة زينب فإنا كتبنا اسمها زينب في اللوح المحفوظ(4).ويقال أن النبي محمد(صلی الله علیه وآله) أخذ قنداقة زينب وقبلها وقال أوصي أمتي أن يحبوا زينب فإنها شبيهة بخديجة الكبرى (علیها السلام)(5).

وقد اشتهرت السيدة زينب الكبرى (علیها السلام) باسم (العقيلة) على لسان المؤلفين والخطباء والذاكرين لفضل آل بيت الرسول، وهذا وصف أو لقبٌ للسيدة زينب

ص: 81


1- محمد كاظم القزويني، ص 35.
2- جاء في كتاب (لسان العرب): الزينب شجر حسن المنظر طيب الرائحة وبه سميت المرأة.
3- محمد كاظم القزويني، هامش ص 36، نقلاً عن ناسخ التواريخ، المجلد الخاص بحياة السيدة زينب المسمى ب-(الطراز المذهب في أحوال سيدتنا زينب).
4- الأعلمي الحائري، تراجم النساء، ج2/ ص 165.
5- المصدر نفسه، ص 166.

ولیس اسماً ومعناه في كتب اللغة: المرأة الكريمة، النفيسة، المخدرة، ومعنى الكريمة هنا: المحترمة. ولعمري إن بنت الكرار والزهراء كانت جديرة بكل هذه المسميات والألقاب ومعانيها.

وإن كان التاريخ قد ظلم السيدة زينب (علیها السلام)، کما ظلم أباها وأمها وأسرتها أجمعین مرة فقد ظلم السيرة المشتركة للسيدة الجليلة مع أخيها الإمام الحسن(علیه السلام) مرتین، إذ لم يعبأ بها التاريخ كما ينبغي، ولم يتحدث عنهما كما تقتضيه الشخصيتين العظيمتين وتتطلبها(1).

ومن المؤسف أنه لم تصل إلينا تفاصيل أو روايات تاريخية تنفعنا في هذا المجال، حول سنوات الطفولة والصبا التي عاشاها معاً، وخاضا معاناة الأحداث المحزنة معاً، حيث درجا في بيت واحد تحت سقف واحد.

وكل ما نستطيع قوله أن البنت زينب قد استأنست بأمها فاطمة أكثر من استيناسها بأبيها، وتعتبر روابط المحبة بين الأم والبنت من الأمور الفطرية التي لا تحتاج إلى دليل، فالأنوثة من أقوى الروابط بين الأم وبنتها(2).

ونجد هنا أن تلك النقطة من المشتركات بين الإمام الحسن (علیه السلام) والسيدة زينب(علیها السلام) إذ كانا مغمورين بعواطف أمهما الحانية العطوفة، حيث كانا أكثر التصاقاً بها

على الرغم من أن قلب السيدة الطاهرة فاطمة(علیها السلام) كان من أوسع قلوب البشرية وأكثرها حناناً ورأفة وشفقة بأطفالها، إلا أن وليدها الحسن كان وليدها الذكر - الأول ، ووليدتها زينب كانت وليدتها الأنثى - الأولى، فهما بمقام الأخوين الأكبرين لبقية أخوانهما،

ص: 82


1- محمد كاظم القزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص132.
2- المصدر نفسه.

وقد أُهلا لتسنم نصيبهما من المسؤولية في الصعاب والمصائب والرزايا.تذكر كتب التاريخ أن السيدة الحوراء قد رأت رؤيا مخيفة وهي في عمر الطفولة(1)، فحدثت بذلك جدها رسول الله فقالت: يا جداه رأيت -البارحة- أن ريحاًعاصفة قد انبعثت فاسودت الدنيا وما فيها وأظلمت السماء، وحركتني الرياح من جانب إلى جانب، فرأيت شجرة عظيمة فتمسكت بها لكي أسلم من شدة الريح العاصفة، وإذا بالرياح قد قلعت الشجرة من مكانها وألقتها على الأرض، ثم تمسكت بغصن قوي من أغصان تلك الشجرة فكسرتها الرياح، فتعلقت بغصن آخر فكسرتها الريح العاصفة!! فتمسكت بغصن آخر وغصن رابع، ثم استيقظت من نومي! وحينما سمع رسول الله منها هذه الرؤيا بكى وقال: أما الشجرة فهو جدك، وأما الغصنان الكبیران فهما أمک وأباک وأما الغصنان الآخران فأخواك الحسنان، تسود الدنيا لفقدهم، وتلبسين لباس المصيبة والحداد في رزيتهم(2).

لقد شاركت السيدة زينب أخيها الإمام الحسن(علیه السلام) لحظات الطفولة الأولى، حيث مرت الأيام تطوي الليالي... بالنهار، مغمورين بالحنان والعطف والرعاية في رحاب البيت العلوي الشريف متنقلين من حضن جدهم العظيم إلى ذراعي أبيهم الكريم ويرجعون دائما ليلوذا بصدر والدتهم الحنون.

لقد أصابهما سهم الحزن الأول معاً بفقدهم جدهم المصطفى، عندما كانت في الخامسة (أو السادسة) من عمرها يوم فجعت بوفاة جدها النبي، وتألمت لحزن أمها ووالدها، ورأت ما غشى المدينة من الذهول والحزن الفاجع، وأصغت إلى عويل الباكيات وصراخ المروعين وأنين المتجلدين، فبكت بحرقة وألم.

ص: 83


1- محمد كاظم القزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص49.
2- من كتاب (زينب الكبرى) للشيخ جعفر النقري، ص 18.

وأصابها سهم الحزن الثاني وهي ترى أمها الزهراء تذوي سريعاً حزناً وكرباً وألماً لجحود القوم واغتصاب حق الأسرة، وتصحبها معها إلى قبر النبي تندبه وتبكيه..

وكان يوم فقدها لأمها الحبيبة، هو يوم أصابها أكثر الأسهم قساوة وألماً، حيث فقدت الأم الرؤوم والمربية الفاضلة، وتقلدت مسؤولية الحفاظ على وصية أمها، وهي على فراش الموت «بأن تصحب أخويها، وترعاهما وتكون أما لهما»(1)... فغدت زينب الكبرى وهي في الخامسة من عمرها، أم أخيها.وليس بمستغرب أن تتحمل زينب مسؤولية الأم في بيت أبيها وتحتل مكانتها العالية، فقد أنضجتها الأحداث الجسام، وهيأتها لأن تشغل مكان الراحلة الكريمة، فتكون للحسن والحسين وباقي أخواتها أما حنوناً لا تعوزها عاطفة الأمومة بكل ما تحتويه من إيثار وإن كانت صغيرة السن يعوزها الاختبار(2).

وعاشت زينب في البيت الطاهر بین أخویها الإمامین الجلیلین الحسن والحسین علیهما السلام وغدت أماً لأخیها الحسن، كما كانت أمها فاطمة أماً لأبیها، تحمل هموم الآباء(3).

تحملت السيدة زينب مسؤولية عظيمة وقامت بها خير قيام، بفعل تربيتها العالية فهي من تلك الدوحة المقدسة، وكلما تقدم بها الزمن، أنضجتها الأحداث، وعلمتها النوائب كيف تستقبلها بقلب ثابت ملؤه البطولة والإيمان.

وقد وفدت على دار أبيها علي بن أبي طالب بعد وفاة الزهراء زوجات أخريات،

ص: 84


1- مريم فضل الله: المرأة في ظل الاسلام، ص265.
2- مريم فضل الله: المرأة في ظل الاسلام، ص265.
3- محمد بحر العلوم، ص 113.

ولكن مكان أمها ظل شاغراً.. وكانت زينب تشعر بوحشة غريبة يحاول أبوها أن يخففها عنها بفيض من رعايته.. ولکن لم یُخَفَّف من حزنها إلا شيء واحد هو التفاتها بكليتها للمسؤولية التي حمّلتها إياها أمها الزهراء(علیها السلام) وهي على فارش الموت.

وقد اضطلعت السيدة زينب(علیها السلام) بدور (أم أخيها) حتى بعد انتقالها إلى بيت الزوجية فلم تتخلَ عن تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقها من إدارة بيت أبيها والاهتمام بشؤون أخويها أولاً.. وآخراً، فهذه كانت وصية أمها الغالية(1).

وذكر لنا التاريخ لمحة عالية المضامين عن مدى التآلف والتناغم بين الأخت وأخويها، ففي أحد الأيام كانت السيدة زينب(علیها السلام) جالسة، وعندها أخواها الإمامان الحسن والحسين(علیهما السلام) وهما يتحدثان في بعض أحاديث رسول الله(صلی الله علیه وآله) فقالت لهما سمعتكما تقولان: إن رسول الله قال: «الحلال بين، والحرام بين، وشبهات لا يعلمها کثیر من الناس»...، ثم استمرت السيدة زينب تكمل حديثها وتفصيلها للحديث بكل جوانبه حتى أفاضت وأحاطت... فما كان من الإمام الحسن(علیه السلام) إلا أن أبدى سروره واعتزازه بقولها وتفسيرها للحديث، فقال لها: «زادك الله كمالاً، نعم... إنه کما تقولين، إنك حقاً من شجرة النبوة ومن معدن الرسالة»(2)وليس هذا فقط، بل كان الإمام الحسن(علیه السلام) يضع أخته زينب في موضعها المحتوم لها من التقدير والتبجيل، وكان إذا سارت زينب يقوم إجلالاً لها وكان يجلسها في مكانه(3).أليس

الإمام الحسن هنا كجده المصطفى(صلی الله علیه وآله) في تعامله مع الزهراء(علیها السلام) حين كان يجلها ويقبلها ويجلسها في مكانه؟

ص: 85


1- مريم فضل الله: المرأة في ظل الاسلام، ص270.
2- محمد كاظم القزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص 581.
3- الحائري، تراجم النساء، ج2/ ص 169.

وكان الإمام الحسن(علیه السلام) من شدة تقديره ورعايته لأخته الحوراء(علیها السلام) أنه ما فارقها یوماً في زيارتها لقبر جدهما رسول الله (صلی الله علیه وآله) تقول الرواية المشهورة عن يحيى المازني.. قال كنت في جوار علي(علیه السلام) في المدينة مدة مديدة بالقرب من البيت الذي يسكنه زينب ابنته فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتاً- وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدها رسول الله(صلی الله علیه وآله) تخرج ليلاً والحسن عن يمينها والحسين عن شمالها وأمير المؤمنين أمامها فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أبوها فأخمد ضوء القناديل فسأله الحسن مرة عن ذلك فقال «أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب»(1)

إن السيدة زينب(علیها السلام) كانت أقرب النساء من الإمام الحسن(علیه السلام) وأطولهن رفقة له، فخلال حياته الكريمة لم تفارقه أخته منذ ولادتها وحتى استشهاده.

وبذا فقد حظيت (أم أخيها) بالفترة الزمنية الأطول من جميع النساء اللواتي مررن في المراحل العمرية كافة في حياة الإمام الحسن(علیه السلام). فكيف كانت علاقتهما؟ وكيف كان ينظر أحدهما إلى الآخر؟ وهل حظيت المرأة - الأخت في حياة السبط الأول بما يليق بها ومنزلتها الرفيعة؟

غالباً ما نجد في المصادر التي تناولت حياة الإمام الحسن(علیه السلام) اقتضاباً وندرة في السرد عند الحديث عن العلاقة الأخوية بينه وبين السيدة الحوراء (علیها السلام) فيما يمتاز هذا النوع من الحديث عن السيدة زينب وأخيها الإمام الحسين(علیه السلام) بالإفاضة..، مما يعطي إيحاءً مضللاً بأن الأخت كانت أقرب إلى أخيها الحسين من أخيها الأكبر!؟

ونحن نجد أن المسألة لم تكن هكذا أبدا، فالمنظار واحد والأطراف فروع لغصن

ص: 86


1- الحائري، تراجم النساء، ج2/ ص 169.

أصيل واحد، مع قلة ما نقل عن هذه العلاقة(1).ثم إن المصادر التاريخية تتحدث عن العلاقة بين الإمام الحسن(علیه السلام) و أخته من منظارين هما: منظار الأخوة ومنظار الإمامة، وكأن العلاقة تأخذ الطابع الرسمي في المنظار الثاني دون المنظار الأول وبالعكس...، وهكذا أمر لا نذهب إليه، إذ نجد أن المنظارين متطابقين، بل أن النظرة واحدة في الاتجاهين.

نعم، إن الاحترام اللائق والتقدير الرفيع كان متبادلاً بين السيدة زينب الكبرى وبين أخيها الأكبر، وهو السبط الأول لرسول الله (صلی الله علیه وآله) والإمام الزكي، وسيد شباب أهل الجنة(2)..، ولكنه يبقى في نظرها الأخ الأكبر الذي تربّت ونمت معه في ذات الأفياء وغدت له أماً وأختاً وراعية منذ الصغر امتثالاً لوصية الأم الطاهرة(علیها السلام).

فمن ناحية يعتبر الإمام الحسن الأخ الأكبر للسيدة الحوراء(علیها السلام)«والأخ الأكبر بمنزلة الأب»(3)،ولقد

كان لها دوماً بهذه المنزلة قبل وبعد وفاة أبيهما أمير المؤمنين.

وإذا كان الإمام الحسن(علیه السلام) قد أصبح سيد البيت العلوي بعد استشهاد الإمام علي(علیه السلام) فزاد من رعايته وعطفه على أخته السيدة زينب(علیها السلام)..، فمتى لم يكن الإمام الحسن(علیه السلام) عطوفاً على الفقراء واليتامى والمساكين(4) من الأبعدين فكيف بالأقربين؟

كيف لا يغمر سبط النبي الهادي أخته الأثيرة بفيض عطفه وحنوه وهو يرى فيها

ص: 87


1- إبراهيم حسين بغدادي، زينب بنت علي فيض النبوة وعطاء الإمامة، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط1، 1431ه- - 2010م، بیروت – لبنان، ص74 ومابعدها.
2- محمد كاظم القزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص 67.
3- الحديث مروي عن الإمام علي بن موسى الرضا (علیه السلام). ذكر في كتاب (بحار الأنوار) ج75، ص335.
4- راضي آل ياسين، صلح الحسن، ص 28.

أمه الزهراء(علیها السلام) في كل نظرة وإيماءة ونطق، فهو لم يفارقها وهي لم تفارقه حتى الممات.

إن روابط المحبة والاحترام والود كانت من أبرز مزايا العلاقة الأخوية بين الإمام الحسن(علیه السلام) وأخته زينب(علیها السلام) وكيف لا يكونان كذلك وقد تربيا في حجر واحد وتفرعا من شجرة واحدة؟

ولم تكن هذه الروابط الأخوية تخضع لقوانين الدم والقرابة فحسب، بل عرف كل واحد منهما ما للآخر من الكرامة وجلالة القدر وعظم الشأن(1). فهو عندها سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله(صلی الله علیه وآله) وهو من أثنى عليه الله تعالى في آيات كثيرة من القرآن الكريم وهو الإمام المنصَّب من عند الله تعالى...، وهو قبل وبعد كل هذا أخوها ذوو الخصال المحمدية، من مكارم الأخلاق والعبادة الروحانية.وهي عند الإمام الحسن(علیه السلام) أخته الأقرب إلى نفسه والتي يعلم فضائلها وفواضلها وخصائصها، وهو يعلم ماذا سوف يجري عليها، فكأنه كان يهيئها لتلك الأيام القادمة المملوءة بالآهات والأحزان(2).

وسنرى في المبحث التالي كيف كانت السيدة زينب الكبری(علیها السلام) أخت الأحزان.

ص: 88


1- محمد كاظم القزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص 70.
2- إبراهيم حسين بغدادي، زينب بنت علي فيض النبوة وعطاء الإمامة، ص 74.

المبحث الثانی: الحسن و زینب)علیهما السلام(... أخت الأحزان

اشارة

ليس اعتباطاً أو اختياراً بديهياً أن ترتبط صفة الأحزان بأخت الإمام الحسن(علیه السلام) فتصبح سيدة الأحزان، وأم المصائب... على مدى الدهر .. وبلا منازع.

فلقد سبقتها جدتها خديجة الكبری(علیها السلام) وأمها الزهراء البتول(علیها السلام) في تجرع غصص الأحداث والوقائع الأليمة تباعاً، فكنَّ رمزاً إسلامياً لا يبارى في الصمود والتحمل ورباطة الجأش والاحتساب إلى الله تعالى عند وقوع الخطب الجلل...، كيف لا تكون هكذا زينب الكبرى وهي الوريثة الشرعية لمظلومية أمها وأهل بيتها حتى لقبت ب-(نائبة الزهراء)(1).

وإذا كانت صفحة الأحزان والرزايا والمصائب قد طغت على بقية الصفحات في حياة أخت الحسن(علیه السلام) فإنها لا تمنع إشعاعاتها ولا تطمس آثارها.

فالسيدة زينب(علیها السلام) حياتها مملوءة بصفحات الفخر والإعجاب، وهي عقيلة بني هاشم والطالبيين الملقبة بالموثقة العارفة العالمة غير المعلّمة، والفاضلة الكاملة العابدة ولما ظهر منها من العظمة والحكمة والجلال ما تمتاز بمحاسنها الكثيرة وأوصافها الجليلة وخصالها الحميدة ومفاخرها البارزة وفضائلها الظاهرة عن نساء العالمين، وهي من الشجرة المباركة النبوية والسلالة المحمدية الطاهرة والمقامات الرفيعة والمنزلة السامية

ص: 89


1- الخصائص الزينبية، بتصرف، ص 78.

عند الله تعالى، فقد فرض حبهم على الأمة الإسلامية بقوله تعالى: (قل لا أسألُکُم علیهِ أَجراً إِلاّ المَوَدَّةَ فیِ القُربی) وقد عاشت عيشتها الأولى المحترمة مجللة معززة بين الأهل والأقارب.(1)وهي السيدة الوحيدة التي تعد من أشرف الأنساب وأجل الأحساب وأكمل الأنفس وأطهر القلوب، فكأنها جمعت بأطراف الفضائل كلها كما اجتمعت لها المصائب و المحن جميعها.(2)

فكانت صفة أحزانها سمة ربانية بكى لها الأمين جبرئيل وأبكى رسول الله(صلی الله علیه وآله)حينما نبأهُ إن حياة هذه البنت الوليدة سوف تكون مقرونة بالمصائب والمتاعب من بداية عمرها إلى وفاتها(3).

وتذكر الروايات التاريخية، أن السيدة زينب الكبرى(علیها السلام) كانت تفسر القرآن للنساء في أحد المجالس في بيتها أيام إمامة أبيها(علیه السلام) في الكوفة، إذا دخل أمير المؤمنين(علیه السلام) فقال لها: يا نور عيني سمعتك تفسّرین (كهيعص) للنساء فقالت نعم: فقال: هذا رمز لمصیبة تصیبکم عترة رسول اللّه ثم شرح المصائب فبكت بكاءً عالیاً صلوات الله علیها(4).

ولسنا هنا بصدد تناول مجمل حياة السيدة الحوراء زينب(علیها السلام) وفضائلها وخصالها، فهذا ما لا تفيه كتب ومجلدات، ولكننا سنمر سراعاً على بضع محطات حياتية تشاركت فيها الأحزان مع أخيها الإمام الحسن(علیه السلام) منذ الطفولة وحتى الاستشهاد..، فلقد كانت

ص: 90


1- الأعلمي الحائري، تراجم النساء، ج2/ ص167.
2- المصدر نفسه.
3- محمد كاظم القزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، هامش ص36.
4- الحائرِي، تراجم النساء، ج2، ص170.

زینب(علیها السلام) رفيقة درب لازمة لآلام أهل البيت، وشاهدة حاضرة لمصائبهم، ولقد حظيت بأطول فترة زمنية قاربت 45 سنة من المواكبة والمشاركة للإمام الحسن(علیه السلام) من بين كل النساء في حياته الكريمة، إذ لم تفارقه حتى بعد أن بلغت مبلغ النساء ودخلت دور الشباب وخطبها كثيرون من أشراف العرب.(1)

فاختار لها أمير المؤمنين(علیه السلام) فتى الفتيان ومن هو أقرب نسباً وحسباً ومودة للبيت العلوي، إنه ابن عمها عبدالله بن جعفر الطيار، فمن هو عبدالله؟.. والده جعفر شريك أبيه أبي طالب وأخيه علي في الحفاظ على كيان مسيرة الدعوة الإسلامية من قبل انطلاقها الأول، وهو قائد المسلمين في غزوة مؤتة، قطعت يداه في الحرب، فعوضه الله بجناحين يطير بهما في الجنة. فهو جعفر الطيار ذو الجناحين... وأبو المساكين وحبيب رسول الله، وأمير المهاجرين إلى الحبشة.تقول المرويات: إنه صادف وصول جعفر من الحبشة إلى المدينة يوم فتح خيبر. فاعتنق رسول الله جعفراً وأخذ يقبله بين عينيه وهو يقول: «لا أدري بأيهما أنا أشد فرحاً، بقدوم جعفر أم فتح خيبر؟»(2).

والحقيقة بهما معاً ففاتح خيبر هو علي بن أبي طالب والعائد من المهجر هو أخوه جعفر وبهما سعدت عينا النبي(صلی الله علیه وآله) وقرت.(3)

وکان النبي(صلی الله علیه وآله) لآل جعفر راعياً وأباً، یرعاهم بعطفه، ويفيض عليهم بحنانه، واشتهر عنه دعاؤه لعبدالله: «اللهم أخلف جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه- قالها

ص: 91


1- ا لحائري، تراجم النساء، ج2، ص 171.
2- مريم فضل الله: المرأة في ظلّ الاسلام، ص 267 نقلاً عن: تاريخ الطبري وطبقات ابن سعد الکبری.
3- محمد بحر العلوم، ص 117.

ثلاثاً- وأنا وليهم في الدنيا والآخرة»(1)

أما أم عبدالله فهي أسماء بنت عميس الخثعمية، تلك المؤمنة الطاهرة، والتي هاجرت مع زوجها جعفر لتحفظ دينها، وتصون نفسها من شر الأعداء وعرفها الإمام الصادق(علیه السلام)ب-(النجيبة) وترحم عليها بقوله: رحم الله الأخوات من أهل الجنة وعد أسماء في مقدمتهن(2)

وهي بالأخير زوجة الإمام علي بن أبي طالب وولدت قبله من أبي بكر محمداً تلميذ علي وربيبه.

وإلى جانب المكانة الأسرية الإيمانية يتحلى عبدالله بن جعفر بالجود والكرم، بحيث لقب ب-«بحر الجود»(3).

واشتهر بكونه أحد كرماء العرب.

هذه الشخصية الكريمة الفذة المحبة لآل البيت ارتضاها الإمام علي(علیه السلام) زوجاً لابنته زينب، ورغم أن السيدة زينب دخلت بيت الزوجية، وتحملت المسؤولية، كما كانت أمها فاطمة وجدتها خديجة، لكنها لم تفارق بيت أبيها، وبقيت تدير شؤونه، وتهتم بشؤون أخويها، وبقيت هي صاحبة البيت العلوي مع أن والدها تزوج عدة نساء وقامت زوجاته بما يقتضي البيت من رعاية واهتمام، لكن السيدة زينب(علیها السلام) کانت هي كل شيء في البيت ولها المنزلة المرموقة فيه، وكذلك بين علية قومها، حتى عرفت ب-«عقيلة الهاشميين»(4)وتنقل لنا الروايات كيف أن زواج السيدة زينب الكبرى(علیها السلام) لم يفرق بينها وبين أخوتها، فقد بلغ من تعلق الإمام علي بابنته وابن أخيه عبدالله أن أبقاهما معه، حتى إذا

ص: 92


1- مريم فضل الله: المرأة في ظلّ الاسلام، ص 268.
2- بحر العلوم، ص 118. نقلاً عن: الصدوق، الخصال: 363 / 55.
3- المصدر نفسه، ص 119. نقلاً عن ابن الأثير: أسد الغابة 3: 134.
4- ا بن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، 27: 285.

ولي أمر المسلمين، وانتقل إلى الكوفة انتقلا معه، موضع رعاية أمير المؤمنين وإعزازه.

ووقف عبدالله بجانب عمه في جهاده الحربي، فكان أمیراً بين أمراء جيشه في صفین(1).

کما قتل ابنيه محمد وعون مع خالهما الإمام الحسين(علیه السلام) في كربلاء يوم عاشوراء.

وما كان عبدالله بن جعفر ينادي مولاتنا السيدة زينب(علیها السلام) إلا ب-«يا بنت المرتضى، ويا عقيلة بني هاشم»،مُدِلاً على حسن عشرته لها ومعرفته لمقامها ومنزلتها ولاستحقاقها كل هذا الاحترام الكبير من زوجها(2).

ولقد أجمعت السِیَر والمصادر التاريخية على أن عقيلة بني هاشم كانت في صميم دوامة الأحداث الجسام التي عصفت بالدولة الإسلامية، فنراها(علیها السلام) قد رحلت من مدينة جدها الرسول(صلی الله علیه وآله) إلى الكوفة مقر خلافة أبيها مع زوجها، ثم تعود إلى المدينة بعد مقتل الإمام علي(علیه السلام) لترافق أخيها الحسن(علیه السلام) في فترة إمامته وإقامته ثم لتعود ثانية إلى أرض كربلاء لتشهد واقعة الطف مع أخيها الحسين(علیه السلام).

إن حضور السيدة زينب(علیها السلام) في هذه الأحداث كان مدوياً وبارزاً، صحيح أنها لم تكن من حملة السيوف، ولا نراها في ساحة الوغى... ولكنها على مسرح الأحداث بطلة من الأبطال(3)

منذ فاجعة وفاة جدها النبي المصطفى وحتى استشهاد أخويها الحسن والحسین (علیهما السلام).

لقد كانت أخت الأحزان مع أخيها الإمام الحسن(علیه السلام)تشهد كارثة تعقبها أخرى، وفجيعة تليها فجيعة أكبر تصيب آل محمد..، لقد وعت ذاكرة الطفلة زينب وشاركت

ص: 93


1- محمد جواد مغنية، مع بطلة كربلاء زينب، ص 35.
2- علي الفتلاوي، المرأة في حياة الحسين(علیه السلام)، ص 86.
3- مريم فضل الله، المرأة في ظلّ الإسلام، ص275.

أخيها الحسن لحظات مفارقة النبي محمد(صلی الله علیه وآله) لهذه الدنيا الفانية وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، وإن بخلت الروايات بسرد عمق العلاقة بين النبي وحفيدته، ولكنه دون شك ما كان يبقيها بعيدة عن فيض محبته التي أغدقها على أخويها، يقول الشيخ مغنیة(1):«وكان النبي لا يصبر عن بيته هذا، ولا يشغله عنه شاغل، لاسيما بعد أن نبتت فيه ريحانة، فإذا دخله قبّل هذا، وشمَّ ذاك، وابتسم لتلك... ودخله ذات يوم فأخذ الحسن وحمله، فأخذ علي الحسين وحمله فأخذت فاطمة زينب وحملتها، فاهتزت أركان البيت طرباً لجو الصفوة المختارة، وتدلنا هذه الظاهرة وكثير غيرها أن محمدا كان أكثر الأنبياء غبطة وسعادة بأهل بيته».

لقد فجعت السيدة زينب(علیها السلام) بجدها الرسول الأعظم(صلی الله علیه وآله) وکان لها من العمر –يومذاك- خمس سنوات، ولكنها كانت تدرك هول الفاجعة ومضاعفاتها، ومن ذلك اليوم تغيرت معالم الحياة في بيتها، وخيمت الهموم والغموم على أسرتها(2).

إذا كان فقد رسول الله(صلی الله علیه وآله) يشكل صدمة كبرى وفاجعة مهولة عظمى على المسلمين جميعاً، فإنه لا شك أشد وقعاً وأعظم أثراً، على أهل بيته الملتصقين به، والمتنعمين برعايته وعطفه، وعلى أي حال، إن وفاة النبي(صلی الله علیه وآله) كانت من أفجع الكوارث التي دهمت العترة الطاهرة، فقد كانت من الأحداث الرهيبة التي ألمت بهم(3).

وقد وصف الإمام الصادق(علیه السلام) حالهم خير وصف، بقوله: «لما قبض رسول الله(صلی الله علیه وآله) بات آل محمد(صلی الله علیه وآله) بأطول ليلة حتى ظنوا أن لا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم لأن رسول

ص: 94


1- محمد جواد مغنية، الحسين وبطلة كربلاء، دار الكتاب الإسلامي، ط1، بيروت، ص 22.
2- محمد كاظم القزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص 127.
3- إبراهیم حسين بغدادي، زينب بنت علي فيض النبوة وعطاء الإمامة، ص 45.

الله(صلی الله علیه وآله) وتر الأقربين والأبعدين في الله...»(1).

وفي غضون أشهر معدودة تكالبت الأيام، واستعرت الأحقاد، وانهالت المصائب تترا على قلب زينب وهي لم تودع عامها السادس...، لقد شاركت أخويها الحسنين كل الآلام منذ فقد الحبيب محمد حتى فقد الأم فاطمة..، رحلة قصيرة بزمنها، طويلة قاسية بأحداثها.

كانت جميع تلك الحوادث بمرأى من السيدة زينب ومسمع، فلقد سمعت صراخ أمها من بين الحائط والباب، وشاهدت الأعداء الذين أحاطوا بها يضربونها بالسوط والسيف المغمد، وشهدت إسقاط أخيها المحسن، وكسر ضلع أمها الزهراء وتورم العضد الذي بقي أثره إلى آخر حياتها(2).لقد عاشت حفيدة النبي (صلی الله علیه وآله) مع أخويها الحسنين(علیهما السلام) الدقائق المرة والمروعة تلك، وسمعت أمها الزهراء(علیها السلام) وهي تصيح إليك يا فضة فخذيني وإلى صدرك فسنديني لقد أسقطوا ما في بطني من حمل(3).

في خضم المأساة المروعة تلوذ بأمها الزهراء فتجدها عليلة ذاهلة، حزينة يغشى عليها من حين لآخر...، لقد غادرت زينب طفولتها مبكراً!

تقول بنت الشاطئ: وما بالغريب أن تشغل (زينب) مكان الأم ولما تبلغ العاشرة من عمرها وإنما الغريب أن نقيس زمانها بزماننا ومكانها بمكاننا، فنزعم أن هذه سن

ص: 95


1- أصول الكافي، ج1، ص 445.
2- محمد كاظم القزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص 128.
3- عبدالكريم الفيلي، ظلامات فاطمة الزهراء(علیها السلام)، دار الغدیر، ط1، قم، ص116. نقلاً عن الهدایة الکبری: ص392.

اللهو واللعب(1).

حيث تبدو زينب في بيت أبيها ذات مكانة أكبر من سنها، أنضجتها الأحداث،

وهيأتها لأن تشغل مكان الراحلة الكريمة، فتكون للحسن والحسين وأم كلثوم، أماً لاتعوزها عاطفة الأمومة بكل ما فيها من حنو وإيثار(2)...

فصارت

البنت كالأم في تحمل الشدائد والمصاعب، والرزايا والمصائب، بل و زادت عليها أيضاً وعند اقتراب الأجل، أرادت الزهراء(علیها السلام) أن تبعد ابنتها زينب، عن مشاهدة تلك اللحظات الأليمة، فأرسلتها إلى بيوت بعض الهاشميات كما تشير إحدى الروايات، بينما كان الحسن مع أبيه وأخيه خارج المنزل(3).

وإذا كانت الروايات تذكر لنا مرافقة الإمام الحسن(علیه السلام) لوالدته الزهراء(علیها السلام) مع أخيه الحسين(علیه السلام) في رحلة الألم والدموع اليومية إلى بيت الأحزان فإنها لا تشير إلى وجود البنت معهم، وكأن الصديقة الطاهرة(علیها السلام) قد أشفقت على ابنتها من معايشة تلك اللحظات المشحونة لوعة وتفجعاً ونحیباً ودمعاً.

ولكن السيدة زينب(علیها السلام) کانت حاضرة مع أخيها الإمام الحسن(علیه السلام) في مسیر والدتها إلى المسجد النبوي لإلقاء خطبتها الشهيرة ومطالبتها بحقها...، فقد روى الشيخ المفيد بسنده، عن زينب بنت علي بن أبي طالب(علیهالسلام) قالت: لما اجتمع رأي أبي بكر على منع فاطمة(علیها السلام) فدك و العوالي و أيست من إجابته لها عدلت إلى قبر أبيها رسول الله(صلی الله علیه وآله) فألقت نفسها عليه و شكت إليه ما فعله القوم بها و بكت حتى بلت تربته(صلی الله علیه وآله)

ص: 96


1- عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ ، السيدة زينب عقيلة بني هاشم، ص42: دار الکتاب العربي/ بیروت-لبنان/ 1985م.
2- إبراهيم حسين بغدادي، زينب بنت علي فيض النبوة وعطاء الإمامة، ص 59.
3- حسن الصفار، المرأة العظيمة، دار البيان العربي، ط1، بیروت، ص72.

بدموعها و ندبته، ثم قالت في آخر ندبها: قد كان بعدك أبناء وهنبثة... الأبیات(1).

ولنا مطلق المخيلة في تصور حال السيدة زينب(علیها السلام) مع أخويها وهم يشاهدون توجع أمهم وتظلمها عند قبر أبيها، أتراهم يصبرون ويتصابرون ويتجلدون فلا يذرفون الدمع ويطلقون العويل والنحيب مع أمهم؟! إن القلب ليعتصر ألماً وأساً لموقف سيدة الأحزان هذا وهي في ربيعها الخامس.

أي طائف من الحزن اجتاح قلب الطفلة الطاهرة؟

لزمت (زينب) فراش أمها العليلة، التي اعتلت بشدة بعد حادثة الباب، وانقضت عليها ساعات أليمة مريرة تنظر فيها بعيون مشفقة مع أخيها الإمام الحسن وأخيها الإمام الحسن(علیه السلام)، يتزودون من وجه الحبيبة قبل الرحيل الأبدي، وهم يشاهدون أمهم العليلة، طريحة الفراش، مكسورة الضلع، دامية الصدر، محمرة العين، معصوبة الرأس...، فيتوجسون من حلول لحظات الوداع في أي لحظة من ليل أو نهار.

وإذا ما كانت الأم الرؤوم قد أبعدت أولادها عنها في لحظاتها الدنيوية الأخيرة، شفقة منها ورحمة لهم، فإن العقيلة زينب وأخويها(علیهم السلام) تجرعوا كأس الألم حتى الثمالة وهم ينظرون إلى جثمان أمهم البارة الحانية مسجى في وسط الدار، وهي تلف في أثواب الكفن، والأب المفجوع يهتف بهم باكياً معتبراً: يا حسن يا حسين يا زينب هلموا: وتزودوا من أمكم فهذا الفراق، واللقاء في الجنة!!

لقد أضحى أولاد فاطمة كما وصفتهم في وصيتها لأمير المؤمنين (يتامى) بحاجة إلى كل العطف والحنو في الدنيا، فبالأمس فقدوا جدهم واليوم يفارقون أمهم، بضعة

ص: 97


1- الأمالي للشيخ المفيد ص40-41، سلسة مؤلفات الشيخ المفيد: ط2، دار المفید للطباعة والنشر1414ه- - 1993م.

أيام تتالت حصدت معها أغلى حبيبين، مع أنعم لحظات الهناء.شاركت الحوراء زينب أخويها لحظات الوداع فارتمت على الجسد الطاهر المسجى، يغسلون كفن أمهم الحانية بالدموع والآهات والزفرات.

إن ما حدث بعد ذلك، قد لا تفسره لنا عقولنا القاصرة، ولا تتخيله مداركنا العاجزة، ولكن سيد الأوصياء، أرسلها شاهدة مروية صادقة...، يقول أمير المؤمنين(علیه السلام) : أشهد الله أنها حنّت وأنّت وأخرجت يديها من الكفن، وضمتهما إلى صدرها ملیاً(1).

فهنيئاً للعقيلة زينب وأخويها وهم يشاركون أباهم تغسيل وتكفين ووداع ودفن سيدة نساء العالمين والابنة الوحيدة الفريدة لسيد المرسلين وبضعته الطاهرة... في حين حرم الباري عز وجل الكثير ممن عاصروها هذا الفضل العظيم.

لقد فارقت السيدة فاطمة(علیها السلام) أولادها وأحبتها جسداً ولم تفارقهم روحاً وذكرى عطرة..، ذهبت فاطمة لمن تاقت الروح شوقاً للقياه، إلى أبيها الذي كان ينتظر سبق ارتحالها إليه، وبقيت زينب حائرة، صابرة، وطيف أمها لا يفارقها، وكذلك حال السيدة الزهراء(علیها السلام) فإن روحها لم تفارق ابنتها الغالية(2).

روي أن أمير المؤمنين(علیه السلام) کان يجلس عند قبر الزهراء(علیها السلام) لیلاً يقرأ القرآن بناءً على وصيتها، وفي ليلة من الليالي قرأ شيئاً من القرآن ثم غفا ليلاً وإذا به يرى السيدة فاطمة في المنام تقول له: شكر الله سعيك يا بن العم لقد نفذت الوصية يا أبا الحسن، ثم قالت: ارجع يا أبا الحسن إلى البيت لأن زينب جلست من نومها ونظرت إلى مكاني فرأته خالياً فأخذت بالبكاء فلما سمع الإمام (علیه السلام) كلامها رجع إلى البيت مسرعاً فوجد

ص: 98


1- محمد كاظم القزويني، فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد، ص 435.
2- إبراهيم حسين بغدادي، زينب بنت علي فيض النبوة وعطاء الإمامة، ص 62.

زينب جالسة وهي تنظر إلى مكان أمها الزهراء وعيونها تتحادر دموعاً فلما وقع بصرها على أمير المؤمنين صاحت: واأماه وافاطماه(1).

وتبقى عقيلة الهاشميين سيدة الأحزان بحق، فمن فراق الأم العظيمة وحتى أن تحل بها وبأخويها فجيعة فقدها للأب الرحيم، لا نجد شيئاً يذكر من الأخبار والروايات عن السيدة زينب(علیها السلام) وكيف يمكن لنا الإحاطة بحياة سيدة قضت معظم حياتها في الخدر ووراء الستر، ولم يطلع على حياتها العائلية إلا أهلها وذووها(2).ولكن ألم تكن السيدة فاطمة الزهراء(علیها السلام) ام الحوراء زينبء(علیها السلام) قد قضت حياتها في الخدر؟ وأبى الله ونبيه إلا أن يطلعنا على عظيم منزلتها وقدسية وجودها الإنساني بذكر تفاصيل من حياتها الخاصة من زواج وولادات وعبادة وتقوى، حتى أضحت أحاديث النبي المصطفى(صلی الله علیه وآله)عنها خير معين للقلوب الولهة لمحبتهم والعقول الساعية لفهم درجة قربهم وحظوتهم عنده.

جل ما نستطيع قوله يقيناً إن أخت الأحزان وسيدتها المبجلة قد شاءت لها الأقدار أن ترافق الأحداث التي مر بها البيت العلوي كاملة فلم تكن تفارق أباها وأخويها، ولقد استعاضت عن مرارة يتم الأم بحنو الأب الرحيم، فهو كما قال رسول الله(صلی الله علیه وآله): یا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة.

وفي أحضان هذا الأب الشمولي تربت السيدة زينب(علیها السلام) الذي غمرها وغمر أخويها الحسن والحسين(علیهما السلام) وكل أولاده وبناته بطيب العاطفة والمحبة ليعوضهم قساوة الأيام والرزايا التي سيلاقونها من بعده.

ص: 99


1- مهدي تاج الدين، المجالس المرضية في الأيام الفاطمية، المكتبة الحيدرية، ط1، قم، ص 46.
2- محمد كاظم القزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص 27.

ويشاء القدر مرة أخرى أن يجرع السيدة زينب مرارة اليتم ويروع قلبها الكبير، بفقد الأب العطوف، في شهر الرحمة والبركة. شهر رمضان المبارك(1).

وهكذا اخترق قلب السيدة زينب سهم الحزن معاً مع أخيها الحسن، ليلة 19 من رمضان عام 40 هجرية.

فقد ضُرِب الإمام علي(علیه السلام) ليلة الجمعة، فمكث يوم الجمعة وليلة السبت وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقين من شهر رمضان سنة أربعين للهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة(2).

لقد لازمت عقيلة بني هاشم أباها في لحظاته الأخيرة وحدثت بها، قالت:... قال(تعني أباه): «إني رأيت الساعة رسول الله(صلی الله علیه وآله) في منامي وهو يقول لي: يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب، يجيء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك، وأنا -والله- مشتاق إليك وإنك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان فهلم إلينافما عندنا خیر لک وأبقی قال: فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب، وأبدوا بالعويل، فأقسم عليهم بالسكوت، فسكتوا»(3).

وقفت السيدة زينب(علیها السلام) لتضيف إلى أحزانها المختزنة حزناً آخر ..، وأخذت تصغي إلى أبيها أمير المؤمنين وهو يوصي أخاها الحسن: أُدن مني حتى أسر إليك ما أسر إلي رسول الله وائتمنك على ما ائتمنني عليه(4).

وودعا معاً رجل يعرفه الله ورسوله ولا يعرفه غيرهما، وها هي تروي قائلة: كان

ص: 100


1- مريم فضل الله: المرأة في ظل الاسلام، ص 276.
2- تاريخ الطبري، ج5/ ص 153.
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج42، ص 277، باب 127.
4- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص 231. نقلاً عن أعلام الوری، ج1، ص 406.

آخر عهد أبي إلى أخوي (علیهما السلام) أنه قال لهما: يا بني إذا أنا مت فغسلاني ثم نشفاني بالبردة التي نشف بها رسول الله(صلی الله علیه وآله) وفاطمة، وحنطاني وسجياني على سريري، ثم انظروا حتى إذا ارتفع لكما مقدم السرير فاحملا مؤخره(1)...

وتتابع السيدة زينب(علیها السلام) رواية الدفن، فنعلم أنها قد شاركت أخويها دفن الأب بعد أن شاركتهم قبل سنين دفن الأم.

رحل الإمام إلى جوار ربه، وترك زينب تندب أباها البطل الهمام، باكية متفجعة، تتجرع الحسرات، تقف عقيلة الهاشميين وقلبها يتفطر أسى ولوعة، ونرى سيدة الأحزان تركن إلى أخيها الحسن مصغية إلى مقالته بين الجمع: «لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل: ولا يدركه الآخرون بعمل، ولقد كان يجاهد مع رسول الله(صلی الله علیه وآله)، فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجهه برايته فيكتنفه جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره فلا يرجع حتى يفتح عليه، وما خلف صفراء ولا بيضاء» .. ثم خنقته العبرة فبكى، وبكى الناس معه(2).

وعادت أخت الأحزان إلى مدينة جدها بعد أن دفنت أباها في الكوفة، عجباً لهذه الأيام كيف تغتال سعادتها بفراق الأحبة..، في كل مدينة لها قبر وحبيب، ولم يتوقف مجرى نهر الحزن مرة واحدة بل لعله كان ملازماً للسيدة زينب(علیها السلام) في كل مراحل حياتها، كما لازمت هي أخاها الإمام الحسن(علیه السلام) في عودته إلى ديارهم، إلى مدينةجدهم، ويترك البلد الذي خذله وخذل أباه من قبل، وشهدت معه محاولات اغتياله من قبل المرتشين من معاوية والخوارج وسلم منها.

ص: 101


1- ا لقزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص 583.
2- تاريخ الطبري، ج5/ ص 147.

وشهدت السيدة زينب(علیها السلام) أخاها الإمام الحسن(علیه السلام) وهو يلقي الحجة عليهم في تقاعسهم وتخاذلهم عن آل البيت، عندما قام خطيباً في الناس فقال:«يا أهل العراق إنه، سخى بنفسي عنكم ثلاث قتلكم أبي وطعنكم إياي وانتهابكم متاعي»(1).

وقد ذكر زيد بن وهب الجهني أنه بعد أن جُرح الإمام(علیه السلام) في المدائن سألته عن موقفه الذي سيتخذه في هذه الظروف فأجاب(علیه السلام)«أرى والله أن معاوية خير لي من هؤلاء، يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله لئن آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمي، وأومن به في أهلي ، خير من أن يقتلوني فتضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما، والله لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير، أو يمن علي فيكون سنة على بني هاشم آخر الدهر ولمعاوية لايزال يمن بها وعقبه علي الحي منا والميت»(2)...

ولم تتوقف سهام الحزن... وعادت لتسدد إلى قلب الحوراء سهماً جدیداً فبعد عشر سنين من فاجعة أبيها جاءت نباله حادة حامية تستأصل ريحانة الرسول وبضعته، إمام عصرها وخيرة رجاله، ووديعة أمها الزهراء الذي عاشت معه كل سنين عمرهما المبارك.

كان الإمام الحسن(علیه السلام) لزينب الكبرى(علیها السلام) أخاً کبیراً وأباً بدیلاً وإماماً مراعیاً لحقوقها ومنزلتها..، وتقطعت نياط قلبها يوم حضرت السيدة زينب(علیها السلام) عند أخیها ساعة الوفاة: «... وصاحت زينب: واأخاه! واحسناه! واقلة ناصراه! يا أخي من ألوذ به بعدك؟! وحزني عليك لا ينقطع طول عمري! ثم إنها بكت على أخيها وهي تلثم

ص: 102


1- تاريخ الطبري، ج3/ ص 165.
2- الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص11، تعليق وملاحظات: السيد محمد باقر الخرسان، الناشر دار النعمان للطباعة والنشر - النجف الأشرف، 1386 - 1966 م.

خديه وتتمرغ عليه، وتبكي عليه طويلاً»(1).انفطر قلب السيدة زينب(علیها السلام) لمأساة أخيها وتجددت عليها المصائب والأحزان، ومما زاد في آلام السيدة وأحزانها ما تعرضت لها جنازة أخيها من إساءة كل ذلك ضاعف من أحزان الحوراء والهاشميين لذلك ورد في التاريخ: أن نساء بني هاشم وفي طليعتهن أخت الأحزان زينب(علیها السلام) استمرن في النياحة على الإمام الحسن (علیه السلام) شهراً كاملاً، وأظهرن الحزن ولبسن السواد سنة كاملة(2).

إن كل هذه الأحزان لو أصابت جبلاً لصدعته فهل تتكسر سهام أحزان زينب على صخرة قلبها المؤمن أم أنها ستستسلم لليأس والنحيب. هنا مصدر قوة سيدة الأحزان وأختها فقد بقيت متمالكة نفسها رغم كل المصائب التي حلت بها وبآل بيتها.. وكأنها تختزن عمق صلابتها وتجلدها وصبرها ليوم الحزن الأكبر في كربلاء.

أم كلثوم... الأخت الصغری

تناولنا في حديثنا عن دور الأخت في حياة الإمام الحسن(علیه السلام) وأثر السيدة زينب الكبرى(علیها السلام) في حياة أخيها، ويبدو أن سعة دورها وشدة سطوعه وألقه قد حجب الضوء عن بقية الأخوات وعلى وجه الخصوص السيدة أم كلثوم (علیها السلام)والتي هي شقيقة الإمام من والده ووالدته السيدة فاطمة الزهراء(علیها السلام).

وربما يأتي هذا التعتيم غير المقصود أیضاً لوجود اختلاف في الروايات عن (أم كلثوم) هل هو أحد أسماء السيدة زينب الكبرى(علیها السلام) أم أنها شخصية حقيقية وأخت

ص: 103


1- محمد كاظم القزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص68. نقلاً عن معالي السبطین، للمازندراني، ج1، المجلس التاسع.
2- حسن الصفار، المرأة العظيمة، ص 127.

أخرى للإمام الحسن(علیه السلام) حيث يقال أن السيدة زينب الكبرى(علیها السلام) كنيتها (أم كلثوم) و(أم الحسن)(1).

يوجد -في كتب التراجم- اضطراب شديد حول هذا الاسم وهذه الكنية، فالمشهور أن السيدتين: زينب وأم كلثوم بنتان للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) من السيدة فاطمة الزهراء(علیها السلام). ولكن لبعض المؤرخين وجهة نظر مخالفة، وقول آخر، حيث يجد أن التعبير عن السيدة زينب الكبرى قد جاء في بعض كتب الحديث والتاريخ لعدة احتمالات:الاحتمال الأول: أن هذا التعبير هو كنية لها.

الاحتمال الثاني: أنه اسم ثانٍ لها.

والاحتمال الثالث: أنه اشتباه وتوهم من بعض المؤرخين، حيث أنهم عبروا عنها باسم أختها، أو بكنية أختها.

الاحتمال الرابع: وجود سبب آخر خفي علينا، بسبب ظلم التاريخ لترجمة حياة أهل البيت.. رجالاً ونساءً(2).

ويقطع المؤرخ محمد كاظم القزويني بأن المقصود من أم كلثوم، هي السيدة زينب الكبرى، ويستند إلى الاحتمال الأول، لاسيما وأن شخصية البنت الثانية للإمام أمير المؤمنين أحيطت بسحاب كثيف من الغموض والإبهام والتشويش، إلى درجة أن بعض المعاصرين أعطى لنفسه الجرأة في أن ينكر وجود بنت ثانية للإمام من زوجته السيدة

ص: 104


1- محمد كاظم القزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص38. نقلاً عن: كتاب (تحفة العالم في شرح خطبة المعالم) للسيد جعفر بحر العلوم، المتوفى سنة 1377ه-.
2- المصدر نفسه.

فاطمة الزهراء... ويكون اسمها أم كلثوم(1).

في حين تؤكد كثير من الكتب التاريخية المعتبرة كون (أم كلثوم) هي بنت علي بن أبي طالب(علیه السلام) وروى الكليني في الكافي ذلك.(2)

وكذلك قال الزمخشري في ربيع الأبرار خطب عمر أم كلثوم بنت علي(علیه السلام) من فاطمة وقال زوجنيها فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد، فقال(علیه السلام) هي صغيرة.

وفحوى كلام الشيخ المفيد(رحمه الله) يؤكد وجود السيدة أم كلثوم أخت أخرى للإمام الحسن ففي جواب المسائل السردية أن الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين(علیه السلام) بنته من عمر لم يثبت وطريقه من الزبير بن بكار ولم يكن موثوقاً به في النقل وكان متهماً فيما يذكره من بغضه لأمير المؤمنين(علیه السلام) وغير مأمون والحديث مختلق(3).

وقد ذكرت أم كلثوم الصغرى وهي إحدى أخوات الإمام الحسن(علیه السلام) من والده أمیر المؤمنين(علیه السلام) من أمهات شتى في مصادر أخرى(4).وكان بيت السيدة فاطمة الزهراء وعلي(علیهما السلام) استقبل ابنتهما الثانية وطفلهما الرابع بالفرح والسرور، وقد شاركت السيدة أم كلثوم أختها زينب في النسب الشريف والتربية

ص: 105


1- محمد كاظم القزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص 39 نقلاً عن کتاب (تحفة العالم في شرح خطبة المعالم) للسيد جعفر بحر العلوم، المتوفى سنة 1377ه-.
2- الحائري، تراجم أعلام النساء، ج1، ص301.
3- المصدر نفسه، ص 302.
4- المنتقى في أعقاب الحسن المجتبى، ص 108. نقلاً عن نسب قريش للزبيري، ص 40- 44، جمهرة أنساب العرب لابن حزم، ص37- 38، جمهرة النسب للكلبي، ص 30-31، لباب الإنسان للبيهقي ص333، الطبقات الكبرى لابن سعد: 3/14، تاريخ الطبري: 5 / 153- 155، مروج الذهب للمسعودی 3 /68 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 /262-263.

الممتازة والأحداث كلها وإن اختلفت عنها في بعض جوانب حياتها(1).

وقيل إن اسمها رقية، وقيل زينب الصغرى، وقد لازمت أخويها الإمامين المجللين الحسن والحسين)علیهما السلام) وظلت قريبة منهما إلى أن توفي الإمام الحسن(علیه السلام) فلازمت الإمام الحسين(علیه السلام)ورافقته في رحلته إلى كربلاء(2).وكانت الساعد الأيمن لشقيقتها الكبرى السيدة زينب (علیها السلام).

ص: 106


1- محمد كاظم القزويني، فاطمة الزهراء(علیها السلام)من المهد إلى اللحد، ص 138.
2- . زميزم، ص51.

الفصل الثالث: الإمام الحسن(علیه السلام) و نساء أخریات

اشارة

* أم سلمة... الأم الربانیة.

* أم ایمن... الأم الطیبة.

* أم البنین... فاطمة أخری.

* أسماء بنت عمیس... أم أخری.

* أمامة... وصیة زهراء)علیها السلام).

* فضة... أمرأة من ذهب.

ص: 107

ص: 108

تمهید

بعد أن كانت الأم الطاهرة أول النساء وأجلهن في حياة الإمام الحسن (علیه السلام) والأخت الصابرة أقرب النساء وأحبهن إليه..، وقبل أن نتناول صفحة أخيرة في حياة الإمام السبط، ألا وهي المرأة، الزوجة والابنة التي شاركته الشطر الأخير من عمره المبارك. وجدنا لزاماً علينا أن نلتفت إلى وجود نساء أخريات مررن في حياة الحسن(علیه السلام) وكان لهن أثر بعيد في رفده بالمولاة وطيب المعاشرة.فلا نستطيع أن نبحر في سنوات ابن الزهراء (علیها السلام) دون ان نتوقّف عند أم سلمة وأم أيمن، وأم البنين، وأسماء بنت عميس، وأمامة، وفضة. فهؤلاء النسوة كنَّ على تماس كبير بحياة مولاتنا فاطمة الزهراء(علیها السلام) ولذا فإن الحسن(علیه السلام) كان يتعامل معهن، كنساء أحببن هذا البيت وأدمن الولاء له وخدمنه بكل إخلاص. فمن الإخلاص والوفاء أن نمر على وجود هذه النساء الطيبات ونلتقط شذرات من الأثر الذي تركنه في حياة الإمام(علیه السلام) ، وفق ما جاءت به المصادر التاريخية.

وهنا لابد من ذكر ملاحظة مهمة، هي إن كل واحدة من هؤلاء النسوة كان مُرَحَّباً بها للولوج إلى بيت فاطمة وعلي وقد شهدن لحظات الفرح والسرور، وكذلك ساعات الأحزان والمآسي التي طالت هذا البيت المطهر. كما أن هناك العديد من نساء بني هاشم ونساء أهل المدينة من صحابيات ومؤمنات كن يدخلن على فاطمة وبنيها، ولكن مرورهن أما أن يكون عابراً، أو أن كتب السيرة والتأريخ ومصادرها لم تذكره لنا...، أو أن مواقفهن لم تكن بذات الأهمية والقوة التي اتسمت بها مواقف أولئك النسوة.

ص: 109

ولقد تناولنا هذه الأسماء الحية والخالدة في ضمير الأمة الإسلامية، حسب التسلسل والوجود التاريخي في حياة الأمام الحسن(علیه السلام) كما راعينا تقديم كل من السيدتين الجليلتين(أم سلمة وأم أیمن) باعتبارهما من أمهات المسلمين وزوجات النبي الأكرم(صلی الله علیه وآله).

ص: 110

أم سلمة... الأم الربانیة

منذ أن أطل الإمام الحسن(علیه السلام) على الدنيا، وهو يرى ويسمع السيدة(أم سلمة) بين ظهرانيهم، فلقد تلقفت يداها جسده الغض وليداً تنفيذاً لوصايا النبي محمد(صلی الله علیه وآله) إليها. وأخذ يدرج في غرفتها ملاعباً جده وقتما شاء في نهار أو ليل..، ولقد وعت ذاكرته الطفولية، كيف كانت(أم سلمة) زوجة مطيعة للنبي لا تخالفه في قول أو فعل، ومن هنا جاءت موالاتها لفاطمة وبعلها وبنيها حتى الممات، فكانت مناصرة لعلي وفاطمة، وحافظة لكتب علي في غيابه وما برحت تحدث عن أهل بيت وفضلهم على العالمين ما حييت.

فماذا يكتب القلم عن سيدة هي أم المؤمنين بحق؟ ولنبدأ منذ البداية... تذكر تراجم السِيَر أن اسمها رملة، وقيل هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية القرشية وقيل إن اسم أبيها حذيفة، وقيل سهيل الملقب زاد الراكب وهو أحدالأجواد(1).

وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك الكنانية، وزوجها الشهيد أبو سلمة، أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، واسم أبي سلمة عبد الله وأمه برة بنت عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن قصي، وكان لأبي سلمة من الولد سلمة وعمر وزينب ودرة، شهد بدراً وأحداً وكان الذي جرحه بأُحد أبو أسامة الجشمي رماه بمعبلة في عضده فمكث شهراً يداويه فبرأ فيما يرى وقد اندمل الجرح على بغي لا يعرفه فبعثه رسول الله(صلی الله علیه وآله) في المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً من الهجرة سرية إلى بني

ص: 111


1- الحائري، تراجم أعلام النساء، ج1/ ص272.

أسد بقطن فغاب بضع عشرة ليلة ثم قدم المدينة فانتفض به الجرح فاشتكى ثم مات(1).

هاجرت أم سلمة مع زوجها ابي سلمة الهجرتين، وليس أم سلمة بنت عمة النبي(صلی الله علیه وآله) كما ذهب إلى ذلك القزويني(2).

والسيدة أم سلمة من أوائل المسلمين مع زوجها وأول مسلمة هاجرت إلى الحبشة مع زوجها، وهناك ولدت ابنها سلمة ثم قدما إلى مكة وهاجرا إلى المدينة فولدت له عمر ودرة وزينب، فلما نظر إلى نخل المدينة قيل لها هذه الأرض التي تريدين، وقد شارك زوجها مع الرسول في غزوة بدر، وشهدت غزوة خيبر(3).

بعد أن استشهد زوجها أبو سلمة متأثراً بجراح أصابته يوم أحد كما مر. أراد النبي(صلی الله علیه وآله) أن يكفلها هي وأولادها فتزوجها، ومنذ ذلك الحين لقبت بأم المؤمنين، مع شدة محبتها وتعلقها بزوجها الشهيد أبي سلمة، حيث ورد في الإصابة (ج4، ص 407) من قولها، قالت لزوجها أبي سلمة بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها وهو من اهل الجنة ثم لم تتزوج بعده إلا جمع الله بينهما في الجنة، وكذا إذا ماتت امرأة وبقي الرجل بعدها فتعالَ أعاهدك أن لا أتزوج بعدك ولا تتزوج بعدي، قال: أتطيعني، قالت: ما استأمرتك إلا وأنا أريد أن أطيعك، قال: فإذا مت فتزوجي، ثم قال: اللهم ارزق ام سلمة بعدي رجلاً خیراً مني لا يخزيها ولا يؤذيها، فلما مات قلت من هذا الذي هو خير

ص: 112


1- ینظر الطبقات الكبرى لابن سعد: ج3/ ص180-182، دراسة وتحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان.
2- القزويني، فاطمة من المهد إلى اللحد، ص 117. وقيل: إن سهيل بن المغيرة والد أم سلمة هو ابن عمة رسول الله(صلی الله علیه وآله)، برة بنت عبدالمطلب لقبه زاد الركب لأنه كان أحد أجواد العرب، فكان إذا سافر لم يحمل من يكون معه أو برفقته زاداً بل هو يكفيهم جميعاً مؤونة السفر، لجوده وكرمه.. أما مغنية فيذكر أن أم سلمة هي بنت عمته عاتكة بنت عبدالمطلب (موسوعة الإمام علي / ج3، ص 19)
3- الحائري، تراجم، ج1/ ص 272.

لي من أبي سلمة فلبثت ما لبثت ثم تزوجني النبي(صلی الله علیه وآله)(1).

ومن هذا الحديث المروي تتضح لنا صورة نقية لامرأة مسلمة ذات خلق رفيع، ووفاء وإخلاص متناهٍ، وهي التي شربت حب الإسلام وتزينت بآدابه، ونهلت من تعاليمه حتى صارت في طليعة النساء المسلمات اللواتي رسخ الإيمان في قلوبهن، وانعقدت العقائد الصحيحة بين أضلعهن، فهي من أهل الاستقامة والولاء للنبي(صلی الله علیه وآله) وآله البیت(علیهم السلام) ومن الدعاة إلى الله تعالى حتى وفاتها(2).

لقد عاشت أم سلمة مع زوجها أبي سلمة في وئام وانسجام وتكافل وتعاون مواساة، ما بين هجرة وأخرى، حتى بلغ حبها واحترامها لزوجها أنها لم تطلب من الله تعالى أن يخلفها عنه بخير منه، وهذا ما تؤكده في حديثها، قالت أم سلمة: فلما أصبت بأبي سلمة قلت: اللهم عندك أحتسب مصيبتي هذه، ولم تطب نفسي أن أقول: اللهم أخلفني فيه بخير منه، ثم قالت: من خير من أبي سلمة؟ أليس، أليس... »(3).

أي ليس هناك من هو خير من زوجها لأنه فعل معها من المعروف والعشرة الطيبة الكثير، فلذلك تقول أليس، أليس أي أليس هو المؤمن والمهاجر والزوج المحب الوفي، والعشير الطيب؟ فلذلك لم تكن أم سلمة ترى بديلاً خيراً منه حتى عندما تعرض لخطبتها أبو بكر وعمر.. فردتهما. إلى أن جاء خير البشر جميعاً وسيد الكائنات، فأرسل إليها خاطباً فقالت عندها: «مرحبا برسول الله(صلی الله علیه وآله) ورسوله»(4).

وعلمت آنذاك لِمَ طلب منها زوجها الشهيد أبو سلمة أن تتزوج من بعده...، لقد مَنَّ الله تعالى عليها

ص: 113


1- الحائري، تراجم، ج1/ ص 272.
2- علي الفتلاوي، المرأة في حياة الحسين(علیه السلام) ص65.
3- المصدر نفسه. نقلاً عن: صفوة الصفوة: 2 / 12.
4- المصدر نفسه، ص 66.

بخير خلف.

ولكنها أجابت الرسول قائلة: ولكن ارجع إلى النبي وقل له: إني امرأة غيرى، وإني أم أيتام وأنه ليس أحد من أوليائي شاهداً. فأرسل رسول الله(صلی الله علیه وآله) «أما قولك: إني أم أيتام «مصيبة» فإن الله سيكفيك صبيانك، وأما قولك إن غيرى فسأدعو الله أن يذهب غيرتك وأما الأولياء فليس أحد منهم شاهداً ولا غائباً إلا استرضاني».تزوجها رسول الله(صلی الله علیه وآله) في السنة الرابعة للهجرة، من شهر شوال، فكانت من خيرة نسائه، ذات عقل راجح وإيمان راسخ ورأي صائب مع ورع وتقى(1).

وقد نقلت السيدة أم سلمة عند زواجها إلى بيت زينب بنت خزيمة أم المساكين، وأحدث دخولها في دور النبي ضجة وأشاع قلقاً في الزوجتين السابقتين عائشة وحفصة، فالزوجة الجديدة عريقة المنبت ذات جمال وإباء وفطنة، فأبوها أحد أبناء قريش المعدودين وأجوادهم المشهورين وأمها من بني فراس الأمجاد. وزوجها الشهيد أبو سلمة بن عمة النبي. وكان الرسول لذلك يكرمها ويحفظ لها مكانتها، فقد كان(صلی الله علیه وآله) يعدها من أهله، حدثوا أنه كان يوماً عندها وابنتها زينب هناك، فجاءته الزهراء مع ولديها الحسن والحسین(علیهما السلام)، فضمها إليه ثم قال: (رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَکَاتُهُ عَلَیْکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ إِنَّهُ حَمِیدٌ مَجِیدٌ) فبكت أم سلمة فنظر إليها الرسول وسألها ما يبكك؟ أجابت يا رسول الله خصصتهم وتركتني وابنتي. قال: أنت وابنتك من أهل البيت.

عن عائشة، قالت: لما تزوج رسول الله(صلی الله علیه وآله) أم سلمة، حزنتُ حزناً شدیداً لما ذکروا لنا من جمالها، قالت: فتلطفت حتى رأيتها، فرأيتها والله اضعاف ما وُصِفَتْ لي في الحسن والجمال قالت: فذكرت ذلك لحفصة- وكانتا يداً واحدة- فقالت: لا والله، [إن هذه]

ص: 114


1- عمر رضا كحالة، أعلام النساء، ص 224.

إلا الغيرة ما هي كما يقولون، فتلطفت لها حفصة حتى رأتها فقالت قد رأيتها ولا والله ما هي كما تقولين ولا قريب وإنها لجميلة قالت فرأيتها بعد فكانت لعمري كما قالت حفصة ولكني كنت غَیْرَی(1).

ولأم المؤمنين ام سلمة طلاقة لسان وفطنة ومما يدلنا على طلاقة لسانها وفطنتها ما ينقل لنا التاريخ من نقلها لحوار النجاشي ملك الحبشة وجعفر بن أبي طالب(علیه السلام) وهو أمير المسلمين المهاجرين إلى أرض الحبشة. ذكر ابن هشام في السيرة النبوية، عن أم سلمة قولها: «لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا خير جار –النجاشي– أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، لا نؤذى، ولا نسمع شيئاً نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما أتيه منها الأدم»(2).وينقل عنها ابن هشام تمام حديثها الطويل وقد أسماه حديث أم سلمة. ولها حديث آخر تذكره المصادر وتخبرنا فيه عن رحلتها مهاجرة إلى المدينة المنورة، حيث كانت أول ظعينة دخلت المدينة بعد أن سبقها زوجها إليها(3).

دخلت أم سلمة بيت النبي(صلی الله علیه وآله) كان أول اهتماماتها هو رضا رسول الله(صلی الله علیه وآله) وتحقیق رغباته فصارت تحب من يحب وتبغض من يبغض حتى بلغ بها الأمر أن تحب السيدة خديجة وهي ضرتها لأن رسول الله(صلی الله علیه وآله) كان يحبها ويذكرها بمحبة، فأحبتها وأحبت

ص: 115


1- ينظر الطبقات الكبرى لابن سعد: ج8/ ص75، دراسة وتحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان.
2- ابن هشام، السيرة النبوية، ج1/ ص 358- 159. والآدم هو الجلد وكانت مكة مشهورة بها وهي من مصادر ثروتها.
3- ابن هشام، السيرة النبوة، ج2/ ص 113.

أولادها، ولمست أن النبي يحب علیاً(علیه السلام) فأحبت علیاً(علیه السلام) ووالته وأخلصت له ولأولاده ولا سيما الإمام الحسن(علیه السلام) الذي ولد على يديها الكريمتين(1).ولطالما ذكرت السيدة الجليلة أم سلمة السيدة خديجة الكبرى(علیه السلام) بخير، فلقد خاطبت النبي(صلی الله علیه وآله).. في حديث طويل عن كيفية زواج فاطمة وعلي(علیهما السلام) وطلب زوجات النبي الإسراع بذلك..

قالت أم سلمة: فلما ذكرنا خديجة بكى النبي(صلی الله علیه وآله) ثم قال: خديجة وأين مثل خديجة صدقتني حين يكذبني الناس، وأيدتني على دين الله، وأعانتني عليه بمالها. إن الله عز وجل أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب الزمرد لا صخب فيه، ولا نصب.

قالت أم سلمة: فقلنا: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله إنك لم تذكر من خديجة أمراً إلا وقد كانت كذلك. غير أنها قدمت إلى ربها فهنأها الله بذلك وجمع بيننا وبينها في درجات جنته ورحمته ورضوانه(2).

ولمعرفة مدى حرص السيدة أم سلمة على نيل رضا الرسول وعدم إغضابه، فلننظر في قول عائشة: كان رسول الله(صلی الله علیه وآله) إذا ذكر خديجة لم يكد سأم من ثناء عليها واستغفار لها فذکرها یوماً فحملتني الغيرة فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن.

قالت: فرأيته غضب غضباً شدیداً فأسقط في يدي، وقلت في نفسي: اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء، فلما رأى النبي ما لقيت قال: کیف قلت؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت منها الولد

ص: 116


1- علي الفتلاوي، المرأة في حياة الحسين(علیه السلام)، ص66.
2- من حديث طويل رواه الخوارزمي بسنده عن ابن سيرين عن أم سلمة، الطبسي، حياة الصدیقة فاطمة، ص86، باب زواج فاطمة برواية أم سلمة، أعيان الشيعة 15 / 79.

وحرمته مني. قالت: فغدا وراح علي بها شهراً(1).

ويبدو من المقارنة السالفة، أن الله عز وجل قد استجاب لدعوة نبيه الكريم في أن يذهب غيرة أم سلمة التي اعترفت بها للنبي حين طلب الزواج منها..

لذا تعتبر السيدة أم سلمة من خيرة زوجات رسول الله(صلی الله علیه وآله) في حياته وبعد مماته.. فلم تؤذ النبي بكلامها أو تصرفاتها، ولم تتآمر عليه مع ضراتها- كما حدث من بعضهن في قصة المغافير ونزول قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)، بل أحسنت صحبته ومعاشرته في حياته(2).وبلغ من إعزاز النبي لربيبه سلمة أن اختاره زوجاً لابنة عمه حمزة سيد الشهداء. والسيدة أم سلمة راوية جليلة من راويات الحديث وقد روت عن النبي(صلی الله علیه وآله)371 حديثاً(3).

وروت عن الصديقة فاطمة الزهراء(علیها السلام) الكثير من الأحاديث، فقد كانت في عهد صباها تعيش في كنف أم سلمة بعد أن عهد لها بذلك الرسول الأكرم(صلی الله علیه وآله).

قال ابن عباس: هاجرت فاطمة مع أميرالمؤمنين ونساء المهاجرين، وكانت عائشة فيمن هاجر معها فأنزلها النبي على أم أيوب الأنصاري، وخطب رسول الله النساء وتزوج سودة أول دخول المدينة، فنقل فاطمة إليها، ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية فقالت أم سلمة تزوجني رسول الله وفوض أمر ابنته إلي فكنت أدلها وأؤدبها، وكانت والله آدب مني وأعرف بالأشياء كلها، وكيف لا تكون كذلك وهي سلالة الأنبياء صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنیها(4).

ص: 117


1- دخيل، أعلام النساء، ص 34.
2- القزوینی، فاطمة من المهد إلى اللحد، ص 390.
3- الحائري، تراجم، ج1/ ص 272.
4- الطبسي، حياة الصديقة فاطمة، ص 96. نقلاً عن: دلائل الإمامة، ص 12، بحار الأنوار، ج43/ ص10.

وفي التراجم، عن أم سلمة قالت: تزوجني رسول الله(صلی الله علیه وآله) وفوض أمر ابنته فاطمة إلي فكنت أؤدبها وكانت والله آدب مني وأعرف بالأشياء كلها(1).

ولقد بقيت السيدة الزهراء(علیها السلام) في بيت أم سلمة إلى أن تزوجها الإمام علي(علیه السلام). وهذا الأمر يدلل بكل وضوح كيف كانت أم سلمة أماًحقيقية للزهراء(علیها السلام) حتى أنها ما فارقتها في خطبة أو زفاف، في زواج أو ولادة، في سعادة أو حزن.. لقد كانت نِعْمَ الأم الربانية أم المؤمنين أم سلمة. وللسيدة فاطمة كذلك مكانتها الرفيعة عند أزواج النبي، فكن يحترمنها ويعظمنها غاية التعظيم لما كانوا يرون ما يصنع النبي بها ويعظمها غاية التعظيم.

فكم حدثت من أحاديث نقلتها السيدة أم سلمة عن النبي وابنته، وتناقلتها الألسن عنها..، عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم: أن النبي(صلی الله علیه وآله) قال لعلي وفاطمة وحسن وحسين: أنا سلم لمن سالمتم وحرب لمن حاربتم.وفي حديث آخر عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن صبیح مولى أم سلمة رضي الله عنها عن جده عن زيد بن أرقم قال: مر النبي(صلی الله علیه وآله) على بيت فيه فاطمة وعلي وحسن وحسين (رضی الله عنهم) فقال: أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم(2).

إن السيدة المؤمنة الحقة أم سلمة قد واكبت مولاتنا بضعة النبي المصطفى في مراحل حياتها كافة، فقد كان النبي(صلی الله علیه وآله) في بيتها يوم خطبة الإمام علي(علیه السلام) من فاطمة الزهراء، وقد أودع عندها النبي(صلی الله علیه وآله) شیئاً من صداق فاطمة(علیها السلام) وكانت مرجع النساء في قضايا زواج السيدة فاطمة(3).

ص: 118


1- الحائري: تراجم، ج2/ ص 303.
2- الطبراني، أخبار الإمام الحسن، ص63.
3- القزویني، فاطمة من المهد الی اللحد، ص116.

أما تفاصيل الخطبة والزواج فقد اعتمدت رواية أم سلمة ورواها عنها الخوارزمي بسنده عن ابن سيرين، وفيها روت: «أنه لما أدركت فاطمة بنت رسول الله مدرك النساء خطبها أكابر قريش من أهل السابقة والفضل في الإسلام والشرف والمال، وكان كلما ذكرها أحد من قريش أعرض رسول الله عنه بوجهه حتى كان يظن الرجل منهم في نفسه أن رسول الله ساخط عليه أو قد نزل على رسول الله(صلی الله علیه وآله) فيه وحي من السماء..»(1).

ولقد كان رسول الله(صلی الله علیه وآله) في منزل أم سلمة. فجاء علي ودق الباب فقالت أم سلمة: من بالباب؟ فقال لها رسول الله قبل أن يقول علي أنا علي: قومي يا أم سلمة فافتحي له الباب ومُريه بالدخول: فهذا رجل يحبه الله ورسوله ويحبهما. قالت أم سلمة: فقلت: فداك أبي وأمي ومَن هذا الذي تذكر فيه هذا وأنت لم تره؟ قال: يا أم سلمة هذا رجل ليس بالخرق ولا بالنزق هذا أخي وابن عمي وأحب الخلق إليّ. قالت أم سلمة: فقمت مبادرة أكاد أن أعثر بمرطي ففتحت الباب فإذا بعلي بن أبي طالب(علیه السلام) والله ما دخل حين فتحت له حتى علم أني قد رجعت إلى خدري...»(2).

ولقد ذكر الإمام علي(علیه السلام) أنه قد دفع مهر زوجته إلى أبيها من درعه التي باعها، فقسم النبي(صلی الله علیه وآله) المبلغ، قال علي(علیه السلام) «ودفع رسول الله باقي ثمن الدرع إلى أم سلمة وقال: ارفعي هذه عندك»(3).ومن قول النبي المصطفى(صلی الله علیه وآله) هذا، يظهر جلياً أن السيدة أم سلمة كانت موضع ثقة النبي ثم أصبحت فيما بعد موضع ثقة الوصي. أما السيدة فاطمة الزهراء فإنها كانت رفيقة دربها من بيت النبوة حتى بيت الإمامة. فلقد تولت أم سلمة تزيين فاطمة

ص: 119


1- الطبسي، ص 80.
2- المصدر نفسه، ص 81.
3- المصدر نفسه، ص 85.

وتطييبها وفرش بيتها مع أزواج النبي الأخريات، وأخذ رسول الله(صلی الله علیه وآله) من الدراهم التي دفعها إلى أم سلمة عن ثمن الدرع عشرة دراهم فدفعها إلى علي ثم قال: اشتر تمراً وسمناً وأقطاً(1).

تقول أم سلمة عن تلك السويعات المباركات، قال رسول الله(صلی الله علیه وآله): هيئوا لابنتي وابن عمي في حجري بيتاً، فقلت: في أي حجرة يا رسول الله؟ فقال رسول الله: في حجرتك، قالت أم سلمة: فسألت فاطمة(علیها السلام) هل عندك طيب ادخرتيه لنفسك قالت: نعم فأتت بقارورة فسكبت منها في راحتي فشممت منها رائحة ما شممت قبلها قط. ثم قال النبي(صلی الله علیه وآله): يا أم سلمة هلمي فاطمة فانطلقت فأتت بها وهي تصحب أذيالها وقد تصببت عرقاً وحیاءً من أبیها فعثرت فقال(صلی الله علیه وآله) أقالك الله العثرة في الدنيا والآخرة(2).

وفي حديث آخر أن النبي أمر بنات عبد المطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة(علیها السلام) وأن يفرحن ويرجزن ويكثرن ويحمدن ولايقولن ما لايرضي الله...، فأنشأت أم سلمة:

سرن بعون الله جاراتی واشکرنه في کل حالاتي

واذکرن ما أنعم رب العلی من کشف مکروه وآفات

فقد هدانا بعد کفر وقد أنعشنا رب السماوات

یا بنت من فضّله ذوالعلی بالوحی منه والرسالات(3)وكانت النسوة يرجعن أول بيت من كل رجز، ثم يكبرن ويدخلن الدار، ثم أنفذ رسول الله(صلی الله علیه وآله) إلى علي ودعاه إلى المسجد ثم دعا فاطمة فأخذ يديها ووضعها في يده

ص: 120


1- الطبسي، ص 86.
2- الحائري، تراجم، ج2/ ص 310.
3- المصدر نفسه، ص 311.

وقال: بارك الله في ابنة رسول الله. وفي كتاب ابن مردويه أن النبي سأل ماء فأخذ منه جرعة فتمضمض بها ثم مجها في القعب، ثم صبها على رأسها، ثم قال أقبلي... ثم دعا لهما(1) بعدة دعوات.

«اللهم بارك فيها وبارك عليهما وبارك لهما في شبليهما».

«اللهم إنهما أحب خلقك إلي فأحبهما وبارك في ذريتهما واجعل عليهما منك حافظاً، وإني أعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم» وروي أنه قال: مرحباً ببحرين يلتقيان ونجمين يقترنان(2).

قالت أم سلمة، ثم خرج فأخذ بعضادتي الباب وقال: طهركما الله وطهر نسلكما، أنا سلم لمن سالمكما وحرب لمن حاربكما أستودعكم الله وأستخلفه عليكما(3).

روى الكنجي الشافعي بسنده عن علقمة، عن عبدالله قال: «أصاب فاطمة(علیها السلام) صبيحة العرس رعدة فقال لها النبي(صلی الله علیه وآله): يا فاطمة إنما زوجتك سيداً في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، يا فاطمة لما أردت أن أملكك علياً أمر الله تعالى جبرئيل فقام في السماء الرابعة فصف الملائكة صفوفاً، ثم خطب عليهم جبرئيل فزوجك من علي..».

قالت أم سلمة: فلقد كانت فاطمة تفتخر على النساء، لأن أول من خطب عليها جبرئیل(4).

وكما حضرت أم سلمة لحظات فرح الزهراء واقترانها بسيد الأوصياء، وحفظت

ص: 121


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18/ ص 88.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج18/ ص 88.
3- الطبسي، ص87 . نقلاً عن: مناقب الخوارزمي، ص 247.
4- المصدر نفسه، ص 47. نقلاً عن بحار الأنوار، ج43/ ص 104.

دعوات النبي لهما بالذرية الصالحة المباركة، فلقد حضرت ولادة الزهراء(علیها السلام) لولیدها البكر الإمام الحسن(علیه السلام).روي مرفوعاً إلى علي قال: لما حضرت ولادة فاطمة(علیها السلام) قال رسول الله(صلی الله علیه وآله) لاسماء بنت عميس وأم سلمة: أحضراها فإذا وقع ولدها واستهل فأذنا في أذنه اليمنى وأقيما في أذنه اليسرى فإنه لا يفعل ذلك بمثله إلا عصم من الشيطان ولا تحدثا شيئاً حتی آتیکما فلما ولدت فعلتا ذلك(1)..

وبقيت أم سلمة في خدمة السيدة فاطمة الزهراء(علیها السلام) ومن المقربات منها، حتى أنها شهدت حمل الإمام الحسن(علیه السلام) وولادته فكفلته أم سلمة(2)تخفيفاًعن

الزهراء(علیها السلام) واجباتها كأم حظيت بشبلين صغيرين وهي في مقتبل العمر.

ومن شدة قربها من الزهراء وابنها الإمام الحسن(علیه السلام)، إن أم سلمة كانت تتابع أحوال فاطمة(علیها السلام) في حملها للإمام الحسين(علیه السلام) وتسرها بأخص هواجسها ومتاعبها وتطورات أوضاعها..، حتى أن الطاهرة الزكية(علیها السلام) تقول: فذكرت ذلك لأم سلمة فشد الله بها أزري(3)...، وحتى في أحلامها كانت تتجسد لها صورة أم سلمة بأحلى هيئة، ويكفينا القول أن زيارة السيدة فاطمة(علیها السلام) لأبيها ومخاطبتها إياه غالباً ما تكون في يوم أم سلمة وفي حجرتها.

ويكفي أم سلمة فخراً أن آية التطهير قد نزلت على الرسول(صلی الله علیه وآله) وأهل بیته و هم في بیت أم سلمة. ففي رواية لها قالت: في بيتي نزلت (إِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ

ص: 122


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص 184. نقلاً عن كشف الغمة ج1، ص525 فصل ما ورد في حق الحسن(علیه السلام).
2- المصدر نفسه، ص 177.
3- المصدر نفسه، ص 197.

الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا) وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين، فجللهم رسول الله(صلی الله علیه وآله) بكساء كان عليه، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي.

قالت أم سلمة: يا رسول الله، ما أنا من أهل البيت؟

قال: إنك إلى خیر وهؤلاء أهل بيتي، اللهم أهل بيتي أحق(1)..وعلى مختلف الروايات لهذه الآية والتي تعود بإسنادها إلى أم سلمة، لم تَدَّع هذه المؤمنة النبيلة أنها من أهل الكساء، بل أجمعت على أنها نزلت في رسول الله(صلی الله علیه وآله) وفي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين(علیهم السلام) ولم يشاركهم أحد في هذه الفضيلة (2)حتى أم سلمة.

ولطالما سُمعت أم سلمة وهي تقول: جاءت فاطمة غدية بزبدة لها تحملها في طبق لها حتى وضعتها بين يديه، فقال لها: أين ابن عمك؟ فجاءت تقود ابنيها كل واحد منهما في يد وعلي يمشي في أثرهما حتى دخلوا وجلس علي عن يمينه وجلست فاطمة رضي الله عنها عن يساره.

قالت أم سلمة: فأخذت من تحتي كساء كان بساطنا على المنامة في البيت وجاءت ببرمة فيها خبز بر، فقال لها النبي(صلی الله علیه وآله): ادعي لي بعلك وابنيك الحسن والحسين! فدعتهم فجلسوا جميعاً يأكلون من تلك البرمة، قالت وأنا أصلي في تلك الحجرة، فنزلت هذه الآیة. (إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا)(3)

فأخذ

ص: 123


1- باقر القريشي، ص 77. نقلاً عن: مستدرك الحاكم: 2: 416 ؛ أسد الغابة: 5/ 521.
2- للمزيد ينظر: التفسير الكبير: 6/783، صحيح مسلم، 2/331، الخصائص الكبرى:2/ 264، خصائص النسائي: 4، مسند أحمد بن حنبل: 4/ 107، السنن الكبرى، البيهقي: 2/ 150 وغيرها.
3- سورة الأحزاب، ألآیة 33.

فضل الكساء فغشاهم ثم اخرج يده اليمنى من الكساء ألوى بها إلى السماء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا، قالت أم سلمة: فأدخلت رأسي البيت فقلت: يا رسول الله، وانا معكم؟ قال أنت على خیر! مرتين(1).

بل إن أم سلمة من صدق حديثها لا تستحي أن تذكر في إحدى رواياتها أنها رفعت الكساء لتدخل معهم فجبذه من يديها وقال لها: إنك على خیر(2). لتؤكد أن هذه الآية لأصحابها: فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها.

لم تدع السيدة أم سلمة يوماً يمر دون أن تشارك فيه أم الحسن وبنيها(علیهم السلام)، لحظات مسرتهم وحزنهم..، فلقد تشاركت في لحظات وداع سيد الخلق(علیه السلام) وشاهدت أم سلمة سيدة نساءالعالمين وهي تعوّد النبي(صلی الله علیه وآله) في شكواه ومرضه الذي قبض فيه، ورأتها وقد سارها المصطفى بشيء فبكت ثم دعاها فسارهافضحكت.. قالت أم سلمة: إنها لما سُئِلت عن بكائها وضحكها قالت: أخبرني النبي(صلی الله علیه وآله) أنه مقبوض ثم أخبر أن بني سيصيبهم بعدي شدة فبكيت، ثم أخبرني أني أول أهله لحوقاً به فضحکت(3).

وما تركتها أم سلمة في مصابها وحزنها الشديد على فقد الحبيب محمد(صلی الله علیه وآله) فحزنهما واحد، وفقدهما عزيز، ومصابهما جلل. ولقد كانت معها يوم خطبت في المسجد النبوي فهزت حتى الجماد. كان الإمام الحسن (علیه السلام) مع والدته يراها في موقف شجاع قل نظيره، تدين الزهراء(علیها السلام) حادثة السقيفة القريشية، وصرحت بأنها مؤامرة على الإسلام، ودعت الأنصار إلى مقاومتها بالسلاح!

ص: 124


1- الطبراني، أخبار الحسن بن علي، ص 86.
2- المصدر نفسه، ص 85.
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص131، باب ما وقع علیها(علیها السلام) من الظلم وبکائها وحزنها.

كما أدانت قرارات أبي بكر الاقتصادية لإضعاف أهل البيت(علیهم السلام) ومنها منع الخمس عنهم، ومصادرة أوقاف النبي(صلی الله علیه وآله) وهي سبعة بساتين، ومصادرة مزرعة فدك التي منحها النبي لفاطمة، ومنعه إياها من إرث أبيه(1)!

هنا وعندما رد الخليفة الأول على خطبة الزهراء المشهورة بكلام جارح لا يليق بها وببعلها، انبرت أم المؤمنين أم سلمة بشجاعتها المعهودة وفصاحتها المعروفة، وموالاتها الصادقة تدافع عن بضعة الرسول وحقها المغتصب. فماذا قالت؟

جاء في الدر النظيم للشيخ جمال الدين الشامي، قال بعد خطبة فاطمة(علیها السلام) في المسجد وكلام أبي بكر، قالت أم سلمة (رضي الله عنها) حين سمعت ما جرى لفاطمة(علیها السلام): ألِمثل فاطمة بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله) يقال هذا القول؟ هي والله الحوراء بين الإنس، والنفسَ للنفس، رُبيت في حجور الأتقياء، وتناولتها أيدي الملائكة، ونمت في حجور الطاهرات، ونشأت خير نشأة، وربيت خير مربى، أتزعمون أن رسول الله حرم عليها ميراثه ولم يُعلمها وقد قال الله تعالى:(وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(2) فأنذرها خالفت متطلبة؟وهي خيرة النسوان وأم سادة الشبان، وعديلة مريم، تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر والقر، ويوسدها بيمينه ويلحفها بشماله رويداً ورسول الله(صلی الله علیه وآله) بمرأی منكم، وعلى الله تردون واهاً لكم، فسوف تعلمون.

قال: فحرمت عطاءها تلك السنة(3).

ص: 125


1- علي الكوراني، جواهر التاريخ، ج1/ ص145.
2- الشعراء، 214.
3- القزويني، فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد، ص 330.

يا لها من كلمة حق من امرأة هي أم المؤمنين بحق، لم تهادن ولم تداهن من أجل عطاء الدنيا الفانية، بل وقفت أم سلمة تدافع كأم حقيقية عن ابنتها، ولقد كانت هكذا فعلاً، أماً للزهراء وبنيها.

أترون لو كانت السيدة خديجة الكبری(علیها السلام) قد طال بها العمر، ووقفت هذا الموقف، فهل تزيد على مقالة أم سلمة الصادقة هذه حرفاً؟

لقد أحسنت أم سلمة الصحبة والمعاشرة للزهراء وولديها وبعلها في حياة النبي وبعد وفاته، ومواقفها المشرفة تجاه آل الرسول تشهد لها بذلك، فإنها لم تنحرف عنهم في خضم الأحداث التي عصفت بهذه الذرية الطاهرة، بل وقفت موقف المدافع والمحامي والناصر، وشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم.

كان الإمام الحسن(علیه السلام) معتاداً لوجود أم سلمة في بيتهم، تخدم السيدة الزهراء وكأنها ترى فيها وفي وجودها الإنساني وجود أبيها المصطفى(صلی الله علیه وآله)، كانت السيدة المؤمنة أم سلمة (رضي الله عنها) تتشرف بخدمة السيدة الطاهرة فاطمة(علیها السلام) ولا سيما خدمة أبنائها الكرام ومنهم الإمام الحسن(علیه السلام). ولقد لازمت بيت الزهراء(علیها السلام) حیث کانت تذهب إلى دارها صباح كل يوم وتقضي معها ما تحتاجه من لوازم البيت(1).

كانت عيون السيدة أم سلمة تلتقي كل صباح بعيون ولدها الحسن(علیه السلام) وهما ينظران بعطف وخشية إلى جسد الطاهرة يزداد ذبولاً ونحولاً يوماً بعد يوم.. وما توقفت عن عيادتها والسهر على راحتها خلال مرضها الأخير، ها هي تدخل عليها عائدة لها مستفهمة: كيف أصبحت عن ليلتك(علتك) يا بنت رسول الله؟

فتجيبها الزهراء(علیها السلام): أصبحت بين كمد وكرب، فقد النبي وظلم الوصي، هتك

ص: 126


1- زميزم، ص 14.

والله حجابه، من أصبحت إمامته مقبضة على غیر ما شرع الله في التنزيل، وسنها النبي(صلی الله علیه وآله) في التأويل ولكنها أحقاد بدرية، وتراث أحدية، كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة إمكان الوشاة، فلما استهدف الأمر أرسلت علينا شآبيب الآثار من مخيلة الشقاق، فيقطع وتر الإیمان من قسي صدورها، ولبئس -على ما وعد الله من حفظ الرسالة وكفالة المؤمنين- أحرزوا عائدتهم غرور الدنيا بعد استنصار، ممن فتك بآبائهم في مواطن الكرب، ومنازل الشهادات(1).

إن السيدة الزهراء(علیها السلام) في مقالتها هذه تعطي دلالات عدة، منها أنها(علیها السلام) کان يمكنها أن تجيب على سؤال أم سلمة إجابة موجزة ببضع كلمات مطمئنات، ولكنها تتفتح قريحتها الموجوعة وتطّلع أم سلمة عما في دواخلها والضمير دون مواربة، لأنها كانت الأقرب إليها وجوداً ونسباً وموالاة، فلا تتوانى عن تشريح الصورة القاتمة التي ترسمها الأيام للمسلمين.

كما أن السيدة فاطمة(علیها السلام) تجد في أم سلمة خير متلقٍ لشكواها وخير حافظ وراوٍ لما عرف عنها من صدق الحديث والفطنة والدفاع عن الحق دون مواربة. فكانت أم سلمة أهلاً لحمل هذه الوديعة والأمانة عن بنت النبي المختار، فنقلت عنها الكثير من الأحاديث والروايات.

والجدير بالذكر: أن السيدة أم سلمة هي الوحيدة –من بين زوجات النبي– التي جاءت لزيارة فاطمة الزهراء(علیها السلام) وعيادتها والسؤال عن صحتها.

فأين كانت غيرها من الزوجات؟! ولماذا لم يشاركنها في الآلام، وهي البنت

ص: 127


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص114. نقلاً عن مناقب آل أبي طالب، ج2/ ص205، فصل ظلامة أهل البیت(علیهم السلام).

الوحيدة لخير الأنام(1)؟!

وبقيت السيدة أم سلمة ملازمة للزهراء(علیها السلام) حتى الرمق الأخير وما كانت سيدتنا فاطمة تناديها إلا (أماه).ولقد أوصت السيدة فاطمة إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) أن يخبر أم سلمة بوفاتها(2)...،

بل إن الرواية التاريخية تشير إلى وجودها عندها في لحظاتها الأخيرة.

جاء في ينابيع المودة عن أم سلمة (رضوان الله تعالی علیها) قالت: اشتكت فاطمة في وجعها، فخرج علي لبعض حاجته فقالت لي فاطمة: يا أماه اسكبي ماء، فسكبت لها ماء، فاغتسلت أحسن غسل، ثم قالت: یا أماه ناوليني ثيابي الجدد، فناولتها ثم قالت: قدمي فراشي وسط البيت، فاضطجعت ووضعت يدها اليمنى تحت نحرها، واستقبلت القبلة ثم قالت: یا أماه إني مقبوضة الآن، فلا يكشفني أحد، ولا يغسلني أحد.

قالت أم سلمة: فقبضت مكانها صلوات الله وسلامه عليها(3).

لقد غادرت السيدة الزهراء(علیها السلام) هذه الدنيا وهي راضية عن أم سلمة ومقربة لها، حتى أنها شهدت لحظاتها الأخيرة، وكانت نِعْم العون لها في تنفيذ ما تطلب منها.

وظل هذا ديدن أم سلمة (رضوان الله تعالى عليها)، حتى بعد وفاة الزهراء(علیها السلام) لم تنقطع عن زيارة بيت الإمام علي(علیه السلام) ورعاية الإمام الحسن(علیه السلام) وأخوته، لأن الإمام كان يكن لها احتراماً کبیراً. وتواصلت في خدمتها لبيت الزهراء فأشرفت على زواجات أبنائها بتكليف من الإمام علي(علیه السلام)، كما كانت تشرف على ولادة زوجاته فيما بعد،

ص: 128


1- القزويني، فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد، ص 390.
2- المصدر نفسه، ص 391.
3- مريم فضل الله، المرأة في ظل الإسلام، ص 225.

واستمرت أم سلمة في رعاية الإمام الحسن(علیه السلام) إلى أن قرر الإمام علي(علیه السلام) نقل عاصمة الدولة الإسلامية إلى مدينة الكوفة(1).

ولمنزلتها الكبيرة في نفوس أهل البيت(علیهم السلام) أصبحت موضع ثقتهم، والمفضلة عندهم التي يشركونها في أمورهم المهمة كما روي ثقة الإسلام الكليني عن الإمام الصادق(علیه السلام) قال: «إن علياً (صلوات الله عليه) حين سار إلى الكوفة استودع أم سلمة كتبه والوصية فلما رجع الإمام الحسن(علیه السلام) دفعتها إليه»(2).وبإسناده يرفعه إلى شهر بن حوشب ذكر الرواية ذاتها(3).

وهذا دليل آخر أكيد على المنزلة الرفيعة والاحترام الكبير الذي كان يكنه الإمام علي(علیه السلام) إلى هذه السيدة الفاضلة. ولم تحد أم سلمة (رضوان الله تعالى عليها) عن موالاتها لعلي(علیه السلام) بالمواقف والأقوال..، فلطالما نصحت من ناوءه وعاداه، لقد كان لأم سلمة الرأي السديد، وبعد النظر، مع سلامة التفكير وحسن التعبير والحرص على مصلحة المسلمين، وأداء النصيحة لهم، وإرشادهم إلى طريق الصواب.

ونصيحتها للخليفة عثمان أشهر من أن تذكر، حينما قالت له: يا بني ما لي أرى رعيتك عنك نافرين وعن جناحك ناقرين، لا تعف طريقاً كان رسول الله(صلی الله علیه وآله)يحبها،...(4)

وتتجلى لنا شخصية أم سلمة المؤمنة وتعقلها وبعد نظرها في عواقب الأمور، وذلك بنصيحتها لعائشة يوم خروجها على الإمام علي في واقعة الجمل.

ص: 129


1- زميزم، ص 14.
2- آل ياسين، ص 29. نقلاً عن: الکافي، ج1، ص236. ونقله المجلسی في بحار الأنوار، ج43/ ص322.
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص 213. نقلاً عن: أعلام الوری، ج1/ ص406.
4- مريم فضل الله: المرأة في ظلّ الإسلام، ص 170. نقلاً عن: عمر رضا کحالة، اعلام النساء.

جاءت عائشة إلى أم سلمة، لاستشارتها من جهة ولإقناعها، لعلها تخرج معها من جهة ثانية. وقد قامت عائشة بهذه المحاولة وهي تعرف حق المعرفة ما تتحلى به رفيقتها من قوة الشخصية وبعد النظر وقوة الاعتقاد بحق علي، ومنزلته عند ربه، وهو الإمام الحق.

ولقد أخلصت لها أم سلمة النصيحة بتذكيرها بكل مواقف الإمام علي(علیه السلام) في نصرة الإسلام، ومحبة الرسول الكريم له وتحذيراته لنسائه: أيتكن صاحبة الجمل الأدبب يقتل حولها قتلى كثیر وتنجو بعدما كادت(1)؟!

ولما رأت السيدة أم سلمة موقف الرفض من رفيقتها، كتبت إليها رسالة طويلة تعبر فيها عن مدى أسفها.. وعدم أخذ عائشة بالروية والتعقل والحكمة، وقد ذكر أكثر المؤرخين وأصحاب السير نص هذه الرسالة القيمة. وليس هذا فحسب، فلم تتوقف أم سلمة(رضوان الله تعالى عليها) عند هذا الحد من النصرة لأبي الحسن(علیه السلام). روى الخوارزمي في مناقبه حديث هذا نصه: قال: حدثني شهر بن حوشب، قال: كنت عند أم سلمة فسلم رجل فقيل: من أنت؟ قال: أنا أبو ثابت مولى أبي ذر، قالت: مرحبا بأبي ثابت. أدخل. فدخل ورحبت به، وقالت: أين طار قلبك حينطارت القلوب مطائرها؟ قال: مع علي بن أبي طالب، قالت: وفقت والذي نفس أم سلمة بيده إنك مع الحق، لقد سمعت رسول الله(صلی الله علیه وآله) يقول: «علي مع القرآن، والقرآن مع علي لن يفترقا حتى ردا عليّ الحوض». ولقد بعثت ابني عمر وابن أخي عبدالله بن أبي أمية، وأمرتهما أن يقاتلا مع علي من قاتله، ولولا أن رسول الله(صلی الله علیه وآله) أمرنا أن نقر في حجالنا وبيوتنا لخرجت حتى أقف في صف علي(2).

ص: 130


1- یونس رمضان، بغية الطالب في معرفة علي بن أبي طالب(علیه السلام)، ص271 ومابعدها.
2- یو نس رمضان، بغية الطالب..، ص 289. وقد روی هذا الحدیث الخوارزمي في مناقبه، ص 160، ط1965م، المطبعة الحیدریة – النجف.

وبعد عودة الإمام الحسن(علیه السلام) مع أخيه الحسين(علیه السلام) وعائلته إلى المدينة المنورة، بعد مقتل الإمام علي ووقع الصلح، بقيت السيدة أم سلمة قريبة من الإمام الحسن(علیه السلام) وأهل بيته وسلمته ودائع أبيه، فهو كان إمام زمانه الواجب الطاعة، وهي كانت لهم بمثابة الأم الحنون، وكان(علیه السلام) يستشيرها في كل صغيرة وكبيرة.

وأحسب أن أم سلمة كانت أول المبادرات للخروج في توديع الإمام الحسن(علیه السلام) والسير خلف جنازته مع نسوة بني هاشم وأهل المدينة.

وتبقى أشهر وديعة أعطاها الرسول الأعظم(صلی الله علیه وآله) لزوجه أم سلمة تراباً حمله له أمين الوحي من التربة التي سيراق فوقها دم الحسين(علیه السلام) وکيف صار هذا التراب دماً عند مقتله، فكانت أول من أذاع النبأ وبكى على قارورة الدم.(1)

ولقد طال العمر بهذه الأم الرؤوم حتى توفيت بالمدينة المنورة عن عمر ناهز الأربع وثمانين سنة، ودفنت بالبقيع بجوار من أحبتهم ووالتهم، رضوان الله عليها وعليهم.

ص: 131


1- علي الفتلاوي، المرأة في حياة الحسين(علیه السلام)، ص69. نقلاً عن: الأسرار الحسينية في المقامات الملكوتية والمعاني الروحانية للإمام الحسين بن علي(علیه السلام)، ص262.

ص: 132

أم أیمن... الأم الطیبة

أم أيمن حاضنة النبي(صلی الله علیه وآله) وخادمة فاطمة(علیها السلام) إمرأة مؤمنة كانت مثالاً للطیبة والتواضع والإيمان الفطري.لقد عاش الإمام الحسن(علیه السلام) وهو يراها تدخل بيتهم كأنها واحدة منهم، عاشت حياتها في بيوت بني هاشم، حضنت النبي المختار في طفولته وخدمته في شبابه وكهولته وكانت تعتبر نفسها خادمة لآل بيت النبوة، بل خادمة لفاطمة وبنيها.

وكانت أم أيمن حاضنة النبي(صلی الله علیه وآله)، سوداء حبشية ورثها النبي عن أمه وكان اسمها بركة، فأعتقها(صلی الله علیه وآله) وزوجها عبيد الخزرجي بمكة فولدت له أيمن. فمات زوجها فزوجها النبي(صلی الله علیه وآله) من زيد، فولدت له أسامة أسود يشبهها، فأسامة وأيمن أخوان لأم(1).

وجاء في التراجم أنها حاضنة رسول الله(صلی الله علیه وآله) وخادمة أم حبيبة وأم إبراهيم، حبشية إسمها بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان الحبشية المعروفة بأم أيمن غلبت عليها كنيتها، كنيت بابنها أيمن بن عبيد وتعرف أيضا بأم الظباء، وبأم أسامة(2).

وفي إمتاع الأسماع (6/340) تزوجت في الجاهلية بمكة عبيد بن عمرو بن بلال.. بن عوف بن الخزرج فنقلها إلى يثرب، فولدت له أيمن بن عبيد، فكنيت به

ص: 133


1- علي الكوراني، جواهر التاريخ، ج3/ ص 455. نقلاً عن البحار22/363.
2- الحائري، تراجم أعلام النساء، ج1/ ص 238.

وغلبت عليها كنيتها(1).

وقيل كانت وصيفة لأخت خديجة بنت خويلد فوهبتها للنبي(صلی الله علیه وآله) وقيل وصيفة لعبدالله بن عبدالمطلب أبيه، وقيل كانت وصيفة لأمه فصارت للنبي بعدهما ميراثاً فأعتقها النبي(صلی الله علیه وآله) حين تزوج خديجة، وكان زيد بن حارثة عبداً لخديجة فوهبته لرسول الله(صلی الله علیه وآله) فأعتقه ثم زوجه أم أيمن بعد النبوة فولدت له أسامة بن زيد(2). وكانت جارية سوداء نوبية، ورث(صلی الله علیه وآله) من أبيه أم أيمن فأعتقها وورث خمسة أجمال أوراك(سمان) وقطيعة غنم، وسيفاً مأثوراً (تاريخياً)وورقاً( نقداً)(3).وقال ابن شهاب: كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة النبي بعدما توفي أبوه حضنته أم أيمن حتى كبر، ثم أعتقها النبي ثم أنكحها زيد بن حارثة، ويقال: كانت من سبي الحبشة الذين قدموا زمن الفيل، فصارت لعبدالمطلب فوهبها لعبدالله والد النبي، وتزوجت قبل زيد عبيداً الحبشي فولدت له أيمن فكنيت به.

وجاء في الطبقات، في وفاة والدي النبي(صلی الله علیه وآله) أن أمه آمنة(علیها السلام) خرجت به إلى أخواله بني النجار بالمدينة فتوفيت في رجوعها، فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدموا عليهما من مكة، وكانت تحضنه مع أمه ثم بعد أن ماتت(4).

وتعتبر أم أيمن أما للنبي بقوله(صلی الله علیه وآله): أم أيمن أمي بعد أمي. وكان يقول لها: يا أمه، ويزورها في بيتها(5).وكانت موضع ثقة النبي(صلی الله علیه وآله) فقد وضع عندها أمانات الناس، فلما

ص: 134


1- علي الكوراني، جواهر التاريخ، ج3/ص466.
2- الحائري، تراجم، ج1/ ص 238.
3- علي الکوراني، جواهر التاریخ، ج3، ص455. نقلاً عن: مناقب آل أبی طالب: 1/147، والطبقات: 1/100، وأسد الغابة: 1/14.
4- المصدر نفسه، ص 456. نقلاً عن الطبقات: 1/116.
5- الحائري، تراجم، ج1/ ص 238، الطبقات، 8/ 223.

أراد­ الهجرة سلمها إلى أم أيمن وأمر علياً(علیه السلام) أن یردها(1).

وكانت موضع ثقة جده عبدالمطلب من قبله، ولم يكن يأتمن عليه أحد غير عمه أبي طالب وأم أيمن في طفولته، فكان يقول لها: يا بركة لا تغفلي عن ابني فإني وجدته مع غلمان قريباً من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني هذا نبي هذه الأمة. وكان عبدالمطلب لا يأكل طعاماً إلا قال عليّ بابني، فيؤتى به إليه، فلما حضرت عبدالمطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله(صلی الله علیه وآله) وحياطته، وبقيت أم أيمن حاضنته.

وقد روت أم أيمن عن طفولة النبي وشبابه ونبوته(صلی الله علیه وآله) ومما قالت: «ما رأيت النبي(صلی الله علیه وآله) شكى صغيراً ولا كبيراً جوعاً ولاعطشاً! كان يغدو فيشرب من زمزم، فأعرض عليه الغداء فيقول: لا أريده أنا شبعان». «رأيت رسول الله(صلی الله علیه وآله) وهو ابن ثمان سنين يبكي خلف سرير عبدالمطلب، حتى دفن بالحجون»(2).

وكان النبي(صلی الله علیه وآله) يقابل أمومتها الحقة ورعاتها له بالاعتزاز والمحبة، فقد روي أن النبي(صلی الله علیه وآله) قال: «من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن، فتزوجها زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد. ومن بساطة هذه المرأة المؤمنة أنها بقيت على حالها لم تغيرها السنون والبيئة العربية التي عاشت في كنفها،فبقيت إلى آخر عمرها تخطئ في العربية: «وقالت يوم حنين سبت الله أقدامكم فقال النبي(صلی الله علیه وآله) أسكتي يا أم أيمن فإنك عسراء اللسان»(3).

هذا الأمر لا يثلم شیئاً من حقيقتها التقية النقية وحسن إسلامها وإيمانها وولائها

ص: 135


1- علي الكوراني، جواهر التاريخ، ج3/ ص 457. نقلاً عن: الحدائق الناضرة: 21 / 433.
2- ؛ المصدر نفسه، نقلاً عن: الطبقات: 1 / 168 و1/ 119، والسيرة الحلبیة، 1/ 148، وسبل الهدی، 2/ 135، والبحار، 15/ 162.
3- المصدر نفسه، نقلاً عن: الطبقات: 8 / 224 و8 / 225.

لآل بيت النبوة. فلقد كانت من أوائل المسلمين والمهاجرين. يوم هاجرت أم أيمن مع ابنها أيمن وابنها الصغير أسامة، بعد أن واعدهم علي أن يتسللوا ويتخفوا إذا ملأ الليل بطن كل واد، إلى ذي طوى، فوافوه هناك، ومعهم عدد من مستضعفي المسلمين. فكانت مع ركب بني هاشم المهاجر إلى المدينة..، مع حمزة عم النبي (صلی الله علیه وآله) وابن عمه عبيدة بن الحارث وابن عمه علي بن أبي طالب(علیه السلام) وأمه فاطمة بنت أسدع وابنة النبي(صلی الله علیه وآله) فاطمة عوابنة حمزة فاطمة وتسمى ضباعة، وخادم النبي(صلی الله علیه وآله) أبي واقد وخادمه شقران، وحليف النبي(صلی الله علیه وآله) زيد بن حارثة، وزوجته حاضنة النبي(صلی الله علیه وآله) أم أيمن وولديها أيمن وأسامة(1). و لذا نجد أن أم أيمن لم تفارق النبي وكانت بالرغم من بساطتهاوطيبتها من أهل الجنة كما أخبر بذلك النبي صفي حياتها، وكانت تعرف إمامة علي(علیه السلام) فبقيت موالية له وللزهراء(علیه السلام) حتى آخر عمرها.

ومن بساطتها أن النبي(صلی الله علیه وآله) جاء في أيام عرس فاطمة(علیها السلام) إلى بيتها ففتحت الباب أم ايمن فقال: أثم أخي؟ قالت: وكيف يكون أخوك وقد أنكحته ابنتك؟ قال: فإنه: كذلك.

وفي مناقب ابن سلمان: 1 / 310: «قال: نعم أماه والله لقد زوجتها كفؤاً شريفاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين.وفي رواية: إن ذلك يكون يا أم أيمن»(2).

وهذه الرواية تشير إلى أن السيدة أم أيمن لم تتقاعس عن خدمة مولاتنا الزهراء(علیها السلام) بعد زواجها وانتقالها إلى بيتها الزوجي، على الرغم من أنها امرأة مسنة. ولقد حدثت أم أيمن بروايات عديدة عن زواج السيدة الطاهرة فاطمةع، فعن عبدالرزاق بإسناده إلى أم أيمن في خبر طويل عن النبي ص: وعقد جبرئيل وميكائيل في السماء نكاح علي

ص: 136


1- أمالي الطوسي، ص 469.
2- علي الكوراني جواهر، ج3/ ص 461. نقلًا عن: الطبقات: 8 / 23.

وفاطمة، فكان جبرئيل المتكلم عن علي وميكائيل الراد عليه(1).

وفي حديث آخر عن علي قال دخلت أم أيمن على النبي(صلی الله علیه وآله) وفي ملحفتها شيء فقال لها ما معك يا أم أيمن فقالت: إن فلانة أملكوها فنثروا عليها فأخذت من نثارها ثم بكت أم أيمن وقالت: يا رسول الله زوجت فاطمة ولم تنثر عليها شيئاً فقال(علیه السلام) يا أم أيمن لم تكذبين فإن الله تبارك وتعالى لما زوجت فاطمة علياً أمر أشجار الجنة أن تنثر عليهم من حليها وحللها وياقوتها ودرها وزمردها وإستبرقها فأخذوا منها ما لا يعلمون- ولقد نحل الله طوبى في مهر فاطمة فجعلها في منزل علي ع(2).

إن السيدة أم أيمن بموقفها الولائي الفطري هذا قد أبانت فيه طيب معدنها ورقة طبعها ومحبتها لفاطمة الزهراء(علیها السلام) ومشاعرها كأم في أن ينثر على ابنتها في يوم زفافها، وبكائها لحرمان فاطمة من مظاهر الزينة والفرح في يوم فرحها هو أقصى معاني الرقة والمحبة والتعاطف والولاء لبنت محمد وآل محمد عليهم صلوات الله وسلامه.

ولسوف نعثر في أسطر الروايات التي وثقت لخطبة الزهراء وزفافها وخطوات تأثيث بيتها وتزيين فاطمةع الكثير من المواقف المماثلة لأم أيمن ما يظهر عمق محبتها لعلي وفاطمة وبنيها(3).

وكانت أم أيمن تعيش في المدينة في بيتها مع زوجها زيد، وتساعد الزهراءع في عمل البيت وتأتيهم بهدايا(4)

فكان وجودها في بيت الرسول وبيت علي وفاطمةع أمراً اعتيادياً ومعتاداً عليه، فلقد شغفت حباً بهم، وفرحت لأفراحهم

ص: 137


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18/ ص 83. باب تزويجها صلوات الله عليها.
2- الحائري، تراجم، ج2/ ص 213 – 313.
3- الطبسي، ص 85 وما بعدها.
4- علي الكوراني، جواهر، ج3/ ص 458.

وخشيت عليهم من الحزن والألم حتى في الحلم..، عن أبي عبدالله(علیه السلام) قال: أقبل جيران أم ايمن إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله) فقالوا: يا رسول الله إن أم أيمن لم تنم البارحة من البكاء، لم تزل تبكي حتى أصبحت قال: فبعث رسول الله إلى أم أيمن فجاءته فقال لها: يا أم أيمن لا أبكى الله عينك إن جيرانك أتوني وأخبروني إنك لم تزل الليل تبكين أجمع، فلا أبكى الله عينك ما الذي أبكاك؟ قالت: يا رسول الله رأيت رؤيا عظيمة شديدة فلم أزل أبكي الليل أجمع فقال لها رسول الله ص: فقصيها على رسول الله فإن الله ورسوله أعلم فقالت: تعظم علي أنأتكلم بها فقال لها: إن الرؤيا ليست على ما ترى فقصيها على رسول الله قالت: رأيت في ليلتي هذه كأن بعض أعضائك ملقى في بيتي فقال لها رسول الله ص: نامت عينك يا أم أيمن! تلد فاطمة الحسين فتربينه وتلبينه فيكون بعض أعضائي في بيتك.

فلما ولدت فاطمة الحسين فكان يوم السابع أمر رسول الله فحلق رأسه وتصدق بوزن شعره فضة ،وعقّ عنه، ثم هيأته أم أيمن ولفته في برد رسول الله ثم أقبلت به إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله) فقال: مرحباً بالحامل والمحمول يا أم أيمن هذا تأويل رؤياك(1).

وقد تواصلت أم أيمن في خدمتها ومحبتها لأولاد النبي(صلی الله علیه وآله) ورعايتها للإمامين الحسن والحسين وتفقدهما، عن الطبراني بإسناده عن سلمان قال: كنا حول النبي(صلی الله علیه وآله) فجاءت أم أيمن فقالت: يا رسول الله لقد ضلّ الحسن والحسين، وذلك عند ارتفاع النهار، فقال رسول الله: قوموا فاطلبوا ابنيّ(2).

ص: 138


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18/ ص 571. نقلًا عن: أمالي الصدوق ص 142 مجلس 91، حديث 1.
2- المصدر نفسه ص 222. نقلًا عن: مقتل الحسين للخوارزمي ج1/ ص 301 – 104.

وكان النبي(صلی الله علیه وآله) قد أمر أم أيمن أن تساعد الزهراء(علیها السلام) عندما تزوجت وأن لا تفارقها، وقد روت عنها عدة أحاديث في سيرتها وسيرة العترة الطاهرة(علیهم السلام). ومنها معجزة الرحى: فقد روت المصادر ومنها الصحاح، أن الزهراء(علیها السلام) شكت إلى أبيها(صلی الله علیه وآله) ما تلقى من الرحى وقالت أم أيمن: «مضيت ذات يوم إلى منزل سيدتي ومولاتي فاطمة الزهراء لأزورها في منزلها وكان يوماً حاراً من أيام الصيف فأتيت إلى باب دارها وإذا أنا بالباب مغلق فنظرت من شق الباب وإذا بفاطمة الزهراء نائمة عند الرحى، ورأيت الرحى تدور وتطحن البر وهي تدور من غير يد تديرها، والمهد أيضاً إلى جنبها والحسين نائم فيه والمهد يهتز ولم أر من يهزه! ورأيت كفاً تسبح لله قريباً من كف فاطمة الزهراء. قالت أم أيمن: فتعجبت من ذلك فتركتها ومضيت إلى سيدي رسول الله(صلی الله علیه وآله) وقلت: يا رسول الله إني رأيت اليوم عجباً ما رأيت مثله أبداً. فقال لي: ما رأيت يا أم أيمن؟...، فقصت عليه الخبر.. فقال: يا أم أيمن اعلمي أن فاطمة الزهراء صائمة، وهي متعبة والزمان قيض، فألقى الله عليها النعاس فنامت، فسبحان من لا ينام، فوكل الله ملكاً يطحن عنها قوت عيالها وأرسل ملكاً آخر، يهز مهد ولدها الحسين لئلايزعجها من نومها، ووكل الله تعالى ملكاً آخر يسبح الله عز وجل قريباً من كف فاطمة ثواب تسبيحه لها، لأن فاطمة لم تفتر عن ذكر الله عز وجل، فإذا نامت جعل الله ثواب تسبيح ذلك الملك لفاطمة»(1)!

وروي في المناقب، عن أم أيمن أنها رأت الزهراء مرة أخرى، وهي تقرأ القرآن والرحى تدور وتطحن وحدها! فنظم ذلك ابن حماد:

وق--ال--ت أم أيمن جئت يوماً إلى الزهراء في وقت الهجير(2)

ص: 139


1- ابن شهرآشوب، المناقب، ج3/ ص 116.
2- ابن شهرآشوب، المناقب، ج3/ ص 116.

وكذلك هناك حديث أم أيمن المعروف بحديث كربلاء، والذي ذكره ابن قولويه في حلقات كتاب (كامل الزيارات)(1).

وحديثها عن ولادة الحسين(علیه السلام) وفضل تربته وأنها من بطحاء الجنة وأنها أطهر بقاع الأرض وأعظمها حرمة(2).

وما يؤكد أن السيدة أم أيمن (رضوان الله تعالى عليها) لم تكن تفارق أحبتها أهل البيت، إن كان بيت رسول الله(صلی الله علیه وآله) أو بيت الزهراء(علیها السلام) في نهار أو ليل..، ما جاء في دعوات الراوندي عن سويد بن عقلة قال: أصابت علياً(علیه السلام) شدة فأتت فاطمة(علیها السلام) ليلاً رسول الله(صلی الله علیه وآله) فدقت الباب فقال: أسمع حس حبيبتي بالباب يا أم أيمن قومي وانظري! ففتحت لها الباب، فدخلت، فقال: لقد جئت في وقت ما كنت تأتينا في مثله(3)..

وهكذا ما كانت أم أيمن تنقطع عن التردد على بيت الزهراء والتودد إليها ومساعدتها في عمل البيت وإتحافها بالهدايا، عن أمير المؤمنين(علیه السلام) قال: زارنا رسول الله(صلی الله علیه وآله) وقد أهدت لنا أم أيمن لبناً وزبداً وتمراً...(4)وفي رواية أخرى.. زار النبي(صلی الله علیه وآله) منزل فاطمة(علیها السلام) في يوم من الأيام فعملت له حريرة وأتاه علي(علیه السلام) بطبق فيه تمر. ثم قالت أم أيمن: فأتيتهم بعسٍ فيه لبن وزبد(5)..

وفي الكافي.. عن الإمام الباقر(علیه السلام) قال النبي لفاطمة(علیها السلام) يا فاطمة قومي

ص: 140


1- القزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص 565 وما بعدها.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج89/ ص 114
3- المصدر نفسه، ج /18، ص 112. نقلًا عن دعوات الراوندي ص 48-47 الرقم 116.
4- علي الكوراني، جواهر، ج3/ ص 458.
5- القزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص 569. حديث أم أيمن.

فأخرجي تلك الصحفة(1) فقامت فأخرجت صحفة فيها ثريد وعراق يفور، فأكل النبي(صلى الله عليه وآله) و علي وفاطمة والحسن والحسين ثلاثة عشر يوما، ثم إن ام أيمن رأت الحسين معه شيء فقالت له: من أين لك هذا؟ قال: إنا لنأكله منذ أيام، فأتت ام أيمن فاطمة فقالت: يا فاطمة إذا كان عند ام أيمن شيء فانما هو لفاطمة وولدها وإذا كان عند فاطمة شيء فليس لام أيمن منه شيء؟ فأخرجت لها منه فأكلت منه ام أيمن و نفدت الصحفة، فقال لها النبي(صلی الله علیه وآله): أما لولا أنك أطعمتها لاكلت منها أنت و ذريتك إلى أن تقوم الساعة، ثم قال أبوجعفر(علیه السلام) والصحفة عندنا يخرج بها قائمنا(علیه السلام) في زمانه(2).

إن هذه الرواية تدل على عمق رابطة الأمومة التي تكنها أم أيمن للزهراء حتى أنها لا تمنع عنها شيئاً بقولها «إذا كان عند أم أيمن شيء فإنما هو لفاطمة وولدها..»، والحق يقال أن هذه السيدة الجليلة، والموالية الحقة، لم تترك مولاتنا الزهراء لوحدها في كل مواقفها التي اضطرتها الظروف العاصفة ما بعد وفاة الرسول(صلی الله علیه وآله) في أن تتخذها للمطالبة بحقوقها.

ونحن إذ استرسلنا في الحديث عن هذه الأم الطيبة وذلك للوصول إلى حقيقة جوهر هذه الإنسانة التي ما فتئت تناصر محمد وآل محمد..، وإذا كان الإمام الحسن(علیه السلام) قد هرول إلى المسجد النبوي متوجعاً لفقد جده ومخاطباً أبا بكر: انزل عن منبر أبي...، فلا نستبعد أن تكون أم أيمن معه في موقفه هذا، فلقد استنكرت هي الأخرى ركضهم إلى السقيفة وبيعتهم لأبي بكر فجاءت إليهم وقالت: «يا أبا بكر، ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمد(صلی الله علیه وآله) فأمر بها عمر فأخرجت من المسجد»(3).

ص: 141


1- الصحفة: كالقصعة إناء مبسوطة، وهي اصغر من القصعة.
2- علي الكوراني، جواهر، ج3/ ص 458.
3- المصدر نفسه، ص 462. نقلًا عن: كتاب سليم ،389-157.

وكانت مع الإمام الحسن(علیه السلام) وأمه الزهراء(علیها السلام) في موقف آخر يوم أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة(علیها السلام) فدكاً وبلغها ذلك فلاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمة من حفيداتها ونساء قومها..، وألقت خطبتها الشهيرة احتجاجاً(1).

وعندما طلب من السيدة الزهراء(علیها السلام) أن تأتي بشهود كانت أم أيمن من تقدم للشهادة معها، قالت فاطمة(علیها السلام): «علي وأم أيمن يشهدان بذلك..». فقال عمر، لا تقبل شهادة امرأة أعجمية لا تفصح، وأما علي فيجر النار إلى قرصته(2).

وفي رواية أخرى..، فإن علياً زوجها يجر إلى نفسه، وأم أيمن فهي امرأة صالحة لو كان معها غيرها لنظرنا فيه! فخرجت فاطمة(علیها السلام) من عندهما باكية حزينة(3).

وعلى الرغم من بساطة أم أيمن وطيبتها المعهودة، فإنها لم تقف مكتوفة الأيدي ممن عزلوا أهل البیت(علیهم السلام) وحرموهم من تركة النبي(صلی الله علیه وآله) وصادروا أموالهم ومنها مزرعة فدك، فها هي تحتج وتحاجج.. منتصرة لحق الزهراء(علیها السلام) وبنيها في إرث أبيهم..، قال الإمام الصادق(علیه السلام): «فجاءت فاطمة(علیها السلام) إلى أبي بكر، فقالت يا أبا بكر منعتني عن ميراثي من رسول الله(صلی الله علیه وآله) وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله(صلی الله علیه وآله) بأمر الله. فقال لها: هاتي على ذلك شهوداً فجاءت بأم أيمن فقالت: لا أشهد حتى أحتج يا أبا بكر عليك بما قال رسول الله(صلی الله علیه وآله)، فقالت: أنشدك الله ألست تعلم أن رسول الله(صلی الله علیه وآله) قال: إن أم أيمن من أهل الجنة؟ قال: بلى، قالت: فأشهد أن الله أوحى إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله) وآت ذا القربى حقه، فجعل فدك لفاطمة بأمر الله»(4)..

ص: 142


1- المصدر نفسه، جواهر، ج3/ ص 147.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج18/ ص 143.
3- الكوراني، جواهر، ج3/ ص 463.
4- المصدر نفسه، ص 462.

وفي رواية المفيد «أن عمر كان حاضراً وأن أم أيمن استشهدته على قول النبي(صلی الله علیه وآله) «فاطمة سيدة نساء أهل الجنة» فشهد! فقالت: «فمن كانت سيدة نساء أهل الجنة تدعي ما ليس لها؟ وأنا امرأة من أهل الجنة ما كنت لأشهد إلا بما سمعت من رسول الله(صلی الله علیه وآله) فقال عمر: دعينا يا أم أيمن من هذه القصص،بأي شيء تشهدان؟ فقالت... فقال عمر: أنت امرأة ولا نجيز شهادة امرأة وحدها، وأما علي فجر إلى نفسه، قال: فقامت مغضبة وقالت: اللهم إنهما ظلما ابنة محمد نبيك حقها، فأشدد وطأتك عليهما(1)!

إن رواية المفيد تبين أن السيدة أم أيمن على شدة بساطتها وطيبتها المعهودة، لم تطق صبراً أن تنتفض لحبيبتها الزهراء(علیها السلام)، فغضبت غضبة للحق ودعت دعاءً شديد الوقع بقولها: اللهم إنهما ظلما ابنة محمد نبيك حقها، فأشدد وطأتك عليهما!!

ويبدو من واقع الحال الذي ترسمه لنا الروايات التاريخية أن أم أيمن قد أحبطت واعتكفت كما الزهراء(علیها السلام)، وهذا ما تؤكده روايات مرض بضعة النبي(صلی الله علیه وآله) ومكثها أربعين ليلة معتلة، فلما قاربت الرحيل روحي لها الفداء، دعت إليها أم أيمن وأوصت ،أن لا يشهد أحد جنازتها ممن ظلمها وأن لا يترك أن يصلي عليها أحد منهم(2).

وفي رواية... مرضت فاطمة(علیها السلام) مرضاً شديداً ومكثت أربعين ليلة في مرضها إلى أن توفيت صلوات الله عليها، فلما نعت إليها نفسها دعت أم أيمن(3).

جاء في علل الشرائع.. عن الإمام الصادق(علیه السلام): فلم نعي إلى فاطمة نفسها أرسلت إلى أم أيمن وكانت أوثق نسائها عندها وفي نفسها(4).

ص: 143


1- الكوراني، الجواهر، ص 464. نقلًا عن: المفيد (الاختصاص ،381).
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص 132.
3- المصدر نفسه، ص 138.
4- الكوراني جواهر، ج3/ ص 465. نقلًا عن: علل الشرائع: 1 / 187.

وقال المجلسي: فلما نعي إلى فاطمة(علیها السلام) نفسها أرسلت إلى أم أيمن وكانت أوثق نسائها عندها وفي نفسها فقالت: يا أم أيمن إن نفسي نعيت إلي فادعي لي علياً فدعته لها فلما دخل عليها قالت له: يا بن العم أريد أن أوصيك بأشياء فأحفظها علي... إلى آخر الرواية(1).

وهكذا شاركت أم أيمن الإمام الحسن(علیه السلام) لحظات وداع أمه الأخيرة، بل إن الروايات المعتبرة أوردت أن أم أيمن قد تشرفت بتغسيل مولاتنا فاطمة الزهراء(علیها السلام)(2).ومن شدة جزع أم أيمن على فقد حبيبتها الزهراء(علیها السلام) أنها حلفت أن لا تكون بالمدينة(3)،

فلم تعد تطيق أن تنظر إلى مواضع كانت بها الزهراء نوراً ورحمة وذكرى وجود طيف النبي محمد(صلی الله علیه وآله)، ولدها الأثير وربيبها وحبيب فؤادها..، ودعت أم أيمن مدينة الرسول، وودعت بيت الزهراء وبني الزهراء.. وخرجت إلى مكة لا تلوي على شيء..، وفي الطريق أكرمها الله عز وجل ببركة الزهراء(علیها السلام) التي أحبتها أيما حب، حباً صادقاً نابعاً من قلب أم طيبة، موالية.. جاء في المناقب: لما توفيت فاطمة(علیها السلام) قالت: لا أرى المدينة بعدها! فأصابها عطش شديد في الجحفة حتى خافت على نفسها، فكسرت عينيها نحو السماء ثم قالت: يا رب أتعطشني وأنا خادمة بنت نبيك؟ قال: فنزل إليها دلو من ماء الجنة فشربت ولم تجع ولم تطعم سنين(4).

وروى ابن حجر في الإصابة (ج4، ص 415)..، خرجت مهاجرة من مكة إلى

ص: 144


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18/ ص 147. باب ما وقع عليها(علیها السلام) من الظلم وبكائها وحزنها.
2- الطبسي، ص 277. نقلًا عن: بحار الأنوار، ج43/ ص 180.
3- الحائري، تراجم، ج1/ ص 239.
4- الكوراني، جواهر، ج3/ ص 460. نقلًا عن: المناقب: 1 / 116.

المدينة وهي ماشية ليس معها زاد- وقال فيه فلما غابت الشمس إذا أنا بإناء معلق عندرأسي- وقالت كنت بعد ذلك أصوم في اليوم ثم أطوف في الشمس كي أعطش فما عطشت بعد.

وذكر القمي(رحمه الله) الرواية ذاتها... إلى قوله: فرفعت يديها قالت يا رب أنا جارية فاطمة تقتلني عطشاً فأنزل الله تعالى عليها دلواً من السماء فشربت فلم تحتج إلى الطعام والشراب سبع سنين، وكان الناس يبعثونها في اليوم الشديد الحر فما يصيبها عطشاً(1).

وفي تلافيف الروايات نجد أن: السيدة أم أيمن قد خرجت إلى مكة دون أن تتدبر مؤونة السفر، وهذا وربي حال من يكتنفه الحزن الشديد فلا يعبأ بشيء وإن كان فيه هلاكه. ثم أنها ركنت في دعائها لله عز وجل إلى شفاعة سيدة نساء العالمين فقالت: أنا خادمة فاطمة.. وأنا جارية فاطمة، ولم تقل على سبيل المثال: أنا عبدتك.. أنا أمتك أو أنا خادمة نبيك وحاضنته!! وهذا يؤكد إلى أي مدى عميق قد رست نفس أم أيمن في إيمانها واعتقادها وموالاتها للزهراء(علیها السلام)..، فجاءها الجزاء على قدر الاعتقاد، معجزة من السماء ببركة الزهراء.. وإن كانت بعض الأقلام تحاول طمس هذه الآثار الإلهية المباركة.لقد عاشت السيدة أم أيمن(رضوان الله تعالى عليها) حياتها المديدة المباركة في كنف بني هاشم وعبدالمطلب والنبي الأكرم(صلی الله علیه وآله) ثم في كنف الزهراء وعلي(علیهما السلام)، ولقد كانت خير أم وأطيب أم قدمت ولدها أيمن بين يد النبي(صلی الله علیه وآله) فاستشهد وهو يدافع عن النبي(صلی الله علیه وآله) وكان أفضل أبنائه فقد كان مع رسول الله(صلی الله علیه وآله) في حنين وثبت معه عندما هرب المسلمون! ولم يثبت معه إلا تسعة من بني هاشم، وكان عاشرهم أيمن رحمة الله عليه،

ص: 145


1- الحائري تراجم، ج1/ ص 239. نقلًا عن القمي، السفينة، ج2/ ص 736.

قال المفيد في إرشاده ونحوه في الاستيعاب: «فلم يبق منهم مع النبي(صلی الله علیه وآله) إلا عشرة أنفس، تسعة من بني هاشم خاصة وعاشرهم أيمن بن أم أيمن، فقتل أيمن رحمه الله وثبت تسعة النفر الهاشميون حتى ثاب إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله) من كان انهزم... وقال العباس بن عبدالمطلب في هذا المقام:

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة

وقد فر من قد فر عنه فاقشعوا

وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه

على القوم أخرى يا بني ليرجعوا

وع-اشرن-ا لاق-ى الح--مام بنفسه

لما ن---ال---ه في الله لا ي-توجع

يعني به أيمن بن أم أيمن»(1).

وجاء في المناقب ما يوافق ذلك...، فقد جاء عوف بن مالك زعيم هوازن وقال:

«أروني محمداً، فأروه إياه، فحمل عليه فلقيه أيمن بن عبيدة وهو ابن أم أيمن فالتقيا فقتله مالك» ولم يصل إلى النبي(صلی الله علیه وآله)(2).أما أسامة بن زيد الابن الثاني لأم أيمن، فقد كان في السابعة أو الثامنة عندما هاجر مع والديه، وعاش معهم في كنف النبي وعترته(صلی الله علیه وآله)، وكان أسامة أسود قوي البنية، وقد أمره النبي(صلی الله علیه وآله) على سرية وهو في نحو السابعة عشرة من عمره، ثم أمره في مرض وفاته على جيش من ثلاثة آلاف مقاتل، وكان في الثامنة عشرة أو السابعة عشرة. وعاد أسامة بعد وفاة النبي(صلی الله علیه وآله)، ولم يبايع أبا بكر حتى بايع علياً(علیه السلام). وعاش إلى زمن معاوية وتوفي

ص: 146


1- الكوراني، جواهر، ج3/ ص 564. نقلًا عن المفيد، الإرشاد، ج1، ص 140، الاستيعاب: 2/113.
2- المصدر نفسه، ص 664. نقلًا عن مناقب آل أبي طالب: 1 / 181، وتاريخ دمشق: 4/ 257، وذكر ثبات أيمن في حنين ذخائر العقبى ،198، وكبير الطبراني: 1 / 288.

سنة 54 هجرية(1).

واختلف المؤرخون في تاريخ وفاة هذه السيدة الجليلة، فقد ذكر بعضهم أن تاريخ وفاة أم أيمن كان سنة 36 من الهجرة، وقيل توفيت في أيام حكومة عثمان بن عفان، وصلى على جنازتها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) ودفنت في البقيع(2).

وإن كانت أكثر الروايات المثبتة تذكر أن أم أيمن توفيت بعد النبي(صلی الله علیه وآله) بخمسة أشهر، وكانت في السبعينات من عمرها المبارك، لأنها عام ولادته(صلی الله علیه وآله) كانت جارية باعها أو تركها في مكة جيش أبرهة، فوصلت إلى عبدالمطلب. وقد رووا ذلك ومنهم البخاري في تاريخه الصغير: 1/ 88، وتاريخ دمشق: 4/ 302، لكنهم أخروا وفاتها ليزعموا أنها رضيت على أبي بكر وعمر(3).

وهكذا رحلت أم أيمن بعد رحيل حبيبتها الزهراء(علیها السلام) بقليل، وكانت أم أيمن _ الأم الطيبة التي كان يقول عنها الرسول(صلی الله علیه وآله): أم أيمن أمي بعد أمي، وكان يزورها وتلازمه(4)... قد ضاقت عليها الدنيا وتبدلت أيامها..، فلحقت بمن أحبت وعاشت معهم ومن أجلهم. فإلى الجنان مستقرك، يا من بشرها النبي المصطفی(صلی الله علیه وآله) بأنها من أهل الجنة في الحياة قبل الممات.

ص: 147


1- المصدر نفسه.
2- القزويني، زينب من المهد...، ص 564.
3- الكوراني، جواهر، ج3/ ص 465.
4- الحائري تراجم، ج1/ ص 238.

ص: 148

أم البنين(علیها السلام)... فاطمة أخرى

تأتي علاقة الإمام الحسن بهذه السيدة الجليلة، أم البنين (رضوان الله تعالى عليها) من كونها زوجة أبيه علي المرتضى)علیه السلام)، ولكنها تكاد تكون إنموذجاً فريداً من زوجات الأب لم ولن يتكرر ثانية.

فالسيدة أم البنين التي تمتد علاقتها بإمامنا الحسن)علیه السلام) منذ كان في الثامنة من عمره المبارك وحتى وفاته شهيداً مسموماً، أي ما يقارب الأربعين عاماً أو أكثر..، كانت إحدى أرقى العلاقات الإنسانية التي حباها الباري عز وجل للإمام السبط)علیه السلام) ولأم البنين معاً. حيث اتسمت بالود والمعاملة الحسنة والموالاة وعرفان المنزلة.

وقبل التعريف بأوجه هذه العلاقة السامية ما بين الإمام الحسن)علیه السلام) والسيدة التي حلت في حياته أماً ثانية باسم أمه الطاهرة.. فكانت فاطمة أخرى في حياته، علينا التعريف بهذه المرأة المؤمنة المضحية.

والحق أن هذه السيدة الجليلة لو لم تكن لها من المآثر إلا تضحيتها بأولادها الأربعة لكفاها فخراً وعزاً وذكراً مدى الدهر، فكيف وهي زوج الوصي علي المرتضی)علیه السلام) ووالدة بطل الشريعة أبا الفضل العباس؟

أما اقترانها بالإمام علي)علیه السلام) فحكاية ترويها الكتب ولكن باقتضاب، فعلي)علیه السلام) لم يتزوج في حياة فاطمة الزهراء)علیها السلام) كما ذكرنا من قبل حتى توفيت عنده.(1)

ص: 149


1- ابن الأثير الكامل في التاريخ: دار التوفيقية للطباعة، القاهرة – مصر، ج3/ص 245.

ولقد تزوج الإمام علي)علیه السلام) بعد وفاة الزهراء بعدة زوجات منهن السيدة أم البنين وهي (فاطمة بنت حزام الكلابية)، تنفيذاً لوصية الزهراء)علیها السلام) له. ففي حديث مسند إلى الإمام الحسن)علیه السلام) عن علي بن أبي طالب)علیه السلام) قال: لما حضرت فاطمة)علیه السلام) الوفاة دعتني فقالت: أمنفذ أنت وصيتي وعهدي؟ قال: قلت: بلى أنفذها فأوصت إليه(1).

ومن بعض وصاياها قولها: يا بن العم إني أجد الموت الذي لابد منه ولا محيص عنه وأنا أعلم أنك بعدي لا تصبر على قلة التزويج فإن أنت تزوجت امرأة اجعل لها يوماً وليلة، واجعل لأولادي يوماً وليلة يا أبا الحسن(2)

.. بل إن وصيتها للإمام علي(علیه السلام) بالزواج بعدها كانت أول الوصايا..، فقالت(علیها السلام): جزاك الله عني خير الجزاء، يا بن عم أوصيك أولاً: أن تتزوج بعدي.. فإن الرجال لابد لهم من النساء.(3)وتنفيذاً لوصية الزهراء(علیها السلام) اقترن الإمام علي(علیه السلام) بعدة زوجات تتفاوت الروايات في عددهن، وإن كانت أولهن أمامة بنت أختها حسب اختيار السيدة فاطمة(علیها السلام) لها.

وقد اختلف المؤرخون في عدد النساء اللاتي تزوجهن الإمام علي اختلافاً كبيراً، فإن ابن أبي الحديد يذكر في كتابه (نهج البلاغة) أنه تزوج بعد الزهراء(علیها السلام) ست نسوة، ويذكر الشبلنجي في (نور الأبصار) أنهن سبع، أما المقريزي في (اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا) فهن ثمان، وهو ما ذهب إليه الطبري في (تاريخ الأمم والملوك).(4)

ويزيد ابن شهرآشوب في عددهن إلى تسعة مع ذكر أسمائهن وأولادهن

ص: 150


1- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 116.
2- الحائري، تراجم، ج2/ ص 332.
3- أعلام الهداية، ج3 فاطمة الزهراء(علیها السلام)/ ص 481. نقلًا عن: روضة الواعظين: 1 / 151.
4- محمد بكر إسماعيل، فقيه الأمة ومرجع الأمة علي بن أبي طالب، الناشر شهاب الدين، قم – إيران، ط1، 1427ه- / 2006م، ص 81.

وأنسابهن(1).

ويذكر المؤرخون أن الإمام علي(علیه السلام) عندما أراد الزواج بعد وفاة أم الحسن(علیه السلام) سأل أخاه عقيل بن أبي طالب أن يختار له امرأة بعينها وصفاتها، وكان عقيل بن أبي طالب على شرف أصله وقداسة منبته ومجده الهاشمي الأثيل نسابة عصره(2).

وكان يعد واحداً من أربعة من قريش عالماً بالأنساب والأخبار، وهو من الثقات في معرفة الأنساب لذا كان التجاء أخيه إليه(3).

فقد روي أن أمير المؤمنين(علیه السلام) قال لأخيه عقيل:.. «انظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب..»، فقال له: تزوج أم البنين الكلابية، واسمها فاطمة بنت حزام، وكانت عالمة ..(4)

وفي رواية أخرى مماثلة، روي أن أمير المؤمنين(علیه السلام) قال لأخيه عقيل:«...أنظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً». فقال له: تزوج أم البنين الكلابية، واسمها فاطمة بنت حزام، وكانت عالمة... فتزوجها أمير المؤمنين(علیه السلام)، فولدت له العباس وجعفر وعبدالله وعثمان... وكلهم قتلوا في نصرة أخيهم الحسين(علیه السلام)(5).

وبعض المصادر تذكر اسم ابنها الأخير عثمان باسم آخر

ص: 151


1- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج3/ ص 349.
2- الكفيل، خلاصة مبسطة عن حياة أبي الفضل العباس(علیه السلام)، العتبة العباسية المقدسة – قسم الشؤون الفكرية والثقافية، شعبة الإعلام، كربلاء المقدسة – العراق، ط2، 2009م، ص 8.
3- أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ( 255ه-) ، البيان والتبيين، تحقيق وشرح عبدالسلام محمد هارون، مكتبة المثنى، بغداد ومكتبة الخانجي، مصر، ط2، 1960م، ص 323.
4- علي الأحمدي الميانجي، عقيل بن أبي طالب، تحقيق ومراجعة مجتبى فرجي، دار الحديث للطباعة والنشر، ط1، إيران – قم، بيروت – لبنان،1420ه-، ص 33.
5- أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد الأصفهاني (356ه- )، مقاتل الطالبيين، تحقيق أحمد صقر، قم، انتشارات الشريف الرضي، ط1، 1405ه-، ص90.

(عبدالرحمن)(1)،

ولا بقية لهم غير العباس.وأم البنين هي: فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، وأمها ليلى بنت السهيل بن مالك وهو ابن أبي برة عامر ملاعب الأسنة بن مالك بن جعفر بن كلاب(2)، المعروفة بأم البنين(3).

وقد غلب لقبها (أم البنين) الأربعة على اسمها فاطمة، واصحاب السير يروون موقفاً مبكراً لإيثار هذه المرأة المسلمة العظيمة الشأن، حيث يذكرون أنها طلبت من الإمام علي بعد زواجه منها أن لا يناديها باسمها (فاطمة) مجرداً في البيت!؟ وعندما سألها أمير المؤمنين عن السبب وراء طلبها هذا، قالت له صادقة: إنها ترى الأسى والتوجع في عيون أولاد الزهراء(علیها السلام) لأن اسم والدتهم يطرق أسماعهم فيجدد أحزان فراقها لهم.

إيثار وأي إيثار من زوجة جديدة، محبة ورعاية تغدقها على أولاد (ضرتها)، ولقد بقيت خصلة الإيثار هذه ملازمة لفاطمة أم البنين(علیها السلام) طوال عمرها وحتى بعد وفاة الإمام علي(علیه السلام)، ومن لا يستذكر بفخر وتأثر موقفها الجميل – الجليل يوم رجوع ركب الحسين(علیه السلام) إلى المدينة المنورة بعد واقعة الطف الأليمة(4).

إن النظرية الإسلامية ترى أن الأسرة تمثل وحدة رئيسة ومركزية في بناء المجتمع،

ص: 152


1- محمد بكر إسماعيل، فقيه الأمة، ص 83.
2- الحائري، التراجم: ج1/ ص 142 – 242.
3- يذكر المفيد في الإرشاد، ص 186: (إن أم البنين بنت حزام بن خالد بن دارم).
4- محمد مهدي الحائري، معالم السبطين في أحوال الحسن والحسين، الناشر: صبح الصادق ،ط1، ذي القعدة 1425ه-، قم – إيران / نجف – عراق، ص 396 وما بعدها.

ولا يمكن أن يبنى المجتمع الصالح ويتكامل دون بناء الأسرة الصالحة(1). كما إن الحديث النبوي الشريف يؤكد أن «جهاد المرأة حسن التبعل»(2).

وكانت مولاتنا الزهراء(علیها السلام) سيدة النساء بحسن تبعلها حتى أنها في ذروة غضبها لحقها، لم تخالف زوجها أمير المؤمنين فنراها تقول للإمام(علیه السلام) عندما استأذنها في دخول الخليفتين عليها وأنه ضمن لهما ذلك: «إن كنت قد ضمنت لهم شيئاً فالبيت بيتك والنساء تتبع الرجال لا أخالف عليك بشيء فأذن لمن أحببت..»(3).

فكيف كان حال السيدة أم البنين مع الإمام(علیه السلام)؟لقد اتسمت السيدة أم البنين بصفات إسلامية نبيلة جعلتها بعيدة كل البعد عن أمراض قلبية تصيب معظم النساء، وهي الغيرة المذمومة التي عبر عنها النبي(صلی الله علیه وآله) والأئمة الاطهار(علیهم السلام) بأنها من الكفر بالقول: «غيرة الرجل إيمن، وغيرة المرأة كفر»(4).

فلم تظهر غيرتها من سالفتها سيدة نساء العالمين كما فعلت الكثير من النساء، ولم تعادِ أبناءها، بل على العكس من ذلك. فهي قد سمت وارتفعت عن هذا المرض الوبيل وعن هذا الكفر القاتل، فجعلت من نفسها خادمة لأولاد الزهراء(علیها السلام) وفضلتهم على أولادها.

ذكر أنها قالت للإمامين الحسن والحسين وللسيدة زينب(علیها السلام) عند دخولها بيت أمير المؤمنين(علیه السلام) لأول مرة «أنا هنا خادمة عندكم، جئت لخدمتكم فهل تقبلون بهذا

ص: 153


1- محمد باقر الحكيم، الزهراء(علیها السلام) – أهداف – مواقف – نتائج، مؤسسة تراث الشهيد الحكيم ،مطبعة العترة الطاهرة، ط1، النجف الأشرف، 2006، ص 36.
2- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 107.
3- المصدر نفسه، ص 146.
4- علي الفتلاوي، المرأة في حياة الحسين(علیه السلام)، ص16. نقلًا عن: جامع أحاديث الشيعة للبروجردي: ج20/ ص 274.

الشرط وإلا فإني راجعة إلى داري» فرحبوا بها وقالوا لها: «أنت عزيزة كريمة وهذا بيتك»(1).

وفي رواية أخرى، أنها عندما زفت إلى بيت الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) وجدت الإمامين الحسن والحسين مريضين، فأخذت تمرضهما وتقوم على رعايتهما وأغدقت عليهما العطف والحنان وأسمعتهما أطيب الكلام حتى عوفيا من مرضهما(2). هذا الخلق الرفيع والعاطفة الجياشة ينم عن خلق فطري سليم أبعد هذه السيدة الكريمة وجردها من غيرة النساء وأظهر عمق التزامها بتكليفها الشرعي إزاء أولاد الصديقة الطاهرة(علیها السلام)، وهذا ما لم يغب عن ذاكرة الإمام الحسن(علیه السلام) فبادل أم البنين هو وأخوته المودة بالود العميق.

لقد أحبها الإمام الحسن(علیه السلام) حباً جماً واعتبرها كما أرادت أن تكون له أماً رحيمة عطوفة عليه، فكانت بحنوها وعطفها الصادقة ما عوضه عن الخسارة الكبيرة التي أصابته بفقد أمه سيدة النساء(علیها السلام) .(3)

إن بعض النسوة قد يوفقن لأن ينهضن بدور مهم في الجانب الأسري والجانب الجهادي والعقائدي، ولقد وفقت السيدة (أم البنين) في الرعاية المنزلية وفي ترتيب وضع الأسرة وفي كسب ود أهل البيت ومحبتهم لما تمتلكه من عقل راجع وإيمان وثيق وسمو آداب ومحاسن صفات، فأخلص لها الإمام علي(علیه السلام) كاعظم ما يكون الإخلاص،واعتز بها وبأولادها أيما اعتزاز، وأحبها الإمام الحسن وأخوته، فجعلت من أسرتها أسرة قوية صالحة متماسكة، فكانت أماً لبنيها الأربعة ومن قبلها أماً لأولاد فاطمة

ص: 154


1- الکفیل، ص9.
2- علي الفتلاوي، المرأة في حياة الحسين(علیه السلام)، ص 63.
3- الکفیل، ص109.

الزهراء، كيف لا تكون هكذا وقد اختارها الإمام علي بعد تفحص وتدبر لتلد له فرسان وأبطال هيئوا جميعاً لموقف عظيم في كربلاء.

ولا نغفل عن جانب آخر في شخصية هذه المرأة – الانموذج، فالسيدة أم البنين انفردت عن بقية النساء بإيمانها العميق ومعرفتها الحقة لمنزلة الإمام الحسن(علیه السلام) وأخيه الحسين(علیه السلام) عند الله ورسوله(صلی الله علیه وآله)(1)، وإنهما إمامان إن قاما أو قعدا واجبا الطاعة منها ومن أولادها.

ولا نغفل عن واقع حال الظرف المعاشي الذي عاشته هذه المرأة المؤمنة تحت كنف أمير المؤمنين(علیه السلام) وقد شاركها بهذا الظرف الإمام الحسن(علیه السلام) حيث كان الإمام(علیه السلام) يطبق العدالة الاجتماعية بسلوكه وبأعماله وفي معاملته لنفسه وللآخرين.

عن الإمام جعفر الصادق(علیه السلام) «كان أمير المؤمنين يجلس جلسة العبد ويأكل أكلة العبد، ويطعم الناس خبز البر واللحم، ويرجع إلى أهله فيأكل خبز الشعير بالزيت أو بالخل»(2).

وقد لازمت أم البنين الإمام علي(علیه السلام) وابنه الإمام الحسن(علیه السلام) طوال حياتهما وفي أقسى الظروف الاجتماعية والسياسية التي حفلت بها أيامهما، يوماً بيوم، قال العقاد في كتابه عبقرية الإمام: «أما معيشة علي في بيته بين زوجاته وأبنائه فمعشية الزهد والكفاف، وأوجز ما يقال فيها: أنه كان يتفق له أن يطحن لنفسه، وأن يأكل الخبز اليابس الذي يكسره على ركبته، وأن يلبس الرداء الذي يرعد فيه، وأن واحداً من رعاياه لم يمت عن

ص: 155


1- زمیزم: ص20.
2- يونس رمضان، بغية الطالب..، ص 194. نقلًا عن: القندوزي، ينابيع المودة: ج1/ ص 145.

نصيب أقل من النصيب الذي مات عنه، وهو خليفة المسلمين»(1).

لقد سكنت أم البنين – زوج الإمام في بيته في المدينة مع زوجاته وأولاده وأحفاده، ولما بويع الإمام بالخلافة، وانتقل إلى الكوفة أبى أن ينزل القصر الأبيض المعروف بقصر الإمارة إيثاراً للخصاص التي يسكنها الفقراء، ولم يبن آجرةعلى آجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة(2). وكان أهل بيته معه تحكمهم فضائله وخصاله الإسلامية الرفيعة، فهم أولى الناس باتباعها وانتهاجها.

ومع كل هذا كانت العلاقات الودية بين الإمام أمير المؤمنين وبين زوجاته وأولاده وبناته على أطيب ما يمكن، وفي جو من الصفاء والوفاء، والعاطفة والمحبة(3).

ها هي أم البنين تشهد إحدى طرق أمير المؤمنين في تربية أولاده وتعليمهم، وهو الإمام الحسن(علیه السلام)...، عن أبي الجارود قال: سمعت أبا جعفر(علیه السلام) يقول: قال علي بن أبي طالب(علیه السلام) للحسن: قم اليوم خطيباً وقال لأمهات أولاده: قمن فاسمعن خطبة ابني، قال: فحمد الله تعالى وصلى على النبي(صلی الله علیه وآله)، ثم قال: ما شاء الله أن يقول ثم قال: إن أمير المؤمنين في باب ومنزل من دخله كان آمناً، ومن خرج منه كان كافراً، أقول قولي وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ونزل فقام علي فقبل رأسه وقال: بأبي أنت وأمي ثم قرأ: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَليِمٌ(4).

ص: 156


1- محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي، ص 41. نقلًا عن: عبقرية الإمام للعقاد وأسد الغابة لابن الأثير.
2- المصدر نفسه.
3- بغدادي: ص 73.
4- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 052. نقلًا عن: فرات الكوفي: ص 79، رقم 54 والآية من سورة آل عمران: 34.

وقد حضرت السيدة أم البنين هذه الواقعة ورأت ما يتحلى به ابنها الإمام الحسن(علیه السلام) من أدب جم، مجيباً أباه: يا ابتاه كيف أخطب وأنا أنظر إلى وجهك أستحي منك، قال الإمام الصادق(علیه السلام): فجمع علي بن أبي طالب أمهات أولاده ثم توارى عنه، حيث سمع كلامه، فقام الحسن(علیه السلام) فقال: الحمد لله الواحد بغير تشبيه الدائم بغير تكوين، القائم بغير كلفة، الخالق بغير منصبة، الموصوف بغير غاية، المعروف بغير محدودية... أما بعد فإن علياً باب من دخله كان مؤمناً ومن خرج منه كان كافراً، فقام علي بن أبي طالب(علیه السلام) وقبل بين عينيه ثم قال: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَليِمٌ .(1)

ولقد فرح علي وأهل بيته بخطبة الحسن، وفرحت معهم أم البنين، ولكنها شهدت الإمام الحسن(علیه السلام) في خطبة أخرى، فجثم الحزن على القلوب، والدموع جارية.. يوم رأت السبط(علیه السلام) ينعى أباه صبيحة الليلة التي قبض فيها...، روى أبو مخنف لوط بن يحيى قال...، وغيره قالوا خطب الحسن بن علي(علیهما السلام) فحمد الله وأثنىعليه وصلى على رسول الله(صلی الله علیه وآله) ثم قال: لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون بعمل لقد كان يجاهد مع رسول الله فيقيه بنفسه وكان رسول الله(صلی الله علیه وآله) يوجهه برايته فيكنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله ولا يرجع حتى يفتح الله يديه ولقد توفي(علیه السلام) في الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم وفيها قبض يوشع بن نون وصي موسى (علیه السلام) وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت عن عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله ثم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه(2).

لقد ترك الإمام علي بعده عدة زوجات، فبعضهن توفاهن الله عز وجل أبان

ص: 157


1- المصدر نفسه: ج 43/ ص 251. الإمام الحسن في تاريخ دمشق لابن عساكر )وقد روي هذا الحديث بطرق كثيرة(، الاختصاص للشيخ المفيد والصدوق في الأمالي.
2- المفيد، الإرشاد، ص 188.

حياته، وكان تحته يوم قتل أربع زوجات وهن: أمامة وليلى بنت مسعود التيمية، وأسماءبنت عميس وأم البنين وأمهات أولاده عشر إماء(1).

ولما كانت أم البنين ممن تركهن الإمام بعده، فلم يتزوجن بعده(2)، فكن بهذا الحال كحال زوجات النبي محمد(صلی الله علیه وآله) من أمهات المؤمنين، كما إن أم البنين(علیها السلام) كانت إحدى زوجات أمير المؤمنين(علیه السلام) الحافظات لنسله الكريم بحفظ الباري لذرية العباس(علیه السلام) بن الكلابية(3).

عادت السيدة أم البنين لتلازم الإمام الحسن(علیه السلام) في رحلة عودته إلى مدينة جده المصطفى(صلی الله علیه وآله)، وتكون طوع يمينه هي وأولادها الأربعة، ناذرة حياتها وولاءها لإمام عصرها، الإمام الحسن(علیه السلام).. وعلى هذا الولاء المبدئي الذي لا يتغير.. واصلت تربية أولادها في كنف الإمام الحسن(علیه السلام).

فقد لازم أبو الفضل العباس(علیه السلام) أخاه الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام) في السنوات السبع الثالثة من عمره[وهو السن التي أمرتنا روايات أهل البيت(علیهم السلام) بملازمة الوالد لولده أو الأخ الأكبر أخيه الأصغر، لأنها الفترة الأخطر في عمر الإنسان] وضمه إلى نفسه – واصطحبه معه. ليكون من جهة راعياً له. ومن جهة أخرى شريكاً له في أموره ، ووزيراً ومشاوراً له في قبضه وبسطه وحله وترحاله، حتى يترجم ما تعلمه من نظريات إلى واقع عملي(4).

ص: 158


1- الشبلنجي، نور الإبصار: ص 402. للمزيد ينظر: البداية والنهاية: 6 / 390، الطبقات الكبرى: 8 / 233 ؛ الإصابة: 7 / 209، وغيرها.
2- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج3/ ص 351.
3- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ص 246.
4- الکفیل: ص30.

ولعل من أروع الدروس التي تعلمها أبو الفضل العباس(علیه السلام) من أخيه السبط الحسن المجتبى(علیه السلام) هي كيفية التعامل مع طغاة العصر أمثال معاوية عليه لعائن الله. وكذلك تعلم كيف يتعامل القائد مع الفتن والشدائد التي تؤدي بالمجتمع، وترد الناس على أعقابهم مدبرين مخالفين لأوامر إمامهم المعصوم(علیه السلام) بعد أن مَنَّ الله تعالى عليهم بطاعته وإتباعه في الشدة والرخاء. فلقد كان العباس(علیه السلام) قائداً في جيش أخيه الإمام الحسن(علیه السلام) الذي جهزه لقتال معاوية وجيشه المارقين. وحاضراً معه عندما خط الإمام(علیه السلام) بنود الاتفاقية مع معاوية، والتي بها حقن دماء المسلمين(1).

وظلت السيدة أم البنين وأولادها الميامين وأولهم الإمام العباس(علیه السلام) طيلة حياة الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام) ملازمين له كظله، قائمين على خدمته ومواسيين لأهل بيته، بعد استشهاده مسموماً مظلوماً.

عشر سنين بقيت فيها السيدة أم البنين ملازمة للإمام الحسن(علیه السلام)، حافظة لكل ما يمت بصلة لزوجها وإمامها المرتضى(علیه السلام) ولإمامها الحسن المجتبى(علیه السلام)، فلم تذكر المصادر أنها قد حدثت بحديث واحد نقلاً عن النبي وآل البيت والإمام علي، وأغلب الظن أنها كانت من النساء المؤمنات المخدرات النادرات الوجود في امتثالهن لدورهن المرسوم في حفظ العيال وتنشئتهم على أسس إسلامية إيمانية حقيقية، لذا لم نجدها قد أخذت تحدّث وتحدّث عن أدق تفاصيل حياتها مع الإمام، على سبيل المثال!! بل أنها حفظت ذكراه وكانت خير أم ومعين للإمام الحسن(علیه السلام) في محنته، ومناصرة لأسرته الشريفة المطهرة، عند مرضه وبعد استشهاده(علیه السلام).

فنكاد نجزم أنها شاركت السيدة زينب(علیها السلام) في رعايتها لأخيها الحسن،

ص: 159


1- الکفیل: ص30.

وحزنها على فراقه، وخروجها إلى وداعه مع نساء بني هاشم، وإعلانهن الحداد على رحيله عاماً كاملاً.. كيف لا، ولقد أخبرها ابنها العباس(علیه السلام) كيف رمت جنازة المجتبى بالسهام!؟ وله يومها من العمر أربع وعشرون سنة.

وقد ذكر أنه لما رأى جنازة سيد شباب أهل الجنة(علیه السلام) ترمى بالسهام، عظم عليه الأمر، ولم يطق صبراً دون أن جرد سيفه واراد البطش بأصحاب (البغلة)... لولا كراهية السبط الشهيد(علیه السلام) الحرب عملاً بوصية أخيه:«بالله اقسم عليك ان تهريق في أمري محجمة دم»، فصبر أبو الفضل(علیه السلام) على أحر من جمر الغضا، ينتظر الفرصة ويترقب الوعد الآلهي، فأجهد النفس وبذل النفيس في مشهد (النواويس) بكربلاء ... وحاز كلتا الحسنين(1).

وكذلك والدته أم البنين(علیها السلام) إن كانت لم تستطع مواساة الإمام الحن(علیه السلام)

وبذلها نفسها فداءً لريحانة الرسول(صلی الله علیه وآله)، فلقد جددت عهد ولائها مع أخيه الحسين(علیه السلام).

إن كرامة هذه المرأة العظيمة، من كرامة اقترانها بسيد الأوصياء وحسن تبعلها له، ومن محبتها وولائها للإمام الحسن(علیه السلام) وحسن صنيعها معه صبياً وكهلاً، يضاف إلى ذلك موقفها المشهود الذي لا يغفل ولا يندثر، وسيبقى ماثلاً أمد الدهر في أذهان المؤمنين، إن أم البنين فاطمة بنت حزام الكلابية(2)، بإيثارها وتفانيها في سبيل المبدأ ،حين جعلت من أولادها فلذات كبدها أضاحي تقدم واحداً تلو الآخر فداء لأخ الحسن الإمام الحسن(علیهما السلام)، فضربت المثل الأعلى لكل امرأة مسلمة مؤمنة.

لقد كانت أم البنين وأولادها عنوان الامتثال والاتباع والطاعة للإمام الحسن(علیه السلام) في حياته

ص: 160


1- الکفیل: ص30.
2- عبدالحسين الأميني، الغدير5، دار الكتاب العربي، بيروت ،1379ه-، ص 209.

وبعد مماته(1)،

وإن كان الإمام الحسن(علیه السلام) قد افتخر بأن أمه فاطمة وإليها ينتسب(2)،

فإن فاطمة أخرى في حياته كانت موضع فخره واعتزازه، إنها فاطمة أم البنين.

وقد حظيت السيدة أم البنين باحترام واعتزاز كبير من وجوه بني هاشم قاطبة، وكان في مقدمة هؤلاء الإمام زين العابدين(علیه السلام) فقد جاء في العديد من الروايات بأنه(علیه السلام) كان يقف إجلالاً وإكراماً لها عندما كانت تدخل إلى بيته المبارك، وظلت موضع احترام الإمام(علیه السلام) وبقية آل أبي طالب إلى أن توفت في 13 جمادي الثانية عام 63ه- (3).

وكيف لا تصبح كذلك، وقد كانت أم البنين بعد وقعة الطف تخرج إلى البقيع وتندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها فيجتمع إليها الناس ويسمعون منها ويبكون رقة لها حتى كان مروان بن الحكم عدو آل أبي طالب، يجيء فيمن يجيء ويسمع ويبكي لبكائها وهي ترثي بنيها وتقول(4):لا ت-دع-وني وي--ك أم البنين ت--ذك--ري--ن--ي ب--ل--ي--وث العرين

ك-ان-ت ب-ن-ون لي أدع-----ى بهم واليوم أصبحت ولا من بنين

أرب----ع----ة م-ث--ل ن----ور ال-رب-ى قد واصلوا الموت بقطع الوتين

ت-ن-ازع الخ---رص---ان أش-لاءه-م فكلهم أمسى صري--ع--اً طعين

ي--ا ليت ش--ع--ري أك---ما أخ---بروا ب----أن ع-ب-اس-اً قطيع اليمين

ص: 161


1- محمد مهدي الحائري، معالي السبطين، ص 407.
2- حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن، منشورات المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر ،ط2، 1386ه-، بيروت-لبنان، ص 115.
3- زميزم، ص 12 – 22.
4- محمد مهدي الحائري، معالي السبطين، ص 397.

وإذا كان الإمام الحسن(علیه السلام) لم يكتب له القدر أن يواري أمه أم البنين الثرى، فإن قوافل بني هاشم قد توجهت إلى دارها حال انتشار خبر وفاتها(علیها السلام) للمشاركة في تشييعها وكان الإمام زين العابدين(علیه السلام) من أوائل الذين ذهبوا إلى دارها وكانت آثار الحزن والألم بادية على وجهه المبارك.

وبعد حضور معظم وجوه بني هاشم والمئات من الصحابة الأجلاء جرى تشييعها في موكب مهيب، جرى بعدها دفنها في مقبرة البقيع بعد أن صلى على جنازتها الإمام زين العابدين(علیه السلام)(1) .

لقد أصاب أبو الحسن(علیه السلام) يوم تخير بين النساء فاختار أم البنين فاطمة(علیها السلام)، فكانت أماً أخرى وفاطمة أخرى في حياة الإمام الحسن(علیه السلام).. التي ما فارقته في حياته .. وجاورته في مثواه الأخير.

ص: 162


1- زمیزم: ص22.

اسماء بنت عمیس...أم أخرى

أسماء بنت عميس... اسم طيب ذو أثر، يوافق ذكر اسم الزهراء)علیها السلام) أينما ذكر ،... في رحلة إيمان.. وهجرة.

أسماء كانت هناك عند الزهراء في ليلة زفافها، ما فارقتها تحقيقاً لوصية الأم خديجة الكبرى..

وأسماء كانت هناك عند الزهراء)علیها السلام) في ولادتها للإمام الحسن)علیه السلام) ثم لأخيه الحسين)علیه السلام) فكانت القابلة والمهنئة والمناولة للرسول الأعظم(صلی الله علیه وآله) وليده البكر.

وأسماء أعانت الزهراء)علیها السلام) في البيت، وحدثت خير حديث عن البضعة الطاهرة وأبيها المصطفى(صلی الله علیه وآله).. سيد البشر.وأسماء غسلت الجسد الموجوع وسترته بجريدة نخل في نعش حديث الابتكار، فحظيت بدعاء الستر من فم أم الحسن)علیه السلام).

وأسماء صرخت وناحت ليتم الحسن، وفي قول شقت الجيب فرقاً على فراق أم الحسن)علیه السلام).

وأسماء كانت حليلة لسيد الأوصياء، فغدت أماً أخرى ليتامى الزهراء وأولهم المجتبى الحسن.

فطوبى لأسماء هذه السيرة الذهبية، وهي(النجيبة) من أهل الجنة، تتقدم أخواتها

ص: 163

المؤمنات إليها في قول الإمام الصادق)علیه السلام).

إنها أسماء بنت عميس بن معد وقيل هي بنت عميس بن النعمان وهي من قبيلة الخثعم(1)

.

وقيل هي أم عبدالله أسماء بنت عميس بن معبد بن الحارث الخثعمية، صحابية من أجل الصحابيات، أسلمت قبل دخول رسول الله(صلی الله علیه وآله) دار الأرقم، وهاجر بها زوجها جعفر الطيار إلى الحبشة، فولدت له هناك: عبدالله (وهو زوج السيدة زينب الكبرى)علیها السلام))ومحمداً وعوناً.

وبعد ذلك هاجرت مع زوجها إلى المدينة سنة 7ه-، فاستشهد جعفر في يوم مؤتة سنة 8 ه-، فتزوجها أبو بكر، فولدت له محمداً، وبعد وفاة أبي بكر تزوج منها علي)علیه السلام) فولدت له: يحيى وعوناً. وحدث عنها: ابنها عبدالله بن جعفر وابنها محمد بن أبي بكر وحفيدها القاسم بن محمد وابن أختها سلمى عبدالله بن شداد وسعيد بن المسيب وعروة والشعبي وآخرون(2).

وبعض المصادر تذكر أنها ولدت لجعفر بن أبي طالب ثمانية من الولد منهم عبدالله ومحمد وعون، وكذلك جاء في عمدة الطالب(ط نجف ص 20) قال: أولاد جعفر ثمانية بنين، ويذكر المفيد أن أولادها من الإمام علي(علیه السلام) هو يحيى فقط، أي إن عون هو ابنها من جعفر(3).

وأمها هند بنت عوف بن زهير كانت أكرم الناس أصهاراً وأبناءً، وأخواتها سلمى

ص: 164


1- محمد حسين الأعلمي الحائري، تراجم: ج1/ ص 222.
2- الطبقات الكبرى ابن سعد: 8/ 082 – 285، الاستيعاب 4: 743 – 348، سير أعلام النبلاء: 2/ 282 – 287، تهذيب التهذيب: 21/ 724 – 428.
3- المفيد، الإرشاد: ص 186. في باب ذكر أولاد أمير المؤمنين(علیه السلام) وعددهم وأسمائهم ومختصر عن أخبارهم.

زوج حمزة سيد الشهداء، وسلامة زوج عبدالله بن كعب، ولبابة وعصماء وهزيلة(1)

.ولقد كانت أسماء بنت عميس من المؤمنات السابقات في الإيمان والهجرة، قال لها يوماً عمر بن الخطاب: «نعم القوم أنتم لولا أن سبقناكم إلى الهجرة»، فذكرت ذلك إلى النبي(صلی الله علیه وآله) فقال لها: «بل لكم هجرتان: إلى أرض الحبشة وإلى المدينة»(2).

وأم عبدالله أسماء نجيبة أنجبت النجباء، بتعريف الإمام الصادق(علیه السلام) لها ب-« النجيبة» وترحمه عليها بقوله: «رحم الله الأخوات من أهل الجنة» وعد أسماء في مقدمتهن. وهي أخيراً زوجة الإمام علي بن أبي طالب(علیه السلام) وولدت قبله من أبي بكر محمداً تلميذ علي وربيبه(3).

وترحمَّ الإمام الصادق(علیه السلام)، ليس بالقول الحسن الأول بحق هذه المؤمنة، فالسير تذكر كثرة دعاء النبي(صلی الله علیه وآله) لها في دنياها وآخرتها ولطالما قال لها: جزاك الله خيراً.. ولقد ودَّعت السيدة فاطمة الزهراء(علیها السلام) الدنيا وهي تدعو لها بالستر.

ومن هذه الأحاديث يتضح أن السيدة أسماء بنت عميس كانت شديدة القرب من بيت الزهراء(علیها السلام)، فكان أن حضرت زفافها إلى الإمام علي(علیه السلام) وباتت عندها أسماء أسبوعاً بوصية خديجة إليها فدعا لها النبي(صلی الله علیه وآله) في دنياها وآخرتها(4).

وأسماء من فتحت الباب للرسول الكريم(صلی الله علیه وآله)، حين أتاهما في صبيحتهما وقال: السلام عليكم أدخل رحمكم الله؟ ففتحت أسماء الباب وكانا نائمين تحت كساء(5).

ص: 165


1- الأعلمي الحائري، تراجم: ج1/ ص 223.
2- محمد بحر العلوم، ص 117. نقلًا عن ابن الأثير، اسد الغابة: 5/ 396.
3- المصدر نفسه: ص 118. نقلًا عن الصدوق، الخصال: 363 .
4- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 89.
5- المصدر نفسه.

وروى الأربيلي عن الحافظ محمد بن محمود النجار عن رجال ذكرهم قال: سمعت أسماء بنت عميس تقول: سمعت سيدتي فاطمة(علیها السلام) تقول: «ليلة دخل بي علي بن أبي طالب(علیه السلام) أفزعني في فراشي»، فقلت: أفزعت يا سيدة النساء؟ قالت: «سمعت الأرض تحدثه ويحدثها فأصبحت وأنا فزعة فأخبرت والدي فسجد سجدة طويلة ثم رفع رأسه وقال: يا فاطمة أبشري بطيب النسل فإن الله فضّل بعلك على سائر خلقه، وأمر الأرض أن تحدثه بأخبارها وما يجري على وجهها من شرق الأرض إلى غربها»(1).وفي حديث آخر... إن أسماء بنت عميس بعد أن زفت الزهراء(علیها السلام) للإمام علي(علیه السلام) ودعا النبي الكريم(صلی الله علیه وآله) لهما وخرج، باتت عندها أسبوعاً بوصية خديجة إليها(ثم) أتاهما في صبيحتهما فقال: السلام عليهم أأدخل رحمكم الله ففتحت أسماء الباب وقال لعلي(علیه السلام) كيف وجدت أهلك:قال: نعْمَ العون على طاعة الله، ثم قال لفاطمة خير بعل فدعا لهما ثم أمر بخروج أسماء وقال: جزاك الله خيراً.(2)

ولقد أكد المجلسي هذا الحديث بأن أسماء بنت عميس باتت عند السيدة الزهراء(علیها السلام) أسبوعاً بوصية خديجة إليها فدعا لها النبي(صلی الله علیه وآله) في دنياها وآخرتها، وأرسل الحديث في محبته في صبيحتهما والدعاء لهما ثم أمره بخروج أسماء وقال: جزاك الله خيراً(3).

ولكن المجلسي يعود ليذكر تبيان لهذه الروايات عن أسماء بنت عميس بالقول: روى مثل تلك الرواية من كتاب كفاية الطالب تأليف محمد بن يوسف الكنجي

ص: 166


1- الطبسي، ص 119. نقلًا عن: بحار الأنوار: ج43/ ص 118؛ كشف الغمة: ج1، ص 289، بحار الأنوار: ج18/ ص 89.
2- الأعلمي الحائري، تراجم / ج2، ص 313.
3- المجلسي بحار الأنوار: ج18/ ص 89.

الشافعي بإسناده عن ابن عباس باختصار...: وذِكَرُ أسماء بنت عميس في هذا الحدث غير صحيح، لأن أسماء هذه امرأة جعفر بن أبي طالب تزوجها بعده أبو بكر فولدت له محمداً، فلما مات أبو بكر تزوجها علي بن أبي طالب(علیه السلام) وإن أسماء التي حضرت في عرس فاطمة(علیها السلام) إنما هي أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصاري وأسماء بنت عميس كانت مع زوجها جعفر بالحبشة، وقدم بها يوم فتح خيبر سنة سبع للهجرة، وكان زواج فاطمة(علیها السلام) بعد وقعة بدر بأيام يسيرة فصح بهذا أن أسماء المذكورة في هذا الحديث إنما هي بنت يزيد ولها أحاديث عن النبي(صلی الله علیه وآله) .(1)

يقول القزويني: إن مشكلة حضور أسماء بنت عميس.. أم غيرها، له جواب معقول: أن أسماء بنت عمس الخثعمية هي التي حضرت زواج سيدتنا الزهراء(علیها السلام)، وأنها هاجرت مع زوجها جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة، ولكنها رجعت إلى مكة وهاجرت إلى المدينة، ولعلها كررت سفرها إلى الحبشة لأن المسافة من جدة إلى الحبشة هي مسافة عرض البحر الأحمر، وليس قطع هذه المسافة بالصعب المستصعب ذهاباً وإياباً، وإن كان التاريخ لم يذكر ذلك لأسماء، فإن التاريخ أيضاً لن يذكر عودتها إلى بلاد الحبشة... روى ذلك الشيخ المجلسي عن كتاب: (علل الشرائع)للصدوق. وقد ظفرت برواية رواها المجلسي في العاشر من البحار في باب تزويج السيدة فاطمة (علیها السلام) عن كتاب (مولد فاطمة) عن ابن بابويه: أمر النبي بنات عبدالمطلب... إلى أن يقول: والنبي(صلی الله علیه وآله) وحمزة وعقيل و(جعفر) وأهل البيت يمشون خلفها.... فالتصريح بوجود جعفر يحل هذه المشكلة(2).

وما يؤكد أن التي حضرت عرس الزهراء(علیها السلام) هو تصريح هذه الأحاديث باسم

ص: 167


1- المصدر نفسه، ص100.
2- القزويني فاطمة من المهد إلى اللحد، ص 150.

أسماء واسم أبيها ولقبها وهو: (أسماء بنت عميس الخثعمية)، وقد روى جملة من الرواة الثقات حضور أسماء بنت عميس الخثعمية في زواج فاطمة(علیها السلام)، منهم صاحب كشف الغمة والحضرمي في(رشفة الصادي ص10) وأحمد بن حنبل في (المناقب) والهيثمي في (مجمع الزوائد) والنسائي في)الخصائص ص 31(

ومحي الدين الطبري في (ذخائر العقبى) عن ابن عباس، وعن الخوارزمي عن الحسين بن علي وعن السيد جلال الدين عبدالحميد بن فخار الموسوي، وعن الدولابي وعن الإمام الباقر عن آبائه(علیهم السلام)(1) .

وإن كان هناك التباس في حضور أسماء لزفاف البضعة الطاهرة(علیها السلام) فإن جميع الروايات تؤكد حضورها وأشرافها على ولادة الإمام الحسن(علیه السلام) بأمر من النبي(صلی الله علیه وآله) وقول الإمام علي(علیه السلام).

أنار مَقْدَمُ الإمام المجتبى(علیه السلام) بيت الإمامة والوصاية وأسماء بنت عميس كانت هناك تترقب إطلالته مع أم سلمة و في رواية أخرى أم أيمن(2)، فقد روي مرفوعاً إلى علي(علیه السلام) قال: لما حضرت ولادة فاطمة(علیها السلام) قال رسول الله(صلی الله علیه وآله لأسماء بنت عميس وأم سلمة: أحضراها فإذا وقع ولدها واستهل فأذنا في أذنه اليمنى وأقيما في أذنه اليسرى فإنه لا يفعل ذلك بمثله إلا عصم من الشيطان ولا تحدثا شيئاً حتى آتيكما. فلما ولدت فعلتا ذلك فأتاه النبي فسره ولبأه بريقه وقال: اللهم إني أعيذه بك وولده من الشيطان الرجيم(3).

ص: 168


1- القزويني فاطمة من المهد إلى اللحد، ص 116.
2- باقر القريشي، الإمام الحسن: ج1/ هامش ص 54. وأما كيفية ولادة الصديقة بالإمام(علیه السلام) فقد جاء في تاريخ الخميس: 1/ 47: «أنه لما حان وقت ولادتها بعث إليها رسول الله(صلی الله علیه .وآله) أسماء بنت عميس وأم أيمن، فقرأتا عليها آية الكرسي والمعوذتين.»
3- المجلسي بحار الأنوار: ج18/ ص 184.

وجاء بالأسانيد الثلاثة عن الرضا، عن آبائه، عن علي بن الحسين(علیه السلام) عن أسماء بنت عميس أنها قالت: قبلت(1)جدتك فاطمة(علیها السلام) بالحسن والحسين(علیهما السلام) فلما ولد الحسن(علیه السلام) جاءالنبي(صلی الله علیه وآله) فقال: يا أسماء هاتي ابني فدفعته إليه في خرقة صفراء، فرمى بها النبي(صلی الله علیه وآله) وقال: يا أسماء ألم أعهد إليكم أن لا تلفوا المولود في خرقة صفراء، فلففته في خرقة بيضاء ودفعته إليه، فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى ثم قال لعلي(علیه السلام) بأي شيء سميت ابني؟ قال: ما كنت أسبقك باسمه يا رسول الله،.... فقال النبي(صلی الله علیه وآله): ولا أسبق أنا باسمه ربي.

ثم هبط جبرئيل(علیه السلام) فقال: يا محمد العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول: علي منك بمنزلة هارون من موسى ولا نبي بعدك سم ابنك هذا باسم ابن هارون قال النبي(صلی الله علیه وآله): وما اسم ابن هارون؟ قال: شبّر، قال النبي(صلی الله علیه وآله) لساني عربي قال جبرئيل(علیه السلام): سمه الحسن.

قالت أسماء: فسماه الحسن فلما كان يوم سابعه عقّ النبي(صلی الله علیه وآله) عنه بكبشين أملحين وأعطى القابلة فخذاً وديناراً وحلق رأسه، وتصدق بوزن الشعر ورقاً وطلى رأسه بالخلوق ثم قال: يا أسماء الدم فعل الجاهلية(2).

لقد نهى النبي المصطفى(صلی الله علیه وآله) أسماء بنت عميس أن لا تفعل أشياء عند ولادة الإمام الحسن(علیه السلام) يبدو أنها كانت عادات أو تقاليد اجتماعية جاهلية ومنها لفه بخرقة صفراء،

ص: 169


1- قبلت القابلة المرأة تقبلها قبالة إذا قبلت الولد أن تلقته عند الولادة، الصحاح: ج3/ ص1796.
2- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 271. نقلًا عن علل الشرائع ص 137 باب 611، حديث 5، أمالي الصدوق ص 197 مجلس 28، حديث 3. وينظر: صحيح الترمذي: 1 / 682، تاريخ الخلفاء: 72

حيث استبدلها النبي(صلی الله علیه وآله) بالخرقة البيضاء، وكذلك طلي رأس المولود المبارك بالخلوق وهو طيب مركب من زعفران وغيره، والعادة في الجاهلية أن يطلى رأس الصبي بالدم فقال: الدم من فعل الجاهلية ونهى أسماء عن فعل ذلك(1).

ولقد أسس(صلی الله علیه وآله) لمراسيم الولادة وسننها الإسلامية وجعل منها الإمام الحسن(علیه السلام) الانموذج الأول لتطبيقها، من تسمية بالاسم الحسن المبارك البهي، والأذان والإقامة والعق والحلق والتصدق والطلي والختان... وما إلى ذلك.وجاء عن الإمام الصادق(علیه السلام): أن رسول الله عق عن الحسن(علیه السلام) بكبش وقال: اللهم عظمها بعظمه ودمها بدمه ولحمها بلحمه وشعرها بشعره، اللهم اجعلها وقاء لمحمد وآل محمد(2).

وتأتي هذه الرواية مسندة إلى أسماء بنت عميس مع تفصيل أكثر(3).

كما إن كثرة ما أسند إلى أسماء بنت عميس من روايات حدثت فيها عن النبي(صلی الله علیه وآله) وبضعته الطاهرة، يعني أمراً مؤكداً أنها كانت ملازمة لبيت الإمام علي(علیه السلام) ومرحباً بها فيه وكانت يدَ عونٍ ومواساةٍ للزهراء وأبنائها..، فقد أخبرها النبي(صلی الله علیه وآله) بخبر الحسين(علیه السلام) ومقتله عند ولادته ولكنه حذرها من نقل كلامه إلى فاطمة قائلاً: يا أسماء لا تخبري فاطمة بهذا فإنها قريبة عهد بولادته(4).

ولقد عد المؤرخون أسماء بنت عميس أحد الرواة والمحدثين عن الزهراء(علیها السلام)، لقربها منها طوال حياتها المباركة واطلاعها على شؤونها وأفعالها وأقوالها(5).

ص: 170


1- باقر القريشي، ص 59.
2- الزبيدي، ص 12. نقلًا عن سيرة الأئمة الاثني عشر، هاشم معروف الحسيني/ ص 462.
3- الحائري، معالي السبطين، ص 10. نقلًا عن المجلسي، البحار: ج43/ ص 238.
4- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 172.
5- الطبسي: ص 105.

فعن نهارات فاطمة(علیها السلام) تحدثنا أسماء... بالأسانيد الثلاثة عن الرضا، عن آبائه، عن علي بن الحسين(علیهما السلام) أنه قال: حدثتني أسماء بنت عميس قالت: كنت عند فاطمة(علیها السلام) إذ دخل عليها رسول الله(صلی الله علیه وآله) وفي عنقها قلادة من ذهب كان اشتراها لها علي بن أبي طالب(علیه السلام) من فيء، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه وآله): يا فاطمة لا يقول الناس إن فاطمة بنت محمد تلبس لباس الجبابرة، فقطعتها وباعتها واشترت بها رقبة فأعتقتها، فسر بذلك رسول الله(صلی الله علیه وآله).

وقد تغيب أسماء بنت عميس عن سيدة النساء(علیها السلام) لشأن من شؤونها فإذا ما حضرت عندها حدثتها وأخبرتها ما كان من زيارة رسول الله(صلی الله علیه وآله) لها وحديثه معها، فعن أسماء بنت عميس، عن فاطمة بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله) قالت: إن رسول الله(صلی الله علیه وآله) أتاها يوماً فقال: أين ابناي – يعني حسناً وحسيناً؟ قالت: قلت: أصبحنا وليس في بيتنا شيء يذوقه ذائق، وإنا لنحمد الله تعالى، فقال علي: اذهب بهما فإني أتخوف أن يبكيا عليك وليس عندك شيء(1)...هذا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن أسماء بنت عميس كانت امرأة ذات عيال كثر وتتحمل مسؤولية بيتها وأولادها...، ولكنها ما تركت الزهراء(علیها السلام) طوال فترة مرضها الأخير ولا عند وفاتها.

لقد عاشت أسماء بنت عميس الأيام الأخيرة من عمر الزهراء(علیها السلام) لحظة بلحظة، فهنيئاً لها هذه الرفقة، وطوبى لها هذه الخطوة من لدن سيدة نساء العالمين وهي تطلعها على مكان حنوك رسول الله(صلی الله علیه وآله)، وتشتكي لها أدق هواجسها من أن يُرى جسدها النحيل المسجى بعد الموت فتصنع لها أول نعش في الإسلام..، وأسماء غسلت جسد الطاهرة مع

ص: 171


1- الطبسي: ص 141. نقلًا عن ذخائر العقبى، ص 49، أعلام الهداية، فاطمة الزهراء(علیه السلام)، ص 198.

أمير المؤمنين وهي تسكب الدمع مدراراً على المظلومة المهضومة حقها.. وأسماء أخذت بجسدي الإمامين الحسن والحسين وهما يرتميان على جسد أمهما نحيباً وتوجعاً لفراقها،

روى ابن بابويه مرفوعاً إلى الحسن بن علي(علیه السلام) أن علياً غسل فاطمة(علیها السلام)، وروي أن الزهراء(علیها السلام) أوصت علياً(علیه السلام) وأسماء بنت عميس أن يغسلاها(1).

وعن أسماء بنت عميس قالت: أوصتني فاطمة(علیه السلام) أن لا يغسلها إذا ماتت إلا أنا وعلي فغسلتها أنا وعلی(علیه السلام)(2).

وفي روايةأخرى..، وقالت أسماء بنت عميس: أوصت إلي فاطمة أن لا يغسلها إذا ماتت إلا أنا وعلي فأعنت علياً على غسلها .

وروى الشيخ الطوسي(رحمه الله) في الأم--الي بإسناده عن علي بن الحسين عن أبيه الحسين(علیهما السلام) قال: لما مرضت فاطمة بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله) وصت إلى علي بن أبي طالب أن يكتم أمرها ويخفي خبرها ولا يؤذن أحداً بمرضها، ففعل ذلك وكان يمرضها بنفسه ويعينه على ذلك أسماء على استسرار بذلك، كما وصت به فلما حضرتها الوفاة وصت أمي المؤمنين(علیه السلام) أن يتولى أمرها ويدفنها ليلاً ويعفي قبرها(3).وقال محمد بن همام في وفاتها:... فغسلها أمير المؤمنين(علیه السلام) ولم يحضرها غيره والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وفضة جاريتها وأسماء بنت عميس، وأخرجها إلى البقيع في الليل، ومعه الحسن والحسين وصلى عليها، ولم يعلم بها، ولا حضر وفاتها، ولا صلى عليها أحد من سائر الناس غيرهم، ودفنها بالروضة وعمى موضع قبرها(4).

ص: 172


1- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 136.
2- المصدر نفسه، ص 134.
3- البهبهاني، ص 337.
4- المجلسي بحار الأنوار: ج18/ ص 125.

ومن البيّن أن أسماء قد التزمت بسرية الأمر، وعدم اطلاع أحد على لحظات الزهراء(علیها السلام) الأخيرة غيرها مع أمير المؤمنين تنفيذاً لوصية بضعة الرسول(صلی الله علیه وآله)، فها هي تناقش مع حبيبة المصطفى(صلی الله علیه وآله) أمر النعش قبل أن يكون، ويتفاجأ برؤيته من يراه!! عن سلمة بن الخطاب، عن...، عن أبي عبدالله(علیه السلام) قال: سألته عن أول من جعل له النعش، فقال: فاطمة بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله) .(1)

وعن ابي عبدالرحمن الحذاء، عن أبي عبدالله(علیه السلام) قال: أول نعش أحدث في الإسلام نعش فاطمة إنها اشتكت شكوتها التي قبضت فيها وقالت لأسماء: إني نحلت وذهب لحمي ألا تجعلين شيئاً يسترني؟ قالت أسماء: إني إذ كنت بأرض الحبشة رأيتهم يصنعون شيئاً أفلا أصنع لك فإن أعجبك صنعت لك، قالت(علیها السلام): نعم، فدعت بسرير، فأكبته لوجهه، ثم دعت بجرائد – نخل – فشددته على قوائمه، ثم جللته ثوباً فقالت أسماء: هكذا رأيتهم يصنعون فقالت: اصنعي لي مثله استريني سترك الله من النار(2).

وروي كذلك عن أسماء بنت عميس أن فاطمة الزهراء(علیها السلام) قالت لأسماء: إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء، إنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها لمن رأى، فقالت أسماء: يا بنت رسول الله أنا أريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجريدة رطبة فحسنتها، ثم طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة (علیها السلام) «ما أحسن هذا وأجمله، لا تعرف به المرأة من الرجل»(3).

وهناك قول آخر..، إن النعش قد اتخذته السيدة(علیها السلام) لأنها رأت الملائكة

ص: 173


1- المصدر نفسه، ص 152. نقلًا عن تهذيب الأحكام: ج21/ ص 469، حديث 1539.
2- أعلام الهداية: ج3/ ص 185.
3- أعلام الهداية ،نقلًا عن كشف الغمة: 1 / 503 ، وبحار الأنوار: 43 / 213، وتهذيب الأحكام: 1 / 469.

صوروا صورته ووصفته للإمام علی(علیه السلام)(1)وقيل: إن من جملة وصاياها أوصت للإمام(علیه السلام) فقالت: أوصيك يا بن عم أن تتخذ لي نعشاً، فقد رأيت الملائكة صوروا صورته، فقال لها: صفيه لي فوصفته فاتخذه لها، فأول نعش عمل على وجه الأرض ذاك، وما رأى أحد قبله ولا عمل أحد(2)

.

ومن هنا نعلم، أن أسماء بنت عميس قد صنعت للزهراء(علیها السلام) نعشاً وجهزته لها قبل أن تغمض عينيها للمرة الأخيرة..، وهذا يعني أن النعش كان في البيت رآه الإمام الحسن(علیه السلام) وربما استغرب منظره واستعلم أمره، فبأي جواب أجابت أسماء الإمام الحسن(علیه السلام) عن النعش الذي سيحمل أمه بعيداً عنه؟!

عن ابن عباس قال: مرضت فاطمة مرضاً شديداً فقالت لأسماء بنت عميس: ألا ترين إلى ما بلغت فلا تحمليني على سرير ظاهر فقالت: لا لعمري، ولكن اصنع نعشاً كما رأيت يصنع بالحبشة. قالت: فأرينيه فأرسلت إلى جرائد رطبة فقطعت من الأسواق ثم جعلت على السرير نعشاً وهو أول ما كان النعش فتبسمت وما رؤيت مبتسمة إلا يومئذ ثم حملناها فدفناها ليلاً وصلى عليها العباس بن عبدالمطلب ونزل في حفرتها هو وعلي والفضل بن عباس.

وفي رواية مشابهة عن أسماء أيضاً تذكر فيها التفاصيل السابقة وتضيف ما يؤكد أن النعش كان في البيت قد صنع وشاهده آخرون... قال ابن عباس: عن أسماء بنت عميس... قال: قالت فاطمة: فإذا مت فاغسليني أنت ولايدخلن علي أحد فلما توفيت فاطمة(علیها السلام) جاءت عائشة تدخل عليها فقالت أسماء: لا تدخلي فكلمت عائشة أبا بكر فقالت: إن هذه الخثعمية تحول بيننا وبين ابنة رسول الله(صلی الله علیه وآله) وقد جعلت لها مثل

ص: 174


1- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 132.
2- البهبهاني ص 334.

هودج العروس(1)،

فقالت أسماء لأبي بكر: أمرتني أن لا يدخل عليها أحد وأريتها هذا الذي صنعت وهي حية فأمرتني أن أصنع لها ذلك، فقال أبو بكر: اصنعي ما أمرتك فانصرف، وغسلها علي(علیه السلام) وأسماء(2).

وهذه الروايات تؤيد صنع أسماء بنت عميس للنعش وتبين استغراب من شاهده من رؤيته للمرة الأولى، فوصفوه بهودج العروس!وحتى لحظات عمر الزهراء(علیها السلام) الأخيرة، ما فارقتها أسماء، فبعد أن فارق علي والحسن والحسين(علیهم السلام) الدار، انتقلت سيدة النساء(علیها السلام) إلى فراشها المفروش وسط البيت واضطجعت مستقبلة القبلة... ثم أسرت أسماء قائلة: «إن جبرئيل أتى النبي(صلی الله علیه وآله) لما حضرته الوفاة بكافور من الجنة فقسمه أثلاثاً ثلثاً لنفسه، وثلثاً لعلي ،وثلثاً لي، وكان أربعين درهماً فقالت: يا أسماء ائتيني ببقية حنوط والدي من موضع كذا وكذا فضعيه عند رأسي فوضعته، ثم تسجت بثوبها وقالت: انتظريني هنيهة وادعيني فإن أجبتك وإلا فاعلمي أني قد قدمت على أبي(صلی الله علیه وآله)»(3).

وحين حانت ساعة الاحتضار وانكشف الغطاء نظرت السيدة فاطمة(علیها السلام) نظرة حادة ثم قالت: «السلام على جبرئيل، السلام على رسول الله، اللهم مع رسولك، اللهم في رضوانك وجوارك ودارك دار السلام. ثم قالت: هذه مواكب أهل السموات وهذا جبرئيل وهذا رسول الله يقول: يا بنية أقدمي فما أمامك خير لك»(4).

ص: 175


1- في المصدر إضافة: « فجاء أبو بكر فوقف على الباب فقال: يا أسماء ما حالك على أن منعت أزواج النبي(صلی الله علیه وآله) وجعلت لها مثل هودج العروس؟.»
2- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 137.
3- المصدر نفسه، ص 135.
4- أعلام الهداية ، فاطمة الزهراء (علیها السلام): ص 186.

وكأن أسماء قد علمت بمقدم الزهراء(علیها السلام) على أبيها المصطفى فأخذت تنادي: يابنت محمد المصطفى! يا بنت أكرم من حملته النسا! يا بنت خير من وطئ الحصا! يا بنت من كان من ربه قاب قوسين أو أدنى! فلما لم تجبها، فكشفت الثوب عن وجهها فإذا بها قد فارقت الدنيا فوضعت أسماء عليها تقبلها وهي تقول: فاطمة! إذا قدمت على أبيك رسول الله فاقرئيه عن أسماء بنت عميس السلام(1)

.

وإذا كانت البضعة الطاهرة(علیها السلام) قد أبعدت أهل بيتها الكرام عن حضور هذه اللحظات الأليمة، فإن الإمام الحسن(علیه السلام) وأخيه الحسين(علیه السلام) سرعان ما عادا إلى البيت ليواجهوا أسماء بسؤال لم يكن هناك أصعب من الإجابة عليه.

فالوقت وقت صلاة، وفاطمة بنت محمد(صلی الله علیه وآله) لا تتهاون عن أدائها وإن كانت طريحة الفراش لذا كان استغراب الإمامين من نوم أمهما إلى هذه الساعة فقالا، يا أسماء ما ينيم أمنا في هذه الساعة؟ولم تستطع أسماء مدارات تفجعها وألمها ودمعها فقالت: يا ابني رسول الله ليست أمكما نائمة، قد فارقت الدنيا فوقع عليها الحسن يقبلها ويقول: يا أماه كلميني قبل أن تفارق روحي بدني(2).

وحتى في هذه اللحظات تصرفت السيدة أسماء كأم محبة ولهة على أولاد الزهراء، فأرادت عن تبعدهم ولو للحظات عن جسد المأساة وتلهيهم بأمر آخر.. فقالت للإمام الحسن(علیه السلام) وأخيه: يا ابني رسول الله انطلقا إلى أبيكما علي فأخبراه بموت أمكما(3).

ص: 176


1- المجلسي بحار الانوار: ج18/ص135.
2- المصدر نفسه.
3- المجلسی، بحار الانوار، ج18، ص135.

فامتثلا لكلامها وذهبا إلى المسجد النبوي الشريف باكيين صارخين مفجوعين لموت أمهما الزكية الطاهرة. أما أسماء فما رؤيت بعدها إلا باكية عند رأس الزهراء(علیها السلام) نادبة فقدها المبكر الأليم صارخة بواقع الحال: وايتامى محمد كنا نتعزى بفاطمة بعد موت جدكما، ففيمن نتعزى بعدك(1).

عن ابن عباس قال: لما توفيت(علیها السلام) شقت أسماء جيبها(2). حزناً على سيدتها وحبيبتها ورفيقتها أم الحسن(علیه السلام).

لقد واست أسماء بنت عميس مولاتنا الزهراء(علیها السلام) خير مواساة وبقيت ملازمة لبنيها بعد وفاتها كما كانت رفيقة لها في حياتها..، فحضرت غسلها وتكفينها ووداعها ولم تفارق الإمام الحسن(علیه السلام) في تلك اللحظات وما بعدها.

وعلى الرغم من وفرة الأحاديث عن أسماء بنت عميس ودوره-ا في حياة الزهراء(علیها السلام)، إلا أن هذه الوفرة تصبح شحيحة إن لم نقل مفقودة، لما بعد وفاة الزهراء، فلا تذكر لنا المصادر شيئاً عن أسماء بنت عميس إلا أنها قد تزوجت من أبي بكر ومن ثم الإمام علي(علیه السلام).

نعم، لقد عادت أسماء إلى بيت الإمام الحسن(علیه السلام) لتكون له أماً أخرى مع من تزوج الإمام علي(علیه السلام) من زوجات، وأظنها كانت نِعمَ الأم لهم، فهي الأقرب إليه، ألم تتلقفه يداها حين ولد؟ ألم تكفكف دمعه حين بكى توجعاً على فقد الحبيبة؟وقد منحت أسماء الإمام الحسن(علیه السلام) أخاً كذلك بولادتها ليحيى بن علي بن أبي طالب، ومن قبله جاءت بأولادها ومنهم محمد بن أبي بكر ليكون في كنفهم فاصبح خير

ص: 177


1- البهبهانی، ص340.
2- المجلسی، بحار الانوار، ج18، ص 154.

ربيب وتلميذ ذكر للإمام أمير المؤمنين(علیه السلام)

وبقيت أسماء بنت عميس زوجة للإمام المرتضى(علیه السلام) حتى استشهد وكانت إحدى زوجاته الأربع اللواتي كنَّ تحته يوم وفاته، وهن: أمامة، وليلى بنت مسعود التميمية وأم البنين، وأسماء، وأمهات أولاده عشر إماء(1).

ومع أن المصادر التاريخية لا تذكر لنا تاريخ وفاة السيدة أسماء بنت عميس، إلا أنها عاشت حتى عاصرت الإمام السجاد(علیه السلام) وتوفيت في حياته، حسب الروايات المسندة إلى حديث أسماء للإمام علي بن الحسين(علیه السلام).

ولا نجد الأمر يختلف مع أسماء بنت عميس مثل بقية زوجات الوصي(علیه السلام) من محبتهن للإمام الحسن(علیه السلام) واتباعهن لإمامته وامتثالهن، لذا نرجح خروجها في جنازته ومواكبتها لكل حوادث الدهر التي أصيب بها الإمام الحسن(علیه السلام) من تأمر ومرض واستشهاد فطوبى لأسماء بنت عميس، مرافقتها للحسن وأمه في الدنيا والآخرة.

ص: 178


1- الشبلنجي، ص 204. نقلًا عن البداية والنهاية: 6 / 390، الطبقات الكبرى: 8 / 332، الإصابة: 7 / 209، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي: 2 / 122.

أمامة... وصية الزهراء(علیها السلام)

أمامة بنت زينب بنت محمد رسول الله(صلی الله علیه وآله)، هي إحدى النساء اللواتي مررن في حياة الأمام الحسن(علیه السلام) وهي من العائلة المباركة، حفيدة المصطفى(صلی الله علیه وآله) وقرينة المرتضى(علیه السلام)، وهي من بعد ذلك وصية الزهراء البتول(علیها السلام)(1).

إن هذه الإنسانة المؤمنة لا تظهر سيرتها المقتضبة على سطح الروايات التاريخية إلا لماماً، ولولا وصية فاطمة(علیها السلام) الشهيرة في أن يتخذها الإمام علي(علیه السلام) زوجة من بعد وفاتها، كونها الأقرب إلى أولادها، ما وجدنا ما يروى عنها.ولقد علمنا أن سيد الأوصياء(علیه السلام) لم يتخذ زوجة أخرى في حياة سيدة النساء(علیها السلام)، ولكنه عملاً بوصية أم الحسن(علیه السلام) تزوج من بعدها بعدة زوجات، حيث أوصته قائلة: أن تتزوج من بعدي... فإن الرجال لابد لهم من النساء. وفي قول آخر: يا بن العم أنا أعلم انك لا تقدر على عدم التزويج من بعدي(2) ...

وهكذا دخلت إلى ثنايا حياة الإمام الحسن(علیه السلام) العديد من زوجات أبيه، ونعتقد أن أمامة كانت الزوجة الأولى بعد الزهراء(علیها السلام). حیث ذكر أن الزهراء(علیها السلام) قالت للإمام علي(علیه السلام): يا بن عم رسول الله أوصيك أولاً أن تتزوج بعدي بابنة أختي أمامة فإنها تكون لولدي مثلي فإن الرجال لابد لهم من النساء(3).

ص: 179


1- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 138. نقلًا عن كشف الغمة ج1/ ص 502.
2- أعلام الهداية: 3/ ص 184. نقلًا عن روضة الواعظين: 1 / 151.
3- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 138.

وقد ذكرت المصادر أسماء أولاد أمير المؤمنين(علیه السلام) وعددهم وأخبارهم، فلم يكن لأمامة ولداً من الإمام علي(علیه السلام)، بل أن له ابنة بهذا الاسم لأمهات شتى(1).

وأن أمامة بنت علي بن أبي طالب(علیه السلام) هذه هي زوج الصلت بن عبدالله بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب(2).

وقد وقع بعض المؤرخين في لبس الاسم هذا، فبعضهم يذكر أن أمامة هي بنت أبي العاص وهي أخت فاطمة الزهراء التي أوصت أمير المؤمنين أن يتزوجها بعد وفاتها(3). والبعض لا يستقر عند قول محدد، هل الإمام علي(علیه السلام) تزوج أمامة أم بنت أمامة ..وهكذا.

ولكن القول المعتبر أن أمامة التي تزوجها أمير المؤمنين حسب وصية الزهراء(علیها السلام) ، هي أمامة بنت أبي العاص بن الربيع العبشمية وهي بنت أخت الزهراء(علیها السلام) أي أن أمها زينب بنت محمد(صلی الله علیه وآله).

وبالرغم من قلة ذكر هذه السيدة المؤمنة في المصادر التاريخية، حيث لم يوثق لحياتها قبل زواجها من الإمام(علیه السلام) وبعده، بقيت وصية الزهراء(علیها السلام) بضرورة زواج علي(علیه السلام) منها هي القول الأشهر عن وجودها في حياة الإمام الحسن(علیه السلام). إلا أن ابن حجر في الإصابة يذكرها، عن عائشة قالت: إن النجاشي أهدى إلى النبي(صلی الله علیه وآله) حلية فيها خاتم من ذهب فصه حبشي فأعطاه أمامة(4).

ويظهر من وصية الزهراء بها(علیها السلام)، أنها كانت الأقرب إلى قلوب أولادها، وهناك

ص: 180


1- المفيد، الإرشاد، ص 86.
2- الأعلمي الحائري، تراجم:ج1/ ص 230.
3- المصدر نفسه، ص 227.
4- ابن حجر الإصابة: ج4/ ص 231.

قولان أو روايتان يذكرهما المجلسي عن هذا الأمر، ففي رواية أن الزهراء(علیها السلام) أوصت إلى علي بثلاث: أن يتزوج بابنة (أختها) أمامة لحبها أولادها. وفي قول آخر، قولها: أوصيك أولاً أن تتزوج بعدي بابنة (أختي) أمامة فإنها تكون لولدي مثلي(1).

ومن فحوى القولين نستشف مدى اعتزاز السيدة فاطمة(علیها السلام) بها وكيف أن أمامة ستكون للإمام الحسن(علیه السلام) وأخوته كما هي، رؤوفة رحومة لأنها تحبهم.

ومن الوصية كذلك نستدل على أن أمامة كانت للإمام الحسن(علیه السلام) وأخيه قريبة ومقربة، وكثيرة التواجد في بيتهم وحياتهم كشقيقة لأنها ابنة خالتهم، ثم أضحت بتنفيذ وصية الزهراء(علیها السلام) زوجة لأبيهم، ولكن زوجة أب بمواصفات خاصة حددتها الزهراء(علیها السلام) لأمير المؤمنين..، في أن يكون لها ليلة وللإمام الحسن(علیه السلام) وأخيه(علیه السلام) ليلة أخرى(2).

ولقد امتد اعتزاز الزهراء(علیها السلام) بأمامة إلى الإمام علي(علیه السلام)، الذي اشتهر عنه القول: أربع ليس لي إلى فراقه سبيل، بنت (أبي العاص) أمامة أوصتني بها فاطمة بنت محمد(صلی الله علیه وآله)(3). ولم تحدثنا الروايات بحديث واحد ينتهي سنده إلى السيدة أمامة مع أنها حفيدة النبي(صلی الله علیه وآله) وربيبة الزهراء(علیها السلام) وزوجة الوص(علیه السلام).

حتى أننا نعثر على حديث يتيم لأم عثمان وهي أم ولد وإحدى زوجات الإمام علي(علیه السلام) في كشف الغمة، ولا نعثر على حديث للسيدة أمامة.

من كتاب معالم العترة الطاهرة للجنابذي، عن أم عثمان أم ولد علي بن أبي طالب(علیه السلام) قالت: كان لآل رسول الله(صلی الله علیه وآله) قطيفة يجلس عليها جبرئيل ولا يجلس عليها غيره، وإذا

ص: 181


1- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 138-132.
2- الأعلمي الحائري، تراجم: ج2/ ص 332.
3- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 138.

عرج طويت، وكان إذا عرج انتفض فيسقط من زغب ريشه فيقوم فيتبعه فيجعله في تمائم الحسن والحسين(علیهما السلام)(1).ومع ذلك فإن أمامة كانت كما أوصت الزهراء(علیها السلام) للإمام الحسن(علیه السلام) ولقد غادرت بيت الإمام علي(علیه السلام) بعد استشهاده، حيث قال لها أمير المؤمنين: فإن كان لك في الرجال من بعدي فتزوجي المغيرة بن نوفل بن الحارث بعد وفاتي، وقيل أوصى بهذا لأنه خاف أن يتزوجها معاوية فزوجها المغيرة بعد استشهاده فولدت له يحيى وتوفيت عنده، وقيل تزوجها بعده أبو الهياج بن سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب فماتت سنة 50ه-.

وقد روى ابن حجر في الأصابة، أن علياً(علیه السلام) لما حضرته الوفاة قال لأمامة: إني لا آمن أن يخطبك هذا الطاغية بعد موتي -يعني معاوية- فإن كان لك في الرجال حاجة فقد رضيت لك المغيرة بن نوفل عشياً – فلما انقضت عدتها – قالت للمغيرة بن نوفل: إن معاوية خطبني فقال لها: أتتزوجين ابن آكلة الأكباد فلو جعلت ذلك إلي، قالت: نعم قال قد زوجتك(2).

لقد تقاسمت أمامة والإمام الحسن(علیه السلام) ليالي الإمام علي(علیه السلام) نزولاً عند وصية الزهراء(علیها السلام) وتحقيقاً لوصيتها، ولكنها في قلب فاطمة(علیها السلام) كانت كما الحسن وأخيه وأخواته.. لأنها بنت أختها الأثيرة لديها.

ص: 182


1- المصدر نفسه، ص 191. نقلًا عن كشف الغمة: ج1/ ص 549.
2- الأعلمي الحائري، تراجم / ج1/ ص 227.

فضة... امرأة من ذهب

فضة النوبية هي جارية السيدة فاطمة الزهراء(علیها السلام)، دخلت إلى بيت الإمام علي(علیها السلام) خادمة فأضحت واحدة منهم، أخلاقها أخلاقهم وأدبها آدابهم واحاديثها أحاديثهم.

لقد استعانت بها الزهرا(علیها السلام) بعد أن طلبتها من والدها رسول الله(صلی الله علیه وآله) وأضحت الزهراء أماً لعدد من الأطفال وهي في مقتبل العمر...، روي عن الصادق عن آبائه عن علي(علیهم السلام) قال: إن رسول الله(صلی الله علیه وآله) أخدم فاطمة ابنته جارية اسمها فضة النوبية وكانت تشاطرها الخدمة ،فعلّمها رسول الله(صلی الله علیه وآله) دعاء تدعو به، فقالت لها فاطمة أتعجنين أو تخبزين، فقالت: بل أعجن يا سيدتي وأحتطب فذهبت وبيدها حزمة وأرادت حملها فعجزت فدعت بدعاء علمها إياه رسول الله(صلی الله علیه وآله) وهو : «يا واحد ليس كمثله أحد تميتكل أحد وتفني كل أحد وأنت على عرشك واحد ولا تأخذه سنة ولا نوم» فجاء أعرابي كأنه من أزد شنوءة فحمل الحزمة إلى باب فاطمة.

ولقد كانت السيدة فضة موالية لآل البيت شديدة الولاء ومحبة لهم، أبدت افتخارها في الانتساب إليهم كلما سُئِلت: من أنت؟ قالت: أنا فضة أمة فاطمة الزهراء ابنة محمد المصطفى صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها .

فكانت فضة تشاطر الإمام الحسن وأهله أيامهم في الشدة والرخاء، حتى ذكرت معهم حين نزلت الآيات، عن ابن عباس (رضوان الله تعالى عليه): إن الحسن والحسين

ص: 183

مرضا، فعادهما رسول الله(صلی الله علیه وآله) في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك ،فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برئا (الحسن والحسين) مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام، فشفيا، وما معهم شيء (طعام) فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهود ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء،... إلى أخر الرواية. حيث تصدقوا بإفطارهم جميعاً لثلاثة أيام على المسكين واليتيم والأسير.. حتى نزل جبرائل وقال: خذها يا محمد، هنأك الله في أهل بيتك فاقرأه سورة هل أتى .

ولو لم تكن فضة قد أصبحت واحدة من أهل بيت محمد لما ألزمت نفسها بفعل آل محمد، محبة وتقرباً إلى الله لشفاء الإمام الحسن وأخيه الحسين.

ومن هنا يمكننا القول أن الإمام علي قد اعتبرها من أهل بيته يوم ناداها للتزود من فاطمة وهي سجية قد فارقت الحياة مع أولاده وكأنها واحدة منهم..، قال علي:... وكفنتها وأدرجتها في أكفانها فلما هممت أن أعقد الرداء ناديت يا أم كلثوم! يا زينب! يا سكينة! يا فضة! يا حسن! يا حسين! هلموا تزودوا من أمكم فهذا الفراق واللقاء في الجنة .

ولقد كانت الزهراء أماً لكل من عاشرها وتشرف بالتقرب منها، فلقد كانت أم أبيها الرسول)صلی الله علیه وآله) أفلا تكون أماً قدوة لجاريتها؟

ص: 184

إن بيت فاطمة مدرسة إسلامية متكاملة، سعيد من انتسب إليها وعاش في كنفها أياماً، وفضة كانت تلميذة نجيبة في هذه المدرسة الرسالية ولقد تخرجت منها فقيهة بعد أن دخلتها خادمة..، فنجدها تحدّث عن الزهراء وأحوالها روايات معتبرة تتناقلها الأقلام، وتعطي رأياً فقيهاً يعجز عن إدراكه خليفة المسلمين، وتبقى عشرين سنة لا تتكلم إلا بالقرآن.عن الإمام الصادق قال: كان لفاطمة جارية يقال لها فضة فصارت من بعدها لعلي فزوجها من أبي ثعلبة الحبشي فأولدها ابناً )ثم( مات منها أبو ثعلبة وتزوجها من بعده أبو مليك العطفاني (ثم) توفي ابنها من أبي ثعلبة فامتنعت من أبي مليك أن يقربها فاشتكاها إلى عمر وذلك في أيامه، فقال لها عمر: ما يشتكي منك أبو مليك يا فضة ،فقالت: أنت تحكم في ذلك وما يخفى عليك، قال عمر: ما أجد لك رخصة قالت: يا أبا حفص ذهب بك المذاهب، إن ابني من غيه مات فأردت أن استبرئ نفسي بحيضة فإذا أنا حضت علمت أن ابني مات ولا أخ له، وان كنت حاملا كان الولد في بطني اخوه فقال عمر شعرة من آل أبي طالب أفقه من عدي .

أما حديثها الطويل عن أحوال سيدة النساء بعد وفاتها فقد رواه ورقة بن عبدالله الأزدي عنها، حيث فصلت فيه وأفاضت في ذكر وقائع أيامها الأخيرة، روى ورقة بن عبدالله الأزدي قال: خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام راجياً لثواب الله رب العالمين، فبينما أنا أطوف وإذا أنا بجارية سمراء، ومليحة الوجه عذبة الكلام، وهي تنادي بفصاحة منطقها، وهي تقول: اللهم رب الكعبة الحرام، والحفظة الكرام، وزمزم والمقام، والمشاعر العظام ورب محمد خير الأنام)صلی الله علیه وآله) البررة الكرام أسألك أن تحشرني مع ساداتي الطاهرين، وأبنائهم الغر المحجلين الميامين. ألا فاشهدوا يا جماعة الحجاج

ص: 185

والمعتمرين أن موالي خيرة الأخيار، وصفوة الأبرار، والذين علا قدرهم على الأقدار ،وارتفع ذكرهم في سائر الأمصار المرتدين بالفخار ... إلى نهاية الحديث.

إن التمعن في رواية فضة للحديث السالف ذي المضامين العالية يشهد لها أنها خير موالية لبيبة، لخيرة الأخيار حقاً، ولقد قيل عنها أنها ختمت حياتها الكريمة لسنين عديدة لا تنطق إلا بآيات القرآن المجيد..، وقد أورد أبو القاسم القشيري في كتابه، ما يشهد على هذه البادرة الفريدة، قال بعضهم: انقطعت في البادية عن القافلة فوجدت امرأة فقلت لها: من أنت؟ فقالت:﴿ وَاقُلْ سَالَاامٌ فَاسَاوْفَا يَاعْلَامُونَا﴾ ...، فلما سأل أولادها عنها فقالوا: هذه أمنا فضة جارية الزهراء ما تكلمت منذ عشرين سنة إلا بالقرآن .

وليس هذا ببعيد عمن حلق طويلاً حول شعاع ضوء النبوة وضياء الإمامة ،ففضة كانت جليسة الزهراء في نهارها وليلها تعينها على قضاء حوائج بيتها وتربية أشبالها، ولقد وقفت فضة مع الإمام الحسن خلف فاطمة يتلقون بصبر وجلدهجمات الرعاع على الدار حتى إذا ما ضغطوها بين الجدار والمسمار، صاحت واستنجدت فاطمة بفضة: هلمي إلي سنديني لقد أسقطوا جنيني!

ولا أحسبها تقاعست فضة عن خدمة الزهراء في مرضها الأخير تعين أبا الحسن وأسماء في رعاية الإمام الحسن وأخوته لتخفف من ثقل المأساة التي حلت على هذا البيت الطاهر الممتحن.

وفي رواية.. إن الزهراء عندما حان الأجل المحتوم، اغتسلت أحسن ما يكون الغسل قبل موتها ثم لبست أثوابها الجديدة ثم قالت لخادمتها فضة: افرشي فراشي

ص: 186

وسط البيت، ثم استقبلت القبلة ونامت وقالت: أنا مقبوضة ثم وضعت خدها على يدها وماتت.

وفي رواية محمد بن همام، أن فضة كانت واحدة من بضع أشخاص مقربين حضروا وفاة الزهراء وغسلها وإخراجها ليلاً إلى البقيع لدفنها .

وقد رافقت السيدة المؤمنة فضة سيدها الإمام الحسن عندما انتقل مع أبيه إلى الكوفة وعاشت حياتها في خدمتهم، كما كانت تفعل في حياة الزهراء.

عن سويد بن غفلة قال: دخلت على علي بن أبي طالب القصر... قال: فقلت لفضة وهي بقرب منه قائمة: ويحك يا فضة ألا تتقين الله في هذا الشيخ؟ ألا تنخلين هذا الطعام من النخالة التي فيه؟ قالت: قد تقدم إلينا ألا ننخل له طعاماً. قال: ما قلت لها؟ فأخبرته، فقال: بأبي وأمي من لم ينخل له طعام، ولم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام حتى قبضه الله تعالى )المقصود به الرسول)صلی الله علیه وآله).

وكانت فضة هي التي بشرت بولادة الإمام العباس في رواية قنبر... فقالت فضة: لقد ولد الساعة للإمام أمير المؤمنين غلام أزهر كأنه فلقة قمر .

ويبدو أنها بعد أن تزوجت غادرت بيت الإمام علي وانشغلت بحياتها الخاصة ،وإن كانت لم تنسَ أيامها التي عاشتها في كنف أم الحسن وبقيت أعينها بالدمع مدرارة كلما ذكرتها.

ص: 187

وها قد انتهينا من استعراض بضع نسوة مؤمنات مواليات عايشن فاطمة الزهراء وابنها الإمام الحسن وخدمنه وكان لهن نعم الوليد المبارك والفتى المناصر والإمام الناصح الأمين... فكان ثمراً هاشمياً في سماء النبوة، حاولت يد الغدر الآثمة أن تحجب ضياهُ...وهذا ما سنتناوله في الفصل القادم.

ص: 188

الفصل الرابع: الزوجة القاتلة... اشقی النساء للحسن(علیه السلام) زوجات و بنات جعدة بنت الأشعث... اشقی الزوجات

اشارة

ص: 189

ص: 190

المبحث الأول: للحسن(علیه السلام)... زوجات وبنات

بعد الأم والأخت.. جاء دور الزوجة والبنت في حياة الإمام الحسن(علیه السلام)، وهذه المساحة من البحث ربما تكون الأبرز والأشهر في سيرة الإمام السبط(علیه السلام) لكثرة ما أثير حولها من لغط وبهتان في أعدادهن وتسمياتهن، ونقصد هنا بالطبع الزوجات.

وقبل الورود في هذا البحث لابد من تبيان أن مظلومية الإمام الحسن(علیه السلام) وما رمي به من تفسيرات جاهلة مردها إلى نقطتين هما: صلح الحسن وزوجات الحسن. ولما كان بحثنا ينير الحيز الخاص بدور المرأة في حياة الإمام، فإننا سنركز في كلامنا على النقطة الثانية، فنوضح كم عدد زوجات الإمام الحسن(علیه السلام)؟ وكم عدد بناته في مختلف الروايات؟ ولماذا ألصقت فرية أن(الحسن مزواج مطلاق) بالإمام الحسن(علیه السلام) دون غيره؟ لمَ لَم تلصق هذه الفرية بالإمام الحسین(علیه السلام) على سبيل المثال؟ ثم سنحاول الإجابة على سؤال القائل: كيف كانت معاملة الإمام الحسن(علیه السلام) لزوجاته؟ وكم كان عمر الإمام الحسن(علیه السلام)؟ وكيف عاشه ليتزوج العشرات من النساء، حسب إدعاء بعض الروايات؟

نستطيع القول أن الافتراء على النجوم الزاهرة من آل بيت النبوة، هو صنعة قريشية – أموية بحق، فلقد حاولت الدعاة الأموية وأقلامها المأجورة أن تنال من عظمة سيد الأوصياء الإمام علي(علیه السلام) وانسانيته،

وأن تحاول ثلم نقاء صورته في أذهان الأجيال الإسلامية بالإدعاء أنه كان عدواً للمرأة، ولقد بحثنا هذا الأمر بتفصيل وبرهنة في

ص: 191

كتابنا الموسوم(علي والنساء).

وجاء الدور على الإمام الحسن(علیه السلام) لينال نصيبه من الخطة الأموية الجاهزة، في تعكير صفو ذكره الطيب المحمود على لسان النبي المصطفى(صلی الله علیه وآله).ولما كان الإمام الحسن(علیه السلام) إمام الزمان الذي عاش فيه معاوية وأعوانه، فإنهم جندوا كتبة التاريخ من الوضّاعين للصق هذه التهمة به، بعد أن أعيتهم الحيلة في إيجاد مثلبة واحدة ينفذون منها للإساءة إلى شخصية الإمام الحسن(علیه السلام) المتكاملة الأركان.

وهنا نقتبس من قول الهمداني في الإمام المجتبى(علیه السلام) مهجة قلب المصطفى(صلی الله علیه وآله)... جاء فيه: «إن الإمام المجتبى من أفضل مصاديق آية التطهير، وإن الله سبحانه شهد في هذه الآية بالعصمة والطهارة له(علیه السلام) حتى من أدنى شيء لا يريده الله، بما لا مزيد عليه، لأنه تعالى أذهب عنه(علیه السلام) جميع أنواع الرجس مما يكره سبحانه عز وجل، فهو(علیه السلام) بنص هذه الآية مصون عن كل عيب ونقص على الإطلاق، إذ كل ما يفرض شيئاً غير مطلوب لله عز وجل ورسوله ولو مثقال رأس إبرة فهو داخل في الرجس الذي أذهبه الله عنه(علیه السلام)، فبناءً على هذا فله أعلى مراتب العصمة والطهارة»(1).

إن آل أبي سفيان قد شحذوا ضب عداوتهم لآل بيت الرسول(صلی الله علیه وآله)، منذ أن كان النبي(صلی الله علیه وآله) في مكة ينشر دعوة التوحيد ويصدح بشريعة الإسلام، كان أبو سفيان وأولاده وباقي بني أمية ومن هو على شاكلته يتربصون به وبأهل بيته الدوائر ويتمنون لو أن رسول الله(صلی الله علیه وآله) أو أحد من أهل بيته يرتكب من الأخطاء أصغرها ليطبلوا لها ويزمرون، فيعظموا هذا الخطأ ويشنعوا عليه وعلى أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين(2).

ص: 192


1- أحمد الرحماني الهمداني، الإمام المجتبى(علیه السلام) مهجة قلب المصطفى(صلی الله علیه وآله)، المنير للطباعة والنشر، ط1، 1384ه-.ش/ 1426ه-.ق.، ایران، ص711.
2- وسام برهان البلداوي، القول الحسن: ص 202.

إن حالة التربص وتصيد الأخطاء والزلات على النبي(صلی الله علیه وآله) وأهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين، بقيت كحالة مرضية مستعصية لازمت آل أبي سفيان ومن هم على شاكلتهم من جبابرة قريش حتى بعد أن رحل النبي(صلی الله علیه وآله) عن هذه الدنيا الفانية ولحق بالرفيق الأعلی(1)، حيث توجهت سهام حقدهم وافتراءاتهم نحو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) وأبنائه الأئمة الحجج الميامين(علیهم السلام).وقد نبه الإمام علي(علیه السلام) في خطبته إلى هذا الخطر ووضح أسبابه وكشف مراميه ومدلولاته، ففي كتاب لأمير المؤمنين أرسله إلى معاوية رداً على أحد مفترياته، نجده (علیه السلام) قائلاً: «وقلت: إني كنت أقاد كم يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكاً في دينه»(2).

فلا غرابة أن نجد إصرار معاوية وأصحابه على التربص بالإمام الحسن(علیه السلام) ومحاولة النيل منه، فكان معاوية وحزبه الرجيم يراقب كل حركة تصدر عن السبط(علیه السلام) علهم يقعون على ما يشين أو يريب في أمره، ولكن هيهات إنهم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة وملح أهل الأرض قاطبة وموضع فخرهم وافتخارهم إلى يوم الدين.

ولو كان الإمام الحسن(علیه السلام) كما افتري عليه بأنه مزواجٌ ومطلاقٌ، لتلقف معاوية هذه الصفة وأشبعها تشهيراً وتنكيلاً ولذاعت واشتهرت على لسانه وأقوال أصحابه، وما تردد آل أمية وحزبهم حزب الشيطان في اتخاذ هذه المثلبة سبباً في الحرب النفسية والدعائية ضد الإمام الحسن(علیه السلام) وآل بيت النبي الأطهار(علیهم السلام). لذا نقول: إن هذه

ص: 193


1- وسام برهان البلداوي، القول الحسن: ص 203.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ط1، 1378ه-/1959م، ج15، ص 183.

المرويات وضعت بعد استشهاد الإمام الحسن(علیه السلام)، وإلا لم يتركه معاوية ولا ابن العاص في نشرها وبثها على المنبر قبل الصلح وبعده(1).

ولوجدنا لها رداً في أقوال الإمام الحسن(علیه السلام) وأهل بيته(علیهم السلام).

كما إن هذه الروايات نقلت على أيدٍ معدودة وهم المدائني والشبلنجي وأبو طالب المكي، والثلاثة متّهمين بوضع الرواية وقد ثبتت التهمة بهم، وعنهم أخذ المؤرخون والكتّاب من السنة والشيعة والمستشرقين(2).

وقد كُتِبَتِ العديد من الكتب في الرد على هذه الروايات المفتريات وفندتها بالبحث والتحليل..، وقد وقف بعض الرواة مدافعاً عن الإمام الحسن(علیه السلام) في الوقت الذي لا يحتاج الأمر إلى دفاع، فالإمام الحسن(علیه السلام)سبط النبي المصطفى(صلی الله علیه وآله) وسيد شباب أهل الجنة وريحانة النبوة ووريث الإمامة ومثال الرسول الأعظم خلقاً وخُلقاً كما أوردنا في المباحث السالفة.

كما وقف بعض الرواة من الإمام الحسن(علیه السلام) موقفاً يتسم بالاعتدال والتجرد، فقال: إن تعدد الزوجات كان شائعاً ومألوفاً بين المسلمين ولم يكن الإمام (علیه السلام) أكثر زواجاً من غيره، وقل من مات من أعيان المسلمين عن أقل من أربع زوجات، وقد مات الزبير وعبدالرحمن بن عوف وطلحة عن أربع زوجات عدا مطلقاتهم كما نص على ذلك أكثر المؤرخين، فكم عدد زوجات الإمام الحسن(علیه السلام)؟!!

إن أرباب السير والتاريخ وعلماء فن الخبر أوردوا أقوالاً كثيرة، واختلفوا اختلافاً بيناً في عدد زوجاته حتى أنهم اتهموه بتهم ليست من شأنه(علیه السلام).

ص: 194


1- ماجد ناصر الزبيدي، ص 257.
2- المصدر نفسه، ص 258.

فذهب بعض المؤرخين من العامة والخاصة إلى أن له(علیه السلام): خمسين زوجة وأربعاً وستين وسبعين وتسعين ومائتين وخمسين وثلثمائة وسبعمائة(1).

إن نظرة موضوعية إلى تلك الروايات والأعداد التي اعتمدتها وتضاربها، هو في حد ذاته سبباً ودليلاً على انتفاء مصداقيتها. فلو كانت الروايات صحيحة في معظمها لتقاربت الأعداد وتجانست المسميات، أما أن تكون الأعداد متراوحة ما بين(15) زوجة وسبعمائة زوجة فهذا ما يخرج المعلومة عن مألوفيتها ومصداقيتها لدى المؤرخ والباحث.

إن القول بأن عدد زوجات الإمام الحسن(علیه السلام) خمسون زوجة، جاء عند يحيى بن أبي العلاء(2)،

عن أبي عبدالله(علیه السلام) قال: إن الحسن بن علي(علیه السلام) طلق خمسين امرأة، فقام علي(علیه السلام) بالكوفة فقال: يا معاشر أهل الكوفة، لا تنكحوا الحسن، فإنه رجل مطلاق فقام إليه رجل فقال: بلى والله لننكحنه فإنه ابن رسول الله(صلی الله علیه وآله) وابن فاطمة(علیها السلام) فإن أعجبته أمسك. وإن كره طلق.وهذا القول لا يساعده العقل وآية التطهير، ولا يناسب عصمة الإمام(علیه السلام)، وقد قال العلامة المجلسي(رحمه الله): هذا الحديث مجهول. ونحن نوافق المجلسي الرأي هنا، ولا نوافقه في تأويله، بالقول: «ولعل غرضه(علیه السلام))يقصد الإمام علي(علیه السلام))كان استعلام حالهم ومراتب إيمانهم لا الإنكار على ولده المعصوم المؤيد من الحي القيوم»(3).

فأمير المؤمنين(علیه السلام) كان لديه وسائل اختبارية أخرى أنجع في استنكاه مراتب إيمانهم من أن يعرّض بولده الحسن(علیه السلام) على الملأ هكذا.

ص: 195


1- أحمد الرحماني الهمداني، ص 712.
2- المصدر نفسه، نقلًا عن فروع الكافي: 6 /56 كتاب الطلاق. باب تطليق المرأة غير الموافقة.
3- المصدر نفسه.

والتفاتة أخرى لا تخفى على اللبيب، فإن هذه الرواية كأنها تظهر جهل الإمام علي(علیه السلام) و(العياذ بالله) بمقام الإمام الحسن ومرتبته ورجل أهل الكوفة ذاك أعلم وأكثرمحبة للإمام السبط كونه ابن رسول الله وابن فاطمة!

لقد ذكرت النصوص التاريخية المعتمدة والتي سنوردها لاحقاً، أن الإمام الحسن(علیه السلام) قد حظي بزيجات طويلة الأمد، وكان متمسكاً بزوجاته وحافظاً لحرمتهن حتى بعد استشهاده، فقد روي أنه صلوات الله وسلامه عليه من شدة تمسكه بزوجاته وأمهات أولاده أن أوصى إلى الإمام الحسين(علیه السلام) بأن لا يخرج زوجته أم إسحاق من دور أهل البيت، فتزوجها الإمام الحسين(علیه السلام) من بعده(1).

ولنعود إلى أشهر الأقوال والروايات في زيجات الإمام الحسن(علیه السلام) رواية أبي طالب المكي في قوت القلوب: أنه(علیه السلام) تزوج مائتين وخمسين امرأة، وقد قيل ثلاث مائة وكان علي(علیه السلام) يضجر من ذلك، فكان يقول في خطبته: إن الحسن مطلاق فلا تنكحوه(2).

وعن أبي عبد الله المحدّث في رالمش أفزاي: إن هذه النساء كلهن خرجن خلف جنازته حافيات(3).أما المدائني، فهناك روايتان، الأولى جاءت في بحار الأنوار للمجلسي..، ومفادها .. قال أبو الحسن المدائني: «كان الحسن(علیه السلام) كثير التزويج، تزوج خولة بنت منظور بن زياد الفزارية، فولدت له الحسن بن الحسن وأم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله فولدت له ابناً سماه طلحة، وأم بشر بنت أبي مسعود الأنصاري فولدت له زيداً، وجعدة بنت الأشعث وهي التي سمته، وهنداً بنت سهيل بن عمرو، وحفصة بنت عبد الرحمن بن

ص: 196


1- وسام البلداوي، ص 110. نقلًا عن تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج70/ص 16 – 17.
2- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ص 363.
3- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج4/ ص 29 و42 و44.

أبي بكر، وامرأة من كلب، وامرأة من بنات عمرو بن الأهيم المنقري، وامرأة من ثقيف فولدت له عمر، وامرأة من بنات علقمة بن زرارة، وامرأة من بني شيبان من آل همام بن مرة فقيل له: إنها ترى رأي الخوارج فطلقها، وقال: إني أكره أن أضم إلى نحري جمرة من جمر جهنم(1).

والرواية الثانية، قال المدائني: أُحصيت زوجات الحسن(علیه السلام) فكن سبعين امرأة .وقيل تزوج(علیه السلام) سبعين حرة، وملك مائة وستين أمة في سائر عمره، وكان أولاده خمسة عشر(2).

أما ابن سعد في طبقاته فقال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عبدالله بن جعفر، عن عبدالله بن حسن، قال: كان الحسن بن علي كثير نكاح النساء، وكن قلما يحظين عنده، وكان كل امرأة تزوجها إلا أحبته وصبت به(3).

أما القول بأن له أربعاً وستين زوجة، فهو ما قاله الكفعمي في المصباح، والكفعمي هو الذي تفرد به، وقد أرسله ولم يذكر له سنداً.

وكذلك القول بأن له تسعين زوجة وهو ما قاله الشبلنجي، وقد تفرد به، وليس قوله بحجة.

ونأتي إلى رواية أبي طالب المكي في قوت القلوب فنجد أكثر من طعن في راويها وسندها، بل إن الرواية لا سند لها يذكر مما اضطر ابن شهرآشوب أن يرمي بعهدتها على أبي طالب المكي وكتابه(4).

ص: 197


1- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 365.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج16/ ص 12 – 22.
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، ترجمة الإمام الحسن(علیه السلام): ص 82.
4- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج3/ ص291 – 193.

وقد قال فيه المؤرخون قولهم الفصل من أنه قد خلط في كلامه وهجره الناس لذلك، فقال ابن الأثير: «وصنف كتاباً سماه قوت القلوب، وذكر فيه أحاديث لا أصل لها»(1).

وقال الذهبي: «قال الخطيب: ذكر في القوت أشياء منكرة في الصفات وكان من أهل الجبل ونشأ بمكة. قال لي أبو طاهر العلاف: إن أبا طالب وعظ ببغداد، وخلط في كلامه وحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوقين أضرّ من الخالق! فبدّعوه وهجروه، فبطل الوعظ»(2).

وكذلك قال عنه ابن حجر في ميزانه «من أنه خلط في كلامه وذكر في القوت أشياء منكرة في الصفات»(3).

وقال المحدث القمي(رحمه الله): «حكى أنه كان يستعمل الرياضة كثيراً حتى قيل: إنه هجر الطعام كثيراً واقتصر على أكل الحشائش، فكان طعامه لما صنف قوت القلوب عروق البردي، قيل فاخضر جلده من كثرة تناولها. قدم بغداد، فوعظ الناس، فخلط في كلامه فتركوه وهجروه، وامتنع عن الكلام بعد ذلك، وحفظ عليه من خلطه قوله – العياذ بالله – ليس على المخلوقين أضرّ من الخالق(4).

وبعد كل هذا كيف يقبل منه قول أو كلام في المخلوقين بعد أن رمى الخالق-

ص: 198


1- ابن كثير، البدایة والنهاية، تحقيق وتدقيق وتعليق: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1408ه--1988م، بیروت- لبنان: ج11/ ص 366.
2- أحمد الرحماني الهمداني: ص 714.
3- للمزيد ينظر: لسان الميزان، ابن حجر، ج،5 ص 300 وميزان الاعتدال للذهبي: ج3/ ص 655.
4- أحمد الرحماني الهمداني: ص 715، نقلًا عن الكنى والألقاب: 1 / 111.

والعياذ بالله – بالضرر، والغرابة أن ينقل عنه ويعوّل على رواياته بعد أن حكم عليه الناقلون بالخلط والبدعة.

ويكفينا استدلالاً على نكران الرواية أنها قد زوجت الإمام الحسن(علیه السلام) بهذا الكم الكبير من الزيجات دون تفصيل أو إيضاح لأسمائهن وألقابهن أو أنسابهن، ولم يكلف المكي نفسه في إيضاح سبب تصاعد هذا الرقم القياسي في الزيجات حتى أوصله إلى الرقم ثلاثمائة. ولكننا نجده قد كشف زيف سنده وادعائه بقوله (وقد قيل) أي أنه لم يتحقق من الأمر وقد نقل ما قيل أو أشيع أو وصل إلى سمعه فأورده مورد الخبر الصحيح.ولو أن المكي اكتفى بذكر هذا الرقم المبالغ فيه من عدد الزوجات لكان أسلم له ولروايته الموضوعة ولكنه زادها مبالغة وافتضاحاً عندما ادعى «إن هذه النساء كلهن خرجن في خلف جنازته حافيات»(1).

وهذا (الجمع المريب) لا يمكن تقبله بأي شكل من الأشكال، اجتماعياً أو سياسياً أو نفسياً(2).

فهذه المقولة إذن ظهرت إلى الوجود لأول مرة عند أبي طالب المكي (المتوفى سنة 386ه-) والمعروف عنه أنه ضعيف الرواية، وليس بثبت ولا ثقة. والفترة بين وفاة الإمام الحسن(علیه السلام) )سنة 50ه-) وظهور الرواية فترة تزيد على ثلاثة قرون(3).

ولا يختلف المدائني عن المكي في شيء فهو من الضعفاء الذين لا يعول على

ص: 199


1- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج4/ ص29- 42- 44.
2- للمزيد ينظر: البلداوي: ص 163 وما بعدها.
3- الهمداني، ص 715.

أحاديثهم. كما قال الذهبي: «وقد تركه إبراهيم الحربي، وذلك لميله إلى أحمد بن أبي داود، فقد كان محسناً إليه، وكذا امتنع مسلم من الرواية عنه في صحيحه لهذا المعنى، كما امتنع أبو زرعة وأبو حاتم من الرواية عن تلميذه محمد لأجل مسألة اللفظ». وقال ابن حجر العسقلاني: «ذكره ابن عدي في الكامل فقال: علي بن محمد بن عبدالله بن أبي سيف المدائني مولى عبدالرحمن بن سمرة وليس بالقوي في الحديث وهو صاحب الأخبار. قل ما له من الروايات المسندة». وقيل عنه كذلك أنه كان يضع الأخبار لبني أمية(1).

وهناك تناقض كبير في أخبار المدائني عن عدد زوجات الإمام الحسن(علیه السلام)، روي عن ابن أبي الحديد المعتزلي عن المدائني قوله: «أحصيت زوجات الحسن(علیه السلام) فكن سبعين امرأة(2).

دون ذكر لأسمائهن وفي رواية أخرى نجدها في بعض المصادر أن المدائني قد ذكر أسماء بعض زوجاته(علیه السلام)، لا يتجاوز عددهن اثنتي عشر زوجة فأين أسماء بقية الزوجات إن كن سبعين أو تسعين حسب روايات المدائني؟وقد عُرف عن المدائني أنه ذو حفظ واسع وذاكرة كبيرة حتى عد من الحفاظ كما وصفه الذهبي، وعد له ابن النديم في فهرسه أكثر من مئتين وخمسين كتاباً في مختلف الموضوعات(3)،

وبناء على حافظة المدائني القوية وسعة باعه في علم معرفة الأنساب وأخبار العرب، والذي كان عجباً في معرفتها كما وصفه الذهبي، كان يجب عليه ذكر تفصيلات أكثر عن زوجات الإمام الحسن(علیه السلام) من أسماء وألقاب وأنساب هذه النسوة اللاتي جعلهن زوجات للإمام(علیه السلام)، والذي صرح بأن عددهن قد وصل إلى التسعين زوجة!!، فالمدائني لم يخبرنا بأسمائهن ومن أي بيوتات العرب هن؟ وما أسباب زواج

ص: 200


1- الهمداني، ص 713.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج16/ ص 22.
3- ذكر كتبه هذه مفصلة ابن النديم في الفهرست: ص 116.

الإمام الحسن(علیه السلام) بهن؟ وما أسباب طلاقهن هكذا بالجملة؟ فإجماع الصحابة وسيرةالعلماء ومنهج المحققين جارٍ على رفض كل رواية مجهولة الراوي، وعليه فالرواية التي رواها المدائني لاشك في شمولها بهذا الرفض(1).

وبعد كل هذا، ومع يقيننا أن الإمام الحسن(علیه السلام) لما يمتلكه من صفات ومؤهلات تجعله مطمعاً للآباء بتزويجه من بناتهن، وأن يرغب كل الناس في التقرب من آل بيت الرسول(صلی الله علیه وآله) بصلة، وإن افترضنا أن الإمام الحسن(علیه السلام) قد تزوج بعدد من الزوجات أكثر من أخيه أو أبيه، فإنه لم يجاوز الأعراف المرعية في دينه وزمانه ولم يكن فعله بالصورة القاتمة والسلبية التي تظهره بها الروايات الأموية.

فالإمام السبط(علیه السلام) لم يترك وراءه من الذرية مع كل هذا الكم العددي من الزوجات إلا عدداً محدوداً جداً من الأولاد يمكن أن يمنحه الرجل من زوجة واحدة. حتى أنه لم يكن لديه من البنات حسب معظم الروايات ما يتجاوز عددهن أصابع اليد الواحدة.وهذا مما يؤيد عدم صحة تلك الروايات، فقد ذكر أبا جعفر محمد بن حبيب (المتوفى سنة 245) في كتابه (المحبَّر–ص 57) ثلاثة أصهار للإمام، وهم: الإمام علي ابن الحسين(علیه السلام) وعنده أم عبدالله، وعبدالله بن الزبير وعنده أم الحسن، وعمرو بن المنذر وعنده أم سلمة، ولم يزد على ذلك(2).

ولو كان الإمام الحسن(علیه السلام) كثير الأزواج لكان له من الأصهار ما يتناسب مع تلك الكثرة. ومضافاً لذلك فإن أبا جعفر من المعنيين بأمثال هذه البحوث، فقد ذكر في المحبّر كثيراً من نوادر الأزواج، ولو كان للإمام تلك الكثرة من الأزواج لألمح لها في محبّره(3).

ص: 201


1- البلداوي، ص 121.
2- الهمداني، ص 720.
3- المصدر نفسه.

هذا إذا ما علمنا أن العرب لم تكن تقف موقف السلب والاستهجان من كثرةالزيجات بل تتفاخر بها، قال عمر بن الخطاب: إني أتزوج المرأة وما لي فيها من أرب، وأطأها، وما لي فيها شهوة فقيل له: فلماذا تتزوجها؟ فقال: حتى يخرج مني من يكاثر به النبي(صلی الله علیه وآله) وقد تزوج المغيرة بن شعبة بألف امرأة(1).

ويذهب المؤرخون الثقات إلى أن هذه الأباطيل قد افتعلها المنصور الدوانيقي، وأخذها عنه المؤرخون كما ذكر صاحب المروج( 3 / 226)، وصبح الأعشى(1 / 233)، وجمهرة رسائل العرب( 3 / 29)(2). ثم جاءت لجان التبشير كلامنس وغيره في دائرة معارفه من ترويج الأكاذيب على الإمام الحسن(علیه السلام) والمسلم والمقطوع به هو تزوجه(علیه السلام) بباكر واحدة وتسع زوجات ثيبات.

وخلاصة القول: إن هذه المسألة التي أخذت لها حيزاً كبيراً من القول والرد والتشهير والتبرير، تكاد تختصر وتجزم في موقفين موقف المحب والموالي والثابت على ولاية أهل بيت محمد(صلی الله علیه وآله)، وموقف المعادي والناصب لهم العداوة والبغضاء. وعلى كثرة ما تثيره من تساؤلات وتبريرات، فإن ذا العقل الرشيد يركن إلى حسن القول فيتبعه ولم أجد ما يتطابق مع ما ذهبت إليه وعثرت عليه من ضالة أفضل من قول العلامة محمد جواد فضل الله(3).«الذي ذكره المؤرخون من أسماء زوجات الإمام الحسن لا يتجاوز التسع، وهن اللاتي ذكرهن المدائني في روايته الأولى، ويبقى لنا في ذمة التاريخ إحدى وستون زوجة مجهولة الاسم والنسب إذا أخذنا بالاعتبار روايته الثالثة. من أنه أحصيت زوجات

ص: 202


1- الشبلنجي، ص 375. نقلًا عن الاستيعاب: 4 / 370.
2- المصدر نفسه.
3- الهمداني: ص 720.

الإمام الحسن بن علي فكنّ سبعين امرأة. ومن البديهي أن الإمام الحسن ليس بذلك الإنسان المغمور شرفاً ونسباً عنواناً ومركزاً، حتى لا يعرف الناس من حياته إلا النزرالقليل. وهل يتصور أن الإمام يتزوج في حياته سبعين امرأة دون أن يكون لهن أو لأكثرهن ذكر أو خبر في كتب التاريخ؟ لاسيما أن زواج الإمام من بيت أو قبيلة يُعد من المفاخر التي تتناقلها الألسن، وتشمخ بها النفوس، وأي صهر أشرف وأعظم من ابن بنت رسول الله، وسلالة علي؟ ولا نفهم أي مغزى من كتمان أسماء من لم يُعرف من زوجاته المزعومة مع توفر الدواعي لذكرها، لاسيما أن بني أمية كانوا يعدون غلبة أنفاسه، ويترصدون خطاه، فلو كان شيء من ذلك، لكان وسيلتهم الفريدة للعيب عليه، والتنقيص من مقامه.

والذي يؤكد كذب هذه الروايات المفتراة أن معاوية في مراسلاته للإمام قبل الصلح لم يعب عليه بشيء من ذلك، بل ولم يشر إليه من قريب أو بعيد، ولو كان شيء من ذلك لعابه به وشنعّ عليه من خلاله(1).

كما لم يسمع من أحد ممن خاصم الإمام ونصب له العداوة، وتهجم عليه كعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، والوليد بن عقبة، وأضرابهم، شيء من ذلك، مع أنهم كانوا من أشد الناس عليه، وأسبقهم للنيل منه، لما لاقوه من تنقصه لهم، ومصارحته لهم بمثالبهم ومخازيهم، وأي عيب يعاب به المرء أشنع من أن يكون عشير النساء، وصريع الشهوة؟!! وربما يكون هذا دليلاً قوياً على كذب تلك الروايات واختلاقها.»

وبناءً على ما تقدم فإن لدينا ملاحظتين قد تخطئ وقد تصيب: الأولى.. إن امرأة يتزوج بها الإمام الحسن(علیه السلام) بن الزهراء البتول(علیها السلام) وسبط المصطفى(صلی الله علیه وآله) ولو لساعة

ص: 203


1- صلح الإمام الحسن، أسبابه، نتائجه: ص 318.

زمنية، يكن لها الفخر مدى الزمان هي وقبيلتها ولن تخفيه أو يتجاهله الموثقون ماأرادوا...إن السيدة الجليلة فضة خادمة مولاتنا الزهراء(علیها السلام) بقيت عمراً بعد وفاة مولاتها تحدث عنها، فهل تسكت زوجة للإمام أو حتى طليقة، عن التحدث عنه في حياته أو بعد مماته؟؟!

والثانية: إن مضاعفة عدد زوجات الإمام الحسن(علیه السلام) ومحاولة إعطاء صورة مبالغة لعدد زيجاته، تعطي انطباعاً إيجابياً عن الإمام الحسن(علیه السلام) كزوج ورفيق حياة وربما كانت نتيجة لتهافت نساء زمانه على الاقتران به، لو أمكنهن ذلك..، مما أظهر له في المقابل حسّاد وشامتين ومبغضين، لم يتجرعوا كل هذا الانجذاب والود الذي أظهرته النساء إزاء ابن النبي! وهذه من طبائع البشر على مرور العصور، انظر إلى حسد الرجال في كل زمان لنبي الله يوسف(علیه السلام) وما حباه الباري من جمال جعل النساء يقطعن أيديهن شغفاً به!؟

ومن الواضح أن أعداء آل محمد لم يجدوا ما يرمون به الإمام الحسن من مثلبة أو منقصة (حاشاه الله)، فتفتقت ذهنيتهم المريضة والمتآمرة على هذه الفرية، وهي أن (الحسن مزواج مطلاق)، بعد أن وجدوا أن هذه الكذبة يمكن أن تنطلي على سامعيها وناقليها إذا ما علمنا رغبة الناس في التقرب إليه، وكذلك العشائر والبيوتات الكريمة في الاقتران بابن النبي المصطفى(صلی الله علیه وآله) والذي كان يقطع الطريق إذا ما جلس فيه حضوراً وهيبة.

لقد أُحصيت زوجات الإمام الحسن(علیه السلام) من مختلف الروايات، ومن سائر ما روي في الكتب وغيرها، فلم تتجاوز عن اثنتي عشرة زوجة، واحدة منها باكر والبقية بين أم

ص: 204

ولد وثيب. فالمسلّم المقطوع به: هو تزوجه(علیه السلام) باكر واحدة، وخمس زوجات ثيبات أوسبعاً، وتملّكه خمس أمها أولاد، وأما الزائدة عليها فلا سند لها في كتب الحديث والتاريخ والأنساب. والله أعلم بحقيقتها(1).

أما عدد ما أُحصي من زوجاته وذكرن بالأسماء والألقاب فهن:

1.خولة بنت منظور الفزارية.

2.أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التيمي.3.أم بشير بنت أبي مسعود الأنصاري.

4.جعدة بنت الأشعث.

5.هند بنت سهيل بن عمرو.

6.حفصة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر.

7.عائشة بنت عثمان الخثعمية.

8.أم كلثوم بنت سبيع.

9.أم كلثوم بنت الفضل بن العباس.

10.سلمى بنت امرئ القيس.

11.مرواريد بنت يزدجرد بن شهريار بنت برويز.

12.رملة أم القاسم بن الحسن(علیه السلام) – أم ولد.

ص: 205


1- العلامة المصطفوي، الإمام المجتبى أبو محمد الحسن بن علي(علیهما السلام) حياته. مقامه. خلافته .حلمه. جريان صلحه. كلماته. خطبه. رد الاعتراضات...، مركز نشر آثار العلامة المصطفوي، مطبعة اعتماد، ط1، طهران ،2003م، ص 252.

13.ابنة عمرو بن أهتم المنقري.

14.امرأة من بنات علقمة بن زرارة(1).

15.أسماء بنت عطارد بن حاجب التميمي(2).

16.أم عبدالله، وهي بنت الشليل بن عبدالله أخي جرير البجلي.

أما عدد أولاده ومنهن البنات، فحسب رأي ابن شهرآشوب أن أولاده ثلاثة عشر ذكراً وابنة واحدة، ثم يعود ليذكر أكثر من هذا العدد.وذكر المفيد في إرشاده خمسة عشر ولداً ذكراً وأنثى، ثمانية ذكور وسبع إناث(3).

والبنات هن: أم الحسن وأم الحسين وفاطمة وأم سلمة ورقية وأم عبدالله وفاطمة(4).

فحسب قول ابن شهرآشوب فإن أم الحسن وأم الحسين أمهن أم بشير الخزاعية. وفاطمة أمها أم إسحاق بنت طلحة، وأم عبدالله وفاطمة وأم سلمة ورقية لأمهات أولاد شتى(5).

وكذلك ذكر محمد بن طلحة الشافعي أنهم كانوا خمسة عشر وقال ابن عتبة: وولد أبو محمد الحسن في رواية شيخ الشرف العبيدلي – ستة عشر ولداً. منهم خمس إناث وأحد عشر ذكراً، وذكرهم.

ص: 206


1- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 359. نقلًا عن المفيد، ج2/ ص 20، وطبقات ابن سعد: ج6/ ص 22.
2- تاريخ الطبري: ج3/ ص 36.
3- المفيد، الإرشاد: ص 194.
4- راضي آل ياسين: ص 30.
5- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج3/ ص 192.

وزاد الموضح في روايته بأنهن ست بنات.

وهناك روايات أُخَر تزيد إلى إثنين وعشرين ولداً كما في الحدائق الوردية.

وجاء في عمدة الطالب، أن للإمام الحسن(علیه السلام) ستة عشر ولداً منهم خمس بنات، هن: أم الحسين رملة وأم الحسن وفاطمة وأم سلمة وأم عبدالله. وقال أبو نصر البخاري: أولاد الحسن بن علي ثلاثة عشر ذكراً وست بنات.

وذكر في إعلام الورى أن أولاده ستة عشر، وزاد فيهم أبا بكر وقال: قتل عبدالله مع الحسن(علیه السلام)(1).

وأما ابن الخشاب فقال: إن للإمام الحسن(علیه السلام) أحد عشر ابناً وبنتاً واحدة، وهم عبدالله، والقاسم، والحسن، وزيد، وعمر، وعبدالله، وعبدالرحمن، وأحمد، وإسماعيل، والحسين، وعقيل، والبنت اسمها فاطمة وكنيتها أم الحسن، وهي أم محمد الباقر بن علي(2).

وذكر مصدر واحد ابنة أخرى بتسمية لم تذكرها المصادر الأخَر، فقد ذكر الطبراني في أخبار الحسن بن علي(علیه السلام) قال: حدثنا العباس بن حمدان الأصفهاني حدثنا شعيب بن عبدالحميد الطحان حدثنا يزيد بن هارون حدثناشيبان عن الحكم بن عبدالله بن خطاف عن أم أنيس بنت الحسن بن علي رضي الله عنهما عن أبيها قال: قالوا: يا رسول الله، أرأيت قول الله عز وجل: «إنّ اللَّهَ وَمَلَائکتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيِّ»(3).

ص: 207


1- المجلسي، البحار: ج18، ص 359. نقلًا عن إعلام الورى ج1/ ص 416.
2- الشبلنجي، ص 974. نقلًا عن تاريخ مواليد الأئمة لابن الخشاب البغدادي: 76، الحدائق الوردية: 107، تاريخ اليعقوب: 2 / 320، مروج الذهب: 3/ 77، تاريخ الطبري: 5/ 461، ابن الأثير: 2/ 578، المعارف: 212.
3- الطبراني، أخبار الحسن بن علي، ص 150.

أما أم أنيس فلم يجد لها الباحثون ذكراً في نسب الإمام الحسن(علیه السلام)(1)، وأما ما أورده ابن الخشاب بأن الإمام(علیه السلام) لديه ابنة واحدة اسمها فاطمة، فنقول: إن المصادر الأخَر قد أكدت وجود أكثر من بنت وبأسماء وكنى مختلفة وإن كان رأينا أن الأمر اختلط على ابن الخشاب، لأن أكثر من بنت للإمام الحسن(علیه السلام) قد حملت اسم فاطمة وإن كانت تكنى بأم الحسن أو أم الحسين.. وهكذا، وذلك لعظم محبتهم لوالدتهم مولاتنا فاطمة الزهراء(علیها السلام)، حتى أن الإمام الحسين(علیه السلام) وقد سار على نهج أخيه قد نقل عنه قوله: والله لو كان لي ألف جارية – يقصد ابنة – لسميتها فاطمة.

أما زوجاته المعرفات فأشهرهن: خولة بنت منظور بن زياد (زبان) الفزارية، وهي من سيدات النساء في وفور عقلها وكمالها. وهي أم الحسن بن الحسن(علیه السلام)(2).

وروى محمد بن سيرين أن الإمام الحسن(علیه السلام) خطب إلى منظور بن زبان ابنته خولة فقال: والله إني لأنكحك وإني لأعلم أنك غلق طلق ملق، غير أنك أكرم العرب بيتاً، وأكرمهم نفساً فولد منها الحسن بن الحسن(3).

وكذلك جاء ذكرها في الإرشاد للمفيد، الحسن بن الحسن أمه خولة بنت منظور الفزارية)(4).

ويبدو أنها لم تلد غيره من الإمام الحسن(علیه السلام)، وقد اشتهر ابنها (بالحسن بن الحسن المثنى)، حسب رواية الشيخ المفيد، وإن كان رأي ابن شهرآشوب أن أضاف لها من الأولاد (الحسين الأثرم بن الحسن)(5).

ص: 208


1- هامش المحقق، في ص 150 من كتاب أخبار الطبراني.
2- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 364.
3- ابن شهرآشوب، المناقب: ج4/ ص 43.
4- المفيد، الإرشاد، ص 194. باب في ذكر ولد الحسن(علیه السلام).
5- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج3/ ص 192. الحسين بن الحسن الملقب بالأثرم وأخوه طلحة بن الحسن وأختهما فاطمة بنت الحسن أمهم أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التيمي. ينظر: الحائري، ص 59.

وقد ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي في كتابه شرح نهج البلاغة أن الإمام الحسن(علیه السلام)، تزوج خولة بنت منظور بن زبان الفزارية، وأمها مليكة بنت خارجة بن سنان، فولدت له الحسن بن الحسن.وفي رواية أخرى أن محمد بن طلحة تزوج خولة بنت منظور، فولدت له إبراهيم ابن محمد، ثم قتل عنها يوم الجمل، فتزوجها الحسن بن علي، فولدت له الحسن بن الحسن(1).

وذكرت السيدة زينب بنت علي العاملية في ترجمة خولة ما حاصله: إنها لما بلغت مبالغ النساء خطبها جملة من وجهاء قريش وأشرافهم، فامتنع أبوها من إجابتهم، لأنهم ليسوا بأكفاء لها، ثم أنه طلق أمها (مليكة بنت خارجة) فتزوجها من بعده طلحة بن عبيد الله، وتزوج ابنه محمد خولة فولدت له إبراهيم وداود وأم القاسم، وقتل زوجها محمد في واقعة الجمل، فخطبها جماعة من الناس، فجعلت أمرها بيد الحسن فتزوجها(2).

وتذكر الروايات التاريخية أنها كانت من خيرة نساء الحسن وأكثرهن ولعاً به وقد بقيت عنده إلى أن استشهد. وإن كان ابن عساكر يذهب إلى غير ذلك، بقوله: «كان الحسن بن علي قل ما يفارقه أربع ضرائر، وكان صاحب ضرائر، فكانت عنده ابنة منظور بن سيّار الفزاري وعنده امرأة من بني أسد من آل خزيم فطلقهما، وبعث إلى كل واحدة منهما بعشرة آلاف درهم وزقاق – جلد يُجز ولا يُنتف ويستعمل لحمل الماء – من عسل متعة، وقال لرسوله يسار بن سعيد بن يسار – مولاه –: احفظ ما يقولان لك.

فقالت الفزارية: بارك الله فيه وجزاه خيراً، وقالت الأسدية: متاع قليل من حبيب

ص: 209


1- مصطفوي: ص 248.
2- الهمداني: ص 723.

مفارق فرجّع الأسدية وترك الفزارية»(1).

وعن الحسن بن سعد عن أبيه قال: متع الحسن(علیه السلام) امرأتين من نسائه بعد طلاقهما بعشرين ألفاً، وزقين من عسل، فقالت إحداهما وأراها الحنفية متاع قليل من حبيب مفارق(2).

وقد ذكر المجلسي الرواية ذاتها بصورة أخرى..، عن الحسن بن سعيد عن أبيه قال: كان تحت الحسن بن علي(علیه السلام) امرأتان تميمية وجعفية فطلقهما جميعاً وبعثني إليهما، وقال: أخبرهما فليعتدا وأخبرني بم يقولان، ومتعهم العشرة اللاف وكل واحدة منهم بكذا وكذا من العسل والسمن، فأتيت الجعفية فقلت: اعتدي، فتنفست الصعداء ثم قالت: متاع قليل من حبيب مفارق، وأما التميمية فلم تدر ما (اعتدي)حتى قال لها النساء، فسكتت، فأخبرته (علیه السلام) بقول الجعفية فنكت في الأرض ثم قال: لو كنت مراجعاً لامرأة لراجعتها(3).

ولكن الثابت من القول أن الإمام الحسن(علیه السلام) لم يوقع الطلاق إلا في طلق اثنتين، لداعٍ اقتضى ذلك، إحداهما: حفصة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر، التي كان يهواها المنذر، فوشى بها للإمام بشيء لم يذكره التاريخ، والظاهر أنه أمر لا يناسب مع الإمام أن يبقيها في عصمته، بل ويكفي من ذلك الوشاية نفسها، التي قد تصبح بعد ذلك وسيلة للتشهير.

والثانية: امرأة من شيبان من آل همام بن مرة وكان طلاقه لها بعد أن قيل له بأنها ترى رأي الخوارج، وقد اعتذر الإمام عن طلاقها بأنه يكره أن يضم إلى نحره جمرة من

ص: 210


1- الزبيدي، ص 255. نقلًا عن تاريخ دمشق: ص 152.
2- الشبلنجي، ص 474.
3- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 245.

جمر جهنم(1).

وقول (متاع قليل من حبيب مفارق) ذكر أن قائلته هي عائشة الخثعمية، وقد تزوجها الإمام الحسن(علیه السلام) في حياة والده، ولما قتل الإمام علي(علیه السلام) أقبلت إلى الإمام الحسن فأظهرت الشماتة بوفاة أبيه فقالت له: «لتهنئك الخلافة» ولما علم(علیه السلام) شماتتها قال لها (ألقتلِ عليّ تظهرين الشماتة؟ إذهبي فأنت طالق). فتلفعت بثيابها وقعدت حتى انقضت عدتها، فبعث لها بقية صداقها وعشرة آلاف درهم صدقة لتستعين بها على أمورها. فلما وصلت إليها، قالت: «متاع قليل من حبيب مفارق»، ولم يذكر التاريخ أن الإمام طلق زوجة سوى هذه، وأم كلثوم وامرأة من بني شيبان(2).

أما أم كلثوم بنت الفضل بن العباس، فإنها كانت زوجة الحسن بن علي فولدت له محمداً وجعفراً، ثم فارقها، فتزوجها أبو موسى الأشعري فولدت له موسى ثم مات عنها.

وعوداً لسيرة السيدة خولة الفزارية زوجة الإمام الحسن(علیه السلام) نرجح أنها لم تفارقه وكانت عنده من الأثيرات، حيث قيل: إنه ليلة اقترانه بها بات معها على سطح الدار، فشدت خمارها برجله، وشدت الطرف الآخر بخلخالها، فلمااستيقظ وجد ذلك، فسألها عنه، فقالت له معربة عن إخلاصها وحرصها على حياته: «خشيت أن تقوم من وسن النوم فتسقط، فأكون أسأم سخلة على العرب» فلما رأى منها ذلك أحبها وأقام عندها سبعة أيام(3). وقد بقت عنده حولا لم تتزين ولم تكتحل حتى رزقت منه السيد (الحسن) فتزينت فدخل عليها الإمام الحسن(علیه السلام) فرآها متزينة. فقال لها:« ما هذا؟» فقالت له:

ص: 211


1- الهمداني: ص 721.
2- المصدر نفسه: ص 725.
3- المصدر نفسه: ص 723.

«خفت أن أتزين وأتصنع فتقول النساء تجملت فلم تر عنده شيئاً! فأما وقد رزقت ولداً فلا أبالي»..، وقد جزعت على الإمام جزعاً شديداً، فقال لها أبوها مواسياً:

نبئت خولة أم--س قد جزعت م--ن أن تنوب ن--وائ--ب الدهر

لا تجزعي يا خ--ول واصطبري إن ال-ك-رام ن--ب--وا ع-لى الصبر

وفي الحدائق الوردية أن ابنها الحسن بن الحسن كان وصي أبية ووالي صدقته، وقال محمد بن طلحة الشافعي كان العقب للإمام الحسن من ولده الحسن المثنى وأخاه زيد، ولم يكن لغيرهما منهم عقب. وكان الحسن بن الحسن حضر مع عمه الحسين(علیه السلام) يوم الطف، فلما قتل الحسين(علیه السلام) وأسر الباقون من أهله جاءه أسماء بن خارجة فانتزعه من بين الأسارى، وقال: والله لا يوصل إلى ابن خولة أبداً(1).

فقال عمر بن سعد: دعوا لأبي حسان ابن أخته، ويقال إنه أسر وكان به جراح قد أشفي منها.

وروي أن الحسن بن الحسن(علیه السلام) خطب إلى عمه الحسين(علیه السلام) إحدى ابنتيه فقال له الحسين(علیه السلام): اختر يا بني أحبهم إليك فاستحيى الحسن ولم يحر جواباً فقال له الحسين(علیه السلام):

فإني قد اخترت لك ابنتي فاطمة، فهي أكثرهما شبهاً بفاطمة أمي بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله).

وقبض الحسن بن الحسن وله خمس وثلاثون سنة رحمه الله، ولما مات ضربت زوجته فاطمة بنت الحسين بن علي(علیه السلام) على قبره فسطاطاً حولاً كاملاً...، ومضى الحسن المثنى ولم يدّعِ الإمامة ولا ادعاها له مدعٍ(2).إن سيرة السيدة خولة زوج الإمام الحسن(علیه السلام) تظهر مدى الحب الذي كانت تكنه للإمام وفي المقابل يعطينا دليلاً على حسن خلقه ومحبته لأزواجه ورفقه بهن وطيب

ص: 212


1- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 362.
2- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 362. نقلًا عن الإرشاد للمفيد: ج2/ ص 23.

معاشرته، والذي كان أحد أسباب الجذب والاستقطاب للبيوتات الأصيلة الراغبة في تزويجه، مما يعطي انطباعاً إيجابياً عن الإمام الحسن(علیه السلام)، كزوج ورفيق حياة جعل الكثيرات يتألمن لفراقه أو مفارقة الإمام لهن.

قال عبدالله بن الحسن بن الحسن:... وكان لا يفارق امرأة إلا وهي تحبه(1).

ومدعاة المفارقة هنا حسب ما جاء في الروايات أنه(علیه السلام) كان أرخى ستره على مائتي حرة(2).

فتدل هذه الروايات على أن تزوجه كان بعنوان التأمين والحفظ والرحمة والضبط وإرخاء الستر عليهن ورفع حوائجهن والتربية والتأديب وسوقهن إلى الله وإلى رسوله ودينه ،وبهذا النظر ترى ما ذكر من أن كل زوجة تفارقه إلا وهي تحبه.

وقد كان ابن الزبير يقول: والله ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي(3).

وجاء في طبقات ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثنا عبدالله بن جعفر، عن عبدالله بن حسن، قال:... وكان قلّ امرأة تزوجها إلا أحبته وصبت به(4).

فأي من النساء ترضى إيقاع الطلاق بها، وتحب من يطلقها إن لم يكن في الأمر إصلاح أو مصلحة تصب في خانتها.

ويبقى الدليل الواضح، والبرهان الناصع على حسن معاشرة ابن الزهراء(علیها السلام) لزوجاته، أنه كان أشبه الخلق بالنبي المصطفى(صلی الله علیه وآله) كما أسلفنا في مباحث الفصل الأول من هذا الكتاب.

ص: 213


1- مصطفوي، ص 251. نقلًا عن تهذيب التهذيب: ج2/ ص 298.
2- المصدر نفسه. نقلًا عن البدء والتاريخ: ج5/ ص 74.
3- البداية والنهاية: ج8/ ص 37.
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، ترجمة الإمام الحسن(علیه السلام): ص 82.

ولقد ذكرت لنا الروايات العديد من الحوادث الداعمة لهذا الاعتقاد..، جاء في تفسير الثعلبي وحلية أبي نعيم قال محمد بن سيرين: إن الحسن بن علي(علیه السلام) تزوج امرأة فبعث إليها مائة جارية مع كل جارية ألف درهم.وقال أنس: حيّت جارية للحسن بن علي(علیه السلام) بطاقة ريحان فقال لها: أنت حرة لوجه الله، فقلت له في ذلك فقال: أدبنا الله تعالى فقال: «وإذا حُيِّيتُمْ بتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بأَحْسَنَ مِنْهَا»(1)– الآية – وكان أحسن منها إعتاقها(2).

ولم تذكر لنا الروايات التاريخية أن الإمام الحسن(علیه السلام) قد أساء لزوجة حتى وإن كانت أسوأ النساء، بل إن الإمام يقابل سوء خلقها معه بالإحسان إليها في حياته وبعد مماته..، فيذكر أن زوجته أم إسحاق كانت من أجمل النساء بقريش وأسوأهن خلقاً(3).

وهي أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله، وولدت له ابناً سماه طلحة وبنتاً أسماها فاطمة ،وأبا بكر(في رواية الشيخ الطبرسي فقط)، ولم يذكر لنا المؤرخون شيئاً عن سوء خلقها أو معاملتها لزوجها، ولكن ذكر لنا حسن صنيع الإمام الحسن(علیه السلام) معها، عندما حضرته الوفاة دعا بالحسين، فقال: يا أخي، إني أرضى هذه المرأة لك، فلا تخرجن من بيوتكم، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فلما توفي تزوجها الحسين.

وهنا لابد من ملاحظة..، إن كانت أم إسحاق حقاً سيئة الخلق فلِمَ أراد الإمام الحسن(علیه السلام) أن يحفظها ويضعها تحت جناح أخيه الحسين(علیه السلام) بعد وفاته؟ إلا رحمة منه ورأفة بها من أن يساء إليها إذا ما اقترنت بزوج لا يملك حلم الإمام الحسن(علیه السلام)، ولا يتحمل سوء خلقها عند معاشرتها!؟

ص: 214


1- سورة النساء، آية 86.
2- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 245. باب مكارم أخلاقه وعلمه وعمله وفضله(علیه السلام).
3- مصطفوي: ص 248. نقلًا عن الأغاني: ج18/ ص 203.

ولقد أظهرت لنا الروايات الواردة في طريقة عقد زيجات الإمام الحسن ومفارقته لبعضهن، أن الإمام(علیه السلام) كان يمسك بالمعروف أو يسرح بالإحسان، وعلى أي حال فأزواجه كنّ راضيات في الحالين، وهو كما قال تعالى: «وَعَاشِرُوهُنَّ باِلْمَعْرُوفِ» ، «وَإذِاَ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ وَلَاتُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لتِعْتَدُوا» و«فَاِذاَ بَلَغْنَ أَجَلهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ»(1).

قال ابن أبي الحديد، قال أبو جعفر محمد بن حبيب: كان الحسن(علیه السلام) إذا أراد أن يطلق امرأة جلس إليها فقال: أيسرك أن أهب لك كذا وكذا، فتقول له: ما شئت أو نعم، فيقول: هو لك، فإذا قام أرسل إليها بالطلاق وبما سمى لها(2).وهكذا نجد أن الإمام الحسن(علیه السلام) كان سخياً شديد السخاء مع زوجاته في الإقبال والإدبار معاً، جاء في تفسير الثعلبي وحلية أبي نعيم قال محمد بن سيرين: إن الحسن بن علي تزوج امرأة فبعث إليها مائة جارية مع كل جارية ألف درهم(3)..،

وليس هذا بكثير على ابن الأنبياء وأحد رافدي الكوثر، حيث نسبت إليه هذه الأبيات:

إن السخاء على العباد فريضة لله ي--ق--رأ في ك--ت--اب محكم

وع-د العباد الأسخياء جنانه وأع---د للبخلاء ن---ار جهنم

م--ن ك-ان لا تندى ي---داه بنائل للراغبين فلیس ذاك بمسلم(4)

ص: 215


1- مصطفوي، ص 250.
2- المجلسي، بحار الأنوار: ج18،/ ص 463. نقلًا عن شرح النهج لابن أبي الحديد: ج61، ص 12.
3- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ص 251. نقلًا عن تفسير الثعلبي: 3 / 278، حلة الأولياء: 2 / 38 ؛ المبسوط للطوسي: 4 / 272.
4- المصدر نفسه: ص 154.

ولم ترفدنا المصادر التاريخية بكثير من أحوال الإمام السبط(علیه السلام) مع بناته واللواتي كن بين واحدة وثمان(1)، حسب مختلف الروايات، وهذا أمر متوقع من بيوت مباركة يتناثر من جدرانها زغب ريش جبرائيل(علیه السلام)، حيث تغلق مصاراعها بمفاتيح الرحمة والتعاطف والستر والعفاف والصون الشديد لحرائرها..، وهناك رواية يتيمة تناقلتها الكتب، وذُكِرت في البحار مفادها أن إحدى بنات الإمام الحسن(علیه السلام) قد ماتت، فكتب قوم من أصحابه كتاباً إليه يعزّونه عن ابنته المتوفاة، فانظر إلى جميل قول الإمام في رده عليهم يكاتبهم: «أما بعد فقد بلغتي كتابكم تعزونني بفلانة فعند الله أحتسبها تسليمًا لقضائه وصبراً على بلائه فإن أوجعتنا المصائب وفجعتنا النوائب بالأحبة المألوفة التي كانت بنا حفية والأخوان المحبين الذين كان يسر بهم الناظرون وتقر بهم العيون أضحوا قد اخترمتهم الأيام ونزل بهم الحمم فخلفوا الخلوف وأودت بهم الحتوف فهم صرعى في عساكر الموتى متجاورون في غير محلة التجاور ولا صلات بينهم ولا تزاور ولا يتلاقون عن قرب جوارهم أجسامهم نائية من أهلها خالية من أربابها قد أجشعها إخوانها فلم أر مثل دارها داراً ولا مثل قرارها قراراً في بيوت موحشة وطلول مضجعة قد صارت في تلك الديار الموحشة وخرجت من الديار المؤنسة ففارقتها من غير قلى فاستودعتها للبلى وكانت أمة مملوكة سلكت سبيلاً مسلوكة صار إليها الأولون وسيصي إليها الخرون والسلام»(2).وقد ذكرت بعض المصادر من تزوج من بنات الإمام الحسن(علیه السلام)، وهن: أم الحسن وأم عبدالله، وأم سلمة ورقية، أما زوج أم الحسن فكان عبدالله بن الزبير بن العوام،

ص: 216


1- في الحدائق الوردية: البنات ثمان: فاطمة وأم عبدالله وزينب وأم الحسن وأم الحسين وأم سلمة ورقية وفاطمة الصغرى.. وكذلك قال الواقدي وهشام، وفي الصفوة: كان للحسن ثماني بنات.
2- الحائري، ص 59. نقلًا عن البحار: ج43/ ص 336.

وبعد مقتل عبدالله أخذها أخوها زيد معه إلى المدينة(1).

وتزوجت رقية من عمر بن الزبير بن العوام، وأما أم سلمة فتزوجت من عمر بن زين العابدين(علیه السلام) على قول بعض النسابة.

ولقد امتازت أم عبدالله بين بنات الإمام الحسن(علیه السلام) بالجلالة وعظمة الشأن، وكانت زوج الإمام زين العابدين(علیه السلام) ورزق منها بأربعة أبناء هم: الإمام محمد الباقر(علیه السلام) والحسن والحسين وعبدالله الباهر، فهي بنت إمام وزوج إمام وأم إمام.

وهكذا كانت إحدى بنات الإمام الحسن(علیه السلام) سبباً في حفظ نسل النبوة وسلالة الأوصياء، وكانت نِعمَ الخلف لخير سلف، أينعت في طرفها أفرع شجرة النبوة الوارفة وحافظت على سيرتها العطرة.

إن زوجات الإمام الحسن(علیه السلام) وبناته، كن خير رفيق حياة له، وتواصل أثرهن الطيب في حياته المباركة، مكملاً لأثر الأم فاطمة(علیها السلام) والأخت زينب(علیها السلام) في أيامه القصيرة التي عاشها بين الأنام، ولم تعكر صفو هذه الصورة النقية المتألقة من حسن المعايشة والمعشر، إلا امرأة واحدة، هي الزوجة القاتلة جعدة بنت الآشعث، فكانت أشقى الزوجات في سيرة الإمام(علیه السلام) وعلى مدى التاريخ. وهذا ما سنتناوله في المبحث التالي.

ص: 217


1- الزبيدي، ص 279.

ص: 218

المبحث الثاني: جعدة بنت الاأشعث ...أشقى الزوجات

لقد منحت الإمام الحسن(علیه السلام) الحياة، امرأة..

ولقد سقته حمام الموت وسمه الزعاف، امرأة أيضاً...وشتان ما بين الموقفين، وما بين المرأتين...

أقبل السبط الشهيد(علیه السلام) على الدنيا طفلاً تفتحت أزاهير محبته في أحضان أطهر أم في الوجود، زهراء النبوة وبضعة المصطفى، فاطمة.

وغادر الدنيا مقطع الكبد من سقيا السم على يد أشقى النساء، الزوجة القاتلة بنت الأشعث المنافق، عرف النار.

قدمنا في بحثنا السالف، أن الروايات التاريخية لم تذكر أن الإمام الحسن(علیه السلام) قد أساء لزوجة من أزواجه، أو أن إحداهن قد أساءت له، سواء كن بالعدد المحصي بالاسم والكنية واللقب المعرّف الصريح النسب، أو كن بالعدد المبهم المبالغ فيه والغامض الذي ذكر، بل على العكس من ذلك، فلقد شغفت به حباً وتقرباً كل نسائه، إن لم يكن جميع من عاصره. كيف لا؟ وهو الحسن ريحانة محمد وباكورة النبع الكوثري وسيد شباب أهل الجنة. وأشبه الناس برسول الله(صلی الله علیه وآله)(1) والذي قال فيه ابن الزبير: والله ما قامت

ص: 219


1- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 343.

النساء عن مثل الحسن بن علي(1).

وقال محمد بن إسحق: ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله(صلی الله علیه وآله)، ما بلغ الحسن ابن علي. كان يبسط له على باب داره فإذا خرج وجلس انقطع الطريق، فما يمر أحد من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته فمر الناس.

ونزل عن راحلته في طريق مكة فمشى، فما من خلق الله أحد إلا نزل ومشى حتى سعد بن أبي وقاص، فقد نزل ومشى إلى جنبه(2).

وكان إذا حج وطاف بالبيت، يكاد الناس يحطمونه مما يزدحمون للسلام عليه(علیه السلام)(3).أما إذا تكلم الإمام الحسن(علیه السلام)، ويجتمع حوله الناس، فيتكلم بما يشفي غليل السائلين ويقطع حجج المجادلين(4).

ولا يكاد يكتفي أحد من رحيق حديثه ومنطقه، قال ابن سعد في طبقاته الكبرى، أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق، قال: ما تكلم عندي أحد كان أحب إلي إذا تكلم أن لا يسكت من الحسن بن علي، وما سمعت منه كلمة فحش قط إلا مرة، فإنه بين حسين بن علي وعمرو بن عثمان بن عفان خصومة في أرض فعرض حسين أمراً لم يرضه عمرو، فقال الحسن: فليس له عندنا إلا ما رغم أنفه. قال: فهذا أشد كلمة فحش سمعتها منه قط(5).

إن رجلاً كان يحيى بطاقة ريحان فيعتق رقبة لوجه الله، ويدخل الماء فلا ينزع عنه

ص: 220


1- راضي آل ياسين، ص 32. نقلًا عن ابن كثير: ج8/ ص 37.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه: ص 36.
4- ابن الصباغ، الفصول المهمة: ص 159.
5- ابن سعد، الطبقات الكبرى، ترجمة الإمام الحسن(علیه السلام): ص 59.

ثوباً حياءً هل يجازى من زوجه سقياً بالسم مراراً؟!

عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: دخل الحسن بن علي الفرات في بردة كانت عليه قال: فقلت له: لو نزعت ثوبك، فقال لي: يا ابا عبدالرحمن إن للماء سكاناً(1).

لقد كان الإمام الحسن(علیه السلام) شبيه النبي يوسف(علیه السلام) تدخل عليه المرأة الجميلة وهو في صلاته، فتقول له: قم فأصب مني... فيقول لها: إليك عني لا تحرقيني بالنار ونفسك(2).

نقول إن رجلاً هذه طبائعه وخصاله لمَ تقدم زوجته على قتله؟

إن أي زوجة من أزواج الإمام الحسن(علیه السلام) ما كانت لتقدم على ما أقدمت عليه بنت الأشعث لعنها الله، لقد تقلدت هذه الزوجة القاتلة بنت القتلة عار جريمتها مدى الدهر وكانت أشقى الزوجات. فقد اقترفت جريمتها وتحملت وزرها في الحياة الدنيا والآخرة، بعد أن شرك أخوها بدم الحسين وأبوها بدم أمير المؤمنين.فمن هي هذه الزوجة الشقية؟ وكيف تزوج بها الإمام(علیه السلام)؟ ولم ارتكبت جريمتها مع سبق الإصرار والترصد؟

اختلف المؤرخون في اسمها، فقيل: سكينة، وقيل: شعثاء، وقيل: عائشة، والأصح أنها جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي، وكما جاء في الاستيعاب(ج1، ص 331) الأشعث هو ابن قيس بن معد يكرب الكندي، قدم على رسول الله(صلی الله علیه وآله) سنة عشر في وفد كندة وكان رئيسهم، وكان في الجاهلية رئيسٌ مطاعٌ في كندة، وكان في الإسلام وجهٌ في قومه، ارتد بعد رسول الله(صلی الله علیه وآله) ثم رجع في خلافة أبي بكر، وزوج أبو بكر أخته أم فروة منه، وهي أم محمد بن الأشعث. مات سنة اثنتين وأربعين، وصلى عليه الحسن بن

ص: 221


1- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج4/ ص 19. في مكارم أخلاقه(علیه السلام).
2- المصدر نفسه، ص 18.

علي(علیه السلام). ونزل الأشعث بن قيس الكوفة وابتنى داراً في كندة ومات بها، والحسن بن علي بن أبي طالب يومئذ بالكوفة حين صالح معاوية وهو صلّى عليه(1).

ولما مات الأشعث وكانت ابنته تحت الحسن بن علي، قال الحسن: إذا غسلتموه فلا تهيجوه حتى تؤذنوني، فآذنوه فجاء فوضأه بالحنوط وضوءاً(2).

وكان الأشعث قد احتال في تزويج ابنته من الإمام الحسن(علیه السلام)، فقد خطب الإمام علي(علیه السلام) ابنة أم عمران بنت سعيد لابنه الحسن، فاجتمع والدها بالأشعث فأخبره الخبر، فقال له: غررت بنفسك غداً يفخر على ابنتك ويقول لها: أنا ابن رسول الله وابن أمير المؤمنين، ولكن هل لك في ابن عمها فهي له وهو لها! فقال: ومن ذاك؟ قال: محمد بن الأشعث. قال: قد زوجته.

وبعد أن مكر الأشعث بصاحبه، توجه إلى أمير المؤمنين ودخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين! خطبت بنت سعيد للحسن؟ قال: نعم، فقال: هل لك في أشرف منها بيتاً وأكرم منها حسباً وأتم جمالاً وأكثر مالا؟ً قال: ومَن هي؟ قال: جعدة بنت الأشعث .فقال: إنا قد قاولنا رجلاً فليس إلى رد ما قاولنا به من سبيل. فقال له: إنه قد زوجها من محمد بنالأشعث. قال: متى؟ قال: الساعة بالباب، فتزوج الحسن جعدة. فلما لقي سعيد الأشعث قال له: يا أعور! خدعتني. قال: أنت يا أعور جئت تستشير في ابن رسول الله ألست أحمق.

ثم جاء الأشعث إلى الحسن: فقال له: يا أبا محمد ألا تزور أهلك؟ فلما أراد ذلك، قال له: لا تمشي والله إلا على أردية قومي، فقامت له كندة سماطين وجعلت له أرديتها

ص: 222


1- ابن سعد، الطبقات: ج6/ ص 22.
2- المصدر نفسه، ص 23.

بسطاً من بابه إلى باب الأشعث(1).

وقد اتفق أكثر المؤرخين على أن هذا الزواج قد كان من احتيال الأشعث بن قيس– لعنه الله–كما ذكره ابن الجوزي في الأذكياء: «ومن المنقول عن الأشعث بن قيس، عن الهيثم بن عدي قال: أخبرنا ابن عباس قال: خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على الحسن ابنة أم عمران بنت سعيد بن قيس الهمداني، فقال: فوقي أمير ذو إمرة، يعني أمها، فقال: قم فوامرها. فأخبره الخبر، فقال: ما تريد إلى الحسن يفخر عليها، ولا ينصفها، ويسيء إليها، فيقول: ابن رسول الله وابن أمير المؤمنين؟!...»(2).

وأورد بقية الخبر كما في الرواية السابقة.

من نص الروايات المتطابقة نجد أن هذا الزواج قد تم بالمكر والاحتيال من قبل والد الزوجة الأشعث بن قيس، وأنه أخذ في تعداد مزايا ابنته للترغيب في تزويجها من الإمام الحسن (علیه السلام) بقوله للإمام علي(علیه السلام): هل لك في أشرف منها بيتاً وأكرم منها حسباً وأتم منها جمالاً وأكثر مالاً..، وكأن الإمامين يحفلان بهذه المزايا أو أنهما جاهلان بها (حاشا الله)..، ويبدو أن الإمام الحسن(علیه السلام) لم يسارع للاقتران ببنت الأشعث حال الاتفاق على ذلك، حتى أن الأشعث قد ألح على الإمام (علیه السلام) بالقول: يا أبا محمد! ألا تزور أهلك؟!!

وقد بلغ من الأشعث شدة ابتهاجه بزواج ابنته من الإمام الحسن ونجاح خطته أنه فرش الأرض تحت قدمي الإمام من بابه إلى باب العروس..، وبأي شيء فرشها بأردية قومه!!

ص: 223


1- مصطفوي، ص 246. نقلًا عن تهذيب ابن عساكر: ج3/ ص 73.
2- الهمداني، ص 724.

وهذا الفعل ليس بكثير على ريحانة رسول الله(صلی الله علیه وآله) ولكنه أظهر مدى نفاق الأشعث وتزلفه وهو طبعه الذي عرف به طوال حياته من نفاق وغدر وحيلة ومكر، حتى أطلق عليه أبناء قومه لقب عرف النار. حيثكان الأكثر شؤماً وأذىً عليهم. وعن الإمام الصادق(علیه السلام) قال: إن الأشعث بن قيس لعنه الله شرك في دم أمي المؤمنين (علیه السلام) وابنته جعدة سمت الحسن(علیه السلام) وابنه محمداً شرك في دم الحسين(علیه السلام).(1)

وإن كان البيت الذي خرجت منه هذه المرأة القاتلة هذه أحواله وأفعاله، فلا عجب أن أقدمت على سم سيد الشهداء(علیه السلام) مراراً لتتخلص منه طمعاً في مال وفير وزوج جديد!؟

ويبدو أن لفعلها الإجرامي هذا أسباب أُخَر ذهب إليها الباحثون، فقيل أن جعدة التي تزوجها الإمام الحسن (علیه السلام) في عهد أبيه أمير المؤمنين، أنها كانت الزوجة الأولى للإمام (علیه السلام)، وأنها كانت عنده إلى أن توفي، ولم يُذكر لها ولد، ويحتمل أن يكون هذا هو الباعث لتزوج الإمام الحسن (علیه السلام) نساءً أُخَر، كما أن هذا المعنى) بأنها لم تلد وتزوج الإمام بعدها (هو الموجب لحدوث البغضاء وانتفاء المحبة والوفاء منها)(2).

ويذهب الباحث في رأيه متبنياً أن زوجة الإمام الوحيدة التي تزوجها باكر بعقد نكاح دائمي رسمي هي: جعدة، وأما غيرها فهي إما أم ولد أو ثيب، وإنما تزوجها إما للإجابة، أو للتأمين، أو لإظهار المحبة والعطف، أو للولد، أو لأغراض إلهية أُخَر(3).

والحقيقة أن زواج الإمام الحسن (علیه السلام) بزوجات أخريات وإنجابه منهن، وعدم إنجاب زوجته جعدة ليس بسبب أو مبرر لفعلتها الشنعاء تلك، بل أن كونها الزوجة

ص: 224


1- المجلسي، البحار: ج42/ ص 228.
2- مصطفوي: ص 249.
3- المصدر نفسه.

الأولى والباكر الوحيدة بين زوجاته والزوجة الرسمية التي عاشرها منذ بدء حياته وحتى نهاية حياته، وعدم تطليقه لها أو مفارقتها، وهو (كثير الزيجات حسب ادعائهم) ما يجعلها تحفظ له هذا الجميل وتزداد وداً وتعلقاً به لا أن تعمد إلى قتله بالسم مع سبق الإصرار والترصد.

والقول عندنا، إن الزوجة جعدة كانت امرأة سوء ابتلي بها الإمام(علیه السلام)، وهذا ما سيتضح من أقواله فيها عند احتضاره(علیه السلام). والثابت أن أشقى الزوجات جعدة بنت الأشعث– لعنها الله– قد أظهرت عمق عداوتها وأهل بيتهاونفاقهم وبغضهم لآل بيت الرسول وبيت الإمامة، وفعلت فعلتها عامدة ليفضح الباري زيف إسلامهم ودينهم وليدلل الله عز وجل أن قرب المرء من الأنبياء وأبناء الأنبياء أو الاقتران بهم ليس بحاجز عن ارتكاب الموبقات والكبائر، وما تاريخ الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه ببعيد عن أذهان المتفكرين للعثور على هكذا نماذج بشرية غادرت إنسانيتها وركنت إلى فعل الشياطين.

ويبقى الثابت في الروايات أن جعدة بنت الأشعث هي التي سمّت الإمام الحسن(علیه السلام) وقضت على حياته الشريفة(1).

وليس كما يحاول البعض إبعاد التهمة عنها وعن معاوية اللعين الذي أغواها.

عن أبي بكر الحضرمي، قال: إن جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي سمّت الحسن بن علي(علیه السلام) وسمّت مولاة له، فأما مولاته فقاءت السم وأما الحسن فاستمسك في بطنه ثم انتفط به فمات(2).

ص: 225


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج18/ ص 347.
2- الكافي: ج1/ ص 462، باب مولد الحسن بن علي(علیه السلام) حديث 3.

وعن يحى بن حماد قال: أخبرنا أبو عوانة عن المغيرة، عن أم موسى، أن جعدة بنت الأشعث بن قيس سقت الحسن السم فاشتكى منه شكاة. قال: فكان يوضع تحته طست وترفع أخرى نحواً من أربعين يوماً(1).

وقال الحافظ الجنابذي:... وكان قد سُقِيَ السم مراراً وكان مرضه أربعين يوماً(2).

وفي روضة الواعظين في حديث عمير بن إسحاق أن الحسن قال: لقد سقيت السم مراراً ما سقيته مثل هذه المرة، لقد تقطعت قطعة قطعة من كبدي أقلبها بعود معي. وفي كتاب بحار الأنوار أنه قال(علیه السلام): سقيت السم مرتين وهذه الثالثة وقيل إنه سقي برادة الذهب(3). وقال ابن أبي الحديد: روى أبو الحسن المدائني، قال: سقي الحسن(علیه السلام) السم أربع مرات، فقال: لقد سقيته مراراً فم شق علي مثل مشقة هذه المرة(4).

وعن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، في حديث طويل قال: وهو يكلمني (يقصد الإمام الحسن(علیه السلام)) إذا تنخع الدم فدعا بطست فحمل من بين يديه ملآن مما خرج من جوفه من الدم، فقلت له: ما هذا يا بن رسول الله إنيلأراك وجعاً قال: أجل دسّ إلي هذا الطاغية من سقاني سمًا فقد وقع عليّ كبدي، فهو يخرج قطعاً كم ترى، قلت: أفلا تتداوى؟ قال: قد سقاني مرتين وهذه الثالثة لا أجد لها دواء(5). ولقد رقي إلي أنه كتب(قصد معاوية) إلى ملك الروم يسأله أن وجه إليه من السم القاتل شربة، فكتب إليه ملك الروم: أنه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا، فكتب إليه: إن هذا

ص: 226


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، ص 84.
2- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 853. نقلًا عن كشف الغمة: ج1/ ص 584 باب 11 في عمره(علیه السلام).
3- المصدر نفسه، ص 356. نقلًا عن المناقب.
4- ابن أبي الحديد، شرح النهج: ج16/ ص 10.
5- المجلسي، البحار: ج18/ ص 349.

ابن الرجل الذي خرج بأرض تهامة قد خرج يطلب ملك أبيه، وأنا أريد أن أدس إليه من يسقيه ذلك، فأريح العباد والبلاد منه، ووجه إليه بهدايا وألطاف، فوجه إليه ملك الروم بهذه الشربة التي دس بها فسقيتها واشترط عليه في ذلك شروطاً(1).

وروي أن معاوية دفع السم إلى امرأة الحسن بن علي(علیه السلام) جعدة بنت الأشعث وقال لها: اسقيه، فإذا مات هو زوجتك ابني يزيد، فلما سقته السم ومات صلوات الله عليه ،جاءت الملعونة إلى معاوية الملعون فقالت: زوجني يزيد، فقال: اذهبي فإن امرأة لا تصلح للحسن بن علي(علیه السلام) لا تصلح لابني يزيد(2).

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين(علیه السلام) قال: دخل الحسين على عمي الحسن لما سقي السم، فقام لحاجة الإنسان ثم رجع فقال: سقيت السم عدة مرات، وما سقيت مثل هذه، لقد لفظت طائفة من كبدي ورأيتني أقلبه بعود في يدي، فقال له الحسين(علیه السلام): يا أخي ومن سقاك؟ قال: وما تريد بذلك؟ فإن كان الذي أظنه فالله حسيبه، وإن كان غيه فم أحب أن يؤخذ بي بريء، فلم يلبث بعد ذلك إلا ثلاثاً حتى توفي رضي الله عنه(3).

وذكر أن امرأته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي سقته السم، وقد كان معاوية دس إليها: إنك إن احتلت في قتل الحسن وجهت إليك بمائة ألف درهم، وزوجتك من يزيد، فكان ذلك الذي بعثها على سمه، فلما مات وفى لها معاوية بالمال، وأرسل إليها: إنا نحب حياة يزيد، ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه. وذكر أن الحسن قال عند موته: لقد

ص: 227


1- المجلسي، البحار ، نقلًا عن الاحتجاج: ج2/ ص 71، رقم 159.
2- المصدر نفسه. نقلًا عن الاحتجاج: ج2/ ص 73 رقم 160.
3- المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر: ج1/ص427، دار الأندلس للطباعة والنشر ،ط2، بيروت ،1393ه-1973م.

حاقت شربته، وبلغ أمنيته، والله لا وفى لها بم وعد ولا صدق فيما قال(1).

هذا وقد روي كذلك عن الإمام الصادق(علیه السلام)، عن آبائه(علیهم السلام) أن الحسن(علیه السلام) قال لأهل بيته: إني أموت بالسم كما مات رسول الله(صلی الله علیه وآله) قالوا: ومن يفعل ذلك، قال امرأتي جعدة بنت الأشعث بن قيس، فإن معاوية يدس إليها ويأمرها بذلك، قالوا: أخرجها من منزلك، وباعدها عن نفسك، قال: كيف أخرجها ولم تفعل شيئاً ولو أخرجتها ما قتلني غيرها، وكان لها عذر عند الناس.

فما ذهبت الأيام حتى بعث إليها معاوية مالاً جسيماً، وجعل يمنيها بأن يعطيها مائة ألف درهم أيضاً ويزوجها من يزيد وحمل إليها شربة سم لتسقيها الحسن(علیه السلام) فانصرف إلى منزله وهو صائم فأخرجت له وقت الإفطار، وكان يوماً حاراً شربة لبن وقد ألقت فيها ذلك السم فشربها وقال: عدوة الله! قتلتيني قتلك الله والله لا تصيبن مني خلفاً، ولقد غرك وسخر منك، والله يخزيك ويخزيه، فمكث(علیه السلام) يومين ثم مضى، فغدر بها معاوية ولم يفِ لها بما عاهد عليه(2).

ولقد أجمعت المصادر التاريخية على أن زوجة الإمام الحسن (علیه السلام) جعدة بنت الأشعث (لعنها الله)، هي قاتلته، فها هو قول ابن تيمية شيخ السلفية: «إن بني أمية ليسوا بأعظم جرماً من بني إسرائيل، فمعاوية حين أمر بسم الحسن فهو من باب قتال بعضهم بعضاً». ويظهر من كلام ابن تيمية اعترافه بقيام معاوية بقتل الحسن بن علي(علیه السلام)، وقد ذكر هذه الحادثة الأليمة الكثير من الأعلام من أهل السنة مثل ابن سعد

ص: 228


1- المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر: ج1/ص427، دار الأندلس للطباعة والنشر ،ط2، بيروت ،1393ه-1973م.
2- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 353. نقلًا عن الخرائج والجرائح: ج1/ ص 241 في معجزات الإمام الحسن بن علي(علیه السلام) رقم 7.

والواقدي وابن عبدالبر والشعبي وابن عساكر والزمخشري وابن الجوزي الذي قال في تاريخه المنتظم: والصحيح أن الذي سمه هي جعدة بنت الأشعث بن قيس، وكانت تحت الحسن فدس إليها معاوية أن سمي الحسن وأزوجك يزيد(1).

وكذلك ذكر ابن الأثير في الكامل في التاريخ أن الحسن بن علي توفي بعد أن سمته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي(2).وجاء في بعض المصادر أن معاوية سمه سبعين مرة، فلم يعمل فيه السم، فأرسل إلى امرأته جعدة بنت محمد بن الأشعث بن قيس الكندي وبذل لها عشرين ألف دينار وإقطاع عشر ضياع من شعب سواد وسواد الكوفة، وضمن لها أن يزوجها يزيد ابنه، فسقت الحسن السم في برادة من الذهب في السويق المقند فلما استحكم فيه السم قاء كبده(3).

وعن أم بكر بنت المسور قالت: كان الحسن بن علي سقي مراراً، كل ذلك يفلت منه حتى كان المرة الآخرة التي مات فيها. فإنه كان يختلف كبده. فلما استشهد أقام نساء بني هاشم عليه النوح شهراً(4).

وما كان تصرف معاوية هذا بغريب عن أفعاله، فإنه كان يقول في بعض خطبه: «إن لله جنوداً من عسل» ولقد صدق، فإنه قبل أن يقتل الحسن بن علي بالعسل قد قتل به مالك الأشتر وسعد بن أبي وقاص. فلما استشهد الإمام الحسن(علیه السلام) ورد البريد على

ص: 229


1- الهمداني، ص634.
2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج3/ص228، دار الفكر، بيروت ،1398ه-1978م، ص228.
3- المصدر نفسه، ص635.
4- ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسن: ص 209.

(معاوية فقال: يا عجباً من الحسن! شرب شربة من عسل بماء رومة فقضى نحبه.

ولكن الغريب محاولة البعض تبرئة الزوجة القاتلة جعدة بنت الأشعث من جريمتها الشنعاء، بأقوال غريبة من باب أنه قد مات بالسل أو بالعصا المسمومة، أو سمه في الطواف أو مات حتف أنفه(1).

ومما يظهر من الروايات أن الإمام الحسن(علیه السلام) قد سقته زوجته الشقية جعدة السم مراراً مما يدل على نهاية مظلوميته، فما أحب أن يقتل به بريء، مع تيقنه من قاتلته، وهذا هو الفارق بين الحاكم الإلهي والحاكم الدنيوي، فعند الحاكم الإلهي، القصاص لا يجوز قبل الجناية، ثم يعفو عن كثير إن كان فيه صلاح ديني، فهو ناظر دائماً إلى المصلحة الدينية، ولا يراعي إلا رضا الخالق(2).

وهكذا كان تصرف الإمام مع المرأة التي سقته السم وحرمته الحياة، لقد تركها مجللة بعارها الدنيوي وتنوء بذنبها في الآخرة..، وهنا تختلف الرواية في قراءة خاتمة الزوجة الشقية، ففي قول أن معاوية قد أمر بقتلها.قال أبو مخنف: بعد أن قبض الحسن(علیه السلام) رحلت جعدة إلى أبيها الأشعث بالشام(3)،

وسألت معاوية بأن يزوجها بابنه يزيد فسألها معاوية عن صفات الحسن(علیه السلام) وإذا هي عكس صفات يزيد، فقال لها إذا كنت قتلت الحسن(علیه السلام) وهو جامع لهذه الصفات الحسنة فكيف لا تقتلين يزيد وهو بعكس صفات الحسن(علیه السلام) ثم أنه أمر بقتلها في الحال فقتلت

ص: 230


1- للمزيد ينظر: باقر شريف القرشي، حياة الإمام الحسن: ج2، ص / 471 وما بعدها.
2- مصطفوي: ص 229.
3- وهذه الرواية لا تتسق مع ما روي من أن الأشعث مات في حياة الإمام الحسن(علیه السلام) وقد قام بدفنه والصلاة عليه!

وخلد الله بروحها في النار(1).

ولكن معظم الروايات الأخَر تؤكد أنها قد بقيت على قيد الحياة وتزوجت ثانية، ولكنها خلدت بعار قتلها لسيد شباب أهل الجنة وأصبح اسم (مسمة الأزواج) لصيق بها وبذريتها.

جاء في المناقب، أن نبوءة الإمام الحسن(علیه السلام) قد صدقت فلم يفِ بوعده معاوية إليها، ولم يزوجها من يزيد، فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها، وكان إذا جرى كلام عيروهم وقالوا يا بني مُسِمّة الأزواج(2).

وهذا ما ذهب إليه المفيد في إرشاده، بالقول: (ولم يزوجها من يزيد فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها وكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام عيروهم وقالوا يا بني مسمة الأزواج(3). وهذا ما نقله عنه المجلسي بالنص في البحار(4).

ومن هذه الخاتمة التي انتهت إليها هذه المرأة القاتلة، نجد أن الإمام الحسن(علیه السلام) لم يقتص منها في حياته وحتى بعد مماته، فقد رفض أن يطلق يد أخيه ووارثه الإمام الحسين(علیه السلام) في القصاص منها جزاء جريمتها النكراء، تاركاً إياها لمصير أسوأ وسمعة سوداء تلاحقها ونسلها في الحياة الدنيا، فكان أن تزوجت لتلد من يحمل عارها وشنارها بين القبائل(5).

ص: 231


1- الحائري، ص 47.
2- ابن شهرآشوب، المناقب: ج4/ ص 48 في وفاته وزيارته(علیه السلام).
3- المفيد، الإرشاد: ص 192. في سبب وفاة الحسن(علیه السلام).
4- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 355. باب جمل تواريخه وأحواله(علیه السلام).
5- ابن سعد، الطبقات – ترجمة الإمام الحسن(علیه السلام)، ص 84. عن قتادة، قال: قال الحسن للحسين: إني قد سقيت السم غير مرة وإني لم أُسق مثل هذه، إني لأضع كبدي، قال: فقال: من فعل ذلك بك؟ قال: لمِ؟َ لتقتله؟ ما كنت لأخبرك. رواه ابن عساكر في تاريخه برقم 337 بإسناده عن ابن سعد.

وهذا التصرف السامي من الإمام الحسن(علیه السلام) يثبت حقيقة أن الإمام السبط لو كان يدفعه للزواج شهوته للنساء(معاذ الله) لكان فارق زوجته جعدة وطلقها بالسهولة التي رمي بها الإمام كذباً، أنه كان مطلاقاً كثير التزويج، ولما احتفظ بها وهي العاقر العقيم المتربصة به شراً، طوال زواجه منها لتنهي حياته على يدها غدراً، بعد أن تربصت به مراراً وتكراراً.

والتفاتة أخرى، إن بقاء الزوجة الشقية جعدة واقترانها بغير الإمام زوجاً ثم ولادتها للذرية، تعني أمراً إلهياً مغيباً في أن لا يكون للإمام الحسن(علیه السلام) ذرية من هذه المرأة الغادرة على الرغم من طول فترة زواجها من الإمام ومعاشرته لها. فهذه من الألطاف الإلهية في أن يبارك الباري عز وجل في نسل الذرية الصالحة ويجعلها حصراً على نقيات السرائر..طاهرات الذيول.

لقد شاء القدر أن تعجل مؤامرة اللعين معاوية واللعينة جعدة، بوضع نهاية لحياة الإمام(علیه السلام)، هذه الحياة الغارقة في رحيق النبوة، والمجسدة للصفات الحميدة التي تربى عليها الإمام على يدي أسياد الخلق منذ الخليقة حتى يوم المعاد..، محمد وعلي وفاطمة صلوات الله عليهم أجمعين..، حتى أننا نجد الزوجة القاتلة لا تجد مناصاً في إنكارها عندما أخذت تعدد لمعاوية الصفات الحسنة للإمام الحسن(علیه السلام)، فلم يجد معاوية مهرباً من الاعتراف بأن هذه الصفات هي عكس صفات يزيد، وإن كانت صفات الحسن(علیه السلام) لم تردع جعدة من قتله، فكيف سيكون حالها مع أسوأ الرجال صفاتاً يزيد بن معاوية؟!

وإذا ما انتهى بحثنا إلى إجماع المصادر على أن قاتلة الإمام هي جعدة بنت الأشعث، فإن هذه المصادر قد اختلفت وتباينت في ذكر تاريخ وفاة الإمام الحسن(علیه السلام) ومقدار عمره الشريف عند وفاته.

ص: 232

ففي الكامل لابن الأثير، ذكر أن سنة وفاته كانت سنة تسع وأربعين للهجرة(1).

في حين يذهب المفيد إلى أن الحسن(علیه السلام) مضى لسبيله في شهر صفر سنة خمسين من الهجرة وله يومئذ ثمانٍ وأربعون سنة.(2)لقد توفي الإمام الحسن(علیه السلام) بالمدينة المنورة مسموماً في شهر ربيع الأول سنة 94، وله ست وأربعون سنة، ودفن ببقيع الغرقد مع أُمه فاطمة(3)،

وهناك إلى هذا الوقت رخامة مكتوب عليها: الحمد لله مبير الأمم ومحيي الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله) سيدة نساء العالمين، والحسن بن علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، رضوان الله عليهم أجمعين(4).

ونحن نعلم أن المشهور من القول، هو إخفاء قبر مولاتنا الطاهرة فاطمة(علیها السلام) من قبل الإمام علي(علیه السلام) وعدم معرفة أحد بمحله. وأن الإمام الحسن(علیه السلام) قد دفن عند قبر جدته فاطمة بنت اسد وليست أمه فاطمة حسب الرواية التي ذكرها المجلسي، روى عبدالله بن إبراهيم عن زياد المخارقي قال: لما حضرت الحسن(علیه السلام) الوفاة استدعى الحسين(علیه السلام) وقال: يا أخي إني مفارقك، ولاحق بربي وقد سقيت السم ورميت بكبدي في الطست وإني لعارف بمن سقاني السم ومن إين دُهيت، وأنا أُخاصمه إلى الله عز وجل: فبحقي عليك إن تكلمت في ذلك بشيء، وانتظر ما يُحدث الله عز وجل فيّ. فإذا قضيت نحبي فغمضني وغسلني وكفني وأدخلني على سريري إلى قبر جدي رسول

ص: 233


1- ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج3/ ص 228.
2- المفيد، الإرشاد: ص 192.
3- (وكانت وفاة الحسن– وهو يومئذ ابن خمس وخمسين– بالسم، ودفن بالبقيع مع أمه فاطمة بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله) والله ولي التوفيق) المسعودي، مروج الذهب، ص 426. وهكذا رواه ابن عساكر في تاريخه برقم 349 عن ابن سعد وأورده ابن كثير في تاريخه: 8 / 44 عن الواقدي.
4- مصطفوي، ص 237. نقلًا عن التنبيه والإشراف: ص 260.

الله(صلی الله علیه وآله) لأجُدد به عهداً ثم ردني إلى قبر جدتي فاطمة(بنت أسد)رضي الله عنها فادفني هناك وستعلم يا بن أم إن القوم يظنون أنكم تريدون دفني عند رسول الله(صلی الله علیه وآله) فيجلبون في ذلك، ويمنعونكم منه، بالله أُقسم عليك أن تهرق في أمري محجة دم، ثم وصى إليه بأهله وولده وتركاته، وما كان وصى إليه أمير المؤمنين(علیه السلام) حين استخلفه وأهله بمقامه، ودل شيعته على استخلافه، ونصبه لهم علماً من بعده(1).

قال الواقدي: مات سنة تسع وأربعين، وقال المدائني: في خمسين، وقيل: في إحدى وخمسين هكذا جاء في العقد الفريد (ج3/ ص138) والبيان والتبيين (ج3، ص 360). وما يقاربها في الإمامة والسياسة (ج1/ ص 144)...، فلما كانت سنة إحدى خمسين مرض الحسن بن علي مرضه الذي مات فيه، فكتب عامل المدينة إلى معاوية يخبره بشكاية الحسن فكتب إليه معاوية: إن استطعت أن لا يمضي يوم بي يمر إلا يأتيني به خبره فافعل، فلم يزل يكتب إليه بحالهحتى توفي، فكتب إليه بذلك، فلما أتاه الخبر أظهر فرحاً وسروراً حتى سجد وسجد مَن كان معه، فبلغ ذلك عبدالله بن عباس وكان بالشام يومئذ، فدخل على معاوية فلما جلس، قال معاوية: يا بن عباس! هلك الحسن بن علي، فقال ابن عباس: نعم هلك، إنا لله وإنا إليه راجعون ترجيعاً مكرراً، وقد بلغني الذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته، أما والله ما سد جسده حفرتك ولا زاد نقصان أجله في عمرك، ولقد مات وهو خير منك ولئن أصبنا به لقد أصبنا بمن كان خيراً منه، جده رسول الله(صلی الله علیه وآله) فجبر الله مصيبته وخلف علينا من بعده أحسن الخلافة(2).

وعن أبي بكر بن حفص: توفي سعد بن أبي وقاص والحسن بن علي بعدما مضت من إمرة معاوية عشر سنين، وكانوا يرون أنه سمهما. وتوفي وله سبع وأربعون سنة

ص: 234


1- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 355 ؛ المفيد، الإرشاد: ص 291 – 193.
2- مصطفوي: ص 238.

في شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين، وقال بعضهم: مات في سنة خمسين وله ثمان وأربعون سنة. وقال كمال الدين ابن طلحة توفي(علیه السلام) لخمس خلون من ربيع الأول في سنة تسع وأربعين للهجرة، وقيل: خمسين وكان عمره سبعاً وأربعين سنة. وقال الحافظ الجنابذي: ولد الحسن بن علي(علیه السلام) في النصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة، ومات سنة تسع وأربعين(1).

وجاء في تاريخ الأئمة، أن الإمام الحسن(علیه السلام) عاش سبعاً واربعين ويقال: تسع وأربعين سنة وأشهراً، كان مع رسول الله(صلی الله علیه وآله) وفاطمة(علیها السلام) ثماني سنين وسبعاً وثلاثيِن سنة مع أمير المؤمنين(علیه السلام)، وكانت مدة خلافته عشر سنين، ووقعت المهادنة بينه وبين معاوية بعد مضي ستة أشهر وثلاثة أيام من خلافته.. مضى – صلوات الله عليه – لليلتين بقيتا من صفر سنة خمسين من الهجرة مسموماً.. وله يومئذ ثمان وأربعون سنة(2).

وقال ابن أبي الحديد: اختلف الناس في سن الحسن(علیه السلام) وقت وفاته، فقيل: ابن ثمان وأربعين، وهو المروي عن جعفر بن محمد(علیه السلام) في رواية هشام بن سالم. وقيل: ابن ست وأربعين، وهو المروي أيضاً عن جعفر بن محمد(علیه السلام) في رواية أبي بصير(3).وقال المحدث القمي(رحمه الله):توفي الحسن بن علي(علیه السلام) بالسم، يوم الخميس السابع من صفر سنة تسع وأربعين وكان ابن سبع وأربعين وقيل: في الثامنة والعشرين منه، وقيل في آخر صفر.

وإذا كان المؤرخون وأهل السير قد اختلفوا اختلافاً كثيراً في سنة وفاته(علیه السلام)، فإنهم لم يختلفوا في أن لوفاته وقعاً شديد الأثر.. حتى قيل فيه أنه أول ذل دخل على العرب،

ص: 235


1- المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 358. نقلًا عن كشف الغمة ج1/ ص 584.
2- الهمداني: ص 627.
3- المصدر نفسه، ص 626. نقلًا عن:شرح نهج البلاغة ومقاتل الطالبيين.

عن علي بن محمد، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن عمرو بن بعجة، قال: أول ذل دخل على العرب موت الحسن بن علي(1).

لقد أبكى مصاب الإمام الحسن(علیه السلام) الأعداء والأصدقاء على السواء، المحبين والكارهين معاً، وضجت المدينة لموته، وارتج الناس جميعاً..، روى ابن إسحاق عن مساور، قال: رأيت أبا هريرة قائماً على المسجد يوم مات الحسن يبكي وينادي بأعلى صوته: يا أيها الناس، مات اليوم حب رسول الله(صلی الله علیه وآله)، فابكوا(2).

عن محمد بن عمر، قال حدثنا داود بن سنان، قال: سمعت ثعلبة بن أبي مالك قال: شهدنا حسن بن علي يوم مات ودفناه بالبقيع، فلقد رأيت البقيع ولو طرحت إبرة ما وقعت إلا على إنسان(3).

وعن جهم بن أبي الجهم، قال: لما مات الحسن بن علي بعثت بنو هاشم إلى العوالي صائحاً يصيح في كل قرية من قرى الأنصار بموت حسن، فنزل أهل العوالي ولم يتخلف أحد عنه(4).

وهذا الأمر ليس بمستغرب، فالمدينة المنورة مدينة رسول الله(صلی الله علیه وآله) كانت قلباً وقالباً مع حب النبي وآل بيته، ولقد فجعت الناس بوفاة الرسول(صلی الله علیه وآله) مرة وها هي تفجع بوفاة ولده مرة ثانية.

ص: 236


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى: ترجمة الإمام الحسن(علیه السلام)، ص 91. وأورده الحافظ المزي في تهذيب الكمال: 6 / 255 عن ابن سعد، ورواه محمد بن حبيب في أماليه من قول ابن عباس، كما نقل عن ابن أبي الحديد: 16 / 10.
2- المصدر نفسه، ص 90. وجاء في تهذيب الكمال للمزي وتهذيب التهذيب 2 / 301، والبداية والنهاية 8 / 44.
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه، ص 89.

هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار أن وفاة الزهراء(علیها السلام) ودفنها قد حدث ليلاً وسراً تنفيذاً لوصيتها إلى أمير المؤمنين(علیه السلام)، وقد استشهد الإمام علي(علیه السلام) في الكوفة بعيداً عن المدينة وأهلها..، لذا كان ما كان من أمر تفجعهم وتجمعهم لوداع السبط الشهيد(علیه السلام).

كما أن بني هاشم كانوا يلتفون حول إمامهم خلال فترة مرضه(علیه السلام) التي قاربت الأربعين يوماً وليلة، فإن جمعهم كان مؤكداً في تلك اللحظات العصيبة.

عن الحسن بن محمد بن الحنفية، قال: «لما مرض الحسن بن علي مرض أربعين ليلة، فلما استُعز به وقد حضرت بنو هاشم فكانوا لا يفارقونه يبيتون عنده بالليل…»(1).

فلما توفي الحسن(علیه السلام) ارتجت المدينة صياحاً فلا يُلقى أحد إلا باكياً...، وأقام نساء بني هاشم عليه النوح شهراً. ولبسوا الحداد سنة(2).

عن أبي جعفر: مكث الناس يبكون على الحسن بن علي وما تقوم الأسواق(3).

وقد مضت الروايات الكثيرة على أن نساء بني هاشم أقمن النوح شهراً والحداد سنة، فيما رواه ابن كثير في تاريخه( 8 / 43) عن الواقدي: وقد بكاه الرجال والنساء سبعاً واستمرت نساء بني هاشم ينحن عليه شهراً وحدت نساء بني هاشم عليه سنة.

وعن ابن أبي نجيع، عن أبيه، قال: بكى على الحسن بن علي بمكة والمدينة سبعاً النساء والرجال والصبيان(4).

هنا لابد لنا من تبيان، إن كانت المدينة خرجت لوداع الإمام(علیه السلام) ودفنه، وبيوت

ص: 237


1- المصدر نفسه: ص 85.
2- ابن الأثير في أسد الغابة: 1 / 16. نقلًا عن ابن سعد في طبقاته.
3- مصطفوي: ص 239.
4- ابن سعد، طبقاته: ص 90.

الهاشميين فرغت من أهلها..، والبقيع ليس فيه متسع لرجل..، فإن اللواتي خرجْنَ خلف جنازة الإمام الحسن(علیه السلام) حافيات باكيات لم يكنّ زوجاته الثلاثمائة كما ادعت بعض الروايات وتناقلتها المصادر دون تمحيصأو نظر(1). بل كن نساء بني هاشم اللواتي فجعن بفقدهن، والتف حولهن نساء المدينة ممن ملأ قلوبهن حب آل الرسول(صلی الله علیه وآله)، فشاركن نساء بني هاشم حزنهن وخروجهن حافيات حاسرات خلف الجنازة!! هذا إن صحت هذه الرواية أصلاً(2).

وحتى في لحظات وداعه الأخيرة لم تسلم جنازة الإمام الحسن(علیه السلام) من العدوان والنبال، فانبرت امرأة لتمنع دفنه عند جده رسول الله، بعد أن استأذن الإمام الحسن عائشة في ذلك فأذنت له. فلما مات منع ذلك مروان وبنو أمية(3)

قال ابن عباس: فأقبلت عائشة في أربعين راكباً على بغل مرحّل وهي تقول: ما لي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أهوى ولا أحب! فقال ابن عباس بعد كلام: حملت وبغلت ولو عشت لفيلت(4).

ولقد سلت من جنازته المطهرة سبعون نبلاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولا نقول إلا قول الإمام الحسين(علیه السلام) عند قبر أخيه الحسن: رحمك الله أبا محمد إن كنت لتناصر الحق مظانه وتؤثر في الله عند تداحض الباطل في مواطن التقية بحسن الروية، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة، وتفيض عليها يداً طاهرة الأطراف نقية الأسرة، وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المؤونة عليك، ولا غرو وأنت ابن سلالة النبوة ورضيع لبان

ص: 238


1- ابن شهرآشوب، مناقب: ج4/ ص 29، المجلسي، بحار الأنوار: ج18/ ص 653 – 363.
2- للمزيد ينظر: الهمداني، ص 719، البلداوي: ص 164 وما بعدها.
3- مصطفوي، ص 242، نقلًا عن الاستيعاب: ج1/ ص 389.
4- ابن شهرآشوب، مناقب: ج4/ ص5.

الحكمة، فإلى روح وريحان وجنة نعيم، أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عنه(1).

وجعلنا من المصدقين بقول الإمام الصادق(علیه السلام)، بأن لنا الجنة بزيارته بعد موته كما وعد بذلك رسول الله(صلی الله علیه وآله) وحدث(2).

ص: 239


1- مصطفوي، ص 244. نقلًا عن عيون ابن قتيبة: ج2/ ص 314.
2- ابن شهرآشوب، مناقب: ج4/ ص 52.

ص: 240

الخاتمة

للإمام الحسن المجتبى(علیه السلام) في حياة الأمة الإسلامية، نافذة على رحاب النبوة والوصاية والإمامة، أنارت قلوب المؤمنين والمسلمين والمسلمات.

وللنساء في حياة الإمام الحسن(علیه السلام) بصمات واضحة المعالم، مهرت بها الأم الزكية الطاهرة فاطمة(علیها السلام) والأخت الصابرة المجاهدة زينب(علیها السلام) أياماً ومواقف من سيرة السبط الشهيد(علیه السلام) جعلت تلك المواقف السمحة الطيبة الآلقة ما بين الإمام(علیه السلام) وأهل بيته دروساً وعبر للنسوة في كل مرحلة وزمان.

وكان للإمام الحسن(علیه السلام) حظوة عند كل امرأة عاصرته من زوجات أبيه، وأخوات من أمهات شتى، وبنات وجاريات، فهو ابن المصطفى(صلی الله علیه وآله) في خلقه وخلقه.. وما كان للقلوب المسلمة المسالمة إلا الوقوع في شرك محبة حلمه وكرمه وألفته وموالاته حتى الممات.

ولم يعكر صفو الصورة الإمامية الناصعة إلا فعل الشيطان وأعوانه وإتباع إغوائه والانجذاب لحبائله.. فكادت له امرأة سلبته حق الحياة دون وازع من ضمير أو بعض تأثيم، فكانت الزوجة القاتلة نقطة سوداء في رحلة الإمام الحسن(علیه السلام) مع النساء.

ويبقى العطر المحمدي المضمخ بالشهادة، الحسن الوجود في ضمائرنا، وإن قطع الطاغية اللعين كبده الشريف قطعاً قطعاً.

ويبقى الإمام الحسن(علیه السلام) ريحانة محمد، ونبع الزهراء، وكوثر علي، وتوأم روح

ص: 241

الحسين وزينب.. لا يتشظى ذكرهم في الآفاق، فلقد امتدت جدائل سبيكتهم الذهبية عروة وثقى ما بين الأرض والسماء.

ص: 242

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

إبراهيم حسين بغدادي، زينب بنت علي فيض النبوة وعطاء الإمامة، ط1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت–لبنان ،1431ه- - 2010م.

ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ،ط1، مكتبة طريق المعرفة–دار الكتاب العربي، نجف– بغداد- العراق،1426ه-- 2005م.

ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار الفكر– بيروت، لبنان، 1398ه-- 1978م.

ابن سعد، الطبقات الكبرى، تهذيب وتحقيق عبد العزيزالطباطبائي، ط1، مؤسسة ال البيت علیهم السلام لاحياء التراث، قم- ايران، 1416ه-.

ابن سعد، الطبقات الكبرى، دراسة وتحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان.

ابن كثير، البداية والنهاية، تحقيق وتدقيق وتعليق: علي شيري، ط1، دار إحياء التراث العربي، بيروت– لبنان، 1408ه- -1988م.

أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، التاريخ الصغير، تحقيق محمود إبراهيم زايد، بيروت- لبنان، 1406 ه-/ 1986م.

ص: 243

أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ (255 ه-)، البيان والتبيين، تحقيق وشرح عبدالسلام محمد هارون، ط2، مكتبة المثنى ببغداد ومكتبة الخانجي بمصر،1960م.

أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد الأصفهاني (356 ه-)، مقاتل الطالبيين، تحقيق أحمد صقر، ط1، انتشارات الشريف الرضي، قم- ايران، ط1، 1405ه-.أحمد الرحماني الهمداني، الإمام المجتبى(علیه السلام) مهجة قلب المصطفى(صلی الله علیه وآله)، ط1، المنير للطباعة والنشر، إيران 1384 ه-.ش/ 1426 ه-.ق.

أعلام الهدايا، فاطمة الزهراء علیها السلام (سيدة النساء)، المجمع العالمي لأهل البيت، ط1، مركز الطباعة والنشر مطبعة ليلى، قم المقدسة- ايران،1422ه-.

القندوزي الحنفي، مختصر ينابيع المودة لذوي القربى، ط2، مكتبة هيئة الأمين العراق – كربلاء المقدسة، 1425ه- 2004 -م.

الطبراني، أخبار الحسن بن علي، حققه وعلق عليه محمد شجاع ضيف الله، دار الاوراد للنشر والتوزيع، الكويت، 1412ه--1992م.

الكفيل– خلاصة مبسطة عن حياة أبي الفضل العباس(علیه السلام)، العتبة العباسية المقدسة– قسم الشؤون الفكرية والثقافية، ط2، شعبة الإعلام، كربلاء المقدسة – العراق، 2009م.

العلامة المصطفوي، الإمام المجتبى أبو محمد الحسن بن علي(علیه السلام). حياته. مقامه .خلافته. حلمه. جريان صلحه. كلماته. خطبه. رد الاعتراضات، ط1،مركز نشر آثار العلامة المصطفوي، مطبعة اعتماد، طهران- ايران،2003م.

المفيد، الإرشاد، منشورات المطبعة الحيدرية ومكتبتها، النجف الأشرف- العراق،

ص: 244

1381 ه- - 1962م.

إيهاب يعقوب الكتبي الحسني، المنتقى في أعقاب الحسن المجتبى، ط1، دار المجتبى للنشر والتوزيع، المدينة المنورة- السعودية،1420ه-- 1999م.

باقر شريف القرشي، حياة الإمام الحسن، دار جواد الأئمة(علیه السلام)، ط1، للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت– لبنان ،1432ه- 2011 -م.

ابن بابويه، معاني الأخبار، ط1، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت– لبنان،1410ه- -1990م.حسن الشيرازي، كلمة الإمام الحسن، ط2، منشورات المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، بيروت- لبنان،1386 ه-.

حسن الصفار، المرأة العظيمة، ط1، دار البيان العربي، بيروت- لبنان.

راضي آل ياسين، صلح الحسن، ط4، دار النرجس للطباعة، بغداد- العراق 1432 ه- 2011 -م.

سعيد رشيد زميزم، نساء حول الح--س--ين، ط1، دار الج--وادي--ن، ب--يروت – لبنان،1432 ه- 2011م.

سليمان كتاني، فاطمة الزهراء – وتر في غمد، ط1،المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت، مطبعة مجاب ،1432 ه-.

عبدالكريم الفيلي، ظلامات فاطمة الزهراء(علیها السلام)، ط1، دار الغدير، قم- ايران.

عبدالحسين الأميني، الغدير، دار الكتاب العربي، بيروت- لبنان ،1379 ه-.

علي الأحمدي الميانجي، ظلامة الزهراء في النصوص والآثار، ط1، المركز الإسلامي

ص: 245

للدراسات، إيران.

علي الفتلاوي، المرأة في حياة الحسين(علیه السلام)،ط1،قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة، شعبة الدراسات والبحوث الإسلامية، العراق – كربلاء المقدسة ،1429 ه- / 2008م.

علي الكوراني، جواهر التاريخ، السيرة النبوية عند أهل البيت(علیهم السلام)، ط1، مطبعة باقيات،1430ه-.

علي شريعتي، فاطمة هي فاطمة، الآثار الكاملة، ط2، دار الأمير للثقافة والعلوم، بيروت– لبنان، 1428ه- 2007-م.

علي محمد علي دخيل، أعلام النساء، دار المرتضى – مؤسسة أهل البيت(علیهم السلام)، بيروت – لبنان،1399 ه- 1979 -م.كاظم النقيب، أئمتنا قادة وهداة، ط2، الفكر الإسلامي للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان- بيروت، 1433 ه- 2012م.

محمد باقر البهبهاني، محمد علي فاطمة – سيرتهم – حياتهم – مصائبهم، ط1،مؤسسة الأعلمي للمطبوعات،بيروت – لبنان ،1410 ه- / 1990م.

محمد باقر الحكيم، الزهراء(علیها السلام) – أهداف – مواقف – نتائج، ط1، مؤسسة تراث الشهيد الحكيم، مطبعة العترة الطاهرة، النجف الأشرف- العراق ،2006م.

محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، تحقيق وتعليق محمود دياب، ط1، دار التعارف للمطبوعات، بيروت- لبنان ،1421 ه- 2001م.

محمد بحر العلوم، ثلاث نساء في سماء العقيدة، ط3، دار زايد للنشر، لندن-

ص: 246

برطانيا،2006م.

محمد بكر إسماعيل، فقيه الأمة ومرجع الأمة علي بن أبي طالب، الناشر شهاب الدين، ط1،المطبعة كلها، قم – إيران ،1427 ه- / 2006م.

محمد حسين الأعلمي الحائري، تراجم أعلام النساء.

محمد جواد الطبسي، حياة الصديقة فاطمة، ط1،مؤسسة بوستان كتاب قم، قم المقدسة - إيران، 1423ه-.

محمد جواد مغنية، موسوعة الإمام علي(علیه السلام)، ط1، مؤسسة دار المجتبى، إيران – قم ،2005م.

محمد كاظم القزويني، فاطمة(علیها السلام) من المهد إلى اللحد، ط1، منشورات الفجر، للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت- لبنان.

محمد مهدي الحائري، معالي السبطين في أحوال الحسن والحسين، صبح الصادق، ط1، ذي القعدة 1425ه-، قم – إيران / نجف – عراق.محمد بن علي بن شهرآشوب السروي المازندراني، مناقب آل أبي طالب، تحقيق يوسف البقاعي، ط1، انتشارات ذوي القربى دار الأضواء، إيران،1421ه- ق- 1379ه- ش.

مريم نور الدين فضل الله، المرأة في ظل الإسلام، ط1، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، 1399ه- - 1979م.

مهدي تاج الدين، المجالس المرضية في الأيام الفاطمية، ط1، المكتبة الحيدرية ،قم- ايران.

ص: 247

مؤمن الشبلنجي، نور الأبصار في مناقب آل النبي المختار، ط1، ذوي القربى، نجف- العراق.

وسام برهان البلداوي، القول الحسن في عدد زوجات الامام الحسن، ط1، اصدار قسم الشوؤن الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة كربلاء- العراق، 2008م - 1429ه-.

ص: 248

المحتويات

ص: 249

ص: 250

المقدمة13

الفصل الأول / ألام فاطمة ...أول النساء17

زهرة الحسن(علیه السلام) 19

الحسن والزهراء(علیهما السلام) والأسوة الحسنة37

فراق وجه الحبيبة53

الفصل الثاني/ الأخت زينب ...أقرب النساء73

زينب الحوراء(علیها السلام) ... أم أخيها75الحسن وزينب(علیهما السلام...) أخت الأحزان89

الفصل الثالث/ الإمام الحسن...107

تمهيد109

أم سلمة... الأم الربانية111

أم أيمن... الأم الطيبة133

أم البنين(علیها السلام) ... فاطمة أخرى149

أسماء بنت عميس ...أم أخرى163

أمامة... وصية الزهراء179

فضة... امرأة من ذهب 183

الفصل الرابع/ الزوجة القاتلة ...أشقى النساء189

ص: 251

للحسن(علیه السلام)... زوجات وبنات191

جعدة بنت الأشعث ...أشقى الزوجات219

الخاتمة241

المصادر والمراجع243

المحتويات249

ص: 252

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.